المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب: في الصيام يقال: صام صوما وصياما، قال في المقدمات: الصيام - لوامع الدرر في هتك استار المختصر - جـ ٤

[محمد بن سالم المجلسي]

فهرس الكتاب

‌باب: في الصيام

يقال: صام صوما وصياما، قال في المقدمات: الصيام هو الإمساك والكف والترك، ومن أمسك عن شيء وكف عنه وتركه فهو صائم عنه، قال الله عز وجل:{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} ؛ أي صمتا عن الكلام والكف عنه، وقال النابغة:

خيل صيام وخيل غير صائمة

وسط العجاج وخيل تعلك اللجما

يريد بصائمة: واقفة ممسكة عن الحركة والجولان، وقولهم: صام النهار: معناه إذا انتصف؛ لأن الشمس إذا كانت في وسط السماء كانت واقفة غير متحركة لإبطاء مشيها، والعرب قد تسمي الشيء باسم ما قرب منه. انتهى. قاله الحطاب، وفي الصحاح، قال الخليل: الصيام قيام بلا عمل، والصوم الإمساك عن الطعام، وصام الفرس أي قام على غير اعتلاف، والصوم ركود الريح. وقوله: والبكرات شرهن الصائمة؛ أي التي لا تدور. انتهى. والصوم: ذرق النعامة، والصوم: البيعة؛ يعني واحدة البيع للنصارى، وقال البيضاوي: الصوم في اللغة الإمساك عما تنازع إليه النفس، ويسمى الصائم سائحا، وعنه عليه الصلاة، والسلام، أنه قال: (السائحون: الصائمون

(1)

)؛ لأن الله تعالى إذا ذكر السائحين لم يذكر الصائمين، وإذا ذكر الصائمين لم يذكر السائحين. قاله الحطاب. وقال: قال أبو عبيد: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم، والصوم شجر في لغة هذيل. انتهى. وقال غيره: الصوم شجر على شكل شخص الإنسان كريه المنظر. انتهى.

وقال الحطاب: الصوم في الشرع، قال في الذخيرة: الإمساك عن شهوتي الفم والفرج. أو ما يقوم مقامهما مخالفة للهوى في طاعة المولى في جميع أجزاء النهار بنية قبل الفجر أو معه إن أمكن فيما عدا زمن الحيض والنفاس وأيام الأعياد. انتهى. قوله: أو ما يقوم مقامهما؛ أي الفم والفرج، فيقوم مقام الفم الأنف ونحوه، فإن الواصل منه للجوف وللحلق مفطر، ويقوم مقام الفرج اللمس الموجب للفطر.

(1)

الحاكم، كتاب التفسير، ج 2 ص 335.

ص: 1

وعرفه ابن عرفة بقوله: كف بنية عن إنزال يقظة أو وطء وإنعاظ ومذي، ووصول غذاء غير غالب غبار أو ذباب أو فلقة بين أسنان لحلق أو جوف زمن الفجر حتى الغروب دون إغماء أكثر نهاره. ولا يرد بقول ابن القاسم يبر حالف ليصومن غدا فبيت وأكل ناسيا، لقول ابن رشد: هو رعي للغو الأكل ناسيا، وإلا زيد بعد أو جوف: غير منسي في تطوع، قال الرماصي: ذِكرُه الإنعاظ على مذهب ابن القاسم أنه ناقض للصوم وهو المشهور، ويبطل طرده بمن جومعت نائمة، وكذا من قاء متعمدا، وقوله: دون إغماء أكثر نهاره، إنما قيد به مع أن الإغماء قبل طلوع الفجر المستمر لطلوعه مبطل ولو كان قليلا؛ وهو مذهب المدونة؛ لأن هذا يغني عنه قوله: كف بنية؛ لأن من أغمي عليه قبل طلوع الفجر لا نية له، ولذا أبطل ولو قل، وقوله: بنية، أخرج به الكف بغير نية، والباء للمصاحبة، وقوله: يقظة، خرج به إنزال النوم فإنه لا أثر له في الشرع، وقوله: غير صفة لغذاء، وقوله: أو ذباب، معطوف على غبار، وقوله: أو فلقة بين أسنان، معطوف على غبار، وقوله: لحلق، متعلق بوصول، وقوله: أو جوف معطوف على لحلق، والمراد بالجوف العدة، وقوله: زمن الفجر، معمول للكف بنية فكأنه قال: كف بنية من زمن الفجر إلى الغروب. وقال الحطاب: قال ابن رشد: إمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية، فيبطل طرده قولها: فيمن صب في حلقه ماء، ومن جومعت نائمة، ومن أغمي عليه أكثر نهاره أو أمذى يقظة. انتهى.

واعلم أن الصوم واجب كتابا، لقوله عز وجل:{كتب عليكم الصيام} ، وسنة لقوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت

(1)

)، وإجماعا، قال الحطاب: أجمعت الأمة على وجوب صوم رمضان، فمن جحد وجوبه فهو مرتد، ومن امتنع من صومه مع الإقرار بوجوبه قتل حدا على المشهور من مذهب مالك. قال ابن عرفة: صوم رمضان واجب. جحده وتركه كالصلاة. انتهى. فيقتل حدا كالمتنع من الصلاة والوضوء وغسل الجنابة، ولا يقتله إلا السلطان،

(1)

البخاري، كتاب الإيمان، الحديث: 8 مسلم، كتاب الإيمان، الحديث:16. ولفظهما:. . . وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان الترمذي، رقم الحديث:2609. النسائي، رقم الحديث: 5001.

ص: 2

ومقابل المشهور قول ابن حبيب: إن تارك الصوم يقتل كفرا، قال في التوضيح: وقول ابن حبيب بالقتل كفرا في تارك الصلاة أقوى منه في الصوم؛ لأنه لا يوجد له هنا من الأدلة ما يوجد للصلاة، لأنا لا نعلم أحدا يوافقه على ذلك في الصوم إلا الحكم بن عيينة، بخلاف الصلاة فإنه وافق فيها جماعة من الصحابة والتابعين. انتهى. قاله الحطاب. وقال: فعلم منه أن المشهور أنه يقتل حدا، فقول القاضي عياض في قواعده: إنه يحبس ويمنع من الإفطار، مخالف للمشهور، وقد صرح بقتله لترك الصوم ابن يونس وغيره. والله أعلم.

وشرط وجوبه: النقاء، والبلوغ، وصحته: الإسلام، والعقل، وعدم الحيض والنفاس زمنه.

واختلف في الصوم الواجب قبله، فقال في الذخيرة: قيل عاشوراء، وقيل ثلاثة من كل شهر. انتهى. وذكر الهروي عن معاذ أن الواجب في أول الإسلام عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، وذكر عن عطاء أنه عاشوراء، واختلف في قوله:{كما كتب على الذين من قبلكم} ، فقيل: المراد به رمضان، والذين كتب عليهم الأنبياء وأممهم، وأنه كان واجبا على من قبلنا فجاء في الحر فحولوه وزادوا فيه. قاله الشعبي. وقيل: التشبيه في مطلق الصوم وإن اختلف العدد وقيل غير ذلك. والله أعلم. قاله الحطاب.

وقال الخرشي: وهل وجب قبله صوم ثم نسخ، وعليه فهل ثلاثة أيام من كل شهر أو يوم عاشوراء أو هما؟ وهل النسخ برمضان أو بأيام معدودات، ثم برمضان أولا؟ أقوال. انتهى. وَأَوَّلُ مَا فُرِضَ رمضان، خير بين صومه وبين الإطعام، لقوله تعالى:{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ، وكان في أول الأمر إنما يباح الأكل والشرب والجماع بعد الغروب إلى أن ينام المكلف أو يصلي العشاء فيحرم عليه جميع ذلك، ثم وقع لقيس بن صرمة بكسر الصاد المهملة وسكون الراء أنه طلب من امرأته ما يفطر عليه، فذهبت لتأتي له به قوجدته قد نام فأصبح صائما فغشي عليه في أثناء النهار، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى:{علم الله أنكم كنتم} . الآية.

وروي أن عمر رضي الله عنه أراد وطء امرأته، فزعمت أنها نامت فكذبها ووطئها ثم خون نفسه، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك جماعة من الصحابة عن أنفسهم، فنزل قوله

ص: 3

تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} . الآية. ويحتمل أن الأمرين سبب لنزولها، فأبيح جميع ذلك من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وحكمة مشروعية الصوم هي مخالفةُ الهوى؛ لأنه يدعو إلى شهوتي الفم والفرج، وكسرُ النفس، وتصفية مرءاة العقل: والاتصاف بصفة الملائكة، والتنبيه على مواساة الجائع. قاله الحطاب. وقال بعضهم: لما تاب الله على آدم من أكل الشجرة تأخر قبول توبته لما بقي عليه في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوما، فلما صفا جسده منها تيب عليه، ففرض الله على ذريته ثلاثين يوما. نقله الدميري. قاله الخرشي. يثبت رمضان بكمال شعبان؛ يعني أن رمضان يثبت ويتحقق بأحد أمرين: أحدهما: الرؤية، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، والثاني: كمال شعبان ثلاثين يوما، وذلك إذا لم يُرَ الهلال لغيم أو غيره، وكذا الحكم في غير رمضان من المشهور، ولو توالى الغيم في شهور متعددة، فقال الإمام مالك: يكملون عدة الجميع حتى يظهر خلافه اتباعا للحديث، ويقضون إن تبين لهم خلاف ما هم عليه، فإن حصل الغيم في رمضان وما قبله من المشهور فكملوها ثلاثين ثلاثين ثم رأوا شوالا ليلة ثلاثين من رمضان لم يقضوا شيئا، لجواز أن يكون رمضان تسعة وعشرين، فإن رأوا شوالا ليلة تسع وعشرين من رمضان قضوا يوما واحدا، وإن رأوه ليلة ثمان وعشرين قضوا يومين، وإن رأوه ليلة سبع وعشرين قضوا ثلاثة أيام. والله أعلم. قاله الحطاب.

وقال الأمير: قال ابن حجر: تمني زواله من الكبائر، ولعله إذا كان بغضا للعبادة بل ربما خشي عليه الكفر، ومما يخالف تعظيم شعائر الله تعالى قول العوام آخره إنه مريض، أو يطلع في الروح. وفي كلام المصنف استعمال رمضان من غير ذكر الشهر؛ وهو الصحيح. كما قاله القرطبي في تفسيره. وهو مذهب البخاري والمحققين، لخبر: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة

(1)

)، وقيل: يكره استعماله بلا إضافة شهر إليه، ونقله عياض وغيره، وما قيل إنه اسم من أسماء الله تعالى لم يثبت، وما روي فيه من الحديث [ضعيف]

(2)

)، وقيل: يجوز استعماله بلا إضافة شهر إليه بقرينة كصمنا رمضان، ويكره بدونها كجاء رمضان. انظر الشبراخيتي، والحطاب.

(1)

البخاري، كتاب بدء الخلق، الحديث:3277.

(2)

ساقطة من الأصل والمثبت من الشبراخيتي ج 1 مخطوط.

ص: 4

وقد علمت أن كونه اسما من أسماء الله تعالى خلاف الصحيح، فلا إيهام، فيجوز استعماله من غير قرينة، واعلم أن الدميري من الشافعية وابن حجر في شرح البخاري ذكرا تبعا للنووي أن ووهب مالك أنه لا يجوز أن يقال: رمضان، من غير ذكر الشهر، فإن النووي ذكر في المسألة ثلاثة مذاهب: أحدها أنه لا يقال رمضان على انفراده بحال، وإنما يقال شهر رمضان، قال: وهذا قول أصحاب مالك وغيرهم، وقال أكثر أصحابنا وابن الباقلاني: إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة وإلا كره. والمذهب الثالث، مذهب البخاري والمحققين أنه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة، وبغير قرينة وهذا المذهب هو الصواب والمذهبان الأولان فاسدان. قال الحطاب: وما نسبه النووي لأصحاب مالك غريب غير معروف، وقد تكرر في لفظ مالك في الموطإ رمضان من غير ذكر الشهر. والله أعلم. والعجب من الأبي في نقله كلام النووي وسكوته عليه وعدم ذكره كلام القاضي عياض، ومن الفاكهاني حيث نقله في شرح العمدة ولم ينبه عليه، وظاهر المتيطي أن الخلاف في الجواز وعدمه، والذي يقتضيه كلام الإكمال أن الخلاف إنما هو في الكراهة وهو الظاهر، وكلام النووي ليس فيه التصريح بأن ذلك لا يجوز، بل ظاهر عبارته أن ذلك مكروه، واحتج القائلون بأنه لا يقال ذلك بحديث أبي هريرة: (لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان

(1)

)، وهذا الحديث رواه البيهقي وضعفه، والضعف بين عليه، ورُوِيَ الكراهةُ في ذلك عن مجاهد والحسن البصري، والكراهة لا تثبت إلا بالشرع.

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة جواز ذلك، ففي الصحيحين: (إذا جاء رمضان فتحت الجنة

(2)

)، وفي بعض الروايات: (إذا دخل رمضان

(3)

)، وهذا هو حجة المجيز. الجزولي: لا يجوز أن يضاف الشهر إلى اسمه ويقال شهر كذا إلا رمضان وربيعان، ومراده بعدم الجواز من حيث اللغة، ونقل عن سيبويه جواز إضافة شهر إلى سائر أعلام المشهور، وإنما اختص الثلاثة بإضافة لفظ الشهر إليها على القول الأول ليلا يلتبس شهر ربيع الأول والثاني بفصل الربيع، ولا قيل في رمضان إنه من أسماء الله تعالى وإن كان ضعيفا والله سبحانه أعلم. أو برؤية عدلين، هذا الأمر

(1)

البيهقي، ج 1 ص 201.

(2)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1898.

(3)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1079.

ص: 5

الثاني الذي يثبت به رمضان وهو الرؤية، وهي على وجهين: مستفيضة وسيأتي الكلام عليها، وغير مستفيضة وهي المراد هنا؛ يعني أن رمضان كما يثبت بكمال شعبان ثلاثين، يثبت برؤية عدلين ليلة ثلاثين من استهلال شعبان، كانا بصوب واحد أم لا ولكنهما متقاربان، ولو ادعيا رؤيته في الجهة التي وقع المطلب فيها من غيرهما وَلَمْ يُرَ، وأراد المصنف بالعدلين ما قابل المستفيضة وإن كانوا ثلاثة أو أكثر، وعند الحنفية كل مسلم عدل وكذا الشافعي في العبادات.

واعلم أن تعهد الأهلة فرض كفاية للمؤقتات الشرعية. قاله الأمير. وروى أبو داوود عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عدّ ثلاثين يوما ثم صام

(1)

)، وفي الحديث: (الشهر تسعة وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له

(2)

). وقوله: الشهر تسعة وعشرون، قيل: إنه محمول على الغالب لقول ابن مسعود: (صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين

(3)

)، أخرجه أبو داوود والترمذي، أو معناه أن الشهر يكون تسعا وعشرين وهكذا وقع في حديث أم سلمة في البخاري، وقوله: فإن غم عليكم، قال ابن حجر: بضم المعجمة وتشديد الميم؛ أي حال بينكم وبينه غيم، يقال: غممت الشيء إذا غطيته. قاله محمد بن الحسن. وقوله: فاقْدُروا له الباجي: عن إمامنا مالك: تقديره إتمام الذي أنت فيه ثلاثين، والتقدير يأتي بمعنى التمام؛ أي كقوله تعالى:{قد جعل الله لكل شيء قدرا} ؛ أي تماما، وفسر مالك الحديث المذكور بالخبر الآخر: (فأكملوا العدة ثلاثين

(4)

)، وهذا التفسير نسبه ابن حجر للجمهور، وقال الطحاوي: إن الحديث الثاني ناسخ للأول، وأن التقدير في الأول معناه أن ينظر إلى الهلال ليلة الواحد والثلاثين، فإن سقط لستة أسباع ساعة فهو من تلك الليلة، وإن سقط لضعفها فمما قبلها وأبطله ابن رشد. وقال عقبه. والذي أقول به في معنى التقدير المأمور به في الحديث أن ينظر في المشهور التي قبل شعبان، فإن

(1)

أبو داود، كتاب الصوم؛ الحديث:2325.

(2)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1080.

(3)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2322. ولفظه: لما صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين. الترمذي، رقم الحديث:689.

(4)

الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين. البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1906.

ص: 6

توالى ثلاثة على الكمال حمل على النقص، وإلا حمل على الكمال وهو محمل الحديث الثاني. انتهى. قال الحطاب: وتفسير مالك هو الحق الذي لا غبار عليه، وما عداه فيه ما فيه.

والحاصل أنه اختلف في الحديث على ثلاثة أقوال: قول الإمام إن الحديث الثاني تفسير للأول، وقول الطحاوي إنه ناسخ له، وقول ابن رشد بالجمع بينهما. قاله محمد بن الحسن. وتفسير مالك المتقدم عن الباجي هو الذي نسبه ابن حجر للجمهور، وقال فيه الحطاب: هو الحق الذي لا غبار عليه، وما عداه فيه ما فيه، وعلم من كلام المصنف أنه لا يلتفت لحساب المنجمين وهو كذلك كما يأتي للمصنف، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى عند قوله:"لا بمنجم"، وفي كلام الأجهوري هنا نظر.

واعلم أن قولهم: "يثبت رمضان"، بكذا ليس المراد به خصوصية الثبوت عند القاضي، وإنما المراد ما هو أعم من ذلك؛ وهو أنه يثبت حكمه ويستقر وجوده عند القاضي وغيره. قاله الحطاب.

تنبيهات: الأول: ما ذكره المصنف من اشتراط عدلين في الشهادة هو المشهور، قال في المدونة: ولا يصام رمضان ولا يفطر فيه، ولا يقام الموسم إلا بشهادة رجلين حرين مسلمين عدلين. انتهى. وهذا في حق من لم ير الهلال بنفسه، وأما من رآه فيلزمه الصوم.

وتحصل مما مر أن رمضان لا يثبت بشهادة رجل وامرأة خلافا لأشهب، ولا بشهادة رجل وامرأتين خلافا لابن مسلمة، وفي النوادر: ولا يصام ولا يفطر بشهادة صالحي الأرقاء، ولا من فيه علقة رق، ولا بشهادة النساء والصبيان، ولا فرق في ذلك بين رمضان وغيره من المشهور إلا برؤية عدلين، وهذا هو المعروف، قال ابن عبد الحكم: رأيت أهل مكة يذهبون بهلال الموسم في الحج مذهبا لا ندري من أين أخذوه؛ لأنهم لا يقبلون في هلال الموسم إلا أربعين رجلا، وقيل عنهم خمسين، والقياس أن يجوز فيهم شَاهِدَا عَدْل كما يجوز في الدماء والفروج، ولا أعلم شيئا فيه أكثر من شاهدين إلا الزنى. وقال سند بعد أنَّ ذكر كلام ابن عبد الحكم: وعندي أنهم رأوا شأن الحج من أعظم العبادات البدنية وأعظم الحقوق، يعتبر فيه خمسون رجلا وهو القسامة في الدم، قاله الحطاب.

ص: 7

الثاني: قال في الأذكار: روينا في مسند الدارمي وكتاب الترمذي (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال، قال: اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله

(1)

)، قال الترمذي: حديث حسن، وفي مسند الدارمي أيضا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال، قال: الله أكبر، اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله

(2)

). وفي سنن أبي داوود: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال، قال: هلال خير ورشد، هلال خير ورشد آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات، ثم يقول: الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا

(3)

)، وقوله: هلال خير ورشد، هكذا ذكرد في الأذكار مرتين، وصرح بذلك الدميري في شرح المنهاج، فقال: وفي أبي داوود كان يقول: هلال رشد وخير؛ مرتين، ورأيته في نسخة مصححة من أبي داوود مكررا ثلاثا، قال الدميري بعد أن ذكر ما تقدم: ويستحب أن يقرأ بعد ذلك سورة الملك [لأثر]

(4)

ورد فيه ولأنها المنجية الواقية، قال الشيخ تقي الدين السبكي: وكأن ذلك لأنها ثلاثون آية بعدد أيام المشهور، ولأن السكينة تنزل عند قراءتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها عند النوم. قاله الحطاب.

الثالث: كان صلى الله عليه وسلم يقول إذا دخل شهر رمضان: (اللَّهُمَّ سلمني من رمضان وسلم رمضان لي وسلمه مني

(5)

)، قوله: سلمني من رمضان أي لا يصيبني فيه ما يحول بيني وبين صيامه من مرض أو غيره، وقوله: وسلم رمضان لي هو أن لا يغم عليه الهلال في أوله وآخره فيلتبس عليه الصوم والفطر، وقوله: وسلمه مني؛ أي اعصمني من المعاصي فيه، والظاهر أن المراد بقوله: إذا دخل شهر رمضان، أنه كان يقول ذلك في الوقت الذي يتراءى الناس الهلال فيه قبل

(1)

الترمذي، رقم الحديث:3462. الدارمي، ج 2 ص 3. الأذكار، ص 206.

(2)

الدارمي، ج 2 ص 3. الأذكار، ص 206.

(3)

أبو داود، رقم الحديث:5092. الأذكار، ص 206.

(4)

هذا الذي في الحطاب ج 3 ص 198.

(5)

النهاية في غريب الحديث، ج 2 ص 395. كنز العمال، رقم الحديث: 24272.

ص: 8

الرؤية، بدليل قول مفسر الحديث: إن معنى سلم رمضان لي هو أن لا يغم علي الهلال في أوله وآخره، فيتأتى ذلك. والله سبحانه أعلم. انظر الحطاب.

الرابع: قال ابن فرحون في الألغاز: إذا تعلق برؤية الهلال فرض كالصوم والفطر فلا بد من اثنين، وأما إذا أريد بذلك علم التاريخ فإنه يقبل في ذلك رؤية الرجل الواحد والعبد والمرأة؛ لأنه خبر، فيقبل منهم، ونقله عن الطرطوشي، ودخل في قوله: إذا تعلق برؤية الهلال فرض، كل حكم شرعي، فإذا تعلق برؤية الهلال حلول دين أو كمال عدة معتدة فلا بد في ذلك من شاهدين. والله سبحانه أعلم. انظر الحطاب.

الخامس: قال الخليل: مَأْخَذُ رمضان من الرمض بالتحريك؛ وهو مطر يأتي آخر الخريف، سمي هذا الشهر به لأنه يغسل الأبدان من الآثام ويطهر قلوبهم، وقيل: سمي به لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه أي في رمضان من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس. وفي القاموس: الرمض محركة: شدة وقع الشمس على الرمل وغيره، ورمض يومنا كفرح اشتد حره، وقدمه احترقت، ويجمع رمضان على رمضانات ورمضانين وأرمضة وأرمُض، ورمضان إن صح أنه اسم من أسماء الله تعالى معناه: الغافر؛ أي يمحو الذنوب ويمحقها.

واعلم أن أسماء المشهور منقولة سميت بحالات الأزمنة، فرمضان وافق زمن الحر هذا على الصحيح من أنه ليس من أسماء الله عز وجل، وسمي شوال شوالا لأن النوق تشيل فيه أذنا بها لظهور الحمل بها، وذو القعدة لأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال، وذو الحجة لأنهم كانوا يحجون فيه، والمحرم لأنهم كانوا يحرمون فيه القتال، وصفر من الصفر بالسكون الذي هو الخلو فإن الطرقات يقل سالكها بسبب ذهاب الأمن في انسلاخ الأشهر الحرم، والربيعان من ربيع العشب لأنه قد يأتي فيهما، وَالجُمَادَيَانِ من جمد الماء لأنهما يأتيان في زمن البرد وشدته غالبا، ورجب شهر حرام من الترجيب وهو التعظيم، وشعبان وهو من التشعب لأن العرب كانت تختلف فيه وتظهر القتال لخروج الشهر الحرام.

ص: 9

وقال أهل اللغة: الشهر مأخوذ من الشهرة، يقال: شهره يشهره شهرا إذا أظهره، سمي الشهر شهرا لشهرة أمره في حوائج الناس إليه في معاملاتهم ومناسكهم من حجهم وصومهم وغير ذلك. السَّادِسُ: ورد في خبر الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة

(1)

). انتهى. ولا خلاف أنه إذا شهد عدلان ليلة ثلاثين من رمضان أو من ذي الحجة برؤية الهلال يعمل بشهادتهما، وقال ابن مسعود: (صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين

(2)

)، وقال بعض الحفاظ: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات: اثنان ثلاثون ثلاثون، وسبعة تسعة وعشرون. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي عن بعضهم، أنه صلى الله عليه وسلم صام تسع رمضانات؛ الكمل منها خمس، والناقص أربع. من تذكرة ابن عوان. انتهى. والجواب أن الأصح في معنى الحديث لا ينقص أجرها، والثواب المرتب عليهما، ومعنى ذلك أن ثواب العمل في كل واحد منهما إذا كان ناقصا يعدل ثوابه إذا كان كاملا، وهذا ظاهر في رمضان، وأما في ذي الحجة فمعناه: إذا أخطأ الجم فوقفوا في العاشر فإن ذلك يجزئهم، ولهم ثواب من وقف في التاسع، وقيل أيضا في معنى الحديث أن المراد لا ينقصان معا، بل إن جاء أحدهما ناقصا جاء الآخر كاملا ولا بد، قال ابن حجر: وهذان الجوابان هما المشهوران عن السلف. انظر حاشية الشيخ بناني.

السابع: أفهم قوله: "بكمال شعبان أو برؤية"، أنه لو رأى الشخص النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالصوم لم يجب الصوم على صاحب المنام ولا غيره وهو كذلك إجماعا، قاله عياض: لأن من شروط التحمل العقل الكامل والراءي غير عاقل، ولا يضبط ما رآه في النوم كل الضبط لا للشك في رؤيته صلى الله عليه وسلم؛ لأن من رآه لم ير إلا الحق. انظر الشبراخيتي.

الثامن: نقل الشيخ محمد بن البكري في مؤلفه إعلام الأنام بفضائل الصيام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان فتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب واحد الشَّهرَ كُلَّهُ، وغلت عتاة الجن، ونادى مناد كل ليلة إلى انفجار الصبح: يا باغي

(1)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1089. البخاري، كتاب الصوم، الحديث: 1912.

(2)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2322. ولفظه: لما صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين. الترمذي، رقم الحديث:689.

ص: 10

الخير تمّم وأبشر ويا باغي الشر قصّر وأقصر، هل من مستغفر يغفر له؟ هل من تائب يتاب عليه؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ ولله عند كل فطر في شهر رمضان كل ليلة عتقاء من النار ستون ألفا، فإذا كان يوم الفطر أعتق الله تبارك وتعالى مثل ما عتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفا

(1)

). رواه البيهقي. ونقل أيضا من رواية البيهقي والأصبهاني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله في كل ليلة من رمضان ستمائة ألف عتيق من النار، فإذا كان آخر ليلة عتق بعدد ما مضى

(2)

)، وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من رمضان نظر الله تعالى إلى خلقه، وإذا نظر إلى عبد لم يعذبه أبدا، ولله في كل يوم وليلة ألف ألف عتيق من النار، فإذا كانت ليلة تسع وعشرين أعتق فيها مثل ما أشتق في كل الشهر

(3)

)، ونقل أيضا: (ولله في كل من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار، فإذا كان آخر يوم من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بقدر ما أعتق من أول الشهر

(4)

)، ونقل العلامة ابن حجر الهيثمي في كتابه: إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب السماء فلا يغلق منها باب حتى يخرج آخر ليلة من رمضان، وليس من عبد مؤمن يصلي في ليلة منها إلا كتب الله له ألفا وسبعمائة حسنة بكل سجدة، وبنى له بيتا في الجنة من ياقوتة حمراء لها ستون ألف باب، لكل باب قصر من ذهب مرشح بياقوتة حمراء، فإذا صام أول يوم من رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه إلى مثل ذلك اليوم من رمضان، واستغفر له كل يوم سبعون ألف ملك من صلاة الغداة إلى أن توارت بالحجاب؛ أي إلى غروب الشمس، وكان له بكل سجدة يسجدها في شهر رمضان بليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلها خمس مائة عام

(5)

). رواه البزار والبيهقي وغيرهما. وذكر غيره عن أبي سعيد الخدري ما فيه مخالفة، فقال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن

(1)

إعلام الأنام بفضائل الصيام، مخطوط ص 51.

(2)

إعلام الأنام بفضائل الصيام، مخطوط ص 67.

(3)

إعلام الأنام بفضائل الصيام، ص 67.

(4)

إعلام الأنام بفضائل الصيام، ص 50.

(5)

إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام، ص 40.

ص: 11

أبواب السماء وأبواب الجنة لتفتح لأول ليلة من شهر رمضان فلا تغلق إلى آخر ليلة منه إلى أن قال: فإذا صام أول يوم من شهر رمضان غفر له كل ذنب إلى آخر رمضان وكان كفارة إلى مثلها إلى أن قال: وكان له بكل سجدة يسجدها من ليله أو نهاره شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها

(1)

). قاله الشيخ علي الأجهوري.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: الظاهر أنه لا مخالفة، بل هي أجور وردت عن الشارع يتفضل المولى تبارك وتعالى بجميعها على من قابله يفَضْله، وقوله: إلى آخر ليلة منه، لا يخالف ما مر بجعل الغاية داخلة فيما قبلها. والله سبحانه أعلم. وللشيخ علي الأجهوري رحمه الله تعالى:

برمضان كل يوم يعتق

ستون ألفا جا بذا المصدق

ومثل كل ذي بيوم الفطر

يعتقه فيا له من أجر

وجاء أن العتقا ستمئين

من الألوف كل يوم يا فطين

ويعتق الله بيوم الفطر

بقدر ما أعتقه في الشهر

وألف ألف كل يوم ذا ورد

لليلة العشرين مع سبع تعد

فيعتق الله بها بقدر ما

أعتق في جميعه فلتعلما

وجاء عند كل فطر وسحور

سبعة آلاف عتيق للغفور

وصائم الأول منه تغفر

ذنوبه لمثله فاستبشروا

سبعون ألف ملك تصلي

على الذي يصوم فاحفظ نقلي

من الغداة للعشي كل يوم

وجاء هذا غير مخصوص بقوم

ثم له بكل سجدة بليل

ألف وسبع مائة بغير ميل

من حسنات وله رب السما

يبني بدار الخلد بيتا فاعلما

وفي التيسير: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم

(1)

مجمع الزوائد، ج 3 ص 145. الترغيب والترهيب، ج 2 ص 16.

ص: 12

فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوفُ فم الصائم أفضل عند الله من ريح المسك

(1)

). وفي رواية: (الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإذا شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم

(2)

)، أخرجه الستة. وقوله: الصوم لي؛ أي لم يشاركني فيه أحد، ومعنى ذلك -والله تعالى أعلم- أن الصوم ليست له صورة ظاهرة، وإنما هو نية مع كف؛ أي نية الامتثال بالكف، وهذا الوجه لا تصح فيه الشركة؛ لأنه إذا لم يكن بهذه المثابة لم يكن صوما، وأما كون معناه أن الصوم لم يعبد به غير الله، فغير صحيح. والله سبحانه أعلم. والخلوف بضم الخاء: تغير ريح فم الصائم من ترك الأكل والشرب، والرفث: مخالطة الرجل المرأة بما يريد منها، وقيل: هو التصريح بذكر الجماع؛ وهو الحرام في الحج على المُحْرِمِ وأما الرفث في الكلام إذا لم يكن مع امرأة فلا يحرم، لكن يستحب تركه، والصخب: الضجة والجلبة. وفيه أيضا عن الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض)، وَرَوَى أيضا عن النسائي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، قال:(قلت يا رسول الله: مرني بأمر ينفعني الله به، قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له) وَرَوَى أيضا عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة بابا يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد). أخرجه الخمسة إلا أبا داود، وزاد الترمذي:(ومن دخله لا يظمأ أبدا)، وروى أيضا عن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين). أخرجه الستة إلا أبا دوود، وفي أخرى للنسائي: (وينادي مناد كل ليلة يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر

(3)

). ولو بصحو بمصر؛ يعني أن الهلال يثبت برؤية العدلين، فيلزم الناس الصوم برؤيتهما الهلال، سواء رأياه في الصحو وهما بمصر كبير أو في غير ذلك، انفردا

(1)

التيسير، ج 7 ص 229.

(2)

التيسير، ج 2 ص 229.

(3)

التيسير، ج 2 ص 230.

ص: 13

بالنظر إلى موضع أم لا، ورد المصنف بلو قول سحنون: لا تقبل شهادة الشاهدين إذا لم يشهد غيرهما في المصر الكبير والصحو، وأي ريبة أكبر من هذا، قال الحطاب: ولم أر من نقل عنه كم يكفي في ذلك، وهكذا قال اللخمي بعد أن حكى كلامه، ونصه: ولم يرو عنه في العدد الذي يكتفى به في ذلك شيء. انتهى. وحذف المصنف الوصف من قوله: "بمصر"؛ أي كبير لأنه رد بالمبالغة على سحنون، وخلافه إنما هو في المصر الكبير، مع أن التنوين يؤذن بالوصف بالكبير، وأن العادة قاضية بأن المصر إنما يكون كبيرا. قاله الخرشي. وقوله:"ولو بصحو بمصر" كبير هو قول مالك وأصحابه، وتقدم أن سحنون هو الذي رد عليه المصنف بلو، قال ابن بشير: وهو خلاف في حال إن نظر الكل إلى صوب واحد ردت، وإن انفردا بالنظر إلى موضع ثبتت شهادتهما، وعده ابن الحاجب قولا ثالثا واعترضه التوضيح، وتقدمت الإشارة في أول الحل إلى ما قال ابن الحاجب، وعلم مما مر أنه لو كان المصر صغيرا أو كانت السماء غير مصحية فيثبت برؤية العدلين اتفاقا. فإن لم ير بعد ثلاثين صحوا كذبا؛ يعني أن رمضان إذا ثبت برؤية عدلين ولم ير الهلال ليلة الحادي والثلاثين صاحية؛ أي لا غيم فيها؛ فإن الشاهدين يكذبان في شهادتهما؛ أي بالنسبة لغيرهما، وأما هما فيعملان على اعتقادهما على الظاهر. قاله الشبراخيتي. وقوله:"صحوا"، قال الخرشي والشبراخيتي: حال من قوله: "بعد" أي حال كون البعد ذا صحو، وقوله:"كذبا"، كانت رؤيتهما لرمضان بصحو أو غيم في بلد صغير أو كبير وهما شاهدا سوء. قاله مالك. ورؤيتهما بعد ثلاثين صحوا كالعدم، فلا تقبل لاتهامهما على تَرْوِيجِ شهادتهما، وكذا يكذب ما زاد عليهما ولم يبلغ عدد المستفيضة إذا لم ير بعد ثلاثين صحوا، فيصام الحادي والثلاثون. اللخمي: إذا شهد شاهدان على الهلال فأكمل عدة ذلك الشهر ثلاثين يوما والسماء مصحية، فلم يروا شيئا سقطت شهادتهما ولم يعمل بها ولم يصم الناس إن شهدا على هلال شعبان، ولم يفطروا إن شهدا على هلال رمضان، قال: وقول مالك شاهدا سوء، يريد قد تبين كذبهم؛ لأن الهلال لا يخفى مع إكمال العدة؛ لأنها ليلة إحدى وثلاثين، وإنما يخفى ويدركه بعض الناس دون بعض مع نقص الأول. ابن عبد السلام: وعلى المذهب يجب أن يقضي

ص: 14

الناس يوما إذا كانت شهادة الشاهدين على رؤية هلال شوال، وعد الناس ثلاثين يوما ولم يروا هلال ذي القعدة، وكذلك يفسد الحج إذا شهدا بهلال ذي الحجة.

وبما قررت علم أن قوله: "فإن لم ير بعد ثلاثين صحوا كذبا"، مفرع على ما قبل المبالغة وعلى ما بعدها، وأعني بالمبالغة قوله:"ولو بصحو بمصر"، وظاهر المصنف أنهما يكذبان، ولو حكم بشهادتهما حاكم وهو ظاهر حيث كان الحاكم به مالكيا، وأما لو حكم به من لا يرى تكذيبهما كالشافعي فإنه يجب الفطر؛ لأن مقتضى حكمه أن لا يراعى إلا العدد خاصة دون رؤية الهلال. قاله بعض شيوخنا وَاعْتُرِضَ عليه بمسألة المصنف، فأجاب بما قدمناه فَاعْتُرِضَ بأن الشهود قد ظهر فسقهم، فينقض الحكم المرتب على شهادتهم، فأجاب بأنه لم يظهر فسقهم عند الحاكم بهم بل عند غيره، والفسق المضر هو المتفق على كونه فسقا قاله أحمد. وفيه نظر؛ لأن حكم الشافعي بلزوم الصوم ليس حكما بالفطر بعد ثلاثين على الوجه المذكور، فلم يقع الحكم بما فيه الخلاف بين الإمامين، بل بما اتفقا عليه وهو لزوم الصوم أول الشهر، فلا يجوز للمالكي الفطر لأنه لم يقع فيه حكم من الشافعي. نعم، إن وقع منه حكم بموجب لزوم الصوم أي حين الرؤية كان حكما بالفطر بعد ثلاثين وإن لم ير الهلال. قاله عبد الباقي. قال محمد بن الحسن: محل تنظيره إذا كان فرض الكلام أنه حكم بالصوم عند رؤيتهما ولم يقع منه حكم بالفطر لأجلهما، ولكنه مقتضى حكمه الأول. انتهى. وقال عبد الباقي. وغيره: وما ذكره الحطاب من عدم جواز الفطر حيث حكم الشافعي بالفطر أي عند تمام الثلاثين في مسألة المصنف، مبني على القول بعدم لزوم الصوم بحكم المخالف لا على القول بلزومه. انتهى. قال محمد بن الحسن: فيه نظر، بل إنما هو مفرع على مقابله وهو القول بلزومه. انتهى.

وقوله: "صحوا"، قال الحطاب بعد أن نقل ما يدل على صحة كلام المصنف: وهو ظاهر؛ لأن الحكم عليهما بكونهما شاهدي سوء إنما يظهر حينئذ، وأما مع وجود الغيم أو صغر المصر وقلة الناس، فيحمل أمرهما على السداد. انتهى. وقوله:"فإن لم ير بعد ثلاثين صحوا كذبا"، مثلهما ما زاد عليهما ولم يبلغ عدد المستفيضة كما مر كانوا بصحو أو لا بمصر أو لا، وأما الجماعة المستفيضة فلا تكذب قاله الخرشي. وقال الأمير: وأما المستفيضة فلا يمكن فيها التخلف عادة،

ص: 15

والظاهر لو فرض ذلك أنه علامة عدم تحقق الاستفاضة فإنها تختلف باختلاف الأحوال. انتهى. وجرى خلاف فيمن رأى هلال رمضان وحده فصام ثلاثين، ثم لم يره أحد والسماء مصحية، فقال محمد بن عبد الحكم وابن المواز: هذا محال ويدل على أنه غلط، وقال بعضهم: الذي ينبغي أن يعمل في ذلك على اعتقاده الأول، ويكتم أمره. ذكره في التوضيح. ولا يستبعد هذا بتكذيب الشاهدين المتقدم لأنه في تكذيبهم بالنسبة لصوم الناس، كما مر، قال بعض: ومقتضى كلام التوضيح أند يعحمل في الغيم [على رؤيته]

(1)

، وهو ظاهر. انتهى. وإذا ثبت برؤية عدل حيث لا يعتنى بأمر الشهر، ثم بعد ثلاثين رأى شوالا عدل غيره، فقط، فانظر هل يكذب أولا؟ والظاهر أنه إن كان يُعتَنَى بهلال شوال كذب وإلا لم يكذب، وهذا النظر على القول بعدم تلفيق شهادة شاهد بأوله لآخر آخره، وأما على التلفيق فلا يتأتى هذا النظر: ولو ثبت رمضان بعدلين ولم يكن يعتني بهلال شوال، ومضى ثلاثون ورآه عدل غيرهما، فالظاهر أنهما لا يكذبان لأن العدل بمنزلة عدلين؛ لأن الفرض أنه في محل لا يعتنى فيه بأمر الهلال.

وقوله: "فإن لم ير بعد ثلاثين صحوا كذبا"، قال الأمير: فَإنْ قُلْتَ: من اكتفى في هذه الصورة بنية أول الشهر مقتضاه فساد جميع صومه لعدم تبييتها ولا قائل به، قلت: عذروه بالشبهة على أن بعض الأئمة كالشافعية لا يكذب في هذه الحالة مع الخلاف في تقديم النية في الجملة. انتهى. وقوله: "فإن لم ير بعد ثلاثين"، قال الحطاب: قال ابن ناجي في شرح المدونة: وقعت هذه المسألة بالقيروان، وجلس شيخنا أبو مهدي لرؤية هلال شوال بجامع الزيتونة ليلتين ولم يُرَ وانحرف على قاضي الزيتونة في تسرعه لقبول الشهادة، ولو كانت بثبت ما وقع في مسألة قال مالك في شهودها ما قال، ولم يقع في عصرنا قط، ولا بلغنا أنها وقعت في غيره. انتهى.

قال الحطاب: وقد أخبرني والدي رحمه الله تعالى أنه وقع لهم في سنة من السنين أن جماعة شهدوا بمكة بهلال ذي الحجة ليلة الخميس حرصا على أن تكون الوقفة بالجمعة، ثم عد الناس ثلاثين يوما من رؤيتهم ولم ير أحد الهلال، لكن لطف الله تعالى بالناس ولم يفسد حجهم بسبب أنهم وقفوا بعرفة يومين، فوقفوا يوم الجمعة ثم دفع كثير منهم حتى خرجوا من بين العلمين،

(1)

ساقط من الأصل وما بين المعقوفين من الحطاب ج 3 ص 133 ط دار الرضوان.

ص: 16

ثم رجعوا وباتوا بها، ووقفوا بها يوم السبت، ويقع بمكة في مثل هذا الحال -أعني إذا وقع الشك في وقفة الجمعة- خباط كثير والله أعلم. انتهى. ومستفيضة، مقتضى كلام علي الأجهوري وعبد الباقي والشبراخيتي أنه معطوف على قوله:"عدلين"، ومعنى ذلك أن رمضان يثبت برؤية الجماعة المستفيضة، ونص الأجهوري وقوله:"أو مستفيضة"، المراد بهم جماعة يفيد خبرهم العلم أو الظن القريب منه، ولا بد أن يكونوا كلهم ذكورا أحرارا، أو بعضهم كذلك؛ وهو ظاهر كلام التتائي. انتهى. ونص عبد الباقي عند قوله:"أو مستفيضة": وهم -كما قال ابن عبد الحكم- أن يخبر برؤيته من لا يمكن تواطؤهم على الكذب، وإن كان فيهم نساء وعبيد بحيث يحصل بهم العلم أو الظن القريب منه حتى لا يحتاجوا إلى التعديل، وإن لم يبلغوا عدد التواتر. انتهى. ونص الشبراخيتي: أو برؤية جماعة مستفيضة؛ وهي التي ينتشر عنهم الخبر بحيث يفيد خبرهم العلم الضروري أو الظن القريب منه، ويستحيل تواطؤهم على الكذب عادة، ولابد أن يكونوا كلهم ذكورا أحرارا أو بعضهم كذلك، فلو كانوا كلهم عبيدا أو نساء، فإنه لا يكتفى بهم كما في الحطاب، والمستفيضة ليس لهم عدد محصور، لكنهم لا ينقصون عن خمسة، فقد تكون الخمسة مستفيضة إذا أفاد خبرهم العلم الضروري، وقد لا تكون إذا لم يفد ذلك. انتهى. ولا يخفى ما في كلام عبد الباقي والشبراخيتي كما حرره محمد بن الحسن، وذلك أن الذي ذكره ابن عبد السلام والتوضيح أن الخبر المستفيض هو المحصل للعلم أو الظن القريب منه وإن لم يبلغوا عدد التواتر، والذي لابن عبد الحكم أن المستفيض هو الخبر الحاصل ممن لا يمكن تواطؤهم على باطل -كما نقله عنه ابن يونس- وهذا هو التواتر المحصل للعلم، واقتصر عليه ابن عرفة والأبي والمواق، فهذا التفسير أخص والأول أعم منه، قال محمد بن الحسن: وخلط الزرقاني بينهما؛ إذ قوله: ولا يمكن تواطؤهم عادة على الكذب، يناقضه قوله بعده: بحيث يحصل به العلم أو الظن القريب منه، وكذا قوله: وإن لم يبلغوا عدد التواتر، وهذا أيضا وارد على كلام الشبراخيتي. وقال الخرشي إن قوله:"أو مستفيضة"، صفة لموصوف محذوف، معطوف على برؤية؛ أي برؤية مستفيضة؛ وهي التي يخبر بها من يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة، ولو كان فيهم العبيد والصبيان: وأما الاستفاضة بالأخبار، بأن يقولوا سمعنا أنه رُئِيَ الهلال فلا يثبت بها لاحتمال أن

ص: 17

يكون أصل الخبر عن واحدة ويقال: فاض الخبر يفيض واستفاض أي فشا وشاع، وحديث مستفيض أي منتشر في الناس، ولا تقل مستفاض، ولا يخفى أن قولهم جماعة مستفيضة إنما هو على جهة التجوز أي مستفيض خبر رؤيتها. والله سبحانه أعلم. وعم إن نقل بهما عنهما؛ يعني أن الحطاب بالصوم يعم سائر البلاد إذا نقل ثبوت رمضان عند أهل بلد "بهما"؛ أي بالعدلين والمستفيضة "عنهما"؛ أي عن العدلين والمستفيضة، فمعنى عم أنه يعم أهل البلاد وجوب الصوم بسبب ذلكَ النقل، لكن بشرط عدم البعد جدا والواو فيهما بمعنى أو،

والحاصل أن صور النقل ست؛ لأن النقل إما عن رؤية العدلين أو المستفيضة أو عن الحكم، والناقل في الثلاث إما العدلان أو المستفيضة وكلها تعم لكن بشرط عدم البعد جدا في الجميع، والصور الستة يشملها كلام المصنف، قال أبو عمر: أجمعوا على عدم لحوق حكم رُؤْيَةِ مَا بَعُدَ كالأندلس من خراسان، وفي كلام عبد الباقي هنا نظر، وقوله: وعم إن نقل بهما عنهما، سواء كانت الشهادة المنقول عنها ثبتت عند حاكم عام كالخليفة، أو خاص على المشهور، أو نقلت عن غير حاكم، ومقابل المشهور قول عبد الملك: إذا كانت الشهادة عند حاكم خاص فإنه يقصر على من في ولايته، واعلم أنه إذا نقل العدلان عن العدلين فلا بد أن ينقل عن كل اثنان ليدى أحدهما أصلا، ويكفي نقل اثنين عن واحد ثم هما عن الآخر، واحترز بذلك عما إذا نقل واحد من الناقلين عن واحد من الأصلين ثم هما عن الآخر أو الآخر من الناقلين عن الآخر، من الأصلين، أو نقل واحد من الأصلين، وآخر عن الآخر من الأصلين فإن ذلك لا يفيد. لا بمنفرد، عطف على قوله:"برؤية عدلين"؛ يعني أن الهلال لا يثبت برؤية عدل واحد، فلا يصام ولا يفطر لرؤيته، ولو خليفة أو قاضيا أو مثل عمر بن عبد العزيز. ابن عرفة: والمذهب لغو رؤية العدل كغيره. ابن حارث: اتفاقا. انتهى. وظاهر كلامه أنه لا خلاف فيه، وقال اللخمي: منع مالك أن يصام بشهادة الواحد لا على وجه الوجوب، ولا على وجه الندب، ولا الإباحة، قال سحنون: ولو كان مثل عمر بن عبد العزيز ما صمت بقوله ولا أفطرت، ثم نقل عن ابن الماجشون إجازة الصوم برؤية الواحد، وروى في التيسير عن أصحاب السنن، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال. إني رأيت الهلال -يعني هلال

ص: 18

رمضان - فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا

(1)

). وما قررت به كلام المصنف من أن قوله: "لا بمنفرد"، عطف على قوله:"برؤية عدلين"، والتقدير لا برؤية منفرد هو الذي قرر به غير واحد، وإن أبعده قوله:"لا بمنجم"؛ إذ لم يأت بالواو قبل لا، وأما من جعله معطوفا على قوله:"بهما"، فيلزم منه أن يكون المصنف ماشيا على الضعيف، فإن المذهب ما قاله أحمد بن ميسر: أن نقل المنفرد يعم، وهو الذي صوبه ابن رشد والصقلي، ولم يحك اللخمي والباجي غيره؛ وهو قول أبي محمد، ومقابله لأبي عمران: إن نقل المنفرد لا يلزم به الصوم إلا أهله. واعلم أن هذا الخلاف المذكور -أعني الخلاف بين ابن ميسر وأبي عمران- إنما هو في النقل عن المستفيضة، أو ثبوت عند حاكم، أو عن حكمه، فيعم على المعتمد في الأهل وغيرهم ومن لا يعتنون بأمره وغيرهم، وأما نقل الواحد عن رؤية الشاهدين أو عن أحدهما فلا عبرة به مطلقا، وعلى المعتمد الذي هو قبول النقل في الواحد فلا فرق بين أن يخبرهم بذلك ابتداء من نفسه، أو يبعثونه ليكشف لهم عن ذلك ويخبرهم، وإنما يفترق ذلك في حق الإمام، فإنه إن بعث رجلا إلى أهل بلد ليخبره عن رؤيتهم فأخبره أنهم صاموا برؤية مستفيضة أو بثبوت الهلال عند قاضيهم، وجب عليه أن يأمر الناس بالصيام لذلك اليوم، وإن أخبره بذلك من غير أن يرسله وجب على الإمام الصيام في نفسه خاصة، ولم يصح له أن يأمر الناس بالصيام حتى يشهد عنده بذلك شاهد آخر؛ لأنه حكم، فلا يكون إلا بشاهدين، وظاهره أن الذي يبعثه الإمام يكتفى بقوله بلا خلاف، بل يفهم من كلام أبي عمران أن غير الإمام إذا بعث من يكشف له عن رؤية الهلال أنه يلزمه العمل بما يخبره به.

وفي المقدمات: صيام رمضان يجب بخمسة أشياء: إما أن يرى الهلال، أو يخبره الإمام أنه قد ثبتت عنده رؤيته، وإما أن يخبره العدل بذلك أو عن الناس أنهم رأوه رؤية عامة وكذلك إذا أخبره عن أهل بلد أنهم صاموا برؤية عامة أو بثبوت رؤيتة عند قاضيهم، وإما أن يخبره شاهدان عدلان أنهما قد رأياه، وإما أن يخبره بذلك شاهد واحد عدل في موضع ليس فيه إمام يتفقد أمرا

(1)

التيسير، ج 2 ص 230/ 231.

ص: 19

الهلال بالاهتبال به. انتهى. قوله: أو يخبره الإمام أنه قد ثبت رؤيته عنده، هذا ظاهر وليس من خبر العدل الواحد؛ أي ظاهر إذا كان الحاكم موافقا للمخبر، وأما لو أخبر شافعي مالكيا، فينبغي أن يسأله بماذا ثبت، فإن أخبره أنه ثبت بشاهدين فلا إشكال، وأما لو أخبره أنه ثبت بعدل جرى على الخلاف في المسألة الآتية. والله أعلم؛ يعني قوله: ولزومه بحكم المخالف بشاهد الخ. فإن لم يبين له فانظر ما حكمه، وقد مر أنه إذا قال شخص: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرني أن الليلة أول رمضان لم يصح بذلك الصوم لصاحب المنام ولا لغيره بالإجماع كما قاله القاضي عياض، وذلك لاختلال

(1)

ضبط النائم، لا للشك في رؤيته صلى الله عليه وسلم. نقله النووي في شرح المهذب عن القاضي عياض. ونقله الدميري وغيره. قاله الحطاب. وكذا لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه طلق زوجته فإنه لا تحرم عليه بذلك. إلا كأهله؛ يعني أنه لا يلزم الصوم برؤية المنفرد لعدم ثبوت رمضان برؤيته هذا بالنسبة لغير أهل الراءي وأما أهل الراءي، فيلزمهم الصوم برؤيته، والمراد بأهله زوجته. وأدخلت الكاف من في حكمها، كالخادم والأجير ومن في عياله، وهذا مقيد بما إذا كان من ذُكِرَ لا يعتني بأمر الشهر، وأما إن كان من ذكر يعتني بأمر الشهر فإنه لا يلزمه الصوم برؤية المنفرد. والله سبحانه أعلم. دمن لا اعتناء لهم بأمره؛ يعني أنه لا يلزم الصوم برؤية المنفرد إلا من لا يعتنون بأمر الهلال من أهله وغيرهم، فإنهم يصومون برؤية المنفرد ويفطرون برؤيته، ولو كان هذا الراءي المنفرد عبدا أو امرأة حيث ثبتت العدالة ووثقت أنفس غير المعتنين بخبر كل برؤيته، ولم يكن ثم من يرصد الهلال من جهة الحاكم، وإلا لم يعمل برؤيته، وقد يقال إذا وُجِدَ من يرصده فقد اعتنى بأمره، واعْتُرِضَ عطف من لا اعتناء على أهله باقتضائه ثبوته لكأهله وإن اعتنوا به وليس كذلك؛ إذ إنما تعتبر رؤيته لغير المعتني به مطلقا، لا للمعتني به مطلقا، فلو قال: إلا من لا اعتناء لهم بأمره وحذف الكاف ومدخوله والواو قبل من لكان ظاهرا.

وتحصل مما مر أن أقسام المنفرد ثلاثة: رؤيته للهلال لا تعتبر إلا في من لا اعتناء لهم بأمره. نقله عن المستفيضة، أو ثبوت عند حاكم أو عن حكمه فيعم لزوم الصوم به، ولا يخص اللزوم بمن لا

(1)

في الأصل لاختلاف، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 152 ط دار الرضوان.

ص: 20

اعتناء لهم بأمره، نقله عن رؤية عدلين أو أحدهما لا تعتبر مطلقا. قاله عبد الباقي. وقال الأمير: لا يكفي نقل الواحد مجرد رؤية العدلين، اللهم إلا أن يرسل ليكشف الخبر فيكون كالوكيل سماعه بمنزلة سماع المرسلين له، فيجب عليهم على خلاف ولا أثر كما للناصر وغيره لكبره وارتفاعه، بحيث يقال ابن ليلتين، فقد ورد: آخر الزمان تنتفخ الأهلة، فكأنهم قاسوا عليه الارتفاع، والتزموا صريح الشرع من التعويل على مشاهدته. انتهى. وفي التوضيح: والتحقيق إنما قبل المؤذن الواحد دون مدعي رؤية الهلال؛ لأن المؤذن مستند في إخباره إلى أمر يطلع عليه غيره عادة، ولو أخطأ لكثر النكير عليه، بخلاف الهلال فإنه لا يعلم إلا بقوله. انتهى. الأبي: إنما تعتبر البينة في بلد بها قاض؛ لأنه الذي ينظر في البينة وعدالتها، ويتنزل منزلة القاضي جماعة من المسلمين ينظرون كنظره، فإن لم يكن في البلد معتن بالشريعة من قاض أو جماعة فذلك عذر يبيح الاكتفاء بالخبر بشرطه من الضبط والعدالة، وعلى هذا يقبل قول المرأة والعبد، وتكون هذه ضرورة تبيح الانتقال من الشهادة إلى الخبر كما ينقله الرجل إلى أهل داره، بل هو أولى. وفي المنتقى: إذا لم يكن بالموضع إمام، أو كان وَضَيَّعَ، فمن ثبت عنده برؤية نفسه أو برؤية من يثق به فيصوم بذلك ويفطر، ويحمل عليه من يقتدي به نقله الباجي وغيره عن عبد الملك.

وسئل أبو محمد عن قرى بالبادية متقاربة، يقول بعضهم لبعض: إذا رأيتم الهلال فنَيِّروا، فرآه بعض أهل القرى فنيروا، فأصبح أصحابهم صُوَّمًا، ثم ثبتت الرؤية بالتحقيق، فهل يصح صومهم؟ قال: نعم، قياسا على قول عبد الملك بن الماجشون في الرجل يأتي القوم فيخبرهم أن الهلال قد رئي. نقله عنه المشذالي في حاشية المدونة.

قلت: أما إذا كان يعلم أن المحل الذي فيه النار يعلم به أهل ذلك البلد، ويعلم أنهم لا يمكنون من جعل النار فيه إلا إذا ثبت الهلال عند القاضي أو برؤية مستفيضة، فالظاهر أنه ليس من باب نقل الواحد، وهذا كما جرت العادة بأنه لا يوقد القناديل في رؤوس المنابر إلا بعد ثبوت الهلال، فمن كان بعيدا أو جاء بليل ورأى ذلك فالظاهر أن هذا يلزمه الصوم بلا خلاف، فتأمله. والله أعلم. قاله الحطاب.

ص: 21

وقد علم مما مر أنه كما يثبت رمضان برؤية المنفرد في حق من لا اعتناء لهم بأمر الشهر، يثبت شوال برؤيته أيضا في حقهم، وهذا يجري فيما إذا ثبت بالمستفيضة، ثم شهد منفرد في المحل المذكور ليلة ثلاثين بهلال شوال، وفيما إذا ثبت الصوم بعدلين ثم شهد بشوال عدل في المحل المذكور ليلة ثلاثين مع صحو السماء؛ لأن شهادته بمنزلة شهادة عدلين، وأما إذا ثبت الصوم برؤية عدل بالمحل المذكور، ثم شهد عدل آخر برؤيه شوال ولم يره غيره ليلة ثلاثين مع الصحو، فالظاهر أنه لا يكذب؛ لأن الشاهد بشوال في المحل المذكور بمنزلة عدلين. وعلى عدل أو مرجو رفع رؤيته؛ يعني أنه يجب على من رأى الهلال وهو عدل، أن يرفع رؤيته للهلال إلى الحاكم رجاء انضمام آخر، فتكمل الشهادة، ولاحتمال كون الحاكم ممن يرى العدل كافيا، وكذا يجب على من رأى الهلال وهو مرجو العدالة أن يرفع رؤيته إلى الحاكم لتلك العلة. وقوله: مرجو العدالة؛ أي يرجى قبول شهادته عند الناس لجهل حاله عندهم، فيشبه أن تقبل شهادته أو يزكى، ويجب رفع الرؤية على المرجو ولو علم جرحة نفسه. قاله أشهب. قاله ابن عرفة. انظر الحطاب.

قال الحطاب: ولم أر من ذكر في هذا خلافا، بخلاف مسألة من شهد على عدوه، فإنه اختلف فيها، هل يخبر بالعداوة -وعليه مشى المصنف في باب الشهادات- أو لا يخبر بها، وصححه ابن رشد. انتهى.

وعلم مما مر أن الراد بالمرجو هنا من لم يظهر فسقه، فيشمل الفاسق المستور حاله عن الناس، كما مر. والله سبحانه أعلم. ونص الباجي: وظاهر الكتاب يرفع للإمام، ولو علم من نفسه أنه ليس من أهل القبول وهو كذلك. قاله أشهب. انتهى. والمختار وغيرهما؛ يعني أنه اختلف في وجوب رفع الشهادة برؤية الهلال، وندبه وتركه على من ليس عدلا ولا مرجو العدالة وهو الفاسق المعلوم الفسق، واختار اللخمي ندب الرفع له، والقوك بالوجوب نقله ابن بشير وابن الحاجب، وعزاه في التوضيح لابن عبد الحكم، والقول بالندب لأشهب، والقول بترك الرفع للقاضي. ابن عرفة: إن لم يكن عدلا ولا مرجوا ففي استحباب رفعه وتركه نقلا اللخمي عن أشهب والقاضي، ونقلُ ابن بشير بدل استحبابه وجوبَه لا أَعْرِفُه. انتهى. قاله الحطاب.

ص: 22

وقال: ظاهر المصنف أنَّ اللخميَّ اختارَ القولَ بالوجوب، والذي في كلامه في التبصرة إنما هو اختيار القول بالاستحباب. اهـ. وَيُجَاب عن المصنف بأنه استعمل على في حقيقتها في الأولين. ومجازها في الثالث، وَيتحَصَّل من كلامهم هنا أن الأقسام ثلاثة: العدل يجب عليه الرفع، ومرجو العدالة يجب عليه الرفع أيضا، ومرجو العدالة شامل لمن يعلم من نفسه الجرحة ولكن لا يطلع الناس على الأمر الذي استوجب من أجله الجرحة، ومن لا يعلم من نفسه ذلك فترجى تزكيته فيهما، القسم الثالث معلوم الجرحة عند الناس، وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: وجوب رفع الرؤية، وندب الرفع، وترك الرفع، واختار اللخمي القول بندب الرفع خلاف ما يقتضيه المصنف من أن اللخمي اختار القول بالوجوب، وقد مر الجواب عنه، والقول بالوجوب لابن عبد الحكم، عزاه له في التوضيح، ونقله ابن بشير وابن الحاجب، والقول بالندب لأشهب، والقول بترك الرفع للقاضي. وإن أفطروا فالقضاء والكفارة؛ يعني أن الشخص إذا رأى هلال رمضان، سواء كان عدلا أو مرجوا أو غيرهما، فإنه يجب عليه الصوم، فإن أفطر متعمدا فعليه القضاء والكفارة لوجوب الصوم عليه بلا نزاع، فالضمير في قوله:"وإن أفطروا"، عائد على العدل والمرجو وغيرهما المنفردين برؤية الشهر. إلا بتأويل؛ يعني أنهم إذا أفطروا على وجه الانتهاك فلا إشكال في الكفارة، وأما إذا لم يكن فطرهم على جهة الانتهاك لحرمة الشهر، بل أفطروا متأولين يظن كل واحد منهم أن الصوم لا يلزمه برؤيته منفردا، فقال أشهب: لا كفارة على من حصل له ذلك منهم، والمشهور لزوم الكفارة، قال فيها: فإن أفطر لزمه القضاء والكفارة. أشهب: إلا أن يكون متأولا. فتأويلان؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في قول أشهب، هل هو خلاف لقول الإمام فيها؟ فإن أفطر فعليه القضاء والكفارة، وهذا التأويل هو المشهور؛ وهو تأويل ابن الحاجب وغيره، ومنهم من ذهب إلى أن قول أشهب تقييد لقول الإمام. ونقله أبو الحسن عن الشيوخ. قال الشبراخيتي: والشهور وجوب الكفارة والتأويل بعدم الكفارة ضعيف، وكان ينبغي له أن يقول: فالقضاء والكفارة ولو بتأويل، ويستغني عن هذا التطويل. انتهى.

وقال الحطاب: والقول بوجوب الكفارة هو المشهور، ولذلك جزم به المصنف -انتهى. يعني- كما يأتي في قوله:"كراء ولم يقبل": فهذه هي المسألة الآتية، فلا فرق بين أن يكون رفع فَرُدَّ أم لا.

ص: 23

وقال في التوضيح: فإن صام هذا الذي رأى الهلال وحده ثلاثين يوما، ثم لم ير أحد الهلال والسماء مصحية، فقال محمد بن عبد الحكم وابن المواز: هذا محال، ويدل على أنه غلط، وقال بعضهم: الذي ينبغي أن يعمل في ذلك على اعتقاده الأول ويكتم أمره، وظاهر كلامه في التوضيح أنه لو كان غيم يعمل على رؤيته، وهذا ظاهر. والله أعلم. قاله الحطاب. وقد مر هذا.

وإذا لم يصم أهل العدل المنفرد برؤية الهلال ومن لا اعتناء لهم بأمره، فالذي يجب الجزم به فيهما أنه يجب على من أفطر منهم ولو متأولا الكفارة؛ لأن العدل في حقهم بمنزلة العدلين في حق غيرهم، فلا يتأتى منهم تأويل قريب في هذا. قاله الشيخ علي الأجهوري. وقوله:"إلا بتأويل فتأويلان"، سبب الخلاف، هل هو تأويل قريب أو بعيد؟ وسيصرح المصنف بأنه تأويل بعيد فيما يأتي: وهو قوله "كراء ولم يقبل". لا بمنجم؛ يعني أن رمضان لا يثبت بقول المنجم، والمنجم الحاسب؛ وهو الذي يحسب قوس الهلال ونوره، وقيل: إن المنجم هو الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني، والحاسب هو الذي يحسب سير الشمس والقمر، وعلى كل لا يصوم أحد بقوله ولا يعتمد هو في نفسه على ذلك، وحرم تصديق منجم، ويقتل إن اعتقد تأثير النجوم وأنها الفاعلة بلا استتابة إن أسر ذلك، فإن أظهره وبرهن عليه فمرتد يستتاب، فإن لم يتب قتل، فإن لم يعتقد تأثيرها واعتقد أن الفاعل هو الله سبحانه لكن جعلها أمارة على ما يحدث في العالم، فعند ابن رشد مؤمن عاص يزجر عن اعتقاده ويؤدب عليه ويحرم تصديقه، لقوله تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ، ولخبر: (من صدق كاهنا أو عرافا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد

(1)

)، وعند المازري غير عاص، يجوز إذا أسند ذلك لعادة أجراها الله تعالى، كما يؤخذ من خبر: (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقه

(2)

)، قال: وأما الحديث القدسي وهو: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي

(3)

)، الذي فيه يقولون بنوء كذا، فالنهي إذا نسبه للأنواء، والخبر السابق في الجواز إذا نسب ذلك لعادة أجراها الله تعالى، وكذا جمع مالك بين الحديثين. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: لا يثبت رمضان بمنجم؛ أي

(1)

الإتحاف، ج 4 ص 194.

(2)

الموطأ، الحديث 452

(3)

الموطأ، الحديث:451. البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث: 846.

ص: 24

بقوله: أوله كذا، ولو في نفسه، وسواء وقع في القلب صدقه أولا، وفي الحديث: (من صدق كاهنا أو عرافا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد

(1)

). انتهى.

والكاهن هو الذي يخبر عن الأمور المستقبلة، والعراف هو الذي يخبر عن الأمور الماضية أو المسروق أو الضال أو نحو ذلك. انتهى. وفي حديث آخر: (من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا يؤمن بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم

(2)

)، وفي حديث آخر: (من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما

(3)

)، وفي الترغيب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: (من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم

(4)

)، قال ابن زكري: وأفاد بقوله: فصدقه، أن الفرض أنه سأله معتقدا صدقه، فلو سأله استهزاء معتقدا كذبه لم يلحقه الوعيد، والمراد أن مصدق الكاهن إن اعتقد أنه يعلم الغيب كفر، وإن اعتقد أن الجن تلقي إليه ما سمعته من الملائكة وأنه بإِلْهَامٍ فصدقه من هذه الجهة لا يكفر، والعرافة مختصة بالأمور الماضية كمعرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، والكهانة مختصة بالحادثة. وقوله: لم تقبل له صلاة أربعين يوما، قال الأبي: عياض: مذهب أهل السنة أن السيئات لا تحبط الحسنات، وإنما يحبطها الكفر، فعدم القبول عدم الرضا وعدم قبول الأجر لا قبول الأداء وسقوط التكليف.

قلت: القبول عبارة عن حصول الثواب، والصحة عبارة عن سقوط الأداء، فإذا لم تقبل له صلاة لم يثبت ثوابها، ويسقط التكليف، ولما ذكر المناوي عن النووي أن معنى عدم القبول عدم الثواب، ذكر أنه اعترض بأن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين، فكيف يسقط ثواب صلاة صحيحة بمعصية لاحقة؟ قال: فالوجه أن يقال: المراد من عدم القبول عدم تضعيف الأجر، وجاء في الخبر:(إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا)

(5)

ومعنى الحديث إذا ذكر أصحابي بما شجر بينهم من الحروب والمنازعات فأمسكوا وجوبا عن الطعن فيهم والخوض في ذكرهم بما لا

(1)

الإتحاف، كتاب الاستسقاء، ج 4 ص 198.

(2)

الترغيت والترهيب، الحديث 4675.

(3)

مسلم، كتاب السلام، الحديث:2235.

(4)

الترغيب والترهيب للمنذري، الحديث:4674.

(5)

الجامع الصغير، رقم الحديث:615.

ص: 25

يليق بهم فإنهم خير الأمة وخير القرون، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا: قال الحافظ المنذري: المنهي عنه من علم النجوم، هو ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان، كمجيء المطر، ووقوع الثلج، وهبوب الريح، وتغير الأسعار، ونزول الموت، وغير ذلك. ويزعمون أنهم يعرفون ذلك بسير الكواكب لافتراقها واجتماعها، وظهورها في بعض الأزمان، وهذا علم استأثر الله تعالى به لا يعلمه أحد غيره، فأما ما يدرك من طريق المشاهدة من علم النجوم، والذي يعرف به الزوال وجهة القبلة، وكم مضى من الليل، وكم بقي منه فغير داخل في النهي. والله أعلم.

(وإذا ذكر القدر فأمسكوا

(1)

)، القدر بالتحريك هو تعلق الأشياء بالإرادة في أوقاتها الخاصة، فأمسكوا عن محاورة أهله ومقاولتهم لما في الخوض في ذلك من المفاسد، قال البَغَوِيُّ: سر القدر سر الله تعالى لم يُطلِع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، لا يجوز الخوض فيه والبحث عنه من طريق العقل، بل يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين: أهل اليمين خلقهم للنعيم فضلا، وأهل الشمال خلقهم للجحيم عدلا، قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} ، فأمر صلى الله عليه وسلم بالإمساك عن الخوض فيه؛ لأن من يبحث لا يأمن من أن يصير قدريا أو جبريا، ويجب من علم النجوم ما يعلم به أدلة القبلة عينا، ومقتضى القواعد أن يكون ما يعرف منه أوقات الصلاة فرضا على الكفاية لجواز التقليد في الأوقات وموطن الاستحباب هو ما يعين على الأسفار وينجي من ظلمات البر والبحر انتهى.

وقال الحطاب: ولا يجوز لأحد أن يصوم بقول المنجم، ولا يجوز له هو أن يعتمد على ذلك وسواء

في ذلك العارف فيه وغيره، وقد أنكر ابنُ العربي في العارضة على ابن شريح الشافعي في تفريقه بين من يعرف في ذلك ومن لا يعرفه، قال في التوضيح: وروى ابن نافع عن مالك في الإمام الذي يعتمد على الحساب أنه لا يقتدى به ولا يُتبع، قاله الحطاب. وقال: ظاهر كلام أصحابنا أن الراد بالمنجم الحاسب الذي يحسب قوس الهلال ونوره، ورأيت في كلام بعض الشافعية أن المنجم الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني، والحاسب الذي يحسب سير الشمس والقمر، وإذا لم يعمل بقول الحاسب فمن باب أولى أن لا يعمل بقول المنجم، وقال ابن الحاجب

(1)

إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا. الجامع الصغير، الحديث:615.

ص: 26

ولا يلتفت إلى حساب المنجمين اتفاقا، وإن ركن إليه بعض البغداديين يشير به إلى ما روي عن ابن شريح وغيره من الشافعية، وهو مذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير من كبار التابعين. ابن بزيزة: وهي رواية شاذة في المذهب رواها بعض البغداديين عن مالك. انتهى. وقال في التوضيح: قوله وإن ركن إليه بعض البغداديين: يشير به إلى ما روي عن ابن شريح وغيره من الشافعية؛ وهو مذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير من كبار التابعين. ابن العربي: كنت أنكر على الباجي نقله عن بعض الشافعية لتصريح أئمتهم بلغوه حتى رأيته لابن شريح، وقاله بعض التابعين.

وقد رد ابن العربي في عارضته على ابن شريح وبالغ في ذلك وأطال، وظاهر كلام المصنف أن ابن الشخير يقول: يُعْتَمَدُ على حساب المنجمين وليس كذلك، إنما يقول إنه يعمل على ذلك هو في خاصته كما يأتي بيانه، وقال القرافي في الفرق الثاني والمائة بين قاعدة أوقات الصلاة: يجوز إثباتها بالحساب والآلات، وكل ما دل عليها، وقاعدة رؤية الهلال في الرمضانات لا يجوز إثباتها بالحساب، وفيه: قولان عندنا وعند الشافعية، والمشهور في المذهب عدم اعتبار الحساب، قال سند: لو كان الإمام يرى الحساب فأثبت الهلال به لم يتبع لإجماع السلف على خلافه، مع أن حساب الأهلة والخسوف والكسوف قطعي، فإن الله سبحانه أجرى عادته بأن حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب السبعة على نظام واحد طول الدهر وكذلك الفصول الأربعة، والعوائد إذا استمرت أفادت القطع، وإذا حصل القطع فينبغي أن يعتمد عليه كأوقات الصلاة، والفرق هاهنا -وهو عمدة السلف والخلف- أن الله تبارك وتعالى نصب زوال الشمس سببا لوجوب الظهر وكذلك بقية الأوقات، فمن علم سببا بأي طريق لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع، وأما الأهلهّ فلم ينصب خروجها من شعاع الشمس سببا للصوم، بل نصب رؤية الهلال خارجا من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي ولا يثبت الحكم، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤية الهلال وأفطروا لرؤيته

(1)

)، ولم يقل لخروجه من شعاع الشمس، كما قال في الصلاة:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ؛ أي لميلها. انتهى. وفيه

(1)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1909. مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1081.

ص: 27

إثبات القول بالاعتماد على حساب المنجم، كما نقله صاحب التوضيح وغيره. وما فرق به بين أوقات الصلاة ورؤية الأهلة حسن، وقد قبله ابن الشاط وله في الذخيرة نحو ذلك. انتهى كلام الحطاب.

وقال الحطاب أيضا: ولو شهد عدلان برؤية الهلال. وقال أهل الحساب: إنه لا تمكن رؤيته قطعا، فالذي يظهر من كلام أصحابنا أنه لا يلتفت إلى قول أهل الحساب. وقال السبكي وغيره من الشافعية: إنه لا تقبل الشهادة لأن الحساب أمر قطعي والشهادة ظنية، والظن لا يعارض القطع، ونازع في ذلك بعض الشافعية. والله أعلم. وذكر ابن ناجي في شرح المدونة أن ابن هارون اعترض على ابن الحاجب في حكاية الاتفاق، بأن مطرفا يخالف في ذلك، وَرَدَّ عليه بأن مطرفا الذكور ليس هو مطرفا المالكي، وإنما هو من كبار التابعين. انتهى.

وقال الحطاب: يكره الاشتغال بما يؤدي إلى معرفة نقصان الشهر وكماله: قال ابن رشد في المقدمات بعد أن ذكر أن الاشتغال بالنجوم فيما يعرف به سمت القبلة وأجزاء الليل جائز بل مستحب: وأما النظر في أمرها فيما زاد على ذلك مما يتوصل به إلى معرفة نقصان الشهور وكمالها دون رؤية أهلتها، فذلك مكروه لأنه من الاشتغال بعا لا يعني؛ إذ لا يجوز لأحد أن يعول في صومه وفطره على ذلك، فيستغني عن النظر إلى الأهلة بإجماع من العلماء، وإنما اختلف أهل العلم فيمن كان من أهل هذا الشأن إذا أغمي الهلال، هل له أن يعمل على معرفته بذلك أم لا؟ فقال مطرف بن الشخير: إنه يعمل في خاصته على ذلك، وقاله الشافعي في رواية، والمعروف من مذهبه ما عليه الجمهور من أنه لا يعمل على ذلك، وكذلك ما يعلم به الكسوفات لأنه لا يعني، وقال صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

(1)

)، ولأنه يوهم العوام أنه يعلم الغيب فيزجر من ذلك ويؤدب عليه اهـ.

قلت: ولا يحرم الاشتغال به لأنه ليس من علم الغيب، وإنما هو من طريق الحساب. والله أعلم. تنبيه: قال ابن حبيب: يجوز له تصديق المؤذن العدل العارف، فإن سمع الأذان وهو يأكل ولا علم له بالفجر، فليكف وليسئل المؤذن عن ذلك الوقت، فيعمل على قوله فإن لم يكن عنده عدلا

(1)

الموطأ، كتاب حسن الخلق، رقم الحديث:1672.

ص: 28

ولا عارفا فليقض وإن كان في قضاء رمضان فليقض ويباح له فطر ذلك اليوم والتمادي، وإن كان في تطوع أتمه ولا قضاء عليه، وقول ابن حبيب: ولا علم عنده بالفجر، يفهم منه أنه لو كان له علم اعتمد عليه وهو الموافق لرواية عيسى الآتية؛ وهو الظاهر إذا أمن الاطلاع عليه والاقتداء به. الباجي: من يحضر مؤذنوه

(1)

عند الفجر، في وجوب كفه بأذانهم -وهو يرى أن الفجر ما طلع، [وبعدم]

(2)

أذانهم وهو يرى أن الشمس غربت-[روايتا]

(3)

، ابن نافع وعيسى عن ابن القاسم في المدونة. ولا يفطر منفرد بشوال؛ يعني أن من انفرد برؤية هلال شوال لا يجوز له الفطر، ولا خلاف في ذلك إذا أفطر ظاهرا بحيث لا يأمن الظهور؛ لأنه يعرض نفسه للأذى مع إمكان تحصيل غرض الشرع بأن يفطر بالنية. ولو أمن الظهور؛ يعني أن من انفرد برؤية شوال اختلف هل يباح له الفطر سرا بأن يفطر بحيث يأمن من الاطلاع عليه؟ فقيل: لا يباح له الفطر في تلك الحالة وهو المنصوص لمالك في العتبية؛ وهو الصحيح، وفي الجلاب قول بالإباحة، وعليه رد المصنف بلو. وقوله:"ولا يفطر منفرد بشوال"؛ أي بالأكل أو الشرب ونحو ذلك، وأما فطره بالنية فواجب لأنه يوم عيد وصومه حرام، وهذا هو المذهب، وعن ابن حبيب استحباب فطره بالنية، وضُعِّفَ. انظر الحطاب. إلا بمبيح؛ يعني أن محل حرمة الفطر المذكور على المنفرد برؤية شوال إنما هو حيث لم يحصل له عذر مبيح للفطر وأما إن حصل له عذر مبيح للإفطار من مرض أو سفر أو حيض فيجوز له الإفطار؛ أي ظاهرا. قال ابن ناجي في شرح المدونة: ولا خلاف في جوازه إذا كان العذر مما يخفى معه الفطر. ابن عبد السلام: ولو كان معه مرض يمكن معه الصوم بلا مشقة فَلْيُرِ هو من نفسه الشقة ويفطر، وقال عبد الباقي عند قوله:"إلا بمبيح": كحيض ومرض ادعاه، وكان بحيث تقبل دعواه فيه، وسفر ولو أنشأه لقصد الفطر في هذه الحالة فيجب عليه الفطر ظاهرا كما يجب بالنية عند عدم العذر بخلاف غير الراءي، فلا يجوز له إنشاؤه لقصد فطر، فإن تلبس به أبيح كما في الحطاب عند قوله:"وفطر بسفر قصر". وفي أحمد: يكره إنشاؤه، ويباح فطره بعده، ومثل المبيح فطر الراءي في وقت يلتبس بالغروب أو الفجر، بحيث لو

(1)

في الأصل مؤذنه والمثبت من الحطاب ج 3 ص 158 ط دار الرضوان

(2)

في الأصل وبعد والمثبت من الحطاب ج 3 ص 158 ط دار الرضوان.

(3)

في الأصل رواية والمثبت من الحطاب ج 3 ص 158 ط دار الرضوان.

ص: 29

ادعى أن فطره لظن ذلك لقبل منه، وانظر هل يجوز له الفطر ويدعي أنه نسي لأنه يقبل قوله أولا؛ إذ قبول قوله لا يسوغ له الإقدام على الفطر. انتهى. قوله: فيجب عليه الفطر ظاهرا: قال محمد بن الحسن: مثله في الحطاب عن ابن عبد السلام، وهو مشكل، ولم لا يقال الفطر بالنية يكفي؛ إذ الذي يحرم العيد هو الصوم والفطر بالنية كاف. انتهى. وفي الخرشي: لو أفطر شخص وادعى أنه رأى الهلال، فإن كان من أهل الخير والصلاح وعظ وشدد عليه، وإلا عزر، وفي الحطاب عن أشهب: يعاقب إذا كان غير مأمون إلا أن يكون ذكر ذلك قبل. انتهى.

وقوله: "ولو أمن الظهور"، وقد علمت أن مقابل المشهور حكاه ابن الجلاب، وكأن المصنف وابن عرفة لم يقفا عليه؛ أي على كلام ابن الجلاب؛ لأن المصنف قال في التوضيح: إنه لم يره منصوصا، وإنما خرجه اللخمي من مسألة الزوجين يشهد عليهما شاهدان بالطلاق ثلاثا، والزوجان يعلمان أنهما شهدا بزور، فقد قيل: لا بأس أن يصيبها خفية، فالأكل مثله من باب أولى؛ لأن التخفي في الأكل أكثر من الجماع، وكذلك ابن عرفة لم ينقله إلا عن اللخمي. قاله الحطاب. وفي الخرشي عن الحطاب: فإن سافر قاصدا بذلك الفطر فإنه يباح له الفطر كمن تصدق بماله ليسقط عنه الحج، وكمن أخر الصلاة فسافر فيقصرها، وكمن تؤخر الصلاة لتحيض فتسقط عنها، فإنه يقصر وتسقط مع الإثم في الجميع، ذكره الجزولي. وقيل: لا يباح له الفطر معاملة له بنقيض قصده، وهو واضح إذا لم يكن له غرض إلا الإفطار. انتهى. وسيأتي هذا بأتم مما هنا إن شاء الله تعالى. وفي تلفيق شاهد أوله لآخر آخره؛ يعني أنه اختلف، هل تضم شهادة شاهد بالرؤية أول الشهر إلى شهادة آخر بالرؤية آخره، أو لا تضم؟ فخرج ابن رشد أنها تضم، خرجه على ضم الشهادتين المتفقتين فيما يوجبه الحكم وصححه، وقال يحيى ابن عمر: لا تضم، وصوبه ابن زرقون وهو الصحيح، فكان ينبغي للمصنف الاقتصار عليه، فيقول: ولا يلفق شاهد أوله لآخر آخره. قاله الشبراخيتي. وقال محمد بن الحسن: القول بالضم تخريج ابن رشد، والقول بعدمه ليحيى بن ضمر، ورجحه ابن زرقون، وشهره ابن رشد، فكان ينبغي للمصنف الاقتصار عليه، وقال عبد الباقي: إن الراجح عدم التلفيق، وقوله:"أوله""وآخره"، كل منهما منصوب بنزع الخافض؛ أي بأوله وبآخره، وأطلق الآخر على مجاورة تغلبيا، فإنه إنما شهد

ص: 30

بهلال شوال، وليس آخر رمضان، فأطلق الآخر على مجاوره وهو هلال شوال، فهو مجاز علاقته المجاورة، والضمير في أوله وآخره لرمضان. وقوله:"وفي تلفيق شاهد" الخ، فيه صورتان: إحداهما أن يكون بين الرؤية الأولى والثانية ثلاثون يوما، وفائدة التلفيق فيها وجوب الفطر لاتفاق شهادتهما على مضي الشهر وعدم قضاء اليوم الأول لعدم اتفاقهما على أنه من رمضان، وفائدة عدم التلفيق فيها أنه لا يجب الفطر بل يحرم؛ لأنه لا تلفيق حتى تتفق شهادتهما على مضي الشهر، ولا يجب قضاء الأول لأنه لم يثبت برؤية المنفرد، وإنما يثبت بما يثبت به شرعا، الثانية أن يكون بين الرؤيتين تسعة وعشرون، ففائدة التلفيق وجوب قضاء اليوم الأول الذي لم يصم برؤية المنفرد، وعدم جواز الفطر لأنه برؤية واحد، وشهادة واحد لا توجب كون هذا اليوم من شوال، لجواز كون الشهر كاملا، وفائدة عدم التلفيق فيها أيضا أنه لا يجب قضاء الأول ولا يجب الفطر أيضا، وقال بعضهم: تلفق في الصورة الأولى دون الثانية نقله ابن رشد عن بعضهم. وقال بعضهم بعكسه، وهو للخمي. ولزومه بحكم المخالف بشاهد؛ يعني أنه إذا حكم المخالف للمالكية في توقف ثبوت شهر الصوم على عدلين بثبوت رمضان بشاهد واحد كالشافعي، فإنه اختلف هل يلزم جميع الناس الصوم ولا يجوز لأحد مخالفته بناء على أن حكم الحاكم يدخل العبادات؟ قاله ابن راشد. القفصي. تلميذ القرافي: وما في التتائي والخرشي من أن القرافي تلميذ ابن راشد سهو. قاله محمد بن الحسن. وقد نص ابن راشد على ذلك أوائل شرحه على ابن الحاجب، وذكره ابن فرحون في الديباج والتوضيح في مواضع، انظر حاشية محمد بن الحسن. أولا يلزم المالكي الصوم في هذا وهو للقرافي، فإنه قال: لا يلزم المالكي الصوم بذلك؛ لأنه فتوى وليس بحكم. قاله الشارح. أي لأن الحاكم إنما حصل منه إثبات الشهادة فقط من غير زائد، فإذا قال شهد عندي فلان وحده وقد أجزت شهادته وحكمت بالصوم تنزل ذلك منزلة فتوى لا منزلة حكم؛ إذ الحكم لا يدخل العبادات، فليس لحاكم أن يحكم فيها، وقوله:"ولزومه بحكم المخالف"، لم ينقل ابن عطاء الله في هذا الفرع شيئا، وقوله:"ولزومه بحكم المخالف بشاهد"، وإذا قلنا بلزوم الصوم للمالكي كما قال ابن راشد فصام المالكي فأكملوا ثلاثين ولم ير الهلال، فحكم الحاكم الشافعي بالفطر على الراجح عندهم، فهل يجوز للمالكي أن يفطر معهم، ولو لم ير

ص: 31

أحد الهلال أو يخالفهم في الفطر ويصبح صائما؟ والذي يظهر أنه لا يجوز [له]

(1)

الفطر. وقد قال مالك في المدونة: ويقال لمن قال يصام بشهادة واحد: أرأيت إن أغمي آخر الشهر، كيف يصنعون أيفطرون أم يصومون واحدا وثلاثين؟ فإن أفطروا خافوا أن يكون ذلك اليوم من رمضان. قاله الحطاب.

قال: وقد وقعت هذه المسألة وصمنا بحكم المخالف، فلما كانت ليلة إحدى وثلاثين لم ير الناس الهلال بعد الغروب، ولم يلتفت الشافعية إلى ذلك، وكبروا وصار العامة يسألون عن الفطر مع عدم رؤية الهلال، فأقول لهم: قال الشافعية: يجوز الفطر، وعند المالكية لا يجوز الإفطار، فيقولون: نحن لا نعمل إلا على مذهب المالكية ثم لطف الله سبحانه، فرأوا الهلال حين ابتداء الظلام. انتهى. وقوله: تردد، مبتدأ مؤخر، وخبره المجرور قبله، أعني في تلفيق؛ فهو راجع للمسألتين، وقد مر الكلام على أهل التردد في المسألتين، قال الخرشي: وظاهر قوله: "بشاهد"، أن حكمه بأكثر من شاهد ليس كذلك، فيلزم اتباعه، وهل يجري التردد فيما إذا كان الشاهد غير مقبول الشهادة عندنا، كالعبد والأمة فإنهما يقبلان عند الحنابلة؛ وهو ظاهر بنائهم على أن حكم الحاكم يدخل العبادات أولا، ويتفق على عدم لزوم الصوم به. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: والظاهر الأول لأنه هو ظاهر كلامهم. ورؤيته نهارا للقابلة؛ يعني أنه إذا رئي الهلال نهارا فإنه يحكم به لليلة القابلة، فيستمر الناس على ما هم عليه من الفطر

(2)

إن وقع ذلك في آخر شعبان؛ أو صوم إن وقع ذلك في آخر رمضان، وسواء كان رئي قبل الزوال أو بعده هذا هو الشهور، وقيل: إن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية، فيمسكون إن وقع ذلك في شعبان، ويفطرون إن وقع ذلك في رمضان، ويصلون العيد رواه ابن حبيب عن مالك، وقال به هو وغيره، قال: وإذا رئي بعد الزوال فهو لليلة الآتية، سواء صليت الظهر أو لم تصل. قاله الحطاب. وفي مختصر الواضحة: وهو يرى بعد الزوال يوم ثلاثين ويوم تسع وعشرين، ولا يرى قبل الزوال في

(1)

في الأصل لهم، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 161.

(2)

في الحطاب ج 3 ص 161: فطر.

ص: 32

يوم تسعة وعشرين؛ لأنه للماضية ولا يكون هلالا قبل تمام تسعة وعشرين، وإذا رئي بالعشي يوم تسع وعشرين فإنه أُهِلَّ ساعتئذ، انتهى.

وهو يقتضي أنه تثبت رؤيته بذلك ولو لم ير بعد الغروب، وصرح الشافعية بأن ذلك لا يكفي عن رؤيته ليلة ثلاثين، وأنه لا أثر لرؤيته نهارا حيث لم ير بعد الغروب. قاله الحطاب. وقال الشبراخيتي: وظاهر المصنف أنه لا فرق بين أول رمضان وآخره، خلافا للإمام أحمد احتياطا للصوم. انتهى. وقال الخرشي:"ورؤيته نهارا للقابلة"، ولو لم ير بعد الغروب ولو صحوا. انتهى. واعلم أنه إذا رئي نهارا يوم تسع وعشرين فلا قائل إنه للماضية كما في الحطاب. وإن ثبت نهارا أمسك؛ يعني أنه إذا لم يثبت هلال رمضان ليلا وإنما ثبت نهارا، فإنه يجب الإمساك في ذلك اليوم على من أكل، وعلى من لم يأكل -وإن كان صومه غير صحيح لعدم النية- لحرمة الشهر، ويجب قضاء ذلك اليوم، وإن بيت الصوم فيه على أنه من رمضان لعدم جزم النية، وفي تحقيق الباني للشاذلي على الرسالة: والفَرْقُ بين إباحة الفطر للمسافر والحائض ومن ذُكِرَ معهما، ووجوب الإمساك على من أصبح أول يوم من رمضان لا علم عنده بالرؤية مَا قَالَهُ ابن عبد السلام؛ وهو أن هؤلاء جاز لهم الفطر في نفس الأمر وفي الظاهر، فصار هذا اليوم في حقهم كيوم من شعبان، وأما من طرأ عليه العلم بالرؤية فإنما أبيح له الفطر في الظاهر لا في نفس الأمر، فإذا ظهر ما في نفس الأمر تغير الحكم ووجب الإمساك. انتهى منه عند قول الرسالة: وإذا قدم المسافر مفطرا أو طهرت الحائض نهارا الخ.

وبهذا تعلم أن قول الشيخ خليل: "وإن ثبت نهارا أمسك" الخ، إنما هو فيمن يلزمه الصيام، وأما المسافر فإنه معذور عذرا لم يَزُلْ، والمسافر إذا لم ينو الصوم بأن نوى الفطر، أو لا نية له يباح له الفطر كما يأتي في قول المصنف:"ولم ينوه فيه". والله سبحانه أعلم. قاله جامعه عفا الله تعالى عنه. وقوله: "وإن ثبت نهارا" أي بوجه من الوجوه السابقة، وقوله:"وإن ثبت نهارا"؛ أي ثبت أنه رئي في الليلة الماضية. وإلا كفر إن انتهك؛ يعني أنه إذا ثبت الشهر نهارا فإنه يجب الإمساك عن المفطرات على من علم ذلك، فإن لم يمسك بأن أكل أو شرب أو جامع بعد علمه بثبوت الشهر فإنه يلزمه أن يكفر بإطعام ستين مسكينا أو غيره من النوعين الآتيين، بشرط أن

ص: 33

ينتهك بأن يعلم وجوب الإمساك عليه ولا يبالي بذلك، فتجب عليه الكفارة لانتهاكه لحرمة الشهر. قاله في المدونة. وحكى ابن بشير وابن الحاجب قولا بعدم الكفارة، وأنكره ابن عرفة، وقال: لا أعرفه، ومفهوم قوله:"إن انتهك"، أنه إن فعل ذلك غير منتهك بل تأول أنه لما لم يصح له صوم ذلك اليوم لعدم النية جاز له الفطر فإنه لا كفارة عليه؛ وهو كذلك. قال الحطاب. ولم أقف على خلاف في ذلك وهو من التأويل القريب، فيضم إلى المسائل التي يذكرها المصنف من التأويل القريب بعد هذا. والله أعلم.

ولو رأى الهلال شاهدان، وأخرا إلى طلوع الفجر من غير عذر بطلت شهادتهما، لقوله: وفي محض حق الله تعالى تجب المبادرة الخ، وكذا الشاهد الواحد لقوله: وعلى عدل أو مرجو رفع رؤيته، وقوله:"وإلا كفر إن انتهك"، هل الكفارة في ذلك للانتهاك وحده، أو للانتهاك مع الإفساد؟ وينبني على ذلك لو تعمد رجل أو امرأة الإفطار في رمضان، ثم تبين أنها حاضت قبل ذلك، أو أنه قبل الفجر فعليهما الكفارة على الأول لا على الثاني؛ لأنه لا إفساد حينئذ. قاله البرزلي. وقوله:"إن انتهك"، قد علمت أنه لا كفارة عليه إن تأول، قال عبد الباقي: وكذا لا كفارة عليه إن أفطر ذاهلا عن الحرمة والتأويل لأنه ناس. وإن غيَّمت ولم يُرَ فصبيحَتُه يَوْمُ الشك، غيمت بفتح الغين المعجمة وفتح الياء المشددة وفتح الميم، مبنيا للفاعل كما في القاموس والجوهري والمصباح، ومثله في الحطاب فاعله ضمير يعود إلى السماء كما يفيده عبد الباقي، فإنه قال: وإن غيمت السماء، معناه لابسها ما يمنع من رؤية الهلال لو ظهر كسحاب، ومعنى كلام المصنف أنه إذا كانت السماء ليلة ثلاثين من استهلال شعبان مغيمة أي متلبسة بغيم، ولم يثبت رؤية الهلال بعدلين، فإن صبيحة تلك الليلة هي يوم الشك المنهي عن صومه في الحديث. قوله:"فصبيحته"، من باب تسمية البعض: وهو الصبيحة باسم الكل، وهو اليوم. قاله الشيخ أحمد. وقال بعضهم: هذا لا يحتاج إليه والأولى كونه على تقدير مضاف؛ أي فصبيحته صبيحة يوم الشك، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعند الشافعية أن يوم الشك صبيحة ليلة ثلاثين من شعبان إذا كانت السماء مصحية حيث تحدث بالرؤية من لا تثبت به كعبد وامرأة أو فاسق، وإشاعة رؤية لم تثبت لا صبيحة الغيم، ومال إليه ابن عبد السلام لخبر: (فإن غم عليكم

ص: 34

فاقدروا له

(1)

)، وفي رواية: (فأكملوا العدة

(2)

)، فإنه يدل على أن ذلك اليوم من شعبان، قال عبد الباقي عن الأجهوري: أي بدون شك عملا بالاستصحاب وعدم الرؤية لا يثير شكا. انتهى. قوله أي بدون شك عملا الخ، قال محمد بن الحسن: فيه نظر، بل الشك حاصل قطعا كما هو ظاهر. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: الظاهر ما قاله عبد الباقي عن شيخه؛ لأن معنى قوله: بدون شك؛ أي شك يوجب أن يكون هو المعني بالحديث: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم

(3)

). والله سبحانه أعلم. ومفهوم قوله: "وإن غيمت"، أنه إذا لم تكن السماء مغيمة فليس ذلك يوم شك، وهو كذلك خلافا للشافعية كما مر قريبا، وعليهم رد المصنف بمفهوم الشرط الذي هو كالمنطوق عند المصنف، وقال عبد الباقي: وينبغي اعتماد تفسير الشافعي للشك، وقال الأمير: -وَرُدَّ يعني تفسير الشافعي- بأن كلام من لا تقبل شهادتهم لغو وإن استَقْرَبَهُ ابنُ عبد السلام. وصيم عادة، جواب عن سؤال مقدر، ما حكم صوم يوم الشك؟ فأجاب بقوله:"وصيم عادة" الخ؛ يعني أن صوم يوم الشك يجوز لمن كانت عادته سرد الصوم، أو كانت عادته صوم يوم بعينه كالخميس والاثنين، فوافق ذلك يوم الشك. وقاله في التوضيح. وتطوعا؛ يعني أنه يجوز صوم يوم الشك تطوعا؛ أي بنية التطوع كما قال في الرسالة، وهذا هو المشهور، وعن ابن مسلمة كراهة ذلك؛ ونقل عنه اللخمي الجواز، فلعل له قولين، قوله:"وصيم عادة وتطوعا"، معناه أذن فيه، فلا ينافي أنه مندوب كما في قوله:"عادة وتطوعا"، أو واجب كما في قوله: وقضاء؛ يعني أن يوم الشك يجب صومه على من عليه صوم من رمضان فيقضيه في يوم الشك، ولو تذكر في أثنائه أنه قضاه، فقال ابن القاسم: لم يجز الفطر، فإن أفطر فهل يقضيه أولا؟ قولان لابن القاسم وأشهب، وصوب الثاني لأنه إنما التزمه ظنا أنه عليه. قاله الشبراخيتي. وقوله:"وقضاء"، فإن لم يثبت كونه من رمضان فقد أجزأه، وإن ثبت أنه من رمضان لم يجزه عن القضاء ولا عن رمضان، فعليه قضاء يوم عن رمضان الحاضر، وقضاء ما في ذمته، وحكم كل صوم واجب كحكم القضاء، فلو نواه لكفارة أو لنذر غير معين أجزأه، إلا أن يثبت أنه من رمضان فلا يجزئه عن رمضان الحاضر ولا

(1)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1900. ومسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1080.

(2)

إن الله قد أمدّه لرؤيته فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة. ومسلم، كتاب الصيام، الحديث:1088.

(3)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث: 2334 النسائي، كتاب الصيام، الحديث 2188 ابن ماجه، كتاب الصيام، الحديث:1645.

ص: 35

عن ما نواه، وعليه قضاء يوم عن رمضان الحاضر، ويقضي ما في ذمته من كفارة أو نذر أو فدية أو هدي، وإن كان النذر معينا فهي التي أشار إليها المؤلف بقوله: ولنذر صادف؛ يعني أن يوم الشك يصام -أي يجب صومه- لأجل مصادفة النذر له، كمن نذر أن يصوم يوما معينا أو أياما، كمن نذر صوم يوم الخميس أو الاثنين فوافق ذلك، أو نذر أن يصوم يوم قدوم زيد فقدم ليلة صبيحة يوم الشك، وكمن نذر أن يصوم يوم الخميس والجمعة والسبت مثلا فوافق، ويجزئه إن لم يثبت كونه من رمضان، فإن ثبت كونه من رمضان لم يجز عن رمضان ولا عن النذر، وعليه قضاء يوم لرمضان الحاضر ولا قضاء عليه للنذر لكونه معينا وقد فات، واحترز بقوله: صادف؛ أي وافق، مما إذا نذر صوم يوم الشك من حيث كونه يوم الشك احتياطا، فإنه لا يلزمه لأنه إما حرام أو مكروه وكلاهما لا يلزم نذره: وإن نذره لا من تلك الحيثية بل نذر صوم يوم الشك تطوعا لا ليحتاط به من رمضان، فإنه يلزمه ويصح صومه إن لم يتبين كونه من رمضان، فإن تبين أنه من رمضان لم يجز عن النذر ولا عن رمضان، وعليه قضاء يوم لرمضان الحاضر، ولا قضاء عليه للنذر لكونه معينا، وقد فات. قاله الحطاب. لا احتياطا راجع إلى أصل صيام يوم الشك لا لمسألة النذر؛ يعني وإن كان صحيحا في نفسه كما بينته لكنه ليس مراد المصنف، وإنما مراد المصنف أن يوم الشك لا يصام لأجل الاحتياط؛ أي أن يوم الشك لا يصام ليحتاط بذلك اليوم على تقدير كونه من رمضان للنهي عن ذلك؛ وهو ما صححه الترمذي من حديث عمار بن ياسر: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم

(1)

)، ورواه أبو داوود والنسائي وابن ماجه، ولم يبين المصنف كابن الحاجب هل النهي على الكراهة أو التحريم.

التوضيح: وظاهر الحديث التحريم، وهو ظاهر ما نسبه اللخمي لمالك؛ لأنه قال: ومنعه مالك، وفي المدونة: ولا ينبغي صيام يوم الشك: وحملها أبو الحسن على المنع وفي الجلاب يكره صوم يوم الشك وقال ابن عطاء الله: والكافة مجمعون على كراهة صومه، ونحوه في ابن فرحون، وقال الأمير: وصيم إلا لاحتياط فيكره، والعصيان في الحديث شدة زجر، وقيل على ظاهره، وفي الحطاب: أجازت عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما صيامه، وابنا عمر وحنبل في الغيم رون

(1)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2334. والنسائي، كتاب الصيام، الحديث: 1188. وابن ماجه، كتاب الصوم، الحديث:1645.

ص: 36

الصحو، ومن صام يوم الشك احتياطا فعلم أن ذلك لا يجوز فليفطر متى علم ولو آخر النهار، وقال ابن عبد السلام: الظاهر أن النهي في الحديث على التحريم، لقوله: عصى أبا القاسم، وقال الفاكهاني: اتفقوا إذا كانت السماء مصحية على كراهة صومه احتياطا؛ إذ لا وجه للاحتياط في الصحو، وإنما الخلاف المتقدم إذا كان الغيم. انتهى.

تنبيه: قال القلشاني: هذا الحديث يحتمل الإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون عمار قاله عن دليل واضح عنده. انتهى. وندب إمساكه ليتحقق؛ يعني أنه يستحب الإمساك عن المفطرات في يوم الشك زمنا بقدر ما جرت العادة بالثبوت فيه؛ بأن يأتي المسافرون من نواحي البلد، وينتشر الناس، وتسمع الأخبار، فإن ارتفع النهار ولم يظهر موجب الصيام أفطر الناس، وقال القرطبي في شرح مسلم: يستحب إمساك جميع النهار وهو خلاف المذهب. قاله الحطاب. وقوله: "ليتحقق"؛ أي ليتيقن بحسب العادة ما يكون عليه من إفطار أو صيام. قال الشبراخيتي: واللام في ليتحقق لام التعليل. انتهى. وعبارة الحطاب تقتضي أنها للانتهاء، فإنه قال: يعني أنه يستحب الإمساك عن الإفطار في يوم الشك إلى أن يتحقق الأمر. انتهى. وعبارة الشبراخيتي صريحة في أن المراد بقوله: "ليتحقق"، تحقق كونه من رمضان، فإنه قال: وندب إمساكه زمانا بقدر ما جرت العادة فيه بالثبوت ليتحقق كونه من رمضان لورود خبرٍ من مسافر أو حاكم أو غيره، فإن تحقق وجب الإمساك وإلا أفطر الناس. انتهى.

وما قررته به أولا من أن المراد ليتحقق الأمر من إفطار أو صوم قرره به غير واحد. لا لتزكية شاهدين؛ يعني أنه إذا شهد شاهدان برؤية الهلال -وهما يحتاجان إلى التزكية- فإنه لا يستحب إمساك زائد على الإمساك المتقدم. قاله غير واحد.

قال محمد بن الحسن: هذا إنما يحتاج إليه إذا كان اليوم يوم شك؛ بأن كانت السماء مغيمة، فإن لم يكن اليوم يوم شك بل كان صبيحة صحو فلا إمساك أصلا. انتهى. وكلام المصنف كما في الحطاب مقيد بما إذا كان في تزكيتهما طول. انتهى.

والذي يتحصل من كلامهم هنا أنه إن كانت الشهادة المذكورة يوم الشك، فإنه يندب الإمساك ليتحقق، ولا يندب إمساك زائد عليه، وإن كانت يوم صحو فإن كان في التزكية طول فلا يندب

ص: 37

إمساك أصلا، وإلا ندب الإمساك شهدا بليل أو نهار، وإن شهدا بليل وكانت تزكيتهما تتأخر للنهار فليس على الناس أن يبيتوا الصيام.

ابن عبد الحكم: ولو شهد شاهدان برؤية الهلال فاحتاج القاضي إلى الكشف عنهما وذلك يتأخر فليس على الناس صيام، فإن زكيا بعد ذلك أمر الناس بالقضاء، وإن كان في الفطر فلا شيء عليهم فيما صاموا. قاله الحطاب. أو زوال عذر مباح له الفطر؛ يعني أن من كان ذا عذر يباح لأجله الفطر فأفطر وزال عنه في أثناء النهار وكان ذلك من رمضان، لا يندب له الإمساك عن المفطرات في بقية يومه بسبب زوال عذره المبيح للفطر، فقوله:"زوال"، عطف على قوله:"لتزكية". مع العلم برمضان، الظرف متعلق بمباح؛ أي أن العذر الذي يبيح لصاحبه الفطر مع علمه برمضان لا يندب له الإمساك عند زوال عذره حيث أصبح مفطرا، وليس قوله:"مع"، متعلقا بزوال. قاله غير واحد.

وعلم من هذا أن قوله: "مع العلم برمضان"، تبيين لحقيقة العذر، فالعذر الذي لا يباح له الفطر على تقدير العلم برمضان كالعدم، فزواله غير معتبر كخفيف مرض لا يباح لأجله الفطر، ومثل للعذر الذي يبيح الفطر في رمضان للعالم به، بقوله: كمفطر؛ يعني أن من اضطره العطش للشرب فشرب ثم زال عطشه، لا يندب له الإمساك في بقية اليوم الذي شرب فيه: وكذا من أصبح صائما فحصلت له ضرورة من جوع اقتضت فطره فأفطر لذلك؛ فإنه لا يندب له الإمساك، بل له أن يستديم الفطر بقية يومه ولو بالجماع عند سحنون. وقال ابن حبيب: يزيل ضرورته فقط، قال: -يعني ابن حبيب- فإن أكل بعد ذلك جهلا أو تأويلا أو تعمدا، فلا كفارة؛ لأنه شبيه بالمريض. قاله في التوضيح.

اللخمي: والأول أقيس لأنه أفطر لوجه مباح، قياسا على العَطِش إذا كان يعلم أنه لا يوفي بصومه إلا أن يشرب في نهاره مرة واحدة، فإن له أن يبيت الفطر ويأكل ويصيب أهله، ولو كان برجل مرض يحتاج إلى الدواء في النهار إلى الشيء اليسير من شربة، لم يؤمر بالصيام ولا بالكف عما سوى ما يضطر إليه، والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في مسألة الضطر لأكل الميتة، والمشهور في مسألة الميتة أنه يأكل ويشبع ويتزود، وكذا هنا يشرب ويأكل حتى يشبع ويجامع إن شاء،

ص: 38

وبهذا تعلم أن قول ابن رشد: إن من أصابه العطش الشديد فشرب، الصحيحُ أنه يكفر بالأكل والجماع بقيةَ يومه، إلا أن يتأولَ اختيارٌ منه لقول ابن حبيب: خلافُ المشهور. قاله البرزلي. قاله الحطاب. وفي حاشية الأمير: فلمن اضطر لشرب أن يأكل، ظاهره ولو قدم الأكل. وقال عبد اللك: إن بدأ بالجماع كفر وإلا فلا، وقال سحنون: لا كفارة عليه، ومن لم يقدر على الصوم نهارا لعادة، فله أن يبيت الفطر كمن أراد استعمال الدواء، وأرباب الحصاد يبيتون النية لاحتمال تخلفهم، ومنع مالك أرباب الصنائع من ارتكاب المشاق حتى يفطروا، وقال ابن محرز: يحتمل أن ذلك في الأغنياء دون الفقراء، ومعلوم وجوب حفظ المال. انتهى.

وفي المدونة: إذا احتاج لركوب الهدية ركبها، وليس عليه أن ينزل إذا استراح، وكذا إذا أبيح له تزويج الأمة بالشروط، وكذا من حلف بطلاق من يتزوج إلى سنين يدركها ثم خاف العنت، فإنه إذا أبيح له مرة فقط سقط يمينه. قاله الحطاب. فبسبب أن من زال عذره المبيح للفطر أثناء النهار في رمضان يجوز له أن يستمر على الإفطار بقية نهاره ولا يندب له الإمساك. لقادم من سفره المبيح للفطر وقدم مفطرا، الأكلُ والشرب بقية نهاره، وله أيضا وطء زوجة مسلمة بالغة عاقلة، وأمة كذلك إن طهرت الزوجة من حيضها أو نفاسها في يوم قدومه، وكذا الأمة، وأما الكافرة فيطؤها، وإن لم يكن لها عذر حيث لم تكن صائمة في دينها، ففي سماع أصبغ عن ابن القاسم أن النصرانية إذا كانت صائمة في دينها لا يفطرها زوجها المسلم، قال ابن رشد: وهذا مما لا اختلاف فيه أنه ليس له أن يمنعها مما تَشَرَّعُ به. قاله محمد بن الحسن. وكذا للقادم المذكور وطء مجنونة أو قادمة مثله، وكذا له وطء الصغيرة حيث لم تبيت الصوم، وانظر إن بيتته هل له أن يبطل صومها أم لا؟ قاله الحطاب، وغيره. وظاهر كلام اللخمي أنه ليس له أن يبطل صومها؛ لأنه قال: له وطؤها إذا كانت صغيرة ولم تصم، والظاهر أنه لا يعارضه قوله الآتي:"وليس لامرأة يحتاج لها زوج تطوع بلا إذن"، ومفهوم قوله:"طهرت"، أن المسلمة البالغة التي ليست بمريضة ولا ذات عذر لا يجوز له وطؤها، وهو كذلك وهذا ظاهر، وظاهر المذهب أنه له أن يطأ الكافرة، سواء كانت طاهرا قبل قدومه أو طهرت يوم قدومه، وقال ابن شعبان: لا يجوز، وإن وجدها بأثر

ص: 39

الطهر لأنها متعدية بترك الإسلام، وقد مر أن للمضطر بجوع أو عطش الجماع، وإنما يطأ على ما مر في القادم؛ أي يطأ زوجة طهرت أو صغرت أو كفرت.

وقوله: "أو زوال عذر"، ذكر المصنف من أهل العذر المضطر كالجائع، وذي العطش، والمريض الذئي لا يقدر على الصوم، ومن ذي العذر المسافر سفر القصر، ومن العذر الحيض والنفاس، ومن ذلك أيضا المرضع يموت ولدها أثناء النهار، ومن العذر أيضا الصبا، فإذا بلغ الصبي أثناء النهار في رمضان مع تبييته للفطر فإنه لا يؤمر بالإمساك بقية يومه، وكذا لو بيت الصوم وأفطر عمدا قبل بلوغه فله الفطر بقية يومه، وكذا لو لم ينو صوما ولا فطرا فله الفطر بقية يومه كما لغيره ممن تقدمه، ولا يندب للجميع الإمساك بقية اليوم بعد زوال العذر المبيح للفطر. ومثل من ذكر في جواز الفطر وعدم ندب الإمساك بقية اليوم: المجنونُ، حيث زال الجنون أثناء اليوم، مع أنه لا يقال عذره يبيح الفطر لو علم برمضان، وأما الكافر يسلم أثناء النهار فيندب له الإمساك بقية يومه كما يأتي للمصنف، وأما من أفطر لأجل إكراه أو نسيان فيجب عليه الإمساك بعد زوال إكراهه أو نسبانه، وكذا الصبي يبيت الصوم ثم يبلغ أثناء النهار وهو صائم؛ فإنه يجب عليه الإمساك بقية يومه لأنه قد انعقد عليه نافلة. قاله في الطراز.

واختلف في المغمى عليه يفيق بعد الفجر، فقال ابن حبيب: لا يمسك بقية يومه، والذي يقتضيه المذهب أن يمسك، ولأنه صوم مختلف في إجزائه. قاله الحطاب.

ويتحصل من كلامهم هنا أن الصبي إذا بيت الصوم واستمر صائما حتى بلغ، أو أفطر ناسيا ثم بلغ في أثناء النهار ولم يحصل منه فطر عمدا قبل بلوغه، فإنه يجب عليه إتمام بقية اليوم، وأما لو بيت الفطر أو لم يبيت صوما ولا فطرا ثم بلغ في أثناء النهار فإنه يجوز له الفطر بقية يومه، ولا يندب له الإمساك، وكذا لو بيت الصوم وأفطر عمدا قبل بلوغه، ثم بلغ في ذلك اليوم فإنه لا يندب له الإمساك، وأما لو بيت الصوم ثم بلغ في أثناء صومه وأفطر عمدا بعد بلوغه، فالذي يدل عليه كلامهم أنه لا يجب عليه الإمساك، ولكن يجب عليه قضاء ذلك اليوم كما يفيده قول المصنف الآتي:"وفي النفل بالعمد الحرام" وقد نصوا هنا على أن هذا اليوم انعقد عليه الصوم فيه نافلة. والله سبحانه أعلم.

ص: 40

{وفي الأمير ما نصه: والصبي إن بلغ صائما وجب إمساكه، وإلا فلا إمساك ولا كفارة بكل حال. انتهى. وهو صريح في أن الصبي إن بلغ صائما وأفطر عمدا لا كفارة عليه. والله سبحانه أعلم. وكف لسان: يعني أنه يستحب للصائم أن يكف لسانه عن الإكثار من الكلام المباح والكلام بغير ذكر الله سبحانه، وأما كف اللسان عن الحرام كالغيبة والنميمة والكلام بالفواحش فواجب في غير الصوم، ويتأكد وجوبه في الصوم ولكنه لا يبطل به الصوم. وقول الرسالة: وينبغي للصائم أن يحفظ لسانه عن الكذب، حمله ابن ناجي على الوجوب وهو المتعين دون ما ذكره ابن عمر عن بعضهم، فإنه غير ظاهر. قاله عبد الباقي. وقوله:"وكف لسان"، معطوف على قوله:"إمساكه". واعلم أن المعصية تغلظ بحسب الزمان والمكان، وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس يفطرن الصائم: الكذب، والغيبة، والنميمة، واليمين الكاذبة، والنظر بشهوة

(1)

). ذكره في الإحياء. قال العراقي في تخريجه: رواه الأزدي في الضعفاء، وقال في الإحياء: قال سفيان: الغيبة تفسد الصوم. وعن مجاهد: خصلتان يفسدان الصوم: الغيبة والكذب. وقال القسطلاني: الجمهور على أن الغيبة والنميمة والكذب لا تفسد الصوم، ثم ذكر ما ذكره في الإحياء عن مجاهد وسفيان، ثم قال: والمعروف عن مجاهد: (خصلتان من حُفِظهما سلم له صومه الغيبة والكذب

(2)

). رواه ابن أبي شيبة. ثم نقل عن السبكي: أنَّ ملابسة المعاصي تمنع ثواب الصوم إجماعا، قال: وفيه نظر نعم إن كثر توجهت المقالة. انتهى. قال الحطاب: يشهد لما حكاه السبكي حديث البخاري: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه

(3)

). ورواه أصحاب السنن، ورواه الطبراني بلفظ: (من لم يدع الخنا والكذب فلا حاجة لله أن يدع طعامه وشرابه

(4)

)، ذكره في الترغيب والترهيب

(5)

)، وحديث ابن ماجه، والنسائي: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع

(1)

الإتحاف، ج 4 ص

(2)

مصنف ابن أبى شيبة، ج 2 ص 422.

(3)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1903. ابن ماجه، كتاب الصيام، الحديث: 1689 أبو داود، كتاب الصوم، الحديث: 2362. الترمذي، كتاب الصوم، الحديث:707.

(4)

الطبرانى في الأوسط، ج 2 ص 391. رقم الحديث:3622.

(5)

الترغيب والترهيب، ج 2 ص 57.

ص: 41

والعطش

(1)

)، ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري وابن حبان في صحيحه. ذكره في الترغيب أيضا. وورد في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم

(2)

). هذا لفظ البخاري. والرفث يراد به الجماع والفحش من القول، وخطاب الرجل المرأة فيما يتعلق بالجماع، وقال كثير من العلماء: المراد به في هذا الحديث الفحش وردي الكلام والصخب الصياح. واختلف في قوله صلى الله عليه وسلم، فليقل: إني صائم، فقيل: إنه يقوله بلسانه ويسمع ذلك للذي شاتمه لعله ينزجر، وقيل: يقوله بقلبه لِيَنْكَفَّ هو عن المشاتمة. قال النووي: والأول أظهر. انتهى.

قال الحطاب: وهو الذي يظهر من كلام ابن حبيب، وفي لفظ: (فإن شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم

(3)

) ومعنى شاتمه أظهر شتمه متعرضا لمشاتمته وقال في العارضة في قوله عليه الصلاة والسلام (إن جهل على أحدكم جاهل فليقل إني صائم

(4)

): لم يختلفوا أنه يصرح بذلك في الفريضة واختلفوا في التطوع، والأصح أنه لا يصرح به وليقل لنفسه إني صائم، فَكَيْفَ أقول الرفث؟ وروى أبو داوود من أبي بكرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم إني قمت رمضان كله أو صمته)

(5)

فلا أدري أكره التزكية، أو قال لابد من نومة أو رقدة؟ ولا بأس أن يقول الرجل إني صائم معتذرا، ولا يقوله متحدثا ولا متزينا، نقله الإمام الحطاب. وتعجيل فطر؛ يعني أنه يستحب تعجيل الفطر بعد تحقق الغروب رفقا بالضعيف، ومخالفة لليهود المؤخرين وقت فطرهم على وجه التشديد، فيكره لذلك، وأما من أخره لأمر عارض أو اختيارا مع كمال صومه فلا يكره، ويندب كونه بالذي في خبر: (كان يفطر على

(1)

ابن ماجه، كتاب الصيام، الحديث:1690. ولفظه: رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر. وابن خزيمة بلفظ: رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش. الخ. والنسائي في سننه الكبرى، رقم الحديث:3236. الحاكم، ج 1 ص 431. ولفظه: رب صائم حظه من صيامه الجوع ورب قائم حظه من قيامه السهر.

(2)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1904. مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1151.

(3)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1894. ومسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1151.

(4)

العارضة، ج 2 ص 215.

(5)

أبو داود، كتاب الصيام، الحديث:2415. ولفظه: لا يقولن أحدكم إني صمت رمضان كله وقمته كله الخ.

ص: 42

رطبات فتمرات فإن لم يجد حسا حسوات من ماء

(1)

). انتهى. وحسا بالسين المهملة لا بمثلثة، لأن ذلك معنى آخر ليس بمراد هنا، وللشيخ أحمد المقري بتشديد القاف:

فطور التمر سُنَّهْ

رسول الله سَنَّهْ

ينال الأجر عبد

يحلّي منه سِنَّهْ

أي إن لم يكن رطب، وبعد التمر الماء. وقوله: سنة، الأول بضم السين أي طريقة لا مقابل الندب فقط، وكذا قول الرسالة: من السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، وكذا قول القرطبية:

من سنن الصيام وقت الفطر

تعجيله بالماء أو بالتمر

وإنما قدم الماء للوزن كما في شارحها، وأسقط الرطب قبل التمر، قال شارحها: وإنما ندب التمر وما في معناه من الحلويات؛ لأنه يرد للبصر ما زاغ منه بالصوم، كما حدث به وهب فإن لم يكن فالاء لأنه طهور، ويقول عند فطره كما في الحديث: (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله

(2)

). فإن للصائم دعوة مستجابة، قيل: هي بين رفع اللقمة ووضعها في فيه، واستحب أبو الطيب من الشافعية كون التمر ثلاثا ولعل الرطب ثلاثا كذلك، ولم ينقل عندنا خلافه في علمي. قاله عبد الباقي. وهل المطلوب تعجيل الفطر قبل الصلاة أو بعدها؟ قال الحطاب: الباجي: لا خلاف بين أهل السنة أن تعجيل المغرب في أول الوقت مستحب؛ لأنها تصادف الناس متهيئين لها، ورفقا بالصائم الذي شرع له تعجيل الفطر، بعد أداء صلاته، وفي كتاب الصيام من الموطإ: وروى مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن: (أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود قبل أن يفطرا ثم يفطران بعد الصلاة وذلك في رمضان

(3)

)، وفي سنن أبي داوود: (كان رسول الله صلى الله

(1)

أبو داود، كتاب الصيام، الحديث:2356. ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء.

(2)

أبو داود، كتاب الصيام، الحديث: 2357/ 2358.

(3)

الموطأ، كتاب الصيام، الحديث:640.

ص: 43

عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء

(1)

). قاله الحطاب. قال: فهذا الحديث يخالف كلام الباجي، وما تقدم عن الموطإ إلا أن يحمل هذا على الفطر بالشيء اليسير، وكلام الباجي وما في الموطإ على أن المراد به العشاء، وهذا هو الظاهر. ونقل ابن العربي أنه يستحب له تعجيل الفطر قبل الصلاة ولو بالماء.

وروى ابن عبد البر في التمهيد من أنس رضي الله تعالى ضنه: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي حتى يفطر ولو على شربة ماء

(2)

)، (وكان صلى الله عليه وسلم يفطر على شيء يسير قبل أن يصلي

(3)

)، قال الحطاب: وهذا هو الظاهر الذي عليه عمل الناس. انتهى. وسيأتي أنه يستحب الفطر قبل الصلاة. وفي النوادر: ولا ينبغي تأخير الفطر حتى يرى النجوم، ولا بأس لمن رأى سواد الليل أن يفطر قبل أن يؤذن ويصلى، وذلك إذا رأى سواد الليل قد طلع من موضع يطلع الفجر منه وتنبعث منه الظلمات.

وفي الحطاب عن بعض الشافعية: أن من كان بمكة يستحب له الفطر على ماء زمزم لبركته، فإن جمع بينه وبين التمر فحسن. قال الحليمي: والأولى أن لا يفطر على شيء مسته النار، وذكر فيه حديثا

(4)

). وقال الجزولي: وإن كان عنده حلال ومتشابه أفطر بالحلال ولا يفطر بالمتشابه؛ لأنه جاء في الحديث: إن لله في كل ليلة من رمضان سبع مائة عتيق من النار إلا من اغتاب مسلما أو آذاه أو شرب خمرا أو أفطر على حرام. انتهى.

وفي سنن أبي داوود وابن السني عن معاذ بن زهرة، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر، قال: الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت

(5)

). وفي كتاب ابن السني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: اللهم لك

(1)

أبو داود، كتاب الصيام، الحديث:2356. ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء.

(2)

التمهيد، ج 2 ص 116. وفيه:(شربة من ماء) بدل: (شربة ماء).

(3)

العارضة، ج 2 ص 158. وانظر الحطاب، ج 3 ص 169.

(4)

ويستحب أن لا يفطر على شيء مسته النار

وقد جاء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على ثلاث تمرات أو على شيء لم تمسه النار. المنهاج في شعب الإيمان للحليمي، ج 2 ص 388.

(5)

كنز العمال، رقم الحديث:18058. الأذكار، ص 386. ط دار ابن حزم.

ص: 44

صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم

(1)

). وقد مر أن الصائم يقول عند فطره، كما في الحديث: (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله

(2)

). وفي كتاب ابن السني وابن ماجة عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله تعالى عنهما، قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن للصائم عند فطره لدعوة لا ترد

(3)

). قال ابن أبي مليكة: سمعت عبد الله بن عمرو إذا أفطر يقول: (اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي

(4)

)، زاد في الترغيب في رواية: أن تغفر لي ذنوبي. وفي الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم

(5)

). قال الترمذي: حديث حسن، قال النووي: الرواية حتى بالمثناة فوق. انتهى.

قال الحطاب: ذكره في الترغيب، وذكر فيه رواية حين بالمثناة من تحت والنون. والله أعلم. وقال في العارضة في قوله عليه الصلاة والسلام: (للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه

(6)

)، الفرحة عند إفطاره بلذة الغذاء عند الفقهاء، وبخلوص الصوم من الرفث واللغو عند الفقراء، وفرحة عند لقاء ربه لا يرى من الثواب، وليس هذا الجزاء في الفرض وإنما هو لمن أكثر التطوع. انتهى. وما قاله من التخصيص غير ظاهر ولا يوافق عليه. قاله الحطاب. ونحوه للشبراخيتي عن بعض المحققين، وكره مالك الوصال ولو إلى السحر. اللخمي: هو إليه مباح، وإلى الليلة القابلة مكروه، لحديث: (من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر

(7)

). انتهى. وقد (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال)

(8)

). وفي الإكمال: قال بعض العلماء: الإمساك بعد الغروب، لا يجوز وهو كإمساك يوم الفطر ويوم النحر، وقيل ذلك جانز وله أجر الصائم. عياض:

(1)

الأذكار، ص 386. ط دار ابن حزم.

(2)

أبو داود، كتاب الصيام، الحديث: 2357/ 2358.

(3)

ابن ماجه، كتاب الصيام، رقم الحديث:1753. وفيه: (الدعوة ما ترد) بدل: (لا ترد).

(4)

الترغيب، ج 2 ص 12.

(5)

الترمذي، كتاب الدعوات، الحديث:3598. ولفظه: ثلاثة لا ترد دعوتم الصائم حين يفطر الخ. ابن ماجه، كتاب الصيام، الحديث:1752.

(6)

الترمذي، كتاب الصوم، الحديث:766. ولفظه: للصائم فرحتان فرحة حين يفطر وفرحة حين يلقى ربه.

(7)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1963.

(8)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1964.

ص: 45

اختلف إذا حضرت الصلاة والطعام، فذهب الشافعي إلى تقديم الطعام، وذكر نحوه عن ابن حبيب، وحكى ابن المنذر عن مالك: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون الطعام خفيفا. وفي الحطاب عن ابن ناجي: قلت: الأقرب ردهما إلى وفاق وهو البداءة بالصلاة إن لم يكن يتشوف للطعام فيكون الخلاف في حال، وبهذا التفصيل كان الشبيبي يفتي، وما ذكره عن عياض ذكره في الإكمال في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافع الأخبثين

(1)

)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قُرِّبِ العَشاء وحضرت الصلاة فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب

(2)

).

قال القاضي عياض: ووقع في غير مسلم في هذا الحديث زيادة حسنة تفسر المعنى؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضر العشاء وأحدكم صائم فابدءوا به قبل أن تصلوا

(3)

). وذكر المازري عن شيخه نحوه، فقال لما ذكر الحديثين المتقدمين: معناه أن به من الشهوة إلى الطعام ما يشغله من صلاته، فصار ذلك بمنزلة الحقن الذي أمرنا بإزالته قبل الصلاة، وقال في الطراز: ومن بلغ به الجوع ثم حضر الطعام والصلاة فليبتدئ بقضاء حاجته من الطعام؛ لأنه يتفرغ بذلك للصلاة، فإن بدأ بالصلاة فإن كان باله مشغولا بحيث لا يدري ما صلى فيعيد أبدا، وإن كان دون ذلك ولكنه يُقلِقُه ويعجله فحسن أن يعيد في الوقت، وإن كان إنما تتوق نفسه إلى الطعام من غير أن يشتغل فلا شيء عليه.

الجزولي: إذا حضر الطعام والصلاة، فإن كان يخاف أن يشغله قدم الطعام، وإن علم أنه لا يشغله أفطر منه بشيء يسير وصلى؛ لأنه يستحب الفطر قبل الصلاة ولو بالماء.

تنبيه: قد علمت أن تعجيل الفطر مندوب كما مشى عليه المصنف، وقد مر كلام عبد الباقي على المصنف، وقال الحطاب: وما ذكره المصنف من الاستحباب صرح به اللخمي وغيره، وجعل ذلك في الرسالة سنة، فقال: ومن السنة تعجيل الفطر وتأخير السحور، قال الشيخ أبو الحسن في الكبير، قال الحفيد: أجمعوا على أن من سنن الصوم تأخير السحور وتعجيل الفطر، وقال صاحب الجواهر:

(1)

مسلم، كتاب المساجد، الحديث:560. وفيه: ولا هو يدافعه الأخبثان.

(2)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث 557.

(3)

القاضى عياض في الإكمال، ج 2 ص 494. وفيه:(إذا وضع العشاء) بدل: (إذا حضر).

ص: 46

تعجيل الفطر سنة وتأخير السحور مستحب، والأمر في ذلك قريب، والأصل في ذلك ما ورد في الصحيحين أن رسول الله صلى القه عليه وسلم، قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر

(1)

).

وفي سنن الترمذي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا

(2)

)، وروى مالك في الموطإ: (من عمل الناس تعجيل الفطر والاستيناء بالسحور

(3)

)، والمراد بتعجيل الفطر أن يكون ذلك بعد تحقق الغروب وعدم الشك فيه؛ لأنه إذا شك في الغروب حرم عليه الفطر اتفاقا، وفي النوادر: قال ابن نافع من مالك: وإذا غشيتهم الظلمة فلا يفطروا حتى يوقن بالغروب، وكذلك يستحب تأخير السحور ما لم يدخل إلى الشك في الفجر. قاله في المجموعة. انتهى. وتأخير سحور؛ يعني أنه يستحب تأخير السحور مع عدم الشك في الفجر، والسحور بالفتح: ما يتسحر به، وبالضم: اسم للفعل كالبخور بالفتح ما يتبخر به، وبالضم: الفعل وهو المراد هنا. كما قاله الشيخ إبراهيم. والفعل هنا هو الأكل في السحر، والسحر من نصف الليل الأخير إلى الفجر، وكلما تأخر كان أفضل، (فقد كان بين سحوره صلى الله عليه وسلم والفجر قدر ما يقرأ القارء خمسين آية

(4)

). كما في البخاري، وأشعر كلام المصنف بندب السحور وهو كذلك، فالسحور مندوب، وتأخيره مندوب ثان، فهما مندوبان.

وندب السحور، لخبر: (فصل ما بيننا وبين صوم أهل الكتاب أكلة السحر

(5)

)، ولخبر: (تسحروا ولو بجرعة من ماء

(6)

)، قال عبد الباقي: فكأنه قال: وسحور وتأخيره، وقال الشبراخيتي: وسكت المصنف عن حكم السحور، وهل هو سنة كما قاله عياض في قواعده أو مستحب كما قاله اللخمي وصاحب الإكمال حاكيا عليه إجماع الفقهاء؟ والأصل فيه خبر الصحيحين:(تسحروا فإن في السحور بركة)

(7)

؛ والبركة تقويته على الصوم ونشاطه، وتخفيف المشقة، عليه والدعاء في السحر، واتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها.

(1)

البخارى، كتاب الصوم، الحديث:1957. مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1098.

(2)

الترمذي، كتاب الصوم، الحديث:700.

(3)

الموطأ، كتاب قصر الصلاة، الحديث 377.

(4)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1921. مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1097.

(5)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1026. بلفظ: فصل ما بين صيامنا وصيام أهل .. الخ.

(6)

ابن حبان، رقم الحديث:3467.

(7)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1923. مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1065. ولفظهما: استعينوا بطعام السَّحَر على صيام النهار .. الخ

ص: 47

وروى ابن ماجه والحاكم في صحيحه وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم، قال: (استعينوا بالسحر على صيام النهار والقيلولة على قيام الليل

(1)

)، ومن نظم الجلال السيوطي:

يا معشر الصُّوام في الحَرور

ومبتغي الجنة والأجور

تنزهوا عن رفث وزور

وإن أردتم غرف القصور

تسحروا فإن في السحور

بركة في الخبر المأثور

وفي حديث أبي هريرة: (ثلاثة لا يحاسب عليها العبد، أكلة السحور وما أفطر عليه وما أكل مع الإخوان

(2)

). انتهى. وزاد بعضهم: وفضلة الضيف، لما نقل من بعض السلف أنه كان إذا جاء الأضياف يقدم لهم في وقت ما يقوم بنفقة شهر أو نحوه، فيقال له في ذلك، فيقول: قد ورد أن بقية الضيف لا حساب على المرء فيها، فكان لا يأكل إلا فضلة الضيف لأجل ذلك. قاله الشبراخيتي. وقد مر الحديث: (فصل ما بين صومنا وصوم أهل الكتاب أكلة السحر

(3)

)، قال في الإكمال: صوابه بفتح الهمزة والرواية فبه بضمها، وبالضم إنما هو بمعنى اللقمة الواحدة، وبالفتح الأكل مرة واحدة وهو الأشبه هنا، والفصل بالصاد الفرق بين الشيئين. انتهى. قال ابن ناجي في شرحي المدونة والرسالة: قال التادلي: فيما ذكره نظر، والأشبه ما فيه الرواية لما فيه من التنبيه على قلة الأكل باللقمة الواحدة، بخلاف الأكل مرة واحدة، فإنه قد يكون فيه الطعام الكثير والشبع المذموم، انتهى.

وقال النووي: ضبطه الجمهور بفتح الهمزة وهي الرواية المشهورة في رواية بلادنا، وقال القاضي عياض: الرواية فيه بالضم، ولعله يريد في بلادهم. انتهى. قاله الحطاب.

وقد مر عنه أنه يستحب تأخير السحور ما لم يدخل إلى الشك في الفجر.

تنبيه: وقعت نازلة في بغداد في رجل حلف بالطلاق وهو صائم أن لا يفطر على حار ولا بارد، فأفتى ابن الصباغ إمام الشافعية بحنثه؛ إذ لابد له من أحدهما، وأفتى الشيرازي بعدم حنثه

(1)

ابن ماجه، كتاب الصيام، الحديث:1693. الحاكم، ج 1 ص 425.

(2)

الإتحاف، ج 5 ص 332.

(3)

فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر. مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1096.

ص: 48

قائلا: إنه يفطر على غيرهما؛ وهو حصول الليل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم

(1)

)، وفتوى ابن الصباغ أشبه بمذهب مالك؛ لأنه يعتبر المقاصد، وفتوى الشيرازي صريح في مذهب الشافعي. انتهى. قاله الحطاب عن ابن ناجي. وفي الخرشي: فائدة: لو قُدِّرَ أن زمن الليل قَدْرُ ثلث ساعة، فإن بدءوا بالصلاة فاتهم الفطر، وإن بدءوا بالفطر فاتتهم الصلاة ودخل الفجر، فإنهم يبدءون بالفطر. انتهى. وصوم بسفر؛ يعني أن الصوم في السفر الذي يجوز فيه الإفطار أفضل من الإفطار، يريد لمن قوي على ذلك، وما مشى عليه المصنف هو المشهور، لقوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، ولشدة حرمة رمضان؛ لأن من أفطر فيه عليه الكفارة، بخلاف من أفطر في قضائه، وقد صرح في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم بأن مالكا استحب الصوم في السفر، وكره الإفطار فيه. وقوله:"وصوم بسفر"، خلافا لابن الماجشون القائل: يستحب الفطر، لقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، ولحديث أبي داود: (ليس من البر الصيام في السفر

(2)

)، وروى بإبدال اللام ميما

(3)

في الثلاثة. قاله غير واحد. وسيأتي ما فيه، ولحديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه

(4)

)، ولمالك في المختصر: ذلك واسع صام أو أفطر، وعن ابن حبيب: يستحب الإفطار إلا في سفر الجهاد. فتلك أربعة أقوال. وعلى المشهور فالحديث محمول على من كان يحصل له من الصوم مشقة شديدة، والآية على من قوي على الصوم، والفرق بين الفطر يكره في السفر والقصر يسن فيه مع أن كلا منهما رخصة مختصة بالسفر، أن القصر تبرأ معه ذمة المكلف بخلاف الفطر، وأيضا فإن صومه مع الناس أسهل من الانفراد في صومه غالبا، والدليل على أن الحديث فيمن يحصل له من الصوم مشقة شديدة ما في صدر الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يظلل عليه، فقال صلى الله عليه وسلم ذلك

(5)

).

(1)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1954. ولفظه:

وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم.

(2)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2407. البخاري، كتاب الصوم، الحديث: 1946.

(3)

مسند أحمد، ج 5 ص 434.

(4)

البيهقي، ج 3 ص 140. مسند أحمد، ج 2 ص 108.

(5)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2407. البخاري، كتاب الصوم، الحديث: 1946.

ص: 49

فائدة: الحديث المذكور قد مر إبدال اللام فيه ميما في الثلاثة؛ وهو مسلم في البر، وأما في الصوم والسفر فقد نبة المحققون على أن إبدالها فيهما من لحن العامة من المحدثين. قاله الرهوني. انتهى. قوله: وعن ابن حبيب يستحب الإفطار لخ، قال الرهوني: الذي في المواق عن ابن حبيب عكس هذا وهو الصواب، ففي ابن يونس ما نصه: قال ابن حبيب: الصوم له أفضل إلا في الجهاد: فإن الفطر في سفره أفضل ليتقوى. انتهى المراد منه. ثم قال الرهوني: وقال ابن عرفة ما نصه: وفي رجحانه على الصوم، وعكسه ثالثها في سفر الجهاد، ورابعها سواء لابن الماجشون، والمشهور والصقلى عن ابن حبيب واللخمي عن سماع أشهب. انتهى منه بلفظه. انتهى المراد منه. وإن عدم دخوله بعد الفجر؛ يعني أن المسافر لا يجب عليه الصوم، وإن علم أنه يدخل وطنه بعد الفجر في أول النهار، بل هو باق على استحباب الصوم، فالمبالغة هنا لدفع توهم الوجوب. قاله الشارح وغيره. وقال الشبراخيتي: ولو قال: عقب الفجر كان أحسن. وصوم عرفة إن لم يحج: يعني أنه يندب لغير الحاج صيام يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وكذلك يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، فيندب صومه لغير الحاج، وأما الحاج فيكره له صوم كل منهما، والفطر في حقه أفضل فيهما للتقوي على الوقوف، ولأنه الوارد في الصحيح، ولأنه نهي عن صوم يوم عرفة بعرفة.

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده

(1)

). رواه مسلم وأبو داوود. وصح عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان في الحج يوم عرفة مفطرا)

(2)

: وفي المتيطية: ويكره للحاج أن يصوم بمنى وعرفة متطوعا؛ وهو حسن لغير الحاج؛ لأن بالحاج حاجة شديدة إلى تقوية جسمه لصعوبة العمل وكثرته في ذلك الوقت، وربما ضعف بالصوم فقصر من بعضه، فلذلك كره. انتهى، وقول المتيطية: بمنى؛ يعني يوم التروية. قاله الحطاب.

(1)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1162. أبو داود، كتاب الصوم، الحديث: 2423.

(2)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1658. مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1123.

ص: 50

وورد أن صيام يوم التروية كصيام سنة، وأن صيام يوم عرفة كصيام سنتين، وأن صوم يوم من سائر الأيام العشرة كصيام شهر. قاله الحطاب. وأما غير يوم التروية من أيام منى فالمطلوب فيه الإفطار كما يأتي، وفي حديث البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: صيام يوم عرفة كصيام ألف يوم

(1)

)، وفي خبر أحمد ومسلم وأبي داود عن قتادة الأنصاري:(صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة)

(2)

؛ يعني يكفر صغائر ذنوب صاحبه في السنة التي هو فيها والتي بعدها، بمعنى أن الله تعالى يحفظه أن يذنب فيها، أو يعطى من الثواب ما يكون كفارة لذنوبهما، قال صاحب العدة: وذا لا يوجد مثله في شيء من العبادات. قاله الشيخ إبراهيم. وقال: وأما الحاج فيكره له صومه، لما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه [وأبو داود]

(3)

والحاكم عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام (نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة

(4)

)؛ لأنه يوم عيد لأهل عرفة، فيكره صومه لذلك، وليقوى على الاجتهاد في الدعاء، (وصح أنه عليه الصلاة والسلام كان مفطرا، وكذا عمر وعثمان

(5)

).

ومثل يوم عرفة يوم التروية في استحباب صومه لغير الحاج وكراهته للحاج. وعشر ذي الحجة، بفتح الحاء وكسرها كما في الشبراخيتي وغيره، وكذا اللغتان في الحج كما قاله غير واحد؛ يعني أنه يستحب صيام عشر ذي الحجة لأنه روي أن صيام يوم منها كصيام شهر، هكذا قال في المقدمات. وقال في الذخيرة: روي أن صيام كل يوم منها يعدل سنة، قال في المقدمات: وقيل في قوله تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} أنها عشر ذي الحجة، وأن الشفع يوم النحر، وأن الوتر يوم عرفة. قاله الحطاب.

وقوله: "عشر ذي الحجة"، من عطف العام على الخاص، والمراد التسع؛ لأن العاشر هو يوم النحر صومه حرام، ففيه إطلاق الكل على الجزء، وندب صوم غير عرفة والتروية ولو لحاج، وعرفة لغير حاج كصيام سنتين، والتروية لغيره كسنة كما في الذخيرة، أو كشهر كما في الحطاب

(1)

شعب الإيمان للبيهقي، الحديث:3764.

(2)

مسلم، كتاب الصيام الحديث:1162. أبو داود، كتاب الصوم، الحديث: 2425. مسند أحمد ج 5 ص 296.

(3)

كذا في الأصل وليست في الشبراخيتي.

(4)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2440. وابن ماجه، كتاب الصيام، الحديث: 1732. والحاكم، ج 1 ص 434.

(5)

الترمذي، رقم الحديث:751. الإتحاف، ج 4 ص 254.

ص: 51

وغيرهما من بقية العشر صيام كل واحد منه كشهرين على ما للشارح، أو شهر على ما للحطاب أو سنة على ما للذخيرة. قاله عبد الباقي.

وقد ثبتت الفضلية لعشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة حتى قيل إنها أفضل من العشر الأخيرة من رمضان، لحديث: (ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أفضل منه في هذه

(1)

)، والأظهر تخصيصه كما في الأمير، ويمكن أن يجتمع في عشر ذي الحجة أمهات العبادة؛ وهي الصلاة والصوم والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها، وهي مشتملة على يوم الحج الأكبر وهو يوم النحر، وقوله:"وعشر ذي الحجة"، روى أبو داوود عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أننها قالت. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة

(2)

)، وقد ثبت في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم، قال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه

(3)

)؛ يعني العشر الأول من ذي الحجة.

وعلم مما مر أن غير الحاج يصوم تسعة أيام وهي الأُولُ من ذي الحجة، ولا يصوم العاشر وهو يوم النحر، وأن الحاج إنما بصوم سبعة يصوم السبعة الأول، ولا يصوم التروية ولا عرفة ولا يوم النحر، وقال أبو أمامة بن النقاش: فإن قلت أيهما أفضل عشر ذي الحجة أو العشر الأخير من رمضان. فالجواب أن عشر ذي الحجة أفضل لاشتمالها على اليوم الذي (ما رئي الشيطان في يومٍ غيرِ يوم بدر أدحر ولا أغيظ منه فيه وهو يوم عرفة

(4)

)؛ ولأنه يكفر بصيامه سنتين، ولاشتماله على أعظم الأيام حرمة عند الله تعالى؛ وهو يوم النحر الذي سماه الله تعالى: يوم الحج الأكبر، وليالي عشر رمضان الأخير أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومن تأمل هذا الجواب وجده شافيا كافيا، أشار إليه الفاضل المفضل بقوله: ما من أيام، دون أن يقول: ما من عشر ونحوه، ومن أجاب بغير هذا لم يدل بحجة صحيحة صريحة قط. انتهى. ولا يفهم من هذا الجواب أن ليالي عشر ذي الحجة لا فضيلة فيها، فإن أكثر المفسرين على أن المراد بقوله:

(1)

البخاري، كتاب العيدين، الحديث:969. وفيه: ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه

(2)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث: 2437

(3)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:962. وفيه: ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه

(4)

الموطأ، ص 285.

ص: 52

{وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)} : العشر الأول من ذي الحجة، ولا شك أن الإقسام بها يقتضي اختصاصها بمزيد فضل، وهذا ظاهر. انتهى. قاله الحطاب. وعاشوراء؛ يعني أنه يندب صوم يوم عاشوراء؛ وهو اليوم العاشر من المحرم لا التاسع كما قيل به، ولا الحادي عشر كما قيل به وهو مردود، وإنما ندب صوم عاشوراء، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله

(1)

)، رواه مسلم وغيره، وفيه تيب على آدم، واستوت السفينة على الجودي، وفلق البحر لوسى، وأغرق فرعون، وولد عيسى، وأخرج يونس من بطن الحوت، ويوسف من الجب، وتيب على قوم يونس. وفي بعض كتب الوعظ أنه صلى الله عليه وسلم، قال لعمر: (إن الله خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والجنة في يوم عاشوراء، وخلق آدم فيه وأدخل الجنة فيه، وولد إبراهيم فيه ونجاه الله من النار فيه، ورفع عيسى إلى السماء فيه، ورفع فيه إدريس مكانا عليا، وأخرج يوسف من السجن فيه، وأعطي سليمان الملك فيه، وفيه كشف بصر يعقوب، وضر أيوب، وغفر لنبيه داوود فيه

(2)

)، وروي أنه يوم الزينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون، وأول مطر نزل من السماء كان يوم عاشوراء وفيه صامت الوحوش والهوام، لما رواه أبو موسى المديني أن رجلا أتى البادية في يوم عاشوراء فرأى قوما يذبحون ذبائح فأخبروه أن الوحوش صائمة، وقالوا له: اذهب بنا نرك فذهبوا إلى روضة وأوقفوه، فلما كان بعد العصر جاءت الوحوش من كل جهة وأحاطت بالروضة واقفة رؤوسها ليس شيء منها يأكل، حتى إذا غابت الشمس أسرعت جميعا فأكلت.

وأخرج الخطيبي في تاريخه مرفوعا أن: الصرد والطير صام يوم عاشوراء، وروي عن الخليفة القادر بالله أنه كان يبيت الخبز للنمل كل يوم فيأكله إلا يوم عاشوراء، ومثله مروي عن قثم رحمه الله تعالى، وتوقف عبد الحق في ثبوت ذلك، ولا يبعد أن يكون لها صوم خاص كما كان لبعض الأمم بترك الكلام. انظر الشبراخيتي. وفي الحطاب أن الإمام الشافعي، قال: إن عاشوراء اليوم التاسع من المحرم، وقال إمامنا مالك: والأكثر هو العاشر، وهو الذي تدل عليه الأحاديث كلها.

(1)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث 1162.

(2)

الآثار المرفوعة دي الأخبار الموضوعة، ص 94.

ص: 53

وفي المقدمات: أفضل الأيام للصيام بعد رمضان عاشوراء، وكان هو الفرض قبل رمضان. الفاكهاني: في شرح الرسالة انظر تفضيل عاشوراء على يوم عرفة، وقد جاء في الصحيح (أن يوم عرفة يكفر السنة التي قبله والتي بعده

(1)

)، (وأن عاشوراء يكفر التي قبله

(2)

). والتكفير منوط بالأفضلية، فصن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل. قاله الحطاب. وقال ففي كلامه ميل إلى تفضيل عرفة وهو الظاهر، قال في التوضيح: وإنما كان يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة لأن يوم عرفة يوم محمدي، ويوم عاشوراء يوم موسوي. ولبعضهم:

صيام عاشورا أتى ندبه

في سنة محكمة ماضيه

قال النبي المصطفى إنه

تكفير ذنب السنة الماضيه

ومن يوسع يومه لم يزل

في عامة في عيشة راضيه

وقد ذكروا فيما يفعل فيه اثنتي عشرة خصلة وهي: الصلاة، والصوم، والصدقة، والاغتسال، والاكتحال، وزيارة عالم، وعيادة المريض، ومسح رأس اليتيم، والتوسعة على العيال، وتقليم الأظفار، وقراءة سورة الإخلاص ألف مرة، وصلة الرحم. ونظمها بعضهم، فقال:

صم صل صل زر عالما عد واكتحل

رأس اليتيم امسح تصدق واغتسل

وسع على العيال فلم ظفرا

وسورة الإخلاص ألفا تقرأ

قال الشيخ علي الأجهوري: وذيلتها ببيت ذكرت فيه أنه لم يرد شيء منها إلا الصيام والتوسعة على العيال، فقلت:

ولم يرد من ذي سوق الصوم كذا

توسعة وغير هذا انتبذا

(1)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1162.

(2)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:162.

ص: 54

وممن قال بتوسيع النفقة على الأهل يوم عاشوراء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وجابر بن عبد الله، ومحمد بن المنتشر، وابنه، وأبو الزبير، وشعبة، ويحيى بن سعيد، وسفيان بن عيينة، وغيرهم من المتأخرين. ورَوَى ما فيه استحباب ذلك من أئمة الحديث في كتبهم المشهورة، الطبرانيُّ في الكبير، والبيهقيُّ في الشعب: وابنُ عبد البر في الاستذكار، وغيرهم من أئمة الحديث.

وفي حديث شعبة [عن أبي]

(1)

، ابن الزبير عن جابر: أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته، قال: جربناه فوجدناه كذلك، وقال أبو الزبير مثله، وقال شعبة: مثله رواه ابن عبد البر في الاستذكار ورجاله رجال الصحيح، وروى الطبراني في الكبير من ابن مسعود مثله، وروي عن عمر بن الخطاب بإسناد جيد موقوفا: (من وسع على أهله ليلة عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة

(2)

)، وقد مر الحديث الذي رواه مسلم وغيره: (صوم عاشوراء أحْتَسِبُ على الله أن يكفر السنة التي قبله

(3)

)، وقد روى الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا: (من اكتحل يوم عاشوراء بالأثمد لم ترمد عينه أبدا

(4)

)، قال ابن حجر: موضوع أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقال الحاكم: والاكتحال يوم عاشوراء لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر؛ وهو بدعة ابتدعها قتلة الحسين.

وقال الشيخ زروق في شرح القرطبية: فيوسع يومه وليلته من غير إسراف ولا مراءاة ولا مماراة، وقد جرب ذلك جماعة من العلماء فصح، وقال ابن حبيب: يستحب في يوم عاشوراء التوسعة على العيال، وفي المدخل: والتوسعة فيه أي في يوم عاشوراء؛ أي على الأهل والأقارب واليتامى والمساكين، وزيادة النفقة والصدقة مندوب إليها بحيث لا يُجْهَدُ لكن بشرط عدم التكلف، وأن لا يصير ذلك سنة يستن بها لابد من فعلها. وكان بعض العلماء يتركون النفقة فيه لينبهوا على أنها ليست بواجبة، ومما أحدثوا فيه من البدع زيارة القبور، وزيارة القبور في هذا اليوم بدعة مطلقا للرجال والنساء، ومن البدع التي أحدثتها النساء فيه دخول

(1)

في الأصل عن ابن، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 179 ط دار الرضوان.

(2)

الاستذكار، ج 10 ص 140.

(3)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1162.

(4)

شعب الإيمان للبيهقي، الحديث:3797.

ص: 55

الجامع العتيق بمصر، واستعمالهن الحناء في هذا اليوم على كل حال، فمن لم تفعلها منهن فكأنها ما قامت بحق هذا اليوم، ومن ذلك البخور، فمن لم تشتره منهن في ذلك اليوم وتتبخر به فكأنها ارتكبت أمرا عظيما. قاله الحطاب.

وقال القباب: قال القاضي أبو الفضل في المشارق: عاشوراء اسم إسلامي لا يعرف في الجاهلية. قاله ابن دريد. انتهى. قاله الحطاب.

واعلم أن المشهور أن عاشوراء كغيره، فلا يصح صومه إلا بنية من الليل، والشاذ لابن حبيب صحة صومه بنية من النهار. قاله الحطاب. وتاسوعاء؛ يعني أنه يستحب صوم تاسوعاء؛ وهو اليوم التاسع من المحرم، لما في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع

(1)

)، فلم يأت العام القابل حتى توفي صلى الله عليه وسلم، ولأنه قد تقدم أنه اختلف في يوم عاشوراء: هل هو التاسع أو العاشر؟ وقال ابن رشد: من أراد أن يتحراه صامهما، وبقي على المصنف من الأيام التي ورد الترغيب في صومها: ثالث المحرم، فيه دعا زكرياء ربه فاستجيب له، والسابع والعشرون من رجب؛ لأن فيه بعث محمد صلى الله عليه وسلم، والخامس والعشرون من ذي القعدة لأن فيه أنزلت الكعبة على آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ومعها الرحمة، ونصف شعبان ذكره ابن عرفة لا ذكر أن مما ورد الترغيب في صومه شعبان، فقال: خصوصا يوم نصفه، ومَا مَرَّ من أن السابع والعشرين من رجب بعث فيه سيد الوجود صلى الله عليه وسلم قَالَه في التوضيح. واعترضه المسناوي بأن المعروف أن البعثة كانت في ربيع الأول أو في رمضان على خلاف بين أهل التاريخ، ووفق بينهما بأن الرؤيا كانت في ربيع الأول وملاقاة الملك كانت في رمضان، والقول بأنها كانت في رجب إما ضعيف جدا أو غير صحيح. نقله محمد بن الحسن.

ومن الأيام المرغب في صيامها: يوم الخميس، ويوم الاثنين نص على ذلك اللخمي وابن رشد، قال في المقدمات: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين والخميس، وقال: إن

(1)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1134.

ص: 56

الأعمال تعرض على الله سبحانه وتعالى فيهما، وأنا أحب أن يعرض عملي على الله سبحانه وأنا صائم

(1)

)، فصيامهما مستحب. قاله الحطاب.

وقال الشيخ زروق: صيام يوم المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صح علمه وورعه، قائلا إنه من أعياد المسلمين، فينبغي أن لا يصام فيه. انتهى. ولعله يعني ابن عباد، فقد قال في رسالته الكبرى: وأما المولد فالذي يظهر أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم، وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتزين بلبس فاخر الثياب، وركوب فاره الدواب، أمر مباح لا ينكر على أحد، قياسا على غيره من أوقات الفرح.

والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود، وارتفع فيه علم الشهود، وانقشع بسببه ظلام الكفر والجحود، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمانْ، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجانْ، أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمهْ، وتدفعه الآراء المستقيمهْ، ولقد كنت -فيما خلا من الزمان- خرجت يوم مولد إلى ساحل البحر، فاتفق أن وجدت هنالك سيدي الحاج بن عاشر رحمه الله تعالى وجماعة من أصحابه، وقد أخرج بعضهم طعاما مختلفا ليأكلوه هنالك، فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل، وكنت إذ ذاك صائما، فقلت لهم: إني صائم، فنظر إلى سيدي الحاج نظرة منكرة، وقال لي ما معناه: إن هذا اليوم يوم فرح وسرور، ويستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد، فتأملت كلامه فوجدته حقا وكأني كنت نائما فأيقظني. قاله الحطاب. والمحرم؛ يعني أنه يستحب صوم المحرم لخبر مسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم

(2)

)، وقال ابن عطية: قال قتادة: اصطفى الله تعالى من الملائكة جبريل، ومن الشهور المحرم ورمضان، ومن البقاع المساجد، ومن الأيام الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الكلام ذكرَه، فينبغي أن يعظم ما عظم الله تعالى، فإن قيل إذا تقرر أن أفضل الصيام بعد رمضان صيام المحرم، فكيف كان أكثر صيامه صلى الله عليه وسلم في شعبان

(1)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2436. النسائي، كتاب الصوم، الحديث 2360. الترمذي، كتاب الصوم، الحديث:745.

(2)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1163.

ص: 57

فإنه كان يصومه أو إلا قليلا؟ فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر عمرد قبل التمكن من صومه، أو لعله كانت تعرض له فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه من مرض أو سفر. قاله بمعناه النووي. قاله الشبراخيتي.

وفي الخرشي: وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمى المحرم شهر الله

(1)

)، قال السيوطي: سئلت لم خص الله تعالى المحرم بشهر الله دون سائر الشهور مع أن فيها ما يساويه في الفضل ويزيد عليه كرمضان، ووجدت ما يجاب به أن هذا الاسم إسلامي دون سائر الشهور، فإن أسماءها كلها على ما كانت عليه في الجاهلية.

وكان اسم المحرم في الجاهلية صفر الأول، والذي بعدد صفر الثاني، فلما جاء الإسلام سمى الله تعالى المحرم، فأضيف إليه بهذا الاعتبار وهي إضافة تخصيص وتشريف، كقوله تعالى:{نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} ، وكقولهم في الكعبة بيت الله. ورجب؛ يعني أنه يستحب صيام رجب وأمثل ما ورد فيه ما رواه النسائي من حديث أسامة بن زيد، قلت: (يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان

(2)

)، ففيه إشعار بأن في رجب مشابهة برمضان، وأن الناس يشتغلون فيه من العبادة بما يشتغلون في رمضان ويغفلون عن نظير ذلك في شعبان؛ ولذلك كان يصومه، وفي تخصيص ذلك بالصوم إشعار بفضل صيام رجب، وأن ذلك كان من المعلوم المقرر لديهم، ومن ذلك ما رواه أبو داوود أنه عليه الصلاة والسلام قال لبعض أصحابه: (صم من [الحُرُم]

(3)

واترك، صم من [الحرم]

(4)

واترك، صم من [الحرم]

(5)

)، واترك، وقال بأصابعه الثلاث فضمها وأرسلها

(6)

)، ففي هذا الخبر وإن كان في إسناده من لا يعرف ما يدل على استحباب صيام بعض رجب؛ لأنه أحد الأشهر الحرم. قاله الحطاب.

(1)

أفضل الصيام بعد رمضان مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1163.

(2)

النسائى، كتاب الصيام، الحديث:2357.

(3)

في الأصل المحرم والمثبت من الحطاب ج 3 ص 184 ط دار الرضوان.

(4)

في الأصل المحرم والمثبت من الحطاب ج 3 ص 184 ط دار الرضوان.

(5)

في الأصل المحرم والمثبت من الحطاب ج 3 ص 184 ط دار الرضوان.

(6)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2428. ولفظه:

فضمها ثم أرسلها.

ص: 58

وقال محمد بن الحسن: واعترض الحطاب ذكر المصنف لرجب بما نقله عن ابن حجر؛ بأنه لم يرد في فضل رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معين حديث يصلح للحجة به، ولذا قال المواق: ولو قال المصنف والمحرم وشعبان لوافق المنصوص. انتهى.

وفي الحطاب: وأما الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو في فضل صيامه، أو في فضل صيام شيء منه صريحة فهي على قسمين: ضعيف وموضوع، فمن الضعيف: إن في الجنة نهرا يقال له رجب ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر، وله شاهد باطل وهو أن في الجنة نهرا يقال له رجب ماؤه الرحيق من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا أعده الله لصوّام رجب، ومنه ما رواه البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصم بعد رمضان إلا رجبا وشعبان، ومنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب، قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا لرمضان.

ومن الأحاديث الباطلة: رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي. وفي رواية وقع فيها طول وزيادات من جعلة تلك الزيادات، فمن صام من رجب يوما إيمانا واحتسابا استوجب رضوان الله الأكبر، وأسكنه الفردوس الأعلى إلى آخره.

ومن الأحاديث الباطلة أيضا: فضل رجب على الشهور كفضل القرآن على الأذكار، وفضل شعبان على الشهور كفضل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، وفضل رمضان على سائر الشهور كفضل الله على عباده.

ومنها: من صلى المغرب في أول ليلة من رجب ثم صلى بعدها عشرين ركعة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد مرة، ويسلم فيهن عشر تسليمات، أتدرون ما ثوابه؟ فإن الروح الأمين جبريل علمني ذلك، قال راوي الحديث وهو أنس: قلت الله ورسوله أعلم، قال: حفظه الله في نفسه وأهله وماله وولده، وأجير من عذاب القبر، وجاز على الصراط كالبرق بغير حساب ولا عذاب، وهذا حديث موضوع. وكذا الحديث الذي فيه رجب شهر الله لأنه مخصوص بالمغفرة، وفيه تحقن الدماء، وفيه تاب الله على أنبيائه، وفيه أنقذ أولياءه من يد أعدائه الخ. ومنها حديث: من صام ثلاثة أيام من رجب كتب الله له صيام شهر، ومن صام سبعة أيام أغلق

ص: 59

عنه سبعة أبواب النار، ومن صام ثمانية أيام فتح الله له ثمانية أبواب الجنة، ومن صام نصف رجب كتب الله له رضوانه، ومن كتب الله له رضوانه لم يعذبه، ومن صام رجبا كله حاسبه الله حسابا يسيرا. ومنها: إن شهر رجب شهر عظيم من صام يوما منه كتب الله له صوم ألف سنة، ومن صام مند يومين كتب الله له صوم ألفي سنة، ومن صام منه ثلاثة أيام كتب الله له صوم ثلاثة آلاف سنة، ومن صام منه سبعة أيام أغلقت عنه أبواب جهنم، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية فيدخل من أيها شاء، ومن صام منه خمسة عشر يوما بدلت سيئاته حسنات ونادى مناد من السماء قد غفر الله لك فاستأنف العمل، ومن زاد زاده الله وهو حديث موضوع. ومنها حديث: من فرج من مؤمن كربة في رجب أعطاه الله في الفردوس قصرا مد بصره، أكرموا رجبا يكرمكم الله بألف كرامة ولا أصل له، بل اختلقه السقطى. ومنها حديث: رجب من الأشهر الحرم، وأيامه مكتوبة على أبواب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يوما وَجَوَّدَ صيامة بتقوى الله نطق الباب ونطق اليوم، فقالا: يا رب اغفر له، وإذا لم يتم صومه بتقوى الله لم يستغفرا له. رواد النقاش. ومنها حديث: من صام يوما من رجب كان كصيام سنة، ومن صام سبعة أيام أغلقت عنه أبواب جهنم؛ ومن صام ثمانية أيام فتحت له ثمانية أبواب الجنة ومن صام عشرة أيام لم يسئل الله شيئا إلا أعطاه، ومن صام خمسة عشر يوما نادى مناد من السماء قد غفر لك ما تقدم فاستأنف العمل، ومن زاد زاده الله، وفي شهر رجب حمل نوح في السفينة فصام، وأمر من معه أن يصوموا شكرا لله وجرت السفينة بهم فاستقرت على الجودي في يوم عاشوراء، وفي رجب تاب الله على آدم وعلى مدينة أهل يونس، وفيه فلق البحر لموسى، وفيه ولد إبراهيم وعيسى.

ومن الأحاديث الضعيفة حديث: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم، رجب لا يقارنه أحد من الأشهر. ولذلك يقال له: شهر الله والأصم وثلاثة أشهر متواليات؛ يعني ذا القعدة وذا الحجة والمحرم، ألا وإن رجبا شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، فمن صام من رجب يوما إيمانا واحتسابا استوجب رضوان

ص: 60

الله الأكبر، وأسكنه الفردوس الأعلى، ومن صام من رجب يومين فله من الأجر ضعفان، وإن كل ضعف مثل جنان الدنيا، ومن صام من رجب أربعة أيام عوفي من البلاء من الجنون والجذام والبرص ومن فتنة المسيح الدجال ومن عذاب القبر، وهو حديث طويل ورد من طرق، وفي بعضها زيادة على بعض؛ ففي بعضها: خيرة الله من الشهور شهر رجب.

واعلم أنه اشتهر أن أهل العلم يتسامحون في إيراد الأحاديث في الفضائل وإن كان فيها ضعف ما لم تكن موضوعة، وينبغي مع ذلك اشتراط أن يعتقد العامل

(1)

كون ذلك الحديث ضعيفا، وأن لا يشهر ذلك ليلا يعمل المرء بحديث ضعيف، فيشرع ما ليس بشرع ويراه بعض الجهال فيظن أنه سنة صحيحة، وليحذر المرء من دخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين

(2)

)، فكيف بمن عمل به؟ ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل إذِ الكُلُّ شرع. نقله الحطاب. وأخرج ابن ماجة في سننه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب

(3)

)، وليس بالقوي، وكان ابن عباس ينهى عن صيام رجب كله ليلا يتخذ عيدا وإسناده صحيح، وكان عمر يضرب أيدي الرجال في رجب إذا رفعوها عن الطعام حتى يضعوها فيه، ويقول: إنما هو موسم كان أهل الجاهلية يعظمونه. ابن حجر: هذا النهي منصرف لمن يصومه معظما لأمر الجاهلية، فمن صامه لقصد الصوم في الجملة من غير أن يجعله حتما أو يخص منه أياما معينة يواظب على صومها أو ليالي معينة يواظب على قيامها، بحيث يظن أنها سنة فهذا من فعله مع السلامة مما استثني، فلا بأس به، فإن خص ذلك أو جعله حتما فهذا محظور؛ وهو في المنع بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام

(4)

). رواه مسلم وإن صامه معتقدا أن صيامه أو صيام شيء منه أفضل من صيام غيره، ففي هذا نظر ويقوي جانب المنع ما في الصحيح

(1)

الذي في الأصل الكامل والمثبت من الحطاب ج 3 ص 184 ط دار الرضوان.

(2)

مقدمة صحيح مسلم، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين.

(3)

ابن ماجه، كتاب الصيام، الحديث:1743.

(4)

مسلم، رقم الحديث:1144. ولفظه: لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا ان يكون في صوم يصومه أحدكم.

ص: 61

عن ابن عباس: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم يوم يفضله على غيره إلا يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان

(1)

). نقله الحطاب.

وحاصل ما لهم هنا أن صوم رجب مندوب حيث لم يكن هناك مانع كتعظيم أمر الجاهلية، وأنه لا إثم على من صامه كله، وأما حديث: إن جنهم تسعر من الحول إلى الحول لصوام رجب فغير صحيح ولا تحل روايته، وأنه يلزم ناذره، ويكفي في ندب صومه ما ورد من النصوص في فضل الصوم مطلقا، والحديث الوارد في سنن أبي داوود في صوم الأشهر الحرم، وقد تقدم في فضل الصوم ما فيه كفاية.

وللدميري رحمه الله تعالى:

تتميم الأصب صومه ندب

لكل قادر وبالنذر يجب

وأحمد كرهه إذا انفرد

والمانع المُطْلِق قوله يرد

والنهيَ عنه قد روى ابن ماجه

وضعفه استبان في الديباجه

والشيخ عز الدين قال من نهى

عن صومه في كل حالة سها

وشَدَّد النكير في الرد عليه

وقال لا يرجع في الفتوى إليه

إذ الذين نقلوا الشريعه

ما كرهوا صيامه جميعه

وفي عموم طلب الصوم اندرج

وزال عن صائمه به الحرج

وابن الصلاح قال من روى رجب

فيه عذاب صائميه قد وجب

غير صحيح لا تحل نسبته

إلى رسول الله ضل مثبته

ففي عموم الفضل للصوم نصوص

تدل لاستحبابه على الخصوص

قوله: الأصبُّ هو رجب، وله ستة عشر اسما: رجب لأنه كان يرجب في الجاهلية أي يعظم أو لترك القتال فيه، يقال: أقطع الرجب، والأصم لأنه لا تسمع فيه قعقعة السلاح، والأصب

(1)

البخاري، رقم الحديث:2004. مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1132.

ص: 62

بموحدة لأنهم كانوا يقولون إن الرحمة تصب فيه، ومنها رجم بالميم لأن الشياطين ترجم فيه، والشهر الحرام، والهرم لأن حرمته قديمة، والمقيم لأن حرمته ثابتة، والمعلى لأنه رفيع عندهم، والفرد وهو اسم شرعي، ومنصل الأسنة، ومنصل الأَلِّ أي الحرب، ومنزع الأسنة. وشهر العتيرة لأنهم كانوا يذبحونها فيه، والبدي، والمشعشع، وشهر الله.

وذكر بعض القُصَّاصِ أن الإسراء كان في رجب وهو كذب. نقله الحطاب. وقال: ذكر ابن عرفة في الأشهر المرغب في صومها شوالا، ولم أره في كلام غيره من أهل المذهب، لكن وقفت في جمع الجوامع للجلال السيوطي على حديث ذكره فيه، ونصه: (من صام رمضان وشوالا والأربعاء والخميس دخل الجنة

(1)

). قال المناوي في شرحه عن الذهبي: ورجاله ثقات. انتهى. قال محمد بن الحسن: الذي رأيته في الجامع الكبير وعليه شرح المناوي: (من صام رمضان وشيئا من شوال والأربعاء والخميس دخل الجنة

(2)

). انتهى.

وهل أول الأشهر الحرم، المحرم وآخرها ذو القعدة فتكون كلها في عام واحد أو أولها ذو القعدة وآخرها رجب فتكون من عامين؟ اختلف في ذلك، والأول أولى، وفقه هذا الخلاف أن من نذر صيام الأشهر الحرم، يقال له على القول الأول: ابدأ بالمحرم، ثم برجب ثم بذي القعدة، ثم بذي الحجة، وعلى القول الآخر يقال: ابدأ بذي القعدة حتى يكون آخر صيامك في رجب من العام الثاني، قال معناه ابن عرفة، قال الحطاب: هذا لازم إن نذر أن يصومها مرتبة، وإلا فالظاهر أنه على جهة الأولى. والله أعلم. ومن قال المحرم هو الأول احتج بأنه أول السنة، ومن قال أولها ذو القعدة احتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأبه حين ذكر الأشهر الحرم. وشعبان؛ يعني أنه يندب صوم شعبان لما رواه الإمام مالك والبخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل

(1)

مسند أحمد، ج 3 ص 416 بزيادة الجمعة. الجامع الصغير، رقم الحديث:8778.

(2)

الجامع الصغير، رقم الحديث:8778.

ص: 63

صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان

(1)

). وهذا لفظ الموطإ. قاله الحطاب.

وذكر بعض أهل العلم أن السبب في ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم ربما حصل له الشغل عن صيام ثلاثة الأيام من كل شهر بسفر أو غيره، فيقضيها في شعبان، فلذلك كان يصوم في شعبان أكثر مما يصوم في غيره، ويقوي هذا التأويل ما رواه أبو داوود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن من أبيه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا دخل النصف من شعبان فلا يصومن أحد

(2)

)، وفي رواية: (إذا دخل النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام

(3)

)، وقد ذكر بعض أهل العلم أن معنى هذا النهي المبالغة في الاحتياط ليلا يختلط برمضان ما ليس منه

(4)

)، ويكون هذا بمعنى نهيه عن أن يتقدم أحد عن رمضان بيوم أو يومين. قاله الحطاب.

وفي خبر عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان

(5)

)، وفي رواية لمسلم: كان يصومه -يعني شعبان- إلا قليلا، وفي رواية:(كان يصومه كله)

(6)

وفسر بأنه يصومه كله، في سنين؛ بأن يصوم في سنة من أوله، وفي أخرى وسطه، وفي أخرى من آخره. واعلم أن الشهور كلها مذكرة إلا جمادى.

تنبيه: ذكر الدميري في شرح سنن ابن ماجه عن الحليمي أنه لم يوجد لصوم رجب ذكر في الأصول المعروفة، سوى ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم (سئل عن صوم رجب، فقال: أين أنتم من شعبان

(7)

)، وهذا يحتمل أن يكون معناه أن رجبا قد ظهر فضله فإنه من المحرم وكان معظما في الجاهلية، فلا تسئلوا عنه وسلوا عن شعبان، وحينئذ يجوز أن يكون صومه مستحبا،

(1)

الموطإ، كتاب الصيام، رقم الحديث:688. أبو داود، كتاب الصوم، الحديث: 2434 البخاري، رقم الحديث: 1969. مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1156. الترمذي، كتاب الصوم الحديث: 768.

(2)

أبو داود، رقم الحديث:2337. ولفظه: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا.

(3)

الإتحاف، ج 4 ص 256. ولفظه: إذا مضى النصف .. الخ.

(4)

في الأصل بغير، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 189 ط دار الرضوان.

(5)

الترمذي، كتاب الصوم، الحديث 736 النسائي، كتاب الصيام، الحديث:2349.

(6)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1156 أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2435.

(7)

المنهاج في شعب الإيمان للحليمي، ج 2 ص 393.

ص: 64

ويحتمل أن يكون معناه أنه منفصل عن رمضان وهو كالأشهر التي قبله، وإنما المتصل برمضان؛ والشبيه به من بعض الوجوه شعبان، فإن فيه ليلة النصف كما في رمضان ليلة القدر، فسلوا عنه لا عن رجب، قال الحليمي: وهذا أشبه؛ لأن ذا القعدة من الحرم، ولم يرد في صيامه شيء. قاله الحطاب.

وروى عبد الرزاق من زيد بن أسلم أن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت لامرأة ذكرت لها أنها تصوم رجبا: صومي شعبان فإن فيه الفضل، فقد ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناس يصومون رجبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأين هم من صيام شعبان؟. نقله الحطاب. وإمساك بقية اليوم لمن أسلم؛ يعني أن الكافر إذا أسلم في نهار رمضان، فإنه يستحب له الإمساك في بقية ذلك اليوم لتظهر عليه صفات الإسلام بسرعة، ولم يجب عليه الإمساك بقية اليوم لتأليفه للإسلام. قاله غير واحد. ما مشى عليه المصنف هو قول ابن القاسم وأشهب وعبد الملك وابن حبيب وابن خويز منداد؛ لأنه لما غفر الله له ما تقدم ساوى المجنون يفيق.

وقال الباجي: ومن قال أصحابنا بخطاب الكفار؛ وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه، أوجب عليه الإمساك. وهذا فيكون ظاهر المذهب وجوب الإمساك. القاضي عياض: وهو تخريج بعيد، ولو كان كذلك لما اختص باليوم الذي أسلم فيه عما قبله، ولا فرق بينه وبين ما سبقه لفوات صومه شرعا كاليوم السابق، ولو كان على ما قال لكان القضاء والإمساك واجبين على القول بخطابهم، ولم يقل بوجوب ذلك أحد من شيوخنا، وإنما استحب لتظهر عليهم صفات المسلمين في ذلك اليوم.

ونقل اللخمي عن أشهب في المجموعة أنه قال: لا يمسك بقية اليوم، قال: وعلى قوله لا يقضيه وهو أحسن؛ لأن الإسلام .. ما قبله. عياض: تخريج اللخمي ترك القضاء على القول بترك الإمساك، واستحبابه على استحباب الإمساك فيه نظر؛ لأنه لا يطرد؛ إذ الحائض ممنوعة من الإمساك والقضاءُ واجبٌ .. ، والناسي في الفرض مأمور بالإمساك وعليه القضاء، والمغمى عليه

ص: 65

والمحتلم لا يمسكان ولا قضاء، والناسي لصومه يفطر في التطوع مأمورٌ بالإمساك ولا قضاء فلا ملازمة بينهما. نقله الحطاب.

وقال في مختصر الوقار: وكذلك الصبية تحيض في أول حيضتها في يوم من شهر رمضان؛ فإنه استحب لها قضاء ذلك اليوم. انتهى. نقله الحطاب أيضا. قال: وإذا بلغ الصبي أو الصبية وهو صائم فإنه يتمادى؛ لأن صومه انعقد نافلة ظاهرا وباطنا، فإن كان مفطرا فهو كالحائض. قاله سند. أي فلا يستحب له الإمساك ولا يجب عليه قضاء ما مضى من رمضان، ولا قضاء اليوم الذي بلغ فيه. انتهى.

وقال الشبراخيتي: وإمساك بقية اليوم لمن أسلم فيه لتأليفه للإسلام، وإلا فالواجب عليه بمقتضى القاعدة السابقة في قوله: أو زوال عذر مباح الخ، وجوب الإمساك؛ لأنه لا يباح له الفطر مع العلم برمضان؛ لأن الصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وكذا يقال في: وقضاؤه؛ يعني أن الكافر إذا أسلم في نهار رمضان، فإنه يستحب له أن يمسك عن المفطرات بقية ذلك اليوم -كما مر- ولا يجب عليه، ويندب له أيضا قضاء ذلك اليوم الذي أسلم فيه، ولا يجب عليه ترغيبا له في الإسلام. وقوله:"وقضاؤه"، ظاهره أنه يندب له قضاء ذلك اليوم الذي أسلم فيه، سواء أمسك بقيته أم لا. وتعجيل القضاء؛ يعني أنه يندب لمن أفطر رمضان أو شيئا منه أن يعجل قضاء، ذلك لأن المبادرة إلى الله تعالى أولى من التأخير، وإبراء الذمة من الفرائض أولى، وليخرج

(1)

من خلاف من يقول إنه على الفور، ومن يقول إنه يقضي متتابعا. انظر الشبراخيتي.

وفي الخرشي عند قوله "وتعجيل القضاء": أي وندب تعجيل القضاء لما ترتب في الذمة [من كل]

(2)

صوم موسع في قضائه رمضان أو غيره لمبادرته بالطاعة في أول وقتها كالصلاة المؤداة في الوقت المتسع، وأما ما ضيق في وقته كقضاء ما فات لعذر من كفارة متتابعة كظهار، فواجب تعجيله ووصله، ويستحب البدء بقضاء رمضان الأول إن ترتب عليه اثنان، ففي النوادر: إذا لم يزل مريضا من الأول إلى انقضاء الثاني فليبتدئ إذا أفاق بالأول، فإن بدأ بالثاني أجزأه. انتهى. ونقله

(1)

في الأصل ويتخرج والمثبث من الشبراخيتي، ج 1 مخطوط.

(2)

في الأصل وكل وما بين المعكوفين من الخرشي ج 2 ص 242.

ص: 66

الحطاب. ومتابعته؛ يعني أنه كما يستحب تعجيل القضاء، يستحب أن يكون متتابعا لأن في القضاء متفرقا خلاف ما ندب إليه من المبادرة بالقضاء لتراخي الآخر عن الأول.

أخرج المنذري والدارقطني وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة، قالت: نزلت: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} متتابعات، فسقطت متتابعات، قال البيهقي: أي نسخت. قاله الشبراخيتي.

وبما قررت علم أن قوله: "وتعجيل القضاء ومتابعته"، مندوبان. ككل صوم لم يجب تتابعه؛ يعني أن من عليه صوم، لا يلزمه أن يتابعه، فإنه يندب له أن يتابعه ككفارة اليمين ثلاثة أيام، فإن فرقها أجزأه وبيس ما صنع، وكصيام الجزاء والتمتع وثلاثة أيام في الحج، قال مالك: ما ذكره الله تعالى من صيام الشهور فمتتابع، وأما الأيام مثل: قضاء رمضان، وكفارة اليمين، وصيام الجزاء والمتعة، وصيام ثلاثة أيام في الحج، فأحب إلي أن يتابع ذلك كله، فإن فرقه أجزأه، وأما الصوم الذي يلزم تتابعه فيلزم تتابع قضائه أيضا. وبدء بكصوم تمتع؛ يعني أنه يندب لمن عليه صوم تمتع وقضاء رمضان، أن يبدأ بصوم التمتع قبل قضاء رمضان، ومثل صوم التمتع صوم القِرَانِ فيبدأ به قبل قضاء رمضان، وكذا كل صوم ترتب من نقص في حج، فإنه يندب له أن يبدأ به قبل قضاء. رمضان.

وعلم مما قررت أنه دخل بالكاف صوم القِرَان وكل نقص في حج، والله سبحانه أعلم. إن لم يضق الوقت؛ يعني أن محل ندب البدء بكصوم التمتع إنما هو حيث لم يضق الوقت على قضاء رمضان، وأما إن ضاق الوقت على قضاء رمضان فإنه لا يستحب تقديمه، بل يجب تقديم قضاء رمضان حينئذ. وقوله:"وبدء بكصوم تمتع"؛ أي ليصل سبعته بالثلاثة التي صامها في الحج، فلو بدأ بقضاء رمضان [لفصل]

(1)

، به بين جزئي صوم التمتع، وهذه العلة قاصرة؛ لأن من لم يكن قدم صوم الثلاثة يندب له البدء بصومها مع السبعة قبل قضاء رمضان، والعلة المطردة هي أنه لما كان قضاء رمضان واجبا موسعا فيه مع حده بغاية وهي [قدرة]

(2)

)، بشعبان، وغيرُهُ واجبٌ؛ مطلقا لقوله تعالى:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} بيان لمبدإ فعله وهو غير محدود بغاية،

(1)

في الأصل ليصل والمثبت من عبد الباقي، ج 2 ص 198.

(2)

الذي في عبد الباقي ج 2 ص 198 قدره.

ص: 67

فإن قلت: قوله في قضاء رمضان {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} غير محدود بغاية أيضا، قلت: فهمه الإمام لدليل آخر على ما إذا لم يفرط فيه حتى دخل رمضان آخر وإلا أطعم.

والحاصل أنه يجب تقديم القضاء إن ضاق وقته، وتقديم الثلاثة إن ضاق وقتها؛ يعني ويؤخر القضاء، فإن كان في الحج وبقي ثلاثة أيام وعليه ثلاثة أيام من رمضان، صام عن التمتع لأن الوقت تعين لها وهو وقت أدائها، بخلاف رمضان فإنه قضاء. قاله الأجهوري.

ويندب تقديم التمتع إن فات وقت الثلاثة وقد فعلها أو لم يفعلها، ويندب تقديم القضاء إن دخل عليه رمضان آخر، ويخير إن بقي من وقت الثلاثة ما يسع فعلها وفعل القضاء وكان يتم الصلاة، فإن كان يقصرها قدم التمتع لأن صوم رمضان وقضائه ساقط في السفر، فهذه خمسة أقسام، فبان من هذا أن محل قوله:"وبدء"، حيث قدم الثلاثة في وقتها مع انقضائه وأراد صوم السبعة أوَاخِر الثلاثة أيضا حتى انقضى وقتها وأراد صومها مع السبعة، وأما إن أراد قبل خروج وقت الثلاثة أن يصوم القضاء فليس فيه حالة ندب، وإنما فيه حالة وجوب أو تخيير.

وفي النوادر: وإذا كان عليه صيام ظهار وقضاء، بدأ بأيهما شاء إلا أن لا يدركهما قبل رمضان، فليبدأ بقضاء رمضان قبل نذره. قاله الحطاب. والله سبحانه أعلم.

واعلم أن الصور سبع: إحداها أن يضيق وقت القضاء فيجب تقديمه، الثَّانِيَةُ أن يضيق وقت الثلاثة فيجب تقديمها، الثَّالِثَةُ أن يفوت وقت الثلاثة وقد فعلها فإنه يندب تقديم التمتع، الرَّابعَةُ أن يفوت وقت الثلاثة ولم يفعلها فإنه يندب تقديم التمتع الثلاثة والسبعة وهاتان هما قوله وبدء بكصوم تمتع الخ، الخَامِسَةُ أن يدخل عليه رمضان آخر فإنه يندب تقديم القضاء بعد مضي الحاضر، السَّادِسَةُ أن يبقي من وقت الثلاثة ما يسع فعلها وفعل القضاء وكان يتم الصلاة فإنه يخير في تقديم أيهما شاء فلا يندب تقديم واحد منهما، السَّابعَةُ إن يبقى من وقت الثلاثة ما يسع فعلها وفعل القضاء وكان يقصر الصلاة فإنه يقدم التمتع. هذا هو تحرير المسألة. والله سبحانه أعلم. وفدية لهرم وعطش؛ يعني أن الهرم بكسر الراء إذا كان لا يقدر على الصوم في زمن من الأزمنة، فإنه يُستحب له الفدية وهي الكفارة الصغرى مد عن كل يوم يفطره، وأما إن قدر على الصوم في زمن من الأزمنة فإنه يؤخر إليه ولا فدية عليه حينئذ لا وجوبا ولا ندبا، والهرم

ص: 68

الشيخ الكبير، وكذلك العطش بكسر الطاء إذا كان لا يقدر على الصوم في زمن من الأزمنة، وأما إن قدر على الصوم في زمن من الأزمنة فإنه يؤخر إليه ولا فدية عليه حينئذ لا وجوبا ولا ندبا. وقوله:"وفدية لهرم وعطش" سواء في ذلك الذكر والأنثى، وفي مختصر الوقار: ولا بأس أن يشرب المتعطش إذا بلغ الجهد منه، ولا يعد الشرب إلى غيره ولا قضاء عليه قاله الحطاب.

وقد علمت أنه خلاف المشهور كما مر عند قول المصنف: "كمضطر"، ولهذا اعترض الرماصي اقتصار الحطاب عليه؛ بأنه يوهم أنه المذهب مع أنه معارض بقول المصنف، وبما نقله الحطاب نفسُه هناك، وتخصيصي الفدية المندوبة بالهرم والعطش اللذين لا يقدران على الصوم في زمن صحيح، لقوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، فالوجوب إنما هو لمن قدر على الصوم، وفرط فيه حتى دخل عليه رمضان آخر كما يأتي في قول المصنف:"وإطعام مده صلى الله عليه وسلم لمفرط" الخ، وقوله:"وفدية لهرم وعطش"؛ أي ولا يلزمه الصوم لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، ولقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . انظر الشبراخيتي.

وقال التتائي: وما ذكره المؤلف من الاستحباب شهره ابن عبد السلام، وقول ابن الحاجب: لا فدية على المشهور ظاهره نفي الوجوب والاستحباب تعقبه المؤلف بنقل ابن الجلاب، والرسالة الاستحباب، وبنقل ابن بشير الوجوب. وصوم ثلاثة من كل شهر؛ يعني أنه يستحب صوم ثلاثة أيام من كل شهر غير معينة، لخبر أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي بثلاثة لا أدعهن، بالسواك عند كل صلاة، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام

(1)

)، ولخبر عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعين

(2)

)، وما مر من أن الثالثة السواك لعبد الباقي. قال الرهوني: انظر من ذكر هذا عن أبي هريرة فإني لم أجده بعد البحث عنه، والمحفوظ عن أبي هريرة أن الثالث ركعتا الضحى لا السواك، هكذا في الصحيحين والمنذري، وعزاه للبخاري ومسلم وأبي داوود والترمذي والنسائي وابن خزيمة، قال عبد الباقي:

(1)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1981. ومسلم، كتب صلاة المسافرين، الحديث: 721. وأبو داود، كتاب الصلاة، الحديث:1433. وفيه: ركعتا الضحى بدل السواك.

(2)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1160. بلفظ: لم يكن يبالي.

ص: 69

وكان إمامنا مالك رحمه الله تعالى يصوم أول يوم من الشهر وحادي عشرة وحادي عشريه كما في التتائي، لا أوله وعاشره ويوم عشريه كما في الشارح عن المقدمات، والأول أيضا أنسب لجعل كل حسنة بعشر أمثالها. انتهى.

قوله: لا أوله وعاشره ويوم عشريه كما في الشارح عن المقدمات، مثل ما في الشارح في الحطاب عن المقدمات والذخيرة، والعجب كيف يكون ما في التتائي أرجح مما في المقدمات. قاله محمد بن الحسن. وقوله:"وصوم ثلاثة من كل شهر"، قال الخرشي وغيره: أي زيادة على الخميس والاثنين لأنهما مستحبان مستقلان، وقال الحطاب: وروي أن صيام الغر وهي أول يوم ويوم عشر ويوم عشرين صيام الدهر، وأن ذلك صوم مالك رحمه الله تعالى. انتهى. والذي عليه المعول عن مالك عدم التعيين. انظر الرهوني. وكره كونها البيض؛ يعني أن الإمام مالكا كره أن تجعل الأيام الثلاثة المذكورة في قوله:"وصوم ثلاثة من كل شهر"؛ أيام الليالي البيض، وهي ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر مخافة اعتقاد الجاهل وجوبها، وفرارا من التحديد، وإن كان الحديث بها ثابتا لخبر الترمذي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر

(1)

)، وأما حديث: إن آدم لما أهبط من الجنة سودت الشمس جسده فلما تيب عليه أمره بصيامها فابيض في اليوم الأول ثلثه، وباقيه في تالييه فهو ضعيف إن لم يكن باطلا.

وبما قررت علم أن المصنف حذف المضاف إلى الموصوف، والموصوف لأنه حذف أيام المضافة إلى الليالي الموصوفة، وأقام الصفة مقام ذلك فالبيض صفة للليالي لا للأيام؛ لأن الأيام كلها بيض والذي يصام إنما هو الأيام لا الليالي: وقوله: "وكره كونها البيض"، محل الكراهة إن قصد تعيينها، لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعين

(2)

). انتهى. وأما لو صامها على سبيل الاتفاق فلا كراهة، وما ذكره المصنف من كراهة صومها هو

(1)

الترمذي، كتاب الصيام، الحديث:761. ولفظه: فصم ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر.

(2)

ولفظه:

لم يكن يبالى من أي أيام الشهر يصوم. مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1160.

ص: 70

المشهور من مذهب مالك، ومقابله ما روي عن مالك من صومه لها، وحضه لهارون الرشيد على صيامها، ولم يعمل به أصحاب مالك.

وقال ابن الحاجب: وورد صوم ثلاثة من كل شهر، وروت عائشة: كان لا يعين، وروى أبو الدرداء: الأيام البيض، واستحب القابسي من أول الشهر. قال في التوضيح: ورد ثلاثة أيام مطلقة ومقيدة، فروت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم (كان لا يبالي من أي الشهر صام

(1)

)، وروى أبو الدرداء (الأيام البيض، وهي: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة

(2)

). وروي (أنه كان يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام

(3)

)؛ وهو يشهد للقابسي، واختار بعضهم الأول والحادي عشر والحادي والعشرين. انتهى. كستة من شوال؛ يعني أن الإمام مالكا رضي الله تعالى عنه كره صوم ستة من شوال، قال ابن الحاجب: وكره مالك صيام ستة بعد يوم الفطر وإن ورد للعمل، قال في التوضيح: أشار بقوله: وإن ورد، لما في مسلم (من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر

(4)

)، قال في [الموطإ]

(5)

: لم أرَ أحدا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك من أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء، [لو رأوا]

(6)

في ذلك رخصة عند أهل العلم. انتهى.

وقال في المقدمات: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر، فكره مالك رحمه الله تعالى ذلك مخافة أن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء، وأما الرجل في خاصة نفسه فلا يكره له صيامها. قاله الحطاب. وقال صاحب المدخل: رحم الله تعالى مالكا: لقد وقع ما خافه، جعلوا للفطر منها عيدا سموه عيد الأبرار، ولعمري هو أحق بأن يسمى عيد الفجار. انتهى. قاله الشبراخيتي.

(1)

عن معاذة العدوية أنها سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام قالت نعم فقالت لها من أي أيام الشهر كان يصوم قالت لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. المسلم، كتاب الصيام، الحديث:1160.

(2)

مسلم، رقم الحديث:722.

(3)

النسائي في السنن الكبرى، رقم الحديث:2677.

(4)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1164. ولفظه: ثم أتبعه ستا .. الخ. ولفظ أبي داود، كتاب الصوم، الحديث:2433. ثم أتبعه بست. الخ.

(5)

في الأصل: قال في المطا لم أجد من أهل والفقه من يصومها الخ والمثبت من التوضيح ج 2 ص 459.

(6)

ساقطة من الأصل والمثبت من الموطأ والتوضيح ج 2 ص 159.

ص: 71

وقال في العارضة: وصل الصوم بأوائل شوال مكروه جدا؛ لأن الناس صاروا يقولون نشيع رمضان، وكما لا يتقدم لا يشيع، ومن صام رمضان وستة أيام كمن صام الدهر قطعا، لقوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ؛ يعني من شوال أو من غيره، وما كان من غيره أفضل، ومن أوسطه أفضل من أوله، وهو أبين وأحوط للشريعة وأذهب للبدعة، ورأى ابن المبارك والشافعي أنها من أول شوال ولست أراه، ولو عَلِمْتُ من يصومها من أول الشهر وملكت الأمر أدبته وشردت به لأن أهل الكتاب بمثل هذه الفعلة غيروا دينهم. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: قد مر قول ابن الحاجب: إن الأيام إنما يكره صومها للعمل، وقد مر تصريح الإمام بذلك في الموطإ، وإذا كان الأمر كذلك فيخف تهويل بعض الناس وتعظيمه لشأن ذلك، وقوله: إن المصنف خالف صريح الحديث، وذلك لأنه قد تقرر أن ما عليه عمل أهل المدينة يقدمه الإمام على خبر الآحاد، فقول ابن الحاجب للعمل يكفي حجة للإمام مالك. والله سبحانه أعلم. قوله في الحديث الشريف: فكأنما صام الدهر، المراد عمره. قاله الشبراخيتي.

واعلم أن الإمام مالكا استحب صيام الستة في غير شوال، وإن كان قد ورد الترغيب في ست من شوال خوفا من إلحاقها برمضان عند الجهال، وإنما عينه الشرع من شوال للخفة على المكلف لقربه من الصوم، وإلا فالمقصود حاصل في غيره، فيشرع التأخير جمعا بين المصلحتين.

وفي الحطاب: حمل تعيينها من شوال على التخفيف في حق المكلف لاعتياده الصيام لا تخصيص حكمها بذلك؛ إذ لو صامها في عشر ذي الحجة لكان ذلك أحسن لحصول المقصود مع حيازة فضل الأيام المذكورة والسلامة مما اتقاه مالك. انتهى. وقوله في الحديث الشريف: فكأنما صام الدهر، فإن قيل يشترط في التشبيه المساواة [أو]

(1)

، المقاربة وهنا ليس كذلك والأجر على قدر العمل ولا مداناة بين عشر الشيء وكله، فالجواب أن المعنى: فكأنما صام الدهر لو كان من غير هذه الأمة، أشار له الحطاب، وهذا الأجر مختلف فخمسة أسداسه الناشئة من رمضان أعظم أجرا

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 3 ص 193. ط دار الرضوان.

ص: 72

لكونها ثواب الواجب، وسدسه ثواب النفل، ولم يقل بستة وهو الأصل لوجوب تأنيث المذكر في العدد؛ لأن العرب تغلب الليالي على الأيام لسبقها. قاله الحطاب.

وقال عبد الباقي عند قوله: "كستة من شوال"، لمقتدى به متصلة برمضان متتابعة، وأظهرها معتقدا سنية اتصالها، فإن انتفى قيد من هذه الأربعة لم يكره. انتهى. وقوله: لمقتدى به، قال محمد بن الحسن: انظر التقييد به مع ما في المواق من أنه إنما كره مالك صومها لذي الجهل، وقال المازري: ولعل الحديث لم يبلغ مالكا. انتهى. وقوله، فكأنما صام الدهر، معناه كما تقدمت الإشارة إليه أن الحسنة بعشر أمثالها، فالشهر بعشرة أشهر، والستة بشهرين فكملت السنة، فإذا تكرر ذلك في السنين فكأنما صام الدهر، ونحو هذا يقال في صوم ثلاثة من كل شهر، وقال الأمير: وتخصيص شوال قيل ترخيص للمتمرن على الصوم حتى إنها بعده أفضل لأنها أشق، ولا شك أنها في عشر ذي الحجة أفضل فليتأمل. انتهى.

تنبيه: من مكروهات الصوم: الوصال، والدخول على الأهل، والنظر إليهن، وفضول الكلام والعمل، وإدخال الفم كل رطب له طعم، والإكثار من النوم بالنهار. نقله القاضي عياض، وابن جزي. قاله الحطاب وغيره.

وقال الخرشي: ويكره للضيف أن يصوم إلا بإذن رب المنزل، وقال الأمير عاطفا على مكروهات الصوم: وشم روائح. وذوق ملح؛ يعني أنه يكره للصائم أن يذوق ملحا ثم يمجه أي يرميه من فيه قبل وصوله أو ريقه لحلقه، فيكره له أن يذوق الملح في طعام مثلا لينظر هل اعتدل أم لا، ثم يمجه ولو لصانع يحتاج لذوقه لما فيه من التغرير، ونبه رحمه الله تعالى على ذلك؛ لأن ذوق الملح يحتاج إليه صانع الطعام غالبا، فربما يتوهم جوازه. قاله الشيخ إبراهيم. وكره أيضا ذوق خل وعسل ونحوهما. قاله عبد الباقي وغيره.

والذوق مصدر ذاقه، الجوهري: ذوق الطعام اختبار طيبه، يقال: ذاقه ذوقا وذواقا ومذاقا ومذاقة وأذقته أنا. وعلك، بكسر العين وسكون اللام كما في الرهوني والقسطلاني؛ يعني أنه يكره للصائم مضغ العلك والمراد به هنا كل ما يعلك أي يمضغ من تمر وغيره، ليطعمه صبيا مثلا ثم يمجه أي يرميه من فيه قبل وصوله للحلق، وليس المراد به خصوص الصمغ.

ص: 73

وبما قررت علم أن قوله ثم يمجه، راجع لمسألتي الملح والعلك وأن العامل في قوله:"علك"، مضغ لا ذوق لعدم صحة تسلطه عليه، إلا أن يقال إن معنى ذوق: تناول، فيصح تسلطه عليه حينئذ، وقوله:"ثم يمجه" وجوبا فيما يظهر، وعليه فإن أمسكه في فيه ولم يبتلع منه شيئا حتى دخل وقت الغروب، هل يأثم لأنه مظنة وصول شيء منه إلى حلقه أم لا؟ قاله عبد الباقي. وفهم منه أن صومه صحيح؛ وهو ظاهر. قاله جامعه عفا الله تعالى عنه.

وقال في المدونة: ويكره له ذوق الملح والطعام ومضغه وإن لم يدخل إلى جوفه ومضغ العلك. أبو الحسن: ليداوي به شيئا؛ يدل عليه مقارنته مع ما قبله ويعني أيضا إذا مضغه مرة، وأما لو مضغه مرارا ويبتلع ريقه فلا شك أنه يفطر؛ لأنه يبتلع بعض أجزائه. قاله الحطاب.

وقال بعد جلب كلام: حاصله أنه إذا ابتلع ريقه فإنه يفطر -والله أعلم- وقال ابن نافع عن مالد: وأكره للصائم مضغ الطعام للصبي ولحس المداد، فإن دخل جوفه منه شيء فليقض، ومن صام من الصبيان فليجتنب ذلك كله، ولا يذوق الصائم الملح والعسل وإن لم يدخل جوفه، قال عبد الملك: وإن وصل شيء منه إلى جوفه من غير تعمد فليقض، وإن تعمد فليكفر، قال أشهب: وأكره لحس الداد ومضغ العلك وذوق القدر والعسل في الفرض والنافلة.

ومن كتاب ابن حبيب: ويكره له ذوق الخل والعسل، ومضغ اللبان والعلك، ولمس العقب ولحس المداد، والمضغ للصبي، فإن فعل شيئا من ذلك ثم مجه فلا شيء عليه، فإن جاز شيء منه إلى حلقه ساهيا فليقض، وإن تعمد فليكفر ويقض، وكل ما يلزم فيه الكفارة في رمضان من هذا أو من غيرد ففيه في التطوع القضاء، وكل ما ليس فيه إلا القضاء في رمضان فليس فيه في التطوع قضاء، وأما في قضاء رمضان وكل صوم واجب ففيه القضاء في هذين الوجهين. وقوله: ولمس العقب، هو مثل قوله في المدونة: بعد ما تقدم أو يلمس الأوتار (بفيه أو يمضغها قال في الصحاح والعقب بالتحريك العصب الذي يعمل منه

(1)

) الأوتار، الواحدة عقبة، تقول منه عقبت السهم والقدح والقوس إذا لويت شيئا منه عليه. انتهى. وقال بعضهم: والفرق بين العقب والعصب أن العصب يضرب إلى الصفرة

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 3 ص 194 ط دار الرضوان.

ص: 74

والعقب يضرب إلى البياض. انتهى كلام الحطاب. ومداواة حفر زمنه؛ يعني أنه يكره للصائم مداواة الحفر زمن الصوم؛ وهو النهار، وأما في الليل فلا تكره مداواته كما في الشارح.

وقوله: "ومداواة حفر زمنه"، فإن داوى الحفر زمن الصوم فلا شيء عليه إن سلم منه، فإن ابتلع منه شيئا غلبة قضى وعمدا كفر. قاله عبد الباقي. والحفر بسكون الفاء وفتحها: تزلع في أصول الأسنان، يقال: حفرت أسنانه إذا فسدت أصولها. ابن عرفة: وفيها كراهة مداواة الحفر فيه، وفي الذخيرة: كره في الكتاب ذوق الأطعمة ووضع الدواء في الفم للحفر أو عقبٍ أو غيره، قال سند: فإن وجد طعمه في حلقه ولم يتيقن الازدرادَ فظاهر المذهب إفطاره، خلافا للشافعية، وقاسوا الطعم على الرائحة، والفرق أن الرائحة لا تستصحب من الجسم شيئا، بخلاف الطعم. إلا لخوف ضرر؛ يعني أن محل كراهة مداواة الحفر في نهار الصوم إنما هو حيث لم يخف بتأخير المداواة إلى الليل ضررا، وأما إن خاف بذلك ضررا وهو حدوث مرض أو زيادته ومنه التألم به وإن لم يحدث له غيره فلا تكره المداواة، بل تجب إن خاف هلاكا أو شديد أذى وإلا جاز، ومثل الحفر غيره. كما قاله عبد الباقي.

وقد مر أن مداواة الحفر ليلا جائزة، فإن داواه ليلا ووصل شيء منه إلى حلقه نهارا فالظاهر أنه يقضي، وليس كهبوط الكحل المستعمل بالليل نهارا؛ لأنه ليس فيه وصول شيء إلى الجوف، بخلاف دواء الحفر. قاله عبد الباقي. وقوله:"إلا لخوف ضرر"، فإن سلم منه فلا شيء عليه، وفي الغلبة القضاء، وفي العمد الكفارة كما تقدم في المكروه. قاله الحطاب. ويكره للنساء غزل الكتان في الصوم إذا كن يرقنه

(1)

بأفواههن ما لم تضطر المرأة لذلك، فلا كراهة هذا إذا كان دميثا

(2)

له طعم يتحلل، فإن كان مصريا جاز مطلقا احتاجت أم لا، وأفتى ابن قداح أن غزالة الكتان إذا وجدت طعم ملوحة الكتان في حلقها بطل صومها. قاله الشبراخيتي. وفيه ما يخالف فتوى ابن قداح؛ وهو أن من ابتلع خيطا من حرير أو كتان فعليه القضاء إن لم تكن صنعته، فإن كانت فهو كغبار الطريق لصانعه. انتهى.

(1)

انظر البرزلي ج 1 ص 532. (يريقنه)

(2)

البرزلي ج 1 ص 532. (دمينا)

ص: 75

ومما يكره أيضا حصاد الزرع إذا كان يؤدي إلى الفطر ما لم يضطر الحصاد إلى ذلك، وأما رب الزرع فله الخروج للوقوف عليه وإن أدى إلى الفطر؛ لأن رب المال مضطر لحفظه كما في المواق عن البرزلي. قاله محمد بن الحسن.

وقال ابن عبد الصادق: وسئل السنهوري عن صاحب الزرع والحصاد يحصل له العطش في نهار رمضان، هل يباح له الفطر أم لا؟ فأجاب: أما صاحب الزرع فيجوز له الفطر بلا إشكال، وأما الخدامة فالمحتاج منهم للحصاد يجوز له الفطر، وأما غير المحتاج فيكره له ذلك لكن لا يبيت أحد منهم على الفطر بل يبيتون على الصوم، فإن حصل لأحد منهم عطش أبيح له الفطر، ويقضي زمن الاستطاعة. انتهى. ونذر يوم مكرر؛ يعني أن من المكروه نذر صوم يوم مكرر؛ كأن ينذر صوم كل يوم خميس. ابن وهب عن مالك: وإنه لعظيم أن يجعل على نفسه شيئا كالفرض، ولكنه يصوم إذا شاء ويفطر إذا شاء وإنما كره الكرر لأنه قد يأتي به على كسل، فيكون لغير الطاعة أقرب، وأيضا التكرر مظنة الترك، وقوله:"ونذر يوم مكرر"؛ أي وكذا غيره من كل مكرر كأسبوع أو شهر أو عام، فهو اقتصار على أقل قليل، فكلما كثر المكرر كان أولى بالكراهة، وأما يوم أو أسبوع أو عام معين فلا كراهة في شيء من ذلك. قاله الخرشي.

ولا خصوصية للصوم بهذا الحكم لأن التعليل يجري في كل ما يلتزمه الشخص من صلاة أو صدقة أو حج. قاله الخرشي. ومقدمة جماع؛ يعني أنه يكره للصائم أن يفعل شيئا من مقدمة الجماع، ومثل لمقدمة الجماع بقوله: كقبلة وفكر؛ يعني أن القبلة للذة مكروهة لا إن كانت لوداع أو رحمة، وكذا يكره الفكر والنظر إذا كانا مستدامين، ولا يكرهان إذا لم يكونا مستدامين حيث علمت السلامة من مني ومذي وإنعاظ، خلاف ظاهر المصنف كما لأبي علي، ولا فرق في ذلك بين الشاب والشيخ، ولا بين الفرض والنفل، ولا بين الرجل والمرأة. ابن القاسم: شدد مالك في القبلة في الفرض والنفل، ولمس اليد أيسر منها، وهي أيسر من المباشرة، والمباشرة أيسر من العبث بالفرج على كل شيء من الجسد، وما ذكره المصنف من الكراهة حيث علمت السلامة هو الموافق لما شهره في التوضيح، وقال اللخمي مباحة في هذه الحالة، وتعقب به الشارح كلام المصنف هنا.

ص: 76

وقوله: "كقبلة وفكر"، إنما جمع المصنف بين المثالين؛ لأنه لو اقتصر على القبلة وهي من الأعلى، لتوهم أن الأدنى وهو الفكر جائز، ولو اقتصر على الفكر لتوهم أن الأعلى حرام مطلقا. إن علمت السلامة؛ يعني أن محل الكراهة في مقدمة الجماع للصائم إنما هو حيث علمت السلامة من مني ومذي وإنعاظ، وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإن لا تعلم السلامة مما ذكر، بل تحقق عدمها أو شك في ذلك. حرمت، القدمة.

وقد قدمت أن معنى قول المصنف: "إن علمت السلامة"، من مني ومذي وإنعاظ، وقال الحطاب: ومعنى قوله: "إن علمت السلامة"، قال في التوضيح: يعني من المني، والمذي وقال الشيخ زروق في شرح الإرشاد في قوله: والقبلة والملاعبة: وما ذكره من كراهة القبلة وما في معناها هو المشهور إن علمت السلامة من المني والمذي والإنعاظ، وإن علم نفيها أو اختلف حاله حرمت، وكذا إن شك على الأرجح من قولين حكاهما ابن بشير بالكراهة والتحريم، ولا قضاء في مجردها فإن أنعظ أو أمذى قضى على المشهور، وإن أمنى قضى وكفر على المشهور. انتهى.

وما ذكره في الفكر هو الذي ارتضاه في توضيحه آخرا، فإنه قال في قول ابن الحاجب: والمبادي كالفكر والنظر والقبلة والمباشرة والملاعبة إن علمت السلامة لم تحرم وإن علم نفيها حرمت: وإن شك فالظاهر التحريم، وقال: لم يذكر اللخمي وابن بشير التفصيل الذي ذكره المصنف إلا في الملاعبة والمباشرة والقبلة، وأما النظر والفكر فنص ابن بشير على أنهما إذا لم يستداما لم يحرما اتفاقا.

واعلم أن كراهة مقدمة الجماع للصائم تتفاوت في الأشدية، فأخفها الفكر، وأشد منه لمس اليد، وأشد منه القبلة، وأشد منها المباشرة، وأشد من المباشرة الملاعبة بالفرج على شيء من الجسد. انظر الحطاب.

وقال محمد بن الحسن: قال ابن رشد: تحصيل القول في هذه المسألة أنه إن نظر وتذكر قاصدا إلى التلذذ بذلك، أو لمس أو قبل أو باشر فسلم فلا شيء عليه، وإن أنعظ ولم يمذ ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أن عليه القضاء وهي رواية ابن القاسم، والثاني أنه لا شيء عليه وهي رواية أشهب، والثالث الفرق بين المباشرة فيقضي وما دونها فلا قضاء؛ وهو قول ابن القاسم الذي أنكره

ص: 77

سحنون، وإن أمذى فعليه القضاء إلا أن يحصل عن نظر أو تذكر من غير قصد متابعة، ففيه قولان أظهرهما أنه لا قضاء عليه، وإن أنزل فثلاثة أقوال، قال مالك في المدونة إن عليه القضاء والكفارة مطلقا، وأصح الأقوال قول أشهب: لا كفارة عليه إلا أن يتابع حتى ينزل، والثالث الفرق بين اللمس والقبلة والمباشرة فيكفر مطلقا، وبين النظر والتذكر لا كفارة عليه فيهما إلا أن يتابع ذلك حتى ينزل، وهذا القول هو ظاهر ابن القاسم في المدونة. انتهى باختصار. انتهى كلام محمد بن الحسن. وقال الشبراخيتي: وأما الإنعاظ، فقال الناصر اللقاني: فيه القضاء على قول ابن القاسم في المدونة: ورواية ابن وهب وأشهب فيها عن مالك سقوط القضاء، وقاعدة الشيوخ أن قول مالك في المدونة مقدم على قول ابن القاسم فيها، فَإن قُلْتَ: القول بأن الإنعاظ من المفطرات رواية ابن القاسم لا قوله كما سيأتي للتتائي ونحوه في الحطاب، فَالْجَوابُ أنه في المدونة من قوله وفي غيرها من روايته، ومعلوم أن رواية غيره في المدونة مقدمة على قوله فيها، وعلى روايته في غيرها. انتهى. فالشبراخيتي جعل المشهور في الإنعاظ عدم لزوم القضاء، وقد مر قريبا عن الحطاب عن الشيخ زروق أن المشهور في الإنعاظ لزوم القضاء. والله سبحانه أعلم. وحجامة مريض من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ يعني أن المريض إذا كان صائما فإنه تكره له الحجامة، والمراد بالمريض من يحس من نفسه بالضعف أو لا يعلم ما يحصل له، وإن كان صحيحا في نفسه فتكره له الحجامة مخافة أن يحصل له تغرير، فإن علم عدم السلامة حرمت. واحترز بقوله: فقط عن الصحيح وهو القوي الذي يعلم من نفسه السلامة فلا تكره له الحجامة.

والحاصل أن من علم من نفسه السلامة فلا تكره له الحجامة وهو الصحيح، ومن لم يعلم من نفسه السلامة وهو المراد بالمريض -وإن كان صحيحا في نفسه- تكره له مع الشك، وتحرم مع تحقق عدم السلامة، وبهذا الحمل يوافق المصنف ظاهر المدونة والرسالة، وهو الذي يدل عليه نقل التوضيح، وإذا تقرر أن من لم يعلم من نفسه السلامة لا يحتجم فإنما ذلك إذا لم يكن تأخير الحجامة يضربه، وإلا وجب عليه فعل ذلك، وإن أدى إلى الفطر. والله أعلم.

واعلم أنه إن احتجم أحد على تغرير ثم احتاج إلى الفطر فلا كفارة عليه؛ لأنه لم يتعمد الفطر. قاله الحطاب. وقوله: "وحجامة مريض"، مثل الحجامة الفصادة، وأما خبر: (أفطر الحاجم

ص: 78

والمحتجم

(1)

)، فمنسوخ بخبر أنس: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم بعد أن كان ينهى عنها

(2)

)، وبخبر ابن عباس: (أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وهو صائم وأرخص لجعفر في الحجامة وهو صائم

(3)

)، وبخبر: (ثلاثة لا يفطرن الصائم الحجامة والقيء والحلم

(4)

)، أو أنه صلى الله عليه وسلم علم بفطرهما بأكل أو شرب، أو عرضا أنفسهما للفطر الحاجم بمص الدم والمحتجم بطرو ضعف عليه، أو أطلق الفطر على نقص الأجر. قاله الخرشي. أو محمول على الحاجم الذي وجد طعم الدم في حلقه، والمحجوم الذي قد أغمي عليه بسبب ذلك أكثر النهار. قاله الشبراخيتي.

وقال ابن الهندي: يكره للصائم قلع الضروس، فإن فعل ولم يصل إلى حلقه دم فلا شيء عليه، وفي الجواهر: ولو ابتلع دما خرج من أسنانه أفطر إن كان قادرا على طرح ذلك، وقيل: لا يفطر، وإن كان مغلوبا لم يفطر، ويكره للصائم غمس رأسه في الماء. قاله الخرشي. وتطوع قبل نذر؛ يعني أنه يكره تطوع بصوم لمن عليه نذر من صيام، وكذا يكره تطوع بصلاة لمن عليه نذر من صلاة، وقوله:"وتطوع قبل نذر"، هذا في النذر المضمون، وأما النذر المعين فإن لم يجيء زمنه فلا كراهة في التطوع قبله، فإن جاء زمنه لم يجز له التطوع، فإن فعل أثم ولزمه القضاء. قاله الحطاب.

أو قضاء؛ أي وكذا يكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع قبله بصوم، وأما من عليه قضاء شيء من الصلوات فيحرم عليه التطوع بالصلاة لعدم الفورية في قضاء رمضان دون الصلوات الخمس.

تنبيهات: الأول: قال الإمام الحطاب: والظاهر أن كل صوم واجب في معنى النذر كما يفهم من كلام اللخمي، ومن كلام صاحب الطراز، وقوله:"وتطوع قبل نذر"، فإن تطوع قبل النذر صح صومه، وفي المجموعة: يتم تطوعه ثم يقضي ما عليه، وقد أخطأ في تطوعه قبله.

الثَّانِي: اختلف في المتأكد من نافلة الصوم كعاشوراء، هل المستحب أن يقضي فيه رمضان، ويكره أن يصومه تطوعا وهو قول مالك في العتبية؟ أو المستحب أن يصومه تطوعا وهو قوله في سماع ابن

(1)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1937. ولفظه: أفطر الحاجم والمحجوم.

(2)

ينظر فتح الباري، ج 4 ص 173.

(3)

الترمذي، رقم الحديث:757.

(4)

الدارقطني، ج 2 ص 183.

ص: 79

وهب؟ أو هو مخير؟ ثلاثة أقوال حكاها صاحب البيان، وأما ما دون ذلك من تطوع الصيام فالمنصوص كراهة فعله قبل القضاء. قاله الحطاب. وقال عن ابن رشد: وهذا كله على القول بأن قضاء رمضان على التراخي، وأما على القول بأنه على الفور وهو ظاهر المدونة في كتاب الصيام فلا يجوز لد أن يصوم يوم عاشوراء إذا كان عليه قضاء رمضان، قال: فيأتي في المسألة أربعة أقوال. انتهى. قوله: وأما على القول بأنه على الفور، وهو خلاف ما لابن الحاجب، فإنه قال: ولا يجب قضاء رمضان على الفور اتفاقا.

الثالث: قال في المدونة: وجائز أن يقضي رمضان في العشر الأول من ذي الحجة. انتهى. قال أبو الحسن. استحب عمر رضي الله تعالى عنه أن يقضى رمضان في عشر ذي الحجة، انتهى. وقاله ابن القاسم وسالم، قال: ويقضي في يوم عاشوراء، قال ابن يونس: إنما استحبوا ذلك لفضلها، فإذا لم يكن التطوع قضى فيها الواجب. قاله الحطاب. وفي شرح عبد الباقي: الأظهر حصول ثواب التطوع إن نواه مع نية القضاء، قياسا على غسل الجمعة مع الجنابة لا إن لم ينوه، وفي حاشية الأمير: أن من قال نويت صوم يوم عرفة غدا تطوعا وقضاء عن رمضان، لم يجز عن القضاء. كذا يظهر. انتهى. وفي المواق أن من عليه قضاء رمضانين بدأ بأولهما، ويجزئ العكس. والله أعلم. قاله محمد بن الحسن. ونقله الحطاب وغيره عن النوادر.

وقد مر أن التطوع بالصوم لا يجوز عند مجيء زمن النذر العين للصوم، وأنه إن فعل أثم ولزمه القضاء، وانظر هل تطوعه صحيح أم لا؟ قاله غير واحد. وقال الشبراخيتي: ولو قال المصنف: وتطوع قبل فرض، لكان أخصر وأشمل.

ومن لا تمكنه رؤية ولا غيرها كأسير كمل الشهور؛ يعني أن الذي لا تمكنه رؤية الهلال أول الشهر، ولا أن يسأل أحدا عنه كأسير ومحبوس ونحوهما، وهو يعرف الشهر الذي هو فيه؛ فإنه يكمل الشهور فيصوم رمضان على أن الشهور كلها كاملة، كما تقدم في مسألة ما إذا توالى الغيم شهورا متعددة، ثم يعمل بعد ذلك على ما يظهر له من نقص أو كمال، واحترز بقوله:"لا تمكنه رؤية ولا غيرها"، من الذي يمكنه ذلك، فإنه كغيره من المُطْلَقِينَ، فيعمل على ما ثبت عنده اتفاقا. قاله الخرشي.

ص: 80

وقد مر أنه لا ينظر إلى توالي أربعة من الشهور كاملة ولا غير ذلك مما يقوله أهل الحساب. والله سبحانه أعلم. وإن التبست وظن شهرا صامه؛ يعني أن ما تقدم فيمن عرف رمضان من غيره ولم تلتبس عليه الشهور وإنما التبست عليه الأهلة، وأما إن التبست عليه الشهور فلم يعرف رمضان من غيره عرف الأهلة أم لا، فإنه لا يخلو إما أن يظن شهرا رمضان أولا، فإن ظن شهرا رمضان بأن ترجح عنده أنه هو رمضان، فإنه يصوم ذلك الشهر الذي ظن أنه رمضان.

وعلم مما قررت أن المراد بالالتباس عدم اليقين الشامل للظن، كما يفيد ذلك. قوله:"وظن شهرا"، ويعمل مع التباس الأهلة ما تقدم من تكميله للشهور ولا ينظر إلى قول المنجمين، وأما مع عدم التباس الأهلة فالأمر ظاهر. وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإن لا يظن شهرا رمضان بأن استوت عنده الاحتمالات، تخير شهرا ويصومه، فلو شك في شهر قبل صومه، هل هو رمضان أو شعبان، وقطع فيما عداهما أنه غير رمضان صام شهرين، وكذا لو شك هل هو شعبان أو رمضان أو شوال، فإنه يصوم شهرين أيضا، ولو شك هل هو رمضان أو شوال صام شهرا واحدا؛ لأنه إذا كان رمضان فلا إشكال، وإن كان شوالا كان قضاء، ولو شك هل هو رجب أو شعبان أو رمضان صام ثلاثة أشهر، وليس له أن يؤخر صوم الشهر الأخير في هذه المسائل، بل يجب عليه صوم ما ذكر؛ لأن في التأخير ترك صوم ما يحتمل أن يكون رمضان، ولكن لا كفارة عليه إن أخر لعدم ظنه، وأما في مسألة قوله:"وظن شهرا صامه"، فقال عبد الباقي فيها: وينبغي أن يكون مثل رمضان المحقق في أنه تكفي فيه نية واحدة، وفي الكفارة عند تعمد إفطاره بخلاف من تخير شهرا وصامه. قاله الوالد. وسيأتي -عند قوله: "في رمضان فقظ: عن البرزلي ما يفيده. انتهى.

وقال الحطاب عند قوله: "وإلا تخير"، هذا هو القول الذي صدر به في الشامل، وفرع عليه ابن الحاجب، ومقابله يصوم السنة كلها، ثم إذا فرعنا على القول بأنه إنما يصوم شهرا واحدا، فلو شك في الشهر الذي هو فيه، هل هو رمضان أو شوال صام الذي هو فيه لا أكثر، فإن كان رمضان فقد صامه، وإن كان شوالا كان قضاء، فإن ساوى عدده ما قبله قضى يوما، وإن كان شهره أقل

ص: 81

قضى يومين، وإلا فلا قضاء، وإن شك هل هو شعبان أو رمضان أو شوال صام الذي هو فيه والذي يليه، انتهى.

وقال الأمير: وأما إن شك أرجب أو شعبان أم رمضان فثلاثة وإنما التخيير إذا استوت الشهور كلها. انتهى. قال في الحاشية: والظاهر أن ما زاد على أربعة له حكم الكل على قاعدة تحديد اليسير بالكل في غير هذا المحل. انتهى. وأشار لا إذا زال الالتباس، وأن له أي الالتباس أحوالا أربعة، بقوله: وأجزأ ما بعده، هذا هو أحد الأحوال الأربعة؛ يعني أنه إذا تبين في مسألتي الظن والتخيير أن الشهر الذي صامه بعد رمضان، فإنه يجزئه ويكون قضاء عن رمضان اتفاقا، ولا تضره نية الأداء لأنها تنوب عن نية القضاء. بالعدد؛ يعني أنه إذا صام شهرا متأخرا عن رمضان في المسألتين، فإنه يعتبر في الإجزاء مساواته لرمضان في العدد، فلو صام شوالا وهما كاملان قضى يوما واحدا، وكذا لو كان كل منهما تسعة وعشرين، وإن كان الكامل رمضان فيومين، ولو كان شوال كاملا ورمضان تسعة وعشرين فلا قضاء، ولو تبين أنه صام ذا الحجة لم يعتد بأيام النحر الثلاثة، وأتى هنا بقوله:"بالعدد"، مع قوله الآتي:"والقضاء بالعدد"، ليلا يتوهم أن لهذا حكما غير ما يأتي، فيجزئ ما تعين، ولو ناقصا لعذره وعدم تعمده. لا قبله. هذا هو الثاني من الأحوال الأربعة؛ يعني أنه إذا تبين أن الذي صامه قبل رمضان فإنه لا يجزئه في مسألتي الظن والتخيير اتفاقا في السنة الواحدة، وعلى الشهور فيما زاد عليها فلا يجزئ شعبان الثانية عن رمضان الأولى، ولا شعبان الثالثة عن رمضان الثانية، وهكذا خلافا لعبد الملك، قال ابن عبد السلام: وأجراهما بعضهم على الخلاف في طلب تعيين الإمام في الصلاة، والمذهب أنه لا يشترط التعيين فتجوز الصلاة خلف من لا تعرف عينه، وقوله:"لا قبله"، العطوف محذوف؛ أي لا ما قبله وقبله صفة أو صلة. قاله الشبراخيتي. وقال بناني عن ابن عبد السلام: والأقرب عدم الإجزاء. قياسا على من بقي أياما يصلي الظهر مثلا قبل الزوال، وقد يفرق بأن أمارات أوقات الصلاة أظهر من أمارات رمضان، وفرض الصلاة متسع الوقت، فالمخطئ مفرط، ووجه المشهور الذي هو عدم الإجزاء اختلاف النية في ذلك؛ لأن شعبان الثاني لم ينوه لرمضان الأول، وفي البيان أن الصحيح عدم الإجزاء. ابن أبي زمنين: وهو الصواب عند أكل النظر. ابن راشد: هو

ص: 82

المشهور. أو بقي على شكه، هذا هو الحال الثالث من الأحوال الأربعة؛ يعني أن من التبست عليه الشهور إذا صام شهرا ظنه رمضان، أو استوت عنده الاحتمالات وتخير شهرا وصامه، ثم إنه لم يتحقق بعد ذلك شيئا بل بقي على ما كان عليه من عدم الجزم، فإن ذلك لا يجزئه في مسألتي الظن والتخيير عند ابن القاسم، ويجزئه عند ابن الماجشون وأشهب وسحنون، فقوله:"أو بقي على شكه"، عطف على قوله:"لا قبله"، ولو أراد المصنف مذهب ابن الماجشون وأشهب وسحنون قدم قوله:"أو بقي على شكه، على قوله: "لا قبله"، كأن يقول: وأجزأه ما بعده كبقائه على شكه" قاله الشبراخيتي. وما مر من أن قوله: "أو بقي على شكه"، عام في الظن والتخيير هو للخرشي وعبد الباقي.

قال محمد بن الحسن: وفيه نظر، والظاهر أنه في صورة التخيير فقط كما يدل عليه كلام المصنف، وقوله:"أو بقي على شكه"، قد علمت أنه قول ابن القاسم، وأن أشهب قائل بالإجزاء، ووافقه سحنون وابن الماجشون. ابنُ يونس: وقول أشهب أصوب لأنه صار فرضه الاجتهاد، وقد اجتهد وصام، وليس عند اللخمي في هذا والذي بعده إلا الإجزاء، ونصه: وإن علم أنه صام رمضان أو بعده مضى صومه، وإن لم يتبين له شيء ولا حدث له أمر يشككه سوى ما كان عليه أجزأه صومه، وإن شك هل كان رمضان أو بعده؟ أجزأ، وإن شك هل كان رمضان أو قبله؟ قضاه. انتهى. بلفظه. انتهى كلام بناني. وقول اللخمي: وإن شك؛ أي حدث له شك؛ وهو محترز قوله: ولا طرأ له شك، كما في الخرشي.

فرع: قال الحطاب: قال اللخمي: وإن صام الأسير شهرا تطوعا ثم تبين أنه رمضان لم يجز عند ابن القاسم، ويجري فيه قول آخر أنه يجزئه قياسا على قوله فيمن صام رمضان عن عام فرط فيه: إنه يجزئه عن العام الذي هو فيه ولا يضره ما نوى لأنه مستحق العين: انتهى. ورده ابن عرفة بأن نية قضاء الواجب أقرب لأدائه من نية تطوعه. انتهى. والأول مذهب المدونة، وسمع عيسى ابن القاسم: من كان في أرض العدو فغمي

(1)

عليه رمضان، وكان عليه صيام شهر نذره وهو لا يراه رمضان، ثم تبين له أنه رمضان لا يجزئه لرمضان ولا لنذره. ابن رشد: أما رمضان فلأنه

(1)

في الحطاب ج 3 ص 196: فعمي.

ص: 83

لم ينوه: وأما نذرد فيدخله الخلاف من مسألة من صام رمضان قضاء عن غيره. انتهى. وقوله: "أو بقي على شكه"، هو الموافق للقاعدة التي ذكرها ابن يونس، وسيأتي عند قول المصنف:"أو طرأ له الشك"، قال ابن يونس معللا للمدونة في قولها: ومن أكل في رمضان ثم شك أن يكون أكل قبل الفجر أو بعده فعليه القضاء. انتهى: إذ لا يرتفع فرض بغير يقين. انتهى. نقله في التوضيح. وقول ابن يونس: إذ لا يرتفع فرض بغير يقين، يفيد أن من توهم أنه أفطر في صومه الفرض، فإنه لا يكتفي بصومه ذلك لأنه لم يتيقن براءة الذمة، والذمة لا تبرأ إلا بيقين. والله سبحانه أعلم. وأشار إلى القسم المتمم للأحوال الأربعة، بقوله وفي مصادفته تردد؛ يعني أنه إذا التبست عليه الشهور وصام شهرا، ثم تبين له بعد ذلك أن الذي صامه هو رمضان، فإنه وقع التردد في إجزاء ذلك له وعدمه، وهو تردد في النقل عن ابن القاسم لابن رشد، وابن أبي زيد، ففي البيان: فإن علم أنه صادفه بتحريه لم يجزه على مذهب ابنِ القاسمِ ويجزئه على مذهب أشهب وسحنون، ونقل في النوادر الإجزاء عن ابن القاسم، وكذلك صدر صاحب الإشراف به. قاله في التوضيح. وفي المواق عن ابن عرفة: لم أجد ما ذكره ابن رشد عن ابن القاسم، وأخذُه من سماع عيسى بعيدٌ، قال: وما ذكر اللخمي إلا الإجزاء خاصة، وساقه كأنه المذهب ولم يعزه. قاله محمد بن الحسن.

وقال: قال الحطاب: وجزم به في الطراز، وعزا مقابله للحسن بن صالح ورده، وقال إنه فاسد. انتهى. فلو اقتصر المصنف على الإجزاء كان أولى. انتهى.

وبما قررت علم أن قوله: "وفي مصادفته تردد"، جار في مسألتي الظن والتخيير كما هو ظاهر التوضيح والواق وابن عرفة وابن الحاجب، وهو الذي قرر به أحمد. قاله محمد بن الحسن.

وتحصل مما مر أن المعتمد الإجزاء في ثلاثة من الأحوال الأربعة، وهي: المصادفة، وكونه صام ما بعدد، وكونه باقيا على شكه، ولهذا قال الأمير بالإجزاء ما لم يتبين قبله، وفيه: ولو شك أشعبان أم رمضان صام شهرين، وكذا إن زاد في الشك أشوال، وأما إن شك أرجب أم شعبان أم مضان فثلاثة، ولو شك أرمضان أم شوال صامه فقط، وإنما التخيير إذا استوت الشهور كلها

ص: 84

فبالجملة الشك في رمضان وما بعده يكفيه شهر ويزيد على ما قبله شهرا، فإنه يصادف رمضان أو قضاءه -فتدبر- ولابد أن يجزم النية عند كل شهر كما سبق في الفوائت. انتهى كلام الأمير.

وأشار إلى شروط الصوم بقوله: وصحته مطلقا بنية؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم مطلقا -أي فرضا أو غيره، معينا أو غيره، أداء أو قضاء- أن يكون بنية، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى

(1)

)، ولا يقال: الصوم ليس بعَمَلٍ فلا يتناوله الحديث، وإنما هو كف؛ لأنا نقول: الكف عمل، ولقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي فأنا أجزي به

(2)

)، وقول الطحاوي: والاستثناء منقطع بعيد. قاله في التوضيح.

وقد مر أن الصوم هو نفس النية، فلهذا قال: فإنه لي. والله سبحانه أعلم. مبيَّتةٍ؛ يعني أنه يشترط في صحة الصيام أيضا أن تكون النية مبيتة من الليل. لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل

(3)

). رواه أصحاب السنن الأربعة. قاله الحطاب.

ومعنى تبييت النية أن توقع النية في جزء من الليل. قاله غير واحد. أو مع الفجر؛ يعني أنه لا بد في صحة الصوم من أن تكون النية مبيتة أي حاصلة في الليل؛ أي غير مقارنة للفجر أو مقارنة للفجر، بأن تكون واقعة في قدر لحظة قبل الفجر، كما حرره الأجهوري، لقول الله عز وجل:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، وذلك لأن الأصل في النية أن تكون مقارنة لأول العبادة، وإنما جوز الشرع تقديمها لمشقة تحرير الاقتران، وحكى في البيان قولا بأنه لا يصح إيقاعها مع الفجر. قاله الحطاب. وقال في فرض العين: وصفتها أن تكون مبيتة للصوم، سواء كان واجبا أو تطوعا أو نذرا أو كفارة، وأن تكون مبيتة من الليل أو مقارنة للفجر، وأن تكون جازمة من غير تردد، وينوي أداء فرض رمضان. انتهى.

(1)

البخارى، كتاب بدء الوحي، الحديث:1.

(2)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1904. مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1151.

(3)

الترمذي، رقم الحديث:730. أبو داود، رقم الحديث: 2454. ولفظهما: من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له. ابن ماجه، رقم الحديث:1700. ولفظه: لا صيام لمن لم يفرضه من الليل. النسائي، رقم الحديث:2331. ولفظه: من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له.

ص: 85

قال ابن جزي: وأما الجزم فيتحرز به من التردد، فمن نوى ليلة الشك صيام غد إن كان من رمضان لم يجزه لعدم جزم النية، ولا يضر التردد بعد حصول الظن بشهادة أو باستصحاب كآخر رمضان: أو باجتهاد كالأسير. انتهى. وقد مر عند قوله: "وإن التبست" الخ، أنه لا بد من الجزم بالنية في ذلك، وفي النوادر عن المختصر، قال مالك: والتبييت أن يطلع الفجر وهو عازم على الصيام، وله قبل الفجر أن يترك ويعزم، فإذا طلع الفجر فهو على آخر ما عزم عليه من فطر أو صيام، ابن حبيب: ومن نوى أن يصبح صائما فهو بالخيار، إن شاء تمادى، وإن شاء ترك ما لم يطلع الفجر. قاله الحطاب.

تنبيهات: الأول: أول وقت النية في الصوم الغروب، ولا يضره ما حدث بعدها من أكل أو شرب أو جماع أو نوم، بخلاف الإغماء والجنون فيبطلان النية السابقة عليهما مطلقا، استمرا إلى طلوع الفجر أم لا، قاله محمد بن الحسن رادا على عبد الباقي في قوله: ولا يضره ما حدث بعدها من أكل أو شرب أو جملا أو نوم، بخلاف الإغماء والجنون فيبطلان النية السابقة عليهما إن استمرا لطلوع الفجر، وإلا لم يضرا. انتهى. قال محمد بن الحسن رادا عليه: بل الإغماء والجنون يبطلان النية السابقة عليهما مطلقا، لكن إن لم يستمرا للفجر أعيدت قبله وإلا لم يصح ذلك. انتهى، وفي حاشية الأمير تقوية ما لعبد الباقي. والله سبحانه أعلم.

الثاني: علم مما مر أن النية لا تكفي نهارا. ابن بشير: لا خلاف عندنا أن الصوم لا يجزئ إلا إن تقدمت النية على سائر أجزانه، فإن طلع الفجر ولم ينوه لم يجزه في سائر أنواع الصيام إلا يوم عاشوراء، ففيه قولان؛ المشهور أنه كالأول لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل

(1)

)، والشاذ اختصاص يوم عاشوراء بصحة الصوم وإن وقعت النية في النهار، ولا خلاف عندنا أن محل النية الليل، ومتى عقدها فيه أجزأته، ولا تشترط مقارنتها للفجر بخلاف الصلاة والطهارة والحج، فلا بد من اشتراط المقارنة أو التقدم بالزمن اليسير على ما تقدم. انتهى بلفظه. قاله محمد بن الحسن. وقال الحطاب ما معناه أن النية لا تكفي نهارا خلافا لمن

(1)

الترمذي، رقم الحديث:730. أبو داود، رقم الحديث: 2454. ولفظهما: من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له. ابن ماجه، رقم الحديث:1700. ولفظه: لا صيام لمن لم يفرضه من الليل. النسائي، رقم الحديث:2331. ولفظه: من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له.

ص: 86

أجاز ذلك إذا لم يأكل، ونقل في تعليل هذه المسألة أن النية هي القصد، والقصد إلى الماضي محال عقلا، وانعطاف النية معدوم شرعا، وذكر عن [الحجندي]

(1)

أنه أجاز لمن أكل في يوم من الأيام أن ينوي بعد ذلك الصوم نفلا، ونقل عن ابن العربي في عارضة الأحوذي في شرح الترمذي: أن هذا خرق للإجماع. انتهى.

وقال الشبراخيتي عند قوله: "مبيتة": فإن قلت ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لأهله: (هل عندكم ما نأكل، فإن قالوا لا قال فإني إذا صائم

(2)

)، فالجواب أن المراد بالصوم الصوم اللغوي جمعا بين الدليلين. انتهى. وقال الأمير في حاشيته: وعند الشافعي: تصح نية النافلة قبل الزوال وعند أحمد ولو بعده لهذا الحديث. وأجاب ابن عبد البر بأنه مضطرب. انتهى.

الثالث قال في التوضيح: لا يجوز تقديم النية قبل الليل وهو قول الكافة، وقال في البيان في سماع عيسى: والذي يوجبه النظر أن إيقاع النية قبل الغروب من ليلة الصوم لا يصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل

(3)

). قاله الحطاب.

الرابع: قال في المقدمات: الذي يلزم من النية في صيام رمضان اعتبار القربة إلى الله تعالى بأداء ما افترض عليه من استغراق طرفي النهار بالإمساك عن الطعام والشراب والجماع. انتهى. وله نحو ذلك في الصلاة، وقال أيضا: واستشعار الإيمان شرط في صحة ذلك كله، فإن سها عن استشعار الإيمان لم يفسد عليه إحرامه لتقدم علمه به، قال: وكذلك إذا سها عن أن ينوي الوجوب، ووجوب الصلاة، والقصد إلى أدائها، والتقرب بها إلى الله تعالى لم يفسد إحرامه إذا عين الصلاة؛ لأن التعيين لها يقتضي الوجوب والقربة والأداء، لتقدم علمه بوجوب تلك الصلاة. انتهى. فكذلك هذا إذا نوى صوم رمضان أجزأه؛ لأن تعيينه يقتضي الوجوب لتقدم العلم به إلى آخر ذلك. قاله الحطاب.

(1)

في الحطاب الحجندي، ج 3 ص 198. ط دار الرضوان.

(2)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1154. أبو داود، كتاب الصوم، الحديث: 2455.

(3)

الترمذي، رقم الحديث:735. أبو داود، رقم الحديث: 2454. ولفظهما: من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له. ابن ماجه، رقم الحديث:1700. ولفظه: لا صيام لمن لم يفرضه من الليل. النسائي، رقم الحديث:2331. ولفظه: من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له.

ص: 87

الخامس: من بيت صوم التطوع، فاستيقظ، فظن طلوع الفجر، فواقع أهله، ثم تبين أنه لم يطلع، فالأولى له الإمساك ذلك اليوم. قاله البرزلي. قلت: إذا كان قطع النية فالاستحباب واضح إذا أعاد النية قبله لأنه عبادة فالأولى إتمامها، وإن لم يعد النية حتى طلع الفجر فلا فائدة في إتمام النهار لأنه غير منوي، وأما لو تم على نيته أول الليل، وفعل الوطء نسيانا أو عمدا، واعتقد أنه غير ضار فالصواب في هذا إن تمادت هذه النية حتى طلع الفجر أنه يجب إتمامه. قاله الحطاب.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: مقتضى كلام الحطاب أن معنى قول البرزلي: فالأولى له الإمساك ذلك اليوم، أنه الأولى له أن يعيد النية ويمسك ذلك اليوم لإتمام العبادة. والله سبحانه أعلم. ولو لم يقطع النية ووطئ طلوع الفجر عامدا فهذا لا يمسك ولكن يجب عليه قضاء ذلك اليوم، كما يأتي في قوله:"وفي النفل بالعمد الحرام" بخلاف ما لو وطئ ناسيا أو ظانا عدم طلوع الفجر، فإنه يجب عليه الإمساك. والله سبحانه أعلم.

السادس: قوله: "بنية مبيتة"، هو شروع منه رحمه الله تعالى في شروط الصوم وهي تسعة، منها ما هو شرط في الوجوب فقط؛ وهو اثنان: البلوغ، والقدرة على الصوم. ومنها ما هو شرط في الصحة فقط؛ وهو أربعة: النية، والإسلام، والزمن القابل للصوم، والإمساك عن سائر المفطرات. ومنها ما هو شرط في الوجوب والصحة معا، وهو ثلاثة: النقاء من دم الحيض والنفاس، والعقل، ودخول شهر رمضان. فتلك أقسام ثلاثة تشتمل على شروط تسعة.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: ولا يخفى أن بعضها من الأركان، ففي إطلاق الشروط على ذلك تسامح والله سبحانه أعلم. وكفت نية لما يجب تتابعه؛ يعمي أن الصوم الذي يجب تتابعه وهو: رمضان في حق الصحيح الحاضر، وكفارة القتل والظهار، وكفارة الفطر في رمضان، والصوم المنذور تتابعه، وقضاء رمضان عند ضيق الوقت تكفي له نية واحدة في أول ليلة منه على المشهور، ومقابله ما روي عن مالك من وجوب التبييت كل ليلة، قال في البيان: وهو شذوذ في المذهب، وفهم من كلام المصنف أن المسافر والمريض لابد لهما من التبييت كل ليلة؛ لأن التتابع لا يجب عليهما وهو كذلك، وسيأتي للمصنف:"لا إن انقطع تتابعه"، وأشعر قوله: "وكفت نية لما يجب

ص: 88

تتابعه"، أن المطلوب التبييت كل ليلة. وقد صرح عياض في قواعده والشبيبي وغيرهما بأنه يستحب تجديد النية لكل يوم من رمضان. والله أعلم. قاله الحطاب. لا مسرود، عطف على قوله: "لما يجب تتابعه": يعني أن الشخص إذا عزم على سرد صوم أيام أي تتابعها فإنه لا تكفي لصومها نية واحدة، بل لابد لكل يوم منها من نية تخصه، ودخل في ذلك من أراد قضاء رمضان متتابعا، ومن عزم على صوم رمضان في السفر أو في المرض، فلا بد من تبييت النية في ذلك لكل ليلة: وعن مالك أنه تجزئه نية واحدة في الصوم الذي عزم على تتابعه. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي عند قوله "لا مسرود: كأيام اختار صيامها مسرودة" أي متتابعة من غير أن يجب عليه شرعا تتابعها. انتهى. وقال الشبراخيتي: لا مسرود؛ بأن يختار الصائم أياما للصوم متتابعة من سرد الصوم إذا تابعه كما في الصحاح. انتهى.

وعلم من هذا أن المسرود هو الصوم المتابع الذي لا يجب تتابعه، وهو ما عزم الإنسان على أن يتابعه من غير الصوم الواجب التتابع. والله سبحانه أعلم. ويوم معين؛ يعني أن الشخص إذا نوى صوم يوم معين، كصوم يوم الاثنين أو الخميس دائما، أو نذر ذلك لا يصح صومه إلا بنية كل ليلة تلي ذلك اليوم قبله، ولا يكتفي بنية واحدة على الصحيح، وعن مالك أنه تجزئه نية واحدة في اليوم الذي نواه أو نذره. قاله الحطاب وغيره.

وقال محمد بن الحسن: ظاهر المصنف سواء كان منذورا أم لا كما شرحه به الزرقاني، ويفيده كلام ابن يونس في المواق خلافا لما في ابن الحاجب من تقييده بالمنذور، وأقره في التوضيح. ورويت على الاكتفاء فيهما؛ يعني أن المدونة رويت على أنه يكتفى بنية واحدة في مسألتي المسرود واليوم العين، أما المسرود فلأنه حصل له بالتتابع الشبه برمضان، وأما المنذور العين فلوجوبه وتكرره وتعين زمانه، قال الحطاب: ولم أقف على من روى المدونة على القول بالاكتفاء فيهما بشيء من شروحها. لا إن انقطع تتابعه بكمرض أو سفر، قوله:"لا إن انقطع" عطف على مقدر بعد قوله: "لما يجب تتابعه"؛ أي واستمر تتابعه أي وجوب تتابعه، لا إن انقطع تتابعه، ولذا ترك الإتيان بالواو قبل قوله:"لا إن انقطع تتابعه"، ومعنى كلام المصنف أنه إذا انقطع وجوب تتابع الصوم بسبب مرض، أو سفر، أو حيض، أو نفاس، أو إغماء، أو جنون، فإن تلك النية الأولى لا

ص: 89

تكفي، ولو استمر صائما على المعتمد لانقطاع وجوب التتابع، بل لابد من تبييت النية كل ليلة؛ لأنه يشترط في الاكتفاء بنية واحدة وجوب التتابع، فإذا لم يجب ابتداء أو انتهاء فلابد من تبييتها كل ليلة في ذلك الذي لا يجب تتابعه، فإن انقطع وجوب التتابع ثم زال المانع اكتفى لما بقي بنية واحدة، كما أفاد ذلك بقوله:"وكفت نية لما يجب تتابعه"، وأما ما قبل الانقطاع فصحته بالنية الأولى معلومة لا تحتاج إلى التنبيه عليها. والله سبحانه أعلم.

وقد مر أنه لا تكفي النية الأولى، ولو استمر صائما على المعتمد؛ وهو الذي يفيده الشيخ سالم، وتحقيق المباني، وكفاية الطالب؛ وهو مفهوم قوله:"لما يجب تتابعه"، وقيل: لا يحتاج للتبييت كل ليلة -كما مر- وما في التتائي من إيهام تساوي القولين غير معول عليه، وعلى المعتمد يجب القضاء إذا لم يبيت وإن لم يفطر: وهل يجب الإمساك؟ ظاهر ما يأتي للمصنف أنه لا يجب الإمساك حيث قال: "وفطر بسفر قصر شرع فيه قبل الفجر ولم ينوه فيه"، فإنه صادق بما إذا نوى الفطر به، وما إذا لم ينو شيئا، قال الشيخ علي الأجهوري: وأيضا المسافر الذي لم ينو الصوم في السفر بمنزلة من أفطر في غير رمضان؛ إذ له الأكل فيه فرمضان في حقه كغيره. تأمل. انتهى.

واعلم أن حصول المرض والسفر في أثناء النهار لا يقطع استدامة النية حكما في ذلك اليوم، وإنما يقطع استصحابها في ابتداء الصوم فيما بعد ذلك. والله أعلم. قاله الحطاب.

وعلم مما قررت أنه دخل بالكاف ما يفسد الصوم من حيض أو نفاس أو إغماء أو جنون، وكذا تبييت الفطر ولو ناسيا، وكذا الفطر عمدا. وقد مر أنه إذا زال العذر تكفي نية واحدة لما بقي لأنه يجب تتابعه، وأما الفطر في النهار ناسيا مع تبييت الصوم فلا يقطع التتابع على المعتمد، وأما المكره فحكمه حكم المريض؛ أي فيقطع التتابع لأجل إكراهه.

ولابن عاشر رحمه الله تعالى:

وَنِيَّةٌ تَكْفِي لِمَا تَتَابُعُهْ

يَجِبُ إِلاَّ إِن نَّفَاهُ مَانِعُهْ

ص: 90

وقوله: "لا إن انقطع تتابعه بكمرض أو سفر"، قد علمت أن المدار إنما هو على انقطاع وجوب التتابع، وعبارة الحطاب: والمعنى أن النية إنما تكفي فيما يجب تتابعه ما لم يحصل فيه ما يقطع وجوب التتابع، كالمرض والسفر، فإن حصل ذلك فيه فلا تكفي النية السابقة، ولو أراد المكلف استمراره على الصوم ومتابعته فلا بد له من التجديد كل ليلة، وقال الفاكهاني في شرح الرسالة: من نوى جميع رمضان من أوله ثم سافر في أثنائه، اختلف فيه قول مالك، فقال في المبسوط: لا يحتاج إلى التبييت، وقال في العتبية: يحتاج إلى تجديد النية. انتهى. واستظهر في البيان الاكتفاء بنية واحدة في أوله، فإنه قال: وأما إن كان الصيام يجوز تفريقه كقضاء رمضان وصيامه في السفر وصيام كفارة اليمين وفدية الأذى، فاختلف إذا نوى متابعة ذلك، هل تجزئه نية واحدة في أوله، أو يلزمه تجديد النية لكل يوم؟ لجواز الفطر على قولين: الأظهر منهما أنه تجزئه نية واحدة في أوله ما لم يقطعها بنية الفطر عامدا، وأما ما لم ينو متابعته من ذلك فلا خلاف في أن عليه تجديد النية لكل يوم. انتهى.

وبما قررت علم أن قوله: "لا إن انقطع تتابعه"، معناه لا إن انقطع وجوب تتابعه، فلا يتوهم منه أنه إن استمر صائما تكفيه النية الأولى. وبنتاء، عطف على قوله:"بنية".؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم مطلقا فرضا أو نفلا أداء أو قضاء النقاء من الحيض والنفاس، يريد في جميع النهار، وأفاد أيضا أنه شرط وجوب، بقوله: ووجب إن طهرت قبل الفجر، يعني أن المرأة إذا طهرت قبل الفجر، فإنه يجب عليها صوم يوم تلك الليلة التي طهرت فيها؛ أي رأت علامة الطهر ولو الجفوف لمعتادة القصة، فلا تنتظرها لضيق الوقت. وإن لحظة؛ يعني أنه يجب عليها الصوم حين طهرت قبل الفجر، ولا فرق في ذلك بين أن تكون قد طهرت قبل الفجر بزمن يسع الغسل، وبين أن تكون قد طهرت قبله بزمن قليل قدر لحظة وما فوقها مما لا يسع الغسل، وهذا هو المشهور كما صرح به غير واحد، وقال ابن الماجشون: إن طهرت قبل الفجر بزمن يسع الغسل فلم تغتسل حتى طلع الفجر أجزأها صومها. وإن كان الوقت ضيقا لا يسع الغسل لم يجزها صومها انتهى من التوضيح. وعلى ابن الماجشون رد المصنف بالمبالغة كما قاله غير واحد، وظاهره

ص: 91

أنه يجوز لها الأكل عنده، فإنه قال بعده: وقال محمد بن مسلمة: تصوم وتقضي، وفي كلام الطراز ما يدل على ذلك. والله أعلم. قاله الحطاب.

ورد المصنف بالمبالغة أيضا ما حكى ابن شعبان من مراعاة حصول الغسل، واللحظة أقل جزء من الزمان، وأقل جزء من الزمان هو الجزء الملاقي للفجر من آخر الليل، فليس فيه معارضة لقوله: أو مع الفجر كما قيل، ووجه المعارضة أنه علق الوجوب هنا بما قبل الفجرة وفيما سبق بالمقارنة للفجرة قاله الشبراخيتي عن الشيخ علي الأجهوري. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: تأمل هذا التحرير فإنه عجيب. ومع القضاء إن شكت؛ يعني أن المرأة إذا أصبحت فشكت هل طهرت قبل الفجر أو بعده؛ فإنها تصوم يومها ذلك وتقضيه. قاله في المدونة. وهذا بخلاف الصلاة فإنها لا تؤمر بقضاء ما شكت فيه في وقته هل كان الطهر فيه أم لا؟ كشكها هل طهرت قبل الفجر أو بعده؟ بحيث لم يبق من وقت الصبح ما تدرك فيه ركعة بعد الطهر، فلا تجب عليها صلاتها، والفرق بينهما أن وقت الأداء في الصوم باق بخلافه في الصلاة. والله سبحانه أعلم. هذا هو الذي يظهر، لا ما لعبد الباقي تبعا لابن عبد السلام والتوضيح، فإنه غير صحيح كما قاله محمد بن الحسن. وقوله:"ومع القضاء إن شكت"، المراد بالصوم الذي يجب عليها هنا الصوم اللغوي، وهو الإمساك، ومن شك في نية صوم النفل هل حصلت قبل الفجر أو بعده؟ فهل يجب عليه الإمساك أم لا؟ وكذا من شك هل حصلت منه نية صوم قضاء رمضان قبل الفجر أو بعده؟ ونحو هذا، قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: الذي يتضح لي في هذه المسائل الكثيرة الوقوع أنه لا يجب عليه الإمساك للقاعدة المقررة، قال محمد بن الحسن عند قول المصنف:"وبشك في حدث بعد طهر عُلِمَ" مشيرا إلى الفرق بينه وبين الشك في الطلاق، قال في الذخيرة: الأصل أن لا يعتبر في الشرع إلا العلم لعدم الخطإ فيه، وقد تعذر في أكثر الصور، فجوز الشارع الظن لندرة خطئه وبقي الشك غير معتبر، ويجب اعتبار الأصل السابق، فإن شككنا في السبب لم يترتب المسبب، أو في الشرط لم يترتب المشروط، أو في المانع لم ينتف الحكم، فهذه قاعدة مجمع عليها لا تنتقض، وإنما اختلف العلماء في وجه استعمالها، فالشافعي يقول في مسألة الشك في الحدث بعد طهر علم الطهارة متيقنة والمشكوك فيه ملغى، ومالك يقول شغل الذمة بالصلاة متيقن

ص: 92

محتاج إلى السبب المبري، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط، فيقع الشك في الصلاة الواقعة بالطهارة المشكوك فيها وهي السبب المبري، والمشكوك فيه ملغى فيستصحب شغل الذمة، والشك في عدم الصلاة شك في السبب، فيستصحب شغل الذمة حتى يأتي بسبب مبرئ، والعصمة متيقنة، والشك في السبب الرافع فتستصحب. انتهى.

وكذا الحكم لو شك في قضاء رمضان، هل حصل منه فطر أم لا؟ فلا يجب عليه الإمساك لما سأذكره عند قول المصنف:"وقضى في الفرض مطلقا". قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه. والله سبحانه أعلم. وبعقل، عطف على قوله:"بنية"؟ يعني أنه يشترط في صحة الصوم ووجوبه العقل، فلا يصح من مجنون، ولا من معتوه، ولا من مغمى عليه على التفصيل الآتي، ولا يجب عليهم ما داموا بتلك الصفة، ولما أفهم قوله:"ومع القضاء إن شكت"، وجوب القضاء على الحائض، أفاد وجوب القضاء على المجنون والمغمى عليه في بعض أحواله نصا بقوله: وإن جن، الأولى التفريع بالفاء؛ يعني أن المجنون إذا أفاق فإنه يجب عليه قضاء ما كان مجنونا فيه من رمضان؛ قل ذلك الزمن الذي يجب صومه أو كثر، ولهذا قال: ولو سنين كثيرة؛ يعني أنه لا فرق في وجوب القضاء على المجنون إذا أفاق بين أن يجن سنين كثيرة كعشرة مثلا، وبين أن يجن ما هو أقل من السنين الكثيرة، وقوله:"وإن جن" الخ، تقريره أن تقول: وإن جن شخص جنونا مطبقا بعد أن بلغ عاقلا، أوأتى عليه البلوغ مجنونا، وقلت سنو جنونه، فيهما كالخمسة، بل ولو جن سنين كثيرة فيهما أيضا كالعشرة، فالقضاء في الأربعة اتفاقا في الأولى، وعلى المشهور في الباقي لأن الجنون مرض والمريض يقضي، ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث: الصبي حتى يحتلم، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق

(1)

)؛ لأن المراد من رفعه عدم الإثم في هذه الحالة. قاله الخرشي.

وقوله: "ولو سنين كثيرة"، قال الإمام الحطاب: هو مذهب المدونة، وقيل: إن قلت السنون فعليه القضاء، وذلك كالخمسة الأعوام، وإن كثرت فلا قضاء. ذكره اللخمي عن ابن حبيب عن

(1)

أبو داود، كتاب الحدود، الحديث:4403. ولفظه: رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبى حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل. ابن ماجه، رقم الحديث:2041. ولفظه:

حتى يعقل أو يفيق. ومسند أحمد، ج 6 ص 101. ولفظه:

وعن المعتوه حتى يعقل.

ص: 93

مالك، وإليه أشار بقوله:"ولو سنين كثيرة"، وقيل: إن بلغ مجنونا فلا قضاء عليه، وإن طرأ عليه الجنون فعليه القضاء، وقال محمد بن الحسن عند قوله:"ولو سنين": هذا قول مالك وابن القاسم في المدونة، ورد بلو ما حكاه ابن حبيب عن مالك والمدنيين إن قلت السنون كالخمس ونحوها فالقضاء، وإن كثرت كالعشرة فلا قضاء، وأتى المصنف "بكثيرة" بعد قوله:"سنين"، ليلا يصدق ذلك على ثلاثة مع أنها ليست من محل الخلاف. انتهى. والله سبحانه أعلم.

وتحصل مما مر أن الصور أربع: إحداها جن سنين قليلة بعد أن بلغ عاقلا؛ فعليه القضاء اتفاقا، الثانية جن سنين قليلة وأتى عليه البلوغ مجنونا، الثالثة والرابعة جن سنين كثيرة بلغ عاقلا أم لا، وهذه الثلاثة فيها القضاء على المشهور.

ولما كان للمغمى عليه ست حالات، أشار لأولاها بقوله: أو غمي يوما؛ أن المغمى عليه إذا تمادى به الإغماء يوما كاملا بأن أغمي عليه من قبل طلوع الفجر إلى أن غربت الشمس، فإنه يقضي ذلك اليوم ولا خلاف في هذا نص عليه غير واحد من الأشياخ. قاله الشارح.

وأشار إلى الحالة الثانية بقوله: أو جله؛ يعني أن المغمى عليه إذا تمادى به الإغماء جل النهار فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم، سلم من الإغماء أوله أم لا، هذا هو مذهب المدونة، واستحب له أشهب القضاء. أو أقله؛ يعني أن الشخص إذا أغمي أقل النهار، وأولى إذا أغمي عليه نصف النهار، فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم الذي أغمي عليه أقله أو نصفه ومحل وجوب القضاء عليه في مسألتي النصف، والأقل حيث لم يسلم من الإغماء أوله؛ أي أول النهار؛ بأن كان وقت النية مغمى عليه، وقد مر أن النية لا بد أن تكون مبيتة أو مع الفجر، فقوله:"أو أقله ولم يسلم أوله"، يشتمل على حالتين من حالات الإغماء يجب فيهما القضاء كما قررت، ولابد فيهما كما قال المصنف من أن يكون وقت النية سالما من الإغماء؛ بأن يطلع عليه الفجر وهو سالم من الإغماء، وقوله:"أو أقله ولم يسلم أوله"، هو نص المدونة، وفي سماع أشهب عن مالك: الإجزاء، وإنما يبطل الصوم في هذه المسائل الأربع من مسائل الإغماء لاختلال النية؛ لأن الإغماء يبطلها لو حصلت، فتبطل فيما إذا تمادى به الإغماء جل النهار، وفيما إذا لم يسلم أول النهار لفقدها عند

ص: 94

محلها ولا عبرة بوجودها قبل ذلك، فلو جدد النية فيما إذا أفاق قبل طلوع الفجر فإنه يصح صومه حيث لم يغم عليه بعد ذلك جل النهار.

وعلم مما قررت أن قوله: فالقضاء جواب الشرط؛ أي باعتبار المحذوف الذي هو الخبر، فهو جار في المسائل الثمان. والله سبحانه أعلم.

وأشار إلى الحالتين الباقيتين من حالات الإغماء الست بقوله: لا إن سلم؛ يعني أن المغمى عليه إذا سلم أول النهار من الإغماء؛ بأن طلع عليه الفجر وهو سالم من الإغماء، فإنه لا قضاء عليه حيث أغمي عليه أقل النهار، بل ولو أغمي عليه نصفه؛ أي اليوم، فلا قضاء، ولو أغمي عليه فيما قبل لأنه أوقعها قبل الفجر أو معه، واحترز بقوله:"نصفه"، عما إذا أغمي عليه أكثر من نصفه فإنه يجب عليه القضاء، كما قال:"أوجله"، وقوله:"ولو نصفه"، هو مذهب المدونة، وقال ابن حبيب: لا يجزئه ولو كان أول النهار سالما، وعليه رد المصنف بلو، واتفق على الإجزاء فيما إذا كان الإغماء أقل النهار؛ وهو سالم أوله، وهو ظاهر كلام اللخمي. قاله الشارح. وظاهر كلام صاحب الطراز أن حكم الإغماء والجنون سواء؛ فإنه قال في باب الاعتكاف: إذا أغمي عليه أو جن، وكان في عقله حين الفجر أو أكثر النهار، ولم يخرج من المسجد حتى الليل، يجزئه عكوفه ذلك اليوم على ما مر في صحة صومه. والله أعلم قاله الحطاب.

وقال عبد الباقي: الراجح أن الجنون في يوم واحد يفصل فيه كالإغماء، وذكر المصنف المدة الطويلة في الجنون، وترك التفصيل في المدة القصيرة، وعكس في الإغماء باعتبار الغالب فيهما وإن كان الحكم فيهما واحدا، ولهذا يقدر ما قبل المبالغة -أعني قوله:"ولو سنين كثيرة"- يومين فما فوقهما. والله أعلم.

واعلم أن السكر حلالا أو حراما كالإغماء، فيفصل فيه تفصيله وكذا تغييب العقل مطلقا كان لعلة أم لا، ولا يجوز إن كان لغير علة، وأما النائم يوما أو يومين أو أكثر مع تبييت الصوم فلا قضاء عليه؛ لأنه لو نُبِّهَ لانتبه: هذا هو الظاهر لا ما لعبد الباقي من أن السكر الحرام كالإغماء في تفصيله، والحلال كالنوم، وأن تغييب العقل لعلة كالنوم ولغير علة كالإغماء؛ فإنه غير ظاهر. والله سبحانه أعلم. انظر حاشية محمد بن الحسن.

ص: 95

وقال في التوضيح: وأسقط أبو حنيفة والشافعي القضاء عن المجنون وهو الظاهر، واحتجاج أهل المذهب بقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، الآية. والمجنون مريض ليس بظاهر. قاله الشبراخيتي. وبترك جماع؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم أن يترك الصائم في جميع نهاره الوطء؛ أي مغيب الحشفة وإن لم ينزل، أو قدرها ولو بدبر أو فرج ميتة، أو بهيمة من بالغ لا من غيره، فلا يفسد صومه ولا صوم موطوءته البالغة حيث لا يوجد منها مني أو مذي. قاله عبد الباقي، وغيره.

قال محمد بن الحسن: وفيه نظر، وقوله:"وبترك جماع". قال الحطاب: الأحسن أن يعد هذا وما بعده من الأركان إلا أن يكون المراد بالشروط ما لا تصح الماهية بدونه، كان داخلا أو خارجا، وهذا جار في أكثر الشروط التي ذكرها في هذا الباب، ولم يذكر المصنف الإنعاظ وذكر فيه في المدونة قولين، قال فيها: روى ابن وهب وأشهب عن مالك فيمن قبل امرأته أو غمزها أو باشرها في رمضان فلا شيء عليه إلا أن يمذي فيقضي. انتهى. فهذا يقتضي أنه لا قضاء في الإنعاظ. قاله الحطاب.

قال عبد الباقي: وهو المعتمد خلافا لقول ابن القاسم فيها، وروايته عن مالك في غيرها؛ أي في الحمديسية والعتبية كما في أحمد بالقضاء، لقاعدة الشيوخ أن رواية غير ابن القاسم فيها عن مالك مقدمة على قول ابن القاسم فيها، وعلى روايته في غيرها عن الإمام. انتهى. ونحوه للشبراخيتي. قال محمد بن الحسن: هذا في نفسه صحيح لكن ذكر في التوضيح أن قول ابن القاسم بالقضاء في الإنعاظ هو الأشهر، فعلى المصنف لو درج عليه لكن محل القضاء في الإنعاظ الناشيء عن قبلة أو مباشرة أو لمس، فإن نشأ عن نظر أو فكر، فقال الحطاب: الظاهر فيه عدم القضاء ولو استديما، واستدل على ذلك بكلام التنبيهات وابن بشير وغيرهما، ونص التنبيهات: وإنما الخلاف عند بعضهم إذا حصل عن ملاعبة أو مباشرة، وأما إن كان عن نظر أو لمس فلا شيء عليه، وأطلق في البيان الخلاف. انتهى. وقال في البيان في رسم طلق من سماع ابن القاسم: إن نظر قاصدا إلى التلذذ بالنظر، أو تذكر قاصدا إلى التلذذ بذلك، أو لمس: أو قبل، أو باشر فسلم فلا شيء عليه، وإن أنعظ ولم يمذ ففي ذلك ثلاثة أقوال: أحدها عليه القضاء وهي رواية ابن القاسم هذه، والثاني

ص: 96

لا شيء عليه وهي رواية أشهب عن مالك في المدونة، والثالث الفرق بين المباشرة وما دونها من قبلة أو لمس، فإن أنعظ عن مباشرة فعليه القضاء، وإن أنعظ بما دونها فلا قضاء عليه؛ وهو قول ابن القاسم الذي أنكره سحنون. انتهى قاله الحطاب. وإخراج مني؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم أن لا يخرج الصائم المني، فإن أخرجه وإن لم يجامع وجب عليه القضاء، واحترز بقوله: إخراج من المني المستنكح كما يأتي، واحترز به أيضا من الاحتلام فإنه لا شيء عليه فيه؛ لأنه خروج لا إخراج.

فرع: لو جامع قبل الفجر ونزل منه بعد الفجر شيء، فالظاهر أنه لا شيء عليه كمن اكتحل ليلا ثم هبط نهارا. قاله الخرشي. وفي حاشية الأمير: إذا جامع ليلا فأمنى نهارا فلا شيء عليه، كمن اكتحل ليلا فوصل نهارا. انتهى. ومذي؛ يعني أن صحة الصوم مشروطة بترك إخراج المذي، ولو عن فكر أو نظر ولو غير مستدامين كما في المدونة، خلافا لابن بشير والأقفهسي، واحترز بإخراج المذي عن خروجه كالمستنكح، فإنه لا يضر كما يأتي للمصنف.

قال ابن القاسم: وإن جامعها دون الفرج أو باشرها فأنزل فالقضاء عليه والكفارة، وإن باشرها فأمذى أو أنعظ وحرك منه لذة وإن لم يُمْذِ فليقض. انتهى. وقيء؛ يعني أن صحة الصوم مشروطة بترك إخراج القيء، ففي المستدعى القضاء إلا أن يرجع فالكفارة، ولا قضاء في خروج غالبه إلا أن يرجع منه شيء، فالقضاء كما يأتي. وإيصال متحلل؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم ترك إيصال المتحلل للمعدة أو للحلق، ولا مفهوم لإيصال بل الوصول كذلك؛ أي يشترط في صحة الصوم عدم وصول متحلل أو غيره للحلق، وكذا يشترط عدم الوصول للمعدة. والله سبحانه أعلم. والمتحلل هنا كل ما ينماع ولو في الجوف، كما في الفيشي، ومعنى ذلك أن ما وصل من الأعالي وهو متحلل يفسد الصوم بوصوله للحلق، ولا يشترط وصوله للمعدة، وما دخل من الأسفل منه يفسد الصوم بوصوله للمعدة، وإذا ابتلع الصائم في النهار ما بين أسنانه من الطعام لم يجب عليه قضاء لأنه أمر غالب، قال ابن الماجشون: وإن كان متعمدا لأنه ابتدأ أخذه في وقت يجوز له، قال ابن رشد: وهو بعيد. قاله الحطاب. ونقله عنه عبد الباقي.

ص: 97

قال محمد بن الحسن: ما ذكره -يعني عبد الباقي- من أن ابتلاع ما بين الأسنان لا يفطر، شهره ابن الحاجب وهو مذهب المدونة، والذي استبعده ابن رشد إنما هو نفي القضاء في العمد، والمدونةُ لم تصرح بالعمد، لكن يؤخذ من إطلاقها والله أعلم. انتهى. أو غيره؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم أيضا ترك إيصال غير المتحلل للحلق، فقوله:"أو غيره"، هو فيما إذا كان الداخل من منفذ عال كما في المواق، ونصه: ويجب الإمساك عما يصل إلى الحلق مما ينماع أو لا ينماع، وغير المتحلل كالحصاة والدرهم، وقال عبد الباقي: إن غير المتحلل إنما يفطر إذا وصل إلى المعدة، لا إن وصل للحلق وَرُدَّ. وهو غير صحيح قال محمد بن الحسن: قوله -يعني عبد الباقي- وأما وصول غيره أي المتحلل إليه أي الحلق ورد، فلا يوجب الفطر؛ أي وإنما يحصل الفطر بغير المتحلل إذا وصل للمعدة، وهذا تبع فيه البساطي وهو غير صواب لما نقله المواق عند قوله:"وبخور"، عن التلقين، ونصه في التلقين: ويجب الإمساك عما يصل إلى الحلق الخ، وناقش الرهوني بناني في ذلك، وقال: الصواب ما ذكره الزرقاني تبعا للبساطي، وساق من النقل ما لم يظهر لي منه قيام الحجة له على بناني. على المختار؛ يعني أنه اختلف في الحصاة والدرهم ونحوهما مما لا يتحلل منه في العدة شيء، هل له حكم الطعام أم لا؟ فقال عبد الملك: له حكم الطعام، فيفسد الصوم وليقض وجوبا، وقال ابن القاسم: لا قضاء عليه إلا أن يتعمد فيقضي لتهاونه بصومه. اللخمي: والأول أشبه لأن الحصاة تشغل العدة إشغالا ما، وتنقص كلب الجوع. قاله الشارح.

وبما قررت علم أن قوله: "على المختار"، خاص بقوله:"أو غيره"، فلو قال: كغيره بالكاف، كان أوفق لقاعدته الأغلبية، وعلم مما نقلت عن الشارح أن خلاف ابن القاسم محله فيما إذا لم يتعمد ابتلاع الدرهم أو الحصاة مثلا، وأما لو تعمد فيقضي اتفاقا، فمقابل المختار إنما هو فيما عدا المتعمد، وأما المتعمد فهو محل اتفاق بين ابن القاسم وعبد الملك. والله سبحانه أعلم. لمعدته، متعلق بقوله:"وإيصال"؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم ترك إيصال للمعدة، بـ سبب حقنة، وهذا أيضا متعلق "بإيصال"، وقوله: بمائع متعلق "بحقنة"، "والباء"، بمعنى: من؛ يعنى أنه يشترط في صحة الصوم أن يترك إيصال شيء للمعدة بسبب حقنة من منفذ واسع سافل كدبر

ص: 98

لرجل أو امرأة، وأما فرج المرأة فنص غير واحد من الشراح على أن الواصل منه للمعدة كالواصل من الدبر، فيفسد به الصوم. قال الشيخ إبراهيم: وأما فرج المرأة فيجب عليها القضاء بحقنتها منه إن وصل للمعدة، فلا يشمله قول المصنف الآتي عاطفا على ما لا قضاء فيه:"وحقنة من إحليل"، وإن كان يقع على فرج المرأة في اللغة الإحليل كما في النهاية، وقال محمد بن الحسن: واعترض أبو علي لزوم القضاء بالحقنة من فرج المرأة؛ بأن فرج المرأة ليس متصلا بالجوف، فلا يصل إليه منه شيء، وفي الحطاب عن النهاية أن: الإحليل يقع على ذَكَرِ الرجل وفرج المرأة. انتهى.

واعلم أنه لابد في الواصل بسبب الحقنة من أن يكون مائعا كما قال المصنف، والمائع هو المتحلل، فلا يضر وصول جامد للمعدة بسبب حقنة إلا أن يتحلل عقب الإدخال قبل وصوله للمعدة، واحترزت بالنفذ الواسع عن الضيق كإحليل الرجل، فإن الواصل بسببه لا يضر كما يأتي للمصنف. والله سبحانه أعلم.

قال الشبراخيتي: والحقنة صب الدواء من الدبر بآلة مخصوصة لمن به أرياح أو داء في الأمعاء، وما حصل من الدواء للأمعاء حصل به الأخذ للكبد، وقال عبد الباقي نحوه، إلا أنه قال: وما حصل للأمعاء من طعام حصل به [مشابهة الغذاء]

(1)

، فإن الحقنة تجذب من المعدة ومن سائر الأمعاء، فصار ذلك في معنى الأكل. قاله سند. واحترز بالمائع من الجامد، ولو فتائل عليها دهن، وانظر هل مثله ما يصل للمعدة من ثقبة تحت المعدة أو فوقها، أو كالحقنة في الدبر، أو يجري على ما تقدم في الوضوء؟ انتهى.

وقال في المدونة: وتكره الحقنة والسعوط للصائم، فإن احتقن في فرض أو واجب بشيء يصل إلى جوفه فليقض ولا يكفر. انتهى. ومحل الكراهة حيث لم يتحقق وصول شيء بذلك للجوف أو للحلق، وعلم من المصنف أنه إذا تحقق وصول المائع للجوف بالحقنة أنها تحرم لإفسادها للصوم، وهذا إذا لم يضطر لها، وأما إن اضطر لها فإنها لا تحرم عليه. قاله الحطاب.

(1)

في عبد الباقي، ج 7 ص 204 فائدة الغذاء.

ص: 99

والحاصل أن الحقنة إذا تحقق وصولها للجوف في الصوم، حرمت لإفسادها للصوم وإن تحقق عدم وصولها للجوف جازت، وإن استوف الاحتمالان كرهت. قاله أبو الحسن. فإن تحقق الوصول للجوف قضى، وإن تحقق عدمه فلا قضاء، وإن شك جرى على الخلاف فيمن أكل وهو شاك في الفجر.

تنبيهات: الأول: ما حكم الحقنة لغير الصائم؟ حكى ابن حبيب كراهتها عن جماعة من السلف إلا لضرورة؟ لأنها شعبة من عمل قوم لوط ولا تعرفها العرب؛ وهي من أدوية العجم، وروى الكراهة مطرف، وروى ابن عبد الحكم لا بأس بها، ويمكن حمله على الضرورة فيتفقان. قاله الخرشي.

ونقل الحطاب عن ابن حبيب في كتاب له في الطب: كان علي وابن عباس ومجاهد والشعبي والزهري وعطاء والنخعي والحكم بن عيينة وربيعة وابن هرمز يكرهون الحقنة إلا من ضرورة غالبة، ويقولون: لا تعرفها العرب وهي فعل العجم؛ وهي ضرب من عمل قوم لوط، قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف عن مالك أنه كرهها، وذكر أن عمر بن الخطاب كرهها، وقال: هي شعبة من عمل قوم لوط، قال عبد الملك: سمعت ابن الماجشون يكرهها، ويقول: كان علماؤنا يكرهونها، قال ابن حبيب: وكان من مضى من السلف وأهل العلم يكرهون التعالج بالحقن إلا من ضرورة غالبة لا يوجد عن التعالج بها مندوحة، وسئل مالك في مختصر ابن عبد الحكم عن الحقنة، فقال: لا بأس بها. الأبهري: إنما قال ذلك لأنها ضرب من الدواء، وفيه منفعة للناس، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم التداوي وأذن فيه، فقال: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله فتداوَوْا عبادَ الله

(1)

). انتهى. خليل: فظاهره معارضة النقل، ويمكن تأويله على حالة الاضطرار فيتفق النقلان. انتهى كلام الحطاب.

الثاني: ما ذكره المصنف من فساد الصوم بالحقنة من المائع هو في المدونة، وقال اللخمي: اختلف في الاحتقان بالمائعات، هل يقع به فطر أم لا يقع به؟ وهو أحسن لأن ذلك مما لا يصل إلى المعدة ولا إلى موضع يتصرف منه ما يغذي الجسم بحال. انتهى.

(1)

مسند أحمد، ج 1 ص 377. ولفظ البخارى، كتاب الطب، الحديث: 5678 "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".

ص: 100

الثالث: لا كفارة فيما وصل للجوف بالحقنة، وإن تعمد وهو ظاهر؛ إذ لا كفارة فيما وصل من غير الفم، قال عبد الحق: قال ابن سحنون: ولا تجب الكفارة فيما وصل من غير الفم من عين أو أذن أو غيرهما، وإن تعمد ذلك وهو يصل إلى حلقه. انتهى. نقله الحطاب. وقال الشبراخيتي: وفي المدونة كراهة الحقنة، وهل هي على بابها أو على التحريم؛ لأنها شعبة من عمل قوم لوط تفعلها العجم خلاف، وظاهرها النهي ولو من ضرورة. وفي التوضيح وغيره عن جماعة من الصحابة كراهتها إلا من ضرورة غالبة، قال ابن حبيب: وهو الذي رواه مطرف عن مالك. انتهى. أو حلق، عطف على قوله:"لمعدته"؛ يعني أن ما وصل من المنفذ العالي للحلق يفسد الصوم، فلا يشترط وصوله للجوف إلا على قول ضعيف، فقوله:"أو حلق"، هو راجع لقوله:"متحلل أو غيره"، فيما إذا كانا واصلين من منفذ عال، ولا أطلق المصنف في الحلق علم أنه راجع للمتحلل وغيره، ولما قيد الحقنة بالمائع علم أنها راجعة للمتحلل، ولما نوَّع الأعالي للمنفذ المتسع والضيق ولم يفعل ذلك في الأسافل دل على تقييد الأسفل بالمنفذ الواسع وهو الدبر لرجل أو امرأة، وفي فرج المرأة ما مر وإحليل الرجل لا قضاء في الواصل منه، فتقرير المصنف: ويشترط في صحة الصوم عدم وصول متحلل أو غيره لحلق الصائم في الواصل من منفذ أعلى واسعا أو ضيقا، ولا يشترط وصوله للجوف إلا على قول ضعيف، ويشترط في صحة الصوم عدم وصول المتحلل من منفذ سافل للمعدة بشرط أن يكون المنفذ واسعا، فقوله:"لمعدته"، في الواصل من المنفذ الأسفل، وقوله:"أو حلق" في الواصل من منفذ أعلى كما عرفت، وقوله:"بمائع" إنما أظهر الاسم ولم يجعله ضميرا يعود على المتحلل لأنه قدم ذكر المتحلل وغيره، فلو أعاد عليه ضميرا مفردا لتوهم أنه عائد على قوله "غيره"؛ لأن الضمير يعود على أقرب مذكور أو توهم عوده على المتحلل، وغيره على تأويل ما ذكر. والله سبحانه أعلم.

واعلم أن هذه المسألة تشتمل على ثمان صور لأن الصائم إذا وصل إلى داخله شيء، فإما أن يكون من أسفل أو من أعلى، وفي كل إما أن يكون متحللا أو غيره، فتلك أربعة، وفي كل منها إما أن يكون من منفذ ضيق أو واسع، فتلك ثمانية، فإن كان من أعلى اشترط وصوله للحلق متحللا أو غيره فيجب القضاء في الواصل للحلق من أعلى واسعا أو ضيقا، فتلك أربع صور يجب فيها

ص: 101

القضاء، وإن كان من أسفل وجب القضاء في صورة وهي ما إذا كان الواصل للمعدة متحللا من منفذ واسع على ما مرة لا الواصل من ضيق كإحليل الرجل مانعا أو جامدا، ولا الواصل من منفذ واسع إذا كان جامدا. هذا تحقيق المسألة. والله سبحانه أعلم. وإن من أنف أو أذن أو عين؛ يعني أنه لا يشترط في إبطال الصوم بما وصل للحلق من المنفذ الأعلى أن يكون ذلك المنفذ واسعا كما مر، بل يجب القضاء فيما وصل من الأعلى ولو كان الأعلى منفذا ضيقا كأنف أو أذن أو عين، وسواء كان الواصل للحلق مائعا أو جامدا كما مر تحقيقه عن محمد بن الحسن، ولا قضاء فيما وصل من جائفة، ونَقْلُ ابن الحاجب القضاء فيه منكر، والذي يصل من العين ككحل نهارا، فإن تحقق عدم وصوله للحلق من هذه المنافذ فلا قضاء عليه كما في المدونة، ولو شك فقد قدمت ما يفيد أن المشهور فيه وجوب القضاء، وهو أن أبا الحسن قال: لو احتقن وشك في وصول الحقنة لجوفه جرى على الخلاف فيمن أكل وهو شاك في الفجر. انتهى: وسيأتي التصريح عنه بما يفيد ما ذكرت، ومحل وجوب القضاء فيما يصل من هذه المنافذ إن فعله نهارا، فإن فعله ليلا فلا شيء عليه في هبوط ذلك نهارا للحلق، بل ولا للمعدة كما نقله محمد بن الحسن عن الذخيرة، ونصها على ما قال: من اكتحل ليلا لا يضره هبوط الكحل في معدته نهارا. انتهى.

وفصل ابن هلال فقال في الكحل والحناء: يجوز فعلهما أول الليل، ويحرم آخره كالنهار. انتهى. وإنما كان الواصل نهارا من هذه المنافذ لا قضاء فيه فيما إذا استعمل ليلا؛ لأنه غاص في أعماق البدن فكان بمثابة ما ينحدر من الرأس إلى البدن، قال عبد الباقي: وأشعر كلامه -يعني المصنف كابن الحاجب- بأن ما وصل نهارا من غير هذه المنافذ لا شيء فيه، فمن دهن رأسه نهارا فوجد طعم ذلك بحلقه فلا قضاء عليه، والمعروف وجوب القضاء، ومثله من جعل الحناء برأسه نهارا فاستطعمها بحلقه فالقضاء كما ذكره الحطاب وابن غازي، وأما من حك رجليه بالحنظل فوجد طعمه في فيه، أو قبض بيده على الثلج فوجد برودته في جوفه فلا شيء عليه. انتهى. وظاهر قوله:"أو حلق"، شموله لمخارجه كلها أدناها وأوسطها وأعلاها الذي هو الهمزة والهاء، وللشافعية: مخرج الحاء المهملة له حكم الباطن عند النووي والرافعي، ومخرج الخاء المعجمة من الظاهر عند النووي دون الرافعي، ولم أر لأصحابنا فيه نصا. قاله الشيخ علي الأجهوري.

ص: 102

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: يكفي من النص في ذلك قولهم الواصل للحلق مفطر، اللهم إلا أن يريد النص الأصولي وذلك خروج عن المقصود. والله سبحانه أعلم.

وقال الحطاب عن البرزلي ما نصه: من رعف فأمسك أنفه فخرج الدم من فيه ولم يرجع إلى حلقه فلا شيء عليه، قلت: لأن منفذ الأنف إلى الفم دون الجوف فهو ما لم يصل إلى الجوف لا شيء عليه. انتهى. انتهى. قال عبد الباقي: مقتضى قوله: ولم يرجع إلى حلقه فلا شيء عليه، يفهم منه أنه إن وصل لحلقه أفطر، وهو المناسب لما تقرر أن وصول المائع للحلق مفطر، ومقتضى قوله: آخرا فهو ما لم يصل إلى الجوف لخ، أن وصوله للحلق لا يفطر، ولعل المعتمد هو كلامه الأول. انتهى. وقد مر أن قوله:"أو حلق"، عطف على قوله:"لمعدته"؛ وهو الذي اختاره ابن غازي، قال: فكأنه اعتبر فيما يصل بالحقنة ما يليه وهو المعدة، وفيما يصل من الأعالي ما يليها وهو الحلق، فما جاوز ما يليه كان أحرى. وأما عطفه على حقنة فغير ظاهر، ولذا استبعده ابن غازي، فقال: ويحتمل على بعد أن يكون معطوفا على حقنة؛ كأنه قال: وسواء كان وصوله للمعدة بسبب حقنة أو بسبب مرور على حلق قاله محمد بن الحسن.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد وعدم الفائدة. والله سبحانه أعلم.

تنبيهات: الأول: لا شيء على من غسل رأسه بالغاسول في ليل أو نهار، وفي المدونة: ولا يكتحل ولا يصب في أذنه دهنا إلا أن يعلم أنه لا يصل إلى حلقه، فإن فعل فوصل إلى حلقه فليتماد في صومه، ولا يفطر بقية يومه وعليه القضاء، ولا يكفر إن كان في رمضان، فإن لم يصل إلى حلقه فلا شيء عليه. قاله أشهب. وفي نقل الحطاب: إن تحقق أنه يصل إلى حلقه لم يكن له أن يفعل، وإن شك كره، وإن علم أنه لا يصل فلا شيء عليه، والمعروف وجوب القضاء في دهن الرأس إن استطعمه، ومقتضى كلام ابن الحاجب سقوط القضاء وأنكر، قال سند: والمنع في جميع ذلك إنما هو لمن فعله نهارا، وأما من فعله ليلا فلا شيء عليه، قوله: إن تحقق أنه يصل لخ، هذا الحكم ابتداء، فإن فعل فقال الحطاب: قال أبو الحسن في الصغير: إن علم أنه وصل إلى جوفه فليتماد وعليه القضاء، وكذا إن شك، وإن علم أنه لم يصل فلا شيء عليه، وهذا أصل في

ص: 103

كل ما يعمل من الحناء والدهن وغيره. وفي الكبير، قال بعض الشيوخ: هذا أصل كل ما يعمل في الرأس من حناء أو دهن أنه إن كان يصل إلى حلقه فليقض. الشيخ: ويختبر نفسه في غير الصوم. انتهى.

الثاني: قال سند بعد ذكره هذه الأشياء من الكحل والصب في الأذن والاستعاط والحقنة: فرع: إذا ثبت هذا فالمنع في جميع ذلك إنما هو لمن فعله نهارا، وأما من فعله ليلا فلا شيء عليه ولا يضره هبوطه نهارا؛ لأنه إذا غاص في أعماق الباطن لم تضر حركته، ويكون بمثابة ما ينحدر من الرأس إلى البدن من غير طريق الفم. انتهى. وقال ابن الحاجب: والجائفة كالحقنة بخلاف دهن الرأس، وقيل: إلا أن يستطعمه، قال ابن عبد السلام: هو خلاف في حال، وقال في التوضيح: كلامه يقتضي أن المشهور سقوط القضاء في دهن الرأس ولو استطعم، ولم أر الأول، واقتصر ابن شأس على الثاني، وكذا قال ابن عرفة إنه لا يعرف الأول، وقال البرزلي عن مسائل ابن قداح: مسألة من عمل في رأسه الحناء وهو صائم، فإن استطعمها في حلقه قضى وإلا فلا، وكذا من اكتحل، قلت: نقل ابن الحاجب عدم القضاء فيما وصل لحلقه من رأسه، والأول في السليمانية، وكذا الخلاف في الثانية، وثالثها الفرق بين النفل والفرض، وسبب الخلاف أن في هذا منافذ ضيقة ووصولها إلى الحلق نادر، فتجري على الخلاف في الطواري البعيدة النادرة، هل يختلف الحكم فيها أم لا؟ ولا كفارة في العمد مطلقا. انتهى. قاله الحطاب. وقوله: خلاف في حال.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: يعني أن الأول لا قضاء عنده؛ لأنه يرى أن لا يستطعمه، والثاني يرى أنه يمكن أن يستطعمه، فإن استطعمه لزمه القضاء، وقوله: وكذا الخلاف في الثانية؛ يعني الثانية وكلام البرزلي وهي مسألة الكحل، والأولى هي مسألة الرأس، وقوله: والأول في السليمانية يعني القول الذي لم يره المصنف وابن عرفة؛ وهو القول بأنه لا قضاء عليه في دهن الرأس مطلقا استطعمه أم لا. والله سبحانه أعلم.

الثالث: المراد بالإيصال في قوله: "وإيصال متحلل أو غيره"، الوصول لا حقيقة الإيصال المقتضية لفعل ذلك عمدا، هذا بالنسبة للفرض، وأما النفل فلا يضر فيه الوصول سهوا كما سيقول، "وفي

ص: 104

النفل بالعمد الحرام"، فمن أفطر في النفل ساهيا لا يبطل صومه بذلك؛ وهو محمل الحديث: (من أفطر ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه

(1)

)، وقال اللخمي: يمنع من الاستعاط، ولا ينفك المستعط من وقوع ذلك إلى حلقه.

الرابع قال عبد الباقي: مقتضى المصنف أن نبش الأذن بكعود لا شيء فيه، ولو أخرج خرأها لأنه لم يصل به شيء للأذن ولا للحلق. انتهى. وبخور؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم عدم وصول بخور لحلق الصائم بفتح الباء، والمراد به هنا الدخان الحاصل مما يتبخر به، وفي القاموس: البخور كصبور: ما يتبخر به. نقله الشبراخيتي. وقوله: "وبخور"، فإن استنشقه صانعه أو غيره، أو بخار قدر يحصل به غذاء للجوف، فعليه القضاء؛ لأن ريح الطعام يقوي الدماغ، فيحصل له ما يحصل للآكل. قاله عبد الباقي. وقال: فإن لم يصل لحلقه لم يضره، ولو جاءه ريحه واستنشقه، ثم ما اقتصر عليه المصنف في البخور أحد قولين ذكرهما ابن عرفة من غير ترجيح، وكذا ابن غازي في تكميله، وأما ما لا يحصل به غذاء للجوف كدخان حطب فلا قضاء بوصوله لحلقه، كذا في فتاوي علي الأجهوري، وظاهره: ولو استنشقه لأنه لا يتكيف، والدخان الذي يشرب مفطر؛ إذ هو متكيف، ويصل إلى الحلق بل إلى الجوف أحيانا ويقصد. انتهى. وقوله: لا يتكيف، قال محمد بن الحسن: فيه نظر، بل الدخان كله يتكيف، فالتفريق بينهما غير ظاهر. انتهى. وقال الشبراخيتي عند قوله:"وبخور": قال الشارحان: معطوف على متحلل، فالمعنى وترك إيصال بخور للحلق حتى يجد طعمه، قال في السليمانية: من تبخر بالدواء فوجد طعم الدخان في حلقه قضى صومه، ومفهوم كلامه أن شم رائحة غير البخور كالمسك والعنبر، وما له رائخة طيبة غير مفطر وهو كذلك اتفاقا. انتهى.

وقد مر من الأمير: أنه يكره للصائم شم الروائح، فيعم الخبيثة والطيبة. والله سبحانه أعلم. وقال الحطاب عند قوله:"وبخور": أي بخور يصل إلى حلقه، كما قال في تهذيب الطالب عن السليمانية فيمن تبخر بالدواء فوجد طعم الدخان في حلقه، قال: يقضي يوما، بمنزلة من اكتحل

(1)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1155. ولفظه: من نسي وهو صائم فأكل أو شرب .. الخ. البخاري، كتاب الأيمان والنذور، الحديث:6669. ولفظه: من أكل ناسيا وهو صائم فليتم صومه .. الخ.

ص: 105

ودهن رأسه فيجد طعم ذلك في حلقه فيقضي، وقال أبو محمد: أخبرني بعض أصحابنا عن ابن لبابة، أنه قال: من استنشق بخورا لم يفطر وأكره له ذلك. انتهى من التوضيح. فيحمل قول ابن لبابة على من شم الرائحة، ولم يجد طعم البخور في حلقه، فيتفق النقلان. والله أعلم. قال أبو الحسن في الصغير: قال ابن الماجشون: وإنما يفطر بما يصل إلى حلقه من طعم ذوق لا من طعم ريحه، ونحوه في النوادر، ثم ذكر كلام صاحب التهذيب عن السليمانية وابن لبابة، قال الشيخ: وأما المسك وغيره فلا خلاف أنه لا يفطر، قال ابن بشير: والفطر يقع بدخول جزء من المتناول لا بدخول رائحته. انتهى. وقال في الكبير: وهذا بخلاف استنشاق روائح المسك والغالية؛ هذا لم يختلف في أنه لا يجب عليه قضاء. الشيخ: واستنشاق قدور الطعام بمثابة البخور لأن ريح الطعام جسم ويتقوى به الدماغ، فيحصل به ما يحصل بالأكل. انتهى. فكأنه يقول إذا وجد طعم دخان القدر يفطر والله أعلم. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: تأمل قوله: لأن ريح الطعام جسم، وقوله: فكأنه يقول إذا وجد طعم دخان القدر يفطر، فإنه صريح أو كالصريح في أن الذي يفطر إنما هو استنشاق دخان القدر، وأما استنشاق مجرد الرائحة من غير دخان ولا فوار فإنه لا يضر لكنه يكره، والله سبحانه أعلم. وقال الشارح في الكبير: قال في التلقين: يجب الإمساك عن المشموم ولم يفصل. انتهى. نقله الحطاب. قال: وكأنه فهم هذا من قوله: والذي يجب الإمساك عنه في الصوم نوعان؛ أحدهما إيصال الشيء إلى داخل البدن، والثاني إخراج شيء عنه، فالذي يوصل إلى داخل البدن ما يصل إلى الحلق مما ينماع ويقع الاغتذاء به أو لا ينماع، أو يطعم أو لا يطعم، وذلك كالطعام والشراب المغذيين والدرهم والحصى وسائر الجمادات التي لا تطعم ولا تنماع ولا يقع بها غذاء ومثلها الكحل والدهن والمشموم وغير ذلك من المائعات والجامدات الواصلة إلى الحلق من مدخل الطعام والشراب، أو من غير مدخلهما كالعين والأنف والأذن وما تحدر من الدماغ بعد وصوله من بعض هذه المنافذ. انتهى. وكأنه اعتمد هذا في الشامل، فقال فيه: ولا يشم شيئا من الرياحين. انتهى. وانظر هذا مع ما يأتي في فصل الاعتكاف أن المعتكف يجوز له أن يتطيب، والمعتكف لا يكون إلا صائما. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.

ص: 106

وقال الأمير عاطفا على ما فيه الفطر: أو دخان كبخار القدر. وقيء؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم ترك إيصال قيء خرج غلبة للحلق ومثل القيء القلس، وقد قَدَّم أن في القيء المستدعى القضاء وإن لم يرجع منه شيء للحلق. وبلغم؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم ترك إيصال البلغم للحلق؛ والبلغم: النخامة. إن أمكن طرحه، راجع للقيء والبلغم؛ يعني أن محل لزوم القضاء في القيء والبلغم إنما هو حيث أمكن طرح كل منهما؛ بأن وصل إلى موضع يقدر على طرحه منه كما لو وصل إلى لسانه أو لهاته، وأما إن لم يمكن طرح القيء بأن لم يبلغ موضعا يقدر على طرحه منه، فحكمه حكم ما في المعدة أي لا قضاء، وإن لم يمكن طرح البلغم بأن لم يبلغ موضعا يقدر على طرحه منه فحكمه حكم ما في الصدر والرأس من البلغم؛ أي لا قضاء فيه.

والحاصل أنه يقضي حيث وصل الراجع من القيء والبلغم -على ما قال المصنف- للحلق بعد أن بلغ كل منهما الموضع الذي يقدر على طرحه منه، سواء كان رجوعهما إلى الحلق عمدا أو غلبة أو سهوا، وبتقريري لقوله:"أمكن طرحه"، علمت أنه لا منافاة بينه وبين قولي: غلبة. والله سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: والمختار أنه لا قضاء في ابتلاع البلغم، ولو أمكن طرحه، ولو بعد وصوله إلى اللهوات مع كراهة ذلك كما في المواق، جمع لهاة: لحمة مشرفة على الحلق في أقصى الفم، ولا شيء عليه في ابتلاع ريقه إلا بعد اجتماعه. انتهى. قوله: إلا بعد اجتماعه، قال محمد بن الحسن: أي فعليه القضاء، وهذا قول سحنون، وقال ابن حبيب: يسقط القضاء مطلقا، وفي المواق عن سند: وما اجتمع من الريق في فم الإنسان فينفثه، ولو بلعه جاز وإن كان صائما. اهـ. وفي حاشية الأمير أن الأشهر قول ابن حبيب بإلغاء الريق المجتمع اهـ.

واعلم أن ما مشى عليه المصنف في البلغم هو قول سحنون، وقال ابن حبيب وابن القاسم: البلغم لغو، قال ابن عرفة: وفي لغو ابتلاع نخامة ولو عمدا بعد إمكان طرحها ونقضه قولا ابن حبيب مع ابن القاسم، قائلا: أراني سمعته عن مالك والشيخ عن سحنون شاكا في كفارة العامد. اهـ. وفي المواق من اللخمي أن محل الخلاف ما وصل إلى اللهوات وإلا يَصِلْ فَلا خلاف في لغوه وإن قدر على طرحه، والقول بأن ابتلاع البلغم لا يفطر هو الذي عليه اللخمي وابن يونس والباجي وابن رشد وعياض، وقال القباب: هو الراجح. قاله محمد بن الحسن. وقال الشبراخيتي: إن هذا

ص: 107

القول رجحه القباب واقتصر عليه عياض في قواعده، وعزاه ابن رشد لأصبغ عن ابن القاسم، فينبغي أن يكون الفتوى به خلافا لقول سحنون إن عليه القضاء والكفارة. انتهى. واقتصر عليه الشيخ المحقق الأمير فقال: بخلاف البلغم فلا يضر رجوعه، وإن أمكن طرحه كالريق المجتمع. انتهى.

والحاصل أن المعتمد أنه لا قضاء في ابتلاع البلغم، ولو أمكن طرحه ولو بعد وصوله إلى اللهواتِ.

تنبيه: قال الحطاب عن الشيخ زروق: وفيمن ابتلع دما خرج من أسنانه غلبة قولان حكاهما في الجواهر. انتهى. ومن جامع الأمهات للسنوسي مسألة: قال ابن عرفة وغيره: ابن شأس: وابتلاع دم خرج من سنة غلبة لغو، وإن ابتلعه وهو قادر على طرحه أفطر، وقيل: لا يفطر قلت ولفظ ابن قداح: ومن وجد في فيه دما وهو صائم يمجه حتى يبيض ولا شيء عليه، ويستحب له غسله إذا قام إلى الصلاة أو إلى الأكل، فإن لم يفعل فلا شيء عليه، ومن كثر عليه الدم إذا كان من علة دائمة فلا شيء عليه ابتلع منه شيئا أو لم يبتلع. قاله الحطاب.

تنبيه آخر: اعلم أنه إذا انفصل البلغم والريق عن الشخص صارا كغيرهما، فيفطر إن وصلا لحلقه بعد ذلك، ومر أن بلع ما بين الأسنان لا يفطر، وهو يضر عند الشافعية كالحنفية إن كثر مقدرين بنحو الحمصة والظاهر عندنا ضرر المتفاحش عرفا. قاله الأمير. وقال الأمير: في الحطاب: أن دم الأسنان يمج حتى يبيض الريق وإلا قضى، ولم يذكر كفارة، قال: فإن دام وعسر عفي عنه، واستحب أشهب القضاء منه. انتهى.

مطلقا راجع للقيء والبلغم، ومعناه في القيء كان من علة أو امتلاء تغير عن الطعام أم لا، رجع عمدا أو غلبة أو سهوا، ومعناه في البلغم سواء كان من الصدر أو من الرأس، وسواء وصل لطرف اللسان أو اللهوات أم لا، رجع عمدا أو سهوا أو غلبة، وتقدم أن الراجح في البلغم لا قضاء في ابتلاعه ولو وصل إلى اللسان أو اللهوات، وعليه فإذا وصل إلى اللهوات أو طرف اللسان ثم رجع فقد أساء ولا شيء عليه، وفي الخرشي عن ابن حبيب: كراهة ابتلاع البلغم لإمكان الانفكاك عنه، بخلاف الريق. انتهى.

ص: 108

أو غالب من مضمضة؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم أن لا يصل إلى حلق الصائم شيء من المضمضة أو الاستنشاق غلبة أم لا، وإنما خص الغالب لأنه روي من مالك قول بعدم القضاء في الغالب، وسواء كانت المضمضة لحر أو عطش أو وضوء، وقال الحطاب: قال الشيخ زروق في شرح الإرشاد: وابتلاع ماء المضمضة يوجب القضاء لا بقاياه مع الريق بعد طرحه بالكلية فإنه لا يضر. قاله الحطاب.

أو سواك؛ يعني أنه يشترط في صحة الصوم أن لا يصل إلى حلق الصائم شيء من السواك غالبا أم لا، قال الشبراخيتي: ونبه على ذلك ليلا يتوهم أن الشارع لما طلب السواك من الصائم يغتفر ما سبق منه للحلق، فلا قضاء فيه فرفع ذلك التوهم.

وعلم من كلام المصنف صريحا أن المضمضة والسواك يضر ما وصل منهما للحلق وإن لم يمكن طرحه وأولى الواصل عمدا، وكذا يفطر بالواصل للحلق منهما سهوا. وقضى في الفرض؛ يعني أن من أفطر في الفرض رمضان أو غيره، يجب عليه قضاء ذلك اليوم الذي أفطر فيه. مطلقا؛ أي عمدا اختيارا أو إكراها أو نسيانا، كان حراما أو واجبا كمن خاف هلاكا أو شديد أذى، وهذا شروع من المصنف رحمه الله تعالى في أحكام الإفطار بعد أن ذكر شروط الصحة، وهي أي أحكام الإفطار على سبيل الإجمال سبعة: الإمساك، والقضاء، والإطعام، والكفارة، والتأديب، وقطع التتابع، وقطع النية الحكمية.

واعلم أن من أفطر في الفرض العين يجب عليه الإمساك مطلقا عمدا أم لا، ويجوز الفطر بقية ذلك اليوم في المضمون مطلقا عمدا أو سهوا كقضاء رمضان والنذر المضمون، وفي النفل واجب في النسيان وجائز في العمد الحرام، ويأتي الكلام على العمد الحلال، والفرض المعين هو رمضان، والنذر العين والتمتع وقضاء رمضان إذا ضاق وقتهما. قاله محمد بن الحسن. لكن بصيغة أذكرها قريبا إن شاء الله تعالى.

وما مر من أن الفرض المعين يجب الإمساك على من أفطر فيه بقية ذلك اليوم يستثنى منه ما تقدم عند قوله: "أو زوال عذر مباح له الفطر مع العلم برمضان". قاله محمد بن الحسن. وقال الشيخ عبد الباقي: ثم إن كان عامدا فإن كان معينا كرمضان والنذر المعين، وما أشبه ذلك مما ليس

ص: 109

مضمونا في الذمة وجب عليه إمساك بقية اليوم، وإن كان مضمونا لم يجب عليه إمساك بقيته وإن كان غير عامد، فإن كان في رمضان أمسك، وإن كان في قضائه خير والإمساك أولى وإن كان كالظهار، وقتل النفس مما يجب تتابعه فأفطر أول يولم لم يستحب

(1)

له الإمساك بقيته ثم يستأنف العدة شهرين، وإن أفطر أثناءه، فمن قال: الفطر مسقط حكم الماضي فله أن يفطر، وإن كان كجزاء الصيد وفدية الأذى وكفارة اليمين مما لا يجب تتابعه فهو مخير بين الإمساك وعدمه. قاله اللخمي. انتهى.

قال محمد بن الحسن: قوله وما أشبه ذلك الصواب إسقاطه، وقد يجاب عنه بتصوره في القضاء والتمتع إذا ضاق وقتهما، ونظم ذلك الشيخ الأجهوري فقال:

أوجب على المفطر في شهر الصيام

إمساك باقي اليوم حتما يا إمام

إن لم يكن إفطاره لعذر

يبيحه مع علمه بالشهر

أو لصبا أو لجنون ولزم

إمساك مكره على فطر علم

كذاك مفطر بنذر عينا

سهوا ويقضيه كما قد بينا

كالفطر في كفارة الظهار

على انتفا القطع على المختار

إن لم يكن بأول الأيام

إذ بعده يبدأ بالصيام

وما به قطع تتابع فلا

يلزمه الإمساك فيه مسجلا

وفطره سهوا بصوم النفل

إذ ليس ذا لصومه بمبطل

وفي سوى جميع ذا لا يلزم

إمساكه ففطره لا يحرم

كمفطر سهوا بتكفير اليمين

أو في قضا شهر الصيام يا فطين

والنذر مضمونا وهذه دُرَرْ

نظمتها نظما بديعا مختصر

قال مفيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: علم من هذا أن من شك هل حصل منه مفطر في قضاء رمضان أم لا، أو شك هل تسحر في قضاء رمضان قبل الفجر أو بعده، يجوز له الفطر، وفي

(1)

كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 2 ص 205 "استحب".

ص: 110

الخرشي: وإن سمع المؤذن وهو يأكل ولا علم له بالفجر فيكف ويسئل المؤذن عن ذلك الوقت، فيعمل على قوله: فإن لم يكن عنده عدلا ولا عارفا فليفطر، فإن كان في قضاء رمضان فليقض، ويباح له فطر ذلك اليوم أو التمادي. انتهى.

وفي الحطاب: التصريح بأن من شك هل حصل له وصول الحقنة للجوف أم لا، كمن أكل وهو شاك في الفجر، وفيه أن من شك في حصول مفطر يلزمه القضاء، وفي الشبراخيتي: أنه يدخل تحت قول المصنف: "وكأكله شاكا في الفجر"، من قال له شخص أكلت قبل الفجر، وقال له آخر أكلت بعده.

تنبيهان: الأول: قال الخرشي: من نذر شهرا معينا فأفطر جميعه، فهل يقضيه مفرقا وهو قول ابن القاسم، أو يقضيه متتابعا وهو قول أشهب؟ انتهى.

الثاني: قال الجزولي: مفسدات الصوم عشرون، عشرة متفق عليها، وعشرة مختلف فيها، فالمتفق عليها: تعري الصوم من النية، والأكلُ، والشربُ، والجماعُ وإن لم يكن إنزال، والإنزال وإن لم يكن جماع، والذي مع تقدم سببه ومداومته، والحيض، والنفاس، وخروج المولد، والاستقاء إذا رجع من القيء شيء. والعشرة المختلف فيها: الفلقة من الطعام، وغبار الطريق، وغبار الدقيق، وما وصل من غير مدخل الطعام والشراب بل من أنف أو أذن أو عين، وما ينحدر من الرأس، وابتلاع ما لا يتحلل مثل الحصى، والذي إذا لم يتعمد سببه، والاستقاء إذا لم يرجع من القيء شيء، والقيء غلبة إذا رجع منه شيء، والردة، ورفض النية. قاله الحطاب.

وإن بصب في حلقه نائما؛ يعني أن الفطر بأي وجه كان يوجب القضاء في الفرض، ولو كان الفطر حاصلا بسبب صب ماء في حلق الصائم في نومه، بخلاف صوم التطوع فلا قضاء عليه في ذلك قال الشبراخيتي. ولا كفارة عليه ولا على الصاب على المذهب، وقال عبد الباقي: ولا كفارة على الصاب لعدم لذته وعدم خطاب النائم. كمجامعة نائمة، تشبيه في وجوب القضاء؛ يعني أن المرأة الصائمة إذا جومعت وهي نائمة ولم تشعر بذلك الجماع، فإنه يجب عليها قضاء ذلك اليوم الذي جومعت فيه، قال عبد الباقي: وعليه الكفارة عنها على المعتمد كما هو ظاهر المدونة في الحج،

ص: 111

واعتمده أبو الحسن وابن راشد وغيرهما للذة المجامع في النائمة دون ظاهرها

(1)

هنا من عدم تكفيره عنها، وإن اقتصر عليه في التوضيح وأحمد

(2)

)، قوله: وعليه الكفارة عنها لخ، قال محمد بن الحسن: تفريقه بين الفرعين في كلام المصنف غير صواب؛ إذ الذي في المدونة وأبي الحسن التسوية بينهما، ونصها: ومن أكره أو كان نائما فصب في حلقه ماء في رمضان، أو جومعت امرأة نائمة فالقضاء يجزئ بلا كفارة. انتهى باختصار. ونقله الحطاب وابن عرفة والمواق.

قال أبو الحسن: وسكت عن الفاعل، هل تلزمه الكفارة أم لا؟ وأوجبها ابن حبيب على الفاعل فيهما

(3)

، وبه قال أبو عمران؛ وهو ظاهرها في كتاب الحج الثالث، قال: وهو تفسير لقول ابن القاسم فتبين أنه لا فرق بين الفرعين. والله أعلم. والفرق الذي ذكره الزرقاني إنما فرق به في التوضيح بين من أكره زوجته على الوطء وبين من أكره شخصا وصب في حلقه ماء، وهما غير فرعي المصنف. انتهى.

وقال الحطاب: قال في المدونة: ومن أكره أو كان نائما فصب في حلقه ماء في رمضان، أو في نذر، أو ظهار، أو في صيام كفارة القتل، أو في صيام متتابع، أو جومعت امرأة نائمة في رمضان فالقضاء في ذلك كله يجزئ بلا كفارة، وتصل القضاء في ذلك كله بما كان من الصوم متتابعا، وإن كان في صوم تطوع فلا قضاء عليه. انتهى.

ابن عرفة: وفيها لا كفارة على من جومعت نائمة، أو صب في حلقه ماء كذلك، ولا على فاعله، وقال في التوضيح في مسألة من أكره زوجته أو أمته على الوطء لما ذكر أن المشهور أن عليه أن يكفر عنها ما نصه: عورضت هذه المسألة بمن أكره شخصا وصب في حلقه ماء، فإنه نص في المدونة على أنه لا كفارة عليه، نعم أوجبها ابن حبيب، وقد يفرق بينهما بأن المكره لزوجته أو أمته حصلت له لذة فناسب أن تجب عليه الكفارة عنها، وأما من صب في حلق إنسان ماء فلم يحصل له شيء ويؤيده أنه لو أكره غيره على أن يجامع لم تكن عليه كفارة عند الأكثر، ونقل

(1)

في الأصل ظاهر ما هنا والمثبت من عبد الباقي، ج 2 ص 205.

(2)

في عبد الباقي ج 2 ص 205: اقتصر عليه التوضيح: ود.

(3)

في الأصل فيها والمثبت من البناني ج 2 ص 205 ط دار الفكر.

ص: 112

قبله عن التنبيهات أنه قال: أكثر أقوال أصحابنا لا كفارة عليه، وعن عبد الملك أن عليه الكفارة. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.

وقال في الطراز في آخر باب الإفطار بالإكراه: ويجري التفريع في الأكل كرها على حكم الأكل سهوا في وجوب القضاء في الواجب، وسقوطه في التطوع، وفي الكف معه وعدم قطع التتابع، وكل ذلك مذكور في المدونة موضحا. انتهى. ونقل ابن يونس أيضا أنه يجب عليه الكف. والله أعلم. قاله الحطاب. وقال الأمير: إن مجامع النائمة والصاب في حلق النائم يكفر كل منهما عمن فعل به ذلك على الراجح، كما في بناني. وكأكله شاكا في الفجر، عطف على قوله:"كمجامعة نائمة"؛ يعني أن من أكل شاكا في طلوع الفجر واستمر على شكه، يلزمه قضاء ذلك اليوم، ويحرم عليه أكله في حالة الشك، ولا كفارة عليه اتفاقا، والمراد بالشك عدم التيقن. قاله الشبراخيتي. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: كلام الشبراخيتي صريح أو كالصريح في أنه يحرم عليه الأكل في حال توهمه طلوع الفجر، وأنه يجب عليه القضاء إن أكل متوهما طلوع الفجر؛ وهو الموافق لقول ابن يونس: لا يرتفع الفرض بغير يقين. انتهى. وقوله: "وكأكله شاكا"، قد علمت أن محله حيث استمر على شكه، وأما إن تبين أنه أكل قبل الفجر فيعمل على ما تبين كما نص عليه غير واحد، وقوله:"وكأكله شاكا"، جار في الفرض والنفل لأنه من العمد الحرام، كما نص عليه محمد بن الحسن رادا على عبد الباقي، فإنه قال وينبغي جريان المصنف في النفل أيضا، ويحتمل عدم قضائه مع الشك المذكور بمنزلة الفطر ناسيا. انتهى. وما قاله محمد بن الحسن ظاهر، وقوله:"وكأكله شاكا في الفجر"، وأولى في الغروب، فيجب عليه القضاء بلا خلاف مع الحرمة اتفاقا، وفي وجوب الكفارة خلاف هذا إن علم أنه أكل قبل الغروب، فإن بقي على شكه فلا كفارة عليه ويلزمه القضاء، وأما لو تبين أنه أكل بعد الغروب فلا قضاء عليه، ومن أكل في آخر يوم من رمضان متعمدا ثم تبين أنه يوم الفطر، فقيل: عليه الكفارة، وقيل: لا. ذكره ابن القصار. قاله الحطاب.

وقال الخرشي: ولا كفارة على من أكلت متعمدة فتبين أنها حاضت قبل ذلك، ولا على من أفطر في آخر يوم من رمضان متعمدا ثم تبين أنه يوم العيد كما اقتصر عليه البرزلي. انتهى.

ص: 113

وقوله: "وكأكله شاكا في الفجر"، قد مر أنه يحرم عليه الأكل في حالة الشك وهو المشهور، وقيل: يندب له ترك الأكل، وعليه فيندب له القضاء، وقيل يباح له الأكل، وعليه فلا يندب له القضاء، ولا يجب عليه ذكره الشاذلي وغيره: وفي بعض النسخ وفي الفجر بالواو، وعلى هذه النسخة يكون المصنف أفاد حكم المسألتين بالتصريح؛ أعني مسألتي الشك في الغروب والشك في الفجر، وقوله:"وكأكله شاكا في الفجر"، يدخل فيه ما لو قال له شخص: أكلت بعد الفجر، وقال له آخر: أكلت قبل الفجر. قاله الشبراخيتي.

أو طرأ له الشك يعني أن الشخص إذا أكل معتقدا بقاء الليل أو حصول الغروب، ثم طرأ له الشك فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم. واعلم أن الشك في الصورتين المشتمل عليهما قوله:"وكأكله شاكا"، سابق، وفي الأخيرتين المشتمل عليهما قوله:"أو طرأ له الشك"، لاحق، وقوله:"أو طرأ له الشك"، هذا في الفرض، وأما النفل فلا قضاء عليه فيه. قال عبد الباقي: والنفل مخالف للفرض في هذا، فليس عليه قضاء فيه، هذا هو الظاهر. انتهى. قوله: هذا هو الظاهر، قال محمد بن الحسن: قصور؛ إذ عدم القضاء هو نص المدونة كما في المواق؛ لأن فطره ليس بعمد حرام. انتهى. وقوله: "أو طرأ له الشك"، قال الشبراخيتي: ظاهره ولو بعد فراغ الصوم، وهذا يناسب قول مالك: إن الصلاة عبادة واحدة. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: علم مما تقدم أنه لا بد في صحة الصوم الفرض من حصول اليقين، فمن شك أنه حصل منه مفطر أو توعم ذلك وجب عليه قضاء ذلك اليوم، وكلام الشبراخيتي وابن يونس صريح في ذلك أو كالصريح. والله سبحانه أعلم.

ومن لم ينظر دليله اقتدى بالمستدل؛ يعني أن الشخص إذا لم يعرف دليل الصوم؛ أي لم يعرف الدليل المتعلق بالصوم وجودا أو عدما من فجر أو غروب فإنه يقتدي بالمستدل والمستدل هو العدل العارف بالأوقات، أو المستند إلى العدل العارف. وظاهر كلامهم أن من لم يعرف دليل الصوم له أن يقتدي بالمستدل، وإن قدر هذا الذي لم يعرف الدليل على الاستدلال.

وبما قررت علم أن المراد بالنظر في قوله: "ومن لم ينظر دليله": المعرفة، فقوله:"ومن لم ينظر دليله "؛ أي لم يعرف دليله.

ص: 114

وعلم مما قررت أيضا أن الضمير في قوله: "دليله"، عائد على الصوم، ويصح أن يرجع للفجر أو الغروب، والأول أولى لشموله لهما.

واعلم أن من تسحر للنافلة فظهر له أن ذلك بعد الفجر يجب عليه الإمساك؛ لأن صومه لم يفسد، فهو بمنزلة من أفطر في النفل ناسيا، وأما من تسحر لقضاء رمضان ثم تبين له أن ذلك بعد الفجر فإنه لا يجب عليه الإمساك، قال الشيخ ميارة:

ومن تسحر لنفل أو قضا

فبان ذا من بعد فجر قد أضا

فالأول الفطر عليه يحرم

إن بيتهْ ولا قضاء يلزم

وذيلت هذين البيتين بثالث فقلت:

والنص في الثاني جواز الفطر

وكونه يمسك أولى فادر

وقد علمت أن محل لزوم الإمساك لمن تسحر للنافلة إن بيت الصوم، وأما إن كانت نيته أن يتسحر ثم يعقد الصوم بعد سحوره، فله أن يأكل بقية يومه ولا قضاء عليه، وكذا إن لم ينو الصوم من أول الليل. ابن حبيب: وإن سمع المؤذن وهو يأكل ولا علم له بالفجر، فيكف ويسأل المؤذن عن ذلك الوقت، فيعمل على قوله: فإن لم يكن عنده عدلا ولا عارفا فليقض، وإن كان في قضاء رمضان فليقض، ويباح له فطر ذلك اليوم أو التمادي. انتهى. قاله الخرشي.

وإلا احتاط؛ يعني أن من لم يعرف دليل الصوم إذا لم يجد مستدلا أو وجده [فاقدا بعض]

(1)

، ما يعتبر فيه، فإنه يحتاط بتأخير الفطر وتقديم السحور، بحيث يتيقن الغروب في الأولى وبقاء الليل في الثانية.

وبما قررت علم أن معنى قوله: "وإلا": وإن لا يجد مستدلا عدلا عارفا بالأدلة. الجوهري: الدليل ما يستدل به، والدليل الدال، وقد دله على الطريق يدله دَلالة ودِلالة ودُلولة. انتهى.

(1)

في الأصل: فقد بعض، والمثبت من عبد الباقي ج 2 ص 205.

ص: 115

وقوله: "ومن لم ينظر دليله"، قد تقدم أن المراد به: لم يعرف، وكذا الحكم لو عرف فله أن يقتدي بالعدل العارف، والفرق بين هذا وبين قوله في القبلة:"ولا يقلد مجتهد غيره"، كثرة الخطإ في القبلة لخفائها دون دليل الصوم. إلا المعين؛ مستثنى من قوله:"وقضى في الفرض مطلقا" استثناء متصلا؛ يعني أن الشخص إذا نذر أن يصوم زمنا عينه كتسع ذي الحجة مثلا وأفطر فيه لأجل مرض. فإنه لا يلزمه قضاؤه إذا صح، فمحل لزوم قضاء الصوم المفروض بالفطر فيه مطلقا إنما هو في غير النذر المعين إذا أفطر فيه لأجل واحد من هذه الأمور الثلاثة: المرض، والحيض، والنسيان، وأما إن أفطر فيه لأجل المرض فإنه لا يلزمه قضاء سواء أفطره كله أو بعضه، وكذا لا يلزمه قضاؤه كلا أو بعضا حيث أفطر لأجل الحيض، كما أشار إلى ذلك بقوله: أو حيض؛ يعني أو نفاس، ومثله الإغماء والجنون، وإنما لم يقض لفوات الزمن، فإن زال عذره -وقد بقي منه يوم أو أكثر- فإنه يصومه. والله سبحانه اعلم. أو نسيان؛ يعني أن النذر المعين كما لا يجب قضاؤه على من أفطر فيه لمرض أو حيض، لا يجب قضاؤه أيضا على من أفطر فيه لأجل نسيان؛ أي لكونه نسي أنه نذر هذا الزمن الذي أفطره، وقوله:"أو نسيان"، قال عبد الباقي: ضعيف، والمعتمد قضاؤه مع وجوب إمساك بقية يومه، والفرق بينه وبين المرض أن الناسي معه ضرب من التفريط، وكذا إن أفطر فيه مكرها أو لخطإ وقت كصوم الأربعاء يظنه الخميس المنذور، أو بسبب سفر قصر لأن رخصته خاصة برمضان. انتهى. قوله: وكذا إن أفطر فيه مكرها الخ؛ أي عليه القضاء وهو الذي في الطراز، وقال الحطاب: إنه المشهور، وفي الخرشي أنه لا قضاء عليه في الإكراه، وأصله في التلقين ويدل عليه قول ابن عرفة لكنه خلاف المشهور كما علمت. قاله محمد بن الحسن. وقال الشبراخيتي: وقوله: "أو نسيان"، تبع فيه تشهير ابن الحاجب، وهو خلاف ما تجب به الفتوى، والذي في المدونة أن فيه القضاء مع وجوب إمساك بقية يومه، ومثل النسيان في القضاء خطأ الوقت وفطر السفر والمكره. انتهى.

وقال عبد الباقي: وشمل المصنف ناسي تبييت الصوم في المعين ثم تذكر أثناءه، والمفطر فيه ناسيا بعد تبييت الصوم، وتارك التبييت عمدا معتقدا أنه الذي قبله أو بعده، ثم تبين في أثنائه أنه المعين، فيجب عليه الإمساك وعدم القضاء على كلام المصنف، والراجح وجوب القضاء في هذه

ص: 116

الصور الثلاث انتهى كلام عبد الباقي. وقال: وأما إن بيت الصوم معتقدا أنه المعين فتبين أنه اليوم الذي قبله، فينبغي أن يكون حكمه حكم النفل، فإن أفطر فيه ناسيا وجب الإمساك، ولا قضاء عليه لذلك اليوم؛ إذ المعين باق عليه كما قدمناه بقولنا: أو خطأ وقت، فإن يبت الصوم معتقدا أنه المعين فتبين أنه الذي بعده أجزأ، وكان قضاء عنه كأسير صام شوالا يظنه رمضان، وانظر لو بيته معتقدا أنه الذي قبله أو بعده فتبين له أثناء النهار أنه عينه، فهل يجزئه نظرا لذاته وإن لم ينوها كمصادفة الملتبس عليه الشهور على أحد الترددين المتقدمين فيه أولا نظرا لعدم نية عينه، ويفرق بينه وبين ما تقدم بأن ذلك نوى ما وجب عليه شرعا، وهذا لم ينو ما وجب عليه. انتهى.

قال محمد بن الحسن: قوله: وهذا لم ينو ما وجب عليه، فيه نظر، بل هذا نوى ما وجب عليه شرعا لما اعتقد مضي اليوم المعين. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: ما قاله محمد بن الحسن لا يجري فيما إذا بيت الصوم معتقدا أنه اليوم الذي قبل المعين كما هو ظاهر، وكذا لا يجري فيما بعده أيضا حيث نوى به التطوع مثلا، والظاهر أن هذا هو معنى ما قاله عبد الباقي، وحينئذ فلا وجه لتعقبه له، وما قاله محمد بن الحسن إنما يظهر إذا نوى الصوم عن نذره المعين مع اعتقاد أنه اليوم الذي بعده فإذا هو اليوم المعين، ولا يخفى على من تأمل كلام عبد الباقي أن هذا الذي قاله محمد بن الحسن ليس مرادًا لعبد الباقي. والله سبحانه أعلم. واحترز المصنف بقوله:"المعين"، عن النذر المضمون إذا أفطر فيه لمرض أو نحوه من الأمور السابقة، فإنه يجب عليه فعله بعد زوال المانع لعدم تعيين وقته، وهذا إذا داخل فيما قبل الاستثناء، ولا يجب فيه إمساك بقية اليوم كما مر، وفي الأمير: ولا يقضي عن النذر المعين الذي أفطر فيه لحيض أو مرض نعم لنسيان أو إكراه، وأولى اختيارا أو لسفر وخطإ بسبق وأتم ما هو فيه والخطأ بتأخير قضى عن ذلك المعين. انتهى. فالفطر في النذر المعين لسفر أو اختيارا داخل في قول المصنف:"وقضى في الفرض مطلقا"، ففي التوضيح: وأما لو أفطر لسفر فيجب عليه القضاء اتفاقا، قاله الحطاب.

ص: 117

وتقدم نظم الشيخ علي الأجهوري فيمن يجب عليه الإمساك إذا أفطر، ومن لا يجب عليه، وله في ذلك أيضا:

في كل مفطر فرض بالأصالة أوْ

بنذر عين عليه الكف قد حتما

كالفطر سهوا بأثنا الذْ تتابعه

حتم على القول أن القطع قد عدما

أما على أن فطر السهو يقطعه

فالكف في ذا لديهم ليس منحتما

ككف مفطر مضمون كذا بقضا

شهر الصيام ولو سهوا بذا حكما

والفطر في النفل سهوا لا يخل به

فلا قضاء وإمساك به لزما

قوله: والفطر في النفل سهوا لا يخل به، مثل السهو الجهل والإكراه، فإنه لا يفسد بهما النفل كما ذكره الحطاب عند قول المصنف:"والقضاء في التطوع بموجبها، وهنا لغز وهو أنه قد يجب على الحائض والمريض قضاء الصوم المعين، والجواب أن ذلك فيما إذا نذر أحدهما أن يعتكف أباما بعينها ثم جاءه العذر فإنه يقضي ذلك، وقوله: وأفطر فيه لمرض، هذا هو المشهور، وقيل: يجب القضاء بفطر مرض في الحضر، وقال الحطاب عند قوله "إلا المعين لمرض أو حيض أو نسيان": تبع رحمه الله تعالى ابن الحاجب في تشهير القول بعدِّ النسيان من مسقطات القضاء، وقبله في التوضيح أيضا وهو خلاف مذهب المدونة قال فيها: ومن تسحر بعد الفجر ولم يعلم بطلوعه أو أكل ناسيا لصومه، فإن كان في تطوع فلا شيء عليه ولا يفطر بقية يومه، فإن فعل قضاه، ثم ذكر حكم النذر المطلق، ثم قال: وإن كانت أياما بعينها أو أكل في رمضان فليتماد على صومه وعليه القضاء.

وقد وَهَّمَ ابن عرفة ابن الحاجب في تشهير القول بعَدِّ النسيان من مسقطات القضاء في النذر المعين، فقال بعد أن حكى وجوب القضاء بالفطر فيه نسيانا: فيه ثلاثة أقوال: الأول وجوب القضاء والثاني عدمه، والثالث التفصيل بين أن يختص بفضل فلا يجب القضاء، أولا يختص فيجب، وَجَعْلُ ابنِ الحاجِب الثانيَ المشهورَ وَهَمٌ. انتهى.

ص: 118

وفي النفل بالعمد الحرام؛ يعني أن صوم التطوع يجب قضاؤه على من أفطر فيه عمدا إذا كان فطره ذلك حراما؛ بأن يفطر عمدا من غير ضرورة ولو لسفر طرأ عليه أو تطوع به فيه، خلافا لابن حبيب لا بالفطر ناسيا أو مكرها، ولا إن أفطر فيه جهلا لأنه لا يفسد مع الجهل والنسيان والإكراه إلا الفرض، ولا إن لم يحرم الفطر، كشدة جوع أو عطش، أو خوف تجدد مرض أو زيادته، أو أمر والديه أو شيخه أو سيده إذا تطوع بغير إذنه، فلا يجب فيه قضاء، ولا يجب فيه الكف أيضا. قاله عبد الباقي.

وأما العمد الحرام في النفل، فهل يجب معه الإمساك أولا؟ قولان. قاله ابن الحاجب. وقال ابن عرفة: الشيخ: روى ابن نافع لا وجه لكف مفطره عمدا لا لعذر، ونقل ابن الحاجب وجوب الكف لا أعرفه. انتهى.

وقد علمت أن الفطر في النفل سهوا لا يوجب خللا، فمن حلف بالطلاق ليصومن غدا وصامه ثم أفطر فيه سهوا لا حنث عليه، وبه صرح التتائي عن ابن عرفة، وإن ترك صومه سهوا حنث كمن حلف ليفعلن غدا كذا وتركه نسيانا، وقوله:"وفي النفل بالعمد الحرام"، قد مر أن السفر ليس بعذر، قال الحطاب: وفي السفر روايتان، مذهب المدونة أنه ليس بعذر، وروى ابن حبيب أنه عذر يسقط القضاء، وكذلك أوجب في المدونة القضاء على من تطوع بالصوم في السفر ثم أفطر، وفي الجلاب رواية أخرى بسقوطه. انتهى جميعه من التوضيح.

ونص المدونة: ومن تسحر بعد الفجر وهو لا يعلم، أو أكل ناسيا لصومه فإن كان في تطوع فلا شيء عليه ولا يفطر بقية يومه، فإن فعل قضاه، قوله: لا شيء عليه، نفي للوجوب، وهل قضاؤه مستحب أم لا؟ سمع ابن القاسم استحباب قضائه، ولم يحك ابن رشد غيره، وقال ابن بشير: في استحبابه قولان، ولو أكل في النفل ناسيا حرم عليه الأكل ثانيا؛ لأن صومه لم يفسد كما مر. انتهى كلام الحطاب.

وقال الحطاب: وعلم من قوله: "العمد الحرام"، أنه لو أفطر متأولا، لا قضاء عليه، وقال ابن ناجي: ظاهر كلام الباجي يقتضي أن من أفطر في تطوعه متأولا أنه لا يقضي، لقوله: كل ما يسقط الكفارة في رمضان يسقط القضاء في التطوع.

ص: 119

تنبيهات الأول: قال في المدونة: ويكره أن يعمل في صوم التطوع ما يكره أن يعمل في صوم الفريضة. أبو الحسن: مثل الحقنة، والسعوط، وذوق الملح والطعام، ومضغ العلك، وسائر ما تقدم مما يكره في الفرض. انتهى. وقد مر أن من أفطر في النفل ناسيا ثم أكل بعد ذلك متعمدا أنه يحرم عليه ذلك ويلزمه القضاء، وقال الشارح: فإن أفطر في تطوعه ناسيا فظن أن صومه قد فسد فأفطر ثانيا فإنه يقضيه، هكذا قالوا. وفيه نظر فإنهم إنما ذكروا إذا أفطر ثانيا عامدا، وأما المتأول فظاهر كلام ابن ناجي أنه لا شيء عليه. قاله الحطاب.

الثاني: علم من قوله: "وفي النفل بالعمد الحرام"، أن إتمام صوم النفل واجب ولا يجوز قطعه، ابن عبد السلام: هذا هو المذهب، ومذهب المخالف عندي أظهر للأحاديث الواردة في ذلك، وقال الأمير: وفي النفل بالعمد الحرام ولو بطلاق بت أو عتق، لقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، وتمسك الشافعية بظاهر: (الصائم المتطوع أمير نفسه

(1)

). انتهى. وتمام الحديث: إن شاء صام وإن شاء أفطر، والجواب ما قال الترمذي: إن هذا الحديث في سنده مقال، وأجيب أيضا بأن قوله المتطوع؛ أي مريد التطوع، فقوله: إن شاء صام أي أنشأ الصيام، فالوجوب بالآية المتقدمة، ولقوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، ولما في الموطإ وغيره (أن عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما أصبحتا صائمتين متطوعتين وأهدي لهما طعام فأفطرتا عليه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: يا رسول الله أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدي لنا طعام فأفطرنا عليه، فقال: اقضيا مكانه يوما آخر

(2)

)، ولو كان الفطر جائزا لم يلزمهما القضاء، ولأن العمل على ما قلناه، ألا ترى قول ابن عمر: ذلك يلعب بصيامه؟ قاله في التوضيح.

الثالث: علم مما مر أن الأعذار التي لا يلزم المتطوع فيها قضاء إذا أفطر لأجلها عشرة: ثلاثة منها لا يفسد معها الصوم ويجب عليه الإمساك بقية يومه وهي: النسيان، والإكراه، والجهل. وسبعة لا يجب معها الكف عن المفطرات وهي: الحيض، والنفاس، والجنون، والإغماء، وشدة

(1)

الترمذي، كتاب الصوم، الحديث:732.

(2)

الموطأ، كتاب الصيام، ص 682. الترمذي، كتاب الصوم، الحديث: 735. أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2457.

ص: 120

الجوع، وشدة العطش؛ إذا خاف من ذلك التلف أو المرض، والمرض ويشمل ذلك الحر الذي يتجدد منه مرض أو زيادته، ويزاد على ذلك فطره لأمر والديه أو شيخه.

وقال بناني: حاصله -يعني عبد الباقي- أنه يجب الكف في فطره في التطوع بالعمد الحرام، ولا يجب في فطره بالعمد الحلال، وفيه نظر إذ الذي لابن عرفة عكسه، ونصه: الشيخ: لا وجه لكف مفطره عمدا إلا لوجه، ونقل ابن الحاجب وجوب الكف لا أعرفه. انتهى.

ولو بطلاق بت؛ يعني أن من أفطر في التطوع لأجل حلف شخص عليه بالطلاق البت أي بالثلاث أو تكملتها، يلزمه القضاء ولا يكون حلف ذلك الشخص عليه بالطلاق البت وجها يبيح له الفطر، ومثل الطلاق البت المعتق. كما قاله غير واحد. ورد المصنف بلو القول بأن الحلف بالطلاق البت وجه يبيح الفطر في النفل، وقوله:"ولو بطلاق بت"، قال الشارح: فيه دليل على أنه لا يجوز له الفطر إذا حلف عليه شخص بالطلاق الثلاث ونحوه، وقد جاء في الحديث ما يدل عليه. انتهى.

إلا لوجه؛ يعني أن الصائم في التطوع إذا حلف عليه شخص بالطلاق البت أو المعتق ليفطرن -وقلنا إنه يجب عليه تحنيثه لوجوب إتمام صوم التطوع بالشروع- فإنما محل ذلك إذا لم يكن لفطره وجه وأما إن كان لفطره وجه، كتعلق قلبه بمن حلف بطلاقها أو بعتقها ويخشى أن لا يتركها إن حنث، فإنه يباح له الفطر وحينئذ فلا قضاء عليه، وقال الخرشي عند قوله:"إلا لوجه"، مخرج من تحريم الفطر في النفل، ويكون ساكتا عن القضاء، قال ابن غازي: ولابد من القضاء على ما قاله عياض، وخالفه الحطاب، وأبقاه على ظاهره مستندا لما صرح به الشاذلي من نفي القضاء، ولقول المؤلف:"وفي النفل بالعمد الحرام"، وهذا ليس بحرام، وكلام عياض ضعيف. انتهى. كوالد، تشبيه لإفادة حكم أمر الوالد بالفطر في التطوع؛ يعني أن من أمره والده دنية أبا أو أما بالفطر في النفل، يباح له الفطر ولا يكون أمر الوالد وجها إلا إذا كان على وجه الحنان والرأفة والشفقة عليه من إدامة الصوم. وشيخ؛ يعني أن من أمره شيخه بالفطر في صوم التطوع له أن يفطر، وإنما يكون أمره وجها يبيح الفطر إذا كان على وجه الحنان والرأفة والشفقة عليه من

ص: 121

إدامة الصوم. قاله الشبراخيتي. وقوله: "وشيخ" قال ابن غلاب: هو شيخ الطريقة الذي أخذ على نفسه العهد أن لا يخالفه، وقال ابن ناجي: وظاهر المذهب أنه لا يتنزل منزلة الأب شيخه الذي يتعلم عليه العلم، وكان بعض من لقيته يفتي بأنه كهو. انتهى.

وقال الأمير: هو المربي، ومثله شيخ علم شرعي على الظاهر. انتهى. وجاء عن عيسى بن مسكين أحد فقهاء المالكية أنه قال لصاحب له في صوم تطوع أمره بفطره: ثوابك في سرور أخيك المسلم بفطرك عنده أفضل من صيامك، ولم يأمره بقضاء. وقال عياض: قضاؤه واجب، ولم يذكره -يعني ابن مسكين- لوضوحه. انتهى. وقد مر عن الخرشي أن قول القاضي عياض هذا ضعيف، وقال بعض في قول ابن غلاب: إن المراد بالشيخ شيخ الطريقة الذي أخذ على نفسه العهد أن لا يخالفه، ولعله منزع صوفي كما حكي عن الشاب الذي قالوا له: كل معنا، فقال: إني صائم، فقال أبو يزيد البسطامي: دعوا من سقط من عين الله، وفي الحديث: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر

(1)

). قال: والمعلم في معنى الوالد بل أعظم، قال ابن رسلان: حتى قال بعض أصحابنا عقوق الوالد يغفر بالتوبة منه، بخلاف عقوق الشيخ المعلم، ولو حلف هذا الصائم -أي صائم التطوع- ليفطرن كفر عن يمينه. نقله في النوادر. والله أعلم. وروى الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم

(2)

)، قال في العارضة: حديث منكر السند صحيح المعنى؛ لأنهم يتكلفون له فيفسد عليهم، فينبغي أن يعلمهم حتى لا يخسروا. انتهى قاله الحطاب.

وإن لم يحلفا؛ يعني أن أمر الوالد والشيخ للشخص بالفطر في التطوع يبيح له الفطر، وإن لم يحلفا له على الفطر ولا قضاء عليه على المشهور كما مر، ومثل الوالد السيد في عبده، وقد مر أن المراد بالوالد الوالد دنية أبا أو أما لا الجد وَالْجَدَّة، والمراد الأب والأم المسلمان لا الكافران، قال عبد الباقي: ولو ترك قوله: "إلا لوجه"، لكان حسنا؛ لأن الفطر مع الوجه غير حرام.

(1)

الترمذي، كتاب البر، الحديث 1905 أبو داود، كتاب الوتر، الحديث 1536. ولفظه:

دعوة الوالدة ودعوة المسافر ودعوة المظلوم. ومسند أحمد، ج 2 ص 434.

(2)

الترمذي، كتاب الصوم، الحديث:789.

ص: 122

تنبيهات: الأول: اعلم أن من آداب التلميذ مع الشيخ أن يعظمه، ولا يزال ناظرا إليه بعين الإجلال، ويعتقد فيه درجة الكمال، ويتواضع له ويخضع بين يديه ويهابه غاية الهيبة، ويعلم أن خضوعه له عز، وذلته بين يديه رفعة، ويقال إن الإمام الشافعي قيل له في ذلك؟ فقال:

أهين لهم نفسي فهم يكرمونها

ولمن تُكْرَم النفسُ التي لا تهينها

وأمسك ابن عباس على جلالة قدره بركاب زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، وقال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لخلف الأحمر: لا أقعد إلا بين يديك، أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: كنت أتصفح الورقة بين يدي مالك تصفحا رفيقا هيبة له ليلا يسمع وقعها، وقال الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له، ويقال: حضر بعض أولاد الخليفة المهدي عند شريك بن عبد الله، فاستند إلى الحائط، وسأل شريكا عن حديث فلم يلتفت إليه شريك، فقال: أتستخف بأولاد الخلفاء؟ قال: لا، ولكن العلم أجل عند الله تعالى من أن يضيعه، أو العلم أزين عند أهله من أن يضيعوه، ولا ينبغي أن يخاطب شيخه كخطاب الناس بتاء الخطاب أو كافه، أو بمجرد اسمه، بل يا سيدي أو يا أستاذي، ويا أيها العالم أو الحافظ ونحو ذلك، وكذا إذا ذكره في غيبته، وليتحر التلميذ الصالح للمشيخة بأن لا يأخذ العلم إلا ممن هو أهل لأن يؤخذ عنه ويعرف ذلك إما بالنظر إن كانت له يد في العلم في الجملة، وإما بتقليد العارفين سؤالا واستخبارا فيأخذ عن المحقق الثقة، ويتحرى أهل الدين المتأدبين ممن جعل الله تعالى الفتح على يديه للعباد رجاء أن يأخذ العلم وأدبه والعمل به، فإنه لا خير في علم بلا عمل، ولا في زيادة علم مع نقصان أدب، قال بعض السلف: هذا العلم دين فانظروا من تأخذون عنه دينكم، وليحذر ممن فيه نزغة بدعة أو سوء اعتقاد ليلا يسري ذلك إليه فيهلك مع المهلكين، أو تَوَرُّطٌ في أودية الدنيا وصحبة الظلمة مخافة أن ينجر بذلك إليها، وليحذر أن يتقيد بالمشاهير وذوي الجاه وَيُعْرِضَ عن أهل الخمول إن كانت فيهم أهلية، بل يتبع أهل الحق والتحقيق كيفما كانوا؛ إذ

ص: 123

العلم ضالة المؤمن لا يستنكف أن يأخذها ممن وجدها بيده رفيعا أو وضيعا، وليأخذ عمن أخذ العلم من أهله وتأدب بالمتأدبين، ولا يأخذ عن صحفي وهو من أخذ العلم من بطون الأوراق فقط. ويروى عن الإمام الشافعي: من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام، وللداني رحمه الله تعالى:

والعلم لا تأخذهُ عن صحْفي

ولا حروف الذكر عن كُتْبيِّ

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: والظاهر أنه أراد بحروف الذكر كيفية قراءة القرآن. والله سبحانه أعلم.

وقال بعضهم: من أخذ الفقه من بطون الكتب غَيَّرَ الأحكام، ومن أخذ النحو من بطون الكتب لحن في الكلام، ومن أخذ الطب من بطون الكتب قتل الأنام، ومن أخذ التصوف من بطون الكتب خرج من الإسلام.

ومن آداب التلميذ أيضا: أن ينقاد إلى شيخه في أموره كلها ولا يخرج عن رأيه وطاعته، بل يكون كالميت بين يدي الغاسل وكالمريض بين يدي الطبيب، فيخدمه ولا يمل من خدمته، ويحمد الله تعالى عليها، ويتبع إشارته فيما يأمره به، قال الشيخ أبو حامد رضي الله تعالى عنه: ومهمى أشار عليه شيخه بطريق في التعليم فليقلده وليدع رأيه، فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه، وقد نبه الله تعالى على ذلك في قصة موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، بقوله:{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ، هذا مع علو قدر موسى في الرسالة والعلم حتى شرط عليه السكوت، فقال:{فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} .

ومن آداب التلميذ مع الشيخ أيضا: أن يعرف له حقه، ويشكر صنيعه، والمنة التي أجرى الله تعالى على يديه، ويعتقد أنه أبوه بالولادة الروحانية وهي أفضل من الطبيعية، فلا يزال مثنيا عليه ومستغفرا له، وداعيا له ومسديا إليه غاية بما أمكنه من الإحسان مالا وخدمة كما قيل:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

ص: 124

وقد مر معنى هذا البيت عند قول المصنف: "والشكر له على ما أولانا من الفضل والكرم"، ولا يزال ساعيا في مكافأته بكل وجه يمكن، وفي الحديث: (من أسدى إليكم معروفا فكافئوه

(1)

)، وكل ما يفعله في حضوره يفعله في غيبته، ويجاوب عنه من يذكره بسوء، وإن عجز قام عن المجلس، وكذا يعامل أولاده ومواليه وأقاربه وأحبابه وسائر من له به نسبة، وهذا شأن الصحبة والمحبة كما قيل:

وقالوا يا جميل أتى أخوها

فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب

ومن آداب التلميذ أيضا مع الشيخ: أن يصبر على جفوة شيخه وشراسته إن كانت في خلقه، ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن اعتقاده فيه، وإلا حُرِمَ ما عنده.

وقد قال قائل لسفيان بن عيينة: إن قوما يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم يوشك أن يذهبوا ويتركوك، فقال للقائل: هم حمقى إذا مثلك إن تركوا ما ينفعهم لسوء خلقي.

وليتلطف في إدخال السرور على قلب الشيخ وفي استعطاف قلبه وفي مصالحته إن جفا أو غضب، ولينسب الذنب إلى نفسه، وليبالغ في الاعتذار والتوبة والاستغفار والانكسار، ولينسب كل نقيصة إلى نفسه وكل فضيلة إلى شيخه، ولا يجادل ولا يمار، وليتحمل بحسن التحمل ما تجده النفس هنالك من الذل والهوان رجاء ما يعقبه من المعز والرفعة، كما يتحمل ما يلقاه من الغربة والضيق وسوء الحال، فإن عاقبة ذلك كله خير، ولبعضهم:

فمن لم يذق ذل التعلم ساعة

تجرع كأس الجهل طول حياته

وقال آخر:

إن المعلم والطبيب كليهما

لا ينصحان إذا هما لم يكرما

فاصبر لدائك إن جفوت طبيبه

واصبر لجهلك إن جفوت معلما

(1)

الإتحاف، ج 4 ص 157.

ص: 125

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ذللت طالبا وعززت مطلوبا، وليقدم فهم الشيخ على فهمه، ورأيه على رأيه كما قال الصحابي: اتهموا رأيكم، ومتى أعلمه الشيخ بفائدة أو حكمة أو لطيفة من دقائق الأدب كان علمها، فلا يظهر أنه كان عالما بها، وليشكر شكر من لم يعلم اللهم إلا أن يتعلق غرض الشيخ بشهادته بها مثلا فليذكر ذلك، والضابط السعي في حفظ قلب الشيخ، وليراع حق الله تعالى في ذلك لا مجرد الانتفاع، وليستعمل الأدب في الدخول على الشيخ، فيدخل عليه فارغ القلب من الشواغل، حسن الهيئة: نظيفا باحترام ووقار، فإن كان الشيخ في محل خاص فليستأذن برفق، فإن لم يأذن له انصرف سليم القلب، وإن كانوا جماعة وأذن لهم فليتقدم في الدخول أفضلهم وأسنهم للسلام، ثم يسلم الأفضل فالأفضل، وإن دخل عليه في محل خاص ثم وجده مع أحد يتحدث معه ثم سكت، أو في شغل فأمسك عنه ولم يبدأه بالكلام ولا باسطه، فليسلم سريعا ويخرج، إلا أن يلزمه الشيخ المكث، ويختلف الحال في ذلك، والضابط مراعاة الأدب وحفظ القلب، ولا يدخل مشغول البال على شيخه بجوع أو عطش أو هم أو نحوه؛ إذ يمنعه ذلك من الإصغاء والانتفاع، ولا يناد الشيخ من وراء الحجرات، ولينتظر خروجه، وليصبر إن كان نائما حتى يستيقظ، ولا يطوف عليه ليخرج إليه.

وقد كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يأتي باب زيد بن ثابت فيجده نائما، فيقال له: ألا نوقظه لك؟ فيقول: لا، وينظر حتى يستيقظ، وربما أصابته الشمس وهو على ذلك فلا يبالي، ولا يقترح على الشيخ ما يشق عليه من مجلس غير معتاد أو وقت أو تخصيص له بشيء من ذلك أو بملاحظة، فربما فعل الشيخ ذلك مع استثقاله له وفيه هلاكه اللهم إلا أن يكون هو افتقحه بذلك وامتن عليه به فليقبله شاكرا له. قال جميعه اليوسي في القانون إلا النزر منه جدا.

وليجلس بين يدي الشيخ بالأدب جلوس الصبي أمام المؤدب إن أمكنه، قال اليوسي: من أغرب ما شاهدته في هذا أني كنت أيام البداية أجلس في حلقة شيخنا أبي بكر رحمه الله تعالى ناحية جنبه الأيسر وهم يقرءون الخلاصة، فكنت أفهم بعضا من كلامه وأشياء لا أفهمها حتى بلغنا نحو النصف، فاتفق لبعض من كان بين يديه أن خرج من البلد فجلست في موضعه بين يدي

ص: 126

الشيخ، فكنت من ذلك اليوم كل ما يخرج من الشيخ يدخل في قلبي كالشمس المنيرة ولا يفوتني شيء، وقضيت العجب من ذلك.

وليقبل على الشيخ بكليته مصغيا متلقيا ما يسمعه بقلب شهيد، ولا يتغافل حتى يمر الكلام ويلقى الشيخ في تقريره عناء وثم يسأل عنه هو سؤال من لم يسمعه قط، فإنه إن أعاده تألم بذلك، فقد قيل: أثقل من حديث معاد وإن لم يعد تألم هو وتألم الشيخ لتألمه وغفلته، ولا خير في شيء من ذلك، وليحذر من الالتفات يمينا وشمالا، أو فوق أو تحت عن الشيخ، ولا سيما عند كلامه معه، ولا يضرب بكميه، ولا يحسر عن ذراعيه، ولا يعبث بيديه أو رجليه، ولا ينظر إلى أهل المجلس عند ما يصدر منه بحث أو يلج في مباحثة الشيخ تبجحا بحاله أو ليرى ما يقولون فيه، فإن مثل هذا مفتون في نفسه ممقوت عند الله تعالى وعند الشيخ، إلا من عصمه الله، ولا يشبك أصابعه، ولا يعبث بلحيته، ولا يستند بحضرة الشيخ إلى حائط أو وسادة، أو على يده إلى الوراء، ولا يولي الشيخ ظهره أو جنبه، ولا يشير بيديه حال البحث، ولا يكثر الكلام لغير حاجة، ولا التنحنح، ولا يبصق، ولا يتنخم ما أمكنه، فإن غلبه أخذ ذلك في ثوبه من غير صوت وحكه، وليخفض الصوت عند العطاس جهده، وليسد فاه عند التثاؤب.

وفيما ينسب إلى علي كرم الله وجهه من الوصايا في هذا الباب: من حق العالم عليك أن تسلم على عامة مجلسه وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن عنده بيدك، ولا تعمد بعينيك غيره، ولا تقولن قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسار في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كمل، ولا تشبع من طول صحبته؛ فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك شيء منها. انتهى.

فإن أمره بأمر يخالف الأدب، كالجلوس على فراشه، والتقدم بين يديه، فقيل: يراعي امتثال الأمر، وقيل: يراعي الأدب وهو أولى، كما فعل الصديق رضي الله تعالى عنه حين قال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا أن يكون جزم أو بحث لا يمكن خلافه، وليحسن الأدب في مخاطبته للشيخ جهده فيخاطبه خطاب تعظيم

ص: 127

وتبجيل، ويقبل قبول مطيع مذعن، فمتى ذكر الشيخ أمرا فلا يقل له لا نسلم هذا، أو من قاله أو من ذكره: فليتلطف وليكن في مجلس آخر، ولا يقل له لم ذلك؟ فقد قيل: من قال لشيخه لم لم يفلح أبدا، ومتى سمع من الشيخ أمرا فليستبشر به في الحال، وإن كان قد علمه كما مر، فإن ظهر أنه خلاف الصواب وأصر الشيخ عليه لغفلة أو قصور فلا ينكر عليه، ولا يلاجه إذ لا عصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وليتحفظ من مواجهة الشيخ بصورة الرد عليه؛ كان يقول له الشيخ: أنت قلت كذا أو مرادك في فهمك أو خطر لك كذا، فيقول: لا ما قلت هذا وما خطر لي هذا، وما هو مرادي أو نحو هذا وليتحفظ أيضا من مواجهة الشيخ بصورة لا تليق في باب الحكايات، كأن يقول عند مخاطبة الشيخ: قال لي فلان أنت جاهل، أو لا خير فيك، أو فعل الله بك كذا، وليغير هذه العبارة كأن يقول، قال لي فلان يعني نفسه هو جاهل، أو الأبعد يعني نفسه: أو يخاطبه بما يجري على ألسنة جفاة العوام فيما بينهم، كقوله للشيخ عند الخطاب: أسمعت أفهمت أتدري أتعرف أو نحو ذلك، والعرف قد يختلف والضابط هو ما مر من مراعاة حفظ قلب الشيخ فللعبارة أثر، بل وللنظرة وللجلسة، فليحافظ على ذلك كله، وليحذر من أن يسبق الشيخ إلى شرح معنى أو جواب سائل، أو يعيده بعد ذكر الشيخ له إظهارا منه لمعرفته، اللهم إلا أن يلزمه الشيخ شيئا من ذلك فيمتثل، وليحذر أيضا من أن يقطع كلام الشيخ بسؤال أو حكاية أو غير ذلك، بل يصبر حتى يفرغ الشيخ فيسأل، وإن تصدر الشيخ يتحدث بعلوم أو حكايات أو أخبار ثم فرغ من قصة فلا ينبغي للتلميذ أن يذكر قصة أخرى تشبه ذلك، فيؤدي ذلك إلى انقطاع حديث الشيخ وصيرورة الكلام بينه وبين التلاميذ مناوبة، فهذا من سوء الأدب، بل من حق التلميذ أن يغمد لسانه ويفتح أذنيه لما يستفيد من الشيخ، وليدع علمه مطويا حتى يحتاج إليه.

وقد قال الحكيم: إنما جعل للإنسان لسان واحد وأذنان ليكون سماعه أكثر، ولا يقل عند سماع قصة: قد نص عليها أو ذكرها فلان في كتابه أو نحو ذلك، بل يظهر من نفسه أنه ما رأى شيئا من ذلك ولا سمعه قط، فهو أحفظ لقلب الشيخ اللهم إلا أن يعلم أن الشيخ يحب ذلك، وليستعمل الأدب في المناولة، فإن تناول من الشيخ شيئا أو ناوله إياه فباليمين، فإن كان ورقة

ص: 128

فتيا أو رسالة أو سؤال فليناولها منشورة ليلا يتكلف الشيخ نشرها إلا أن يخشى وجود سر لا يحب الشيخ الاطلاع عليه، وليقم بين يديه عند المناولة ولا يمد إليه بيده أو ينبذ الشيء إليه أو يزحف إليه زحفا، ولا أن يحوجه إلى أن يمد يديه إليه، بل إن علم أن الشيخ يثقل عليه إخراج يديه لتمسك المكتوب فليمسكه له حتى يقرأه، وإن ناوله كتابا هيأه له، وإن احتاج إلى مسألة منه في محل مخصوص فليره المحل ولا يحوجه إلى التفتيش، وإن ناوله قلما فليحده أولا، أو دواة فليفتحها ويهيئها، أو سكينا فليرد إليه حدها وهكذا سائر ما يتناول، وإن طلب الشيخ سجادة فليفرشها له إن أراد الصلاة أو الجلوس، وإذا قام بادر إلى أخذها، وكذا النعل وسائر الخدمة، وإلى الأخذ بيد الشيخ إن احتاجَ والمطلوب الخدمة بأي وجه أمكن مما يكون معه حفظ قلب الشيخ، وَمَنْ أَنِفَ من خدمة المشايخ أو استحيا فهو محروم.

وقد قالوا: أربعة لا يستنكف عنهن ذو العقل ولو كان شريفا في نفسه أو أميرا: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم، وخدمته للضيف. وليستعمل الأدب في الجلوس إلى الشيخ، وليكن بين يديه كما مر، فإن تأتى له القرب جدا وأمن مضايقة الشيخ فليقرب كما في وصية لقمان، حيث قال: وزاحم العلماء بركبتك، وإلا وهو الأغلب فليتوسط فلا يزاحم حتى يثقل أو يمس الشيخ أو سجادته أو ثوبه، ولا يبعد حتى لا ينتفع، ومتى أمره الشيخ بشيء من ذلك، فإن رآه أدبا بادر إليه، وإلا فالأدب. كما مر.

وليستعمل الأدب في المماشاة، فإذا خرج الشيخ فليكن وراءه فهو بمنزلة التابع فلا يتقدم عليه، ولا يمشي إلى جنبه غير أنهم استثنوا مواضع أربعة ينبغي التقدم فيها بين يدي المشايخ، وذلك إذا نزلوا سُفْلا، أو انطلقوا ليلا، أو خاضوا سيلا، أو حذووا ويلا؛ أي شيئا يتقى، أما أولا فمخافة أن يقع للشيخ زلل فيتداركه من تحته، وليلا يزل هو فيقع عليه، وأما ثانيا فمخافة أن يكون في الطريق شيء يؤذي من حيوان أو غيره، وأما ثالثا فلتجربة المحل ليلا تكون بركة يغرق فيها أو يكون الماء شديدا لا يحتمل، وأما رابعا فظاهر، وكل ما أشبه الأربعة فهو بها ملتحق، وأما المشي إلى جنبه فقد يحسن حين يحب الشيخ الأنس به أو بحديثه، وقد يأذن في الأخذ عنه تلك الساعة، فلا يمكن إلا ذلك وهو من الآداب المُلُوكِيّةِ في صحبة الرؤساء، وينبغي حينئذ أن

ص: 129

يحيد له عن الجادة ولا يزاحمه، فإن أمكنه أن يقي الشيخ شمسا أو ريحا أو زحاما أو دابة أو كلبا عقورا أو فتنة مَّا فليكن من جهته على اليمين أو الشمال، وإن أقبل عليه الشيخ يحدثه فليكن من جهته الأخرى غير جهة الشمس أو الريح أو الدخان أو نحوه ليلا يلقى الشيخ ذلك بوجهه، وهذه أمثلة يعرف بها ما وراءها عند كل متيقظ لبيب، وإن أقبل الناس على الشيخ وهو معه فليعرفه بمن يحتاج إلى التعريف من أهل الأقدار مثلا ليلقى كلا بما يستحق، ومن لم يعلمه سأل عنه بلطف وأخبر الشيخ به ليكفيه أمر السؤال، وإن رأى أحدا يُسَارُّ الشيخ فليبعد حتى لا يسمع ما جرى، وإن لقي الشيخ في الطريق فليبدأه بالسلام على غاية البشاشة والترحيب، فإن رآه ماشيا بين يديه فلا يكلمه من خلف بل يبادر أمامه ليسلم عليه من قدام، وإن كان بعيدا فلا يناده بل يذهب حتى يصل إليه، فإن رآه في محل لا تليق فيه الملاقاة لضيق أو عورة أو لا يحب الشيخ فيه ملاقاة أوأن لا يراه بعينه أصلا فلا يلقاه حتى يمكن إذ الأهم حفظ قلب الشيخ، وقد يراه منقبضا في الوقت عن الناس فلا يزاحم.

وقد حدثنا بعض أشياخنا عن بعض أشياخه رحم الله الجميع أنه خرج في يوم خميس فرأى تلميذا له قد أقبل من بعيد في طريقه تلك، وعلم أنه يلقاه، فيسلم عليه، فقال: يا فلان لا تفسد علي خميسي -أي بالسلام- واذهب من طريق أخرى، نعم إن كانت حيلة أو لطافة في بسطه وتأنيسه فلا بأس، وقد حكى الغزالي في الإحياء أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوما منقبضا فلم يستطع أحد أن يدنو منه، فجاءهم بعض من له لطف وفكاهة من الصحابة، فقال لهم: أرأيتم إن أضحكته لكم، فتقدم إليه، فقال يا رسول الله: بأبي أنت وأمي بلغنا أن الدجال يخرج في مسغبة ومعه جبل خبز، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم هو أهون على الله من ذلك، فقال: ما ترى فداك أبي وأمي آكل من ثردته حتى إذا تضلعت شبعا آمنت بالله وكَفرت بالدجال؟ فضحك صلى الله عليه وسلم. قاله اليوسي في القانون.

الثاني: ينبغي للتلميذ كما يتأدب مع الشيخ أن يتأدب مع الحاضرين ومع الرفقة كلها ويحترم مجلسه، فإن ذلك من احترام الشيخ فلا يسيء إلى أحد منهم بانتهار له أو شتمه أو اجتذابه أو

ص: 130

الجلوس بين يديه أو فوقه أو استناد عليه بمرفقه أو رأسه أو نحو ذلك، إلا أن يكون بينه وبينه شيء من ذلك محتملا ولا يعارضه عند سؤاله للشيخ بجواب ولا بحث، ولا بسؤال آخر للشيخ فينسى سؤاله ولا يفرق بين متضايقين أو متعاونين إلا بإذنهما، وليوقر أكابر أهل المجلس وأفاضله أكثر، وينبغي لأهل المجلس أن يرحبوا بالوارد وَيَفْسَحُوا له ويكرموه بما ينبغي لمثله، وينبغي للواحد إذا فسح له أن يضم جناحية ولا يضيق على الناس، ومتى أساء أحدهم أدبا أو أساء إلى غيره فالشيخ أولى أن يؤدبه أو يزجره أو يصلح ذات البين أو من يقدمه لذلك، وإن أساء أحد إلى الشيخ فعلى أتباعه القيام بزجره والانتصار للشيخ وفاء بحقه، وهذا حق التلميذ أن ينتصر لشيخه بالحق حاضرا كان أو غائبا، حيا أو ميتا.

الثالث: من المهمات تعظيم الكتب واحترامها فلا يضعها على الأرض ولا عند رجليه أو تحت رأسه، والكتب كلها مشتركة في هذا المعنى، وإن كانت تتفاوت في شدة الاعتناء ببعضها أكثر من بعض، وأن الكتاب لو فرض ما فيه أن يكون غير حق، فقد بقيت الحرمة للورق والحروف ولا يضع عليها شيئا غيرها إلا ما تصان به، وأما وضع بعضها على بعض فيجب أن يكون بالتعظيم، فيجعل الأشرف فوق غيره، وليحسن لها التجليد والأغشية من غير إسراف، ولا يصطنع الدفة من الورق المكتوبة فإنه من الإهانة، ولينزل الكتب عند وضعها في الخزانة منازلها، فلا بد أن يرفع الأشرف فوق غيره، ولا يخفى ذلك على من له خبرة بمراتب الفنون، وأعلى الكتبُ كتاب الله تعالى وهو المصحف، وكذا أجزاؤه، تم التفسير، ثم متن الحديث، ثم علوم الحديث، ثم الفقه، ثم الكلام، ثم أصول الفقه، ثم النحو والبيان وسائر علوم اللغة، ثم المعقول، وهكذا وإنما قدمنا الفقه على الكلام بحسب فضول الكلام، وإلا فمقصده أعلى.

وقال بعضهم: المصحف، ثم كتب الحديث الصرف كالبخاري، ثم تفسير القرآن، ثم تفسير الحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم الفقه، ثم النحو، ثم أشعار العرب، ثم العروض، ويقدم في المستويين بكثرة الاحتواء على القرآن ثم الحديث ثم بالصحة والقدم والاشتهار، وجلالة المصنف، ولا ينبغي أن يوضع على الكتب شيء من غير الكتب إلا ما تصان به كما مر، ولا

ص: 131

ينبغي أن تتوسد، وقد حكي أن رجلا بات متوسدا رسالة الشيخ ابن أبي زيد فأصبح أعمى، وقد أفتي في الأوراق المكتوبة بأن لا تكون صوانا لشيء احتراما لها.

واعلم أن الكتب آلة لصاحب العلم عالما كان أو متعلما وسلاح، ومن لم تكن له كان أعزل، فمن أهم الأمور تحصيلها إما بالملكية إرثا أو شراء أو هبة وهي أولى وإما بعارية، فإن تعذر الملك لإعواز الثمن أو إعواز ما يشترى فلينسخ أو ليستنسخ إن أمكن وهو أولى، وليحذر مكيدة الشيطان وهي أن يسول له أن طلب العلم لا يكون بغير إعداد مؤنة كافية، وأن العلم لا يحصل بغير كتب، فيتعاطى أسباب الدنيا من تجارة أو غيرها فيفوته الغرض -والعياذ بالله تعالى- بجمود قريحة مثلا، أو موت، أو غير ذلك، فالأولى لطالب العلم في بداية أمره أن يرمي بنفسه في غمرات الطلب غير ملتفت إلى شهوة من ملبس ومنكح ومركب ونحو ذلك، وليعول على القسمة الأزلية وأن الله تعالى موصل إليه من فضله موصل إليه الضروري من أموره، وأن يعتمد على السماع والحفظ متكلا على الله تعالى في أن يعلمه من فضله، وهو على ذلك قدير، ثم إن كانت عنده الكتب أو أمكن استحصالها بغير تكلف ولا تعوق عن شغله فليطالع منها ما يقرب عليه، وليدع منها ما هو عميق مشتت للفكر إلى وقته، فإن الكتب سلاح وليس كل أحد يقاتل بكل سلاح، وإن تعذرت الكتب فليحضر فكرته وليتق الله تعالى، ويتوجه إليه بصدق التوجه، وليثق بفضل الله تعالى، وأنه لا يخيبه، وأنه إذا أعطى علما فسيعطي كتبا، ويقال في مثل هذا المقام: إن الشجاع في المضايق سلاح الناس كلها له، والفارس عند الغارات خيل الناس كلها له، فمن نجب في العلم كتب الناس كلها له، وما أعوز منها فالله تعالى يغني عنه، وأن الله تعالى إذا أراد شيئا كان، والله تعالى من فضله حقيق أن يكفي العالم أمر الرزق وجماعة معه كما وعد بذلك.

وقد اختلفت أقوال الناس في إعارة الكتب، فمنهم من كرهها صونا للكتب عن الضياع، فقدما قيل: آفة الكتب العارية، ومنهم من يحض عليها لأنها من التعاون علي البر والحق التفصيل، فمن كان أهلا لأن يعار بظهور نجابة وظهور صيانة للكتب فينبغي أن يعار، وفي مثله يقال: حبس الكتب عن أهلها من الغلول، وينسب للإمام الشافعي يخاطب محمد بن الحسن:

يا ذا الذي لم تر عيـ

ـنا من رآه مثله

العلم يأبى أهْله

أن يمنعوه أهله

ص: 132

وإذا وقعت العارية فواجب على المستعير شكر المعير ومكافأته ولو بالدعاء وصيانة الكتاب المستعار، فلا يعرضه لتلف ولا فساد، ولا يفتحه فتحا فاحشا، ولا يلوثه بيده ولا يوسخه بما فيها، ولا يضعه على الأرض أو الحصير، ولا ينظر حالة غلبة النوم، فربما سقط من يده أو على الصباح، أو سقط عليه المصباح وزيته، ولا يعرضه للندى أو الشمس أو الدخان أو السارق أو الفار أو غير ذلك، ولبعضهم:

عليك بالحفظ دون العلم في كتب

فإن للكتب آفات تفرقها

اللص يسرقها والفار يخرقها

والنار تحرقها والماء يغرقها

وأن لا يؤذيه بالتلوي عليه حين يريد كتابه الذي أعاره له، ولا يفشي ما عسى أن يجده مكتوبا من أسرار مالكه أو غيره، وبالجملة يجب أن يفعل فيه ما يفعله لنفسه:

أيها المستعير مني كتابا

ارض لي فيه ما لنفسك ترضى

ولبعضهم:

إذ استعرت كتابي وانتفعت به

فاحذر وقيت الردى من أن تغيره

واردده لي سالما إني شغفت به

لولا مخافة كتم العلم لم تره

ومتى علم من نفسه أنه عاجز عن القيام بذلك لم تجز له الاستعارة؛ لأن مقدمات الحرام حرام، وكل هذا مطلوب منه في كتب نفسه وكتب الأحباس، فإن حفظ المال واجب وتضييعه حرام، والكتب إذا ضيعت كان فيها تضييع المال وتضييع العلم، ولا بأس بكتابة الحواشي والفوائد على كتاب يملكه، ولا يكتب عليه صح فرقا بينه وبين التخريج، ولا ينبغي إلا الفائدة المناسبة للمتن الذي عليه الحاشية، كبحث فيه أو عَزْوِ نَاقِلِ أو منقول عنه وغير ذلك، وليحافظ على البيان في الكتابة، وليحذر الخط الردي وكثرة المحو، وَالضرب ليلا يظلم الكتاب فيفسد أكثر مما يصلح، والخط الحسن يبسط النفس وينشط الفهم ويزيد الحق وضوحا، وخطوط العلماء تكون غالبا ردية

ص: 133

لاشتغالهم عن التصنع في الخط بما هو أهم، غير أنها تكون سالمة من اللحن متقنة مبينة، فتكون نافعة. قال جميعه في القانون إلا النزر منه جدا.

وفيه أن الناسخ إذا وقعت له زيادة، فإن كانت كلمة واحدة فليضرب عليها بخط يجره عليها أو يكتب عليها لا، وإن كانت أكثر أو سطرا أو سطرين فليكتب على أول كلمة لا ومن وعلى آخرها لا، وإلى أي من هاهنا، إلى هنا أو يضرب على الجميع، وإن تكررت الكلمة سهوا فليضرب على الثانية لأن الأولى صواب إلا أن تكون الأولى آخر سطر فليضرب عليها حفظا لأول السطر ما لم تكن التي في آخر السطر مضافا إليها فليتركها لاتصالها بالمضاف، وإن سقط شيء أخرجه في الحاشية إن أمكن، ويشير إليه بخط لطيف. وليكن التخريج إلى جهة اليمين إن أمكن، وليكتبه إلى أعلى الورقة إن أمكن ليبقى ما بعده نقيا، فإن وجد تخريجا آخر جعله فيه ثم يكتب على ذلك صح، ولا بأس بكتابة الأبواب والفصول أو سائر التراجم بلون من حمرة أو صفرة أو خضرة، وكذا كل ما يقع في خلال الكتب من تنبيه أو بحث أو سؤال أو جواب أو تنكيت أو فائدة أو لطيفة أو نحو ذلك؛ لأنه أزيد في البيان وفي حسن الكتاب، فإن لم يوجد غير الحبر فليغلظ الخط ويمططه أكثر ليعلم ذلك؛ ولا بأس بالرمز بالحمرة أو غيرها لأسماء رجال أو نحو ذلك، غير أن ما لم يكن بينا من ذلك فلا بد من التنبيه عليه في صدر التأليف أو خاتمته مثلا، وإلا فلا يجوز الرمز الذي لا دليل عليه، وهذا كما تقول لا بد للمجاز من قرينة وللحذف من دليل، وإذا نسخ فليجود الخط وليجتنب الخط الرقيق فإنه سيندم عليه وقت الكبر وضعف البصر، وليكتب بالحبر فإنه أبقى، وليكن القلم محرفا، وليكن معه سكين حاد لبري القلم، ولينشر الورق المكتوب، وإذا نسخ فليستعمل الآداب في ذلك وهي أن يضع الكتاب المنسوخ منه على مرتفع ولا يضعه على الأرض ويفتحه بمقدار، وأن يكون على طهارة في بدنه وثوبه، وأن يكون الحبر والورق طاهرين، وأن يكتب البسملة في أول الكتاب، فإن كان الكتاب مبدوا بها وبالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فليكتب ذلك مع سائر الكتاب، وإلا فليكتبه أولا ثم يشتغل بعد بالكتاب، وكلما انقضى جزء حمد الله تعالى وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كتب: تم كذا ويتلوه كذا، فيكتب ذلك بيانا وإعلاما، وكلما كتب اسم الله تعالى فيتبعه بما ينبغي من التعظيم، نحو:

ص: 134

سبحانه أو تعالى أو جل وعز وكلما كتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه بلسانه وقلبه، سواء كان في الأصل أولا، وكلما كتب اسم أحد من الصحابة أو علماء الدين وسائر الصالحين ترضى عنه وترحم ويكمل الصلاة والسلام بالكتابة، ولو تكررت في السطر مرارا، ولا يختصر كما يَخْتَصِرُ بعض المحرومين، ولا يصلي على غير الأنبياء إلا تبعا، وما كان مستغربا أو منكرا وهو صحيح في الحاشية أو في المتن فليكتب عليه: صح، وليجعلها صغيرة إن كانت في المتن، وإن وقع ما لا يدري أصواب أم خطأ فليكتب عليه كذا.

الرابع: اعلم أن الاشتغال بالعلم من أفضل الطاعات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات، خصوصا علم الفقه العذب الزلال، المتكفل ببيان الحرام والحلال، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني من الله فلا بلغني الله طلوع شمس ذلك اليوم

(1)

)، وفي معناه قيل:

دعوني وأمري واختياري فإنني

بصير بما أفري وأبرم من أمري

إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يدا

ولم أقتبس علما فما هو من عمري

وقيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: تعلم الخير وعلمه الناس، فإني منور لمعلم الخير ومتعلمه قبورهم حتى لا يستوحشوا لمكانهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا جاء الموت طالب العلم وهو في هذا الحال مات وهو شهيد

(2)

)، وقال صلى الله عليه وسلم: ما جميع أعمال البر في الجهاد إلا كنقطة في بحر، وما جميع أعمال البر والجهاد في طلب العلم إلا كنقطة في بحر، وقال أيضا: (من سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله عليه سبيلا إلى الجنة، أو سهل الله له طريقا إلى الجنة

(3)

)، وقال أيضا: (من غدا في طلب العلم صلت عليه الملائكة، وبورك له في معيشته، ولم ينقص رزقه، وكان عليه مباركا

(4)

)، (وعن ابن عباس رضي

(1)

الإتحاف، ج 1 ص 78.

(2)

الإتحاف، ج 2 ص 97.

(3)

مسلم، كتاب الذكر والدعاء، الحديث:2699. وفيه:

سهل الله له به طريقا الخ.

(4)

الكنز، رقم الحديث:28841.

ص: 135

الله تعالى عنهما، قال: معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر

(1)

)، وعن أبي حنيفة قال: حججت مع أبي فإذا شيخ قد اجتمع عليه الناس، فقلت لأبي: ما هذا الشيخ؟ فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يقال له عبد الله بن الحرث بن جزء، قلت: فأي شيء عنده؟ قال: أحاديث سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: قدمني حتى أسمع منه، فقدمني إليه فسمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تفقه في الدين كفاه الله همه ورزقه من حيث لا يحتسب

(2)

). قاله في القانون. وفيه عن يحيى بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه حضه على طلب العلم، وأخبره أن غلاما أقبل على طلب العلم عند ربيعة واجتهد ثم نزل به الموت وهو طالب لهذا الأمر: فرأيت جميع علمائنا قد ازدحموا على نعشه فنظر الأمير إليهم، وقال: قدموا من شئتم للصلاة عليه، فقدموا ربيعة فصلى عليه وألحده قبره هو وزيد بن أسلم، فبعد ثلاث رآه رجل من خيار بلدنا في أحسن صورة غلام أمرد عليه بياض متعمم بعمامة خضراء وتحته فرس أشهب نازلا من السماء، فسلم عليه، وقال: هذا ما بلغني إليه العلم، فقال الرجل: ما الذي بلغك إليه العلم؟ قال: أعطاني الله تعالى بكل باب [نعلمه

(3)

] درجة في الجنة، فقال الله عز رجل: زيدوا لورثة أنبياءي، فقد حتمت على نفسي أنه من مات وهو عالم بسنتي وسنة أنبيائي أو طالب لذلك أن أجمعهم في درجة واحدة، وأعطاني ربي حتى بلغت درجة أهل العلم، فليس بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا درجة واحدة هو جالس فيها وحوله النبيئون كلهم، ودرجة فيها أصحابه وجميع أصحابهم والذين اتبعوهم بإحسان ونحن من بعدهم سوى ما لي عند الله تعالى من المزيد، فقال الرجل: ومالك عند الله تعالى من المزيد؟ فقال: وعدني أن يحشرني مع النبيئين في زمرة واحدة، فأنا معهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل: يا معشر العلماء هذه جنتي قد أبحتها لكم: وهذا رضواني قد رضيت عنكم، فلا تدخلوا الجنة حتى تقفوا فتشفعوا فأعطيكم ما شئتم، وأشفعكم فيمن استشفعتم له؛ لأُرِيَ عبادي كرامتكم ومنزلتكم عندي، فأصبح الرجل يحدث بهذه الرؤيا واشتهرت في المدينة، قال

(1)

مجمع الزوائد، ج 1 ص 129. الكنز، رقم الحديث: 28739.

(2)

الإتحاف، ج 1 ص 77.

(3)

كذا في الأصل، والذي في القانون لليوسي ص 173: تعلمته.

ص: 136

مالك: وكان معنا أقوام اشتغلوا بطلب العلم ثم انقطعوا عنه، فلما سمعوا بهذا الحديث رجعوا إلى طلب العلم فهم اليوم علماء بلدنا، وقال يحيى أيضا: أول شيء حدثني به الليث أول يوم لقيته، قال لي: ما اسمك؟ قلت: يحيى، قال: متعنا الله بك، فقال يا يحيى: جد في هذا الأمر وسأحدثك بحديث تزداد به بصيرة، قال: كنا عند ابن شهاب طالبين لهذا الأمر، فقال لنا يوما: يا معشر الطلبة أراكم تزهدون في هذا الأمر، بالله الذي لا إله إلا هو لو أن بابا من العلم جعل في كفة، وجعل أعمال المرء في كفة أخرى لرجح باب العلم، ومن عمل بمشورة أهل العلم فقد رشد، ومن عمل بغير علم وبغير مشورة فقد خسر خسرانا مبينا.

وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول إذا رأى الشباب يطلبون العلم: مرحبا بينابيع الحكمة ومصابيح الظلم، خلقان الثياب، جدد القلوب، ريحان كل قبيلة، وقيل: كلمة حكمة من أخيك خير لك من مال تعطاه؛ لأن المال يطغيك والكلمة تهديك، وقال الحسن البصري: الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلماء، وقيل مثل العالم في البلد مثل عين عذبة في البلد، وقال ابن المبارك: خير سليمان بن داوود عليهما السلام بين الملك والعلم فاختار العلم، فآتاه الله الملك والعلم باختياره العلم.

ويروى عن معاذ بن جبل: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام

ص: 137

ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، هو إمام العمل والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء

(1)

). رواه في القانون عن أبي عمر.

وعن سفيان: لا يراد الله تعالى بشيء أفضل من طلب العلم، وما طُلِب العلمُ في زمان أفضل منه اليوم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (من طلب علما فأدركه كُتِبَ له كفلان من أجر، ومن طلب علما فلم يدركه كان له كفل من الأجر

(2)

)، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: (أي الأعمال أفضل؟ قال: العلم بالله عز وجل، قال: يا رسول الله أسألك عن العمل وتخبرني عن العلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قليل العمل ينفع مع العلم، وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل

(3)

)، وهذا محتمل لأن يكون روعي كون العلم عمل قلب، فالعلم داخل في الأعمال وهو أفضلها، وأن يكون تلقى السائل بغير ما يتطلب لكونه أولى به ويؤيده الجواب الأخير، وقال صلى الله عليه وسلم: (من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة

(4)

)، وقال أيضا: (رحمة الله على خلفائي، قالوا: ومن خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله

(5)

)، ويروى أنه (إذا كان يوم القيامة توضع حسنات الرجل في كفة وسيئاته في الكفة الأخرى فتشيل حسناته فإذا يئس وظن أنها النار جاء شيء مثل السحابة حتى يقع مع حسناته فتشيل سيئاته، فيقال له: أتعرف هذا من عملك؟ فيقول: لا، فيقال: هذا ما علمت الناس من الخير فعمل به من بعدك

(6)

)، وريء أبو زكرياء يحيى في النوم، فقيل له: يا أبا زكرياء ما فعل بك ربك؟ قال: زوجني مائة حوراء وأدناني وأخرج من كمه رقاعا كان فيها حديث، فقال بهذا، وريء محمد بن الحسن في النوم، فقيل له: إلى ما صرت؟ فقال: غفر لي، ثم قيل له: لم نجعل هذا العلم فيك إلا ونحن نريد أن نغفر لك، فقيل له: ما فعل أبو يوسف؟ قال: فوقنا بدرجة، قال: فأبو حنيفة؟ قال: في أعلى عليين.

(1)

الإتحاف، ج 1 ص 121/ 122.

(2)

الترغيب، ج 1 ص 67. مجمع الزوائد، ج 1 ص 128.

(3)

الإتحاف، ج 1 ص 85.

(4)

كنز العمال، رقم الحديث:29382. الإتحاف، ج 1 ص 100/ 101.

(5)

كنز العمال، رقم الحديث:29209.

(6)

جامع بيان العلم وفضله، ص 55.

ص: 138

ويروى أنه إذا كان يوم القيامة عزل الله تبارك وتعالى العلماء على الحساب، فيقول: ادخلوا الجنة على ما كان فيكم، إني لم أعمل حكمتي فيكم إلا لخير أردته بكم، وفي حديث: (يبعث الله العباد يوم القيامة، ثم يميز العلماء، ثم يقول لهم يا معشر العلماء: إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم

(1)

)، وقيل: أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام: إني عليم أحب كل عليم، وروي (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في المسجد، أحدهما يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمون، فقال صلى الله عليه وسلم: كل المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون ويعلمون الجاهل، وإنما بعثت معلما ثم أقبل فجلس معهم

(2)

).

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العالم أمين الله في الأرض

(3)

)، وقال أبو الأسود الدؤلى رحمه الله تعالى: الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك، وعن ابن شهاب: العلم ذكر يناله ذكور الرجال، وسأل رجل ابن عباس عن الجهاد، فقال: ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد؟ تأتي مسجدا فتعلم فيه القرآن وسنن النبي صلى الله عليه وسلم والفقه في الدين. وقال بعضهم: اطلبوا العلم فإن كنتم ملوكا برزتم وإن كنتم سوقة عشتم، وقال الحجاج لخالد بن صفوان: من سيد أهل البصرة؟ قال: الحسن، قال ذلك وهو مولى، فقال: احتاج الناس إليه في دينهم، واستغنى عنهم في دنياهم، وما رأيت أحدا من أشراف أهل البصرة إلا وهو يروم الوصول إليه في حلقته ليستمع قوله ويكتب علمه، فقال الحجاج: هذا والله هو السؤدد. قاله في القانون.

واعلم أن كل ما يذكر في فضيلة العلم وطلبه إنما يكون تنبيها وترغيبا، وإلا ففضله غني عن الكمال لأنه كمال الإنسان وبه امتاز عن سائر الحيوان، ثم هو مناط الشرع والتكليف، ومفتاح التعرف والتعريف، أفيحتاج إلى بيان وبه يكون البيان؟

(1)

الإتحاف، ج 1 ص 85.

(2)

ابن ماجه، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، الحديث:229. الإتحاف، ج 1 ص 111.

(3)

الكنز، رقم الحديث:28671. الإتحاف، ج 1 ص 78.

ص: 139

وكيف يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

الخامس: اعلم أن الرحلة في طلب العلم من شأن الرجال؛ إذ بها يحصل نيل الآمال، قال تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} ، وإن كان في الجهاد فالعلم أيضا من جملة سبيل الله إذا أريد به وجه الله تعالى، وقد روى حديث [عن

(1)

] أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله

(2)

)، وقال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ، وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن الخروج للتفقه وهو غرضنا، الثاني أنه للغزو ليتفقه الباقون وفي كليهما الحض على طلب العلم، ومن لم يجده في مكانه ارتحل إليه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله

(3)

). الحديث. فالهجرة كانت لفائدة الخروج عن الفتن والشواغل والعوائق، والوصول إلى العلم وتيسير الدين والرحلة في طلب العلم كذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: (اطلبوا العلم ولو بالصين

(4)

)، ورحل جابر بن عبد الله إلى الشام في حديث واحد، قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فابتعت بعيرا فشددت عليه رحلي، ثم سرت إليه شهرا حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس الأنصاري، فأتيت منزلة فأرسلت إليه إن جابرا على الباب فرجع إلي الرسول، فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم، فخرج إلي فاعتنقته واعتنقني، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه أنا منه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله تبارك وتعالى العباد أو الناس وأومأ بيده إلى الشام عراة بُهْمًا غُرْلًا، قال: قلنا ما بُهْمًا؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ ويسمعه من قَرُبَ أنا الملك الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من القانون لليوسى، ص 167.

(2)

الترمذي، رقم الحديث:2674.

(3)

البخاري، كتاب بدء الوحى، الحديث:1. ومسلم، كتاب الإمارة، الحديث: 1907.

(4)

الجامع الصغير، رقم الحديث:1111.

ص: 140

وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة، قال: قلنا له: كيف؟ وإنما نأتي الله تعالى عراة حفاة غرلا، قال: بالحسنات والسيئات

(1)

).

وارتحل موسى صلوات الله تعالى وسلامه على نبينا وعليه إلى الخضر، وقد ارتحل الإمام الشافعي إلى إمامنا مالك رضي الله تعالى عنهما بالمدينة فتفقه عليه، وارتحل يحيى بن يحيى وغيره من الأندلس إلى المدينة فأخذوا عن مالك وكذا ابن القاسم وغيره.

واعلم أن للرحلة فوائد كثيرة منها: التخلص عن شواغل الوطن وفتَنِهِ الشرية والخيرية، ومنها: التجرد لأخذ العلم الذي هو شرطه، ومنها: الغربة التي هي عدم مظنة الألفة والخلطة ومعاشرة الناس التي هي إحدى العوائق، ومنها: ما يرجو من ثواب خطواته ومشقته وبركة ذلك في العلم والعمل وعاجلا، وآجلا، ومنها: ما يرجو من اعتناء الشيوخ به أكثر، فإن للغريب والقاصد والوافد من أرض إلى أرض مزيد حق ومنها: -وهو أعظمها- امتحان نفسه ليظهر صدقها، فإن النفس تدعي حب العلم وطلبه والحرص على تحصيلة، وأنها تؤثره على غيره، فإذا أعمل راحلته ونبذ أحباءه وحبائبه، وتصدى لقطع المسافة ومقاساة الجوع والعطش والحر والبرد والغربة والهوان كما قيل:

لا يعدم المرء كنا يستكن به

وعيشة بين أهله وأحبابهْ

ومن نأئ عنهم قلت مهابته

كالليث يحقر لما غاب عن غابهْ

وقال غيره:

إذا كنت في قوم عدى لست منهم

فكل ما علفت من خبيث وطيب

وإن حدثتك النفس أنك قادر

على ما حوت أيدي الرجال فكذب

والصبر على ذلك تبين صدقها.

(1)

الإتحاف، ج 10 ص 478.

ص: 141

ومنها: ما يستفيد بالسفر والاغتراب من الأخلاق الحسنة والرياضات المستحسنة والتجاريب البينة، وظهور الحبيب من أهله والعدو إذا نجع، والحظوة الجديدة إذا رجع إلى غير ذلك. قاله في القانون.

واعلم أن من عوائق التعلم طول الأمل، والاغترار بالزمن المستقبل، وأن سيحصل فتتزايد الشواغل وتضعف أسباب التحصيل ولا تعود.

ومنها: طلب الحظوة به فتشغله عن التحصيل والتحقيق، وتستعجله عن دوام الطلب على أنه لو حصل شيء منه على هذه النية لم يكن له طائل وكأنه لم يحصل،

ومنها: الاغترار بالذكاء.

ومنها: الانتقال من علم إلى آخر قبل أن يحصل منه المراد، ومن كتاب إلى كتاب كذلك.

ومنها: ضعف الحال وتعذر أسباب الاشتغال وذلك بالفقر وتطاول الأمراض.

ومنها: الاتساع في الدنيا والاشتغال بتحصيلها حرصا عليها، ومنهومان لا يشبعان: طالب العلم وطالب دنيا، والمرء لا يستطيع القيام بهما في آن واحدت فهما بحران من غرق في أحدهما لم يصل إلى الآخر، فبادر قبل حصول فوت أو هرم أو مرض أو قسوة قلب أو غير ذلك، وفي معنى ذلك قيل:

إذا هبت رياحك فاغتنمها

فإن لكل عاصفة سكون

وإن درت نياقك فاحتلبها

فما تدري الفصيل لمن يكون

ومنها: -أي عوائق التعلم- الزوجات والأولاد والآباء والأمهات، قال تعالى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} ، ومنها الكسل والفتور، ولله در اليوسي حيث يقول:

ص: 142

والعلم بدء ليس أريا سيغا

لكن جناة الحنظل المتهبد

علق نفيس لا يباع ونائر

متأبد عن كل فدم أوغد

لم يصمه سهم ولم يبتزَّه

بازٍ ولم يصرع برمية مقلد

لكن بأشراك الحلوم وهمة

نفاذه الأغراض فليتصيد

وجواد فكر تمتطيه مأرب

أبدا بأقطار المدارك مسْنِدِ

قيد الأوابد لا يزال على الونى

في كل معوصة يروح ويغتدى

من بعد نزع الروح في استعطائه

ومذاق صبر للحوايا مصخد

وتفكر وتدبر وتصبر

وتضرر وتقشف وتمعدد

وتوسل وتوصل وتحول

وتغرب وتفرد وتهجد

فوراء وخز النحل شور شهاده

ووراء شوك النخل نيل العرجد

وأمام أصداف اللئالي غوصة

في البحر والترياق سم الأسود

والصقر ينتظم الطريدة لا اللئا

والليث يغشى السرح دون الصفرد

الأري: العسل، والسيغ السائغ أي السهل في الحلق، والجناة والجنا: ما يجتنى من الثمر، وهبد الحنظل وتهبده: كسره وطبخه، والعلق بالكسر: النفيس من كل شيء، ونارت الظبية تنور: نفرت وتأبد: توحش، والفدم: البعيد الفهم، والوغد: الأحمق الضعيف يقال: وغد بالضم وغادة فهو وغد وفلان أوغد من فلان، وابتزه: سلبه، والبازي جمعه بزاة، والمقلد كمنبر: عصا في رأسها اعوجاج، والأغراض جمع غرض وهو القرطاس ينصب للرمي، ونفذه السهم: خرج منه، والتاويب: سير النهار كله، والإسئاد: قيل هو الإسراع، وقيل: سير الليل جميعا، وقيل: الجمع بينهما، والأوابد: الوحش، وفرس قيد الأوابد كأنه قيد لها، والونى بالقصر: التعب، ونى الشيء يني ونيا وونى، والمعوص: الأمر الشديد والمشكل لا يدرك، والاستعطاء: الطلب، والمذاق، الذوق، والمصخد: المحرق أصخدته الشمس أحرقته، والتمعدد: التشبه بمعد -وَهُمُ العرب- في طعامها ولباسها الخشن، والتهجد: ترك الهجود وهو النوم، ووخز النحل: الطعن بإبرتها، وشار

ص: 143

العسل شورا واشتاره: استخرجه، والعرجد: العرجون، والصدف: ما يستكن فيه الجوهر في البحر، والترياق: دواء مركب معروف يدخل فيه لحوم الأفاعي، والأسود: الحية العظيمة، والطريدة: الوحشية يطردها الصيادون أو الجوارح، وانتظمها الصقر: أنشب فيها مخالبه كالانتظام بالرمح، واللئا كالفتى: الثور الوحشي أو البقرة، وغشي السرح: هجم عليه، والسرح: الماشية، والصفرد: طائر جبان يقال له: أبو المليح.

وليحذر الطالب من الإفراط في الاجتهاد مخافة السئامة، فإن (المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى

(1)

) كما في الحديث، وطباع الناس مختلفة وقوتهم، فليعمل كل على طبعه وقوته.

السادس: من آداب العالم في نفسه تقوى الله تعالى، ودوام خوفه ومراقبته في جميع حركاته وسره وعلانيته، وليستشعر ما أودعه الله تعالى من أمانته فيجتهد في حفظها ويحذر من الخيانة فيها، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وفي الحديث: (تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار وتواضعوا لمن تتعلمون منه ولمن تعلمونه ولا تكونوا جبابرة العلماء

(2)

)، ومنها أن يصونه كما صانه أهله، ويحفظ عليه ديباجته وشرفه، ولا يمتهنه بذهابه إلى غير أهله من أبناء الدنيا من غير ضرورة، أو إلى من يتعلمه منه، ففي بيته يؤتى الحكم، وقال أبو شجاع الجرجاني:

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي

لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

وعن الزهري: هوان بالعلم أن يحمله العالم إلى بيت المتعلم فإذا دعت ضرورة إلى ذلك أو تعينت مصلحة في ذلكَ مع النية الصالحة فلا بأس، ومنها: أن يزهد في الدنيا ويتنزه عن فضولها لأنه أعلم الناس بخستها وشرف الزهد فيها: وقد قال الشافعي: لو أُوصِيَ لأعقل الناس صرف إلى الزهاد ولا أحد أحق بكمال العقل من عالم، وَمِنْهَا: أن ينزه علمه عن أن يجعله سلما للأغراض الدنيوية من مال وجاه ورياسة وتقدم وشهرة ونحو ذلك، فإن ذلك يبطل أجره، ويسقط منزلته،

(1)

الإتحاف، ج 6 ص 368. الإتحاف، ج 5 ص 161 الإتحاف، ج 9 ص 41.

(2)

مجمع الزوائد، ج 1 ص 134.

ص: 144

ويكسف نوره ويمنع المزيد منه، وروي عن سفيان بن عيينة رضي الله تعالى عنه: أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة من أبي جعفر سلبته، وَمِنْهَا: أن يتنزه عن أدنى الأفعال والرذائل طبعا وشرعا، فلا يشتغل بحرفة رذيلة، ولا أمر منكر ولا خارج عن المروءة، ولا موهم لذلك لأنه إما أن يتبعه من وراءه في غير أمر محدود، وإما أن يقع فيه فيهتك عرضه ولا ينتفع به، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (إنها صفية

(1)

)، فحق كذلك على العالم إن وقع في شيء له وجه لم يعلمه الناس أن يبينه، وَمنْهَا: أن يأخذ نفسه بالكمال في أفعاله وأقواله ليكون قدوة لغيره، فيحصل له أجره وأجر من تبعه، ومنها: أن يجاهد في رياضة نفسه وتطهيرها من جميع الصفات المذمومة كالكبر والعجب والرياء والحسد والحقد وحب الدنيا، وغير ذلك مما شرح في كتب التصوف وتحليتها بالكمالات أضدادها لتحصل له التخلية والتحلية، فيجمع بين الظاهر؛ والباطن ولا يرضى بمجرد الظاهر فإن الباطن هو اللباب، وَمنْهَا: الدوام محلى تعاطيه والحرص على الازدياد منه، وَمنْهَا: أن لا يستنكف عن أخذ العلم ممن لقي ولو دونه، فإن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أينما وجدها، وبهذا يكثر استمداده ويدوم انتفاعه، وقد أخذ جماعة من الصحابة عن التابعين، ومنها: أن يبث علمه للناس ويودعه صدور الرجال، فبذلك تنبت شجرة العلم وتتصل مادته وذلك بالتدريس والتلقين والتصنيف والإفتاء: وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي يوم خيبر: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم

(2)

).

ويروى من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يتعلم العلم ولا يحدث به مثل الكنز ولا ينفق منه

(3)

)، وفي رواية أخرى: (مثل الذي يتعلم العلم ولا يحدث به الناس كمثل الذي رزقه الله مالا لا ينفق منه

(4)

)، وقال علي كرم الله وجهه: لم يؤخذ على الجاهل عهد بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهد ببذل العلم للجهال؛ لأن العلم كان قبل الجهل، وفي حديث آخر: (من الصدقة أن يتعلم الرجل العلم فيعمل به ثم يعلمه

(5)

(1)

البخاري، رقم الحديث:2038. مسلم، رقم الحديث: 2175.

(2)

البخاري، كتاب فضائل الصحابة، الحديث:3701. مسلم، رقم الحديث: 2406. بلفظ: خير لك من أن يكون لك حمر النعم.

(3)

الكنز، رقم الحديث:28995.

(4)

الكنز، رقم الحديث:16358. جامع بيان العلم، ص 148.

(5)

الكنز، رقم الحديث:16358. جامع بيان العلم، ص 148.

ص: 145

ويروى عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة كما يسأل الأنبياء؛ يعني عن التبليغ. والله سبحانه أعلم. وعن ابن القاسم: كنا إذا ودعنا مالكا يقول لنا: اتقوا الله وانشروا هذا العلم وعلموه ولا تكتموه، وفي الحديث: (ألا أخبركم عن الأجود؟ اللهُ الأجودُ، وأنا أجودُ ولد آدم، وأجودُهم من بعدي رجل علم علما فنشره

(1)

).

وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى بعض عماله: أما بعد فمر أهل الفقه والعلم من جندك فلينشروا علمهم في مجالسهم ومساجدهم والسلام.

وعن علي كرم الله وجهه: من علم وعمل وعلَّم دعي في ملكوت السماوات عظيما، وفي الحديث: (ما تصدق رجل بصدقة أفضل من علم ينشره

(2)

).

وينبغي للمدرس إذا خرج إلى مجلسه أن يتطهر من الحدث والخبث، ويتنظف ويلبس أحسن ثيابه مما يليق بمثله في زمانه وبلده قاصدا بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة لا رياء ولا فخرا ولا شرفا ويختلف الحال باليسار والوقت، فمن الناس من يغلب عليه حال العلم والمعرفة فينبسط، ومنهم من يغلب عليه حال الخوف والورع فينقبض ويتقشف والكل على هدى، ثم يركع ركعتي الاستخارة إن كان وقت ركوع طالبا من الله تعالى أن يختار له؛ لأن نشر العلم وإن كان مطلوبا قد يعرض له ما يكون به محرما أو مكروها، ولو كان مطلوبا فقد يكون شيء آخر أهم منه وأوكد وأولى بالتقديم فلا بد من النظر في هذا كله، والاستعانة بالاستخارة ليلا يقع في محظور وهو يظن أنه في مأمور وهو شأن كل مغرور، فنسأل الله تعالى العافية بمنه، وليستحضر نية صالحة في بث العلم وبيان فوائده وتبليغ أحكام الله تعالى إلى عباده، والإعانة على الدين ونية غرس العلم وحياطته عن شبهة الضالين وتخليط الجاهلين، ونحو هذا من المقاصد الحسنة، ويستعيذ بالله تعالى من النية الفاسدة والمقاصد الخَسِيسَة.

وإذا خرج من بيته يقول: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، بسم الله على نفسي ومالي وديني، اللهم رضني بقضائك وبارك لي فيما قدِّر لي حتى لا أحب تعجيل ما

(1)

جامع بيان العلم، ص 149.

(2)

جامع بيان العلم، ص 150.

ص: 146

أخرت ولا تأخير ما عجلت، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أَضِل وأضل وأذِل وأذَل وأظلم وأظلَم وأجهل أو يجهل علي، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك

(1)

)، وغير ذلك من الأذكار الواردة عند الخروج، وليقل: اللهم ثبت جناني وأدر الحق على لساني ونحو ذلك من الدعاء اللائق به: ثم لا يزال ذاكرا الله تعالى وداعيا ومتعوذا إلى أن يصل إلى مجلسه، فإن كان في مسجد حياه بتحية وإلا فالركوع حسن إن كان الوقت، ثم سلم على الحاضرين وجلس مستقبلا إن أمكن بسكينة وتواضع ووقار متربعا، أو كجلسة التشهد أو نحو ذلك مما يمكن، ولا يمد رجليه ولا إحداهما من غير عذر ولا يرفع إحداهما على الأخرى، ولا يتكئ على يديه، ولا يكون على حالة تؤذن بالاستخفاف بالجلساء أو خفة وطيش كالعبث باللحية، وإدارة الخاتم وفرقعة الأصابع وتشبيكها، وكثرة الضحك والالتفات والمزاح، ولا يكون أيضا على حالة تشغل الفكر كالجوع الشديد والعطش والهم والنصب والنوم والقلق والحر والبرد المؤلمين ونحو ذلك.

ومِنْهَا: أن يبرز للناس لينتفع به القوي والكبير والصغير والضعيف، وهذا يختلف باختلاف العلوم، فرب علم يصلح للعامة كظواهر الشرع وما في معناها من المواعظ والتنبيهات والحكم، فلا بد أن يتخذ له مجلسا عاما بارزا فيه لينتفع به الراوي والمستفتي والسائل على الإطلاق، وعلم آخر إنما هو للخاصة كدقائق التصوف وعلم الكلام وسائر العلوم العقلية، فلا بد أن يجعل لأربابه خاصة حيث يصلح بهم ولا يتأذون بغيرهم ولا يتأذى بهم، ولينزل المتعاطين منازلهم في السن والشرف والنجابة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يكرم أصحابه ويكنيهم ويسميهم بأحب أسمائهم إليهم، وهذا مع التلطف بالجميع وخفض جناح الرحمة لهم.

واعلم أن الانتفاع بالعلم بالعمل به وبثه للعباد، فبالعمل به في نفسه ينتفع به عند الله تعالى، وبتعليم العباد ينتفع عند الله تعالى وعند العباد. واعلم أن من لم يعظم العلم لا ينفعه الله تعالى به، ومن أهانه أهانه الله تعالى كما قيل:

(1)

أبو داود، كتاب الأدب، الحديث:5094. بلفظ:

أو أزل أو أزل. وابن ماجه، كتاب الدعاء، الحديث:3884. الإتحاف، ج 5 ص 90.

ص: 147

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم

ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا

محياه بالأطماع حتى تجهما

واعلم أن موت العالم هو انكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير، وهذا كقول الشاعر:

لعمرك ما الرزية فقد مال

ولا شاة تموت ولا بعير

ولكن الرزية موت نفس

يموت بموتها بشر كثير

السَّابعُ: اعلم أن السلف رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في كتب العلم وتخليده في الصحف، فمنهم من كره الكتب ورأى التعويل على الحفظ، ومنهم من رخص في الكتب مخافة التغرير، واحْتَجَّ الأَوَّلُ بما روي عنه صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا العلم عني شيئا سوى القرآن فمن كتب عني شيئا سوى القرآن فليمحه

(1)

)، ويقال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنسانا أن يكتبه، فقال له زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرنا أن لا نكتب شيئا من حديث فمحاه

(2)

). وقال علي كرم الله وجهه في خطبه: اعزموا على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حين يتبعون أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم، وقيل لأبي سعيد: لو اكتتبنا الحديث؟ فقال: لا، خُذُوا عَنَّا كما أخذنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل له أيضا: (نكتب ما سمعنا منك؟ قال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف، إن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يحدث فنحفظ فاحفظوا كما كنا نحفظ

(3)

)، وقيل له: إنك تحدثنا حديثا عجيبا وإنا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص، فقال: (أردتم أن تجعلوه قرآنا ولكن خذوا عنا كما أخذنا عن النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

).

(1)

الحاكم في المستدرك، ج 1 ص 127. بدون لفظ:"العلم" ومسند أحمد، ج 3 ص 12.

(2)

أبو داود، كتاب العلم، الحديث:3647. القانون لليوسي ص 182.

(3)

القانون لليوسي، ص 182.

(4)

القانون لليوسي، ص 182.

ص: 148

وعن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما كان مع ابن شهاب إلا كتاب فيه نسب قومه قال ولم يكن القوم يكتبون إنما كانوا يحفظون، ومن كتب منهم الشيء إنما كان يكتبه ليحفظه فإذا حفظه محاه، وقال ابن سيرين إنما ضلت بنو إسراءيل بكتب ورثوها عن آبائهم، ويروى عن الشعبي قال: ما كتبت سوادا في بياض قط، وما استعدت حديثا من إنسان مرتين، وقال الأوزاعي: كان هذا العلم شيئا شريفا أخذ من أفواه الرجال يتلقونه ويتذاكرونه، فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله.

وأقوال السلف في كراهة الكتب كثيرة، وقد لاح من جملتها أن العلة في ذلك على ثلاثة أوجه: الأَوَّلُ المحافظة على الأدب وأن لا يظاهر بكتاب الله تعالى كتاب آخر، ويتضمن هذا الوجه الفرق بين كلام الله تعالى وكلام غيره، وأن كلام الله تعالى موثوق به إذ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو ثابت بالتواتر فلا بأس بكتبه وكلام الغير لا يوثق به كذلك، أما من جهة القائل أو من جهة السند فلعله ليس كذلك فتركه عن الكتب أولى.

الثاني: خوف تضييع الحفظ والاتكال على المصحف والعلم إنما هو في الصدور كما قال القائل:

ليس بعلم ما حوى القمطر

ما العلم إلا ما حواه الصدر

ويقال: حفظ سطرين، خير من حمل وقرين، ومذاكرة اثنين، خير من هذين، وقال أبو العتاهية: من منح الحفظ وعى، ومن ضيع الحفظ وهى، وقال بعضهم: حرف وعي في تامورك خير من عشرة في تابوتك، وقال القائل:

علمي معي حيثما يممت أحمله

بطني وعاء له لا بطن صندوق

إن كنت في المبيت كان العلم فيه معي

أو كنت في السوق كان العلم في السوق

غيره:

استُودع العلمُ قرطاسا فضيعه

وليس مسْتَوْدع العلم القراطيس

ص: 149

الثالث: الذريعة، فإن العلم ما دام في صدور الرجال فإنهم لا يمنحونه غير أهله، فإذا صار إلى الصحف وقع عليه من ليس من أهله وناهيك بهذا الفساد لا سيما في زماننا، وقد فسدت الكتب بالتحريف وقلة الضبط فينقل الخطأ ويقع الفساد من كل وجه.

واحتَجَّ الآخرون بالنقل والعقل، أَمَّا النَّقلُ ففعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره، أما الفعل فنعني به التقرير؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما يكتب بيده، فقد كان الوحي يكتب بين يديه، والرسائل التي فيها العلم في كتاب عمرو بن حزم في الصدقات والديات والفرائض وغيره، وأما الأمر فأمره صلى الله عليه وسلم الكُتَّابَ بما ذكر، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته بمكة: (اكتبوا لأبي شاه

(1)

)؛ رجل من أهل اليمن، وكان عبد الله بن عمرو يكتب كل ما يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: فنهته قريش وقالوا: تكتب كل ما تسمع ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضى والغضب؟ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم -قال- فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج إلا الحق

(2)

ويروى من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أأكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم، قلت: في الرضى والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا

(3)

)، وفي الصحيح، قيل لعلي كرم الله وجهه: (هل عندكم شيء سوى القرآن؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله تعالى عبدا فهما في كتابه وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر

(4)

)، ورري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (قيدوا العلم بالكتاب

(5)

)، وروي ذلك عن عمر أيضا، وعن ابن عباس وعن بعض السلف: الكتاب أحب إلي؛ أي من النسيان، وقال آخر: يعيبون علينا الكتاب، وقال تعالى:{عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} ، ووصى مالك بعض أصحابه عندما ودعه، فقال: أوصيك بتقوى الله في السر والعلانية، والنصح لكل مسلم، وكتابة العلم من عند

(1)

البخاري، كتاب اللقطة، الحديث:2434. مسلم، كتاب الحج، الحديث: 1355.

(2)

أبو داود، كتاب العلم، الحديث:3646. بلفظ:

ما يخرج منه إلا حق.

(3)

الحاكم في المستدرك، ج 1 ص 105.

(4)

البخاري، كتاب الجهاد والسير، الحديث:3047. مسلم، كتاب الحج، الحديث: 1370.

(5)

الحاكم في المستدرك، ج 1 ص 106.

ص: 150

أهله، وعن الخليل بن أحمد: ما تكتب بيت مال وما في صدرك للنفقة وكلام السلف في الترخيص في الكتاب والتحريض عليه كثير أيضا.

وأمَّا العَقْلُ فإن في الكتاب احتياطا للعلم عن أن يضيع بالنسيان وبموت أهله، والوجه الذي احتيط به [للقرآن

(1)

] فكتب في الصحف والمصاحف يُحْتَاطُ به للعلوم، ولولا الكتب المدونة لضاع كثير من العلم، ولولا التواريخ المؤرخة لم تصل إلينا علوم الأقدمين ولا عرفت تراجيح الناس، وأما الذين كرهوا الكتب من السلف كابن عباس وابن شهاب والنخعي والشعبي ونحوهم فإنهم كانوا عربا والعرب أعطوا الحفظ، فكانوا يحفظون القصائد والخطب في مجامعهم وأنديتهم ولا يستعيدونها.

وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم بخبر قس بن ساعدة، وأنه سمعه يخطب، وأنه لقيه في سوق عكاظ وسمعه يخطب، فحكى صلى الله عليه وسلم خطبته بوجهها ثم قال: مع شعر لا أرويه، فقال رجل: أنا أرويه إذ كان حاضرا معه فأنشده بوجهه، وجلس نافع بن الأزرق إلى ابن عباس يسأله عن مسائل، فإذا بعمر بن أبي ربيعة -فجلس وهو شاب- فأنشد عمر قصيدته التي يقول في أولها:

أمِنْ آلِ نْعم أنت غاد فمبكر ..................................

فقال نافع: عجبا لك يابن عباس، الناس يضربون إليك أكباد الإبل ليسمعوا منك وأنت تسمع الخنا من شاب من قريش، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وأين الخنا؟ فقال نافع: قوله -أي- في هذه القصيدة:

رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت

فيخزى وأما بالعشي فيخصر

(1)

في الأصل القرآن، والمثبت من القانون لليوسي، ص 184.

ص: 151

فقال: ما هكذا قال، وإنما قال: فيضحى: وليس بخنا، فقال نافع: أكنت تحفظ هذه القصيدة؟ فقال: لا، ولا سمعتها قط إلى الآن، ولو شئت لأعدتها عليك، فقال: لله أبوك فافعل فأعادها ابن عباس كما هي وفيها نحو ثمانين بيتا، فقال نافع: ما رأيت أروى منك، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما رأيت أروى من عمر.

وتقدم قول الشعبي: ما استعدت حديثا، وكان إذا أراد أن يدخل السوق سد أذنيه بالصوف خشية أن يسمع ما لا ينبغي، وكان يقول: ما دخل أذني [شيئا

(1)

] قط فنسيته، فلما انشرحت صدورهم بالإيمان والمعرفة ازدادوا حفظا إلى حفظ، فلا يقاس بهم غيرهم، فالاحتياط الكتب كما قيل:

العلم صيد والكتابة قيده

قيد مصيدك بالحبال الموثقه

ومن أعطي حفظا مع ذلك كان الفضل له وإلا فلا يضيع علمه {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} ، نعم لا ينبغي لذي الهمة أن يتكل على الكتُبِ ولا أن يغتر بكثرتها عنده.

الثَّامِنُ: ينبغي للتلميذ أن يراعي نوبته عند الشيخ، وهذا متأكد لأنه من الحقوق، فلا يطلب السبق على من سبقه بالدرس والسؤال، وقد رووا في هذا خبرا؛ وهو أن أنصاريا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، وجاء رجل من ثقيف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أخا ثقيف إن الأنصاري قد سبق بالمسألة فاجلس كيما نبتدئ بحاجة الأنصاري قبل حاجتك

(2)

)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فإن كان للمتأخر حاجة ضرورية قد علمها السابق أو أشار الشيخ بتقديمه لعذر تعين، وإن كان غريبا استحب للسابق عليه إيثاره على نفسه لمكان غربته وإلا فلا؛ لأن المسارعة إلى العلم والاشتغال به قربة وقد قالوا: الإيثار بالقرب مكروه.

واعلم أنه يطلب من التلميذ أن يخلع عنه جلباب الحياء والكبر في التعلم، ويرمي نفسه في غمرات الطلب، فلا يستحي ولا يأنف أن يسأل عما لا يعلم، ويستفهم عما لا يفهم، ولا أن

(1)

كذا في الأصل، والذي في القانون لليوسي ص 185: شيء.

(2)

مجمع الزوائد، ج 3 ص 277.

ص: 152

يقول لم أفهم، فإن الوجه إذا لم يحمر في هذا لم يبيض أبدًا. وينسب إلى عمر رضي الله تعالى عنه: من رق وجهه رق علمه، وقال مجاهد: لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في دين الله تعالى

(1)

)، وقالت أم سليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟

(2)

)، وقال الشاعر:

وليس العمى طول السؤال وإنما

تمام العمى طول السكوت على الجهل

وقالوا: من رق وجهه عند السؤال، ظهر نقصه عند اجتماع الرجال، ولابد أن يكون ذلك بأدب وتلطف وحسن تأنٍّ، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير وإنما طلب زواله لحاجة التفقه في الدين مخافة البقاء في غمرات الجهل، ولابد من الاقتصار على ما لم يكن منه بد، والمحافظة على الحياء فيما وراء ذلك، وقد كان صلى الله عليه وسلم فيما وصفه الواصفون (أشد حياء من العذراء في خدرها

(3)

)، ومع ذلك متى احتاج لأمر لابد منه لم يعقه الحياء عن الحق، فقال للرجل المقر بالزنى: (نِكْتَهَا

(4)

) لا يكني لتوقف الحدود على مثل هذا، وأمر بذلك فقال: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا

(5)

)، وقال علي رضي الله تعالى عنه: (كنت رجلا مذاء فاستحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فامرت المقداد أن يسأل

(6)

). الحديث. فالطالب متى أمكنه أن يستفيد العلم مع المحافظة على الحياء كان أولى، مع أن الحياء المطلوب هو الحياء عن الفحش وما لا ينبغي، وأما الحياء عن مجرد الكلام وما يحتاج كدأب النساء فلا فضيلة فيه. انظر القانون.

(1)

البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم.

(2)

الموطأ، كتاب الطهارة، ص 118. والبخاري، كتاب العلم، الحديث: 130.

(3)

البخارى، كتاب المناقب، الحديث:3562. مسلم، كتاب الفضائل، الحديث: 2320.

(4)

البخاري، كتاب الحدود، الحديث:6824. بلفظ:

أنكتها وأبو داود، كتاب الحدود، الحديث:4426.

(5)

مسند أحمد، ج 5 ص 136. بدون لفظ:"بهن أبيه".

(6)

البخاري، كتاب الوضوء، الحديث:178. ومسلم، كتاب الحيض، الحديث: 303.

ص: 153

وقد مر جلوس التلميذ بين يدي الشيخ -أعني صاحب الدرس- فإن كان معه كتاب أمسكه معه ولا يطرحه في الأرض، ثم لا يقرأ حتى يأذن له الشيخ ولا يقتصر حتى يأمره، وليس لغيره أن يقول له: اقتصر إلا بإذن الشيخ، فإن اقتصر الشيخ لتعب أو ملل أو غرض فليقتصر هو ولا يزاحم الشيخ، وعند استفتاحه للقراءة يحمد الله تعالى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ويترحم على مصنف الكتاب، ثم يدعو للشيخ، فيقول ثلاثا: قال الشيخ رحمه الله تعالى ورضي عنكم يريد شيخه إن كان حاضرا، أو عن إمامنا أو عن شيخنا أو أستاذنا حاضرا كان أو غائبا، أو نحو هذا من العبارات، وقد قال العلماء: إن الطالب إذا لم يعرف هذه الآداب الاستفتاحية ونحوها فعلى الشيخ أن ينبهه عليها لأنها متأكدة: وينبغي لكل من الطلبة أن ينصح إخوانه ويحبهم ويحب لهم الخير، ويؤنسهم من وحشة الغربة ودهشة الولوج في تضايق الفهوم، ويشاركهم فيما ظفر به ولا يضن عليهم بفائدة حصلها وقاعدة حررها، عونا لهم ما أمكنه في ذات الله تعالى، فبذلك يزكو علمه ويصلح حاله وتربح تجارته، وإلا لم يثبت له علم، وإن ثبت لم تكن له ثمرة، وقد جرب ذلك عند أهل العلم فصح، وليحذر من المهالك الموبقات وهي أن يحسدهم إرادة الامتياز عليهم، أو يفخر عليهم لنسبة التحصيل إلى عقله ونسيان ربه الفتاح العليم الذي امتن عليه بما حصل من غير حول منه ولا قوة. والله الموفق والمعين.

وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم

(1)

)، (وطالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر

(2)

)، ويروى: (اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم

(3)

)، وقد تكلموا في متن هذا الحديث، فضعفه قوم، وقال آخرون: هو وإن لم يثبت معناه صحيح، وقد اختلفوا في المراد منه، والأظهر أن المراد طلب ما يجب على الإنسان في خاصة نفسه من إيمان بالله تعالى وصفاته وأسمائه، وبرسله وباليوم الآخر، والصلاة بأحكامها والزكاة كذلك على من له مال والحج وسائر

(1)

ابن ماجه، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، الحديث:224.

(2)

وإن طالب العلم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في البحر. ابن ماجه، الحديث:223.

(3)

كشف الخفاء ج 2 ص 56.

ص: 154

الأمور المطلوبة، وجميع ما نهي عنه، وما يحل، وما يحرم، وفي كل معاملة يريد الأخذ فيها، ومتى تعين عليه ما هو فرض كفاية التحق بهذا القسم أيضا فكان طلب العلم فريضة.

ومن أقوى الأسباب في رسوخ العلم المذاكرة فيه وتعليمه، قالت أم الدرداء رضي الله تعالى عنها: طلبت العبادة في كل شيء فما وجدت لنفسي أشفى من مذاكرة العلماء، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى: إحياء العلم مذاكرته، وقال بعض السلف: إذا سمعت حديثا فحدث به حين تسمعه ولو أن تحدث به من لا يشتهيه فإنه يكون كالكَتْبِ في صدرك.

التاسع: اعلم أنهم حضوا على التعلم في الصغر وذكروا له فضلا، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تعلم العلم وهو شاب كان كوشم في الحجر، ومن تعلم العلم بعدما يدخل في السن كان كالكاتب على ظهر الماء

(1)

)، ويروى عن الحسن قال: طلب العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ويروى عن علقمة قال: ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة، ويروى عن لقمان أنه قال لابنه: يابني ابتغ العلم صغيرا فإن ابتغاء العلم يشق على الكبير، ويقال من أدَّبَ ولده أرغم أنف عدوه، وقال الشاعر:

يُقَوِّمُ من ميل الغلام المؤدِّبُ

ولا ينفع التأديبُ والرأسُ أشيب

* * *

قد ينفع الأدب الأحداث في مهل

وليس ينفع بعد الكِبرة الأدب

إن الغصون إذا قومتها اعتدلت

ولن تلين إذا قومتها الخشب

وقال نفطويه:

(1)

اغد عالما أو متعلما ولا خير في سواهما. سنن الدارمي، ج 1 ص 97.

ص: 155

أراني أنسى ما تعلمت في الكبر

ولست بناس ما تعلمت في الصغر

وما العلم إلا بالتعلم في الصبا

وما الحلم إلا بالتحلم في الكبر

ولو فلق القلب المعلم في الصبا

لألفي فيه العلم كالنقش في الحجر

وما العلم بعد الشيب إلا تعسفا

إذا كل قلب المرء والسمع والبصر

وما المرء إلا اثنان عقل ومنطق

فمن فاته هذا وهذا فقد دمر

العاشر: ها أنا أذكر لك فيه جملا وجيزة في فضل العلم، منها حديث ومنها حكمة (اغد عالما أو متعلما ولا تكن الثالث فتهلك

(1)

)، العلم خير من المال لأن العلم يحرسك والمال تحرسه، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، العلماء، ورثة الأنبياء، العلم أكثر من أن يحاط به فخذوا من كل علم أحسنَه، قيمةُ كُل إنسان ما يحسن فتكلموا في العلم تتبين أقداركم، وهذا القول لعلي كرم الله وجهه لم يسبق إليه.

قال الشاعر:

لا يكون السري مثل الدني

لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي

قيمة المرء كل ما يحسن المر

ء قضاء من الإمام علي

غيره.

يلوم على أن رحت للعلم طالبا

أَجَمِّع من عند الرواة [فنونا

(2)

]

فيا لائمي دعني أعاني بهمتي

فقيمة كل الناس ما [يحسنونا

(3)

]

(1)

.. وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر. أبو داود، كتاب العلم، الحديث:3641.

(2)

في القانون لليوسي ص 195: فنونه.

(3)

في القانون لليوسى ص 195: يحسنونه.

ص: 156

الحكمة ضالة المؤمن، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك، شكر العالم على علمه أن يبذله لمن يستحقه، كل شيء يعز حين يندر والعلم يعز حين يغزر، العلم مثل السراج من مر به اقتبس منه، خير العلم ما نفع منه، العلم نور الدين، هلاك العلم بالجهال وهلاك الجهال بالعلم، علامة العلم التصرف في كل معنى، لا عدوى أضر من جهل، لا يستغني الإنسان عن العلم حتى يستغني عن الحياة، بالعلم تعرف النعمة وبالمعرفة تشكر، وبالشكر تستحق، العلم ثمرة الطلب، والطلب ثمرة التوفيق، أفضل العلم وقوف الرجل عند علمه، عمل قليل في علم خير من كثير في جهل، ما تعلمه ولا تعمل به لغيرك نوره وعليك بوره، فضل من وعى العلم على من علمه إياه كفضل من لبس التاج على من صاغه، فإن زينة التاج للابسه وحظ صانعه الدخان وحمل المطرقة، إن الرجل يطلب العلم لغير الله فيأبى العلم أن يكون إلا لله حتى يرده إلى الله، النظر إلى العالم عبادة، العلم بصر والجهل عمى، تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة.

الناس موتى إلا العلماء؛ إذا استرذل الله عبدا حظر عنه العلم والأدب، كاد العلماء يكونون أربابا، كل عز لم يؤكد بعلم فإلى الذل يصير، لا غنى عن علم الفرائض والنوافل وعلم الفرائض أولى، ما ازداد أحد علما إلا ازداد على العلم حرصا، منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال. العلم منار سبل أهل الجنة، والأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والزين عند الأخلاء، والسلاح على الأعداء. أربعة يسود بها العبد: العلم، والأدب، والفقه، والأمانة. أقرب الأشياء من الله العلم، [يرفع

(1)

] الله بالعلم أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدى بأفعالهم، العلم يرفع الخسيسة ويتمم النقيصة، الناس مع العلماء كالأيتام في حجور الأوصياء، العلم حافظ العمل من التقصير والغلو، جفاء العلم ترك العمل به والتعليم له، هلك خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب مشهودة.

وفي معناه قيل:

(1)

في الأصل نفع والمثبت من قانون اليوسي ص 196.

ص: 157

أخو العلم حي خالد بعد موته

وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو يمشي على الثرى

يعد من الأحياء وهو عديم

العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم، علم بلا عمل كشجرة بلا ثمر، العلم من الله وله، من حجب عنه العلم عذبه الجهل.

واعلم أن ثمرة العلم عند العالم العمل به، والعمل قسمان: عيني كصلاته وصومه، وكفائي كبثه نفعا للعباد، وقد يتعين هذا كما إذا لم يوجد من يقوم به غيره، فإن كان كفاية فقد مر أن الاشتغال به مع صحة القصد أولى من عبادة أخرى لا تتعدى ولا سيما مع كثرة الجهل في العامة وهذا بحسب الظاهر، وإلا فالمعرفة لمن فتح له فيها أعلى، وإذا كانت أعلى كان سببها من العزلة والرياضة أولى، ولابد من النظر في هذا. قاله في القانون.

وقال: وكنت أيام صحبة أستاذنا الإمام أبي عبد الله بن ناصر رحمه الله تعالى تنازعني نفسي إلى التجرد والسياحة وترك التعليم، وكان لا يرى ذلك، فقلت له ذات يوم: أيهما أفضل العلم أم المعرفة؟ قال: المعرفة، قلت: فلم لا نشتغل بأسبابها؟ قال: المعرفة قسمة من قسم له شيء يأتيه، وما رأيت في هذا الزمان أفضل من تعليم العلم، وكنت مرة بمدينة فاس أيام رشيد بن الشريف فكنت أدرس وأخذ الجوائز وأركب إليه وآكل من طعامه وألبس كغيري، فضاقت نفسي من ذلك وهممت أن أفر بنفسي وأسيح في الأرض وأدع العيال لخالقهم جل وعلا، فذكرت ذلك لشيخنا أبي محمد عبد القادر بن علي الفاسي، فقال: لو كان ذلك بحالة صحيحة أمكن، ولكن يخشى أن تكون فيه شهوة فلا تربح فيه فأمسكت عن ذلك، ومعنى ما أشار إليه أن العبد إذا تحرك لله تعالى كان عبدًا لله تعالى فأعانه وكفاه، وإذا تحرك لنفسه كان عبد نفسه فيوكل إليها ويهلك معها، وبسط هذا الكلام أن العبد إذا تحرك لأداء فريضة تعينت شرعا أو ترك محرم فقد علم أنه تحرك لله: لأن الله تعالى هو الذي حتم عليه ذلك الفعل أو الترك، وإن تحرك لحالة لا يظهر وجوبها شرعا ولكن يراها أفضل من حالته الوقتية فهو لا يدري أباعثه أمر الله وهو كونه تعالى طلب منه الحالة الفضلى، -وإن لم يكن وجوب- أم باعثه شهوة نفس فيكون عبد نفس، ومثال

ص: 158

ذلك في هذه الصورة أن يقال: مريد الخروج إلى السياحة يحتمل أن يكون باعثه كراهية الدنيا وأهليها ومحبة المولى والرغبة في الجلوس بين يديه بلا علاقة أو نحو هذا من المقاصد الحسنة، فيكون تحركه لله فيكون عبدًا لله سبحانه، ويحتمل أن يكون الباعث أو الموجب لضيق النفس إنما هو غلظ النفس وكبرها، والأنفة من التذلل لغيره، والدخول تحت حكمه فيكون قد خالف الشرع ظاهرا بترك عياله بلا قيم وهرب عن طاعة من ولاه الله تعالى، واشتغل بالاعتراض عليه بالتكبر عليه، وهو اعتراض على الله تعالى فيستوجب المقت من الله تعالى، وهو يظن أنه يسعى في القُرَب وهكذا فمن هذا احتاج الناس إلى الشيخ المربي، ومما قيل في مدح العلم والحث عليه من الشعر قوله:

مع العلم فاسلك حيثما سلك العلم

وعنه فكاشف كل من عنده فهم

ففيه جلاء للقلوب من العمى

وعون على الدين الذي أمره حتم

فإني رأيت الجهل يزري بأهله

وذو العلم في الأقوام يرفعه العلم

يعد كبير القوم وهو صغيرهم

وينفذ منه فيهم القول والحكم

وأي رجاء في امرئ شاب رأسه

وأفنى سنيه وهو مستعجم فدم

يروح ويغدو الدهر صاحب بطنه

تركب في أحضانها الشحم واللحم

إذا سئل المسكين عن أمر دينه

بدت رحضاء العي في وجهه تسمو

وهل أبصرت عيناك أقبح منظرا

من اشيب لا علم لديه ولا حلم

هي السوأة السوآء فاحذر سماتها

فأولها خزي وآخرُ هاذم

فخالط رواة العلم واصحب خيارهم

فصحبتهم زين وخلطتهم غنم

ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم

نجوم إذا ما غاب نجم بدا نجم

فو الله لولا العلم ما اتضح الهدى

ولا لاح من غيب الأمور لنا رسم

وقال آخر:

رأيت العلم صاحبه شريف

وإن ولدته آباء لئام

وليس يزال يرفعه إلى أن

يعظم قدره قوم كرام

ص: 159

ويتبعونه في كل أمر

كراعي الضأن يتبعه سوام

ويحمد قوله في كل أفق

ومن يك عالما فهو الإمام

فلولا العلم ما سعدت نفوس

ولا عرف الحلال ولا الحرام

فبالعلم النجاة من المخازي

وبالجهل المذلة والرغام

هو الهادي الدليل إلى المعالي

ومصباح يضيء به الظلام

كذاك عن الرسول أتى عليه

من الله التحية والسلام

وإن طلابه حق على من

له عقل وليس به سقام

فإما عالما تغدو وإما

إلى التعليم يخرجك اغتنام

وسائر ذاك من لا خير فيه

ومن يك عالما فهو الإمام

كذاك عن النبي أتى عليه

من الله التحية والسلام

وينسب لصالح بن جناح:

تعلم إذا ما كنت لست بعالم

فما العلم إلا عند أهل التعلم

تعلم فإن العلم زين لأهله

ولن تستطيع العلم إن لم تعلم

تعلم فإن العلم أزين للفتى

من الحلة الحسناء عند التكلم

وقال سابق البربري:

العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه

كما يجلي سواد الظلمة القمر

وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها

ولا البصير كأعمى ماله بصر

وقال أبو بكر بن مروان رحمه الله تعالى من قصيدته:

العلم زين وتشريف لصاحبه

أتت إلينا بذا الأنباء والكتب

والعلم يرفع أقواما بلا حسب

فكيف من كان ذا علم له حسب

فاطلب بعلمك وجه الله محتسبا

فما سوى العلم فهو اللهو واللعب

وقال آخر:

يعد رفيع القوم من كان عالما

وإن لم يكن في قومه بحسيب

ص: 160

وإن حل أرضا عاش فيها بعلمه

وما عالم في بلدة بغريب

وقال آخر:

لقد ضلت حلوم من أناس

يرون العلم إفلاسا وشوما

كسانا علمنا فخرا وجودا

وبالجهل اكتسوا جهلا ولو ما

هم الثيران إن فكرت فيهم

فكيف بأن ترى ثورا حليما

فَجَانِبْهُمْ ولا تعتب عليهم

وكن للكتب دونهم نديما

ويروى عن شيخ الشيوخ ابن لب رضي الله تعالى عنه قال هممت بطاعة أشتغل بها فبت مفكرا في ذلك فإذا بهاتف يقول:

إذا الأحباب فاتهم التلاقي

فما صلة بأفضل من كتاب

ولبعضهم في مدح الحديث:

ألا إن خير الناس بعد محمد

وأصحابه والتابعين بإحسان

أناس أراد الله إحياء دينه

بحفظ الذي يروي عن الأول الثاني

إذا عالم عالي الحديث تسامعوا

به جاءه القاصي من القوم والداني

وساروا مسير الشمس في جمع علمه

وأوطانهم أضحت لهم غير أوطان

وقال آخر:

واظب على جمع الحديث وكُتْيه

واجهد على تصحيحه في كَتْبه

واسمعه من أربابه نقلا كما

سمعوه من أشياخهم تسعد به

ولأبي عمر رحمه الله تعالى:

العلم يرفع كل بيت هين

والفقه يجمل باللبيب الدين

فالمرء يكرم بالوقار وبالنهى

والمرء تحقره إذا لم يرزن

وإذا طلبت من العلوم أجلها

فأجلها علم التقي المؤمن

علم الديانة وهو أرفعها لدا

كل امرئ متيقظ متدين

ص: 161

هذا المصحح لا مقالة جاهل

فأجلها منها مقيم الألسن

يعني بقوله: مقالة جاهل، قول بعضهم:

النحو يصلح من لسان الألكن

والمرء تكرمه إذا لم يلحن

فإذا أردت من العلوم أجلها

فأجلها منها مقيم الألسن

وكفر إن تعمد؛ يعني أن الكفارة الكبرى تجب على المكلف بأحد المفطرات الآتية، واختلف هل هي على التراخي أو الفور كالقضاء؟ وتجب بشروط خمسة: أَحَدَها أن يتعمد الفطر، ثانِيَها أن يكون فطره ذلك اختيارا فلا كفارة على ناس ولا على غير مختار، كمن فعل شيئا من موجبات الكفارة مكرها أو غلبة؛ لعدم وصف هذه الثلاث بالتعمد حقيقة إلا من استاك بجوزاء نهارا عمدا وابتلعها غلبة فعليه الكفارة كما يأتي.

واعلم أن الكفارة مأخوذة من الكفر بفتح الكاف وهو الستر، وبالضم ستر الحق، والبحر كافر لستره لما فيه، وأكثر موارد الكفارة رفع الإثم وستره كما في الصوم والظهار، وسميت كفارة غيره بذلك تشبيها وإن لم يكن بها إثم كما في اليمين بالله تعالى؛ إذ قد لا يكون الحنث حراما بل واجبا أو مندوبا. ثالِثُ الشروط: أن يكون منتهكا للحرمة، وإليه أشار بقوله: بلا تأويل قريب، ولو قال بلا تأول لكان أحسن. والله تعالى أعلم؛ يعني أنه يشترط في لزوم الكفارة للمفطر في رمضان أن يكون في فطره منتهكا للحرمة، فالمتأول تأويلا قريبا لا كفارة عليه، والمتأول تأويلا قريبا هو المستند لأمر موجود، وستأتي أمثلته، ومنطوق المصنف صورتان: إحداهما أن يفعل موجب الكفارة غير متأول، الثانية أن يفعل موجب الكفارة متأولا تأويلا بعيدا، ومفهومه صورة واحدة؛ وهي أن المتأول تأويلا قريبا لا كفارة عليه، ومن تعمد الفطر في يوم ثلاثين ثم جاء الثبت أنه يوم العيد فلا كفارة عليه ولا قضاء، وكذلك الحائض تفطر متعمدة ثم تعلم أنها حاضت قبل فطرها، وعن حمديس وجماعة من الطلبة: عليهما الكفارة، ووجهه الانتهاك: ونظير ذلك على الأول من تزوج امرأة معتقدا أنها في العدة ثم تبين أنها خرجت منها فنكاحه صحيح، خَاطَرَ وسَلِمَ، الشرط الرابع: أشار إليه بقوله: وجهل؛ يعني أنه يشترط في لزوم الكفارة أن يكون غير جاهل بحرمة

ص: 162

موجب الكفارة؛ بأن يكون عالما بالتحريم، وأما لو جهل الحرمة كحديث عهد بالإسلام يظن أن الصوم لا يحرم الجماع مثلا وجامع فلا كفارة عليه، وأما جهل وجوب الكفارة مع علمه الحرمة فلا يسقط عنه وجوب الكفارة، وقوله:"وجهل"، عطف على "تأويل"، وقوله:"وجهل"، خلافا لابن حبيب القائل: إن الجاهل كالعامد، عليه الكفارة، فإنه قال في الذي يتناول فلقة: إن كان ساهيا فلا كفارة عليه، وإن كان عامدا كان عليه الكفارة والقضاء، قال الإمام الحطاب: والمعروف من المذهب أن الجاهل في حكم المتأول فلا كفارة عليه؛ لأنه لم يقصد انتهاكا. انتهى.

تنبيهات: الأَوَّلُ: فإن قِيلَ ما الفرق بين الجاهل والمتأول؟ فإنه جاهل بالحكم أيضا، فما الفرقَ بينهما؟ ثم إنهم فرقوا في المتأول بين التأويل القريب والبعيد، فَالجَوَابُ أنه لا فرق بينهما إلا إذا حمل الجاهل على من كان حديث عهد بالإسلام فجهل وجوب رمضان أو بعض ما يمنعه رمضان من أحكامه المشهورة، والمتأول من أفطر لوجه يخفى حكمه، بل قال بعض العلماء بجواز الإفطار به.

الثَّانِي: قد مر أن المتأول تأويلا قريبا لا كفارة عليه، بخلاف المتأول تأويلا بعيدا، وقال اللخمي: قال الشيخ: أصل المذهب أن الكفارة إنما تجب على من قصد الفطر جرءة وانتهاكا، فمن أفطر متأولا فإن جاء مستفتيا ولم يظهر عليه صدق فيما يدعيه، وأنه لم يفعل ذلك جرءة ولا كفارة عليه، وإن ظهر عليه نظر فيما يدعيه، فإن كان ممن يرى أن مثله يجهل ذلك صدق، وإن أتى بما لا يشبه لم يصدق وألزم الكفارة، وهذا فائدة قولهم إن هذا ينوَّى ولا ينوَّى الآخر ويجبر على الكفارة، ولو كان إخراج الكفارة موكولا إليه إذا ادعى ما لا يشبه لم يكن للتفرقة وجه. انتهى. قاله الحطاب.

الثَّالِثُ: علم مما مر أن من أكل في يوم الشك قبل أن يثبت الهلال ثم ثبت أنه من رمضان لا كفارة عليه، وكذلك الأسير إذا لم يعلم برمضان لم يذكر أحد قولا بوجوب الكفارة عليه. قاله الحطاب.

وَحَاصل ما مر عن اللخمي أن مقتضى المذهب الإجبار على الكفارة، ولا يوكل إلى الأمانة، فمن ادعى سقوطها بجهل أو تأويل لم يصدق إلا أن يأتي بما يشبه، وقال صاحب القبس: هي

ص: 163

موكولة إلى الأمانة، وقال القرافي: وتستقر الكفارة في الذمة عند العجز عنها، وقال الجزولي: لا يجوز للإنسان أن يفطر بالتأويل دون أن يسمع فيه شيئا. انتهى. وهذا معلوم لأنه لا يحل للإنسان أن يفعل شيئا دون أن يعرف حكم الله تعالى فيه. قاله الحطاب. وفيه أن من كان لا يؤدي زكاة الأموال أو وجبت عليه كفارة أو هدي أو عتق عن ظهار أو قتل فامتنع من أداء ذلك يجبر على إنفاذه. والله سبحانه أعلم. وأشار إلى الشَّرْط الخَامِسِ بقوله: في رمضان؛ يعني أن الكفارة الكبرى إنما تجب على من أفطر في رمضان لا في غيره، ولهذا قال: فقط، فمن نذر صوم الدهر وأفطر فيه متعمدا فلا كفارة عليه صغرى ولا كبرى على المشهور. قاله الخرشي. وكذا لا كفارة في كفارة أو ظهار ونحو ذلك، ولا كفارة كبرى في قضاء رمضان.

وفي البيان: وسئل سحنون عمن نذر أن يصوم الدهر كله فأفطر يوما؟ قال سحنون: إن أفطره ناسيا أو من عذر فليس عليه شيء، وإن أفطره من غير عذر فعليه الكفارة، قيل: وما الكفارة؟ قال: إطعام مد. أخبر به أبو زيد عن ابن القاسم. قال ابن رشد: ولسحنون في كتاب ابنه أن عليه إطعام ستين مسكينا. ووجه هذا أنه لما أفطر متعمدا ما لا يجد له قضاء أشبه الفطر في رمضان متعمدا في أنه لا يجد له قضاء؛ إذ قد جاء أنه لا يقضيه بصيام الدهر وإن صامه، ووجه القول الأول القياس على كفارة التفريط لأنها كفارة وجبت للفطر عمدا في موضع لا يجوز الفطر فيه، واختلف فيمن نذر صيام الدهر فلزمه صيام ظهار أو كفارة يمين، فقال ابن حبيب: يصوم ذلك ولا شيء عليه، وقال سحنون: يصوم ويطعم عن كل يوم مدا. وبالله التوفيق. قاله الحطاب. وفي النوادر عن ابن الماجشون: من نذر صيام الدهر فأفطر ناسيا فلا شيء عليه، وعامدا عليه كفارة من أفطر يوما من رمضان؛ إذ لا يجد له قضاء، وقال سحنون في كتاب ابنه: عليه كفارة إطعام مسكين، ونقل في التوضيح عن الشيخ المقدسي المالكي أنه قال فيمن نذر صيام الدهر ثم أفطر متعمدا: قال كافة الناس لا شيء عليه، وليستغفر الله تعالى. قاله الحطاب. ومن نذر أن يصوم الدهر كله ولزمته كفارة يمين بالصوم، قال سحنون: فليصم ثلاثة أيام ليمينه ويطعم عن كل يوم مدا.

ابن حبيب: ومن نذر صيام الدهر أو نذر صيام الاثنين والخميس ثم لزمه صوم شهرين لظهاره فليصمهما لظهاره، ولا شيء عليه لما نذر من صيام الدهر ومن الأيام المسماة. قاله مالك. وعلى قول

ص: 164

سحنون: يطعم عدة ما صام لكل يوم مدا، وهذا أدنى الكفارة في الصوم. انتهى. ومثل صيام الكفارة صيام الهدي والفدية وغيره مما يشبه. والله أعلم. قاله الحطاب.

تنبيهان: الأوَّلُ: اعلم أن الكفارة تتعدد بتعدد الأيام ولا تتعدد بتعدد الموجب، كالأكلات والوطئات في يوم واحد، وسواء أخرج الكفارة أم لا،

الثَّانِي: قوله "بلا تأويل"، حال، والباء باء الملابسة؛ أي حال كون المتعمد متلبسا بانتفاء التأويل القريب وقوله:"في رمضان"، متعلق "بتعمد"، وليس متعلقا بقوله:"وكفر"، لفساد المعنى، ولأن إن لا يعمل ما قبلها فيما بعدها. جماعا، مفعول تعمد؛ يعني أن المكلف إذا تعمد الجماع في نهار رمضان فإنه تجب عليه الكفارة الكبرى.

واعلم أن موجبات الكفارة الكبرى خمسة: أَحَدُهَا تعمد الجماع، وبدأ به لأنه مجمع عليه بخلاف غيره، والمراد بالجماع الوطء الذي يوجب الغسل، لا في هوى الفرج، ولا في وطء من غير بالغ، فلا كفارة على موطوءته البالغة إلا أن تنزل، ولا كفارة في وطء من لا تطيق أي لا كفارة على بالغ وطئها إلا أن ينزل، وقد مر عن عبد الباقي أن غير البالغ لا يفسد صومه بوطئه، ولا صوم موطوءته البالغة حيث لا يوجد منها مني أو مذي، قال محمد بن الحسن: قوله "لا يفسد صومه"، فيه نظر.

وعلم مما قررت أن من تعمد الجماع الوجب للغسل تجب عليه الكفارة، سواء كان رجلا أو امرأة. وفي الحطاب عن الذخيرة، قال سند: وتجب عليه الكفارة ولو وطئ امرأته في دبرها أو فرج ميتة أو بهيمة، وقال عبد الوهاب: ومن احتلم في نهار رمضان لم يفسد صومه ولا قضاء عليه لما روي: (ثلاثة لا يفطرن الصائم

(1)

)، فذكر الاحتلام من ذلك. نقله الشارح في الكبير. والله أعلم. انتهى. وما مشى عليه المصنف من اشتراط العمد في الجماع هو المشهور، وقاله في المدونة، وعن مالك أنه لا يشترط ذلك، وقاله عبد الملك.

ثانِيهَا: تعمد رفع النية نهارا، وإلى ذلك أشار بقوله: أو رفع نية نهارا، قوله:"أو رفع"، عطف على قوله:"جماعا"؛ يعني أن من تعمد رفع نية الصوم أي نبذها ورفضها في نهار رمضان بعد

(1)

ثلاثة لا يفطرن الصائم: القيء والحجامة والاحتلام. سنن الدارقطني، ج 2 ص 183.

ص: 165

أن أصبح صائما تجب عليه الكفارة الكبرى، وهذا هو الأصح وهو مذهب المدونة، وقال ابن القاسم: أحب إلي أن يكفر مع القضاء، وقوله:"أو رفع نية نهارا"، وأولى في لزوم الكفارة إذا أصبح ناويا الفطر، وسواء استمر بعد ذلك على نية الفطر أو نوى الصوم نهارا قبل أن يأكل، وصرح بذلك في المدونة ولا كفارة على من ارتد في نهار رمضان، ولا يلزم قضاء ما أفطره في ردته إذا أسلم كالكافر الأصلي، وقوله:"أو رفع نية نهارًا"، هذا إن رفض رفضا مطلقا أو معلقا على أكل أو شرب وحصل نهارا لا في معلق عليه ولم يوجد فلا كفارة، وكذا لا قضاء كما صوبه اللخمي قائلا: إنه جل قول مالك، خلافا لابن عبدوس. قاله عبد الباقي. فمعنى رفع النية هو الفطر بالنية لا نية الفطر، فلا تضر إذا لم يفطر بالفعل كما في الرماصي؛ وهو معنى ما في غيره إنما يضر الرفض المطلق، أما المقيد بأكل شيء فلم يوجد فلا، ومنه من نوى الحدث أثناء الوضوء ولم يحدث فليس رافضا، وانظر لو نوى أن يأكل في الصلاة مثلا فلم يفعل، وأما قول من ظن الغروب خطأً: (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت

(1)

)، فظاهر أنه لا يراد به الرفض، وإنما المعنى: على رزقك أفطر على حد: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ، فإن الرزق لم ينتفع به بعد. قاله الأمير.

ثالثها: تعمد الأكل نهارا، وإليه أشار بقوله: أو أكلا؛ يعني أن الصائم إذا تعمد في نهار رمضان أكلا لمتحلل أو غيره، ولو حصاة أو درهما أو فلقة طعام تلتقط من الأرض، فإنه تجب عليه الكفارة، وما ذكرته من أن غير المتحلل تجب فيه الكفارة هو على ما اختاره اللخمي، وهو قول عبد الملك، وقال ابن عبد السلام: الأقرب سقوط الكفارة بغير المتحلل، ونص اللخمي: واختلف في الحصى والدرهم، فقال ابن الماجشون في المبسوط: له حكم الطعام فعليه في السهو القضاء، وفي العمد القضاء والكفارة، وقال ابن القاسم في كتاب ابن حبيب: لا قضاء عليه إلا أن يكون متعمدا فيقضي لتهاونه، والأول أشبه لأن الحصى يشغل المعدة إشغالا ما وينقص من كلب الجوع. انتهى. والظاهر من كلام المصنف وقوع الكفارة بذلك لأنه مشى على ما اختاره اللخمي فيما مر، والذي اختاره هو قول عبد الملك بن الماجشون كما علمت، وقوله. "أو أكلا"، قال عبد الباقي:

(1)

أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2358.

ص: 166

ووصل لجوفه. انتهى. قال محمد بن الحسن: صوابه لحلقه، ونص ابن الحاجب: ويجب بإيلاج الحشفة وبالمني، وبما يصل إلى الحلق من الفم خاصة.

رَابعُهَا: تعمد الشرب، وإليه أشار بقوله: أو شربا؛ يعني أن الصائم إذا تعمد الشرب في نهار رمضان فإنه تلزمه الكفارة: وقوله: "أو شربا"، قال عبد الباقي: ووصل لجوفه. انتهى. قال محمد بن الحسن: صوابه لحلقه، ونص ابن الحاجب: ويجب بإيلاج الحشفة وبالمني وبما يصل إلى الحلق من الفم خاصة. انتهى. بفم؛ يعني أن الشرب الذي تحصل به الكفارة إنما هو حيث كان بالفم، لا إن حصل من غيره كأنف وأذن وعين، واحترز بقوله: فقط، عما يصل من الأنف والأذن للجوف، فإنه لا كفارة فيه على المشهور، وقال أبو مصعب: يكفر في الواصل من الأنف فكأنه يرى الكفارة معللة بالعمد أو يرى هذا انتهاكا، ويمكن رجوع قوله:"فقط"، للأكل، ويراد بالأكل وصول المأكول. وإن باستياك بجوزاء؛ يعني أن الكفارة تجب فيما وصل للجوف بسبب استياك بجوزاء حيث تعمد الاستياك بها نهارا وابتلعها عمدا أو غلبة لا نسيانا، قال عبد الباقي: أو استعملها ليلا وابتلعها نهارا عمدا لا غلبة أو نسيانا. انتهى.

وقد مر من محمد بن الحسن أن الواصل للحلق كالواصل للجوف، وقال محمد بن الحسن هنا: حاصله -يعني ما لعبد الباقي- أنه إن تعمدها نهارا كفر في الصورتين، وهما إذا ابتلعها نهارا عمدا أو غلبة لا نسيانا، وأنه إن تعمدها ليلا كفر في صورة واحدة؛ وهي إذا ابتلعها نهارا عمدا لا غلبة أو نسيانا، وفي كلامه نظر، وذلك أن الكفارة لم يذكرها التوضيح إلا عن ابن لبابة؛ وهو قيدها بالاستعمال نهارا لا ليلا فالقضاء. نقله ابن غازي.

ونقل عن ابن الحاجب لزوم القضاء فقط، ونقله المواق أيضا، ومثل الجوزاء كل رطب مغير للريق، ومثلها كما في ابن غازي: نبات الحرشف بحاء مهملة مفتوحة، فراء مهملة ساكنة، فشين معجمة مفتوحة، ثم فاء. قاله عبد الباقي. وقال الأمير عاطفا على ما فيه الكفارة: أو إدخال من فم فقط ولو درهما كواصل غلبة، وأولى عمدا من قيء استدعاه، أو جوزاء استاك بها نهارا لا ليلا، أو من غيرها حتى ينتهك، فمتى تعمد بلع الجوزاء وقد استاك بها ليلا كفر، كما في عبد الباقي، وهو ظاهر، وإن نازعه بناني. انتهى.

ص: 167

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: وهو كالصريح في أن من جعل تمرا أو غيره في فيه فابتلعه غلبة لا كفارة عليه؛ وهو خلاف ما يأتي من أن من عبث بنواة في فيه فنزلت في حلقه فعليه القضاء والكفارة، وسيأتي أن إيجاب الكفارة في نزولها غلبة كإيجابها في مسألة الاستياك. والله سبحانه أعلم. وقد قدمت عن الحطاب عند قوله:"ثم يمجه": ولا يذوق الصائم الملح والعسل وإن لم يدخل جوفه، قال عبد الملك: وإن وصل منه إلى جوفه من غير تعمد فليقض وإن تعمد فليكفر. انتهى. وقوله: "بجوزاء"، الجوزاء هي القشر المتخذ من أصول الجوز، وأكثر من يستعمله أهل المغرب والهند.

خَامِسُهَا: تعمد إخراج المني، وإليه أشار بقوله: أو منيا، عطف على قوله:"جماعا"؛ يعني أن الكفارة تجب بتعمد إخراج المني بغير جماع، والمني هو الماء الذي يتكون منه الولد بإذن الله تعالى، وقوله:"أو منيا"، علم من التقرير أنه على حذف مضاف؛ أي إخراج مني، قال الشيخ إبراهيم: وسواء كان المتعمد لإخراج المني رجلا أو امرأة. انتهى. وسواء تعمد إخراجه بتقبيل أو مباشر أو ملاعبة أو بإدامة فكر، كما أشار إلى ذلك بقوله: وإن بإدامة فكر؛ يعني أن تعمد إخراج المني بغير الجماع يوجب الكفارة، واحترز بقوله:"وإن بإدامة فكر"، عما إذا أنزل عن فكر أو نظر غير مستدامين، فإنه لا كفارة عليه عند ابن القاسم.

واعلم أن في المسألة ثلاثة أقوال: أَحَدُهَا لمالك في المدونة؛ وهو القضاء والكفارة مطلقا، وَالثَّانِي لأشهب القضاء فقط مطلقا، وَالثَّالِثُ لابن القاسم في المدونة القضاء والكفارة إلا أن ينزل عن فكر أو نظر غير مستدامين. قاله في التوضيح، وابن عرفة عن البيان. وهذا أي قول ابن القاسم هو الذي جرى عليه المصنف، قال الرماصي: ولم يعرج ابن رشد على عادة السلامة ولا عدمها، وإنما ذكر ذلك اللخمي، فإنه لما حكى الخلاف في القبلة، هل فيها الكفارة إذا أنزل وهو قول مالك في المدونة، وقال أشهب وسحنون: إلا أن يتابع، واتفقوا على شرط المتابعة في النظر، قال: والأصل لا تجب الكفارة إلا إن قصد الانتهاك، فيجب أن ينظر إلى عادته، فمن كان عادته أن ينزل عن قبلة أو مباشرة أو اختلفت عادته كفر، وإن كانت عادته السلامة لم يكفرت وإلى اختيار اللخمي أشار بقوله: إلا أن يخالف عادته؛ يعني أن محل لزوم الكفارة عند اللخمي في إخراج المني بغير

ص: 168

جماع إنما هو فيمن كانت عادته الإنزال عما فعله من المقدمات، أو اختلفت عادته، وأما إن فعل شيئا من المقدمات عادته عدم الإنزال منه فأنزل فإنه لا كفارة عليه.

وبما قررت علم أن قوله: على المختار، راجع لجميع المقدمات، كما قاله الرماصي، وليس خاصا بما قبل المبالغة، فذكر اللخمي للقبلة والمباشرة على سبيل المثال لا على سبيل التخصيص، إذ غيرهما أحرى، وقد علمت أن اللخمي لم ينظر للمتابعة ولا عدمها، وإنما نظر للعادة وهذا لا يضر المصنف، بل نسج على منوال اللخمي، فإنه ذكر اتفاقهم على شرط المتابعة في النظر، ثم عقبه بذكر اختياره الراجع لجميع المقدمات.

واعلم أن ما تقدم يقتضى أن اختيار اللخمي من عند نفسه لا من الخلاف كما يقتضيه المصنف؛ وأجاب الرماصي بأن تعقب اللخمي لما نشأ عن الخلاف الذي ذكره صح التعبير بصيغة الاسم. قاله محمد بن الحسن. ولا بد أن تكون القبلة لغير وداع أو رحمة، ولا فرق بين كونها بفم أو غيرد، وسواء في جميع ما مر حصل إنعاظ أم لا. وإن أمنى بتعمد نظرة فتأويلان؛ يعني أن ابن القاسم قال في المدونة: تسقط الكفارة عن من أنزل بنظر أو فكر غير مستدامين، وقال القابسي يكفر إن أمنى بنظرة واحدة متعمدا، فحمله صاحب النكت وهو عبد الحق على الوفاق بحمل ما في المدونة على ما إذا لم يتعمد النظر، وحمله ابن يونس على الخلاف، وإلى ما قاله عبد الحق وابن يونس أشار المصنف بالتأويلين المذكورين.

الباجي: وقول القابسي هو الصحيح. قاله محمد بن الحسن. وقال عبد الباقي: إن التأويل بعدم التكفير هو المعتمد. انتهى. وقال الشبراخيتي: وظاهر ما في شرح الرسالة أن المعتمد من التأويلين سقوط الكفارة. انتهى. وقال عبد الباقي: ومن أمنى لقبلة وداع أو رحمة فلا كفارة عليه وعليه القضاء، ويحتمل لا قضاء عليه لأنه من المستنكح وسيأتي، وتقدم أن في المذي القضاء فقط وإن لم يستدم لسببه

(1)

على المشهور، وقيده ابن الحاجب بغير المشقة، وسيأتي قريبا نحوه للمصنف. انتهى. وذكر متعلق:"كفر"، بقوله: بإطعام ستين مسكينا؛ يعني أن من لزمته الكفارة الكبرى إنما يكفر بأحد أمور ثلاثة على سبيل التخيير، أَوَّلُهَا أن يطعم ستين مسكينا أي محتاجا فيشمل

(1)

كذا في الأصل والذي في عبد الباقى ج 2 ص 208: سبَبه.

ص: 169

الفقير، والمراد بالإطعام التمليك فلو عبر به أو بالإعطاء لكان أولى. والله سبحانه أعلم. انظر الشبراخيتي.

لكلٍّ مُدٌّ. مبتدأ وخبر، وهو تبيين للقدر الذي يعطى لكل مسكين، يعني أنه لا بد أن يعطي المكفر ستين مدا، لكل مسكين مد بمده صلى الله عليه وسلم، ويجزئ غداء وعشاء كما حققه الرهوني، فلو أعطى ستين مدا ثلاثين مسكينا لكل مدين فإنه لا يعتد بالزائد على المد، وله أن يسترجع من كل واحد ما زاد على المد فيعطيه لغيره حتى يكمل الستين، حيث بين لهم أنه كفارة: فإن ذهب ذلك من يد المسكين فلا رجوع له عليه لأنه هو الذي سلطه على هلاكه، كمن عوض عن صدقة ظانا لزومها، ولو أعطى ثلاثين مسكينا ثلاثين مدا لأجزأه ذلك، ويكمل الستين، ولو أطعم مسكينا واحدا ستين يوما لم يجزه، فإن قيل المقصود سد ستين خلة وهو حاصل فلم لا يجزئ، قيل: المقصود سد خلة ستين لأنه أبلغ في الأجر، ولتوقع أن يكون فيهم ولي مقبول الدعاء. نقله القرافي.

واعلم أنه لا مدخل للبدنة في كفارة رمضان عند جمهور العلماء، قال في التمهيد فيما في الموطإ من حديث عطاء الخراساني في حديث المجامع في رمضان بعد ذكر الرقبة، فقال: هل تستطيع بدنة؟ هذا غير محفوظ في الأحاديث المسندة الصحاح، وذكر البدنة هو الذي أنكر على عطاء، ولا نعلم أحدا كان يفتي به إلا الحسن البصرى، فإنه كان يقول إذا لم يجد المجامع في رمضان عامدا رقبة أهدى بدنة إلى مكة. انتهى. قاله الحطاب.

وتتعدد الكفارة بتعدد الأيام، ولا تتعدد في اليوم الواحد قبل التكفير اتفاقا ولا بعده على الأصح المعروف من المذهب كما قاله غير واحد؛ أي لا تتعدد في اليوم الواحد بالنسبة للفاعل، وأما بالنسبة لغيره فتتعدد كما لو وطئ أكثر من امرأة بالإكراه، فيخرج عن كل واحدة كفارة. والله سبحانه أعلم. وسيأتي أن الأمة لا عبرة بطوعها ما لم تطلب أو تتزين، ومقابل الأصح المعروف أنها تتعدد في اليوم الواحد بعد التكفير. وهو الأفضل؛ يعني أن التكفير بإطعام ستين مسكينا أفضل من التكفير بالعتق أو بصيام شهرين، وقوله:"وهو الأفضل"، قال ابن يونس: إن كان حرا مالك التصرف، ويكفر العبد والأمة بصيام إلا أن يضر ذلك بالسيد فيبقى دينا عليهما إلا أن يأذن

ص: 170

السيد في الإطعام، ونقله في التوضيح. عبد الحق: ويحتمل بقاءها في ذمته إذا أبى من الصوم وهذا أبين. انتهى. وهذا يفيد أنه لا يجبره على الصوم، وإذا فعل السفيه موجب الكفارة -وقلنا إنها على التخيير كما هو المشهور المعروف- أمر وليه بالصيام لحفظ ماله، وإن لم يقدر عليه أو أبى كفر عنه وليه بالأقل من العتق والطعام، وقوله:"وهو الأفضل"، ولو لخليفة على المذهب، وبحث فيه القرافي بأنها إنما شرعت للزجر والملوك لا تنزجر بإطعام ولا عتق بل بالصوم، فهذا من النظر في المصلحة التي لا تأباها القواعد. قاله عبد الباقي.

وقال الشبراخيتي عند قوله: "وهو الأفضل": من العتق والصيام. ابن عطاء الله: لأنه أشد نفعا لتعديه لستين مسكينا فهو أفضل من العتق لتعديه لواحد، ومن الصوم لعدم تعديه، وظاهر المصنف عدم مراعاة الوقت والشخص، وهو المذهب خلافا لمن راعى الوقت ففضل العتق في الرخاء والإطعام في الشدة، ولمن راعى الشخص كأبي إبراهيم الأندلسي؛ فإنه أفتى لبعض أهل الغنى الواسع بالصيام لأنه يشق عليه وأردع له عن انتهاك حرمة الصوم، وبه أفتى يحيى بن يحيى للأمير عبد الرحمن حين سأل الفقهاء عن وطئه جارية له في رمضان، فلما أفتاه بالتكفير بالصوم سكت حاضروه ثم سألوه لم لم يخيره في أحد الثلاثة؟ فقال: لو خيرته وطه كل يوم وأعتق فلم ينكروا، وتعقبه بعضهم بأنه مما ظهر إلغاؤه، واتفق العلماء على إبطاله، وتأول بعضهم ذلك على أن المفتي رأى أن الأمير فقير، الذي بيده إنما هو للمسلمين. قاله الحطاب. وقال ابن عرفة: اللخمي: صنفها كفارة اليمين. انتهى. قاله الحطاب. وقال ابن عرفة: وفي كون إطعام الكفارة لأيام رمضانٍ واحدٍ كيمين واحدة لا يأخذ منها المسكين الواحد إلا ليوم واحد، أو أيامه كأيمان يجزئ أخذه لليومين نظر وهذا أبين. انتهى.

وقال الجلاب: ولو أطعم ستين لإحدى كفارتيه ثم أطعم في اليوم الثاني للأخرى أجزأه مفهومه: لو أطعمهم عنهما في يوم واحد لم يجزه، وفيه نظر. انتهى. انظر الحطاب.

أو صيام شهرين، يعني أن المكفر بالخيار بين أن يطعم -والإطعام هو الأفضل كما مر- وبين أن يصوم شهرين متتابعين منويي التتابع كاملين إن لم يبدأ بالهلال، والنية الواحدة كافية في أوله كما مر عند قوله:"وكفت نية لما يجب تتابعه"، وهذا هو الأمر الثاني، وأشار إلى الأمر الثالث

ص: 171

بقوله: أو عتق رقبة؛ يعني أن المكفر بالخيار بين أن يطعم أو يصوم شهرين متتابعين، أو يعتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب الآتية في الظهار.

وبما قررت علم أن قوله: كالظهار، راجع للصوم والعتق، ومعنى التشبيه بالنسبة للصوم أن الشهرين يحسبان بالهلال إذا بدأ بالصوم من أول الهلال ناقصا كان أو كاملا، وإلا كمل النكسر ثلاثين، ويكونان متتابعين، ولا بد أن ينوي تتابعهما، ولا بد أن ينوي بصومهما الكفارة إلى غير ذلك مما يأتي في صوم شهري الظهار، ومعنى التشبيه بالنسبة للعتق أن تكون مؤمنة محررة للكفارة سليمة من قطع إصبع وعمى وبكم وجنون وإن قل، ومرض مشرف، وقطع أذنين، وصمم وهرم وعرج إلى غير ذلك مما يأتي في الظهار بأتم مما هنا فيراجع هناك وبالله تعالى التوفيق، وليس التشبيه في الترتيب كما علمت، ولا في أن المد هنا كالمد في باب الظهار.

وعلم مما مر أن التخيير إنما هو في حق الحر المكلف الرشيد، وأما العبد والسفيه فقد مر الكلام عليهما عند قوله:"وهو الأفضل"، فراجعه إن شئت، وأما الصبي فلا قضاء عليه ولا كفارة. والله سبحانه أعلم.

وما ذكره المصنف من أن الكفارة الكبرى تكون بأحد الأمور الثلاثة على التخيير هو المعروف والمشهور من المذهب كما نص عليه غير واحد، وقال ابن الحاجب: والمشهور أنها إطعام ستين مسكينا مدا مدا كإطعام الظهار دون العتق والصيام، وقيل: على الأَوْلَى، وقيل: على التخيير: وقيل: على الترتيب كالظهار، وقيل: العتق أو الصيام للجماع والإطعام لغيره، وفيها لا يعرف مالك إلا الإطعام لا عتقا ولا صوما. انتهى.

قال في التوضيح: يعني أنه اختلف في الكفارة الكبرى، هل هي مقصورة على الإطعام، أو هي على التخيير في الثلاث، أو هي على الترتيب كالظهار أو تتنوع؟ ومقتضى كلامه أن المشهور الحصر في الإطعام، وفيه نظر، فإن الذي نص عليه غير واحد أن المعروف والمشهور من مذهبنا أنها على التخيير، لكن الإطعام أفضل لأنه أعم نفعا، ومنهم من علل استحباب الإطعام بكونه هو الوارد في الحديث، واستحب مالك في كتاب ابن مزين البداءة بالصوم ثم العتق، واستحب المغيرة البداءة بالعتق. وقال ابن حبيب: العتق أحب إلي، فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع

ص: 172

فالإطعام. هكذا نقل اللخمي. ونقل عياض عنه أنها على الترتيب، ونقل الباجي عن المتأخرين من الأصحاب أنهم يراعون في الفضل الأوقات والبلاد، فإن كانت أوقات شدة فالإطعام أفضل، وإن كانت أوقات خصب ورخص فالعتق أفضل، وقد أفتى الفقيه أبو إبراهيم من استفتاه في ذلك المعنى بالصيام لما علم من حاله أنه أشق عليه من العتق والإطعام، وأنه أردع له عن انتهاك حرمة الصوم، وتبع المصنف في القول الأول ابن بشير، وليس بجيد، والقول بأنها تتنوع لأبي مصعب وهو ضعيف؛ لأن الحديث الذي هو أصل هذه الكفارة إنما كان في الجماع، ووقع التكفير فيه بالإطعام، قوله: كإطعام الظهار، أي كجنس ما يطعم في الظهار، ويحتمل أنه يريد أن التشبيه في أنه لا يجزئه أقل من المد، وقد نص صاحب اللباب عليه، وذكر أنه قول مالك والشافعي، وليس المراد التشبيه في القدر، فإن هذه بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك بمد هشام على المشهور، واحتج من قال بالترتيب بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت، واقعت أهلي وأنا صائم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة فتعتقها؟ قال: لا، فقال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال: لا، فقال: هل تجد إطعام ستين مسكينا؟ فقال: لا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق، فقال: تصدق به

(1)

). الحديث.

ويتوجه عليه اعتراض لأن قوله: هل تجد، لا يدل على الترتيب، وحمل مطرف وابن الماجشون وابن حبيب وصاحب النكت وغيرهم قوله في الكتاب: لا يعرف مالك غير الإطعام: لا يعرف المستحب، وأخذوا من ذلك أن التصدق بالطعام أفضل من العتق. انتهى. ثم قال ابن الحاجب: ويكفر ولي السفيه عنه، وعلى الترتيب تكون كالظهار، وفي إجزاء صيامه فيه مع وجود الرقبة قولان. انتهى. قال في التوضيح: أي أن السفيه إذا فعل موجب الكفارة كفر عنه وليه، فإن قلنا بالتخيير أمره بالصيام لحفظ ماله، وإن لم يقدر كفر عنه بالأقل من العتق والإطعام. عبد الحق: ويحتمل أن تبقى في ذمته، قال: وهو الأبين، وإن قلنا بالترتيب كان الأمر فيها كما إذا ظاهر، ثم أشار إلى حكمه في الظهار بقوله: وفي إجزاء صومه فيه؛ أي في الظهار مع وجود الرقبة قولان:

(1)

البخاري، كتاب الصوم، رقم الحديث:1936. ومسلم، كتاب الصيام، رقم الحديث: 1111.

ص: 173

أحدهما الإجزاء لأن سفيهه لا يردعه عتقه عن تكرير الظهار، فلو التزم العتق لأدى إلى إتلاف ماله، وهو قول محمد، والثاني: أنه لا يجزئه بل يتعين العتق وقوفا مع النص وهو ظاهر المذهب، وفرق ابن كنانة بين أن يتكرر منه الظهار وأن لا يتكرر. انتهى. وعن أمة وطئها؛ يعني أن السيد إذا وطئ أمته في نهار رمضان فإنه يكفر عنها ولو طاوعته، إلا أن تطلبه كما قاله الصقلى أو تتزين كما بحثه المصنف. أو زوجة أكرهها؛ يعني أن الزوج إذا وطئ زوجته في نهار رمضان مكرها لها على ذلك، فإنه يلزمه أن يكفر عنها ولو أمة، ولو كان الزوج عبدا وهي حرة، وإذا كان الزوج عبدا وأكره زوجته فإن الكفارة تكون جناية في رقبته، فإن شاء السيد أسلمه فيها وإن شاء فداه، وهل بقيمته كما يفيده كلام النوادر، أو قيمة الرقبة التي يكفر بها وهو الذي ارتضاه ابن محرز وهو الظاهر؟ قاله غير واحد؛ لأنه إنما يفديه بأرش جنايته، وليس لها أن تأخذها وتصوم؛ إذ لا ثمن للصوم، ولها أن تأخذه وتعتق غيره أو تطعم. كما قاله ابن سودة. وقوله:"أو زوجة أكرهها"؛ أي ولا بد من كون الزوجة عاقلة بالغة مسلمة، فإن كانت صغيرة أو كافرة أو غير عاقلة لم تجب الكفارة عليه عنها لأنه يكفر عنها نيابة؛ وهي إذا كانت بصفة من هذه الصفات لا كفارة عليها، فلا كفارة على مكرهها عنها، وكذا يقال في الأمة، أي لابد من كونها عاقلة بالغة مسلمة، ولو أكره رجلان امرأة على الوطء ووطآها فالكفارة على الأول منهما دون الثاني؛ لأنه لم يفسد صومها، ولا أوجب عليها ما لم يكن، ولو أكرهت الزوجة زوجها أو الأمة سيدها على الوطء، أو أكرهت الأجنبية أجنبيا على وطئها: فالظاهر أنه لا كفارة على المرأة في هذه المسائل الثلاث: لأن انتشار الرجل يخرجه عن الإكراه. كما قاله الشبراخيتي، وغيره. وقوله:"وعن أمة وطئها"، فإن أعتقها قبل أن يكفر عنها فالكفارة عنها لازمة له، وإنما قال المصنف: في الأمة وطئها وفي الزوجة أكرهها، لينبه على أن طوع الأمة كالإكراه كما مر، ولذلك لا تحد المستحقة، وإن كانت تعلم أن واطئها غير مالك، قال ابن يونس: إلا أن تطلبه هي بذلك فيلزم الأمة الكفارة، وتحد المستحقة إن لم تعذر بجهل، وقال ابن عاشر: وفي قوله: "وطئها" إشعار بأنه لو أكرهها على أن يطأها الغير لم تلزمه كفارة، وهو كذلك. قاله محمد بن الحسن.

ص: 174

نيابة؛ يعني أن الزوج إنما يكفر عن زوجة أكرهها نيابة وكذا السيد، فإنما يكفر عن أمته نيابة، فيكفر كل منهما عنهما، وإن لم تأذنا له في ذلك أو منعتاه لتكليف الشرع له بذلك، ومعنى قوله:"نيابة"، أنه يكفر عنها بما يمكن أن ينوب عنها فيه، وقوله:"وعن أمة"، وقوله:"نيابة"، معطوفان على مقدر؛ أي وكفر عن نفسه أصالة وعن أمة أو زوجة نيابة، فعن أمة معطوف على عن نفسه، ونيابة معطوف على أصالة، وهذا من النوع المسمى عند البديعيين بالاكتفاء. فلا يصوم، هذا إيضاح لقوله:"نيابة"، بذكر محترزه؛ يعني أن السيد إذا وطئ أمته فإنه يكفر عنها بغير الصوم؛ لأن الصوم لا يقبل النيابة، وإنما يكفر عنها بالإطعام، وكذا الزوج إذا وطئ زوجته حرة أو أمة فإنه لا يكفر عنها بالصوم، لكونه لا يقبل النيابة، ويكفر عنها بالإطعام وبالعتق على ظاهر ما قاله الأمير، فإنه قال: وكفر بالإطعام فقط عن أمة إلا أن تطلب الجماع ولو بتزين، وبغير الصوم عن زوجة ولو أمة أكرهها، فإن أكره العبد زوجته فجناية، وليس لها حينئذ أن تصوم، وتأخذه لأنها إنما تكفر نيابة عنه فيها، وهو لا يكفر بالصوم. انتهى. قال الأمير والفرق بين السيد والزوج أن الولاء في مسألة الزوج لسيدها وفي مسألة السيد الولاء له، فكأنه لم يكفر عنها قال: وما قلناه استظهار. ولا يعتق عن أمة؛ يعني أن السيد لا يكفر عن أمته بالعتق لأنه لا ولاء للرقيق، وإذا كفر شخص عن آخر بإذنه له في التكفير عنه أجزأ، كما في إخراج شخص زكاة آخر عنه بإذنه، كذا يظهر، وإذا كفر عنه من عادته التصرف عنه في أموره بغير إذنه، فالظاهر أنه يجري فيه ما ذكره المصنف في الضحية، وقد تقدم أنه يجري مثله في الزكاة.

واعلم أن الإكراه في باب العبادات يكون بخوف مؤلم كما في الطلاق، فالإكراه في العبادة كالإكراه في الطلاق، وعلم مما مر أن من أكره امرأة على أن يطأها جماعة بيوم واحد، فالكفارة عنها على الواطئ الأول، وأنه لو أكرهها رجلان على أن يطأها غيرهما كفر عنها ذلك الغير، ولو كان الواطئ في المسألتين مكرها نظرا لانتشاره. وقال الأمير: فإن أكره امرأة لشخص كفر عنها، إلا أن يطيع مجامعها فعليه كفارتها. انتهى.

واعلم أن من أكره أجنبية على أن يجامعها وجامعها فإنه يكفر عنها نيابة، والمبعضة والمعتقة لأجل إن ارتكب السيد الحرمة ووطئهما، فكما إذا أكره أجنبية ووطئها.

ص: 175

تنبيهان: الأول: اعلم أن الأمة إن لم تكن ذات شائبة فإنه يحل للسيد الاستمتاع بها بجميع أنواعه إن لم تكن ذات مانع، كتزوج ومحرمية وعدة وخنوثة، وكونها مشتركة: وأما ذات الشائبة فإن كانت مدبرة أوأم ولد فكما إذا لم تكن ذات شائبة، يحل للسيد الاستمتاع بها إلا لمانع، وأما إن كانت مبعضة أو معتقة لأجل أو مكاتبة فإنه لا يحل الاستمتاع بها.

الثاني: يجوز انتزاع مال القن وكذا أم الولد والمدبرة إن لم يمرض السيد، وكذا المعتق لأجل إن لم يقرب الأجل، فإن مرض السيد في الأوليين أو قرب الأجل في المعتق لأجل لم يجز، وأما المبعض والمكاتب فلا يجوز انتزاع مالهما. وإن أعسر كفرت، راجع لقوله:"أو زوجة أكرهها"؛ يعني أن الزوج إذا وطئ زوجته في نهار رمضان مكرهة وهي صائمة، فإنه تلزمه الكفارة عنها إن كان موسرا، فإن كان معسرا فإن الزوجة تلزمها الكفارة عن نفسها بالأصالة بأحد الأنواع الثلاثة، وقيل: تندب لها، وقال الشبراخيتي: وهل وجوبا أو ندبا؟ قولان، واقتصر في الحاشية على الأول فقال:"كفرت"، أي وجوبا لأن الكفارة واجبة. انتهى. وقال محمد بن الحسن عند قوله "وإن أعسر كفرت": ظاهره أنها مطلوبة بذلك، واعترضه مصطفى بأن عبارة عبد الحق تدل على أنها غير مطلوبة بذلك، حيث قال: لأنها غير مضطرة إلى أن تكفر عن نفسها ولا مأخوذة بذلك، قال: إلا أن يقال ولا مأخوذة بذلك على الوجوب، فلا ينافي الاستحباب وهو بعيد. انتهى. انتهى.

وعلم مما قررت أن قوله "وإن أعسر"، إنما يرجع للزوج لا للسيد كما قرره بذلك غير واحد، وهو ظاهر لأن السيد لا يكون معسرا مع وجود الأمة في الغالب. قاله جامعه عفا الله تعالى عنه. والله سبحانه أعلم. ورجعت إن لم تصم؛ يعني أن الزوج إذا وطئ زوجته في نهار رمضان مكرهة، فإنه يكفر عنها إن أيسر، فإن أعسر فإنها تكفر عن نفسها بأحد الأمور الثلاثة، فإن لم تكفر بالصوم بأن كفرت بالإطعام أو بالعتق، فإنها ترجع على الزوج بالأقل من قيمة الرقبة ونفس وكيل الطعام؛ يعني أنها إذا كفرت بالعتق ولم تشتر الرقبة؛ فإنها ترجع بالأقل من قيمة الرقبة ونفس كيل الطعام، فإن اشترت الرقبة رجعت بالأقل من ثلاثة أشياء: قيمة الرقبة، والثمن الذي اشترتها به: ومكيلة الطعام، وإذا كفرت بالطعام ولم تشتره، فإنها ترجع بالأقل من قيمة الرقبة ومكيلة

ص: 176

الطعام، فإن اشترت الطعام رجعت بالأقل من ثلاثة أشياء: قيمة الرقبة، ومكيلة الطعام، والثمن الذي اشترته به. كما قاله الخرشي، والأمير، وغيرهما.

واعلم أن نفس الكيل لا ينسب لقيمة الرقبة، وإنما تنسب قيمته لقيمة الرقبة، فإن كانت قيمته أقل من قيمة الرقبة رجعت بنفس الكيل؛ أي بمثل الكيل الذي دفعت لأنه مثلي. هذا هو تحرير المسألة. والله سبحانه أعلم.

وقوله: "وإن أعسر كفرت" الخ، لا مفهوم لقوله:"أعسر"، بل لو فعلت ذلك مع يسره كان الحكم كذلك. قاله الشبراخيتي، وغيره. وَمَفْهُومُ قوله:"إن لم تصم"، أنها لو كفرت بالصيام فقط، أو ضمت له إطعاما أو عتقا بغير إذنه لم ترجع على الزوج بشيء وهو كذلك، وكذا بإذن لها في أحدهما فصامت ثم فعلته نظرا لتقدم الصوم. قاله عبد الباقي. قال: ويحتمل -وهو الظاهر- رجوعها عليه بأقلهما، كما إذا فعلته ثم صامت. انتهى.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: والظاهر ما قاله أولا من عدم الرجوع لشمول المصنف لذلك. والله سبحانه أعلم.

وفي تكفيره عنها إن أكرهها على القبلة حتى أنزلا تأويلان، مبتدأ وخبره قوله:"وفي تكفيره عنها"؛ يعني أن شراح المدونة اختلفوا فيما إذا قبل الرجل امرأته مكرهة حتى أنزلا؛ أي أنزلت هي وهو؛ بأن خرج منهما مني: هل يكفر عنه وعنها، أو لا يكفر إلا عن نفسه فقط؟ فلزوم تكفيره عنها له ذهب إليه ابن أبي زيد وحمديس، وعدم اللزوم له ذهب إليه القابسي وابن شبلون، قال عياض: وهو ظاهر المدونة. نقله محمد بن الحسن. وقال الحطاب عن التوضيح ما نصه: ورجح مذهب ابن أبي زيد لأن الانتهاك من الرجل خاصة. انتهى. وفي التوضيح: اختلف في الذي يقبل امرأته مكرهة حتى ينزلا، فقال ابن القابسي: يكفر عن نفسه فقط وعليها القضاء، وقال الشيخ أبو محمد وحمديس: يكفر عنها وكل أول المدونة على ما ذهب إليه. نقله الحطاب. وقوله: "أنزلا": يعني أو أنزلت هي، فالمدار على إنزالها، وعلى ما لابن أبي زيد يأتي فيه نحو ما تقدم من قوله:"وإن أعسر كفرت"، وأما على الثاني فلا كفارة، وعبارة المصنف تقتضي أنها إذا أنزلت ولم ينزل لا يكفر عنها، وليس كذلك، فلهذا قلت: يعني أو أنزلت. والله سبحانه أعلم.

ص: 177

وفي تكفير مكره رجل ليجامع قولان، مبتدأ، وخبره المجرور المتقدم، قرره غير واحد على أن قوله:"مكره" بفتح الراء -قاله الشبراخيتي- من إضافة الصفة للموصوف؛ أي أنه إذا أكره رجل على الجماع في نهار رمضان وهو صائم، فإنه اختلف في لزوم الكفارة له؛ أي للرجل المكره بالفتح على قولين، فقيل: يلزمه أن يكفر عن نفسه نظرا لانتشاره وهو قول عبد الملك وهو ضعيف، وقيل: تسقط عنه الكفارة وهو المعتمد، قال عياض: وأكثر أقوال أصحابنا أنه لا كفارة عليه، وكذا الباجي فإنه قال: ذهب أكثر أصحابنا إلى أنه لا كفارة عليه وهو الصحيح، وقول عبد الملك ضعيف، وهذا التقرير فيه تعسف جدا، والأولى أن يقرأ:"مكره" بكسر الراء من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله، والمعنى عليه أن من أكره رجلا على الجماع اختلف، هل يكفر المكره بالكسر عن الرجل المكره بالفتح أو لا يكفر عنه؟ فقد نقل ابن الحاجب في وجوب الكفارة على المكره بالكسر قولين واستقرب ابن عبد السلام والمصنف السقوط لأنه متسبب، والمكره بالفتح مباشر، وقد قال ابن عرفة: نقل ابن الحاجب وجوب الكفارة على مكره رجل على وطء لا أعرفه إلا من قول اللخمي، ومن قول ابن حبيب. انتهى.

فغاية الأمر أن المعتمد السقوط، وهذا أيضا لازم على التقرير الأول، وأما من أكره امرأة على الجماع، فإن أكرهها لنفسه كفر عنها، وإن أكرهها لغيره كفر عنها ذلك الغير، ولو كان ذلك الغير مكرها نظرا لانتشاره، ومن أكره غيره على الشرب عليه -أي المكرِه بالكسر- الكفارة عن المكرَه بالفتح؛ وهو قول مالك وابن حبيب؛ وهو ظاهر المدونة عند بعض الشيوخ، ومثل الشرب الأكل فيما يظهر، وذكر في التوضيح أن مذهب المدونة سقوطها عمن أكره شخصا وصب في حلقه ماء، ولا كفارة على المكرَه بفتح الراء على أكل أو شرب، ولا على امرأة مكرهة على الجماع، وقال في التنبيهات: واختلف في الرجل المكره على الوطء، فقيل: عليه الكفارة؛ وهو قول عبد الملك: وأكثر أقوال أصحابنا أنه لا كفارة عليه، ولا خلاف أن عليه القضاء، والخلاف في حده والأكثر على إيجاب الحد. انتهى. نقله الحطاب. مسألة: قال عبد الحق عن أبي عمران فيمن غر رجلا وقال له لم يطلع الفجر وجعل يأكل: أنه لا كفارة على الغار؛ لأنه غرور بالقول، قال: ولو أطعمه بيده لقمة وجعل الطعام في فيه، فهاهنا يكفر عنه لأنه غرور بالفعل، ولا كفارة على

ص: 178

الآكل لأنه غير منتهك إذا لم يعلم أنه كذب وغره. انتهى. نقله الحطاب عن المسائل الملقوطة. وعطف كما في حاشية الشيخ بناني على إن تعمد، قوله: لا إن أفطر ناسيا، هذا مفهوم قوله بلا تأويل قريب؛ يعني أن من أفطر في نهار رمضان ساهيا بأكل أو شرب أو جماع مثلا، فظن لفساد صومه الإباحة فتأول جواز الفطر ثانيا عمدا فأفطر لذلك، فإنه لا كفارة عليه وهذا هو المشهور، وقيل تجب عليه الكفارة، وثالثها إن أفطر بجماع كفر وبغيره لا كفارة. قاله الحطاب. وقوله:"لا إن أفطر ناسيا"، هو وما بعده إلى قوله:"فظنوا الإباحة"، من التأويل القريب، قال في التوضيح تبعا لابن عبد السلام: القريب ما كان مستندا لسبب أي أمر موجود، والبعيد ما استند إلى سبب غير موجود، وهذا التعريف يقتضي أن تأويل المحتجم والحاجم قريب، وهو المذهب خلاف ما يأتي للمصنف. أو لم يغتسل إلا بعد الفجر؛ يعني أن من وجب عليه الغسل من حائض أو نفساء أو جنب فلم يغتسل إلا بعد الفجر، فظن أن ذلك يفسد صومه ويبيح له الإفطار فأفطر بعد ذلك متعمدا، فعليه القضاء ولا كفارة عليه، ولم يحك المصنف في التوضيح، ولا ابن عبد السلام ولا ابن عرفة في هذا خلافا، لكن قال ابن عبد السلام: العذر في هذه أضعف من التي قبلها، ولهذا يمكن إجراء الخلاف فيها. قاله الحطاب.

واعلم أن مذهب الفضل بن عباس وأبي هريرة أن من أصبح جنبا يفسد صومه لذلك، أو تسحر قربه؛ أي قرب الفجر؛ يعني أن من تسحر قرب الفجر فظن أن ذلك يفسد صومه ويبيح له الإفطار فأفطر بعد ذلك متعمدا فعليه القضاء ولا كفارة عليه، والعذر هنا أضعف من المسألتين قبله؛ إذ لم يقل أحد: إن من تسحر قرب الفجر يبطل صومه، قال الشارح في الكبير: ولا يبعد إجراء الخلاف فيها قاله الحطاب. وقال عبد الباقي بعد شرحه لكلام المصنف: والذي في سماع أبي زيد تسحر في الفجر. قاله التتائي. أي فالتسحر قربه من التأويل البعيد، وهو المعتمد كما في الحطاب، فلم يستند لأمر موجود أي يعذر به شرعا وإن كان موجودا حقيقة. انتهى.

قوله: وهو المعتمد، كما في الحطاب، فيه نظر إذ لم يقل الحطاب إلا أن العذر هنا أضعف من اللتين قبله. قاله محمد بن الحسن. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وصدق في أن الحطاب لم يقل إلا ذلك، وعبارة الخرشي: وأما التسحر قربه فمن التأويل البعيد. انتهى. ويؤيد

ص: 179

هذا قول الحطاب: والعذر في هذا أضعف منه في المسألتين قبله؛ إذ لم يقل أحد إن من تسحر قرب الفجر يبطل صومه. أو قدم ليلا؛ يعني أن المسافر إذا قدم ليلا فظن أن الصوم لا يلزمه صبيحة تلك الليلة التي قدم فيها، فأصبح مفطرا لظنه الإباحة فعليه القضاء ولا كفارة عليه، وعذره أضعف من المسألتين الأوليين؛ إذ لم يذهب أحد إلى ما توهمه. قاله ابن عبد السلام. وهو قريب من الثالثة، ولم أر فيه خلافا لكن لا يبعد إجراء الخلاف فيه. والله أعلم. قاله الحطاب. وكلام ابن عبد السلام دال على الجزم بعدم الخلاف فيه، ولا يصلح قول الحطاب، لكن لا يبعد إجراء الخلاف فيه قاله الخرشي. أو سافر دون القصر. يعني أن الشخص إذا سافر دون مسافة القصر، فظن أن ذلك يبيح له الفطر، فبيت الفطر وأصبح مفطرا، فإنه لا كفارة عليه، وعليه القضاء: وعذره هنا أقوى من المسائل التي قبله؛ إذ قد ذهب بعضهم إلى أن ذلك يبيح له الإفطار. قاله الحطاب.

وهنا أربع مسائل يحتاج إلى الكلام فيها، إحداها هذه: أعني قوله: "أو سافر دون القصر"، وهي أن يسافر مسافة دون مسافة القصر ويبيت الفطر إن تأول فلا كفارة وإلا كفر.

ثانيتها: أن يسافر مسافة دون مسافة القصر، وهو صائم ثم يفطر في أثناء النهار، وهذه قال الحطاب فيها ما نصه: وأما من أصبح في الحضر صائما وسافر دون القصر فأفطر، فالظاهر أنه يجري فيها الخلاف فيمن سافر سفرا تقصر فيه الصلاة فأفطر لذلك، وسيأتي الخلاف فيه بل هذا أحرى لوجوب الكفارة فيه. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: أي فلا يكفر تأول أم لا على القول الذي مشى عليه المصنف، وظاهر ما يأتي للمصنف، أعني قوله: ولا كفارة إلا أن ينويه بسفر أنه لا كفارة في هذه، واعتراض عبد الباقي هنا على الحطاب ساقط. والله سبحانه أعلم.

ثالثتها: أن تبلغ المسافة القصر لكن لا يقصر فيها لمعصية مثلا، قال الشبراخيتي ما معناه: ولا يستفاد من المصنف الحكم فيمن أفطر في سفر فيه مسافة القصر، ولكن لا يقصر فيه لمعصية مثلا، هل حكمه كذلك أم لا؟ والظاهر الأول، بل هو أولى ممن سافر دون مسافة القصر. انتهى. قوله:

ص: 180

كذلك؛ أي كمسألة المصنف، وهي ما إذا سافر دون مسافة القصر. والله سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: والظاهر أن من أفطر بسفر قصر عاص به حكمه كمسافر دونه، بل أولى منه. انتهى.

رابعتها: أن يصبح في الحضر صائما ثم يسافر في يومه ذلك، فيفطر في أثناء ذلك اليوم، ويأتي للمصنف أنه لا كفارة فيها؛ وهي التي قاس عليها الحطاب من أصبح في الحضر صائما ثم سافر دون مسافة القصر وأفطر في يومه ذلك، وبالله تعالى التوفيق، وسيأتي الكلام على فطر المسافر بأتم من هذا عند قول المصنف:"وفطر بسفر قصر شرع فيه قبل الفجر" لخ.

أو رأى شوالا نهارا؛ يعني أن من رأى شوالا نهارا يوم ثلاثين في رمضان، فظن أن ذلك يبيح له الإفطار، فأفطر فعليه القضاء ولا كفارة عليه، وظاهره سواء كانت رؤيته قبل الزوال أو بعده؛ وهو ظاهر الرواية، فقد حكاها في التوضيح فيمن رأى هلال شوال نصف النهار، وكذلك ابن عرفة، ولا شك أنها قبل الزوال أعذر لوجود الخلاف في إباحة الإفطار.

وبما قررت علم أن الضمير في قوله: فظنوا الإباحة، عائد على الأشخاص الستة أصحاب المسائل الست، وهم: المفطر ناسيا، والذي لم يغتسل إلا بعد الفجر، والقادم من السفر ليلا، والمتسحر قرب الفجر، والمسافر دون مسافة القصر، والرائي لهلال شوال نهارا. أي أن محل عدم لزوم الكفارة إنما هو فيمن أفطر منهم ظانا إباحة الفطر، وأما من علم منهم الحرمة أو ظنها أو شك فيها فإنه يكفر ويكون آثما، قال الإمام الحطاب عند قوله:"فظنوا الإباحة" ما نصه: راجع إلى المسائل الستة واحترز به ممن علم أنه لا يجوز له الإفطار بذلك فأفطر متعمدا فلا خلاف في وجوب الكفارة عليه. انتهى.

وقال الحطاب أيضا: يفهم من قول المصنف: "فظنوا الإباحة"، أنهم لو شكوا في الإباحة لزمتهم الكفارة وأحوى إن لم يكن عندهم إلا توهم الإباحة، وهذا ظاهر لأنهم مع ظن الإباحة يسقط عنهم الإثم كما سيأتي من كلام ابن رشد، وأما مع عدم ظن الإباحة فلا يجوز لهم الإقدام على الفطر، وأنهم آثمون في إقدامهم على الإفطار مع الشك أو الوهم، فإن أفطروا فعليهم الكفارة. والله أعلم. انتهى.

ص: 181

وقال الحطاب أيضا: كل من ذكرنا أنه لا كفارة عليه لظنه الإباحة فالظاهر أنه لا إثم عليه لأنه لم يقصد ارتكاب محرم، وقد قال ابن رشد في آخر سماع عيسى من كتاب الصوم في مسألة من أصبح صائما ثم عزم على السفر فأفطر قبل خروجه، ومسألة من أفطر بعد خروجه متأولا: أظهر الأقوال أن لا كفارة عليه إنما هي تكفير، ومن تأول فلم يذنب وإنما أخطأ، والله تعالى قد تجاوز لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم عن الخطإ والنسيان، ووجه قول من يوجب الكفارة في ذلك هو أنه لم يعذره بالجهل إذا كان ذلك عنده من الأمور التي لا يسع جهلها، فإذا لم يعلم فكان يلزمه أن يتوقف حتى يسأل، فإذا لم يفعل فإقدامه قبل أن يسأل يوجب عليه الكفارة، لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . انتهى.

ويزاد على الست: من أكل يوم الشك بعد ثبوت الصوم ظانا الإباحة، كما قدم المصنف بقوله:"وإن ثبت نهارا أمسك وإلا كفر إن انتهك"، وسيأتي أن من بيت الصوم في الحضر ثم سافر بالفعل بعد الفجر وأفطر فلا كفارة عليه، تأول أم لا، حصل منه قبل ذلك عزم على السفر أم لا، وأما من أفطر لإكراه فإنه يلزمه الإمساك كما مر، فإن أفطر بعد زوال العذر أي الإكراه متعمدا فالظاهر أنه تلزمه الكفارة إن انتهك: وإن لم ينتهك بأن تأول أي ظن الإباحة فإنه لا كفارة عليه، هذا هو الظاهر. كما قاله محمد بن الحسن. وقوله:"فظنوا الإباحة"، كان ينبغي له أن يقول: وظنوا الإباحة بواو الحال، بخلاف بعيد التأويل، قد مر عن المصنف أن صاحب التأويل البعيد هو المستند إلى سبب غير موجود: لكنه لا يطرد في جميع المسائل التي ذكرها، وقد ذكر المصنف له هنا خمسة أمثلة، ومعنى كلام المصنف أن صاحب التأويل البعيد يخالف صاحب التأويل القريب في سقوط الكفارة، فإن صاحب التأويل القريب تسقط عنه الكفارة كما علمت، وصاحب التأويل البعيد تلزمه الكفارة ولا ينفعه تأويله، وقوله:"بعيد التأويل"، من إضافة الصفة للموصوف. قاله الشبراخيتي.

كراء ولم يفعل مثال لبعيد التأويل؛ يعني أن من رأى هلال رمضان، فشهد بذلك ولم تقبل شهادته، فظن لرد شهادته أنه لا يلزمه الصوم صبيحة تلك الليلة، فأصبح مفطرا، فإنه لا ينفعه تأويله، وتلزمه الكفارة لبعد تأويله، وقوله:"كراء ولم يقبل"، قد تقدم أن في وجوب الكفارة عليه

ص: 182

وعدمه تأويلين، وهما قولان لابن القاسم وأشهب، فابن القاسم يقول بالوجوب، قال في التوضيح: وهو المشهور، وأشهب يقول بالسقوط وهو الظاهر، وهما خلاف في حال هل تأويله قريب أو بعيد، وجعل ابن الحاجب وغيره قول أشهب خلافا، وإليه ذهب ابن يونس، ونقل أبو الحسن عن الشيوخ أنهم جعلوه تقييدا، وذكر المصنف فيما تقدم التأويلين، وجزم هنا بوجوب الكفارة وأنه من التأويل البعيد، فكأنه ترجح عنده. والله أعلم. قاله الحطاب.

وقوله: "كراء ولم يقبل"، هذا قد استند لسبب موجود، ولذا قال الشيخ عبد الباقي في تعريف "بعيد التأويل": إنه المستند لسبب معدوم غالبا.

أو لحمي ثم حم؛ يعني أن من كانت تعتاده الحمى في يوم، كما إذا كانت تأتيه في يوم بعد يوم أو يومين، فأصبح مفطرا أو أفطر قبل أن تأتيه الحمى وهو قادر على الصوم إذا لم تأته الحمى، ثم جاءته الحمى في بقية يومه فعليه الكفارة على المشهور؛ لأن ذلك تأويل بعيد لاستناده لسبب لم يوجد عند فطره، ومقابل المشهور قول ابن عبد الحكم: لا كفارة عليه لأن ذلك عنده من التأويل القريب، وقوله:"أو لحمى ثم حم"، المعطوف محذوف تقديره: مفطر أو مبيت للفطر لأجل حمى، أو الحيض ثم حصل؛ يعني أن المرأة إذا كانت عادتها أن يأتيها الحيض في يوم من الشهر، فأصبحت في ذلك اليوم مفطرة، أو أفطرت فيه لأجل اعتياد الحيض لها فيه ثم جاءها الحيض في أثناء ذلك النهار، فإنه يلزمها القضاء والكفارة كالمسألة التي قبلها، وقال ابن عبد الحكم: لا كفارة عليها، ورآه من التأويل القريب، وقال الشيخ الأمير ممثلا للتأويل البعيد: كاعتياد حمى أو حيض وإن حصلا بعد فطره، وأما إن تبين أن الحيض كان حصل قبل فطرها فلا كفارة، كمن أفطر آخر يوم من رمضان فتبين أنه عيد لا شيء عليه. اهـ.

أو حجامة؛ يعني أن من أفطر ظانا الإباحة لأجل حجامة فعلها بغيره أو فعلت به، تلزمه الكفارة عند ابن حبيب، وقال ابن القاسم: لا كفارة على حاجم أو محتجم وهو المعتمد، فكان حقه أن يفتى به فهو من التأويل القريب، وجزم البساطي بأن معنى قول المصنف:"أو حجامة"، يعني به الحاجم، فإنه قال: قوله "أو حجامة"؛ يعني من حجم غيره، وأما من احتجم فعليه القضاء فقط عند ابن القاسم. انتهى. وقال الشارح: مراد المصنف أن من احتجم في

ص: 183

نهار رمضان، فظن أن صومه قد بطل فأفطر، فعليه الكفارة مع القضاء، ثم اعترض عليه بأن ذلك قول ابن حبيب، وهو خلاف قول ابن القاسم، زاد في الكبير: فذكر عن النوادر ما نصه: قال ابن حبيب: كل متأول في الفطر فلا يكفر إلا في التأويل البعيد، مثل أن يغتاب أو يحتجم، فتأول أنه أفطر لذلك، ثم قال: ومن العتبية، قال عيسى عن ابن القاسم فيمن احتجم في رمضان فتأول أن له الفطر فليس عليه إلا القضاء، وقال أصبغ: هذا تأويل بعيد. انتهى كلام النوادر. ثم قال الشارح: فانظر كيف جعل مسألة الحجامة من التأويل البعيد؟ وهو خلاف قول ابن القاسم، اللهم إلا أن تحمل مسألة ابن حبيب على فاعل الحجامة كما هو ظاهر لفظه، ومسألة ابن القاسم على المحتجم. انتهى. نقله الحطاب.

وقال: ما ذكره عن النوادر هو كذلك، والاحتمال الذي أراد الجمع به بعيد؛ لأنه لا يظهر فرق بين تأويل الحاجم والمحتجم؛ لأن مستند كل منهما في الإفطار قوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحتجم

(1)

). رواه البخاري وأصحاب السنن. وقد نقل ابن يونس واللخمي وأبو الحسن الصغير كلام ابن حبيب بلفظ يحتجم، وجعلوه خلاف قول ابن القاسم، ولما ذكر ابن رشد كلام ابن القاسم المتقدم، قال في شرحه: وأوجب عليه ابن حبيب في الواضحة الكفارة، ولفظ ابن حبيب في مختصر الواضحة لفضل ابن مسلمة صالح لأن يحمل على كل منهما أو عليهما جميعا، فإنه قال: وكذلك الذي يتأول الإفطار مع الحجامة فيفطر فعليه الكفارة. انتهى.

فتحصل من هذا أن مسألة المحتجم فيها قولان لابن القاسم وابن حبيب كما حكاه أهل المذهب،

وأما مسألة الحاجم فليس فيها إلا ما يفهم من كلام صاحب النوادر الذي نقله عن ابن حبيب، ويظهر كونها مساوية لمسألة المحتجم، أو أحرى بوجوب الكفارة، وأما ما نقلوه عن ابن القاسم فليس فيه تعرض لنفي الكفارة فيها، إلا أن الذي يظهر أنه لا فرق بينهما، وأن ابن القاسم يقول بسقوط الكفارة فيها أيضا، وأن قوله أظهر من قول ابن حبيب؛ لأنه تقدم أن ابن عبد السلام

(1)

البخاري، كتاب الصوم، باب الحجامة للصائم، أبو داود، كتاب الصوم، الحديث: 2367 وابن ماجه، الحديث:1680. ولفظه عندهم: أفطر الحاجم والمحجوم.

ص: 184

والمصنف، قالا: إن التأويل القريب ما كان مستندا لسبب موجود، والتأويل البعيد ما كان مستندا لسبب غير موجود، كمسألتي الحمى والحيض. انظر الحطاب.

ومن التأويل البعيد: من بيت الصيام في السفر ثم أفطر متأولا، فإن عليه الكفارة على مذهب المدونة الذي مشى عليه المصنف، وسواء أفطر في السفر أو أفطر بعد دخوله إلى الحضر. قاله الحطاب.

تنبيه: أجاب العلماء عن الحديث الشريف -أعني قوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحتجم

(1)

)، بأجوبة منها أنه منسوخ وهو الذي جزم به الشافعي، ومنها: أن معناه تعرضا للإفطار، أما المحتجم فبالضعف، وأما الحاجم فلا يأمن أن يصل إلى جوفه شيء بالمص، ومنها: أن معناه نقصان الأجر. والله سبحانه أعلم. انظر الحطاب.

أو غيبة. يعني أن الصائم في نهار رمضان إذا اغتاب فظن إباحة الفطر، وأن صومه قد بطل فأفطر لذلك، فإنه يلزمه القضاء والكفارة، وقد مر الخلاف بين ابن القاسم وابن حبيب في الحجامة، قال الحطاب بعد ذكره للخلاف المذكور: ومثله يقال أيضا في مسألة الغيبة؛ أعني من اغتاب في نهار رمضان فظن أن ذلك يبطل صومه فأفطر لذلك، ولكني لم أر فيها إلا قول ابن حبيب بوجوب الكفارة. انتهى.

واعلم أن فساد الصوم بالغيبة حكي عن سفيان وعن مجاهد، وأما الحجامة فحكى فيها صاحب الطراز عن ابن حنبل وابن إسحاق أنهما قالا: يفطر الحاجم والمحتجم، قال: وعن ابن حنبل رواية أن فيها الكفارة؛ وهو قول عطاء، واختاره ابن المنذر ومحمد بن إسحاق، واحتجوا بالحديث، واحتج الجمهور بأنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. قاله الحطاب. وقد تقدم أجوبة العلماء عن الحديث الذي احتج به المخالف. والله سبحانه أعلم.

ولزم معها القضاء إن كانت له، يعني أن الكفارة تارة تلزم الشخص عن نفسه، وتارة تلزمه عن غيره، كما لو وطئ امرأة وهي صائمة في نهار رمضان مكرها لها وهو مسافر مبيت للفطر، فإذا

(1)

البخاري، كتاب الصوم، باب الحجامة للصائم، أبو داود، كتاب الصوم، الحديث:2367. وابن ماجه، الحديث: 1680. ولفظه عندهم: أفطر الحاجم والمحجوم.

ص: 185

لزمته الكفارة عن نفسه فإنه يلزمه معها القضاء، فكل من لزمته الكفارة عن نفسه يلزمه معها القضاء، وأما إذا لزمته الكفارة عن غيره فإنه لا قضاء عليه، وإنما القضاء على الغير المكفر عنه؛ لأن الصوم لا يقبل النيابة.

وبما قررت علم أن الضمير في قوله: "له"، عائد على المكفر، وجعل الشارح في الوسط والكبير الضمير في:"له"، عائدا على رمضان، ولا وجه له. قاله الحطاب.

والقضاء في التطوع بموجبها؛ يعني أن كل ما يوجب الكفارة في رمضان يوجب القضاء في التطوع، ومفهومه أن ما لا يوجب الكفارة في رمضان لا يوجب القضاء في التطوع، فعلم من هذا أنه لا يفسد مع الجهل والنسيان والإكراه إلا الفرض، وقد مر أن الذي يوجب الكفارة في رمضان هو الفطر عمدا بلا تأويل قريب وجهل، ولا يرد على منطوق المصنف قول ابن القاسم: من عبث بنواة في فيه فنزلت في حلقه فعليه القضاء والكفارة في الفرض، ولا يقضي في النفل لأن المصنف درج على مذهب عبد الملك أن المتحلل وغيره سواء، يوجبان القضاء في النفل، والقضاء والكفارة في الفرض، وهذا القول هو الذي اختاره اللخمي كما مر، وابن القاسم هو الذي فرق بين المتحلل وغيره، وهو الذي خالف قاعدته، أن كل ما أوجب الكفارة في الفرض أوجب القضاء في التطوع، وقول ابن القاسم: فنزلت في حلقه، النقل عنه لغو ذلك في النفل فلا يقضيه بذلك نزلت فيه عمدا أو غلبة، خلاف ما لِعَبْدِ الباقي من أنه إن نزلت في حلقه عمدا فعليه القضاء والكفارة في الفرض، وعليه القضاء في النفل، فإن نزلت فيه غلبة فلا قضاء عليه في النفل، وعليه الكفارة والقضاء في الفرض، قال: وإيجاب الكفارة في الفرض في هذا عند نزولها غلبة كإيجابها في مسألة الاستياك. انتهى ما لعبد الباقي.

وقوله: غلبة لخ، غير ظاهر، وكذا ما فرعه عليه، وَيَرِدُ على منطوق المصنف مسألة والد وشيخ المتقدمة، فإن من أفطر لأجل أمرهما في رمضان تلزمه الكفارة والقضاء، بخلاف النفل؛ فإنه إذا أفطر فيه لأجل أمرهما لا قضاء عليه كما مر لإباحة الفطر بذلك في النفل دون رمضان، وَيَرِدُ على مفهوم المصنف من أصبح صائما في الحضر ثم أفطر بعد ما شرع في السفر فإنه لا كفارة عليه في الفرض، ويقضي في النفل على ما مشى عليه المصنف، كما يأتي من قوله:"ولو تطوعا" وَيَرِدُ على

ص: 186

المفهوم أيضا من أفطر من غير الفم فإنه يقضي في النفل ولا كفارة عليه في الفرض، -كما مر- ويرد على المفهوم أيضا من أمذى مطلقا ففيه القضاء في الفرض والنفل ولا كفارة، ويرد على المفهوم أيضا مسائل التأويل القريب، فإنه لا كفارة معه في الفرض ويقضي في النفل، لكن قال الحطاب فيمن أفطر في النفل ناسيا ثم أفطر ثانيا عمدا: فإن كان بلا تأويل قضى، وإن كان بتأويل فظاهر كلام ابن ناجي أنه لا قضاء عليه، والظاهر أنه يجري هذا في بقية مسائل التأويل القريب في النفل؛ لأن القضاء في النفل بالعمد الحرام، ولا حرام مع التأويل قاله محمد بن الحسن. وإذا تأملت هذا علمت أن قوله: وفي النفل بالعمد الحرام أحسن مما هنا، وأنه مغن عنه، ولا يرد عليه ما ورد على ما هنا. والله سبحانه أعلم.

ولا قضاء في غالب قيء؛ يعني أن الصائم إذا خرج منه قيء غلبة ولم يزدرد منه شيئا فإنه لا قضاء عليه، فإن ازدرد منه شيئا بعد أن بلغ موضعا يقدر على طرحه منه كما إذا وصل إلى لسانه، فإنه يجب عليه القضاء رجع عمدا أو غلبة أو سهوا، فإن ازدرده قبل أن يبلغ موضعا يمكن طرحه منه فإنه لا قضاء عليه -كما مر- ومفهومه أن المستدعى فيه القضاء. كما مر. وقال ابن عرفة: القيء غلبة لغو إن لم يرجع منه شيء، وإن رجع بعد فصوله غلبة أو نسيانا، ففي القضاء رواية ابن أبي أويس في الغلبة، وابن شعبان في الناسي، فخرج اللخمي قول أحدهما في الآخر، وظاهر قول ابن الحاجب أنه عمدا كذلك لا أعرفه، بل ظاهر أقوالهم أنه كأكل. انتهى. والظاهر أن ما قيل في القيء يقال في القلس، وقال ابن عرفة: ابن حبيب في ابتلاع القلس جهلا: الكفارة. ابن القاسم مع رواية ابن نافع: لا قضاء في ابتلاعه ناسيا. قاله الرهوني.

وذباب؛ يعني أنه لا قضاء فيما يدخل في فم الصائم من الذباب غلبة، وكذا البعوض كما في الجلاب. نقله الحطاب. وقوله:"وذباب"؛ لأن الصائم لا بد له من كلام، والذباب يطير فيسبق لحلقه، ولا يمكنه الامتناع منه، فأشبه ريق الفم. قاله سند. قال عبد الباقي: ويفهم منه أن البعوض ونحوه ليس كالذباب إلا أن يكثر طيرانه حتى يغلب دخوله، وبالبعوض جزم في الجلاب. انتهى.

ص: 187

وغبار طريق؛ يعني أنه لا قضاء في دخول غبار الطريق لحلق الصائم غلبة وإن لم يكثر الغبار، وأما دخول غبار غير الطريق لحلقه غلبة فالقضاء فيما يظهر، وانظر إذا كثر غبار الطريق وأمكن التحرز منه بوضع حائل على فيه، هل يلزم بوضعه أم لا؟ وهو ظاهر كلام غير واحد. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي عند قوله:"وغبار طريق": لأنه أمر غالب، وانظر إذا كثر الغبار بحيث يعلم أو يظن أنه إن لم يجعل على فيه حائلا دخل فيه الغبار بحيث يصل إلى حلقه، فهل يلزمه وضع حائل أم لا؟ والثاني هو ظاهر كلام غير واحد. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وإذا كان ظاهر كلام غير واحد فلا يظهر العدول عنه ولا التوقف فيه، ولقد صدقا في أنه ظاهر كلام غير واحد. والله سبحانه أعلم. قال الشبراخيتي: والظاهر أن الذباب ونحوه كذلك. انتهى. يعني، هل يلزمه وضع حائل على فيه أم لا؟ وظاهر كلام غير واحد أنه لا يلزمه ذلك. وقال الشبراخيتي أيضا: وانظر غبار غير الطريق، والظاهر أنه يجب به القضاء: فيختلف حكم غبار الطريق وغيرها. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: قد يكثر غبار غير الطريق بحيث لا يمكن التحفظ منه، ولو وضع على فيه وأنفه شيئا، وحينئذ فالظاهر أنه لا يضر كما يفهم من قولهم المار؛ لأنه أمر غالب. والله سبحانه أعلم. انتهى. وغزل النساء الكتان ويريقن الخيط بأفواههن يجوز مطلقا إن كان الكتان مصريا، وإن كان دمنيا له طعم يتحلل جاز للمحتاجة وكره لغيرها، وأفتى ابن قداح بأن غزالة الكتان إذا وجدت طعم ملوحته في حلقها بطل صومها. ذكره الحطاب. وقال بعده: ومن ابتلع خيطا من حرير أو كتان فعليه القضاء إن لم تكن صنعته، فإن كانت صنعته فهو كغبار الدقيق انتهى. وهو مخالف لفتوى ابن قداح، وذكر ابن غازي في تكميل التقييد في قولها: أو يلمس الأوتار بفيه أو يمضغها، ما نصه: في بعض التقاييد يعني وتر قسي الرماة والقطانين؛ لأنهما يصلحان بالريق وغزالة الكتان تحتاط وتمج ما استطاعت لأنه صنعتها. انتهى.

وأخبرنا شيخنا الحافظ أبو عبد الله القوري أن فقهاء العبادسة كانوا يشددون في غزل الكتان، وأن فقهاء الونشريسيين كانوا ينكرون ذلك عليهم. انتهى. كلامه. قاله عبد الباقي.

ص: 188

وفي المواق: وكره للذي يعمل أوتار العقب أن يجري ذلك في فيه يمضغة أو يلحسه بفيه. الباجي: فمن فعل شيئا من ذلك فمجه فقد سلم، وإن دخل في جوفه شيء منه فعليه القضاء. قاله مالك. والعقب بالتحريك: العصب يعمل منه الأوتار، وعقب القوس: لوى شيئا منها عليها. وفي المواق: يكره حصاد الزرع إذا كان يؤدي إلى الفطر ما لم يضطر الحَصَّاد إلى ذلك، وأما رب الزرع فله الخروج للوقوف عليه، وإن أدى إلى الفطر لأن رب المال مضطر لحفظه. انتهى.

وقال الشبراخيتي: البرزلي: يقع السؤال عما إذا وقع الحصاد في زمن الصيف، هل يجوز للأجير الخروج للحصاد مع ضرورة الفطر أم لا؟ كانت الفتيا عندنا بجوازه إن كان محتاجا لصنعته لمعاشه وَمَالَهُ بُد منها، وإلا كره، وأما مالك الزرع فلا خلاف في جواز جمعه زرعه، وإن أدى إلى فطره، وإلا وقع في النهي عن إضاعة المال. انتهى. ونحوه لعبد الباقي، وقوله: ضرورة الفطر، قال الشبراخيتي وعبد الباقي: أي الضرورة المبيحة للفطر، وهي المشقة الشديدة أو خوف المرض، وقوله: وأما صاحب الزرع لخ، ظاهره ولو مع إمكان استيجاره وتيسره، وهو خلاف ما يأتي في مسألة المرضع. أو دقيق: يعني أنه لا قضاء على الصائم بسبب وصول دقيق لجوفه حيث كان يصنعه. أو كيل؛ أي وكذا لا قضاء على الصائم فيما إذا وصل لجوفه غبار مكيل حب ونحوه إذا كان صانعا، للكيل أو جبس؛ يعني أنه لا قضاء على الصائم فيما إذا وصل لجوفه غبار جبس إذا كان يصنعه، ودخل في صانع الجبس من يكيله أو يطحنة أو يرفعه من محل لآخر، ومثل غبار الطريق طعم الدباغ لصانعه.

وبما قررت علم أن قوله: لصانعه، قيد في الدقيق والكيل والجبس. التونسي: وفي لغو غبار الطريق والجبس والدباغ لصانعه نظر، لضرورة الصنعة وإمكان غيرها. ابن شأس: اختلف في غبار الجباسين، ومما يجري مجرى الصانع حارس قمحه عند طحنه خوفا من سرقته، وروى ابن محرز: لا يفطر من عطش في رمضان من علاج صنعته، والتشديد في منع ما يمنعه فرضا، والوقف عن الكفارة به. ابن محرز: والقياس جوازه لسفر التجر ثم خرجه على الخلاف في القَدْحِ المحوج إلى الجلوس في الصلاة، وابتلاع حبة بين أسنانه أنَّ غلبته لغو. انتهى. المشذالي: قوله: "إن ابتلع فلقة"، اختلف المذهب في القضاء في ذا الباب، وأجرى عليه الشيوخ لو حلف لا يأكل من

ص: 189

هذا الطعام بعد أن أكل منه، وتبقى

(1)

منه بقية فلقة فابتلعها، فقالوا: اللازم على القضاء الحنث وعلى العدم العدم، وَخَرَّجَ ابن رشد في سماع أشهب: من نسي حصاة في يده من المسجد أو في نعله أنه إن ردها فحسن، وليس بواجب على من ابتلع فلقة؛ لأنه أمر غالب، فكما أنه لا قضاء فكذلك لا رد انتهى. قاله الحطاب.

قوله: أو كيل، يدخل في الصانع للكيل من يمسك طرف ما يوضع فيه المكيل حيث احتيج له فيما يظهر؛ لأن العلة الحاجة وقد وجدت، ويحتمل أن هذا أمر نادر. قاله عبد الباقي. وقال البرزلي: وغبار الفحم، وغبار خزن الشعير، والقمح كالحكم في غبار الجباسين.

وحقنة من إحليل، يعني أنه لا قضاء في الحقنة من الإحليل من أي شيء كانت الحقنة، والإحليل بكسر الهمزة: ثقب الذكر.

تنبيه: قال غير واحد: وأما فرج المرأة فيجب عليها القضاء بحقنتها إن وصل للمعدة، فلا يشمله المصنف، قال الشبراخيتي: وفي النهاية: الإحليل يقع على ذكر الرجل وفرج المرأة. انتهى. ولا يريد المصنف فرج المرأة؛ إذ يجب عليها القضاء بحقنتها من فرجها. انتهى. وفي الحطاب: قال في التوضيح: قال عياض: الإحليل بكسر الهمزة ثقب الذكر من حيث يخرج البول ونحوه في الصحاح والقاموس، وقال في النهاية: والإحليل يقع على ذكر الرجل وفرج المرأة. انتهى.

وقال محمد بن الحسن: واعترض أبو علي لزوم القضاء بالحقنة من فرج المرأة، بأن فرج المرأة ليس متصلا بالجوف، فلا يصل إليه منه شيء. انتهى. ودهن جائفة، يعني أنه لا قضاء في الدهن الذي يدخل في الجائفة؛ وهي الطعنة التي تصيب الجوف؛ وهي مختصة بالبطن والظهر، وإنما لم يكن في دهن الجائفة قضاء لأنه لا يدخل مدخل الطعام والشراب، ولو وصل إليه مات من ساعته. قاله ابن يونس. قال الشبراخيتي: وانظر ما وصل إلى الجوف من ثقبة تحت المعدة أو فوقها أو فيها، هل هو كما وصل من دهن الجائفة أو يجري على الحقنة من الدبر أو يفصل في الثقبة على ما مر في الوضوء. انتهى.

(1)

في الأصل وتلفق والمثبت من الحطاب ج 3 ص 224. ط دار الرضوان.

ص: 190

ومني مستنكح؛ يعني أنه لا قضاء في خروج مني مستنكح، قوله:"مني" بالتنوين، "ومستنكح" بكسر الكاف أو بالإضافة ومستنكح بفتح الكاف، وسواء كان من رجل أو امرأة، والمني المستنكح هو الذي يكثر مجيئه بمجرد فكر أو نظر من غير تتابع، فإن قل مجيئه أو تساوى هو وعدمه فغير مستنكح. ومذي؛ يعني أنه لا قضاء على الصائم بسبب خروج المذي المستنكح، بأن يكثر مجيئه بمجرد فكر أو نظر من غير تتابع؛ فإن قل مجيئه أو تساوى هو وعدمه فغير مستنكح. قاله عبد الباقي. وقوله:"ومذي"، قد علمت أن المراد به المذي المستنكح، ولم يقيده بذلك؛ لأنه لا يحتاج إلى التقييد بذلك؛ لأنه معطوف على المقيد، والمعطوف على المقيد بقيد يعتبر فيه القيد أيضا عند أهل الأصول. انظر الشبراخيتي.

ونزع مأكول، يعني أن الشخص إذا بيت الصوم وطلع عليه الفجر وهو يأكل، وبمجرد طلوع الفجر مج ما في فيه، ولم يقع منه ابتلاع للمأكول في الفجر، فإن صومه ذلك صحيح، فلا قضاء عليه. أو مشروب؛ يعني أن الشخص إذا بيت الصوم وطلع عليه الفجر وهو يشرب، وبمجرد انصداعه نزع ما في فيه ولم يحصل منه ابتلاع بعد انصداع الفجر، فإن صومه ذلك صحيح فلا قضاء عليه. وقوله:"ونزع مأكول أو مشروب"؛ أي وإن لم يتمضمض، قال البرزلي: من نام قبل أن يتمضمض حتى طلع الفجر وقد بيت الصيام فلا شيء عليه. انتهى. نقله ابن غازي. ونقل قبله عن نوازل ابن الحاج أنه يلقي ما في فيه ويتمضمض. أو فرج؛ يعني أن من بيت الصوم، وطلع عليه الفجر وهو يجامع، فنزع فرجه، يصح صومه، ولا قضاء عليه، وما مشى عليه المصنف هو قول ابن القاسم، وألزمه ابن الماجشون القضاء، وسبب الخلاف هل يعد النزع جماعا أم لا؟ وظاهر كلام المصنف عدم القضاء، ولو خرج مني أو مذي بعده وهو كذلك إن لم يحدث عن فكر مستدام بعده، وإلا فالكفارة في المني، والقضاء في المذي. قاله غير واحد.

وبما قررت علم أن قوله: طلوع الفجر، ظرف لقوله:"نزع"، فهو راجع للثلاثة؛ أي المأكول، والمشرب والفرج.

تنبيه: قال عبد الباقي عند قولهُ "طلوع الفجرُ" ما نصه: أي في الجزء الملاقي للفجر، سواء قلنا النزع وطء أم لا؛ لأنه واقع في اليل، ولا يتأتى قول التتائي؛ وهو مبني على أن النزع ليس بوطء

ص: 191

إلا إذا كان المراد بقوله طلوع الفجر في طلوعه، مع أنه لا يصح لأنه إذا نزعه في طلوع الفجر كان نزعا في النهار، فلا يتأتى البناء المذكور. انتهى. قوله: أي في الجزء الملاقي لخ، قال محمد بن الحسن: فيه نظر، بل مراد المؤلف ظاهره كما يدل عليه كلام اللخمي، ونصه: وقال ابن القاسم: لو كان يطأ فأقلع حين رأى الفجر صح صومه. انتهى. ومثله في ضبارة ابن شأس وابن الحاجب والتوضيح وابن عرفة وغير واحد، وعليه فالبناء الذي ذكره التتائي صحيح مثله في الجواهر والتوضيح، وقول مصطفى: -لا يحتاج لهذا البناء؛ لأنه لم يقع نزع إلا بعد الفجر. انتهى- غير ظاهر، ونص ابن شأس: ولو طلع الفجر وهو يجامع فعليه القضاء إن استدام، فإن نزع ففي إثبات القضاء ونفيه خلاف بين ابن الماجشون وابن القاسم، سببه أن النزع هل يعد جماعا أم لا؟ انتهى. وبه تعلم ما في قول عبد الباقي، فلا يتأتى البناء المذكور.

وَلَمَّا كان الصائم متمسكا بواجب، وأفعاله لا تخلو عن بقية أقسام الشريعة من الجائز والستحب والمكروه والمحرم، تعرض المصنف لها، وبدأ بالجائز منها، فقال: وجاز سواك كل النهار؛ يعني أنه يجوز للصائم أن يستاك في جميع نهاره، وفي الرسالة: ولا بأس بالسواك للصائم في جميع نهاره، وأراد المصنف بالجواز ما قابل المحرم؛ لأن بعض ما ذكره من الجائزات مستحب كالسواك في بعض أحواله، وصوم الدهر، وبعضه جائز جوازا مستوي الطرفين كالمضمضة للعطش، وبعضه مكروه كالفطر في السفرت وبعضه خلاف الأولى كالإصباح بالجنابة.

واعلم أن السواك يطلق على الآلة والفعل، والمراد هنا الفعل؛ لأن التكليف إنما يكون بالفعل، وقوله:"وجاز سواك"؛ أي وجاز باليابس، وكره للعالم والجاهل برطب لما يتحلل منه، فإن تحلل ووصل إلى حلقه فكالمضمضة، إن كان غلبة أو سهوا قضى فقط، وإن تعمد قضى وكفر، ويتأكد ندب السواك بوقت صلاة ووضوء ولو بصوم قبل الزوال برمضان، وأما بعده فيه ولو لهما فجائز، ويجب إذا توقف زوال مبيح تخلف عن جمعة عليه، ويحرم بجوزاء برمضان، فقد اعترته الأحكام الخمسة، وتقدم ذلك في فضائل الوضوء، وقوله: كل النهار، يعني عندنا وفاقا لأبي حنيفة، وخلافا للشافعي وأحمد القائلين بكراهته بعد الزوال، ولم يختلفا معنا فيه فيما قبل الزوال، فالخلاف في كراهته وجوازه إنما هو بعد الزوال لا قبله، فلو قال: وجاز سواك وإن بعد

ص: 192

الزوال لكان أحسن، ليكون مشيرا بإن لخلاف الشافعي وأحمد، واستدلا بخبر: (لَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك

(1)

)، والسواك بعد الزوال يذهبه، وقوله: لخلوف، بضم الخاء وفتحُها خطأٌ أو لغة قليلة: هو تغير ريح الفم، قال المصنف: ولا دليل فيه على الكراهة؛ لأن الخلوف هو ما يحدث من خلو المعدة، وذلك لا يذهبه السواك. انتهى. فإن قيل: هو وإن لم يذهبه فهو يخففه وهو أثر عبادة فلا ينبغي إزالتها ولا تخفيفها كدم الشهيد، قلنا: المصلي يناجي ربه فيندب تطييب فيه، بخلاف الشهيد. قاله عبد الباقي.

وقال الأمير: جاز سواك كل النهار، وكرهه الشافعي بعد الزوال، لنا أنه كناية عن مدح نفس الصوم، وإن لم تبق حقيقة الخلوف كما يقال: فلان كثير الرماد كريم، وإن لم يكن رماد وهذا خير مما قيل: إن السواك لا يزيل الخلوف فإنه من المعدة، وفي الصحيح ما يقوي مذهب الشافعي من (أن موسى صام ثلاثين يوما، فوجد خلوفا فاستاك منه، فأمر بالعشرة كفارة لذلك

(2)

)، ولعله لمعنى يخصه، أو أن العبرة في شريعتنا بعمومات أحاديث السواك، فإنها مبنية على التيسير بخلاف الشرائع السابقة، وقد قال المعز بن عبد السلام في هذه المسألة بمذهبنا مع أنه شافعي، ورأيت خلافه لسيدي علي في مفاتيح الخزائن العلية، مع أنه مالكي. انتهى.

وقال الخرشي عند قوله. "وجاز سواك كل النهار": أي وجاز لغير مقتض شرعي، وأما لمقتض شرعي كالوضوء والصلاة والذكر فمندوب. انتهى. وقول المصنف:"وجاز سواك كل النهار"، دليله قوله عليه الصلاة والسلام: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، فعم الصائم وغيره، وروى أبو داوود عن عامر بن ربيعة وأنس: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أعد ولا أحصي

(3)

)، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يستاك لكل صلاة وهو صائم، فإن قيل الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فيعلم الخلوف منتنا، فكيف يكون عنده أطيب من المسك؟ فالجواب أنه ليس المراد أن رائحته طيبة، بل شبه الحسن الشرعي

(1)

البخاري، رقم الحديث:5927.

(2)

أبو داود، كتاب الطهارة، الحديث:47. والبخاري، كتاب الجمعة، الحديث: 887.

(3)

أبو داود، كتاب الصيام، رقم الحديث:2364.

ص: 193

بالحسن العرفي، أي هذا المنتن في الشرع أفضل من ريح المسك عند الطبع، إما لصبر الصائم عليه، والصبر عمل صالح، أو للتسبب فيه بالصوم الذي هو عمل صالح، وإلا فالخلوف ليس من كسبه حتى يمدح عليه أو يمدح في نفسه، وقال الحافظ أبو الفضل بن حجر في شرح البخاري: اختلف في كون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك مع أنه سبحانه وتعالى منزه عن استطابة الروائح؛ يعني، وكذلك الاستلذاذت بالمحاسن والطيبات؛ لأن ذلك من صفات المخلوقات مع أنه يعلم الشيء على ما هو عليه على وجهه.

المازري: هو مجاز لأنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك للصوم لتقريبه من الله تعالى، فالمعنى أطيب عند الله تعالى من المسك عندكم؛ أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وقيل: إن ذلك في حق الملائكة وأنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك، وقيل: المعنى الخلوف أكثر ثوابا من المسك المندوب إليه في الجُمَعِ والأعياد، وصححه النووي، ونقل القاضي حسين أن للطاعات يوم القيامة ريحا، فرائحة الصيام بين العبادات كالمسك.

النووي: وقع نزاع بين ابن الصلاح والشيخ ابن عبد السلام، في أن هذا الطيب عام في الدنيا والآخرة، أو خاص بالآخرة فقط، والصواب ما ذهب إليه ابن الصلاح من أنه عام في الدنيا والآخرة. قاله الشيخ إبراهيم. واستدل عز الدين بما ورد: يقومون من قبورهم ورائحة أفواههم أطيب من المسك.

ومضمضة لعطش؛ يعني أنه يجوز للصائم أن يتمضمض لأجل عطش أو حر، ولغير ذلك مما تطلب فيه أحرى؛ ولغير موجب يكره لأن فيه تغريرا، قال المصنف: وإذا تمضمض لعطش أو نحوه ثم ابتلع ريقه فلا شيء عليه إذا ذهب طعم الماء وخلص ريقه. قاله غير واحد. وقال الشبراخيتي: وإنما جازت المضمضة مع ما تقدم من أنه يكره للصائم ذوق الطعام ومضغ العلك للضرورة التي تلجئ إلى ذلك.

ص: 194

الباجي: ولا يبلع ريقه حتى يزول طعم الماء من فيه، فإن وصل منها شيء للجوف غلبة أو اختيارا فحكمه تقدم، وخص العطش ليلا يتوهم عدم جوازها له. انتهى.

وقوله: "ومضمضة لعطش" اعلم أنه تكره المبالغة في المضمضة للصائم، ويكره له غمس رأسه في الماء. المشذالي: وسئل عز الدين عمن دمي فمه فمج الدم ولم يغسل، فهل يبطل صومه بابتلاعه الريق النجس؟ فأجاب: بأن الصائم لا يحل له ابتلاع الريق النجس، ويبطل صومه إن فعل لأن الرخصة إنما وقعت في ريق يجوز ابتلاعه لما في طرحه من الحرج، وإذا كان ابتلاعه محرما في الصوم وغيره بطل صومه بابتلاعه لانتفاء سبب الترخيص في ابتلاعه. المشذالي: قال البرزلي: هذا بين إن لم ينقطع أثر الدم، وأما إن انقطع فقد مر أنه لا يضر؛ لأنه لم يبق إلا النجاسة الحكمية لا عينها، قال: ويلزم على ما حكى عبد الحق في مسألة الدلو الذي دهن بزيت "واستنجى به، أن هذا الماء كله نجس أن يقول هذا لأنه"

(1)

كله نجس، ولو انقطع أثر الدم حتى يغسله بالماء. كما نقل هذا الشيخ. انتهى. قاله الحطاب. وقال عن ابن قداح: ويقضي إن جاوز حلقه الدم، وإن مجه حتى ابيض فلا شيء عليه، ويستحب غسله للصلاة والأكل، وإن لم يفعل فلا شيء عليه. انتهى. وهو يجري على التطهير بالمائع غير الماء، والمشهور عدم الإجزاء في الصلاة، ولا يضر بالنسبة إلى الأكل؟ لأن عين النجاسة زالت، إلا أن يتكرر ذلك، فيسقط القضاء حينئذ كالمتكرر غلبة كالذباب، واستحب أشهب فيه القضاء. انتهى. والله أعلم. قاله الحطاب.

وقال الأمير في الحطاب: إن دم الأسنان يمج حتى يبيض الريق وإلا قضى، ولم يذكر كفارة، قال: فإن دام وعسر عفي عنه، واستحب أشهب القضاء منه، انتهى. وقال الشيخ زروق: وابتلاع ماء المضمضة يوجب القضاء لا بقاياه مع الريق بعد طرحه بالكلية، فإنه لا يضر، وفيمن ابتلع دما خرج من أسنانه غلبة قولان حكاهما في الجواهر. انتهى.

ومن جامع الأمهات للسنوسي مسألة: قال ابن عرفة وغيره: ابن شأس: وابتلاع دم خرج من سنة غلبة لغو، وإن ابتلعه وهو قادر على طرح ذلك أفطر، وقيل: لا يفطر. قاله الحطاب. وقال: قلت لفظ ابن قداح: ومن وجد في فيه دما وهو صائم فمجه حتى ابيض فلا شيء عليه، ويستحب

(1)

الذي في الحطاب ج 3 ص 226: واستنجى به أن المحل كله يتنجس أن يقول هنا أيضا إليه.

ص: 195

له غسله إذا قام إلى الصلاة أو إلى الأكل، فإن لم يفعل فلا شيء عليه، ومن كثر عليه الدم إذا كان من علة دائمة فلا شيء عليه ابتلع منه شيئا أو لم يبتلع. انتهى كلام الحطاب. وإصباح بجنابة؛ يعني أنه يجوز للصائم أن يصبح جنبا، فله أن يتعمد ترك الغسل من الجنابة في رمضان إلى أن يطلع الفجر لقوله جل وعز:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ؛ لأنه إذا أبيح له الجماع في جميع الليلة علم من ذلك أنه يجوز له أن يصبح جنبا، كما هو ظاهر. والله سبحانه أعلم. وهو وإن جاز خلافُ الأولى، وفي خبر الموطإ عن السيدتين أمنا عائشة وأمنا أم سلمة رضي الله تعالى عنهما أنهما، قالتا: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنبا من غير احتلام في رمضان ثم يصوم

(1)

)، ونبهتا بقولهما من غير احتلام؛ لأنه من الشيطان، ولا سبيل له عليه عليه الصلاة والسلام. قاله الشيخ إبراهيم.

وقد مر أن مذهب الفضل ابن عباس وأبي هريرة فساد صوم من أصبح جنبا. نقله الحطاب. وصوم دهر؛ يعني أن صوم الدهر جائز، وهل هو الأفضل، أو الأفضل خلافه؟ قال مالك: سرد الصوم أفضل. ابن رشد: معنى كلام مالك أن سرد الصوم أفضل من الصوم والفطر إذا لم يضعف بسببه عن شيء من أعمال البر، وإن ضعف فالصومُ والفطرُ، وذكر البرزلي عن عز الدين بن عبد السلام الشافعي أن صوم الدهر أفضل إن قوي عليه، لقوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، ولقوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاصي: لا أفضل من ذلك، معناه: لا أفضل لك من ذلك، فإنه قال له: إذا فعلت ذلك نفهت نفسك وغارت عينك، ولأن أكثر الصحابة ما كانوا يسألون عن أفضل الأعمال إلا ليختاروه، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام صيام أخي داوود

(2)

)، ومحمول على من سأل أيُّ غب الصوم، وتفريقه أفضل، ويجب أن يحمل على ما ذكرت توفيقا بين الأحاديث.

(1)

الموطأ، كتاب الصيام، ص 644. بلفظ:

جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم.

(2)

مسند أحمد، الحديث:2761. وسنن النسائى الكبرى، الحديث: 2697.

ص: 196

البرزلي: هذا الذي اختاره هذا الشيخ هو قول مالك في النوادر، وحمل ما ورد من النهي على من يشق عليه أو عمم صومه حتى صام ما يحرم صومه. انتهى. وقد ورد حديث أخرجه ابن حبان في صحيحه فيما أظن يفضل صوم الدهر. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وصوم دهر يندب إن لم يضعفه عن عمل بر، ولم يذهب أحد إلى جوازه مستويا، وإنما الخلاف في كراهته وندبه. انتهى.

وقال محمد بن الحسن: ابن العربي: احتج على جواز صوم الدهر بالإجماع على لزومه لمن نذره ولو كان مكروها أو ممنوعا لَمَا لزم على القاعدة، القباب: وهذه حجة لا بأس بها. انتهى. وقد يقال في حجة ابن العربي إن القائل بكراهة الدهر يجيب عن لزوم نذره بما يأتي في رابع النحر. انتهى. وقال الشبراخيتي: وجاز صوم دهر، ويقال له: الأبد والجواز ليس على بابه؟ إذ صوم الدهر مستحب، وما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم السائل عن صومه، بقوله: (من صام الدهر لا صام ولا أفطر

(1)

)، كما في البخاري، فمحمول على من صام فيه ما نهي عن صومه، أو على ذي عجز أو مضرة. ابن العربي: من فعل فعلا لله تعالى وأراد به شيئا آخر غير الرياء كصائم ليوفر نفقته لم يجز. انتهى.

وجمعة؛ يعني أن صوم يوم الجمعة جائز، ومعنى قوله: فقط، أنه يجوز أن يخص يوم الجمعة بالصوم من غير صوم يوم معه قبله أو بعده، والمراد بالجواز الندب؛ إذ ليس لنا صوم يجوز جوازا مستوي الطرفين. مالك: ما سمعت من أنكر صوم يوم الجمعة منفردا، وَقَوْلُ الداودي لم يبلغه يعني مالكا حديث: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده

(2)

)، مردُودٌ بأنه من تقديم العمل على الحديث، وكذا خبر: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام ولا يومها بصيام

(3)

)، قاله الشبراخيتي. ونقل محمد بن الحسن بناني أن النهي عن صوم الجمعة محمول على التقية من فرضه، كما اتُّقِيَ قيام رمضان، وقد أُمِنَتْ هذه العلة بوفاته صلى الله عليه وسلم، ولذا يذكر عن ابن رشد أنه كان يصومه إلى أن مات.

(1)

يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله قال: لا صام ولا أفطر. مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1162. وأبو داود، كتاب الصوم، الحديث: 2425.

(2)

البخارى، كتاب الصوم، رقم الحديث:1985. بلفظ: إلا يوما قبله أو بعده. ومسلم، كتاب الصيام، رقم الحديث:1144.

(3)

مسلم، كتاب الصيام، رقم الحديث:1144.

ص: 197

وفطر بسفر قصر؛ يعني أنه يجوز الفطر بسفر القصر، ومعنى ذلك أنه يجوز للمسافر سفرا تقصر فيه الصلاة أن يفطر؛ أي يأكل ويشرب، ومعنى الجواز: الإذن، إذ يكره له ذلك، وليس المراد بالفطر تبييت الفطر، وإنما المراد الفطر بالفعل كما قررت، لقوله: شرع فيه؛ أي في السفر بالفعل بأن أتى محل بدء القصر، وقد مر بيانه في فصل السفر. قبل الفجر متعلق بقوله:"شرع"؛ يعني أنه إنما يباح الفطر للمسافر حيث كان شروعه في السفر قبل الفجر؛ بأن يأتي محل بدء القصر قبل انصداع الفجر.

وبما قررت علم أن معنى الفطر في كلام المصنف هنا هو معناه الحقيقي لا تبييت الفطر، بدليل قوله:"شرع فيه قبل الفجر"، كما مر، وبدليل قوله: ولم ينوه؛ أي الصوم، فيه؛ أي السفر؛ لأن تبييت الفطر في السفر يستلزم الشروع في السفر قبل الفجر، وأنه لم ينو الصوم فيه، فيكون اشتراط ذلك من تحصيل الحاصل، ومعنى قوله:"ولم ينوه فيه"، أن الفطر إنما يباح للمسافر حيث لم ينو الصوم في السفر.

وتحصل من كلام المصنف أنه يجوز للمسافر الفطر بأربعة قيود: أَحَدُهَا أن يكون سفره سفر قصر، ثانِيهَا: أن يكون فطره بعد أن بلغ المحل الذي يقصر منه، ثَالِثُهَا: أن يكون بلوغه له قبل الفجر، رَابعُهَا: أن لا ينوي الصوم في السفر. فالقيد الأول يعم يوم السفر وما بعده كالرابع، وأما الثاني والثالث فإنهما يخصان بيوم السفر. وإلا، مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإلا بأن فقد شرط من هذه الشروط الأربعة التي أولها قوله:"قصر"، قضى، أي لزمه أن يقضي ما أفطر، وذكر هذا وإن استفيد من قوله:"وقضى في الفرض مطلقا"، ليرتب عليه قوله: ولو تطوعا، يعني أن من بيت الصوم تطوعا في الحضر، ثم سافر أو في السفر فأفطر لغير عذر من مرض ونحوه، فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم، وفي المصنف بحث؛ لأن ما قبل المبالغة لا يصدق على التطوع حتى يبالغ عليه: لكون رخصة الفطر بالسفر خاصة برمضان، وليست في واجب غيره، ولا في تطوع، ويدل على قصرها عليه أيضا المبالغة المذكورة؛ إذ لو رخص بالسفر في التطوع لم يجب قضاؤه؛ لأن القضاء في التطوع إنما يكون بالعمد الحرام، وفهم من قوله:"بسفر قصر"، أنه يفطر ولو أقام يومين أو ثلاثة ما لم ينو إقامة أربعة أيام، صرح به في النوادر، ونقله ابن عرفة. ولا كفارة؟ يعني

ص: 198

أنه إذا أفطر مع فقد الشروط المتقدمة فإنه لا كفارة عليه، وإن كان يحرم عليه الفطر. إلا أن ينويه؛ أي لا كفارة عند فقد الشروط المتقدمة إلا فيما إذا نوى الصوم. بسفر؛ أي نوى الصوم في السفر، فيكفر بفطره، تأول أم لا، وهاتان صورتان، وكذا يكفر من لم يشرع في السفر قبل الفجر مع رفع نيته ليلا حتى مضى وقتها، سواء عزم على السفر بعد الرفع المذكور أو قبله، تأول أم لا، أفطر بالفعل أو بالنية، فيكفر في هذه الثمانية أيضا، فتلك عشر.

وكذا يكفر إن بيت الصوم بحضر؛ وهو مفهوم ينويه بسفر، ثم أفطر متأولا أم لا، قبل عزمه وشروعه بعد الفجر، وكذا بعد عزمه إن أفطر غير متأول، أو تأول ولم يسافر يومه، فإن تأول وسافر يومه لم يكفر، كما أنه إن بيت الصوم في الحضر ثم سافر بالفعل بعد الفجر فأفطر فلا كفارة، تأول أم لا، حصل منه قبل ذلك عزم على السفر قبل الفجر أم لا، وصور التكفير واردة على حصر المصنف، خلافا لعبد الباقي.

وسأل سحنون ابن القاسم عن الفرق بين من بيت الصوم في الحضر ثم أفطر بعد أن سافر بعد الفجر فلا كفارة، وبين من نوى الصوم في السفر ثم أفطر، فعليه الكفارة كما قال المصنف "إلا أن ينويه بسفر"؟ فقال ابن القاسم: لأن الحاضر كان من أهل الصوم، فخرج مسافرا فصار من أهل الفطر، فسقطت عنه الكفارة، والمسافر كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وترك الرخصة صار من أهل الصيام، فعليه ما على أهل الصيام من الكفارة. قاله عبد الباقي.

وعلم مما قررت أن الضمير المجرور بفي في الموضعين عائد على السفر، وأن الضمير المنصوب بالفعل في الموضعين عائد على الصوم، والله سبحانه أعلم.

تنبيهات: الأول: يجوز للمسافر أن يفطر ما جاز له أن يقصر، قال ابن رشد: وهذا مما لا خلاف فيه لقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، إلا أن مالكا استحب له الصيام، وَيَكرَه له الفطر لقوله عز وجل:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وفهم من كلام المصنف أنه يجوز الفطر للمسافر في البحر إذا كان سفرا تقصر فيه الصلاة؛ وهو كذلك لقول الله عز وجل:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ، قال ابن رشد: المسافر في البر

ص: 199

والبحر سواء في جواز الفطر ووجوب القصر، لقول الله عز وجل:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ، وهذا مما لا خلاف فيه أحفظه. قاله الحطاب.

الثَّانِي: قال ابن يونس: تحصيل اختلافهم -يعني في المسألة المتقدمة- على أربعة أوجه: أصبح صائما في السفر ثم أفطر، أصبح صائما في الحضر ثم سافر فأفطر، أفطر ثم سافر، عزم على السفر فأفطر ثم بدا له فلم يسافر، ففي كل وجه قولان، قيل: يكفر، وقيل: لا يكفر. نقله محمد بن الحسن بناني.

الثَّالِثُ. قال الجزولي: ويفطر في السفر الواجب والمندوب من غير خلاف، واختلف في المباح والمكروه والمحظور، والمشهورُ يجوز له في المباح ولا يجوز له في المكروه ولا في المحظور. انتهى. قاله الحطاب. وقال: رأيت بخط بعض طلبة العلم عن شارح الرسالة الزهري أن من تعمد السفر في رمضان لأجل الإفطار أنه لا يفطر ويعامل بنقيض مقصوده، وهذا ظاهر لأن سفره حينئذ لا يكون مباحا إذا لم يكن له غرض إلا الإفطار، قال: وكذلك من كان له مال يبلغة الحج فتصدق به ليسقط عنه الحج، ذكر ذلك عند قول الرسالة: وإن حاضت لأربع ركعات من النهار، وأنها لو كانت تعلم أن ذلك يوم حيضتها، وأخرت الصلاة إلى ذلك الوقت عمدا فإنه يلزمها القضاء. انتهى. وذكر الشيخ يوسف بن عمر هذه المسائل الثلاثة، إلا أنه قال: إن الحائض لا يلزمها قضاء وهي عاصية، والمتصدق يسقط عنه الحج، والمسافر لا يلزمد إلا القضاء، وزاد المقيم يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت ليسافر ويصليها صلاة قصر له ذلك، وكذلك الجزولي ذكر هذه المسائل كما ذكرها الشيخ يوسف بن عمر، ثم قال: وهذا آثم في ذلك كله، وما ذكره الشيخ يوسف بن عمر والجزولي في هذه المسائل المذكورة ذكره اللخمي في زكاة الفطر من تبصرته، إلا أنه قال: وجميع ذلك مكروه، ونصه: ومن البخاري قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة

(1)

)، ثم قال: اختلف في الحديث هل محمله على الوجوب أو على الندب، والمعروف من قول مالك وأصحابه أن محمل الحديث على الوجوب، وروي عنه في مختصر ما ليس في المختصر فيمن باع إبلا بعد الحول بذهب، فرأى أنه يزكي زكاة

(1)

ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. البخاري، رقم الحديث:1450.

ص: 200

الذهب، فعلى هذا محمل الحديث عنده على الندب؛ لأنه فر قبل الوجوب، ولو تصدق رجل من ماله ليسقط عنه الحج، وعلم ذلك أو سافر في رمضان إرادة سقوط الصوم عنه الآن، أو أخر صلاة الحضر عن وقتها ليصليها في السفر ركعتين، أو أخرت امرأة صلاة بعد دخول وقتها، رجاء أن تحيض فحاضت قبل خروج وقتها فجميع ذلك مكروه ولا يجب على هذا في السفر صيام، ولا أن يصلي أربعا ولا على الحائض قضاء. انتهى. ونقله ابن عرفة في الخلطة وقبله، إلا أنه ناقشه في احتجاجه على حمل الحديث على الندب بالمسائل المذكورة، ونصه: اللخمي: محمل الحديث على الوجوب، ورواية ابن شعبان: من باع إبلا بعد الحول بذهب فرارا زكى زكاة العين على الندب. ثم قال: وَاحْتِجَاجُ اللخمي على حمله على الندب بأن من قصد سقوط الحج عنه بصدقة ما ينفي استطاعته: أو سافر في رمضان لسقوط صومه، أوأخر صلاة ليصليها في سفره، أو امرأة لتحيض فتسقط لم يعاملوا بنقيض مقصودهم.

يُرَدُّ بأنه في الحج تكليف ما لا يطاق، وبأن السفر والتأخير غير منهي عنهما، والتفريق والاجتماع نهي عنهما: وتعبيره بالندب دون الكراهة متعقب، يعني أنه كان الأولى أن يقول: هل محمله على الوجوب أو على الكراهة؟ بدل قوله: "أو على الندب". قاله الحطاب.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: الأولى أن يقول: هل محمله على الحرمة أو على الكراهة. والله سبحانه أعلم. لكن الأمر سهل، ولهذا قال: كان الأولى. قال الحطاب عقب كلامه هذا: قال الونشريسي في قواعده: من الأصول المعاملة بنقيض المقصود الفاسد، ونقضوا هذا الأصل في المتصدق بكل المال لإسقاط فرض الحج، ومنشئ السفر في رمضان للإفطار، ومؤخر الصلاة إلى السفر للتقصير، أو الحيض للسقوط. انتهى. فما قاله الزهري من أنه لا يفطر ويعامل بنقيض مقصوده، مخالف لما قاله اللخمي وغيره، إلا أن ما قاله ظاهر إذا لم يكن له غرض من السفر إلا الإفطار في رمضان؛ لأن سفره حينئذ لا يكون مباحا، وقد تقدم في كلام الجزولي أنه مؤثم في هذا كله؛ وهو يقتضي عدم الجواز، وصرح في المدخل بأنه لا يجوز له التصدق بماله، وتقدم في كلام الشيخ يوسف بن عمر في الحائض أنها عاصية، وصرح اللخمي بأن جميع ذلك مكروه، فالفطر في

ص: 201

هذه الحالة لا يتأتى على المشهور من أنه لا يجوز له الفطر في السفر المكروه أو الحرام -كما تقدم في كلام الجزولي- فتأمله. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.

الرَّابعُ: أذكر فيه مسائل قد مرت أو مر أكثرها، فأقول: المَسْأَلةُ الأُولَى: من سافر دون مسافة القصر في رمضان، فبيت الفطر في سفره ذلك لم يكفر إن تأول، وإن لم يتأول كفر، وهذه هي المشار إليها، بقوله المار: أو سافر دون القصر.

المَسْأَلَة الثَّانِيَةُ: أن يبيت الصوم ثم يسافر دون مسافة القصر فيفطر، استظهر الحطاب أنه يجري فيها ما جرى فيمن سافر مسافة القصر فأفطر من الخلاف، وقد علمت أن المشهور أنه لا كفارة فيها كما قال المصنف، "ولا كفارة". وظاهر المصنف هنا أنه لا كفارة فيها؛ أي في مسألة ما إذا بيت الصوم ثم سافر دون مسافة القصر فأفطر. والله سبحانه أعلم.

المَسْأَلَةُ الثَّالِثَة: أن يبيت الصوم ثم يسافر مسافة القصر فيفطر بعد شروعه في السفر، وقد علمت المشهور فيها؛ وهو أنه لا كفارة.

المَسْأَلَةُ الرَّابعَةُ: أن يبيت الصوم في السفر ثم يفطر، وقد علمت أن المصنف مشى على لزوم الكفارة فيها.

قال الحطاب: مسائل الفطر للمسافر خمس مسائل:

الأولى: إذا عزم على السفر بعد الفجر ولم يسافر فيجب عليه أن يبيت الصيام: قال اللخمي، لم يختلف المذهب في أنه لا يجوز له الفطر قبل أن يتلبس بالسفر، وقال ابن عرفة: ومبيح تبييت الفطر الاتصاف بالسفر لا تبييته، أبو عمر: اتفاقا، فإن بيت الإفطار، فصرح أبو الحسن بأنه لا خلاف أن عليه القضاء والكفارة، وظاهره سواء كان عامدا أو متأولا؛ وهو ظاهر.

الثَّانِيَّة: إذا بيت الصيام في الحضر ثم عزم على السفر، فلا يجوز له الإفطار قبل خروجه، فإن أفطر قبل خروجه ففي ذلك أربعة أقوال حكاها ابن الحاجب في المتأول، وظاهر كلامه أن العامد عليه الكفارة وهو ظاهر.

والأقوال الأربعة: وجوب الكفارة لمالك وأبي حنيفة والشافعي وسحنون،

والثاني عدم وجوبها لأشهب،

ص: 202

والثالث لابن حبيب تجب إن لم يأخذ في أهبة السفر،

والرابع لسحنون أيضا وأشهب تجب إن لم يسافر، قال ابن رشد: وأظهر الأقوال لا كفارة عليه بحال؛ لأن الكفارة إنما هي تكفير الذنب، ومن تأول لم يذنب، وإنما أخطأ، والله تعالى تجاوز عن الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. انتهى.

الثالثة: إذا أصبح صائما ثم سافر، هل يجوز له الإفطار أم لا؟ فالمشهور من المذهب أنه لا يجوز له الإفطار، وقال القاضي أبو الحسن: ابن القصار يكره له الإفطار، وقال ابن حبيب: يجوز له الفطر وإن أفطر عامدا، فالمشهور أنه لا كفارة عليه كما صرح به ابن الحاجب وقبله في التوضيح.

الرابعة: إذا بيت الصيام في السفر، هل يجوز له الفطر أم لا؟ المشهور لا يجوز له الفطر، وقال ابن الماجشون: يجوز له الفطر، وعلى المشهور فإن أفطر متأولا فظاهر المدونة أن عليه الكفارة، وصرح بذلك في سماع موسى من العتبية، وقال أشهب في المدونة: لا كفارة عليه، قال ابن رشد: وهو الأظهر، وعليه اقتصر ابن الحاجب، وإن أفطر متعمدا فالمشهور أن عليه الكفارة، ولمالك في المدونة: لا كفارة عليه، حكاه في البيان، وتقدم الفرق على المشهور بين من أصبح صائما ثم سافر فأفطر فلا كفارة عليه، وبين من بيت الصيام في السفر ثم أفطر فعليه الكفارة، وعكس المخزومي، فقال بالكفارة مع العمد في المسألة الثالثة دون الرابعة؛ لأنه رأى أن حرمة الصوم في حق من أنشأه في الحضر أقوى؛ لأنه لا يجوز له حين الإنشاء إلا الصوم، بخلاف من أصبح صائما في السفر فإنه مخير في الفطر حين أنشأ الصوم.

الخامسة: أشار إليها بقوله: كفطره بعد دخوله؛ يعني أن من بيت الصوم في السفر ثم دخل الحضر فأفطر بعد دخوله تلزمه الكفارة والقضاء، وظاهر كلامهم أنه لا خلاف في ذلك، ولا يجوز له الفطر بلا خلاف. قاله الحطاب.

وسواء قدم أول النهار أو وسطه أو آخره، وقوله:"بعد دخوله"، أي لمحل يقطع حكم سفره، وللشيخ علي الأجهوري:

ص: 203

وسفر القصر به يفطر من

شرع فيه قبل فجر فاعلمن

بأن يجيء بدء قصر قبل ما

يصبح هذا هو الشروع فاعلما

إلا لمن نوى به الصوم فذا

عليه إن أفطر تكفير خذا

وامنعه إن يشرع بعيد الفجر

بكل حال من تعاطي الفطر

وما به كفارة إن حصلا

بعد شروعه بحال مسجلا

كقبله وبعد نية السفر

إن كان بالتأويل فطره استقر

إذا يسافر يومه فإن جلس

كفر لو لمطر له حبس

وفي سوى هذين فالتكفير

يلزمه بالفطر يا خبير

وكل ذا إذا نوى وأفطرا

على الذي فصلت فيما غبرا

أما إذا لم ينو قبل النية

كفر مطلقا بغير مرية

لأنه كحاضر قد أغفلا

نيته في وقتها وأهملا

قوله: قبل النية، أي قبل فوات محل النية، وقوله: كحاضر؛ أي كالحاضر الذي لم يسافر ولم يعزم على السفر، وقد مر الكلام على من سافر مسافة تبلغ مسافة القصر إلا أنه عاص بسفره عند قول المصنف:"أو سافر دون القصر"، فراجعه إن شئت.

وبمرض خاف زيادته؛ يعني أنه يجوز الفطر للشخص بسبب مرض حاصل، خاف زيادته بسبب صومه بقول طبيب أمين، أو موافق مزاجه، أو تجربة نفسه، قال الشيخ عبد الباقي عند قوله:"خاف زيادته": ولو حكما كحصول تألم أعمى بضر بان بعينه، ولا يحصل به زيادته. انتهى. وقال البرزلي عن ابن أبي زيد: إذا كان الصوم يضربه ويزيده ضعفا أفطر، ويقبل قول طبيب أمين أنه يضربه ويفطر الزمن إذا أضربه الصوم، وكذا كل صوم مضر يبيح الفطر.

البرزلي: هي تتخرج على مسألة التيمم والصلاة، فلا خلاف إن خاف الموت، واختلف فيما دونه على قولين، والمشهور الإباحة، وذهب بعض السلف إلى أن مطلق المرض ولو قل يبيح الفطر، قال

ص: 204

ابن يونس: قال في المجموعة عن أشهب في مريض لو تكلف الصوم لقدر عليه أو الصلاة قائما لقدر إلا أنه بمشقة وتعب: فليفطر ويصلي جالسا ودين الله يسر. قال مالك: رأيت ربيعة أفطر في رمضان في مرض، ولو كان غيره لقلت يقوى على الصوم إنما ذلك بقدر طاقة الناس، قال أبو محمد: من قول أصحابنا أن المريض إذا خاف إن صام يوما أحدث له زيادة في علته، أو ضررا في بصره، أو غيره من أعضائه، فله أن يفطر. انتهى كلام الحطاب.

أو تماديه؛ يعني أنه يجوز للمريض الفطر إذا خاف بسبب صومه تمادي المرض أو تأخر برئه، قوله:"خاف زيادته أو تماديه"، قال الشبراخيتي: والخوف الذي يعتبر لا بد أن يكون بقول طبيب أمين، وكذا إن علم ذلك من نفسه أو ممن هو موافق له في المزاج كما في التيمم، وكلام البرزلي يفيده، ولا شك أن التمادي من جملة ما تصدق عليه الزيادة، فكان المناسب لمرامه حذف قوله:"أو تماديه"، ثم إن من زيادة المرض حصول التألم به وإن لم يحصل له زيادة المرض، ثم إن الزيادة تصدق بزيادة يخاف معها الهلاك أو شديد الأذى، مع أنه يجب فيهما الفطر لما قاله بعد، ولذا كان اللائق أن يقول: إلا لخوف هلاك أو شديد أذى، بدل قوله: ووجب إن خاف هلاكا، يعني أن المريض -لأنه هو الذي الكلام فيه- يجب عليه الفطر إن خاف بصومه الهلاك لأن حفظ النفوس واجب ما أمكن، ومثل المريض في ذلك الصحيح، قال عبد الباقي مجيبا عما تقدم عن الشبراخيتي: وهذا كالاستثناء من قوله: "وبمرض"، فكأنه قال: إلا أن يخاف هلاكا الخ، فيجب. انتهى. ويعتمد في ذلك على قول أهل المعرفة.

أو شديد أذى؛ يعني أنه يجب على الشخص الفطر إذا خاف بسبب الصوم شديد الأذى، وقوله:"أو شديد أذى"، من إضافة الصفة للموصوف، وعبر المصنف بالخوف لأنه لا يشترط التحقيق، ويعتمد على قول أهل المعرفة هنا.

الشبراخيتي: واعلم أن الصحيح إذا خاف بصومه الهلاك فحكمه حكم المريض، وأما إن خاف حصول الأذى الذي يوجب الفطر للمريض فينبغي أن يكون كذلك، ويرجع في معرفة الذي يوجب الفطر والذي يجوزه لأهل المعرفة، ثم إن الجهد الشديد يبيح الفطر ولو للصحيح كما هو ظاهر

ص: 205

كلام الحطاب، وصرح به بعض الشراح، لكن مقتضى ما في المجموعة وما ذكره اللخمي أنه إنما يبيح ذلك للمريض. انتهى كلام الشبراخيتي.

وقال عبد الباقي: ومفهوم قوله: "بمرض"، أن خوف أصل المرض بصومه ليس حكمه كذلك وهو كذلك على أحد قولين؛ إذ لعله لا ينزل به، والآخر يجوز. انتهى. وفيه أن المريض يجوز له الفطر إن حصل له بصومه شدة وتعب، لا إن خاف حصولهما. انتهى. وقد صرح غير واحد بأنه يرجع في معرفة الأذى الشديد الذي يوجب الفطر والجهد الشديد الذي يبيحه لأهل المعرفة، وقوله:"ووجب إن خاف هلاكا أو شديد أذى": قال الخرشي: مجرد الخوف كاف، وشبه في الحكمين السابقين كما قاله غير واحد وهما وجوب الفطر وجوازه كما قاله الشبراخيتي قوله: كحامل؛ يعني أن الحامل إذا خافت على ولدها الذي في بطنها بسبب صومها يسير ضرر، فإنه يباح لها الفطر، ويجب عليها الفطر إن خافت بالصوم عليه هلاكا أو شديد أذى، ومرضع، عطف على "حامل"، فهو في حيز التشبيه؛ يعني أن المرضع إذا خافت بالصوم على ولدها الذي ترضعه يسير ضرر، فإنه يباح لها الفطر، ويجب عليها الفطر إن خافت عليه بذلك هلاكا أو شديد أذي، ومفهوم قوله:"ولديهما": أنهما لو خافتا على أنفسهما لدخلتا في قوله: "وبمرض"؛ لأن الحمل مرض والرضاع في حكمه، وقوله:"كحامل"، وكذا إذا خافت حدوث علة عليها أو على ولدها كما في المواق عن اللخمي، نقله محمد بن الحسن، وظاهر قوله:"خافتا على ولديهما"، أنه لا يباح لهما الفطر بمجرد الجهد من غير خوف، وقد صرح اللخمي بجوازه لهما، وحكى ابن الحاجب الاتفاق عليه، واستظهره في توضيحه قائلا: فإذا كانت الشدة مبيحة للفطر كالمرض فالحامل والمرضع أولى بذلك. انتهى. قاله عبد الباقي.

قال محمد بن الحسن: وبذلك صرح ابن رشد أيضا في رسم "صلى نهارا"، من سماع ابن القاسم، ونصه: للمرضع على المشهور من مذهب مالك في الفطر ثلاثة أحوال: حال لا يجوز لها فيه الفطر والإطعام؛ وهي إذا قدرت على الصيام ولم يجهدها الإرضاع، وحال يجوز لها فيه الفطر والإطعام؛ وهي إذا أجهدها الإرضاع ولم تخف على ولدها، وحال يجب عليها فيه الفطر والإطعام وهي إذا خافت على ولدها. انتهى. لم يمكنها استيجار؛ يعني أن محل جواز الفطر

ص: 206

للمرضع أو وجوبه حيث خافت على ولدها إنما هو إذا لم يمكنها أن تستأجر من يرضع ولدها لعدم مال أو مرضعة، أو لكون الولد لم يقبل غيرها. قاله غير واحد. أو غيره، عطف على "استيجار"؛ يعني أن محل جواز الفطر للمرضع أو وجوبه حيث خافت على ولدها بسبب الصوم إنما هو حيث لم يمكنها استيجار على الرضاع أو غيره كمن يرضع لها مجانا، أي لا يمكنها واحد منهما، فالنفي هنا على طريقة:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} ، أي لا تطع واحدا منهما، ومفهومه أنه لو أمكنها استيجار أو غيره لوجب عليها الصوم وهو كذلك.

خافتا على ولديهما، يعني أن حل جواز الفطر أو وجوبه للحامل والمرضع إنما هو حيث خافتا على ولديهما؛ بأن خافت الحامل على ما في بطنها والمرضع على ولدها الذي ترضعه، وقد مر أن محل الوجوب إنما هو حيث خافتا على ولديهما هلاكا أو شديد أذى، وأن محل الجواز حيث خافتا عليهما ضررا يسيرا، وقد مر أنه إن حصل لهما جهد بدون خوف على ولديهما يجوز لهما الفطر، ومفهوم قوله:"ولديهما"، أنه لو خافتا على أنفسهما لكان ذلك داخلا في قوله:"وبمرض خاف" لخ، منطوقا ومفهوما. والله سبحانه أعلم. وأشار إلى مفهوم قوله: لم يمكنها استيجار بقوله والأجرة في مال الولد؛ يعني أنه إذا أمكن المرضع أن تستأجر من يرضع ولدها فإنه يجب عليها الصوم كما مر، وتكون الأجرة في مال الولد إن كان له مال؛ لأن نفقته في ماله حين سقط رضاعه بلزوم الصوم لها، وظاهره ولو كان الرضاع واجبا عليها لولا الصوم، ثم إذا لم يكن للولد مال ووجد مال الأبوين، فهل تكون الأجرة مبدأة في مال الأب، وإليه ذهب اللخمي والتونسي، أو تكون مبدأة في مالها؛ أي الأم، وإليه ذهب سند؟ تأويلان، مبتدأ حذف خبره، أي في ذلك تأويلان، وقد علمت أصحاب التأويلين ومحلهما فيمن يجب عليه الرضاع، وأما إذا لم يجب عليها كعلية القدر والبائن فيتفق على أنها في مال الأب، قوله:"أو مالها"، قال الرهوني عن ابن ناجي: إن لم يجحف بها. انتهى.

وقوله: "أو مالها"، وعليه فلا ترجع بها، ومثل من ترضع ولدها من ترضع ولد غيرها إن كانت محتاجة في الفطر وعدمه كما بحثه المصنف، بقوله: وينبغي أن يكون حكم ولد غيرها كذلك إن كانت محتاجة. قاله الخرشي، والشبراخيتي، وعبارة عبد الباقي: وانظر، هل إباحة الفطر

ص: 207

-يعني المشار إليه بقوله: "خافتا على ولديهما"- شاملة لمن ترضع ولد غيرها فإني لم أره، لكن في توضيحه عند قوله:"وثوب مرضعة"، وهذا واضح في ولدها، وينبغي أن ولد غيرها كذلك إذا كانت محتاجة. انتهى. قاله الشيخ سالم. انتهى.

واعلم أن الراجح من التأويلين أن الأجرة في مال الأب إن لم يكن للولد مال على الراجح، وعبارة الأمير: وأطعمت المرضع فقط والأجرة في مال الولد ثم أبيه، ولو دَنِيَّةَ على الراجح مما في الأصل، والمقابل يراها عوضا عن الرضاع اللازم لها، وقوله: ثم هل مال الأب أو مالها تأويلان، قال عبد الباقي: وفي المواق نوع اعتراض على ذكر المصنف التأويلين، فإنه قال: اللخمي: إذا كان الحكم الإجارة فإنه يبدأ بمال الولد، فإن لم يكن فمال الأب، فإن لم يكن فمال الأم، ولم يذكر ابن عرفة غير هذا. انتهى.

قال محمد بن الحسن: قوله: وفي المواق نوع اعتراض لخ، اعتراضه ساقط لأنه في التوضيح نقل مقابل ما للخمي عن سند، فانظره. انتهى. وقد مر ترجيح الأمير للتأويل الأول، وهو قول اللخمي، وقوله:"كحامل ومرضع" لخ، اعلم أن المشهور أنهما إذا افطرتا لذلك فإنه يجب الإطعام على المرضع دون الحامل على المشهور فيهما، وقيل عليهما، وقيل لا عليهما، وقيل يجب على الحامل إن خافت على ولدها، ويسقط إن خافت على نفسها، وقيل يجب الإطعام على الحامل إذا خافت على ولدها قبل مضي ستة أشهر، وإن خافت في الشهر السابع لم تطعم وهو لأبي مصعب.

وحاصل هذا أن في المرضع قولين، وفي الحامل أربعة أقوال، والخلاف جار فيهما مطلقا؛ أي خافتا على أنفسهما أو ولديهما؛ لأنه أطلق في المرضع وفصل في الحامل، وكيفية إطعامهما كإطعام المفرط، وسيأتي. والقضاء بالعدد. عطف على فاعل وجب في قوله:"ووجب إن خاف هلاكا أو شديد أذى"، والمعنى أنه يجب قضاء رمضان إذا أفطر فيه لعذر أو لغير عذر، ولا خلاف في وجوب قضائه، والمشهور أنه يجب قضاؤه إذا أفطره كله بالعدد أي على حسب شهر رمضان، فإن كان رمضان ثلاثين وجب عليه أن يصوم ثلاثين يوما، وإن كان رمضان تسعة وعشرين يوما، وجب عليه أن يصوم في القضاء تسعة وعشرين يوما، لقوله عز وجل:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ،

ص: 208

وسواء في ذلك ابتدأ في القضاء بالهلال أو بغيره، وروى ابن وهب أنه إن ابتدأ في القضاء بالهلال أجزأه ذلك، سواء وافقت أيامه عدد رمضان الذي أفطره أو كان عدد القضاء أنقص، ويجب التكميل إن كانت أيام شهر القضاء أكثر. نقله الحطاب.

والمشهور أن قضاء رمضان لا يجب على الفور، وفي الذخيرة: يجوز تأخيره إلى شعبان، ويحرم بعده، وقيل: يجب على الفور، وحكى ابن بشير الاتفاق على أنه لا يجب على الفور وكذا ابن الحاجب وابن ناجي في شرح المدونة، وحصل ابن عرفة في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه على الفور، الثاني: أنه على التراخي لبقاء قدره قبل تاليه بشرط السلامة. الثَّالِثُ: أنه على التراخي حتى يبقى قدر ما عليه من الأيام من شعبان مطلقا. قاله الحطاب. ويشهد للقول بأن وجوب قضاء رمضان ليس على الفور قول عائشة رضي الله تعالى عنها: (يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

)، قال في الإكمال: فيه حجة على أن قضاء رمضان ليس واجبا على الفور، خلافا لداوود في إيجابه من ثاني شوال، وأنه آثم متى لم يُتِمَّهُ، فإذا لم يكن على الفور فوقته موسع مقيد ببقية السنة ما لم يدخل رمضان آخر لكن الاستحباب المبادرة. قاله الحطاب. وقوله:"والقضاء بالعدد"، هذا أعم مما مر من قوله: "وأجزأ ما بعده بالعدد؛ لأن ذلك خاص بمسألة الالتباس. ذكره دفعا لما يتوهم من إجزائه، وإن كان أقل عددا من رمضان لعذره وهذا عام في مسألة الالتباس وغيرها. والله سبحانه أعلم.

وتحصل مما مر أن قضاء رمضان كلا أو بعضا يجب على التراخي، فهو موسع فيه حتى لا يبقى من السنة إلا قدر ما يسعه قبل رمضان. والله سبحانه أعلم. بزمن أبيح صومه؛ يعني أنه يشترط في قضاء رمضان أن يكون في زمن يباح فيه الصوم، فلا يصح في الأيام المنهي عن صومها كيوم العيد، وتاليي النحر، ولا فيما كره صومه كرابع النحر على المشهور، قال محمد بن الحسن: لا يصح صومه أي رابع النحر قضاء كما في المواق عن المدونة، وشهره في التوضيح والشامل، وصححه ابن بشير كما في الحطاب، وفي الأيام المعدودات أي الثلاثة بعد يوم النحر، ثلاثةٌ: المشهور هو ما قدمته من عدم الإجزاء، وقيل بالإجزاء، وقيل يجزئ الثالث. غير رمضان، يعني

(1)

مسلم، كتاب الصيام، الحديث:1146. ولفظه:

الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 209

أنه لا يصح قضاء رمضان في رمضان، فإن صام رمضان عامة قضاء عن رمضانٍ مَّضى لم يجزه عن واحد منهما.

قال في التوضيح: قال ابن الجلاب: إنه الصحيح من الأقوال، وقال ابن رشد: هو الصواب عند أهل النظر كلهم، ووجهه أن رمضان لا يقبل غيره، فلا يجزئ عن القضاء، وأما عدم إجزائه عن الأداء فلأنه لم ينوه، وقيل: يجزئ عن القضاء لأن الأعمال بالنيات، وقيل: يجزئ عن الأداء لأن رمضان لا يقبل غيره، وإذا قلنا: لا يجزئ رمضان في الحضر عن واحد منهما، فقال ابن المواز: يكفر عن الأول مدا لكل يوم، ويكفر عن الثاني كفارة العمد في كل يوم. أبو محمد: يريد إلا أن يعذر بجهل أو تأويل، وقال أشهب: لا كفارة عليه لأنه قد صامه ولم يفطره. أبو محمد: وهو الصواب انتهى من التوضيح.

واقتصر ابن عرفة على كلام ابن المواز. قاله الحطاب. ولو نذر صوم شهر بعينه لم يقض فيه، فإن قضى فحكمه حكم رمضان، قاله اللخمي، قاله الحطاب. وفي قول المصنف:"أبيح صومه"، إشكال؛ لأنه إذا أراد بالمباح: المباحَ الشرعي المستوي الطرفين فليس في السنة يوم أبيح صومه بهذا المعنى؛ لأن التطوع بالصوم مندوب إليه، وإن أراد بالمباح: الجائز الشامل للواجب والمندوب والمكروه والمباح، دخل فيه رابع النحر لأن صومه تطوعا مكروه على المشهور، فلو قال المصنف بزمن لم يمنع فيه من التطوع لصح كلامه، واستغنى عن قوله:"غير رمضان "، والمنع يشمل المحرم والمكروه. قاله الحطاب.

تنبيهات: الأول: من نذر صوم الأبد ثم لزمه قضاء رمضان، أو صوم ظهار أو كفارة يمين، فعليه أن يصوم ما لزمه، قال ابن حبيب: ولا شيء عليه وقال سحنون: عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينا.

الثاني: من دام مرضه من رمضان حتى انقضى آخر، بدأ بالأول ويجزئ العكس. والله أعلم. قاله ابن عرفة عن ابن عبدوس عن أشهب. قاله الحطاب.

الثالث: قال الإمام الحطاب: أيام رمضان هل يجب قضاؤها على الترتيب فينوي اليوم الأول من أيام القضاء لليوم الأول من الأيام الفائتة؟ لم أر فيه نصا صريحات والظاهر أنه لا يجب، ونقل عن

ص: 210

سند أنه قال في فصل السهو في شرح مسألة من سها عن سجدة: وأما أيام رمضان فليس الترتيب فيها بمقصود، وإنما هو من ضرورة التعيين.

الرابع: شمل قوله: "غير رمضان"، من كان مسافرا، ومن كان مقيما فلا يصح للمسافر أن يقضي رمضان في رمضان كما يأتي للمصنف، وأما الحاضر فقد مر الكلام عليه أول الحل. وإتمامه يعني أن من ظن أن في ذمته يوما، فشرع فيه، فإنه يلزمه إتمامه إن تبين له أنه ساقط عنه، ككونه ذكر قضاءه: أي قضاء اليوم الذي ظن أنه في ذمته: وككونها حاضت فيه وهو نذر معين، وكذا لو بلغ الصبي في أثناء النهار وهو صائم، فإنه يجب عليه إتمام ذلك اليوم، وسواء في ذلك رمضان وغيره كالنذر المعين والتطوع، ويقرب من مسألة المصنف هذه مسألة ابن قداح: من تلبس بصلاة الظهر ثم ذكر أنه صلاها، الظاهر أنه يتمادى على نافلته، ومن تلبس بصلاة العصر ثم ذكر أنه صلاها، فإن كان عقد ركعة أضاف إليها أخرى وسلم بنية النافلة، وإن لم يعقد ركعة قطع. انتهى. ومن أحرم بحج عما عليه ثم تبين له أنه قد أدى ما عليه، فإنه يتعين عليه ما أحرم به إلا أن الواجب الأول. انتهى. -والله أعلم- قاله الحطاب.

وقوله: "وإتمامه" لخ، قال عبد الباقي: فإن أفطر فيه عمدا أو سهوا فعليه قضاؤه عند ابن شبلون وابن أبي زيد، وقال أشهب: لا يجب، وعليهما فيدخل في قوله:"وفي وجوب قضاء القضاء خلاف". انتهى. قوله: أو سهوا، فيه نظر لما يذكره بعد من أن الخلاف خاص بالعمد. انتهى. وقال الشارح بعد أن ذكر وجوب الإتمام عن ابن القاسم: ابن أبي زيد وابن شأس: فإن أفطر فعليه قضاؤه، ولأشهب لا شيء عليه. انتهى.

وفي وجوب قضاء القضاء خلاف؛ يعني أن من شرع في قضاء يوم عليه من رمضان، أو تطوع أفطر فيه عمدا ثم أفطر في قضائه عمدا، اختلف هل يجب عليه قضاء يومين؛ يوم لرمضان مثلا، ويوم لقضاء قضائه وهو رواية سحنون عن ابن القاسم وقاله مالك، أو إنما يجب عليه قضاء يوم واحد لأنه الأصل والقضاء ليس مقصودا لذاته وهو رواية يحيى عن ابن القاسم أيضا؟ وشهر ابن الحاجب القول بعدم وجوب قضاء القضاء، وذكر الشارح في الصغير عن وجيز ابن غلاب أن المشهور وجوب قضاء القضاء، وظاهر القول الأول ولو تسلسل، وبه جزم ابن عرفة وابن رشد،

ص: 211

ونصه في القول الأول: ثم إن أفطر بعد ذلك متعمدا في قضاء القضاء كان عليه صيام ثلاثة أيام، اليوم الذي كان ترتب في ذمته بالفطر في رمضان وبالفطر متعمدا في صيام التطوع، ويوم لفطره في القضاء متعمدا، ويوم لفطره في قضاء القضاء.

وبما قررت علم أن محل الخلاف في الفطر عمدا؛ لأنه إن أفطر سهوا اتفق على عدم وجوب قضائه كما تفيده الذخيرة، خلافا لمن قال: إن الخلاف جار في فطره سهوا، فإن قيل: التطوع إذا أفطر فيه ساهيا لا يقضيه، وإذا أفطر في قضائه سهوا متعمدا فطر أصله في قضاء ذلك السهو خلاف، فجرى فيه خلاف، ولم يكن كأصله المُفْطَرِ فيه سهوا؟ فَالْجَوابُ أن قضاء التطوع واجب ابتداء بخلافه، وَإن قِيل: القول بعدم وجوب قضاء القضاء فيمن تعمد فطره، والاتفاق على عدم وجوب قضائه بفطره ناسيا كل منهما يشكل على قوله: وقضى في الفرض مطلقا؛ لأن صوم القضاء فرض؟ فَالجَوابُ أنه لما وجب قضاء الأصل بغيره، وألغي اعتباره لحصول الفطر فيه عمدا أو سهوا في كونه قضاء عن الأصل ونائبا عنه لم يطلب قضاؤه، وفارق النفل في وجوب قضائه في الفطر عمدا؛ لأنه لم يأت نائبا عن شيء، وإنما قصد لذاته بخلاف فطره عمدا في قضائه، فإنه مقصود لا لذاته، بل للنيابة عن غيره. قاله الشيخ عبد الباقي. وأدب المفطر عمدا، قوله:"وأدب" بصيغة الاسم، عطف على فاعل وجب؛ يعني أن الشخص إذا أفطر عمدا من غير عذر في رمضان، فإنه يجب تأديبه بما يراه الإمام، من ضرب أو سجن أو هما مع الكفارة، ليُجْمَع عليه عقوبة البدن والمال، وأما في النفل فلا أدب لاختلاف المذاهب، ولو كان فطره يوجب الحد كزنى وشرب خمر لَحُدَّ مع إقامة الأدب والكفارة، وإن كان رجما قدم الأدب عليه. قاله غير واحد. واستظهر المسناوي سقوط الأدب في هذا؛ لأن القتل يأتي علي الجميع وقد أتي علي بالنجاشي الشاعر وقد شرب خمرا في نتهر رمضان، فضربه الحد، ثم ضربه عشرين أو بضع عشرة، وقال: هذا لاجترائك على الله تعالى في شهر رمضان، وجاء أنه ضربه الحد ثم سجنه، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، وقال: هذه العشرون لجرأتك على الله تعالى وفطرك في شهر رمضان. قاله الشبراخيتي.

ص: 212

وقد مر أن قوله: "وأدب" بصيغة الاسم عطفا على فاعل وجب، وعلى ذلك شرحه عبد الباقي، وقال الشبراخيتي عن الأجهوري: الأولى قراءته بالفعل. انتهى. ويأتي توجيهه لذلك إلا أن يأتي تائبا؛ يعني أن المفطر عمدا إذا أتى الإمام تائبا قبل الاطلاع عليه فإنه يسقط عنه الأدب، ولا خصوصية لهذا بهذا، بل سائر من وجب عليه أدب بحق الله تعالى إذا جاء تائبا يثبت له هذا الحكم. قاله الخرشي.

وقد مر عن الشبراخيتي أن قوله: "وأدب" الأولى أن يقرأ بالفعل، ويكون الاستثناء باعتبار ظاهر اللفظ؛ أي وأدب إلا أن يأتي تائبا فلا يؤدب، فيصدق بعدم جواز التأديب لأنه على قراءته بالاسم يكون معطوفا على فاعل وجب، فيكون وجوب التأديب صريحا، فيشكل الاستثناء، بخلاف قراءته بالفعل فإنه لا يكون وجوب التأديب صريحا، فلا يشكل الاستثناء نظرا لظاهر اللفظ وهو التأديب لا للمعنى؛ وهو وجوب التأديب. انتهى. وقوله:"إلا أن يأتي تائبا"؛ أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعَاقب السائل ولم يعنفه، ولو عوقب لخشي أن لا يأتي أحد يستفتي. اللخمي: ويجري فيه قول أنه يعاقب، قياسا على شاهد الزور إذا جاء تائبا. انظر التوضيح. وإطعام مده صلى الله عليه وسلم لمفرط في قضاء رمضان لمثله قوله:"وإطعام"، معطوف على فاعل وجب، وهذا شروع من المصنف -عليه رحمة السلام، وجمعني وإياه في دار السلام- في الكفارة الصغرى؛ يعني أن من فرط في قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر، فإنه يجب عليه أن يكفر بأن يطعم عن كل يوم يقضيه مدا لمسكين، كما قال: عن كل يوم لمسكين، قوله:"عن كل"، متعلق بقوله:"إطعام"، وكذا قوله:"لمسكين"، وأما قوله:"لمفرط"، فاللام فيه بمعنى: على؛ وهو متعلق "بوجب"، كما في الشبراخيتي، وأما قوله:"لمثله"، فاللام فيه للانتهاء، بمعنى: إلى، وهو متعلق بقوله:"لمفرط"، والضمير فيه عائد على رمضان. والله سبحانه أعلم.

وقوله:. "لمفرط"، قال عبد الباقي: ولو عبدا أو سفيها، كان التفريط حقيقة أو حكما، كناسي القضاء لا المكره على تركه والجاهل، فإنه يجب تقديمه على رمضان التالي له، فليسا بمفرطين كمسافر ومريض. انتهى. قال محمد بن الحسن: كون الناسي مفرطا يجب عليه الإطعام، قال

ص: 213

البرزلي: هو ظاهر المدونة، ونقل عن السيوري كما في الحطاب أنه لا إطعام، وأنه ليس مفرطا، قال بعض الشيوخ: وهو الظاهر. ثم إذا قلنا إن الناسي [مفرطٌ

(1)

]، فالجاهل أحرى؛ إذ لا يكون الجاهل أعذر من الناسي، فما ذكره الزرقاني من أن الجاهل ليس مفرطا والناسي مفرط غير ظاهر، ولا يتكرر الإطعام بتكرر المثل، فلو قال: لمثله أو أكثر لوفى بذلك، فإن لم يفرط كما إذا مرض أو سافر فلا يلزمه الإطعام كما يأتي قريبا: ولو فرط في ثاني عام والأظهر لا كفارة إن ظن شعبان كاملا فإذا هو ناقص. قاله الأمير.

وقال: إن السفر ليس بعذرة وقال ابن الحاجب: ولا يجب قضاء رمضان على الفور اتفاقا، فإن أخره إلى رمضان ثان من غير عذر فالفدية اتفاقا، فلو مرض أو سافر عند تعين القضاء ففي الفدية قولان. انتهى. قال في التوضيح: أي لو لم يبق لرمضان إلا قدر ما عليه فمرض أو سافر حينئذ وهو مراده بقوله عند تعين القضاء. انتهى. وقوله: "لمسكين"، أي فلا يجزئه أن يعطيه مدين عن يومين، ولو أعطاه كل واحد في يومه حيث التفريط بعام واحد، فإن كانا عن عامين جاز، وكذا إن تغاير السبب كمرضع أفطرت وفرطت لكن مع الكراهة كما استظهره المصنف.

وعلم من هذا أن المرضع إذا أفطرت أنها تطعم؛ وهو المشهور دون الحامل، فلا إطعام عليها كما مر، وإذا لم تقض الحامل حتى دخل عليها رمضان آخر فلا كفارة عليها؛ لأنها مريضة ما دامت حاملا. قاله عبد الباقي.

ولا يعتد بالزائد؛ يعني أنه إذا دفع لمسكين واحد أكثر من مد فإنه لا يعتد بذلك الزائد على المد، وله نزعه إن بقي وَبَيَّنَ، ويفهم من المصنف أنه يعتد بالمد وهو كذلك، ونبه المصنف بقوله:"ولا يعتد بالزائد"، على خلاف الشافعي القائل بالإجزاء. إن أمكن قضاؤه بشعبان؛ هو راجع لقوله:"لمفرط"، وهو إيضاح له، فلو حذفه كان أولى لأنه ليس بشرط حقيقة، وإنما هو إيضاح للمفرط في قضاء رمضان لمثله، ووقع للمصنف نحو هذا في غير موضع، كقوله في باب الزكاة:"وعدم كفاية بقليل" لخ، وكقوله في الصداق:"ولكل تحليف الآخر فيما يفيد إقراره إن لم تقم بينة"، ومعنى كلام المصنف أن لزوم الإطعام للمفرط في قضاء رمضان لمثله إنما هو حيث أمكن قضاء ما عليه

(1)

في الأصل مفرطا والمثبت من بناني ج 2 ص 216.

ص: 214

بشعبان؛ أي بقدر ما عليه من رمضان الذي يليه قبله؛ بأن يكون صحيحا مقيما خاليا من الأعذار حين تعين القضاء؛ أي حين بقي من شعبان قدر ما عليه، وأما إن بقي من شعبان قدر ما عليه، فمرض أو سافر أو نفست أو حاضت أو أغمي عليه أو جن، فإنه لا يجب عليه إطعام، ولو كان فيما قبل من الأيام متمكنا لا عذر له، فقوله:"إن أمكن قضاؤه"؛ أي الصوم أو المكلف، لا إن اتصل مرضه، هذا مفهوم قوله:"إن أمكن قضاؤه" لخ؛ يعني أنه إذا اتصل مرضه من القدر الواجب عليه إلى تمام شعبان، فلا إطعام عليه، وليس معنى قوله:"إن اتصل مرضه"، أنه اتصل من رمضان إلى رمضان كما هو ظاهره، ليلا يكون ماشيا على غير المشهور، وذلك لأنه إذا اتصل مرضه من رمضان إلى رمضان لا إطعام عليه اتفاقا، وإن مرض بقدر ما عليه في شعبان لا إطعام عليه على المشهور، قال في التوضيح: وذهب بعضهم إلى أن مراعاة ذلك في شهر شوال بعد رمضان الذي أفطره، فمتى مضى عليه عدد أيام ما أفطر وهو صحيح مقيم ولم يصم حتى دخل عليه رمضان آخر وجبت عليه الفدية، ولو كان لا يقدر على الصوم في بقية الحج، وهذا المذهب أسعد بظاهر الكتاب، ثم قال في التوضيح: وعلى هذا فكان الأولى أن يقول -يعني ابن الحاجب-: فلو مرض أو سافر بعد مضي أيام يمكنه فيها القضاء. والله أعلم. انتهى. يشير إلى قول ابن الحاجب الذي قدمت عند قوله: "عن كل يوم لمسكين"، وهو: ولا يجب قضاء رمضان على الفور اتفاقا، فإن أخره إلى رمضان ثان من غير عذر فالفدية اتفاقا، فلو مرض أو سافر عند تعين القضاء ففي الفدية قولان. انتهى. قوله: في بقية الحج؛ أي أشهر الحج. قاله جامعه عفا الله تعالى عنه. والله سبحانه أعلم.

وقال في التوضيح أيضا: قال سند: إذا أمكنه القضاء فلم يقضه حتى مات، فالمذهب أنه لا إطعام عليه في ذلك؛ وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي: عليه الإطعام. انتهى.

واعلم أن شعبان الذي يعتبر فيه التفريط وعدمه: شعبان الواقع في السنة التي تلي سنة رمضان الذي القضاء له، فمن لم يصم رمضان سنة إحدى وثلاثين مثلا، ولم يمكن له القضاء لمرض -مثلا- وصام رمضان سنة اثنين وثلاثين، ولم يقض حتى دخل شعبان سنة ثلاث وثلاثين، وأمكنه القضاء ولم يقض حتى صام رمضان سنة ثلاث وثلاثين، فلا كفارة عليه؛ لأنه لم يفرط في

ص: 215

القضاء في شعبان الواقع في السنة التي تلي سنة رمضان الذي القضاء له، ولو لم يصم في الفرض المذكور رمضان سنة اثنين وثلاثين، فإن فرط في قضائه في شعبان سنة ثلاث وثلاثين كان عليه فيه وحده الكفارة، قال غير واحد: قال الشيخ أحمد: ومقتضى كلام المصنف أن من عليه خمسة أيام من رمضان، ثم ترك قضاءها أول شعبان وأخرها إلى أن بقي منه أيام، فمرضها إلى أن دخل رمضان يلزمه الإطعام، والنص أنه لا إطعام عليه في هذا الفرض، وهو مقدم على المقتضى، وقوله:"مرضه"، صوابه: عذره، ليشمل السفر والإغماء والجنون والحيض والنفاس والإكراه، وقال أحمد عقب ما مر عنه: انظر فيمن عليه ثلاثون يوما ثم صام من أول شعبان فكان تسعة وعشرين، هل عليه الإطعام أي ليوم أم لا؟ والظاهر الثاني. انتهى. أي لأن هذا لم يفرط في القضاء بشعبان وهو ظاهر، ويفهم من المسألة المتقدمة المنصوصة بالأولى. قاله عبد الباقي.

وقوله: مع القضاء، متعلق "بإطعام"؛ يعني أن الإطعام المذكور يندب أن يكون مع القضاء، فكل ما أخذ يقضي يوما أخرج مدا. أو بعده؛ يعني أن المفرط بالخيار بين أن يطعم مع القضاء فكلما أخذ يقضي يوما أطعم مدا، وبين أن يطعم بعد القضاء، يحتمل بعد مضي كل يوم، ويحتمل بعد فراغ أيام القضاء فإن أخرجها بعد الوجوب وقبل الشروع في القضاء، خالف الندب وأجزأه ذلك، فإن قدمها حين إمكان القضاء بشعبان فلا تجزئ؛ إذ لا وجوب عليه مع الإمكان بشعبان، والوجوب يحصل بدخول رمضان الثاني، بأن لا يبقى من شعبان ما يفعل فيه، فمن عليه عشرة أيام مثلا فلم يصمها تفريطا حتى بقي من شعبان يومان؛ فإن الثمانية الماضية وجبت فيها الكفارة قبل مضي شعبان، فيجزئ الإخراج عنها حينئذ على الراجح، بخلاف اليومين الباقيين فلا يجزئ الإخراج عنهما لتمكنه من قضائهما. ابن حبيب: المستحب كلما صام يوما أطعم مسكينا، ومن قدم الإطعام أو أخره أو فرقه أو جمعه أجزأه، وفي الجلاب: إذا قدمه قبل القضاء أو أخره أجزأه، والاختيار أن يطعم مع القضاء.

واعلم أن إطعام المرضع والهرم والعطش كإطعام المفرط في أن كلا من ذلك مد عن كل يوم لمسكين. ومنذور؛ معطوف على فاعل وجب، والضمير عائد على الصوم أو المكلف أو الناذر؛ يعني أنه يلزم المكلف الوفاء بما نذره من الصوم يوما أو يومين أو أكثر، معينا أو غير معين وكذا يلزمه؟

ص: 216

منذوره من أي نوع من أنواع البر كالصدقة والحج والصلاة والاعتكاف، ونحو ذلك كما يأتي في باب النذر، ومن قال: لله تعالى علي صوم ولم ينو شيئا لزمه يوم، ويستحب ثلاثة أيام، ولو قال: الصيام يلزمني ولا نية له، لزمه ثلاثة أيام عند المشذالي، وبحث فيه الحطاب، وقال: الصواب أن يلزمه يوم واحد على قولهم: الطلاق يلزمه ولا نية له، فإنما تلزمه واحدة.

ابن عرفة: وفطر ناذر الدهر نسيانا أو لعذر لغو وعمدا في كونه كذلك، ولزوم كفارة التفريط أو الانتهاك قولا سحنون وابن حبيب مع روايته فيه، وفي صوم من نذر الاثنين والخميس أبدا. انتهى. نقله الحطاب هنا، وقد قدم عند قوله:"في رمضان فقط"، عن التوضيح فيمن نذر صيام الدهر ثم أفطر يوما متعمدا كافة الناس لا شيء عليه وليستغفر الله، وقدم عنده عن سحنون قولا بكفارة التفريط في فطره عمدا، وقولا لسحنون أيضا بكفارة الانتهاك. والله سبحانه أعلم. ومن نذر صوم نصف يوم لزمه إتمامه، وقيل: يسقط لأنه لم ينذر طاعة، وهل يتخرج على ذلك كل نذر نصف عبادة كركعة أو نصف حج، ذكر اللخمي في هذا الأصل خلافا مخرجا على نذر اعتكاف ليلة، هل يلزمه يومها وهو مذهب ابن القاسم، أولا يلزمه شيء؟ ومن قال: لله تعالى علي أن أصوم هذا الشهر يوما صام يوما واحدا منه، وإن نذر أن يصوم هذا اليوم شهرا فليصم مثل ذلك اليوم ثلاثين يوما، فإن كان يوم خميس مثلا لزمه أن يصوم ثلاثين يوما كلها يوم خميس، ووجه ما قبلها أنه جعل اليوم بدلا من الشهر بدل بعض من كل، أو جعل اليوم مفعولا به والشهر ظرفا، ومن قال: علي صوم المسلمين لزمه صوم يوم فقط، ولو قال: نذرت غدا يوم الجمعة أو عكسه فإذا هو الخميس، فالعبرة بما عول عليه في نيته، فإن لم يكن فالأظهر ما قدمه. قاله الأمير.

والأكثر، عطف على فاعل وجب، يعني أنه إذا احتمل لفظ الناذر أن يراد به واحد من عددين أحدهما أكثر من الآخر، فإنه يلزمه الأكثر احتياطا حيث لا نية له بواحد منهما، وإلا عَمِلَ على ما نوى إن احتمله لفظه؛ أي إذا أتى الناذر بلفظ يحتمل أن يراد به عدد وعدد أقل منه، فإنه يلزمه الأكثر احتياطا كما قررت، ومثل المصنف لذلك بقوله: كشهر؛ يعني أن الشخص إذا قال: لله تعالى علي صوم شهر، فإنه يلزمه أن يصوم ثلاثين يوما.

ص: 217

وبما قررت علم أن قوله: "ثلاثين"، معمول ليصوم مقدرا؛ أي فيصوم ثلاثين، وقد علمت أن الشهر يحتمل ثلاثين يوما، ويحتملى تسعة وعشرين يوما، إن لم يبدأ بالهلال؛ يعني أن محل لزوم صوم ثلاثين لمن نذر صوم شهر، إنما هو فيمن لم يبدأ الصوم بالهلال، وأما إن بدأ بالهلال بأن صام أول يوم منه واستمر صائما حتى انقضى ذلك الشهر الذي بدأ بأول يوم منه فإنه يجتزئ به كان ثلاثين يوما، أو تسعة وعشرين يوما، ويلزمه إتمامه إذا كان كاملا، ومن نذر نصف شهر ولا نية له، لزمه خمسة عشر يوما إن لم ينذره بعد مضي النصف، فإن نذر نصفه بعد مضي نصفه كمله حيث كان كاملا، وكذا إن كان ناقصا على المشهور فيكمله خمسة عشر؛ لأنه كمن نذر أربعة عشر ونصفا، وقد مر أن من نذر نصف يوم لزمه إتمامه، وقيل يسقط، ومقابل المشهور أنه يصوم أربعة عشر فقط وهو لابن الماجشون، ووجهه أنه لم ينذر طاعة، وقوله:"فثلاثين"، هو مذهب المدونة، وقال ابن عبد الحكم: يجزئه أن يصوم تسعة وعشرين؛ لأن الأصل براءة الذمة، ومحل الخلاف إن لم يبدأ بالهلال وإلا لزمه إتمامه كاملا أو ناقصا اتفاقا، وعورض ما للمصنف هنا بما في كتاب الحج أن من قال: لله علي هدي أجزأته شاة، فقياس ما هنا أن تلزمه بدنة، وفرق بأن الأصل في الشهر ثلاثون، وأما الهدي فلم يتقرر له أصل فأجزأه أدناه، وبأن المال يشق فلزمه الأقل، ولذا لزم من قال مالي في سبيل الله تعالى ثلث ماله تخفيفا.

وبما قررت علم أن قوله: والأكثر، يدخل فيه ما إذا نذر نصف شهر، أو ثلث شهر، أو ربع شهر، أو نحو ذلك. والله سبحانه أعلم. وابتداء سنة؛ يعني أن الشخص إذا نذر صوم سنة بأن قال: لله تعالى علي صوم سنة؛ وهي الصيغة الآتية، فإنه يلزمه أن يبتدئ صوم سنة كاملة، أي يلزمه أن يصوم سنة كاملة؛ بأن يصوم اثني عشر شهرا، ولا يكتفي بصوم باقي السنة؛ أي بما بين وقت قوله ذلك والمحرم من الزمن، وليس المراد بالابتداء الشروع في الصوم من حين النذر أو الحنث، وحينئذ فالأحسن أن يقول: وأتى بسنة لأنه أصرح في المراد، وإن أجيب عنه بأن المراد بالابتداء الاستيناف والاستقبال لا الشروع، كما أشرت إلى ذلك في أول الحل. والله سبحانه أعلم. وقضى ما لا يصح صومه؛ يعني أن الشخص إذا قال: لله تعالى علي صوم سنة، فإنه يلزمه أن يصوم اثني عشر شهرا، ويلزمه أن يقضي ما لا يصح فيه صوم النذر كالعيدين، وتاليي النحر،

ص: 218

وأيام الحيض والنفاس، ورمضان، ويوم نذره قبل ذلك مكرر، ككل خميس ونحو ذلك، وجعل الشارح والحطاب والتتائي مما لا يصح صومه رابع النحر، وهو الذي في المواق عن المختصر وغيره، وقال عقبه: وهذا بين لأنها سنة غير معينة، فصار اليوم الرابع لم ينذره، وهو لا يصومه إلا من نذره قال محمد بن الحسن: فمراد المصنف ما لا يصح صومه أصلا أو لا يصح صحة كاملة. انتهى. وهذا هو الصواب كما قاله الرماصي، وما صام من هذه السنة بالأهلة احتسب به، وما أفطر فيه من المشهور فإنه يكمله ثلاثين، وفي شرح الشيخ عبد الباقي أن هذا الناذر لا يلزمه قضاء رابع النحر إذا صامه، ورد عليه ذلك محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وقضى"، في إطلاق القضاء هنا تجوز؛ لأنها ليست بأيام من سنة معينة فاتت فتقضى، إنما هي في الذمة.

في سنة، راجع لقوله:"وابتداء سنة" لخ؛ يعني أن من قال لله تعالى علي صوم سنة، يلزمه أن يستأنف صوم سنة كاملة، ويقضي الأيام التي لا يصح صومها في النذر على ما مر بيانه، فقوله:"في سنة"، متعلق "بوجب"، ومعناه: وجب في قوله: لله تعالى علي صوم سنة ابتداء الخ. إلا أن يسميها؛ يعني أن ما تقدم من لزوم صوم السنة وقضاء ما لا يصح صومه إنما هو حيث كانت السنة المنذورة مبهمة كما مر، وأما إن كانت السنة معينة، بأن سماها كأن يقول: لله تعالى علي صوم سنة اثنتين وستين بعد المائتين والألف مثلا، فإنه يلزمه أن يصوم الباقي منها؛ أي ما قبل المحرم، حيث قال ذلك في أثنائها.

والحاصل أن المعينة تفترق هي والمبهمة في ثلاث: الفورية، والمتابعة، ورابع النحر، فتجب في المعينة دون المبهمة. أو يقول هذه، عطف على قوله:"أن يسميها"، فهو في حيز الاستثناء؛ يعني أن الشخص إذا قال: لله تعالى علي صوم هذه السنة؛ وهو في أثناء السنة المذكورة مثلا، فإنما يلزمه الباقي منها، أي ما قبل المحرم، هذا إذا نوى الباقي، كما أشار إلى ذلك بقوله: أو يَنوِيَ بَاقِيَها. فإذا قال وهو في رمضان: لله تعالى علي صوم هذه السنة، ونوى الباقي منها، فإنه يلزمه صوم شوال، وذي القعدة، وذي الحجة، وأما الباقي من رمضان فإنه يصومه لكونه من رمضان لا

ص: 219

للنذر، فقوله: فهو، الفاء داخلة على مبتدإ مقدر، والضمير خبره؛ أي فاللازم له هو أي الباقي في الصورتين؛ أي فيما إذا سماها، وفيما إذا قال هذه ونوى باقيها.

وبما قررت علم أن قوله: "وينوي باقيها"، إنما هو قيد في الأخيرة لا التي قبلها، ويلزم الابتداءُ في المسألتين من حين النذر، أو الحنث، ومتابعةُ الصوم، ورابع النحر. ولا يلزم القضاء؛ يعني أنه لا يلزم القضاء لما فات من السنة في الصورتين قبل النذر أو الحنث، ولا قضاء ما لا يصح صومه فيما بعد النذر أو الحنث: ولا ما يجب كرمضان كما في ابن عرفة، ولا ما أفطره لمرض أو حيض كما قدمه، بقوله: إلا المعين لمرض أو حيض، ومفهوم قوله:"أو ينوي باقيها"، أنه إن لم ينو باقيها فإنه يكون كنذر سنة مبهمة في وجوب ابتداء سنة كاملة. وقضاء ما لا يصح صومه لا في غير ذلك من الأحكام كالفورية والتابعة، فإنهما واجبتان في هذه دون المبهمة. قاله محمد بن الحسن.

وقوله: "وينوي باقيها"، بالواو كما في بعض النسخ، وفي بعضها بأو وهي بمعنى الواو، فالمصنف إنما اشتمل فيما بعد الاستثناء على المسألتين، ومن نذر صوم يوم الخميس مثلا أبدا، ثم نذر بعد ذلك صيام سنة بعينها يصوم اليوم الذي نذره لنذره ولا يقضيه لتلك السنة، كما لا يقضي رمضان ولا أيام الأعياد والأعذار. بخلاف فطره لسفر؛ يعني أن من أفطر في النذر المعين كما في هاتين المسألتين لأجل سفر، يلزمه أن يقضي ما أفطره لأجل سفره، ومثل السفر الإكراه والنسيان. وصبيحة القدوم في يوم قدومه؛ يعني أن الشخص إذا نذر صوم يوم قدوم فلان، كقوله: لله تعالى علي صوم يوم قدوم زيد من سفره، فإنه يلزمه أن يصوم صبيحة قدوم زيد، والمراد بالصبيحة اليوم كله لا أوله فقط، ومحل لزوم صوم يوم قدوم زيد لهذا الناذر، إنما هو إن قدم زيد ليلة يوم غير يوم عيد فطر أو أضحى.

ومثل العيد ما منع صومه لمانع كحيض أو نفاس، أو لكونه لا يصام لنذر كرمضان، ولو أبدل عيدا بعذر لشمل ما ذكر، وإلا يقدم زيد ليلة غير عيد؛ أي عذر، بل قدم نهارا أو ليلة عيد أو حيض أو نفاس أو رمضان، فلا يلزمه صوم ذلك اليوم ولا قضاؤه.

ص: 220

قال الشيخ عبد الباقي بعد كلام: فتلخص أنه متى قدم ليلة يصام يومها تطوعا لزمه صومه فقط إن لم يقيد بأبدا، ومماثله أيضا إن قيد بأبدا. ومتى قدم ليلة عيد لم يلزمه قضاؤه ولا صوم مماثله إن قيد بأبدا. ومتى قدم نهارا غير عيد لم يلزمه قضاؤه صيم تطوعا أم لا، ولزمه مماثله إن قيد بأبدا، وقوله:"وإلا فلا"، محله ما لم ينو مطلق الزمن فيلزمه صوم يوم، والظاهر اللزوم إذا لم يعلم هل قدم نهارا أو ليلا؟ احتياطا، وانظر لو قدم به ميتا ليلة غير عيد ونحوه، هل يلزمه الصوم أم لا؟ انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: والذي يظهر أنه لا يلزمه شيء. والله سبحانه أعلم. انتهى. وقال الأمير: وإلا بأن قدم نهارا أو ليلة كعيد فلا إلا أن ينوي التأبيد، فمثله كل أسبوع، ظاهره ولو في العيد وهو ما قواه بناني، ورد على الأجهوري وعبد الباقي. انتهى. وقال محمد بن الحسن: والظاهر أنه لا فرق بين العيد وغيره في لزوم صوم مماثله من الأسبوع إن قيد بأبدا؛ لأن المتبادر من ذلك هو المماثل في الأسبوع لا المماثل في الصفة. انتهى.

وفي المدونة: من نذر صوم يوم قدوم فلان فقدم ليلا، صام صبيحة تلك الليلة، وإن قدم نهارًا وبَيَّتَ الناذر الفطر فلا قضاء عليه، وإن نذر صوم يوم قدومه أبدا، فقدم يوم الاثنين صام كل اثنين فيما يستقبل، ومن نذر صوم غد فإذا هو يوم الفطر أو يوم الأضحى وقد علم به أم لا فلا يصومه ولا قضاء عليه فيه. أبو الحسن: هذا على أحد قولي مالك: هذا فيمن نذر صوم ذي الحجة، وعلى القول الآخر عليه، وهذا إذا علم أنه يوم الفطر أو الأضحى، وأما إن لم يعلم فلا قضاء عليه، ومن حلف ليصومن غدا فإذا هو يوم الفطر أو الأضحى لا شيء عليه لأنه إنما أراد صياما يثاب عليه. انتهى. قاله الحطاب عن العتبية.

وصيام الجمعة إن نسي اليوم؛ يعني أن الشخص إذا نذر صوم يوم معين، وقال: من جمعة وأحدة، ونسيه فإنه يلزمه أن يصوم الجمعة كلها، أي يلزمه أن يصوم أيام الأسبوع كلها، هذا هو القول المشهور، واختاره اللخمي، ولهذا قال: علي المختار، وقيل: يصوم، أي يوم شاء، وقيل: يصوم آخر الأيام وهو يوم الجمعة، وهذه الأقوال نقلت عن سحنون، وآخر أقواله أنه يصوم جميعها، واستظهر للاحتياط.

ص: 221

وبما قررت علم أن قول المصنف: "على المختار"، صواب، فقول عبد الباقي: صوابه على ما اختير غير صحيح، قال ابن الحاجب: ولو نذر يوما بعينه ونسيه فثلاثة يتخير وجميعها وآخرها. انتهى.

التوضيح: الأقوال كلها نقلت عن سحنون، وآخر أقواله أن يصومها جميعها واستظهر للاحتياط. انتهى. وفي المواق: الذي رجع إليه سحنون أن من نذر صوم يوم بعينه فنسيه أنه يصوم الجمعة كلها. انتهى. نقله محمد بن الحسن. وقال عقبه: فتبين أن ما اختاره اللخمي هو قول سحنون، لا من عند نفسه. انتهى. وأما إن نذر صوم يوم قدوم زيد ونسي يوم قدومه، فإنه يصوم أي يوم شاء، فإن نذر صوم يوم القدوم أبدا ثم نسيه، ففي سماع ابن القاسم أنه يصوم اليوم الآخر من الجمعة أبدا وهو يوم الجمعة، وقال اللخمي: آخر قول سحنون أنه يصوم الدهر وهو الأقيس. انتهى. وأما إن نذر صوم يوم بعينه ولم يقل من جمعة، فإنه يلزمه أيضا صومها وليس للخمي فيها اختيار. قاله الشيخ عبد الباقي. ولو صام اليوم المعين الذي نذره فأفطر فيه ناسيا، ثم نسي أي يوم كان من الجمعة أجزأه صوم يوم واحد، فلو ظن أنه يوم بعينه فنواه لقضائه، ثم انكشف أنه غيره، فالظاهر عندي أنه لا يجزئه. قاله ابن رشد. نقله غير واحد. وقال الشيخ الأمير: فإن نذر يوما يأتي ونسيه صام الأسبوع، وقيل آخره فإنه هوأو قضاؤه، وعلى الأول إن نذر مكررا صام الدهر، وعلى الثاني يفطر ستة ويصوم يوما. انتهى.

ورابع النحر لناذره؛ يعني أن الشخص إذا نذر صوم يوم رابع النحر، فإنه يلزمه صومه سواء نذره غير معين، ككل خميس أو يوم قدوم زيد وقدم ليلا فوافق رابع النحر، وصوم سنة معينة يجب فيها تتابع الصوم أو نذره معينا، كلله تعالى علي صوم رابع النحر، كما قال المصنف. وإن تعبينا، وإنما لزمه إعمالا للنذر ما أمكن.

واعم أن صوم رابع النحر يكره تطوعا قال المصنف: وانظر لِمَ أُلْزِمَ بالنذر ما صومه مكروه، ويمكن أن يجاب بأن لهذا اليوم جهتين: جهة تضعف كونه من أيام التشريق المنهي عن صومها من أنه لا ينحر فيه عند مالك، ولا يرمي فيه المتعجل، وفيه جهة أخرى وهي أنه يوم نحر عند بعضهم، ويرمي فيه غير المتعجل، وشمول اسم أيام التشريق له فشمله النهي، فغلبنا الجهة

ص: 222

الأولى لما اقتضاه النذر من الوجوب احتياطا لبراءة الذمة، ولما لم يعارض الكراهة ما هو أقوى منها غلبت عليه، فقلنا: لا يصام تطوعا إعمالا للجهتين، ولا يقال: إعمال الجهتين باطل من أصلة؛ لأن حديث زمعة دليل على حجة

(1)

القول به، وأما نذر سنة لا يجب تتابعها، فقد مر أنه لا يصام فيها رابع النحر، ومما يجب فيه التتابع كفارة الظهار فيصام فيها رابع النحر.

واعلم أن في صوم رابع النحر ثلاثة أقوال: الكراهة إلا لمن نذره أو كان في صيام متتابع قبل ذلك وهذا هو المشهور، وقيل بإباحته، وقيل بتحريمه. انظر الحطاب.، لا سابقيه؛ يعني أن سابقي رابع النحر، وهما اليومان اللذان بعد يوم النحر، إذا نذرهما أحد، فإنه لا يلزمه أن يصومهما بل يحرم، والمصنف نفى الوجوب، وهو لا يستلزم نفي الجواز. إلا المتمتع؛ يعني أن المتمتع إذا لم يجد هديا، أو القارن، أو من لزمه هدي لنقص في شعائر الحج ولم يجد هديا، فإنه يصوم اليومين اللذين بعد يوم النحر، والاستثناء منفصل لأن الحكم السابق في الناذر، وهذا في غير الناذر، والفدية مثل الهدي، وكلام التتائي يفيد أن جزاء الصيد كذلك، وكلام غيره يفيد أنه ليس كذلك. وقوله:"لا سابقيه" اعلم أن صومهما يحرم لغير المتمتع الذي لا يجد هديا على المشهور، وقيل: يكره، قال الحطاب: قال الشبيبي: واختلف في اليومين اللذين بعد يوم النحر لغير المتمتع الذي لا يجد هديا، أو من كان في معناه، فيمنع على المشهور من المذهب. انتهى. ثم قال: صح عنه في صيام اليومين اللذين بعد يوم النحر لغير المتمتع، وشبهه قولان: الكراهة والتحريم. انتهى.

لا تتابع سنة؛ يعني أن الشخص إذا نذر صوم سنة مبهمة، كقوله: لله تعالى علي صوم سنة، فإنه لا يلزمه تتابعها، فقوله فيما مر:"وابتداء سنة"، يعني مع ذلك أنه لا يلزمه تتابعها، أو شهر؛ يعني أن الشخص إذا نذر صوم شهر مبهم، كقوله: لله تعالى علي صوم شهر فإنه لا يلزمه تتابعه، أو أيام؛ يعني أن الشخص إذا نذر صوم أيام مبهمة، كقوله: لله تعالى علي صوم ثلاثة أيام، فإنه لا يلزمه تتابعها، وأما غير المبهم من ذلك فيلزم تتابعه، كلله تعالى علي صوم هذه السنة، أو هذا الشهر، أو الأيام السبعة الأول من المحرم، فالأيام إن عينها متتابعة لزمه تتابعها وإلا فلا، كما لو قال: لله علي صوم ستة أيام من المحرم، وقوله:"لا تتابع سنة أو شهر أو أيام"

(1)

في عبد الباقى ج 2 ص 218: صحة.

ص: 223

هذا إذا لم ينو تتابع ما ذكر، وأما إن نواه فإنه يلزمه كما هو مذهب المدونة، فَقَوْلُ عبد الباقي وغيره: وظاهره أنه لا يلزمه التتابع فيما ذكر، ولو نواه وهو كذلك على المشهور، وهو ما عزاه ابن عرفة لمالك، خلافا للتتائي -انتهى- غَيْرُ صَحِيحٍ كما قال محمد بن الحسن، ونصه قوله: وهو كذلك على المشهور لخ غير صحيح، بل مذهب المدونة لزوم التتابع إن نواه، ولا دليل له في كلام ابن عرفة، ونصه: ولو نذر سنة مبهمة ففي وجوب اثني عشر شهرا غير رمضان مطلقا، أو إلا أن ينوي تتابعها فكمعينة قولا المشهور واللخمي عن أشهب. انتهى.

وقال: قال مصطفى: استدلالة به غير صحيح لأن مراد ابن عرفة، هل بنية تتابعها تصير معينة في عدم قضاء ما لا يصح صومه أم لا؟ أما التتابع فلا بد منه عند نيته، وهذا ظاهر لمن تأمل وأنصف. انتهى.

وإن نوى رمضان في سفره غيره؛ يعني أن المسافر في رمضان سفرا يبيح له الفطر إذا صامه، ونوى بصيامه غير رمضان كتطوع أو نذر أو كفارة، فإنه لا يجزئه صومه ذلك عن واحد منهما، أي لا يجزئه عن رمضان ولا عن غيره، وَمَفهُومُ قوله:"في سفره"، أنه لو نوى الحاضر بصومه في رمضان عامة غيره كذلك أيضا، فإنه لا يجزئ عن واحد منهما لا رمضان ولا غيره. أو قضاء الخارج، يعني أن المسافر إذا نوى بصومه رمضان الذي هو فيه قضاء رمضان الخارج أي الذي مضى زمنه، فإن ذلك لا يجزئه أيضا عن واحد منهما، لا عن رمضان الذي هو فيه، ولا عن رمضان الماضي، وعليه للخارج إطعام للتفريط حيث فرط، ولا كفارة كبرى لرمضان الذي هو فيه لأنه مسافر سفر قصر، قال الشبراخيتي: ولا يخفى أن قوله: "أو قضاء الخارج"، يدخل فيما قبله، فلو حذفه لكان أخصر. انتهى.

ومفهوم قوله: "في سفره"، لو نوى الحاضر بصوم رمضان الذي هو فيه قضاء الخارج فإنه لا يجزئ عن واحد منهما أيضا كما مر، وقد مر عن أشهب أنه لا كفارة عليه، ومر عن ابن المواز أن عليه الكفارة الكبرى، وأما الصغرى فإن حصل التفريط لزمت وإلا فلا. وكون الشخص إذا صام رمضان الذي هو فيه ونوى به قضاء الخارج لا يجزئه عن واحد منهما، قال ابن الجلاب: إنه الصحيح من الأقوال، وقال ابن رشد: هو الصواب عند أهل النظر كلهم. ووجهه أن رمضان لا

ص: 224

يقبل غيره فلا يجزئ عن القضاء، وأما عدم إجزائه عن الأداء فلأنه لم ينوه، وقيل: يجزئ عن القضاء لأن الأعمال بالنيات، وقيل: يجزئ عن الأداء لأن رمضان لا يقبل غيره. أو نوأه ونذرا؛ يعني أن المسافر وكذا الحاضر، إذا صام رمضان عامة ونواه مع غيره كما إذا نواه ونذرا، أو نواه وكفارة، أو نواه وقضاء الخارج بأن شرك رمضان عامة وغيره في نيته، فإن ذلك لا يجزئ عن واحد منهما، لا عن رمضان عامة ولا عن غيره، وقال الأمير: وإن نوى برمضان غيره ولو في سفر أو شرك لم يجز عن واحد منهما، وكفر إن لم يتأول، ورجح في التشريك الإجزاء عن الحاضر لأنه صاحب الوقت. انتهى.

وبما قررت علم أن قوله: لم يجز عن واحد منهما جواب الشرط؛ أعني قوله: "وإن نوى برمضان" لخ، فهو راجع للمسائل الثلاث، أعني قوله:"وإن نوى برمضان في سفره غيره"، وقوله:"أو قضاء الخارج"، وقوله:"أو نواه ونذرا"، وهي مشتملة على ست عشرة صورة، ثمانية في المنطوق؛ أعني قوله:"في سفره، ومثلها في مفهومه وهو الحضر، وذلك أن قوله: "وإن نوى برمضان في سفره غيره"، اندرج فيه ثلاث صور: النذر، والكفارة، والتطوع، وقوله: "أو قضاء الخارج"، صورة، وقوله: "أو نواه ونذرا"، اندرج تحته أربع: أي نواه ونذرا، أو نواه وكفارة، أو نواه وتطوعا، أو نواه وقضاء الخارج، فهذه ثمان صور في السفر، ومثلها في الحضر، والحكم في الجميع أنه لا يجزئ عن واحد منهما، لا عن رمضان ولا عن غيره -كما مر- وعبارة الأمير تقتضي الكفارة مطلقا إن لم يتأول، قال ابن غازي: وخص المؤلف السفر؛ لأن الحضر أحرى، وقد مر الكارم على من نوى بصوم رمضان عامة قضاء الخارج عند قوله: والقضاء بالعدد بزمن أبيح صومه غير رمضان: والله سبحانه أعلم.

وليس لامرأة يحتاج لها زوج تطوع بلا إذن، يعني أنه إذا كان للمرأة زوج يحتاج لها في الجماع، فإنه لا يجوز لها أن تتطوع بالصوم إلا أن يأذن لها في ذلك، وكذا السرية، وأم الولد لا أمة خدمة أو عبد، إلا أن يضعفا به عن العمل، وقوله:"وليس لامرأة" لخ، وكذا لو استأذنته فمنع، ومثله ما أوجبته على نفسها، أو وجب عليها لكفارة، أو فدية، أو جزاء صيد. الشارح: أطلق التطوع ولم يقيده بالصوم حتى يدخل فيه نافلة الصلاة. انتهى. ومثل التطوع الفريضة مع سعة الوقت،

ص: 225

فإذا أحرمت به فله قطعها ومجامعتها، ونَظَّرَ فيه الباجي بأنها تريد براءة ذمتها والصلاة يسيرة وصوبه، وأشعر قوله:"يحتاج لها"؛ بأنه ليس له أن يفطرها بالأكل، ولو لم يأذن لها، وقوله:"وليس لامرأة يحتاج لها زوج تطوع بلا إذن"، لم يتعرض فيه المصنف لإفطارها إذا تطوعت بغير إذنه، قال العوفي: لو طلبها فقالت: صائمة -أي تطوعا- لم أطلع فيها على نص. انتهى.

قال عبد الباقي: والظاهر أن له إفطارها، وقال محمد بن الحسن: جزم ابن ناجي بأن له إفطارها كما في الحطاب، وسيأتي للمصنف أن له التحليل في تطوع الحج. انتهى. وكونه له أن يفطرها هو ظاهر كلام الشيخ أبي الحسن، ولا يجوز لها هي الفطر في نفسها كما يأتي عن الباجي، وفهم من قوله:"يحتاج لها"، أنها لو علمت أي أو ظنت كما بحثه المصنف أنه لا يحتاج لها صامت بغير إذنه، ولو جهل حاله فالأقرب الجواز، وفهم من قوله:"تطوع"، أنها لا تستأذن في قضاء رمضان زوجا ولا سيدا؛ وهو كذلك، وليس له أن يجبر الزوجة على تأخير القضاء لشعبان، وفهم منه أيضا أن المسلم لا يكره زوجته الذمية على الفطر في صومها الذي هو من دينها؛ وهو كذلك كما أنه ليس له منعها من شرب خمر وأكل خنزير وذهاب لكنيسة، وهو مذهب المدونة، ولا أن يكرهها على أكل ما يجتنبون في صيامهم أو يجتنبونه رأسا. ابن رشد: وهذا مما لا خلاف فيه. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: وحكم أم الولد والأمة التي للوطء كالزوجة، وأما الخادم التي للخدمة والعبد فليس عليهما استيذان السيد إذا لم يضر الصوم بخدمة السيد. قاله في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم. قال: وإذا أذن لهم في صيام التطوع لم يكن له أن يرجع في الإذن، وإن صاموه بإذنه لم يكن له أن يفطرهم. انتهى.

الباجي: من صام منهن ولو دون إذنه لم يجز فطره، وانظر هل للزوج إفطارهن. انتهى. وقد مر أن ابن ناجي جزم بأن له أن يفطرهن، وهو ظاهر كلام الشيخ أبي الحسن.

ولما أنهى الكلام على ما أراده من فروع الصوم، وكان من حكمة مشروعيته تصفية مرآة العقل والتشبه بالملائكة في وقته، أتبعه بالكلام على الاعتكاف التام التشبه بهم في استغراق الأوقات في العبادات وحبس النفس عن الشهوات وكف اللسان عما لا ينبغي، فقال:

ص: 226

‌باب: في الاعتكاف

وهو لغة: لزوم الشيء من خير أو شر، قال تعالى:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} ، وقال جل من قائل:{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} ، وخص شرعا بالعكوف على الخير. ابن العربي: جرت الشريعة على عادتها في قصر اللفظ المشترك على بعض متناولاته، أو تخصيص على بعض محتملاته. انتهى. ويقال: عكف يعكف بالضم والكسر عكفا وعكوفا: أقبل على الشيء مواظبا، واعتكف وانعكف بمعنى، وقيل: اعتكف على الخير وانعكف على الشر. وعرفه ابن عرفة بقوله: لزوم مسجد مباح لقربة قاصرة بصوم معزوم على دوامه يوما وليلة سوى وقت خروجه لجمعة أو معينه الممنوع فيه. انتهى.

اللزوم هنا الإقامة، وخرج بقوله: مباح، مسجد البيت، وخرج بقوله: لقربة ما إذا كان ملازما للمسجد لا لقربة: وقوله: قاصرة أخرج به المتعدية لأنها لا تكون في الاعتكاف، واللازم لها لا يصدق عليه أنه معتكف، وقوله: بصوم، الباء للمصاحبة، والصوم شرط على المشهور، وقيل: ركن، وقوله: معزوم صفة للزوم؛ لأن اللزوم بمعنى الإقامة، وهي أعم من أن تكون بنية العزم على الدوام أم لا، فلذا خصص اللزوم، وقوله: يوما وليلة، متعلق بدوامه، وهو أقل الاعتكاف، وقوله: سوى وقت خروجه لجمعة، فيه نظر؛ فإن خروجه للجمعة يبطل اعتكافه، فتعريفه الاعتكاف إنما يجري على الشاذ أن خروجه للجمعة لا يفسد الاعتكاف، كخروجه لحاجته، فقد علمت أنه خلاف المشهور، وقوله: أو لمعينه، يحتمل أن يكون بالنون وبالياء المشددة بعدها، والإضافة لضمير المعتكف أي لمقصوده الممنوع فيه أي المسجد، ويحتمل لمعينه بالياء التحتية ثم بالنون من التعيين صيغة اسم الفاعل، والضمير فيه عائد على الخروج أي الذي يعين عليه الخروج مما هو ممنوع في المسجد، كالبول والغائط والجنابة إذا احتلم ونحو ذلك. قاله الأجهوري. وقال محمد بن الحسن: الظاهر أنه بتشديد الياء مكسورة اسم فاعل من التعيين، والضمير للخروج، ومعينه كالبول والغائط والحيض والنفاس وغسل الجنابة، وقوله: معزوم على دوامه يفيد أنه لا بد فيه من النية، ولم يعرف المؤلف الاعتكاف، بل ذكر حكمه وأركانه وشروطه ومفسداته وآدابه وأعذاره: وحكمها من بناء وقضاء واستنان، فقال: الاعتكاف نافلة؛ يعني أن الاعتكاف نافلة أي مستحب متأكد، والمستحب دون السنة في الثواب، وليس سنة وإن فعله صلى

ص: 227

الله عليه وسلم لكنه لم يواظب عليه؛؛ لأنه تارة يعتكف وتارة لا يعتكف، فلا يصدق ضابط السنة عليه. قاله غير واحد. وقال محمد بن الحسن: إن كونه صلى الله عليه وسلم لم يواظب عليه غير صحيح. نقله عن مصطفى. ونقل عن العارضة ما نصه: سنة لا يقال فيه مباح، وقَولُ أصحابنا في كتبهم جائز جَهْلٌ. الأبي: يريد لوجود حقيقة السنة فيه؛ لأنه فعله صلى الله عليه وسلم وأظهره، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله

(1)

)، واعتكف أزواجه بعده. انتهى. ومثله لابن عبد السلام، ولفظ التوضيح: والظاهر أنه مستحب؛ إذ لو كان سنة لم يواظب السلف على تركه. انتهى. وما مشى عليه المصنف من أن الاعتكاف مستحب هو المشهور: وقيل بالكراهة، وأخذت مما رواه ابن نافع عن مالك: ما زلت أفكر في ترك الصحابة وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم حتى قبض وهم أتبع الناس لأموره وآثاره حتى أخذ بنفسي أنه كالوصال الذي نهى عنه عليه الصلاة والسلام وفعله، والمشهور عن مالك الأول. قاله الشارح. وفي الكافي: أنه في رمضان سنة، وفي غيره جائز، وفي العارضة: أنه سنة. قاله الحطاب.

وصحته لمسلم؛ يعني أن الاعتكاف إنما يصح من مسلم، فلا يصح من كافر لعدم صحة القُرَبِ منه وإن خوطب بها؛ لأن الإيمان شرط في صحة كل عبادة، وقد قدمت أن الذي يعمل بلا إيمان كالذي يبني في الهواء -نعوذ بالله تعالى- مميز؛ يعني أن الاعتكاف إنما يصح من المسلم -كما مر- الميز، لا من صبي غير مميز، ولا من مختبل، ولا مجنون ونحوهم، ويصح اعتكاف الصبي الميزت والرقيق، والمرأة. والمميز: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب؛ أي أنه إذا كلم بشيء من مقاصد العقلاء فهمه وأحسن الجواب عنه، لا أنه إذا دعي أجاب ولا ينضبط بسن، بل يختلف باختلاف الأفهام، قوله:"وصحته"، مبتدأ، وقوله:"لمسلم"، ظرف لغو يتعلق بالمبتدأ، وخبر المبتدأ قوله: بمطلق صوم؛ يعني أن الاعتكاف إنما يصح بالصوم سواء قيد بزمن كرمضان أو سبب كنذر وكفارة، أو كان مطلقا كتطوع فلا يصح من مفطر ولو لعذر: خلافا لابن لبابة القائل: إنه يصح من غير صوم، ولم يقل المؤلف بصوم مطلق ليلا يخرج رمضان والنذر والكفارة؛ لأن

(1)

البخاري، رقم الحديث:2026.

ص: 228

مطلق الصوم يفيد أن المراد الماهية، سواء قيدت أم لا، والصوم المطلق يفيد أن المراد الماهية بقيد، والأول أعم من الثاني، وهذا شيبة بقولهم: مطلق ماء والماء المطلق، ويفهم منه أن من لا يستطيع الصوم لا يصح اعتكافه، كالضعيف، والشيخ الكبير، وما قدمته من جعل الخبر قوله:"بمطلق صوم"، هو لغير واحد، وأما جعل الخبر قوله:"لمسلم"، فيلزم عليه الإخبار عن المصدر قبل الإتيان بمعموله، وقال محمد بن الحسن: الظاهر أنهما -أعني قوله: "لمسلم"، وقوله:"بمطلق صوم" - خبران.

ولو نذرا؛ يعني أن الاعتكاف المنذور يصح بمطلق صوم، فلا يفتقر لصوم يخصه، فيفعل في رمضان وغيره كغير المنذور، وهذا قول مالك وهو المشهور، وقال عبد الملك وسحنون: لا بد للاعتكاف المنذور من صوم يخصه، فلا يجزئ في رمضان، وتحصل مما مر أن الاعتكاف إنما يصح بصوم أي صوم كان، وأنه يصح ويجوز مطلقا، أي سواء كان الاعتكاف والصوم منذورين أو مُتَطَوَعًا بهما، أو كان الاعتكاف منذورا والصوم متطوع به أو العكس، ومعنى نذر الصوم أنه نذر قبل الاعتكاف، ومعنى تطوعه نيته قبل نية الاعتكاف. قاله الشيخ عبد الباقي.

ومسجد: عطف على صوم، يعني أنه يشترط في صحة الاعتكاف أن يكون بمطلق مسجد، سواء كان جامعا أو غيره بشرط أن يكون مباحا لجميع الناس، فلا يصح الاعتكاف في مساجد البيوت، ولو لامرأة، ولا يصح في الكعبة وان جاز له دخولها، خلافا لابن الحاج القائل: إن الاعتكاف يصح في الكعبة.

وبما قررت علم أن معنى الإطلاق في قوله: "ومسجد"، أي مطلق مسجد، سواء كان تصح فيه الجمعة أم لا، بدليل الاستثناء الآتي، وما تقدم من شرط الإباحة في المسجد لجميع الناس هو لمالك، فلا يصح الاعتكاف عنده في مساجد البيوت، لا لرجل ولا لامرأة، خلافا لقول أبي حنيفة: إن المرأة تعتكف في مسجد بيتها، وإنما لم يصح في الكعبة على غير ما لابن الحاج؛ لأن في الكعبة تحجيرا خاصا وهو غلقها في أكثر الأوقات، وعلى قول ابن لبابة والشافعي إنه لا يشترط المسجد يَصِحُّ الاعتكاف في الكعبة، وظاهر القرآن أن في المسجد خصوصية في الاعتكاف لذكره فيه. قاله الحطاب. وقال عن الأبي: يجري عندي الخلاف في صلاة الجمعة في الكعبة

ص: 229

على القول بجواز الفرض، وعلى عدم الإجزاء والإعادة في الوقت، لا تصح الجمعة فيها، ومن هذا النمط بيت القناديل والصومعة وظهر المسجد وغير ذلك، وفي الاعتكاف في بعضها خلاف، وكذلك صعود المنار والسطح، واختلف في الأذان والإقامة لأنه يمشي لقدم المسجد، وكذا من في الكعبة لابد من خروجه منها والصلاة خارجها على مذهب من يمنع الفرض، وعلى قول من لا يشترط المسجد -وهو ابن لبابة والشافعي-: يصح الاعتكاف في الكعبة. انتهى.

الشبراخيتي: ويصح في الباء في بمطلق صوم وفي مسجد أن تكون للمعية، ويصح أن تكون في مسجد للظرفية ويكون ذلك من باب استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. انتهى. إلا لمن فرضه الجمعة، هذا مستثنى مما استفيد من قوله:"ومسجد"، من مساواة المسجد غير الجامع للجامع؛ يعني أن من تجب عليه الجمعة سواء كان ممن تنعقد به أم لا إذا أراد أن يعتكف زمنا، والحال أن الجمعة تجب به؛ أي في زمن اعتكافه الذي يريده سواء كان ابتداء، كما لو نوى أو نذر اعتكاف عشرة أيام، أو انتهاء كما لو نذر أربعة أيام أولهن السبت، فمرض بعد يومين وصح يوم الخميس، فالواجب لاعتكاف ذلك الزمن الذي تجب فيه الجمعة في الابتداء أو الانتهاء، إنما هو المسجد الجامع، أي لا يجوز له أن يعتكف إلا في الجامع، وهو المسجد الذي تصح فيه الجمعة.

وبما قررت علم أن الواو في قوله: "وتجب"، واو الحال، وأن الضمير في "به"، عائد على الاعتكاف على حذف مضاف، وأن الباء بمعنى: في؛ أي في زمن اعتكافه، والفاء في قوله:"فالجامع"، مدخولها جواب عن شرط يلاحظ؛ أي فإن كان كذلك فالجامع. قاله الشبراخيتي. مما تصح فيه الجمعة؛ يعني أن الشخص إذا اعتكف في المسجد فإنه لا بد أن يعتكف بمكان منه تصح فيه الجمعة تحقيقا في الجامع، وعلى تقدير إقامتها في غيره، وبهذا تعلم أن قوله:"مما تصح فيه الجمعة"، راجع للجامع وللمسجد بتقدير إقامة الجمعة، واحترز بذلك عن بيت القناديل وسطح المسجد وعن الصومعة، وكذا رحبة المسجد الخارجة عنه لعدم دخولهما في المسجد، وقوله:"مما تصح فيه الجمعة"، قال محمد بن الحسن: الظاهر أن من للبيان، وأن تقديره: وصحته بالكون في جزء مسجد؛ وهو ما تصح فيه الجمعة تحقيقا في الجامع، وعلى تقدير إقامتها في غيره. قاله ابن عاشر. انتهى.

ص: 230

وعلم مما مر قريبا أن رحبة المسجد الداخلة فيه يصح الاعتكاف فيها، وزاد الشيخ عبد الباقي بعد قوله "مما تصح فيه الجمعة": اختيارا ليخرج رحبة المسجد الخارجة عنه، والطرق المتصلة به. قال محمد بن الحسن: هما غير داخلين في لفظ مسجد، وهذا المقيد لا يخرجهما لما تقدم أن مذهب المدونة صحة الجمعة بهعا مطلقا، خلافا لتفصيل المصنف حيث قال: إن ضاق أو اتصلت الصفوف، وخرج بقوله: لمن فرضه الجمعة، الخارج عن كفرسخ من النار والمرأة، ونحوهما ممن لا تلزمه الجمعة. وإلا، مركب من إن الشرطية ولا النافية، أي وإن لم يعتكف في الجامع، والحال أنه ممن تلزمه الجمعة واعتكف في غير الجامع أياما تأخذه فيها الجمعة، خرج للجمعة وجوبا، وإذا خرج لها بطل اعتكافه، سواء دخل على أن يخرج أم لا ويقضيه، قالوا: إلا أن يجهل ذلك كحديث عهد بالإسلام فيعذر، ولا يبطل اعتكافه بخروجه، قوله:"خرج"، فإن لم يخرج حرم عليه ذلك، والظاهر عدم بطلان اعتكافه. قاله الحطاب وغيره. لأنه لم يرتكب كبيرة إلا على قول من يبطله بالذنوب مطلقا، وقوله:"وإلا خرج وبطل"، هو المشهور من ثلاثة أقوال: البطلانُ مطلقا وهو المشهور كما علمت، وَعَدَمُه مطلقا وهو رواية ابن الجهم، والتَالِثُ التفصيل لابن الماجشون إذا نذر أياما تأخذه فيها الجمعة خرج وبطل، ولو نذر أياما لا جمعة فيها، وأراد اعتكافها فمرض بعد أن شرع فيها، ثم خرج، ثم رجع لإتمامها فصادف الجمعة خرج إليها، ولا يبطل اعتكافه، ففي قول عبد الباقي وغيره: إن هذا محل اتفاق نظر. انظر حاشية محمد بن الحسن. وقوله: "وإلا خرج وبطل"، اعلم أنه يعد خارجا بخروج رجليه معا لا بإحداهما كذا يظهر. قاله الشيخ عبد الباقي.

كمرض أبويه؛ يعني أن المعتكف إذا مرض أبواه فإنه يجب عليه أن يخرج لعيادتهما، وكذا إذا مرض أحدهما فإنه يجب عليه أن يخرج لعيادته وجوبا، وإذا خرج لأجل عيادتهما أو عيادة أحدهما فإنه يبطل اعتكافه، ويخرج وجوبا لأجل ما ذكر، ولو كان المريض منهما أو من أحدهما كافرا، وإنما خرج لذلك لأن الخروج إليهما من برهما وبرهما فرض بنص القرآن، وهو فوق وجوب الاعتكاف بالنذر، مع أن الاعتكاف يقضيه وما فاته من بر والديه لا يستدركه ولا يقضيه، وفهم

ص: 231

من كلام المصنف أنه لا يخرج لعيادة غير الأبوين، ولا يجوز له الخروج، وأنه إن خرج بطل اعتكافه، ولو لم يخرج لمرض أبويه بطل اعتكافه على أحد التأويلين الآتيين.

وبما قررت علم أن التشبيه في قوله: "كمرض أبويه"، في وجوب الخروج والبطلان. الباجي: وإذا كان الوالدان حيين لزمه طلب مرضاتهما واجتناب سخطهما، وقوله:"كمرض أبويه"، قال الشيخ علي الأجهوري: أي كمرض أحد أبويه وأولى مرضهما، وهذا وما بعده يجري في الأبوين الكافرين، ومراده بأبويه أبواه دنية -كذا ينبغي-، وقوله:"كمرض أبويه"، ظاهره: ولو كان المرض خفيفا والاعتكاف منذورا، وقد مر أنه إن لم يخرج بطل اعتكافه على أحد التأويلين أي للعقوق. ابن الحاجب: ويبني من خرج لتعين جهاد على الأصح، وإليه رجع مالك. انتهى. ومقابل الأصح أنه يستأنف. لا جنازتهما؛ يعني أن المعتكف لا يخرج لجنازة أبويه، ولا لجنازة أحدهما بعد موت الآخر؛ أي لا يجوز له الخروج لأجل ذلك، فإن خرج بطل اعتكافه، وأما جنازة أحدهما والآخر حي فيخرج وجوبا خوف عقوق الحي، ويبطل اعتكافه.

وبما قررت علم أن قوله: معا إنما احترز به عن موت أحدهما والآخر حي؛ لأن عدم خروجه حينئذ مظنة عقوق الحي؛ لأنه يسخطه ولا يرضاه، ويعتقد أنه يفعل به ذلك فيسوءه، فيجب عليه الخروج. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ محمد بن الحسن: إن ذلك يفتقر إلى نص، وسيأتي عن الأمير ما يرشح ما لعبد الباقي. والله سبحانه أعلم. وأما جنازة أحدهما بعد موت الآخر فكجنازتهما معا. والله سبحانه أعلم، ورد المصنف بقوله:"لا جنازتهما معا"، قول سند بعد أن نقل قبول الباجي لكلام الإمام أنه لا يخرج لجنازتهما معا، حيث قال -أي الباجي-: إذا كانا حيين لزمه طلب مرضاتهما واجتناب ما يسخطهما، فيخرج لهما، ولا يلزمه الخروج لجنازتهما. انتهى. في ذلك -أي كلام الباجي- نظر، فإن من حقوق الأبوين أن يعودهما إذا مرضا، ويصلي عليهما إذا ماتا، انتهى.

وفي الموطإ: لا يخرج لجنازتهما. ابن رشد: لأن ذلك غير عقوق. انتهى. وقال الأمير: كمرض أحد أبويه وأولى هما معا، وجنازة أحدهما إن كان الآخر حيا؛ لأن مكثه عقوق للحي، وأما من مات

ص: 232

فقد انتقل لدار الحق لا يغضب من المكث في العبادة، نعم إن تعين التجهيز خرج ولو لأجنبي؛ لأن الواجب لذاته أهم مما أوجبه على نفسه. انتهى.

وكشهادة، يعني أن المعتكف لا يخرج لأجل الشهادة، أي لا يخرج لتحملها ولا لأدائها؛ أي لا يجوز له ذلك، فإن خرج بطل اعتكافه، وقوله:"وكشهادة"، التبادر من المصنف أنه معطوف على قوله:"كمرض أبويه"، وعليه فالمشاركة في أحد حكميه وهو البطلان لا في مجموع الحكمين من وجوب الخروج والبطلان. كما قاله عبد الباقي. أي لما علمت من أن الخروج هنا لا يجوز، وقال الشبراخيتي: وكان المناسب إسقاط الواو ليكون مشبها بقوله: "لا جنازتهما"، ويدل عليه ما بعده، ومع وجودها يتبادر منه أنه عطف على قوله:"كمرض أبويه"، وقد علمت برده. انتهى.

وإن وجبت، مبالغة في عدم الخروج، أي لا يخرج لأجل أداء الشهادة، وإن تعينت عليه بأن لم ينب عنه غيره فيها أو لا يتم النصاب إلا به، ولتؤدَّ بالمسجد؛ يعني أن المعتكف لا يجوز له أن يخرج من المسجد لأداء الشهادة وإن تعينت، وحينئذ فإنه يؤدي شهادته في المسجد بأن يأتيه القاضي لسماعها منه لأجل عذره، أو تنقل عنه؛ يعني أن المعتكف لا يجوز له أن يخرج من المسجد لأجل أداء الشهادة، وإن تعينت عليه، وحينئذ فإما أن يؤديها بالمسجد، وإما أن تنقل عنه، وإن لم تتوفر شروط النقل من موت الأصل أو غيبته غيبة بعيدة للضرورة.

وبما قررت علم أن قوله: "ولتود"، جواب عن سؤال مقدر؛ أي وإذا قلتم إنه لا يخرج، فما الحكم؟ فأجاب بقوله:"ولتود لخ".

وكردة، عطف على قوله:"كمرض أبويه"؛ يعني أن المعتكف إذا ارتد -والعياذ بالله تعالى- فإنه يبطل اعتكافه، ويجب أن يخرج من المسجد لأن الكافر يمنع من دخول المسجد، وإنما بطل اعتكافه؛ لأن من شروط صحة الاعتكاف الإسلام؛ وهي محبطة للعمل، قال عبد الباقي: ولا يجب عليه استيناف الاعتكاف إذا تاب، خلافا للبساطي، وإذا كانت أيام الاعتكاف معينة ثم رجع المرتد للإسلام قبل مضيها لم يلزمه إتمامها. انتهى كلام عبد الباقي. وقاله غيره. وقوله:"ولا يجب عليه استيناف" لخ، قال محمد بن الحسن: فيه نظر، فقد نص في الجواهر على وجوب الاستيناف. نقله المواق. وعبارة الشبراخيتي: ولا يجب عليه استيناف إذا تاب عند ابن

ص: 233

القاسم لأنه يقدره كافرا أصليا، خلافا لأشهب. انتهى. وفي الأمير أنه يستأنف، قال كما في الجواهر: وقيل لا لسقوط ذلك بالإسلام، والظاهر أن يتخرج عليه كفارة رمضان وقضاؤه. انتهى. وكمبطل صومه "مبطل" بالتنوين: اسم فاعل فاعله ضمير مستتر يعود على المعتكف، "وصومه": مفعول مبطل؛ يعني أن المعتكف إذا تعمد إبطال صومه فإنه يفسد اعتكافه ويستأنفه، فإن أفطر ناسيا لم يبطل اعتكافه ويقضي ذلك اليوم واصلا له باعتكافه، ومثل النسيان الفطر بحيض أو نفاس أو مرض، وفي التتائي نظر، حيث جعل الحيض ونحوه من مبطلات الاعتكاف، وأدخلها في كلام المصنف، قال محمد بن الحسن: وقد اعترض عليه مصطفى أيضا، وقد علمت أنه يقضي إن أفطر ناسيا أو لحيض أو نفاس أو مرض، قال عبد الباقي: ومحل القضاء إذا كان الصوم فرضا ولو بالنذر ولو معينا أو تطوعا وأفطر فيه ناسيا ولزمه القضاء فيه لتقوي جانبه بالاعتكاف لشرطيته فيه فإن أفطر فيه لمرض أو حيض لم يقضه، كما يأتي بيانه في قوله: وبنى بزوال إغماء إلى آخره، وأما الوطء ومقدماته فعمدها وسهوها سواء في الإفساد كما يأتي، والفرق بينهما وبين الأكل أنهما من محظورات الاعتكاف بخلافه، ولهذا يأكل في غير زمن الصوم. انتهى -قوله: ومحل القضاء إذا كان الصوم فرضا إلى آخره، قال بناني: فيه نظر، بل يجب القضاء أيضا في التطوع على مذهب المدونة، وهو المشهور، كما يؤخذ من كلام ابن عرفة، وصرح به القلشاني. انتهى. ورده الرهوني بأنه إن عنى أنه أفطر فيه ناسيا فما قاله صحيح، ولكنه موافق لكلام عبد الباقي، وإن عنى أنه أفطر فيه لمرض أو حيض فغير صحيح؛ لأن مذهب المدونة والتشهير الذي حكاه عن القلشاني إنما هو في الفطر سهوا لا لحيض أو مرض. وكسكره ليلا؛ يعني أن المعتكف إذا سَكِرَ سُكْرًا حراما بالليل، فإنه يفسد اعتكافه وإن صَحَا قبل الفجر، ومعنى صحا: زال سكره وَرُدَّ إليه عقله، مأخوذ من صحو السماء وهو زوال غيمها؛ لأنه يغطي العقل كما يغطي الغيم السماء، وأما السكر الحلال فيبطل اعتكاف يومه إن حصل السكر نهارا كالجنون والإغماء، فيجري فيه ما جرى فيهما من التفصيل الذي أشار له المؤلف بقوله في الإغماء:"أو أغمي يوما أو جله أو أقله ولم يسلم أوله بالقضاء". قاله الشبراخيتي. ويدل على أن المؤلف جرى على تقييد السكر بالحرام. قوله: وفي إلحاق الكبائر به؛ يعني أنه اختلف، هل تلحق الكبائر غير المبطلة

ص: 234

للصوم، كغيبة، ونميمة، وقذف، وغصب، وسرقة، وكذب، وزور بالسكر فتبطل الاعتكاف، ويجب استينافه بجامع الذنب، وعدم إلحاقها به لزيادته عليها تعطيل الزمن، فقوله: تأويلان، مبتدأ، وخبره قوله:"في إلحاق الكبائر به"، والتأويل الأول هو فهم العراقيين للمدونة، ألحقوها بالسكر الحرام ليلا، والسكر الحرام هو المنصوص عليه، والثاني هو فهم المغاربة أن الكبائر التي لا تبطل الصوم لا تبطل الاعتكاف، فلا تلحق بالسكر لزيادته عليها تعطيل الزمن، وعلى القول بالإلحاق يؤمر بالخروج، وليس من الكبائر إدامة النظر بلذة ولو طال زمنه، ولا يقال إدامته إصرار وهو يصير الصغيرة كبيرة؛ لأنا نقول: الإصرار هو العزم على الفعل بعد الفراغ منه كما في التتائي على الرسالة، وهذا ليس كذلك، بل هو استمرار على نظرة واحدة.

وقوله: "وفي إلحاق الكبائر لخ، قال الحطاب: فهم منه أن الصغائر لا تبطل الاعتكاف وهو كذلك: قال في التوضيح: يقيد بما إذا لم تكن الصغيرة مبطلة للصوم كالنظر للأجنبية إذا والاه حتى أمذى، فينبغي أن يبطل اعتكافه. انتهى. وهذا ظاهر، بل هو داخل في مبطل صومه. انتهى. وسيأتي أن المعتكف يخرج لقضاء حاجة الإنسان، واختلف إذا فعلها في المسجد، هل هي صغيرة فلا يبطل اعتكافه، أو كبيرة؟ قاله غير واحد؛ أي فيجري فيها التأويلان، وأما الكبائر المبطلة للصوم، كالزنى، واللواط، وشرب الخمر نهارا فمبطلة للاعتكاف، لبطلان شرطه.

وبعدم وطء؛ يعني أنه يشترط في صحة الاعتكاف عدم الوطء، فإن وطئ ليلا أو نهارا أبطل اعتكافه وابتدأه: وظاهره ولو في غير مطيقة وهو هنا كذلك؛ لأن أدناه أن يكون كقبلة شهوة ولمس، فهو كالوضوء لا كالصيام المتقدم أنه لا يوجب كفارة فيه إلا جماع يوجب الغسل. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وبعدم وطء"، يشمل الفاعل والمفعول، فإذا وطئ الرجل ليلا وطئا مباحا بطل اعتكافه، وكذا المرأة إذا وطئت فإنه يبطل اعتكافها، ووطء المكرهة كوطء المختارة، والنائمة كاليقظانة، والاحتلام لغو.

واعلم أن قوله: "كمبطل صومه"، خاص بغير الوطء ومقدماته، وأما الوطء ومقدماته فيبطل بها الاعتكاف سهوا أو عمدا.

ص: 235

وقبلة شهوة؛ يعني أن صحة الاعتكاف مشروطة بعدم قبلة شهوة، وأما إن فعل ذلك بأن قبل مع قصد اللذة أو وجدانها فإنه يبطل اعتكافه، لا إن انتفيا، كما لو قبل صغيرة لا تشتهى، أو قبل زوجته لوداع أو رحمة ولا قصد اللذة ولا وجدها، فلا يبطل اعتكافه، وقوله:"وقبلة شهوة"؛ ينبغي في غير الفم، وإلا فلا تشترط الشهوة، ولا يصدق في أنه لم يرد الشهوة لأنها مظنة الشهوة، وفي شرح عبد الباقي أنه: تعتبر الشهوة في القبلة ولو كانت على فم. انتهى. وناقشه محمد بن الحسن، فقال: فيه نظرت بل الظاهر البطلان مطلقا فيما إذا كانت على فم لما تقدم أنه يبطله من مقدمات الوطء ما يبطل الوضوء. انتهى.

ولمس؛ يعني أنه يشترط في صحة الاعتكاف عدم لمس شهوة، فإن وقع لمس شهوة بأن قصد لذة أو وجدها بطل اعتكافه، وقد مر أن الوطء ومقدماته تبطل الاعتكاف، وقع ذلك عمدا أو سهوا. ومباشرة؛ يعني أن صحة الاعتكاف مشروطة بعدم مباشرة شهوة، فالمباشرة بشهوة أي بقصد لذة أو وجودها تبطل الاعتكاف، وقعت سهوا أو عمدا، قال فيها: فإن جامع في ليل أو نهار ناسيا، أو قبل أو باشر أو لامس فسد اعتكافه وابتدأه. انتهى.

قال أبو الحسن: يريد إن قصد اللذة أو وجدها. انتهى. نقله الحطاب. وقال عن ابن عرفة: تقبيله مكرها لغو إن لم يلتذ انتهى، وقال ابن ناجي: ظاهره أنه لا يشترط في القبلة والمباشرة وجود اللذة؛ وهو قول مطرف، حكاه ابن رشد. وشرط اللخمي وجود اللذة، وعليه تأول المغربي قولها، فقال: يريد إذا وجد اللذة أو قصدها. انتهى. نقله الحطاب. وقال الشبراخيتي: ولمس لشهوة، ومباشرة لشهوة، سواء أنزل أم لا، ولو حذف، قوله:"ومباشرة"، لكان أنسب بمرامه إذ اللمس يشمل المباشرة كما يفيده كلامه في نواقض الوضوء، بل لو حذف قوله:"وقبلة شهوة"، ما ضَرَّهُ لاستفادة، حكمها من قوله:"ولمس"، ثم إن قوله:"وبعدم وطء"، شامل لما لا يبطل الصوم، كفعله ليلا أو في تطوع نهارا ناسيا. كما قاله الزرقاني. ويجري مثله في قوله:"وقبلة شهوة"، وما بعده، وهذه إحدى المسائل التي فيها حكم القبلة حكم الوطء، ومن عقد في العدة وقبل فيها حرمت عليه تأبيدا، ومن خير امرأته فلم تختر حتى قبلها، ومن اشترى أمة بالخيار فقبلها زمن خياره فهو رضى، وقيد القبلة وما بعدها بالشهوة ليخرج قبلة الصغيرة التي لا تشتهى، والكبيرة

ص: 236

لوداع أو رحمة. وإن لحائض، مبالغة في المفهوم واللام لام الملابسة؛ يعني أنه إذا فعل بالحائض المعتكفة شيء مما تقدم من قبلة شهوة ولمس شهوة ومباشرة شهوة فإنه يبطل اعتكافها، قال الشبراخيتي: ثم إن "اللام" في "لحائض"، لام الملابسة فاعلا كانت أو مفعولا. انتهى.

والحاصل أن الوطء يبطل الاعتكاف، ويجب استينافه، سواء كان المعتكف رجلا أو امرأة، فتستأنف هي ويستأنف هو، حصل الوطء ليلا أو نهارا، كان عن اختيار أو إكراه، وقع في نوم أو يقظة، كان مباحا أم لا، وقع عمدا أو سهوا، وكذلك مقدمات الوطء من قبلة شهوة، أو لمس شهوة، أو مباشرة شهوة، كانت ليلا أو نهارا إلى آخر ما مر في الوطء من غير فرق، فتستأنف هي ويستأنف هو: وسيأتي أن المعتكفة إذا حاضت تخرج من المسجد وعليها حرمة الاعتكاف، فإذا حصل لها شيء مما مر فإنه يبطل اعتكافها، ويجب عليها أن تستأنفه. ناسيةٍ، بالجر صفة لحائض؛ يعني أنه إذا حصل من الحائض المعتكفة أو فيها شيء مما مر وهي ناسية لاعتكافها، فإنه يبطل اعتكافها، ويجب عليها أن تستأنفه، قال الشبراخيتي: وقوله: "ناسية"، لا يعين أنها فاعل لإمكان كون المقبل أو اللامس أو المباشر لها غيرها، وهي ناسية، وإنما بالغ عليها حينئذ ليلا يتوهم أنها لما كانت ناسية كانت معذورة لأن الفرض أنها التذت. انتهى. وقوله:"ناسية". مفهومه أحروي كما نص عليه غير واحد، وقوله:"وإن لحائض" لخ، مثل الحائض المريض وغيره من أرباب الأعذار المانعة من الصوم والاعتكاف كما يأتي.

تنبيه: اعلم أن قوله: "ناسية"، إنما يحسن رجوعه للحائض المعتكفة، كما هو ظاهر، وأما إذا كان المعتكف هو الرجل فلا تظهر فائدة بين كونها ناسية وغير ناسية. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وإن لحائض"، قال الشارح عقبه: يريد أو مريض وهو مذهب المدونة والرسالة وغيرهما. انتهى. وإن أذن لعبد؛ يعني أن السيد إذا أذن لعبده الذي تضر عبادته بعملة في نذر الاعتكاف فنذره، فليس له أن يمنعه من الوفاء به، ومعنى تضر عبادته بعمله: تضر بخراجه، بأن لا يؤدي خراجه إن كان من عبيد الخراج أو بخدمته إن كان من عبيد الخدمة، ولا مفهوم للاعتكاف عن غيره من العبادات، فلو أذن له في صيام أو إحرام في زمن معين فنذر ذلك، فليس له أن يمنعه من الوفاء به.

ص: 237

أو امرأة؛ يعني أن الزوج إذا أذن لامرأته التي يحتاج إليها في نذر اعتكاف فنذرته، فليس له أن يمنعها من الوفاء به: ولا مفهوم للاعتكاف، بل لو أذن لها في صوم أو إحرام في زمن معين فنذرت ذلك فليس له أن يمنعها من الوفاء به.

وبما قررت علم أن قوله: في نذر. متعلق بقوله: "أذن"، وعلم أيضا أن قوله: فلا منع، جواب الشرط، فهو راجع لمسألتي العبد والمرأة؛ أي ليس لمن ذكر من سيد وزوج أن يمنع العبد أو المرأة من الوفاء بالنذر الذي أذن فيه حيث نذراه، وهذا إذا أذن له أولها في نذر زمن معين، فإن لم يعين زمنه فله منعهما ولو حصل منهما النذر؛ لأنه ليس على الفور. قاله سند. قاله الأجهوري.

كغيره؛ أي النذر وهو فعل الاعتكاف؛ يعني أن السيد أو الزوج إذا أذن للعبد أو المرأة في فعل الاعتكاف لا في نذره فليس لواحد منهما أن يمنع صاحبه من فعل ما أذن له فيه، ومحل كون السيد والزوج لا منع لهما فيما قبل الكاف وفيما بعدها إنما هو، إن دخلا أي العبد والزوجة فيما أذن لهما فيه من نذر اعتكاف أو من فعله، فالدخول في النذر باللفظ، كقول الناذر: لله علي اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، والدخول في الثاني في المعتكَف؛ أي موضع الاعتكاف، والدخول فيه يكون بالرجلين معا، وأما بواحدة فهل كذلك؟ رعيا للعبادة وقياسا على الحنث بالبعض، أو لا؟ رعيا للسيد والزوج، وقياسا على البر، ومفهوم قوله:"إن دخلا"، أنهما لو لم يدخلا بأن لم يلفظ بالنذر في الأول، ولم يدخل في المعتكف في الثاني، لكان له المنع وهو كذلك، فإن اتُّفِقَ على الإذن واختلف في إيقاع النذر، بأن قال العبد أو الزوجة: وقع مني النذر وخالف الزوج أو السيد، فالقول قول العبد أو الزوجة، وأما إن تنازعا في أصل الإذن فالقول للزوج أو السيد.

وأتمت ما سبق منه أو عدة؛ يعني أن الاعتكاف إذا سبق المعدة، فإن المرأة تتمه؛ بمعنى أنها تمضي على اعتكافها حتى ينقضي، ولا تخرج إلى منزل عدتها، فلو طلقها زوجها أو مات عنها وهي معتكفة فإنها تمضي على اعتكافها حتى ينقضي، ولا تخرج لمنزل عدتها، فإذا تم اعتكافها أتمت ما بقي من عدتها في بيتها كما في المدونة. قاله الحطاب. كما أن المعدة إذا سبقت؟ الاعتكاف فإنها تتمها! أي لا تخرج من منزل عدتها إلى المسجد لتعتكف فيه حتى تنقضي

ص: 238

عدتها، فإذا أتمتها فإن كان نذرها مطلقا فعلته، وإن كان معينا ومضى وقته لم تقضه عند سحنون. قاله في النكت. وقوله:"أو عدة"، مجرور عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار على حد قوله عز وجل:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} بجر الأرحام، وقوله:

اليوم أقبلت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والايام من عجب

ولو أحرمت ثم طلقها زوجها أو مات عنها فإنها تتمادي على إحرامها حتى تتمه، والظاهر أن الاستثناء في قوله: إلا أن تحرم، منقطع كما قاله الخرشي: يعني أن المرأة إذا طلقت بعد البناء ثم أحرمت فإنها ينفذ إحرامها، بمعنى أنها تأتي بما أحرمت به من حج أو عمرة أو هما فورا، ويبطل حقها في السكنى، ولذا قال: وإن بعدة موت؛ أي إذا أحرمت وهي معتدة فإنها تأتي بما أحرمت به، سواء كانت معتدة من طلاق أو وفاة، وبالغ على عدة الوفاة لما فيها من الشدة على عدة الطلاق بالإحداد.

وقد مر أنه لو سبق الإحرام المعدة فإنها تتم الإحرام وهذا يفهم من المصنف بالأحروية؛ لأنها إذا كانت تتم الإحرام الطارئ على العدة فأحرى أن تمضي عليه وتتمه لو سبق. والله سبحانه أعلم. وقد مر عن الخرشي أن الاستثناء منقطع.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه. ويصح كونه متصلا بتقدير أو إحرام بعد قوله: "أو عدة"، كما يرشد له الاستثناء؛ أي تتم ما سبق من أحد الثلاثة إلا فيما إذا أحرمت وهي معتدة. فإنها تمضي على إحرامها. وفيما عدا هذه الصورة يُرَاعَى السابقُ. والله سبحانه أعلم. فعلم من هذا أنه إذا أحرمت وهي معتكفة فإنه لا ينفذ إحرامها، بل تبقى على اعتكافها كما قاله الشارح.

وبما قررت علم أن قوله: فينفذ، راجع لما قبل المبالغة وما بعدها؛ أي فينفذ إحرامها مع عصيانها؛ بمعنى أنها تأتي بما أحرمت به فورا كما مر قريبا، ويبطل؛ يعني أن المعتدة من وفاة أو طلاق إذا أحرمت قبل أن تنقضي عدتها، فإنه ينفذ إحرامها ويبطل مبيتها أي حقها في السكنى، فالضمير راجع للمبيت هذا على التذكير، وأما على التأنيث فالضمير يرجع للعدة على حذف مضاف؛ أي فتبطل المعدة أي يبطل مبيت عدتها أي يبطل حقها فيه.

ص: 239

واعلم أن الصور ست: طرو عدة على اعتكاف أو على إحرام، طرو اعتكاف على عدة أو على إحرام، طرو إحرام على عدة أو على اعتكاف؛ فالإحرام والاعتكاف تتم السابق منهما، فهذه أربع وبقيت اثنتان: ما إذا سبقت المعدة الإحرام فينفذ إحرامها كما علمت، وما إذا سبقت المعدة الاعتكاف فإنها تتم العدة في منزلها ولا تخرج إلى المسجد لتعتكف.

وعلم من هذا أنها تتم الاعتكاف السابق للإحرام، قال الشيخ عبد الباقي: إلا أن تخشى فوات الحج فتقدمه إن كانا فرضين أو نفلين، أو الإحرام فرضا والاعتكاف نفلا، فإن كان الاعتكاف فرضا والإحرام نفلا فإنها تتم الاعتكاف، فعلم أن الصور ست: طرو عدة على إحرام أو اعتكاف، وطروهما عليها، وطرو اعتكاف على إحرام وعكسه، فتتم السابق في أربع وتمضي على الطارئ في إحرام ولو بنفل على عدة، وكذا على اعتكاف نفل إن خشي فوات الحج الفرض لا إن كان نفلا والاعتكاف فرضا فتتم الاعتكاف، والفرق بين الاعتكاف والعدة في طرو الإحرام على أحدهما، أن نفوذ إحرام المعتدة إنما يخل بالمبيت لا بالعدة رأسا، ونفوذ إحرام المعتكفة يخل بالاعتكاف رأسا؛ لأن المسجد شرط أو ركن فيه، وليس المبيت في العدة شيئا منها بل واجب مستقل لا يزيد في المعدة ولا ينقص منها، ثم إن قوله:"ما سبق منه"، أتي فعلا لا نذرا، فيدخل في ذلك ما إذا نذرت اعتكاف شهر بعينه فطلقت أو مات زوجها قبل أن يأتي الشهر، فإنها تستمر على عدتها ولا تقضي الاعتكاف لأنه لم يسبق في الفعل، لكن تصوم الشهر عند مجيئه، ويفهم من الحطاب أن هذا أرجح من مقابله. انتهى.

ومقابله هو أن تخرج إلى المسجد فتعتكف، قوله: إلا أن تخشى فوات الحج، أصله للشيخ علي الأجهوري، واعترضه الرماصي بأنه مناف لإطلاق أبي الحسن وأبي عمران. انتهى. قاله محمد بن الحسن.

تنبيه: إذا حاضت المعتكفة، فخرجت للحيض، فطلقها زوجها، فإنها ترجع إلى المسجد إذا طهرت لتكمل اعتكافها، كما لو طلقها وهي في المسجد قاله الحطاب.

وإذا سبق الطلاق أو الموت الاعتكاف أو الإحرام لم يصح لها أن تعتكف ولا أن تحرم حتى تنقضي العدة؛ لأنها قد لزمتها، فليس لها أن تنقضها، قاله ابن رشد في رسم مرض من سماع ابن

ص: 240

القاسم. ونقله الشيخ خليل في التوضيح. وقال إثره: وقال أبو الحسن: إذا أحرمت بعد موت زوجها نفذ وهي عاصية فانظره مع كلام صاحب البيان، إلا أن يحمل قوله في البيان: لا يصح، على معنى لا يجوز. انتهى. والله أعلم. قاله الحطاب.

وإن منع عبده نذرا فعليه إن عتق؛ يعني أن العبد إذا نذر اعتكافا مثلا بغير إذن سيده، ومنعه سيده من الوفاء به فإنه يجب على العبد الوفاء بنذره إذا أُعْتِقَ حيث كان مضمونا أو معينا وبقي وقته، قال عبد الباقي: فلو كان معينا وفات وقته لم يقضه. قاله سحنون. وهو المعتمد فإن منعه ما نذره بإذنه، فعليه إن عتق ولو معينا وفات وقته، وهذا في منعه بعد شروعه، وأما إن منعه من نذر ما أذن له في نذره، أو من فعل ما تطوع به قبل شروعه في كل منهما فلا شيء عليه. انتهى. كلام عبد الباقي. قوله: وهو المعتمد، قال محمد بن الحسن: انظر من أين له أنه المعتمد، وظاهر التوضيح أن قول سحنون خلاف مذهب المدونة، وقوله: فإن منعه لخ، هذا التفصيل ظاهر لأن طاعته لسيده في ترك ما نذره بإذنه لا تجوز، وقد تقدم أن النذر المعين يجب قضاؤه على من تركه اختيارا. انتهى كلام محمد بن الحسن.

وقوله: "وإن منع عبده نذرا فعليه إن عتق"، قال الشبراخيتي: لبقائه في ذمته، وليس للسيد إسقاطه بخلاف الدين، وقال ابن الحاجب: وإن منعه نذرا فعليه إن عتق، قال في التوضيح: ظاهره سواء كان معينا أو مضمونا، قيل: وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة، وقال سحنون: إن كان معينا فلا قضاء عليه. انتهى. ونص قول ابن القاسم: فإن نذر عبد عكوفا فمنعه سيده كان ذلك عليه إن عتق، وكذا المشي والصدقة، فإذا نذر ذلك فلسيده أن يمنعه، فإن عتق يوما لزمه ما نذر من مشي أو صدقة إن بقي ماله ذلك في يده، ولو أذن له السيد وهو رقيق ففعل ذلك أجزأه. انتهى.

وفي التوضيح: وليس للسيد أن يسقطه عنه مطلقا، بخلاف الدين. قاله الحطاب. وهو ما مر عن الشبراخيتي. وقوله: مطلقات يريد نذره بإذنه أولا. والله تعالى أعلم. قاله جامعه عفا الله تعالى عنه. وقال الشبراخيتي عند قوله. "وإن منع عبده نذرا": هو شامل لما إذا منعه من فعل ما نذره بغير إذنه، ولما إذا منعه من فعل ما نذره بإذنه، ولك أن تخصه بالأول ويكون الثاني أحرى، ثم

ص: 241

قال: والظاهر أنه في الثاني؛ يعني فيما إذا منعه من فعل ما نذره بإذنه عليه بدل ما منعه منه، ولو كان معينا، ولا يجري فيه الخلاف الجاري في الأول، وهو ما إذا نذره بغير إذن سيده وكان معينا من أنه هل عليه بدله، وهو ظاهر قول ابن القاسم، أو ليس عليه بدل، وهو ظاهر قول سحنون؛ وهو المذهب كما يفيده كلام أبي الحسن؟ وعليه اقتصر ابن عبدوس. انتهى. وقد مر بحث بناني في كونه المعتمد، ومر تصويبه لهذا التفصيل. والله تعالى أعلم.

ولا يمنع المكاتب لسيده؛ يعني أن المكاتب لا يجوز لسيده أن يمنعه من يسير الاعتكاف، وهو ما لا يحصل به عجز عن نجوم الكتابة، وينبغي أن بقية الصوم وبقية العبادة كذلك مما لا ضرر فيه على سيده في عمله ووفاء نجومه، ويمنع من كثير يضر بذلك، فلوأخرجه الحاكم من معتكفه عند حلول أجل الكتابة وعجزه فلسيده منعه من الاعتكاف، ويبقى دينا في ذمته، فإن اعتكف بإذنه لم يكن له إخراجه، ومَنْ بَعْضُهُ حر يعتكف يوم ملكه نفسه إن كان بينه وبين مالك بعضه مهايأة، وإلا لم يعتكف إلا بإذنه. قاله عبد الباقي. وفي الخرشي عند قوله:"ولا يمنع مكاتب يسيره": ومثله المرأة: وهو غير صحيح، لقوله:"وإن أذن لعبد" لخ، ولقوله فيما مر: ولا يقضى على زوجها به لأنه إذا كان له منعها من المسجد لصلاة واحدة فأحرى للاعتكاف. قاله محمد بن الحسن.

ولزم يوم إن نذر ليلة؛ يعني أن من نذر أن يعتكف ليلة، يلزمه أن يعتكف يوما وليلة وكذا العكس، وإنما نبه على نذر الليلة ردا على من يقول: لا يلزمه شيء لأنه نذر ما لا يصح فيه صوم، قال في المدونة: ومن نذر اعتكاف يوم أو ليلة لزمه يوم وليلة، قال ابن يونس: قال سحنون: فأما إن نذر اعتكاف يوم فيلزمه يوم ويدخل اعتكافه عند غروب الشمس من ليلته، وإن دخل فيه قبل الفجر فاعتكف يومه لم يجزه. ابن يونس: لأنه نذر اعتكاف يوم، فيلزمه يوم تام وذلك يوم وليلة، وأما إن نوى اعتكاف يوم فدخل فيه قبل طلوع الفجر أجزأه. انتهى. قاله الحطاب.

وفي الطراز: فإن اعتكف من نذر اعتكاف يوم من قبل طلوع الفجر، فهل يجزئه أولا يجزئه؟

الأول: -وهو الإجزاء- اختاره القاضي ونحوه لمالك في المبسوط، والثاني: -وهو عدم الإجزاء-

ص: 242

لسحنون، وقوله:"ولزم يوم إن نذر ليلة"، وأولى العكس كما مر، والليلة التي تلزمه مع اليوم إنما هي ليلة اليوم الذي نذره لا التي بعده، كما مر ما يفيده. والله سبحانه أعلم. وقوله:"ولزم يوم إن نذر ليلة"، قال الشبراخيتي: ويلزمه الدخول قبل الغروب أو معه على ما ذكر الزرقاني والشيخ عبد الرحمن، ولكن الراجح ما في التوضيح أنه يصح دخوله فيه قبل الفجر، وقال أبو الحسن: المعتمد أن الذي يجزنه الدخول قبل الفجر هو المتطوع، وقد دخل النهار مع الليل في قوله تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} .

سند: وفي {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، وقوله تعالى:{قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} . انتهى.

وسئل سحنون عمن قال لعبد: أنت حر يوم تلد فلانة، وقال لآخر: أنت حر ليلة تلد: إن ولدت نهارا عتق صاحبه، وليلا عتقا جميعا لأن الليل من النهار. انتهى. لا بعض يوم؛ يعني أن الشخص إذا نذر اعتكاف بعض يوم فإنه لا يلزمه شيء. نص عليه اللخمي. قاله الشارح. وقال الحطاب: قال سند: لو نذر عكوف بعض يوم، قال عبد الوهاب: لا يصح ذلك، وينبغي أن يلزمه ذلك من غير صوم، ولا يكون عكوفا، وإنما يكون جوارا قصده بلفظ العكوف كما يلزمه العكوف إذا قصد معناه ونذره بلفظ الجوار. انتهى. وقال الخرشي: وإذا انتفى لزوم اليوم مع أن أقل الاعتكاف يوم وليلة علم أنه لا يلزمه ما نذره وهو بعض اليوم، وقوله: لا بعض يوم؛ أي إلا أن ينوي الجوار فيلزمه ما نواه، وفي الشبراخيتي عند قول المصنف:"لا بعض يوم"، وانظر هذا مع نقل التتائي عن ابن القاسم، من نذر طاعة ناقصة كصلاة ركعة أو صوم بعض يوم لزمه إكمالها. انتهى. ونحوه نقله بناني عن الخرشي، وقال: إنه غير صحيح، وكلام بناني: الخرشي: انظر قول المؤلف: "لا بعض يوم"، مع نقل التتائي عن ابن القاسم لخ، نقله عن التتائي غير صحيح؛ إذ ليس في صغيره ولا كبيره، وقد قال القرافي: لو نذر بعض يوم لم يصح عندنا، خلافا للشافعي.

وتتابعه في مطلقة؛ يعني أن من نذر اعتكاف عشرة أيام مثلا؛ وأطلق في نذره أي لم يقيده بتتابع ولا عدمه، فإنه يلزمه أن يعتكفها متتابعة؛ لأن ذلك سنة الاعتكاف، وأما إذا نوى التتابع أو

ص: 243

عدمه، فقال غير واحد: إنه يلزمه ما نوى، قال محمد بن الحسن: فيه نظر، بل إن نوى عدم التتابع لم يلزمه تتابع ولا تفريق. انتهى. ونحوه للأمير.

وعلم مما قررت أن محل قوله: "وتتابعه في مطلقة"، في النذر الملفوظ به، وَأَمَّا المنوي من غير لفظ، فهو المشار إليه بقوله: ومنويه حين دخوله، الظرف يتعلق بقوله:"ومنويه"، كما في حاشية بناني: ومعنى كلام المصنف أن الشخص إذا نوى أن يعتكف أياما وقت دخوله في معتكفه؛ أي وقت شروعه في الاعتكاف، فإنه يلزمه أن يتمها متتابعة إن نوف تتابعه، أو لا نية له كما في الخرشي، فإن نوى أن يفرقها فإنه لا يلزمه أن يتابعها، وقال الأمير: ووجب متابعة منذوره إلا مع نية التفريق، ولا يلزم التفريق إن نواه، فإنه لا ندب فيه إلا لتعيين كخمسة أول الشهر، والخمسة الأخيرة منه. فتدبر. انتهى. وقال بعد هذا: ووجب بالشروع إتمام منويه. انتهى.

وعلم مما قررت أن مجرد النية أي من غير شروع لا يوجب شيئا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفوسها ما لم تعمل به أو تتكلم

(1)

)، وقوله:"ومنويه"؛ أي ما نواه من تتابع أو عدد، والفرق بين الصوم -لا يلزم التتابع فيما إذا أبهم فيه، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق كما مر عند قوله:"وابتداء سنة" -والاعتكاف- يلزمه تتابعه في نذره له حيث لم يقيده بتتابع ولا تفريق- هو أن العادة أن من دخل معتكفه وهو ينوي أياما أنه يأتي بها متتابعة، ولولا العادة لم يلزمه ذلك؛ لأن أقل الاعتكاف يوم ولا يجوز أقل منه، وأقل الصيام يوم ولا يلزم أقل منه. قال اللخمي.

وقال ابن محرز: الفرق بين الصيام والاعتكاف أن الصوم إنما يفعل بالنهار دون الليل، فكيفما أصابه متتابعا أو متفرقا إذا أوفى بالعدة فقد جاء بنذره، والاعتكاف يستغرق الزمانين الليل والنهار، فكانت حكمته تقتضي التتابع اعتبارا بأجل الإجارة والخدمة والديون والأيمان لما كانت تستغرق الزمانين جميعا، فوجب تتابعها، والشروع فيها عقب عقدها أشار له الخرشي، ويفهم من المصنف؛ أي من قوله:"وتتابعه في مطلقة"، أن ما نوى فيه التتابع من المنذور يجب تتابعه.

(1)

البخاري، كتاب الطلاق، الحديث:5269. ولفظه: إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو نتكلم. الحديث: 6664. ومسلم، رقم الحديث: 127. ولفظه: إن الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به.

ص: 244

كمطلق الجوار. للمسجد بضم الجيم وكسرها، والكسو هو الأفصح؛ يعني أن الشخص إذا قال: لله علي أن أجاور المسجد عشرة أيام بلياليها -مثلا- فإنه بمنزلة ما إذا نذر أن يعتكف ذلك، قال الحطاب: قال سند: من قال لله علي أن أجاور المسجد ليلا ونهارا عدة أيام، فهذا نذر اعتكاف بلفظ الجوار، فلا فرق في المعنى بين قوله: أعتكف عشرة أيام أو أجاور عشرة أيام، يلزم في ذلك ما يلزم في الاعتكاف، ويمتنع فيه ما يمتنع في الاعتكاف، واللفظ لا يراد لعينه وإنما يراد لمعناه، ولو لم يسم اعتكافا ولا جوارا إلا أنه نوى ملازمة المسجد لعبادة أياما متوالية وشرع في ذلك فإنه يلزمه سنة الاعتكاف. انتهى كلام الحطاب.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: هذا صريح أو كالصريح في أن الاعتكاف يلزم بأي لفظ يدل على معناه.

وبما قررت علم أن قوله: "كمطلق الجوار"، تشبيه تام في جميع ما مر من أحكام الاعتكاف، فيلزمه تتابعه إن نوى التتابع أو لم ينو شيئا، ويلزمه الصوم ويمنع فيه ما يمنع في الاعتكاف ويبطله ما يبطله، ويبني فيه كما يبني في الاعتكاف، والمراد بالمطلق ما لم يقيد بنهار فقط ولا بليل فقط ولا بفطر، والأولى أن يقول المصنف: كالجوار المطلق، واحترز المصنف بالمطلق عن الجوار المقيد؛ وهو المشار إليه بقوله: لا النهار؛ يعني أن الجوار المقيد بالنهار فقط، أو بالليل فقط، ليس كالمطلق، فليس كالاعتكاف في الأحكام، فلا يلزم بالنية، وإنما يلزم باللفظ، وكذا الجوار المطلق الذي نوى فيه الفطر، فإنه لا يلزم إلا باللفظ كالجوار المقيد بالنهار فقط أو بالليل فقط، فإذا قال: لله على أن أجاور المسجد نهارا؛ يعني به يوم الجمعة فقط مثلا دون ليلتها، فإنه يلزمه ملازمة المسجد في ذلك اليوم، وكذا لو قيد بليلة يوم الجمعة فقط فإنه يجب عليه أن يلازم المسجد تلك الليلة، ولا يلزم فيه حينئذ صوم؛ يعني أن الجوار المقيد لا يلزم إلا باللفظ -كما علمت- فإذا لفظ به لزمه، ولكن لا يلزم فيه حينئذ؛ أي حين لفظه بالنذر صوم ولا غيره من لوازم الاعتكاف، لكنه لا يخرج من المسجد لعيادة المريض ونحوها؛ لأن ذلك مناف لنذر مجاورة المسجد، ويخرج لما يخرج له المعتكف، ولا يخرج لما لا يخرج له المعتكف.

ص: 245

واعلم أن الجوار المقيد بالنهار فقط، أو بالليل فقط، أو المنوي فيه الفطر سواءٌ في الحكم، وإنما اقتصر المصنف على المقيد بالنهار فقط، لقوله:"ولا يلزم فيه حينئذ صوم"؛ يعني ولا غيره من لوازم الاعتكاف، مع أن المقيد بالليل فقط، والمطلق الذي نوى فيه الفطر كذلك -كما علمت- إذ هذان الأخيران لا يتوهم فيهما الصوم حتى يحتاج لنفيه، وأما إذا نوى الجوار نهارا ولم ينذره، فقال إمالنا مالك في المجموعة: له أن يجامع أهله خارج المسجد. الباجي: ويخرج في حوائجه، ولعيادة المريض، وشهود الجنائز. قوله:"وَلا يَلْزَمُ فِيهِ حِينَئِذٍ صَوم"، ولا تحرم المباشرة على المجاور، وكذا لا يحرم عليه الوطء وإن كان ممنوعا منه في المسجد لحرمة المسجد حتى لو جامع خارج المسجد لم يأثم. أبو الحسن: والجوار مندوب إليه من نوافل الخير، وقوله:"فباللفظ"، قال في التوضيح: وأما عقده بالقلب فذلك جار على الخلاف في انعقاد اليمين بالقلب. وفي يوم دخوله؛ يعني أن الجوار المقيد لا يلزم بالنية كما عرفت؛ أي لا يلزم بالنية وحدها، فإذا انضم إليها فعل وهو الدخول في المسجد، فهل يلزمه أن يكمل ذلك اليوم الذي دخل فيه؟ سواء نوى المجاورة في يوم مفرد، أو نوى أن يجاور المسجد أياما، أو لا يلزمه أن يكمل ذلك اليوم الذي دخل فيه مفردا أو مع أيام؟ في ذلك طويلان؛ أي اختلف الشيوخ في فهم المدونة في ذلك على تأويلين، فتأولها ابن يونس وعبد الحق على أنه يلزمه إتمام ذلك اليوم الذي دخل فيه المسجد للمجاورة، وتأولها أبو عمران على أنه لا يلزمه إتمام ذلك اليوم.

وقوله: "وفي يوم دخوله"، سواء كان اليوم الذي دخل فيه أولا أو ثانيا أو ثالثا أو غير ذلك كما في الحطاب.

وبما قررت علم أن كلام المصنف عام فيمن نوى يوما واحدا أو أياما كما للشارح والحطاب والتتائي وغيرهم، وقوله:"وفي يوم دخوله تأويلان"؛ يعني، وأما اليوم الذي بعده فلا يلزمه اتفاقا، ومحل عدم لزوم النهار فقط مع النية حيث كان من عادته الفطر كأهل مكة، وأما لو نوى الصوم في النهار أو كان من عادته الصوم فيه، فإنه يلزم بالنية، والدخول فيه كالاعتكاف كما هو نص ابن رشد. قاله الخرشي. وقوله:"تأويلان"، الذي يظهر من كلامهم أن الراجح هو التأويل بعدم اللزوم؛ لأن سندا حكى الاتفاق فيمن نوى مجاورة يوم أنه لا يلزمه إتمامه بالدخول فيه.

ص: 246

تنبيهان: الأول: علم مما مر أن الجوار أربعة أقسام: الجوار المطلق الذي لم ينو فيه الفطر حكمه كالاعتكاف من غير فرق لأنه اعتكاف بلفظ الجوار، الجوار المطلق الذي نوى فيه الفطر، والمقيد بالنهار فقط، أو بالليل فقط وهذه الثلاثة ليس لها حكم الاعتكاف كما مر، إلا أن عدم لزوم الجوار المقيد بالنهار فقط بالنية محله في غير من نوى الصوم بالنهار أو في غير من كانت عادته الصوم فيه، وأما لو نوى الصوم بالنهار أو كانت عادته الصوم فيه فإنه يلزم بالنية مع الدخول فيه كالاعتكاف.

الثاني: لو نوى جوار المسجد ما دام فيه أو وقتا معينا لم يلزم ببقية ذلك اليوم على ما قاله سند وابن رشد وأبو عمران، وكذا على قول ابن يونس وعبد الحق فيما يظهر، وقد صرح بذلك في المدخل. قاله الحطاب. وفي النكت: إذا نوى عكوف أيام أو شهر أو شهور لزمه بالدخول في يوم من أيامها؛ لأن ذلك لاتصاله كيوم واحد، بخلاف من نوى صوما، هذا وإن نواه متتابعا لم يلزمه إلا اليوم الذي دخل فيه -خاصة- لأنه ليس عمل الصوم متصلا؛ لأن الليل فاصل عن الصوم، والعكوف عمله متصل بالليل والنهار، فهو كاليوم الواحد في الصوم، انتهى. نقله الحطاب.

قال مؤلفه عفا الله تعالى عنه: حاصله: أَنَّ الفَرْقَ بين من نوى أن يصوم عشرة أيام متتابعة ولم يوجبها باللفظ، لا يلزمه منها إلا اليوم الأول الذي بيت صومه، ومن نوى أن يعتكف عشرة أيام حين دخوله، فَصْلُ العمل بالليل في الصوم، واتصاله في النهار والليل في الاعتكاف. والله سبحانه أعلم.

وإتيان ساحل لناذر صوم به مطلقا، الساحل في الأصل شاطئ البحر، والمراد به هنا محل الرباط، كدمياط واسكندرية وعسقلان ونحوها، والضمير في "به"، عائد على قوله:"ساحل"، وقوله:"مطلقا"؛ أي سواء كان المكان الذي فيه الناذر فاضلا كمكة والمدينة والمسجد الأقصى ونذر أن يصوم بدمياط مثلا، أو مساويا أو مفضولا، وإيضاح كلام المصنف أن من نذر أن يصوم بساحل من السواحل، فعليه أن يأتيه ليصوم فيه، يريد إذا كان ذلك محل رباط يتقرب إلى الله عز وجل بإتيانه، فكأنه قال: وإتيان ثغر، وسواء كان الناذر في بلد أشرف منه -كما مر التمثيل له- أو لم يكن أشرف منه، وقوله:": لناذر صوم"، وأما من نذر الصلاة بثغر، فإن نذر أن يأتيه لصلاة ويعود

ص: 247

من فوره فليصل بموضعه ولا يأتيه، وإن نذر صلاة تمكن معها الحراسة لزمه الإتيان إلى ذلك الثغر الذي نذر به الصلاة. انظر حاشية الشيخ بناني.

وقال الشيخ عبد الباقي: ولو نذر صلاة في ساحل لزم الإتيان إليه لفعلها فيه، كما في الصوم. قاله أبو الحسن على الرسالة: انتهى. وقوله: "لناذر صوم به"، وأما من نذر رباطا بثغر، فقال في الرسالة: ومن نذر رباطا بموضع من الثغور فذلك عليه أن يأتيه، انتهى، ما لم يكن بثغر، وإلا لزمه أن يذهب للآخر إن كان أخوف مما فيه، وإن كان بالعكس لم يلزمه وإن تساويا، فيجري فيه نحو ما يأتي في قوله:"وهل وإن كان ببعضها أو إلا لكونه بأفضل خلاف"، وقوله:"لناذر صوم به"، وأما لو نذر اعتكافا بساحل من السواحل فلا يلزمه الإتيان إليه، بل يعتكف بموضعه بخلاف الصوم كما علمت؛ لأن الصوم لا يمنعه من الحَرْسِ والجهاد، بخلاف الاعتكاف فإنه يمنعه من ذلك، فهو بموضعه أفضل. قاله ابن يونس. نقله محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم. ومن نذر الصوم بمكة أو المدينة أو بيت المقدس لزمه من باب أحرى من الساحل، فيلزمه أن يأتيه كما في المدونة.

(والمساجد الثلاثة فقط لناذر عكوف بها)؛ يعني أن الشخص إذا نذر العكوف بأحد المساجد الثلاثة؛ وهي مسجد مكة ومسجد المدينة وبيت المقدس، فإنه يلزمه الإتيان إليه ليعتكف فيه، وكذا الصوم والصلاة، وظاهر كلام المصنف: ولو كان الناذر بالفاضل، وقال الشارح: وينبغي أن لا يأتي من الفاضل إلى المفضول كما قال أصحابنا في ناذر الصلاة؛ إذ لا فرق بينهما، وأفاد المصنف بقوله:"فقط"، أنه لو نذر العكوف بساحل لا يلزمه الإتيان إليه بل يفعله بموضعه، ولهذا قال: وإلا؛ أي وإن لم يكن نذر العكوف بأحد المساجد الثلاثة، بل نذره بغيرها من ساحل أو غيره، كجامع عَمْرو بالفسطاط، وكجامع ابن طولون رغبة في استجابة الدعاء فيه، لكونه على جبل الشكر، فبموضعه؛ أي فليفعل ما نذره من الاعتكاف بموضعه؛ أي موضع الناذر، ويدخل في ذلك أيضا ما إذا نذر صوما بغير ساحل ولا بأحد المساجد الثلاثة، فإنه يفعله بموضعه، وكذا الصلاة هذا إن بعد ما نذر فيه الفعل المذكور، فإن قرب جدا، فهل كذلك أو يذهب إليه ويفعله فيه؟

ص: 248

قولان في الاعتكاف والصلاة والصوم، وعند بعضهم: يفعل الصوم بموضعه من غير قولين، وظاهر المصنف أنه يفعل ذلك بموضعه مطلقا.

وتحصل مما مر أن من نذر عبادة من صوم أو صلاة أو اعتكاف بأحد المساجد الثلاثة، يلزمه الإتيان إلى الموضع الذي نذره ويفعل فيه ما ذكر، وهل إلا أن يكون محل النذر أفضل فيفعله فيه، أو ولو كان أفضل خلاف، وأن من نذر الاعتكاف في غيرها لا يلزمه الإتيان إليه بل يفعله في موضعه، سواء كان الغير ساحلا أو غيره قرب جدا أو بعد، وقيل: إن قرب جدا يذهب إليه ويفعله به، وأن من نذر الصوم والصلاة بساحل يلزمه الإتيان إليه ليفعله به، وأن من نذر الصوم والصلاة بغير المساجد الثلاثة والسواحل يفعلهما بموضعه ولا يذهب للغير قرب أو بعد، وقيل: إن قرب جدا يذهب إليه ويفعله به. والله سبحانه أعلم.

ولما تكلم على شروط الاعتكاف وأركانه ومفسداته وما يتعلق بذلك، شرع يتكلم على مكروهاته، فقال: وكره أكله خارج المسجد؛ يعني أنه يكره للمعتكف أن يأكل خارج المسجد بفنائه أو رحبته الخارجة عنه، فإن أكل خارجا عن ذلك بطل اعتكافه، وما ذكره المصنف من التفصيل للمدونة والمجموعة، وعليه يحمل ما قاله الباجي من إطلاق البطان بالخروج من المسجد برحبته التي هي صحنه، وما كان داخلا فيه، فلا يكره أكله بهما، ففي المدونة: ولا يأكل ولا يشرب إلا في المسجد وفي رحبه، وأكره أن يخرج منه فيأكل بين يدي بابه، وظاهر المصنف كالمدونة كراهة الأكل خارجه ولو خف الأكل، وقرب الخارج جدا، وعدم كراهة الشرب. قاله عبد الباقي والخرشي والشبراخيتي. وزاد الشبراخيتي والخرشي: وفي المدونة ما يفيد أن الشرب كالأكل في الكراهة. انتهى. ونحوه للأجهوري، وقال: لو قال المصنف: وكره أكله بفناء المسجد لسلم مما يرد عليه لشموله للأكل خارج الفناء أيضا، ولا بأس بالأكل داخل النارة ويغلقها عليه، وإنما طلب بغلق المنارة عليه زيادة في الستر وحسما من أن يتشاغل مع من يأتي بالتحدث ونحوه. قاله الخرشي. وكلام المصنف مقيد لما في إحياء الموات من كراهة الأكل الكثير في المسجد؛ إذ أكل المعتكف في المسجد مطلوب.

ص: 249

تنبيه: سنل ابن القاسم وابن وهب عن طعام الفجاءة يغشى الرجل القوم وهم يأكلون فيدعونه؟

فقالا: حسن جميل أن يجيبهم إذا دعوه، وإن لم يدعوه فلا يأكل. ابن رشد: ينبغي أن يعمل بما يظهر من حالهم، فإن ظهر له منهم استبشارهم وسرورهم بأكله معهم استحب له أن يجيبهم إذا دعوه، وإن ظهر له منهم أنهم كرهوا غشيانه إياهم وهم يأكلون وإنما دعود استحياء منهم، كره له أن يجيبهم، وإن لم يتبين له أحد الوصفين جاز له أن يجيبهم من غير استحباب ولا كراهة. ابن هلال. واعتكاف غير مكفي؛ يعني أنه يكره للإنسان أن يعتكف غير واجد من يكفيه مؤنته من طعام وشراب ونحو ذلك حتى لا يخرج إلا لحاجة الإنسان، وإذا اعتكف غير مكفي فله الخروج لشراء طعام ونحوه، ولا يقف مع أحد يحدثه، ولا لقضاء دين أو طلب حق، ولا يمكث بعد قضاء حاجته زمانا لأنه يخرج بذلك عن عمل الاعتكاف كحرمة الصلاة عند خروج راعف فيها لغسل دم، فإن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه، قال إمامنا مالك: وندب شراؤه من أقرب الأسواق إلى المسجد. قاله الشيخ عبد الباقي.

وقال ابن الحاجب: يخرج المعتكف لحاجة الإنسان أو لمعيشة إن احتاج ولو بعد، قال في توضيحه: يعني إذا لم يجد إلا ذلك، ولو وجد الأقرب ثم تعداه فذلك مكروه أو مفسد. انتهى. وظاهره أن له الخروج لحاجته، ولو وجد من يقوم مقامه في ذلك بغير عوض أو بعوض لا يشق مثله به. قاله الخرشي، وغيره. قوله:"واعتكافه غير مكفي"، يشمل ما إذا لم يجد كافيا، أو وجده وتركه واعتكف، وفي الحطاب: ولا يخرج لشراء طعام ولا غيره، ولا يدخل حتى يُعِدَّ ما يصلحه، ولا يعتكف إلا من كان مكفيا حتى لا يخرج إلا لحاجة الإنسان. انتهى المراد منه. وقد مر أنه إذا خرج لقضاء الحاجة لا يقف بعد قضاء الحاجة يحدث أحدا مثلا، وأنه إن فعل ذلك فسد اعتكافه، وقوله:"غير"، حال من الضمير في اعتكافه ودخوله منزلة؛ يعني أنه يكره للمعتكف إذا خرج لحاجة -كما للأمير- أن يدخل منزلة الساكن فيه القريب من المسجد وفيه أهله، فإن لم يكن قريبا من المسجد بطل اعتكافه، فإن كان قريبا من المسجد ولم يكن به أهله لم يكره له دخوله، وإن دخل أسفل القريب وأهله بالعلو فلا كراهة، وما ذكره المصنف من الكراهة

ص: 250

لا ينافي جواز مجيء زوجته إليه وأكلها معه في المسجد وحديثها له؛ لأن المسجد وازع أي مانع من الوطء ومقدماته ولا وازع في المنزل.

واعلم أنه إن خرج لحاجة فلا يجاوز القريب الممكن فعله فيه، قال الشبراخيتي: فإن جاوزه بطل اعتكافه. وإن لغائط؛ يعني أنه يكره للمعتكف أن يدخل منزلة القريب من المسجد الساكن فيه وبه أهله وإن كان ذلك لأجل قضاء حاجة الإنسان من بول أو غائط، فإن لم يكن قريبا من المسجد إلى آخر ما مر، قال ابن نافع عن مالك: وإذا قرب منه كرهت له دخوله لحاجة الإنسان إلا أن يكون غير مسكون فيه. واشتغاله بعلم؛ يعني أنه يكره للمعتكف أن يشتغل بالعلم تعلما أو تعليما، قاله في المدونة، خلافا لابن وهب القائل: يجوز له سائر الأعمال المختصة بالآخرة، وقوله:"بعلم": أي غير عيني وإلا لم يكره، فإن قيل الاشتغال بالعلم غير العيني أفضل من صلاة النافلة فلم كره هنا واستحبت هي والذكر والقرآن؟ فالجواب أنه يحصل بالنافلة وما في حكمها ما شرع الاعتكاف له من رياضة النفس وخلوصها من صفاتها المذمومة غالبا، وذلك لا يحصل بالعلم، وقوله:"واشتغاله بعلم"، قال محمد بن الحسن: ابن رشد: هذا مذهب ابن القاسم. وروايته عن مالك الذي يرى أن الاعتكاف يخص من أعمال البر بذكر الله تعالى وقراءة القرآن والصلاة، وأما على مذهب ابن وهب الذي يبيح للمعتكف جميع أعمال البر المختصة بالآخرة، فتجوز له مدارسة العلم وعيادة المريض في موضع معتكفه، والصلاة على الجنائز إذا انتهى إليه زحام الناس، ويجوز له أن يكتب المصاحف للثواب لا ليتمولها ولا على أجرة يأخذها، بل ليقرأ فيها وينتفع بها من احتاج لها. انتهى من رسم شك من سماع ابن القاسم، وهو يدل على أن كتب المصحف لا يباح للمعتكف على المشهور.

تنبيه: اعلم أن العلم إما قديم وإما حادث، الأول علم الله تعالى وهو صفة وجودية قائمة بذاته تعالى، واحدة متعلقة بكل معلوم موجود ومعدوم، قديمة بقدم ذاته، باقية ببقائها، مخالفة لعلمنا كسائر صفاته تعالى، موجبة له تعالى كونه عالما. والثاني علم الحادث، وينقسم -سواء كان تصورا أو تصديقا- إلى ضروري ونظري، وقد يقال: ضروري وكسبي أو بديهي وكسبي، أما الضروري فيفسر بما يحصل للنفس بلا اختيار، ويقابله الكسبي وهو العلم الحاصل عن كسب العبد

ص: 251

استدلالا أو غيره، كالتصفية والرياضة، وبما يحصل بمجرد التفات العقل ويقال له البديهي ويقابله النظري، فالكسبي على هذا أعم من النظري.

تنبيه آخر: قد مر ذكر شيء من فضائل العلم، والمراد به العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله تعالى وصفاته، وما يجب له من القيام بأمرد وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه. قاله ابن حجر.

"وكتابته". الواو بمعنى: أو؛ يعني أنه يكره للمعتكف أن يشتغل بالكتابة، والضمير في قوله:"كتابته"، للمعتكف من إضافة المصدر إلى فاعله، وليس الضمير عائدا على العلم إذ لو كان عائدا عليه لما صحت المبالغة بقوله: وإن مصحفا؛ يعني أنه يكره للمعتكف أن يشتغل بالكتابة، ولا فرق في ذلك بين كتابة المصحف وكتابة غيره، وبالغ على المصحف ليلا يتوهم أن كتابة القرآن كتلاوته. قاله غير واحد. قوله:"وكتابته"، ينبغي أن تقيد بما إذا لم تكن بمعاشه، وقوله:"وكتابته وإن مصحفا"، قال فيه الحطاب: يعني أنه يكره كتابة المعتكف سواء كتب مصحفا أو علما فأحرى غير ذلك، وقوله:"وكتابته"، بالجر عطف على علم، وبالرفع عطف على "اشتغاله"؛ وهو أقعد. قاله الحطاب.

إن كثر؛ يعني أن محل كراهة الاشتغال بالعلم والكتابة حيث كثر ذلك، بأن شغله عما ندب له، فإن خف بأن لم يشغله عما ندب له فلا كراهة.

وبما قررت علم أن قوله: "إن كثر"، راجع للعلم والكتابة، وسئل مالك: أيجلس مجالس العلم أو يكتب العلم؟ قال: لا يفعل إلا الشيء الخفيف والترك أحب إلي. وفعل غير ذكر وصلاة وتلاوة؛ يعني أنه يكره للمعتكف أن يفعل غير هذه الثلاثة؛ وهي الذكر من تسبيح وتهليل ودعاء واستغفار وتدبر في آيت الله تعالى. ومآل الدنيا والاخرة؛ لأنه عبادة السلف، والصلاة وفي معنى الصلاة الطواف ودخول الكعبة والتلاوة، وحكمه بالكراهة على غير فعل الذكر والصلاة والتلاوة يدل على أن فعلها ليس بواجب ولا جائز مستوي الطرفين؛ إذ لو وجب لحرم فعل غيرها وقد حكم بكراهته، ولو جاز فعلها لجاز مقابلها، فلم يبق إلا استحباب فعلها. قاله الأجهوري.

ص: 252

ونوزع في الملازمة المذكورة، وإنما قلنا إن الطواف من معنى الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام

(1)

)، وفي المدونة: وليقبل على شأنه.

أبو الحسن: شأنه الذكر وقراءة القرآن والصلاة، وفي غيرها من أفعال الآخرة قولان. ابن ناجي في شرح الرسالة: ولا خلاف أن المعتكف يحاكي المؤذن انتهى. أي يحكي أذانه. والله سبحانه أعلم. وقال في سماع ابن القاسم: وترقيع ثوبه مكروه، ولا ينتقض به اعتكافه، وشبه في الكراهة التي هي حكم غير الذكر والصلاة والتلاوة، ولم يعطف لإيهام العطف على ذكر، فقال: كعيادة؛ يعني أنه يكرفى للمعتكف عيادة مريض في المسجد إلا أن يكون قريبا منه، فلا بأس أن يسلم عليه، ولا يقوم ليعزي ولا لِيُهَنِّئَ، وأما إن كان المريض في غير المسجد فلا يجوز للمعتكف أن يعوده.

تنبيهان: الأول: قال ابن بطال: تشرع عيادة الشرك إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا. انتهى. قاله الخرشي.

الثاني: اعلم أن للعيادة شروطا منها: أن يقل السؤال عنه، وأن لا يطيل الجلوس عند المريض، وأن يظهر الشفقة عليه، وأن يضع يده على رأسه ليعلم مرضه، وأن يدعو له، وأن لا ينظر في عورة منزلة، وأن لا يقنطه، وقد ورد في الدعاء له: (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيه (

(2)

) سبع مرات، فإنه يعافى ما لم يأت أجله، وأما المريض فلاستكماله الأجر شروط: أن لا يضيع الطاعات، وأن يكثر الرجاء، وأن لا يظهر الشكوى إلا لصالح يستجلب بذلك دعاءه، وأن لا يتوكل على صاحب الدواء إذا داوى، وتجوز زيارة المريض في كل وقت إلا عند الهاجرة. انتهى ملخصا من الشبراخيتي والخرشي.

وفي النفراوي ما نصه: واعلم أن الزيارة مطلوبة لكل مريض ولو أرمد أو صاحب ضرس، وأما حديث: ثلاثة لخ، فقد ضعفه بعض المحدثين. انتهى.

(1)

الإتحاف، ج 4 ص 345 - 346.

(2)

الترمذي، كتاب الطب، الحديث 2083. أبو داود، كتاب الجنائز، الحديث 3106 والذي فيهما: "أن يشفيك".

ص: 253

وجنازة، عطف على مدخول الكاف؛ يعني أنه يكره للمعتكف أن يصلي على الجنازة، ظاهره ولو لجار أو صالح، ولو لاصقت؛ يعني أنه يكره للمعتكف أن يصلي على الجنازة ولو قربت منه؛ بأن لاصقته، أو انتهى إليه زحام المصلين عليها، ورد المصنف بلو القول بأن له أن يصلي على الجنازة في المسجد، ولا ترجع المبالغة لقوله:"كعيادة"، لقوله بعد:"وسلام على من بقربه"؛ فإنه شامل للمريض. والله سبحانه أعلم.

وفي الحطاب ما نصه: ظاهر كلامه -يعني المصنف- أن العيادة والجنازة يكره له فعلهما في المسجد وغيره وليس كذلك، بل الكراهة إنما هي إذا كان ذلك في المسجد، وأما إن كان في غير المسجد فلا يجوز، قال في المدونة: قال مالك: ولا يعجبني أن يصلي على جنازة وهو في المسجد، قال عنه ابن نافع: ولو انتهى إليه زحام المصلين عليها، ولا يعود مريضا معه في المسجد إلا أن [يصل

(1)

] إلى جنبه فلا بأس أن يسلم عليه، ولا يقوم ليعزي أو ليهنئ أو ليعقد نكاحا في المسجد إلا أن [يغشا

(2)

] ذلك في مجلسه فلا بأس به. انتهى. وقال بعد ذلك: ولا يكون معتكفا حتى يجتنب عيادة المرضى، والصلاة على الجنائز واتباعها، وغير ذلك مما يجتنبه المعتكف. ابن نافع عن مالك: وإن شهد جنازة أو [عاد

(3)

] مريضا أو أحدث سفرا منع ذلك

(4)

وجب عليه الابتداء، ولا ينفعه أن يشترط ذلك عند دخوله. انتهى. وقال اللخمي: ولا يجوز له أن يخرج لعيادة مريض، ولا لشهود جنازة، ولا لأداء شهادة، فإن فعل فسد اعتكافه. انتهى. وقال قبله: واختلف في صلاته على الجنازة وهو في مكانه، فكرهه في المدونة وفي المعونة إجازته. انتهى.

وصعوده لتأذين بمنار أو سطح؛ يعني أنه يكره للمعتكف أن يرقى المنار للأذان؛ أي يكره له أن يؤذن على المنار بفتح الميم، وكذا يكره للمعتكف أن يؤذن فوق سطح المسجد لأنه كالخروج من المسجد، وكذا يكره أكله فوق سطح المسجد بخلاف صعوده للأكل بالمنارة، فلا كراهة فيه كما ذكره الشارح وغيره عند قوله: وكره أكله، والفرق أن المنار أشد تعلقا بالمسجد من سطحه؛ لأنه

(1)

في الحطاب ج 3 ص 249 ط دار الرضوان: أن يصلي.

(2)

في الأصل: يغشا، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 249. ط دار الرضوان.

(3)

في الأصل: أو أعاد، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 249 ط دار الرضوان.

(4)

كذا في الأصل: والذي في الحطاب والتهذيب، ج 1 ص 389. صنع ذلك متعمدا وجب.

ص: 254

بني للإعلام بدخول وقت ما بني المسجد له، وأفهم قوله:"وصعوده لتأذين"، أن تأذينه بصحن المسجد ليس بمكروه وهو كذلك؛ إذ هو جائز، وقوله:"وصعوده لتأذين أو سطح"، قال فيه عبد الباقي: قيدت الكراهة بما إذا لم يرصد الوقت، وإلا لم يكره. انتهى قال محمد بن الحسن: فيه نظر، بل هو تحريف؛ إذ المقيد لعياض وهو لم يقيد به الكراهة، وإنما قيد به الجواز بمكانه أو صحنه. ابن عرفة: عياض: إن كان يرصد الأوقات، أو كان يؤذن بغير معتكفه برحاب المسجد فيخرج إلى بابه كره، وإلا فظاهرها جوازه. انتهى. وترتبه للإمامة؛ يعني أنه يكره ترتب المعتكف للإمامة؛ لأن الإمامة على تلك الحالة ربما شغلته عن بعض شأنه، وهذا أحد قولي سحنون، وقوله الثاني الجواز، وعليه اقتصر الشيخ ابن أبي زيد في الرسالة واللخمي، وقال ابن ناجي: إنه المشهور. قاله الحطاب.

وقال الشبراخيتي: وكره ترتبه للإمامة في الفرض والنفل، وفيه نظر لقول ابن ناجي: المشهور جوازه -انتهى- بل استحبابه، ولا مفهوم لترتبه، بل لا فرق بين أن يكون راتبا أو غير راتب، وفي بعض النسخ: وترتبه للإقامة، وفيه نظر أيضا، فإن النص عن مالك أنه يكره له أن يقيم لأنه يمشي إلى الأمام وذلك عمل. انتهى. وحينئذ فلا فرق بين أن يكون راتبا وغير راتب، لكن قيده في الحاشية بما إذا احتاج لمشي وإلا فلا كراهة.

وإخراجه لحكومة؛ يعني أنه يكره للحاكم أن يخرج المعتكف من معتكفه قبل تمام مدة الاعتكاف لأجل حكومة، والحكومة بضم الحاء هي القضية المحكوم فيها. إن لم يلد به؛ أي بالاعتكاف؛ يعني أن محل كراهة إخراج المعتكف من موضع اعتكافه للحكومة إنما هو حيث لم يلد المعتكف باعتكافه؛ أي حيث لم يكن ممتنعا من الانقياد لحكم الشرع باعتكافه، وأما إن جعل اعتكافه وسيلة إلى الامتناع من الانقياد لحكم الشرع فلا يكره للحاكم إخراجه للحكومة، بل يجب إخراجه ويبطل اعتكافه كما قال الأمير.

وبما قررت علم أن الباء في قوله: "به"، سببية، وقوله:"يلد"، بفتح الياء واللام وبضم الياء من ألد رباعيا، واعلم أن محل قوله:"وإخراجه لحكومة"، حيث بقي من اعتكافه زمن لا يحصل لرب الحق ضرر بصبره لفراغه وإلا لم يكره، ومحل عدم الكراهة فيما إذا ألد بالاعتكاف إنما هو

ص: 255

حيث لم يبق منه يسير بل بقي منه كثير، وأما إن بقي من اعتكافه يسير وقد لد بالاعتكاف فإنه يكره إخراجه لحكومة.

وعلم مما قررت أن كلا من منطوق المصنف ومفهومه مقيد، فالمنطوق مقيد بما إذا بقي من اعتكافه زمن لا يحصل لرب الحق ضرر بصبره لفراغه، وإلا لم يكره -كما علمت- والمفهوم مقيد بما إذا بقي من اعتكافه كثير، فإن بقي منه يسير كُرِهَ إخراجه كما مر، وصحح ابن الحاجب بناءه إذا أخرجه الحاكم مكرها، وظاهره كره له إخراجه أم لا، ومفهومه أنه لو خرج باختياره لم يبن ويبطل اعتكافه وهو كذلك. قاله الشبراخيتي. وقال الحطاب: قال في المدونة: وإن خرج يطلب حدا أو دينا أو أخرج فيما عليه من حد أو دين فسد اعتكافه، وقال ابن نافع عن مالك: إن أخرجه قاض لخصومة أو غيرها، فأحب إلي أن يبتدئ اعتكافه، وإن بنى أجزأه، ولا ينبغي له إخراجه لخصومة أو غيرها حتى يتم إلا أن يتبين له أنه إنما اعتكف لددا فيرى رأيه فيه. انتهى. انتهى.

وقال محمد بن الحسن بعد أن نقل كلام المدونة -أعني وإن خرج يطلب حدا إلى قولها وإن بنى أجزأه- ما نصه: قال مصطفى: وظاهر إطلاقها سواء ألد باعتكافه أم لا، وقال القلشاني في شرح الرسالة: إن خرج كارها وكان اعتكافه هربا من ذلك الحق فخروجُه يبطل اعتكافه اتفاقا. انتهى. ونحوه في الجواهر. وجاز إقراء قرآن؛ يعني أنه يجوز للمعتكف أن يعلم غيره القرآن بموضعه، لقول الجلاب: ولا بأس أن يقري غيره القرآن بموضعه، لكن ذكر الحطاب أنه يكره تعليمه القرآن كما يفيده كلام سند، وأن ما في الجلاب خلاف المعتمد. قاله غير واحد. وليس للقاضي أن يعتكف؛ إذ لا يقضي بين الناس حالة اعتكافه، فمنع من الاعتكاف لما تعلق به من حقوق الناس، وعبارة عبد الباقي: وجاز للمعتكف إقراء قرآن أو قراءته على غيره أو سماعه من غيره لا على وجه التعليم أو التعلم، وإلا كره على المذهب كما في الحطاب، ثم الجواز منصب على الإقدام على سماعه من غيره لا لتعلم أو تعليم، وإن كانت القراءة مستحبة وكذا سماعها. انتهى. وقال الحطاب بعد جلب أنقال: فيحمل كلام المصنف على أن المراد قراءة القرآن على الغير وسماعه من الغير. انتهى. وقيد الشارمساحي في شرحه للجلاب كلام الجلاب بما إذا لم يقصد

ص: 256

بإقرائه للقرآن التعليم، وإلا فيمتنع كثيرة. قال محمد بن الحسن: وبهذا يجمع بين كلام سند والجلاب. انتهى. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ الأمير عاطفا على المكروه: وفعل غير ذكر وصلاة وتلاوة وإن علما وإن كان أفضل؛ لأن المقصود ما يسرع بكسر النفس. شيخنا: الكراهة في زيادة الغير، فإن اقتصر على المتعدية محضة لم يصح كما يفيده تعريف ابن عرفة للاعتكاف، ثم قال عاطفا على الجواز: وإسماعه القرآن وسماعه. انتهى.

وسلامه على من بقربه؛ يعني أنه يجوز للمعتكف أن يسلم على من كان قريبا منه من غير سعي ولا قيام لأجله ولا انتقال عن مجلسه، ومعنى سلامه عليه سؤاله عن حاله، لا قوله: السلام عليكم، فإن هذا غير متوهم، وأيضا هو داخل في الذكر. قاله عبد الباقي.

قال جامعه عفا الله تعالي عنه: وهو يفيد أنك تخاطب بالسلام على من كان جالسا عندك أو قربك، وإن لم تقدم عليه. والله سبحانه أعلم. وقوله:. "وسلام على من بقربه"؛ أي سواء كان الذي سلم عليه المعتكف صحيحا أو مريضا، وعبارة الخرشي: والمراد بالسلام هنا السؤال عن الأحوال، كالسؤال عن حاله وحال عياله، كقولك: كيف حالك وحال عيالك؟ وأما السلام عليكم، فقد دخل في الذكر، والمراد بالقرب أن لا ينتقل إليه من مجلسة. انتهى.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: وهذا وما تقدم صريح أو كالصريح في أن غير القادم يسلم ابتداء حيث لم يسلم عليه القادم، فيفيد أنه إذا لم يسلم الراكب على الماشي والماشي على الجالس فإنه يسلم على الراكب أو الماشي؛ أي يبدؤه بالسلام. والله سبحانه أعلم. وعلم مما مر أنه يجوز السؤال عن الأحوال، كالسؤال عند السلام. وتطيبه؛ يعني أنه يجوز للمعتكف أن يتطيب بأنواع الطيب. قاله في المدونة. قاله الشبراخيتي. وقال الحطاب: قال في المدونة: ولا بأس أن يتطيب المعتكف، قال في الطراز: ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي إلى جواز ذلك من غير كراهة، وقال ابن حنبل: يستحب له أن لا يتطيب ولا يلبس الرفيع من الثياب. انتهى. وانظر هذا مع ما ذكره صاحب الشامل أن الصائم لا يشم الرياحين والمعتكف لا يكون إلا صائما. انتهى كلام الحطاب. والجواب عما أورده أن الصائم غير المعتكف ربما قَرِب بسبب الطيب النساء، بخلاف المعتكف فإن المسجد مانع له وبعيد من النساء، نقله غير واحد. وقوله:"وتطيبه"، بمثناة تحتية

ص: 257

تتلوها باء موحدة؛ أي استعماله شيئا من أنواع الطيب نهارا لأنه المتوهم وأولى ليلا، وذكر بعض مشايخ التتائي أن في بعض النسخ بيَاءَيْنِ، قال: وكأن المعنى: يجوز أن يتطيب وأن يطيب غيره. قاله الشيخ إبراهيم. وقوله: "وتطيبه"، هو المشهور، وقيل: لا يتطيب. قاله الشارح.

وأن ينكح. بفتح الياء كما قاله الشبراخيتي؛ يعني أنه يجوز للمعتكف أن ينكح أي يتزوج أي يعقد نكاح نفسه إذا كان ذلك بمجلسه من غير انتقال ولا طول، فلو قام من مجلسه لذلك كره، وينكح بضم الياء وبالنصب عطفا على ينكح؛ يعني أنه يجوز للمعتكف أن يعقد نكاح غيره، كان الغير ذكرا أو أنثى، ومحل جواز نكاحه وإنكاحه إنما هو حيث فعل ذلك بمجلسه؛ أي بمجلسه المعتكف به، وأما لو قام من مجلسه ليتزوج أو ليزوج فإن ذلك مكروه أو مفسد. قاله ابن القاسم. وترك المصنف قيدا آخر وهو أن لا يطول تشاغله بذلك، وعبارة الشبراخيتي والخرشي: مفهومه لو كان بغير مجلسه، فإن كان في المسجد كره، وإن كان خارجه بطل اعتكافه. انتهى. قال غير واحد: والفرق بين جواز ذلك للمعتكف ومنعه للمحرم أن مفسدة الإحرام أعظم أو أن الأصل جوازه لهما، وخرج المحرم بالحديث أوأن مع المعتكف وازعا وهو الصوم والمسجد، أو أن المحرم بعيد عن الأهل بالسفر غالبا فعنده شدة الشوق والتذكر. انتهى. والحديث المشار إليه هو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح المحرم ولا ينكح

(1)

). انظر الشبراخيتي. وجاز للمعتكف أخذه، المراد بالأخذ هنا الإزالة والقص؛ إذا خرج من معتكفه لأجل كغسل أدخل الكاف على الغسل، والمقصود دخولها على المضاف إليه وهو قوله: جُمعَةٍ؛ أي غسل كجمعة من جنابة أو عيد أو حر أصابه. ظفرا، مفعول "أخذه"، وقوله: أو شاربا، معطوف على قوله:"ظفرا"، وإيضاح معنى كلام المصنف أنه يجوز للمعتكف إذا خرج من معتكفه لأجل غسل جمعة أو لغسل جنابة أو لغسل العيدين أو لحر أصابه وما أشبه ذلك، أن يحلق شعر عانته، وأن يقص أظفاره أو شاربه، أو ينتف إبطه، أو يستاك يفعل ذلك خارج المسجد كما أفاد ذلك بقوله:"إذا خرج"، فإذا ظرف زمان متعلق بالمصدر؛ وهو قوله:"أخذه"؛ أي تجوز إزالة ما ذكر حيث خرج من المسجد، وأما فعل شيء من ذلك في المسجد فإنه مكروه لحرمة المسجد، وإن جمع ذلك في ثوبه

(1)

مسلم، كتاب النكاح، الحديث:1409.

ص: 258

وألقاه خارجه. وقوله: "إذا خرج"، مثله إذا كان في المسجد وأخرج العضو الذي يتعلق به القص أو النتف، وأشعر كلام المصنف بمنع الحجامة والفصادة في المسجد، وهو كذلك كما نص عليه سند؛ أي ولوألقى الدم في إناء مثلا وألقاه خارجه، فإن فعل، فهل يبطل لكونه كبيرة أم لا؟ قاله الخرشي.

وقال الحطاب: ولا يجوز له الحجامة ولا الفصادة في المسجد، كما لا يجوز له البول والتغوط، فإن اضطر للفصد والحجامة خرج، فإن فعل ذلك في المسجد فمن أبطل الاعتكاف بكل منهي عنه أبطله بهذا، ومن راعى كون الذنب كبيرة فلا. قاله سند. ولا يخرج لمجرد قص الشارب والظفر، ولا بأس أن يخرج يده أو يدني رأسه لمن هو خارج المسجد فيأخذ منه ويصلحه، ولا يخرج للحمام إذا احتلم إلا أن لا يستطيع الماء البارد ولا أمكنه الطهر في بيته فليذهب إليه، وأشعر جواز أخذ الظفر والشارب بعدم جواز حلق الرأس إذا خرج وهو كذلك، قال أبو الحسن: لأنه يشغله فإن أمكنه إخراج رأسه لمن يحلقه جاز (لترجيل السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها وهو في المسجد

(1)

)، ولو أخرج العضو الذي يحتجم فيه أو يفصده فالظاهر الكراهة؛ إذ تلويث المسجد بشيء من الدم غير محقق، والظاهر أن خروجه لذلك حيث اضطر له لا يبطل اعتكافه لأنه صار من الأمور الحاجية. قاله الشبراخيتي.

وفي الخرشي عن بعضهم: فعل الدم

(2)

والفصادة في المسجد ليس كبيرة وإنما هو مكروه فقط، وأما الدم فيجب طرحه خارج المسجد. انتهى. وفي الحطاب: ويخرج لغسل الجنابة إجماعا، ولا يؤخر ذلك لأنه يحرم عليه اللبث في المسجد، فإن تعذر عليه الخروج ولم يجد له سبيلا تيمم لاستباحة اللبث ولاستباحة الصلاة، وإذا أمكنه الخروج فهل يخرج من غير تيمم أولا يخرج ولا يمشي في المسجد حتى يتيمم؟ قولان قد مر ذكرهما في فصل التيمم، وتقدم أن الأرجح عدم التيمم، وهل يذهب إلى الحمام؟ قال في المجموعة في المعتكف في الشتاء يحتلم ويخاف الماء البارد: لا ينبغي له أن يدخل الحمام، وهذا إذا وجد من ذلك بدا وأمكنه أخذ الماء من الحمام، ويتطهر في

(1)

البخاري، أبواب الاعتكاف، الحديث:2088.

(2)

الذي في العدوي على الخرشي ج 2 ص 276 ط دار الفكر. (الحجامة)

ص: 259

بيته: فإن لم يمكنه جاز له بل واجب عليه، ولا يتيمم الجنب مع قدرته على استعمال الماء. انتهى. وإذا احتاج المعتكف إلى قص أظفاره وشاربه جاز له أن يخرج يده من المسجد ثم يقلم أظفاره، ويدني رأسه لمن يأخذ من شعره ويصلحه، ولا يخرج في ذلك إلى بيته ولا إلى دكان حجام؛ لأنه يقدر على ذلك وهو في المسجد. انتهى.

وانتظار غسل ثوبه يعني أن المعتكف إذا أجنب في ثوبه مثلا وخرج لغسله، فإنه يجوز له أن ينتظر غسل ثوبه. وتجفيفه؛ يعني أنه يجوز للمعتكف أن ينتظر ثوبه حتى يغسل ويجف؛ بأن يمكث عنده حتى يجف، غَسَلَهُ هو أو غَيْرُهُ في المسألتين؛ أعني قوله:"غسل ثوبه"، وقوله:"وتجفيفه"، وقوله:"وانتظار غسل ثوبه وتجفيفه"؛ أي إذا لم يكن له ثوب غيره ولا وجد من يستنيبه في ذلك كما قال سند؛ لأنه حينئذ صار من الأمور الضرورية، فلا يعترض عليه بقوله فيها: ولا ينتظر غسل ثوبه وتجفيفه أي يكره له ذلك؛ لأنه فيمن له غيره. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: قال في المدونة: ولا ينتظر غسل ثوبه وتجفيفه، قال أبو الحسن: للشيوخ هنا تأويلان: منهم من قال لا ينتظر واحدا من الأمرين لا الغسل ولا التجفيف، ومنهم من قال بل معناه لا ينتظر التجفيف وأما الغسل فإنه يغسله. انتهى. وفهمها ابن الحاجب على الأول، فقال: ولا ينتظر غسل ثوبه ولا تجفيفه. انتهى. وظاهر كلام ابن عرفة الثاني، لقوله: وفيها لا ينتظر في خروجه لغسل جنابة جفاف ثوبه. انتهى. وقال الشبراخيتي: وتجفيفه أي انتظار تجفيفه إذا لم يكن له غيره ولا وجد من يستنيبه، قال سند: لأنه حينئذ من الضروريات لقضاء الحاجة، فإن كان له غيره أو وجد من يستنيبه كره له ذلك. انتهى.

وندب إعداد ثوب؛ يعني أنه يندب للمعتكف أن يعد ثوبا غير الثوب الذي اعتكف فيه ليأخذه إذا أصابت الثوب الذي اعتكف فيه نجاسة كالمرضع، ولا يتوهم أن معنى كلام المصنف أنه يستحب للمعتكف أن يعد أي يهيئ ثوبا للاعتكاف، فلا يعتكف في الثوب الذي كان عليه قبل الاعتكاف فيتوجه عليه الاعتراض، وفي المدونة: وأحب إلى أن يعد ثوبا آخر يأخذه إذا أصابته جنابة. انتهى.

ص: 260

ومكثه ليلة العيد؛ يعني أنه يندب للمعتكف أن يمكث في معتكفه ليلة العيد إذا اتصل اعتكافه بها ليمضي من مصلاه لبيته، لفعله عليه الصلاة والسلام، وقوله:"ومكثه ليلة العيد"، ظاهره سواء كان ليلة العيد آخر اعتكافه، كما لو اعتكف العشر الأخيرة من رمضان أو في أثنائها، كما لو اعتكفها ثم مرض ثم صح قبل يوم العيد فرجع إلى المسجد، فإنه يندب له أن يمكث ليلة العيد وله أن يخرج ليلة العيد ويومه ثم يرجع للقضاء، وقال التونسي: ظاهر المدونة أنه في الأثناء يجب مبيته بالمسجد ولا يخرج إلا يوم العيد. قاله الشبراخيتي. وأشر قوله: "ليلة العيد"، أنه لو كان اعتكافه العشر الأول أو الوسطى من رمضان -مثلا- لا يندب له مبيت الليلة التي تليه وهو كذلك، فيخرج إذا غربت الشمس آخر اعتكافه.

وعلم مما قررت أن الأقسام ثلاثة، وقوله:"ومكثه ليلة العيد"، هو بحسب ظاهره يشمل الفطر والأضحى، ولكن ظاهر كلامهم قصر الندب على عيد الفطر؛ لأنه فعله عليه الصلاة والسلام أي إنما اعتكف العشر الأخيرة من رمضان لا عشر ذي الحجة. قاله عبد الباقي وقوله:"ومكثه ليلة العيد"، قال حلولو: ولا يذهب لبيته للبس حوائجه ولكن يؤتى بها إلى المسجد فيلبسها ثم يخرج إلى العيد ويرجع من المصلى إلى أهله، وقوله:"ومكثه ليلة العيد"، وقع في نسخة الشارح في الكبير موضع مكثه مبيته، وكتب عليه إبراهيم اللقاني: مكثه أخصر بحرف، لكن لا تدل على إتمام الليلة صريحا بخلاف مبيته.

ودخوله قبل الغروب؛ يعني أنه يستحب في الاعتكاف المنوي أن يدخل المعتكف في معتكَفه قبل الغروب من اليوم الذي يريد أن يبتدئ اعتكافه في الليلة التي تعقبه، ولو كان الاعتكاف المنوي يوما فقط أو ليلة فقط، وأما الاعتكاف المنذور فيجب دخوله فيه قبل الغروب أو معه للزوم الليل له كما قاله جد علي الأجهوري وتبعه أحمد، وأما قوله: وصح إن دخل قبل الفجر، فهو شامل للمنوي والمنذور مع مخالفة الندب في الأول أي المنوي، والواجب في الثاني أي المنذور، وسواء كان الاعتكاف يوما أو أكثر. قوله:"وصح إن دخل قبل الفجر"، بناء على أن أقله يوم، وأما على أن أقله يوم وليلة فلا بد أن يدخل قبل الغروب. قاله الشبخ إبراهيم.

ص: 261

تنبيه: للمعتكف أن يطلب فضيلة الصف الأول. قاله اللخمي. نقله الحطاب. وقال محمد بن الحسن: ابن الحاجب: ومن دخل قبل الغروب اعتد بيومه وبعد الفجر لا يعتد به وفيما بينهما قولان.

التوضيح: واختلف فيما إذا دخل بينهما والمشهور الاعتداد، وقال سحنون: لا يعتد، وحمل بعضهم قول سحنون على أنه ليس بخلاف، وأن المشهور محمول على النذر، وقول سحنون محمول على التطوع. ابن رشد: والظاهر أنه خلاف. ابن هارون: وظاهر كلامه أن الخلاف جار ولو دخل لقرب غروب الشمس، وظاهر الرواية أن الخلاف لا يدخل هذه، وإنما محله إذا دخل قبل طلوع الفجر. انتهى. لكن في كلام ابن رشد عكس الحمل الذي في التوضيح كما نقله ابن عرفة، ونصه: ابن رشد: وحمل قول سحنون والمعونة على الخلاف أظهر من حمل بعضهم الأول على النذر والثاني على النفل. انتهى. فما في التوضيح سبق قلم، وتبعه على ذلك ابن فرحون. قاله مصطفى.

وبما ذكر تعلم أن الصواب إبقاء كلام المصنف على الإطلاق لاستظهار ابن رشد أن القولين خلاف، وقول التوضيح: والمشهور الاعتداد، ثم اعلم أن ما شهره المصنف عزاه ابن عرفة للمعونة، ورواية المبسوطة وهو على أصلهم أن من نذر اعتكاف يوم لا تلزمه الليلة لكنه خلاف ما تقدم للمصنف من لزوم ذلك الذي هو مذهب المدونة، وعلى اللزوم لابد من الدخول قبل الغروب كما صرحت به، وإلا لم يصح، ودرج المصنف هنا على الصحة لقول التوضيح تبعا لابن عبد السلام إنه المشهور؛ لأن عادته أن يتبع المشهور حيث وجده، ولم يتنبه إلى أنه خلاف ما قدمه الذي هو مذهب المدونة. قاله مصطفى.

واعتكاف عشرة؛ يعني أنه يستحب للمعتكف أن يعتكف عشرة أيام؛ أي يستحب له أن لا ينقص عن عشرة أيام؛ لأن أقل المستحب منه عشرة؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينقص عنها

(1)

)، وأكثره -أي المستحب- شهر، ويكره ما زاد عليه كما أنه يكره ما نقص عن عشرة، وعبارة الأمير: والمندوب من عشرة لشهر، وكره غيره زيادة ونقصا، قال: وهذه زبدة خلاف

(1)

البخاري، كتاب الاعتكاف، الحديث 2044.

ص: 262

كثير. انتهى. وفي شرح عبد الباقي: ويكره ما زاد على شهر وما نقص عن عشرة، ولابن الحاجب أكمله عشرة فيكره ما فوقها، وفي كراهة ما دونها قولان، وفائدة الخلاف في الأقل تظهر فيمن نذر اعتكافا ودخل فيه ولم يعين، فيلزمه الأقل على هذه الأقوال، فإن قيل: من نذر اعتكاف أكثر من عشرة أو من شهر أو أقل من عشرة ولو يوما فإنه يلزمه ذلك مع أنه نذر مكروها؟ على ما مر. فالجواب: أنه إنما لزمه ذلك نظرا للفعل بمجرده كما مر نظيره في نذر رابع النحر. انتهى بالمعنى. وفي الشبراخيتي: ويكره ما زاد على الشهر، كما يكره ما نقص عن العشرة كما قال مالك في المدونة، وذكره ابن رشد، وقول التتائي: وأما أكثره فلا حد له فيه نظر، وقول ابن الحاجب: إن أكمله عشرة وأقله يوم وليلة، مردود؛ لأنه قول منكر عن مالك. انتهى. وقول عبد الباقي عن ابن الحاجب: أكمله عشرة، فيكره ما فوقها، قال فيه محمد بن الحسن: وأما ما عزاه لابن الحاجب فليس كذلك فيه، ونصه: وأكمله عشرة، وفي كراهة ما دونها قولان. انتهى. فلم يقل: ويكره ما فوقها، وإنما نقله في التوضيح عن بعضهم، وقوله: على هذه الأقوال، صوابه على هذين القولين.

وبآخر المسجد؛ يعني أنه يندب للمعتكف أن يعتكف بآخر المسجد أي عجزه بضم الجيم كما في القاموس. خلافا لقول التتائي: إنه بسكونها وأما عجز الرجل والمرأة فيجوز فيه سكون الجيم وضمها مع فتح الأول وضمه. قاله الشبراخيتي. وندب بآخر المسجد لقلة الناس في العجز، ففيه إخفاء العبادة فيبعد عن الرياء، ويفهم من التعليل المذكور ندبه بصدره عند انعكاس الأمر، وأجاز في المدونة للمعتكف ضرب الخباء في رحابه الداخلة التي يُعْتَكَفُ فيها أي لا لغير معتكف أوله داخلا عن رحابه. قاله الشيخ عبد الباقي.

وقد مر أن للمعتكف طلب فضيلة الصف الأول، وعبارة الشيخ إبراهيم عند قوله:"وبآخر المسجد"؛ لأنه من إخفاء العبادة ولبعده عن اشتغاله مع غيره بالحديث. وبرمضان؛ يعني أنه يندب الاعتكاف برمضان، فقوله:"برمضان"، بالنسبة للزمان، وقوله:"وبآخر المسجد"، بالنسبة للمكان، وإنما ندب برمضان لأنه سيد المشهور، ولأنه تضاعف فيه الحسنات، ولخبر:

ص: 263

(شهر رمضان شهر الله

(1)

)، ولنزول القرآن فيه. وبالعشر الأواخر؛ يعني أنه يتأكد ندب الاعتكاف بالعشر الأواخر من رمضان لمواظبته صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف فيه في أكثر الأمر، وعلل المصنف ذلك بقوله: لليلة القدر؛ أي الشرف والعظم؛ يعني أنه يتأكد ندب الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان ليوافق اعتكافه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وأنزل الله فيها القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل مفرقا على حسب الوقائع في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة. الغالبة به؛ أي بالعشر الأخير؛ يعني أن ليلة القدر يغلب وجودها بالعشر الأخير من رمضان، (وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل العشر الأخير من رمضان يوقظ أهله كل ليلة

(2)

)؛ لأجل طلب ليلة القدر الغالب كونها به.

وقوله: "القدر"، بسكون الدال وفتحها جائز أي الشرف والعظم، ومعنى قوله تعالى:{خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر، فتكون الركعة فيها خير من ثلاثين ألف ركعة في غيرها، وكذلك سائر أنواع البر وشهود مغربها وعشائها، وخصت بها هذه الأمة لقصر أعمارها ليحصل فيها لهم ما يحصل في الأعمار الطويلة لطفا بها، وجاء (أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول فأتاه جبريل، فقال: إن الذي تطلب أمامك فاعتكف العشر الأواسط فأتاه جبريل، فقال: إن الذي تطلب أمامك فاعتكف العشر الأواخر

(3)

) وقيل في تسميتها: بليلة القدر وجوه أحدها أنها ليلة تقدير الأمور والأحكام، قال عطاء عن ابن عباس: إن الله تعالى قدر ما يكون في تلك السنة من رزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة، وقيل: القدر الضيق لأن الأرض تضيق على الملائكة فيها، وقيل: القدر للفاعل من أتى فيها بالطاعة كان ذا قدر وشرف، وقيل: نزل فيها كتاب ذو قدر وشرف عظيم، وقيل غير ذلك.

واعلم أن الله تعالى لا يحدث بقدرته في هذه الليلة ما لم يكن قدره؛ لأن الله تعالى قدر مقادير الخلائق في الأزل، ولكن المراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك الليلة لتكتبها في اللوح المحفوظ، وهذا هو الحق الذي لا شك فيه. والله سبحانه أعلم. انظر الصفدي.

(1)

كنز العمال، رقم الحديث:23685.

(2)

البخاري، كتاب فضائل ليلة القدر، الحديث:2024. مسلم، كتاب الاعتكاف، الحديث: 1174.

(3)

البخاري، كتاب الأذان، الحديث:813.

ص: 264

وفي كونها بالعام أو برمضان خلاف؛ يعني أنه اختلف في ليلة القدر، هل هي في جميع العام بمعنى أنها لا تختص برمضان، بل هي دائرة في ليالي العام، وهو مذهب مالك وابن مسعود، أو هي خاصة برمضان لقوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ، وشهره ابن غلاب.

واعلم أن الصحيح وهو مذهب الجمهور أن ليلة القدر لم ترفع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي باقية لأمته إلى يوم القيامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في العشر الأواخر

(1)

)، فلو كانت ارتفعت لم يأمر عليه الصلاة والسلام بالتماسها، وشهر في التوضيح أنها في العشر الأواخر، وقال: إنه المذهب عند الجمهور، وأنها تدور في العشر لأن الأحاديث في هذا الباب صحيحة ولا يمكن الجمع بينها إلا على ذلك. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي وغيره.

وانتقلت، قد تقدم أنه قال: وفي كونها بالعام أو برمضان خلاف؛ يعني أن ليلة القدر لا تختص بليلة، بل هي تدور على كل من القولين، أعني القول بكونها بالعام، والقول بكونها برمضان، وكون ليلة القدر تنتقل ولا تختص بليلة هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم. ابن رشد: وهو أصح الأقاويل وأولاها بالصواب؛ وهو أولى من إعمال بعض الأحاديث واطراح بعض، فحديث أبي سعيد: أنها (ليلة إحدى وعشرين

(2)

)، معناه في ذلك العام بعينه، وكذا حديث عبد الله بن أنيس: (ليلة ثلاث وعشرين

(3)

)، وأبي: (سبع وعشرين

(4)

)، وعبر بالفعل في قوله:"وانتقلت"، إشارة إلى أن ذلك واقع.

وبما قررت علم أن معنى قوله: "وانتقلت"، أنها لا تختص بليلة على كل من القولين، فعلى القول بأنها دائرة في ليالي العام تكون في بعض الأعوام ليلة إحدى وعشرين من رجب مثلا، وفي عام آخر تكون ليلة إحدى وعشرين من رمضان مثلا، وعلى القول بأنها خاصة برمضان تأتي في عام ليلة إحدى وعشرين من رمضان، وفي عام آخر تكون ليلة تسع وعشرين من رمضان مثلا، وقوله:"وانتقلت"، ذهب قوم إلى أنها معينة أبدا ولا تنتقل وهي غير معروفة، وأنها في العام كله

(1)

البخاري، كتاب فضائل ليلة القدر، الحديث:2021.

(2)

البخاري، كتاب فضائل ليلة القدر، الحديث:2018.

(3)

الموطأ، كتاب الاعتكاف، الحديث: 704

(4)

أبو داود، كتاب الصلاة، الحديث:1378.

ص: 265

وهو قول ابن مسعود، وروي عن أبي حنيفة وصاحبيه، وقيل: بل في شهر رمضان كله وهو قول ابن عمر وجماعة من الصحابة، وقيل: بل في العشر الأواسط والأواخر، وقيل: في العشر الأواخر وهي في هذا كله عند هؤلاء معينة ولكنها غير معروفة المعين، وقال قوم آخرون: هي معروفة معينة ثم اختلفوا، فقيل: ليلة إحدى وعشرين، وروي عن علي وابن مسعود، وقيل: ليلة ثلاث وعشرين وهو قول كثير من الصحابة وغيرهم، وقيل: ليلة أربع وعشرين وهو قول الحسن وقتادة وبلال وابن عباس، وقيل: ليلة سبع وعشرين وهو قول جماعة من الصحابة، وقيل: ليلة سبع عشرة وهو قول زيد بن أرقم وروي عن ابن مسعود، وقيل: تسع عشرة وروي أيضا عن ابن مسعود وعلي، وقيل آخر ليلة، وشذ قوم فقالوا: إنما كانت خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم ثم رفعت، واحتجوا بالحديث الذي جاء فيها أنه أعلمها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تلاحى رجلان فرفعت، ومعنى هذا عندنا أنه رفع عنه علم عينها كما قال في الحديث فأنسيتها، وفيه شؤم الخصام والتلاحي وعقوبة العامة بذنب الخاصة، وفي حديث فجاء رجلان يَحْتَقَّانِ فأنسيتها، ومعنى يحتقان يدعي كل منهما حقا ويؤكده. قاله في الإكمال

(1)

).

وفي إخفائها لطف بهذه الأمة ليجتهدوا في طلبها ويكثر

(2)

العمل ولا يتكلوا على عملهم فيها فقط إذا تعينت لهم، وقد جاء في كتاب النسائي: (فجاء رجلان معهما الشيطان فأنسيتها

(3)

). والمراد بكسابعة ما بقي؛ يعني أنه ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة

(4)

)، وأَنَّه ذهب مالك ومن وافقه إلى أن المراد بالتاسعة التاسعة بالنسبة لما بقي من العدد، لا بالنسبة لما مضى، وهذا المراد مأخوذ من الحديث الآخر الذي فيه: (التمسوها لتاسعة تبقى ولسابعة تبقى ولخامسة تبقى

(5)

)، فحمل مالك الحديث الذي أطلق فيه التاسعة والسابعة على الحديث الآخر، وهل يعتبر الشهر ناقصا لأن اليوم المكمل للثلاثين غير محقق كونه من الشهر، ولموافقة طلب التماسها في الأفراد؟ فالتاسعة أن يبقى تسع، والسابعة أن يبقى سبع،

(1)

الإكمال، ج 4 ص 147.

(2)

كذا في الأصلى.

(3)

عياض في الإكمال، ج 4 ص 149.

(4)

الموطأ، كتاب الاعتكاف، الحديث:705.

(5)

البخاري، كتاب فضائل ليلة القدر، الحديث:2021. بلفظ: .. في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى.

ص: 266

والخامسة أن يبقى خمس، وعليه ابن رشد فإنه قال: القول بأنها معدودة من آخر العشر، وأن التاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين مذهب مالك في المدونة، ودليله أن الأظهر في الواو الترتيب، والحساب على النقص أظهر لأن يوم التسع والعشرين متيقن ويوم الثلاثين غير متيقن بل يحتمل كونه وعدمه، ولا يحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام أراد أن تحسب على كمال الشهر ليلا يكون حضا منه على التماسها في غير الأوتار وهو قد حض على الأوتار في غير حديث، ولا على ما ينكشف من كماله ونقصانه ليلا يكون أمرا بما لا يصح الامتثال له إلا بعد فواته، ولا أن يكون أبهم مراده لتلتمس في جميع العشر؛ إذ لابد أن يكون في قوله: التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة زيادة فائدة على قوله: التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، أو يعتبر كاملا وعليه الشاذلي على الرسالة وهو قول الأنصار؛ إذ قالوا: معنى قوله اطلبوها لتاسعة تبقى هي ليلة اثنين وعشرين ونحن أعلم بالعدد منكم، وعليه فتكون في الأشفاع؛ لأنه إذا عُدَّ الشَّهْرُ مِن آخره كاملا كانت أشفاعه أوتارا وأوتاره أشفاعا، وعلى هذا فهي أفراد بالنسبة لما بقي، وعلى قول ابن رشد هي أفراد بالنسبة لما مضى ولما بقي، وقال ابن عطية: هي مستديرة في أوتار العشر الأواخر بحسب الكمال والنقصان، فينبغي لمرتقبها تحريها كل ليلة؛ لأن الأوتار مع النقص ليست هي مع الكمال، وعلى هذا فقوله:"ما بقي"، بأن يعد ما بقي من آخر الشهر على كماله ونقصانه، وقول المصنف:"والمراد"، مبتدأ وخبره:"ما بقي"، "وما" واقعة على عدد، فهي نكرة موصوفة، أو على العدد الذي بقي فهي

(1)

موصولة. والله سبحانه أعلم. وعلى أن الواو ليست للترتيب، فالتاسعة ليلة تسع وعشرين، والسابعة ليلة سبع وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، وقال الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه: هي في النصف الأخير، ومن شرطها أن تكون وترا ليلة جمعة، وحسابها أنه إذا دخل هلال رمضان بليلة السبت فإنها ليلة إحدي وعشرين، أو ليلة الأحد فليلة سبع وعشرين، أو بالاثنين فليلة تسع عشرة، أو بالثلاثاء فليلة خمس وعشرين، أو بالأربعاء

(1)

في الأصل: فهو.

ص: 267

فليلة سبع عشرة، أو بالخميس فليلة ثلاث وعشرين، أو بالجمعة فليلة تسع وعشرين، ونظم هذا الضابط بقوله:

وإنا جميعا إن نصم يوم جمعة

ففي تاسع العشرين خذ ليلة القدر

وإن كان يوم السبت أول صومنا

فحاد وعشرين اعتمده بلا غدر

وإن هل يوم الصوم في أحد فخذ

ففي سابع العشرين ما رمت فاستقر

وإن هل بالاثنين فاعلم بأنه

يوافيك نيل الوصل في تاسع العشر

ويوم الثلاثا إن بدا الشهر فاعتمد

على خامس العشرين تحظ بها فادر

وفي الأربعا إن هل يامن يرومها

فدونك فاطلب وصلها سابع العشر

ويوم خميس إن بدا الشهر فاجتهد

توافيك بعد العشر في ليلة الوتر

أي تكون ليلة القدر فيما إذا استهل الشهر بالخميس ليلة جمعة من الأوتار بعد عشر ليال، وذلك إنما يكون ليلة ثلاث وعشرين كما مر عنه. والله سبحانه أعلم.

الإمام مالك في الموطأ: سمعت من أثق به أنه صلى الله عليه وسلم أرِيَ من قَبْلَهُ، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل ما بلغ غيرهم، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر خير من ألف شهر. الباجي: مقتضى هذا اختصاص هذه الأمة بها، وثواب العمل فيها بما يرضي الله تعالى أكثر من ثوابه في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقيل: إنه كان في بني إسرائيل رجل مكث ألف شهر؛ وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر يقوم الليل ويجاهد النهار، فتمنى صلى الله عليه وسلم أن يكون من أمته، فأعطاه الله تعالى بدل ذلك لكل سنة ليلة القدر، وقيل: كان مَلِكٌ له ألف ولد فيجهز الولد بماله في عسكره ويخرجه مجاهدا، فيقيم الولد شهرا ثم يقتل حتى جهز الألف ولد في ألف شهر وهو مع ذلك صائم النهار قائم الليل، فقال الناس: من يصل لدرجة هذا؟ فأعطى الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة القدر خير من ألف شهر ذلك الملك، وقيل: لأنه رأى بني أمية تنزو على منبره نزو القردة ألف شهر فأحزنه ذلك فأعطي بدلها ليلة القدر، وفي

ص: 268

المدونة: من شهد العشاء ليلة القدر فقد أخذ منها، وروي:[من صلي المغرب والعشاء في جماعة فقد أصابها أو وافقها]

(1)

؛ أي أخذ منها حظه لا أنه كمن قامها.

سند: لم يذكر الصبح مع ما جاء في شهوده من أنه كقيام ليلة لأنها إلى مطلع الفجر، فلا يكون الصبح من وقت الفضل المختص بها، وانظر هذا مع ما ورد أن ليالي أربعا ليلها كنهارها: ليلة الجمعة، وليلة العيد، وليلة النصف من شعبان، وليلة القدر، وفي الحديث:[كنت أريت ليلة القدر فتلاحي فلان وفلان]

(2)

؛ أي أبي بن كعب وعبد الله بن [أبي] حدرد؛ أي تخاصما لأجل اقتضاء أحدهما دينا من الآخر فرفعت؛ أي رفع تعيينها لا ذاتها كما قيل، فهي باقية ببقاء هذه الأمة، ولو قال لزوجته في رمضان: أنت طالق ليلة القدر لنجز عليه الطلاق على مذهب مالك أنها باقية، وعلى أنها ارتفعت فهو كما لو قال لها: أنت طالق أمس فيلزم، وقيل: لا يلزم.

تنبيه: اختلف في المفاضلة بين ليلة القدر وليلة الإسراء، واختلف أيضا بين الليلتين المذكورتين وليلة مولده صلى الله عليه وسلم، قال بعض المحققين: وعلى تقدير تفضيل إحدى الليلتين على ليلة القدر، فمعناه تفضيل خصوص تلك الليلة التي ولد فيها بعينها، وخصوص تلك الليلة التي أسري فيها، أما نظيرتهما من كل عام فليلة القدر أفضل. قاله الأمير في شرح سورة القدر.

واعلم أن مبطلات الاعتكاف منها ما ينعطف على ما قبله؛ أي يبطل زمنه وغيره ويوجب استينافه؛ وهو ما مر ذكره في قوله: "وإلا خرج وبطل"، وما شبه به وعطف عليه، ومنها ما يخص زمنه ولا ينعطف على ما قبله وهو على ثلاثة أقسام: ما يمنع الصوم والمسجد وأشار إليه بقوله: "وبني بزوال إغماء أو جنون"، وما يمنع الصوم فقط وأشار إليه بقوله:"كأن منع من الصوم لمرض" لخ، وما يمنع المسجد فقط كالسلس وأشار إلى القسم الأول بقوله: وبنى بزوال إغماء أو جنون؛ يعني أن المعتكف إذا نذر أياما غير معينة أو معينة من رمضان، فحصل له عذر من إغماء أو جنون أو مرض شديد لا يجوز معه المكث في المسجد، ثم زال عذره ذلك، فإنه يبني بناء ملاصقا لزوال العذر؛ بمعنى أنه يأتي بما فاته من الاعتكاف لذلك العذر، ولا يلزمه أن يستأنف

(1)

كنز العمال، رقم الحديث:24091. ولفظه: .. حتى ينقضي شهر رمضان فقد أصاب من ليلة القدر بحظ وافر.

(2)

البخاري، كتاب فضائل ليلة القدر، الحديث:2023. وفي فتح الباري شرح صحيح البخاري في شرح هذا الحديث: قيل هما عبد الله بن أبي حدرد وكعب بن مالك، ذكره ابن دحية ولم يذكر له مستندا.

ص: 269

جميع اعتكافه، فليس عليه قضاء ما فعله قبل العذر المذكور، فمعنى البناء أنه يبني على ما سبق من اعتكافه قبل حصول المرض. مثلا.

واعلم أن البناء إنما يكون فيما يلزمه فيه القضاء، فما لا قضاء فيه لا يبني فيه، فمن مرض في اعتكاف متطوع به لا يقضي ما مرض فيه، فلا يبني على ما اعتكفه منه قبل المرض، ومثل الإغماء والجنون أيضا الحيض والنفاس لأنهما يمنعان من الصوم والمسجد، وقولي: إذا نذر أياما غير معينة أو معينة من رمضان، وأما إن نذر أياما معينة من غير رمضان فمرضها كلها أو بعضها، ففيه ثلاثة أقوال: أحَدُهَا: وجوب القضاء مطلقا على رواية ابن وهب، وهذا هو ظاهر المصنف وهو الجاري على ما عزاه ابن رشد للمدونة، الثاني: نفي القضاء مطلقا وهو مذهب سحنون، الثَّالِثُ: التفرقة بين أن يمرض قبل دخوله في الاعتكاف فلا يلزمه وبعده فيلزمه؛ وهو مذهب ابن القاسم في المدونة على تأويل ابن عبدوس، وإن نذر أياما بأعيانها فيقضي ما مرض منها أو أفطره ساهيا يصل ذلك باعتكافه، ولا خلاف في هذا. انتهى.

واختصر ابن عرفة هذه المسألة بقوله: وما مرض فيه من نذر مبهم أو رمضان قضاه، ومن غيره ففي قضائه، ثالثها إن مرض بعد دخوله. انتهى. وقال في التوضيح: فإن كان الاعتكاف تطوعا، فإن أفطر فيه لمرض أو حيض فلا قضاء عليه -انتهى- لكن إن بقي شيء من المنوي بعد زوال المانع بني كما في ابن عاشر. قاله محمد بن الحسن.

وبما قررت علم أن الباء في قوله: "بزوال"، للإلصاق وتحتمل المعية أي بني مع هذه الأعذار لا مع غيرها مما تقدم مما يوجب الاستيناف وكل صحيح. قاله الشبراخيتي. والله سبحانه أعلم. وَقَالَ الأَمِيرُ: وقضى ناس مطلقا كذي عذر في نذر مبهم أو معين من رمضان كغيره في الأثناء، ودخوله برمضان كنذره. انتهى. قوله: ناس؛ أي مفطر نسيانا، وقوله: مطلقا؛ أي ولو تطوعا ويقضي الصوم تبعا له ويمسك، وقوله: كذي عذر، في نذر مبهم أو معين من رمضان أي فيقضي الاعتكاف، وإن معينا تبعا للصوم، وقوله: كغيره في الأثناء؛ أي لا حين الدخول أو قبله فيفوت بقوات زمنه، ومن الغير التطوع فلا يقضي بالعذر، وما يأتي من وجوب المنوي حسين الدخول إذا

ص: 270

لم يحصل عذر، وقوله: ودخوله برمضان كنذره؛ أي دخوله في التطوع برمضان كنذره فيقضي مع العذر. قاله في الشرح.

وأشار للقسم الثاني يقوله: كأن منع من الصوم؛ يعني أن المعتكف إذا منع من الصوم فقط دون المسجد، فإنه يمكث في المسجد ويبني لأجل زوال مرض خفيف لا يمنع المكث في المسجد؛ بأن لا يكون معه إغماء ويؤمن معه ما يقدر المسجد فيبني بناء ملاصقا بعد زوال العذر.

وبما قررت علم أن التشبيه في البناء بعد زوال العذر. أو حيض؛ يعني أن المرأة إذا اعتكفت ثم إنها حاضت وزال الحيض نهارا، فإنها ترجع إلى معتكفها ولا يكون منعها من الصوم مبيحا لها ترك دخول المسجد حينئذ؛ لأنها إنما تمنع من الصوم فقط دون المسجد، أو عيد؛ يعني أن المعتكف إذا عرض له ما يمنعه من الصوم دون المسجد، كما إذا كان يوم العيد في زمن اعتكافه، فإنه يجب عليه أن يبني على ما مر من اعتكافه بعد مضي يوم العيد، وهل يجب عليه أيضا أن يمكث يوم العيد لأنه لا يمنع إلا الصوم فقط لا دخول المسجد، أو لا يجب عليه وهو ما يفيده ما مر في قوله:"ومكثه ليلة العيد"؟ وقد مر تقريره بما إذا اعتكف العشر الأواخر من رمضان مثلا، ثم مرض منها خمسة، ثم أتي المسجد للبناء فله الخروج ليلة العيد ويومه، ولو نذر خمسة آخر رمضان وخمسة من شوال، فسيأتي الخلاف في خروجه وعدمه، وكذا يأتي الخلاف في الذي قبله. والله سبحانه أعلم.

وعبارة الأمير: ومكث إن لم يمنع عذره المسجد ولو العيد، وما يأتي إنما هو إذا خرج بالفعل، وأما القسم الثالث وهو ما يمنع المسجد فقط كالسلس فلا يبني فيه فيما يظهر. نقله أبو الحسن. وجزم التتائي بأنه يبني في هذا وعليه العهدة فيه مع تنظير ابن عتاب فيه. قاله عبد الباقي. وفي حاشية بناني عن المدونة: إن عجز عن الصوم لمرض خرج، فإذا صح بني ثم قالت: ولا يلبث يوم الفطر في معتكفه؛ إذ لا اعتكاف إلا بصيام ويوم الفطر لا يصام، فإذا مضى يوم الفطر عاد إلى معتكفه فبني على ما مضى.

وبما قررت علم أن المراد بالبناء في قول المصنف: "وبني"، الإتيان ببدل ما حصل فيه ما منع صومه، سواء كان ما يأتي به قضاء عن صومه، كأن يصح بعد انقضاء زمنه كرمضان، أو غير

ص: 271

قضاء كنذر غير معين. وخرج؛ يعني أن المعتكف إذا حصل له عذر من الأعذار المانعة لدخول المسجد لا ما منع الصوم فقط، فإنه يخرج من معتكفه وجوبا، وإذا خرج فإنه يخرج، وعليه حرمته أي حرمة الاعتكاف، فلا يقبل ولا يباشر ولا يفعل شيئا من مقدمات الجماع، والحَاصِل أنه إذا كان رجلا لا يقرب النساء، وإذا كان امرأة فلا تقرب الرجال، وأن مانع الصوم فقط يجب معه المكث في المعتكف إلا يوم العيد ففيه ما مر، وأنَّ مانع المسجد يوجب الخروج من المسجد فيخرج وعليه حرمة الاعتكاف، والفطر ناسيا لا يجوز معه الخروج من المسجد.

وإن أخره بطل اعتكافه؛ يعني أنه إذا قلنا إن المعتكف يلزمه الرجوع لمعتكفه؛ أي فيما إذا كان يبني فإنه يلزمه الرجوع فورا، وإذا أخر رجوعه إلى المسجد فإنه يبطل اعتكافه فيستأنفه، وكذلك إذا أخر البناء حيث يمكنه البناء فهذا يتفرع على قوله:"وبني بزوال إغماء أو جنون"، وعلى قوله:"كأن منع من الصوم" لخ.

إلا ليلة العيد ويومه؛ يعني أن المعتكف إذا أخر رجوعه بعد زوال العذر ليلة العيد ويومه، فإن ذلك لا يضر إذ له أن يمكث ليلة العيد ويومه كما في التوضيح، وقد مر عن الأمير أن محل هذا حيث خرج لعذر، وأما إن كان يوم العيد في أثناء اعتكافه فقد مر ما يفيد أن في خروجه قولين وهما في مانع الصوم من عيد ومرض، وقال محمد بن الحسن: ذكروا أن في خروجه قولين روي في المجموعة: يخرج، وقال عبد الوهاب: لا يخرج هكذا في ابن عرفة وابن ناجي وغيرهما، قال في التوضيح: والخروج مذهب المدونة. انتهى. وكذا عزاه اللخمي أيضا لظاهر المدونة كما نقله الحطاب أول الباب، وأما ما قرره به على الأجهوري من وجوب البقاء في المسجد فهو الذي شهره ابن الحاجب وصوبه اللخمي كما في الحطاب أيضا؛ أي ولفظ ابن الحاجب: ولو طرأ ما يمنعه فقط دون المسجد كالمريض إن قدر والحائض تخرج ثم تطهر ففي لزوم المسجد ثالثها المشهور يخرجان، فإذا صح وطهرت الحائض [رجعت تلك الساعة وإلا ابتدا]

(1)

). انتهى. قال في التوضيح: الضمير في يمنعه عائد على الصوم، قال محمد بن الحسن: واعتمد في عدم اللبث يوم العيد على نص المدونة، وفي ليلته على اختيار التونسي كما في المواق، قال في التوضيح: وناقض عياض

(1)

كذا في الأصل، ولفظ ابن الحاجب: رجعا تلك الساعة وإلا ابتدآ. التوضيح، ج 2 ص 471. ط مركز نجيبويه.

ص: 272

والتونسي هذه المسألة بمسألة المريض يصح والحائض تطهر، فإنهما أمرا بالرجوع على المشهور مع أن الجميع يتعذر منه الصوم، وأجيب بأن اليوم الذي ظهرت فيه الحائض وصح فيه المريض يصح صومه لغيرهما، بخلاف يوم العيد فإنه لا يصح صومه لأحد. انتهى باختصار. انتهى.

وإذا تأملت قول محمد بن الحسن: شهر ابن الحاجب وجوب البقاء، علمت ما فيه. والله سبحانه أعلم. وقول ابن الحاجب: المشهور يخرجان، اعلم أن الأقوال الثلاثة إنما هي في العود، فالأول: يرجعان وإن لم يرجعا لم يبتدئا، والقول الثاني: أنهما لا يرجعان إلى الليل لفقدان الصوم وهو لسحنون، والثالث وهو المشهور: يرجعان تلك الساعة وإلا ابتدآ، وأما الخروج فإن الحائض تخرج اتفاقا، وأما المريض مرضا لا يمنع المكث في المسجد ففي خروجه قولان، والخروج مذهب المدونة، فإذا عرفت هذا عرفت أن كلام ابن الحاجب مشكل، وقوله: ففي خروجه قولان؛ أي في جواز خروجه ومنعه قولان، ومثله العيد كما مر. والله سبحانه أعلم.

قال ابن الحاجب: وفي البقاء يوم العيد لقضاء ما بقي قولان. انتهى. قال في التوضيح: كما لو نوى العشر الأواخر من رمضان، ثم مرض بعد دخوله فيها خمسة ثم صح فإنه يقضي الخمسة التي مرضها، وهل يلزمه أن يقيم يوم العيد في المسجد؟ قولان وهما معا في المدونة، والمشهور عدم اللزوم، قال فيها في المثال المذكور: فإذا صح قبل الفطر بيوم فليرجع إلى معتكفه ويبني، ولا يثبت يوم الفطر في معتكفه ويخرج، فإذا انقضى يوم الفطر عاد إلى معتكفه، وقال ابن نافع عن مالك: يشهد العيد مع الناس ويرجع إلى المسجد ذلك اليوم لا إلى بيته، وعلى المشهور فلو صح المريض ليلة العيد فلا يأتي المسجد. انتهى. قال ابن الحاجب عقب قوله: قولان، بخلاف ما لو تخلل ابتداء على الأصح.

قال في التوضيح: هذه مسألة الجلاب، قال فيه: ولو اعتكف خمسا من رمضان وخمسا من شوال خرج في يوم الفطر من المسجد إلى أهله، وعليه حرمة الاعتكاف كما مر ثم عاد قبل غروب الشمس من يومه، وقال عبد الملك: يقيم في المسجد يومه ولا يخرج إلى أهله، ويكون يومه ذلك كليل أيام الاعتكاف، وعلى هذا فمخالفة هذا الفرع للذي قبله إنما هي على كلام المصنف، وإلا فقد ذكرنا

ص: 273

أن المشهور الخروج، ثم قال: في كلام المصنف نظر؛ لأن مسألة الجلاب مقيدة بالنذر وذلك لا يؤخذ من كلام المصنف. انتهى.

وإن اشترط المعتكف قبل دخوله أو بعده سقوط القضاء عنه عند لزومه لم يفدي شرطه، ولا يبطل هذا الشرط اعتكافه بل اعتكافه صحيح، ولذا لم يعبر بيبطل ليلا يلزم عوده على الاعتكاف، ومعنى كلام المصنف أن المعتكف إذا اشترط قبل دخول معتكفه أو بعده ما ينافي الاعتكاف، كما لو اشترط أنه إذا لزمه قضاء في الاعتكاف على ما مر يسقط عنه لم يفده ذلك الشرط، بل حيث لزمه قضاء اعتكافه فإنه يلزمه أن يقضيه، ولو اشترط سقوط القضاء عنه ولا يبطل اعتكافه لهذا الشرط بل هو صحيح، ويلزمه أن يتمه على مقتضى شرط الشرع، ومثل اشتراط سقوط القضاء اشتراط غيره كعدم صومه، أو اعتكاف النهار غير الليل أو مباشرة النساء، فالشرط باطل وتلزمه شروطه الشرعية، وقوله:"وإن اشترط سقوط القضاء لم يفده"، هذا هو المعروف، وحُكي عن ابن القصار أنه قال: إن اشترط في الاعتكاف ما يغير سنته فلا يلزمه الاعتكاف. قاله في التوضيح. وروى ابن نافع عن مالك: وإن شهد جنازة أو عاد مريضا أو أحدث سفرا مَنَع ذلك وَجَبَ عليه الابتداء، ولا ينبغي أن يشترط ذلك عند دخوله. انتهى.

ولما أنهى الكلام على دعائم الإسلام الثلاث؛ وهي الصلاة والزكاة والصوم وما يلحق بها، شرع في الكلام على الدعامة الرابعة وهي الحج. فقال:

ص: 274

‌باب: ذكر فيه الحج وما يتعلق به

وذكر فيه العمرة وهي الحج الأصغر، والحج الأكبر هو الدعامة وهو المشار إليه بقوله عز وجل:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} ، والحج بفتح الحاء وهو القياس والكسر أكثر سماعا، وكذا اللغتان في الحجة، وقيل: بالفتح المصدر وبالكسر الاسم، وقيل: الاسم بهما. قاله الشبراخيتي. وقال الحطاب: وأما ضبطه، فقال ابن فرحون في شرحه: الحج بفتح الحاء وكسرها وكذا الحجة فيها لغتان، وأكثر المسموع فيها الكسر والقياس الفتح، وقال ابن راشد: الحج بالكسر: الاسم. انتهى. وقال في الصحاح: الحج بالكسر: الاسم. انتهى. ونحوه في القاموس، وقال في الإكمال: الحج بالفتح: المصدر. وبكسرها وفتحها معا: الاسم، وبالكسر أيضا الحجاج. انتهى.

الجوهري: الحج القصد، ورجل محجوج أي مقصود، وهذا الأصل ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة المشرفة للنسك، تقول: حججت البيت أحجه حجا فأنا حاج، وربما أظهروا التضعيف في ضرورة الشعر، قال الراجز:

. . . . . . . . . . . . . . .

بكل شيخ عامر أو حاجج

وقال الخليل: الحج كثرة القصد، وسميت الطريق محجة لكثرة التردد، ووافقه صاحب المقدمات وصاحب الطراز، والحجيج والحجاج جمع حاج، وفي التنزيل:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، ولم يقل في الصلاة وغيرها: لله؛ لأنهما مما يكثر فيهما الرياء جدا، وعرف ابن عرفة الحج: بأنه عبادة يلزمها وقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة، وطواف ذي طهر أخص بالبيت عن يساره سبعا بعد فجر يوم النحر، وسعي من الصفا إلى المروة، ومنها إليها سبعا بعد طواف كذلك لا بقيد وقته بإحرام في الجميع. انتهى.

قوله: ذي طهر أخص، أشار به إلى أن الطائف لابد أن يكون كالمصلي، فالطهر الأخص هو رفع الحدث الأصغر؛ لأنه يلزم من وجوده وجود الطهارة الكبرى، ولا يلزم من وجود الكبرى ثبوت رفع الحدث الأصغر، وقوله: عن يساره، بيان لصفة الطواف الشرعي، ونصب سبعا على المصدر كقولك: ضربته عشرين ضربة، وقوله: بعد فجر يوم النحر، أخرج به طواف القدوم وبين به أن

ص: 275

ذاتِيَّ الحج من الطواف إنما هو طواف الإفاضة، لقوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ، وقوله: وسعي، عطف على طواف، وقوله: كذلك؛ أي مثل الطواف المذكور بصفته وهو طواف ذي طهر أخص لخ، وقوله: لا بقيد وقته، أخرج به خصوص طواف الإفاضة المذكور، وأفاد به أن السعي إنما يشترط فيه حصول طواف قبله، وقوله: يلزمها وقوف بعرفة، لا يخفي أن لزوم الوقوف ليس جزءا من ماهية الحج، بل هو أمر خارج عنها، والذي هو جزؤها فعل الوقوف، وقوله: بإحرام في الجميع، يقتضي أنه لا بد لكل ركن من إحرام يخصه، ويحتمل أن إحرام الأركان لما كان مندرجا في إحرام الحج صار بذلك الإحرام للجميع. قاله الشبراخيتي. والباء في بإحرام بمعني مع، وهذا الذي عرفه ابن عرفة هو الحج الأكبر، وهو المشار إليه كما تقدم بقوله عز وجل:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .

وأما العمرة؛ وهي الحج الأصغر كما مر. فهي في اللغة: الزيارة، يقال: اعتمر فلان فلانا زاره، ولذا كان ابن عباس لا يرى العمرة لأهل مكة لأنهم بها، فلا معنى لزيارتهم إياها. قاله الحطاب. المازري: الاعتمار لزوم الموضع، وقال آخرون: معنى الاعتمار والعمرة: القصد، قال الشاعر:

لَقَدْ سَمَا ابنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ

مَحَلَّا أعلى محتدٍ ومُفْتَخَرْ

أراد حين قصد، وفي الشرع زيارة البيت على وجه مخصوص، أو تقول عبادة يلزمها طواف وسعي فقط مع إحرام، وقلنا فقط ليخرج الحج،

وعرفها بعضهم بأنها: عبادة ذات طواف ذي طهر أخص بالبيت عن يساره سبعا بعده سعي من الصفا للمروة ومن المروة للصفا سبعا، ولما كان الحج والعمرة أحكامهما لا تنحصر، أشار إلى ما ظهر له منها بقوله: فُرِضَ الحَجُّ، قوله:"فرض" فعل مركب، ونائبه "الحج"، ومعنى فرض أنه أوجبه الله تعالى، بمعنى أنه يثاب على فعله ويعاقب على تركه؛ أي يترتب العقاب على تركه؛ يعني أن الحج فرض عين وهو واجب وجوب عين كتابا وسنة وإجماعا، فمن جحده كفر واستتيب على ما تقرر في حكم المرتد، ومن تركه مستطيعا فالله حسيبه. قاله في الرسالة. أي لا يتعرض له، وقال القاضي عياض: وُعِظَ وَزُجِرَ وَوُبِّخَ، وقال بعض العلماء: إنه يقتل. والله أعلم.

ص: 276

وأنكرت الملحدة الحج، وقالت: إن فيه التجرد من الثياب وهو يخالف الحياء، وفيه السعي وهو يخالف الوقار، ورمي الجمار لغير مرمي فصاروا إلى أن هذه الأفعال كلها باطلة؛ إذ لم يعرفوا لها حكمة، وجهلوا أنه ليس من شرط العبد مع المولى أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به، ولا أن يطلع على فائدة تكليفه، وإنما يتعين عليه الامتثال ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة، ولا سؤال عن مقصود، ولهذا كان قوله عليه الصلاة والسلام:[لبيك حقا حقا لبيك تعبدا ورقا]

(1)

). انظر الحطاب.

وسنت العمرة، قوله:"سنت"، فعل مركب، ونائبه:"العمرة"، والجملة عطف على الجملة قبلها؛ يعني أن العمرة سنة مؤكدة آكد من الوتر، وقال مالك في الموطإ: العمرة سنة ولا نعلم أحدا من المسلمين أرخص في تركها، وقال ابن حبيب وأبو بكر بن الجهم: هي فرض كالحج، وبه قال الشافعي، وبه قال جماعة من أهل المدينة، والمشهور الأول لقوله عليه الصلاة والسلام:[الحج جهاد والعمرة تطوع]

(2)

). رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض الروايات: حسن صحيح، وقال عطاء: العمرة واجبة على الناس إلا على أهل مكة لأنهم يطوفون بالبيت، وأما قول الزركشي من الشافعية: كره مالك الاعتمار لأهل مكة والمجاورين بمكة، وقال: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت وهو قول عطاء وطاووس، بخلاف غيرهم فإنها واجبة عليهم. انتهى. فقال الحطاب: هو غريب لا يعرف في المذهب عن مالك، ولا خلاف أن العمرة تجب بالنذر، ويجب إتمامها بعد الشروع فيها. والله أعلم. قاله الحطاب.

وقد رغب الشرع في العمرة في رمضان، وورد [أنها تعدل حجة أو حجة معه صلى الله عليه وسلم]

(3)

. ابن فرحون: أفضل شهورها رجب ورمضان. مرة، قال الشيخ محمد بن الحسن: لفظ مرة منصوب على أنه مفعول مطلق معمول للعمرة، ويقدر مثله للحج، فإن الحج والعمرة مصدران يحل أنْ والفعلُ محلَّهما؛ أي فرض أن يحج مرة وسن أن يعتمر مرة، ولا يعمل فيه فرض وسنت؛ لأنه يفيد أن الفرض والسنة وقعا من الشارع مرة، وليس بمراد لأن المفعول قيد في عامله، ويجوز نصب

(1)

مجمع الزوائد، ج 3 ص 226. الإتحاف، ج 4، ص 337.

(2)

ابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث:2989.

(3)

مسلم، رقم الحديث:1256. الترمذي، كتاب الحج، الحديث: 939.

ص: 277

مرة على التمييز المحول عن النائب عن الفاعل؛ أي فرضت المرة من الحج وسنت المرة من العمرة، ويصح رفع مرة على أنه خبر وفرض وسنة مصدران مبتدآن مؤولان باسم المفعول؛ أي المفروض من الحج مرة والمسنون من العمرة مرة. هذا حاصل ما في الحطاب. انتهى.

وفي الشبراخيتي ما نصه: ثم إنه يقع في غالب النسخ بناء فرض وسنت للمفعول، وإقامة الحج والعمرة مقام الفاعل، ونصب مرة على المفعول المطلق مبين للعدد والعامل فيه العمرة، ويقدر مثله للحج لأن الحج والعمرة مصدران مقدران بأن والفعل، والمعنى فرض أن يحج مرة وسن أن يعتمر مرة، ولا يصح أن يعمل فيه فرض وسن؛ لأنه إنما يفيد أن الفرض والسنة وقعا من الشارع مرة؛ لأن المفعول المطلق قيد في عامله وليس المراد ذلك، ويجوز نصب مرة على التمييز المحول عن نائب الفاعل؛ أي فرض المرة من الحج وسنت المرة من العمرة، ثم حول ونصب على التمييز، ويوجد في بعض النسخ فرض الحج مصدر مرفوع بالابتداء، وعطف سنة العمرة عليه ورفع مرة على الخبر، وعليه فالمصدر مراد به اسم المفعول أي مفروض الحج ومسنون العمرة مرة، وذكر بعضهم أن مرة منصوب على الظرفية، ولذا جرى الخلاف في تارة وطورا، قال شيخنا في شرحه: وتبعد الظرفية عن ما نحن فيه إن كانت لفرض وسن، لا إن جعلت ظرفا للمسنون والمفروض. انتهى.

قوله: لأنه إنما يفيد أن الفرض والسنة لخ؛ أي لأن كل واجب ومسنون لم يقع فرضه وسنيته إلا مرة واحدة فلا خصوصية ولا فائدة حينئذ، والله سبحانه أعلم. وقوله: مرة؛ يعني به أن الحج فرض مرة في العمر، وأما ما زاد على ذلك فهو مستحب، وسيأتي في الجهاد أن زيارة الكعبة فرض كفاية كل عام، وإذا ثبت أن الحج فرض عين مرة في العمر، وأن إقامة الموسم فرض كفاية كل عام، فينبغي للشخص في غير المرة الأولى أن يقصد بالحج إقامة الموسم ليقع حجه فرض كفاية، فإن لم يقصد إقامته وقع مندوبا، وكذا العمرة فهي سنة مرة في العمر مؤكدة آكد من الوتر، وما زاد على المرة فهو مستحب؛ وهي سنة كفاية كل عام، ويقال فيها ما يقال في الحج: سنة عين مرة في العمر، وسنة كفاية إن قصد بها القيام عن الناس في غير المرة الأولى، وإلا فمندوبة كل عام، وسيأتي أنه يكره تكرارها في العام الواحد ويلزم بالإحرام إتمام المكروه، وكون الحج واجبا

ص: 278

مرة في العمر هو المعروف من مذاهب العلماء، فحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:[خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه]

(1)

)، رواه مسلم.

وفي طريق ابن عباس عن النسائي: [لو قلت نعم لوجبت ثم إذًا لا تسمعون ولا تطيعون ولكنها حجة واحدة]

(2)

)، وذكر الفاكهاني أنهم لما سألوا عن ذلك نزل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ، [والرجل السائل هو الأقرع بن حابس]

(3)

)، وقال بعض من شذ: إن الحج يجب كل سنة، وعن بعضهم أنه يجب في كل خمسة أعوام لحديث رووه في ذلك وهو ضعيف لا يلتفت إليه لشذوذه، قال الحطاب: قال النووي: هو خلاف الإجماع فقائله محجوج بإجماع من قبله، وعلى تسليم وُرُودِهِ فيحمل على الاستحباب والتأكيد في مثل هذه المدة، كما حمل العلماء الحديث الصحيح الآتي ذكره على ذلك، ولا يجب بعد المرة الأولى إلا أن ينذره أو يريد دخول مكة فيجب عليه الإحرام بأحد النسكين أو بهما، ويستحب الحج كل سنة لمن حج الفرض، ويتأكد ذلك في كل خمس سنين لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:[إن الله تعالى يقول إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم]

(4)

). رواه ابن أبي شيبة وابن حبان في صحيحه، قال ابن فرحون في مناسكه: قال العلماء: هو محمول على الاستحباب والتأكد في مثل هذه المدة، وهذا ما لم يؤد إلى إخلاء البيت عمن يقوم بإحيائه في كل سنة، فإنه يجب إحياؤه فرضا على الكفاية كل سنة كما ذكره المصنف في باب الجهاد، حيث قال: كزيارة

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1337. وفيه: فإذا أمرتكم بشيء

(2)

النسائي، كتاب المناسك، الحديث:2620.

(3)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1721. النسائي، رقم الحديث: 2620. ابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث:2886.

(4)

ابن حبان، كتاب الحج، ج 6 ص 6. رقم الحديث:3695.

ص: 279

الكعبة، والمراد بها إقامة الموسم، وإقامة الموسم هي الوقوف بعرفة، فيجب على الإمام أن يرسل جماعة لإقامة الموسم، ولا يكتفي بزيارة الكعبة بلا إقامة الموسم، بل لا بد منهما أي من زيارة الكعبة مع إقامة الموسم، ولا يسقط ذلك في عام من الأعوام إلا لعذر لا يستطاع معه الوصول إليها. نعوذ بالله تعالى من ذلك. وفي مصنف عبد الرزاق بسنده إلى ابن عباس:[لو ترك الناس زيارة هذا البيت عاما واحدا ما أُمْطِرُوا]

(1)

). قاله الحطاب. النووي: ومن فروض الكفاية: إحياء الكعبة بالحج في كل سنة هكذا أطلقوا، وينبغي أن تكون العمرة كالحج والاعتكاف والصلاة في المسجد الحرام. التادلي: وهذا لا يبعد قول مثله على أصل المذهب، فإن عمارة المساجد غيره بالجماعات من فروض الكفاية وكذلك عمارة الكعبة بالحج والعمرة. انتهى. قال الحطاب: وهو ظاهر. والله أعلم وفي الإحياء: ويكره للحاضر بمكة مقيما بها أن لا يحج في كل سنة. انتهى. قال الحطاب: والظاهر أنه موافق لمذهبنا. والله أعلم.

وتحصل مما مر أن الحج على ثلاثة أقسام: فرض عين، وفرض كفاية، وتطوع. وأن العمرة على ثلاثة أقسام أيضا: سنة عين، وكفاية، ومندوبة. وقد مر أن العمرة يكره تكرارها في العام الواحد وهو قول مالك في المدونة وهو المشهور؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكررها في عام واحد مع قدرته على ذلك، وقد كرهه جماعة من السلف، وأجاز ذلك مطرف وابن الماجشون، وقال ابن حبيب: لا بأس بها في كل شهر مرة، وروي عن ابن عمر أنه اعتمر ألف عمرة، وحج ستين سنة، وحمل على ألف فرس في سبيل الله تعالى، وأعتق ألف رقبة، قاله الحطاب.

سند: كره مالك تكرارها في السنة الواحدة تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اعتمر في كل عام مرة، وحكي كراهة ذلك عن كثير من السلف، وما روي عن ابن عمر وعلي يحتمل أن يكون قضاء عن نذر، ونقل اللخمي عن مطرف وابن المواز جواز تكرارها في السنة الواحدة، ولو أحرم بالثانية انعقد إحرامه إجماعا. انتهى. وقاله غير سند، وإذا اعتمر في ذي الحجة فهل له أن يعتمر أخرى في المحرم؟ روايتان عن مالك، وعلى أنه لا يعتمر فإذا لم يكن اعتمر فلا يعتمر إلا واحدة، وإذا قلنا إنه لا يفعل إلا واحدة، فهل الأَوْلَى أن تكون في آخر ذي الحجة أو في المحرم؟

(1)

مصنف عبد الرزاق، كتاب المناسك، الحديث:8604.

ص: 280

قال مالك: أحب إلي أن تكون في المحرم، وَوَجْهُ اعتمار من اعتمر في آخر ذي الحجة في المحرم كون المحرم هو أول السنة التالية لما قبلها، فلم تكرر العمرة في عام واحد، ووجه الأخرى قرب الزمان. والله أعلم.

ويستثنى من كراهة تكرار العمرة في السنة من تكرر دخوله إلى مكة من موضع يجب عليه الإحرام منه، وهذا ظاهر. قاله الحطاب.

واعلم أن أحكام الحج كثيرة وفروعها غزيرة، والاعتناء بها اليوم قليل ولا سيما ببلاد المغرب، وقد تنضبط أفعاله وجمعها بعضهم في أبيات وهي:

أحرم ولب ثم طف واسع وزد

في عمرة حلقا وحجا إِنْ تُرِدْ

فزد منى وعرفات جمعا

ومشعرا والجمرات السبعا

وانحر وقصر وأفض ثم ارجع

للرمي أيام مني وودع

وكمل الحجة بالزياره

متقيا من نفسك الأماره

فالسر في التقوى والاستقامه

وفي اليقين أكبر الكرامه

وورد عنه صلى الله عليه وسلم [أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة]

(1)

)، وورد أيضا:[من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه]

(2)

)، والحج المبرور هو الذي لا يتعمد فيه معصية، وقال عياض: هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم، وقيل المبرور المتقبل، واستشكل بأنا لا نطلع على القبول، وأجيب بأن من علامات القبول أن يزداد بعده خيرا، وقوله: لم يرفث، فاؤه مثلثة في الماضي والمضارع، والرفث: الجماع أو الفحش من القول، والفسوق: المعاصي، وقوله: كيوم ولدته أمه، قال ابن حجر: أي صار بلا ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والسيئات، والتحقيق في هذا أن قضاء الصلاة والكفارة وحقوق الآدميين لا يسقط، ولفظ الذنب لا يتناول هذه الأشياء التي في الذمة، وإنما الذنب الأخذ من المالك بغير اختياره، وتأخير

(1)

البخاري، كتاب العمرة، الحديث:1773. مسلم، كتاب الحج، الحديث: 1349.

(2)

البخاري، كتاب المحصر، الحديث:1819. وفيه:

(رجع كيوم ولدته أمه) بدل قوله: (خرج من ذنوبه). ومسلم، رقم الحديث:1350. (ينظر). الإتحاف، ج 4، ص 270.

ص: 281

الصلاة وعدم تأدية الزكاة -مثلا- وحينئذ فيجب عليه رد الأعيان المغصوبة -مثلا- أو عوضها إن تعذر ردها، ويجب عليه أداء ما عليه من الزكاة وقضاء الصلوات، ويسقط عنه إثم الذنوب المتعلقة بتلك الأمور، وإذا تعذر الرد فيما يجب فيه الرد والقضاء والأداء فيما يجب عليه ذلك فيه فإنه لا يُوَاخَذُ به، ففي الأجهوري عن الحطاب أن عدم سقوط الصلوات المترتبة في الذمة والكفارات وحقوق الآدميين من ديون وغيرها مجمع عليه؛ إذ لم يقل أحد من العلماء إن من حج البيت لا يجب عليه أن يقضي ما في ذمته من ذلك، نعم يرجى أن الله تعالى يغفر ذلك في الآخرة لمن عجز عن أدائه في الدنيا ويرضي عنه الخصوم للأحاديث الواردة، فإن قيل: كيف يسوي الله تعالى بين الفعل العظيم وغيره في الجزاء مع قوله صلى الله عليه وسلم: [أجرك على قدر نصبك]

(1)

، والغفران قد رتبه الشرع على الحج المبرور، ورتبه على قيام رمضان، وقيام ليلة القدر، وموافقة التأمين تأمين الملائكة، والتوبة؟ فالجواب أن هذه الأمور استوت في التكفير وإن اختلفت في رفع الدرجات. وفي فوريته؛ يعني أنه اختلف في الحج هل هو واجب على الفور؟ بمعنى أنه إذا حصلت شروطه الآتية وجب على المكلف المبادرة إليه في أول سنة يمكنه الإتيان به فيها ويعصي بتأخيره عنها ولو ظن السلامة وإن فعله بعد فأداء، وحكي عليه الإجماع، وقال ابن القصار: قضاء أو هو واجب على التراخي كما قال: وتراخيه؛ يعني أن من الأشياخ من ذهب إلى أن الحج واجب على التراخي؛ بمعنى أنه لا تجب المبادرة إليه وإن كان قادرا عليه، ويمتد التراخي لخوف الفوات؛ يعني أنه على القول بالتراخي إنما تجب المبادرة به عند خوف الفوات، فعنده يتفق على الفور، ويختلف الفوات باختلاف الناس من ضعف وقوة، وكثرة مرض وقلته، وأمن طريق وخوفه، ووجود مال وعدمه. قال سحنون: وببلوغ الستين من الأعوام قادرا ويفسق وترد شهادته بعدها. ابن عبد البر: ولا أعلم له موافقا في التفسيق ورد الشهادة، وهذا توقيت لا يجب إلا [بتوقيف]

(2)

ممن يجب له التسليم، وكل من قال بالتراخي في هذه المسألة لم

(1)

تلخيص الحبير، ج 4 ص 177.

(2)

سقط من الأصل، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 262 ط دار الرضوان.

ص: 282

يحد حدا وإنما تؤخذ الحدود ممن له أن يشرع، واحتج له بعض بخبر:[أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين]

(1)

)، وتسمى معترك المنايا، وتسميها العرب دقاقة الرقاب. قاله الشبراخيتي.

واعلم أن الراجح القول بأن الحج واجب على الفور، فكان حق المصنف أن يقتصر عليه، وغالب الفروع الآتية مبني عليه، وقال في التوضيح: الظاهر قول من شهر الفور لأنه المنقول عن مالك، والتراخي مأخوذ من مسائل ليس الأخذ منها بالقوي، وقال الشيخ المحقق الأمير: والراجح فوريته وإن كان رواية العراقيين والثاني رواية المغاربة، والغالب تقديمهم بعد المصريين كابن القاسم. انتهى.

خلاف، مبتدأ، وخبره قوله:"في فوريته وتراخيه"، وهو خلاف في التشهير، والقول بالتراخي شهره الفاكهاني، ورأى الباجي وابن رشد وغيرهم من المغاربة أنه ظاهر المذهب، وقد مر أن الراجح القول بالفورية، واعلم أنه لا خلاف في الفورية إذا فسد حجه، سواء قلنا إن الحج على التراخي أو على الفورية كما يأتي عند قوله:"ووجب إتمام المفسد"، وسواء كان الأول فرضا أو نفلا، قوله:"وفي فوريته" لخ، الظاهر أن هذا الخلاف يجري في العمرة أيضا كما استظهره غير واحد، وقد تقدم أنه إذا خاف الفوات كما لو خاف عجزه في بدنه يتفق القولان على الفورية.

وتحصل مما مر أن المذهب اختلف على قولين مشهورين، هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي؟ وأن القائل بالتراخي يري التوسعة مقيدة بخوف الفوات، وعليه فإذا اخترمته المنية ولم يكن خاف الفوات لم يعص، ولو خاف الفقر أو الضعف مثلا ولم يحج حتى فات أثم وعصى، وأن الراجح القول بالفورية. وصحتهما بالإسلام؛ يعني أنه يشترط في صحة الحج والعمرة أن يقعا من مسلم، فلا يصحان من غير مسلم، وعلم من هذا أن الكفار مخاطبون بالحج والعمرة كغيرهما من فروع الشريعة. وهذا هو الراجح، وفائدة ذلك تضاعف العذاب عليهم، قال في التنقيح: أجمعت الأمة على خطابهم بالإيمان، واختلف في خطابهم بالفروع. انتهى. وظاهر مذهب مالك خطابهم بها خلافا لجمهور الحنفية، وقيل: إن الإسلام شرط وجوب بناء على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، وإذا قلنا إن الإسلام شرط في الوجوب، فهو شرط في الصحة أيضا،

(1)

ابن ماجه، كتاب الزهد، الحديث:4236. ولفظه: أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك. والبيهقي، ج 3 ص 370.

ص: 283

وقوله: "وصحتهما بالإسلام"؛ يعني سواء كان المحرم بهما حرا أو عبدا صغيرا أو كبيرا، وقال ابن جماعة: لو اعتقد الصبي الكفر لم يكفر عند الشافعية، فلو حج واعتمر في تلك الحال، فقال ابن القاسم الرويالي: لا يصح، وقال والده: يصح بخلاف الصلاة، ومذهب الثلاثة أن ارتداده ارتداد فلا يصح منه ما ذكر. فيحرم ولي عن رضيع؛ يعني أنه بسبب أنه يشترط في صحة الحج والعمرة الإسلام، صح الإحرام بالحج والعمرة عن الصبي ولو كان رضيعا لأنه محكوم له بالإسلام، وكذا المجنون

(1)

والمطبق، وقوله:"فيحرم"؛ أي ندبا، وقوله:"فيحرم" لخ، هو مذهب المدونة وهو المشهور في المذهب، وفي الموازية: لا يحج بالرضيع، وأما ابن أربع سنين أو خمس فنعم.

ابن عرفة: وفي صحته -يعني الإحرام لغير المميز- قولان لها، وللخمي مع رواية ابن وهب بابن أربع لا برضيع، وفي المجنون قولان لها، ولتخريج اللخمي على الصبي، وقول الباجي: عدم العقل يمنع صحته خلاف النص، وحمل عياض قول الموازية: لا يحج بالرضيع على الكراهة، واللخمي على المنع.

والأصل في الحج بالصغير ما رواه مالك في الموطإ [أنه صلى الله عليه وسلم مر بامرأة وهي في محفتها، فقيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت بضبعي صبي كان معها، وقالت: ألهذا حج يا رسول الله؟ فقال: نعم، ولك أجر]

(2)

). رواه مسلم في صحيحه. قال في الإكمال: ولا خلاف بين أيمة العلم في جواز الحج بالصبيان إلا قوما من أهل البدع منعوه ولا يلتفت لقولهم، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وإجماع الأيمة والصحابة يرد قولهم، وإنما الخلاف للعلماء، هل ينعقد عليهم حكم الحج؟ وفائدة الخلاف إلزامهم الفدية والدم والجبر لما يلزم الكبير وعدمه، فأبو حنيفة لا يلزمهم شيئا، وإنما يجتنب ذلك عنده ما يجتنب المحرم على طريق التعليم والتمرين، وسائرهم يلزمونه ذلك ويرون حكم الحج منعقدا عليه؛ إذ جعل له النبي صلى الله عليه وسلم حجا، وأجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن الفريضة، وشذت فرقة فقالت: يجزئه، ولم يلتفت العلماء إلى قولها.

(1)

كذا في الأصل، والذي في الحطاب ج 3 ص 267: وكذلك المجنون المطبق. ط دار الرضوان.

(2)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:961. مسلم، كتاب الحج، الحديث: 1336.

ص: 284

وإذا أحرم وهو صبي فبلغ قبل عمل شيء من الحج، فقال مالك: لا يرفض إحرامه ويتم حجه ولا يجزئه عن حجة الإسلام، وأبو حنيفة: يلزمه تجديد النية ورفض الأولى، وقال الشافعي: يجزئه ولا يحتاج إلى تجديد نية، وكذلك اختلفوا على هذا في العبد يحرم ثم يعتق سواء، واختلف عن مالك في الرضيع ومن لا يفقه، هل يحج به أم لا؟ وقوله:"فيحرم ولي عن رضيع"؛ أي ندبا -كما مر- لما سيأتي أن غير المكلف يجوز له دخول الحرم بغير إحرام ولو أراد مكة. وجرد؛ يعني أن الصبي ولو رضيعا ومثله المجنون؛ إذا أراد الولي أبا أو غيره أن يحرم عنهما فإنه يجردهما من المحيط وجوبا، فيجرد الصبي الذكر ولو رضيعا، ووجه الأنثى وكفيها ككبيرة، وقوله:"فيحرم ولي" لخ، ليس المراد بإحرام الولي عنه حقيقته، وإنما المراد أن يجرده وينوي إدخاله في حرمة الإحرام. وقوله: قرب الحرم، ظرف متعلق بقوله:"فيحرم"، لا "بجرد"؛ يعني أن الولي يحرم عن الرضيع قرب الحرم -أي مكة شرفها الله تعالى- وذلك أن ينوي أنه أدخله في حرمة الإحرام، وإذا أراد الإحرام به جرده، ولو قدم قوله:"قرب الحرم"، على قوله:"وجرد"، لكان أحسن وأبين؛ لأن مذهب المدونة أنه بمجرد إحرامه يجنبه ما يجتنب الكبير، وذلك أن غير البالغ على ثلاثة أقسام: مراهق، ورضيع، وبين ذلك. ويجوز للولي أن يدخل الجميع بغير إحرام، وأن يحرم بهم من الميقات أو بعده أو قرب الحرم، والأولى أن يؤخر إحرام الرضيع ومن فوقه ممن لا يجتنب ما نهي عنه إلى قرب الحرم، وأن يحرم المناهز من الميقات. قاله الحطاب. وقد مر أن المراد بالإحرام، عن الرضيع تجريده ونية إدخاله في حرمة الإحرام وذلك لأن الحج إنما ينعقد بنية مع قول أو فعل تعلقا به كما يأتي، وهم جعلوا تجريده كالتوجه في حق غيره، ولا يشترط أن يكون الولي محرما ولا أن يتساويا في الإحرام، والمراد به من يلي أمره بإيصاء أو غيره، وخص الرضيع للخلاف في الإحرام به، وإلا فمثله من لم يميز بدليل مقابلته بقوله:"والمميز" لخ:

وقال مالك: ومن أراد أن يحج صبيا صغيرا لا يتكلم فلا يلبي عنه، ويجرده إذا دنا من الحرم، وإذا جرده كان محرما، ويجنبه ما يجتنب الكبير، ومن كان من الصبيان قد ناهز، ويترك ما

ص: 285

يؤمر بتركه فهذا يحرم من الميقات، ومن كان منهم ابن ثمان سنين أو سبع ولا يجتنب ما يؤمر باجتنابه فهذا أيضا يقرب من الحرم ويجنب ما يجتنبه الكبير. انتهى.

وقال ابن فرحون: للولي أن يحج بالصبي، ويلبي الطفل الذي يتكلم، والذي لا يتكلم يلبي عنه، وقال ابن عبد البر في التمهيد بعد أن ذكر جواز الحج بالصبيان عن مالك والشافعي وفقهاء الحجاز والثوري وأبي حنيفة والكوفيين والأوزاعي والليث وغيرهم من أهل مصر والشام وكل من ذكرناه: يستحب الحج بالصبيان، ويأمر به ويستحسنه، وعلى ذلك جمهور العلماء في كل قرن، وقالت طائفة: لا يحج بالصبيان، وهو قول لا يشتغل به ولا يعرج عليه. انتهى. قاله الحطاب.

ونقل عن بعضهم الاتفاق على أنه يستحب لكافل الصبي تمرينه على العبادات حتى تصير له كالعادات، وفيه أنه لا اختلاف بين العلماء أن الصبي يثاب على ما يفعله من الطاعات ويعفي عنه ما يجترحه من السيئات، وأن عمده كالخطإ، وكان من أخلاق المسلمين أن يحجوا بأبنائهم يعرضونهم لله تعالى، وفي أبي داوود أنه صلى الله عليه وسلم، قال:[أيما صبي حج به أهله فمات أجزأ عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما عبد حج به أهله فمات أجزأ عنه فإن عتق فعليه الحج]

(1)

.

تنبيهات: الأول: قول المصنف: "فيحرم ولي"، اعلم أن الولي هنا يشمل الأب والوصي من قِبَلِهِ أو قِبَلِ القاضي، ويتنزل منزلة الولي كل من كان الصبي في كفالته ولو بغير وصية من قريب أو غيره. قاله في الطراز. قاله الحطاب.

الثاني: اعلم أن سفر الولي بالصبي حيث كان الولي حاجا على وجهين: جائز وممنوع -كما يأتي إن شاء الله تعالى- ففي الوجه الجائز له أن يحرم به لأنها مصلحة في دينه ولا كبير ضرر على الصبي فيها، وكذلك له أن يحرم به أيضا في الوجه الممنوع على ما قاله اللخمي، ونصه: قال ابن القاسم: وإذا جاز للوصي أن يخرجه جاز له أن يُحِجُّهُ، وأرى أن لو خرج به تعديا لأنه لا يخشى عليه لو خلفه أنه يجوز له أن يحرم به؛ لأن التعدي إنما كان قبل، فإذا وصل إلى الميقات كان إحرامه أولى وأفضل، وزيادة النفقة على وليه. انتهى. وكلامه في الطراز يقتضي أنه

(1)

أبو داود في المراسيل، باب الحج، الحديث: 130، وفيه:(فأيما مملوك) بدل (عبدٍ).

ص: 286

منصوص عليه في الموازية، فإنه قال: فإن أحرم به في الوجه الممنوع فأصاب صيدا، ففي الموازية أن ذلك في مال الأب. انتهى. فدل كلامه على أن إحرامه ينعقد. قاله الحطاب.

الثالث: قال في المقدمات: للصبي حالان؛ حال لا يعقل فيها معنى القربة فهو فيها كالبهيمة والمجنون ليس بمخاطب بعبادة ولا مندوب إلى فعل طاعة، وحال يعقل فيها معنى القربة فاختلف، هل هو فيها مندوب إلى فعل طاعة كالصلاة والصيام والوصية عند الممات وما أشبه ذلك؟ أو ليس بمندوب إلى فعل شيء من ذلك، وأن وليه هو المخاطب بتعليمه والمأجور على ذلك؟ والصواب عندي أنهما جميعا مندوبان إلى ذلك مأجوران عليه. قال صلى الله عليه وسلم:[نعم ولك أجر]

(1)

. الحديث المتقدم. قاله الحطاب. وقال ابن جماعة: وعند الأربعة أن الصبي يثاب على طاعته وتكتب حسناته، كان مميزا أو غير مميز، ويروي ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه، ونقل بعض العلماء الإجماع على ذلك.

الرابع: قال في المدونة: ولا بأس أن يحرم بالأصاغر الذكور وفي أرجلهم الخلاخل وعليهم الأسورة، وكره مالك للصبيان الذكور حلي الذهب. انتهى. قال في الطراز: لا يختلف المذهب في أن الصبي يمنع من لباس المحيط ويجنب ما يجتنب الكبير، وإنما خرج قوله في ذلك مخرج قوله في مختصر ما ليس في المختصر: لا بأس أن يلبس المحرم الخاتم، فلم يجعله من جنس المحيط ولا في معناه، ومن منع الخاتم للرجل منع أيضا للصبي الخلخالين والسوارين. انتهى. قاله الحطاب. ونقل ابن عرفة عن محمد مثل ما في المدونة، قال الإمام الحطاب بعد ما جلب من النقل في ذلك: فعلم أن كلامه في المدونة مخالف لمشهور مذهبه، وكذلك كلام الموازية الذي نقله ابن عرفة. والله أعلم. انتهى.

الخامس: قال الشيخ إبراهيم: فإذا كان يحصل بتجريده قرب الحرم ضرر فالظاهر أنه يؤخر الإحرام والتجريد إلى دخول الحرم، كما أن الظاهر من كلامهم أنه إذا كان يحصل بتجريده الضرر فإنه يحرم عنه بغير تجريد ويفدي.

(1)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:961. مسلم، كتاب الحج، الحديث: 1336.

ص: 287

ومطبق، معطوف على رضيع، وهو صفة لمحذوف؛ يعني أن الولي يحرم ندبا عن المجنون المطبق قرب الحرم ويجرده، وَأَجْرِهِ في جميع أحكامه على ما مر في الصبي غير المميز من غير فرق بينهما يا فتى، والمطبق هو الذي لا يفهم الخطاب، ولا يحسن رد الجواب، ولو كان يميز بين الإنسان والفرس، واحترز بالمطبق عن الذي يفيق أحيانا، فإنه ينتظر ولا ينعقد عليه إحرام غيره، فإن علم بالعادة أنه لا يفيق حتى ينقضي الحج صار كالمطبق كما قاله غير واحد، ولو أحرم الولي عن المطبق ثم أفاق بعد إحرام وليه عنه فالظاهر أن الإحرام يلزمه وليس له رفضه وتجديد إحرام بالفرض، ولا يجزئه عن الفرض. قاله الشيخ إبراهيم وغيره. لا مغمي؛ يعني أن الولي لا يحرم عن المغمى عليه؛ أي لا يصح إحرامه عنه ولا يندب، أحْرَمَ بفرض أو نفل. وقوله:"لا مغمي"؛ يعني ولو خيف فوات الحج لأنه مظنة عدم الطول ويرجي زواله بالقرب غالبا، بخلاف المطبق فإنه شبيه بالصبي لطول مدته، وصح الإحرام عن الصبي لأنه يتبع غيره في أصل الدين، فإن لم يفق المغمى عليه إلا بعد زمن الحج فلا شيء عليه، فإن أفاق في زمن يدرك الوقوف فيه أحرم وأدركه ولا دم عليه في عدم رجوعه إلى الميقات، وسيأتي حكم طرو إغمائه بعد إحرامه إن شاء الله تعالى.

وفي الحطاب بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أن للمغمى عليه قبل الإحرام أربع حالات: الأُولَى: أن لا يفيق أصلا من أول الحج إلى كماله، الثانية: أن يفيق في أثناء الحج بعد وقت الوقوف فهذا قد فاته الحج في الصورتين، الثالثة: أن يفيق بعرفة فهذا يحرم حينئذ ويلبي إلى الزوال إن كانت إفاقته قبل الزوال، وإن كانت إفاقته بعد الزوال فيلبي ثم يقطع في حينه على المشهور، الرابعة: أن يفيق قبل عرفة فإن أمكنه أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه فالأحسن له أن يرجع، فإن لم يفعل وأحرم من موضعه أجزأه ولا دم عليه. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.

والمميز بإذنه، قوله:"والمميز"، عطف على قوله:"ولي"، أو فاعل فعل محذوف تقديره: يحرم، والضمير في "بإذنه"، عائد على الولي؛ يعني أن الصبي المميز يحرم عن نفسه من الميقات، لكن إنما يحرم بإذن وليه، والمميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن رد الجوابْ ومقاصد الكلامْ، ولا ينضبط بسن مخصوص بل يختلف باختلاف الأفهام، قال الشبراخيتي: ومن أحرم ثم بلغ، فقال

ص: 288

الإمام مالك: لا يرفض إحرامه ويتمه ولا يجزئه، وقال أبو حنيفة: يجدد النية ويجزئه، وقال الشافعي: يجزئه من غير تجديد، وعلى هذا اختلافهم في العبد يعتق بعد إحرامه. انتهى.

وقد مر هذا، وقال عبد الباقي: ويحرم المميز حرا أو عبدا، ذكرا أو أنثى، وكذا السفيه المولى عليه بإذنه -أي الولي- وجرد قرب الحرم إن لم يناهز البلوغ، فإن ناهزه فمن الميقات. قاله في المدونة. انظر أحمد. فإذا أحرم بإذنه فلا يحلله، وإلا فله تحليله؛ يعني أن المميز إذا أحرم بحج بغير إذن وليه فإن الولي له تحليله أي إخراجه مما أحرم به وإمضاؤه بما يراه مصلحة، وإنما يحلله بنية وحلاق معا، ولا يكفي رفضه النية؛ لأن الحج لا يرتفض بها، وإذا أراد الولي الرجوع بعد الإذن وقبل الإحرام فالظاهر أن له الرجوع كالعبد، بل هذا أولى ولا سيما إذا كان بمصلحة. قاله الحطاب.

تنبيهات: الأول: إذا أحرم ولي المميز عنه، هل ينعقد بذلك إحرام المميز؟ قال الإمام الحطاب: للشافعية فيه قولان، والأصح عندهم الانعقاد، والجاري على المذهب أنه لا ينعقد لأن القاعدة أن كل فعل يمكن للصبي فعله فلا يفعله الولي عنه، ولا شك أن المميز يمكنه مباشرة الإحرام فلا يصح أن يفعله الولي عنه. فتأمله. والله أعلم.

الثاني: فهم من المصنف أن إحرام الصبي بغير إذن وليه منعقد، وأن تحليله له جائز، قال أشهب في الموازية: إذا أحرم العبد فحلله سيده ثم أعتق، أو حلل الصبي وليه ثم بلغ، فإنهما يحرمان بالحج ويجزئهما عن حجة الإسلام، قال سند: وهذا يقتضي انعقاد إحرامه، وإنما للولي النظر في إمضائه ورده وهو الأظهر لأنه تنعقد صلاته، واختلف في هذا الفرع أصحاب الشافعي.

الثالث: قال ابن عرفة: وللسيد تحليل ذي رق أحرم بغير إذنه، وشَكُّ ابن عبد السلام في جواز تحليل الصغير والكبير السفيه قصورٌ لقبول الصقلي والشيخ قول أشهب: لو أعتق أو بلغ عقب تحليله سيده أو وليه فأحرم لفرضه أجزأه، وسماع ابن القاسم إحرام المولى عليه لسفه لا يمضي، وقبله الشيخ، وتعليلُه ابنُ رشد بأنه قبل أشهر الحج وميقاته بعيدٌ. انتهى. والله أعلم. قاله الحطاب.

ص: 289

ولا قضاء؛ يعني أن الصبي المميز إذا أحرم بغير إذن وليه وحلله الولي، فإنه لا قضاء على الصبي لما حلله منه الولي، لا قبل البلوغ ولا بعده، ومثل الصبي المميز السفيه المولى عليه.

فتحصل من هذا ومما مر قريبا أن السفيه البالغ إذا أحرم بغير إذن وليه أنه كالصبي المميز إذا أحرم بغير إذن وليه في جواز التحليل وعدم القضاء. بخلاف العبد؛ يعني أن العبد البالغ إذا أحرم بغير إذن سيده فإن له أن يحلله، وإذا حلله فإن عليه قضاء ما حلله منه؛ أي يلزمه قضاؤه في حال الرق إن أذن له السيد في القضاء، وإن لم يأذن له فإنه يلزمه القضاء إذا أعتق، وأما العبد الصغير فإنه داخل تحت قوله:"والمميز بإذنه وإلا فله تحليله ولا قضاء"، وقد علمت أن العبد البالغ يلزمه قضاء ما حلله سيده منه في حال الرق إن أذن له السيد، فإن منعه من القضاء في حال الرق فإنه يلزمه القضاء بعد العتق، ويقدم القضاء على حجة الإسلام كما يأتي، فإن قدم حجة الإسلام على القضاء صحت، ومثل العبد المرأة إذا أحرمت في التطوع بغير إذن زوجها فله تحليلها وعليها القضاء كما سيقوله المصنف في موانع الحج وعليها القضاء كالعبد.

والفرق بين السفيه والعبد والمرأة أن الحجر على السفيه لحق نفسه وهو مع الحجر وبعده، والحجر على العبد والمرأة لحق غيرهما، فإذا زال بالتأيم والعتق وجب القضاء، وإذا أذن للمميز أو الرقيق وأراد منعه قبل الإحرام، فلأبي الحسن على المدونة: للسيد منع عبد أذن له قبل الإحرام لا بعده، وهو الموافق لما مر في الاعتكاف، وفي الشامل: ليس له منعه وإن لم يحرم على الأظهر. قاله الشيخ عبد الباقي.

وأمره مقدوره؛ يعني أنه يجب على الولي أن يأمر المحجور الذي يقبل الأمر وإن لم يكن مميزا بالمعنى المذكور في فصل الجماعة؛ بأن يأتي بما يقدر عليه من أفعال الحج وأقواله، ويلقن التلبية والذكر إن قبل التلقين. قاله عبد الباقي. والمذكور في فصل الجماعة هو قول المصنف:"وصبي عقل القربة كالبالغ"، وأما الذي لا يفهم الخطاب فيدخل تحت قوله: وإلا، مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإلا بأن عجز عن شيء أو لم يكن مميزا بمعنى أنه لا يفهم الخطاب، أو كان مطبقا ناب عنه؛ يعني أن الولي ينوب عنه في فعل ما لا يقدر على فعله إن قبلها؛ يعني أن محل فعل الولي لما لا يقدر عليه المحجور إنما هو فيما يقبل النيابة، ومثل لذلك بقوله:

ص: 290

كطواف، وسعي ورمي، وفي جعله الطواف ونحوه مما يقبل النيابة نظر، فإن حقيقة النيابة أن يأتي النائب بالفعل دون المنوب عنه كما في الصحاح، والطواف والسعي ليسا كذلك بل لا بد أن يطاف به ويسعي به محمولا ويقف به بعرفة، فحقه أن يمثل لما يقبل النيابة بالرمي والذبح.

لا كتلبية؛ يعني أن الولي لا يفعل ما عجز عنه محجوره إذا لم يقبل ذلك الأمر النيابة، وذلك كتلبية وركوع؛ يعني أن الركوع للإحرام أو للطواف لا يقبل النيابة فلا يفعله الولي، وإذا قلنا إن ما لا يقبل النيابة لا يفعله الولي فإنه يسقط، قال في التوضيح: كل ما يمكن الصبي فعلُه فعلَه بنفسه، وما لا يمكنه فعلُه فإن قبل النيابة فعلَه

(1)

عنه وإلا سقط، وما ذكره المصنف من السقوط في التلبية والركوع هو المشهور، وقيل يلبي عنه، وقيل يركع عنه، وقد علمت أن المشهور السقوط، وقد ثبت أنه لا يصلي أحد عن أحد، وسيأتي للمصنف أنه إذا طاف شخص بصبي أو مجنون طوافا واحدا ينوي به عن نفسه ومن معه لم يجز عن واحد منهما، والرمي مثله بخلاف السعي، وحيث أراد فعل واحد من الثلاثة عن نفسه وآخر منها عن صبي وجب تقديم ما لنفسه، وسكت المصنف عن اشتراط الطهارة في الصغير، والظاهر اشتراطها فيه كالكبير. قاله الحطاب. أي فيما يمكن طهارته لا كالرضيع. قاله الشيخ عبد الباقي.

وقال الشيخ الخرشي: وسكت المصنف عن شروط الطواف من طهارة حدث وخبث وستر عورة، وكون البيت عن يساره، والخروج عن الشاذروان، قاله بعض. والظاهر اشتراطها كما في الكبير؛ لأنهم لما ذكروا هذه الشروط لم يخصوا بها أحدا. انتهى. وقوله: قال؛ يعني به الحطاب. والله سبحانه أعلم.

وذكر ابن فرحون في ألغازه في باب الحج أن الصغير الذي لا يميز الطهارة ولا يمتثل ما يؤمر به يشترط في صحة طوافه ستر العورة وطهارته من الخبث، ولا يبطل طوافه بطرو الحدث الأصغر عليه. قاله الحطاب. وحكم المجنون المطبق في جميع ما ذكر حكم الصبي، ففي المدونة: والمجنون في جميع أموره كالصبي. وأحضرهم المواقف، الضمير البارز للرضيع والمطبق والصبي المميز؛ يعني أن الولي لا بد أن يحضر الصبي -مميزا أو غيره- والمجنون المطبق مواقف الحج،

(1)

في التوضيح ج 2 ص 491: فعل عنه.

ص: 291

والمراد بها: عرفة ومزدلفة ومني، ولا ينوب عنهم في ذلك، فأفاد المصنف بقوله:"وأحضرهم المواقف"، أن المواقف مما لا يقبل النيابة.

وبما قررت علم أن الجمع في المواقف على حقيقته، فقول بعضهم: إن المراد بالمواقف عرفة وجمعت باعتبار أن كل موضع منها يَصِحُّ فيه الوقوف غير ظاهر؛ لأنه لا يطلب منه إحضاره في جميع أجزاء عرفة، وكذا تفسير بعضهم المواقف بعرفة ومزدلفة، وقال: أقل الجميع اثنان لأن منى من المواقف أيضا لأنه يطلب فيها الوقوف إثر رمي الجمار. والله أعلم. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي بعد أن ذكر ما ذكره الحطاب: وعلي كل ففيه تغليب لأن الموقف حقيقة عرفة وهو واحد، ولو قال: المشاهد، كان أحسن؛ أي يطلب من الولي أن يحضرهم المشاهد التي يطلب فيها الحضور، كعرفة ومزدلفة ومنى وجوبا في عرفة وندبا في غيرها، وقوله:"وأحضرهم المواقف"، مثل الثلاثة المتقدمين

(1)

في ذلك: المغمى عليه إذا طرأ عليه الإغماء بعد الإحرام، ثم تكلم على من تكون نفقة المحجور لصبا أو جنون في السفر، قال عبد الباقي: وينبغي أن لا يخص ذلك بسفر الحج، بقوله: وزيادة النفقة عليه؛ يعني أن الولي إذا سافر بمحجوره صبيا أو غيره فزادت نفقته في السفر على نفقته في الحضر، كما لو كانت نفقته في الحضر ربع درهم في اليوم وفي السفر نصف درهم، فالزيادة عليه أي على الصبي؛ أي في مال الصبي. إن خيف ضيعة؛ يعني أن محل كون الزيادة المذكورة على الصبي إنما هو إذا كان الولي يخاف على الصبي الضيعة إذا تركه ولم يستصحبه معه في السفر، وإلا؛ أي وإن كان لا يخاف الولي على الصبي الضيعة إذا لم يسافر به، فالغارم لتلك الزيادة وَلِيُّهُ الذى سافر به لتعديه، والمراد بالولى الأب والوصى، وكل من كان الصبي في كفالته من أم وغيرها، قال في المدونة: وليس لأبي الصبي أوأمه أو من هو في حجره من وصي أن يخرجه وَيُحِجَّهُ وينفق عليه من مال الصبي، إلا أن يخاف من ضيعته بعده ولا كافل له فله أن يفعل به ذلك، وإلا ضمن له ما أكرى له به وأنفق عليه إلا قدر ما كان ينفق في مقامه. انتهى. قاله الحطاب.

(1)

في الأصل: المتقدمون.

ص: 292

قول المدونة: وإلا ضمن له ما أكرى له به، لم يفصل في ذلك، وقال في الطراز: كراء الدابة على من سافر به إلا قدر كراء بيته في مدة سفره إن كان مسكنه بالكراء، ولا ضمان على الولي لما طرأ في السفر من صنع الله تعالى على نفس الصبي من غير تفريط، مثل أن يفر أو يموت أو يقتل؛ إذ لا صنع للآدمي في ذلك -ذكره صاحب الطراز- فيما إذا سافر به ولم يخف عليه الضيعة. والله أعلم.

وقول المصنف: "إن خيف ضيعة"، الضيعة هي الضياع، والضياع بفتح الضاد الهلاك، ضاع الشيء يضيع ضياعا هلك، ولم يذكر المصنف حكم السفر بالصبي، قال سند في الطراز: السفر في أصله مضرة بالصبي في مُؤَنِهِ، ولمكان مشقته قصر المسافر وأفطر في رمضان، والصبي لا يسلك به وليه إلا سبيل المصلحة، فإن كان السفر مخوفا لشدة حر أو برد أو نحوه لم يجز له أن يخرج به لما فيه من التغرير به، وإن لم يكن مخوفا إلا أنه لا حاجة به إليه فالأب له أن يحمله معه لما في صحبته حينئذ من حسن النظر ولكمال شفقته، وله أن يتركه بعده لما عليه في السفر من المشقة والكلفة، وغير الأب لا يخرج به إذا وجد من يكفله بعده، فإن خاف ضيعته حمله، ونفقة الصبي في ماله إذا سافر به لمصلحته؛ لأن سفره من مصلحته في هذه الحالة، وله حينئذ أن يحرم به لأنها مصلحة دينية لا كبير ضرر فيها على الصبي لأنه مع وليه. انتهى.

وقال قبله: ولا يحج بالصبي إلا وليه أو وصية ومن له النظر في ماله؛ لأن ذلك يتعلق بإنفاق المال، فكان أمره أن له الولاية في ماله، وذلك الأب ووصيه وولي الحاكم، ولو كان في كفالة أحد بغير إيصاء فهل له ذلك؟ يختلف فيه، وقد قال مالك في الصبية من الأعراب تأخذهم السنة فيضمها الإنسان ويربيها ويريد تزويجها ومن أنظر لها منه؛ فعلى هذا إذا كان الصبي تحت أمه أو خالة أو عمة أو أخته وشبه ذلك يجوز له أن يحج به -يعني إذا خاف عليه الضيعة- وأما إن لم يخف عليه الضيعة فلا يحج به إلا الأب كما تقدم، وإن كان الأب حيا لم تسافر الأم به إلا بإذن الأب، وإن كان ميتا ولا وصي له فلها أن تسافر به إن خافت ضيعته. انتهي، قاله الحطاب.

ص: 293

وقال: وينبغي أن يكون لها أن تسافر به وإن لم يخف عليه الضيعة إذا لم يكن له وصي لِمَالَهَا من الشفقة كالأب، بل هي أعظم، وهذا إذا كان السفر بعيدا مما تسقط به الحضانة وإلا جاز من غير إذن الأب والوصي كما يأتي في باب الحضانة. انتهى.

ثم شبه المصنف بما بعدَ وإلَّا قولَه: كجزاء صيد، الجزاء بالمد والهمز مصدر جزاه بما صنع أي كافاه؛ يعني أن الصيد الذي صاده الصبي محرما في غير الحرم لازم لوليه جزاؤه، سواء خاف الولي على الصغير الضيعة أو لم يخف عليه الضيعة، وجزاء الصيد هو ما يجعل في مقابلته من النعم {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} كما في التنزيل، وأما إن ترتب عليه الجزاء في الحرم بأن قتله الصبي فيه محرما أولا فيفصل فيه كزيادة النفقة. قاله الحطاب. أي لأنه لا تأثير للإحرام فيه. وفدية؛ يعني أن الصبي إذا ترتبت عليه فدية للبس أو طيب أو غير ذلك، فإن الولي هو الذي يغرمها أي يلزمه غرمها مطلقا، سواء خيف على الصبي من تركه ضيعةٌ أم لا، بلا ضرورة، راجع لقوله:"وفدية"؛ يعني أن محل كون الفدية على الولي إنما هو إذا لم تكن عن ضرورة، وأما إن لبس الصبي مثلا لضرورة فإن الفدية تكون في مال الصبي، وقبله الشارح قال: وقاله ابن شأس، وتعقبه الحطاب بأنه ليس في كلام ابن شأس التصريح بأنها في مال الصبي.

والحاصل من كلامهم هنا أن الذي به الفتوى هو أن الفدية على الولي سواء كانت هناك ضرورة أم لا، فتقييد المصنف الفدية بالضرورة لا مفهوم له، ولهذا قال الشيخ إبراهيم عند قوله "بلا ضرورة": لا مفهوم له، أو أن مفهومه مفهوم موافقة؛ إذ ظاهر المدونة وهو المذهب أنها على الولي مطلقا لضرورة أم لا. انتهى. ونحوه للشيخ عبد الباقي والشيخ الخرشي، وعبارة الخرشي: لا فرق بين كونها لضرورة أم لا؛ لأن الولي أدخله في عهدته بإحجاجه كما هو ظاهرها، وبعبارة أخرى نص المؤلف على المتوهم وأحرى لضرورة كما قاله الحطاب وهذا أحسن، وعبارة الشيخ الأمير: وما لزمه بالإحرام على الولي مطلقا. انتهى.

وقوله: "كجزاء صيد"، هو الأشهر من أقوال ثلاثة،

ص: 294

وعلى ما قررت به المصنف فالتشبيه غير تام، والقول الثاني هو ما في الموازية أنه يفصل في ذلك كالنفقة، ولا يحسن حمل كلام المصنف على هذا لأنه خلاف الأشهر، والقول الثالث أن ذلك في مال الصبي مطلقا، وعلى الأشهر الذي مشى عليه المصنف فالفرق بين زيادة النفقة حيث فصل فيها بين خوف الضيعة فتكون على الصبي أولا فتكون على الولي، وبين جزاء الصيد والفدية حيث كانا على الولي مطلقا؛ هو أن الولي كان قادرا على أن يصحبه من غير إحرام فلما أدخله في الإحرام صار كأنه هو الذي ألزمه ذلك، ولم يذكر المصنف حكم الهدي وذلك لأن موجب الهدي لا يكون غائبا إلا بتفريط من الولي، فإذا فرط فذلك عليه ويؤخذ ذلك من قوله في المدونة: وكل شيء وجب على الصبي من الدم في الحج فذلك على والده. والله أعلم. ولا مفهوم لقوله في الحج: فالحج والعمرة في ذلك سواء. قاله الإمام الحطاب.

وإذا أفسد الصبي حجه فعليه القضاء والهدي. قاله المصنف في المناسك. وذكره غير واحد، وأصله في الموازية. قاله الحطاب. وقال سند في الطراز بعد أن ذكر كلام الموازية وخلاف الشافعية فيه: أما على قول أصحابنا فإن أعطينا وطأه حكم الجماع في نقض الطهارة لم يبعد أن يوجب عليه القضاء، وإن لم نعطه حكم الغسل والحدث فلا قضاء فيه. انتهى. وانظر هل يصح منه القضاء في حال صباه؟ للشافعية في ذلك قولان، وذكر ابن جماعة الشافعي في منسكه الكبير عن المالكية ما يقتضي صحة ذلك، فإنه قال في محرمات الإحرام والكلام على جماع الصبي: وعند المالكية أن حجه يفسد بذلك، وعليه القضاء والهدي، وأنه إذا بلغ في أثناء القضاء لا يقع عن حجة الإسلام. انتهى. قال الحطاب: ولم أر فيه نصا لأصحابنا، والظاهر من إطلاق المذهب الصحة. والله أعلم. انتهى.

وشرط وجوبه؛ يعني أنه يشترط في وجوب الحج الحرية، فلا يجب على عبد ولا على من فيه بقية رق من مكاتب ومدبر ومعتق لأجل وأم ولد ومبعض ولو قل جزء رقه، وكما يشترط في وجوب الحج الحرية، يشترط فيه أيضا التكليف، فلا يجب على صبي ولو مراهقا، ولا على مجنون، ولا على ضعيف عقل. كوقوعه فرضا؛ يعني أن الإنسان إذا حج وهو رقيق ثم أعتق بعد ذلك فإنه يجب عليه أن يحج حجة الإسلام، ولا يكون حجه في حال الرق مسقطا لوجوب الحج عنه؛ لأن حج العبد لا يقع فرضا بحيث يجزئ عن حجة الإسلام ولو نوى به الفرض بتقدير عنقه، وكما

ص: 295

يشترط في وقوعه فرضا الحرية، يشترط فيه أيضا التكليف، فإذا حج الصبي فلا يقع منه فرضا، فإذا بلغ وجب عليه أن يحج حجة الإسلام، ولا يسقط عنه الوجوب بحجه في الصبا ولو مراهقا ولو نوي به الفرض، ومثل الصبي المجنون وضعيف العقل وهو المعتوه، فلا يقع من الجميع فرضا، وقوله:"وشرط"، مبتدأ مضاف ووجوبه مضاف إليه، وخبر المبتدأ قوله: حرية، كما يعلم من التقرير، وقوله: وتكليف، عطف على الخبر كما يعلم من التقرير أيضا؛ أي يشترط في وجوب الحج ووقوعه فرضا أمران؛ أحدهما الحرية ثانيهما التكليف، والتكليف بالبلوغ والعقل، وسيأتي للمصنف تقييد الوجوب بالاستطاعة.

ولما أطلق قوله: "كوقوعه فرضا"، ولم يقيده بإمكان الاستطاعة علمنا أنه لو تكلف الحج في الحالة التي لا يجب عليه فيها فإنه يقع فرضا، ويجزئه عن حجة الفرض إن أتي به على الوجه المقرر. واعلم أن شروط وجوب الحج ثلاثة: الحرية والتكليف والاستطاعة كما سيقول المصنف: "ووجب باستطاعة" لخ، وشروط وقوعه فرضا: ثلاثة أيضا الحرية والتكليف وعدم نية النفل؛ لأن غير المستطيع إذا تكلف وأداه وقع فرضا كما مر قريبا، وكذا السفيه إذا أداه بغير إذن وليه حيث لم يطلع عليه حتى فعله، فالظاهر أنه يقع فرضا إن أتى به على الوجه المشترط في الفرض. والله سبحانه أعلم.

وقد مر أنه إذا أحرم بغير إذن وليه فله تحليله، وقد علمت أن المراد بالفرض حجة الإسلام؛ لأن المنذور يفعله العبد، وسيأتي للمصنف أن السفه من موانع الحج إلا بإذن وليه، فيزاد في السفيه إذن الولي، فتكون شروط الوجوب في حقه أربعة هذا هو الظاهر دون ما للرماصي. والله سبحانه أعلم.

وقوله: "كوقوعه فرضا"، قال الشيخ الخرشي: الظاهر أن قوله: "كوقوعه فرضا"، مقدم من تأخير، والأصل: وشرط وجوبه حرية وتكليف كوقوعه فرضا، فاعترض به بين المبتدإ وخبره ولم يعطفه على المبتدإ ويخبر عنهما بخبر واحد، ليرجع قوله: وقت إحرامه، وما بعده لما بعد الكاف؛ يعني أن الحرية والتكليف إنما يعتبران في وقوع الحج فرضا وقت الإحرام.

ص: 296

وبما قررت علم أن قوله: "وقت إحرامه"، ظرف لقوله:"حرية وتكليف"، لكن تقييدهما به إنما هو بالنسبة للوقوع فرضا لا ظرف لوقوعه ولا لوجوبه، فمن لم يكن حرا وقت الإحرام أو مكلفا لم يصح منه الفرض، ولو عتق العبد أو بلغ الصبي بعد ذلك قبل الوقوف وصح نفلا، ولا ينقلب فرضا ولا يرتفض إحرامه ولا يجزئهم إرداف إحرام عليه -قاله الشيخ عبد الباقي- وحجة الإسلام باقية عليهم.

بلا نية نفل، حال من المضاف إليه الذي هو الضمير في إحرامه؛ يعني أنه يشترط في وقوع الحج فرضا: حرية وتكليف حاصلان وقت الإحرام، حال كون المحرم خاليا من نية نفل، بأن نوى به الفرض أو الحج أو أطلق وينصرف للفرض. قاله سند. فلو نوى النفل وقع نفلا ولم يقع عن الفرض بل الفرض باق عليه خلافا للشافعي، ويكره تقديم النفل على الفرض، وكذا يكره تقديم النذر على الفرض، ولا يصدق كلام المصنف بعدم النية بالكلية لعدم توهمه بأن يترك نية الحج من أصله، وما تقدم من أنه إذا لم يكن مكلفا أو حرا وقت الإحرام الذي أذن فيه السيد أو الولي لا يصح منه الفرض ولو صار من أهل الوجوب قبل الوقوف بعرفة لخ، هو المعروف من المذهب، وقال الشافعي وابن حنبل: يجزئهما إذا كان العتق والبلوغ قبل الوقوف، وأما أبو حنيفة فوافقنا في العبد ومنع انعقاد إحرام الصبي بالكلية، وفي المدونة: ولو أحرم العبد قبل عتقه والصبي أو الجارية قبل البلوغ تمادوا على حجهم، ولم يجز لهم أن يجددوا إحراما، ولا يجزئهم عن حجة الإسلام، ولفظ الطراز: قال مالك في الصبي يحرم ثم يبلغ عشية عرفة فيجدد إحراما: إنه لا يجزئه عن حجة الإسلام، وكذلك الجارية، وقال سند في الرد على الشافعي: لأن إحرامه انعقد نفلا إجماعا وما انعقد نفلا لا ينقلب فرضا كسائر العبادات، وكلام القاضي عياض مخالف للنصوص، وقال المشدَّالي بعد أن ذكر كلام صاحب الإكمال: وهذا النقل لا يعرف لغيره. انتهى. والله أعلم. قاله الحطاب.

تنبيهات: الأول: قال الإمام الحطاب بعد ما ذكرته هنا: هذا الذي ذكرناه ظاهر إذا أحرم الصبي بإذن وليه والعبد بإذن سيده، أو أحرما بغير إذن الولي والسيد وأجازا ذلك، فإن أحرم الصبي بغير إذن وليه والعبد بغير إذن سيده ولم يعلم الولي ولا السيد حتى بلغ الصبي وعتق العبد، فلم

ص: 297

أر في ذلك نصا صريحا، والذي يظهر من كلامهم أن للولي أن يحلل الصبي ولو بلغ إذا كان سفيها؛ لأنه سيأتي أن للولي أن يحلل السفيه إذا أحرم بغير إذنه، وقاله غير واحد، فيحلله من هذا الإحرام النَّفل ليحرم بفريضة الحج وهذا ظاهر، وأما إن بلغ الصبي رشيدا وانفك عنه الحجر فالظاهر أنه ليس له تحليله، وكذلك العبد إذا أحرم بغير إذن سيده ثم عتق فليس للسيد أن يحلله بعد أن عتق، ويتمادى على حجه وعليه حجة الإسلام. انتهى كلام الحطاب.

الثاني: لو أحرم الولي عن المجنون المطبق ثم أفاق بعد إحرام وليه عنه، فالظاهر أن إحرام وليه يلزمه وليس له أن يرفضه ويجدد إحراما بالفرض. قاله الحطاب.

الثالث: قال البساطي: ولا يجب على صبي ولا مجنون ولا معتوه. انتهى. قال الحطاب: إن كان مراده بالمعتوه المجنون -كما فسره به ابن رشد، فقال: المعتوه الذاهب العقل- فلا يصح منه نية ويعيد من ائتم به أبدا، فلا يصح عطفه عليه وإن كان مراده به ضعيف العقل كما هو الغالب في استعمالهم، فالظاهر أن الحج يسقط عنه. انتهى.

الرابع: قد مر أن من لم يكن مستطيعا وتكلف الحج يجزئه عن الفرض، ولا يقال: كيف يجزئ ما ليس بفرض عن الفرض؛ لأنا نقول إنه في الحقيقة لما حصل بموضع الحج والتمكن منه وجب عليه فأجزأه فعله، وظاهر نصوصهم أنه يجزئه ولو تكلفه بالكلية، وقال الحطاب: ولو قرن النفل مع الفرض فجعله البساطي بمنزلة من نوى النفل ولم أره لغيره. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وما قاله البساطي هو ظاهر كلام المؤلف. والله سبحانه أعلم.

ووجب باستطاعة؛ يعني أن الحج يجب على من استطاع إليه سبيلا، لقوله عز وجل:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، ولم يقل المصنف: واستطاعة، بالرفع عطفا على حرية لاقتضائه أنه يشترط في وقوعه فرضا الاستطاعة، كما أنها مشترطة في الوجوب وليس كذلك كما عرفت؛ إذ لو تكلفه غير المستطيع ممن هو صرورة وقع فرضا كما عرفت، قاله غير واحد، وقال الحطاب: إن الاستطاعة سبب للوجوب، قال: وإفرادها عن شروط الحج وعدم عطفها عليها وإدخال الباء الدالة على السببية عليها يدل على أن مراده ما ذكرناه، قال: وأكثر أهل المذهب يجعلون الاستطاعة من شروط الوجوب، وإذا وجدت شروط وجوب الحج فإن كان بينه

ص: 298

وبين زمانه وقت واسع كان وجوبه موسعا، ومتى سعى فيه سعى في واجب، وإن مات قبل فوت وقته سقط عنه كما إذا طرأ العذر في وقت أداء الصلاة، فإن لم يخرج إلى الحج حتى فات الحج فقد استقر الوجوب عليه، لكنه إن مات سقط الوجوب عنه بموته عندنا، ولا يلزم ورثته ولا ماله شيء إذا لم يوص بذلك. قال صاحب الطراز: وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: إن مات قبل مضي زمن الحج فلا شيء عليه، وإن مات بعده فذلك في رأس ماله. انتهى. ثم أبدل من قوله:"باستطاعة"، قوله: بإمكان الوصول؛ يعني أن الاستطاعة هي أن يمكن الشخص أن يصل إلى مكة -شرفها الله تعالى- راجلا أو راكبا، بشراء أو كراء، وسئل إمامنا مالك رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، أذلك الزاد والراحلة؟ فقال: لا، والله ما ذلك إلا على طاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المسير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه ولا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، ورب صغير أجلد من كبير. انتهى.

وقيل: الاستطاعة الزاد والراحلة، وهو قول سحنون وابن حبيب، ودليله ما رواه أبو داود والترمذي [أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستطاعة، فقال: هي الزاد والراحلة]

(1)

، وأجيب عنه بأنه فهم عن السائل أنه لا قدرة له إلا بذلك، وقال ابن رشد: وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الزاد والراحلة معناه في بعيد الدار، وحكي سند الإجماع على أن من كان دون مسافة القصر لا يعتبر في حقه وجود الراحلة، قال الحطاب: وأما الزاد فلا بد من اعتباره في القريب والبعيد. انتهى. وسيأتي أن الصنعة تقوم مقام الزاد، وقوله: بإمكان الوصول أي إمكانا عاديا لا بطيران ونحوه كما يفيده كلام بعضهم جزما لأنه خلاف ما وقع منه صلى الله عليه وسلم، وأما الإجزاء فلا مانع منه. قاله غير واحد. قوله: لأنه خلاف ما وقع لخ، قال محمد بن الحسن: الظاهر أنه لا دليل في هذا لأنه صلى الله عليه وسلم أمكنه الوصول العادي. انتهى. وقال الأمير: فإن وقع أجزأ قطعا. انتهى. وقال عبد الباقي: أما الإجزاء فلا مانع إذ لا يحتاج الإجزاء

(1)

أبو داود، في المراسيل، باب الحج، الحديث:138. الترمذي، كتاب الحج، الحديث: 813. ابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث:2896.

ص: 299

لاستظهار بل يُجزم به، وتردد الشيخ زروق في الوجوب، فقال: أما الإجزاء فالظاهر أنه لا مانع منه، وأما الوجوب فمحل نظر. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: والظاهر الوجوب، لقوله عز وجل:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، وقد مر قول محمد بن الحسن لأنه صلى الله عليه وسلم أمكنه الوصول العادي. والله سبحانه أعلم. ومن غير المستطيع سلطان يخشى من سفره العدو على المسلمين بعده، أو يخشى عليهم من المفسدين من المسلمين أو اختلال الرعية أو ضررا عظيما يلحقه بعزله مثلا لا مجرد العزل فيما يظهر. انتهى.

وفي الشبراخيتي أنه يعتبر في وجوب الحج وجود الماء في كل منهل، قال: وهذا متعذر الآن. بلا مشقة، الباء في قوله:"بإمكان الوصول"، للسببية كما مر، والظاهر في قوله:"بلا مشقة"، أنه حال من "إمكان"، وأن الباء للمصاحبة؛ يعني أن الاستطاعة هي أن يمكنه الوصول إلى مكة من غير مشقة فادحة، ولهذا قال: عظمت؛ يعني أن المشقة المسقطة لوجوب الحج هي المشقة العظيمة أي الفادحة، وهي المشقة الخارجة عن المعتاد في ذلك المحل بالنسبة للشخص، والفادحة من فدحه الدين أي أثقله، واحترز بقوله:"عظمت"، عن مطلق المشقة، فإن السفر لا يخلو عنها، ولذلك رخص فيه للمسافر في القصر والفطر.

وفي الحديث الشريف عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [السفر قطعة من العذاب]

(1)

، وهو متفق عليه، وقال سند: المشقة على حسب الأحوال، فما هان تحمله لم يؤثر وما [صعب]

(2)

أثر، وإذا فسرنا الاستطاعة بإمكان الوصول كما هو المشهور دخل في ذلك إمكان المسير وأمن الطريق، وإن فسرناها بالزاد والراحلة فهما شرطان زائدان. قاله الحطاب، ومعنى إمكان السير أن يبقى بينه وبين الحج زمان يمكن فيه السير المعتاد، وإذا تعذرت طريق للحج لخوفها أو لعدم مائها مثلا وكانت له طريق أخرى لم يسقط الوجوب عنه وإن كان أبعد، كما لا يسقط الوجوب عمن بعدت داره إلا أن يكون في كلا الطريقين عذر قاطع، وقد مر سقوط فرض الحج عن السلطان يخاف

(1)

البخاري، كتاب العمرة، الحديث:1804. مسلم، كتاب الإمارة، الحديث: 1927.

(2)

في الأصل: ضعف، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 289 ط دار الرضوان.

ص: 300

بخروجه إلى الحج اختلال أمر الرعية، وحينئذ فهل يستأجر من يحج عنه أولا؟ المشهور من المذهب كراهة الإجارة حينئذ وصحتها إن وقعت والحالة هذه. والله أعلم.

ومقابل المشهور يقول بجوازها ابتداء، وقال أبو القاسم بن القاضي أبي السعادات: إن كان لا يرجي زوال ذلك فحكمه حكم المعطوب، فيجوز له الاستيجار، وإن رجي زوال ذلك لم يجز وهو كمرجو الصحة، فالسلطان المذكور إن تحقق أن ما خشيه من اختلال أمر الرعية وصف لا يرجى زواله فهو كالمعطوب، ومشهور المذهب جواز الاستنابة فيه بمعنى أن له أجر النفقة والدعاء، وإن رجي زواله فلا تجوز له الاستنابة كالمريض المرجو صحته.

وأمن على نفس؛ يعني أنه يشترط في وجوب الحج أن يأمن مريد الحج على نفسه من القتل والأسر وعلى البضع، ولا خلاف في اعتبار ذلك. قاله الحطاب. وقوله:"وأمن على نفس"؛ أي من العدو واللصوص والسباع، وظاهر قول المصنف:"وأمن على نفس"، يشمل الخوف من الضرب والقطع، وكذا هو ظاهر كلام غيره. والله سبحانه أعلم. ومال؛ يعني أنه يشترط في وجوب الحج أن يأمن مريد الحج على ماله من اللصوص، جمع لص وهو في الأصل السارق، والمراد به هنا المحارب الذي لا يندفع إلا بالقتال، وأما السارق الذي يندفع بالحراسة فلا يسقط به الحج وهذا ظاهر. قاله الحطاب.

وقال الشبراخيتي عند قوله "وأمن": معطوف على "لا". انتهى. وهو كالصريح في أن لا من قوله: "بلا مشقة"، اسم بمعني غير. والله سبحانه أعلم. قاله جامعه عفا الله تعالى عنه. وقال عبد الباقي عند قوله:"وأمن على نفس ومال": من عطف الخاص على العام أي على نفس من عدو بقتل أو أسر أو سباع، ومال من لصوص جمع لص مثلث اللام وهو في الأصل السارق، ولكن المراد به هنا المحارب، وأما السارق الذي يندفع بالحراسة فلا يسقط به الحج، ونحوه للشبراخيتي، قال: واعترض المصنف بأنه يستغني عن قوله "وأمن على نفس ومال" بقوله" "بلا مشقة عظمت"؛ لأن المشقة -العظيمة إذا انتفت فقد أمن على النفس والمال انتهى.

إلا لأخذ ظالم ما قل، مستثنى من مفهوم مال؛ أي فإن لم يأمن على ماله سقط الوجوب إلا لأخذ لخ؛ يعني أن الخوف على المال يسقط وجوب الحج إلا أن يكون الخوف من أجل ظالم لص أو

ص: 301

عشار لا يأخذ إلا قليلا بالنسبة للشخص المأخوذ منه لكونه لا يجحف، وهذا هو الذي عليه الأكثر، وللخمي أن المراد بالقليل هو القليل في نفسه، وفي الشارح عن أبي الحسن الصغير: واختلف فيمن لا يمكنه الوصول إلى الحج إلا بإخراج المال لسلطان جائر، فقال بعضهم: لا يجب عليه الحج، وقال الشيخ أبو بكر الأبهري: إن لم يمكنه إلا بإخراج المال الكثير الذي يشق ويخرج عن العادة لم يلزمه، وإن كان شيئا يسيرا فالحج واجب عليه، وقوله:"ما"، مفعول المصدر الذي هو أخذ. لا ينكث؛ يعني أنه إذا قلنا إن أخذ الظالم لليسير لا يسقط وجوب الحج، فإنما محل ذلك حيث كان الظالم لا ينكث أي لا يغدر ولا يرجع إلى الأخذ ثانيا، وأما إن كان يعود إلى الأخذ فإنه يسقط بذلك وجوب الحج، فلو علم منه النكث أو جهل حاله لم يختلف في سقوط الحج. قاله الشيخ زروق. نقله الشيخ إبراهيم. وقوله: على الأظهر، راجع لقوله:"إلا لأخذ ظالم ما قل"، ولا يرجع لقوله:"لا ينكث"؛ إذ اعتبار كونه لا ينكث متفق عليه، وعدم السقوط الذي استظهره ابن رشد هو قول الأبهري المتقدم ذكره، ومقابله سقوط الوجوب بأخذ ظالم ما قل. حكاه ابن القصار عن بعض الأصحاب. والقول بالسقوط هو اختيار ابن العربي وغيره. قاله الحطاب.

ونقل الحطاب عن صاحب السراج وهو ابن العربي أنه قال: فإن طلب منه الظالم في الطريق أو في دخول مكة مالا فقال بعض الناس لا يدخل ولا يعطيه وليرجع، والذي أراه أن يعطيه، ولا ينبغي أن يدخل في ذلك خلاف، فإن الرجل بإجماع الأمة يجوز له أن يمنع عرضه ممن يهتكه بماله، وقالوا كل ما وقى المرء به عرضه فهو صدقة، فكذلك ينبغي أن يشتري دينه ممن يمنعه إياه، ولو قال الظالم للرجل: لا أمكنك من الوضوء والصلاة إلا بجعل لوجب أن يعطيه إياه، وظاهر هذا ولو كان يجحف به، وما قدمته مما يدل على أن قول المصنف على الأظهر صحيح، نقل الحطاب عن البرزلي ما يدل عليه، ونص الحطاب: رأيت في أول مسائل الحج من البرزلي في جواب سؤال عزاه لابن رشد ذكر فيه القولين، وصدر بالقول بعدم السقوط ما نصه: والأول أولى إن سأل يسيرا وعلم عدم غدره، قياسا على عادم الماء يلزمه شراؤه إن كان يسيرا لا يجحف، وإن أجحف لم يلزمه. انتهى. قال الشيخ إبراهيم: وذكره حلولو بأتم منه.

ص: 302

تنبيهات: الأول: قال سند ما يأخذه الجند على بذرقة الحجيج ليدفعوا عنهم كل يد عادية، فقال الشيخ أبو بكر بن الوليد: هي من وجه تشبه سائر النفقات اللازمة؛ لأن أخذها للجند جائز؛ إذ لا يلزمهم الخروج معهم فهي أجرة يصرفونها في الكراع والسلاح والزاد، وهي من وجه تشبه الظلم لأن أصل توظيفها خوف قاطع الطريق. انتهى. ونقله ابن جماعة الشافعي في منسكه عن الشيخ أبي بكر وزاد عنه، وقد اتفق على جواز استيجارهم من يخفر من الأعراب واللصوص مع تجويز الغرر، وقال: إن أجرة الدليل تجب على المكلف، فلا يسقط بها الفرض. قاله الحطاب. ثم قال بعد جلب نقول: وتحصل من هذا أن أجرة الدليل وما يأخذه الجند ومن يحفظ الحجاج من اللصوص لا يسقط بها الحج.

والبذرقة بفتح الموحدة وسكون الذال المعجمة، ويقال بالمهملة أيضا وفتح الراء وبعدها قاف ثم هاء تأنيث لفظة عَجَمِيَّةٌ معناها: الخفارة. قاله في القاموس. وقال النووي في تهذيبه: هو الخفير، وهو الذي يحفظ الحجاج ويحرسهم، وكأنها تطلق على المعنيين، والخفارة بضم الخاء المعجمة وكسرها وفتحها هي الذمة، فهي مثلثة، وقال الأمير: ويحرم إعانة غير القادر بما لا يكفيه قبل السفر؛ لأن سفره معصية وأثناء الطريق يواسى. انتهى.

الثاني: الخفارة جائزة، وتوزع بحسب ما يخفر من الأموال والرءوس حيث ذهب الخفير أو نائبه لأنه عمل وإلا كان مجرد جاه فالأخذ عليه لا يجوز. قاله الشيخ المحقق الأمير.

الثالث: أجرة الدال على الطريق على المسافرين على عدد رؤوسهم؛ إذ من معه دواب ولو كثرت كالمجرد منها في النفع بالدال، وهل يعتبر عدد رؤوس التابعين والمتبوعين وهو الظاهر؟ أو يعتبر رؤوس المتبوعين فقط؟ وإذا جرى عرف بشيء عمل به. قاله الخرشي.

الرابع: قال الشيخ زروق: قول القائل: الحج ساقط عن أهل المغرب قلة أدب وإن كان الأمر كذلك، والأولى أن يقال: الاستطاعة معدومة في المغرب، ومن عَدِمَ الاستطاعة لا حج عليه، ورأيت كتابا في الرد على قائل هذه الكلمة ومن قالها من العلماء، فقصده التقريب إلى فهم العامة. انتهى. نقله الحطاب. وقال: وقفت على تأليف في الرد على قائل هذه الكلمة للشيخ أحمد بن محمد اللخمي السبتي، ولعله هو الذي ذكره الشيخ زروق، وأوله: سألت أيها الأخ عن قول من قال:

ص: 303

الحج ساقط عن أهل المغرب، وذلك مذكور عن بعض من يعزى إلى الفقه من المتأخرين، ويأبى الله والمسلمون سقوط قاعدة من قواعد الإسلام، وركن من أركان الدين، وعلم من أعلام الشريعة عن مكلف في أفق من آفاق الدنيا وصقع من صقاع الأرض، وهذا معلوم في الكتاب والسنة والإجماع وأطال في ذلك. والصقع بضم الصاد المهملة وسكون القاف: الناحية، ويقال بالسين، ويحكى عن المازري أن الشيخ أبا الوليد أفتى بسقوط الحج عن أهل الأندلس، وأن الطرطوشي -بضم الطاء الأولى- أفتى بأنه حرام على أهل المغرب، وأن من غر وحج سقط فرضه ولكنه آثم.

ورد ابن العربي على القائلين بمثل هذا، فقال: العجب ممن يقول: الحج ساقط عن أهل المغرب وهو يسافر من قطر إلى قطر، ويقطع المخاوف ومخوف البحار في مقاصد دينية ودنيوية والحال واحد في الخوف والأمن والحلال والحرام وإنفاق المال وإعطائه في الطريق وغيره لمن لا يرضى. انتهى. قال ابن المعلى: إشارة صوفية، وقال المازري: حضرت مجلس شيخنا أبي الحسن اللخمي وحوله جمع من أهل العلم من تلامذته، فأكثروا القولَ والتنازعَ في هذه المسألة، فمن قائل بالإسقاط ومن متوقف ساكت والشيخ رحمه الله تعالى ساكت لا يتكلم، وكان معي في المجلس الشيخ أبو الطيب الواعظ، وكنا ما أبصرناه، فأدخل رأسه في الحلقة وخاطب الشيخ اللخمي:

إن كان سفك دمي أقصى مرادهم

فما غلت نظرة منهم بسفك دمي

فاستحسن اللخمي هذه الإشارة من جهة المتصوفة لا من جهة المتفقهة، ولما فسر الاستطاعة بإمكان الوصول الخ من غير زيادة الراحلة والزاد على المشهور رد على مقابله بقوله: ولو بلا زاد وراحلة؛ يعني أن المكلف إذا أمكنه الوصول إلى مكة على ما مر فإنه يجب عليه الحج، ولو كان لا زاد معه ولا راحلة، واشترطهما سحنون وابن حبيب وابن أبي أويس لخبر أبي داوود والترمذي (أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستطاعة، فقال: هي الزاد والراحلة)، وأجيب عن الحديث بأن بعض أهل العلم تكلم في راويه من قِبَلِ حفظه كما قاله الترمذي، أو بأنه خرج مخرج الغالب، أو أنه فهم عن السائل أنه لا قدرة له إلا بذلك.

ص: 304

والراحلة الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول ويقال الراحلة للمركوب من الإبل ذكرا كان أو أنثى، وهذا الثاني هو المراد هنا والجمع رواحل، وسمي راحلة للرحل الذي عليه. لذي صنعة تقوم به، راجع لقوله:"بلا زاد"؛ يعني أن المكلف الذي لا زاد معه إذا كانت له صنعة تقوم به في سفره لزاده ولا تزري به -وعلم أو ظن عدم كسادها- فإنه يجب عليه الحج، وأما إن كانت تزري به أو علم أو ظن كسادها أو شك في ذلك فإنه لا تراعي تلك الصنعة، وقوله: وقدر على المشي، راجع لقوله:"وراحلة"، فهو لف ونشر مرتب؛ يعني أن المكلف الذي لا راحلة له يركب عليها إذا كان قادرا على المشي تحقيقا أو ظنا، فإنه يلزمه الحج، وظاهر المصنف كاللخمي ولو لم يكن المشي معتادا له، واشترط القاضي والباجي اعتياده، وقوله:"ظالم"، احترز به عما يأخذه الدال من المسافرين على دلالته على الطريق، فإنه جائز وليس فيه تفصيل، وقد مر أنها على عدد رؤوس المسافرين، ولا تعتبر الأمتعة والظاهر كما قاله غير واحد اعتبار عدد رؤوس التابعين والمتبوعين لا المتبوعين فقط كما مر. واحترز به أيضا عما يأخذه الجند ونحوه على حفظ المارة من موضع لآخر أو في جميع الطريق فإنه جائز، ويلزم الحج حينئذ كما أفتى به ابن عرفة. وللجواز ثلاثة شروط: أن لا يُجْحِفَ وإلا سقط الحج، وأن يمشوا هم أو خدمهم مع المارة وإلا حرم عليهم الأخذ لأنه أخذ على الجاه ولكن لا يسقط بذلك الحج، الشرط الثالث أن لا يكون لهم من بيت المال قدر يكفيهم في مقابلة حفظ المارة وإلا كانوا كالظالم. ثم إذا أخذوا على حفظ المارة فعلى عدد الرؤوس وقَدْرِ الأمْتِعةِ والدواب لاستواء الجميع في النفع بالحفظ من سارق ونحوه، وأما الدال على الطريق فإنما ينتفع به المسافرون فقط، فلذا كانت على عددهم دون أمتعتهم كما مر. قاله الشيخ عبد الباقي. كأعمى بقائد؛ يعني أن الأعمى إذا وجد من يقوده وهو قادر على المشي مثل البصير فيجب عليه الحج، وقوله:"كأعمى بقائد"؛ يعني ولو بأجرة وكان له مال يوصله. اللخمي: أو كان يتكفف حيث أمكن الوصول بلا مشقة خارجة عن المعتاد، وقوله:"كأعمى بقائد"، نبه به على أنه لا يشترط في الاستطاعة أن يكون المكلف صحيح الأعضاء جميعها، فلو كانت به زمانة في بعض أعضائه وأمكنه الوصول إلى مكة معها بلا مشقة عظيمة مع الأمن وجب عليه الحج، وذلك كالأعمى وأقطع اليدين وأشلهما والأعرج إذا قدروا على الوصول بلا مشقة

ص: 305

عظمت وأمنوا، وكذا الأصم بل هو أحرى، قال الحطاب: ولذلك أتى بالكاف في قوله: "كأعمى بقائد". انتهى. وهو صريح أو كالصريح في أن الكاف في قوله: "كأعمى بقائد"، للتمثيل للمستطيع؛ إذ كاف التشبيه لا تُدْخِل. والله سبحانه أعلم. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه. وقال ابن جماعة: مذهب المالكية وجوب الحج على الأعمى إذا وجد قائدا ولو بأجرة وقدر على المشي أو وجد المركوب، ومقطوع اليدين أو الرجلين كغيره عند الشافعية وهو مقتضى قول المالكية. انتهى.

وإلا؛ أي وإن لم يمكن الوصول بلا زاد ولا راحلة ولا وجد ما يقوم مقامهما من الصنعة والقدرة على المشي انفرادا أو اجتماعا، فالصور ثلاث: فقدان الزاد والراحلة معا وما يقوم مقامهما، فقدان الزاد فقط وما يقوم مقامه، فقدان الراحلة فقط وما يقوم مقامها. اعتبر المعجوز عنه منهما؛ أي يعتبر في جانب وجوب الحج وجود ذلك المعجوز عنه؛ أي فيسقط عنه وجوب الحج في الصور الثلاث؛ لأن المعجوز عنه لم يوجد.

وعلم مما قررت أن معنى قوله: "اعتبر المعجوز عنه منهما"، سقط عنه وجوب الحج الآن، ومتى وجد المعجوز عنه وجب عليه الحج. والله سبحانه أعلم. ويحتمل أن معناه اعتبر في جانب السقوط أي سقوط وجوب الحج فقد المعجوز عنه منهما؛ أي فلا يجب عليه الحج في الصور الثلاث لفقد المعجوز عنه الآن، فإذا وجده وجب عليه. والحاصل أن المراد بقوله:"اعتبر المعجوز عنه منهما"، على كلا الاحتمالين أنه يسقط عنه وجوب الحج حينئذ، فإن وجد المعجوز عنه وجب عليه الحج، فإن لم يقدر على المشي ولم تكن له صنعة اعتبر في حقه وجود الزاد والراحلة، فإذا قدر عليهما ولم يكن به مرض ولا ضعف يمنعه من الركوب فهذا يجب عليه الحج وإن لحقته فيه مشقة إلا أن تكون عظيمة، مثل أن يشق عليه ركوب المقتب والزاملة فيعتبر في حقه وجود المحمل، فإن لحقته فيه مشقة عظيمة اعتبر وجود غيره مما لا يلحقه فيه ذلك، وإن قدر على المشي ولم تكن له صنعة تقوم به اعتبر في حقه وجود الزاد المبلغ إلى مكة أو ما يرد به إلى بلده على ما يأتي من الخلاف، فإن كانت له صنعة إلا أنها لا تقوم به، فإذا وجد من الزاد ما يقوم به مع صنعته وجب عليه الحج، وإن كانت له صنعة تقوم به ولكنه لا يقدر على المشي

ص: 306

اعتبر في حقه وجود الراحلة، فقوله:"منهما"؛ أي من الزاد وما ينوب عنه، ومن الراحلة وما ينوب عنها، فَأَيُّهُمَا عجز عنه لم يكن لعجزه عنه مستطيعا فلا يجب عليه الحج، وظاهر المصنف عدم اشتراط وجود الماء في كل منهل.

ونقل عبد الحق اشتراطه عن بعض أهل العلم: ابن عرفة: ولهذا لم يحج أكثر شيوخنا لتعذر الماء غالبا في بعض المناهل، وحكاية الشامل قول عبد الحق بقيل تقتضي ضعفه، وكلام جمع يقتضي اعتماده، وأنه المذهب وهو الظاهر والمراد -والله أعلم- وجوده في المناهل المعتاد وجوده فيها غالبا لا في كل مرحلة. وقوله:"منهما"، من باب أحرى لو عجز عنهما فلا يجب عليه، ومن قدر أن يمشي بعض الطريق ويركب البعض ووجد إلى ذلك سبيلا لزمه الحج. قاله في الطراز، وهو واضح. قاله الحطاب.

والظاهر من كلام أهل المذهب أنه يلزم تحصيل المركوب حيث كان لا يحج دونه، ولو كان لا يحصله إلا بأكثر من ثمن المثل. ابن فرحون: من قدر على الوصول إلى مكة إما راجلا أو راكبا بشراء أو كراء فقد لزمه فرض الحج. انتهى.

وإن بثمن ولد زنا، متعلق بإمكان الوصول، فهو مبالغة في وجوب الحج، ورد على من يقول: إن الحج لا يجوز بثمن ولد الزنا. وهو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه؛ يعني أن المكلف إذا لم يجد ما يحج به إلا ثمن ولد الزنى فإنه يلزمه الحج بذلك، ويجوز عتقه في الرقاب الواجبة وإن كان المستحب خلافه؛ وذلك لأن ثمن ولد الزنا حلال لمالكه لا شبهة فيه لأنه عبده، وإثم الزنا على أبويه، ولابن رشد ما يقتضي أن المستحب عند مالك أن لا يحج به؛ يعني لمن يملك غيره. قاله الحطاب. وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه:[ولد الزنا شر الثلاثة]

(1)

، وفي حديث:[لا يدخل الجنة ولد زنية]

(2)

)، وفي حديث:[أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن عتقه، فقال: نعلان يعان بهما أحب إلي من عتق ولد الزنا]

(3)

، وليست الأحاديث على ظاهرها، فالأول إنما قاله في رجل بعينه كان يؤذيه وبذلك فسرته عائشة رضي الله تعالى عنها لما بلغها ما حدث

(1)

أبو داود، كتاب العتق، الحديث:3963.

(2)

ابن حبان، رقم الحديث:3374. الحلية ج 3 ص 307.

(3)

ابن ماجه، كتاب العتق، الحديث:2531. ولفظه: نعلان أجاهد فيهما خير من أن أعتق ولد الزنا.

ص: 307

به أبو هريرة، وقالت: رحم الله أبا هريرة أساء سمعا فأساء إجابة. وقد سئل ابن عمر عن ذلك، فقال: بل هو خير الثلاثة قد أعتقه عمر، ولو كان خبيثا ما فعل، وهو كما قال لأنه لا يؤاخذ بما اقترف أبواه، وقيل في معناه أنه حَدثَ عن شر الثلاثة أبويه والشيطان؛ أي فعلهم الخبيث لا أنه شر في نفسه والأول أولى لأنه مروي عن عائشة.

وأما الحديث الثاني فالمعنى في ذلك من كثر منه الزني حتي نسب إليه كما ينسب إلى الشيء من أكثر منه، فيقال للمتحققين بالدنيا العاملين لها: أبناء الدنيا، ولمن أكثر من السفر: ابن سبيل، وعلى هذا يحمل الحديث الثالث قاله الحطاب.

ويتحصل من كلامهم هنا أنه يجوز الحج بثمن ولد الزنا إذا كان معه غيره، وإن لم يكن معه إلا ذلك وجب عليه أن يحج به، وقد مر أن المستحب خلافه لمن معه غيره. ابن رشد: وأما ولد الزني فعتقه جائز في الكفارة بإجماع من مالك وأصحابه، وقال القاضي عبد الوهاب في شرح الرسالة: هو قولنا وقول فقهاء الأمصار، وحكي عن قوم منع ذلك، وأما الكلب المأذون في اتخاذه فعلى القول بجواز بيعه فهو كثمن ولد الزنا وهذا القول قد شهره بعضهم، وعلى القول بمنع بيعه وهو المشهور الذي مشى عليه المصنف في باب البيع فروى أشهب أنه يفسخ إلا أن يطول، وروى ابن عبد الحكم: يفسخ وإن طال، وصدر في الشامل بالأول، وعطف الثاني بقيل، فعلى أنه لا يفسخ مع الطول إذا باعه وطال الأمر لزمه أن يحج بثمنه، ولو قتله شخص وجب عليه قيمته وكانت حلالا لمالكه، ويجب عليه أن يحج بها إن كان فيها كفاية أو كمل بها ما عنده، وأما غير المأذون في اتخاذه فلا خلاف في عدم جواز بيعه، وأنه لا يحل ثمنه، وأنه لا قيمة على من قتله. والله أعلم. قاله الحطاب.

أو ما يباع على المفلس، مفرع على القول بوجوب الحج على الفورية؛ يعني أنه ليس من شرط الاستطاعة أن يكون عند الشخص من الدنانير والدراهم ما يصرفه في حجه، بل يلزمه أن يبيع من عروضه ما يبيعه القاضي على المفلس من ربع وعقار وماشية وخيل ودواب وسلاح ومصحف وكتب العلم وإن كان محتاجا إليها فيحج بذلك ويبيع ثياب جمعته إن كثرت قيمتها وكان في ثمنها ما يحج به أو ما يكمل ما يحج به، وسيأتي إن شاء الله تعالي بيان ما يباع على المفلس في

ص: 308

محله. وقوله: "أو ما يباع" عطف، على "ولد"؛ أي وإن بثمن ما يباع على المفلس، وأما قوله: أو بافتقاره، فمعطوف على قوله:"بثمن"، لكن الباء في قوله:"بثمن"، باء الآلة، والباء في هذا بمعني: مع، كما يظهر من صنيع الشارح؛ يعني أن الحج يجب باستطاعة بإمكان الوصول وإن مع افتقاره بعد الحج، وإيضاح ذلك أن من كان معه ما يكفيه لسفره للحج لكن إذا سافر وحج يصير فقيرا لا شيء له ولا لأهله يجب عليه الحج من غير نظر إلى ما يؤول إليه أمره وأمر أهله؛ إذ يصدق عليه أنه مستطيع وهذا هو المشهور.

أو ترك ولده للصدقة، عطف على قوله:"بافتقاره"؛ يعني أن المكلف إذا كان له أولاد تلزمه نفقتهم ومعه ما ينفقه عليهم، فإذا حج لم يبق لهم شيء بل يتركهم للصدقة يأكلون منها فإنه يجب عليه الحج ويتركهم للصدقة؛ لأنه يصدق عليه أنه مستطيع بناء على أن الحج على الفور، ومثل الولد الأبوان الفقيران، فلو قال: وإن بترك من تلزمه نفقته لكان أتم فائدة. قاله الشيخ إبراهيم.

إن لم يخش هلاكا، قيد في المسألتين، وقوله:"هلاكا"، وكذلك شديد الأذى؛ يعني أن محل وجوب الحج على المكلف فيما إذا كان يفتقر بعد الحج، وفيما إذا لم يبق لولده شيئا إنما هو حيث لم يخش بعد ذلك هلاكا ولا شديد أذي على نفسه أو ولده، وأما إن خشي ذلك على نفسه أو ولده فإنه يسقط عنه فرضية الحج؛ لأن خشية الهلاك على من ذكر تسقط عنه فرضية الحج. وقوله:"أو ترك ولده للصدقة"، قد مر قريبا أن هذا على الفور، وأما على التراخي فلا إشكال في تبدئة نفقة الولد، فإن قيل: لم بدئ بالحج على نفقة أولاده حيث لم يخش عليهم هلاكا ولا شديد أذى وإلا أنفق على ولده وسقط عنه الحج، وفي التفليس يؤخذ جميع ماله ولا يترك له من نفقة الأولاد إلا ما يعيشون به الأيام وإن خشي عليهم الضيعة والهلاك؟ فالجواب أن الفرق بينهما أن المال في التفليس للغرماء، والغرماء لا يلزمهم من نفقة أولاده إلا ما يلزم جميع المسلمين من المواساة، وفي الحج المال ماله وهو يلزمه نفقة أولاده فافترقا وهذا بين. قاله الحطاب.

وقد مر أن حكم نفقة الأبوين حكم نفقة الولد، قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وعلم من هذا أن من له أولاد يخرج عنهم، وإن تكففوا حيث لم يخش عليهم الهلاك أو شديد الأذى.

ص: 309

انتهى. وأما نفقة الزوجة فتقدم على القول بالتراخي، ويقدم الحج عليها على القول بالفور، فإن شاءت صبرت أو فارقت وهذا ما لم يخش بطلاقها الوقوع في الزنا ولو بغيرها وإلا ترك الحج، ولا يجب على الشخص التوفير والجمع حتى يصير مستطيعا، والرجل الأعزب يكون معه ما يتزوج به أو يحج به، قال: يحج ولا شك فيه على الفور، وأما على التراخي فقال ابن رشد: الحج أولى فإن تزوج لم يفسخ بلا خلاف -كما في الحطاب- وكان آثما على الفور. وهذا إذا لم يخش العنت وإلا تزوج. قاله مالك في المدونة. قال بعضه الشارح، وقال بعضه الشبراخيتي.

وقوله: وإن بتركه ولده، قد تقدم أنه على القول بالفور، وأما على القول بالتراخي فيعتبر ما ينفقه في ذهابه وعوده وما ينفقه على من يخلفه ممن تلزمه نفقته، ومن كان له حرفة تقوم به في ذهابه وعوده اعتبر ما يتركه من النفقة لأهله ولم يعتبر هو لأجل حرفته. وقال صاحب الطراز: وأما المرأة فإن قلنا للزوج منعها فمتى قدرت على الحج وعرض لها النكاح فلا تنكح حتى تحج، فإن نكحت قبله فالنكاح صحيح، وإن قلنا لا يملك الزوج منعها من الحج فلا يكره لها النكاح. انتهى.

قال الحطاب: والمشهور أنه ليس منعها من الفريضة، وإذا خشى الرجل العنت لم يجز له تزوج الأمة ليستبقي ما يحج به؛ لأن الأمة لا تنكح مع استطاعة الطول للحرة. قاله الحطاب.

تنبيهات: الأول: لو كانت له دار سكنها وخادم يحتاج إليها لا فضل فيهما عن كفايته، وإذا باعهما وجد مسكنا وخادما، يكتريهما ويفضل ما يحج به وجب عليه الحج على القول بالفور، ولو كان في ثمنهما فضل يحج به لوجب عليه الحج بالأولى.

الثاني: لو كان ثمن الخادم والدار قدر كفاية الحج ولا يجد ما يكتري به لأهله دارا ولا خادما لجرى ذلك على حكم النفقة المتقدمة في قوله: "أو ترك ولده للصدقة"، فيجب على الفور إن لم يخش هلاكا أو شديد أذى، لا على التراخي لأنه لما عجز عن المتعين كان حق الآدمي أولى من حق الحج كما في الكفارة، فإن حق الآدمي مقدم عليها، ومن له دراهم يتسبب بها ويأكل من ربحها لزمه الحج بها إلا أن يخشي هلاكا أو شديد أذى، وهذا داخل تحت قوله:"أو بافتقاره".

ص: 310

الثالث: من عليه دين للآدميين فقضاؤه مقدم على الحج، فإن كان على أبيه دين قدم الحج عليه، سواء قلنا إن الحج على الفور أو على التراخي، ولو كان الدين الذي عليه من ديون الزكاة فالظاهر أنه يجب عليه أن يؤدي دين الزكاة ويسقط عنه الحج لأن الزكاة يجب أداؤها على الفور إجماعا أو اتفاقا، وأما لو كان عليه دين كفارات فالظاهر أن الحج مقدم على ذلك لأنها على التراخي، والراجح في الحج الفورية ولأن لها بدلا وهو الصيام فيرجع إليه، ومن حلف بصدقة ربع وحنث وعليه الحج، قال: يحج به نفقة لا ترفه فيها ولا إسراف ولا هدية ولا تفضل على أحد، وما بقي بعد ذلك من ثمن الربع تصدق به. انتهى. ولو نذر صدقة ما بيده وكان إخراج ثلث ماله ينقص ما بيده حتى لا يبقى معه ما يقدر به على الحج فالظاهر أنه لا يلزمه لأنه نذر معصية. لأنه سيأتي أنه لا يجوز له التصدق بالمال الذي صار به مُسْتطيعًا، وكذا لو كان ماله كله شيئا معينا كعبد أو دار ونذر التصدق بذلك، فالظاهر أنه لا يلزمه لأنه نذر معصية، ولو حلف ليتصدق بذلك المال؛ فإن كانت يمينه بالله تعالى فليكفر عنها بغير الصوم إن كان الباقي بعد الكفارة يمكن الحج به، وإلا فليكفر بالصوم، وإن كانت يمينه بالطلاق فالظاهر على القول بالفور أنه يجب عليه أن يحج، ولو أدى لوقوع الطلاق إلا أن يخشى العنت، وهذا كله لم أر فيه نصا فليتأمل. والله الموفق للصواب.

الرابع: إذا وجد ما يحج به فلا يجوز له أن يتصدق به، وكذا لا يجوز له أن يعتق

(1)

ما يحج به، فإن فعل فالعتق والصدقة ماضيان لوقوع العقد على شرائطه إلا أن ذلك جرحة في شهادته، ومن آجر نفسه سنة ثم أراد أن يحج فيها فللمستأجر منعه ولو قيل بالفور، ولا يمنعه من الصلاة لأنه لا كبير ضرر عليه فيها قاله في الطراز. قاله الحطاب.

واعلم أن قولهم في الفروع المتقدمة: هذا على القول بأن الحج على الفور، يريدون أو في محل يتفق فيه على الفورية كما إذا خيف الفوات وهذا ظاهر. وقاله الشيخ زروق. قاله الحطاب. والله سبحانه أعلم.

(1)

في الحطاب: وكذلك لا يجوز له أن يعتق به رقبة فإن فعل الخ، ج 3 ص 306.

ص: 311

لا بدين؛ يعني أن من لا يمكنه الوصول إلى مكة إلا بأن يتداين في ذمته كأن يقترض مالا ليحج به أو يشتري مالا في ذمته ليحج به، لا يلزمه ذلك حيث لم يكن عنده ما يقضيه به أو كان، ولا يمكنه الوصول إليه لبعده أو نحو ذلك وإلا وجب عليه الحج. وقال الشيخ محمد بن الحسن عند قوله "لا بدين": أي لا يجب عليه أن يشتري مالا في ذمته ليحج به وهو حينئذ مكروه أو حرام كما في الحطاب.

أو عطية؛ يعني أن الشخص إذا أعطي عطية وكان لا يمكنه الوصول إلى مكة إلا بقبولها، فإنه لا يلزمه قبولها ليكون بذلك مستطيعا، وإذا لم يقبلها فالحج ساقط عنه، وإذا قبلها فلا إشكال في وجوب الحج عليه لكونه مستطيعا، وأما لو تداين وكان لا قدرة له على الوفاء به فقد مر أن قضاء الدين مقدم على الحج -وبالله تعالى التوفيق- والعطية تشمل الصدقة والهبة والهدية والوصية.

تنبيهات: الأول: قال صاحب الطراز: إذا لم يكن له مال فبذل له مال ليحج به لم يلزمه قبوله عند الجميع إلا أن يكون الباذل ولده لما فيه من تحمل مشقة المنة، وأما إن بذل له الولد قرضا فلا يلزمه لأنه يكون عليه دينا والدين يمنع وجوب الحج، فبان من هذا أن قوله:"لا بدين"، عام في الولد وغيره، وأن قوله:"أو عطية"، مقيد بغير هبة الولد لوالده. والله سبحانه أعلم. ولابن العربي عن مالك وأبي حنيفة: لا يلزمه قبول هبة ابنه ويلزمه عند الشافعي، وما لسند أظهر ولابن رشد ما يوافقه. قاله الحطاب.

الثاني: لا يُكْرِه السلطانُ المرءَ على أن يحجَّ أباه ولا على أن ينكحه على القول بالتراخي، وأما على الفور فيلزمه ذلك كما يلزمه أن يشتري ماء لغسله ووضوئه؛ إذ لا يسعه أن يؤخر ذلك من أمر دينه. قال الحطاب. وقد علمت أن الراجح أن الحج واجب على الفور، فيلزم حينئذ الولد أن يحجج

(1)

أباه ويلزم الوالد القبول، وإذا قلنا إنه لا يجب عليه الحج بالدين إذا لم يكن له جهة وفاء كما مر، فهل يباح له ذلك وهو فعل قبيح؛ لأنه يشغل ذمته وكانت بريئة؟ قاله المصنف. والقبيح هو المنهي عنه شرعا، سواء كان حراما أو مكروها، والمنع ظاهر إذا لم يُعْلِمْ من يقترض

(1)

يحج في الحطاب ج 3 ص 307 ط دار الرضوان.

ص: 312

منه بأنه لا جهة وفاء له، وأما إذا أعلمه بذلك ورضي بإقراضه فالظاهر عدم المنع ولكنه خلاف الأولى؛ لأنه يشغل ذمته وكانت بريئة. والله أعلم. قاله الحطاب.

الثالث: قد مر أنه لا يجب على الشخص أن يحصل ما يصير به مستطيعا؛ أي لا بصنعته ولا بغيرها، قال صاحب المدخل: ليس على المكلف أن يحتال في تحصيل شي، لم يجب عليه؛ لأن السلامة غالبا في براءة الذمة، وذمته الآن بريئة فلا يشغلها بشيء لم يتحقق براءتها فيه. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وهذا ظاهر في أنه لا يلزمه أن يؤاجر نفسه حتى يُعِدَّ ما يصير به مستطيعا، وأما إن كانت له راحلة أو قدرة على المشي، وكانت له صنعة تقوم به لزاده فقد علمت أنه يجب عليه الحج. والله سبحانه أعلم.

أو سؤال، عطف على قوله:"بدين"؛ يعني أن الحج لا يجب على من لا يمكنه الوصول إلى مكة إلا بسؤال الناس، وقد مر أنه يلزمه الحج وإن كان يترك ولده أو والديه للصدقة. والله سبحانه أعلم. وقوله: مطلقا، معناه سواء كانت عادته السؤال ببلده أو لم تكن، وسواء كانت العادة إعطاءه أو لم تكن، أما إذا لم تكن عادته السؤال فلا خلاف في أنه لا يجب عليه الحج، سواء كانت العادة إعطاءه أولا، وكذلك إذا كانت عادته السؤال ولم تكن العادة إعطاءه، ففي هذه الصور الثلاث لا إشكال في سقوط الحج ولا في منعه إذا لم تكن العادة إعطاءه، سواء كانت عادته السؤال أم لا؛ لأنه من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وأما من عادته السؤال والإعطاء أي أنه يعطي ما يكفيه وعلم ذلك أو ظنه، فنصوص المذهب مصرحة بأن الحج واجب عليه. قاله الحطاب؛ يعني حيث قدر على المشي أو الراحلة، وأما من كانت العادة إعطاءه ولم تكن عادته السؤال فيختلف في خروجه على قولين: الكراهة والإباحة، والأرجح منهما الكراهة مع سقوط الحج اتفاقا.

وقد علمت أن الخروج يحرم لكون العادة عدم الإعطاء، وحينئذ فقال صاحب المدخل: يتعين على من علم بحالهم إعانتهم بما تيسر في الوقت ولو بالشربة والشربتين واللقمة واللقمتين، ويعرفهم أن ما ارتكبوه محرم عليهم لا يجوز لهم أن يعودوا لمثله، وقال النووي في مناسكه: إنه يواسيهم ولا يوبخهم في خروجهم بلا زاد ولا راحلة.

ص: 313

وقوله: "مطلقا"، قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: الظاهر أنه حال من قوله: "سؤال"، سوغ ذلك وقوعه بعد نفي. والله سبحانه أعلم. ولما فسر الاستطاعة بإمكان الوصول، خشي أن يتوهم أنه لا يعتبر ما يرد به فبيَّن حكم الرد بقوله: واعتبر ما يرد به، ومعنى كلام المصنف أنه يعتبر في الاستطاعة ما يوصل المكلف إلى مكة شرفها الله تعالى، وما يرد به إلى أقرب مكان يمكنه التمعيش فيه بما لا يزري به من الحرف، ومحل اعتبار وجود ما يرد به إنما هو إن خشي في بقائه بمكة -شرفها الله عز وجل ضياعا على نفسه، وقوله:"ضياعا"، مفعول "خشي"، وما مشى عليه المصنف ذكره اللخمي وساقه كأنه المذهب، واقتصر عليه ابن عرفة وصدر به في الشامل، وقيل: يعتبر ما يرد به إلى بلده مطلقا، خشي ضياعا أم لا. ذكره ابن معلى عن بعض المتأخرين. وقيل: لا يعتبر مطلقا والراجح هو ما مشى عليه المصنف، ومفهوم قول المصنف:"إن خشي ضياعا"، أنه إن لم يخش في بقائه ضياعا لم يعتبر إلا ما يوصله لمكة فقط، ولا يعتبر ما يرجع به إلى غيرها، ولما ذكر أن المعتبر في الاستطاعة إمكان الوصول خشي أن يتوهم أن ذلك خاص بالبر بفتح الباء، فبين أنه لا فرق بين البر والبحر في ذلك، فقال: والبحر كالبر؛ يعني أن البحر في وجوب ركوبه على من تعين له طريقا للحج كالبر، فيجب عليه ركوبه على الشروط المتقدمة، ويجوز ركوبه أي البحر في الحج لمن له مندوحة عن ركوبه، وما مشى عليه المصنف هو المشهور، لقوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ، ويبعد أن يمن الله تعالى على عباده بما لم يُبحْه لهم، وقد قيل إن فرض الحج ساقط عمن لا يقدر على الوصول إلى مكة إلا على البحر، لقوله عز وجل:{يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} ؛ إذ لم يذكر إلا هاتين الصفتين وهو قول شاذ ودليل ضعيف؛ لأن مكة ليست داخلة في البحر، فلا يصل إليها أحد إلا راجلا أو راكبا، ركب البحر في طريقه أو لم يركبه.

وفي الحطاب بعد جلب نقول: فتحصل من ذلك ثلاثة أقوال، الأول: المشهور وهو وجوب الحج من البحر لمن تعين عليه بشروطه وجواز ذلك لمن لم يتعين عليه، الثاني: سقوط الحج عمن لا يمكنه الحج إلا من البحر، الثالث: كراهة السفر فيه إلا لمن لا يجد طريقا سواه. انتهى. ودليل المشهور الآية المتقدمة وحديث أنس في الصحيح [أنه صلى الله عليه وسلم نام عند أم حرام ثم

ص: 314

استيقظ وهو يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة]

(1)

. الحديث. وما رواه أبو داوود عن عبد الله بن عمر أنه عليه الصلاة والسلام، قال:[لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله]

(2)

.

إلا أن يغلب عطبه؛ يعني أن محل وجوب ركوب البحر حيث تعين طريقا للحج، وجوازه حيث لم يتعين إنما هو حيث لم يغلب على الظن العطب أي التلف في نفس أو مال، وذلك عند ارتجاجه وطغيانه، ويرجع في ذلك لقول أهل المعرفة. وقوله: إلا "أن يغلب عطبه"، يدخل فيه عطب الدين كالخوف من عدو الدين أو المفسدين من المسلمين. واعلم أن فائدة قوله:"والبحر كالبر" الخ، التنصيص على أعيان المسائل والرد على من يقول بالمنع مطلقا، وعلى من يقول بالمنع إلا فيمن لا يمكنهم الحج إلا بركوبه كأهل الأندلس، وكراهة ركوبه لغيرهم.

وفي التوضيح: قال القاضي أبو الحسن: إن كان بحرا مأمونا يكثر سلوكه التجارُ وغيرهم فإنه لا يسقط فرض الحج، وإن كان بحرا مخوفا تندر فيه السلامة ولا يكثر ركوب الناس له فإن ذلك يسقط فرض الحج. انتهى. وفي التلقين: والبحر كالبر إن غلبت السلامة فيفيد أنه لا يجب الحج في حال تساوي العطب والسلامة، خلاف ما يفيده المصنف من وجوب الحج فيها. والله سبحانه أعلم.

تنبيهان: الأول: اعلم أنه إذا غلب العطب في الطريق بحرا أو غيره حرم الخروج، وسئل اللخمي عمن خرج حاجا في طريق مخوفة على غرر ويغلب على ظنه أنه لا يسلم، هل هو من الإلقاء باليد إلى التهلكة، أو هو مأجور بسبب قصده إلى فريضة الحج أو التقرب بالنفل إن كان قد حج، أم ليس بمأجور ولا مأثوم؟ فأجاب: الحج مع هذه الصفة من الغرر ساقط، وتحامله بعد ذلك لا يُسلم فيه من الإثم، قال البرزلي: هذا بين على ما حكى ابن رشد أن من شرط جواز تغيير المنكر أن لا يخاف على نفسه، وأما على ما اختاره عز الدين من أنه جائز ولو خاف على نفسه لأن

(1)

البخاري، كتاب الجهاد، رقم الحديث: 2788/ 2789، مسلم، كتاب الإمارة، رقم الحديث:1912.

(2)

سنن أبي داود، كتاب الجهاد، الحديث:2489.

ص: 315

كثيرا ممن رأيناه فعل ذلك وسلم، فيحمل الأمر على الغالب فكذلك يكون هنا إذا صلحت نيته، وهذا إذا كان يعلم أنه يؤدي فرائض الصلاة وتوابعها. فتأمله. والله أعلم. قاله الحطاب.

الثاني: قد مر أنه يرجع في غلبة ظن العطب لأهل الخبرة، فما قالوا فيه يغلب العطب امتنع ركوبه، ونص الداوودي على أن من ركبه عند سقوط الثريا بريء من الله تعالى، وقوله:"إلا أن يغلب عطبه"، قد علمت أن المراد به أن لا يغلب عطبه بأن غلبت السلامة أو تساوى الأمران، وقد علمت أنه خلاف ما مر عن التلقين.

أو يضيع ركن صلاة لكميد؛ يعني أنه يشترط في ركوب البحر للحج -فأحرى لغيره- أن يعلم الراكب أنه يوفي بصلاته في أوقاتها من غير أن يضيع شيئا من فروضها؛ بأن علم أنه لا يميد ميدا يؤدي إلى ضياع ركن من أركانها أو تضييع شرط كصلاته بالنجاسة لعدم الماء، وقوله:"يضيع"، بفتح أوله مضارع ضاع ثلاثيا، وبضمه وتشديد ثالثه مضارع ضيع رباعيا، فيرفع ركن على الأول على الفاعل وينصب على الثاني مفعولا به، وقوله:"لكميد"، أو ضيق مكان لا يستطيع السجود فيه إلا على ظهر أخيه. قاله الخرشي.

وقال عبد الباقي عند قوله "يضيع ركن صلاة": ومثل ركنها الإخلال بشرط من شروطها من استبراء أو نجاسة أو عورة أو قبلة أو إخراج عن وقت، ويقضي العالم بالميد ما خرج وقته في غيبة عقله كالسكران بجامع إدخال ذلك على نفسه، ولا يقضي غيره لعذره ويؤمر بالرجوع في الوجه الممنوع من أي وجه أمكنه. انتهى كلام عبد الباقي. وقوله: ويقضي العالم بالميد؛ أي من يعلم من نفسه أنه يميد إذا ركب البحر، كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى، وما ذكرته من أنه يشترط في ركوب البحر للحج أن لا يضيع شيئا من فروض الصلاة ليس خاصا بالبحر، بل هو شرط في وجوب الحج مطلقا، قال في المدخل: قال علماؤنا: إذا علم المكلف أنه تفوته صلاة واحدة إذا خرج إلى الحج فقد سقط عنه الحج، وقال مرة: إن الحج إذا لم يمكن إلا بإخراج الصلاة عن وقتها وشبهه فهو ساقط، ونقل التادلي عن المازري أن الاستطاعة هي الوصول إلى البيت من غير مشقة مع الأمن على النفس والمال، والتمكن من إقامة الفرائض وترك التفريط وترك المناكر. انتهى.

ص: 316

وقال ابن المنير: اعلم أن تضييع صلاة واحدة سيئة عظيمة لا توفيها حسنات الحج، بل الفاضل عليه لأن الصلاة أهم، فإن كانت عادته الميد ولو عن صلاة واحدة بركوب البحر أو الدابة ترك الحج، بل يحرم عليه الحج إذا لم يتوصل إليه إلا بترك الصلاة ولا يقصر في الاستبراء، ويجب عليه من الاستبراء ما يجب في الحضر.

وفي الحطب بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أنه إذا كان ركوب البحر يؤدي إلى الإخلال بالسجود فإنه لا يركب البحر ويسقط عنه الحج، وإن ركبه وصلى أعاد أبدا -هذا هو المنصوص- وإن أداه إلى الصلاة جالسا فيقتضي إطلاق المصنف والبرزلي وما قاله ابن أبي جمرة، وقياس اللخمي وابن عرفة وابن فرحون ذلك على السجود على ظهر أخيه أنه كذلك، ومقتضي كلام اللخمي في كتاب الصلاة وكلام صاحب الطراز أن ذلك لا يسقط وجوب الحج ولا يعيد الصلاة، وفي المدونة والعتبية أن من لم يستطع القيام في السفينة يصلي جالسا. انتهى.

واعلم أن ركوب البحر على ثلاثة أقسام كما صرح به اللخمي وابن بشير وابن معلى وغيرهم جائز في حق من يعلم من نفسه أنه لا يميد ولا يضيع الصلاة، وممنوع في حق من يعلم من نفسه تضييع الصلاة، ومكروه في حق من يشك في ذلك. قاله الحطاب. هذا حكم ركوب البحر ابتداء. وتحصيل حكم ركوبه بعد الوقوع أنه إذا ركب البحر فهو مطلوب بالصلاة فيه على أي حال قدر عليها في الأقسام الثلاثة، ثم يختلف الحكم في إعادته بعد ذلك فيما إذا أخل ببعض الأركان، ففي القسم الجائز وهو من علم من نفسه السلامة لا شيء عليه إذا طرأ عليه شيء منعه من أداء الصلاة على وجهها، ولا يشك في عدم إعادته وهذا ظاهر، والظاهر أن حكم القسم المكروه وهو من شك في أمره كذلك لأنه لم يقدم على الإخلال بالصلاة ولا بشيء منها، وعليه يحمل ما في المدونة والعتبية أنهم إذا لم يقدروا على القيام في السفينة قعدوا، وما قاله ابن بشير أن من صلى في السفينة وأخل بفرض مع قدرته على الخروج إلى البر بطلت صلاته وإن كان لا يقدر صحت، وأما القسم الممنوع وهو من يعلم من نفسه تضييع الصلاة فإنه يعيد أبدا حيث أخل بشيء من فروض الصلاة. قاله الحطاب. والله سبحانه أعلم. ودَعَّمَهُ بالنقول الكثيرة جدا، فإذا كان يعلم من نفسه أنه إذا ركب

ص: 317

البحر حصل له ميد يغيب عقله منه ويغمى عليه فيترك الصلاة به بالكلية فلا خلاف في عدم جواز ركوب من كان بهذه المثابة، فخروجه للحج إنما هو شهوة نفسانية بل نزغة شيطانية.

قال البرزلي: وقد شاهدت في سفري للحج بعض هذا -انتهى- نسأل الله تعالى العافية، فإذا حصل له ميد حتى غاب عن عقله بالكلية وخرج وقت الصلاة وهو غائب، فالظاهر أنه في الوجه الجائز والمكروه لا قضاء عليه، وفي الوجه الممنوع يقضي الصلاة، وإن خرج وقتها قياسا على السكران بجامع أن كلا منهما أدخل على نفسه شيئا يؤدي إلى ترك الصلاة إلا أن يكون الإغماء لمرض غير الميد فتسقط عنه الصلاة والله أعلم. قاله الحطاب.

وإذا ركبه في الوجه الممنوع فالظاهر أنه يطلب بالنزول منه من أي موضع أمكنه النزول منه. والله أعلم. قاله الحطاب.

وفي الرسالة: وتكره التجارة إلى أرض الحرب وبلد السودان، القلشاني: الكراهة قيل على ظاهرها وقيل على التحريم، وفي المدونة: وشدد مالك الكراهة في التجارة إلى بلد الحرب لجري أحكام الكفر عليهم، قال عياض: إن تحقق جري أحكام المشركين عليهم حرم، ويختلف إذا لم يتحقق هل يحرم أو يكره؟ وقوله: بلد السودان؛ أي الكفار منهم، والمركب يكون فيه الحكم للنصارى يجري الأمر فيه على ما شهر من الخلاف والتقصيل في السفر لأرض العدو. قاله الحطاب. وقال ابن معلي: وينبغي أن لا يقدم على ما يتساهل فيه من السفر مع الكفرة فإنه دائر بين التحريم والكراهة، وما ذكره ابن العربي في أحكامه من إباحة السفر إليهم لمجرد التجارة خلاف المذهب. انتهى. اللخمي: ويترجح البر الموصل من عامة على البحر المباح الموصل من عام آخر على القول بالتراخي، ويتعين على القول بالفور، فإن تساويا جرى على أيهما أحب. البرزلي إثره: والظاهر رجحان البر لكونه أكثر نفقة، ولمرجوحية ركوب البحر من حيث الجملة. انتهى. ويفهم من كلام اللخمي أنه لو كان البحر أسرع تعين على القول بالفور. قاله الحطاب.

(والمرأة كالرجل)؛ يعني أن حكم المرأة كحكم الرجل في جميع ما مر من وجوب الحج عليها مرة في العمر، وسنية العمرة كذلك، وفي فورية الحج وتراخيه وشروط صحته وشروط وجوبه وغير ذلك

ص: 318

لدخولها في عموم قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس

(1)

)، الحديث.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد: أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وتقيم الصلاة وتوتيَ الزكاة وتصومَ رمضان وتحجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت فأخبرني عن الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال فأخبرني عن أمارتها قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ثم انطلق فلبثت ثلاثا، ثم قال يا عمر أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال فإنه جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم

(2)

)، انتهى.

وقد مر الكلام على هذا الحديث قبيل باب الطهارة فراجعه إن شئت. (إلا في بعيد مشي وركوب بحر) مستثنى من مساواة المرأة للرجل؛ يعني أن المرأة لا يجب عليها الحج ماشية من المكان البعيد وإن قويت عليه بخلاف الرجل، والمراد بالمشي هنا المشي على الرجلين لا ما يصدق به وبالركوب، وقوله:"إلا في بعيد مشي"، فيكره لها ذلك، ولم يبين المصنف حد القرب الذي يجب عليها المشي منه وهو مثل مكة وما حولها مما لا يكون مسافة قصر، وقال اللخمي: مثل مكة من المدينة، قال الشيخ عبد الباقي: والظاهر أنه يختلف باختلاف الأشخاص، فنساء البادية لسن كنساء الحاضرة وأيضا كل منهما يختلف بالقوة والضعف.

(1)

مسلم، كتاب الإيمان، الحديث:16.

(2)

مسلم، كتاب الإيمان، الحديث:8. ولفظه: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ..

ص: 319

وركوب بحر؛ يعني أن المرأة تساوي الرجل فما يجب عليه في شأن الحج يجب عليها وما لا فلا، إلا في بعيد مشي فإنه لا يجب عليها أن تحج ماشية من المكان البعيد وإن قويت عليه كما عرفت، وإلا في ركوب البحر فإنه يجب عليه أن يركب البحر حيث تعين ركوبه طريقا للحج على ما مر في قوله:"والبحر كالبر إلا أن يغلب" الخ، وأما المرأة فإنه لا يجب عليها أن تركب البحر، بل يكره لها ركوب البحر نص عليه الإمام مالك رضي الله تعالى عنه، وإنما لم يحرم على المرأة المشي في البعيد لأنا لم نتحقق فيه انكشاف العورة، لكن الغالب عليهن العجز والضعف، فيئول بها الحال إلى التعب المؤدي إلى انكشاف العورة. والله أعلم. قاله الحطاب.

(إلا أن تختص بمكان) مستثنى من قوله: "وركوب بحر"؛ يعني أن المرأة إذا كانت تخص بمكان عند ركوبها للبحر، فإنه يجب عليها الحج فتركبه وتخص بمكان في السفينة عن الرجال، ومثل اختصاصها بمكان في السفينة اتساع المكان بحيث لا تخالط الرجال عند حاجة الإنسان، وما ذكره المصنف من عدم لزوم المشي لها من المكان البعيد هو المنصوص لمالك في الموازية، والقول بلزوم المشي لها ولو كان المكان بعيدا خرجه اللخمي من قول مالك في المدونة في الحانث والحانثة، والمشي على الرجال والنساء سواء، قال في تبصرته: لأن الوفاء بحجة الفريضة آكد من النذر، وفرق في التوضيح بينهما بأنها لو كلفت بالمشي في الحج لزم منه عموم الفتنة والحرج بخلاف النذر فإنها صورة نادرة وقد ألزمت نفسها ذلك، ألا ترى أن الإنسان إذا لم يكن عنده إلا قوت يوم الفطر لا يلزمه إخراجه في زكاة الفطر؟ ولو نذر إخراجه لزمه، وظاهر المصنف أنه لا يلزمها المشي من المكان البعيد ولو كانت متجالة وهو كذلك، وقال اللخمي بعد أن ذكر كلام مالك في كتاب محمد: وهذا يحسن في الرائعة والجسيمة ومن ينظر لمثلها عند مشيها، وأما المتجالة ومن لا يؤبه بها من النساء فيجب عليها كالرجل، فيكون قوله هذا ثالثا. قاله الحطاب.

وعلم مما مر أنهما في نذر المشي سواء في اللزوم، وما تقدم من كراهة ركوبهن البحر هو قول مالك المنصوص له في الموازية والمجموعة والعتبية، وقوله:"إلا أن تخص بمكان"، قد وردت السنة بجواز ركوب النساء في البحر في حديث أم حرام

(1)

)، فركوب النساء البحر جائز إذا كانت في سرير

(1)

البخاري، كتاب الجهاد، الحديث:2788. ومسلم، كتاب الإمارة، الحديث: 1912.

ص: 320

وما أشبه ذلك مما تستتر به وتستغني به عن مخالطة الرجال عند حاجة الإنسان، وإن كان على غير ذلك لم يجز ومنعت. قاله الحطاب.

واعلم أن الباجي قد مال إلى ركوب البحر وإن أدى إلى تضييع بعض أركان الصلاة، وزيادة محرم، عطف على قوله:"إلا في بعيد مشي"؛ يعني أنه يشترط في وجوب الحج على المرأة أيضا وجود محرم، لما في الموطإ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها

(1)

)، ورواه البخاري ومسلم بروايات مختلفة، وقوله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله واليوم الآخر على جهة التغليظ، يريد أن مخالفة هذا ليس من أفعال من يؤمن بالله تعالى ويخاف عقابه في الآخرة. قاله الباجي. والعلة في منعها في السفر مع غير ذي محرم كونها عورة، فيجب عليها التستر ويحرم عليها التبرج حيث الرجال، وقوله:"وزيادة محرم"؛ أي إلا في زيادة محرم كما علم من التقرير.

أو زوج؛ يعني أن الزوج مثل المحرم، فلا بد في وجوب الحج على المرأة من أن يكون معها محرم أو زوج، سافرت ببر أو بحر، وقوله:"وزيادة محرم أو زوج"، قال الخرشي: أي وإلا في زيادة محرم أو زوج على الرجل، وقال عبد الباقي: وأراد المصنف بقوله: "زيادة محرم أو زوج"، زيادتهما على ما قدمه في معنى الاستطاعة وهو قريب من الأول أو هو هو، وقال الحطاب: لو قال عوضه: واستصحاب محرم أو زوج، لكان أولى. انتهى. وقوله:"أو زوج"، قد ورد النص على الزوج في الصحيحين

(2)

)، والمحرم يشمل النسب والرضاع والصهر، لكن كره مالك سفرها مع ربيبها، والظاهر أن ذلك لما بينهما من العداوة، فسفرها معه تعريض لضيعتها كما قاله المصنف، أو لفساد الزمان لحداثة الحرمة، فلا يرد قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} ، الآية. وإنما كره مالك سفرها مع ربيبها حيث طلقها أبوه وتزوجت بعده. ابن القاسم: وما يعجبني أن يسافر بها فارقها أبوه أم لا. ابن رشد: كراهة الإمام أن يسافر بها إذا كان أبوه قد طلقها وتزوجت

(1)

الموطأ، كتاب الاستئذان، الحديث:1833. والبخاري، كتاب أبواب تقصير الصلاة، الحديث: 1088. مسلم، رقم الحديث:1339.

(2)

البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، الحديث:1197. ومسلم، كتاب الحج، الحديث: 827.

ص: 321

الأزواج استحسان مخافة الفتنة عليه؛ إذ ليست في تلك الحالة زوجة لأبيه، وكره ابن القاسم ذلك مطلقا لاحتمال أن يكون أراد النبي صلى الله عليه وسلم ذوي محارمها من النسب دون الصهر، فقول مالك في حمل الحديث على ظاهره من العموم أظهر، وقول ابن القاسم أحوط.

(كرفقة أمنت بفرض) تشبيه في الوجوب المفهوم من قوله: "إلا أن تخص بمكان"؛ يعني أنه إذا لم يكن للمرأة زوج ولا محرم، أو كان لها زوج أو محرم وامتنع من الخروج معها للحج أو عجز عن ذلك، فإنه يجب عليها أن تخرج للحج إذا وجدت رفقة مأمونة، ولا بد أيضا أن تكون هي مأمونة في نفسها.

وبما قررت علم أن قوله: "كرفقة أمنت"، إنما هو عند عدم الزوج والمحرم، أو امتناعهما من الخروج معها، أو عجزهما عن ذلك وهو الذي يفيده النقل لا ما يوهمه المصنف من مساواة الرفقة للمحرم والزوج إذا وجدا، أو وجد أحدهما ولو امتنع المحرم أو الزوج من الخروج معها إلا بأجرة لزمتها إن قدرت عليها، ويحرم عليها حينئذ الخروج مع الرفقة المأمونة، فإن امتنعا بكل وجه أو طلبا ما لا تقدر عليه خرجت مع الرفقة، (أمنت بفرض)، راجع لما بعد الكاف وهو حال من المرأة المفهومة من السياق، فهو متعلق بمحذوف. قاله الحطاب. وقال البساطي: متعلق بالتشبيه لما فيه من معنى الفعل؛ أي ويشبه المحرم رفقة أمنت في فرض؛ يعني أنه يجب على المرأة أن تسافر مع الرفقة المأمونة في فرض، وليس قوله:"بفرض"، متعلقا بأمنت؛ لأن الأمن ثابت مطلقا. ومثل فرض الحج سفر واجب عليها كإسلامها بدار الحرب، فإنها تخرج منها مع رفقة مأمونة، فإن لم تجدها وكان يحصل بكل من بقائها وخروجها ضرر، فإن خف أحدهما ارتكبته، وإن تساويا خيرت. كذا يفيده كلامهم. قاله الشيخ عبد الباقي. وبرجوع قوله:"بفرض"، لما بعد الكاف علم أن اشتراط المحرم أو الزوج إنما هو في السفر المباح أو المندوب، وأما الواجب فتكفي فيه الرفقة المأمونة كما علم.

وقال التلمساني في شرح جامع الجلاب: وأما سفر الحج فإنها تسافر مع جماعة النساء إذا لم يكن لها محرم، قال الأبهري: لأنها لو أسلمت في دار الحرب لوجب عليها أن تخرج مع غير ذي محرم إلى دار الإسلام، وكذا إذا أسرت وأمكنها أن تهرب منهم فإنه يلزمها أن تخرج مع

ص: 322

غير ذي محرم، فكذلك يلزمها أن تؤدي كل فرض عليها إذا لم يكن معها محرم من حج أو غيره. انتهى. قاله الحطاب.

ويجوز للزوج والمحرم أخذ الأجرة على الخروج معها. والله أعلم. وأراد المصنف بقوله: "زيادة محرم أو زوج"، زيادتهما على ما قدمه في معنى الاستطاعة كما مر، وليس المراد أن يكون المحرم زائدا أي متعددا، ولا يشترط في المحرم البلوغ بل يكفي التمييز ووجود الكفاية، هذا هو الظاهر. قاله الحطاب. قال: ولم أر في ذلك نصا، وللشافعية فيه خلاف، وينبغي أن يجري مثل ذلك في الزوج، واختلف في عبد المرأة هل هو محرم مطلقا؟ وصححه ابن القطان أولا مطلقا، واستظهره ابن الفرات أو إن كان وغدا فمحرم فتسافر معه وإلا فلا، وعزاه ابن القطان لمالك وابن عبد الحكم وابن القصار، وفي النوادر: وكره عمر بن عبد العزيز أن يخرج بها عبدها، قيل له إنه أخوها من الرضاعة فلم ير بذلك بأسا. انتهى.

واعلم أنهم قد صرحوا بأنه يجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما يراه ذو المحرم إلا أن يكون له منظر جميل، فيكره أن يرى ما عدا وجهها، ولها أن تواكله إن كان وغدا دنيا يؤمن تلذذه بها، بخلاف الشاب الذي لا يؤمن. قاله الحطاب. وقد ذكر الفاكهاني المالكي في شرح عمدة الأحكام ضابطا في المحرم الذي يجوز معه سفر المرأة والخلوة بها عن الشافعية، وهو كل من حرم عليه نكاح المرأة لحرمتها على التأبيد بسبب مباح، فعلى التأبيد احترازٌ من أخت المرأة وعمتها وخالتها، وقوله: بسبب مباح، احترازًا من أم الموطوءة بشبهة فإنها ليست محرما، فإن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة، وقوله: لحرمتها، احترازا من الملاعنة، فإن تحريمها ليس لحرمتها بل تغليظا، قال الفاكهاني: ولا أعلم ما يخالف ذلك عندنا. انتهى. قاله الحطاب. وقد نقل الباجي في المنتقى عن أبي محمد أنه قال: ليس عبدها من ذوي محارمها؛ إذ لا يجوز لها السفر معه لأن حرمتها معه لا تدوم؛ لأنه يمكنها أن تعتقه فيحل له تزويجها، وفسر الباجي المحرم بأنها من تأبد تحريمها على المرء، وأما الكافل فإنه يخلو بمكفولته ويسافر معها لأنه كالأب معها. قاله الحطاب. عن ابن فرحون، وللوصي والولي غير المحرم أن يسافر بالصبية إذا لم يكن لها أهل تَخَلَّفُ عندهم وكانا مأمونين ويختلف فيه إذا كان للصبية أهل وهو مأمون أوله أهل،

ص: 323

ومن أرسلت معه أمة لشخص فالظاهر أنه يجوز له أن يصحبها إذا أمن من أن يقع في الخلوة المحرمة. قاله الحطاب.

اللخمي: ولا تودع المرأة لغير ذي محرم إلا أن يكون مأمونا له أهل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخلو رجل بامرأة ليس بينه وبينها محرم

(1)

)، وأجاز مالك لمن ادعى أمة أنه إذا أقام شاهدا ووضع القيمة أن يسافر بها إذا كان مأمونا، ومنعه أصبغ والمنع أصوب للحديث:(لا يخلون)، ولأن الخوف عليها من المدعي أشد؛ لأنه يقول: هي أمتي وحلال لي فهو يستبيحها إذا غاب عليها. انتهى.

وفي ابن سلمون: أن الجارية لا تدفع إليه حتى يثبت أنه مأمون عليها، أو يأتي بأمين يتوجه بها معه فيستأجره هو. والله أعلم. قاله الحطاب. وأما أمة الزوجة فعن أبي مهدي أنه استظهر جواز خلوة الزوج بها إن كان مأمونا، وأما الأمة المتزوجة فالظاهر من قول المصنف: وللسيد السفر بمن لم تبوأ أن للسيد أن يخلو بها؛ لأنهم عللوا منع السفر بالأجنبية بأنه مظنة الخلوة بها. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه. وكذلك الخلوة بالمعتقة لأجل والمبعضة للعلة المتقدمة. قاله جامعه أيضا عفا الله تعالى عنه. والله سبحانه أعلم. وهذا لا شك فيه أنه أحرى من المكفولة. والله سبحانه أعلم.

وقوله: "كرفقة أمنت"، هو قول مالك وهو المشهور، وقيل: لا تسافر إلا مع محرم أو زوج للحديث كانت ضرورة أم لا، وقيل: تسافر مع الرفقة مطلقا، قال الحطاب: فهم من قول المصنف بفرض أن سفرها في التطوع لا يجوز إلا بزوج أو محرم، وهو كذلك فيما كان على مسافة يوم أو ليلة فأكثر، وسواء كانت شابة أو متجالة، وقيد الباجي ذلك بالعدد القليل، قال: وأما في القوافل العظيمة فهي عندي كالبلاد يصح فيها سفرها دون نساء ودون محرم، ونقله عنه في الإكمال وقبله ولم يذكر خلافه، وذكره الزناتي في شرح الرسالة على أنه المذهب مقيدا به كلام المصنف، ونص كلام الزناتي: فإذا كانت في رفقة مأمونة ذات عدد أو جيش مأمون من الغلبة

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1341. ولفظه: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم.

ص: 324

والحملة العظيمة، فلا خلاف في جواز سفرها من غير ذي محرم في جميع الأسفار الواجب منها والمندوب والمباح؛ إذ لا فرق بين ما تقدم ذكره وبين البلاد. هكذا ذكره القابسي. انتهى.

وفي صحيح مسلم أنه قام رجل، فقال يا رسول الله: (إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا، فقال: انطلق فحج مع امرأتك

(1)

)، وفيه وجوب الحج على النساء وإلزام أزواجهن تركهن وندبهم إلى الخروج معهن، وأن ذلك أفضل من خروجه إلى الغزو لأن المعونة على أداء الفريضة مؤكدة، وقد تكون فريضة في بعض الوجوه. قاله الحطاب عن القاضي. وقال بعد ذلك: والظاهر أيضا ندب المحرم إلى الخروج مع محرمه كالزوج. انتهى.

واعلم أن رواة الحديث في سفر المرأة أنه لا يكون إلا مع ذي محرم اختلفت روايتهم، فروي (يوم وليلة)، وروي (مسيرة ثلاث)، وروي يومين، وروي (مسيرة ليلة)، وروي (مسيرة يوم)، وروي (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم)، وهذه كلها في مسلم

(2)

). وروى (بريدا) وهي عند أبي داوود

(3)

، والبريد مسيرة نصف يوم، قال في التوضيح: وقد حملوا هذا الاختلاف على حسب إِختلاف السائلين واختلاف المواطن، وأن ذلك معلق بما يقع عليه اسم السفر. قاله الحطاب. ثم قال بعد جلب نقول: فالحاصل أن كل ما سمي سفرا نهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوما أو بريدا أو غير ذلك، كرواية ابن عباس المطلقة: (لا تسافر امرأة إِلا مع ذي محرم

(4)

)، وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرا. والله تعالى سبحانه أعلم. انتهى.

ثم ذكر قولا بجواز سفرها مع غير ذي محرم إن كانت المسافة أقل من يوم وليلة، ثم قال بعد جلب نقول: فتحصل في سفرها أقل من يوم وليلة قولان، والظاهر ما قاله في التوضيح وغيره. انتهى. وهو أنه لا فرق بين السفر القليل والكثير في المنع.

واعلم أن سفرها بحيث تحصل الخلوة بها مع غير ذي محرم ممنوع بلا إشكال، وقد تقدم أن المشهور أنه لا فرق بين المتجالة وغيرها، ورد القول بأن المتجالة كالرجل بأن الخلوة بالمتجالة

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1341.

(2)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1338.

(3)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1725.

(4)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1341.

ص: 325

ممنوعة، وبأن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: لكل ساقطة لا قطة، ويجتمع في الأسفار من سفل الناس وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز لغلبة شهوته وقلة دينه، وإذا قلنا إنها تسافر للفرض مع الرفقة المأمونة فالظاهر أن لها أن تعود معها أيضا بعد قضاء فرضها، وكذلك لو سافرت مع محرم ثم مات بعد أداء فرضها فالظاهر أن لها أن تعود مع الرفقة المأمونة؛ لأن في إلزامها الإقامة بغير بلدها مشقة عظيمة ولا سيما في بلاد الحجاز. والله أعلم. قاله الحطاب.

واعلم أنه يستثنى مما تقدم ما إذا وجد الرجل المرأة في مفازة ومقطعة وخشي عليها الهلاك، فإنه يجب عليه أن يصحبها معه وأن لا يفارقها، وإن أدى إلى الخلوة بها لكن يحترس جهده، والأصل في ذلك قضية عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك

(1)

)، وفيه حسن الأدب والمعاملة والمعاشرة مع النساء الأجانب ولا سيما في الخلوة بهن عند الضرورة، كما فعل صفوان من ترك مكالمة السيدة عائشة وسؤالها، وأنه لم يزد على الاسترجاع وتقديم مركبها، وإعراضه بعد ذلك حتى ركبت ثم تقدم يقود بها، وفيه إغاثة الملهوف وعون الضعيف وإكرام من له قدر كما فعل صفوان في ذلك كله. قاله الحطاب.

والظاهر أنه يكفي في المحرم أن يكون معها في رفقة، ولا يشترط أن تكون هي وإياه مترافقين، فلو كان في أول الرفقة وهي في آخرها أو بالعكس، بحيث إنها لو احتاجت إليه أمكنها الوصول إليه بسرعة كفى ذلك. والله أعلم. والخنثى المشكل في حج التطوع لا يحج إلا مع ذي محرم، لا مع جماعة رجالا فقط ولا مع نساء فقط، إلا أن يكن جواريه أو ذوات محارمه، وأما حج الفرض فالظاهر أنه يكفي فيه خروجه مع جماعة الرجال أو النساء إلا على القول الذي يشترط في الرفقة مجموع الصنفين.

(وفي الاكتفاء بنساء أو رجال)؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا في الرفقة المأمونة التي تخرج معها المرأة للفرض عند عدم إمكان استصحاب زوج أو محرم، فمنهم من قال: يكتفى بأحد الصنفين فتخرج مع جماعة مأمونة من الرجال فقط أو من النساء فقط. وهذا أحد شقي التردد، وعليه فأولى في

(1)

البخاري، كتاب التفسير، الحديث:4750.

ص: 326

الاكتفاء خروجها في جماعة اجتمع فيها الصنفان الرجال والنساء، وعلى هذا اختصر المدونة البرادعي وابن يونس. (أو بالمجموع)؛ يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أنه لا يكفي في خروجها عند عدم إمكان استصحاب الزوج أو المحرم إلا الرفقة التي اجتمع فيها الصنفان الرجال والنساء، ولا يكفي أحد الصنفين، وعليه اختصر ابن أبي زمنين وغيره المدونة.

وبما قررت علم أن محل الخلاف إنما هو في جماعة مأمونة من أحد الصنفين، وأما رفقة اجتمعا فيها فليست من محل التردد فإنها تكفي باتفاق أهل التردد، ولا جعل المصنف الاكتفاء بالمجموع مقابلا للاكتفاء بأحد النوعين، أفاد ما ذكر. والله سبحانه أعلم.

وبما قررت علم أيضا أن حق قوله: (تردد)، تأويلان، كما قاله الشيخ عبد الباقي، قال الشيخ محمد بن الحسن: هو صحيح، وفي الحطاب: تحصل من كلام القاضي ثلاثة أقوال: أَحَدُهَا اشتراط المجموع، الثَّانِي الاكتفاء بأحد الجنسين، الثَّالِثُ اشتراط النساء سواء كن وحدهن أو مع رجال، وهو ظاهر الموطإ. وظاهر كلام القاضي عياض أن المرأة الواحدة تكفي في ذلك، وهو ظاهر كلام صاحب الذخيرة، ويظهر من كلام صاحب الإكمال أن هذه تأويلات على المدونة، فكان الأليق بقاعدة المصنف أن يقول: تأويلات. والله أعلم. انتهى. ولو أراد المصنف موافقته لقال: وفي الاكتفاء بنساء أو رجال أو لا بد من المجموع أو لا بد من النساء تأويلات. قاله الشيخ محمد بن الحسن.

تنبيه: الذي يظهر أن الراجح من التردد هو الاكتفاء بأحد الجنسين، كما يدل على ذلك قول الحطاب: يؤيد القول بالاكتفاء بأحد الجنسين كون البرادعي وابن يونس اختصرا المدونة بأو، وتبعهما على ذلك ابن المنير بفتح النون وكسر الياء المشددة في مختصره الذي اختصر فيه التهذيب، واحترز المصنف بقوله:"أمنت"، عما إذا لم تكن الرفقة مأمونة فلا يباح لها الخروج معها، ويسقط عنها الوجوب في هذه الحالة. (تردد وصح بالحرام) يعني أن الحج يصح بالمال الحرام فرضا أو نفلا، فيسقط عنه الفرض والنفل مع وجود الشروط والأركان، ورد المصنف بالحرام على أحمد القائل بعدم صحة الحج بالمال الحرام وهو جار على أصله في الصلاة في الدار المغصوبة.

ص: 327

سند: إذا غصب مالا فحج به ضمنه وأجزأه حجه وهو قول الجمهور. انتهى. ونقله القرافي وغيره. قاله الحطاب.

وقال: نعم، من حج بمال حرام فحجه غير مقبول كما صرح به غير واحد من العلماء، وذلك لفقدان شرط القبول، لقوله تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، ولا منافاة بين الحكم بالصحة والحكم بعدم القبول؛ لأن أثر القبول في ترتب الثواب وأثر الصحة في سقوط الطلب. والله أعلم. وقوله:"الحرام"، يشمل جميع أنواعه من الغصب والتعدي والسرقة وغير ذلك، وإنما قال:"صحح" ولم يقل: سقط، ليشمل النفل. ومنه حج العبد بغير نذر وحج الصبي، والسقوط خاص بالفرض، وفي المذهب رواية بعدم الإجزاء في الحج بالمال الحرام كما يقول أحمد، وقال العلماء: يجب على مريد الحج أن لا يحرم حتى تكون نفقته حلالا لا شبهة فيها، لقوله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ، وقوله:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا

(1)

). الحديث المشهور في مسلم. قاله الحطاب. وفيه قالوا: ومن حج بمال حرام فحجه صحيح عند مالك والشافعي وأبي حنيفة. وقال ابن حنبل: لا يجزئه، وحجه باطل. انتهى. وفيه قال بعض العلماء المحققين من العلماء المتقين: أما عدم القبول فلاقتران العمل بالمعصية وفقدان الشرط. وهو التقوى. قال الحطاب: وقد أشار جماعة من العلماء إلى عدم القبول، منهم القشيري والغزالي والقرافي والقرطبي والنووي، ونقله الغزالي عن ابن عباس وكفى به حجة، وقال في آخره: آكل الحرام مطرود محروم لا يوفق لعبادة، وإن اتفق له فعل خير فهو مردود عليه غير مقبول منه.

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به

(2)

)، وقال بعض العلماء: إن أعمال الجوارح في الطاعات مع إهمال شروطها ضحكة للشيطان لكثرة التعب وعدم النفع، وقد روي: (من حج من غير حل، فقال: لبيك، قال الله له لا لبيك ولا سعديك

(3)

)، وفي رواية: (إذا حج الرجل بالمال الحرام، فقال: لبيك اللهم لبيك، قال الله تعالى: لا لبيك ولا

(1)

مسلم، كتاب الزكاة، الحديث:1015.

(2)

الإتحاف، ج 5 ص 226. الإتحاف، ج 6 ص 8.

(3)

كنز العمال، ج 5 ص 27.

ص: 328

سعديك حتى ترد ما في يديك

(1)

)، وفي رواية: (لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك

(2)

)، وفي رواية: (من خرج يَؤُمُّ هذا البيت بكسب حرام شخص في غير طاعة الله، فإذا بعث راحلته وقال: لبيك اللهم لبيك، نادى مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك كسبك حرام وراحلتك حرام وثيابك حرام وزادك حرام، ارجع مأزورا غير مأجور، وأبشر بما يسوءك. وإذا خرج الرجل حاجا بمال حلال وبعث راحلته، وقال: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك أجبت بما تحب، راحلتك حلال وثيابك حلال وزادك حلال، ارجع مبرورا غير مأزور استأنف العمل

(3)

). أخرج هذه الرواية الأخيرة أبو داوود، وانشدوا:

إذا حججت بمال أصله سحت

فما حججت ولكن حجت العير

لا يقبل الله إلا كل طيبة

ما كل من حج بيت الله مبرور

قيل إن هذين البيتين لأحمد بن حنبل، وقيل إنهما لغيره، قوله في الحديث: يؤم: يقصد، وقوله: شخص، شخوص المسافر: خروجه من منزلة، والسحت بضم الحاء وإسكانها: الحرام. وللشيخ أبي عبد الله محمد بن رشيد البغدادي:

وحج بمال من حلال عرفته

وإياك والمال الحرام وإياه

فمن كان بالمال المحرم حجه

فعن حجه والله ما كان أغناه

إذا هو لبى الله كان جوابه

من الله لا لبيك حج رددناه

كذا جاء في كتب الحديث مسطرا

وما جاء في كتب الحديث سطرناه

قاله الحطاب. وقال محمد بن الحسن: في الحطاب أن الحج بالحرام لا ثواب فيه وأنه غير مقبول، واعترضه الشيخ أبو علي بأن مذهب أهل السنة أن السيئة لا تحبط ثواب الحسنة، بل يثاب على حجه، وقال ابن العربي: من قاتل على فرس مغصوب فله الشهادة وعليه إثم

(1)

كنز العمال، ج 5 ص 27.

(2)

الإتحاف، ج 4 ص 431.

(3)

الإتحاف، ج 4 ص 431.

ص: 329

المعصية. انتهى كلام محمد بن الحسن. وفي الحديث: من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما، قال الأبي: قال عياض: مذهب أهل السنة أن السيئات لا تحبط الحسنات وإنما يحبطها الكفر، قلت: القبول عبارة عن حصول الثواب، والصحة عبارة عن سقوط الأداء، فإذا لم تقبل له صلاة لم يثبت ثوابها ويسقط التكليف، ولا ذكر المناوي عن النووي أن معنى عدم القبول عدم الثواب ذكر أنه اعترض بأن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين، فكيف يسقط ثواب صلاة صحيحة بمعصية لاحقة؟ فالوجه أن يقال: المراد من عدم القبول عدم تضعيف الأجر. قاله ابن زكري.

وقال النووي: فإن حج بمال حرام أو بشبهة فحجه صحيح ولكنه ليس بمبرور، واعترض بأن المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، ومن وقع في الشبهة لم يتحقق وقوعه في الإثم، وقد حمل العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام

(1)

). على وجهين: أحدهما أن من تعاطى الشبهات وداوم عليها أفضت به إلى الوقوع في الحرام، الثاني أن من تعاطى الشبهات وقع في الحرام في نفس الأمر وإن كان لا يشعر به فمنع من تعاطي الشبهات لذلك، فمن تعاطى ما فيه شبهة لا يحكم بأنه يأثم إلا على القول بأن الشبهات حرام، وقيل إنها حلال، وعدوا من الشبهات ما اختلف فيه العلماء، وقال صلى الله عليه وسلم: من أكل الحلال أطاع الله شاء أو أبى، ومن أكل الحرام عصى الله شاء أو أبى، وقال عليه الصلاة والسلام: (طلب الحلال فريضة

(2)

)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أمسى وائنا من طلب الحلال بات مغفورا له

(3)

)، وقوله: وائنا من قولهم وأنَ يَئِنُ: تعب، وقال ابن عبدوس: عماد الدين وقوامه طيب المطعم، ومن لم يصحح في طيب عيشه خيف عليه أن لا تقبل صلاته وصيامه وحجه وجهاده وجميع عمله؛ لأن الله تعالى يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، وقال ابن معلى: من خرج لحج واجب بمال فيه شبهة فليجتهد أن يكون قوته من الطيب، فإن لم يقدر فمن حين الإحرام إلى التحلل، فإن لم

(1)

مسلم، كتاب المساقاة، الحديث:1599.

(2)

الإتحاف، ج 1 ص 131.

(3)

الإتحاف، ج 6 ص 6.

ص: 330

يقدر فليجتهد يوم عرفة ليلا يكون قيامه بين يدي الله تعالى، ودعاؤه في وقتٍ مَّطعَمُه فيه حرامٌ وملبسه حرام، فإنا وإن جَوَّزْنَا هذا للحاجة فهو نوع ضرورة فإن لم يقدر فيلزم قلبه الخوف والغم والحزن لما هو مضطر إليه من تناول ما ليس بطيب، فعساه ينظر إليه بعين الرحمة ويتجاوز عنه بسبب خوفه وحزنه وكراهيته، وإذا عجز عن المال الحلال السالم من الشبهة والحرام، فقد قال صاحب المدخل: فليقترض مالا حلالا ليحج به، فإن الله تعالى لا يقبل إلا طيبا. انتهى.

وفي منسك ابن جماعة الكبير: وإن اقترض الحاج مالا حلالا في ذمته وله وفاء به ورضي المقترض فلا بأس به. انتهى. فهذا لا بد منه -أعني رضا المقترض- ومع ذلك فهو ورع في حجه غير ورع في قضاء دينه، كمن يقترض مالا لينفقه ويقضيه من مال فيه شبهة.

تنبيه: حاصل ما فسر به العلماء الشبهة أربعة أشياء: أحدها تعارض الأدلة، ثانيها اختلاف العلماء وهو منتزع من الأول، ثالثها المكروه، رابعها المباح. ولا يمكن حمله على متساوي الطرفين، بل يمكن حمله على خلاف الأولى، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا. انظر ابن حجر.

تنبيهات: الأول: كما طلب أن يكون المال الذي يحج به خالصا من الحرام والشبهة، يطلب منه إخلاص النية لله تعالى بل هذا أعم، فلا يخرج ليقال إنه حاج أو ليعظم أو ليعطى فإن هذا كله رياء والرياء حرام بالإجماع، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا جمع الله الناس ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك

(1)

)، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه

(2)

). انتهى. وفي الإحياء: وليجعل عزمه لله تعالى بعيدا عن شوائب الرياء والسمعة، وليحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص، فإن من أفحش الفواحش أن تقصد بيت الملك وحرمه

(1)

الترمذي، كتاب تفسير القرآن، الحديث 3154

(2)

مسلم، كتاب الزهد والرقائق، الحديث:2985.

ص: 331

والمقصود غيره، فليصحح مع نفسه العزم وتصحيحه بإخلاصه، وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء أو سمعة، وليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

الثاني: قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} ، الآية: فيها دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن الإخلاص المفترض عليه، خلافا للفراء، أما الحج دون تجارة فهو أفضل لعروه عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها، وقال يحيى النووي وغيره من العلماء: يستحب لمريد الحج أن تكون يده فارغة من مال التجارة ذاهبا وراجعا لأن ذلك يشغل القلب، قال: فإن اتجر لم يؤثر ذلك في صحة حجه. انتهى. قال الشيخ ابن المعلى عقبه: إطلاق الشيخ استحبابه ترك التجارة في سفر الحج وتعليله بشغل القلب ينبغي أن يكون مقيدا بكونه من حين إحرامه إلى آخر حجه؛ لأن الاشتغال بها حينئذ مبدد للخاطر وصارف عن المطلوب من الإقبال بالظاهر والباطن، وأما في ابتداء السفر فلا وجه لاستحباب تركه؛ إذ ليس له ما تشغله التجارة عنه، وقد يكون ذلك سببا لكساد سلعته في الموضع الذي يقصده، فيمتنع بسبب ذلك من المبادرة إلى الحج وهذا يقع كثيرا، وقد اعترض على يحيى النووي في قوله راجعا. قاله الحطاب. واعلم أن الإخلاص شرط في الحج والجهاد وجميع العبادات، لقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، والإخلاص مصدر أخلصت العسل إذا صفيته من شوائب كدره، فالمخلص في عبادته هو الذي يخلصها من شوائب الشرك والرياء، وذلك لا يتأتى إلا أن يكون الباعث له على عملها قصد التقرب إلى الله تعالى وابتغاء ما عنده، فأما إن كان الباعث عليها غير ذلك من أغراض الدنيا فلا تكون عبادة بل تكون معصية موبقة لصاحبها، فإما كفر وهو الشرك الأكبر وإما رياء وهو الشرك الأصغر ومصير صاحبه إلى النار، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الثلاثة المذكورين فيه، فعنه رضي الله تعالى عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد في سبيل الله فأتي به فَعَرَّفَهُ الله تعالى نعمه فَعَرَفَهَا، فقال: بم عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكن قاتلت ليقال فلان جريء فقد قيل، ثم أمر به فيسحب على وجهه حتى ألقي في

ص: 332

النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: بم عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، فقال: كذبت ولكنك تعلمت العلم وقرأت القرآن ليقال فلان قارئ فقد قيل: ثم أمر به فيسحب علي وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه الله من أصناف المال كله فأتي به فَعَرَّفهُ نعمه فَعَرَفَهَا، فقال: بم عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فيسحب على وجهه حتى ألقي في النار

(1)

). انتهى. وهذا إذا كان الباعث على تلك العبادة الغرض الدنيوي وحده بحيث لو فقد ذلك الغرض لترك العمل، فأما لو انبعث للعبادة بمجموع الباعثين باعث الدين وباعث الدنيا لكن باعث الدنيا أقوى أو مساو لحق بالقسم الأول في الحكم بإبطال العبادة عند أيمة هذا الشأن، وعليه يدل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن الله تعالى: (من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشريكه

(2)

)، فأما لو كان باعث الدين أقوى فقد حكم المحاسبي بإبطال ذلك العمل متمسكا بالحديث المتقدم، وخالفه الجمهور وقالوا بصحة العمل وهو المفهوم من فروع مالك رضي الله تعالى عنه، ويستدل على هذا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن من خير معاش الناس لهم رجلا ممسكا فرسه في سبيل الله

(3)

)، فجعل الجهاد مما يصح أن يتخذ للمعاش، ومن ضرورة ذلك أن يكون مقصودا، لكن لما كان باعث الدين الأقوى كان ذلك الغرض ملغى فيكون معفوا عنه، كما إذا توضأ قاصدا رفع الحدث والتبرد، فأما لو انفرد باعث الدين بالعمل ثم عرض باعث الدنيا في أثناء العمل فالأولى الصحة. انتهى. نقله الحطاب عن القرطبي وغيره.

الثالث: نقل الإمام الحطاب عن حجة الإسلام أبي حامد الغزالي ما ملخصه: أن العمل إذا كان خالصا لله تعالى فهو سبب الثواب، وإن كان خالصا للرياء أو لحظ النفس فهو سبب للعقاب؛ لأن طلب الدنيا مباح ولكن طلبها بأعمال الدين حرام لا فيه من الرياء وتغيير العبادة عن وضعها،

(1)

مسلم، كتاب الإمارة، الحديث:1905.

(2)

الإتحاف، ج 8 ص 263.

(3)

مسلم، كتاب الإمارة، الحديث:1889. ولفظه: من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه. الخ.

ص: 333

وإن اختلف القصدان فإن كان باعث الدين مساويا لباعث النفس تَقَاوَمَا وَتَسَاقَطَا وصار العمل لا له ولا عليه، وإن كان الباعث النفسي أقوى وأغلب فليس العمل بنافع نعم أخف من العمل المتجرد لحظ الدنيا، وإن كان الباعث الديني أقوى فله ثواب بقدر ما فضل عن قوة الباعث الدنيوي، لقوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} ، ولقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، وليس من خرج للتجارة والحج من أمثلة هذه المسألة؛ لأنه إذا سلم من قصد الرياء فإنما يحمله على الإحرام ومباشرة المناسكَ الباعث الديني، ولو كان كل من أحرم بالحج يعطى ما لا أمكن أن يكون من ذلك، وقال بعد هذا: ويبعد أن يقال من كان داعيته الدينية تزعجه إلى الغزو، وإن لم تكن غنيمة وقدر على غزو طائفتين من الكفار إحداهما غنية والأخرى فقيرة، فمال إلى جهة الأغنياء لإعلاء كلمة الله تعالى وللغنيمة أنه لا ثواب له على غزوة البتة -ونعوذ بالله تعالى أن يكون الأمر كذلك- فإن هذا حرج في الدين ومدخل لليأس على المسلمين؛ لأن أمثال هذه الشوائب النافعة لا ينفك الإنسان عنها إلا على الندور، فيكون تأثير هذا في نقصان الثواب، وأما أن يكون في إحباطه فلا. نعم الإنسان فيه على خطر عظيم؛ لأنه ربما يظن أن الباعث الأقوى هو قصد التقرب ويكون الأغلب على سره الحظ النفسي وذلك مما يخفى غاية الخفاء. انتهى. والله أعلم.

ونقل عن القرافي ما يخالف ما مر، وأن من صام مثلا ليصح جسده أو يحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها الصوم، ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده والصوم مقصود مع ذلك لا يقدح في صومه، بل أمره صاحب الشرع بها في قوله: (يا معشر الشباب من استطاع منك الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء

(1)

) فأمر صلى الله عليه وسلم بالصوم لهذا الغرض، ولو كان قادحا لم يأمر به صلى الله عليه وسلم.

وحاصل ما للقرافي أن الرياء المحبط على قسمين: أحدهما: أن يعمل العمل المأمور به والمتقرب به إلى الله تعالى ويقصد به وجه الله تعالى، وأن يعظمه الناس أو بعضهم فيميل إليه نفعهم أو يندفع عنه ضررهم به. القسم الآخر: أن يعمل العمل لا يريد به وجه الله تعالى البتة بل الناس فقط،

(1)

البخاري، كتاب النكاح، الحديث:5066. مسلم، كتاب النكاح، الحديث: 1400.

ص: 334

وهذا هو رياء الإخلاص والأول رياء الشرك، وكلاهما موجب للإثم والبطلان في تلك العبادة. قال: وأغراض الرياء ثلاثة: التعظيم، وجلب المصالح، ودفع المضار الدنيوية. والآخران يتفرعان على الأول لأنه إذا عظم انجلبت إليه المصالح واندفعت عنه المفاسد، فهو الغرض الكُلِيُّ في الحقيقة، وأما مطلق التشريك كمن جاهد لتحصل طاعة الله تعالى بالجهاد وليحصل له المال من الغنيمة، فهذا لا يضره ولا يحرم عليه بالإجماع؛ لأن الله تعالى جعل له في هذه العبادة، ففرق بين جهاده ليقول الناس هذا شجاع، أو ليعظمه الإمام فيكثر عطاءه من بيت المال، هذا ونحوه رياء حرام، وبين أن يجاهد لتحصيل الكراع والسبايا والسلاح من جهة أموال العدو مع أنه قد شرك، ولا يقال لهذا رياء بسبب أن الرياء هو أن يعمل ليراه غير الله تعالى من خلقه، والمال المأخوذ في الغنيمة ونحوه لا يقال إنه يرى ويبصر، فلا يصدق علئ ذلك لفظ الرياء لعدم الرؤية، وكذلك من حج وشرك في حجه عرض التجر ويكون جل مقصوده أو كله السفر للتجارة خاصة، ويكون الحج إما مقصودا مع ذلك أو غير مقصود ويقع تابعا اتفاقا، فهذا أيضا لا يقدح في صحة الحج ولا يوجب إثما، وكنية الوضوء والتبرد، ثم قال بعد أمثلة: فظهر الفرق بين قاعدة الرياء في العبادات وبين قاعدة التشريك فيها غرضا آخر غير الخلق، مع أن الجميع تشريك، نعم لا يمنع أن هذه الأغراض المخالطة للعبادة قد تنقص الأجر، وأن العبادة إذا تجردت عنها زاد الأجر وعظم الثواب، أما الإثم أو البطلان فلا سبيل إليه. انتهى.

وظاهره أن التشريك بجميع وجوهه لا يحرم وليس كذلك؛ لأن الإخلاص فرض ومن ثم إن كان الباعث الأقوى على العمل باعث النفس لم يخلص، وظاهر كلامه أيضا أن مطلق الرياء ولو قل يحبط العمل ويصير لا ثواب له أصلا وفيه نظر. قاله الحطاب.

(وعصى) يعني أن الحج إذا قلنا إنه يصح بالمال الحرام فإن الذي حج بالمال الحرام يكون عاصيا لربه، قال الشيخ عبد الباقي: ولا يثاب عليه كثواب فعله بحلال. انتهى. وقد مر الكلام على ذلك مشبعا فراجعه إن شئت، وقدم هنا لفظ صح وأخره في الصلاة حيث قال:"وعصى وصحت" تفننا واعتناء بقول الإمام أحمد بعدم صحته بالمال الحرام، وقد مر التنبيه على ذلك.

(وفضل على غزو) يعني أن الحج تطوعا أو فرضا أفضل من الغزو. (إلا لخوف) يعني أن محل تفضيل

ص: 335

الحج على الغزو إنما هو مع عدم الخوف، وأما مع الخوف من العدو فليس الحج بأفضل من الغزو وهذا التفضيل على حقيقته، وفي كلام عبد الباقي نظر، وهذا الذي ذكرته في كلام المصنف هو حله على سبيل الإجمال.

وأما على سبيل التفصيل فاعلم أن المسألة على أربعة أوجه: حج التطوع مع الغزو في غير خوف، وحج الفرض مع الغزو في غير خوف أيضا، ففي الأولى يقدم الحج ندبا على الغزو، وفي الثانية يقدم ندبا على التراخي ووجوبا على الفور، وحج التطوع مع الغزو في سنة الخوف، وحج الفرض مع الغزو في سنة الخوف، وفي الأولى من هاتين الأخيرتين يقدم الغزو، وفي الثانية منهما يقدم الغزو على التراخي وعلى الفور ينظر إلى كثرة الخوف وقلته، وما ذكرته في الثلاث الأول مأخوذ من كلام ابن رشد، وأما ما ذكرته في الرابعة، فقال الحطاب: هذا ما ظهر لي ولم أر فيها نصا.

واعلم أنه إذا تعين القتال لفجئ العدو فلا شك في تقديمه قولا واحدا، ومن كلام عبد الباقي: وأما مع الخوف فيقدم الغزو على الحج التطوع، وكذا على الفرض على القول بالتراخي حيث لم يخف الفوات. وكذا لو خيف أو قيل بفوريته حيث كثر الخوف من العدو أو فجأ أو عين الإمام، ويفضل حج تطوع على صدقة تطوع في غير مجاعة، والصدقة أفضل من العتق إن كانت تساويه قدرا وإلا فهو أفضل منها. انتهى. وإنما كان حجُّ التطوع لمن قد حج الفريضة أفضل من الغزو مع عدم الخوف: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة

(1)

)، وأما الغزو مع الخوف فلا شك أنه أفضل من الحج التطوع. والله أعلم. لأن الغازي مع الخوف قَدْ بَاعَ نفسه من الله عز وجل فاستوجب به الجنة والبشرى من الله تعالى بالفوز العظيم، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} . الآية. قاله الحطاب.

وفي العتبية: سئل مالك كن الحج والغزو أيهما أحب إليك، قال: الحج إلا أن تكون سنة خوف، قيل: فالحج والصدقة؟ قال: الحج، إلا أن تكون سنة مجاعة، قيل له: فالصدقة والعتق؟ قال: الصدقة. ابن رشد: لأنه إذا كانت سنة مجاعة كانت المواساة بالصدقة واجبة

(1)

البخاري، كتاب الهبة وفضلها، الحديث:1773. مسلم، كتاب الحج، الحديث: 1349.

ص: 336

عليه، فإذا لم يواس الرجل في سنة المجاعة بالقدر الذي يجب عليه من المواساة فقد أثم وقدر ذلك لا يعلمه حقيقة، فالتوقي من الإثم بالإكثار من الصدقة أولى من التطوع بالحج الذي لا يأثم بتركه، وإنما قال: إن الصدقة أفضل من العتق لما جاء في الحديث الصحيح: (أن ميمونة بنت الحارث رضي الله تعالى عنها أعتقت وليدة لها ولم تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي. قال: أو فعلت؟ قالت: نعم، قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك

(1)

). وهذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم يدفع مؤنة الاستدلال بالظواهر. وبالله التوفيق. انتهى. قاله الحطاب.

وفيه بعد جلب نقول: والحاصل أن من لم توجد في حقه الاستطاعة فاشتغاله بالجهاد أولى، وخروجه للحج مكروه بل ممنوع، ومن وجدت في حقه الاستطاعة فإن وجب الجهاد على الأعيان قدم على حج الفرض، وقول ابن رشد: هو أفضل من حج الفرض يريد به -والله أعلم- أنه المتعين الذي لا يجب سواه -وإن لم يجب الجهاد على الأعيان فلا يخلو الشخص إما أن يكون قد حج أولا، فمن حج فلا يخلو إما أن يكون سنة خوف أولا، فإن كانت سنة خوف فالجهاد أولى اتفاقا، وإن لم تكن سنة خوف فالحج أولى على المشهور، والجهاد أولى على رواية ابن وهب، وفتوى ابن رشد هذي والله أعلم في حق غير المتعين للجهاد؛ لأن أولائك الجهاد فرض عليهم فهو المتعين عليهم، وأما من لم يحج فلا يخلو إما أن تكون سنة خوف أولا، فإن لم تكن سنة خوف فعلى المشهور لا إشكال في تقديم حج الفريضة وجوبا على الفور، وندبا على التراخي سواء كان من القائمين بالجهاد أم لا. وأما على رواية ابن وهب فإن قلنا بالفور قدم الحج مطلقا، وإن قلنا بالتراخي قدم الجهاد ندبا إن كان من غير القائمين بالجهاد ووجوبا إن كان منهم إلا من بلغ المعترك؛ أي ستين سنة فيتعين عليه الحج، وإن كان سنة خوف فصرح في الرواية بتقديم الجهاد على الحج، لكن حمله ابن رشد على حج التطوع، ومفهومه أن الفرض بخلاف ذلك وكلامه في الأجوبة يقدم الجهاد على التراخي؛ لأن تطوع الجهاد يقدم عليه، وإذا قلنا يقدم على

(1)

البخاري، كتاب الهبة وفضلها، الحديث:2592.

ص: 337

تطوع الجهاد فالظاهر أنه ينظر إلى أخف الضررين فيرتكب، وأما على الفور فالظاهر تقديم الحج. انتهى.

ويقدم الحج على الصدقة في غير سنة المجاعة، كان الحج تطوعا أو فرضا، ولا يجوز أن يتصدق بما يحج به الفرض، وأما سنة المجاعة فتقدم الصدقة فيها على حج التطوع، وكذا الفرض على التراخي لا على الفور، وهذا ما لم تتعين المواساة بأن يجد محتاجا تجب عليه مواساته بالقدر الذي يصرفه في حجه، وأما إن تعينت فيقدم ذلك على الحج لوجوب المواساة بذلك فورا من غير خلاف، والحج مختلف فيه.

وقد روي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى دخل الكوفة وهو يريد الحج، فإذا بامرأة جالسة على مزبلة تنتف بطة، فوقع في نفسه أنها ميتة، فوقف. وقال: ميتة أم مذبوحة؟ قالت: ميتة وأنا أريد أن آكلها وعيالي، فقال: إن الله قد حرم الميتة وأنت في هذه البلدة، فقالت: يا هذا انصرف عني فلم يزل يراجعها الكلام حتى عرف منزلها، ثم انصرف فجعل على بغل نفقة وكسوة وزادا، وجاء وطرق الباب ففتحت فنزل عن البغل فضربه فدخل البيت، فقال للمرأة: هذا البغل وما عليه من النفقة والكسوة والزاد لكم، ثم أقام حتى رجع الحُجاج فجاء قوم يهنئونه بالحج، فقال: ما حججت السنة، فقال له بعضهم: سبحان الله ألم أودعك نفقتي ونحن ذاهبون إلى عرفة؟ وقال الآخر: ألم تسقني في موضع كذا وكذا؟ وقال الآخر ألم تشتر لي كذا؟ فقال: ما أدري ما تقولون، أما أنا فلم أحج العام، فلما كان من الليل أتي في منامه فقيل له: يا عبد الله ابن المبارك قد قبل الله صدقتك، وإنه بعث ملكا على صورتك يحج عنك. انتهى من منسك ابن جماعة. قاله الحطاب.

تنبيهات: الأول: لا شك أن صلاة واحدة فريضة أفضل من حج الفرض والتطوع لأنه إذا خيف فواتها سقط وجوبه، وأما النافلة فلا يمكن أن يقال من صلى ركعتين أفضل ممن حج حجة تطوعا، ولا أظن أن أحدا من المسلمين يقوله، بل لو فرض أن شخصا خرج إلى حج التطوع واشتغل آخر بالنوافل من حين خروجه إلى الحج إلى فراغه منه لكان الحج أفضل، وأما الحج والصوم فالظاهر أن الحج أفضل لأنه أفضل من الجهاد الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 338

عدله الصيام الذي لا إفطار فيه والقيام الذي لا فتور فيه مدة خروج المجاهد ورجوعه. كما رواه مالك ومسلم والبخاري وغيرهم.

ولفظ الموطإ: (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الدائم لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع

(1)

)، ومثال ذلك ما إذا كان شخص يكثر الصوم وإذا سافر لا يستطيع الصوم. قاله القرافي. قاله الحطاب. وقال الزركشي من الشافعية: أففل العبادات الحج، فإنا دعينا إليه في الأصلاب كالإيمان والإيمان أفضل الأعمال فكذلك الحج.

الثاني: قال القرافي: أفضل أركان الحج الطواف لأنه مشتمل على الصلاة وهو في نفسه شبيه بها والصلاة أفضل من الحج، فيكون الطواف أفضل من بقية الأركان، فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم:(الحج عرفة)

(2)

يدل على أفضلية الوقوف على سائر الأركان لأن تقديره معظم الحج وقوف عرفة لعدم انحصار الحج فيه بالإجماع، قلنا: بل يقدر غير ذلك وهو إدراك الحج عرفة، وهذا مجمع عليه، انتهى. قاله الحطاب.

وقال في المدونة: قال ابن القاسم: والطواف للغرباء أحب إلي من الصلاة، ولم يكن مالك يجيب في مثل هذا، وفي الرسالة: والتنفل بالركوع لأهل مكة أحب إلينا من الطواف، والطواف للغرباء أحب إلينا من الركوع لقلة وجود ذلك لهم، وهذا لمالك في الموازية. قاله الحطاب. ولا ينبغي للإنسان أن يخلي نفسه من الطواف في كل يوم، فقد قيل: لا ينبغي أن يقيم الإنسان بمكة ويمضي عليه يوم بلا طواف، وقد ورد فيه فضل كثير، فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من طاف بهذا البيت سبعا يحصيه كتب له بكل خطوة حسنة ومحيت عنه سيئة ورفعت له درجة وكان له عدل رقبة

(3)

). خرجه الترمذي وحسنه. ومعنى يحصيه يتحفظ ليلا يغلط. قاله في شفاء الغرام.

(1)

الموطأ، كتاب الجهاد، الحديث: 973 والبخاري، كتاب الجهاد والسير، الحديث 2787 ومسلم، كتاب الإمارة، الحديث:1878.

(2)

ابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث:3015. أبو داود، رقم الحديث: 1949. النسائى، كتاب مناسك الحج، الحديث:3019.

(3)

الترمذي، كتاب الحج، الحديث:959. ولفظه: من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه كان كعتق رقبة، وسمعته يقول: لا يضع قدما ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه خطيئة وكتب له بها حسنة.

ص: 339

وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمزم غفر الله ذنوبه كلها بالغة ما بلغت

(1)

)، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه

(2)

). أخرجه الترمذي. وقال: حديث غريب، قال البخاري: وإنما يروى عن ابن عباس، والمراد -والله أعلم- خمسون أسبوعا يدل عليه ما روي عن سعيد بن جبير: من حج البيت وطاف خمسين أسبوعا كان كما ولدته أمه، وكذا روي عن ابن عباس، ومثله لا يكون إلا توقيفا، وجاء الحديث أيضا: خمسين أسبوعا مكان مرة، وهذه الرواية في معجم الطبراني ومصنف عبد الرزاق، ففيها رد لمن قال إن المراد بالمرة الشوط، قال أهل العلم: وليس المراد أن يأتي بها متوالية، بل المراد أن توجد في صحيفة حسناته ولو في عمره كله.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل كل يوم وليلة على هذا البيت عشرون ومائة رحمة: ستون منها للطائفين وأربعون للعاكفين حول البيت وعشرون للناظرين حول البيت

(3)

). قاله الحطاب. والظاهر أن قسم الرحمات بينهم على الرؤوس من غير نظر إلى قلة عمل وكثرته، ويكون لمن كثر عمله ثواب من غير هذا الوجه، وقال الحطاب: والأظهر أن يكون القسم بينهم على قدر الأعمال. انتهى.

وقد تقدم أن من طاف بالبيت خمسين أسبوعا خرج من ذنوبه كما ولدته أمه، وقد قيل: سبع أسابيع بعمرة، وورد: ثلاث عمر بحجة، وورد: عمرتان بحجة، فتلك أربعة عشر أسبوعا، وهذا في غير رمضان لأن العمرة فيه كحجة، وروي أن طواف آدم اثنا عشر أسبوعا؛

(1)

الإتحاف، ج 4 ص 359.

(2)

الترمذي، كتاب الحج، الحديث:866.

(3)

الإتحاف، ج 4 ص 272.

ص: 340

خمسة بالنهار وسبعة بالليل، وفعله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ونقل سبعة أسابيع، ونقل أيضا ثلاثة أسابيع، ونقل أيضا أسبوع واحد.

الثالث: نص المحب الطبري على أن الاشتغال بالطواف أفضل من الاشتغال بالعمرة. انتهى. ويستحب لأهل مكة والمقيمين فيها أن يتركوا الطواف أيام الموسم توسعة على الحجاج، وفي المدخل: فإن يكن آفاقيا فيستحب له أن يكثر الطواف بالبيت ليلا ونهارا لا يستثنى منه في مذهب مالك إلا وقتان؛ وقت بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس؛ وبعد العصر حتى تغرب؛ فإنه لا ينبغي لأحد أن يطوف في هذين الوقتين إلا لحاجة تدعوه له؛ لأن من سنة الطواف أن يؤتى عقبه بركعتين، ويجوز أن يطوف طوافا واحدا في كل واحد منهما، ويؤخر الركوع له إلى بعد طلوع الشمس أو مغيبها، وله أن يتصرف في حوائجه وضروراته، فإذا فرغ رجع إلى الطواف، فإن تعب صلى ركعتين وجلس في موضع مصلاه تجاه الكعبة، فيحصل له النظر إلى الكعبة؛ وهو عبادة لقوله صلى الله عليه وسلم: (النظر إلى البيت عبادة

(1)

)، ويحصل له استغفار الملائكة، فإذا ذهب تعبه قام وشرع في الطواف يفعل ذلك ليلا ونهارا إلى اليوم السابع، وهذا بخلاف أهل مكة فإن المستحب لهم أن يكثروا من التنفل بالصلاة، والفرق بينهما أن الآفاقي هذه العبادة معدومة عنده فيغتنمها، بخلاف أهل مكة لأنها متيسرة عليهم طوك سنتهم فلا حاجة تدعوهم إلى مزاحمة الناس في الموسم. انتهى. قاله الحطاب.

وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى على الأوقات التي يباح فيها الطواف أو يكره أو يمنع عند قوله: "وركوع للطواف بعد المغرب"، وَالْمُحْرِمُ بالحج إذأ طاف طواف القدوم وسعى، هل يطلب بالطواف والإكثار منه قبل الخروج إلى عرفة أم لا؟ والجواب أنه يطلب بذلك، قال في المدخل: وليكثر الطواف في الليل والنهار بلا رمل ولا سعي بين الصفا والمروة، ويصلي لكل أسبوع ركعتين خلف المقام، فإنه يستحب كثرة الطواف مع كثرة الذكر. انتهى. ونحوه في مختصر الواضحة، ففيه: فإذا فرغت من السعي بين الصفا والمروة فارجع إلى المسجد الحرام وأكثر من الطواف ما كنت مقيما بها: ومن الصلاة في المسجد الحرام الفريضة والنافلة. قاله الحطاب.

(1)

الإتحاف، ج 4 ص 409.

ص: 341

وركوب؛ يعني أن الركوب في الحج على الإبل والدواب لمن قدر عليه أفضل من المشي؛ لأنه فعله صلى الله عليه وسلم"

(1)

ولأنه أقرب إلى الشكر ولما فيه من تضاعف النفقة أي نفقة الدواب ونفقة الناس. القرطبي: لا خلاف في جواز الركوب والمشي، واختلفوا في أيهما أفضل، ولا خلاف أن الركوب في الموقف بعرفة أفضل، واختلفوا في الطواف والسعي، فالركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وكلامه الأخير يوهم أن الركوب عند مالك في المناسك كلها حتى في الطواف والسعي أفضل، وليس كذلك بل المشي عنده فيهما من السنن المؤكدة، أو من واجبات الحج الذي يجب بتركه دم. والله أعلم. قوله:"وركوب"، عطف على قوله:"حج"؛ أي وفضل الركوب على المشي، وظاهر إطلاقات أصحابنا أن الركوب أفضل ولو كان الحج من مكة وهو صريح القرطبي. قاله الحطاب.

تنبيهات: الأول: ما ذكرته من ركوبه صلى الله عليه وسلم هو المعروف، ولا يلتفت إلى تصحيح الحاكم حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه (أنه صلى الله عليه وسلم حج هو رأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة

(2)

)؛ لأن المعروف أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع.

وكان صلى الله عليه وسلم راكبا فيها بلا شك. قاله ابن جماعة. واختار اللخمي وصاحب الطراز تفضيل المشي على الركوب للآثار الواردة في ذلك، وأجاب عن ركوبه صلى الله عليه وسلم بأنه لو مشى ما وسع أحدا الركوبُ، وبأنه صلى الله عليه وسلم أسن، فلم يكن من أهل المشي وليظهر للناس فيقتدوا به: ولهذا طاف على بعيره.

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل المشي، فروى ابن ماجة عن ابن عباس (أن الأنبياء صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم كانوا يدخلون الحرم مشاة

(3)

)، ويروى (أن آدم عليه السلام حج على رجليه سبعين حجة

(4)

)، وعن ابن عباس (أن آدم عليه السلام حج أربعين حجة من الهند

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث 1218.

(2)

الحاكم، ج 1 ص 442.

(3)

ابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث 2939.

(4)

منسك ابن جماعة، ج 1 ص 32.

ص: 342

على رجليه

(1)

)، قيل لمجاهد: أفلا كان يركب؟ قال: وأي شيء كان يحمله؟ وعن مجاهد (أن إبراهيم وإسماعيل حجا ماشيين

(2)

). رواه البيهقي. وذكر الأزرقي أن ذا القرنين حج ماشيا، وجمع ابن عباس أهله في مرضه، فقال لهم: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول: من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إليها كتب الله بكل خطوة سبع مائة حسنة من حسنات الحرم، فقيل له: وما حسنات الحرم؟ فقال: كل حسنة بمائة ألف حسنة

(3)

). رواه الحاكم وصحح إسناده. وروي (أن الملائكة تعتنق الشاة وتصافح الركبان

(4)

)، وقد كان الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يمشي المناسك كلها، والمشاعر والنجائب تقاد إلى جنبه، وقد نقل في تفسير الحج المبرور أنه إطعام الطعام ولين الكلام، والمشي في المناسك والمشاعر أشد استحبابا وهي من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات، ثم إلى مزدلفة، ثم إلى منى، ثم إلى مكة، ثم إلى منى، ثم إلى المحصب، ثم إلى مكة لطواف الوداع. قاله الحطاب.

وفي الحديث: (ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار

(5)

)، وفي الجامع الصغير: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة، وللماشي بكل خطوة يخطوها سبع مائة حسنة

(6)

)، والجواب للمشهور أن المزية لا تقتضي الأفضلية، وأن هذه الأحاديث طريقة آحاد، وأما ركوبه عليه الصلاة والسلام في الحج فهو من التواتر، ولا يعارضه خبر الآحاد. وقوله:"وركوب"، قال الشيخ عبد الباقي: لأنه فعله صلى الله عليه وسلم، ولما فيه من تضاعف النفقة، ولأنه أقرب للشكر في سائر المناسك حتى الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة. انتهى. قوله: في سائر المناسك لخ، فيه نظر إذ المشي عندنا في الطواف والسعي من الواجبات التي يجب الدم بتركها، وما ذكره من أن الركوب في الرمي أفضل خلاف ما ذكره هو عند قول المصنف:"ورميه العقبة" انظره. قاله الشيخ محمد

(1)

منسك ابن جماعة، ج 1 ص 32.

(2)

البيهقي، ج 4 ص 332.

(3)

الحاكم، ج 1 ص 461.

(4)

منسك ابن جماعة، ج 1 ص 34.

(5)

البخاري، كتاب الجهاد والسير، الحديث:2811.

(6)

الجامع الصغير، رقم الحديث:2279.

ص: 343

بن الحسن. (ومقتب) بوزن مكرم، اسم مفعول مخففا ومشددا كما في النهاية من أقتِبُ وقُتِّبَ. قاله الشيخ عبد الباقي. والمقتب هو الذي جعل له قتب بفتح القاف والتاء المثناة الفوقانية: رحل صغير على قدر سنام البعير؛ يعني أن الركوب على المقتب مفضل على الركوب على المحمل والمحفة والمحارة. ابن فرحون: والحج على المقتب أفضل من المحمل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكرهوا الهودج والمحامل إلا لعذر، وليست الرياسة وارتفاع المنزلة عذرا في ترك السنة. انتهى. وقد اتفق على ذلك جميع من استحب الركوب: وهذا لمن قدر على المقتب، وقد مر أنه إذا لم يستطع الوصول إلى مكة إلا بالمحمل وجب عليه، وكذا ما هو أعلى من المحمل كالكنيسة، وفي المدخل: ويركب في المحمل لعذر وإن كان بدعة؛ لأن الضرورات لها أحكام تخصها، وإنما كان بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوا ذلك، وأول من أحدثه الحجاج بن يوسف فركب الناس سنته، وكان العلماء في وقته ينكرونها ويكرهون الركوب فيها: وفي ذلك يقول الشاعر:

أول عبد عمل المحاملا

أخزاه ربي عاجلا وآجلا

والمحمل كمجلس، وقال طاووس: حج الأبرار على الرحال، وفي الخبر: (حج عليه الصلاة والسلام على رحل رث وقطيفة تساوى أربعة دراهم، ثم قال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة

(1)

). رواه ابن ماجه. وقال عبد الله بن عمر في رفقة يمانية رحالهم الأدم: من اختار أن ينظر إلى أشبه رفقة وردت الحج العام برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ قدموا في حجة الوداع فلينظر إلى هذه الرفقة

(2)

).

وتطوع وليه عنه بغيره؛ يعني أن ولي الشخص مُفَضَّلٌ تطوعه عنه بغير الحج على تطوعه عنه بالحج، سواء كان المتطوّع عنه حيا أو ميتا كما في الحطاب وغيره، وقوله:"وليه"، وكذا غير الولي من قريب أو أجنبي، ومثل لغير الحج بقوله: كصدقة ودعاء؛ يعني أن المفضل هو أن

(1)

ابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث:2890. ولفظه: تساوي أو لا تساوي. الخ.

(2)

السنن الكبرى للبيهقي، ج 4 ص 332.

ص: 344

يتطوع شخص عن آخر بما يقبل النيابة، وذلك مثل الصدقة والدعاء والهدي والعتق؛ لأنها تصل للميت من غير خلاف، فالمراد بالغير هنا غير مخصوص وهو ما يقبل النيابة كما ذكرت، لا ما لا يقبلها كصوم وصلاة وكذا القراءة على المذهب، وقد مر بعض الكلام على القراءة في فصل الجنائز. ومفهوم قوله:"بغيره"، أن تطوعه بالحج عنه مكروه وهو كذلك، قال فيها: ومن مات وهو صرورة ولم يوص أن يحج عنه أحد فأراد أن يتطوع بذلك عنه ولد أو والد أو زوجة أو أجنبي، فليتطوع عنه بغير هذا يهدي عنه، أو يتصدق أو يعتق. انتهى. وقوله: وهو صرورة، نبه به على أن غير الصرورة أولى بأن لا يحج عنه. قاله الحطاب. وقال ابن يونس: قال مالك: لا ينبغي أن يحج أحد عن صبي زمن أو غيره، ولا أن يتطوع به عن ميت صرورة كان أولا، وليتطوع عنه بغير ذلك أحب إلي يهدي عنه أو يتصدق أو يعتق. انتهى.

قال في التوضيح: وإنما كانت هذه الأشياء أولى لوصولها إلى الميت من غير خلاف بخلاف الحج، قال الشارح في الكبير: والدعاء جار مجرى الصدقة. انتهى. وقال ابن فرحون في شرح ابن الحاجب: لأن ثواب هذه الأشياء يصل إلى الميت، وثواب الحج هو للحجاج

(1)

)، وإنما للمحجوج عنه بركة الدعاء وثواب المساعدة والمباشرة بما تصرف من مال المحجوج عنه. انتهى.

وفي التوضيح: من العبادات ما لا يقبل النيابة بالإجماع كالإيمان بالله تعالى، ومنها ما يقبلها إجماعا كالدعاء والصدقة ورد الديون والودائع، واختلف في الصوم والحج، والمذهب أنهما لا يقبلان النيابة، وكذلك القراءة لا تصل على المذهب. حكاه القرافي في قواعده. والشيخ ابن أبي جمرة وهو المشهور من مذهب الشافعي. ومذهب أحمد وصول القراءة، ومذهب مالك كراهة القراءة على القبور لأنا مأمورون بالتفكر فيما قيل لهم وما لَقُوا، ونحن مكلفون بالتدبر في القرآن، فآل الأمر إلى إسقاط أحد العملين. انتهى.

وقال ابن فرحون: اختلف في الصوم والحج والمشهور أنهما لا يقبلان النيابة عن العاجز، وأما القادر فلا يقبلان النيابة عنه اتفاقا، فإن أوصى بالحج لا تنفذ وصيته على المشهور، وأما الصلاة فلا تقبل النيابة، وفي التقريب على التهذيب: وقال ابن عبد الحكم: يجوز أن يستأجر عن الميت

(1)

كذا في الأصل والذي في الحطاب ج 3 ص 356: للحاج.

ص: 345

من يصلي عنه ما فاته من الصلوات، وقال أبو الفرج البغدادي في الحاوي: لو صلى إنسان عن غيره بمعنى أنه يشركه في ثواب صلاته جاز ذلك ذكره في الحج، وأما الوصية بأن يقرأ على قبره بأجرة فتنفذ كالاستيجار على الحج، قال أبو عبد الله بن عات: وهو رأي شيوخنا بخلاف ما لو أوصت بمال لمن يصلي عنها أو يصوم فإن ذلك غير نافذ. والله أعلم. قاله الحطاب.

المازري: وأما الصوم فإنه لا تصح النيابة فيه مع الحياة، وأما مع الموت فعندنا أنه لا يصوم أحد عن أحد حيا كان أو ميتا، وقد ورد في الصحيح في الحديث المشهور: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه

(1)

). والمخالف أخذ بهذا على حسب ما ذكرناه في كتابنا العلم، وبه أخذ الشافعي في أحد قوليه. انتهى. قاله الحطاب.

وفيه بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أن الصلاة لا تقبل النيابة على المعروف من المذهب، خلافا لما ذكره صاحب التقريب عن ابن عبد الحكم وأبو الفرج في الحاوي، وكذلك الصيام على المذهب فلا تنفذ الوصية بالاستيجار عليهما ولا أعلم في ذلك خلافا، بخلاف الحج فتنفذ الوصية به على المشهور، وكذا الاستيجار على القراءة على القبر تنفذ الوصية بذلك على المشهور. انتهى. تنبيهات: الأول: قوله: "وتطوع وليه عنه بغيره"، قال في الطراز: وكما يكره عن الميت فهو عن الحي أشد ويصح عن الميت وإن لم يستنبه، وكذا عندنا في الحي إن وقع ولا يكون في الفرض بوجه. انتهى. وقال قبله: والكلام هنا إنما هو في الكراهة، والجواز وإن أحرم عن الميت حَكَمَ الجميع بانعقاد إحرامه. انتهى. قاله الحطاب.

الثاني: أجاز بعض المتأخرين كالسبكي والمازري وبعض المتقدمين من الحنابلة كابن عقيل تبعا لعلي بن الموفق -وكان في طبقة الجنيد- وكأبي العباس محمد بن إسحاق السراج من المتقدمين إهداء ثواب القرآن له صلى الله عليه وسلم الذي هو تحصيل الحاصل، وقال الزركشي من الشافعية: كان بعض من أدركناه يمنع منه لما فيه من التجرؤ على الجناب الرفيع، واختلفوا في جواز الدعاء له بالرحمة وإن كانت معنى الصلاة لما في الصلاة من معنى التعظيم بخلاف الرحمة المجردة، وكان الشيخ تاج الدين القرافي يمنع منه. انتهى. وذكر ابن اللجام الحنبلي في

(1)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1952. مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1147.

ص: 346

اختيارات ابن تيمية أن إهداء القرب له صلى الله عليه وسلم وهي أعم من القرآن وغيره لا يستحب بل هو بدعة، وأنه الصواب المقطوع به. انتهى.

وفي الحديث الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). وقال الشيخ علاء الدين بن العطار تلميذ النووي رحمهما الله تعالى: أما قراءة القرآن العزيز فهي من أفضل القربات، وأما إهداؤه له صلى الله عليه وسلم فلم ينقل فيه أثر لمن يعتد به. بل ينبغي أن يمنع منه، وجميع أعمال أمته صلى الله عليه وسلم في ميزانه، وقد أشار إلى ذلك الأديب البوصيري بقوله:

والمرء في ميزانه أتباعه

فاقدر إذا قدر النبي محمد

ومع ذلك فقد أمرنا الله تعالى بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بسؤال الوسيلة له والسؤال بجاهه فينبغي أن يوقف مع ذلك على أن هدية الأدنى للأعلى لا تكون إلا بإذن، وقال شمس الدين تلميذ شيخنا قاضي القضاة ابن حجر: إنه سئل عمن قرأ شيئا من القرآن، وقال في دعائه: اللهم اجعل ثواب ما قرأته زيادة شرف لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب: هذا مخترع من متأخري القراء لا أعلم لهم سلفا وقال الشيخ زين الدين عبد الرحمن: وقع السؤال عن جواز إهداء القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والجواب: أن ذلك شيء لم يُرْوَ عن السلف فعله ونحن بهم نقتدي، وبذلك نهتدي، وأجاب بعضهم بجوازه بل باستحبابه قياسا على ما كان يهدى إليه في حياته من الدنيا، وكما طلب الدعاء من عمر

(1)

)، وحث الأمة على الدعاء بالوسيلة عند الأذان وعلى الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وإن لم تفعل ذلك فقد اتبعت وإن فعلت فقد قيل به. انتهى. والمشهور من مذهب الشافعي أن ثواب القراءة لا يصل إلى الميت وهو محمول على ما إذا نوى القارئ بقراءته أن تكون عن الميت، أما النفع فينتفع الميت

(1)

عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر قال: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي وقال: لا تنسنا يا أخى من دعائك فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا. قال شعبة ثم لقيت عاصما بعد بالمدينة فحدثنيه فقد: اشركنا يا أخي في دعائك. أبو داود، كتب الوتر، الحديث:1498.

ص: 347

بأن يدعو له عقبها أو يسأل جعل أجره له أو يطلق على المختار عند النووي وغيره لنزول الرحمة على القارئ، ولهذا صحت الإجارة على القراءة عند القبر لحصول النفع به. قاله الحطاب.

الثالث: قال الشيخ محمد بن الحسن: نقل الحطاب هنا ما للعلماء من الخلاف في جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم أو شيء من القرب، قال: وجلهم أجاب بالمنع لأنه لم يرد فيه أثر، وقد اعترضه الشيخ بن زكري بحديث كعب بن عجرة كما في المواهب وغيرها، قلت: (يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قلت: النصف؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل صلاتي كلها لك؟ قال: إذًا تُكفَى همَّك ويغفر ذنبك

(1)

). انتهى.

الرابع: قال العميري شارح العمليات: اعلم أن القربات على ثلاثة أقسام: قِسْمٌ اتفق الناس على أن الله تعالى حجر في ثوابه ولم يجعل لهم نقله لغيرهم كالإيمان بالله تعالى، فلو أراد أحد أن يهب لكافر مثلا ثواب إيمانه ليدخل الجنة لم يكن له ذلك شرعا وإن لم يمتنع عقلا، وأما هبة نفس الإيمان الحاصل لشخص لآخر فلا تتوهم لوضوح استحالة نقله أو قيامه بمحلين مع وحدته عقلا وكالصلاة عند بعضهم، وقيل لا إجماع فيها، وَقِسْمٌ اتفقوا على أنه تعالى أذن في نقل ثوابه وهو القربات المالية كالصدقة والعتق، وَقِسْمٌ اختلفوا فيه هل فيه حجر أم لا كالصيام والحج وقراءة القرآن. فقيل: لا يصل ثواب شيء من ذلك لمن أهدي له وهو قول مالك وجماعة من الأيمة، وقيل: يصل وهو قول أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء، وقال به غير واحد من المالكية في القراءة فقط. وحجة القول الأول القياس على الصلاة ونحوها مما هو فعل بدني، والأصل في الأفعال البدنية أن لا ينوب فيها أحد عن أحد، وحجة الثاني القياس على الدعاء المجمع على وصوله: فإذا وقع الإجماع على أن الدعاء يصل فكذلك ما ذكر إني الكل عمل بدني، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: صل لهما مع صلاتك وصم لهما مع صيامك؛ يعني أبويه، وقوله أيضا: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه

(2)

)، وأجيب بأن القياس على الدعاء لا يستقيم، فإن الدعاء

(1)

الترمذي، كتاب صفة القيامة، الحديث:2457.

(2)

البخاري، كتاب الصوم، الحديث:1952. مسلم، كتاب الصيام، الحديث: 1147.

ص: 348

فيه أمران؛ أحدهما مُتَعَلَّقَه الذي هو مدلوله نحو المغفرة في قولك: اللهم اغفر له، والآخر ثوابه فالأول هو الذي يرجى إذله طلب لا للداعي وإن ورد في الحديث: (أن الملك يقول للداعي لأخيه المؤمن ولك مثله

(1)

)؛ أي مثل ما دعوت به له، والثاني وهو الثواب على الدعاء هو للداعي فقط وليس للمدعو له من الثواب شيء، وبأن الحديثين المذكورين مع احتمالهما للتأويل معارضان بظاهر قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} ، وبقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آادم انقطع عمله إلا من ثلاث، علم ينتفع به وصدقة جارية وولد صالح يدعو له

(2)

)، قال أيمتنا: وهذه المسألة وإن كان مختلفا فيها ينبغي للإنسان أن لا يهملها، فلعل الحق فيها هو الوصول وهذا أمر مغيب عنا، وليس الخلاف فيها حكما شرعيا إنما هو في الواقع في نفس الأمر، هل هو الوصول أو عدمه؟ وكذلك التهليل المسمى في العرف فدية ينبغي أن يعمل ولو لم يصح فيه حديث عنه عليه الصلاة والسلام، ويعتمد في ذلك على رجاء الله تعالى وما يؤثر عن غير واحد من صلحاء الأمة من فعله والحض عليه، وفضل الله تعالى يلتمس بكل سبب ممكن، ومنه تعالى الجود والإحسان، قال شيخ شيوخنا العارف أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الفاسي فيما وجدته بخطه: وفدية الهيللة ينبغي العمل بها والعمدة فيها الكشف وإن لم يثبت فيها الحديث، ثم اللائق عدم تكييف الانتفاع بذلك بل يوكل علم ذلك إلى الله تعالى وذلك هو الشأن في أمور الآخرة.

وفي المعيار: وأما القراءة فنص ابن رشد في الأجوبة، وابن العربي في أحكام القرآن، والقرطبي في التذكرة على أن الميت ينتفع بالقراءة سواء قرأ القارئ على القبر أو قرأ في البيت أو في بلد غير الذي الميتُ فيه وأهدى الثواب له، ومن الفقهاء من يقول: إذا قرئ عند القبر حصل للميت أجر المستمع وهذا لا يصح لانعقاد الإجماع على أن الثواب يتبع الأمر والنهي والموتى انقطعت عنهم الأوامر والنواهي، والذي يتجه القول بأنه لا يقع خلاف في أنهم تحصل لهم بركة القراءة لا ثوابها كما تحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده، فإن البركة لا تتوقف على شيء حتى إن البهيمة لتحصك لها بركة راكبها أو لا مسها كما هو معروف في معجزاته

(1)

مسلم، كتاب الذكر والدعاء، الحديث:2733.

(2)

إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له. مسلم، كتاب الوصية، الحديث:1631.

ص: 349

صلى الله عليه وسلم وكراماته، والاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان؛ لأنه أجمع العلماء كما تقدم على أن الدعاء للأموات ينفعهم، وَسُئِلَ المواق عمن أوقف حبسا على قبر أن يقرأ عليه، هل يجوز للقارئ أن يقرأ في موضع من المواضع غير موضع القبر كداره ويرسل لصاحب القبر أولا؟ فَأَجَابَ بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة

(1)

)، ورحمة الله إذا نزلت شملت وعمت، فالمراد من القراءة أن تنزل الرحمة بالموضع فليست القراءة بالدار كالقراءة على القبر، ولا ينبغي أن يعطى الحبس إلا من يقوم بشرطه. انتهى.

ولما أشعر قول المصنف: "وتطوع وليه عنه بغيره"، بصحة الاستيجار في الحج، ذكر أنواعه الأربعة وهي: إجارة ضمان مضمونة بذمة الأجير أو بعينه، وبلاغ، وجعالة، وفي كل إما في أي سنة وإما معينة، فأشار إلى ذلك بقوله: وإجارة ضمان على بلاغ؛ يعني أن الاستيجار للحج على وجه الضمان مفضل على الاستيجار على وجه البلاغ، وإيضاح هذا أن استيجارك لمن يحج عنك استيجار ضمان أفضل من استيجارك لمن يحج عنك استيجار بلاغ، وإجارة الضمان هي الإجارة بقدر معين على وجه اللزوم، سواء كانت في الذمة مثل من يأخذ كذا في حجة ويقوم وارثه مقامه إن شاء وليس بلازم له، أو في عين الأجير مثل استأجرك على أن تحج عني ويلزمه الحج بنفسه. وإن قال بنفسك كان تأكيدا، وإجارة البلاغ على قسمين بلاغ مالي وبلاغ عملي، ومعنى إجارة البلاغ المالي أن يعطيه ما ينفقه في ذهابه إلى الحج وإيابه، وتكون تلك النفقة بالعرف، ومعنى إجارة البلاغ العملي أن تجاعله على إتمام الحج، قال الشيخ عبد الباقي ومعنى تفضيل الضمان على البلاغ أنها أحوط للمستأجر لوجوب محاسبة الأجير فيها إن لم يتم لِصَدٍّ أو موت، لا أنها أكثر ثوابا إذ كل منهما لا ثواب فيه فإنه مكروه.

وعلم مما مر أن إجارة الضمان ما تقع بقدر معين على وجه اللزوم، سواء كانت في الذمة كمن يأخذ كذا في حجة أو من يضمن لي حجة بكذا، أو لم يعين لفعلها أحدا أو عين الأجير

(1)

مسلم، كتاب الذكر والدعاء، الحديث:2696. ولفظه: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة .. الخ.

ص: 350

كاستأجرتك لتحج أنت عني وإن زاد بنفسك كان تأكيدا. قاله سند. وسواء عين السنة فيهما أو أطلق. وقوله: على بلاغ؛ أي بقسميها؛ أي كانت بلاغ جعل بأن يجاعله على إتمامه، ومعنى ذلك أن لا يلزم الأجير نفسه شيئا، ولكن إن حج عنه كان له من الأجر كذا، أو بلاغ ثمن وهو إعطاء ما ينفقه بدءا وعودا فالعرف كما يأتي. وقوله: وإجارة ضمان على بلاغ، استشكله ابن عاشر بأن الموصي إذا عين أحدهما وجب وإن لم يعين تعين الضمان، بدليل قوله: وتعينت في الإطلاق فما محل التفضيل؟ والجَوَابُ أنه إذا أراد الموصي أن يعين ينبغي له إجارة الضمان، وكذا إن خيرهم أو أراد الحي أن يستأجر لنفسه، وتقدم قول عبد الباقي: لوجوب محاسبة الأجير فيها إلى آخره، ومثله في التوضيح وابن عرفة إذ قال: محمد وأحب إلينا أن يؤاجره بمسمى؛ لأنه إن مات قبل أن يبلغ كان ضامنا لذلك.

محمد: يريد ضامنا للمال يحاسب بما سار ويؤخذ من تركته ما بقي، وهذا أحوط من البلاغ.

انتهى. ووجه الفرق أنه ضامن لما يبقى بالحساب يؤخذ من تركته، بخلاف البلاغ فإنه إن مات وإن كان يرجع عليه بما زاد على ما أنفق لكن ليس في ذمته بل إذا ضاع لا يضمنه. قاله الشيخ محمد بن الحسن. ووجه تسمية القسمين الأولين بالضمان أن الأجير لزمه الحج بذلك العوض دون زيادة عليه ولا رد منه.

سند: اتفق مالك والأيمة على الأرزاق في الحج، وأما الإجارة بأجرة معلومة فقال بها مالك والشافعي، ومنعها أبو حنيفة وابن حنبل. انتهى. والرزق هوأن ينظر إلى قدر كفايته فيدفعه إليه وذلك يزيد وينقص لكثرة عياله وقلتهم، وأما الأجرة فهي شيء مقدر قصر عن كفايته أو زاد. انتهى. قاله الحطاب. وأما الاستيجار بالنفقة فمنعه الشافعي وزعم أنها أجرة مجهولة. فالمضمونة كغيره، الضمير يرجع للحج؛ يعني أن الإجارة المضمونة في الحج كالإجارة المضمونة في غيره في اللزرم بالعقد، وفي كون الأجرة للأجير ونقصانها عليه، وفي الصفة وهي. العقد على مال معلوم يملكه ويتصرف فيه بما شاء، وفي عدم جواز شرط تعجيل الأجرة إذا تعلقت بمعين وتأخر شروعه، وجواز التقديم إن تعلقت بالذمة ولو تأخر الشروع سنين. قاله سند.

ص: 351

وسيذكر المصنف في باب الإجارة أنه لا بد من تعجيل الأجرة أو الشروع، بقوله:"أو في مضمونة لم يشرع فيها إلا كري حج فاليسير"، ويحتمل أن الضمير في غيره يعود على المضمونة، وذكَّره باعتبار النوع أي فالكراء المضمون كغيره مما ليس بمضمون بلاغ أو جعل في الاستواء في الكراهة، ويؤيده ما في بعض النسخ كغيرها بهاء التأنيث، ومعنى ذلك على جهة التوضيح أن إجارة الضمان وإن قلنا إنها أفضل من إجارة البلاغ فهي مثلها في الكراهة، وفي النوادر بعد أن ذكر أن إجارة البلاغ وإجارة الضمان سواء في الكراهة: وأحب إلينا أن يؤاجر الإنسان نفسه بشيء مسمى. انتهى المراد منه.

وعلم مما مر أن الإجارة في الضمان لازمة، فليس لأحدهما الفسخ بعد العقد، قال ابن القاسم: فإن واجر نفسه ثم أراد نقض الإجارة لما بلغة أن لا يحج أحد عن أحد لم يكن ذلك له، قاله الحطاب.

وتعينت في الإطلاق؛ الضمير في تعينت يعود على إجارة الضمان؛ يعني أن الموصي بالحج إذا أطلق في وصيته بأن قال: حجوا عني، ولم يعين صفة ما يعقد عليه من ضمان أو بلاغ فإنه لا يستأجر عنه الناظر بلاغا، وإنما يستأجر من يحج عنه إجارة ضمان، فإجارة الضمان هي المتعينة على الناظر لما في إجارة البلاغ من التغرير برب المال، ولا يفسر المصنف بأن الموصي إذا عقد الإجارة ولم يبين في عقدها، هل هي ضمان أو بلاغ؟ فإنه تتعين إجارة الضمان لأن هذا ليس بصحيح، فإنه لا بد من بيان عقد الإجارة، ومن بيان الأجرة ما هي، هل النفقة أو شيء مسمى؟ كما قاله الحطاب. والله سبحانه أعلم.

وقد تقدم أن المضمونة نوعان: نوع في عين الأجير، ونوع في ذمته، فإن عين الموصي أحدهما تعين، وإن لم يعين فالأحوط أن يدفع على الحج مضمونا في الذمة كما يفهم من كلام المتيطي، ونقل عن بعض قضاة قرطبة أنه كان لا يدفع المال إلا على أنها مضمونة وإن أوصى الميت في عين الأجير، وأن ابن زَرَبٍ قال به. فتأمله -والله أعلم- قاله الحطاب.

كميقات الميت، تشبيه في المتعين عند الإطلاق؛ يعني أن من استوجر على أن يحج عن ميت من بلد ذلك الميت، يتعين عليه أن يحرم من ميقات الميت وإن لم يشترط عليه ذلك في العقد، يريد

ص: 352

وكذلك لو استوجر على أن يحج عن الميت من بلد غير بلد الميت، فإنه يتعين عليه الإحرام من ميقات ذلك البلد. قاله الحطاب. فقوله:"كميقات الميت"؛ أي أنه يتعين على الأجير أن يحرم من ميقات الميت عند الإطلاق بأن لم يعين موضعا يحرم منه، فالتشبيه في أنه يتعين ميقات الميت عند الإطلاق. وقال عبد الباقي عند قوله "كميقات الميت": سواء كانت الإجارة أو الوصية ببلد الميت أو بغيره، هذا هو المرتضى كما يفيده التتائي والمواق والشيخ سالم: إذا لم يعين له ميقاتا بل أطلق فإنه يتعين ميقات بلد الميت، خلافا لقول الحطاب: يُحرِم من ميقات بلد الميت إن لم تقع الإجارة في غيره، وإلا أحرم من ميقات البلد الذي وقعت فيه الإجارة. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: ما قاله الحطاب من اعتبار ميقات بلد العقد هو قول أشهب، واستحسنه اللخمي وصاحب الطراز وهو أقوى. انتهى.

قال عبد الباقي: ومفهوم الميت أن ميقات المستأجر الحي لا يجب الإحرام منه وهو كذلك، وإنما يستحب. قاله الحطاب. انتهى. قال الشيخ محمد بن الحسن: ما نسبه للحطاب ليس هو فيه فانظره. انتهى. وسيأتي البحث مع بناني قريبا إن شاء الله تعالى.

وفي الحطاب بعد جلب نقول: فلو قال المصنف: كميقات محل العقد، كان أبين. انتهى. وفي النوادر: ومن كتاب ابن المواز، قال مالك في رجل أراد أن يحج عن رجل: فليحرم من ميقات الرجل أحب إلي، وإن أحرم من مكة أجزأه. قاله الحطاب. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: والظاهر أن هذا هو الذي نسبه عبد الباقي للحطاب، وبه يعلم ما في كلام بناني. والله سبحانه أعلم.

وقد علمت أن التشبيه في قوله: "كميقات الميت"، في أنه يتعين على الأجير الإحرام من ميقات الميت عند الإطلاق، فلو لم يطلق بأن عيَّن له ميقاتا فإنه يتعين الإحرام منه كما يأتي. والله سبحانه أعلم. وله بالحساب إن مات؛ يعني أن أجير الضمان إذا كان معينا ومات أثناء العمل قبل الإحرام أو بعده فإنه يكون له أي لورثته من الأجرة بحسب ما سار، والنظر إلى ما سار وما بقي بحسب السهولة والصعوبة والأمن والخوف، لا بحسب المسافة، فقد يكون ربعها يساوي نصف الكراء لصعوبته مثلا، فإذا كان الحج من موضع خروجه بعشرة ومن موضع موته بثمانية،

ص: 353

فيرد أربعة أخماس الأجرة إن كان قبضها، وكذا الحكم فيما إذا صُدَّ كما سيذكره قريبا، وأما إذا كان العقد متعلقا بذمة الأجير ومات فإنه لا يرجع للحساب بل تؤخذ الحجة من تركته بالغة ما بلغت، وفي كلام عبد الباقي نظر حيث عمم المصنف في المعين وغيره، وإنما هو خاص بما إذا تعلق العقد بعين الأجير. كما قاله محمد بن الحسن عن الحطاب. قال: ونصه وأما إذا كان الحج مضمونا بذمته، فسيأتي أنه إذا مات يقوم وارثه مقامه، فإن أبى أخذ من تركة الميت أجرة حجة. قاله المتيطي. وسند. انتهى. ونصه فيما يأتي عن سند، قال ابن القاسم في الموازية: ومن دفع إلى رجل عرضا أو جارية على أن يكون عليه حجة عن فلان فمات الذي عليه الحج، فذلك في ماله حجة لازمة تَبْلُغُ مَا بَلَغَتْ لا يَلْزَمُهُ غير ذلك بمنزلة سلعة من السلع. وقاله أصبغ.

وَاعْلَم أن الأجير إذا كان معينا ومات في أثناء العمل رجع للحساب، قام وارثه مقامه أم لا، وإن كان العقد متعلقا بذمته، فإن قام وارثه مقامه أخذ جميع الأجرة، وإن لم يقم وارثه مقامه أخذت من تركته أجرة حجة بالغة ما بلغت. قاله محمد بن الحسن. ولو بمكة؛ يعني أن الأجير المعين إذا مات في أثناء العمل، له -أي لورثته- من الأجرة بحسب ما فات من العمل، فينظر له ولما بقي، ولا فرق في ذلك بين أن يموت بعد أن بلغ مكة وبين أن يموت قبل أن يبلغها، ورد المصنف بلو على ابن حبيب القائل: إذا مات الأجير بعد دخول مكة يكون له الأجر كاملا، وما مشى عليه المصنف هو المشهور في المذهب، وَضُعِّفَ قول ابن حبيب. وقوله:"وله بالحساب"، فإن كان الأجير لم يأخذ من الأجرة شيئا، فلورثته أن يأخذوا بحساب ما سار، وإن كان قد قبض جميع الأجرة فله منها بحساب ما سار، وما فضل عن ذلك يرجع به في تركته ويؤخذ منها، سواء كانت الأجرة باقية بعينها أو تلفت، وسواء كان تلفها بسببه أو بغير سببه. هذا حكم ما إذا مات الأجير في الضمان معينا أم لا، وأما الأجير في البلاغ فله بقدر ما أنفق، وليس له في الجعالة شيء. والله أعلم. قاله الحطاب.

أو صد، عطف على قوله:"إن مات"؛ يعني أن الأجير على الحج إذا صد عن الحج لمرض أو عدو فإن الحكم في ذلك كحكم الموت؛ أي فله بالحساب، وقوله:"أو صد"، سواء كان العقد متعلقا بعينه أو بذمته، وقوله:"أو صد"، ومثله خطأ العدد إلا أن له البقاء في الصد لمرض أو

ص: 354

عدو، كما أفاده بقوله: وله البقاء لقابل؛ يعني أن من استؤجر على الحج لعام غير معين وصد عنه في أثناء الطريق حتى خشي فوات الحج في ذلك العام وشق صبره لزوال الصد، له البقاء على عقد الإجارة إلى العام القابل أي فالخيار له دون مستأجره، فإن لم يخش فوات الحج فيه أو لم يشق صبره تعين البقاء إلا أن يتراضيا على الفسخ، وإن كان العام معينا ففيه تفصيل، فإن خشي الفوات فله البقاء إن رضي المستأجر به، وإن لم يخش الفوات تعين البقاء.

وبما قررت علم أن قوله: "والبقاء لقابل"، راجع لقوله:"صد"، ولا يرجع لقوله:"إن مات". انظر شرح الشيخ إبراهيم، وشرح الشيخ عبد الباقي. وقوله:"والبقاء لقابل"، سواء أحرم قبل الصد أو بعده، تحلل بعد إحرامه أم لا، هذا ما يفيده التتائي في كبيره، وقوله في صغيره: والبقاء على إحرامه، يوهم أنه قبل الإحرام ليس فيه هذا الحكم وليس كذلك، وقوله:"والبقاء لقابل"، قال محمد بن الحسن: الظاهر أن هذا غير مختص بالمضمونة، خلافا لمصطفى لما في مناسك المصنف من أن له البقاء لقابل في البلاغ أيضا، وقيده الحطاب نقلا عن سند بما إذا كان العام غير معين لكن لا نفقة له في مقامه بمكة حتى يأتيه الوقت الذي يمكنه فيه التحلل من العام الأول، وأما إذا كان العام معينا فلا نفقة له بعد وقت إمكان التحلل أصلا. انتهى. وأما إن أخذ على الجعالة ثم أحصر، فإن أقام إلى قابل فهو على عقده، وإن كان العام معينا على ما مشى عليه المصنف من الجواز وهو اختيار ابن أبي زيد. انتهى.

وقال الإمام الحطاب: واعلم أن الأجير إذا صد فلا يخلو إما أن يكون بأجرة معلومة أو على البلاغ أو على الجعالة، فإن كان بأجرة معلومة فلا يخلو أيضا أن يستأجر ليحج في عام معين أو لم يعين العام، فإن لم يعين العام فله فسخ الإجارة للعذر سواء أحرم أو لم يحرم، وله بحساب ما سار وله البقاء إلى قابل، ويتحلل ثم يقضيه والأجرة في ذلك هي المسمى لا تزيد ولا تنقص، وإن كانت العام معينا فله الفسخ إذا خشي الفوات، سواء أحرم أيضا أو لم يحرم، وله من الأجرة بقدر ما عمل؛ فإن فاته الحج لم يكن له شيء فيما فعله بعد ذلك، أقام على إحرامه أو تحلل بعمرة ثم قضاه، وهو أحد قولين ذكرهما ابن الحاجب بقوله: فلو أراد ابقاء إجارته إلى العام الثاني محرما أو متحللا فقولان -انتهى- بالمنع والجواز، واختار ابن أبي زيد الجواز، وعليه مشى المصنف

ص: 355

فأطلق في قوله: "والبقاء لقابل"، ولم يقيده بكون العام غير معين، إلا أنه إذا كان العام غير معين كان الخيار للأجير، وإن عين لم يكن له البقاء إلا باتفاقه مع الآجر، ومن طلب منهما الفسخ قضي له به، وأما في إجارة البلاغ فله النفقة إلى المكان الذي صد فيه وله النفقة في رجوعه منه، فإن حصر بعد ما أحرم واستمر على إحرامه بعد الحصر وإمكان التحلل، قال سند: فلا نفقة له في ذلك بعد إمكان التحلل الأنهم لم يرضوا بذلكَ، ولا اقتضاه العقد ولا يوجبه، لكن إن حج من عامة كانت الأجرة على ما اتفقوا عليه وإن بقي حتى فاته الحج، وقد كان أحرم وسار إلى البيت وقد زال الحصر ليتحلل بالعمرة فلا نفقة له في ذلك، فإن تحلل وبقي بمكة حتى حج من قابل أو بقي على إحرامه إلى قابل فلا شيء له إن كانت الإجارة على عامة الأول بعينه، وإن كانت على مطلق الحج من غير تعيين عام بعينه فهذا يسقط من نفقته من يوم أمكنه أن يتحلل، فإن سار إلى مكة بنية البقاء إلى قابل فله نفقة سيره ولا نفقة له في مقامه بمكة حتى يأتي الوقت الذي أمكنه فيه التحلل، ويذهب بعد ذلك قدر ما سار فيه إلى مكة فيكون له النفقة فيما بعد ذلك، فإن سار إلى مكة بنية أنه يتحلل فلا نفقة له في سيرة؛ لأنه إنما سار لمنفعة نفسه لما أخر تحلله عن موضع الحصر، فإذا كان من قابل خرج إلى الموضع الذي تحلل منه بالعمرة وهو الموضع الذي حصر فيه، فيحرم منه بالحج، والأحسن أن يحرم من الميقات إن كان أبعد مند، ونفقته فيما زاد على الموضع الذي حصر فيه إلى الميقات في ماله لأنها زيادة خارجة عن العقد، وإنما وقعت بحكم العبادة لا بحكم الإجارة، وأما من أخذ المال على الجعالة ثم أحصر فإن تحلل فلا شيء له، فإن تمادى وحج من عامة فله جعله، وإن أقام إلى قابل ولم يشترط عليه حج عامة فهو على عقده، وإن شرط عليه فقد سقط العقد. قاله في الطراز. والله أعلم. قاله الحطاب.

وعلى القول الذي مشى عليه المصنف واختاره ابن أبي زيد ينبغي أن يجزئه. والله أعلم. انتهى. واستؤجر من الانتهاء؛ يعني أن الأجير إذا مات قبل إكمال حجة أو صد، فإن وصِيّ الميت أو ورثته يستأجرون من يحج عن الميت من الموضع الذي وصل إليه الأجير الأول، ولا يلزمهم أن يستأجروا من يحج عن الميت من أول المسافة. والله أعلم. ونص غير واحد على أن كلام المصنف عام في إجارة الضمان والبلاغ، وقوله: واستؤجر من الانتهاء؛ يعني ولو لم يبق إلا طواف

ص: 356

الإفاضة. واعلم أنه لا يتعين على الورثة الاستيجار على الحج عن الميت الموصي إلا إذا كان لم يعين العام مطلقا، أو كان عينه ووقع الصد، ونحوه قبل الوقوف حيث كان يمكنه إعادته في عامة وإلا فلا استيجار. قاله محمد بن الحسن. وقال عبد الباقي: وإذا مات الأجير الأول أو صد بعد الوقوف وكان العام معينا فسخت الإجارة فيما بقي ورد حصته.

ولا يجوز اشتراط كهدي تمتع عليه، الضمير في "عليه"، يرجع على من يجب عليه الهدي من أجير أو مستأجر؛ يعني أن الأجير إذا استوجر على أن يحج متمتعا أو قارنا، فإن دم التمتع أو القران على الذي استأجره، ولا يجوز أن يشترط الهدي على الأجير لأنه في حكم مبيع مجهول صفته ضم إلى الإجارة؛ لأنه بإذن المستأجر للأجير في التمتع أو القران يجب الهدي على المستأجر المحجوج عند، وكذا يجب الهدي على الأجير إن تمتع أو قرن بغير إذن المستأجر بكسر الجيم ولا يجوز اشتراطه حينئذ على المستأجر. وعلم من التعليل السابق أنه إن انتفى الجهل جاز الاشتراط، ففي الحطاب عن سند: فلو شرط على الأجير دم التمتع وشبهه فَهَدْيٌ في حكم مبيع ضم إلى الإجارة لم تنضبط صفته وأجله، فإن ضبط جاز ذلك على المشهور من جواز اجتماع البيع والإجارة، وفي كلام الشارح إشارة إلى ذلك، فإنه قال: إنما امتنع ذلك لأن الهدي مجهول الجنس والصفة عند الإطلاق، وذلك يؤدي إلى الجهل في الإجارة، وأما جزاء الصيد وفدية الأذى فإن ذلك على الأجير اشتُرط أولا، تعمد سببه أولا إذا كانت الإجارة مضمونة، وإن كانت على البلاغ فإن تعمد سببه كان عليه، وإن لم يتعمده يكون في المال.

وفي المدونة: ومن حج عن ميت فترك من المناسك شيئا يجب عليه فيه الدم، فإن كانت الحجة لو كانت عن نفسه أجزأت فهي تجزئ عن الميت، وكل ما لم يتعمده من ذلك أو فعله لضرورة فوجب عليه هدي أو أغمي عليه أيام منى، أو أصابه أذى فلزمته فدية كانت الفدية والهدي في مال الميت، وهذا كله في البلاغ، وما وجب عليه من ذلك لتعمده فهو في ماله، وأما إن أخذ المال على الإجارة فكل ما لزمه بخطإ أو تعمد فهو في ماله. انتهى. وفي كلام المدونة هذا فائدة؛ وهي أنه إذا حصل في حج النائب نقص يوجب الهدي لا يضر ذلك في إجزاء الحج، ويستثنى من هذا مسألة وهي ما إذا جاوز الميقات، فقد ذكر صاحب الطراز في الإجزاء خلافا. وصح إن لم يعين

ص: 357

العام؛ يعني أن الإجارة يصح عقدها وإن لم يعين في العقد العام الذي يحج فيه الأجير، وقيل: لا تصح الإجارة إذا لم يعين للجهالة. قاله ابن العطار. قال في التوضيح: والأول أظهر كما في لسائر عقود الإجارة إذا وقعت مطلقة، فإنها تصح وتحمل على أقرب زمن يمكن وقوع الفعل فيه. ابن شأس: والقولان للمتأخرين. انتهى. وقد خطأ التادلي قول ابن العطار، وإذا صحت الإجارة مع عدم تعيين العام الذي يحج فيه الأجير فإنه يتعين عليه أن يحج في أول عام يمكنه الحج فيه، فإن لم يحج في أول سنة لزمه أن يحج فيما بعدها. قاله في البيان. ونقله في التوضيح. قاله الحطاب.

وإلى هذا أشار المصنف بقوله: وتعين الأول؛ يعني أنه إذا قلنا إن الإجارة تصح حيث لم يعين العام الذي يحج فيه الأجير فإنه يتعين للحج أولُ عام، فإن لم يفعل فيه أثم إن تعمد التأخير، ولزمه فيما بعده، وبتعين العام الأول تنتفي الجهالة التي قالها ابن العطار، وهذا يدل على أن تعين العام حُكْمًا كما هنا لا يتنزل منزلة تعيُّنه بالنص، ولو كان بمنزلته لفسخ العقد كما يأتي في قوله:"وفسخت إن عين العام" لخ. قاله محمد بن الحسن. وعلى عام مطلق، قرره البساطي بأن معناه: وصح العقد على عام مطلق أي على أن يحج عنه في أي عام شاء، وهذه غير مكررة مع قوله: وصح إن لم يعين العام؛ لأن معناه إذا قال حج عني ولم يقيد بعام ولم يطلق فيحمل على أول سنة، وهذه مقيدة بالإطلاق كحج عني متى شئت، وبهذا أيضا قرره الحطاب، وقرره الشارح وغيره على أن معناه: وفضل عام معين على عام مطلق؛ أي لأنه أحوط من المطلق لاحتمال موت الأجير، ونفادِ المال من يده، وعدم وجود تركة له، وحينئذ فهو معطوف على قوله:"على غزو"، مع تقدير معطوف قبله؛ وهو عام معين؛ أي وعام معين على عام مطلق، وفيه عطف الواو شيئين على معمولي عامل واحد وهو سائغ، واستبعد البساطي هذا التقدير، وعلى الأول فهو عطف على معنى إن لم يعين العام، أو متعلق بصح مقدرة بعد الواو. والله سبحانه أعلم.

وعلى الجعالة، عطف على ما فيه الصحة؛ يعني أنه يصح العقد على الجعالة بأن يجاعله على إتمام الحج، ومعنى ذلك أن الأجير لا يلزم نفسه شيئا، ولكن إن حج كان له من الأجر كذا، وقد مر أن هذا داخل في البلاغ لأن البلاغ على قسمين، بلاغ مالي وبلاغ عملي: والبلاغ العملي هو أن

ص: 358

يجاعله على إتمام الحج، بمعنى أن الأجير لا يلزم نفسه شيئا ولكن إن حج كان له من الأجر كذا، وليس هذا قسما زائدا على الأربعة المتقدمة كما مر التنبيه عليه.

وبما قررت علم أن معنى الجعالة أن يستأجرة على أنه إن وفى بالحج كان له جميع ما دخلا عليه من الأجرة، وإن لم يوف أو مات قبل الإكمال استرجع منه الجميع، ولا يترك له شيء في مقابلة عمله، قال في المتيطية: ولا يجوز دفع الجعل بشرط للمجعول له، ويجوز تطوعا. قاله الخرشي، ونحوه في الحطاب، قال: وهذا جار على حكم الجعل. والله سبحانه أعلم.

وحج على ما فهم؛ يعني أن أجير الضمان أو البلاغ يجب عليه أن يحج على ما فهم من حال الموصي من ركوب محمل ومقتب وجمال وغيرها، وإن لم تكن قرينة بشيء فينبغي أن لا يركب إلا ما كان يركب المستأجر. قاله غير واحد. وقال الحطاب: هذه المسألة ذكرها في السليمانية، ولفظها على ما في تبصرة اللخمي قال: لا ينبغي لمن أخذ الحجة أن يركب من الجمال والدواب إلا ما كان الميت يركب مثله لأنه كذلك أراد أن يوصِيَ. انتهى. وجنى إن وفى دينه ومشى؛ يعني أن الأجير في الحج إذا قضى دينه بالأجرة التي أخذها من المستأجر المحجوج

(1)

ومشى في حجه فإنه يكون بذلك جانيا على نفسه، بمعنى أنه آثم.

وبما قررت علم أن قوله: "ومشى"، معطوف على قوله:"وفى"، وأن معنى "جنى": أثم، ومعنى هذا أنه لم يطلع عليه إلا بعد مشيه وقضاء الدين، وحينئذ فإن وقعت الإجارة على الضمان فالظاهر أنه لا يرجع عليه بشيء، وإن وقعت على البلاغ فالظاهر أنه يعطى من المال قدر نفقة أهله وأجرة ركوبه، ويؤخذ منه الباقي. قاله الحطاب. والظاهر سواء كان العام معينا أم لا. قاله محمد بن الحسن. وجزم عبد الباقي بالرجوع إذا كان العام معينا مطلقا أو غير معين، ولم يرجع في عام آخر على ما فهم، وقال الخرشي: وإذا تعين العام بقول الموصي أو بالعرف وحصلت الجناية من الأجير على المال ووجب عليه الرجوع، فالظاهر أنه يكون لرب المال الرجوع به على المدفوع إليه حيث تعذر أخذه من الأجير. انتهى. قوله: المدفوع إليه؛ يعني رب الدين. قاله جامعه عفا الله تعالى عنه.

(1)

كذا في الأصل.

ص: 359

وأما إن اطلع عليه بعد أن قضى الدين وقبل أن يمشي فإن المال ينزع من أرباب الديون؛ لأنه قد تبين أند للغير: وتصدُّقُ الأجير بالأجرة ونحوُه كتوفية دينه بها، وفي الشارح: وإذا وفى دينه بما أخذه فهي جناية والحكم أن يمشي. انتهى قال عبد الباقي: وفيه نظر لأنه إذا كان العام معينا وفات انفسخت الإجارة ويرجع عليه بما أخذ ولو حج بعد ذلك ماشيا لمخالفته لقوله: "وحج على ما فهم"، وإن كان غير معين تعين عليه أن يأتي بما يفهم من الحج [عن

(1)

] الميت من ركوب مقتب أو غيره، ولا يكفي مشيه، فإن لم يرجع كذلك رجع عليه بما أخذ وأعطى لأهل الميت، وكذا ينبغي ذلك التفصيل فيما إذا اطلع عليه بعد الوفاء وقبل المشي حيث فهم من الميت خلاف المشي، وانظر ما الحكم إذا لم يفهم من الميت شيء واحتمل أن يكون ما فعله موافقا لمراده أو مخالفا؟ انتهى كلام عبد الباقي.

قال محمد بن الحسن: قوله لمخالفته لقوله الخ، هذا يوهم أن الفسخ هنا للمخالفة وليس كذلك بل للفوات. انتهى. وإنما قال يوهم -والله أعلم- لأن ذلك غير متعين؛ إذ الذي يظهر أن قوله: لمخالفته، علة في قوله: ويرجع عليه بما أخذ ولو حج بعد ذلك ماشيا، ولا يرجع لقوله: انفسخت الإجارة، كما هو ظاهر. والله سبحانه أعلم.

قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وقوله: وانظر ما الحكم الخ، أما على ما للحطاب فالظاهر أنه يجري على ما مر عنه فيما إذا حصل المشي وقضاء الدين. والله سبحانه أعلم. وأشار المصنف إلى تفسير أحد قسمي البلاغ، بقوله: والبلاغ إعطاء ما ينفق عودا وبدءا؛ يعني أن كيفية البلاغ هي أن يعاقد المحجوج عنه الأجير على أن يعطيه ما يكفيه من النفقة في ذهابه إلى الحج ورجوعه إلى الموضع الذي سافر منه؛ أي يدفع له من النفقة ابتداء ما يكفيه في ذهابه إلى الحج ورجوعه، وأما لو دخل معه على أن ينفق على نفسه كل النفقة أو بعضها من عنده ثم يرجع بما أنفق، فإنه لا يجوز -كما نص عليه سند- لأنه سلف وإجارة. بالعُرفِ؛ يعني أن هذه النفقة المدفوعة للأجير عودا وبدءا تكون بالعرف، والمراد أن ينفق نفقة مثله، والمراد بالنفقة ما يشمل الكسوة، وظاهر كلام المؤلف أنه يراخى فيما ينفقه العرف ابتداء، وقال الحطاب: هذا بعد

(1)

في الأصل على والمثبت من عبد الباقي ج 2 ص 240.

ص: 360

الوقوع، وأما ابتداء فينبغي أن يعين له النفقة. قال اللخمي: وإن كانت الإجارة بنفقته جاز، وينبغي أن يبينها قبل العقد فإن لم يفعل مضى وينفق منه نفقة مثله. انتهى. وإذا رجع أجير البلاغ وفضل عنه شيء من النفقة فإنه يرده ويرد أيضا الثياب التي اشتراها من الأجرة، كما أفاد ذلك بقوله:"عودا وبدءا"، قاله الخرشي. وقوله:"إعطاء"، قال عبد الباقي: هو على حذف مضاف أي ذات، وقال غير واحد: قوله: "والبلاغ"؛ أي كيفية البلاغ، وقوله:"إعطاء"؛ أي معاقدة على إعطاء، وقال الأجهوري: وأشار بقوله: "بالعرف"، لما في كتاب ابن المواز: له أن ينفق ما لابد منه مما يصلحه من الكعك والزيت واللحم مرة بعد مرة، وشبه ذلك والوطاء واللحاف والثياب. وقال الحطاب: الوطاء والخفاف بدل اللحاف. وقال ابن عسكر في شرح العمدة: معنى إجارة البلاغ أن المستأجر يلزمه تبليغ الأجير ذهابا وإيابا بقدر كفايته من موضع ابتداء سفره حتى يعود إليه، ويلزمه العمل على ذلك ويكون حكمه في الدفع إليه حكم الوكيل في أنه لا يجوز له صرف شيء في غير ما هو بصدده من الحج والعمرة، وما تلف بغير تفريط لم يضمنه ولا يكون له حبس ما فضل، وفي الإرشاد: الثاني: مضمونة، وفيها يتعين قدر الأجرة وصفة الحجة وموضع الابتداء، قال الشيخ زروق في شرحه: وإنما تعين ما ذكره لأنها كسائر الإجارات يلزم في عقدها من معرفة الوجه المعمول عليه والمعمول به وما يلزم في كل إجارة، ويصح عقدها بالجعل بأن لا شيء له إلا بتمام العمل، فإن لم يعين الأجرة لزمت أجرة المثل، وإن لم يذكر صفة الحجة لزمه الإفراد على المشهور؛ لأنه الأصل، وقيل: القران لأنه جامع للحج والعمرة وإن لم يعين الابتداء فمن محله إن لم تكن قرينة تصرفه لغيره. انتهى.

وعلم مما مر أن أجير البلاغ يملك التصرف على وجه مخصوص، وأن أجير الضمان له رقبة المال، ولذلك يكون الفضل له والتلف منه، وقوله:"والبلاغ إعطاء ما ينفقه عودا وبدءا"، وإن لم يكفه ما أخذه رجع بما أنفقه فيما يحتاج إليه. وفي هدي؛ يعني أن الأجير على البلاغ إذا ترتب عليه هدي لم يتعمد موجبه، فإن فعله سهوا أو اضطرارا فإنه يلزم المستأجر بالكسر وهو المحجوج عنه، فإذا أهدى الأجير في هذه الحالة فإنه يرجع على المستأجر بذلك الهدي، وأما إذا تعمد الأجير موجب الهدي فإن الهدي يكون عليه فلا يرجع به على المستأجر بالكسر. وفدية؛ يعني

ص: 361

أن الأجير على البلاغ إذا لزمه فدية لم يتعمد موجبها بأن فعله سهوا أو اضطرارا، فإنها تلزم المستأجر بالكسر، فإذا أداها الأجير في هذه الحالة فإنه يرجع بها على المستأجر بالكسر، وأما إذا تعمد الأجير موجب الفدية فإنها تكون عليه فلا يرجع بها على المستأجر، وقوله:"وفي هدي وفدية"، عطف على قوله:"بدءا وعودا"؛ لأنه منصوب بنزع الخافض، والتقدير: والبلاغ إعطاء ما ينفقه في بدئه وعوده، وفي هدي وفدية، ولا يقال هذا فيه نظر؛ لأنه يقتضي أن الهدي والفدية من جملة مسمى البلاغ لأنه منه تبعا على أن ما نقل عن الحطاب من أن اعتبار العرف إنما هو بعد الوقوع يدل على أنه من مسمى البلاغ حقيقة، وجعل التتائي قوله: وفي هدي وفدية، عطفا على مقدر متعلق بقوله: ينفقه؛ أي إعطاء ما ينفقه على نفسه فيما يحتاج له وفي هدي لخ، والأول أقرب، وجعله عبد الباقي معطوفا على مقدر متعلق بجواب لشرط مقدرين، والتقدير وإن لم يكفه ما أخذه رجع بما أنفقه فيما يحتاج إليه وفي هدي وفدية، قال محمد بن الحسن: وهو في غاية التكلف.

وبما قررت علم أن قوله: لم يتعمد مُوجِبَهُما. قيد في الأمرين الهدي والفدية، وضمير التثنية يرجع للهدي والفدية؛ يعني أن محل كون الهدي والفدية على المحجوج عنه إنما هو حيث لم يتعمد الأجير موجبهما، وأما إن تعمد موجبهما فإنهما يكونان على الأجير لا على المحجوج عنه. قال عبد الباقي: إذا عين الرجوع بما يصرفه في الهدي والفدية يرجع به وإن تعمد موجبهما، والتفصيل إنما هو عند عدم اشتراط الرجوع. انتهى.

قال محمد بن الحسن: وفيه نظر لأن تعيين الرجوع بالهدي والفدية لا ينفعة كما يدل عليه كلامهم، وإنما الذي ينفعه تعيين سبب الهدي كما إذا اشترط تمتعا أو قرانا فالهدي على المستأجر مطلقا، وقوله:"لم يتعمد موجبهما"؛ أي وهو محمول على عدم التعمد حتى يثبت تعمد في للجناية. قاله في الطراز. ونصه: أما من أخذ نفقة ليحج منها فيرد ما فضل، فهذا يعتبر فيه قصده وَتَعَمُّدُة للجناية، وما عدا ذلك يكون في المال؛ لأن الإحرام أوجب ذلك عليه والإحرام مضمون في النفقة، فيكون ما يلزمه من مئونة الهدي مندرجا تحت النفقة حتى يثبت تعمد الجناية، فيكون في خالص ماله، وذلك بمثابة من أذن له في التمتع فتمتع فإن الهدي يكون على

ص: 362

المستأجر ولو تمتع من غير إذن، وقلنا يجزئه كان الهدي عليه دون المستأجر؛ لأنه تعمد سبب إيجاب الهدي ولم يستند إلى إذن. انتهى. قاله الحطاب.

وتحصل مما مر أن الأجير في البلاغ يرجع بما صرفه في هدي وفدية لم يتعمد موجبهما، وأنه إن تعمد موجبهما فإن ما صرفه فيهما لا يرجع به، وأنهم أرادوا بالتعمد الاختيار وبغيره ما يشمل النسيان والتعمد لعذر، ورجع بالبناء للمفعول عليه؛ أي على الأجير بالسرف فيما ينفقه من الأجرة، ومعنى كلام المصنف أن إجارة البلاغ هي إعطاء ما ينفقه الأجير في ذهابه إلى بيت الله الحرام وفي إيابه بالمعروف، فلو أنفق الأجير غير العرف بأن أسرف في الإنفاق كما لو جمع أصحابه وصنع لهم طعاما وما أشبه ذلك، فإنه يرجع عليه بالسرف وهو ما زاد على العرف.

وقال الشبراخيتي عند قوله "بالسرف": الخارج عن العرف فيما ينفقه، كشرائه هدايا أو حمله الولائم لأصحابه وشرائه الفاكهة ونحوها مما لا تدعو ضرورة إليه، وأولى من السرف في النفقة شراؤه هدية. واستمر إن فرغ الضمير في "استمر" يرجع لأجير البلاغ، وفي "فرغ" يرجع لما أنفقه، يعني أن أجير البلاغ إذا نفدت نفقته في المؤن والأكرية فإنه يستمر على ما هو عليه من المضي إلى مكة وإكمال حجه، ويرجع بما أنفقه على نفسه من عنده على مستأجره لا على الموصي؛ لأن المستأجر مفرط بترك إجارة الضمان إلا أن يوصي بالبلاغ، ففي بقية ثلثه. وقوله:"واستمر إن فرغ"؛ أي سواء فرغ قبل الإحرام أو بعده في عام معين أو غيره، وقول الشامل: ولو أحرم بعد فراغ المال فلا شيء له، مخالف لما ذُكر، وما ذُكر صرح به سند ونقله في التوضيح وقبله. أو أحرم ومرض؛ يعني أن أجير البلاغ إذا أحرم ثم مرض أو صد أو فاته الحج لخطإ عدد بعد إحرامه، فإنه يستمر على إحرامه، وهذا إذا كان العام غير معين في الأمور الثلاثة وإلا فتنفسخ في الثلاثة وتسقط أجرته عن مستأجره، ونحوه للشيخ إبراهيم، وزاد: أما من صد فظاهر لأنه يمكنه التحلل حيث كان، وأما المريض ومن فاته الحج فهما وإن لم يمكنهما التحلل حتى يذهبا إلى مكة لفعل عمرة فلأن العام الذي اشترطه عليه ذهب، وإنما تماديا لحق الله تعالى فيما يتحللان به من الإحرام، فكان ذلك مصيبة وقعت بهما. قال معناه اللخمي. وقوله، "ومرض"؛ أي ولو طال مرضه، والظاهر أن حبسه لحق كالمرض، وحيث وجبت النفقة في مال الميت فإنما هي قدر ما

ص: 363

كان يصرفه والزائد على الأجير في ماله، وفهم من المصنف أنه لو مرض قبل الإحرام فإنه يرجع ولد النفقة في إقامته مريضا، ورجوعه لا في ذهابه إلى مكة. قاله اللخمي. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"أو أحرم ومرض"، وعبارة الحطاب: يعني أن الأجير على البلاغ إذا أحرم ثم مرض فإنه يستمر على عمله وله النفقة التي تجب له في حال الصحة؛ لأن مطلق العقد إنما ينصرف للغالب والمتعاهد كما في نفقة الأجير ونفقة الدابة. انتهى. وصرح بذلك اللخمي فيما إذا مرض قبل الإحرام، ولا فرق بينهما كما قاله الشبراخيتي، وكلام اللخمي: إذا مرض الأجير قبل أن يحرم وكان على الإنفاق فله نفقته ذاهبا وراجعا بقدر نفقة الصحيح: وما زاد ففي ماله. انتهى. وقد علمت أنه لا فرق بين الفرعين.

وإن ضاعت قبله رجع؛ يعني أن أجير البلاغ إذا ضاعت نفقته قبل أن يحرم وعلم بضياعها، فإنه يؤمر بالرجوع من اليوم الذي ضاعت فيه حيث يمكنه الرجوع وله في رجوعه النفقة، فإن لم يرجع حينئذ بل أحرم واستمر على فعل الحج فلا نفقة له من موضع علمه بضياعها إلى عوده إليه لأنه متطوع، وعلى المستأجر النفقة من موضع الضياع لأنه أوقعه فيه. قاله ابن القاسم. وقال ابن حبيب: لا نفقة له على المستأجر، والقول للأجير بيمينه في الضياع لتعذر الإشهاد عليه، وسواء أظهره في مكانه أو بعد رجوعه، وليس على الورثة أن يحجوا غيره إذا كان في الثلث فضلة حيث لم يوص بالبلاغ. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"وإن ضاعت قبله رَجَع"، ظاهره ولو كان في بقية ثلث الميت بدلها، وهو كذلك عند ابن القاسم خلافا لأشهب، وقوله:"رجع"، هذا إن لم يكن شرط، فإن كان بينهم شرط عمل به، وقد مر أنه إذا تمادى بعد التلف وبعد علمه به تكون على الأجير نفقته في ذهابه ورجوعه إلى موضع التلف، وعلى المستأجر من موضع الضياع على قول ابن القاسم. اللخمي: إلا أن تكون الإجارة على أن نفقته من الثلث فيرجع في باقيه، وإن كان المدفوع له أولا جميع الثلث وعليه راضوه فلا شيء على المستأجر، وإلا؛ أي وإلا بأن ضاعت النفقة في إجارة البلاغ بعد الإحرام، أو فرغت مطلقا، أو لم يعلم بضياعها حتى أحرم، فإنه يتمادى على إحرامه وإتمام حجه؛ إذ الحج لا يرتفض، ونفقته: أي الأجير في تماديه ورجوعه، على آجره؛ أي على الذي استأجره لأنه مفرط بترك إجارة الضمان، ولو كان للميت مال على

ص: 364

مذهب المدونة، وصوبه القابسي وابن شبلون، وقال ابن حبيب: في مال الميت إن كان وإلا فعلى آجره.

وبما قررت علم أن قوله: "رجعَ" محله حيث يمكنه الرجوع، وأما إن لم يمكنه الرجوع، فقال

الشيخ إبراهيم: يستمر إلى أن يصل إلى مكان مستعتب وله النفقة في تماديه وقوله: "على آجره"

أي لا على الموصي، إلا أن يوصي بالبلاغ؛ يعني أن محل كون النفقة على المستأجر بالكسر إنما هو حيث لم يوص الميت بأن يحج عنه على البلاغ، وأما إن أوصى بأن يحج عنه على البلاغ، فإن النفقة تكون في بقية ثلثه؛ أي الميت ولا تكون على المستأجر لأنه لم يفرط بترك إجارة الضمان، وقوله:"في بقية ثلثه"، أما إن لم يقسم مال الميت فلا خلاف في ذلك، وأما لو قسم فكذلك على المشهور، وإلى ذلك أشار بقوله: ولو قس؛ أي وكذلك تكون النفقة في بقية ثلث الميت ولو قسم مال الميت على المشهور، وأشار المصنف بلو لرد قول مخرج لابن رشد، وكلام المصنف يوهم أن قول المخالف منصوص وليس كذلك، والقول الذي خرجه ابن رشد هو أنه لا يكون في بقية الثلث حين قسم مال الميت خرجه من الاختلاف فيمن أوصى بشراء عبد يعتق من ثلثه فاشتري عبد ولم ينفذ له العتق حتى مات العبد وقد قسم الورثة المال، فقد قيل: يشترى عبد آخر من بقية الثلث، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل: لا. قاله الشارح. ومفهوم قوله: "في بقية ثلثه"، أنه إن لم يبق شيء من الثلث فعلى العاقد وصيا أو غيره ما لم يقل في العقد: هذا جميع ما أوصى به الميت ليس لك يا أجير غيره، فهذه أجرة معلومة، فإن قال له: إن فضل شيء ترده وإن زاد شيء لم ترجع به، فإن قل المال بحيث يعلم أنه لا يكفي فإن الأجير متبرع بالزائد، وكذا إن كان قطع بكفايته وإن أشكل الأمر بغرر يسير لا ينفسخ العقد بمثله فلا يرجع أحدهما على الآخر بشيء؛ لأن الوارث إذا لم يرد عليه شيء لا يؤخذ منه شيء، وإن ضاعت النفقة في هذه الوجوه قبل إحرامه فلا شيء للأجير ولا يلزمه الذهاب. قاله سند. ونحوه للمتيطي وهذا يفيده كلام المصنف: وأجزأ إن قدم على عام الشرط؛ يعني أن من استؤجر على الحج في عام معين وفعل الحج قبل أن يأتي العام العين للحج يجزئ ذلد الحج، فإن قيل ما معنى الإجزاء عن الميت -وسيقول المصنف: ولا يسقط فرض من حج عنه- فالجواب أن معنى الإجزاء براءة

ص: 365

ذمة الأجير مما التزمه ليستحق الأجرة، وقوله:"وأجزأ إن قدم" الخ؛ أي لأنه كدين قدم قبل محله، فيجبر ربه على اقتضائه مع أنه لا فائدة في تعيين الموسم إلا إرادة التوسعة عليه في زمن فعل ما استؤجر عليه، فتأخيره حق له، وهذا يقتضي أنه يجوز التقديم على عام الشرط ابتداء، وقرره بعض الشيوخ على الكراهة ابتداء بحثا أخذه من قوله:"وأجزأ"، ويؤخذ من التعليل المتقدم أنه لا فرق بين أن يكون الشرط من الموصي أو من الوصى، ويكون قوله الآتي:"وفسخت إن عين العام" مقيدا بما إذا لم يقدمه عليه خلافا لابن عاشر. قاله محمد بن الحسن. وظاهر المصنف الإجزاء ولو كان في عام الشرط غرض للموصي: ككون وقفته بالجمعة، ومفهوم قوله:"إن قدم"، عدم الإجزاء إن أخر عن عام الشرط. أو ترك الزيارة؛ يعني أن الأجير على الحج إذا أتى بالحج وترك زيارة سيد الوجود صلى الله عليه وسلم المشترطة أو المعتادة -والعياذ بالله تعالى- فإن ذلك الحج يجزئه؛ بمعنى أنه تبرأ ذمته مما التزمه ليستحق الأجرة، وكذا لو شرط عليه العمرة بعد الحج ففعل الحج وترك العمرة، فإنه يجزئه، وإذا شرط عليه الزيارة للنبي صلى الله عليه وسلم أو كانت معتادة وتركها رجع عليه بقسطها؛ أي بمناب الزيارة، فيؤخذ من مال الأجير وهذا إذا تعذرت الزيارة، ففي المواق عن مناسك المصنف: ولو استؤجر واشترطت عليه زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فتعذرت عليه، فقال ابن أبي زيد: يرد من الأجرة بقدر مسافة الزيارة، وقيل: يرجع ثانية حتى يزور. انتهى. ففرض الخلاف في تعذرها، قال الرماصي: فربما يفهم من فرضهم أنها لو تركت عمدا من غير تعذر يؤمر بالرجوع من غير خلاف. انتهى. وبذلك تعقب البساطي على المصنف والله أعلم. قاله محمد بن الحسن. وقد مر قريبا أنه يجزئه الحج إذا ترك العمرة المشترطة، ومثلها المعتادة وحينئذ فيرجع عليه بقسطها كالزيارة، وكذا لو تركهما معا فإنه يجزئ، ويرجع بالقسط أي بقدر ما يرى أنه ينوب ذلك من الأجرة، وقوله:"ورجع بقسطها" ويصنع به ما شاء، وقوله:"ورجع بقسطها"، قال عبد الباقي: سواء تركها لعذر أم لا كما يدل عليه كلامهم. انتهى. وقد مر ما لبناني باحثا مع عبد الباقي، أو خالف إفرادا لغيره؛ يعني أن الأجير إذا اشترط عليه ورثة الميت أن يحج عن ميتهم مفردا، فخالف وتمتع أو قرن، فإن ذلك يجزئه في المسألتين، وقيل: لا يجزئ، والإجزاء في الأولى لمالك، وفي الثانية لعبد الملك.

ص: 366

وإذا قلنا بالإجزاء فالهدي على الأجير لأنه تعمد سبب ذلك كالجزاء والفدية، وله جميع الأجرة ولا يزاد فيها لزيادته نسكا، وإن قلنا لا يجزئه فلا شيء له من الأجرة ويقع ذلك نافلة للأجير. إن لم يشترطه الميت؛ يعني أن محل الإجزاء فيما إذا خالف الأجير إلى التمتع أو القران حيث اشترط عليه الإفراد، إنما هو إذا لم يكن المشترط لذلك الميت بأن اشترطه المستأجر من وصي أو ورثة أو تعين في الإطلاق، وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإن اشترط الميت الإفراد فخالف الأجير فقرن أو تمتع، فلا يجزئ ذلك عن الميت، وتنفسخ الإجارة إن خالف إلى قران مطلقا أو لتمتع، والعام معين وإلا لم تنفسخ، ويأتي بالإفراد. قاله ابن عبد السلام. وإنما أجزأ القران والتمتع عن الإفراد حيث لم يشترطه الميت لاشتمالهما على الإفراد، وإنما لم يجزيا عنه حيث اشترطه الميت لأنه إنما يشترطه لتعلق غرضه به، ففعل غيره كفعل غير ما وقع عليه العقد، وأتى بقوله:"وإلا فلا"، مع أنه مفهوم شرط، ليشبه به قوله: كتمتع بقران؛ يعني أنه إذا اشتُرط على الأجير أن يحج حج التمتع، فخالف وقرن فإن ذلك لا يجزئ، سواء كان المشترطُ الميت أو غيره، أو عكسه؛ يعني أنه إذا اشترط على الأجير أن يحج قارنا فأتى بتمتع، فإن ذلك لا يجزئ سواء كان المشترط الميت أو غيره. أو هما بإفراد؛ يعني أنه إذا اشترط على الأجير أن يحج متمتعا فخالف وأبدله بإفراد، فإن ذلك لا يجزئ سواء كان المشترط الميت أو غيره، وكذا لو اشترط على الأجير أن يحج قارنا فخالف وأفرد فإن ذلك لا يجزئ، سواء كان المشترط الميت أو غيره.

وبما قررت علم أن قوله: "أو هما"، يعود على التمتع والقران، وأن المعنى أنه إن اشترط عليه أحدهما فخالف وأبدله بإفراد، فالصور أربع: تمتع بقران وعكسه، أوأحدهما بإفراد، فإن قيل: الإفراد عمنا أفضل من التمتع والقران فمن اشترط عليه أحدهما وأتى بالإفراد لم يجزه مع أنه أتى بالأفضل، فالجواب أن الأجرة متعلقة بما وقعت في مقابلته ولو مفضولا، فعند المخالفة أتى بغير المعقود عليه، ألا ترى أنه لو استؤجر على العمرة فأتى بدلها بحج لم يجزه مع عدم الاختلاف في أفضليته على العمرة؟ أشار له سند. قاله عبد الباقي.

ص: 367

وصرح صاحب الطراز بأن من استؤجر على شيء فخالف ما استؤجر عليه أنه يقع عن نفسه، وإن كان نواه عن غيره أي يقع نافلة هذا هو الظاهر. والله أعلم. انظر الحطاب. قوله:"كتمتع بقران" لخ، وانظر ما الفرق بين هذه المسائل الأربع حيث لم يفصل فيها، وبين التي قبلها حيث فصل فيها.

تنبيه: لو نسي الأجير ما استؤجر عليه، وغاب المستأجر وتعذر سؤاله، فينبغي أن يُؤتَى بالأفضل وهو الإفراد، وبعد ذلك ينظر في الإجزاء وعدمه. وقوله:"أو هما"، معطوف على "كتمتع" فإن قيل: هما ضمير رفع، فكيف يكون مجرورا: وأيضا فإنه يلزم على هذا دخول الكاف على الضمير وهو قليل؟ فالجواب أن ضمير الرفع استعير مكان ضعير الجر، وأن ارتكاب ما هو قليل غير مضر. أو ميقات، بالجر عطف على ما بعد الكاف، فهو في حيز المنفيات، شرط؛ يعني أنه إذا شرط على الأجير أن يحرم من ميقات عُيِّنَ له فخالف بأن أحرم من ميقات آخر، فإن ذلك لا يجزئه، وكذا إن تجاوز الميقات المشْتَرط حلالا ثم أحرم بعده فإنه لا يجزئه، وأما إذا أحرم قبله فإنه يجزئه. قاله سند. لأنه يمر عليه، وإذا لم يجزه فإن كان العام معينا وفات رد المال وإلا رجع وأحرم منه، وقوله:"أو ميقات شرط"؛ أي ولو كان الذي خالف له ميقات الميت لأنه شرط عليه غيره، والمراد شرطه ولو حكما كتعين ميقات الميت عند الإطلاق، وقوله:"أو ميقات شرط"، كما لو شرط عليه أن يحرم من ذي الحليفة فخالف وأحرم من ذات عرق، فظاهر المذهب أنه لا يجزئه، ويرد المال في الحج العين إن فات، وقوله:"شرط"، بالبناء للمفعول، فيشمل شرط الميت أو غيره. كما قاله الشيخ إبراهيم.

وفسخت؛ يعني أنه إذا لم تجز المخالفة في المسائل السابقة فإن الإجارة تنفسخ حينئذ سواء كانت بلاغا أو ضمانا، وإذا فسخت الإجارة فإنه يرد المال إن عين العام؛ يعني أن محل الفسخ حيث لم تجز المخالفة في المسائل السابقة إنما هو فيما إذا كان العام معينا بأن آجره على أن يحج عنه السنة الفلانية. وعدم؛ يعني أن محل الفسخ للإجارة في العام العين إنما هو حيث عُدِمَ الحج في العام المعين حقيقة؛ بأن تركه أو فات لصد أو مرض أو خطإ عدد، أو حكما بأن أفسده بوطء أو خالف كما في الصور المتقدمة، فقوله:"وعدم"، بالواو عطف على "عين"، أو جملة حالية، وعلى

ص: 368

هذا فقوله: "إن عين العام وعدم"، مسألة واحدة شاملة لجميع ما أدخلته فيها، وفي بعض النسخ بأو معطوف على مقدر؛ أي وفسخت إن عين العام إذا حصلت المخالفة أو عدم الحج بأن لم يأت به لمرض أو غيره. قاله أحمد. أي كأن فاته أو فسد بوجه، وعلى هذا ففي الكلام مسألتان وهما داخلتان في المسألة المذكورة كما علمت، وفي بعض النسخ: وغرم؛ أي إذا فسخت الإجارة غرم الأجير المال الذي أخذه. والله سبحانه أعلم. والمراد بالفسخ في العام المعين حيث عدم الحج حقيقة أو حكما أن من أراده له ذلك، وأما إن تراضيا على البقاء لقابل فإن ذلك جائز على ما اختاره ابن أبي زيد وغيره، فليس المراد هنا أنه يتعين الفسخ ولو تراضيا على البقاء -كما يقوله اللخمي وغيره- لأن المؤلف لم يعرج عليه سابقا، وقد حمل الحطاب ما تقدم على الإطلاق، وحمل ما هنا على تحتم الفسخ فعارض بينهما وقد علمت دفع المعارضة. قاله الرماصي. وقوله: ما تقدم؛ يعني في قوله: "واستؤجر من الانتهاء". والله سبحانه أعلم. وسوى ابن رشد بين الفوات بالمرض، وخطإ الهلال، والإفساد بوطء، وحصر العدو: فجعل حكمها واحدا: الفسخ في المعين، والقضاء في غيره، وقبله ابن عرفة، وكذا إذا ترك الحج فيه لغير عذر فيما يظهر؛ إذ قصاراه أن يكون كالإفساد بالوطء. قاله الرماصي. خلاف ما في الحطاب عن الطراز من أن الورثة بالخيار في الفسخ والبقاء لقابل إذا تركه اختيارا أو أفسده بوطء. كغيره وقرن، الضمير في غيره للعام المعين؛ يعني أنه إذا لم يعين العام فإن الإجارة تنفسخ فيما إذا اشترط الميت على الأجير أن يفرد فخالف وحج قارنا، وفيما إذا اشترط هو أو المستأجر التمتع فخالف الأجير وحج قارنا، ومثل ذلك ما إذا شرط عليه القران أو التمتع فأفرد فإنه يفسخ أيضا، فتلك أربع صور تزاد على الصور السبع السابقة فيما إذا عين العام.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وهي أن يشترط الميت الإفراد، فيقرن الأجير أو يتمتع، أو التمتع فيقرن: أو القران فيتمتع، أو التمتع فيفرد، أو القران فيفرد، أو يخالف ميقاتا شرط. وقوله:"وقرن"، الواو للحال. أو صرفه لنفسه؛ يعني أن الأجير إذا أحرم بالحج عن الميت ثم صرف الإحرام لنفسه فإن الإجارة تنفسخ، وأشار بهذا إلى قول القراقي: إذا أحرم الأجير عن الميت ثم صرفه إلى نفسه لم يجز عنهما، ولا يَسْتَحِقُّ. وقوله:"أو صرفه لنفسه"؛ أي تنفسخ الإجارة

ص: 369

مطلقا، سواء كان العام معينا أم لا؛ لأن عداءه خفي كعداء من خالف لقران. وعلم من قول القرافي: ولا يستحق أنه يرد الأجرة إن كان قبضها، وأما إذا أحرم الأجير ابتداء عن نفسه فإن الإجارة لا تنفسخ في غير المعين، ويجزئه عن نفسه معينا أم لا بمنزلة من غصب مالا وحج به، وتنفسخ الإجارة في المعين.

وفي النوادر: وإن نوى الأجير الصرورة عن نفسه وعن الميت أجزأه عن نفسه وأعاد عن الميت. رواه أبو زيد عن ابن القاسم. وروى عنه أصبغ لا يجزئ عن واحد منهما. وقاله أصبغ. ويرجع ثانيا عن الميت انتهى. وأعاد إن تمتع، هذا مفهوم قوله:"كغيره وقرن"؛ يعني أنه إذا اشترط على الأجير القران مطلقا اشترطه الميت أو غيره، أو اشترط عليه الميت الإفراد فخالف الأجير في المسألتين وتمتع. فإن الأجير يعيد ما شرط عليه في عام آخر ولا تنفسخ الإجارة، وقد علمت أن هذا حيث لم يعين العام.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ القران والتمتع أن القران يخفى لأنه يرجع للنية ولا يمكن الاطلاع عليها فقد يعود له ثانية بخلاف التمتع، فلذا كان القران يفسخ دونه. نقله الشيخ إبراهيم. وهل تفسخ إن اعتمر لنفسه في المعين يعني أن الأجير إذا أخذ مالا ليحج به عن ميت من بعض الآفاق فاعتمر عن نفسه ثم حج عن الميت، فلا يخلو ذلك من أن يكون العام معينا أم لا، فأما إن كان العام معينا فإن من الشيوخ من قال: تنفسخ الإجارة مطلقا ولا يرجع إلى الميقات فيحرم منه ولا يجزئه ذلك إن فعل، وأولى في الفسخ وعدم الإجزاء لو أحرم من مكة. أو إلا أن يرجع للميقات؛ يعني أن من الشيوخ من خالف في ذلك، فقال: تفسخ الإجارة إن لم يرجع الأجير إلى الميقات، وأما إن رجع إلى الميقات فلا تنفسخ الإجارة، بشرط أن يحرم عن الميت. فإذا أحرم عن الميت بالميقات فإنه يجزئه إحرامه ذلك، في ذلك تأويلان مخرجان على تأويلين منصوصين في غير المعين، وذلك أن المدونة مفروضة في غير المعين فيمن أخذ مالا ليحج به عن ميت من بعض الآفاق فاعتمر عن نفسه. ثم حج عن الميت، قال في المدونة: لم يجز عن الميت، وعليه أن يحج حجة أخرى كما استؤجر، واختلف الشيوخ في تأويلها فتأولها بعض شيوخ ابن يونس أن ذلك لا يجزئه، سواء أحرم بالحج من مكة أو رجع إلى الميقات فأحرم منه، ورأى أنه لا يجزئه إلا أن يحج عن الميت

ص: 370

من الموضع الذي استؤجر منه، وتأولها ابن يونس وسند على أنه إذا رجع إلى الميقات وأحرم منه بالحج عن الميت أجزأه، وارتضاه أبو إسحاق، فَتَحَصَّلَ من هذا أنه إن رجع إلى الموضع الذي استؤجر منه أجزأه على كلا التأويلين بلا خلاف في ذلك، وأنه إن أحرم من مكة لم يجزه على كلا التأويلين، ولابن القاسم قول آخر أنه يجزئه إلا أن يشترطوا عليه أن يحرم من الميقات، واستبعده صاحب البيان وأنه إن رجع إلى الميقات فهو محل التأويلين.

فعلم من هذا أن التأويلين اللذين عند المصنف في المعين مخرجان على التأويلين في غير المعين، فمن قال: يرجع إلى بلده في غير المعين وهو لبعض شيوخ ابن يونس كما مر، قال بالفسخ في المعين حيث لا يمكن فيه الرجوع لبلده والعود منه بحيث يدرك الحج، وإلا فحكمه حكم ما إذا لم يكن العام معينا ففيه التأويلان المنصوصان؛ أي فلا بد من الرجوع للبلد، فإن لم يرجع فقال الشبراخيتي وعبد الباقي: تفسخ، ومن قال: يرجع إلى الميقات في غير المعين -وهو لابن يونس وارتضاه سند وأبو إسحاق- قال بعدم الفسخ في المعين إن رجع إلى الميقات، وكلام الخرشي هنا غير صحيح. والله سبحانه أعلم. وعلى القول بالإجزاء في مسألة المصنف، فإن كان اعتماره عن نفسه في أشهر الحج فهو متمتع والدم في ماله لتعمده سببه، وسكت المصنف عما إذا اشترط عليه القران فقرن فنوى العمرة عن نفسه والحج عن المستأجر له والمنصوص عدم الإجزاء. ابن عبد السلام: واختلف، هل يمكن من الإعادة أو تفسخ الإجارة، قال الحطاب: والظاهر أن هذا الخلاف في غير المعين، وأما في المعين فتفسخ، ولو استأذنهم في القران لعمرة نفسه فأذنوا له لم يلزمه شيء لأنه وفى لهم بما عاقدهم عليه، وهل يصح ذلك؟ الظاهر أنه لا يصح لأنه اشتراك في طواف واحد وسعي واحد، وذلك غير جائز، وقال أشهب في رجل حج عن رجل واعتمر عن آخر وقد أمره بذلك: أن دم القران على المعتمر، وإذا استأذنهم في التمتع بعمرة فلا إشكال في صحة ذلك.

ومنع استنابة صحيح في فرض؛ يعني أنه يمتنع أن يستنيب الصحيح غيره أي شخصا آخر في حج فرض ولا خلاف في ذلك، والمراد بالصحيح المستطيع وإن كان مريضا مرجوا صحته، وقوله:"واستنابة صحيح"، مصدر مضاف إلى فاعله، وقوله:"ومنع استنابة صحيح"؛ أي ولا يصح ذلك

ص: 371

إن وقع، وإلا؛ يعني أن غير الصحيح بالمعنى المتقدم إذا استناب في فرض أو نفل أو عمرة، وأن الصحيح أي المستطيع إذا استناب في حج نفل أو عمرة، كره ذلك، قال محمد بن الحسن: تبع المصنف في حكم الصحيح قول سند: اتفق أرباب المذاهب أن الصحيح لا تجوز استنابته في فرض الحج والمذهب كراهتها في التطوع، وإن وقعت صحت الإجارة. انتهى. وتبعه فيه ابن فرحون والتلمساني والقرافي والتادلي وغيرهم كما في الحطاب، وأطلق غير سند منع النيابة في الحج. قاله الرماصي. ونحوه قول التوضيح: من العبادات ما لا يقبل النيابة بالإجماع كالإيمان بالله تعالى، ومنها ما يقبلها بإجماع كالدعاء والصدقة ورد الديون والودائع، واختلف في الصوم والحج والمذهب أنهما لا يقبلان النيابة. انتهى. وأما المريض فاعتمد فيه المصنف ما حكاه في التوضيح عن الجلاب من أنه يكره استيجاره من يحج عنه، فإن فعل مضى. قاله محمد بن الحسن. ثم قال: والحاصل أن المصنف اعتمد في كراهة النيابة عن الصحيح قول سند، وفي المريض كلام الجلاب والمعتمد منع النيابة عن الحي مطلقا. هذا ما يفيده الرماصي. والله أعلم. ولا فرق في النيابة بين أن تكون بأجرة أو تطوعا. قاله الشارح. وأما قول شارح العمدة: النيابة في الحج إن كانت بغير أجرة فحسنة لأنه فعل معروف، وإن كانت بأجرة فالمنصوص عن مالك الكراهة لأنه من أكل الدنيا بعمل الآخرة، فالظاهر حمله على النيابة عن الميت الموصي لا عن الحي فلا يخالف ما قبله. انتهى.

وفي الحطاب: والكلام في العمرة كالكلام في حج التطوع لأنها عبادة بدنية وشأنهما واحد، فما جاز من ذلك -يعني الاستنابة- بأجرة أم لا في الحج جاز في العمرة، وما منع من ذلك في الحج منع في العمرة، فإن قيل: ما قررت به قوله: "وإلا كره"، من شموله لاستنابة غير القادر في الفرض غير ظاهر؛ إذ العاجز لا فريضة عليه؛ فالجواب: أن معنى ذلك ما يقع منه فرضا أن لو كان صحيحا كبدء مستطيع به عن غيره؛ يعني أنه يكره للمستطيع إذا كان صرورة أن يبدأ بالحج عن غيره قبل حجه عن نفسه، وأفهم جوازه للعاجز إذا تكلفه. وقوله:"به" متعلق: "ببدء"، والضمير عائد على الحج، فيشمل ما إذا كان من قد حج عنه صرورة، أو غير صرورة، وقوله:"كبدء مستطيع به"، يريد بغير أجرة، ومفهوم بدء أن تطوع مستطيع عن شخص بعد

ص: 372

سقوط الفرض عن ذلك المتطوع لا يكره حيث كان بغير أجر، بدليل قوله: وإجارة نفسه؛ يعني أنه يكره للشخص أن يؤاجر نفسه في عمل طاعة كان حجا أو عمرة أو إمامة في الصلاة، وقد مر جواز الإجارة على الأذان وحده أو مع صلاة، وإيضاح ذلك أنه يكره للشخص أن يؤاجر نفسه في عمل من أعمال الطاعات إلا ما نص على جوازه، قال إمامنا مالك: لأن يؤاجر الرجل نفسه في حمل اللين والحطب وسوق الإبل أحب إلي من أن يعمل عملا لله تعالى بأجر، وهذه دار الهجرة لم يبلغنا أن أحدا منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج عن أحد، ولا أذن فيه. انتهى. وذكر أبو حنيفة أنه يلزمه أن يستأجر من يحج عنه، وأن ينوي الحج ويقع للنائب تطوعا وللمستنيب أجر النفقة والدعاء، وقوله:"كبدء مستطيع" الخ، لا يأتي على المشهور من منع النيابة وعدم صحتها لا عن الصحيح ولا عن المريض، ولا على ما ذكره المصنف من الكراهة على ما فيه وإلا لكرهت مطلقا، وإنما هو مفرع على جواز الوصية. قاله محمد بن الحسن. وقوله:"وإلا كره"، سواء كان النائب أجنبيا أو قريبا للمستنيب ولو ولدا على المشهور، وثالثها إلا الولد، ورابعها وقريب، وقوله:"وإجارة نفسه"، محل الكراهة حيث كرهت الاستنابة كما في قوله:"وإلا كره"، وتلزم الإجارة، فإن كانت ممنوعة فسخت فلا تكون إجارة نفسه مكروهة؛ إذ لا يتصور كون العقد من جانب مكروها ومن جانب حراما ويفسخ، وقوله:"وإجارة نفسه"، مفرع على قوله:"ونفذت الوصية"، كما لابن الحاجب وابن عبد السلام والتوضيح، ونصه: وإذا أجزنا الوصية وأنفذناها بعد الوقوع، فهل يجوز بعد ذلك أن يؤاجر نفسه أو يكره؟ في ذلك قولان المشهور كراهته لأنه أخذ العوض عن العبادة، وليس ذلك من شيم أهل الخير. انتهى. ونحوه لابن شأس. قاله محمد بن الحسن. ونفذت الوصية به أي بالحج؛ يعني أنه إذا قلنا إن الاستنابة في الحج مكروهة فإن الوصية به تنفذ على المشهور وهو مذهب المدونة، وقال ابن كنانة: لا تنفذ الوصية به لأن الوصية لا تبيح الممنوع، قال: ويصرف القدر الموصى به في هدايا، وقال بعض من قال بقوله: يصرف في وجه من وجوه الخير. من الثلث؛ يعني أن الوصية المذكورة إنما تنفذ من الثلث: وإنما نفذت الوصية بالحج عند مالك، وإن كان لا يجيز النيابة في الحج مراعاة لخلاف الشافعي.

ص: 373

وتنفذ الوصية من الثلث سواء كان الموصي صرورة، أو غير صرورة وقال أشهب: إن كان صرورة نفذت الوصية من رأس المال، فإن لم يوص به لم يحج عنه، وقال ابن الحاجب: وإن لم يوص لم يلزم وإن كان صرورة، ومفهوم كلامه أن مقابل الأصح يقول يلزم أن يحج عنه وإن لم يوص، وهذا القول غير معروف أنكره ابن عرفة، واعترضه التوضيح أيضا بأن الخلاف في الجواز وعدمه كما يظهر من كلام ابن بشير وابن شأس لا في اللزوم، خلافا لابن الحاجب، وإذا أوصى بمال وَحَجٍّ فإن كان صرورة فقال مالك في المدونة: يتحاصان، وقال في العتبية: يقدم حجة الفريضة، قال في البيان: والصحيح على مذهب مالك أن الوصية بالمال مبدأة الأنه لا يرى أن يحج أحد عن أحد فلا قربة في ذلك على أصله، وإن كان غير صرورة ففي المدونة: أنَّ المال مبدأ، وفي العتبية: يتحاصان، ففي هذه قولان، وفي الأولى ثلاثة أقوال.

وقد علمت أن محل هذا حيث كان الثلث لا يسع الجميع وإلا فلا تحاص، بل يخرج الجميع من الثلث. والله سبحانه أعلم. واقتصر المصنف على مذهب المدونة في المسألتين؛ أعني مسألتي الوصية بمال، وحج من الصرورة وغيره.

فائدة: قال ابن عبد السلام: في شرح ابن الحاجب، قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي: الفرق بين النيابة والاستنابة أن النيابة وقوع الحج عن المحجوج عنه وسقوط الفرض عنه، ومعنى الاستنابة جواز الفعل من الغير فقط، يريد بالغير المستنيب. انتهى. نقله الحطاب. فجواز في كلامهم اسم مصدر أجاز، فهو بمعنى إجازة ومعناه الإذن والإباحة المقابلة للمنع، وقوله: من الغير، من فيه بمعنى: عن متعلقة بالفعل، وكأنه عبر بجواز دون طلب الذي يشعر به السين والتاء؛ لأنها تارة تكون على وجه الطلب من المستنيب، وتارة بدونه بل إطلاقا وإباحة لمن أراد ذلك، ولفظ جواز يتناول الأمرين وإن كان فيه من الخفاء ما لا يخفى. قاله المسناوي. قاله محمد بن الحسن.

وَحُجَّ عَنْهُ حِجَجٌ؛ يعني أن الشخص إذا أوصى أن يحج عنه بجميع ثلث ماله، فإنه يحج عنه بذلك حجج متعددة حتى يستوعب جميع ما أوصى به، وإنما يحج عنه من بلده إن لم يسم بلدا وإلا فمنه، فإن فضلت فضلة لم يمكن الحج بها من بلده فإنه يحج بها عنه من حيث ما بلغ، ولو من مكة هكذا في المواق عن ابن رشد. قاله محمد بن الحسن. وقوله "حجج"، رد به على ابن

ص: 374

المواز حيث استحسن جعله في حجة. إن وسع؛ يعني أن محل كونه يحج عنه حجج إنما هو إذا وسع ما أوصى به ذلك لكثرته، فإن لم يسع ذلك حج عنه بما وسع من حجة واحدة أو أكثر. ابن عاشر: ليس المراد بوسع إمكان الحج به أكثر من مرة واحدة فقط كما يتبادر من لفظه، بل المراد كثرته جدا، حتى أنه لو كان ثلثه يشبه أن يحج به حجة واحدة وأمكن أكثر من ذلك كان الزائد ميراثا. قف على التوضيح. قاله محمد بن الحسن. ويأتي نحوه قريبا للشبراخيتي، وقال يحج به؛ يعني أن محل كونه يحج عنه حجج إن وسع إنما هو إذا قال: يحج به عني أو حجوا به عني، فيحج عنه حجج ولو كثر الثلث كثلاثة آلاف دينار كان الموصي صرورة أو غيره، قال الشيخ إبراهيم: وهذا إذا أشبه أن يكون ما أوصى به يحج به أكثر من واحدة، وأما إن أشبه أن يحج به واحدة فإنه يرجع الباقي ميراثا، ولو قدر أن يحج به أكثر من واحدة لوجود من يؤجره بأقل كما يفهم من كلام الشارح. انتهى. وهو موضح لما تقدم عن ابن عاشر. والله سبحانه أعلم.

والواو في قوله: "وقال"، إما للعطف على "وسع"، أو واو الحال وجعلت كلام المصنف في الوصية بالثلث. لا منه؛ يعني أن محل كون الموصي يحج عنه حجج إنما هو حيث قال: حجوا به، وأما إن قال: حجوا منه، فإنما يحج عنه حجة واحدة لإتيانه بمن التبعيضية والباقي يكون ميراثا. وإلا؛ أي وإن لم يبلغ الثلث حججا، فإنه بحج عنه حجة واحدة، وما بقي فهو ميراث. وتحصل من هذا أن الباقي بعد حجة واحدة يرجع ميراثا، فيما إذا قال: منه، قل أو كثر، وفيما إذا لم يسع الثلث حجتين فأكثر حيث لم يقل منه، فإن وسع أكثر منها حج عنه بقدر ما وسع من الثلث، وما بقي مما لا يسع حجة فهو ميراث. كوجوده بأقل، تشبيه في رجوع الباقي ميراثا؛ يعني أن الموصي إذا سمى قدرا من المال يحج به، فوجد من يحج بأقل منه فإن الباقي يرجع ميراثا كما قاله ابن القاسم في المدونة، وهذا إذا لم يسم الميت من يحج عنه، وسيأتي ما إذا سمى الميت من يحج عنه، والضمير في قوله:"كوجوده"، يرجع للأجير، وقوله: بأقل؛ أي مما سمى. أو تطوغ غير، عطف على وجوده فهو تشبيه في رجوع المال ميراثا، ومعنى كلامه أن الميت إذا سمى قدرا من المال يحج به فتطوع أحد بالحج عنه فإن المال كله يرجع ميراثا. وهل إلا أن يقول يحج عني بكذا؟ هذا راجع لقوله:"كوجوده بأقل أو تطوع غير"؛ يعني أن الشخص إذا

ص: 375

سمى قدرا من المال يحج به ولا فهم منه إعطاء الجميع فوجد من يحج بأقل من القدر المسمى أو من يتطوع عنه بالحج، وقلنا يرجع الباقي في المسألة الأولى ميراثا والمال كله في الثانية كما مر، فهل ذلك مطلقا؟ سواء قال الميت: يحج عني بكذا حجة، أو قال: يحج عني بكذا ولم يقل حجة، أو يرجع ميراثا في المسألتين إلا إذا قال الميت يحج عني بكذا ولم يقل حجة، فإنه يصرف كله في الحج، ويحج عنه حجج. ولا يرجع الباقي في الأولى ميراثا ولا المال كله في الثانية، وعلى هذا التأويل فما بقي بعد حجة ولم يبلغ أخرى يرجع ميراثا. والله سبحانه أعلم. وإيضاح كلام المصنف أن تقول: ظاهر كلام ابن القاسم أنه يرجع الباقي في المسألة الأولى ميراثا والمال كله في الثانية مطلقا، وفصل ابن المواز، فقال: إن قال حجوا عني به حجة فكذلك، وإن قال: حجوا عني به ولم يقل حجة، حج عنه به حجج، واختلف هل قول ابن المواز مفسر لقول ابن القاسم أو خلاف له؟ والأقرب أنه خلاف، وإلى الخلاف في كون قول ابن المواز تفسيرا لقول ابن القاسم أو خلافا له، أشار المصنف بقوله: تأويلان؛ وهذا الذي قررت به كلام المصنف من رجوع قوله: "وهل إلا أن يقال يحج عني بكذا فحجج تأويلان" لقوله: "كوجوده أو تطوع غير"؛ هو الذي قرره به الحطاب وغيره.

وقال الحطاب: إنه هو المتعين، وما عداه إنما هي احتمالات يدفعها ظاهر كلام المصنف، وتردها النقول إما لكونها مخالفة لها أو لعدم وجودها. والله أعلم. انتهى. وعلى هذا التقرير الذي قررته تبعا للحطاب، فإذا وجد من يتطوع عنه بحجة فإن جميع المال يرجع ميراثا على التأويل الأول، وأما على التأويل الثاني فكذلك أيضا إن كان المال لا يسع إلا حجة واحدة، فإن كان يسع حجتين أو أكثر ووجد من يتطوع عنه ببعض ما يسعه المال، كما إذا كان المال يسع أن يحج به ثلاث حجات ووجد من يتطوع عنه بحجة منها، فإن ما يقابل تلك الحجة من المال يرجع ميراثا ويستأجر بباقيه من يحج عنه ما بقي ولم يتنزل لهذا الحطاب. قاله الشبراخيتي.

وقولي في أول الحل: ولا فهم منه إعطاء الجميع، قال المصنف في مناسكه: وإن سمى قدرا حج عنه به، فإن وجدوا من يحج عنه بدونه كان الفاضل ميراثا إلا أن يفهم إعطاء الجميع هذا إن سمى حجة، وإن لم يسم فكذلك عند ابن القاسم. وقال ابن المواز لخ.

ص: 376

تنبيه: قال عبد الباقي وغيره: إن قوله: "تأويلان"، لا يجريان في مسألة الإيصاء بالثلث، بل يصرف جميعه في الحج، وجد من يحج بأقل منه أو تطوع غير أولا، وجعل قول المصنف:"كوجوده بأقل أو تطوع غير"، فيما إذا عين قدرا، وجعل قوله:"وحج عنه حجج إن وسع"، فيما إذا وصى بالثلث وهو الذي قررت به، وقال محمد بن الحسن: إنه لا فرق بين أن يوصي بالثلث وبين أن يعين قدرا يحج به، فجعل التأويلين جاريين في مسألتي الإيصاء بالثلث وبقدر معين، قال: ومحلهما في غير الواسع، وأما الواسع فلا يجري فيه التأويلان كان ثلثا أو قدرا معينا، وقال عند قول المصنف:"كوجوده بأقل"، هذا في غير الواسع وهو ما يشبه أن يحج به حجة واحدة، ويمكن أكثر كما ذكر ابن عاشر، وهو داخل تحت إلا، لكن ذكره لأجل التأويلين. هذا هو الصواب في فهم كلام المصنف كما يدل عليه كلام ابن رشد الآتي وغيره، ولا فرق بين أن يوصي بمال معين أو بالثلث كما حمله عليه الشارح والتتائي، وكلام ابن رشد الذي أشار إليه هو قوله في البيان: إنه لما كان الثلث واسعا حمل على أنه لم يرد حجة واحدة، ولو كان ثلثه يشبه أن يحج به حجة واحدة رجع ما بقي ميراثا كما قال في المدونة. انتهى. وقال محمد بن الحسن عند قول المصنف:"وهل إلا أن يقول": الظاهر أن التأويلين يرجعان للمسألتين كما في الحطاب والخرشي وغيرهما. انتهى المراد منه.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: الظاهر من صنيع الحطاب أنه موافق لما قال عبد الباقي، والله سبحانه أعلم. وعلم مما مر عن محمد بن الحسن أنه إذا أوصى بالثلث للحج، وقال: حجوا عني حجة أن الباقي يكون ميراثا. والله سبحانه أعلم.

وتَحَصَّلَ مما مر أن محمد بن الحسن جعل كلام المصنف كله شاملا للوصية بالثلث ونحوه، وبقدر معين والتأويلان عنده جاريان في الشائع وغيره، وإنما يجريان في غير الواسع فقط لا في الواسع، وأن عبد الباقي وغيره جعل قوله:"وحج عنه حجج إن وسع" إلى قوله "فميراث" في الوصية بالثلث، وقوله:"كوجوده بأقل أو تطوع غير"، فيما إذا أوصى بقدر معين. والله سبحانه أعلم.

تنبيه: قال عبد الباقي: حيث قلنا يحج عنه حجج، فهل يجتزى بفعلها من متعدد في عام واحد، أو إنما يُجْتَزَأُ بها إن وقعت على ما كان يوقعها الموصي؟ وهذا حيث لا يفهم من حاله

ص: 377

شيء، وإلا عمل عليه كما في قوله:"وحج على ما فهم"، ودفع المسمى، يشمل ما عين بالجزء كسدس أو ثلث، أو بالعدد كأربعين دينارا، وبالشخص كهذا، وإن كان ذلك المسمى قد زاد على أجرته أي أجرة مثله لمعين، متعلق "بدفع"، وسواء كان معينا بالشخص كزيد أو بالوصف كعالم، والضمير في أجرته يعود على الحج، ويمكن أن يعود على المعين، وفيه عود الضمير على متأخر لفظا، متقدم رتبة وهو سائغ، وقوله: لا يرث صفة لمعين؛ يعني أن الشخص إذا أوصى أن يحج عنه شخص عينه كزيد بكذا، فإنه يدفع جميع المسمى لذلك الشخص المعين، سواء كان المسمى يزيد على أجرة المثل أم لا بشرط أن يكون هذا الشخص المعين لا يرث بالفعل كأجنبي أو أخ مع وجود ابن وهو قيد في المبالغ عليه فقط، وأما قدر الأجرة فيدفع لذلك الشخص المعين وإن كان وارثا بالفعل، فلو حذف المصنف الواو الداخلة على إن لكان أحسن أو تجعل للحال، ويعتبر كونه وارثا أو غير وارث وقت تنفيذ الوصية، وسيأتي للمصنف في الوصية:"والوارث يصير غير وارث، وعكسه المعتبر مآله"، وليس للمعين أن يقول ادفعوا إلي الزائد وأحِجُّوا غيري لأنه إنما أوصى له بشرط الحج، فإن أوصى أن يحج عنه وارث بثلثه، فقال العوفي: لا يدفع له إلا على البلاغ إذا كان فيه كثرة لأنه يرد الفضل، وفي الضمان: لا يرد، فتتحقق الوصية لوارث. انتهى. وهو يخصص قوله فيما مر:"وإجارة ضمان على بلاغ" بما إذا لم يعلم أنه لا يفضل شيء من الأجرة للوارث وإلا منعت إلا أن يرضى بها الوارث، فينتفي المنع فيقع العقد عليها كما يفيده الطخيخي. قاله الشيخ عبد الباقي. فعلم أن منع دفع الثلث للوارث إجارة ضمان إنما هو حيث لم يُعلَم أن إجارة الضمان لا يفضل فيها شيء من الأجرة للوارث وإلا جاز. فهم إعطاؤه له؛ يعني أن محل كون المعين يدفع له المسمى وإن زاد على أجرة المثل إنما هو حيث فهم من الموصي إعطاء الزائد له، وأما إن لم يفهم من الموصي إعطاء الزائد له فإنما له أجرة مثله ولا يزاد عليها، فإن أبى فقال عبد الباقي: لا شيء له ويرجع ميراثا. انتهى. قال محمد بن الحسن: فيه نظر لأن أقل أحواله أن يكون كما إذا عين غير وارث ولم يسم، وقد قال المصنف:"زيد إن لم يرض بأجرة مثله ثلثها". انتهى. وما ذكره المصنف هو قول ابن القاسم في المدونة، وقال ابن المواز: يكون الجميع للموصى له، فهم إعطاؤه له أولا، إلا أن يرضى بدونه بعد علمه بالوصية. وإن

ص: 378

عَيَّن غيرَ وارث ولم يُسَمِّ زِيدَ؛ يعني أن الموصي إذا عين للحج عنه شخصا غير وارث، فإن سمى شيئا لم يزد عليه، وإن لم يسم قدرا يدفع له، فإن رضي بأجرة مثله فواضح، وزيد إن لم يرض بأجرة مثله ثلثها، بالرفع نائب فاعل زيد، وبالنصب مفعول ثان ونائب الفعل ضمير مستتر يعود على الموصى له، كما قالوا في نحو: زَيدٌ زِيدَ في رزقه عشرون من جواز الرفع لعشرين على أنه نائب الفاعل، والنصب على أنه مفعول ثان لزِيدَ، ونائب الفاعل مستتر، والزيدون زِيدُوا أو زِيدَ في رزقهم عشرين أو عشرون، والزيدَانِ زِيدَا أو زِيدَ في رزقهما عشرين أو عشرون. ومفهوم قوله:"إن عين غير وارث"، أنه لو عين وارثا لم يُزَدْ على أجرة مثله -كما مر- ثم تربص؛ يعني أن الموصى له المعين وهو غير وارث إذا لم يرض بأجرة المثل ولا بما زيد عليها من ثلثها، فإنه يتربص أي ينتظر مدة لعله يرضى، وهل يتربص سنة أو بالاجتهاد؟ قولان، وزيادة الثلث والتربص المذكوران جاريان في الصرورة وغيره.

ثم أوجر للصرورة؛ يعني أنه بعد التربص المذكور الكائن بعد زيادة ثلث الأجرة ينظر، فإن كان الموصي صرورة وهو الذي لم يحج الفرض فإنه يؤجر له غير المعين يحج عنه، وأما غير الصرورة فتبطل الوصية للمعين ويرجع المال كله ميراثا كما في المدونة؛ لأن رد المعين كرد الوصية من أصلها، ولهذا قال: فَقَطْ أي إنما يستأجر غير المعين للحج عن الموصي في الصرورة فقط؛ أي دون غيره ممن لم يكن صرورة، فتبطل الوصية ويرجع المال كله ميراثا، وما مشى عليه المصنف في الصرورة متفق عليه، وما مشى عليه في غير الصرورة هو قول ابن القاسم في المدونة، وقال غير ابن القاسم في المدونة: لا فرق بين الصرورة وغيره فيؤجر من يحج عنه.

فرع: قال في كتاب الوصايا من المدونة: ومن قال في وصيته: أحجوا فلانا ولم يقل عني أعطي من الثلث قدر ما يحج به، فإن أبى الحج فلا شيء له، وإن أخذ شيئا رده إلا أن يحج به. قال أبو الحسن عن اللخمي: يعطى ما يقوم به لحجه لكراء ركوبه وزاده وثياب سفره وغير ذلك من آلات السفر وكراء سكناه بمكة أيام مقامه حتى يحج، والنفقة في ذلك على ما يعتاد مثله، فإذا انقضت أيام الرمي سقطت النفقة عن الموصي إلا أن تكون العادة في مثل هذا أن ينفق عليه حتى يعود إلى أهله.

ص: 379

الشيخ: ولو قال أحجوا فلانا الوارث لم يدفع إليه شيء لأنها وصية لوارث. انتهى. قاله الحطاب. وقوله: "ولم يقل عني" وأما إن قال عني فهو ما مر من كلام المصنف.

واعلم أن الصرورة يطلق لغة على من لم يتزوج كأنه صر دراهم ولم ينفقها، وقال الشافعي: أكره لمن لم يحج أن يسمى صرورة واحتج أصحابه بخبر ابن عباس: (لا صرورة في الإسلام

(1)

)، وقال سند: لا حجة فيه لأنه ما قال لا يقال لمسلم صرورة، وإنما نهى أن يكون المسلم صرورة إما بأن ينقطع عن النكاح على وجه رهبانية أو يترك الحج مع القدرة فيبقى صرورة. غير عبد، "غير"، بالرفع نائب أْوجِرَ؛ يعني أنه يشترط في كل أجير حاج عن صرورة أن لا يكون عبدا لتنزل حجه منزلة حج الموصي، وليس خاصا بالصرورة قبله، وحينئذ فالصرورة في غير فرض المصنف لا يؤجر له العبد والصبي، كما أنه في فرض المصنف كذلك وإنما يختلفان في غير الصرورة، ففي فرض المصنف لا يؤجر له عبد ولا صبي، ويرجع المال كله ميراثا كما مر، وفي غيره يؤجر له العبد والصبى. وَصَبي؛ يعني أنه يشترط في كل أجير حاج عن صرورة أن لا يكون صبيا لتنزل حجه منزلة حج الوصي وليس خاصا بالصرورة قبله، وحينئذ الخ ما مر فَأَجْرِ حكم الصبي على حكم العبد في جميع ما مر قريبا كما قدمته من غير فرق يا فتى، وإذا أوصى الصبي أن يحج عنه عبد أو صبي نفذت وصيته، فإن أبى ولي الصبي أو سيد العبد فيما إذا عينهما الموصي استؤني لبلوغ الصبي، فإن حج وإلا رجع المال كله ميراثا، وأما العبد فذكر فيه ابن يونس قولين أحدهما عن غير واحد من متأخري الفقهاء أنه لا يستأنى عتق العبد، فيرجع ميراثا كما في الحطاب، وتنظير عبد الباقي قصورٌ، والثاني أنه يستأنى عتق العبد حتى يحصل اليَأْس من عتقه فيورث حينئذ، والظاهر الأول؛ لأن لبلوغ الصبي حدا ولا حد لعتق العبد، وفي المدونة: ومن أوصى عند موته أن يحج عنه أنفذ ذلك ويحج من قد حج أحب إلي، وإن استؤجر لمن لم يحج أجزأ، وفي النوادر: ومن أوصى أن يحج عنه فأنفذ ذلك ثم استحقت رقبته، فإن كان معروفا بالحرية فلا ضمان على الوصي ولا على الأجير وما لم يفت من ذلك رد، وسيأتي للمصنف:"وإن أنفذت وصية مستحق برق" الخ.

(1)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1729.

ص: 380

ولما كان يكفي في النائب مشاركة المنوب عنه في أصل تعلق الخطاب لاشتراكهما

(1)

في كل الأفعال، والمرأة تشارك الرجل في ذلك الأصل، نبه على صحة استيجارها عنه بقوله: وإن امرأة؛ يعني أن المرأة يجوز استيجارها على أن تحج عن رجل لمشاركتها له في أصل تعلق الخطاب، وإن خالفته في صفة الإحرام والرمل في الطواف والسعي، خلافا لمن منع نيابتها لذلك عنه، وإذا أبى الموصى له ثم رجع قبل قسم الوارث المال في مسألة غير الصرورة، وقبل استيجار غيره في مسألة الصرورة فهل يعمل برجوعه أو بمجرد إبايته استحق الورثة المال في مسألة غير الصرورة

(2)

؟ ويفرق في مسألة الصرورة فإن رجع قبل الاستيجار قُبلَ رجوعه وبعده لا يعمل برجوعه. انظر في ذلك. قاله عبد الباقي.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: والظاهر أنه بمجرد مضي التربص المذكور يكون ملكا للورثة في مسألة غير الصرورة كما هو ظاهر كلام غير واحد، وأنه في مسألة الصرورة بعد عقد الإجارة لا يعمل برجوعه؛ لأن العقد وقع صحيحا منبرما فمضيه واضح، وأما إن رجع بعد مضي التربص وقبل عقد الإجارة فالظاهر أنه يعمل برجوعه تنفيذا لغرض الموصي. والله سبحانه أعلم انتهى.

ولم يضمن وصي دفع لهما مجتهدا؛ يعني أن الوصي إذا دفع المال إجارة للعبد والصبي ظانا بلوغ الصبي وحرية العبد فحجا عن الصرورة أو لم يحجا وتلف المال، فإن الوصي لا يضمن شيئا من ذلك المال عند تبين خطإ ظنه؛ لأنه اجتهد حد اجتهاده والمقصود حصول الثواب وهو يحصل مع العبد والصبي، وأما لو بقي المال بأيديهما فإنه ينزع منهما، ومحل التقييد بالاجتهاد حيث كانا لا يستأجران، وذلك فيما إذا كان الموصي صرورة ولم يأذن في استئجارهما أو كان غير صرورة ومنع من استئجارهما، وإذا قلنا بعدم الضمان على الوصي فإن العبد يضمن إن غر وتكون جناية في رقبته كما مر في الزكاة في قوله:"وإن غر عبد بحرية فجناية على الأرجح". قاله عبد الباقي، والخرشي والشبراخيتي. وسيأتي في آخر الوديعة أن كل ما يتعلق برقبة العبد فهو في مال الصبي، وكل ما يتعلق بذمته فهو ساقط عن الصبي. انتهى. وقال محمد بن الحسن عند قول عبد

(1)

كذا في الأصل ولينظر.

(2)

لفظ عبد الباقى في مسألة غير الصرورة ووجب الاستئجار للصرورة وأما إن رجع بعد قسم الورثة وبعد الاستئجار فلا يعمل برجوعه انظر في ذلك ج 2 ص 247 ط دار الفكر.

ص: 381

الباقي "ما يتعلق برقبة العبد" الخ: غير صحيح، بل هو في ذمته. انتهى. وأما ما يستأجران فيه، وذلك فيما إذا كان الموصي صرورة وعين عبدا أو صبيا أو غير صرورة ولم يمنع منهما، فإنه لا يضمن الوصي بدفعه لعبد أو صبي مالًا يحج به عن الموصي ولو علم أنه صبي أو عبد، ومفهوم قوله:"مجتهدا"؛ أنه لو دفع إليهما غير مجتهد ضمن وهو كذلك. والله سبحانه أعلم.

وإن لم يوجد بما سمى من مكانه حج من الممكن؛ يعني أن [الوصي]

(1)

إذا سمى قدرا فإنه لا يزاد عليه الأجير بل يحج به عنه من مكانه الذي أوصى فيه، فإن لم يوجد من يحج عنه بما سمى من مكانه فإنه يحج عنه به من المكان الممكن الحجُّ منه، وقوله:"يوجد"، مركب، والنائب ضمير مستتر عائد على الأجير، وقوله:"من مكانه"، قال محمد بن الحسن: المراد بمكانه محل موته. ابن عرفة: ويحج عنه من محل موته، فإن قصر عنه المال فمن حيث أمكن. انتهى.

وعلم من هذا أن الضمير في "مكانه"، عائد على الموصي، وقوله:"من مكانه"، متعلق بمقدر تقديره: وإن لم يوجد أجير يحج من مكان الميت. ولو سمى؛ يعني أنه إذا لم يوجد من يحج عنه بما سمى من مكان موته، فإنه يحج عنه من المكان الممكن الحج منه، ولا فرق في ذلك بين ما إذا لم يسم الموصي بلدا، بأن قال: حجوا عني، وبين ما إذا سمى مكانا كقوله: حجوا عني من بلد كذا، فيتعين مكان موته إن وجد من يحج منه، فتسميته غير ما مات به لغو، فإن لم يمكن الحج من مكان موته فيحج عنه من المكان الممكن، ورد المصنف بلو قول ابن القاسم: يرجع ميراثا حيث سمى الموصي مكانا وإن لم يَمْنَعْ، وما عند المصنف قول أشهب، وفي التوضيح أنه روي أيضا عن ابن القاسم. إلا أن يَمْنَعَ؛ يعني أن محل كونه يحج عنه من المكان الممكن حيث سمى مكانا ولم يوجد من يحج عنه من مكانه إنما هو حيث لم يمنع الموصي من أن يحج عنه من غير المكان الذي سماه، وأما إن منع من غير المكان الذي سماه بنص، كلا تحجوا عني إلا من موضع كذا أو بقرينة، إنه لا يحج عنه من الممكن، والمال الذي سماه ميراث، وإذا تأملت ما قررت به كلام المصنف علمت أن صورة المسألة أنه سمى قدرا من المال وقال حجوا به عني فلم يوجد من يحج عنه به من بلده الذي أوصى فيه؛ أي المكان الذي مات فيه، فإنه يستأجر له من مكان يمكن أن

(1)

كذا في الأصل.

ص: 382

يحج عنه منه، ولا خلاف في ذلك إذا لم يسم مكانه الذي يحج عنه منه، فإن سماه بأن قال: حجوا عني بهذا القدر من المكان الفلاني فلم يوجد من يحج عنه من مكانه، فالمشهور أنه يستأجر له من يحج عنه من المكان الممكن، وهذا هو قول ابن القاسم: ولا يرجع ميراثا إلا أن يمنع بنص كلا تحجوا عني إلا من موضع كذا أو قرينة، فميراث اتفاقا، وقد مر أن المراد بمكانه المكان الذي مات فيه، وعليه فتسميته غير ما مات به لغو قاله محمد بن الحسن.

ولزمه الحج بنفسه؛ يعني أن الشخص إذا استؤجر على الحج فإنه يلزمه أن يحج بنفسه عمن استؤجر على أن يحج عنه، وهذا إذا أطلق وأولى إن وقع منه نص أو قرينة على ذلك، فالنص كقوله: استأجرتك للحج بنفسك والقرينة ككونه ممن يرغب فيه لعلمه أو صلاحه، ولا يجوز له استئجار غيره ولا يقوم وارثه مقامه في المسائل الثلاث على ما شهره المصنف هنا في الإطلاق؛ أي حيث لم ينص ولم تقم قرينة بخلاف أجير غير الحج في الإطلاق، وعلى مقابل المصنف يتعلق بذمته وينبني على الخلاف إذا أراد الأجير أن يستأجر من هو في مثل حاله، ويخرج عليهما ما إذا مات الأجير في أثناء الطريق، فعلى تعلقهما بنفسه تنفسخ الإجارة، وعلى تعلقهما بذمته يستأجر له من ماله من يتم ويكون الفضل له والنقصان عليه. وقوله:"بنفسه"، توكيد، وذلك يوجب كون الباء زائدة كما ذكره المرادي وغيره، ثم إن النائب يصلي ركعتي الإحرام والطواف، وليس هذا من النيابة في الأعمال البدنية لأن هذه ليست نيابة حقيقة، قال في المدونة: من حج عن ميت فالنية تجزئه، وإن لم يقل لبيك عن فلان، قال سند: ومقصوده أن ينعقد عن الغير بمجرد النية كما ينعقد عن المحرم بمجردها. وقوله: "ولزمه الحج بنفسه"، قد علمت أنه لا يقوم وارثه مقامه وهذا حيث عين الأجير كما علم من التقرير، ويأتي مفهوم ذلك قريبا إن شاء الله تعالى عند قول المصنف:"وقام وارثه مقامه". لا الإشهاد، عطف على الحج؛ يعني أنه لا يلزم الأجير أن يشهد عند الإحرام أنه أحرم عن فلان، وهذا إذا قبض الأجرة مطلقا أو لم يقبضها وكان غير متهم وحلف أنه أحرم عن المستأجر، وظاهر سند تصديقه بغير يمين، وأما إن كان متهما فلا بد من إشهاده عند الإحرام ولا يكفي منه اليمين، وهذا التفصيل في إجارة الضمان فقط لا في البلاغ؛ لأن تأخير الأجرة فيها أو بعضها يفسدها. قاله عبد الباقي. قال محمد بن الحسن:

ص: 383

يعني إذا كان التأخير مدخولا عليه. انتهى. إلا أن يعرف؛ يعني أنه لا يلزم الأجير الإشهاد عند الإحرام أنه أحرم عن فلان إلا أن يجري العرف عند الناس بالإشهاد أو يشترط فيلزمه الإشهاد عند الإحرام، ولا يصدق في دعواه ولو أمينا وحلف، ولا يستحق أجرة ولو قبضها.

وبما قررت علم أن قوله: "إلا أن يعرف"، نائبه ضمير يعود على "الإشهاد". سند: إن كان بينهم شرط أو عرف عمل به، وإن انتفيا فإن قبض الأجرة فهو أمين على ما يفعل ولا تسترد منه الأجرة حتى تثبت خيانته، وإن لم يقبض الأجرة فلا شيء له حتى يثبت أنه وفى ولا يصدق إن اتهم إلا ببينة. والله أعلم. قاله الحطاب. ولما قدم أن الأجير المعين بنص أو قرينة وكذا عند الإطلاق يلزمه الحج بنفسه وقيل بذمته وعليهما ينبني لو مات الأجير أثناء الطريق كما مر، بَيَّنَ الحكم في الأجير غير المعين، فقال: وقام وارثه مقامه في من يأخذه في حجة؛ يعني أن الأجير غير المعين إذا مات في الأثناء فإن وارثه يقوم مقامه مثال ذلك أن يقول الموصي: ادفعوا هذا القدر إلى من يأخذه في حجة مضمونة في ذمته، أو من يأخذ هذا القدر في حجة فيأخذه شخص.

واعلم أن ما أورده الشيخ عبد الباقي هنا من الاستشكال والجواب ساقط؛ لأن الإجارة إنما تنفسخ بتلف ما تستوفى منه المنفعة حيث كان معينا، والأجير هنا غير معين ثم إذا قام وارث الأجير مقام موروثه فإنه يبتدئ الحج ولا يكمل على فعل موروثه، ويُحْرِمُ من الموضع المشترَطِ الإحرامُ منه ومن ميقات للمستأجر حيث اتسع الوقت وإلا فمن موضع يدرك فيه.

وعلم مما مر أن الأجير إذا كان معينا لا يقوم وارثه مقامه، بل تنفسخ الإجارة وذلك في ثلاث: أن يقول استأجرتك على أن تحج عني بنفسك وعين بنص أو قرينة أو أطلق، وإلى ذلك أشار المصنف بقوله:"ولزمه الحج بنفسه"، وقيل إن أطلق بأن قال: استأجرتك على أن تحج عني ولم يقل بنفسك ولا قامت قرينة عليه فإنه يكون في ذمته، وأنه إن لم يكن الأجير معينا كما لو قال المؤجر من يأخذ كذا في حجة فأخذ ذلك المال شخص على أن عليه حجة في ذمته فمات ذلك الأجير في الأثناء، فإنه يقوم وارثه مقامه ويبتدئ الحج ولا يبني على ما فعل موروثه؛ لأن الإجارة لا تنفسخ بموت الأجير غير المعين، فللوارث أن يحرم في السنة المعينة إن لم تفت، وله أن يحرم في غير المعينة وإن فاتت، ويحرم من موضع شرط المستأجر أو من ميقاته، ولا يحتسب بما فعله موروثه

ص: 384

-كما مر- وقوله: "وقام وارثه مقامه" الضمير في "وارثه""ومقامه" للأجير، وأما وارث الموصي فإنه يقوم مقامه من غير فرق بين كون الأجير معينا وغير معين، وقد مر أنه إذا كان العام معينا وفات الحج وتراضيا على البقاء لقابل أن لهما ذلك.

والحجة بكسر الحاء وسمع فيها الفتح، وقال القسطلاني: في حجة الوداع فتح الحاء هو الرواية، ويجوز كسرها، وذو القعدة بفتح القاف على الأشهر. ولا يسقط فرض من حُجَّ عنه؛ يعني أن من حج عنه لا يسقط عنه الفرض بذلك؛ لأن الحج لا يقبل النيابة على المذهب، وسواء كان المحجوج عنه حيا أو ميتا، وكما لا يسقط عنه الفرض فذلك لا يكتب له نافلة، وَإذا لم يسقط الفرض عمن حج عنه فإنما لَهُ؛ أي من حج عنه أجر النفقة التي ينفقها الأجير في الحج من طعام وشراب ولباس وركوب وغير ذلك، وكما له أجر النفقة له أجر الدعاء؛ أي بركته، وَأَمَّا قَولُ عبد الباقي ففي الإجارة من مال المحجوج عنه للمحجوج عنه أجر النفقة والدعاء معا، وإن تطوع عنه أحد بالحج فله أجر الدعاء فقط، والمراد بأجر الدعاء في القسمين ثوابه، ولو كان الدعاء لنفس الأجير بدنيوي فيحصل لمن حج عنه ثواب خضوعه وتضرعه لله عز وجل، كما في خبر: (الدعاء مخ العبادة

(1)

)، فَفِيهِ نَظَرٌ بل لا يصح على مذهبنا لأن الخضوع لا يقبل النيابة، وعبارة ابن فرحون على ما في الحطاب: وثواب الحج للحاج، وإنما للمحجوج عنه بركة الدعاء وثواب المساعدة. انتهى. قاله محمد بن الحسن.

قوله: "ولا يسقط" الخ وخرج الباجي قولا بسقوط الفريضة. قاله الشارح. وتحصل مما مر أن ثواب الحج إنما يكون للحاج لا للمحجوج عنه فريضة أو نافلة، ولا يعترض على هذا بحديث: (إنما الأعمال بالنيات

(2)

)؛ لأنه يجاب عن ذلك بأن نية الحج هنا موجودة، والخلل إنما وقع في متعلقها وهو كونها عن فلان، وذلك لا يضر في أصل النية كما قالوا في قوله:"أو أخرج بعض المستباح" وإذا كان المستنيب شافعيا مثلا عنده الوقوف الركني من الزوال والنائب مالكي عنده ساعة من

(1)

الترمذي، كتاب الدعوات، الحديث:3371.

(2)

البخاري، كتاب بدء الوحي، الحديث:1.

ص: 385

ليلة النحر: فالظاهر أن المعتبر مذهب النائب لا غير ولو نوى النائب الحج عن نفسه لسقط عنه الفرض كما تقدم أنه الظاهر بمنزلة من غصب مالا وحج به.

وعلم مما مر أن للمحجوج عنه أجر النفقة وبركة الدعاء معا، فيما إذا استؤجر من ماله وله بركة الدعاء فقط فيما إذا تطوع عنه وقال الإمام أبو حنيفة: يلزم المعضوب الغني أن يستأجر من يحج عنه، ويلزم الأجير أن ينوي حجة الإسلام عن المعضوب، ثم تقع الحجة للأجير تطوعا دون المعضوب، وإنما له ثواب النفقة في إنفاق الأجير وتسهيل الطريق، وهذا قريب من قول مالك. قاله سند. وإنما قال قريبا لأن مالكا لا يقول يجب عليه الاستئجار. والله أعلم. ثم قال سند: والحج في الحقيقة منفعته لفاعله لأنه سعيه، قال الله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} ، فهو يرى سعيه ويجازاه أوفى جزاء، وإنما للمستنيب بقصد استنابته وإعانته وسعيه في ذلك. انتهى.

والمعضوب بعين مهملة وضاد معجمة من العضب وهو القطع، كأنه قطع عن كمال الحركة والتصرف، ويقال بالصاد المهملة كأنه ضرب على عصبة فانقطعت أعضاؤه. قاله الحطاب. وقد مر أن من حج عن ميت بالنية يجزئه وإن لم يقل لبيك عن فلان قاله في المدونة. سند: مقصوده أن الحج ينعقد عن الغير بمجرد النية.

تنبيه: إنما لم يسقط فرض من حج عنه لأن الحج من الأعمال البدنية التي لا تقبل النيابة كالصوم والصلاة، وصحت النيابة فيه مع الكراهة لغير المستطيع، ونفذت الوصية به مراعاة لما فيه من شائبة المال ففيه شائبتان، فمن حيث كونه عبادة بدنية لم يسقط الفرض بفعل النائب، ومن حيث كونه يصرف فيه مال صح عقد الإجارة عليه، كنيابة [إمام

(1)

] الصلاة شخصا يصلي عنه فالنيابة لا تسقط الفرض عن الأصل: وصحت النيابة مراعاة للمال وملازمة المحل الذي صلى فيه. وقوله: "وله أجر النفقة والدعاء"، انظر هل يجري ما ذكره المصنف في الإجارة الممنوعة وفي النيابة الممنوعة؟ كمن استناب غيره في الفرض ولم يطلع عليه حتى فعل الأجير واستحق أجرة المثل، ولا يقال المعصية لا ثواب فيها لأنا نقول المعصية من جهة، والثواب من جهة كمن تنفل

(1)

في الأصل إمامة والمثبت من عبد الباقى، ج 2 ص 248.

ص: 386

وعليه فريضة، كما قال ابن رشد. أولا يجري ذلك فيها. قاله الشيخ علي الأجهوري. نقله عبد الباقي.

وفي الجامع الصغير: (إذا لقيت الحاج فسلم عليه وصافحه ومره أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته، فإنه مغفور له

(1)

). رواه أحمد عن ابن عمر. قال شارحه: ضعيف رمز المصنف لحسنه، وفيه نظر، وظاهر الحديث أن طلب الاستغفار منه مؤقت بما قبل الدخول، فإن دخل فات، لكن في الإحياء عن عمر أن ذلك يمتد بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وعشرين من ربيع الأول. انتهى. وعليه فيتنزل الحديث على الأولوية. قاله الشبراخيتي.

وَلَّمَا فرغ المصنف من الكلام على حكم الحج والعمرة، وشرط صحتهما وشرط وجوب الحج، وما انجر إليه الكلام من بيان حكم الإجارة وأقسامها -وكان ذلك كله كالمقدمات- شرع يتكلم على المقاصد وهي الأركان، وَلما شاركت العمرة الحج في أركان ثلاثة أتى بالضمير مثنى للاختصار، فقال وَرُكْنُهُمَا الإِحْرَامُ، الركن هو الجزء من الشيء الذي ينعدم بانعدامه، فهو داخل في ماهية الشيء، بخلاف الشرط فإنه خارج عن ماهيته وإن كان ينعدم بانعدامه، ومعنى كلام المصنف أن للحج والعمرة أركانا منها الإحرام، فهو ركن في الحج وركن في العمرة، ويأتي قريبا تفسير الإحرام، والأركان التي ذكرها المصنف للحج أربعة، ثلاثة منها مجمع عليها وهي الإحرام والوقوف بعرفة والطواف، والرابع السعي بين الصفا والمروة، والمشهور أنه ركن في الحج والعمرة، وروى ابن القصار أنه واجب ينجبر بالدم وليس بركن، وبه قال أبو حنيفة وزاد ابن الماجشون في الأركان: الوقوف بالمشعر ورمي العقبة، والمشهور أنهما ليسا بركنين بل الأول مستحب والثاني واجب ينجبر بالدم، واختلف في اثنين خارج المذهب، وهما: النزول بمزدلفة والحلاق، والمذهب عندنا أنهما واجبان يجبران بدم، وحكى ابن عبد البر قولا بركنية طواف القدوم وليس بمعروف، بل المذهب أنه واجب ينجبر بالدم؛ فهذه تسعة أركان بين مجمع عليه ومختلف فيه في المذهب وخارجه، والمختلف فيه منها خارج المذهب اثنان كما علمت: النزول بمزدلفة والحلاق. قال

(1)

مسند أحمد ج 2 ص 69.

ص: 387

الحطاب: لكن ينبغي للإنسان إذا أتى بهذه الأشياء أن ينوي الركنية ليخرج من الخلاف، وليكثر الثواب. أشار له الشبيبي. انتهى.

واعلم أن أفعال الحج ثلاثة أقسام: أركان وواجبات وسنن، فَالقِسْمُ الأَوَّلُ هو ما لابد من فعله ولا يجزئ عنه بدل لا دم ولا غيره وهو ما تقدم ذكره؛ وهو ثلاثة أقسام: قِسْمٌ يفوت الحج بتركه ولا يؤمر تاركه بشيء وهو الإحرام، وَقِسْمٌ يفوت الحج بفواته ويؤمر بالتحلل بعمرة والقضاء في قابل وهو الوقوف بعرفة، وقسم لا يتحلل من الإحرام إلا بفعله، ولو صار إلى المشرق والمغرب رجع إلى مكة لفعله، وهو طواف الإفاضة والسعي.

والقِسْمُ الثَّانِي وهو ما يطلب بالإتيان به، فإن تركه لزم الدم كطواف القدوم والتلبية ورمي العقبة وغير ذلك، وجزم ابن الحاج بالتأثيم بتعمد تركه، وكذا ابن فرحون، وتردد في ذلك الطرطوشي، وقال ابن عبد السلام: من يقول بالوجوب يقول بالتأثيم، ومن يقول بالسنية لا يقول بالتأثيم.

وَالقِسْمُ الثَّالِثُ هو ما لا دم فيه ولا إثم بتعمد تركه، كغسل الإحرام وركوعه وغيرهما من المستحبات. والإحرام مصدر أحرم إذا دخل في الحرم أو في حرمة الحج أو العمرة أو الصلاة.

وعرفه ابن عرفة بأنه: صفة حكمية توجب لموصوفها حرمة مقدمات الوطء مطلقا، وإلقاءِ التفث، والطيبِ، ولبسِ الذكور المحيطَ، والصيدِ لغير ضرورة لا تبطل بما تمنعه. انتهى. قوله:"مطلقا"، أي في جميع الحالات ليلا ونهارا، سرا وجهرا، كان في أفعال الحج أو غيرها، وقوله: وإلقاء التفث، عطف على المضاف إليه والطيب كذلك، ولبس المحيط كذلك والصيد كذلك ومراده بالصيد الاصطياد لا ملك الصيد؛ لأنه إذا كان عنده صيد ثم أحرم ولم يكن حامله لا يسقط ملكه عنه، ولما رأى أن الصيد المطلق لقب على صيد البر أطلق فيه، وقوله: لغير ضرورة، راجع للأربعة، وقوله: لا تبطل بما تمنعه، صفة لقوله: صفة أو حال، وزاد ذلك للفرق بين هذه الصفة وغيرها؛ لأن إحرام غيرها يبطل بممنوعه كإحرام الصلاة وإحرام الاعتكاف وإحرام الصوم، ومراده بالبطلان قطعها أي لا يجب قطعها بحصول ممنوعها وإن كان الممنوع مما يفسد الحج كالوطء، قال الحطاب: والظاهر أن حَدَّ ابن عرفة غيرُ جامع لخروج من حصل منه التحلل الأول فقط، مع

ص: 388

أنه محرم كما صرح به صاحب الطراز وصاحب العلم وغيرهما، ولو اقتصر على قوله: توجب حرمة مقدمات الوطء والصيد، لدخل ذلك.

وعرفه غير ابن عرفة بأنه: الدخول بالنية في حرمة أحد النسكين أو كليهما مع القول أو الفعل المتعلقين به، قال: وتعريف الجماعة للإحرام الذي هو ركن بهذا [أولى

(1)

] من تعريفه بالصفة الناشئة عنه؛ لأنهم بصدد بيان الأركان التي يطلب المكلف بالإتيان بها. انتهى.

واعلم أن أركان الحج على المشهور أربعة: الإحرام، والسعي، ووقوف عرفة، وطواف الإفاضة. وأركان العمرة ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة.

واعلم أن من أرباب المذاهب من يعبر عن الأركان بالفروض، وعن الواجبات بالسنن، وعن السنن بالفضائل أو بالمستحبات، ومنهم من يعبر بغير ما مر، وقد مر أن الإحرام مصدر أحرم إذا دخل في الحرم، ومحرما في قول الشاعر:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

فدعا فلم أر مثله مظلوما

أي داخلا في حرم المدينة أو الشهر الحرام، وهو ذو الحجة كما قال:

ضحوا بعثمان في الشهر الحرام أضحى

فأي ذبح حرام ويحهم ذبحوا

ولا خلاف في أن عثمان لم يكن محرما بنسك إذ ذاك، ويقال: أحرم إذا دخل في ذمة وحرمة لا تنتهك، والحرمة ما لا يحل انتهاكه وهي بضم الحاء وسكون الراء وفتحها، والأشهر الحرم أربعة: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، كانت العرب لا تستحل فيها القتال إلا حيان: خثعم وطيء، والحرمة بالكسر والسكون: الغلمة بالضم وهي شهوة الجماع، وفي الحديث:(الذين تدركهم الساعة تبعث عليهم الحِرْمة ويسلبون الحياء)، وقرئ:{وَحِرْمٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} ، بكسر الحاء وسكون الراء؛ أي واجب. قاله الحطاب.

(1)

في الأصل أوتر والمثبت من بنانى ج 2 ص 249.

ص: 389

ثُمَّ ذكر أن للإحرام بالحج ميقاتين: زماني ومكاني، وكذا العمرة والميقات وإن كان مأخوذا من الوقت الذي هو الزمان، فإطلاقه على المكان إنما هو بالحقيقة الشرعية، لخبر: (وقت لأهل المدينة ذا الحليفة

(1)

). الحديث. وإن كان مأخوذا من التوقيت فهو بمعنى التحديد، فكل منهما حقيقة لغوية باقية على أصلها، فقال: ووقته للحج شوال؛ يعني أن وقت الإحرام للحج مفردا أو قارنا شوال وهو الشهر الذي يلي رمضان عقب رمضان، قال الشيخ إبراهيم: وذو القعدة بفتح القاف وكسرها، وذو الحجة كذلك إلا أن فتح الأول وكسر الثاني أفصح من العكس لأنهم يقعدون في الأول عن القتال ويوقعون الحج في الثاني، وأما شوال فسمى بذلك لأنه يخرج فيه الحجاج فتشول الإبل بأذنابها أي ترفعها، والضمير في "وقته" للإحرام، ويقدر معطوف محذوف بعد قوله:"للحج"، والتقدير ووقت الإحرام للحج، والتحلل منه شوال بدليل قوله: لآخر الحجة؛ يعني أن هذا الزمن وهو شوال وذو القعدة وذو الحجة بعضه وقت لجواز الإحرام بالحج وهو ما يسعه مع الوقوف من شوال إلى فجر يوم النحر، وبعضه وقت لجواز التحلل من الإحرام وهو من فجر يوم النحر لآخر الحجة، فليس المراد أن جميع الزمن الذي ذكره وقت لجواز الإحرام فقط كما يوهمه لفظه، وقد اعترض على المصنف بأن ما ذكره لا يصح أن يكون بيانا لوقت صحة الإحرام؛ إذ يصح في هذا الزمن وغيره، وبأنه لا يصح أن يكون بيانا لجوازه من غير كراهة؛ إذ يكره الإحرام بالحج بعد فجر يوم النحر لأنه إحرام للعام القابل قبل وقته، فيكره، وأجاب بعضهم بأن مراد المصنف بيان وقت التلبس بالإحرام من غير كراهة وهو صحيح؛ إذ التلبس به بلا كراهة ينتهي لآخر الحجة، فمن أخر طواف الإفاضة وفعله قبل غروب آخر ذي الحجة لا دم عليه، وإنما يلزمه دم إذا أخره لأول المحرم، لكن هذا الجواب غير مناسب، فإنه عليه يكون المصنف ساكتا عن تحديد وقت المبدإ، ولهذا قال الحطاب: وعلى كل حال ففيه مسامحة؛ لأن المقصود بيان الوقت الذي يبتدئ فيه الإحرام بالحج لا وقت التحلل منه.

ابن الحاجب: وللإحرام ميقاتان، زماني ومكاني، فالزماني: شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، وفي الحطاب: وذو القعدة إلى الزوال من تسع ذي الحجة محل لعقد الإحرام،

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1524. مسلم، كتاب الحج، الحديث: 1181.

ص: 390

والطواف والسعي لمن أتى من الحل، فإذا زالت الشمس كان وقتا للوقوف إلى طلوع الفجر من العاشر، فإذا طلع الفجر صار وقتا للوقوف بالمشعر ما لم تطلع الشمس، ويستحب أن لا يؤخر لبعد الإسفار وهو أيضا وقت للرمي والنحر لمن تعجل من ضعفة النساء والصبيان، ثم بعد ذلك وقت للرمي والنحر والحلاق والطواف ما لم تغرب الشمس وهذا هو المستحب، فإن أخر ذلك إلى آخر أيام الرمي فعل وأجزأه ولا دم عليه لما أخر من الحلاق والطواف، واختلف إذا أخر الحلاق والطواف بعد أن خرجت أيام التشريق، فقيل: عليه الدم، وقيل: لا دم عليه لأن الوقت باق حتى يخرج الشهر، فإن خرج الشهر كان عليه الدم قولا واحدا، وعليه أن يحلق ويطوف، وليس مرادهم أنه بالزوال من التاسع انقطع وقت الإحرام، فقد صرح اللخمي وغيره بأن من أسلم أو احتَلَمَ أو أُعْتِقَ بعرفة عشية أو قبل أن يطلع الفجر أحرم حينئذ ووقف بها وتم حجه، ولا خلاف أن أول أشهر الحج شوال، واختلف في آخرها على ثلاث روايات، والمشهور أنه شوال وذو القعدة وذو الحجة حملا للفظ على حقيقته، قال ابن القصار: وهذا هو الذي أختاره من قولي مالك، ووجهه قوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، فأتى بلفظ الجمع وأقله ثلاثة أو اثنان، ولا خلاف أنه لم يرد هنا شهرين، فلم يبق إلا أن يريد ثلاثة. انتهى. ولم يذكر ابن الحاج وعبد الحق [وسند

(1)

]، وغيرهم إلا قولين إلى آخر ذي الحجة أو إلى عاشره، وذكر ابن شأس [وتابعوه

(2)

] وغيرهم القول الثالث إلى آخر أيام الرمي، وعلى هذين الأخيرين يكون إطلاق الأشهر على ذلك مجازا.

وكره قبله؛ يعني أنه يكره له أن يحرم قبل زمان الإحرام وهو من أول شوال إلى فجر يوم النحر، واعلم أنه إذا أحرم قبل زمان الإحرام انعقد إحرامه وإن كان ذلك الإحرام مكروها، فإن نذره قبل زمانه لزم نظرًا لمطلق الإحرام، لا من حيث كونه مكروها؛ إذ لا يلزم بالنذر إلا ما ندب. كما قاله المصنف. كمكانه؛ يعني أنه يكره الإحرام قبل مكان الإحرام الآتي ذكره. وفي رابغ تردد يعني أنه اختلف في كراهة الإحرام من رابغ، وعليه صاحب المدخل قائلا: لأنه قبل الجحفة وعدم

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 3 ص 396. ط دار الرضوان.

(2)

في الأصل وتابعيه والمثبت من الحطاب ج 3 ص 396.

ص: 391

كراهته، وعليه المنوفي شيخ المصنف لأنه من أعمال الجحفة ومتصل بها، ورابغ بكسر الموحدة بالصرف إن أريد به المكان، وبمنعه إن أريد به البقعة للعلمية والتأنيث. وصح؛ يعني أن الإحرام يصح في المسائل الثلاث؛ أي في مسألة ما إذا أحرم قبل زمانه أو مكانه، وفي مسألة رابغ وإن كره في الأوليين، ووقع التردد في الثالثة، قال عبد الباقي: وَذَكَرَهُ يعني قوله: "صح"، وإن علم من الكراهة تبعا لغيره، والظاهر ما قاله محمد بن الحسن، حيث قال: الظاهر أن المصنف إنما أتى به دفعا لتوهم عدم اللزوم كما تقدم فيمن أحرم بالصلاة في وقت نهي، وأن المراد بصح: لزم، لقول المدونة: فإن فعل في الوجهين جميعا لزمه. انتهى. والفرق بين صحة الإحرام بالحج قبل وقته مع الكراهة، وبين عدم صحة الإحرام بصلاة الفرض قبل وقته مع أن كلا منهما له إحرام وتحليل في وقت معين، أنه وإن أحرم به قبل وقته لا يمكن فراغه قبله إذ وقته عرفة، بخلاف الصلاة فإنه يمكن فراغه منها قبل وقتها للمحرم بها حينئذ، أشار له الأبهري، وأجاب عبد الحق بمباينة الحج لها في أمور شتى، وصح الإحرام قبل المكان اتفاقا وقبل الزمان على المشهور، لقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، فإنه يقتضي بجعل الألف واللام للعموم أن سائر الأهلة ميقات للحج، وعن مالك عدم انعقاده قبل وقته، لقوله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، لوجوب حصر المبتدإ في الخبر، فيجب حصر الحج في الأشهر فالإحرام بها كالإحرام بالظهر قبل الزوال فلا ينعقد، وَالجَوَابُ أن المحصور في الأشهر المعلومات الحج الكامل أي الذي لا كراهة فيه، والذي في آية:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} ، الحج غير الكامل أي الذي فيه كراهة جمعا بين الآيتين، وفيه جواب عن السؤال عن الفرق بينه وبين الصلاة أن الحج وقته مستحب والصلاة وقتها واجب. قاله عبد الباقي. وهذا الفرق حسن، وَأَمَّا الجوابان المتقدمان فلا يخلوان مما يقال عليهما. والله سبحانه أعلم. وعلى مقابل المشهور وهو أن الإحرام لا ينعقد إن وقع قبل زمانه، فإنه يَنحلُّ بعمرة، قال الحطاب عن اللخمي: قوله ينحل بعمرة استحسان، وهو بمنزلة من دخل في صلاة ثم ذكر أنه صلاها، فإنه يستحب له أن ينصرف على شفع، ابن القاسم: فإن قطع الصلاة فلا شيء عليه، قوله: هو بمنزلة من دخل في صلاة الخ، قال الإمام الحطاب: فيه نظر، بل هو شبيه بمن أحرم بصلاة قبل وقتها، وظاهر ما ذكره في

ص: 392

النوادر عن ابن القاسم، ونقله عنه اللخمي والتونسي وصاحب الطراز وغيرهم، ونقله عنهم ابن عرفة والتادلي أنه لا ينبغي أن يحرم بالحج إذا علم أنه يفوته ولو كان الآن وقته باق، وأنه إن فعل وفاته لا يتحلل لأنه دخل على البقاء. هذا ظاهر كلامهم.

تنبيهات: الأول: لو أحرم مطلقا فعند الشافعية انعقد إحرامه عمرة مجزئة عن عمرة الإسلام. ابن الحاجب: وإذا أحرم مطلقا جاز وخير في التعيين. انتهى. والظاهر أنه يكره صرفه للحج، قاله الحطاب؛ يعني فيما إذا أحرم قبل أشهر الحج، قال: وعلى مقابل المشهور أن الإحرام لا ينعقد قبل أشهره ينعقد القران عمرة فقط، وكذا الإحرام المطلق ولا يصح الإرداف، وإن شك هل أحرم بحج أو عمرة كان عمرة، وإن تيقن أنه بحج وشك بعد دخول أشهر الحج هل وقع قبل أشهره أم لا كان حجا، وهذا التفريع لم أره منصوصا ولكن هو مقتضى عدم الانعقاد.

الثاني: قال في المدونة: قال مالك: وأحب إلي أن يحرم أهل مكة إذا أهل هلال ذي الحجة، قال سند: هذا يختلف فيه، فعند مالك يحرم أهل مكة ومن كان بها إذا أهل ذو الحجة، وقال الشافعي: المستحب يوم التروية لما روي عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام، قال: (إذا توجهتم إلى منى فأهلوا بالحج

(1)

)، وفي الموطأ: (عن ابن جريج أنه سأل ابن عمر، فقال: رأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية

(2)

)، ووجه المذهب ما رواه مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قال: (يا أهل مكة ما بال الناس يأتون شعثا وأنتم مدهنون أهلوا إذا رأيتم الهلال

(3)

)، ولم يعرف أحد أنكر على عمر، وقد قال عليه السلام: (الحاج أشعث أغبر

(4)

)، وروى مالك عن هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أقام بمكة سبع سنين يهل لهلال ذي الحجة وعروة بن الزبير معه يفعل ذلك، فهذا ابن الزبير يفعله بمحضر من الصحابة والتابعين، فدل على أنه إجماع، وأنه العادة المعروفة عندهم من الآباء، وسنة الأبناء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

موسوعة أطراف الحديث، ج 1 ص 280. مسلم، رقم الحديث: 1214.

(2)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:741.

(3)

الموطأ، كتاب الحج، رقم الحديث: 760 ص 382.

(4)

مجمع الزوائد، ج 3 ص 221.

ص: 393

وقال الباجي: قول مالك كان عليه عمل جمهور الصحابة، وفي النوادر: ومن أهل بحج أو عمرة فلا يقيم بأرضه إلا إقامة المسافر.

الثالث: سئل سحنون، هل للمحرم أن يسافر اليوم واليومين والثلاثة؟ قال نعم، لا بأس بذلك وليس هو كالمعتكف. ابن رشد: وهذا كما قال؛ لأن المحرم له أن يتصرف في حوائجه ويبيع ويشتري في الأسواق، قال الله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} ، يريد التجارة في موسم الحج فحاله غير حال المعتكف في السفر أيضا إن أراده، وما ذكره المصنف من كراهة تقديم الإحرام قبل الميقات هو الذي يحكيه العراقيون عن المذهب وهو ظاهر المدونة، وفي الموازية: لا بأس أن يحرم من منزلة إذا كان قبل الميقات ما لم يكن منزلة قريبا فيكره له ذلك، وفي النوادر: أنه رواه عن مالك، وذكر اللخمي عن مالك قولا بجواز الإحرام قبل الميقات مطلقا، وَوَجْهُ الرواية الأولى وهي الرواية المشهورة أنه عليه الصلاة والسلام لم يحرم إلا من الميقات، وقال: (خذوا عني مناسككم

(1)

)، ولأن تَوْقِيتَهُ عليه الصلاة والسلام لهذه المواقيت نهي عن الإحرام من غيرها كما في الميقات الزماني، فإنه لا خلاف أنه ينهى عن الإحرام قبله. اللخمي: وقد روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، ووجه رواية ابن المواز أنه مع القرب لا يظهر معنى إلا قصد المخالفة لتحديد الشارع بخلاف البعيد، فإن فيه قصد استدامة الإحرام، ووجه الرواية الثالثة أن الميقات إنما هو لمنع مجاوزته بلا إحرام لا لمنع تقديم الإحرام عليه، وأن القصد منه التخفيف، فمن قَدَّم فقد زاد خيرا، وقال الشَّافِعِيُّ في أحد قوليه وأبو حنيفة: الأفضل أن يحرم من بلده لأن عمر وعليا رضي الله تعالى عنهما قالا في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} : إتمامهما أن تحرم بهما من دُوَيْرَةِ أهلك، ولحديث أبي دوود: (من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة

(2)

). قال صاحب الطراز والقرافي: وما رواه يحمل على النذر جمعا بين

(1)

التمهيد موسوعة شروح الموطأ، مركز هجر 2005، ج 9 ص 119.

(2)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1741. بلفظ:

أو وجبت له الجنة.

ص: 394

الأدلة، وما ذكره عن سيدنا عمر فلعله رجع عنه، كما نقل اللخمي أنه أنكر على عمران بن حصين.

وَاعْلَم أن قاعدة المذهب أن نذر المكروه والمباح لا يلزم، وقد خالفوا ذلك في الإحرام فألزموه من نذره قبل ميقاته الزماني والمكاني. قاله الحطاب. وكذا في الصوم فألزموا رابع النحر من نذره. قاله جامعه عفا الله تعالى عنه. وللعمرة أبدا، تقدم أن للإحرام ميقاتين زمانيا ومكانيا، وبدأ المصنف بالزماني، ولما فرغ من ذكر الميقات الزماني في الحج أتبعه بالكلام على ميقات العمرة الزماني؛ يعني أن وقت الإحرام للعمرة أبدا أي غير مقيد بوقت من أوقات العام ولو في أشهر الحج، ويوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، (وقد أمر عمر رضي الله تعالى عنه أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود لما قدما عليه يوم النحر وقد فاتهما الحج لإضلال الأول راحلته، ولخطإ الثاني في العدة أن يتحللا من إحرامهما بالحج ويقضيا قابلا ويهديا كما في الموطإ

(1)

)، وكره أبو حنيفة العمرة يوم عرفة وأيام منى لما روى عن عائشة: (السَّنَةُ كلها للعمرة إلا خمسةً يومَ عرفة ويومَ النحر وأيامَ التشريق

(2)

)، ووافقه أبو يوسف على غير يوم عرفة، قال سند: وإن صح ذلك عنها يحمل على المحرم بالحج، كما أشار إليه بقوله: إلا لمحرم بحج؛ يعني أن محل ما تقدم من أن وقت الإحرام للعمرة جميع أجزاء السنة إنما هو فيمن لم يكن محرما بحج، وأما من أحرم بحج مفردا أو قارنا، فيمنع إحرامه بالعمرة ويفسد إن وقع ولا يلزمه قضاؤها، ويستمر المنع المذكور لتحلله؛ أي يستمر منع الإحرام بعمرة إلى تحلل المحرم بحج من جميع أفعال الحج أي فراغه منها من طواف وسعي وجميع الرمي في آخره حتى في الرابع لغير متعجل، وقدره لمن تعجل في يومين وهو مجيء زوال الرابع ومضي قدر رميه، وفي بعض النسخ: لتحلليه، بالتثنية وهما طواف الإفاضة ورمي الرابع في حق غير المتعجل، أو قدره في حق المتعجل لا رمي جمرة العقبة الذي هو التحلل الأصغر والإفاضة الذي هو الأكبر فقط، سواء قرئ بالإفراد أو بالتثنية. كما قاله غير واحد. والمتبادر من لفظ التثنية أن المراد بذلك: التحلل الأصغر والتحلل الأكبر، وقوله: وهما طواف الإفاضة

(1)

الموطأ، كتاب الحج، باب هدي من فاته الحج، ص 263/ 264.

(2)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: حلت العمرة في السنة كلها إلا في أربعة أيام يوم عرفة ويوم النحر ويومان بعد ذلك. السنن الكبرى للبيهقي، ج 4 ص 346.

ص: 395

الخ؛ يعني في حق من قدم السعي، وإلا فنقول: وهما طواف الإفاضة والسعي هذا شق، والشق الثاني جميع الرمي لمن لم يتعجل، وقدره لمن تعجل في يومين. والله سبحانه أعلم.

قال الشيخ إبراهيم: ولو قال إلا لمحرم بحج فلفراغه منه: ودخول وقت رمي الرابع كان ظاهرا، والمراد بدخول وقت رمي الرابع الزوال من الرابع، ولا مفهوم لقول المصنف: بحج، ومثل ذلك العمرة، وسيأتي للمصنف أنه إذا أردف العمرة على العمرة تلغى. وكره بعدهما؛ يعني أن المحرم بحج يمنع عليه أن يحرم بعمرة إلا بعد تحلليه وهما الطواف للإفاضة مع السعي لمن أخره وجميع الرمي حتى في الرابع أو قدره، فلا يَحْرُم عليه حينئذ أن يُحْرِمَ بعمرة، وَلكنه يكره له أن يحرم بها بعدهما، وقبل غروب الشمس من اليوم الرابع، فإذا أحرم صح إحرامه ولكن لا يفعل منها شيئا حتى تغرب الشمس، فإن عمل منها شيئا قبل مغيب الشمس لم يعتد به على المذهب وهو على إحرامه، ولو تحلل منها قبل غروب الرابع ووطئ أفسد عمرته ويقضيها بعد إتمامها. عبد الحق عن بعض شيوخه: ويكون خارج الحرم حتى تغيب الشمس أي من اليوم الرابع، ولا يدخل لأن دخوله الحرم بسبب العمرة عمل لها وهو ممنوع من أن يعمل عملا من أعمالها حتى تغيب الشمس. انتهى. وعلى بحثه لو دخل من الحل قبل الغروب فالظاهر أن دخوله لغو، ويؤمر بالعود إلى الحل ليدخل منه بعد الغروب، قال الشيخ عبد الباقي وغيره: ويستثنى من عدم صحة الإحرام بها قبل تمام أفعال الحج إحرامه بها قبل الحلاق منه، فإنه صحيح كما يأتي في قول المصنف:"وصح بعد سعي" الخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: هكذا ذكر الحطاب هنا، وأحال على ما يأتي أيضا ولم يأت لهما شيء مما ذكراه. انتهى.

وزاد الحطاب وغيره: أنه إذا أحرم بعمرة وأكملها ولم يبق منها إلا الحلاق. ثم أحرم بأخرى فإنه ينعقد إحرامه. انتهى. قال الشيخ إبراهيم عقب هذا: لكن سيذكر المصنف أن إحرامه بعمرة قبل تمام أخرى يلغى. انتهى. وما تقدم من منع إرداف العمرة على الحج قبل فراغه، قال الحطاب: مخالف لنصوص المذهب، لكن نقل عن ابن فرحون بعد نقله كلام المدونة الذي هو: وتجوز العمرة في أيام السنة كلها إلا للحاج، فيكره له أن يعتمر حتى تغيب الشمس، أن الكراهة

ص: 396

للحاج على المنع، ونقل عن ابن رشد: وأما من حج فلا يجوز له أن يعتمر حتى تغيب الشمس من آخر أيام التشريق.

تنبيه: قال في النوادر: ولا بأس أن يعتمر الصرورة قبل أن يحج، وقد (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج

(1)

). انتهى. ويعني بذلك أن من قدم في أشهر الحج وهو صرورة فلا يتعين عليه أن يحرم بالحج، بل يجوز له أن يعتمر، وأما إذا قدم قبل أشهر الحج فالمطلوب منه حينئذ الإحرام بالعمرة من غير خلاف. والله أعلم. قاله الحطاب.

ولما أنهى الكلام على الميقات الزماني وأتى معه من المكان بما يشاركه فيه من كراهة الإحرام قبله للاختصار، شرع في المقصود منه وقسمه باعتبار الناسكين، فقال: ومكانه له للمقيم مكة؛ يعني أن مكان الإحرام للمقيم بمكة إذا أراد أن يحرم بالحج غير قارن مكة شرفها الله تعالى؛ أي الأفضل له أن يحرم من مكة، وقوله:"للمقيم"؛ أي بمكة كما قررت، سواء كان متوطنا بها أو غير متوطن، وسواء كانت الإقامة تقطع حكم السفر أم لا، ومثل المقيم بمكة من منزلة بالحرم كمنى ومزدلفة، والضمير في "مكانه". للإحرام، وفي "له" للحج، وقوله:"للمقيم" متعلق بالهاء من "له"، بناء على أن ضمير المصدر يعمل، كقول زهير:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجم

أي وما الحديث عنها أوله لغو وللمقيم حال. قاله الشيخ إبراهيم. قال غير واحد: وليست مكة بميقات، فلا يتعين عليه الإحرام منها، بل إن تركها وأحرم من الحرم أو الحل كان خلاف الأولى والأفضل ولا إثم عليه ولا دم، ولهذا قال:"ومكانه"، ولم يقل: وميقاته، ولذا يحرم بالعمرة من الحل، ولو كانت مكة ميقاتا لكان يحرم بالعمرة من مكة لاستواء الحج والعمرة في الميقات.

وقد مر أن مثل المقيم بمكة من منزلة بالحرم كمنى ومزدلفة، قال الشيخ عبد الباقي: والظاهر أن المقيم بالبلاد المذكورة كأهلها. انتهى. وفي الحطاب: ظاهر كلام المصنف أنه يتعين عليه الإحرام

(1)

البخاري، كتاب العمرة، الحديث:1781. والموطأ، كتاب الحج، باب العمرة في أشهر الحج، ص 240.

ص: 397

من مكة، ولا يجوز له أن يحرم من غيرها، والذي صرح به ابن الحاجب وغيره أنه يجوز له الإحرام من غيرها، قال ابن الحاجب: ولو خرجا؛ يعني المكي والآفاقى المقيم بها إلى الحل جاز على الأشهر، قال في التوضيح: قال ابن هارون: قوله: على الأشهر يقتضي أن فيهما قولا بالمنع والكراهة، ولا نعلم في ذلك خلافا إلا في الأولوية، ونقله ابن فرحون أيضا. وندب المسجد؛ يعني أنه يستحب للمقيم بمكة إذا أراد أن يحرم بالحج غير قارن أن يُحْرِمَ من المسجد، وهذا هو المشهور وهو مذهب المدونة، قال فيها: واستحب مالك لأهل مكة ولمن دخلها بعمرة أن يحرم بالحج من المسجد الحرام. انتهى. وعن ابن حبيب أن المستحب أن يحرم من باب المسجد، وقيل: لا يستحب الإحرام من المسجد ولا من بابه، بل يحرم من حيث شاء، وقال ابن الحاجب في تعيين المسجد قولان. واعترض عليه بأن ظاهره أنهما في اللزوم مع أنه لا خلاف في عدم اللزوم، وقوله:"المسجد": أي جوفه كما في المدونة، قال عبد الباقي: والظاهر أن المراد بالجوف ما قابل الباب، وعلى أنه يحرم من جوف المسجد فيحرم من موضع صلاته، ويلبي وهو جالس في موضعه، ولا يلزمه أن يقوم من مصلاه ولا أن يقوم إلى جهة البيت كما يقول الشافعي، ولا إلى تحت الميزاب كما يقوله الحنابلة. انتهى. وقوله:"المسجد"، قال الشبراخيتي وغيره: ويستحب أن يحرم من موضعه الذي صلى فيه ركعتي الإحرام. انتهى. والظاهر أن هذا مبين لقول عبد الباقي: يحرم من موضع صلاته. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه. والله سبحانه أعلم.

قاعدة: كل إحرام لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم، لفعله صلى الله عليه وسلم، فلذلك لا يجوز للمكي أن يحرم بالعمرة من مكة لأنه لو أحرم بها منها وهي تنقضي في الحرم لزم أن لا يجتمع في إحرامه حل وحرم، بخلاف الحج فإنه يخرج إلى عرفة، وهي حل. قاله الشيخ إبراهيم. كخروج ذي النفس لميقاته، تشبيه في الندب؛ يعني أن من كان مقيما بمكة وهو آفاقي دخل مكة بعمرة، يستحب له إذا كان في نفس بالتحريك أي سعة من الوقت أن يخرج إلى ميقاته للإحرام بالحج، فإن كان من أهل المدينة فيخرج إلى ذي الحليفة، وإن كان من أهل المغرب أو مصر فيخرج إلى الجحفة، وإن كان من أهل العراق فيخرج إلى ذات عرق، وإن كان من أهل اليمن فيخرج إلى يلملم، ويأتي إن شاء الله تعالى تحقيق المواقيت وأهلها، وقد مر أن النفس هو السعة

ص: 398

في الوقت، ومنه دار فلان أنفس من دار فلان أي أَوْسَعُ، قال الشيخ إبراهيم: وأل في النفس للكمال أي النفس الكامل الذي يتحقق فيه خروجه، وعوده قبل خروج الوقت احترازا عما إذا لم يتحقق ذلك، فلا يخرج أي فيحرم من مكة استحبابا، وندب المسجد كما مر في قوله: ومكانه له مكة الخ، وظاهر كلام المصنف أن هذا خاص بالحج وليس كذلك، بل وكذلك من أراد العمرة استحب له الخروج لميقاته، قال في الجلاب: والعمرة من الميقات أفضل منها من الجعرانة أو التنعيم، قال التلمساني: إنما قال ذلك لأن الأصل في الإحرام إنما هو من الميقات، وإنما رخص لمن بمكة من الجعرانة أو التنعيم وإن لم يبلغوا مواقيتهم، وإلا فالأفضل لهم الإحرام من مواقيتهم. انتهى. وفهم من كلام التلمساني أن كلام ابن الجلاب في غير أهل مكة وهو ظاهر. والله أعلم. قاله الحطاب.

والحاصل أن المواقيت في الحج والعمرة سواء إلا من منزلة في الحرم أو بمكة، فعلية في العمرة أن يخرج للحل وأقل ذلك التنعيم وما بعد مثل الجعرانة فهو أفضل، ولو خرج الطارئ إلى ميقاته كان أفضل. ولها للقران الحل؛ يعني أن ما مر من أن المكي والمقيم بها مكان إحرامه مكة إنما هو فيمن أحرم بحج غير قارن، وأما المحرم بعمرة أو بحج وهو قارن بين عمرة وحج فمكان الإحرام له هو طرف الحل، فيحرم به من أي جهة، ولا بد أن يجمع في إحرامه بين حل وحرم في الصورتين، ولا يجوز له الإحرام من الحرم، ولكن ينعقد إن وقع ولا دم عليه.

وبما قررت علم أن الضمير في "لها"، عائد على العمرة، وسيأتي تفسير القران والتمتع والإفراد إن شاء الله تعالى. والجعرانة أولى؛ يعني أن الميقات المكاني في العمرة هو طرف الحل من أي جهة كانت ولو بخطوة واحدة، والأفضل له أن يبعد عن طرف الحل، وأفضل جهات الحل الجعرانة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر منها ولبعدها، والجعرانة -بكسر الجيم وسكون العين المهملة وتخفيف الراء وبكسر العين وشد الراء، وعليه أكثر المحدثين، وعن الشافعي أنه خطأ، وأن الأول متعين -موضعٌ بين مكة والطائف، (واعتماره صلى الله عليه وسلم من الجعرانة كان في ذي القعدة، كما في الصحيح حين قسم غنائم حنين

(1)

).

(1)

البخاري، كتاب العمرة، الحديث:1780. مسلم، كتاب الحج، الحديث: 1253.

ص: 399

ومن فضائل الجعرانة ما نقل بعضهم أنه اعتمر منها ثلاث مائة نبي، وفيها ماء شديد العذوبة، يقال:(فحص النبي صلى الله عليه وسلم موضعه بيده المباركة فانبجس فشرب منه وسقى الناس))، ويقال:(غرز فيه رمحه فنبع). قاله الشيخ إبراهيم. ثم التنعيم؛ يعني أنه يلي الجعرانة في الفضل التنعيم؛ (لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أن تعتمر منه)، ويعرف بمساجد عائشة، قال الإمام الحطاب: قوله هنا: "ثم التنعيم"، أحسن من قوله في مناسكه: أو التنعيم؛ لأنه لا يقتضي تفضيل الجعرانة على التنعيم، وقد وقع التصريح بأفضليتها في كلام النوادر. انتهى. واعترضه الرماصي بأن ما في المناسك هو الذي عليه الأكثر كما في الشارح، وقد سوى بينهما ابن شأس وابن الحاجب وابن عرفة وغيرهم، قاله محمد بن الحسن. وقوله:"والجعرانة"، أولى ثم التنعيم، قال عبد الباقي: هذان راجعان للعمرة: وأما القران فلا يطلب فيه مكان معين من الحل على سبيل الأولى. انتهى. وقوله: "ثم التنعيم"، سمي بذلك لأن على يمينه جبل نعيم، وعلى يساره جبل ناعم واسم الوادي نعمان، قال الشبراخيتي: وكان تاليا للجعرانة في الفضلية (لأمره صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما أن يخرج بأخته عائشة رضي الله تعالى عنها إليه في حجة الوداع

(1)

). انتهى. وسبب ذلك أنها حاضت بعد أن أحرمت بالعمرة وقبل أن تطوف وتسعى للعمرة، وأدركهم وقت الوقوف قبل أن تطهر فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تردف الحج على العمرة، فلما قضت الحج، قالت: يرجع الناس بنسكين وَأَرْجِعُ أنا بنسك واحد، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم.

واعلم أن بين الجعرانة ومكة ثمانية عشر ميلا، وظاهر كلام أهل المذهب أن الجهات بعد الجعرانة والتنعيم متساوية، وزاد الشافعي رحمه الله تعالى بعد التنعيم الحديبية؛ (لأن النبي صلى الله عليه وسلم تحلل فيها

(2)

) وهي بضم الحاء وفتح الدال المهملتين، ويجوز في يائها الثانية

(1)

البخاري، كتاب العمرة، باب عمرة التنعيم، الحديث:1784.

(2)

البخاري، كتاب الشروط، الحديث 2731.

ص: 400

التخفيف والتشديد، وصوب الشافعي التخفيف وأكثر المحدثين على التشديد. والله أعلم. قاله الحطاب.

واعلم أن الشرع قد رغب في العمرة في رمضان، فقد قال صلى الله عليه وسلم لامرأة: (اعتمري في رمضان فإن عمرة فيه بحجة

(1)

)، وخرج أبو داوود أنه صلى الله عليه وسلم قال لزوج امرأة قالت له أحججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقرئها السلام ورحمة الله وأخبرها أنها تعدل حجةً معي عمرةٌ في رمضان

(2)

)، ونقل الحطاب: أفضل شهور العمرة رجب ورمضان، وفي القوانين: وأفضلها في رمضان، والحديث في فضلها في رمضان وأنها تعدل حجة معه عليه الصلاة والسلام ثابت في صحيح البخاري وغيره، وقد استمر عمل الناس اليوم على الإكثار منها في رجب وشعبان ورمضان، وبعد أيام منى لآخر الحجة. والله أعلم قاله الحطاب.

وإن لم يخرج أعاد طوافه وسعيه بعده؛ يعني أن من أُمِرَ بالخروج إلى الحل ليجمع بينه وبين الحرم في إحرامه فلم يخرج إليه وأحرم بالحرم، فإن كان أحرم بالعمرة فإن إحرامه ينعقد على المشهور ولا دم عليه على المعروف، خلافا لما حكاه ابن جماعة التونسي من وجوب الدم، وقيل: لا ينعقد، وإذا قلنا بأن إحرامه ينعقد فإن عمله قبل الخروج إلى الحل غير معتد به، فلذلك إن عمل أعاد طوافه وسعيه بعده أي بعد خروجه إلى الحل ورجوعه، وأما القارن إذا أحرم من الحرم فإنه يلزمه أن يخرج للحل. قاله سند وابن عرفة وغيرهما. ولا يتصور أن يطوف ويسعى قبل خروجه لعرفة حتى يقال، هل يعيدهما بعد الخروج إلى الحل أو لا؟ لأن سعيه لا يكون إلا بعد الإفاضة إذ ليس له طواف قدوم إنما هو على الآفاقي. تأمله. قاله محمد بن الحسن. وإذا لم يخرج القارن بعد أن أحرم من الحرم إلى الحل فالظاهر أنه يجزئه كما يظهر من كلام ابن بشير وغيره، وهو ظاهر. قاله الحطاب.

وعلم مما مر وجوب الإحرام على المعتمر والقارن من الحل إن كانا مقيمين بمكة أو بالحرم، أما الأول فهو ظاهر كلام أهل المذهب أو صريحه، وأما الثاني فعلى المشهور ومقابله لا يلزم من الحل

(1)

الموطأ، كتاب الحج، باب جامع ما جاء في العمرة، ص 242.

(2)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث 1990.

ص: 401

هو لسحنون وعبد الملك وإسماعيل ومحمد، قال ابن عبد السلام: وهو الظاهر لأن عمل العمرة في القران مضمحل، فوجب أن يكون المعتبر إنما هو الحج والحج يُنْشَأُ من مكة. انتهى. والله أعلم. قاله الحطاب.

وأهدى إن حلق؛ يعني أن المعتمر إذا طاف وسعى بعد أن أحرم من الحرم فلا بد أن يخرج إلى الحل ويرجع ويعيد طوافه وسعيه كما عرفت، فإن فعل ذلك قبل الحلاق فإنه لا هدي عليه، وإن خرج إلى الحل ورجع وأعاد طوافه وسعيه بعد أن حلق للعمرة فإنه يهدي، بمعنى أنه يفتدي، ففي التعبير بالهدي تجوز لأن الحلق مما يترفه به ويزال به أذى كما يأتي إن شاء الله تعالى. وإنما كان يعيد الطواف والسعي لأنهما وقعا بغير شرطهما، وإنما أهدى لأنه كمن حلق في عمرته قبل طوافه وسعيه، وإلا هذا هو مفهوم قوله:"للمقيم"، واللفظ مركب من إن الشرطية ولا النافية، وفعل الشرط محذوف وتقديره: وإلا يكن مقيما بمكة وما في حكمها على ما مر، فمكان الإحرام لهما أي للحج والعمرة ذو الحليفة؛ يعني أن من لم يكن بمكة ولا مقيما بها لا يخلو ميقاته من خمسة أمكنة حيث كان مسكنه أبعد منها أي من الأمكنة الخمسة، فأما أهل المدينة المنورة ومن وراءهم فإن ميقاتهم ذو الحليفة تصغير حلفة: ماء لبني جشم بالجيم والشين المعجمة وهو أبعد المواقيت من مكة على عشر أو تسع مراحل منها تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما من المدينة فعلى ستة أميال كما قال النووي أو سبعة أميال كما قال عياض، أوأربعة كما قال ابن حزم، وبذي الحليفة عدة أبيار وبها بير تسميها العوام بير علي رضى الله تعالى عنه يزعمون أنه قاتل بها الجن وهذه النسبة إليه غير معروفة، وبها مسجدان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرمى بها حجر ولا غيره كما يفعله الجاهلون، وكان بها مسجد يسمى مسجد الشجرة وخرب، وقوله:"لهما"، يحتمل أن يكون التقدير: فمكانه لهما؛ وهو الذي قررت به، ويحتمل أن يكون خبرا لقوله:"ذو الحليفة"، وما عطف عليه، وأما أهل الشام ومصر وأهل المغرب ومن وراءهم من أهل الأندلس وكذا الروم وبلاد التكرور، فإن ميقاتهم الجحفة، وإلى ذلك أشار بقوله: والجحفة؛ وهو عطف على "ذو الحليفة"، والجحفة بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وبالفاء: قرية خربت بين مكة والمدينة قريبة من البحر بينه وبينها ستة أميال؛ وهي على

ص: 402

نحو خمس مراحل من مكة وثمان من المدينة، وكانت تسمى مهيعة بفتح الميم وسكون الهاء وفتح المثناة التحتية: وقيل: بكسر الهاء وسكون التحتية على وزن جميلة، فنزلها بنو عبيد وهم إخوة عاد حين أخرجهم العماليق من طيبة فجاءهم سيل فاجتحفهم أي أهلكهم، وهي كما في كتاب الحج من الصحيحين التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم بنقل حمى المدينة إليها

(1)

)، وكانت يومئذ دار اليهود ليس بها مسلمٌ، فيقال: إنه لا يدخلها أحد أو يمر بها طائر إلا حم وهي بالقرب من رابغ موضع إحرام الناس اليوم على يسار الذاهب إلى مكة، وأما أهل اليمن والهند ويماني تهامة فميقاتهم يلملم، وإلى ذلك أشار بقوله: ويلملم، معطوف على قوله:"ذو الحليفة"، ويلملم جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة وهو بفتح المثناة التحتية، واللام الأولى والثانية وبينهما ميم ساكنة وآخره ميم وأَلَمْلَمُ بالهمز بدل الياء. ابن عبد السلام، وهو الأصل، ويقال: يَرَمْرَمُ براءين بدل اللامين، ثم إن أريد به الجبل فمنصرف وإن أريد به البقعة فغير منصرف. وقرن، بفتح القاف وسكون الراء ويصرف باعتبار تذكيره، وعلى تأنيثه يجوز صرفه ومنعه لسكون وسطه؛ يعني أن قرنا ميقات لأهل نجد ويدخل فيهم أهل نجد اليمن وأهل نجد الحجاز، وقوله:"قرن"، عطف على "ذي الحليفة"، وقوله:"وقرن"؛ يعني به قرن المنازل لا قرن الثعالب. النووي: وأخطأ الجوهري خطأين فاحشين، فزعم أنه بفتح الراء، وأن أويسا القرني منسوب إليه، والصواب نسبه إلى قبيلة يقال لهم بنو قرن بفتح الراء: بطن من مراد كما قاله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حديثه الذي ذكر فيه أويسا

(2)

). انتهى. أي وليس هو بمنسوب لمكان، والميقات الذي هو قرن المنازل جبل في جهة الشرق بينه وبين مكة مرحلتان، قالوا: وهوأقرب المواقيت إلى مكة، ويقال: أقربها إليها يلملم بينه وبينها ثلاثون ميلا، وقال سند: بين مكة وذات عرق ويلملم وقرن مسافة واحدة مرحلتان، وأصل القرن الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير، وأما أهل العراق وفارس وخراسان والمشرق ومن وراءهم فميقاتهم ذات عرق، وإلى ذلك أشار بقوله: وذات عرق، عطف على قوله:"ذو الحليفة"، وقوله:

(1)

البخاري، أبواب فضائل المدينة، الحديث:1889. ومسلم، كتاب الحج، الحديث: 1376.

(2)

مسلم، كتاب فضائل الصحابة، الحديث:2542.

ص: 403

"عرق"، بكسر العين المهملة قرية خربة على مرحلتين من مكة يقال إن بناءها تحول فيتحرى القرية القديمة، وعن الشافعي: من علاماتها المقابر القديمة سند: هذه المواقيت معتبرة بأنفسها لا بأسمائها، فلو خربت وانتقلت أسماؤها إلى غيرها كان الاعتبار بالأول لتعلق الحكم به.

وروى ابن عيينة عن عبد الكريم الجزري أنه قال: رأى سعيد بن جبير رجلا يريد أن يحرم من ذات عرق، فأخذ بيده حتى خرج من البيوت وقطع به الوادي، فأتى به المقابر ثم قال: هذه ذات عرق الأولى: واتفق على توقيت النبي صلى الله عليه وسلم للأربعة الأول واختلف في هذه، فقيل: من توقيت عمر، والصحيح أنها من توقيته صلى الله عليه وسلم. سند: إن قيل لو وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خفي على عمر رضي الله تعالى عنه ولا غيره، قلت: يجوز إخفاؤه لأن العراق لم يفتح في زمنه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن إهلالا شائعا، بل إنما تكلم به صلى الله عليه وسلم في بعض المجالس بيانا لما سيكون، ومثل هذا يخفى على معظمهم كما خفي على عمر توريث المرأة من دية زوجها

(1)

)، وعلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أمر الجدة

(2)

حتى روي لهما حديثهما، قال بعض: وإذا خفي على عمر رضي الله تعالى عنه الحديث، فيكون توقيته موافقا لنص الحديث كما وافقه القرآن في عدة مواضع. سند: فإن قيل العراق لم يفتح في زمنه صلى الله عليه وسلم، قلنا عنه جوابين: إما أنه وقته لمن جاء من طريقه وإن لم يكن من أهله، أوأنه علم أنه سيفتح كما وقت لأهل الشام ومصر ولم يكونا فتحا لأنه زويت له مشارق الأرض ومغاربها وأخبر بما يفتح منها، (ويروى أن الحجر الأسود نوره كان لهذه الحدود) فمنع الشارع تجاوزها لمريد الحج تعظيما لتلك الآيات قاله القرافي.

وبدأ المصنف بذي الحليفة لشرفه، ولأن المحرم منه يبتدئ إحرامه من حرم، ويحل منه في حرم فله شرف المبتدأ والغاية، ولغيره شرف الانتهاء كما مر. قال ابن فرحون: وهي داخل حرم المدينة وفي بعدها معنى لطيف، وهو أن أهل المدينة يتلبسون بالإحرام وفي حرم المدينة،

(1)

أبو داود، كتاب الفرائض، الحديث:2927. والترمذى، كتاب الفرائض، الحديث: 2110.

(2)

أبو داود، كتاب الفرائض، الحديث 2394. والترمذي، كتاب الفرائض، الحديث: 2100.

ص: 404

ويخرجون محرمين من حرم إلى حرم، فيتميز الإحرام من المدينة بحصول شرف الابتداء والانتهاء، والحاصل لغيره شرف الانتهاء. انتهى، نقله الحطاب.

سند: ويكره لأهل المدينة أن يحرموا من المدينة لمخالفته لفعله عليه الصلاة والسلام.

وَلَمَّا أنهى الكلام على المواقيت ومن هو مخاطب بالإحرام منها، شرع يتكلم على ميقات الساكن بغيرها ممن منزلة أقرب إلى مكة منها، فقال: وَمَسْكَن دُونَهَا؛ أي المواقيت المذكورة؛ يعني أن من مسكنه بين مكة والمواقيت المذكورة ميقاته مسكنه أي منزلة الساكن فيه، وظاهره سواء كان منزلة في الحل أو الحرم، وهو كذلك لمن أراد الإحرام بالحج غير قارن، وأما من أراد الإحرام بالعمرة فإن كان منزلة في الحل أحرم منه، وإن كان في الحرم فلا بد من الخروج إلى الحل -كما مر- وكذلك إن أراد القران أيضا كما مر، وقوله:"ومسكن دونها"، والأفضل أن يحرم من الأبعد لمكة من داره أو المسجد، وتأخيره إحرامه منه كتأخيره من الميقات في لزوم الدم فَمُهَلُّ أهل قديد وعسفان ومر الظهران من منازلهم أو المسجد، وكذا غيرهم ممن مسكنه دون المواقيت، وأهل ذي الحليفة يحرمون من مسجدهم.

وقد سئل في ميقات الجحفة أيحرم من وسط الوادي أو من آخره؟ قال: كله مُهَلُّ، ومن أوله أحب إلي، فإن سافر قبل الإحرام مَنْ مَسْكَنُهُ دونها إلى وراء الميقات ثم رجع مريد الإحرام فكمصري يمر بذي الحليفة، وله أن يؤخر لمنزله فيحرم منه، ويفصل في إحرامه منه حينئذ كما سبق قريبا، وقوله:"ومسكن"، بالتنوين، ودونها منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف صفة مسكن؛ أي مسكن كائن دونها، وقوله:"دونها"؛ أي لجهة مكة بأن يكون الميقات خلف مسكنه لا إلى جهة الذاهب إلى مكة، وكذا يحرم من الميقات ولا يتجاوزه حيث كان يريد منزلة وهو دون مكة، إلا أنه لا يمكنه الوصول إليه إلا بالمرور على مكة ليلا يؤدي إلى دخولها بلا إحرام، سواء كان يحرم بالعمرة أو بغيرها. قاله الحطاب.

والدليل على توقيت الأربع الأول ومن مسكنه دونها ما ورد في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هُنَّ لَهُنَّ ولمن أتى عليهن من

ص: 405

غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة

(1)

). وفي رواية للبخاري: (ومن كان دونهن فَمُهَلُّهُ من أَهْلِهِ حتى أهل مكة يُهِلُّونَ من مكة

(2)

[منها])، والمُهَلُّ بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام: موضع الإهلال اسم مكان من أهل، ودليل الميقات الخامس ما في صحيح مسلم من حديث ابن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسئل عن المهل، فقال: (سمعت أحسبه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم، وقوله: أحسبه؛ يعني ابن الزبير، قال: أظن أن جابرا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

)، قال النووي: ولا يحتج بهذا الحديث مرفوعا، لكونه لم يجزم برفعه. انتهى. قلت: لكن رواه أبو داوود والنسائي على الجزم برفعه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق

(4)

)، قال ابن جماعة: وإسناده صحيح، ورواه أحمد من حديث ابن الزبير عن جابر وجزم برفعه لكن في سنده ابن لهيعة ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عمر لكن في سنده. إبراهيم بن يزيد الحوري: وهو ضعيف لكن ظهر بما تقدم من طريق الحديث قوته وصلاحيته للاحتجاج به، ونظم بعضهم المواقيت الخمسة في بيتين فقال:

عرق العراق يلملم اليمن

وبذي الحليفة يحرم المدني

والشام جحفة إن مررت بها

ولأهل نجد قرن فاستبن

ولم ينون جحفة ولا قرن. والله أعلم. قاله الحطاب. قوله: هن لهن كذا جاءت الرواية في الصحيحين وغيرهما عند أكثر الرواة باعتبار المواضع: ووقع عند بعض رواة البخاري ومسلم: (هن لهم

(5)

) بتذكير الضمير باعتبار أهل المواقيت. انظر الحطاب. ومقتضاه أن قوله: لهن، على الرواية

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث: 1524

(2)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1526.

(3)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1183.

(4)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1739. النسائي، كتاب مناسك الحج، الحديث: 2656.

(5)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1181.

ص: 406

الأولى على حذف مضاف أي لأهلهن، وقال ابن مالك: إنه أنث باعتبار الفِرَقِ والجماعات. والله سبحانه أعلم.

وحيت حاذى واحدا؛ يعني أن من حاذى واحدا من هذه المواقيت الخمسة مكان الإحرام له في الحج والعمرة الموضع الذي حاذى فيه ذلك الواحد يعني ميامنة أو مياسرة لا غير. والله سبحانه أعلم. أو مر؛ يعني أن من مر بواحد من هذه المواقيت الخمسة مكان الإحرام له بالحج والعمرة ذلك الميقات الذي مر به وإن لم يكن من أهله ومن كان بلده بعيدا من الميقات مشرقا عن الميقات أو مغربا عنه، وإذا قصد إلى مكة من موضعه لم ير ميقاتا، وإذا قصد إلى الميقات شق ذلك عليه لإمكان أن تكون مسافة بلده إلى الميقات مثل مسافة بلده إلى مكة، فإذا حاذى الميقات بالتقدير والتحري أحرم ولم يلزمه السير إلى الميقات وحكم من منزلة حذاء الميقات حكم من حاذى الميقات في السير، لكن إن كان منزلة قريبا من الميقات يستحب له أن يذهب إلى الميقات، قاله سند فيمن أراد الإحرام بالعمرة. والظاهر أن مريد الحج والقران كذلك. والله أعلم.

وشمل كلام المصنف المكي إذا مر بميقات من هذه المواقيت أو حاذاه، فإنه يجب عليه الإحرام منه ولا يتعداه، فإن تعداه فَدَمٌ، وليس كالمصري يمر بذي الحليفة يجوز تأخيره لميقاته، وقوله: وحيث، اسم مكان أوقعها المصنف في محل رفع معطوفة على ذو من قوله:"ذو الحليفة"، بناء على مذهب من يثبت لها التصرف والخروج عن الظرفية، وقيل بذلك في قوله تعالى:{أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، فإنها مفعول به ليعلم مقدرا لا لأعلم؛ لأن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول إجماعا وتصرفها نادر، ومنه نصبها على المفعولية وليس نصبها على المفعولية من شبه الظرفية المشار إليه بقول الألفية:

وغير ذي التصرف الذي لزم

ظرفية وشِبْهَهَا مِنَ الكَلِمْ

لأن المراد بشبهها الجر بمن خاصة، وهي هنا مبنية على الضم محلها رفع مضافة إلى جملة حاذى، وقوله: أَوْ مَرَّ، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ولمن أتى عليهن من غير أهلهن

(1)

). ولو

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1524.

ص: 407

ببحر، مبالغة في قوله:"حاذى" فقط؛ يعني أن من سافر في البحر يحرم إذا حاذى الميقات ولا يؤخر إلى البر، ورد بالمبالغة على سند القائل إنه يؤخر إحرامه للبر خوفا من أن ترده الريح، ونقل ابن الحاج عن ابن نافع مثل قول سند. قاله المصنف في مناسكه. وفيه إجمال.

وحاصل ما نقلوه عن سند أن المسافر في البحر مطلقا بحر القلزم وبحر عيذاب، يباح له تأخير الإحرام إلى البر للضرورة خوف أن ترده الريح فيبقى محرما، لكن المسافر في بحر القلزم عليه الدم إذا أخر كسائر الممنوعات المباحات للضرورة؛ إذ يجوز استباحة ممنوعات الإحرام للضرورة مع وجوب الفدية، بخلاف المسافر في بحر عيذاب فإنه لا دم عليه في التأخير؛ لأن المسافر في القلزم يسافر مع الساحل، فيمكنه النزول إلى البر فيحرم منه لكن فيه مضرة بمفارقة رحله، فلذلك أبيح له التأخير إلى البر، والآخر يسافر في لجة البحر لا مع الساحل، فلا يقدر عند الميقات على النزول إلى البر. قاله محمد بن الحسن.

وفهم من كلام محمد بن الحسن أن بحر القلزم الأصل أن يجب على المسافر فيه الإحرام حيث حاذى الميقات، لكن يرخص له في التأخير إلى البر ويلزمه الهدي وهو كذلك، وقوله:"ولو ببحر"، قال المصنف: هو ظاهر المذهب، وقال غير واحد من الشراح: إن المعتمد تقييده ببحر القلزم، فيجب عليه الإحرام حيث يحاذي الميقات فإن أخر فعليه هدي، والقلزم من ناحية مصر فيحرم منه حيث يحاذي الجحفة، وأما بحر عيذاب وهو من ناحية اليمن والهند فلا يلزمه الإحرام فيه بمحاذاته الميقات؛ لأن فيه خوفا وخطرا من أن ترده الريح، بخلاف الأول فإنه ليس مثله ولا هدي عليه بتأخيره الإحرام إلى البر في هذا. انتهى.

وإذا حمل المصنف على هذا تبقى لو غير مشار بها إلى الخلاف؛ إلا أن يقال أشار بها لرواية ابن نافع عن مالك: لا يحرم المسافر في السفن ولم يفصل تفصيل سند. نقله في التوضيح. قاله محمد بن الحسن. سند: ولا يرحل من جُدة إلا محرما؛ لأن جواز التأخير إنما كان للضرورة وقد زالت، وهل يحرم إذا وصل إلى البر أو إذا ظعن من جدة؟ والظاهر إذا ظعن لأن سنة من أحرم وقصد البيت أن يتصل إهلاله بسيره. قاله الحطاب. ولما أوجب الجمهور إحرام من مر بميقات

ص: 408

عموما لقوله عليه الصلاة والسلام: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن

(1)

)، واستثنى أهل المذهب من ميقاته الجحفة يمر بذي الحليفة، فلا يجب إحرامه منها لمروره على ميقاته بعد، أشار إلى ذلك بقوله: إلا كمصري يمر بالحليفة، مستثنى من قوله:"أو مر"، ومعنى كلام المصنف أن من ميقاتُه الجحفة كالمصري والشامي والمغربي، ومثله من مسكنه دونها وخرج إلى ورائه ثم أتى مريد النسك إذا مروا بذي الحليفة يريدون المرور بالجحفة أو محاذاتها، فإنه لا يجب عليهم الإحرام بمرورهم بذي الحليفة ولا بمحاذاته؛ لأن ميقاتهم أمامهم، وأما من مسكنه دون الميقات، فقال سند: من كان منزلة دون الميقات وسافر لما وراء الميقات ثم أتى يريد الدخول لمكة فينظر هاهنا، إن كان يريد الحج أخر إحرامه إلى منزلة إن شاء إذا كان منزلة بغير مكة، ولا يؤخره إذا كان مسكنه مكة؛ إذ لا يدخل المكي مكة إلا محرما، فلما وجب عليه الإحرام قبل منزلة وجب عليه الإحرام من الميقات الذي مر به، وهو كمن لا ميقات له بعده، وإن كان هذا الداخل معتمرا نظرت، فإن كان منزلة في الحل جاز له التأخير، وإن كان في الحرم لم يجز كالمكي. انتهى.

ونقله في الذخيرة على أنه المذهب وهو ظاهر، ولم أقف على ما يخالفه إلا ما ذكره القرطبي في شرح مسلم، فإنه قال ما نصه: لو مر من منزلة بعد المواقيت بميقات من المواقيت المعينة العامة وهو يريد الإحرام وجب عليه أن يحرم منه، ولا يؤخر الإحرام إلى بيته، لقوله صلى الله عليه وسلم:(هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن). انتهى. وما قاله سند أظهر. قاله الحطاب. قال: ولا شك أن إحرامه من الميقات أفضل، كما يؤخذ من قياسه على المصري إذا مر بذي الحليفة، ومن منزلة في الحرم وليس بمكة، وأراد الإحرام بالحج له أن يؤخر ذلك إلى منزلة ويدخل الحرم بغير إحرام، وله أن يدخل منزلة أيضا بلا إحرام حيث أراد الاقتصار عليه، وقال غير المالكية: إن دخول الحرم حكم دخول مكة لاشتراكهما في الحرمة، وفهم من قول المصنف:"إلا كمصري" لخ، أن غير المصري ومن في حكمه؛ إذا مروا بذي الحليفة يتعين عليهم الإحرام منه وهو كذلك.

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1181.

ص: 409

والحاصل أن كل من مر بميقات ليس له فعليه أن يحرم منه إذا لم يكن ميقاته بين يدي هذا الذي مر به، ومن تعداه كان عليه الدم فهو أولى؛ يعني أن المصري ومن في حكمه إذا مروا بذي الحليفة فإنه لا يجب عليهم الإحرام منه، لكون ميقاتهم أمامهم يريدون أن يمروا به أو يحاذوه، ولكن الأولى لهم أن يحرموا من ذي الحليفة، وأما إن كانوا لا يريدون المرور بالجحفة ولا محاذاتها وهم مع ذلك يريدون الإحرام، فإنه يجب عليهم أن يحرموا من ذي الحليفة. والله أعلم. وقوله:"فهو"؛ أي إحرامه من ذي الحليفة "أولى"؛ أي أفضل من تأخيره إلى الجحفة.

وإن لحيض رجى رفعه، مبالغة في قوله:"فهو أولى"؛ يعني أن إحرام الحائض والنفساء من أهل مصر ونحوهم من ذي الحليفة إذا مرتا به أولى من تأخيرهما الإحرام إلى الجحفة وإن كانتا ترجوان بالتأخير إلى الجحفة أن تطهرا فتغتسلا وتصليا للإحرام، فقوله:"لحيض"؛ أي لذات حيض، وإنما كان إحرام كالحائض من ذي الحليفة أفضل لأنها تقيم في العبادة أياما قبل أن تصل إلى الجحفة، فلا يفي ركوعها بفضل تقدم إحرامها من ميقاته عليه الصلاة والسلام، قال مالك: تغتسل ولا تؤخر لانتظار الطهر، وإذا كانت الحائض والنفساء ممن يجب عليه الإحرام من ذي الحليفة فإنه لا يرخص لهما في تأخير الإحرام إلى الجحفة رجاء أن تطهرا، والمستحب لمن أحرم من ذي الحليفة غير الحائض أن يصلي في مسجده، ثم يركب ثم يهل، والحائض من فناء مسجده، وذلك أن مسجد ذي الحليفة موضع يقصد لركوع الإحرام اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأما من أحرم من سائر المواقيت فالأفضل أولها، واختلف في المدني المريض هل يرخص له في تأخير الإحرام إلى الجحفة أو لا؟ على قولين لمالك في الموازية، الأول شهره ابن بزيزة، والثاني رجحه اللخمي وصاحب الطراز وابن عبد السلام. والله أعلم. وكلام اللخمي هو قوله: والأقيس مخاطبته بالإحرام من ميقاته، فإن احتاج إلى شيء من محيط أو تغطية الرأس فعل وافتدى، ولو كان المدني غير مريض وأخر الإحرام إلى الجحفة ففي وجوب الدم وسقوطه قولان: الوجوب لمالك، واختلف أصحابه في الوجوب والسقوط. ابن عبد البر: اختلف في مريد الحج أو العمرة يجاوز ميقاته إلى ميقات أقرب منه، مثل أن يترك المدني الإحرام من ذي الحليفة ويحرم من الجحفة، قال مالك: عليه دم، ومن أصحابه من أوجب الدم فيه، ومنهم من أسقطه،

ص: 410

وفي الشامل: ولا يؤخره صحيح وإلا فالدم على الأصح. كإحرامه أوَّلَه، تشبيه في الأولوية؛ يعني أن الإحرام من أول الميقات أولى أي أفضل؛ لأن المبادرة بالطاعة مستحبة، قيل لمالك في ميقات الجحفة: أيحرم من وسط الوادي أو آخره؟ قال: كله مهل وليحرم من أوله أحب إلي، وكذلك ما كان مثل الجحفة من المواقيت، ويستثنى من هذا -كما مر التنبيه عليه- من أحرم من ذي الحليفة، فإن الأفضل له أن يركع للإحرام في مسجده ثم يحرم إذا خرج منه، وتحرم الحائض من فنائه ولا تدخله.

تنبيه: قال رجل لمالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعاد عليه مرارا، وقال: فإن زدت على ذلك؟ قال: فلا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة، قال: وما في هذا من الفتنة إنما هي أميال أزيدها؟ فقال مالك: قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قال: وأي فتنة في هذا؟ قال وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك أصبت ما قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله تعالى لك واختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال مالك: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة من ذلك فاتركوه. انتهى. قاله الحطاب.

ونقله عن معن بن عيسى، ومعن هذا ربيب مالك، قال ابن عبد البر: كان أشد الناس ملازمة لمالك، وقال الرازي: أوثق أصحاب مالك وأثبتهم معن، وهو أحب إلي من ابن نافع وابن وهب، وقال الشافعي: قال لي الحميدي: حدثني من لم تر عيناك مثله وهو معن، وقد روى عنه الأئمة أحمد وابن معين والحميدي وابن نمير وغيرهم، وأخرج له البخاري ومسلم. انتهى. قاله محمد بن الحسن.

وإزالة شعثه، الضمير في شعثه عائد على الذي يريد الإحرام؛ يعني أن الأفضل لمن يريد الإحرام أن يزيل شعثه، بأن يقلم أظفاره، ويقص شاربه، ويحلق عانته، وينتف إبطيه، ويكتحل، ويدهن بغير مطيب، ويزيل شعر بدنه إلا شعر رأسه، فإن الأفضل إبقاؤه طلبا للشعث في الحج، ونص ابن بشير على أن الأفضل أن يلبده بصمغ أو غاسول ليلتصق بعضه على بعض، وتقل دوابه

ص: 411

من القلة ضد الكثرة أي قمله، وأما من قال: وتموت دوابه، فمشكل لأنه يقتضي أن ذلك يقتل دواب رأسه بعد أن يلتصق الشعر بعضه على بعض، فيكون حاملا للنجاسة أو شاكا في ذلك لأن القملة إذا ماتت نجست على المشهور، وأيضا يحتمل أن يقع القتل للقمل بعد الإحرام، وقوله:"شعثه"، الشعث الدرن والوسخ والقشف. قاله سيدي زروق.

وترك اللفظ به؛ أي بالنسك؛ يعني أن ترك التلفظ بالنسك الذي يريده والاقتصار على النية أفضل من التلفظ بذلك عند مالك، وهذا هو المعروف، وروي عن مالك كراهة التلفظ، وروي عن ابن وهب التسمية أحب إلي، وفي الموازية: قال مالك: ذلك واسع سمى أو ترك، وصفة التسمية أن يقول: لبيك بحجة أو لبيك بعمرة، أو يقول: أحرمت بحجة أو أحرمت بعمرة أوأحرمت بحجة وعمرة. الثعالبي: قيل التلفظ أولى للخروج من الخلاف، فإن أبا حنيفة يقول: من لم ينطق لم ينعقد إحرامه.

ولما أنهى الكلام على الميقات وأهله، شرع في تقسيم حكم المارِّ به من وجوب الإحرام عليه وعدمه إلى أربعة أقسام؛ لأن المار بالميقات إما أن يكون مريدا لمكة أولا، والمريد لها إما أن يتردد أولا، وغير المتردد إما أن يكون مخاطبا بالحج أولا وهو تقسيم بديع لم يسبق به، فقال: والمار به إن لم يرد مكة؛ يعني أن المار بالميقات إذا لم يرد دخول مكة حين مروره بالميقات كأن تكون حاجته دونها أو في جهة أخرى، ومِن لازِمِ عدَمِ إرادة مكة عدمُ إرادة الحج والعمرة، أوأراد دخولها إلا أنه لا يجب عليه الحج كعبد أدخلت الكاف سائر من لا يجب عليه الحج كالجارية والصبي والمجنون والمغمى عليه، وكذا من يجب عليه ولا يصح منه كالكافر، فلا إحرام عليه في هذه الوجوه، وقرن الجواب بالفاء لكونه جملة اسمية، ويختلف في خبر المبتدأ وهو قوله:"والمار"، هل هو الشرط أو الجزاء أو هما، وهو الراجح. ولا دم؛ يعني أن المار بالميقات إذا لم يرد دخول مكة أو أراده ولكن لا يجب عليه الحج أو لا يصح منه، فإنه لا إحرام عليه ولا دم لمجاوزته للميقات حلالا، وما قاله المصنف نحوه لابن عرفة، ولا يعارضه قول المدونة: وإن جاوز الميقات غير مريد الحج فلا دم عليه وقد أساء حين دخل الحرم حلالا من أي الأفاق هو كما زعمه الرماصي، حيث توهم أن قولها، وقد أساء، ينافي المصنف وابن عرفة من جواز ترك الإحرام؛ لأنا

ص: 412

نقول: كلام المدونة في مريد مكة لغير نسك، فلذا قالت: فلا دم عليه وقد أساء، وسيأتي إساءة تاركه ولا دم إن لم يقصد نسكا، وبه تعلم ما في كلام الرماصي. قاله محمد بن الحسن.

وقوله: وإن أحرم، مبالغة في قوله:"ولا دم "؛ يعني أن الشخص إذا مر بالميقات ولم يرد دخول مكة، ثم بعد أن جاوز الميقات بَدَا لَهُ أن يدخل مكة فأحرم حينئذ فإنه لا دم عليه، وكذا لو أذن الولي للعبد أو الصبي أو أعتق العبد أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أو المغمى عليه أو أسلم الكافر، ووقع جميع ما ذكر بعد أن جاوز الميقات فأحرموا بفرض أو نفل، فإنه لا دم على واحد منهم بمجاوزته للميقات حلالا، وظاهر قوله:"ولا دم"، ولو كان إحرامه يسقط عنه الفرض وهو كذلك، كما إذا أحرم الصبي بعد بلوغه أو العبد بعد عتقه أو المجنون أو المغمى عليه بعد زوال ما نعهما أو الكافر بعد إسلامه، فإنهم يسقط عنهم الفرض ولا دم على واحد منهم. قال في المدونة: وللسيد أن يدخل عبده أو أمته بغير إحرام، ويخرجهما إلى منى وعرفات غير مُحْرِمَيْن، فإن أذن السيد لعبده بعد ذلك فأحرم من مكة فلا دم على العبد لترك الميقات، وإذا أسلم نصراني أو عتق عبد أو بلغ صبي أو حاضت الجارية بعد دخولهم مكة أوهم بعرفة، فأحرموا حينئذ فوقفوا، أجزأتهم عن حجة الإسلام، ولا دم عليهم لترك الميقات؛ لأنهم جاوزوه قبل توجه فرض الحج عليهم.

وانظر هل يدخل في كلام المصنف المرأة في التطوع، والظاهر أنه ينظر؟ فإن كان الزوج محرما فيجب عليها الإحرام لأنه لا يجوز له أن يحللها إذا أحرم وكانت صحبته كما صرح به صاحب الطراز، وأما إن كان ممن يجوز له الدخول بغير إحرام فها هنا ليس لها أن تحرم بالتطوع إلا بإذنه، ومقتضى ذلك أنه يجوز له أن يدخلها بغير إحرام. فتأمله. والله أعلم. قاله الحطاب.

إلا الصرورة المستطيع: يعني أن الصرورة المستطيع إذا جاوز الميقات حلالا وهو غير مريد دخول مكة، ثم أحرم في أشهر الحج، فإنه اختلف فِي لزُومِ الدم له؛ لأنه بإحرامه صار بمنزلة مريده أو تبين أنه مريده وَعَدَمِ لُزُومِ الدم له رعيا لحال مروره على الميقات.

وبما قررت علم أن هذا راجع للمبالغ عليه فقط، فهما فيمن أحرم بعد تعديه للميقات حلالا، وكان حال مروره غير مريد دخول مكة، وأنه فيمن أحرم في أشهر الحج، فإن أحرم في غير أشهر الحج فلا دم عليه اتفاقا. فتأويلان؛ أي في ذلك تأويلان، فتأول ابن شبلون المدونة على أن

ص: 413

الصرورة يلزمه الدم سواء كان مريدا للحج حين جاوز الميقات أو غير مريد، وتأولها الشيخ ابن أبي زيد على أن الصرورة وغيره سواء وأنه لا يلزمه الدم، قال ابن يونس: وقول أبي محمد هو الصواب، ولا بد من تقييد قول ابن شبلون بأن يكون ذلك في أشهر الحج. ومريدها إن تردد، يعني أن من أراد دخول مكة وهو من المترددين إليها كالمتسببين في الفواكه والطعام وكالحطابين، فإنه يجب عليهم الإحرام ولا دم عليهم، واستحب اللخمي لهم أن يحرموا أول مرة، أو عَادَ لَهَا لأمْر؛ يعني أن من خرج من مكة لا يريد العود لها ثم إنه رجع لها من قريب كمسافة قصر؛ لأجل أمر عاقه عن السفر -مثل ما فعل ابن عمر حين خرج إلى قديد فبلغة خبر فتنة المدينة فرجع فدخل مكة بغير إحرام- لا يجب عليه الإحرام ولا دم عليه.

وبما قررت علم أن قوله: فكذلك، جواب الشرط، فهو راجع للمسألتين؛ أعني قوله:"إن تردد"، وقوله:"أو عاد لها"، ومعناه كالمار الذي لا يريد دخول مكة في أنه لا إحرام عليه ولا دم كما قررت، وقوله:"ومريدها إن تردد" الخ، ليس هو في متعدي الميقات كما هو المتبادر منه، وإنما هو في دخول مكة من غير إحرام من مكان قريب، وأما المار على الميقات إن أراد مكة فيجب عليه الإحرام من غير تفصيل بين المتردد وغيره كما تفيده المدونة، فإن خرج لا يريد العود ورجع من قريب لغير عائق أحرم، وإلا وجب الدم، بخلاف من خرج يريد العود.

والحَاصِلُ أن من خرج من مكة، إما أن يخرج بنية العود أو لا، فإن خرج على أن لا يعود ثم رجع من قريب لأمر عاقه كما فعل ابن عمر فإنه يدخل بغير إحرام، بخلاف ما إذا بدا له الرجوع عن سفره لأمر رآه، وإن خرج بنية العود، فإن كان الموضع الذي خرج إليه قريبا ولم يقم فيه كثيرا فله الرجوع بغير إحرام، وإن كان الموضع بعيدا أو أقام فيه كثيرا فعليه أن يدخل محرما، وإن كان من أهل مكة.

وحد القرب ما كان على مسافة القصر فأقل، فقول المصنف:"أو عاد لها"، مقيد بقيدين بأن يكون عاد من قريب وأن يكون عوده لأمر عاقه عن السفر، ويلحق بهذا في جواز الدخول بغير إحرام من دخل لقتال بوجه جائز.

ص: 414

وبما قررت علم أن معنى قوله: "فكذلك"، كالمار الذي لا يريدها في أنه لا إحرام عليه ولا دم، وقد قدمت أن هذا في دخول مكة بغير إحرام، وقال الخرشي عند قوله: فكذلك كالمار الذي لا يريدها في أنه لا إحرام عليه ولا دم وان أحرم، وهل يدخل في التشبيه والإشارة قوله في التي قبلها:"إلا الصرورة المستطيع فتأويلان؟ "؛ لازم تأويل ابن شبلون دخول ذلك؛ لأنه إذا وجب الدم على الصرورة الذي لم يردها فأحرى الصرورة الذي يريدها. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وهذا مبني منه رحمه الله تعالى على ما يتبادر من المصنف من أن قوله: "ومريدها إن تردد" لخ، فيمن تعدى الميقات حلالا، وهو خلاف ما قدمته، وهو لمحمد بن الحسن أنه إنما هو في دخول مكة من مكان قريب، وأما المار على الميقات إن أراد مكة فإنه يجب عليه الإحرام من غير تفصيل. انتهى. ولا يكره دخول مكة حلالا لمن كان خائفا من سلطانها ولا يمكنه أن يظهر، أو خائفا من جور يلحقه بوجه على ظاهر المذهب لأن ذلك يجوز مع عذر التكرار، فكيف بعذر المخافة. وقاله الشافعي وغيره.

ويتحصل من كلام الخرشي أن من خرج بنية العود ومن خرج بنية عدم العود يتفقان على الدخول بإحرام حيث رجعا عن بعد، وأما إن رجعا من مكان قريب فمن خرج بنية عدم العود يجوز له الدخول بغير إحرام مطلقا، طالت إقامته بالمحل القريب أم لا، إلا فيما إذا ترك السفر لغير عائق بل لأمر رآه، ومن خرج بنية العود إن طالت إقامته به دخل بإحرام وإلا فله الدخول بغير إحرام، وانظر لو خرج ولا نية له بشيء، ما حكمه؟ وقال عبد الباقي بعد قوله:"فكذلك" ويلحق بذلك أيضا دخولها لقتال، وهذا إذا رجع لسبب من هذه الأسباب لا يريد نسكا، وإلا تعين عليه الإحرام من موضعه إن كان دون الميقات كجدة وعسفان، فإن أخره عن موضعه فالدم، كما صرحوا به فيمن جاوز الميقات لا يريد مكة ثم أراد دخولها بأحد النسكين فإنه يلزمه الإحرام من موضع إرادته، وإن جاوزه فالدم، وبذلك أفتى والد الحطاب غير مرة فيمن خرج من مكة لجدة -بالجيم- بنية العود، ثم لما رجع أخر الإحرام إلى حدة -بحاء مهملة- قرية بين مكة وجدة ولم يحرم مما خرج إليه .. انتهى. أي جدة بالجيم، وهو يخالف ما للرماصي من أن هذا لا دم عليه، وعزاه لابن القاسم، وإلا بأن كان المار بالميقات مريدا لدخول مكة ولم يكن كعبد، وجب

ص: 415

عليه الإحرام من الميقات الذي مر به، سواء أراد دخولها لأحد النسكين أو لغير ذلك كتجارة وكونها بلده، وهذا الذي قررت به المصنف هو الذي يفيده الأمير، ومقتضى تقريري هذا أن المار على الميقات إن أراد مكة يجب عليه الإحرام من غير تفصيل بين المتردد وغيره، وبذلك صرح محمد بن الحسن قائلا: كما تفيده المدونة، وهذا صريح في أن المتردد الذي لا إحرام عليه إنما هو حيث لم يمر بالميقات.

وأساء تاركه؛ يعني أن هذا المار في الميقات إذا ترك الإحرام من الميقات فإنه أساء أي أثم، ولا يغني عن قوله:"أساء" قوله: "وجب"؛ لأن الوجوب قد يستعمل في المتأكد، كقولهم: الوتر واجب أي متأكد لا في خصوص ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، فنبه على أن هذا هو المراد هنا. قاله عبد الباقي. وقوله:"وأساء تاركه"، خلافا لأبي مصعب. قاله الشبراخيتي. ولا دم؛ يعني أن هذا المار يجب عليه الإحرام من الميقات كما علمت ويأثم بترك ذلك، فإذا ترك الواجب بأن لم يحرم من الميقات الذي مر به وهو يريد دخول مكة، فإنه لا دم عليه، ومحل هذا إن لم يقصد وقت مروره في الميقات نسكا أي حجا أو عمرة، وإلابأن قصد نسكا بحج أو عمرة حين مر بالميقات ولم يحرم من الميقات ترك الإحرام جاهلا بالميقات أو عالما رجع. وجوبا إلى الميقات وأحرم منه، وإن شارفها؛ يعني أنه إذا تعدى الميقات ولم يحرم منه فإنه يرجع وجوبا إلى الميقات ويحرم منه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد شارف مكة أي قاربها وبين أن يكون لم يشارفها، بل يرجع إلى الميقات وجوبا ويحرم منه، وإن كان قد دخل مكة كما هو ظاهر المدونة خلافا لما يوهمه المصنف ما لم يحرم. ولا دم؛ يعني أنه إذا رجع إلى الميقات وأحرم منه فإنه لا دم عليه، ولو دخل مكة حيث رجع قبل إحرامه رجع عن قرب أو بعد بعد دخولها أو قبله؛ لأنه لما رجع إلى الميقات وأحرم منه فكأنه أحرم ابتداء منه، وقوله:"إن لم يقصد نسكا"، ظماهره ولو قصد النسك بعد ذلك وأحرم من الطريق أو من مكة وهو كذلك على مذهب المدونة، وقيل: بالدم مطلقا، وقيل إن أحرم وكان صرورة فالدم، والرابع الدم على الصرورة وإن لم يحرم، والخامس إن أحرم. وقوله:"وإن شارفها"؛ أي خلافا لمن قال: يرجع ما لم يشارف مكة، فإن شارفها أحرم وأهدى، وهو قول جمهور أهل العلم.

ص: 416

واعلم أن من أراد دخول مكة لحج أو عمرة فلا يجوز له دخولها إلا بإحرام، فإن دخلها بغير إحرام ثم رجع إلى بلده فقد عصى ولا قضاء عليه كما في تحية المسجد، واختلف هل عليه دم أم لا؟ فقال ابن القاسم: لا دم عليه ورواه عن مالك وهو مذهب المدونة، وقال مالك في الموازية: عليه الدم. قاله الحطاب. وقوله: "ولا دم"، فإن لم يرجع وأحرم فعليه الدم. ولو علم؛ يعني أنه إذا رجع إلى الميقات وأحرم منه فلا دم عليه، ولو علم أوَّلًا أنه لا يجوز له أن يتعدى الميقات بغير إحرام، ورد المصنف بلو قول ابن الحاجب: إن كان جاهلا وإلا فدم، وأنكره ابن عرفة، فقال: وَقَوْلُ ابن الحاجب إن كان جاهلا وإلا فدم: لَا أَعْرِفُهُ، ونحوه قول ابن شأس: إن عاد بعد البعد لم يسقط، فإنه خلاف المذهب، وقد أنكره ابن عرفة أيضا. قاله الحطاب.

وأما تقييد المدونة بالجاهل فإنه خرج مخرج الغالب. ما لم يخف فوتا؛ "ما" هذه ظرفية متعلقة بقوله: "وإلا رجع". قاله الحطاب. ومعنى كلام المصنف أن من جاوز الميقات غير محرم وهو مريد لأحد النسكين فإنه يؤمر بالرجوع للميقات ليحرم منه ما لم يخف فوات الحج أو فوات رفقة أو مرضا شاقا، وأما إن خاف شيئا من ذلك فَلا يرجع، بل يحرم من مكانه، وعليه الدم لكونه لم يحرم من الميقات، فإن خاف فوات الحج، وفاته بالفعل، وتحلل منه فلا دم عليه كما أشار إليه بقوله الآتي:"لا فات"، وقوله:"فالدم"؛ أي لأن محظورات الإحرام تستباح للأعذار بالهدي، ولو قال المصنف: ما لم يخف كفوات، ليشمل ما إذا خاف فوات الحج أو مرضا أو قتالا أو فوات رفقة ونحو ذلك لكان أحسن، ومعنى قوله:"ما لم يخف فواتا"، ما لم يغلب على ظنه أنه إذا رجع يفوته الحج.

وعُلِمَ مما مر ثمان صور؛ لأنه إما أن يخرج ليعود أو لا، وفي كل إما أن يعود بقرب أو بعد فهذه أربع صور، وفي كل إما أن تطول إقامته قبل العود أو لا، فمتى خرج لا ليعود فلا يدخلها إلا محرما، عاد عن قرب أو بعد، طالت بالعرف إقامته قبل العود أم لا، إلا أن يرجع لأمر عاقه كما وقع لابن عمر. ومتى خرج ليعود فلا بد من إحرامه إن عاد عن بعد مطلقا أو عن قرب وطالت إقامته، لا إن لم تطل، وأن الدم خاص بمن قصد نسكا ولم يحرم من الميقات ولا من بلده فيمن دون الميقات على خلف في الأخير. والله سبحانه أعلم.

ص: 417

ويأتي للمصنف أن دخول مكة للحلال جوازه من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وشبه المصنف في وجوب الدم، قوله: كراجع بعد إحرامه؛ يعني أن من جاوز الميقات بغير إحرام وهو مريد لأحد النسكين ثم أحرم بعد مجاوزته للميقات فإن الدم لازم له ولا يسقط عنه برجوعه إلى الميقات، بعد إحرامه وأولى في لزوم الدم ما إذا أحرم ولم يرجع إلى الميقات وهذا هو المشهور المعروف من المذهب، وقيل: يسقط الدم برجوعه. قاله الحطاب.

وعلم مما قررت أن الدم مرتب على إحرامه قبل رجوعه رجع بعد ذلك أو لا. ولو افسد؛ قال الشيخ الخرشي: مبالغة في لزوم الدم؛ وصورتها أنه جاوز الميقات وهو حلال، ثم أحرم بالحج، ثم أفسده بجماع -مثلا- فإنه يلزمه الدم وهو باق على عمل حجه متماد عليه فيلزمه جبره بالدم، قال الحطاب: ولا أعلم فيه خلافا كما هو ظاهر المصنف. لا فات؛ يعني أن من تعدى الميقات حلالا ثم أحرم وفاته الحج وتحلل منه بعمرة، فإنه يسقط عنه دم التعدي، فإن بقي على إحرامه ولم يتحلل منه بفعل عمرة، فإن عليه الدم لأنه في هذه الحالة بمنزلة من لم يفته، وتكلم المصنف هنا على سقوط دم التعدي في الفوات بشرطه، وعلى لزومه في الفاسد، ولم يتكلم على دم الفوات والفساد معا؛ لأنه يذكره أثناء فصل محرمات الإحرام وفصل الحصر، والفرق بين الإفساد والفوات أنه في الإفساد مستمر على ما أحرم به، بخلاف الفوات فإن الحج الذي قصده لم يحصل والعمرة لم يقصدها، فأشبه من جاوز الميقات غير مريد للنسكين وإتمامه لإحرامه فعل عمرة كإنشائه العمرة حينئذ، ولم يحصل فيها تعد يجب به الدم، وعن أشهب أن الدم لا يسقط بالفوات.

ولما قدم أن الإحرام ركنا

(1)

في النسكين ذكر ما ينعقد به فقال: وإنها ينعقد بالنية؛ يعني أن الإحرام إنما ينعقد بالنية مع قول أو فعل يتعلقان بالحج أو العمرة، فالحصر منصب على قوله الآتي:"مع قول" الخ، وإن خالفها لفظه؛ يعني أن المعتبر ما نواه، ولا يعتبر ما تلفظ به إذا خالف النية، قال ابن الحاجب: ولو اختلف عقده ونطقه فالعقد على الأصح، قال في التوضيح: كما لو نوى الإفراد فلفظ بالقران أو بالعكس، والأصح اعتبار نيته، وليس في المذهب من صرح بالعمل على ما تلفظ به كما تعطيه عبارته. قاله الحطاب.

(1)

كذا في الأصل.

ص: 418

ولا دم؛ يعني أنه إذا خالف النية اللفظ فالمعتبر النية كما عرفت، فيصح ما أحرم به ولا دم عليه، وقال الشارح: وروي ما يشير إلى اعتبار النطق، فروى ابن القاسم فيمن أراد أن يهل بالحج مفردا فأخطأ فقرن أو تكلم بالعمرة: فليس ذلك بشيء وهو على حجه، قال في العتبية: ثم رجع مالك، فقال: عليه دم، وقاله ابن القاسم. انتهى. وأما لو أراد العمرة أو القران فنوى الحج فقط، فالمعتبر ما نواه أولا وهو العمرة أو القران. قاله الخرشي. وقال محمد بن الحسن عند قوله:"ولا دم"، هذا قول مالك المرجوع عنه، والذي رجع إليه أن عليه الدم، وقاله ابن القاسم أيضا.

واعلم أن لفظ التمتع ولو قصده لا يوجب الدم، وإنما يوجبه الحج بعد العمرة، وبالغ في الانعقاد بالنية مع قول أو فعل تعلقا به، بقوله: وإن بجماع؛ يعني أن الحج ينعقد بنية مع قول أو فعل تعلقا به وإن وقعت النية وما هي معه في حالة الجماع لكن ينعقد فاسدا كأن ينوي ويلبي وهو يجامع أو ينوي ويفعل فعلا تعلق به وهو يجامع؛ كأن يكون في محفة وهو سائر متوجه إلى مكة فينوي الإحرام في حالة الجماع وهو متوجه، فلا يقال: إن المصنف يرشد إلى أن الحج ينعقد في حالة الجماع بالنية فقط؛ لأن المصنف إذا لم يقل بانعقاد الإحرام بمجرد النية لمن يكون متطهرا فأحرى أن لا ينعقد ممن يجامع بالنية وحدها، وقوله:"وإن بجماع"؛ يعني فينعقد فاسدا ويتمه ويقضيه ويُهْدِي، وفي طرر التلقين: وشرط انعقاد الإحرام أن لا ينوي عند الدخول فيه وَطْئًا ولا إنزالا، فإن نوى ذلك مع إحرامه لم ينعقد ولم يكن عليه من أفعال الحج والعمرة ولا من لوازم الإحرام بهما شيء. انتهى. قاله الحطاب. ومعنى هذا. والله سبحانه أعلم. أنه أحرم على شرط أن لا يحرم عليه وطء ولا إنزال، فهذا هو الذي لا ينعقد إحرامه؛ لأن شرطه مناقض لمقتضى العقد، وهو مثل قول ابن القصار المقابل للمشهور في قول المصنف في الاعتكاف: وإن شرط سقوط القضاء لم يفده. قاله محمد بن الحسن.

وأما ما تأوله عليه عبد الباقي وبنى عليه سؤاله وجوابه ففيه نظر، وقوله:"وإن بجماع"، قال الإمام الحطاب: والظاهر أنه يجب عليه النزع كما في الصوم ولم أره منصوصا. والله أعلم. انتهى. اللخمي: إذا نذر أن يصوم بعض يوم، أو يعتكف الليل دون النهار، أو يطوف شوطا أو يقف بعرفة ولا يزيد على ذلك، فاختلف في هذا الأصل، فقيل: لا شيء عليه، وقيل: يأتي بمثل تلك

ص: 419

الطاعة تامة والمشهور اللزوم في الاعتكاف. قاله الحطاب. فَإن قِيلَ: لم لزمه في الحج القضاء وفي الصوم إذا طلع عليه الفجر وهو يجامع ينزعه ولا يلزمه قضاء؟ فَالجَوَابُ أنه في الحج أدخل ذلك على نفسه، بخلاف الصوم فإنه لا اختيار له في طلوع الفجر وعدمه. انظر الحطاب.

وفي الحطاب عن سند ما نصه: إذا أحرم وهو يجامع انعقد إحرامه فاسدا، وكان عليه تمامه وقضاؤه. انتهى. قال الحطاب: ولازم ذلك وجوب الهدي. مَعَ قوْل، قوله:"مع"، متعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال من قوله بالنية؛ يعني أن الإحرام ينعقد بالنية حال كون النية كائنة مع قول أو فعل؛ يعني أن الإحرام إنما ينعقد بالنية حال كون النية كائنة مع قول أو فعل تعلَّقَا به؛ يعني أنه يشترط في القول الذي ينعقد الإحرام بالنية معه أن يكون متعلقا بالإحرام كالتلبية والتسبيح والتهليل والتكبير، وفي كتاب ابن محرز، قال أشهب: ولو كبر أو سبح أو هلل -يريد بذلك الإحرام- كان محرما، وكذلك يشترط في الفعل الذي ينعقد الإحرام بالنية معه أن يكون متعلقا بالإحرام كالتوجه إلى الطريق والتقليد والإشعار، وما مشى عليه المصنف، قال المصنف في مناسكه: هو المشهور في المذهب، وقال الشبراخيتي: إنه الراجح.

ابن الحاجب: وينعقد الإحرام مقرونا بقول أو فعل متعلق به كالتلبية والتوجه لا بنحو التقليد والإشعار. ابن عرفة: وفي الانعقاد بالتقليد والإشعار مع النية قولا إسماعيل عن المذهب، والأكثر عنه أي نقل إسماعيل عن المذهب الانعقاد، ونقل الأكثر عن المذهب عدم الانعقاد، وحينئذ فعدم الانعقاد بالنية وحدها أحرى، وقال صاحب التلقين وصاحب المعلم وصاحب القبس وسند: النية وحدها كافية، واحترز المصنف بقوله:"تعلقا به"، مما إذا لم يتعلقا به، فلا ينعقد الإحرام بالنية مع ذلك كالبيع ونحوه. وقوله: به الضمير للإحرام كما قررت، وقال المواق: الضمير المفرد للحج والعمرة مقيسة عليه أو للنسك لا للإحرام؛ لأن القول والفعل لا يتعلقان بالإحرام؛ أي لأنه لا ينعقد إلا بذلك.

وقد مر أن قوله: "مع"، متعلق بمحذوف حال من النية وهو للحطاب، وقال الشبراخيتي: إنه متعلق بالنية ولا يستقيم المعنى إلا عليه، وإن لزم منه الفصل بأجنبي بين المصدر ومعموله لأنهم

ص: 420

يتوسعون في الظروف ما لا يتوسعون في غيرها، ولذلك أجازوا تقديم معمول المصدر عليه إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا. انتهى.

بَيَّن أوْ أبْهَمَ؛ يعني أن الإحرام ينعقد بالنية مع ما سبق، سواء بين النسك الذي أحرم به من حج أو عمرة أو قران أو أبهمه، كأحرمت لله تعالى ولم يعين نسكا وهذا بالنسبة إلى الانعقاد، وأما بالنسبة إلى الفضيلة، فقال سند: والأفضل أن يعين نسكه من حج أو عمرة. وصرفه لحج؛ يعني أنه إذا أحرم ولم يعين نسكا بأن أبهم فإنه ينعقد إحرامه ويصح، ويخير في صرفه إلى أحد الأوجه الثلاثة: الحج أي الإفراد، والعمرة، والقران. ويندب له أن يصرفه لحج أي إفراد، قال مالك في الموازية: إذا أحرم مطلقا أحب إليَّ أن يفرد، قوله:"وصرفه لحج"؛ أي ندبا كما عرفت طاف أم لا، وقال عبد الباقي: محل الندب إذا لم يحصل منه طواف، وأما إن حصل منه طواف قبل الصرف فإنه يصرفه للحج وجوبا، قال في الذخيرة: ولو أحرم مطْلِقا ولم يعين حتى طاف، فالصواب أن يجعل حجا ويكون هذا طواف القدوم لأن طواف القدوم، ليس ركنا في الحج، والطواف ركن في العمرة وقد وقع قبل تعيينها، وعبارة عبد الباقي:"وصرفه للحج"؛ أي وجوبا إن وقع الصرف بعد طواف القدوم، وسواء كان في أشهر الحج أم لا، وندبا إن كان قبله ووقع الإحرام منه في أشهر الحج، ويؤخر سعيه في الثلاث صور لإفاضته، فإن كان في غير أشهر الحج كره صرفه للحج لأنه أحرم به قبل وقته ويصرفه لعمرة، فعلم أن الصور أربع. انتهى.

قال محمد بن الحسن: هذا الفرع الذي وقع فيه الصرف بعد الطواف إنما نقلوه عن سند والقرافي، وهما لم يذكرا فيه وجوب الصرف، وإنما قالا: الصواب أن يجعل حجا لخ، وذلك لا يقتضي الوجوب، وكذا تعليله الآتي لا يقتضيه، وقول الزرقاني: ويؤخر سعيه في الثلاث صور لإفاضته لخ فيه نظر، أما إذا صرفه قبل الطواف وقد أحرم من الحل فلابد من طواف القدوم ويسعى بعده، ولا قائل بتأخير السعي هنا، وأما إذا صرفه بعد الطواف، فقد قال سند: يؤخر سعيه للإفاضة، وقوله:"بين أو أبهم"، جملة حالية، قاله غير واحد، وهو نظير قول الشاعر:

كن للخليل نصيرا جار أو عدلا

ولا تشح عليه جاد أو بخلا

ص: 421

وقوله: "لحج"، كان ينبغي له أن يقول: لإفراد لأنه قسم من الحج، فإن الحج شامل للأقسام الثلاثة.

وفي الحطاب عند قوله "وصرفه لحج": وهذا إذا أحرم في أشهر الحج. فإن أحرم مطلقا قبل أشهر الحج، فقال ابن جماعة الشافعي: إطلاق ابن الحاجب يقتضي أنه يخير في التعيين. انتهى. قُلْتُ: ولكنه يكره له صرفه إلى الحج قبل أشهره على الشهور؛ لأن ذلك كإنشاء الحج حينئذ، وعلى مقابله إنما ينعقد عمرة وهذا ظاهر. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب. وقال الحطاب: قال ابن جماعة في منسكه الكبير في أوجه الإحرام: لو أحرم بعمرة ثم أحرم مطلقا، فوجهان عند الشافعية؛ أحَدُهُمَا أن يكون مدخلا للحج على العمرة، وَالثَّانِي إن صرفه إلى الحج كان كذلك، وإن صرفه إلى العمرة بطل الثاني، وعند المالكية أنه يصير قارنا. انتهى. وَالقِيَاسُ لقِران؛ يعني أن الإمام مالكا قال فيمن أحرم وأبهم: أحب إلي أن يفرد، ولكن القياس أن يصرفه لقران بأن يحج، وكان القياس لأنه أحوط لاشتماله على النسكين، وقوله:"بين أو أبهم"، أما إذا أبهم فالأمر ما عرفته، وأما إذا بين ما أحرم به من حج أو قران أو عمرة فإنه يعمل على ما بين، وما تقدم من التخيير بين الثلاثة هو في حق المدني وغيره، واختار اللخمي أن التخيير إنما هو للمدني ونحوه، وأما المغربي ونحوه ممن لا يقصد إلا الحج فلا يلزمه غيره. نقله الخرشي. وإن نسيَ فقِران؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بنسك معين ثم إنه نسي ما أحرم به فلم يدر أهو حج مفرد أو عمرة أو قران، فإن نسكه الذي يفعله قران أي يعمل عمل القران ويهدي لأنه أحوط، وليس معنى قوله:"فقران"، أنه ينوي القران لمنافاته لقوله: ونوى الحج؛ يعني أنه يعمل عمل القران كما مر، وينوي الحج مع ذلك أي يجدد الآن نية الإحرام بالحج احتياطا، فإن إحرامه الأول إن كان حجا أو قرانا لم يضره ذلك، وإن كان عمرة ارتدف الحج عليها وصار قارنا ويكمل حجه، وَإذا نوى الحج بالمعنى المذكور وأتم حجه برئ منه؛ أي من الحج فقط دون العمرة، فإنه يأتي بها لاحتمال أن يكون إحرامه الأول إنما هو بحجة فقط، فلم تحصل له عمرة، وقوله:"ونوى الحج"، قال عبد الباقي: وجوبا بعمل القران. انتهى. قال محمد بن الحسن: فيه نظر،

ص: 422

بل الذي يدل عليه كلامهم أنه إن أراد البراءة من الحج أحدث نيته صرورة كان أم لا، وإن ترك نيته برئ من عهدة الإحرام فقط وليس محققا عنده إلا عمرة. انظر ابن غازي، والحطاب. انتهى. وقوله:"ونوى الحج"، قال عبد الباقي: وهذا حيث حصل شكه في وقت يصح فيه الإرداف كما لو وقع قبل الطواف أو في أثنائه أو بعده وقبل الركوع على المشهور، أما لو كان بعد الركوع أو في أثناء السعي فلا ينوي الحج؛ إذ لا يصح إردافه على العمرة إذ ذاك، بل يستمر على ما هو عليه، فإذا فرغ من سعيه أحرم بالحج وكان متمتعا إن كان في أشهر الحج، وكذا إن كان إحرامه بعد السعي، وينبغي أن يهدي احتياطا لخوف تأخير الحلاق. قاله سند. انتهى. وقوله:"وبرئ منه"، قال عبد الباقي عنده: واعلم أن مفاد النقل أن عمل القران لازم له، سواء نوى الحج أم لا، وبراءته من الحج إنما تكون إذا نواه. انتهى.

كشكه أفرد أَو تمتع، تشبيه في تجديد نية الحج والبراءة منه وعمل القران؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بنسك ثم شك فيما أحرم به، هل أحرم بحج مفردا أو بعمرة؟ فإنه يجدد نية الحج حين وقع له الشك إن كان ذلك قبل الطواف، كان مردفا للحج على العمرة إن كان إحرامه الأول عمرة، وإن كان حجا لم يضره، وإن كان بعد فراغه من السعي كان محرما بحج بعد الفراغ من العمرة إن كان الأول عمرة، وإن كان حجا لم يضره، نعم، إن وقع له الشك في أثناء الطواف أو في أثناء السعي لم يصح. قاله الحطاب. وقوله:"كشكه أفرد أو تمتع".

علم مما قررت أنه تشبيه في تجديد نية الحج والبراءة منه فقط، وأن معنى قوله:"تمتع": اعتمر، فكان الأولى له أن يقول: كشكه أحرم بحج أو عمرة. كما قاله الحطاب. وقال عبد الباقي مفسرا لقوله "أو تمتع": أي اعتمر، هذا مراده بدليل أن الشك حاصل عقب إحرامه، والتمتع إنما يتحقق بفراغه من العمرة ثم إحرامه بالحج في أشهره. انتهى. المراد منه.

وقد مر أن قوله: "كشكه" لخ، تشبيه في تجديد نية الحج والبراءة منه دونَ العمرة، قال الحطاب: وأما كونه لا يبرأ إلا من الحج فقط فلم أر من صرح به في هذه المسألة، بل صرح في الشامل بنفيها، فقال: ولو نسي ما أحرم به نوى الحج وتمادى قارنا فطاف وسعى وأهدى ثم

ص: 423

اعتمر كما لو شك أفرد أو تمتع ولا عمرة، لكن ما قاله المصنف ظاهر من جهة المعنى؛ إذ لا فرق بين هذه المسألة والتي قبلها في موجب العمرة، فتأمله. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.

وقوله: "كشكه أفرد أو تمتع"، قال الشبراخيتي عنده: وأفاد تشبيهه أنه ينوي الحج الآن لاحتمال أن يكون أحرم أولا بعمرة ويعمل عمل القران، ويبرأ منه فقط لاحتمال أن يكون إحرامه أولا بحج فهو تشبيه تام، فنية الحج واجبة على المذهب كما قال مالك وابن القاسم خلافا لبحث ابن عبد السلام، وبحث ابن عبد السلام هو قول سحنون. انتهى. وقال عبد الباقي توطئة لقوله "كشكه" الخ ما نصه: ثم شبه في أصل نية الحج وإن كانت فيما مر واجبة وهنا مندوبة، وفي البراءة من الحج فقط، ويأتي فيه ما قدمناه عن سند.

قوله: "كشكه أفرد أو تمتع"، قال محمد بن الحسن: قوله: وإن كانت فيما مر واجبة الخ، فيه نظر كما تقدم وتأمل كلام الحطاب وما نقله عن اللخمي يظهر لك أن لا وجوب في المسألتين. انتهى. وقوله:"كشكه أفرد أو تمتع"، قررتُه كما علمتَ على أنه تشبيه بالمسألة التي قبله، قال الشبراخيتي: تنظير لا تمثيل لأنه في الأول نسي ما أحرم به من كل الوجوه، وفي هذه جزم بأنه لم ينو قرانا، وإنما شك في الحج المُفْرَدِ والعمرة المُفْرَدَةِ، ولذا كان الأولى أن يقول: كشكه أفرد أو اعتمر. انتهى. المراد منه. والله سبحانه أعلم.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وإذا تأملت هذا وما قدمته علمت أنه لا فرق بين المسألتين إلا من حيث الصورة لا من جهة المعنى. والله سبحانه أعلم. ولهذا قال الحطاب في كلام ابن غازي. وابن عبد السلام: الذي فيه التفريق بين المسألتين إنه سهو ظاهر وأنه لا فرق بينهما. والله سبحانه أعلم. وقوله: هل أفرد أو تمتع؛ أي اعتمر، وأما لو شك هل أفرد أو قرن تمادى على نية القران وحده. قاله اللخمي. قاله الحطاب. وقال: وانظر لو شك هل قرن أو تمتع؟ والظاهر أنه يمضي على القران أيضا. والله أعلم. انتهى. وقال الشيخ سالم: وينبغي في هذه أن يحدث نية الحج ليتحقق القران؛ لأن حاصل أمره أنه شك هل أحرم بهما معا أو بالعمرة فقط؟ وهو معنى التمتع كما سبق، فينوي الحج ندبا على العمرة إن كان أحرم بها أولا، وينبغي في هذه أن يبرأ منهما معا وإن لم يحدث نية الحج لم يبرأ إلا من العمرة. انتهى. نقله عبد

ص: 424

الباقي. وقوله: "كشكه أفرد أو تمتع"، قال الشبراخيتي: ومحل كونه ينوي الحج حين شكه حيث كان يرتدف الحج على العمرة، فإن كان لا يرتدف كأن يكون شكه بعد ركوع الطواف فإنه لا ينوي الحج، وإن نواه لم يعمل بنيته بل يصبر حتى يسعى ثم يحرم بالحج، ولو شك هل أفرد أو قرن تمادى على نية القران وحده. قاله اللخمي. ويبرأ من الحج فقط للعلة المتقدمة، وظاهر كلام اللخمي أنه يبرأ من الحج ومن العمرة. انتهى. والله سبحانه أعلم.

ولغا، فعل ثلاثي لازم ومضارعه يلغى بفتح الغين، وأما لغا إذا تكلم بالكلام اللاغي أي الساقط فمضارعه يلغو بضم الغين، وفاعل "لغا" في كلام المصنف قوله: عمرة عليه، ولم يقل لغت لأن العمرة مجازية التأنيث كما قاله غير واحد، ومعنى كلام المصنف أن الشخص إذا أحرم بحج ثم أحرم بعمرة فإن العمرة تبطل، وقوله:"عليه"، متعلق بصفة مقدرة لعمرة أي وبطلت عمرة مردفة عليه أي على الحج أي أحرم بها قبل تمامه. وقوله:"عليه"، مفهومه أنها معه لا تَلْغَى وهو كذلك، ولم يذكر المصنف الحكم في ذلك ابتداء وهو الكراهة. قاله الحطاب. وقوله:"ولغا عمرة عليه"، لم تردف العمرة على الحج لضعفها، وقوله:"ولغا عمرة عليه"، ولا يلزم قضاء هذه العمرة اللاغية ولا دم بسبب ذلك.

كالثاني في حجتين؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بحجة ثم بعد إحرامه بها أحرم بحجة أخرى، فإن الحجة الثانية تلغى أي تبطل، يريد: ويكره الإقدام على ذلك ابتداء، وكذا تلغى إحدى الحجتين إذا أحرم بهما معا. قاله الشبراخيتي. والله سبحانه أعلم. أو عمرتين؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بعمرة ثم بعد إحرامه بها أحرم بعمرة أخرى فإن العمرة الثانية تلغى أي تبطل، يريد: ويكره له ذلك ابتداء، وكذا تلغى إحدى العمرتين إذا أحرم بهما معا، قال في المدونة: وكره مالك لمن أحرم بالحج أن يضيف إليه عمرة أو حجة، فإن أردف ذلك أول دخوله مكة أو بعرفة أو في أيام التشريق فقد أساء، وليتماد على حجه ولا يلزمه شيء فيما أردفه ولا قضاؤه ولا دم قران. انتهى.

ورفضه؛ بالرفع عطف على عمرة من قوله: "ولغا عمرة عليه"؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بحج أو عمرة ثم رفض إحرامه، فإن رفضه ذلك يلغى أي يبطل، فإن الإحرام لا يرتفض فرفضه باطل

ص: 425

غير معتد به في صورة من الصور المتقدمة وغيرها، وقوله:"ورفضه"؛ يعني بعد الفراغ أو في الأثناء، وأتى ببقيته لأنه إنما عليه مواضع يأتيها، فإذا رفض إحرامه ثم عاد للمواضع التي يخاطب بها ففعلها لم يحصل لرفضه حكم. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: وأما إن كان في الأثناء ولم يأت ببقيتها أصلا أو أتى بها بغير نية كالطواف فإنه يرتفض، وفي نص المواق والتتائي ما يفيد هذا. انتهى. قال محمد بن الحسن: فيه نظر، والذي يظهر مما نقلاه عن عبد الحق أنه إن رفض إحرامه في الأثناء ثم أتى ببقيته لم يرتفض مطلقا، أتى بها بنية أو بغير نية، ونص عبد الحق: فإذا رفض إحرامه ثم عاد إلى المواضع التي يخاطب بها ففعلها لم يحصل لرفضه حكم، وأما إن كان في حال الأفعال التي تجب عليه نوى الرفض وفعلها بغير نية كالطواف ونحوه فهو رافض يعد كالتارك لذلك. انتهى. فقوله: ثم عاد إلى المواضع لخ، ظاهره مطلقا وقوله: وأما إن كان لخ، فهو مسألة أخرى، وهي إذا رفض الطواف في أثنائه أو السعي مثلا فتأمله. والله أعلم. انتهى.

وفي الحطاب: ولا يرتفض الإحرام في صورة من الصور إلا فيمن ارتد عن الإسلام -والعياذ بالله تعالى- فإنه ينفسخ إحرامه والعياذ بالله تعالى ولا يلزمه القضاء. وفي كإحرام زيد تردد؛ يعني أنه إذا نوى الإحرام بما أحرم به زيد وهو لا يعلم بما أحرم به زيد فقد تردد المتأخرون في صحة إحرامه، وأشار بالتردد لتردد المتأخرين في النقل عن المذهب، فإن الذي نقله سند وصاحب الذخيرة وغيرهما عن المذهب الصحة، والذي نقله القرطبي عن مالك المنع والظاهر الأول، وعليه فلو بان أن زيدا لم يحرم، فقال سند: إحرامه يقع مطلقا ويعينه لما شاء ويجري على ما تقدم. انتهى. فلو مات زيد أو وَجَدَهُ محرما بالإطلاق، فقال الحطاب: لم أر فيه نصا في المذهب، والظاهر أنه يقع إحرامه أيضا مطلقا، ويخير في تعيينه والنص فيه للمخالف مثل ما ذكرت، وإذا قلنا يتبع زيدا في إحرامه فالظاهر أنه إنما يتبعه في أوجه الإحرام خاصة، وأما كل شخص فهو على ما نواه من فرض ونقل وهو ظاهر. والله أعلم. انتهى. فالتردد في كلام المصنف.

وقوله: "وفي كإحرام زيد تردد" المذهب الصحة، قال الشيخ إبراهيم: والمذهب الصحة، فكان ينبغي للمصنف أن يجزم بالصحة، فيقول: وصح في كإحرام زيد. انتهى. ونحوه للخرشي، ووقع

ص: 426

التردد هنا، وجزم بجوازه في الصلاة حيث قال:"وجاز له دخول على ما أحرم به الإمام" لشدة ارتباط صلاة المأموم بصلاة إمامه، والاقتداء في الصلاة مطلوب ولا كذلك الحج، وقال محمد بن الحسن: نقل المواق عن ابن رشد ما يفيد أن الإبهام في الحج أصل [للإبهام

(1)

] في الصلاة.

واعلم أن الإحرام على ثلاثة أوجه: الإفراد، والقران، والتمتع. وقال عبد الباقي: خمسة، إفراد وقران وتمتع وإطلاق وكإحرام زيد، والثلاثة الأول على هذا الترتيب في الأفضلية، والرابع لا فضل فيه كالخامس وهما يرجعان إلى الثلاثة فلا ينبغي عدهما وجهين. أشار له الشيخ سالم. انتهى.

وإلى تفضيل الإفراد أشار المصنف بقوله: وندب إفراد، لما ذكر المصنف المبهم، شرع في بيان العين وحكمه؛ يعني أن الإحرام بالحج مفردا أفضل من الإحرام بالقران أو التمتع، وظاهر كلامه وإن لم يأت بعد الحج بعمرة وهو ظاهر كلامه في التوضيح والمناسك. ابن عرفة: الإفراد الإحرام بنية الحج فقط، وقال المقري في قواعده: قال مالك ومحمد: الإفراد أفضل إذا كان بعده عمرة، وأما إذا لم يعتمر بعده فالقران أفضل. انتهى. قال الحطاب: ولم أر من صرح به من المالكية، بل إنما نقله سند عن الشافعي وقال ابن جماعة الشافعي وعند المالكية أن الإفراد أن يأتي بالحج وحده ولم يذْكُروا العُمْرَةَ، وأطلقوا القول بأنه أفضل من القران والتمتع، ونص على ذلك مالك رحمه الله تعالى، ونقل الطرطوشي اتفاق مالك وأصحابه عليه. انتهى.

والحاصل أن الإفراد أفضل من القران والتمتع عند المالكية سواء اعتمر بعد الحج أم لا، وإنما كان الإفراد أفضل من القران والتمتع لأنه مجمع عليه وغيره مختلف فيه، فكان عمر ينهى عن التمتع، وكان عثمان ينهى عن القران، ولأنه لا خلل فيه بدليل أنه لا يتعلق به وجوب الدم وغيره يوجب الدم ووجوبه دليل على الخلل، فكان الإفراد الذي لا خلل فيه أفضل، ولأنه فعل الأئمة، ولأنه يأتي بكل نسك على انفراده، ولأنه لا يترخص فيه بالخروج من الإحرام.

وقد مر أن أوجه الإحرام ثلاثة: الإفراد والقران والتمتع، وأما الإطلاق والإحرام بما أحرم به زيد فإنهما يرجعان إليها، فالإفراد أن يحرم بنية الحج فقط، وسيأتي تفسير القران والتمتع وهي من مثلثات الحج، ومنها الاغتسالات والركوع ثلاثة للإحرام ولطواف القدوم ولطواف الإفاضة، ومن

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من بناني ج 2 ص 258.

ص: 427

يجمع بين الحل والحرم ثلاثة: الحاج والمعتمر والهدي والخبب في ثلاثة مواضع: في الطواف، وفي السعي، وفي بطن محسر. وخطب الحج ثلاثة: والجمار ثلاث، وأيام التشريق، وأيام النحر ثلاثة، ومتعدي الميقات ثلاثة: مريد النسك، ومريد مكة لغير نسك، وغير مريد مكة. والمحرمون من يتعين حلقهم وهم: الملبد، ومن كان شعره قصيرا، ومن لم يكن برأسه شعر. ومن يتعين تقصيرهم وذلك في حق المرأة الكبيرة، ومن يجوز له الأمران والحلق أفضل وهم من عدا من ذكر. والهدي ثلاثة: إبل وبقر وغنم، وعلاماته ثلاثة: تقليد وإشعار وتجليل، وذلك في الإبل، وأما البقر فتقلد فقط إلا أن يكون لها أسنمة فتقلد وتشعر فقط، ولا يفعل في الغنم شيء من ذلك، وكل أفعال الحج يطلب فيها المشي للرجال إلا الوقوف بعرفة، ووقوف المشعر، ورمي جمرة العقبة.

واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالإفراد، ثم استقر أمره على القران ولم يفعل التمتع لكن أمر به، وقوله:"وندب إفراد" قال عبد الباقي عنده: أي فضل إفراد على قران وتمتع لأنه لا هدي فيه؛ إذ الهدي للنقص وعبادة لا نقص فيها أفضل. قاله التتائي. ولا ينتقض ذلك بالصلاة المرقعة؛ لأن السجود فيها المقتضي لفضلها إنما هو لترغيم الشيطان، ولأن المصلي يدخل عليه السهو من غير قصده، بخلاف ما هنا فإنه فعل قصدا ما يوجب الهدي. انتهى. قال محمد بن الحسن: قوله: ولا ينتقض ذلك بالصلاة المرقعة لخ، هذا الكلام مبني على ما قدمه أول السهو من أن الصلاة المرقعة أفضل من غيرها، وتقدم ما فيه وبه يبطل ما هنا. والله أعلم. انتهى.

وأشار إلى الوجه الثاني من أوجه الإحرام، بقوله: ثم قران؛ يعني أن القران يلي الإفراد في الفضل فهو أفضل من التمتع لأن القارن في عمله كالمفرد، ولا يكره القران خلافا لمن روى ذلك عن عثمان، ولا التمتع خلافا لمن تأول ذلك عن عمر. ولما كان للقران صورتان أَشَارَ المؤلف لأولاهما بقوله: بأن يحرم بهما؛ يعني أن القران له صورتان؛ إحداهما أن يحرم بالحج والعمرة معا بأن يقصدهما أي يقصد الدخول في حرمتهما معا، سواء ذكر العمرة في لفظه قبل الحج أو بعده. وقدمها أي العمرة؛ يعني أنه إذا أحرم بهما فإنه يقدم العمرة في نيته استحبابا. قاله محمد بن الحسن. وقال عبد الباقي: ولا يتصور تقديم العمرة على الحج فيما إذا أحرم بهما معا، لكن يتصور فيه تقديم لفظها وهو حينئذ مستحب. انتهى. قال محمد بن الحسن: قوله: ولا يتصور

ص: 428

ذلك لخ، فيه نظر، وفي العتبية: قال مالك فيمن أراد أن يقرن بين الحج والعمرة إذا أحرم بالتلبية أن يقول: لبيك بعمرة وحجة يبدأ بالعمرة قبل الحجة، هذا وجه الصواب فيه. ابن رشد: يريد أنه يقدمها في نيته قبل الحجة، لا أنه يتكلم بذلك إذ نيته تجزئ في ذلك عنده كالصلاة، ومثل هذا في الحج الأول من المدونة وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب. انتهى. ابن عرفة: القران الإحرام بنية العمرة والحج، وإن سمى قدم العمرة، ولو عكس ناويا القران فقارن وإلا فمفرد. انتهى. ولثانيهما بقوله: أو يردفه بطوافها؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بعمرة مفردة ثم أردف الحج عليها قبل طوافها، أو أردفه عليها في أثناء طوافها فإنه يكون قارنا، ومعنى الإرداف المذكور أن يجدد نية أنه قد شرك بين العمرة والحج في ذلك الإحرام، أما إن أردف الحج عليها قبل طوافها فإنه يكون قارنا اتفاقا، وأما إن أردفه عليها في أثناء طوافها فإنه يكون قارنا عند ابن القاسم خلافا لأشهب، قائلا: إنه إذا شرع في الطواف فات الإرداف هكذا نقله الباجي عنه وفي الجلاب عنه: إذا طاف شوطا واحدا ثم أحرم بالحج لم يلزمه ولا يكون قارنا.

واعلم أن أشهب إنما يقول بفوات الإرداف بشرط أن يتمادى على إكمال الطواف، أما لو قطعه لصح عنده الإرداف، وأما على مذهب ابن القاسم فيجوز الإرداف في الطواف من غير كراهة، قال في التوضيح: ومقتضى كلام ابن الحاجب أنه بمجرد الشروع في الطواف يكره الإرداف عند ابن القاسم، وليس كذلك بل هو جائز عنده وإن أتم الطواف ما لم يركع. قاله ابن يونس. انتهى. وهو سهو، والصواب أن يقول: جائز عنده ما لم يتم الطواف، فإنه إذا أتم الطواف كره الإرداف. قاله الحطاب. ولو قال المصنف: ولو بطوافها لكان أبين، ليشير إلى خلاف أشهب، قاله غير واحد. والجواب -والله أعلم- أنه قصد الوجه المشكل بقوله:"بطوافها"، ردا لقوله: وترك ما قبل الطواف المتفق عليه لذلك، وحيث حصل الإرداف قبل الطواف فإنه لا يطوف ولا يسعى، ويؤخر ذلك ليأتي به بعد الإفاضة، وهذا من ثمرات اندراجها. قاله عبد الباقي. وهو مقيد بما إذا وقع الإرداف في الحرم، وأما إذا أردف في الحل فإنه يطوف للقدوم ويسعى بعده كما يأتي في قول المصنف:"ولم يردفه بحرم". قاله محمد بن الحسن.

ص: 429

وقال ابن يوس: الإرداف عند ابن القاسم على أربعة أوجه: أَنْ يُردِف قبل كمال الطواف فهذا جائز وَبَعْد الطواف وَقَبْل الركوع فهذا مكروه، وَبَعْد الطواف والسعي جائز وليس بقران، وَبَعْدَ الركوع وقبل السعي فهذا مكروه وليس بقارن. وقوله: وبعد السعي جائز، يريد أنه صحيح. قاله الحطاب. ووقع لعبد الباقي أنه قال عند قوله "أو يردفه": قبل أن يعمل من أعمالها شيئا أو بعد عمل شيء وقبل طوافها. انتهى. قال محمد بن الحسن: انظر أي عمل قبل الطواف، إلا أن يريد بالعمل الدخول من الحل إلى الحرم. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: كفى بهذا في صحة كلام عبد الباقي. والله سبحانه أعلم. إن صحت؛ يعني أنه يشترط في صحة الإرداف أن تكون العمرة صحيحة، وهذا شرط في صحة الإرداف في جميع صورة، فإن فسدت لم يصح الإرداف ولم ينعقد إحرامه ولا قضاء عليه وهو باق على عمرته ولا يحج حتى يقضيها، فإن أحرم به قبل قضائها وبعد إتمام الفاسدة فتَمَتُّعٌ وحجه تام وعليه قضاء عمرته الفاسدة بعد أن يحل من حجه. قاله محمد. ونقله صاحب الطراز.

وقال عبد الملك: يرتدف الحج على العمرة الفاسدة ويكون قارنا، وعليه دم في عامة الأول لقرانه، وعليه القضاء من قابل، ويهرق دمين دما لقران القضاء ودم الفساد. قاله في الطراز أيضا. وقال: فإن قلنا: لا ينعقد الحج فلا قضاء عليه، وإن قلنا: ينعقد فلا يجزئه ذلك عن حجة الإسلام أو النذر أو التطوع. انتهى. قاله الحطاب.

وَكَمَّلَهُ؛ مرتب على قوله: "بطوافها"؛ يعني أنه إذا أردف الحج في أثناء طواف العمرة الصحيحة فإنه يُكَمِّلُ طوافه ويكون تطوعا.

وبما قررت علم أن الضمير البارز في قوله: "كمله"، للطواف؛ أي كمله وجوبا، ومقتضى قوله:"كمله"؛ أنه يأتي بركعتي الطواف وهو كذلك، وما قررت به من أن تكميل الطواف واجب هو الصواب، وقال عبد الباقي قال: الطخيخي والتتائي: وكمله أي جوازا، وذكر بعض الشراح عن التوضيح أن إكماله واجب صلى ظاهر المدونة، والذي لأبي الحسن شارحها أن إكماله مستحب. انتهى. قال محمد بن الحسن: قوله والذي لأبي الحسن الخ، ما لأبي الحسن: قال مصطفى: خلاف ظاهر كلامهم وخلاف أصل المذهب، فإن الطواف يجب إتمامه بالشروع فيه، وحينئذ فما

ص: 430

في التوضيح من وجوب إكماله هو الصواب، وإن كان إكماله ليس شرطا في صحة الإرداف عند ابن القاسم. انتهى. وقال الشبراخيتي: وقوله: "وكمله"؛ أي وجوبا كما قاله الشيخ سالم، واستحبابا كما قاله أبو الحسن. وقال الطخيخي والتتائي: جوازا.

ولا يسعى؛ يعني أنه إذا أردف الحج في أثناء طواف العمرة الصحيحة فإنه يكمله كما عرفت، وإذا كمله فإنه لا يسعى بين الصفا والمروة؛ أي لا يسعى للعمرة بعد هذا الطواف، بل بعد طواف الإفاضة لوجوب إيقاع السعي بعد طواف واجب، وقد سقط طواف القدوم لأنه كمن أنشأ الحج وهو بمكة أو الحرم فيؤخر السعي للإفاضة، وكذا لو أردف بعد الطواف وقبل الركوع فيركع له ويسعى بعد الإفاضة. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي بعد قوله "ولا يسع" ما نصه: لأن السعي إنما يكون بعد طواف فرض، والطواف الواقع لَمَّا أحرم بالحج صار تطوعا؛ لأنه خرج عن كونه للعمرة بإرداف الحج عليها، ولا يطلب من أحرم من الحرم بطواف القدوم. انتهى. وقوله:"ولا يسعى"؛ بإثبات الألف؛ لأن ما يقع للمصنف وغيره من الجمل إخبار عن الأحكام، والأمر والنهي من الشارع. قال التتائي: عن ابن غازي في باب الباغية عند قول المصنف "ولا يسترقون" ما نصه: إن الغالب في عبارة الفقهاء الإخبار، وفي عبارة الشارع الطلب. انتهى. وتقدم أن قوله:"ولا يسعى"، إنما هو في الصحيحة، وأما الفاسدة فإن الإرداف فيها لا يصح على المشهور فيستمر على طوافه وسعيه ويكمل عمرته.

ولما كان القارن إنما يقصد بأفعاله التي يأتي بها الحج لا العمرة بخصوصها ولا التشريك بينهما، أشار إلى ذلك بقوله: وتندرج؛ يعني أن العمرة تندرج في الحج للقارن، ومعنى اندراجها فيه أنه يستغنى بطواف الحج وسعيه وحلاقه عما وافق ذلك من عمل العمرة، ولو كان هذا القارن مراهَقا جاز ترك طواف القدوم، ويقع حلاقه قبل طوافه وسعيه؛ لأن حلاقه حينئذ يقع بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، وقبل طواف الإفاضة الذي يسعى بعده، ولولا الاندراج لوجب أن يطوف لها ويسعى، كمن أحرم بعمرة فقط فإنه يجب عليه أن يطوف لها ويسعى، سواء كان مراهقا أو غير مراهق. ابن فرحون: وإذا دخل مكة فالطواف الذي يوقعه هو طواف القدوم وليس هو للعمرة؛ لأن العمرة اندرجت في أفعال الحج. انتهى. فعلم من هذا أن القارن إنما يقصد بأفعاله التي يأتي بها

ص: 431

أفعال الحج، وأنها الواجبة عليه لإحرامه الذي أحرم به بالحج والعمرة، ولا يقصد أفعال العمرة بخصوصها، ولا يقصد التشريك في الطواف الأول والسعي وأنهما للحج والعمرة، بل ينوي بالطواف الأول طواف القدوم الواجب عليه في إحرامه بالحج والعمرة، وبالسعي بعده السعي الذي هو ركن الإحرام المذكور، وبالوقوف الوقوف الذي هو ركن الإحرام المذكور، ولا يعتقد أن أفعال العمرة قد انقضت بالطواف الأول والسعي بل حكمها باق.

وفي المدونة: وإذا طاف القارن أول ما دخل مكة وسعى ثم جامع فليقض قارنا؛ لأن طوافه وسعيه إذًا كانا للحج والعمرة جميعا، ألا ترى أنه لو لم يجامع ومضى على القران صحيحا لم يلزمه إذا رجع من عرفات أن يسعى لحجه وأجزأه السعي الأول؟ انتهى. ومعنى قوله: للحج والعمرة جميعا أنه للإحرام الذي أحرم به لا أنه يقصد بالطواف الأول أنه للقدوم وللعمرة، وبالسعي أنه سعى العمرة والحج.

واعلم أنه لا يلزم المحرم القارن أن يستحضر عند إتيانه بالأفعال المذكورة أنها لإحرامه بالحج والعمرة، بل إذا نوى طواف القدوم الواجب عليه أجزأه وكذلك السعي والوقوف بل لو لم يستشعر العمرة أجزأه كما سيأتي فيمن طاف لعمرته على غير وضوء ثم أحرم بالحج أنه يصير قارنا، وفي شرح عبد الباقي أن مسائل القارن ثلاثة: قصد الحج بالأعمال وهذا هو الأولى له وقصدهما، وقصده العمرة فقط بالعمل وفي هذه لا يجزئ بخلاف الأوليين، وقصد بقوله:"تندرج"، أنها لا يبقى لها فعل يخصها، وردا على قول أبي حنيفة: يجب على القارن طوافان وسعيان. وكره قبل الركوع؛ يعني أنه يكره الإرداف بعد تمام الطواف وقبل ركوعه، قال في المدونة: فإذا طاف بالبيت ولم يركع يكره له أن يردف الحج، فإن فعل لزمه وصار قارنا وعليه دم القران.

وإيضاح كلام المصنف أنه يكره إرداف الحج على العمرة بعد الفراغ من طوافها وقبل أن يركع ركعتي الطواف، فإن فعل فإنه يصير قارنا وقد ارتكب المكروه، وعليه دم القران ويركع ركعتي الطواف، وعلة الكراهة كون الوقت مختصا للعمرة. وقد مر نظير هذا عند قوله:"وكره بعدهما وقبل غروب الرابع". لا بعده؛ يعني أن إرداف الحج على العمرة بعده؛ أي بعد ركوع طوافها لا يصح ولا ينعقد، ويمضي على إتمام عمرته ولا قضاء عليه للحج فليس بقارن، وكذا الإرداف في

ص: 432

السعي لا يصح، ويكره له ذلك في الصورتين كما صرح به في المدونة، ونصه: وإن أردف الحج بعد أن طاف وركع ولم يسع، أو سعى بعض السعي وهو من أهل مكة أو غيرها كره له ذلك، فإن فعل فليمض على سعيه ويحل ثم يستأنف الحج.

وبما قررت علم أن قوله: "لا بعده"، معطوف على قوله:"بطوافها"، والضمير فيه للركوع كما علمت، وقد مر أنه لا قضاء عليه فيما لم يصح إردافه، ولا دم عليه لأنه كالعدم، ووجب ابتداؤه بعد ذلك إن كان صرورة وسقط إن كان تطوعا، وكونُهُ لا قضاء عليه لِمَا لَمْ يَصْحَّ ذَكَرَ الحطاب أنه المشهور كما صرح به ابن يونس وغيره، وهو الذي اعتمده في التوضيح، والذي عزاه عياض للأكثر، وقال: إنه ظاهر المدونة هو لزوم القضاء. ابن عرفة: وفيها: يكره بعد ركوعه وفي سعيه، فإن فعل أتم سعيه وحل واستأنف، عياض: ألزمه بذلك الأكثر، ونفاه يحيى بن عمر. قاله محمد بن الحسن. وقال ابن يونس إثر قول المدونة المتقدم: ثم يستأنف الحج، قال يحيى بن عمر: إن شاء. وحكى عبد الوهاب في هذا الأصل: أعني إذا لم يصح إرداف الحج على العمرة أو العمرة على الحج قولين: بوجوب القضاء وسقوطه. قاله الحطاب.

ابن بشير: وإذا قلنا إن الحج لا يرتدف في هذه الصورة، فهل يلزم قضاؤه؟ قولان المشهور عدم اللزوم، ومن هذا النمط من نذر صوم يوم مما لا يحل صومه، فإنه اختلف هل يلزمه قضاؤه أم لا؟ ومن تمتع ثم ذكر بعد أن حل من حجه أنه نسي شوطا لا يدري من حجه أو من عمرته، فإن لم يكن أصاب النساء رجع فطاف وسعى وأهدى لقرانه، وافتدى فدية واحدة لحلاقه ولباسه؛ لأنه إن كان الشوط من حجه فقد أتى به يعني لإتيانه الآن بالطواف وأهدى لتمتعه، وإن كان من العمرة صار قارنا. قاله ابن القاسم وعبد الملك. ولو وطئ النساء، فإنه يرجع فيطوف ويسعى ويهدي لقرانه أو لتمتعه وعليه فدية واحدة، ثم يعتمر ويهدي. انتهى. قاله الحطاب. وأشْعَرَ قوله:"لا بعده"، بصحته في الركوع. قاله عبد الباقي. وفي ابن الحاجب: فإن شرع في الطواف قبل أن يركع كره وكان قارنا بذلك خلافا لأشهب، وقيل: ولو ركع، وقيل: وفي السعي. انتهى. وقال في الذخيرة: وإذا قلنا يصير قارنا في بعض الطواف سقط عنه باقي العمرة ويتم طوافه نافلة، ولا يسعى لأن سعي الحج لا بد من اتصاله بطواف واجب، وإن قلنا يصير قارنا في أثناء السعي

ص: 433

قطع سعيه لأن السعي لا يتطوع به مفردا، وحيث قلنا لا يكون قارنا فإن كان الحج [حج

(1)

] الإسلام بقي في ذمته أو تطوعا سقط عنه. أشهب: كما لو أردف حجا على حج، أو عمرة على عمرة، أو عمرة على حج، وقيل: يلزمه الإحرام به لأنه التزم شيئين في إحرامه بالحج، وبتداخل العمل بطل الثاني فيبقى الأول عملا بالاستصحاب. انتهى.

وصح بعد سعي؛ يعني أن المعتمر إذا طاف وسعى ولم يبق عليه إلا الحلاق فأحرم بالحج حينئذ أي قبل الحلاق، فإن إحرامه بالحج يصح لأنه لم يبق إلا الحلاق وليس بركن، وتعبير المصنف بالصحة يفهم منه أنه لا يجوز له ابتداء وهو ظاهر لأن ذلك يستلزم تأخير الحلاق للعمرة أو سقوطه على ما سيأتي، وتقدم في كلام ابن يونس أنه جائز، ويتعين حمله على أنه صحيح لا أنه يجوز الإقدام عليه ابتداء. والله أعلم. قاله الحطاب.

وعلم مما قررت أن فاعل "صح"، ضمير يعود على الإحرام المفهوم من قوله "بأن يحرم بهما" ولا يعود للإرداف؛ إذ لا يرتدف بعد سعيها بالأولى من عدم ارتدافه بعد ركوعها، وإنما هو ابتداء إحرام به، ثم إن تمت عمرته قبل أشهر الحج يكون مفردا، وإن فعل بعض ركنها في وقت الحج يكون متمتعا. وَحَرُمَ الحَلْقُ؛ يعني أن المحرم بالعمرة إذا أحرم بالحج بعد سعيها فإن إحرامه صحيح كما عرفت، وحينئذ فإنه يحرم عليه الحلق حتى يفرغ من حجه، قال في منسكه: ولم يكن قارنا اتفاقا ولا متمتعا إلا أن يحل من عمرته في أشهر الحج، ويصح إحرامه بالحج، ولهذا لا يحلق لعمرته حتى يفرغ من حجه. انتهى.

وأهدى لتأخيره؛ يعني أن هذا المحرم الذي حرم عليه الحلق حتى يفرغ من حجه يلزمه هدي لتأخير حلاق العمرة، قال فيها: وعليه دم لتأخير الحلاق في عمرته. انتهى. ولو فعله؛ يعني أنه لو ارتكب المحظور ولم يحصل له تأخير الحلق، بل حلق رأسه بعد السعي ولم ينتظر به إتمام حجه، فإنه يلزمه الهدي والفدية، وقيل إنه لا دم عليه، وبذلك جزم ابن عطاء الله في شرح المدونة كما نقله عنه التادلي. قاله الحطاب. ونقل عن عبد الحق أن عليه الفدية ولو عجل الحلق كما قاله المصنف ودعمه بالنقول، وأشار إلى الوجه الثالث من أوجه الإحرام بقوله: ثم تمتع؛

(1)

في الأصل الحج في الإسلام والمثبت من الذخيرة ج 3 ص 122.

ص: 434

يعني أن الأفضل من أوجه الإحرام الثلاثة هو الإفراد، ثم يلي الإفراد القران فهما أفضل من التمتع، فرتبة التمتع متأخرة عنهما، فقوله:"تمتع"، من عطف الجمل وليس من عطف المفردات ليلا يوهم أن التمتع مندوب، وليس الأمر كذلك إذ لا رتبة بعده يكون هو أفضل منها. والله سبحانه أعلم.

وقال عبد الباقي: ندب تمتع؛ أي تقديمه على مرتبة الإحرام مطلقا؛ إذ أوجه الإحرام خمسة: إفراد وقران وتمتع وإطلاق وكإحرام زيد، والثلاثة الأول على هذا الترتيب في الأفضلية، والرابع لا فضل فيه كالخامس، وهما يرجعان إلى الثلاثة فلا ينبغي عدهما وجهين. انتهى. بأن يحج بعدها، الباء للتصوير؛ يعني أن التمتع هو أن يحرم بعمرة، ثم يحل منها في أشهر الحج، ثم يحرم بعدها في عامة ذلك بإفراد، بل وإن بقران فيصير متمتعا قارنا اتفاقا، ولزمه هديان هدي لتمتعه وهدي لقرانه، وسواء كانت العمرة صحيحة أو فاسدة لأنه بعد الإحلال منها ولا إردافَ عليها بخلاف القران لما كان فيه إرداف عليها، اشترط صحتها، ولو تكرر منه فعل العمرة في أشهر الحج ثم حج من عامة يهدي واحدا يجزئه، وسمي المتمتع متمتعا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وقيل: لأنه تمتع بعد تمام عمرته بالنساء والطيب وغير ذلك، فإن قيل: لا يصح التعليل الأول؛ لأنه لو حل منها في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة فحج من عامة يلزم عليه أن يكون متمتعا لأنه أسقط أحد السفرين مع أنه ليس متمتعا بإجماع، فالجواب أنه إنما يراعى إسقاط أحد السفرين في أشهر الحج، وكذا على التعليل الثاني. وقوله:"بأن يحج بعدها"؛ أي مع فعل ركن أو بعض من أركانها في أشهر الحج، ويحج من عامة. وشرط دمهما عدم إقامة بمكة؛ يعني أنه يشترط في دم التمتع ودم القران أن لا يكون فاعلهما مقيما بمكة، وما في حكمها مما لا يقصر المسافر حتى يجاوزه. أو ذي طوى؛ يعني أنه يشترط في دم التمتع ودم القران أن لا يكون فاعلهما مقيما بمكة ولا بذي طوى، مثلث الطاء مقصور وهو واد من أودية مكة منون. قاله الشارح. وقال الشبراخيتي: مثلث الطاء مقصور وهو واد من أودية مكة لا يقصر المسافر حتى يجاوزه، ويسمى عند أهل مكة بالحجونين وهو ما بين الثنية التي يهبط منها إلى مقبرة مكة المسماة بالمَعْلاة، والثنية الأخرى التي إلى جهة الزاهر. قاله تقي الدين. وفي تاريخ البخاري ما

ص: 435

يؤيده، ونقل ابن جماعة الشافعي نحوه وهو الذي يفهم من كلام سند، قيل لمالك: ذو طوى في مر الظهران؟ قال: الذي سمعته بقرب مكة. الطبري: موضع عند باب مكة سمي بذلك لبير مطوية. الداوودي: هو الأبطح. القابسي، وهو بعيد. قال بعضهم: وأبعد منه قول البساطي في شرحه إنه بطن مر، ولأن بطن مر هو مر الظهران، وقد صرح في المدونة بأن أهله ليسوا من حاضري المسجد الحرام، والأقرب في تفسيره ما ذكره القابسي وابن جماعة عن والده؛ وهو الموضع الذي يستحب لداخل مكة أن يغتسل فيه كما سيأتي. انتهى. وقال الشبراخيتي عند قوله:"ذي طوى": مثلث الطاء مقصورا، والذي بطريق الطائف بالمد، وأما الذي في القرآن العظيم فبضم الطاء وكسرها وقرئ بهما في السبع وهو موضع بالشام. انتهى. وقال الخرشي: هو يعني ذا طوى ما بين الثنية التي يهبط منها إلى مقبرة مكة المسماة بالمعلاة، والثنية الأخرى التي إلى جهة الزاهر، ويسمى عند أهل مكة بير الحجونين. قاله تقي الدين القابسي. وفي البخاري ما يؤيده. ونقل ابن جماعة نحوه. قال الحطاب: وهو الأقرب. انتهى. وقال في المدونة: وليس على أهل مكة وأهل ذي طوى إذا قرنوا أو تمتعوا دم قران ولا دم تمتع، أحرموا من الميقات أو من غيره لكنهم يعملون عمل القارن، ولا خلاف في ذلك لأن المسافر من مكة لا يقصر حتى يجاوزها، وأما غير أهل ذي طوى ممن هو ساكن في الحرم أو قريب منه، فروى ابن حبيب عن مالك وأصحابه: أن من كان دون مسافة القصر من مكة حكمه حكم المكي، وحكى اللخمي قولا لم يذكر قائله أن من دون المواقيت كالمكي، وقال بعض الأشياخ: الظاهر أنه ليس في المذهب. قلت: وهو مذهب أبي حنيفة. قاله الشارح. وقوله: "وشرط دمهما عدم إقامة بمكة"، أما في القران فهو المشهور خلافا لعبد الملك، وأما في التمتع فلا خلاف عندنا فيما علمت في سقوطه عن حاضري المسجد الحرام، لقوله تعالى:(فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي)، إلى قوله تعالى:(ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)، فأسقط الدم عن الحاضرين، ومنشأ الخلاف في القران، هل وجب الدم فيه لإسقاط أحد السفرين فيختص بغير الحاضر، أو لإسقاط أحد العملين فلا يختص؟ وقت فعلهما، الظرف متعلق "بإقامة". قاله الشارح؛ يعني أنه يشترط في وجوب الدم على القارن والمتمتع أن لا يكونا مقيمين بمكة أو بذي طوى وقت فعلهما أي الإحرام بالتمتع والقران، وقد

ص: 436

علمت أن الحكم فيما دون مسافة القصر من مكة كالحكم في المقيم بمكة، والمراد بالإقامة الاستيطان، وحقيقته الإقامة بنية عدم الانتقال. قاله في التوضيح. قاله الخرشي. ولو قدم آفاقي وقت أشهر الحج محرما بعمرة ونيته السكنى ثم حج من عامة، فإنه ليس كالمقيم بل يجب عليه دم التمتع على الأصح؛ لأنه لم يكن وقت فعل العمرة من الحاضرين، وصوب اللخمي كونه غير متمتع اعتبارا بنيته. وإن بانقطاع بها، مبالغة في المفهوم أي مفهوم قوله:"عدم إقامة"، وهو الإقامة؛ يعني أن المقيم بمكة أو بذي طوى إذا قرن أو تمتع فإنه لا دم عليه حيث كان من أهلهما، بل وإن كان من غير أهلهما لكنه أقام بأحدهما بسبب انقطاعه من غيرهما من الأمكنة ورفض سكناه، وإنما نيته عدم الانتقال من مكة التي سكن بها وما في حكمها، فَمَعْنَى الانقطاع إليها رفض سكنى غيرها ونية عدم الانتقال منها. وقد علمت أن مثل مكة ما هو قريب منها مما هو دون مسافة القصر، كذي طوى ونحوه. والله سبحانه أعلم.

وعلم مما قررت أنه لا يمثل لهذا بالمجاور لأهل مكة إلا أن يرفض سكنى غيرها. ابن عرفة: ويوجب الدم كونه غير مكي وهو موطنها، أو ما لا يقصر مسافر منها فيه كذي طوى، ثم قال: والمعتبر استيطانه قبل العمرة، فلو قدم لعمرة ناويه لم يفده لإنشائها غير مستوطن. انتهى. وقال في المعونة: ويلزمه الهدي لقرانه إذا لم يكن مقيما بمكة مستوطنا، وقال في شروط التمتع: السادس أن يكون وطنه من غير مكة من سائر الآفاق من الحرم أو الحل. انتهى. وقيل: من سكن في الحرم حكمه حكم المكي، وقد مر قول ابن حبيب عن مالك وأصحابه أن من كان على دون مسافة القصر حكمه حكم المكي. والله سبحانه أعلم. والضمير في قوله:"بها"، لمكة وقد علمت أن من هو بمكان لا يقصر المسافر من مكة حتى يجاوزه في حكم المكي، قال الحطاب: وإنما وحد الضمير في قوله: "بها"؛ لأن مراده أن ينبه على أن مكة وذا طوى حكم البلد الواحد. انتهى. والله سبحانه أعلم. واحترز بقوله: "وقت فعلهما"، عما إذا لم يكن من حاضري المسجد الحرام وقت فعلهما، فإن حكمه حكم الآفاقي ولو استوطن مكة بعد ذلك، قال في الجواهر: المراعى في حضور المسجد الحرام وقتُ فعل النسكين وابتدائه بهما، فإن كان في ذينك الوقتين مستوطنا بمكة فحكمه كأهلها، وإن كان مستوطنا سائر الآفاق فحكمه حكم أهل الآفاق. انتهى. قاله الحطاب.

ص: 437

وقال بعد جلب نقول: فظهر أن المسقط للدم هو الاستيطان، وأن الإقامة بغير نية الاستيطان لا تسقط الدم ولو طالت، ولما كان المستوطن نوعين أحدهما أهل مكة والثاني من انقطع إليها بنية عدم الانتقال، بالغ المصنف بقوله:"وإن بانقطاع بها"، وفيه إشارة إلى أن المراد بالإقامة الاستيطان؛ إذ لو كان المراد مطلق الإقامة لما حسنت المبالغة بالانقطاع. انتهى. والله سبحانه أعلم. ثم قال: وقول المصنف في التوضيح كالمجاور لأهلها، مراده بالمجاور من جاور بنية عدم الانتقال لا مطلق المجاورة. انتهى.

أو خرج لحاجة، عطف على ما في حيز المبالغة؛ يعني أن من كان من أهل مكة أو انقطع واستوطنها وهو من غير أهلها؛ إذا خرج لحاجة من غزو أو تجارة أو أمر عرض له سواء طالت إقامته بعد خروجه أم لا، ثم قدم مكة بعمرة في أشهر الحج فإنه لا يكون متمتعا ولا دم عليه، كما أنه ليس على أهل مكة الحاضرين في ذلك دم. وبالله تعالى التوفيق. وإنما كان كذلك لأنه لم يرفض سكنى مكة وما في حكمها، وإنما خرج بنية العود. والله سبحانه أعلم.

سمع ابن القاسم: إن ترك آفاقي أهله بمكة وخرج لتجر أو غزو ثم قدم متمتعا فلا دم. ابن رشد: لأن تركه بنية استيطان. محمد: وكذا لو سكنها دون أهل، فقول أبي عمر: لا يكون مكيا حتى يستوطنها عاما، مشكل. انتهى والله أعلم. قاله الحطاب. لا انقطع بغيرها؛ يعني أن المكي أو من استوطنها إذا انقطع بغير مكة وما في حكمها؛ بأن رفض سكنى مكة وقد انتقل منها، فإنه إذا رجع إليها قارنا أو متمتعا يلزمه الدم لأنه حينئذ آفاقي، قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: ويظهر مما مر أن من انقطع بمكة ثم رفض سكناها وقبل أن يخرج منها أتى بما هو صورة قران أو تمتع، يكون قارنا أو متمتعا، بل يظهر منه أنه لو تردد في الانقطاع يكون قارنا أو متمتعا، فيجب عليه ما يجب عليهما في المسألتين. والله سبحانه أعلم. انتهى. أو قدم بها ينوي الإقامة؛ يعني أن الآفاقي إذا قدم مكة في أشهر الحج حال كونه ناويا الإقامة أي الاستيطان لمكة شرفها الله تعالى، فإنه يلزمه الدم لأن إقامته بالفعل معدومة وقت العمرة وإن وجدت منه نيتها بعد ذلك، بخلاف ما لو قدم في غير أشهر الحج فاستوطنها ثم اعتمر في أشهر الحج ثم حج من عامة فلا دم عليه لأنه اعتمر بعد أن وطنها. وقوله:"قدم"؛ أي المتمتع، وقوله:"بها"؛ أي بأشهر

ص: 438

الحج، والباء بمعنى في. أو العمرة. انظر الحطاب. وقوله:"أو قدم"، معطوف على انقطع. وندب لذي أهلين؛ يعني أن من كان له أهل بمكة وله أهل بغيرها، ثم قدم مكة معتمرا في أشهر الحج، يستحب له أن يهدي، قال في المدونة: ومن له أهل بمكة وأهل ببعض الآفاق فقدم مكة معتمرا في أشهر الحج فهذا من مشتبهات الأمور، والأحوط له أن يهدي يريد لأنه تعارض عنده دليلان، أحدهما موجب للهدي وهو كونه آفاقيا، والثاني مسقط له وهو كونه مكيا، فاحتاط بالهدي، وظاهر ذلك سواء كان سكناه فيه متساويا أم لا. وحكى ابن المواز عن أشهب أن العبرة بالمكان الذي يكثر به سكناه، فإن كان سكناه في مكة أكثر فلا هدي وإلا فليهد. واختلف الشيوخ في فهم المدونة، هَل هي على ظاهرها فيكون ندب الهدي عندها مطلقا، وعليه فيكون قول أشهب مخالفا للمدونة، وعلى هذا تأولها التونسي؟ أو هي ليست على ظاهرها بل تفسر بقول أشهب، فيندب عندها دم التمتع؟ إلا أن يقيم ذو الأهلين بأحدهما أي بأحد المكانين اللذين بكل منهما له أهل أكثرَ مما يقيم بالآخر؛ يعني أن من الأشياخ من تأول المدونة على قول أشهب، فقال: محل الندب الذي في المدونة إنما هو حيث استوت إقامته بالمكانين، وأما إن كانت إقامته في أحدهما أكثر من إقامته بالآخر، فإن ذلك يعتبر أي يعتد به، فإذا كانت سكناه في مكة أكثر من سكناه بغيرها فلا دم لأنه من حاضري المسجد الحرام، وإن كانت إقامته في غير مكة أكثر من إقامته بمكة -أعزها الله تعالى- فإنه يجب عليه الدم.

وقد علمت أنه على هذا التأويل يكون قول أشهب موافقا لما في المدونة، وقوله: تأويلان، مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك تأويلان، الأول وهو تأويل الإطلاق للتونسي كما عرفت، وهو تأويل الخلاف، والثاني وهو تأويل التقييد للخمي وهو تأويل الوفاق. هذا هو تحرير المسألة. والله سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: والمذهب الأول، فالندب حاصل مطلقا، ونحوه للخرشي، وقال محمد بن الحسن في قول عبد الباقي: والمذهب الأول: مثله في الخرشي، واعترضه أبو علي قائلا: لم أر من ذكره. وقال الحطاب في دلالة لفظ المدونة المتقدم على كون الدم مستحبا: نظر، بل المتبادر منه أنه واجب، نعم نقلها سند وابن الحاجب بلفظ هذا من مشتبهات الأمور،

ص: 439

والاحتياط في ذلك أعجب إلي. وهذا يقتضي الاستحباب. فتأمله. والله أعلم. انتهى. واللفظ المتقدم هو الذي اختصرها عليه البرادعي.

واعلم أنهم فرضوا المسألة -أعني قوله: "وندب لذي أهلين" الخ- في المتمتع، والظاهر أن القران كذلك كما نص عليه الشبراخيتي. وَحَجٌّ مِّن عَامه، عطف على قوله:"عدم إقامة بمكة"؛ يعني أنه يشترط في دم التمتع والقران أن يحج فاعلهما من عامة، فلو حل من عمرته في أشهر الحج ثم لم يحج إلا من قابل، أو فات المتمتعَ الحجُّ أو القارنَ وتحلل بعمرة كما هو الأفضل فلا دم، فلو بقي القارن على إحرامه لقابل لم يسقط عنه الدم، ففي المفهوم تفصيل، وهذا الشرط ظاهر في المتمتع، وأما في القارن فكذلك إن فعل الأوْلى بأن تحلل بعمرة، فإن ترك الأولى في حقه وبقي على إحرامه إلى قابل لم يسقط عنه الدم. قاله غير واحد.

ولما ذكر ما يشترط في الدم عاما في القران والتمتع، أشار إلى الخاص بالتمتع، بقوله: وللتمتع عدم عوده لبلده؛ يعني أن ما تقدم من الشرطين السابقين يشترك فيهما القارن والمتمتع، ويختص المتمتع بشروط أخر منها أن لا يعود لبلده أو ما قاربه، قال في التوضيح: ولا إشكال أنه إذا عاد لبلده أو ما قاربه يسقط عنه الدم، وحكى الباجي الاتفاق على ذلك والله أعلم. قاله الحطاب.

أو مثله عطف على "بلده"؛ يعني أنه يشترط في دم التمتع أن لا يعود إلى بلده أو مثله في البعد قبل حجه الكائن في عامة، وأما إذا رجع لبلده أو ما قاربه أو مثل بلده في البعد عن مكة قبل أن يحج ثم حج بعد ذلك من عامة، فإنه لا يكون متمتعا، فلا يجب عليه دم. ولو بالحجاز؛ يعني أنه إذا رجع لمثل بلده فإنه لا دم عليه، وسواء في ذلك مَن منزلُه بالحجاز ومن منزلة بغير الحجاز، هذا هو المشهور، وفي الموازية: أنه لا يسقط بعوده إلى مثله إذا كان بلده بالحجاز، وإنما يسقط بعوده إلى نفس بلده أو بالخروج عن أرض الحجاز بالكلية، فالخلاف المشار إليه بلو إنما هو فيما إذا رجع لمثل بلده لا فيما إذا رجع إلى بلده كما علمت. وفي الحطاب: وضعف ابن يونس واللخمي ما في الموازية، ورأوا أنه لا فرق بين الحجاز وغيره، فعلم منه أن العود إلى البلد نفسه يسقط الدم بلا خلاف. انتهى كلام الحطاب. لا لأقل؛ يعني أنه إذا تحلل من العمرة في أشهر الحج ثم عاد لأقل من مسافة أفقه ثم رجع إلى مكة محرما بحج من عامة ذلك الذي اعتمر فيه،

ص: 440

فإنه يلزمه الدم، وقوله:"لا لأقل"، ظاهره ولو كان أفقه بعيدا لا يدرك الحج إذا ذهب إليه أو إلى مثله وهو كذلك، خلافا لتقييد أبي محمد ذلك بما إذا كان إذا ذهب إلى أفقه وعاد يدرك الحج، قال: وأما من أفقه بعيد كإفريقية ويرجع إلى مصر فهذا عندي يسقط التمتع؛ لأن موضعه إذا ذهب إليه وعاد لا يدرك الحج. انتهى. كلام الحطاب.

وفعل بعض ركنها في وقته، هذا الشرط مما يختص به المتمتع أيضا، فهو عطف على قوله:"عدم عوده لبلده"؛ يعني أنه يشترط في وجوب دم التمتع أن يفعل أركان العمرة أو بعضها أو بعض ركن من أركانها ولو السعي في أشهر الحج، فالضمير في وقته للحج، فلو سعى لعمرته في رمضان مثلا وأخر بعض السعي إلى أن دخل شوال فكمله فيه ثم حج من عامة فهو متمتع. قاله مالك. وقال اللخمي: ويصح أن يقال إذا لم يبق إلا الشوط والشوطان من السعي أن ليس عليه شيء؛ لأن اليسير في حيز اللغو، ولو حل من عمرته في رمضان مثلا ثم حج من عامة فلا يكون متمتعا، فلا هدي عليه لأنه لم يفعل بعض أركان العمرة في أشهر الحج، ولو سعى لعمرته في رمضان وحلق في شوال ثم، حج من عامة فليس بمتمتع ولا هدي عليه؛ لأن الحلق ليس من أركان العمرة، ولا يتأتى هذا الشرط أعني قوله:"وفعل بعض ركنها في وقته" في القارن، لقولها: من دخل مكة قارنا فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة في غير أشهر الحج، ثم حج من عامة فعليه دم القران، ولا يكون طوافه حين دخل مكة لعمرته لكن لهما جميعا، ولا يحل من واحد دون الآخر لأنه لو جامع فيهما قضاهما قارنا. انتهى. قاله الخرشي.

وقد مر أن الضمير في قوله: "وقته"، للحج. وفي شرط كونهما عن واحد تردد، مبتدأ وخبره الجار والمجرور؛ أعني قوله:"في شرط"؛ يعني أن المتأخرين اختلفوا في النقل عن المتقدمين، هل يشترط في وجوب دم التمتع كون العمرة والحج عن شخص واحد بأن يكونا وقعا عن نفس الفاعل لهما أو عن شخص غيره بطريق النيابة عنه؟ فلو كانا عن اثنين العمرة عن واحد والحج عن آخر بأن يفعل أحد النسكين عن نفسه والآخر عن غيره بطريق النيابة، أو يفعل أحدهما عن زيد والآخر عن عمر بطريق النيابة عنهما فيهما لم يجب الدم، أو لا يشترط كونهما عن واحد فيجب الدم في فعلهما عن اثنين كل واحد عن واحد؛ أي والفاعل لهما واحد كما هو الموضوع وصرح ابن

ص: 441

الحاجب باشتراط كونهما عن واحد، وقال: إنه الأشهر، وحكى ابن شأس في ذلك قولين، ونقل صاحب النوادر وابن يونس واللخمي عدم اشتراط ذلك، وقال في المناسك: ولم أر في ابن يونس وغيره إلا القول بوجوب الدم، وقال ابن عرفة: وَشَرْطُ ابنِ شأس كونَهما عن واحد. ونَقْلُهُ ابن الحاجب لا أعرفه، بل في كتاب محمد: من اعتمر عن نفسه ثم حج من عامة عن غيره متمتع.

وقال الحطاب بعد جلب نقول: فما ذكره المصنف من التردد صحيح، لكن المعروف عدم اشتراط ذلك، وعادته أنه يشير بالتردد لما ليس فيه ترجيح. انتهى. وقال ابن جماعة الشافعي: لا يشترط أن يقع النسكان عن واحد عند جمهور الشافعية، وهو قول الحنفية، ورواية ابن المواز عن مالك، وعلى ذلك جرى جماعة من أئمة المالكية منهم الباجي والطرطوشي، ومن الشافعية من شرط ذلك، وقال ابن الحاجب: إنه الأشهر من مذهب مالك، وتبع ابن الحاجب في اشتراط ذلك صاحب الجواهر، وقوله: إنه الأشهر، غير مسلم، فإن القرافي في الذخيرة ذكر ما سوى هذا الشرط، وقال إن صاحب الجواهر: زاد هذا الشرط ولم يعزه إلى غيره.

تنبيه: شروط القران لا شك أنها شروط في وجوب الدم لا في تسمية الفعل قرانا، وأما شروط التمتع فقد صرح القاضي عبد الوهاب بأنه إذا فقد شرط منها لا يسمى متمتعا، وظاهر كلام المصنف وابن الحاجب أنها شروط في وجوب الدم. قاله الحطاب.

ويتحصل من النقول التي جلبها في ذلك. أنه اختلف في ذلك. والله سبحانه أعلم. ويكون متمتعا وإن كانت العمرة التي وقعت قبل الحج فاسدة. ودم التمتع يجب بإحرام؛ يعني أن دم التمتع يجب وجوبا موسعا فيه بالإحرام بالحج بعد العمرة، ويتحتم برمي جمرة العقبة كما يأتي للمصنف في قوله:"وإن مات متمتع فالهدي من رأس ماله إن رمى العقبة"؛ أي فإن لم يرمها قبل موته لم يلزمه هدي من رأس ماله ولا من ثلثه، ومثل رميها بالفعل فوات وقته أو فعل طواف الإفاضة، فما ذكره المصنف هنا بيان لمبدإ الوجوب، وما في آخر محرمات الإحرام بيان لتقرره وتخلده في الذمة فلا اعتراض عليه. قاله عبد الباقي.

وفائدة القول بوجوب الدم بإحرام الحج أنه لا يجوز ولا يجزئ نحره أو ذبحه قبله ويجزئه بعده، وأن التقليد والإشعار قبله خلاف الأولى. قاله الخرشي. وإذا مات بعد فوات رميها وقبل

ص: 442

الرمي بالفعل أو بعد طوافه للإفاضة وإن لم يرمها ولا فات وقته، كما إذا دخل مكة صبيحة يوم النحر فطاف للإفاضة ثم مات قبل رمي جمرة العقبة وقبل فوات وقتها، فالهدي من رأس ماله. ابن عرفة: ولا أعلم في سقوطه عمن مات قبل وقوفه خلافا، ولعبد الحق عن ابن الكاتب عن بعض أصحابنا: من مات بعد وقوفه فعليه الدم، وروى ابن القاسم عن مالك فيمن تمتع ثم مات، قال: إن مات قبل رمي جمرة العقبة لا شيء عليه، وإن مات بعد رمي جمرة العقبة فقد لزمه هدي التمتع. وأجزأ قبله؛ يعني أن دم التمتع إنما يجب بالإحرام بالحج كما علمت، وإذا نحره أو ذبحه قبل الإحرام فإنه لا يجزئ لفعله قبل الوجوب وحينئذ فمعنى قوله وأجزأ قبله أجزأ الإشعار والتقليد قبله أي قبل الإحرام بالحج، وهو خلاف ما نقله محمد بن الحسن عن المازري، ونصه: المازري: مذهبنا أن هدي التمتع إنما يجب بالإحرام بالحج، وفي وقت جواز نحره ثلاثة أوجه، فالصحيح والذي عليه الجمهور أنه يجوز نحره بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج، والثاني لا يجوز حتى يحرم بالحج، والثالث أنه يجوز بعد الإحرام بالعمرة. انتهى.

وقال: قال الأبي في شرح مسلم عند قول الراوي: (فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي

(1)

) ما نصه: عياض: وفي الحديث حجة لمن يجيز نحر هدي التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وهي إحدى الروايتين عندنا، والأخرى أنه لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج؛ لأنه بذلك يصير متمتعا، والقول الأول جار على تقديم الكفارة على الحنث، وعلى. تقديم الزكاة على الحول وهو ظاهر الحديث، لقوله: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي. انتهى. وهذا الذي قررت به المصنف هو الذي قرره به غير واحد، وقرره به الأمير.

ثم الطواف لهما؛ عطف على الإحرام من قوله: "وركنهما الإحرام"، وحينئذ فلا يحتاج لقوله:"لهما"، فلو أسقطه لكان أحسن. قاله غير واحد. والجواب أنه أتى به لطول الفصل. ومعنى كلام المصنف أن الطواف ركن في الحج وركن في العمرة، "وثم" للترتيب المعنوي، فرتبة الطواف متأخرة عن رتبة الإحرام في الحج والعمرة، ولِلطَّوَافِ مطلقا ركنا أو واجبا أو مندوبا في أحد النسكين أو غيرهما شروطٌ. أولها: كونه أشواطا سَبْعًا، مفعول مطلق، فقوله:"لهما"؛ يعني به أن

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1318.

ص: 443

الطواف يكون لهما أي لكل واحد منهما سبعا، فللحج سبع وللعمرة سبع، فإن ترك شيئا منها يقينا أو شكا ولو بعض شوط لم يجزه ولم ينب عنه دم في الطواف الركني ويجب رجوعه ولو من بلده أوأبعد منه كما يأتي، فإن زاد على السبع، فقال التادلي: قال الباجي: من سها في طوافه فبلغ ثمانية أو أكثر، فإنه يقطع ويركع ركعتين للأسبوع الكامل، ويلغي ما زاد عليه ولا يعتد به، وهكذا حكم العامد في ذلك. انتهى. مختصرا. قاله محمد بن الحسن.

وفي شرح الرسالة: ومن ترك شيئا من أشواطه لم يجزه ولم ينب عنه الدم.

تنبيهات: الأول: اعلم أن ابتداء الطواف من الحجر الأسود واجب، فيجبر بالدم، ولو ابتدأ في طوافه من الركن اليماني فليلغ ذلك ويتم إلى الأسود، وإذا لم يتذكر حتى رجع إلى بلده أجزأه ويبعث بهدي، وكذلك إن بدأ بالطواف من باب البيت فليلغ ما مشى من باب البيت إلى الركن الأسود، قيل: فلو ابتدأ الطواف من بين الحجر والباب، قال: هذا يسير يجزئه ولا شيء عليه. سند: والبداءة عند مالك من الحجر الأسود سنة تجبر بالدم، ولم يجعلها أي البداءة المذكورة شرطا. انتهى. فتعد في الأمور التي اختلف أهل المذهب في التعبير عنها، هل هي واجبة أو سنة؟ والتحقيق فيها أنها واجبة لصدق حد الواجب عليها. قاله الحطاب.

وفي النوادر عن كتاب ابن المواز: قال مالك: ومن بدأ في طوافه بالركن اليماني، فإذا فرغ من سبعة أتم ذلك فتمادى من اليماني إلى الأسود، فإن [لم يذكر

(1)

] حتى طال أو انتقض وضوءه أعاد الطواف والسعي، وإن خرج من مكة وتباعد أجزأه أن يبعث بهدي ولا يرجع. نقله الحطاب.

الثاني: اعلم أن الدم فيما إذا ابتدأ الطواف من الركن اليماني أو من باب البيت لا يلزم إلا إذا لم يتماد إلى الأسود ولم يتذكر حتى رجع إلى بلده، وفي الحطاب: عن ابن: المواز أنه إن تذكر وهو بمكة أعاد الطواف والسعي إن طال أو انتقض وضوءه وإلا بنى وهذا كله في النسيان والجهل، وأما إن بدأ منه عمدا وأتم إليه فإنه لا يبني إلا إن رجع بالقرب جدا ولم يخرج من المسجد. قاله محمد بن الحسن. سند: يبدأ في الطواف من الحجر الأسود، فيستقبل الحجر بجميعه لما روي (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد استقبل الحجر واستلمه)، والأحسن أن يأتي من

(1)

في الأصل لم يكن والمثبت من الحطاب ج 3 ص 461. ط دار الرضوان.

ص: 444

يمين الحجر ويحاذي يساره يمين الحجر، ثم يقبله ويضعه على يساره ويطوف على يده اليمنى، ولو حاذى بعضه أجزأه لأنه منه بدأ، فإذا انتهى إلى ذلك الموضع كان شوطا، ومعنى ذلك أنه يستقبل الحجر بجميع بدنه وتكون يده اليسرى محاذية ليمين الحجر، ثم يقبله ويمشي على جهة يده اليمنى. قاله الحطاب. وقد مر عن سند أنه صرح بأن البداءة من الحجر ليست شرطا عندنا، بل هي مما يجبر بالدم، بل صرحوا بأنه لو بدأ من بين الحجر والباب أنه يسير يجزئه ولا شيء عليه. والله تعالى أعلم.

الثالث: قال الشيخ علي الأجهوري ناظما لمكروهات الطواف:

ويكره بيع والشراء لطائف

وإنشاد شعر والقراءة فاعلم

سجود على ركن كذاك استلامه

لغير يماني وركن معظم

وكثر كلام وانتقاب لمرأة

كما كرهوا للمرء تغطية الفم

ركوب بلا عذر كذاك وشرب ما

لغير اضطرار فاعن بالعلم تغنم

وتقديم محمول له عنه فيه ضف

كذا خلطة النسوان أيضا به افهم

وحسر له عن منكبيه فهذه

ثلاثة عشر حفظها خير مغنم

الرابع: قال سند: إطلاق الأطواف مجمع عليه، وجوز مالك الأشواط، وكره الشافعي الأشواط والأدوار، وقد ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى؛ يعني إطلاق الأشواط. ونقل ابن فرحون عن ابن حبيب عن مجاهد أنه كره أن يقال: شوط أو دور، ولكن يقال: طوف، وظاهر كلام صاحب الطراز أن الأدوار لا تكره، فإنه قال في آخر كلامه: ولا فرق بين قوله: طاف به، ودار به. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وإن ابتدأ من بين الباب والحجر الأسود بالشيء اليسير أتم إليه وأجزأه ولا دم إن لم يتعمد ذلك وإلا أجزأ وعليه دم، وقولنا: إن لم يتعمد ذلك أي إذا أتم إلى المحل الذي ابتدأ منه كما قدمنا، فإن أتم إلى الحجر الأسود فقط لم يجزه، خلافا لبعض طلبة العلم في قوله: لا يتمه ويغتفر ذلك ليسارته. انتهى كلام عبد الباقي.

ص: 445

وقال الحطاب بعد أن نقل كلام ابن المواز: الذي قدمت بعضه عنه -أعني ما قدمته عنه- فيمن ابتدأ الطواف من الركن اليماني، فمن فعل ذلك عمدا ثم خرج إلى السعي وسعى بعض السعي فظاهر كلامه أنه لا يبني وهو ظاهر، وإن فعل ذلك نسيانا أو جهلا ثم تذكر في أثناء السعي ولم ينتقض وضوءه فإنه يرجع ويبني، وكذلك لو ذكر بعد السعي بالقرب ولم ينتقض وضوءه. انتهى. المراد منه.

بالطهرين، الباء للمصاحبة، وعلامة باء المصاحبة أن يغني عنها وعن مصاحبها الحال، نحو قوله تعالى:{وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ} أي دخلوا مصاحبين للكفر، وهنا كذلك أي الطواف مصاحبا للطهرين، فهو متعلق بالطواف. والله سبحانه أعلم. ومعنى كلام المصنف أنه يشترط في الطواف مطلقا أن يكون مصاحبا للطهرين؛ أي طهر الحدث وطهر الخبث، وأل هنا للعهد، يشير بذلك إلى ما تقدم في الصلاة وهذا هو المعروف من المذهب، فمن طاف محدثا متعمدا أو جاهلا أو ناسيا لم يصح طوافه، ويرجع إلى ذلك من بلده على المعروف خلافا للمغيرة، وأما طهارة الخبث فعدها غير واحد من أهل المذهب من شروطه، قالوا: كالصلاة، ويعنون بذلك أنها واجبة مع الذكر والقدرة، ساقطة مع العجز والنسيان، وجعلها ابن عرفة شرط كمال، وذكر في صحة من طاف بها عامدا وإعادته قولين، والظاهر منهما هو القول بالإعادة أبدا، وهو الذي يفهم من المدونة وكلام أيمة المذهب، قال سند: إن قلنا إزالة النجاسة شرط في الصلاة على الإطلاق فكذلك في الطواف، وإن قلنا شرط مع الذكر فكذلك في الطواف أيضا، وإن قلنا ليست بشرط بحال فكذلك أيضا. انتهى. وأما من طاف بها ناسيا، فإن ذكر بعد فراغه من الطواف وقبل الركعتين فإنه لا يعيد الطواف عند ابن القاسم، بمنزلة من صلى بنجاسة ثم رآها بعد خروج الوقت ويضع الثوب ويصلي الركعتين بثوب طاهر. نقله ابن يونس وابن رشد في سماع أشهب والمصنف وغيرهم عن ابن القاسم وإن ذكر بعد فراغه من الركعتين أو في أثناء الطواف، فسيأتي قاله الحطاب ويجري هنا، ولو شك في صلاته ثم بان الطهر لم يعد، كما في الصلاة، وطهرُ الحدث هنا يشمل التيمم والطهارة المائية، ولو قال المصنف بالطهارتين لكان أحسن؛ لأنه كثر في لسانهم استعمال

(1)

(1)

في عبد الباقي ج 2 ص 263. لسان الفقهاء استعمال الطهرين.

ص: 446

الطهرين في الحدث الأصغر والأكبر، فيصير الخبث مسكوتا عنه، وكثر في لسانهم استعمال الطهارتين في الحدث والخبث.

والستر؛ يعني أنه يشترط في الطواف مطلقا ركنا أو واجبا أو مندوبا في أحد النسكين أو غيرهما أن يكون مصاحبا لستر العورة، وأل هنا للعهد، يشير إلى ما تقدم في الصلاة، قال ابن فرحون: حكم ستر العورة في الطواف حكم الطهارة، وحكم من صلى بثوب نجس أو طاف به. انتهى. وذكر ابن معلى عن النووي: أن الحرة إذا طافت وهي مكشوفة الرجل أو شيء منها أو شعر رأسها لم يصح طوافها، وإن طافت كذلك ورجعت رجعت بلا حج ولا عمرة، قال ابن معلى: وظاهر مذهبنا في هذه المسألة صحة حجها؛ لأن مالكا قال في المدونة: إذا صلت الحرة بادية الشعر أو الوجه أو الصدر أو ظهور القدمين أعادت في الوقت، والإعادة في الوقت إنما هي من باب الاستحباب، نعم إن كانت بمكة أو حيث يمكنها الإعادة فلتعد على جهة الاستحباب. انتهى. قال الحطاب: والظاهر أنه لا تستحب لها الإعادة ولو كانت بمكة؛ لأن بالفراغ من الطواف خرج وقته كما تقدم فيمن طاف بنجاسة ناسيا، ويكره أن يشرب الماء في الطواف إلا أن يضره العطش. قاله التلمساني في شرح قول الجلاب: ولا يتحدث مع أحد في طوافه ولا يأكل ولا يشرب في أضعافه، قال الحطاب: فجعل

(1)

قوله: لا يشرب، على الكراهة ولم يتعرض للأكل، والظاهر أنه مثله. والله أعلم.

واعلم أن مكروهات الطواف خمسة عشر: البيع، والشراء، والطواف مختلطا فيه الرجال والنساء، وتغطية الرجل فاه، وانتقاب المرأة، وإنشاد الشعر، وشرب الماء لغير المضطر له، والظاهر أن الأكل مثله، وكثرة الكلام فيه، وقراءة القرآن، واستلام الركنين اللذين يليان الحجر، والركوب لغير عذر، والسجود على الركن، والحسر عن منكبيه، وتقديم طوافه عن محموله على طوافه لنفسه. وقد مر نظم الشيخ علي الأجهوري لثلاثة عشر منها.

وبطل بحَدَثٍ بناءٌ؛ يعني أن طهارة الحدث شرط في ابتداء الطواف ودوامه، فمن أحدث في أثناء طوافه فقد بطل طوافه، ولا يجوز له البناء على ما مضى من طوافه إذا تطهر ولو كان قريبا، وسواء كان حدثه عمدا أو غلبة أو سهوا، فقوله:"بناء" فاعل "بطل" وقوله: "بحدث"، منون،

(1)

عبارة الحطاب فحمل ج 3 ص 466 ط دار الرضوان.

ص: 447

والباء للسببية، وإذا بطل البناء فإنه يتوضأ ويبتدئ الطواف وجوبا إن كان الطواف واجبا دون التطوع إلا أن يتعمد الحدث، ولو قال: فإن أحدث فلا بناء، لكان أحسن؛ لأن ظاهر العبارة أن هنا بناء بطل مع أنه لا بناء هنا؛ إذ معنى كلامه أن من حصل له الحدث في أثناء الطواف بطل طوافه ولا يجوز له البناء بعد التطهر على ما مضى من الأطواف. والله سبحانه أعلم. ولم يذكر المصنف حكم من انتفض وضوءه قبل أن يصلي الركعتين، والحكم فيه أنه يتوضأ ويعيد الطواف، فإن توضأ وصلى الركعتين وسعى فإنه يعيد الطواف والركعتين والسعي ما دام بمكة أو قريبا منها، فإن تباعد من مكة فليركعهما بموضعه وليبعث بهدي، قال ابن المواز: ولا تجزئه الركعتان الأوليان.

وقوله: "وبطل بحدث بناء"، فإن توضأ وبنى على ما طافه فكمن لم يطف، وقال ابن حبيب: يتوضأ ويبني. ابن يونس: رواية ابن حبيب ضعيفة، وظاهر كلام الجلاب أن خلاف ابن حبيب إنما هو بعد الوقوع وهذا هو الظاهر، وقد نص ابن حبيب في الواضحة على: أنه إذا انتقض وضوءه وهو يطوف أنه يقطع ويبتدئ الطواف من أوله إن كان واجبا، وهو مخير في التطوع. قاله الحطاب. واعلم أنه إذا قلنا إن المحدث في أثناء الطواف لا يجوز له البناء، فإنه إذا جاء وبنى على ما طاف أولا ثم علم أنه لا يصح له البناء على ما قبل الحدث، فالظاهر أن له أن يبنى على ما طافه الآن ويكمل سبعة أشواط ويجزئه، وكذا أيضا من شرع في سبع فطاف بعضه، فلما وصل للحجر الأسود في بعض الأشواط ظن أنه أكمله فنوى سبعا أخرى ثم تذكر، فالظاهر أنه يبني على ما طاف أولا إن كان الطواف الأول نافلة، وإن كان فريضة والذي نواه نافلة فالأمر محتمل والأحوط أنه يبتدئ الطواف. قاله الحطاب. ولو اعتقد شخص أنه في الشوط السابع ثم تبين له أنه الخامس فإنه يتم على ذلك، ولا يقول أحد إنه يعيد. انتهى. قاله في الطراز. قاله الحطاب. ومن شرع في الطواف ثم رفضه في أثنائه، فهل يبطل كالصلاة أولا كالإحرام بحج أو عمرة؟ قال الخرشي: تقدم ما يفيد أنه يرتفض.

ص: 448

واعلم أن الطواف ليس كالسعي؛ لأن الطهارة ليست شرطا في صحة السعي، وإنما هي مستحبة فيه، ولم يقل أحد بأن من أحدث في أثناء السعي يبتدئ، فلوأتم سعيه وهو محدث أجزأه. قاله الحطاب. والله سبحانه أعلم.

وجعل البيت عن يساره، قوله:"وجعل" بالجر عطف على"الطهرين"؛ يعني أنه يشترط في صحة الطواف أن يجعل البيت في دورانه عن يساره، فلو طاف وجعل البيت عن يمينه، أو طاف ووجهه إلى البيت أو ظهره لم يجزه طوافه، وهو كمن لم يطف فيرجع لذلك من بلده، وهذا مذهب مالك والشافعي وابن حنبل؛ (لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف كذلك، وقال: خذوا عني مناسككم

(1)

)، وقال أبو حنيفة: إن ذلك سنة، فإن تركه صح طوافه ويعيد ما دام بمكة، فإن خرج إلى بلده لزمه دم، ولو جعل البيت عن يساره ولكنه طاف منكوسا فرجع القهقرى من الحجر الأسود إلى جهة الركن اليماني، فالظاهر أنه لا يجزئه، وكلام صاحب الطراز وغيره يدل على ذلك. قاله الحطاب.

وحكمة جعل البيت على اليسار ليكون قلب الطائف إلى جهة البيت، وفي الذخيرة أن جنبي باب البيت نسبتهما إليه كنسبة يمين الإنسان ويساره إليه، فالحجر موضع اليمين لأنه يقابل يسار الإنسان، وباب البيت وجهه، ولو جعل البيت عن يمينه لأعرض عن باب البيت الذي هو وجهه، ولو جعله عن يساره أقبل على الباب ولا يليق بالأدب الإعراض عن وجوه الأماثل، وتعظيم بيت الله تعالى تعظيم له. قاله الحطاب. وقوله:"وجعل البيت عن يساره"؛ ينبغي أن يقيد بما إذا مشى على رجليه، فلو مشى على يديه غير منكوس فالظاهر أنه لا يجزئه، وكذا لو مشى على يديه ورجليه أو زحف على بطنه ونحو ذلك، وظاهر كلام المصنف أن جعل البيت عن اليسار شرط مطلقا ذكرا

(2)

أم لا، وكذا قوله:"وخروج كل البدن عن الشاذروان"، وقياس ما للقرافي أن يكون محراب المسجد وجهه، وغربيه يساره، وشرقيه يمينه، ويسار المسجد يقل فيه الناس فهوأبعدمن الرياء وأقرب إلى الإخلاص. وفي الحديث: (من أحيا يسار المسجد فله أجران

(3)

(1)

التمهيد، موسوعة شروح الموطأ، ج 9 ص 119.

(2)

كذا في الأصل.

(3)

مجمع الزوائد، ج 2 ص 97. الكنز، رقم الحديث: 20590.

ص: 449

وكان البنوفري والتاجوري والأجهوري واللقاني لا يصلون في الجامع الأزهر إلا في جهة الخطابة؛ لأنها يساره مع محافظتهم على السنة قال الشيخ إبراهيم: وقد مر أن من طاف بالبيت وجعل البيت عن يساره ولكنه طاف منكوسا فرجع القهقرى لا يجزئه ذلك، قال الإمام الحطاب: فإن قيل لم جعلتم الترتيب هنا واجبا وجعلتموه في الوضوء سنة؟ فَالجَوَابُ أنه هنا مطلوب إجماعا، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه طاف منكوسا، وأما الوضوء، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: ما أبالي بأي أعضائي بدأت إذا أتممت وضوئي، هكذا نقل الشارح عن أبي الحسن الصغير. انتهى.

وقال الشبراخيتي: وعبارة المصنف قلقة أو عسرة؛ لأنه قد يجعل البيت عن يساره وهو راجع القهقرى ويطوف وهذا باطل؛ أي وجعل البيت عن يساره وهو ماش مستقيما جهة أمامه ولا بد من هذا. انتهى. وقال عبد الباقي: ولا بد أن يمشي مستقيما، فلو مشى القهقرى لم يصح. وخروج كل الطهرين عن الشاذروان؛ قوله:"وخروج" بالجر عطف على "الطهرين"؛ يعني أنه يشترط في صحة الطواف أن يجعل الطائف بدنه كله في طوافه خارجا عن الشاذروان، قال الحطاب: الشاذروان بفتح الذال المعجمة وسكون الراء وهو بناء لطيف جدا ملصق بحائط الكعبة. قاله النووي. انتهى. وقال الشبراخيتي: قال ابن فرحون: بكسر الذال المعجمة: لفظة عجمية بلسان الفارسية، وقال النووي: بفتح الذال وسكون الراء: بناء لطيف جدا ملصق بحائط الكعبة وهو القدر الذي ترك من عرض الأساس خارجا عن عرض الجدار مرتفعا على وجه الأرض قدر ثلثي ذراع، نقصته قريش من أصل الجدار حين بنوا البيت. انتهى.

وقال عبد الباقي: واشترط الخروج عنه لأنه من البيت. انتهى. وارتفاعه عن الأرض في بعض المواضع نحو شبرين، وفي بعضها نحو شبرو نصف.

واعلم أن المصنف مشى في كتبه كلها على أن الشاذروان من البيت، معتمدا في ذلك على ما قاله صاحب الطراز وابن شأس ومن تبعهما من المتأخرين، قال صاحب الطراز: في شرح قوله في المدونة وسئل عن ممر الطائف في الحجر، فقال: قال مالك: ليس بطواف ويلغيه ويبني، وهذا بين لأن الطواف إنما شرع بجميع البيت إجماعا، فإذا سلك في طوافه الحجر أو على جداره أو

ص: 450

على شاذروان البيت لم يعتد بذلك؛ وهو قول الجمهور لأنه لم يطف بجميع الكعبة، وعند أبي حنيفة يجزئه، وعند ابن شأس من شروط الطواف أن يكون بجميع بدنه خارجا عن البيت، فلا يمشي على شاذروانه، وتبعه على ذلك القرافي في الذخيرة، وابن جزي في قوانينه، وابن جماعة التونسي وابن الحاجب وابن عبد السلام وابن هارون في شرح المدونة وابن راشد في اللباب، ونقل ابن عرفة كلام ابن شأس ولم يتعقبه مع كثرة تعقبه فيما لا يكون موافقا لنقول المذهب، بل جزم في فصل الاستقبال بأنه من البيت، وتبعه على ذلك الأبي، وممن تبع ابن شأس ابن معلى والتادلي وغيرهما، وهذا هو المعتمد عند الشافعية، وقد أنكر جماعة من العلماء المتأخرين من المالكية والشافعية كون الشاذروان من البيت، فمن المالكية الخطيب أبو عبد الله بن رشيد بضم الراء وفتح الشين المعجمة وبعدها ياء تصغير، ذكر ذلك في رحلته وبالغ في إنكاره، وقال: لا توجد هذه التسمية ولا ذكر مسماها في حديث صحيح ولا سقيم ولا عن صحابي ولا عن أحد من السلف فيما علمت، ولا لها ذكر عند الفقهاء المالكيين المتقدمين والمتأخرين إلا ما وقع في جواهر ابن شأس، وتبعه ابن الحاجب، ولا شك أن ذلك منقول من كتب الشافعية، وأقدم من ذكرها فيما وقفت عليه المزني. انتهى. المراد منه.

وقول ابن رشيد: إن أقدم من ذكرها من المالكية ابن شأس، ليس كذلك لما تقدم من كلام صاحب الطراز، وهو أقدم من ابن شأس، وقوله: إن أقدم من ذكرها من الشافعية المزني، ليس كذلك، فقد نقل ابن جماعة الشافعي عن نص الشافعي أنه لو طاف على شاذروان الكعبة أعاد، مع أن ابن جماعة ممن رجح أنه ليس من البيت، قال في منسكه: الذي يظهر لي أنه ليس من البيت كما نقله السروجي عن الحنفية، واختاره جماعة من محققي العلماء. انتهى. انتهى.

وقال الحطاب أيضا بعد جلب كثير من النقول: وبالجُمْلَةِ فقد كثر الاضطراب في الشاذروان، وصرح جماعة من الأئمة المقتدى بهم بأنه من البيت، فيجب على الشخص الاحتراز منه في طوافه ابتداء، وأنه إن طاف وبعض يده في [أهواه

(1)

] أنه يعيد ما دام بمكة، فإن لم يتذكر ذلك

(1)

كذا في الأصل والذي في الحطاب ج 3 ص 470. هوائه، ط دار الرضوان.

ص: 451

حتى بعد من مكة فينبغي أن لا يلزم بالرجوع لذلك، مراعاة لمن يقول: إنه ليس من البيت. والله أعلم. انتهى.

وذكر المحب الطبري عن الأزرقي أن عرض الشاذروان ذراع، قال: وقد نقص عما ذكره الأزرقي في الجهات، قال: فتجب إعادته، ويجب أن يحترز من ذلك الزائر. انتهى. قاله الحطاب. وستة أذرع من الحجر؛ قوله وستة عطف على الشاذروان يعني أنه يشترط في صحة الطواف أن يخرج الطائف بجميع بدنه عن مقدار ستة أذرع من الحجر؛ لأن ذلك من البيت كما ورد في الحديث الصحيح

(1)

، فإذا خرج بجميع بدنه عن مقدار ستة أذرع من الحجر وتسور عليه من الطرف بعد أن خرج بجميع بدنه عن الأذرع الستة أجزأه؛ لأنه ليس من البيت، وليس بحسن أن يفعل ذلك. قاله اللخمي. وهو يقتضي أن ذلك مكروه أو خلاف الأولى، والأحسن هو أن يطوف من وراء الحجر جميعه وهو خلاف ما لابن رشد، والذي لابن رشد هو أنه لا يعتد بما طاف داخل الحجر وبنى على ما طاف خارجه منه، وإن لم يذكر حتى رجع إلى بلده فليرجع وهو كمن لم يطف. نقله الحطاب. وفيه بعد جلب نقول: وكلام أصحابنا المتقدمين يقتضي أنه لا يصح الطواف إلا من وراء الحجر جميعه، وقد مر قول صاحب الطراز؛ لأن الطواف إنما شرع بجميع البيت إجماعا، فإذا سلك في طوافه الحجر أو على جداره أو على شاذروان البيت لم يعتد بذلك؛ وهو قول الجمهور. انتهى. فصرح بأنه إذا طاف على جدار الحجر أنه لا يعتد بذلك، وقال القاضي عبد الوهاب: ولا يجزئ الطواف داخل الحجر خلافا لأبي حنيفة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحجر من البيت

(2)

)، وإذا ثبت أنه من البيت لم يجز أن يطوف فيه، لقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، وذلك يقتضي استيفاء جميعه، (ولأنه صلى الله عليه وسلم طاف خارج الحجر وقال خذوا عني مناسككم

(3)

)، وقال ابن عسكر في عمدته في شروط الطواف: وأن يطوف بالحجر، وقال ابن بشير: ولا يجزئ الطواف في الحجر، فمن طاف فيه كان بمنزلة من طاف ببعض البيت. نقله الحطاب. ونقل نحوه عن ابن الحاجب. وابن جزي وابن عرفة.

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1333.

(2)

الحاكم في المستدرك، ج 1 ص 460.

(3)

التمهيد، ج 9 ص 119. مركز هجر.

ص: 452

وقول المصنف: "من الحجر" الحجر بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم هذا هو الصواب المعروف، قال النووي: وحكى بعضهم فتح الحاء، وسمي حجرا لاستدارته وهو محوط مدور على نصف دائرة خارج عن خارج الكعبة في جهة الشام، ويقال له: الجدر، بفتح الجيم وسكون الدال المهملة؛ وهو من وضع الخليل عليه الصلاة والسلام على ما ذكره الأزرقي في خبر رواه عن أبي إسحاق، قال: (وجعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام الحجر إلى جنب البيت [عريشا

(1)

] من أراك تقتحمه العنز، وكان رباضا لغنم إسماعيل عليد الصلاة والسلام، ثم إن قريشا أدخلت فيه [ذراعا

(2)

] من الكعبة).

تنبيهات: الأول: اعلم أن المصنف رحمه الله تعالى تبع في قوله: "وستة أذرع من الحجر" اللخمي كما مر التنبيه عليه، ولم يصرح في كتاب الحج بستة أذرع، إلا أنه صرح في كتاب الصلاة بأن الذي من البيت في الحجر هو مقدار ستة أذرع، وكلامه في كتاب الحج يقتضي أن ذلك القدر هو الذي يطلب الخروج عنه في الطواف، ونصه: ولا يطاف في الحجر، فإن طاف فيه لم يجزه لأن الموضع الذي يتصرف فيه الناس

(3)

منه يلي البيت، وهو من البيت فكأنما طاف ببعض البيت، ولو تسور من الطرف لأجزاه لأنه ليس من البيت، وليس بحسن أن يفعل ذلك. انتهى. وقد أسقط المصنف هنا. وفي التوضيح: والمناسك من كلام اللخمي، قوله: وليس بحسن أن يفعل ذلك، مع أن ذكر ذلك متعين لأن كلام المصنف يقتضي أنه لو فعل ذلك لم يكن فيه بأس، وكلام اللخمي يقتضي أنه مكروه أو خلاف الأولى. ثم جلب من النقول مما يفيد أن كلام المصنف خلاف المعتمد كثيرا مقنعا عن المالكية وغيرهم وقد قدمت بعض ذلك، ثم قال: وهذا هو الظاهر من قول مالك في المدونة: ولا يعتد بما طاف في داخل الحجر؛ لأن ذلك شامل لستة أذرع ولما زاد عليها، وهو الذي يظهر من كلام أصحابنا كما تقدم، والذي قاله اللخمي رحمه الله تعالى إنما هو تفقه منه على عادته في اختياره لما يقتضية الدليل والقياس وإن خالف المنصوص عن مالك. وقوله: وليس بحسن أن يفعل، يدل على ذلك. والله أعلم. انتهى. ثم قال: واحتج شيخ شيوخنا القاضي تقي الدين الفاسي المالكي لما قاله اللخمي؛ بأن أفعاله صلى الله عليه

(1)

في الأصل عريشها والمثبت من الحطاب ج 3 ص 471. ط دار الرضوان.

(2)

كذا في الأصل والذي في الحطاب ج 3 ص 471 أذرعا ط دار الرضوان.

(3)

انظر الحطاب، ج 3 ص 471.

ص: 453

وسلم في الحج منها ما هو واجب ومنها ما ليس بواجب، فطوافه خارج الحجر لا يكون واجبا إلا بدليل، ولا دليل إلا ما وقع في بعض رواية عائشة أن الحجر من البيت، وهي رواية مطلقة، فتحمل [على

(1)

] الروايات المقيدة، ويحمل طوافه صلى الله عليه وسلم خارج الحجر ليزيل عن غيره مشقة الاحتراز عن تحرير الستة الأذرع ونحوها، ومشقة تسور جدار الحجر خصوصا للنساء، ومثل ذلك يقال في طواف الخلفاء ومن بعدهم، فيكون الطواف هكذا مطلوبا ندبا لا وجوبا، لعدم نهوض الدلالة على الوجوب من طوافه صلى الله عليه وسلم. انتهى. قال الحطاب: وفيما قاله رحمه الله تعالى نظر؛ لأن أفعاله صلى الله عليه وسلم محمولة على الوجوب حتى يدل دليل على الندب، ثم قال: والذي يظهر -والله سبحانه أعلم- وجوب الطواف من وراء محوط الحجر، وأن من طاف داخله يعيد طوافه ولو تسور الجدار وطاف من وراء الستة الأذرع والسبعة، وهذا ما دام بمكة، فإن عاد إلى بلاده وكان طوافه من وراء الستة الأذرع فينبغي أن لا يؤمر بالعود مراعاة لمن يقول بالإجزاء كما تقدم في مسألة الشاذروان. انتهى. والله سبحانه أعلم. وقال ابن مسدي في منسكه: وأما قولنا: ويطوف من وراء حجر إسماعيل، فهو الإجماع، ثم اختلفوا فقال أصحاب الرأي: يطوف من وراء الحجر استحبابا، وقال جمهور العلماء بالوجوب استبراء؛ لأن بعض الحجر من البيت مقدر غير معلوم العين، ثم اتفقوا على أن من طاف بفناء البيت الظاهر ولم يدخل الحجر في طوافه أنه يعيد ما دام بمكة، ثم اختلفوا فقال أبو حنيفة: يعيد استحبابا، وقال جمهور العلماء: يعيد وجوبا لأنه كمن لم يطف، فإن لم يذكر حتى انصرف إلى بلده، فقال ابن عباس: هو كمن لم يطف، وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق وداوود وغيرهم من أهل العلم، وقالوا: عليه أن يرجع من حيث كان حتى يطوف من وراء الحجر.

الثاني: اعلم أن الروايات اضطربت في الحجر، ففي رواية (أنه من البيت

(2)

)، وفي رواية (ستة أذرع من الحجر

(3)

)، وفي أخرى (ست أو نحوها

(4)

)، وفي رواية (خمسة أذرع

(5)

)، وروي (قريب من سبع

(6)

)، وكل

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 3 ص 472. ط دار الرضوان.

(2)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1584. ومسلم، كتاب الحج، الحديث: 1333.

(3)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1333.

(4)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1584.

(5)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1333.

(6)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1333.

ص: 454

هذه الروايات في الصحيح، قال الحطاب: فإذا طاف في شيء من الحجر يكون في شك من أداء الواجب.

الثالث: في المدونة: ويبني على ما طاف خارجا عنه، قال أبو إبراهيم الأعرج في طرره على التهذيب: يعني يبني على الأشواط الكاملة، وأما بعض الأشواط فلا. نقله عنه التادلي. وابن فرحون. ولم ينبه على ذلك أبو الحسن ولا صاحب الطراز ولا غيرهما من شراح المدونة فيما علمت، والظاهر أنه يبني على ما طاف خارجا عنه، ولو كان بعض شوط إلا أن يريد أبو إبراهيم إذا لم يعلم بذلك في ذلك الشوط، بل طاف بعده شوطا أو أشواطا ثم تذكر فإنه إنما يبني على الأشواط الكاملة وهو مراده. والله أعلم.

وقد مر في فصل الاستقبال أن في استقبال الستة الأذرع قولين، والراجح منهما أنه لا يصح استقبالها، والراجح هنا وجوب الطواف خارجا عن جميع الحجر، فَلِمَ لا يصح الطواف في الستة الأذرع على الراجح كما في الصلاة؟ والجواب على المعتمد هنا من وجوب الطواف خارج الحجر أنه إنما وجب لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما على ما قاله اللخمي فالجواب أنه احتيط في كل من البابين، فمنعوا الصلاة إليه لعدم القطع بأنه من البيت، ومنعوا الطواف في الستة لأنه قد ثبت بحديث الصحيح أنها من البيت

(1)

. انظر الحطاب. والله سبحانه أعلم.

الرابع: أثبت المصنف التاء في قوله: "وستة أذرع"؛ لأن الذراع تذكر وتؤنث، قال في الصحاح: ذراع اليد يذكر ويؤنث. قاله الحطاب. والله سبحانه أعلم.

ونصب المقبل قامته، قوله:"ونصب" إما بالجر بصيغة الاسم عطفا على "الطهرين"، "والمقبل"، مضاف إليه ما قبله، "وقامته"، مفعول المصدر وهو نصب، وأما بالفتح على أنه فعل ماض "والمقبل" فاعله؛ يعني أن الإنسان إذا قبل الحجر الأسود واستلم الركن اليماني؛ فإنه يثبت مكانه حتى يعتدل قائما على قدميه ثم يطوف؛ لأنه لو طاف مطأطئا ورأسه أو يداه في هواء الشاذروان، أو وطئه برجله لم يصح طوافه، وهذه دقيقة نبه عليها النووي وغيره من متأخري

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1584. مسلم، كتاب الحج، الحديث: 1333.

ص: 455

الشافعية، بنوها على أن الشاذروان من البيت، قال النووي: وينبغي أن يتنبه هنا لدقيقة وهي أن من قبل الحجر فرأسه في حال التقبيل في جزء من البيت فيلزمه أن يُثيتَ قدميه في موضعهما حتى يفرغ من التقبيل ويعتدل قائما؛ لأنه لو زالت قدماه عن موضعهما إلى جهة الباب قليلا ثم فرغ من التقبيل اعتدل عليهما في الموضع الذي زالتا إليه ومضى من هنالك، لكان قد قطع جزءا من طوافه ويده في هواء الشاذروان، فتبطل طوفته تلك. انتهى. نقله ابن معلى.

ونقل عن غير النووي من الشافعية: أنه ينبغي للطائف أن يحترز في حال استلامه الحجر والركن اليماني من هذا الشاذروان؛ لأنه إن طاف ويده أو رأسه في هواء الشاذروان أو وطئه برجله لم يصح طوافه، والواجب على الطائف أن يثبت قدميه حتى يفرع من تقبيله ويعتدل قائما ثم يمشي، قال: وهذه من الدقائق النفيسة، وكثير من الناس يرجعون بلا حج بسبب الجهل بما قلناه، قال ابن معلى: ولم أر أحدا من المالكية نبه على هذه الدقيقة غير شيخنا الفقيه المحقق أبي يحيى بن جماعة، فإنه قال: وإذا قبل الطائف وقف حتى يعتدل قائما، وحينئذ يأخذ في السير، وقد أنكر ابن رشيد هذه الدقيقة، وقال: هذه الدقيقة تخفى على الصحابة ومن بعدهم، فلا ينتبه لها أحد وينبه على ذلك بعض المتأخرين، ولو كان الأمر كما قالوا لحذر منه السلف الصالح لعموم البلوى بذلك، فتركهم ذكره دليل على أن مثله مغتفر والتوقي منه أولى، وأما أن ذلك مبطل للحج فبعيد. انتهى. ونحوه لابن جماعة الشافعي، وفي الحطاب: والذي يقتضيه كلام المصنف ومن نبه على هذه الدقيقة من المالكية أن من لم يتنبه لها وطاف ورأسه أو يده في هواء الشاذروان أن طوافه ذلك لا يصح، فإن تنبه لذلك بالقرب عاد ومشى ذلك القدر، وإن أكمل الأسبوع فيبطل ذلك الشوط ويصير حكمه حكم من ترك جزءا من طوافه، قال: وينبغي أن يلاحظ في ذلك ما ذكرناه في الشاذروان من أن من لم يتنبه لذلك حتى بعد عن مكة لا يلزم بالرجوع لذلك مراعاة للخلاف في الشاذروان. انتهى. وقوله: "ونصب المقبل قامته"، هو كقوله في المناسك:"ثم يرجع "؛ أي يرجع قائما، وليس مراده أنه يرجع إلى جهة خلفه كما يفعله بعض الناس فيؤذي الطائفين بذلك. قاله الحطاب.

ص: 456

داخل المسجد حال من الطواف؛ يعني أنه يشترط في صحة الطواف أن يكون داخل المسجد، فلو طاف خارج المسجد لم يجزه. ابن رشد: ولا خلاف في ذلك، -ومثله- والله أعلم من طاف على سطح المسجد وهذا ظاهر، ولم أره منصوصا فتأمله، وصرح الشافعية والحنفية بأنه يجوز الطواف على سطح المسجد، ولم يتعرض لذلك الحنابلة. والله أعلم. قاله الحطاب. سند: ويستحب الدنو من البيت كالصف الأول في الصلاة، ومن طاف في زيادة المسجد كمن طاف خارجه، وتطوف النساء بالبيت من وراء الرجال كالصلاة. قاله عبد الباقي. وغيره. وقوله:"داخل المسجد"، قال غير واحد: إنه منصوب على الحال، قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن "داخل"، منصوب على الظرفية أو على نزع الخافض، وهذا المنصوب على الظرفية أو على نزع الخافض في موضع الحال من الطواف. والله سبحانه أعلم.

وولاء؛ يعني أن الموالاة بين أشواط الطواف، شرط في صحة الطواف فإن فرقه لم يجزه. قاله القرافي. وقال اللخمي: إلا أن يكون التفريق يسيرا أو يكون لعذر وهو على طهارته، وفي كلام سند. أن: التفريق اليسير لا يضر ولو لغير عذر، لكنه يكره ويندب له أن يبتدئ به، وقد مر أن من انتقض وضوءه قبل أن يصلي ركعتي الطواف توضأ وأعاده قبل صلاتهما، فإن توضأ وصلاهما وسعى بعدهما أعاد الطواف والركعتين والسعي ما دام بمكة أو قريبا منها، فإن تباعد عنها فليركعها بموضعه وليبعث بهدي. ابن المواز: ولا يجزئه الركعتان الأوليان، ولعله لكونه صلاهما في وقت يطلب فيه إعادة الطواف، وظاهر كلامه سواء انتقض عمدا أو لا، وقوله: فإن تباعد، الظاهر أن تعذر الرجوع مع القرب تباعد. قاله في حسن نتائج الفكر. وقال الحطاب: عند قوله: "وولاء"؛ يعني أن من شروط الطواف الموالاة، قال ابن بشير: ولا يفرق بين أجزاء الطواف، فإن فعل ابتدأ إلا أن يفرق لضرورة كصلاة الفرض تقام عليه وهو في الطواف. انتهى. وهذا في التفريق الكثير، وأما التفريق اليسير فقد صرح اللخمي بأنه مغتفر، قال: ويوالي بين الطواف والركوع والسعي، فإن فرق الطواف متعمدا لم يجزه إلا أن يكون التفريق يسيرا أو يكون لعذر وهو على طهارته، فإن انتقضت طهارته توضأ واستأنف الطواف من أوله، سواء انتقضت طهارته تعمدا أو غلبة، وقوله:"وولاء"، قال الشبراخيتي: أي ويكون الطواف ولاء فهو منصوب، ويصح جره

ص: 457

عطفا على المجرور؛ أي ويشترط أن لا يفرق بين أجزاء الطواف، وإلا ابتدأ إلا أن يكون التفريق يسيرا فإنه لا يضر، ولو لغير عذر أو يكون لعذر وهو على طهارته. انتهى.

(وابتدأ إن قطع لجنازة) يعني أن الشخص إذا قطع طوافه لأجل صلاة على جنازة وصلى عليها، فإنه يبتدئ طوافه واجبا أو تطوعا، ولو قل الفصل لأنه فعل آخر غير ما هو فيه، ولا يبني على ما فعل من الأطواف خلافا لأشهب، وقوله:"إن قطع لجنازة"، الحكم في ذلك أنه يمتنع القطع لها ما لم تتعين، فإن تعينت وخشي تغير الميت ولم يوجد سوى الطائف فالظاهر وجوب القطع كالفريضة، والظاهر أنه حينئذ يبني كالفريضة، وأما إن تعينت ولم يخش تغيرها فلا يقطعه لها. قاله عبد الباقي. وغيره. وعبارة الشبراخيتي: ويمتنع القطع لها اتفاقا كما قال في توضيحه ما لم تتعين بخشية التغير ونحوه، والظاهر وجوب القطع كما يفيده كلام سند وأبي الحسن، وأما إن تعينت ولم يخش التغير فلا يقطعه، وإذا قلنا بالقطع فالظاهر أنه يبني على طوافه.

(أو نفقة) يعني أن الشخص إذا قطع طوافه لأجل طلب نفقة نسيها كما لو نسي صرة فيها دراهم معدة لشراء نفقته، فإنه يبتدئ ولا يبني على ما فعل من طوافه الذي لم يكمله، وقوله:"أو نفقة"، قال الشبراخيتي: ولا يجوز القطع لها، وجزم في مناسكه بجواز القطع، ثم إن القطع فيمن خرج للنفقة والحال أن صاحبه لا يبني إنما هو إذا خرج من المسجد، وأما إن قطع لنفقة ولم يخرج من المسجد فإنه يبني على طوافه. انتهى. وقال عبد الباقي: قال المصنف: ولو قيل بجواز الخروج للنفقة كان أظهر كما أجازوا قطع الصلاة لمن أخذ له مال له بال وهي أشد حرمة. انتهى. وبحث فيه المدني شارح الشامل بالفرق بأن الصلاة لما لم يبح فيها إلا يسير الكلام لإصلاحها فقط لم يكن له مندوحة في القطع لحفظ ماله، ولا كذلك الطواف، فعدم حرمة الكلام فيه يقتضي أنه يوكل في عود نفقته له بدون قطع، فلذا بطل الطواف إن قطع لها وخرج من المسجد. انتهى. وقال في التوضيح: قد علمت أن مذهب المدونة عدم الخروج للنفقة، لقوله: ولا يخرج إلا لصلاة الفريضة، وأن القول فيها بالبناء مخرج على قول أشهب في الجنازة، ولو قالوا بجواز الخروج للنفقة لكان أظهر، كما أجازوا قطع الصلاة لمن أخذ له مال له بال، وهي أشد حرمة، وجعل إبن عبد السلام الخلاف في القطع وليس بظاهر. انتهى. وجزم في مناسكه بما

ص: 458

بحثه في توضيحه، فقال: ويقطع إذا نسي نفقته كما في الصلاة، لكن لا يبني على المشهور. انتهى. وهذا هو الظاهر. والله أعلم. قاله الحطاب. قال الشارح: وعلى هذا فينبغي أن يفرق في النفقة بين ماله بال وغيره، وبين الفقير وغيره.

أو نسي بعضه؛ يعني أن الشخص إذا نسي بعض الطواف بأن نسي بعض شوط فأكثر، فإنه لا يبني على ما فعل من الطواف، وهذا إن فرغ سعيه؛ يعني أن محل كونه لا يبني حيث ترك بعض طوافه إنما هو حيث فرغ من السعي بين الصفا والمروة، يريد: وطال الأمر بعد فراغه من السعي بالعرف أو انتقض وضوءه، وأما إن تذكر بإثر فراغه من السعي ولم ينتقض وضوءه فإنه يبني على ما طافه على المشهور. سند: إن قيل: كيف يبني بعد فراغ السعي وهو فعل تفريق كثير مثله يمنع البناء في الصلاة؟ قلنا: لما كان السعي مرتبطا بالطواف حتى لا يصح دونه جرى معه مجرى الصلاة الواحدة، كمن ترك السجود من الركعة الأولى، ثم قرأ في الثانية البقرة فتذكر سجود الأولى، فإنه يرجع له من غير جعل قراءة البقرة طولا، وأشعر قول المصنف:"إن فرغ سعيه"، أن ذلك في طواف يسعى بعده، كطواف قدوم وهو كذلك، فإن كان لا يسعى بعده كطواف الإفاضة والوداع والتطوع روعى القرب والبعد من فراغه من الطواف، فإن قرب بنى وإن بعد ابتدأه.

وفي الخرشي: وحاصل كلام الموازية أن نقض الوضوء يوجب الابتداء مطلقا، وكذا الطول جدا وأما الطول لا جدا، فإنه يوجب الابتداء في العمد، ومنه فعل بعض السعي، وأما في النسيان والجهل فا، يوجب الابتداء، ففعل كل السعي ليس بطول فيهما، وفعل بعضه طول في العمد يوجب الابتداء. وقطعه للفريضة؛ يعني أنه يجب قطع الطواف فرضا أو نفلا لصلاة الفريضة أي لإقامتها عليه؛ يعني أن صلاة الفريضة إذا أقيمت على الطائف فإنه يجب عليه أن يقطع طوافه ذلك لأجل الدخول فيها، فالكلام في الطواف الركني وأحرى غيره، وإيضاح كلام المصنف أن تقول من كان يطوف وأقيمت عليه صلاة الفريضة فإنه يقطع طوافه مطلقا فرضا أو نفلا، ويلزمه الدخول مع الإمام الراتب بأي محل على رأي، أو بمقام إبراهيم على آخر إن لم يكن صلاها أصلا أو صلاها منفردا ببيته أو بالمسجد الحرام أو في جماعة بغيره، فإن كان قد صلاها فيه جماعة

ص: 459

وأقيمت للراتب فهل يقطعه ويخرج لأن في بقائه طعنا عليه كما مر في الصلاة أولا؛ لأن تلبسه بالطواف يدفع الطعن؟ ومثل الفريضة المقامة فريضة حاضرة تذكرها وخشي خروج وقتها ولو الضروري لو أتم الطواف الفرض كما ذكره الحطاب بحثا، قال: وأما طواف التطوع فلا إشكال في قطعه لا تذكره الفائتة فلا يقطعه لها وظاهره ولو كان ذلك الطواف مندوبا، وانظر ما الفرق بينه وبين الصلاة. قاله عبد الباقي. قوله: وانظر ما الفرق بينه وبين الصلاة، قال محمد بن الحسن: الفرق بينهما ظاهر لأن الصلاة الحاضرة يجب ترتيبها مع يسير الفوائت، بخلاف الطواف فلم يقل أحد بترتيبه مع الفائتة، وقطعه للحاضرة خوف خروج وقتها لا للترتيب. انتهى.

قال عبد الباقي: ومفهوم قوله: "للفريضة"، أنه لا يقطعه ركنا أو واجبا لغيرها أي الفريضة، كركعتي الفجر والوتر والضحى، فإن كان مندوبا فله قطعه لركعتي الفجر إن خاف أن تقام الصلاة عليه، فلا يقدر أن يركع ركعتي الفجر. قال الحطاب: ويبني، وانظر هل مثلهما صلاة الضحى إذا خاف خروج وقتها أم لا؟ وعموم عبارة البيان يقتضي أنها كذلك، وانظر قوله: أولا فله قطعه، ولم يندب له حيث خشي خروج وقت تلك العبادة، والظاهر قطع غير الطواف الواجب أيضا للوتر إذا خاف خروج وقته الاختياري وإيقاعه في الضروري، والظاهر أن المراد بالنفل هنا ما يشمل الوتر أي فقط دون الشفع؛ بأن يكون قدم الشفع قبل الطواف أو أراد الاقتصار على الوتر مع الكراهة، والظاهر أن سجود التلاوة للسامع بشرطه أو للقارئ، وإن كره له القراءة في الطواف لا يطلب به ابتداء، وانظر السجود البعدي. قال جميعه عبد الباقي.

وقال الشارح: وقوله: "وقطعه للفريضة"، ظاهره وجوب القطع وهو كذلك؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، ولا يجوز لمن في المسجد أن يصلي بغير صلاة الإمام المؤتم به إذا كان يصلي المكتوبة. قاله الأبهري. ونحوه لابن رشد. ابن عبد السلام: وظاهر نصوصهم وجوب القطع، وظاهر كلام ابن الحاجب أنه مخير في القطع. انتهى. ونحو ما لابن الحاجب للجلاب، وقال الحطاب: ينبغي أن يحمل كلام الجلاب وابن الحاجب على أن المراد نفي توهم عدم قطع هذه العبادة لعبادة أخرى، فتتفق النقول، وقد أشار إلى ذلك ابن فرحون. والله أعلم. انتهى.

ص: 460

وقال الشبراخيتي: "وقطعه"؛ أي الطواف وجوبا ركنا أو واجبا أو نفلا. "للفريضة"؛ أي لإقامتها عصرا أو غيرها، فإذا سلم أتمه قبل تنفله وإلا ابتدأه، وظاهر كلام المصنف وجوب القطع وهو كذلك كما قررنا؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، ولا يجوز لمن في المسجد أن يصلي بغير صلاة الإمام المؤتم به إذا كان يُصَلِي المَكْتوبَةَ لِأَنَّهُ خِلافٌ عَلَيْهِ. وقوله:"وقطعه للفريضة"؛ أي التي لم يصلها أو صلاها منفردا، وأما لو صلاها في جماعة فلا يقطعه لها، ويدخل في الفريضة الجنازة إذا تعينت. وقوله:"للفريضة"؛ أي ولخطبة الجمعة. وسئل ابن فرحون: هل وجوب القطع بإقامة صلاة أحد الأئمة الأربعة، أو المعتبر إمام المقام دون غيره؟ فأجاب بأن ذلك مبني على أن صلاة أيمة المقامات الأربعة، كمساجد مستقلة بأئمة راتبين، وهو فتوى جماعة من شيوخ المذهب بأن صلاتهم جائزة لا كراهة فيها لأمر الإمام بذلك، فمقاماتهم كمساجد. فيقطع الطواف بإقامة أحدهم، وخالف غيرهم في ذلك، وقال: إن الراتب إمام المقام فقط، وغيره كجماعة بعد الراتب فلا يقطع الطواف لغيره، قال الحطاب: والمخالف لجماعة الشيوخ هو الشيخ أبو القاسم بن الحباب، وقد قدمنا في باب الجماعة أنه الحق. انتهى.

وقال الشبراخيتي: ومفهوم قوله: "للفريضة"، أنه لا يقطعه لغير الفريضة، كركعتي الفجر والوتر والضحى ركنا أو واجبا، فإن كان مندوبا فله قطعه لركعتي الفجر إن خاف أن تقام عليه الصلاة ولا يقدر أن يركع ركعتي الفجر قال الحطاب. ويبني، وانظر هل مثلهما صلاة الضحى إذا خاف خروج وقتها أم لا؟ وعموم كلام المص يقتضي أنها كذلك. انتهى. وقال الخرشي بعد نقله تعليل وجوب قطع الطواف للفريضة الذي قاله الأبهري: ما نصه: وهذا يفيد وجوب القطع إن خشي فوات ركعة وإلا أتمه، وأجاز مالك في العتبية إذا كان في طواف تطوع أن يقطع ويصلي ركعتين للفجر إن خاف أن تقام الصلاة عليه فلا يقدر أن يركع ركعتي الفجر، قال بعض: ويبني، قال في البيان: خفف قطع طواف النافلة لصلاة النافلة كما استحب ترك الطواف الواجب لصلاة الفريضة. انتهى. كلام الخرشي.

تنبيهات: الأول: قول المصنف: "وقطعه للفريضة"، هذا الفعل مأمور به بعد الوقوع، وأما ابتداء فالأولى للشخص أن لا يشرع في الطواف إذا خاف أن تقام الصلاة، وكذلك إذا خاف أن تفوته

ص: 461

ركعتا الفجر، قال ابن رشد في سماع أشهب: الطواف بالبيت صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام والشغل اليسير، فلا يصح لأحد أن يترك الطواف الواجب لشيء إلا للصلاة المفروضة، واستحب له أن يترك طوافه النافلة لصلاة النافلة، وإن كان الاختيار له أن لا يفعل شيئا من ذلك فلا ينبغي للرجل أن يدخل في الطواف إذا خشي أن تقام الصلاة قبل أن يفرغ من طوافه، ولا أن يدخل في طواف التطوع إذا خشى أن تفوته ركعتا الفجر إن أكمل طوافه. انتهى. قاله الحطاب. الثاني: إذا دخل الخطيب يوم الجمعة المسجد الحرام، فالظاهر أنه لا يجوز لأحد حينئذ أن يشرع في الطواف لا الواجب ولا التطوع، قال سند في القادم إذا دخل المسجد الحرام: بدأ طواف القدوم إلا أن يجد الإمام في صلاة الجمعة أو يجد الإمام في صلاة الفرض فإنه يصليها معه ثم يطوف، وكذلك إذا خاف فوات وقت المكتوبة فإنه يصليها ثم يطوف، فقوله: في صلاة الجمعة، ينبغي أن يحمل على أن المراد به ما يعم الصلاة والخطبة، وما قبل ذلك من حين دخول الإمام المسجد، وأما من شرع في الطواف ثم دخل الخطيب عليه وهو في أثناء الطواف فلم أر فيه نصا، والذي يظهر لي أنه يتم طوافه إلى أن يشرع الإمام في الخطبة، فإن أكمل طوافه لم يركع ويؤخر الركعتين حتى يفرغ الإمام من الصلاة، وإن لم يكمل طوافه قبل شروع الإمام في الخطبة فإنه يقطع. والله أعلم. قاله الإمام الحطاب. ومر نحوه عن الشبراخيتي.

الثالث: إذا خرج للفريضة فإنه يبني قبل أن يتنفل. قاله في الموازية. قال ابن الحاج: فإن تنفل قبل أن يتم طوافه ابتدأه، ونقله ابن فرحون في منسكه. قاله الحطاب. وقال: وكذا لو جلس بعد الصلاة جلوسا طويلا، لذكر أو حديث فإنه يستأنف الطواف لترك الموالاة. والله أعلم انتهى.

وندب كمال الشوط؛ يعني أنه يستحب للطائف إذا قطع الطواف للفريضة أن يخرج من طوافه على تمام شوط؛ بأن يكمل الشوط الذي أقيمت عليه الصلاة وهو في أثنائه، ويتمه ولو أحرم الإمام بأن يخرج من الحجر الأسود لتحصل البداءة من أول الشوط، فإن خرج قبل كمال الشوط، فقال في التوضيح: ظاهر المدونة أنه يبني من حيث قطع، واستحب ابن حبيب أن يبتدئ ذلك الشوط، وينبغي حمل كلام ابن حبيب على الوفاق وهو ظاهر كلامه في الطراز، وإذا خرج للفريضة فإنه يبني قبل أن يتنفل. قاله في المدونة. والشوط بفتح الشين هو في الحج طوفة واحدة من الحجر

ص: 462

الأسود إليه، وفي السعي من الصفا إلى المروة، جمعه أشواط، وعبر بالشوط ردا على من قال بكراهة التعبير بالشوط وهو الإمام الشافعي، وإذا لم يكره عنده التعبير بالشوط فأحرى بالدور.

وبنى إن رعف؛ يعني أن الشخص إذا رعف في الطواف فإنه يخرج لغسل الدم فإذا غسل الدم رجع وبنى على طوافه. البساطي: يشترط أن لا يمشي على نجاسة ولا يتعدى موضعا ممكنا كما في الصلاة ولا يشترط عدم الكلام لأنه غير معتبر في الطواف، ولا استدبار القبلة لأنه يجعل البيت عن يساره، ولو قال: وبنى كإن رعف لأفاد البناء في القطع للفريضة وهو المطابق للنقل، وقوله:"وبنى إن رعف"، وقيل: يبتدئ الطواف، وقال عبد الباقي عند قوله "وبنى إن رعف" ما نصه: وينبغي أن يشترط هنا أن لا يجاوز مكانا ممكنا قرب، وأن لا يبعد جدا، وأن لا يطأ نجسا. انتهى. المراد منه. قوله: وينبغي الخ، قال محمد بن الحسن: صحيح وقد استظهر الحطاب الأولين، ومصطفى الثالث. انتهى.

أو علم بنجس؛ يعني أن الشخص إذا طاف وفي بدنه أو ثوبه نجاسة ولم يعلم بها إلا بعد فراغه من الطواف، فإنه لا إعادة عليه، وإن علم بها أثناء طوافه أو سقطت عليه في طوافه فإنه يطرحها أو يغسلها، ويبني على ما تقدم من طوافه إن لم يطل، وإلا بطل لعدم الموالاة، قال الحطاب: مراد المصنف إذا علم بالنجاسة فطرحها من غير غسل أو احتاجت لغسل فيبني إن كان ذلك قريبا، وأما إن طال الفصل فإنه يبطل الطواف لعدم الموالاة. وعلم من هذا خفة أمر الطواف بالنسبة إلى الصلاة، وما ذكره المصنف من البناء في النجس هو الذي جزم به ابن الحاجب، قال محمد بن الحسن: وهو الموافق لقول مالك وابن القاسم، وذلك أن في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها لمالك كراهة الطواف بالثوب النجس. ابن رشد: وعليه لا تجب الإعادة وإن كان متعمدا، الثاني لابن القاسم: إذا لم يعلم به إلا بعد الطواف فلا إعادة عليه. التونسي: يشبه أن يبني إن علم أثناءه، الثالث لأشهب: إن علم به أثناءه ابتدأه وبعد كماله أعاده، وأعاد السعي إن قرب، ثم قال: الحاصل الموافق لقول مالك وابن القاسم هو ما جرى عليه المصنف. انتهى.

وفي الحطاب: وقد أجاز مطرف وابن الماجشون لمن علم بنجاسة في صلاة أن يطرحها ويبني، بل تقدم في كتاب الصلاة عن اللخمي وصاحب الطراز نقلا عن أشهب أنه أجاز في الصلاة لمن خرج

ص: 463

لغسل النجاسة أن يغسلها ويبني، وإن كان ذلك غريبا. انتهى. وفي شرح عبد الباقي: ونحوه للخرشي تقوية ما لأشهب، أن من علم بالنجاسة في أثناء الطواف يبتدئه ولا يبني، وبعد كماله أعاده وأعاد السعي إن قرب. والله سبحانه أعلم.

وأعاد ركعتيه؛ يعني أن الشخص إذا طاف بنجاسة ولم يذكرها إلا بعد فراغه من الطواف وركعتيه، فإنه يعيد الركعتين فقط بشرط أن يتذكر بالقرب من سلامه من الركعتين بالعرف، فإن طال ما بين تذكره والسلام من الركعتين فلا إعادة عليه، ونقض الوضوء كالطول؛ أي فلا إعادة عليه لزوال الوقت، وقوله:"وأعاد ركعتيه"؛ أي استحبابا، وقال الأجهوري: الاستحباب ظاهر على القول ببناء من علم بالنجس، وأما على القول بأنه يبتدئ فالظاهر وجوب إعادة الركعتين. قاله الخرشي. وقال الحطاب: ولم يبين ابن يونس وابن رشد، هل إعادتهما بالقرب على جهة الوجوب أو الاستحباب؟ وذكر المصنف في التوضيح أن ابن القاسم يقول: يعيدهما استحبابا، وأصبغ يقول بنفي الإعادة. انتهى.

وعلى الأقل إن شك؛ يعني أن الشخص إذا شك هل طاف ثلاثة أشواط مثلا أو أكثر؟ أو اثنين أو أكثر أو واحدا أو أكثر مع تحقق الأقل، فإنه يبني على الأقل المحقق، ولا خصوصية لما ذكرته من العدد، والمراد أنه يبني على الأقل المحقق من أي عدد كان حتى يتحقق أنه كمل الأسبوع، والمنصوص عن مالك أنه يبني على الأقل، سواء شك وهو في الطواف أو بعد فراغه منه، بل في الموازية أنه إذا شك في إكمال طوافه بعد رجوعه لبلده. أنه يرجع لذلك من بلده. قاله الحطاب. وقوله:"إن شك"، قال عبد الباقي: الشك هنا مطلق التردد فيما يظهر، فيشمل الوهم كما في الصلاة لشبهه بها كما في خبر: (الطواف كالصلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام

(1)

)، لا كالوضوء الذي يلغى فيه الوهم، ومحل بنائه على الأقل إن لم يكن مستنكحا وإلا بنى على الأكثر، ويعمل بإخبار غيره ولو واحدا ليس معه في الطواف كما ذكره الحطاب عن مالك، وما في التتائي من أنه لا يرجع لإخبار غيره ولو اثنين مقابل. انتهى. قوله: ولو واحدا ليس معه في الطواف الخ، فيه نظر، بل لا يرجع إليه إلا إذا كان قد طاف معه كما نقله ابن عرفة عن سماع ابن القاسم،

(1)

الترمذي، رقم الحديث:960. الإتحاف، ج 4 ص 346.

ص: 464

ونصه: وسمع ابن القاسم تخفيف مالك للشاك قبول خبر رجلين طافا معه. الشيخ: وفي رواية قبول خبر رجل. الباجي عن الأبهري: القياس إلغاء قول غيره وبناؤه على يقينه كالصلاة. وقاله عبد الحق. انتهى. ونقله الحطاب. قاله محمد بن الحسن. وقال الحطاب: قول الأبهري: القياس إلغاء قول غيره الخ، بحث منه والمنصوص أنه يقبل خبر من معه كما تقدم.

واعلم أن الاستنكاح بلاء ومحنة وهو يتصور في جميع الأفعال ودواؤه الإلهاء، وقوله:"وعلى الأقل"، عطف على المعنى؛ أي وبنى على ما طاف قبل رعافه وعلمه بالنجاسة، وعلى الأقل إن شك. قاله غير واحد. وجاز بسقائف؛ يعني أنه يجوز الطواف في المواضع المسقفة من المسجد المحيط بالبيت الحرام إذا كان ذلك لأجل زحمة؛ أي ازدحام من الناسِ انتهَى إلى السقائف، وكذا يجوز الطواف من وراء زمزم وقبة الشراب من أجل زحام الناس، ولا يضر حيلولة الأسطوانات وزمزم والقبة دون البيت، قال في المدونة: ومن طاف وراء زمزم وفي سقائف المسجد من زحام الناس فلا بأس؛ لأن الزحام يصير الجميع متصلا بالبيت كاتصال الزحام بالطرقات يوم الجمعة. وقوله: "وجاز بسقائف"، المراد ما كان مسقفا في الزمن الأول، وأما السقائف الموجودة الآن فلا يجوز الطواف فيها لا لزحمة ولا لغيرها. قاله الشبراخيتي. وغيره لأنها مزيدة فيه، فالطواف فيها طواف خارج المسجد، فإن ذهبت الزحمة أثناء الطواف كمله بمكانه المعتاد، ولا يجوز تجاوز المكان المعتاد فيما بقي من أشواطه لأنه كان لضرورة وقد زالت، فإن طاف في السقائف حين زوالها، فهل يعيد ما طافه فيها إن كان قريبا؟ وإلا أعاد الجميع أو يعيد الجميع لفصله بما طاف فيها حين لا زحامَ. قاله عبد الباقي. وقوله:"وجاز بسقائف" الخ؛ يعني خلافا لأشهب القائل: لا يصح الطواف في السقائف ولو لزحام وهو كالطواف خارج المسجد، قال سحنون: ولا يمكن أن ينتهي الزحام إلى السقائف. انتهى. قلت: ولم يسمع قط أن الزحام انتهى إليها، بل لا يجاوز محل الطواف المعتاد. والله أعلم قاله الحطاب.

وإلا أعاد؛ يعني أن الشخص إذا طاف في السقائف لا لزحام بل لحر أو لمطر أو لغير ذلك، فإنه يعيد طوافه وجوبا ما دام بمكة، وإن خرج من مكة ووصل إلى بلده أو نحوه مما يتعذر الرجوع منه

ص: 465

(ولم يرجع له) أي للطواف أي لأجل إعادته؛ يعني إذا خرج من مكة ووصل إلى بلده أو نحوه فإنه لا يرجع ليعيد الطواف الذي طافه في السقائف.

وعلم مما قررت أن معنى قوله: "وإلا"، وإن لا يكن طوافه لأجل زحمة بل لغير ذلك كحر أو مطر أو غيرهما، وأن الضمير في "له"، عائد على الطواف "واللام"، فيه للتعليل، ولا دم عليه في طوافه ذلك في السقائف، أما ما ذكره من عدم الرجوع فهو قول ابن أبي زيد، ورجحه الباجي وغيره، وأما عدم وجوب الدم فهو جار على ما نقله ابن عبد السلام عن الباجي وتبعه في التوضيح، والذي نقله ابن بشير وابن شأس وجوب الدم وهو المذهب كما قاله غير واحد، والقول بأنه لا دم عليه أنكره ابن عرفة: فقال: لا أعرفه، قال الشبراخيتي وغيره: وذكر بعضهم أن الأعمدة علامة على طرف المسجد الأصلي وهي اثنان وثلاثون عمودا من النحاس وعمودان من الرخام. فما وراءها فهو الزيادة. انتهى. قال محمد بن الحسن: هو غير صحيح بالمشاهدة لأنها إنما هي على طرف المحل المعتاد للطواف لا على طرف المسجد الأصلي، وفي الحطاب: فهم من كلام سند أن الطواف خلف المقام لا يؤثر وهو ظاهر، وكذلك الطواف خلف الأساطين التي في حاشية الطواف لا يؤثر فيما يظهر. ابن بشير: ولا يطوف من وراء زمزم ولا من وراء السقائف، وإن فعل مختارا أعاد ما دام بمكة، فإن عاد إلى بلده قيل يجزئ لأنه قد طاف بالبيت، وقيل يرجع لأنه قد طاف في غير الموضع الذي شرع فيه الطواف، ونحوه لابن شأس، وفيه: وهل يجزئه الهدي أو يلزمه الرجوع؟ قولان للمتأخرين.

واعلم أن اللخمي وابن بشير وابن شأس وابن الحاجب ألحقوا من طاف وراء زمزم بمن طاف في السقائف، ورد ذلك سند، وتبعه ابن عرفة بأن زمزم في جهة واحدة فقط، فلا يؤثر كالمقام أو حفر في المطاف، وقوى الحطاب ما للخمي، فإنه قال ما قاله اللخمي وخرجه على قول ابن القاسم وأشهب، وقال به غير واحد من أئمة المذهب المتأخرين كابن بشير وابن شأس، وتبعهم عليه ابن الحاجب من أن حكم زمزم حكم السقائف هو الظاهر. والله أعلم. انتهى.

ولما أنهى الكلام على شروط الطواف مطلقا، شرع في بقية أقسامه وهي في الحج ثلاثة: طواف قدوم وهو المذكور هنا، وإفاضة وقد تقدم، ووداع وسيأتي؛ فالأول واجب كما قال: ووجب؛ يعني

ص: 466

أن طواف القدوم يجب أن يوقع قبل الخروج إلى عرفة، كالسعي؛ يعني أن السعي بين الصفا والمروة وهو من الأركان يجب أن يوقع قبل الخروج إلى عرفة، فقوله: قبل عرفة؛ أي قبل الخروج إلى عرفة متعلق "بوجب"، فهو راجع للطواف والسعي، والضمير في قوله:"وجب"، للطواف، والمعين لكونه مرادا به طواف القدوم. قوله:"قبل عرفة"، قال الإمام الحطاب: واعلم أن طواف القدوم من أفعال الحج التي اختلفت عبارات أهل المذهب فيها، فمنهم من يعبر عنها بالوجوب، وبعضهم يعبر عنها بالسنة، والتحقيق فيها أنها واجبة وأن في إطلاق السنة عليها مسامحة، وفي التعبير بالوجوب إشارة إلى المغايرة بين طواف القدوم وطواف الإفاضة، فإن طواف الإفاضة ركن لا يجبر، وطواف القدوم واجب يجبر بالدم كما قال ابن عاشر:

الحج فرض مرة في العمر

أركانه إن تركت لم تجبر

الإحرام والسعي وقوف عرفه

ليلة الأضحى والطواف ردفه

والواجبات غير الأركان بدم

قد جبرت منها طواف من قدم

ووصله بالسعي مشي فيهما

وركعتا الطواف إن تحتما

نزول مزدلف في رجوعنا

مبيت ليلات ثلاث بمنى

إحرام ميقات فذو الحليفه

لطيب والشام ومصر الجحفه

قرن لنجد ذات عرق للعراق

يلملم اليمن آتيها وفاق

تجرد من المخيط تلبيه

والحلق مع رمي الجمار توفيه

وكون طواف القدوم يجب إيقاعه قبل عرفة هو المذهب، وكذا إيقاع السعي بعده، قال ابن عبد السلام: وهو محلهما اتفاقا، فمن تركه أو ترك تقديم السعي بعده وكان قد أحرم بالحج من الحل وليس بمراهق ولا حائض ولا ناس فعليه الدم على المشهور، وإن ترك ذلك ناسيا فلا دم عليه على المشهور. قاله المصنف في توضيحه ومناسكه. وقال عبد الباقي: وَإِنَّمَا يجب طواف القدوم في حق غير حائض ونُفَسَاءَ وَمَجْنُونٍ ومُغْمَى عليه وَنَاسٍ إلا أن يزول مانع كل ويتسع الزمن. وقوله: "كالسعي"، تشبيه تام؛ إذ طواف القدوم واجبٌ والسعي ركن، وأفاد المصنف بقوله:"ووجب"

ص: 467

الخ، وجوب طواف القدوم ووجوب قبليته أي كونه قبل عرفة، فالتشبيه إذا في وجوب القبلية لا في كيفية وجوب الطواف للقدوم؛ لأن السعي في نفسه ركن، وكونه قبل عرفة واجب إن أحرم من الحل؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بالحج من الحل مفردا أو قارنا فإنه يجب عليه طواف القدوم وتعجيل السعي بعده قبل الوقوف بعرفة سواء كان آفاقيا أو مكيا أو غيره من المقيمين إذا خرجوا للحل. ابن عبد السلام: ويؤمر بهما يعني طواف القدوم والسعي كل من أحرم بالحل وهو غير مراهق، سواء كان من أهل مكة أو غيرها، وقال ابن فرحون: طواف القدوم والسعي يجبان على القادم الآفاقي، وعلى المكي وغيره من المقيمين إذا خرجوا إلى الحل فأحرموا منه ثم دخلوا مكة. وعلم مما قررت أن قوله:"إن أحرم من الحل" شرط في الأمرين قبله؛ أعني وجوب الطواف قبل عردة ووجوب السعي قبلها، واحترز بقوله:"من الحل"، عن المكي وكل من منزلة بالحرم فإنهم يؤخرون الطواف والسعي إذا لم يخرجوا إلى الحل، فإن أحرموا من الحل قدمُوا طوافهم وسعيهم وصلوا إلى الميقات أم لا، وأما الآفاقي إذا تعدى للحرم ثم أحرم ولم يرجع فإنه يجب عليه الطواف للقدوم، وهذا وارد على المصنف، وأجاب الأجهوري بأن قوله:"إن أحرم من الحل" معناه: خوطب بالإحرام من الحل وجوبا، وأما المقيم بمكة وأراد أن يحرم بالحج ومعه نَفَسٌ فإنه إنما يخاطب بالإحرام من الحل ندبا. قاله الشبراخيتي. والله سبحانه أعلم.

ولم يراهق؛ يعني أن محل وجوب الطواف والسعي قبل عرفة على من أحرم من الحل إنما هو فيمن لم يضق عليه الوقت؛ بأن يخشى فوات زمن الوقوف بعرفة إذا اشتغل بطواف القدوم والسعي قبل الوقوف بعرفة، ويصح كسر الهاء من يراهق كما اقتصر عليه الشارح أي لم يقارب الوقت بحيث يخشى فوات الخروج لعرفة إن اشتغل بطواف القدوم، من قولهم: غلام مراهق، إذا قارب الحلم، ويصح فتح الهاء كما اقتصر عليه التتائي؛ أي لم يزاحمه الوقت.

وفي التوضيح: ومتى يكون الحاج مراهقا، قال أشهب: إن قدم يوم عرفة أحببت تأخير طوافه، وإن قدم يوم التروية أحببت تعجيله وله في التأخير سعة. ولم يردف بحرم؛ يعني أنه يشترط في وجوب الطواف والسعي قبل عرفة أن يكون الحج غير مردف على العمرة في الحرم بعد فراغها، كما لعبد الباقي؛ بأن يكون أحرم بالحج من الحل مفردا أوأردفه عليها في الحل، فهذا هو الحج

ص: 468

الذي يجب فيه الطواف والسعي قبل عرفة، وهذا الشرط يغني عنه قوله:"إن أحرم من الحل". قاله محمد بن الحسن. وهو ظاهر. وإلا، بأن اختل شرط من هذه الثلاثة بأن أحرم من الحرم أو روهق أو أردف في الحرم، سعى بين الصفا والمروة بعد فراغه من طواف الإفاضة؛ لأن ذلك موضعه ولا طواف قدوم عليه، ومثل ذلك الناسي والحائض والنفساء والمغمى عليه والمجنون حيث بقي عذرهم حتى حصل الوقوف، أو زال قبل الوقوف بحيث لا يمكنهم الإتيان بالطواف والسعي قبل الوقوف، وأما إن أمكنهم فإنهم يطوفون ويسعون قبل الوقوف. وقوله:"سعى بعد الإفاضة". بعده معطوف بالواو محذوف، ففيه حذف الواو مع ما عطفت كما قررت؛ أي ولا طواف قدوم عليه ولا دم في تركه لفقد ما اشترط لوجوبه، وإيضاح كلام المصنف أن تقول: من أحرم بالحرم أو أردف فيه أو روهق لا طواف قدوم عليه، فلذلك يؤخر السعي بين الصفا والمروة إلى أن يطوف للإفاضة، فيسعى بعده لأن السعي بين الصفا والمروة لا بد أن يكون بعد طواف واجب.

وقوله: "يراهق". ابن فرحون: المراهق هو الذي يضيق وقته عن إيقاع طواف القدوم والسعي وما لابد منه، ويخشى فوات الحج إن تشاغل بذلك، وقد مر قول التوضيح: متى يكون الحاج مراهقا الخ، وتحصل مما مر أن من أحرم بالحج من الحل مفردا وقارنا يجب عليه الطواف والسعي قبل عرفة إن لم يكن مراهقا، فإن ترك ذلك فعليه الدم، وإن كان مراهقا فلا دم عليه في ذلك لما علمت، وكذا حكم من أردف الحج على العمرة في الحل، ومن أحرم بالحج أو بالقران من الحل ومضى إلى عرفات ولم يدخل مكة وليس بمراهق، بمنزلة من ترك طواف القدوم، فيجب عليه الدم، ومن أحرم بالقران من مكة أو بالعمرة من مكة ثم أردف عليها حجة وصار قارنا، فإنه يلزمه الخروج للحل على المشهور، فإذا دخل من الحل لا يطوف ولا يسعى لأنه أحرم من مكة، ومر في حَلِّ قوله:"إن أحرم بالحل" أنه أحرم بالحج مفردا أو قارنا، وظاهر المصنف يشمل ما لو أحرم بالحج من الحل بعد أن تحلل من العمرة في أشهر الحج وهو حقيقة التمتع، فيجب عليه طواف القدوم والسعي قبل عرفة وهو صريح ما مر عن عبد الباقي عند قول المصنف:"ولم يردف بحرم". والله سبحانه أعلم.

ص: 469

وإلَّا، مركب من إن الشرطية ولا النافية وهو راجع للمحذوف بعد قوله:"سعى بعد الإفاضة"، أي ولا طواف قدوم عليه؛ أي وإن كان هذا الذي أمر بتأخير السعي وفعله بعد فراغه من طواف الإفاضة لم يفعل ما أمر به من تركه للطواف بل طاف، وإنما يكون طوافه تطوعا أو لنذر، فإنه يكون عليه الدم بشرط أن يقدم السعي بين الصفا والمروة إثر طوافه ذلك، ولهذا قال: فدم إن قدم، وإنما يكون عليه الدم إذا رجع لبلده، والحال أنه لم يعد السعي بعد طواف الإفاضة، فقوله:"يعد"، بضم أوله رباعيا، ومفعوله محذوف كما قررت، ومفهوم قوله:"ولم يعد"، أنه لوأعاد السعي بعد طواف الإفاضة فإنه لا دم عليه؛ لأنه مأمور بإعادة السعي بعده، فقد أتى بما هو مشروع له.

فتحصل من هذا أن هذا الذي طاف تطوعا أو لنذر طواف إنما يكون عليه الدم بشرطين: أَحَدُهُمَا أن يقدم السعي عقب ذلك الطواف، ثانيهما أن لا يعيد السعي بعد طواف الإفاضة، وقد علمت أنه مأمور بالإعادة كما صرح بد الحطاب. وقوله:"ولم يعد"، يحتمل أن الجملة حالية كما قاله عبد الباقي، ويحتمل أنه عطف على قوله:"إن قدم". والله أعلم.

وعلم مما قررت أن قوله: "إن قدم"، له فائدة، وقوله:"وإلا فدم" اعلم أن هذا الحكم لا يتناول المراهق، وإن كان ظاهر كلامه أنه يتناوله؛ لأن المراهق إذا قدم الطواف والسعي أجزأه، ولا يؤمر بإعادة السعي لأنه أتى بما هو الأصل في حقه؛ لأن التأخير في حقه رخصة، وقوله:"وإلا فدم"، علل وجوب الدم بتقديم السعي عن محله الذي هو بعد الإفاضة، وحينئذ فيجب الدم، ولو أوقع السعي بعد طواف واجب بالنذر كما مر في أول الحل، وجعل بعض الشراح وجوب الدم لوقوع السعي بعد طواف تطوع، وعليه فلو وقع بعد طواف واجب بالنذر لم يجب عليه دم، وهو مبني على أن الطواف المنذور يصير كطواف القدوم في وقوع السعي بعده، ولا يدخل تحت "وإلا" ما إذا قدم السعي من غير طواف بالكلية ولم يعده بعد الإفاضة؛ لأنه في هذه الحالة لا يُكتفَى بالدم، بل يجب عليه الرجوع من أي محل؛ إذ سعيه في هذه الحالة كلا سعي، لقوله الآتي:"وصحته بتقدم طواف" الخ.

وقد مر أن كلام المصنف لا يتناول المراهق المحرم من الحل ولم يردف بحرم. والله سبحانه أعلم.

ص: 470

ولما أنهى الكلام على الركنين الأولين من أركان الحج والعمرة وهما الإحرام والطواف، شرع يتكلم على الركن الثالث، فقال: ثم السعي؛ عطف على الإحرام من قوله: "وركنهما الإحرام"؛ يعني أن السعي ركن من أركان الحج والعمرة، وجعلت قوله:"ثم السعي"، عطفا على الإحرام تبعا للحطاب، وجعله عبد الباقي معطوفا على الطواف من قوله:"ثم الطواف لهما"، قال: ولم نجعله معطوفا على الإحرام، وإن كانت المعطوفات إذا تعددت إثما تكون على الأول على الصحيح لتخصيص بعضهم ذلك بمعطوف غير الفاء وثم. انتهى. سبعا، مفعول مطلق نصب بالمصدر قبله؛ يعني أن السعي بين الصفا والمروة سبع مرات ركن من أركان الحج والعمرة، وبيّن محل السعي بقوله: بين الصفا والمروة؛ يعني أن السعي الذي هو ركن إنما هو بين الصفا والمروة، والسعي هو آخر أركان العمرة، فأركانها الثلاثة التي هذا آخرها، وبقي للحج ركن رابع وهو الوقوف بعرفة، ذكره المصنف فيما يأتي.

قال المصنف في التوضيح: اعلم أن العمرة إحرام وطواف وسعي وحلق، والثلاثة الأول أركان والرابع ينجبر بالدم، وقوله:"الصفا والمروة"، الصفا هو الجبل المعروف وهو في الأصل جمع صفاة، وكان عليه صنم يسمى إسافا؛ اسم لرجل فجر بامرأة في الكعبة تسمى نائلة، وقيل قبلها فمسخا حجرين فعبدتهما قريش وجُعِلَا على الجبلين، والمروة في الأصل واحد المرو وهي حجارة صغار ليس فيها لينٌ، وقوله:"بين الصفا والمروة"، فلو سعى في غير هذا المحل بأن دار من سوق الليل ونزل من الصفا ودخل من المسجد لم يصح سعيه، وما ذكره المصنف من ركنية السعي هو المعروف من المذهب، لقوله عليه الصلاة والسلام: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي

(1)

)، وقوله: (خذوا عني مناسككم

(2)

)، فإن قلت قوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} إلى قوله عز وجل: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} يدل على عدم الوجوب؛ إذ لا يقال في الواجب لا جناح على من فعله؟ فالجواب أنا لا نسلم ذلك؛ لأنه إنما نفى الحرج عن الفعل، ونفي الحرج عن الفعل يدل على الجواز، وهُوَ لا ينافي الوُجُوبَ بَلْ هُوَ مِنْ لَوَازِمَه، ولو نفى الحرج عن الترك لدل على

(1)

المستدرك، ج 4 ص 73. مسند أحمد، ج 6 ص 422.

(2)

الإتحاف، ج 4 ص 437.

ص: 471

عدم الوجوب، وإنما قال:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} لأن المشركين كانوا في ذلك الزمان يضعون على الصفا صنما يسمى إسافا وعلى المروة صنما يسمى نائلة ويسعون بينهما، فلما جاء الإسلام شق السعي على الصحابة لشبه ذلك بالمشركين فنزلت الآية، وعلى المعروف من المذهب الذي مشى عليه المصنف مَن تَرَك السعي بين الصفا والمروة أو شوطا منه أو ذراعا من حج أو عمرة صحيحتين أو فاسدتين رجع له من بلده، وروي عن مالك أنه يهدي إذا تباعد وطال وأصاب النساء ويجزئه، فعلى هذه الرواية هو واجب ينجبر بالدم فهو غير ركن كما فهمه صاحب الطراز. منه لبدء، مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، والضمير المجرور بمن عائد على الصفا وهذا وما بعده بيان لصفة السعي؛ يعني أن السعي المذكور يبتدأ من الصفاء فيقف على الصفا ويذهب نحو المروة فيقف عليها.

واعلم أن الواجب بلوغهما من غير تحديد، والوقوف عليهما مندوب، ويصح أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال؛ أي حال كون السعي مبتدءا من الصفا، "والبدء" مبتدأ، وخبره: مرة. على أن "منه" حال، وعلى أن "منه"، خبر يكون قوله:"مرة"، منصوبا. قال بعضهم: إن نصبها هنا على الحال، وهو مخالف لما قاله ابن الحاجب: من أن مرة وجميع أخواتها من: طورا وفورا وذاتَ مرة، منصوبة على المفعولية المطلقة. نقله الخرشي. والله سبحانه أعلم. والوجهان في قوله: والعود أخرى، فيكون "أخرى" خبر "العود"؛ أو خبره محذوف تقديره منه، ومعنى كلام المصنف أنه يشترط في السعي أن يكون بين الصفا والمروة، وأن يكون مبتدءا من الصفا منتهيا إلى المروة، وأن يعود من المروة إلى الصفا، فلا يزال كذلك حتى يكمل سبعة أشواط، فلذلك يقف على الصفا أربع وقفات، ويقف على المروة أربع وقفات، وبين المصنف المراد بالبينية بقوله:"منه البدء مرة والعود أخرى"؛ لأن البينية تصدق على وسط الشيء وليس ذلك بمراد هنا، وقد علمت أن من شروطه البدء من الصفا، فإن بدأ من المروة لم يعتد بذلك الشوط الأول، فإن اعتد به فهو كمن ترك شوطا من سعيه. قاله غير واحد. وعبارة الشبراخيتي: فإن بدأ من المروة لم يحتسب به وأعاد، فإن لم يعد بطل سعيه. انتهى. فقوله:"منه البدء مرة والعود أخرى"، أفاد به حكمين أحدهما أن الابتداء من الصفات ثانيهما أن الابتداء المذكور شوط والعود شوط آخر.

ص: 472

وبما قررت علم أن معنى قوله: "العود"، من المروة إلى الصفا كما في الخرشي. والله سبحانه أعلم.

وعلم مما قررت أن الصعود على الجبلين المذكورين -أعني الصفا والمروة- غير واجب، بل مستحب كما قاله الشيخ إبراهيم، وعبارة الحطاب: والواجب فيه -يعني السعي بين الصفا والمروة- أن يبلغهما من غير تحديد، ومن شروط السعي موالاته في نفسه، ويغتفر التفريق اليسير كصلاته أثناءه على جنازة، أو بيعه أو شرائه شيئا، أو جلس مع أحد أو وقف معه يحدثه فيبني في ذلك، ولا ينبغي شيء من ذلك كما في المدونة، فإن كثر التفريق فلا يبني وابتدأ سعيه، فإن أقيمت عليه الصلاة وهو فيه لم يقطع بخلاف الطائف كما مر لأنه بالمسجد، وعدم قطعه فيه طعن على الإمام. نقله في التوضيح عن مالك في العتبية والموازية.

وأما الموالاة بينه وبين الطواف، ففي الحطاب ما يفيد بحسب ظاهره أن اتصاله بالطواف شرط، قال: إلا أن التفريق اليسير مغتفر، وفي شرح الرسالة: سنة، وفي الشبراخيتي: أنه سنة، قال: فإن فُصِلَ عنه فصلا فاحشا أو انتقض وضوءه أعاد الطواف والسعي والحلاق، فإن خرج من مكة أهدى وأجزأه، قال مالك فيمن طاف ليلا وأخر السعي ثم أصبح فكانا بطهر واحد: أجزأه، وإن كان قد نام أو انتقض وضوءه فبيس ما صنع، وليعد الطواف والسعي والحلق ثانية إن كان بمكة، وإن خرج من مكة أهدى وأجزأه.

والأصل في السعي خبر الصحيح (أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أنزل ابنه إسماعيل بمكة وهو رضيع عدمت أمه الماء وعطشا فجعلت تنظر إليه، فانطلقت كراهة أن تنظره فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، وهبطت من الصفا حتى بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة ونظرت فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات

(1)

). انتهى. قاله الخرشي وغيره. وسأل صاحب الذخيرة، هل الصفا أفضل أم المروة؛ وأجاب: بأن الصفا أفضل؛ لأن السعي منه أربع ومن المروة ثلاث، وما كانت العبادة فيه أكثر فهو أفضل. قاله الشبراخيتي.

(1)

البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، الحديث: 3364

ص: 473

(وصحته بتقدم طواف) يعني أن صحة السعي بين الصفا والمروة مشروطة بأن يتقدم السعي طواف أيُّ طواف كان واجبا كطواف القدوم للمفرد والقارن، أو ركنا كطواف الإفاضة والعمرة، أو تطوعا كطواف الوداع وطواف المحرم من الحرم والمردف فيه، فلو سعى من غير طواف لم يجزه ذلك السعي بلا خلاف. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: وشرط صحته أي شرط صحة السعي في الحج والعمرة كائنة بتقدم طواف واجب أو نفل، ثم إن كان واجبا كطواف القدوم صح السعي صحة تامة لا يحتاج معها لشيء، وإن كان نفلا أعاد الطواف ثم السعي إن كان بمكة، فإن تباعد فعليه دم. انتهى. وقال الحطاب مفسرا للمصنف: يعني أن شرط صحة السعي أن يتقدمه طواف، قال ابن عبد السلام: وذلك متفق عليه، وقال ابن عرفة: والمذهب شرط كونه بعد طواف. انتهى. فلو سعى من غير طواف لم يجزه ذلك السعي بلا خلاف. انتهى.

(ونوى فرضيته) الواو للاستئناف، قال الحطاب شارحا للمصنف: يعني أنه يجب في الطواف الذي يسعى بعده أن يكون فرضا. انتهى؛ يعني وينوي فرضيته أي وجوبه. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه. وقال الشبراخيتي: ونوى على وجه السنة فرضيته إن كان من الأطوفة المفروضة، ولا يريد أن غير الفرض ينوي به الفرض. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله:"ونوى فرضيته": غير شرط في صحة السعي، وإنما هو شرط لعدم إعادته وعدم ترتب دم عليه. انتهى. وإلا. قال عبد الباقي: وإلا بأن طاف قبله ولم ينو فرضا ولا تطوعا، وهو ممن يعتقد عدم لزوم الإتيان به ولا يتأتى ذلك إلا لبعض الجهلة في طواف القدوم، أو نوى به تطوعا كذلك، فاللازم له دم إن تباعد عن مكة، وإن لم يصل إلى بلده، وإن لم يتباعد عن مكة أعاده مع السعي. فقوله:"وإلا فدم"، فيه مسامحة؛ لأن ظاهره عدم الأمر بالإعادة ولو كان قريبا وليس كذلك قاله عبد الباقي قال والمراد بنية فرضيته نية وجوبه إذ لو كان فرضا حقيقة لما انجبر بدم إن تباعد، وأيضا الطواف الفرض الذي هو ركن إنما هو طواف الإفاضة بعد عرفة.

واعلم أنه متى نوى وجوبه أو سنيته -بمعنى أنه واجب ينجبر بالدم أو لم يستحضر عند فعله إحدى هاتين النيتين لكنه كان ممن يعتقد وجوبه أو سنيته بمعنى أنه واجب ينجبر -بالدم- فإنه يصح بعده السعي في هذه الصور الثلاث، ومتى نوى سنيته؛ -معنى أنه له تركُه وفعلُه أو

ص: 474

لم ينو شيئا وكان يعتقد ذلك- كان من الطواف النفل الذي لا بد في السعي الواقع بعده من دم حيث تباعد عن مكة أو رجع لبلده ولم يعده. هذا هو التحرير. قاله عبد الباقي.

وقد مر أن الطهارة ليست شرطا في صحة السعي وإنما تستحب، قال سند: ولو جلس ليستريح فنعس واحتلم فليذهب فيغتسل ويبني، فإن أتمه جنبا أجزأه، وكذلك لو حاضت المرأة بعد الركعتين فإنها تسعى، وقال التادلي: قال الباجي: من طاف فلا ينصرف إلى بيته حتى يسعى إلا من ضرورة يخاف فواتها أو يتعذر التصبر

(1)

لها ويرجو بالخروج ذهابها كالحقن والخوف على المنزل. انتهى. قاله الحطاب. وقال: قال مالك في كتاب محمد فيمن طاف ولم يخرج للسعي حتى طاف تنفلا أسبوعا أو أسبوعين: أحب إلي أن يعيد الطواف ثم يسعى، فإن لم يعد الطواف رجوت أن يكون في سعة، وقال فيمن طاف وركع ثم مرض فلم يستطع السعي حتى انتصف النهار: إنه يكره أن يفرق بين الطواف والسعي، وقال ابن القاسم: يبتدئ؛ وهو استحسان، فإن لم يفعل أجزأه. قاله الحطاب. بعد أن قال: لم يذكر المصنف من شروط النفل اتصاله بالطواف واتصاله في نفسه، وذلك شرط إلا أن التفريق اليسير مغتفر. انتهى.

وقد مر أنه يشترط في صحة السعي أن يكون بعد طواف أي طواف كان، قال ابن عبد السلام: وذلك متفق عليه؛ يعني كونه بعد طواف، واختلف هل يشترط مع ذلك أن يكون أحد الطوافين إما طواف القدوم وإما طواف الإفاضة؟ أو يكفي فيه أي طواف؟ انتهى. وقال ابن عرفة: والمذهب شرط كونه بعد طواف، وفي شرط وجوبه قولان لابن عبد الحكم ولها. انتهى. وقال في التوضيح: واختلف هل من شرطه أن يكون واجبا أو يكفي أي طواف، لقوله في المدونة: وإذا طاف حاج أول دخوله مكة لا ينوي به تطوعا ولا فريضة لم يجزه سعيه إلا بعد طواف الفريضة، فإن لم يتباعد رجع فطاف وسعى، وإن فرغ من حجه ثم رجع إلى بلده وتباعد وجامع النساء أجزأه ذلك وعليه دم، والدم في هذا خفيف. انتهى. قال الحطاب: فتخفيفه الدم يقتضي أن ذلك ليس بشوط. انتهى. قوله: وجامع، بالواو في رواية التهذيب، وذلك يقتضي أن ذلك مسألة واحدة، والذي في الأم عطفه بأو وهو الظاهر. قاله الحطاب.

(1)

في الأصل المصير والمثبت من المنتقى ج 3 ص 522 ط دار الكتب العلمية.

ص: 475

ولما قدم شروط الطواف وهي عامة في الواجب وغيره وفي الحج والعمرة، وأشار إلى عدم صحته حيث اختل شيء من أجزائه، شرع في بيان حكم ما وقع منه في طواف حج أو عمرة مبتدئا من ذلك بطواف العمرة، فقال: ورجع إن لم يصح طواف عمرة حرما، بكسر الحاء وضمها اسم مصدر؛ بمعنى محرما هنا وفي بعض النسخ محرما وهو حال من فاعل "رجع"؛ يعني أن المعتمر إذا طاف لعمرته طوافا غير صحيح كما لو كان على غير وضوء، أو ترك بعض الطواف عمدا أو نسيانا فإنة يرجع من أي موضع بلغ من الأرض لكة محرما لبقائه على إحرامه، فيطوف ويسعى لأنه كمن لم يطف، فقوله:"حرما": أي محرما كما مر قال عبد الباقي عند قوله: "حرسا": أي محرما متجردا من المخيط كما كان عند إحرامه؛ لأنه ليس معه إلا الإحرام، فيحرم عليه ما يحرم على المحرم، ويجب عليه ما يجب على المحرم في ارتكاب شيء، فإن كان قد أصاب النساء فسدت نيتها ثم يقضيها من الميقات الذي أحرم منه، ويهدي وعليه لكل صيد أصابه الجزاء. قاله في المدونة. وعليه فدية للبسه وطيبه وهي مما تتحد أو تتعدد على ما يأتي في قوله:"واتحدت إن ظن الإباحة"، فإذا وصل إلى مكة طاف وسعى وحلق أو قصر، وظاهره أنه لا فرق بين وقوع ذلك منه في هذه المسألة عمدا أو سهوا، وأنه لا يقضي النسك في العمد. انتهى. ونحوه للشبراخيتي، وفيه: وإن كان قد أصاب النساء فسدت عمرته فيتمها ثم يقضيها من الميقات الذي أحرم منه، ويهدي وعليه لكل صيد أصابه الجزاء. قاله في المدونة. وقوله:"ورجع"، قال الخرشي والفيشي: أي إلا أن يتطوع بعده بطواف كما في ما بعدها، وما قالاه غير صواب كما يأتي، وظاهره أنه لا فرق بين من وقع منه ما ذكر عمدا أو سهوا، وكذا يقال فيما بعدها. وقوله:"إن لم يصح"، يصدق بمن لم يطف، عملا بقول المناطقة السالبة تصدق بنفي الموضوع، وبمن طافه كله، وبمن ترك منه شوطا. انتهى. وقال الحطاب: يعني أن المحرم بالعمرة إذا لم يصح طواف عمرته لفقد شرط من شروطه فإنه يرجع من بلده محرما متجردا من المخيط كما كان عند الإحرام؛ لأنه كمن لم يطف: فإذا وصل إلى مكة طاف بالبيت وسعى، وإن كان قد أصاب النساء فعليه أن يعيد العمرة ويهدي. قاله في الموازية. ونقله ابن يونس. قلت: ويقضيها من الميقات الذي أحرم منه أولا، قال في المدونة: وعليه لكل صيد أصابه الجزاء، قال ابن يونس: وإن تطيب فعليه الفدية.

ص: 476

وافتدى لحلقه؛ يعني أن هذا المعتمر الذي لم يصح طواف عمرته يرجع إلى مكة محرما -كما عرفت- وإن كان قد حلق رأسه أولا فعليه الفدية، ويعيد حلق رأسه لأنه لم يصادف محلا، وإن لم يكن حلق لم يلزمه شيء.

تنبيه: اعلم أن السعي بين الصفا والمروة لا يتطوع به في غير حج وعمرة، وإنما يفعل في الحج والعمرة خلافا لما يقتضيه كلام عبد الباقي، ورد عليه بناني بما نقله الحطاب عن ابن يونس أن السعي لا يتطوع به وإنما يفعل في حج أو عمرة، قال: ونقل الحطاب أيضا عن اللخمي في باب النذر ما نصه: وناذر السعي يختلف فيه قيل

(1)

يسقط نذره أو يأتي بعمرة؛ لأن السعي ليس بقربة بانفراده فيصح نذره بحسب الإمكان. انتهى.

وإن أحرم بعد سعيه بحج فقارن؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بعمرة فطاف، والحال أن طوافه لم يصح فأحرم بحج بعد أن سعى، فإنه يكون قارنا لا مفردا ولا متمتعا؛ لأن طوافه الذي لم يصح كالعدم وسعيه عقبه كذلك لفوات شرطه وهو صحة الطواف، فلم يبق معه غير إحرامها والإرداف عليه صحيح، ومفهوم "بعد سعيه" أحروي، ومفهوم قوله:"بحج"، أنه لو أحرم بعمرة لكان تحلله من الثانية تحللا من الأولى، وقوله:"وإن أحرم" الخ إنما كان قارنا لأنه لما فسد طوافه وسعيه صارا كالعدم، وصار هو بمنزلة من أردف الحج على العمرة قبل طوافها وسعيها، فلا يخالف ما مر من أنه يصح الإحرام بعد السعي ويكون متمتعا.

وقد مر أنه لا يكون متمتعا إلا إذا وقع بعض ركنها في وقت الحج.

تنبيه: إن نسي ركعتي الطواف وسعى ثم ذكرهما بعد أن أحرم بالحج بالقرب بحيث يؤمر بإعادة الطواف إن لم يحرم بالحج، فهل يكون قارنا أولا؟ في ذلك قولان؛ أحدهما أنه قارن لأن من ذكر الركعتين بمكة أو قريبا منها يؤمر بإعادة الطواف والسعي. أبو محمد: وإن كان قد لبس وتطيب فإنه يفتدي، وإن وطئ فإنه يعيد الطواف والسعي ثم يأتي بعمرة، وإن لم يذكر حتى رجع إلى بلده فإنه يركعهم

(2)

ثم يبعث بهدي. القَوْلُ الثَّانِي: لا يكون قارنا، وأن إحرامه بالحج يقوم مقام الطول واختاره

(1)

في الحطاب ج 4 ص 138 ط دار الرضوان: هل يسقط.

(2)

في الأصل: يركعما، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 492. ط. دار الرضوان.

ص: 477

عبد الحق، وقال: في الأول نظر؛ لأنه إذا عقد الحج كان ممنوعا من إعادة الطواف والسعي، فكان ذلك كالطول، والقول الذي اختاره عبد الحق، قال ابن يونس: إنه الصواب قاله الحطاب.

كطواف القدوم إن سَعَى بعده واقتصر. قال عبد الباقي وغيره: تشبيه في الرجوع، لكن الرجوع هنا في الحقيقة ليس لطواف القدوم بل للسعي؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بالحج وطاف للقدوم وفسد طوافه ذلك لفقد شرط من شروطه، وسعى ووقف بعرفة وطاف طواف الإفاضة، فإنه يرجع للسعي والطواف؛ بأن يطوف ثم يسعى سبعا بين الصفا والمروة، هذا إن اقتصر على سعيه الذي أوقعه بعد طواف القدوم الفاسد، وأما لو لم يقتصر عليه بأن سعى بعد طواف الإفاضة فلا شيء عليه، ولا يلزمه دم لترك طواف القدوم؛ لأنه لم يتعمد تركه، وهذا ظاهر إن علم فساد طواف القدوم فأعاد السعي بعد طواف الإفاضة، وأما إن أعاده مع اعتقاد صحة طواف القدوم والسعي بعده، فإنما يجزئه إن رجع إلى بلده أو تطاول وعليه دم، وأما إن ذكره قبل أن يرجع فإنه يعيده لأنه لم ينو بسعيه الركن. قاله محمد بن الحسن. ونقله الحطاب عن ابن يونس، قال: وقال قال بعض أصحابنا: لا يجزئه؛ يعني ولو رجع لبلده؛ لأن السعي لا يكون إلا في حج أو عمرة.

وقوله: "كطواف القدوم" الخ، قال سند: يطوف أولا ثم يسعى فيتم تحلله من الحج، قال بعض: وينوي بطوافه الذي يأتي به طواف الإفاضة؛ لأن طواف القدوم فات محله بالوقوف بعرفة، ولزمه إعادة السعي بعد طواف الإفاضة، فلما لم يعده بعد طوافها بطل طوافها. أبو إسحاق التونسي: وصار كمن فرق بين طواف الإفاضة والسعي، فيعيد طواف الإفاضة ويسعى بعده، وقد مر أنه إذا لم يقتصر على السعي الأول وسعى بعد طواف الإفاضة يجزئه ذلك ولا شيء عليه، وكذا لو أعاد السعي بعد طواف تطوع على ما مر في قوله:"ونوى فرضيته"، وقوله:"كطواف القدوم" الخ، انظر إذا أحرم هذا الذي لم يصح طواف قدومه بعد فراغه من الحج على ما في ظنه بعمرة وطاف لها وسعى وكمل عمرته، فأما العمرة فلا كلام في عدم انعقادها لبقاء ركن من الحج وهو السعي، وهل يجزئه طوافه وسعيه للعمرة عن سعيه للحج؟ الظاهر أنه إذا كان بمكة أعاد الطواف والسعي لحجه ليأتي لذلك بنية تخصه، وإن رجع إلى بلده فالظاهر أنه يجزئه. قاله الحطاب. قال: ولا يأتي فيه الخلاف الذي ذكره ابن يونس عن بعض أصحابه؛ لأن مفهوم

ص: 478

تعليله في المسألة الأولى أن السعي لا يتطوع به، وإنما يفعل في حج أو عمرة، وفي مسألتنا قد أتى به في العمرة التي كان يعتقد أنه يجب عليه أن يسعى لها. فتأمله. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب. وذكر المصنف ما يفعل فيما إذا فسد طواف العمرة وطواف القدوم، وأشار إلى ما إذا فسد طواف الإفاضة، بقوله: والإفاضة؛ فهو عطف على مدخول الكاف؛ أعني قوله: "كطواف القدوم"؛ يعني أن الشخص إذا طاف طواف الإفاضة ولم يصح طوافه ذلك، لكونه على غير وضوء أو نسي بعضه مثلا، فإنه يرجع له من أي مكان كان فيه فيطوف، وهذا إذا لم يتطوع بعد طوافه الفاسد بطواف تطوع، وأما إن تطوع بعده بطواف فإنه يجزئه ولا يرجع له؛ لأن تطوعات الحج تجزئ عن واجب جنسها، وإلى هذا أشار بقوله: إلا أن يتطوع بعده؛ أي فإن تطوع بطواف صحيح بعد طوافه للإفاضة الفاسد أجزأه، قال: فيها ومن طاف للإفاضة على غير وضوء رجع لذلك من بلده فيطوف للإفاضة، إلا أن يكون قد طاف بعد ذلك تطوعا فيجزئه عن طواف الإفاضة. ابن يونس: يريد ولا دم عليه، وكذا لا دم عليه في المسألة التي قبل هذه وهي قوله:"كطواف القدوم إن سعى بعده واقتصر"، وإلى كونه لا دم عليه أشار بقوله: ولا دم؛ يعني أنه إذا تطوع بطواف صحيح بعد طوافه للإفاضة الفاسد فإن ذلك يجزئه ولا دم عليه لما ترك من النية؛ لأن أركان الحج لا تحتاج لنية وكذا بقية أفعاله؛ لأن الإحرام ينسحب عليها كما ينسحب إحرام الصلاة على أفعالها.

واعلم أن قوله: "ولا دم" راجع للمسألتين كما قررت؛ أي لقوله: "والإفاضة"، ولقوله:"كطواف القدوم"، فلا دم فيهما، وكذا لا دم في الأولى إن تطوع بطواف وسعى بعده، ولا يقال قوله:"ورجع إن لم يصح طواف عمرة حرما"، إنما هو فيما إذا لم يتطوع بعده بطواف وإلا فلا يرجع، وحينئذ فلا مانع من رجوع الاستثناء -أعني قوله:"إلا أن يتطوع بعده"- للمسائل الثلاث. والله سبحانه أعلم. كما قاله الفيشي والخرشي، فإن ذلك غير صواب لأنه إن أجزأه طواف التطوع عن طواف العمرة بقي عليه الرجوع للسعي لوقوعه بعد طواف فاسد، ولا يقال: يحمل على ما إذا سعى أيضا بعد طواف التطوع لما تقدم أنه لا يتطوع بالسعي. قاله بناني. وقوله: "إلا أن يتطوع بعده"، ظاهره تطوع ناسيا للإفاضة أو ذاكرا لها، وحمل بعضهم المشهور على أن ذلك

ص: 479

كان نسيانا بخلاف العمد، قال الحطاب: الظاهر حمله على النسيان لقول الجزولي: لا خلاف فيما إذا طاف للوداع وهو ذاكر للإفاضة أنه لا يجزئه، وظاهر كلام المصنف أيضا إجزاء التطوع عن الفرض، سواء رجع إلى بلده أم لا. قاله غير واحد. وقال محمد بن الحسن: فيه نظر، بل ظاهر المصنف هو التقييد بما إذا رجع لبلده. وفي الحطاب: لا إشكال أن المسألة إنما هي مفروضة فيمن رجع إلى بلده، وأما إذا كان بمكة فلا شك أنه مطلوب بالإعادة، تطوع بعده أم لا كما في كلام ابن يونس وصاحب النكت. انتهى.

وظاهر المصنف أن إجزاء التطوع عن غيره خاص بالحج، وفي التوضيح: هل يجزئ طواف القدوم عن طواف الإفاضة؟ ظاهر المذهب عدم الإجزاء، وهو مذهب ابن القاسم وغيره، وصورة ذلك أن ينوي بطواف القدوم طواف الإفاضة.

وعلم مما مر أن الطواف المتطوع به لا يجزئ عن السعي لكونه من غير جنسه، واعلم أن حكم من نسي الطواف بالكلية حكم من لم يصح طوافه، قال سند: إذا نسي طواف الإفاضة حتى طاف للوداع أو غيره وخرج، فقال مالك والشافعي والجمهور: يجزئه ذلك، وقال ابن حنبل: لا يجزئه، ووجه الجمهور أن أركان الحج لا تحتاج إلى تعيين نية؛ لأن نيته مشتملة على جميع أفعاله، فلا يصح فعل غير الحج في زمن الحج، فإذا صح الطواف في نفسه وجب أن يحكم بأنه طواف الإفاضة، واستحب ابن القاسم فيه الدم، كمن طاف عند قدومه من غير نية وسعى ولم يعد سعيه حتى رجع لبلده. قاله الحطاب. والله سبحانه أعلم.

حِلًّا؛ هذا حال ممن لم يصح طواف قدومه أو طواف إفاضته، فهو حال من فاعل "رجع" المقدر بعد الكاف، فهو راجع للمسألتين؛ يعني أن الشخص إذا سعى بعد طواف القدوم وكان طوافه غير صحيح ولم يعد السعي بعد طواف الإفاضة حتى رجع إلى بلده، أو طاف للإفاضة وكان طوافه غير صحيح ولم يتطوع بعد ذلك بطواف، فإن كل واحد منهما يرجع من بلده حلالا من ممنوعات الإحرام؛ لأن كلا منهما حصل له التحلل الأصغر برمي العقبة، وإذا رجع كل منهما في هاتين الصورتين فإنه يكمل ما بقي عليه بإحرامه الأول، ولا يجدد إحراما لأنه باق على إحرامه الأول فيما بقي عليه، ولا يلبي في طريقه لأن التلبية قد انقضت، فالذي لم يصح طواف قدومه

ص: 480

يعيد طواف الإفاضة ثم يسعى بعده، والذي لم يصح طواف إفاضته يطوف للإفاضة فقط، ولا يحلق واحد منهما لأنه قد حلق بمنى.

إلا من نساء؛ يعني أن كلا منهما يرجع حلالا من كل شيء إلا من النساء فإنه يجب عليه تجنبهن، وصيد؛ يعني أنه كما يحرم على كل منهما أن يَقْرَبَ النساء، يحرم عليه أيضا أن يتعرض للصيد، فكل منهما محرم بالنسبة للنساء والصيد من جملة من يشمله قوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، وذلك أن كلا من النساء والصيد إنما يحل بالتحلل الأكبر وهو طواف الإفاضة. وكره الطيب؛ يعني أنه يكره لكل منهما أن يتطيب لأنهما حصل لهما التحلل الأصغر وهو رمي جمرة العقبة، والتحلل به لا يخرج عن الإحرام بالكلية، وبه يعلم رد قول من قال: إذا رجع حلا فكيف يسوغ له دخول مكة بلا إحرام؟ وظاهر قوله: "ورجع"، إلى هنا أنه لا فرق في المسائل الثلاث بين أن يقع ما ذكر منه عمدا أو سهوا، وأنه لا قضاء نسك عليه في العمد. واعتمر؛ يعني أنه إذا تبين أن طواف القدوم أو الإفاضة فاسد فإنه يرجع حلا ويكمل على ما مر، فإذا كمل اعتمر أي خرج إلى الحل ليأتي بعمرة مطلقا حصل منه وطء أم لا، وهو ظاهر كلام ابن الحاجب، وزاد: ويهدي. والأكثر إن وطئ؛ يعني أن الأكثر من العلماء قال: لا عمرة على هذا الذي رجع وكمل لفساد طواف قدومه أو الإفاضة إلا إذا وطئ فيكمل ثم يحرم بعمرة ليأتي بطواف صحيح لا وطء قبله، ويهدي ولا يحرم بها قبل كمال أطوافه، وأما إن لم يطأ فلا عمرة، وهذا الذي قررت به قول المصنف:"واعتمر والأكثر إن وطئ"، تقرير له بحسب ظاهره، فظاهره أن الأقل قائل بالعمرة مطلقا، وأن الأكثر يفصل بين ما إذا وطئ فعليه العمرة، وبين ما إذا لم يطأ فلا عمرة عليه وليس الأمر كذلك، وإنما الخلاف فيما إذا وطئ، فالأكثر يقولون لا عمرة عليه، والأقل يقولون عليه العمرة إن وطئ لا إن لم يطأ، وليس هناك من يقول: يأتي بعمرة إن لم يطأ، فلو قال: واعتمر إن وطئ لوافق المذهب؛ لأن إثبات العمرة مع الوطء مذهب المدونة، فقد قال أبو الحسن في قول المدونة: والعمرة مع الهدي تجزئ عن ذلك كله، وجل الناس يقولون لا عمرة عليه، المراد بجل الناس: سعيد بن المسيب، والقاسم بن

ص: 481

محمد، وعطاء ولا حاجة لذكرهم لأنهم خارج المذهب، بل في ذكرهم إيهام أنهم من أهل المذهب. انتهى. قاله محمد بن الحسن.

وبقي على المصنف الهدي إذا أصاب النساء؛ لأن من وطئ قبل التحلل الثاني يجب عليه الهدي مع العمرة كما يأتي في فصل الممنوعات، فإن أخر ذلك إلى المحرم، فالأقيس قول أشهب: عليه هديان، وقال ابن القاسم: هدي واحد. نقله محمد بن الحسن. وقال الحطاب: هذا الخلاف الذي ذكره المصنف في العمرة لم يذكره في المدونة إلا فيمن أصاب النساء، قال في كتاب الحج الأول: والمفرد بالحج إذا طاف الطواف الواجب أول ما يدخل مكة، وسعى بين الصفا والمروة على غير وضوء، ثم خرج إلى عرفات فوقف الواقف، ثم رجع إلى مكة يوم النحر فطاف طواف الإفاضة على وضوء، ولم يسع حتى رجع إلى بلده فأصاب النساء والصيد والطيب ولبس الثياب يرجع لابسا للثياب حلالا إلا من النساء والصيد والطيب حتى يطوف ويسعى ثم يعتمر ويهدي، وليس عليه أن يحلق إذا رجع بعد فراغه من السعي؛ لأنه قد حلق بمنى إلى آخر ما مر، ثم قال: قال أبو الحسن في شرح قوله: وجل الناس يقولون لا عمرة عليه هو سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعطاء، وقيل: يطوف ويتم حجه ويقضي قابلا وهو قول ابن عمر وابن شهاب. انتهى.

ثم قال: والخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف فيمن وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل الطواف والسعي، فالمشهور من مذهب مالك أن عليه العمرة، قال في الطراز في باب جمرة العقبة: وهو مروي في الموازية عن ابن عباس وربيعة، قال: وروى ابن الجهم عن أبي مصعب عن قالك أن حجه يفسد، قال القاضي أبو محمد: وهو أقيس وهو مروي في الموازية عن ابن عمر والحسن وابن شهاب، وقال أبو حنيفة: إنما عليه الهدي وهو في الموازية عن ابن المسيب والقاسم وسالم وعطاء، وعن ابن عباس أيضا. انتهى. وقوله في المدونة: والمفرد بالحج لا مفهوم، وحكم القارن كذلك وهو ظاهر. والله أعلم. قاله الحطاب. وقوله:"ولا دم"، محل كونه لا دم عليه حيث تطوع بطواف بعده، وإلا فالدم كما مر التنبيه عليه.

ولما أنهى الكلام على الأركان الثلاثة المشترك فيها الحج والعمرة، شرع في الركن الرابع المنفرد به الحج، فقال: ويصح حضور جزء عرفة؛ حضور جزء عرفة؛ يعني أن الركن المختص به الحج عن العمرة هو أن

ص: 482

يحضر الحاج جزءا من جبال عرفة، والمراد بحضوره مطلق الطمأنينة، والكون بها سواء كان واقفا أو جالسا أو مضطجعا، وكيف ما تصور ذلك أجزأ، فلذلك عبر المصنف بالحضور، وإنما كثر استعمالهم الوقوف لأنه الأفضل في حق أكثر الناس، ولما لم يكن لموضع من عرفة فضل إذا وقف مع الناس -كما قال إمامنا مالك- عبر المصنف بما يشمل جميعها، فقال:"جزء عرفة"، وإضافة الحضور للجزء على معنى: في. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: بمعنى اللام، فالمراد بالحضور الكون في جزء أي جزء من عرفة، لخبر: (عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرفة

(1)

)، والأفضل (محل وقوفه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح

(2)

)؛ وهو عند الصخرات الكبار المفروشة في أسفل جبل الرحمة؛ وهو وسط عرفة، قال الشبراخيتي: لولا جعل الإضافة على معنى في لَوَرَدَ على المصنف إشكال وهو أن الحضور ضد الغيبة فمعناه المشاهدة، وهذا لا يصح شموله لما إذا كان واقفا في الهواء غير ملاصق للأرض أو ما اتصل بها أو شاهد عرفة وهو في الحرم وذلك لا يجزئ، وفي الشبراخيتي قال حجة الإسلام: يقال إن الله تعالى إذا غفر ذنبا لعبد في الموقف، غفر ذلك الذنب لكل من أصابه في ذلك الموقف وأخرج زروق في تجريد الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأيام يوم عرفة، فإن وافق يوم الجمعة فهو أفضل من سبعين في غير يوم الجمعة

(3)

)، وفي قوت القلوب لأبي طالب عن بعض السلف: إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل الموقف، ويوم الجمعة أفضل أيام الدنيا. (وصح أنه صلى الله عليه وسلم وقف به عام حجة الوداع

(4)

).

فالحاصل أن لوقفة الجمعة مزية على غيرها بخمسة أوجه: من تفضيل الحج فيه بسبعين حجة في غيره، والمغفرة فيه لكل أهل الموقف خصوصا، ولأنه أفضل أيام الأسبوع، وللساعة التي فيه وموافقة حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال ابن جماعة: ومن حيث سقوط الفرض لا مزية.

وسميت عرفة لأن آدم عرف حواء بها، فإن الله سبحانه أهبط آدم بالهند وحواء بجُدة فتعارفا في الموقف، أو لأن جبريل عليه السلام عرَّف إبراهيم المناسك بها، أو لأن الناس يعترفون فيها

(1)

مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث:1218.

(2)

مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث:1218.

(3)

الإتحاف، ج 4 ص 274.

(4)

البخاري، كتاب الأيمان، الحديث:45. مسلم، كتاب التفسير، الحديث: 3017.

ص: 483

بذنوبهم ويسألون غفرانها. ساعةً ليلةَ النحر؛ الظرف الأول يتعلق "بحضور"؛ يعني أن الحضور بجزء من عرفة إنما يقع ركنا إذا وقع ساعة ليلة النحر، والمراد بالساعة الساعة الزمانية أي لحظة من الزمان، ولفظ "ساعة"، منصوب على الظرفية، وإضافته لليلة النحر على معنى اللام، ويصح أن يكون لفظ ساعة منونا كما قاله الشبراخيتي، وساعة ليلة النحر التي هي لحظة تدخل وقت الغروب، فالوقوف بساعة بعد الغروب ركن لا ينجبر بالدم، وأما الوقوف نهارا فواجب ينجبر بالدم بتركه عمدا لغير عذر، لا لعذر كمراهق، ويدخل وقته من الزوال، ويكفي أي جزء منه، ويأتي فيه ما بالغ عليه من الركن بقوله: ولو مر؛ يعني أن الوقوف بعرفة بمعنى الكينونة في جزء منها يجزئ على وجه الركنية إذا وقع بعد الغروب، ولا فرق في ذلك بين من اطمأن فيها وبين من مر بها من غير طمأنينة، وظاهر المصنف أن المقابل يقول بعدم إجزاء المرور مطلقا، ونحوه قول ابن الحاجب ففي المار قولان، واعترضه في التوضيح بقوله: لم أر قولا بعدم الإجزاء مطلقا، ولذلك جعل سند محل الخلاف إذا لم يعرفها، فقال: من مر بعرفة وعرفها أجزأه، وإن لم يعرفها فقال محمد. لا يجزئه، والأشهر الإجزاء.

الحطاب: لم يصرح سند بأنه الأشهر وإنما قال بعد أن حكى عن مالك الإجزاء: وهو بين، ونقل ابن عرفة في الجاهل بها روايتين، وفي العارف بها أربعة أقوال: الإجزاءُ مطلقا، والإجزاءُ إن نوى به الوقوف: ثالِثُهَا وَذَكَرَ الله تعالى فإن نوى ولم يذكر لم يجزه، وَرَابعُهَا الوقف. والدليل على أن الركن وقوف جزء من الليل، قوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة فمن أدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج

(1)

)، وقوله: (من أفاض من عرفات قبل الصبح فقد تم حجه

(2)

)، وقوله: (من وقف بعرفة بليل فقد أدرك ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج

(3)

). وقد علمت أن المراد بعرفة الكون بها والاستقرار على أي حالة ما عدا المرور فإنه هو المختلف فيه.

(1)

الترمذي، كتاب الحج، الحديث:889. أبو داود، كتاب المناسك، الحديث: 1949. النسائي، كتاب مناسك الحج، الحديث:3047. ولفظه: الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد أدرك حجه. . الخ. ابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث:3015.

(2)

البيهقي، ج 5 ص 174.

(3)

مصنف ابن أبي شيبة، ج 4 ص 307.

ص: 484

تنبيهات: الأول: كون الركن هو ساعة من الليل هو مذهبنا، وهو خلاف ما عليه الجمهور، قال ابن عبد السلام: والحاصل أن زمن الوقوف موسع وآخره طلوع الفجر، واختلفوا في مبدئه فالجمهور أن مبدأه من صلاة الظهر، ومالك يقول: من الغروب، ووافق الجمهور اللخمي وابن العربي، ومال إليه ابن عبد البر.

الثاني: قال ابن القاسم في المدونة: من دفع حين غربت الشمس قبل دفع الإمام أجزأه الوقوف؛ لأنه إنما دفع وقد حل الدفع، وإن دفع بدفع الإمام كانت السنة وكان ذلك أفضل.

الثالث فهم من المصنف أنه إذا دفع قبل الغروب فلم يخرج من عرفة حتى غابت الشمس أجزأه، وعليه هدي.

إن نواه؛ شرط في قوله: "أو مر"، لا فيما قبل المبالغة؛ يعني أن المرور في عرفة إنما يجزئ إذا نوى المار به الوقوف وعرف أن الذي مر فيه عرفة، وإنما اشترطت نية الوقوف في المار دون غيره لأن فعل المار لا يشبه فعل الحاج، بخلاف الواقف مطمئنا فإنه يشبهه، فلم يحتج لنية لاندراجه في نية الإحرام كالطواف والسعي، ثم على المار الناوي دم. القرطبي: جعل الله تعالى لكل يوم ليلة قبله إلا يوم النحر لم يجعل ليلة قبله ولا بعده؛ لأن يوم عرفة له ليلتان، ليلة قبله وليلة بعده، فمن أدرك الوقف ليلة بعد يوم عرفة فقد أدرك الحج لطلوع فجر يوم النحر. انتهى. قاله الشبراخيتي.

وفي الحطاب بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أن الوقوف على جبال عرفة مكروه، ومثله البعد عن محل وقوف الناس، والمستحب أن يقف بمحل وقوف الناس، والقرب من الهضاب حيث يقف الإمام أفضل. ابن بشير: ولو دفع من عرفة قبل الغروب مغلوبا، فهل يجزئه أو لا؟ قولان نفي الإجزاء أصل المذهب، وثبوته مراعاة للخلاف، والقول بالإجزاء ليحيى بن عمر: يجزئهم ولا دم عليهم، ومن دفع من عرفة فليحذر أن يؤذي أحدا.

وقد مر أن من دفع قبل الغروب ولم يخرج من عرفة حتى غابت الشمس أن ذلك يجزئه وعليه [هدي

(1)

] وإنما وجب عليه الدم لأنه كان بنية الانصراف قبل الغروب، وعلى هذا فمن دفع

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 501، ط دار الرضوان.

ص: 485

قبل الغروب من المحل الذي يقف فيه الناس لأجل الزحمة ونيته أن يتقدم لسعة ويقف حتى تغرب الشمس فلا يضره ذلك. والله أعلم. قاله الحطاب.

أو بإغماء قبل الزوال؛ يعني أن حصول الإغماء بعد الإحرام لا يضر، فلذلك من أغمي عليه قبل الزوال وكان أحرم قبل ذلك بالحج فوقف به أصحابه جزءا من الليل ولم يفق حتى انقضى الليل فإن ذلك يجزئه؛ لأن الإغماء لا يبطل الإحرام، وأولى إن أغمي عليه بعد الزوال حتى انقضى الليل ولا دم عليه، وقد دخلت نية الوقوف في نية الإحرام، بخلاف المغمى عليه في الصوم قبل الفجر حتى طلع فمبطل صومه لاحتياجه إلى نية. وقوله:"أو بإغماء" في حيز المبالغة فهو متعلق بمقدر عطف على مَرَّ من قوله: "ولو مر"؛ أي أو كان الوقوف متلبسا بإغماء قبل الزوال، وقوله:"أو بإغماء" الخ، مثل الإغماء الجنون والنوم والسكر الحلال لا الحرام، فلا يجزئه وقوفه كالجاهل، بل أولى. انظر الحطاب. قوله والنوم؛ أي قبل الليل، وقوله:"أو بإغماء"، هو المشهور -وقد علمت أنه في حيز المبالغة- ومقابله قولان: أحدهما أنه إن أغمي عليه قبل الزوال لم يجزه، وإن أغمي عليه بعد الزوال أجزأه ذلك، وليس عليه أن يقف ثانية إن أفاق في بقية ليلته وهو لمطرف وابن الماجشون. ثانيهما إن حصل الإغماء بعد أن أخذ في الوقوف بعد الزوال أجزأه، وأما إن وقف به مغمى عليه فلا يجزئه ولو كان ذلك بعد الزوال.

أو أخطأ الجم بعاشر؛ هو أيضا في حيز المبالغة؛ يعني أنه إذا أخطأ جماعة أهل الموسم وهو مراده بالجم فوقفوا بعرفة في اليوم العاشر، فإن وقوفهم ذلك يجزئهم، واحترز بقوله: فقط عما إذا أخطأ بعضهم، ولو أكثرهم فوقفوا باليوم العاشر ظنا أنه التاسع مخالفا لظن غيره، وعما إذا أخطأ الجم فوقفوا بالثامن ظانين أنه التاسع ولم يعلموا أنهم أخطئوا حتى فات وقت الوقوف، فإنه لا يجزئهم، وهذا هو المعروف في المذهب، وقيل بالإجزاء فيما إذا أخطأ الجم بالثامن، وقيل بعدم الإجزاء فيما إذا أخطأ الجم بعاشر. فتلك ثلاثة أقوال. التفصيل الذي مشى عليه المصنف وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، وقيل بعدم الإجزاء مطلقا فيما إذا أخطأ الجم أخطأوا بعاشر أو ثامن، وقيل بالإجزاء فيما إذا أخطأ الجم أخطأوا بعاشر أو ثامن.

ص: 486

وقد علمت أن التفصيل مذهب أكثر أهل العلم، وهو قول مالك والليث والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، والفرق للجمهور أن الذين وقفوا يوم النحر فعلوا ما تعبدهم الله تعالى به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من إكمال العدة دون اجتهاد، بخلاف الذين وقفوا في الثامن فإن ذلك اجتهادهم وقبولهم شهادة من لا يوثق به.

واعلم أن الخلاف في إجزاء الوقوف في الثامن إنما هو إذا لم يعلموا بذلك حتى فات الوقوف، وقوله:"أو أخطأ الجم بعاشر"، ظاهره الإجزاء، سواء تبين لهم الخطأ قبل وقوفهم ويؤمرون به كما قال ابن محرز، أو بعده وهو كذلك على الراجح، خلافا لقول سند: محل الإجزاء إن تبين لهم الخطأ بعد الوقوف، فإن تبين لهم أنه اليوم العاشر قبل الوقوف لم يجز لهم الوقوف حينئذ ولم يجزئهم. قاله عبد الباقي. ومثله في الحطاب قائلا: ما قاله سند غير ظاهر، لما نص عليه مالك في العتبية من أنهم يمضون على عملهم سواء ثبت عندهم أنه العاشر في بقية يومهم أو بعده، وقبله ابن رشد وغيره. انتهى. ونحوه في الجواهر؛ قال الرماصي: وإذا تأملت كلام سند وجدته غير مخالف لما في العتبية والجواهر؛ لأن كلامهما فيمن وقف ثم تبين له في بقية يومه أو بعده أنه العاشر، وكلام سند فيمن لم يذهب للوقوف حتى تبين له أنه العاشر. انتهى. وأصله للقاني في حواشي التوضيح، وفرق بينهما بأن الأول أوقع الوقوف في وقته المقدر له شرعا في ظنه اجتهادا، والثاني ليس له أن يوقع الوقوف في غير وقته المشروع قصدا على وجه القضاء لأنه لا يقضى. انتهى. قال اللقاني: وهذا مصرح به في الطراز. قاله محمد بن الحسن. وظاهر المصنف أيضا كان الخطأ من حصول غيم ليلة ثلاثين من ذي القعدة أو في عدد الأيام، ولكن مقتضى الفرق المتقدم أنه خاص بالأول، وأنه لا يجزئهم وقوفهم في العاشر في الفرض الثاني ويدل له ما ذكره ابن غازي في الإحصار عند قوله: أو خطأ عدد، ثم إذا وقفوا في العاشر على الوجه المجزئ صار في حقهم كالتاسع في بقية أفعال الحج، فيصير اليوم الخامس آخر أيام الرمي.

تنبيه: من رأى الهلال وردت شهادته لزمه الوقوف كالصوم. قاله الجمهور. وقال محمد بن الحسن وأصبغ يقف لرؤيته ويعيد الوقوف مع الناس، ولو ثبت هلال ذي الحجة بواحد وحكم المخالف به، هل يلزم الوقوف بالتاسع على شهادته أو يجري فيه التردد السابق في الصوم، وكذا

ص: 487

لو ثبت بعدلين وَكُذِّبَا لعدم رؤيته بعد ثلاثين صحوا من ذي القعدة، هل يكون حجهم باطلا ويجري فيه ما جرى في الصوم أم لا؟ قاله غير واحد.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: أما اللذان كذبا فالظاهر أو المتعين أنهما كالعدم، وأن من عمل بشهادتهما يبطل حجه لقول الإمام: هما شاهدا سوء أي زور، وأما الأول فالظاهر أنه يجري فيه ما جرى في الصوم وأما لو شهد عدلان بهلال ذي الحجة ثم بعد ثلاثين صحوا لم ير المحرم فلا وجه للتوقف في الإجزاء، لقوله:"أو أخطأ الجم بعاشر". والله سبحانه أعلم.

لا الجاهل بها؛ يعني أن من مر بعرفة جاهلا بها ولم يعرفها، فإنه لا يجزئه ذلك، ولا يصح وقوفه إذا لم يعرفها لعدم استشعار القربة، وهذا القول عزاه في التوضيح لمحمد، وكذلك عزاه غيره، وغزاه ابن الحاجب لابن القاسم، وقال المصنف في منسكه: إنه المشهور، وذكر في التوضيح عن صاحب الطراز أنه قال: الأشهر الإجزاء لأن تخصيص أركان الحج بالنية ليس شرطا، قال الحطاب: ولم يصرح صاحب الطراز بأنه الأشهر، وإنما قال بعد أن ذكر الإجزاء عن مالك: وهو أبين. وقد مر هذا والفرق بين الجاهل والمغمى عليه أن الجاهل معه ضرب من التفريط، والمغمى عليه معذور لأن الإغماء أمر غالب، وقوله:"لا الجاهل"، عطف على مقدر بعد قوله:"ولو مر"؛ أي العارف بعرفة لا المار الجاهل، ولا يقدر الواقف الجاهل؛ لأن الواقف بها لا يشترط علمه بها، وشبه بالبطلان قوله: ببطن عرفة؛ يعني أن الوقوف ببطن عرفة لا يجزئ؛ وهي واد بين العلمين اللذين على حد عرفة والعلمين اللذين على حد الحرم، فليست عرنة من عرفة ولا من الحرم، وعرنة بعين مهملة مضمومة فراء مفتوحة فنون، وقال عياض وغيره: بضم العين والراء، قال في التوضيح: والصواب الأول، وحكى ابن عبد السلام فيها ضم العين وسكون الراء، وحكى ابن حبيب أنها من الحرم، فمن وقف بها لم يجمع بين الحل والحرم، وحكى ابن المنذر عن مالك أنه قال فيمن وقف ببطن عرنة: حجه تام وعليه دم.

وأجزأ بمسجدها؛ يعني أن الوقوف بمسجد عرنة يجزئ بكُره: يعني أن من وقف بمسجد عرنة يجزئه ذلك كما عرفت لكن مع الكراهة، وإنما أجزأ الوقوف بمسجد عرنة لأنه من عرفة بالفاء، ونسب لذات النون لأنه لو سقط حائطه القبلي الذي من جهة الحرم لسقط في عرنة بالنون، وكره

ص: 488

الوقوف به نظرا إلى أن له ارتباطا بغير عرفة، وأجزأ بغير دم لأنه منها، وما ذكره المصنف من الكراهة مع الإجزاء أخذه كما قال الحطاب مما حكاه الجلاب عن المذهب، وإن كان ابن عرفة لم يعرج عليه، ومسجد عرنة هو الذي يقال له: مسجد إبراهيم، وفي الحطاب أنه يتحصل في الوقوف بمسجد عرنة خمسة أقوال: الإجزاء وهو قول محمد وابن مزين، وعدمه وهو لأصبغ، والإجزاء مع الدم حكاه ابن المنذر عن مالك، والإجزاء مع الكراهة وهو صحيح على ما حكاه ابن الجلاب عن المذهب، والوقف عن مالك.

وصلى؛ يعني أن من قرب من عرفة ولم يكن صلى المغرب أو العشاء، والحال أنه لم يبق من الليل إلا قدر ما يسع نحو صلاة وإن ذهب إلى عرفة لا يدرك من العشاء ركعة إن كانت هي التي لم يصلها أو منها بعد صلاة المغرب إن لم يكن صلاهما فإنه يصلي ولو كان يفوته الوقوف بعرفة بانقضاء ليلة العيد، كما قال: ولو فات؛ أي يصلي تلك الصلاة أو الصلاتين قبل أن يذهب إلى عرفة ولو فاته الوقوف؛ لأن ما رتب على تاركه القتل مقدم على ما ليس كذلك هذا هو المشهور، واختار اللخمي وسند والقرافي وجمع تقديم عرفة في هذا الفرض، وعليهم رد المصنف بلو، وأما لو أمكنه الذهاب إلى عرفة مع إدراك ركعة من العشاء بعرفة فإنه لا يصلي حتى يأتيها اتفاقا؛ إذ يحصل له الفرضان، والتقييد بالحاضرة مخرج لتذكر الفائتة حيث لا يمكنه فعلها بها، فإنه يقدم الوقوف قطعا، وإن كان وقت الفائتة ذِكْرَهَا كما في الخبر

(1)

)، لضعف أمرها بالنسبة لما حضر وقته وهو الوقوف، ثم الخلاف المتقدم جارٍ على القول بفوريته وتراخيه، وقول ابن رشد: يقدم الصلاة على القول بالتراخي غير ظاهر؛ لأن الفور والتراخي إنما ينظر إليهما قبل الدخول في الإحرام، وأما بعده فقد صار إتمامه فرضا على الفور إجماعا، بل لو كان تطوعا وجب إتمامه، فإن أفسده وجب قضاؤه فورا، والتقييد بالحاضرة أي بالعشاء أو بالمغرب، قال محمد بن الحسن: صحيح، وفي ذلك فرض ابن بشير الخلاف، ولذا قال الحطاب: لا ينبغي أن يحمل المؤلف على ظاهره بأن يصليها ولو فائتة؛ لأن هذا القول لم أقف عليه. انتهى. ولا يرد بقول ابن عرفة. محمد: إن ذكر

(1)

من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك. مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، الحديث:684. والبخاري، مواقيت الصلاة، الحديث: 597.

ص: 489

منسية إن صلى فاته الوقوف قبل الفجر وقف إن كان قرب عرفة، وإلا صلى. ابن عبد الحكم: إن كان آفاقيا وقف وإلا صلى. الصائغ: يصلي إيماء كالمسايفة، ثم قال: وفرضها ابن بشير في ذاكر عشاء ليلته. انتهى. لأن كلامه محتمل لكون المنسية فائتة أولا وإن كان ظاهرا في الأول. قاله الرماصي. ونحوه للحطاب.

واعلم أن ظواهر نصوص المذهب أن من أدرك الوقوف بعرفة قبل الفجر صح حجه ولو لم يخرج منها إلا بعد طلوع الفجر، وكلام صاحب الطراز كالنص في ذلك، ولم أقف على خلافه إلا ما ذكره ابن جزي في قوانينه، ونصه: الثالث من الأمور التي يفوت بها الحج: من أقام بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر سواء وقف بها أو لم يقف. انتهى. ولم أقف عليه لغيره. قاله الحطاب. ولما أنهى الكلام على الأركان للحج والعمرة، شرع فيما يسن وابتدأ بسنن الإحرام، فقال: والسنة؛ يعني أن السنن لكل إحرام بحج أو بعمرة أو بهما أو مطلق ولو كإحرام زيد أربع إحداها غسل؛ أي اغتسال لذكر أو أنثى صغيرين أو كبيرين ولو لحائض أو نفساء، لخبر الموطإ: (ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ليلا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مرها فلتغتسل ثم لتهل

(1)

)، ولو رجت الحائض الطهر، فقال مالك: لا تؤخر الإحرام عن ذي الحليفة، وقيل: إن الغسل للإحرام مندوب. متصل؛ يعني أن هذا الغسل إنما يقع سنة إذا اتصل بما فعل له وهو الإحرام، فلا بد أن يتصل بالإحرام فاتصاله به من تمام السنة، فلو اغتسل أول النهار وأحرم في عشيته لم يجزه -قاله في المدونة- وكذا لو اغتسل غدوة وأخر الإحرام إلى الظهر لم يجزه غسله، ولو اشتغل بعد غسله بشد رحله وإصلاح جهازه أجزأ، وجعل البساطي الاتصال سنة ثانية أي يسن الغسل ويسن اتصاله بالإحرام، وما قاله البساطي خلاف ظاهر نصوص المذهب من أن اتصاله من تمام السنة، فإن لم يَصِلْهُ لم يجزه كما عليه الشراح، وهو الذي يؤخذ من المدونة. قاله الرماصي. نقله محمد بن الحسن بناني. وقوله:"متصل"؛ أي فلا يفصل بينهما بفعل لا تعلق له بالإحرام، وقال الشبراخيتي: متصل بالإحرام كغسل الجمعة في اتصاله بالرواح. انتهى. وفي الحطاب: والسنة أن يكون الغسل عقب الإحرام، وفهم من قوله:"غسل"، عدم

(1)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:709.

ص: 490

التيمم عند فقد الماء وهو كذلك: قال الحطاب: فإن لم يحضر الماء سقط الغسل ولا يتيمم نعم إن كان محدثا، وأراد الركوع للإحرام فإنه يتيمم لذلك، وكذا يسقط الغسل إن لحقته ضرورة من الغسل، مثل قلة ماء أو ضيق وقت أو سير رفقة أو خوف كشف للمرأة أو شبه ذلك، وقال ابن فرحون في شرحه: أو خوف كشف، ولم يقل: للمرأة، وهو أولى فإنه يسقط بكشف العورة مطلقا. انظر الحطاب. وفي الحطاب: فإن كان من يريد الإحرام جنبا، فقال سند: يغتسل لجنابته وإحرامه غسلا واحدا ويجزئه. انتهى.

ويستحب في اغتسال الإحرام التدلك والإنقاء من الأوساخ. ولا دم؛ يعني أنه لو ترك الغسل للإحرام عمدا أو جهلا أو نسيانا فإنه لا دم عليه، قال سحنون: ولكنه أساء، وقال التادلي عن عبد الملك: هو لازم إلا أنه ليس في تركه -ناسيا أو عامدا- دم ولا فدية، وقال ابن يونس: قال سحنون: من ترك الغسل وتوضأ فقد أساء ولا شيء عليه، وكذلك إن ترك الغسل والوضوء. انتهى. وقوله:"ولا دم"، هذا حكم من أحرم، والحال أنه لم يغتسل، وهل يؤمر بالغسل هذا الذي أحرم من غير اغتسال بعد إحرامه ذلك أم لا؟ قال الحطاب: فإن أحرم من غير غسل فإن بعد تمادى وإن قرب، فهل يؤمر بالغسل؟ قولان ذكرهما صاحب الطراز وابن بشير وابن فرحون وغيرهم، قال عبد الحق في النكت: قال أبو محمد: قال ابن الماجشون في كتابه: ومن ركع للإحرام وسار ميلا قبل أن يهل بالحج ونسي الغسل فليغتسل ثم يركع ثم يهل، وإذا ذكره بعد أن أهل تمادى ولا غسل عليه. انتهى.

وندب بالمدينة للحليفي؛ يعني أن من كان يريد الإحرام من ذي الحليفة سواء كان ممن يلزمه ذلك أو ممن يستحب له الإحرام منه، يندب له أن يغتسل بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وهذا في قوة الاستثناء من قوله:"متصل"، فكأنه قال: لا بد من اتصاله إلا من يحرم من ذي الحليفة وجوبا أو ندبا فيندب له إيقاع الغسل بالمدينة، لفعله عليه الصلاة والسلام

(1)

)، فإذا اغتسل الحليفي من المدينة فإنه يأتي ذا الحليفة على الفور، ويتجرد من ثيابه عقب غسله بالمدينة كما نقله ابن يونس، ونصه: ابن حبيب: واستحب عبد الملك أن يغتسل

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1345.

ص: 491

بالمدينة ثم يخرج مكانه فيحرم بذي الحليفة وذلك أفضل، (وبالمدينة اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم وتجرد وليس ثوبي إحرامه

(1)

)، قال سحنون: وإذا أردت الخروج من المدينة خروج انطلاق، فأت القبر فسلم كما صنعت أول دخول، ثم اغتسل والبدى ثوبي إحرامك، ثم تأتي مسجد ذي الحليفة فتركع وتهل. انتهى. بلفظه. قاله محمد بن الحسن بناني. وفي الخرشي ونحوه لعبد الباقي: ثم يمضي ذاهبا على الفور لابسا لثيابه إلى أن يصل إلى ذي الحليفة، فإذا أحرم منها نزع ثيابه وتجرد منهاة وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وتعقبه محمد بن الحسن بما مر عنه مما نقله ابن يونس، وفي الطراز: ولا يختص تقدمة الغسل بالمدينة، بل كل من كان منزلة قريبا من الميقات -أي ميقات كان، والميقات منه على ثلاثة أميال ومثلها، ونحو ذي الحليفة من المدينة- واغتسل من منزلة أجزأه؛ لأن غسله في بيته أستر له وأحسن وأمكن. انتهى. فعلى هذا من أراد الإحرام من التنعيم، فإنه يجوز له أن يغتسل من مكة، وربما كان غسله بها أولى لما ذكره في الطراز من كونه أستر له وأمكن. والله أعلم. قاله الحطاب. وقوله:"وندب بالمدينة"، هو قول عبد الملك بن الماجشون وابن حبيب وسحنون، وقال عياض: إنه ظاهر المذهب، وأن ابن الماجشون وسحنون فسرا به المذهب: فاعتمده المصنف هنا، وَحَمَل بعضهم المدونة على أن الغسل بالمدينة جائز وليس بمستحب، وقال أبو الحسن: ظاهر قوله في المدونة: أجزأه غسله، أن المطلوب الغسل بذي الحليفة وهو ظاهر كلام صاحب الطراز، قاله الحطاب. وَنَقَلَ عن سند أن من رأى أن تقدمة الغسل بالمدينة فضيلة جعل التجرد بها من الثياب فضيلة، ومن جَعَلَ ذلك رخصة جَعَلَ التجرد منها رخصة أيضا.

واعلم أن الغسل بالمدينة إنما يندب أو يرخص فيه لمن يغتسل بها، ثم يذهب إلى ذي الحليفة فيحرم منها من فوره أو يقيم بها قليلا بحيث لا يحصل بين الغسل والإحرام تفريق كثير، فأما من يقيم بذي الحليفة يوما أو ليلة فهذا لا يطلب بالغسل بالمدينة على القول باستحبابه، ولا يرخص له فيه على القول بجوازه. قاله الحطاب. ومن اغتسل بالمدينة يراعى في حقه اتصال

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1545.

ص: 492

غسله بخرُوجه، فإن لم يخرج من فوره وطال تأخره لم يجزه الغسل، وإن تأخر ساعة من نهار لشغل خف، كشد رحله وإصلاح بعض جهازه أجزأه.

واعلم أن الغسل من مثلثات الحج، وهذا أحد الاغتسالات، ثانيها أشار إليه بقوله: ولدخول غير حائض مكة؛ يعني أن الاغتسال لدخول مكة مندوب لغير الحائض والنفساء لا لهما، وقد تقدم أن الغسل للإحرام يستحب لكل أحد صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، حائضا أو غيرها، ولا بد أن يكون الغسل لمكة متصلا بدخولها أو في حكم المتصل، فلو اغتسل ثم بات خارجها لم يكتف بذلك، قال سند: ليكون طوافه متصلا بقدومه، فإن أخره واغتسل بعد دخوله فواسع. قاله مالك. ولم يندب الغسل للحائض والنفساء لأنه في الحقيقة للطواف، فلا يندب إلا لمن يؤمر بالطواف على المشهور، وقيل: لدخول مكة، وعليه فتغتسل الحائض والنفساء بذي طوى؛ يعني أنه يستحب الغسل لدخول مكة -كما مر- ويستحب أن يكون الاغتسال لدخولها بذي طوى، فهو مندوب ثان، فحقه أن يقول: وبذي طوى. قاله عبد الباقي وغيره. وقال الخرشي وغيره: يستحب بذي طوى إن مر بها، وإلا فمن مقدار ما بينهما. انتهى. وزاد الخرشي: لما ورد عن عمر

(1)

أنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى، فإذا صلى الصبح اغتسل وتحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك

(2)

).

الأصمعي: وطوى بضم الطاء مقصورا: جدار بأرض مكة، قال: والذي بطريق الطائف ممدود، وضبطه -أي ذا طوى- بعضهم بكسر الطاء، وبعضهم بضمها. قاله في توضيحه. وهذا الضبط لصاحب الحواشي ضبط به طوى، وقد عطل الناس ضبط صاحب الحواشي، فالصواب الاقتصار على ضبط الأصمعي. وقال ابن فرحون في منسكه: ذو طوى هو الذي بعد الثنية التي يصعد إليها من الوادي المعروف الآن بالزاهر على يسارك وأنت قادم من طريق التنعيم، فهناك بات النبي صلى الله عليه وسلم واغتسل لدخول مكة، وأشار إلى ثالث الاغتسالات بقوله: وللوقوف؛ يعني أنه يندب الغسل للوقوف بعرفة ولو لحائض ونفساء، قال الحطاب: ولا يَتَدَلَكُ في غسل دخول

(1)

كذا في الأصل والذي في البخاري ومسلم: عن ابن عمر.

(2)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1573. وفيه:. . . ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث الخ.

ص: 493

مكة ولا في غسل عرفة بل يكتفي بصب الماء على ما قاله أكثر الشيوخ، ومع إمرار اليد على ما قاله المصنف في منسكه تبعا لابن عطاء الله، ويطلب أيضا في غسل عرفة الاتصال، فلو اغتسل في أول النهار لم يجزه. انتهى. وقال عبد الباقي وغيره: ويتدلك في هذين الغسلين بخلاف الأول. انتهى. وقال الأمير: ويتدلك في الاغتسالات الثلاثة؛ أي يتدلك في جميعها على التحقيق لكن يخففه فيما بعد الإحرام، ووقت الغسل للوقوف بعد الزوال مقدما على الصلاة، وما مشى عليه المص من أن كلا من الغسل لدخول مكة والوقوف وبعرفة مندوب هو الراجح، وقيل: كل منهما سنة: وقد مر أنه قيل باستحباب الغسل للإحرام.

وأشار إلى السنة الثانية من سنن الإحرام بقوله: ولبس إزار ورداء ونعلين؛ يعني أن هذه الهيئة الاجتماعية سنة؛ في أي أن السنة مجموع هذه الثلاثة، فلو فعل بعضها لم يكن آتيا بالسنة. والإزار ما يشد به الوسط، والرداء يجعل على الكتفين أو في الوسط، وأما الإزار فيأتزر به في وسطه، ويقلب طرفه الأعلى ويرشقه في وسطه من ناحية لحمه؛ بأن يثني طرف حاشيته العليا على طرف الإزار، ويرشق كل طرف من طرفيه في جمته، وهذا يصدق بلف طرفيه في بعضهما وشدهما على لحمه، ولا يربط بعضهما ببعض ولا بحزام عليه، فإن فعل افتدى. قاله عبد الباقي.

وقال الخرشي عن الأجهوري عن ابن عرفة: الاتزار رشق طرفي حاشيته العليا بين جسمه وحاشيته العليا مشدودة بجسمه. انتهى. وقوله: وحاشيته العليا، عطف على جسمه، وقوله: مشدودة، حال من حاشيته، ولا يخفى أن الذي يرشق أحد طرفي الحاشية والطرف الآخر يكون على جسمه تحت الحاشية العليا من الجانب الآخر، فإطلاق الرشق عليه مجاز، وقال في مختصر المتيطية: ثم تأتزر بمئزرك تديره حولك وتدخل طرفيه في الطي. انتهى.

وما قررت به المصنف من أن مجموع هذه الثلاثة سنة هو الذي قرره به غير واحد، وفي كتاب الشيخ الأمير التصريح بأن هذه الهيئة الاجتماعية مندوبة، وعلى كل فإن فعل غيرها كالتحافه برداء أو كساء أجزأ وخالف المأمور به، وأما أصل التجرد عند إرادة الإحرام فواجب، وعلى التقرير الأول يكون العطف على الخبر من قوله:"والسنة غسل"، وعلى الثاني يكون العطف على نائب الفاضل في قوله:"وندب بالمدينة للحليفي". وقال محمد بن الحسن عن الرماصي عن ابن

ص: 494

عبد السلام: ظاهر الأكثرين يقتضي أنه لا خصوصية للبس إزار ورداء، بل يجوز ذلك ويجوز الالتفاف في ثوب واحد، وإنما الخصوصية في اجتنابه المخيط، قوله:"ونعلين"، بشرط أن لا يكون هناك عقب يستر بعض القدم. والله سبحانه أعلم.

وفي التلقين: وأما واجباته -يعني الإحرام- فأن يحرم من الميقات، وأن يتجرد من مخيط الثياب وقت إرادته الإحرام، ومن كل ما يمنع منه في الإحرام. وتقليد هدي؛ يعني أنه يسن لمن أراد الإحرام وكان معه هدي لتطوع أو لعام مضى أن يقلده بعد غسله، وتجرده إن كان الهدي مما يقلد كإبل وبقر لا غنم كما يأتي، وإن كان الهدي لهذا الإحرام بقران أو تمتع فلا يسن التقليد قبل الإشعار، بل غاية الأمر أنه يجزئ إن وقع كما قال، "ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله". قاله عبد الباقي. وعبارة الشبراخيتي: وتقليد هدي إن كان معه لتطوع أو لعام مضى، وأما ما يجب بعد الإحرام فلا يقلد إلا بعده كما قال:"ودم التمتع يجب بإحرام" الخ. ثم إشعاره؛ يعني أن السنة هي أن يقلد الهدي ثم يشعره، فالسنة منصبة على ترتيب التقليد والإشعار مع ما قبلهما، وليس التقليد والإشعار من سنن الإحرام؛ إذ لا يعد من سنن الإحرام إلا ما كان متعلقا به مطلوبا عنده على كل حال إلا لعذر، وفي بناني أن كلام المدونة ظاهر في أن الترتيب المذكور مستحب، قال: وصرح بذلك سند وابن رشد وابن عرفة، ونصه: ابن رشد: الاختيار تقديم التقليد قبل الإشعار؛ لأنه قبله أمكن، وتقديمهما قبل الإحرام ليلا يشتغل بهما بعده، فإن عكس شيئا من ذلك فلا حرج. انتهى. وفي شرح عبد الباقي: والترتيب بين هذه الأفعال سنة؛ أي تقديم التقليد على الإشعار وتقديمهما على الركوع كما هو مذهب المدونة، ولسند هو مستحب. قاله بعض الشراح. وعلى ما لسند اقتصر بعض أشياخي وهو ظاهر؛ إذ ليس في المدونة دلالة على أن ذلك سنة. انتهى.

وأشار إلى السنة الثالثة من سنن الإحرام بقوله: ثم ركعتان؛ يعني أنه يسن ركعتان عند الإحرام، وظاهر المصنف أن السنة ركعتان بخصوصهما وليس كذلك، وإنما السنة الركوع عند الإحرام، وأشار بقوله:"ثم"، إلى أن الركوع للإحرام بعد تقليده الهدي وإشعاره وهو الذي فهمه المصنف في توضيحه، والنص أن الركعتين مقدمتان على التقليد والإشعارت ومحل سنية ركعتي الإحرام إن

ص: 495

كان الوقت وقت جواز وإلا انتظره بالإحرام، إلا الخائف والمراهق فيحرم، ولكن لا يركعهما حينئذ كما يفيده كلام أبي البقاء في مناسكه، وكذا غير الخائف والمراهق لا يركعهما بوقت نهي حال إحرامه به خلافا للداوودي، وقولي: إن الركعتين هما السنة الثالثة تبعت فيه عبد الباقي، قال محمد بن الحسن: عده الركعتين سنة ثالثة لا رابعة يقتضي أن التقليد والإشعار ليسا من سنن الإحرام وهو كذلك؛ إذ لا يعد من سننه إلا ما كان متعلقا به مطلوبا عنده على كل حال إلا لعذر، وهكذا فعل في الجواهر جعل السنة الثالثة في الإحرام ركعتين. انتهى.

وقوله: "ثم ركعتان"، قال المازري: وينبغي أن يتأمل تحرير أبي محمد لما ذكر ركوع الحج، فقال: ركعتا الطواف والركوع عند الإحرام، وهذه إشارة منه إلى أنه لم يشتهر في أصل الشرع الاقتصار على ركعتين عند الإحرام، كما اشتهر الاقتصار عليهما عقب الطواف، فلهذا لم يقل: ركعتا الإحرام. كما قال: ركعتا الطواف. انتهى. فتأمله، فإنه حسن. والله أعلم. قاله الحطاب. من جملة ما تعقب به قول المصنف ثم ركعتان.

(والفرض مجز) قد علمت أن الركوع للإحرام سنة، فمن أحرم عقب صلاة الفرض يجزئه ذلك عن صلاة تخص الإحرام، ولكن المستحب أن يكون الإحرام عقب نفل ليكون للإحرام صلاة تخصه، قاله الخرشي. وقال الشبراخيتي: فالإحرام بعد صلاة النفل تحصل به سنة وفضيلة، وبعد صلاة الفرض تحصل به السنة دون الفضيلة. انتهى. وفي التوضيح: السنة الثالثة أن يحرم إثر صلاة، والمستحب أن تكون نافلة ليكون للإحرام صلاة تخصه، ويدل على الاستحباب قوله -يعني ابن الحاجب-: فإن اتفق فرض أجزأ، وفي المذهب قول أنه لا رجحان للنافلة. انتهى. فدل كلامه أن أصل السنة يحصل بالإحرام عقب الفريضة. قاله الحطاب.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: دل كلامهم على أن الإحرام عقب صلاة أي صلاة كانت مجزئ

(1)

)، وأن وقوعه بعد نفل يخصه هو الأفضل، وأما بعد نفل لا يخصه فمقتضى صنيع المصنف والشبراخيتي أنه أفضل، ومقتضى التعليل المتقدم عن التوضيح استواء الفريضة والنافلة التي لا

(1)

في الأصل: مجزءا.

ص: 496

تخصه. والله سبحانه أعلم. انتهى. ما قاله جامعه عفا الله تعالى عنه. وقوله: "والفرض مجزئ"، ظاهره يشمل المنذور والأصلي. والله سبحانه أعلم.

تنبيه: قال غير واحد من الشراح: انظر هل أراد المصنف العيني أو ولو بالروض كجنازة تعينت؟ انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: الظاهر أنه لا محل لهذا التنظير بالنسبة لصلاة الجنازة، لقولهم من سنن الإحرام وقوعه عقب الركوع، وصلاة الجنازة لا ركوع فيها. والله سبحانه أعلم.

يحرم إذا استوى؛ الضمير في يحرم للراكب أي الراكب المريد للإحرام؛ يعني أن الشخص إذا فرغ من صلاته وكانت له راحلة فإنه يحرم إذا استوى على دابته، ولا يكون ذلك إلا بعد أن تكون قائمة للسير لا قبل قيامها؛ إذ لا يقال استوى عليها إلا إذا قامت للسير، وفيه حينئذ تلميح لقوله تعالى:{إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} ، والحاصل أنه لا بد من أن يستوي عليها وهي قائمة، وأنه لا يشترط أن تكون سائرة على المشهور لخبر الموطإ (أنه عليه الصلاة والسلام صلى في مسجد ذي الحليفة، فلما استوت به راحلته أهل

(1)

)، وفي مناسك سليمان بن يوسف بن عمر: فإذا فرغ من صلاته ركب راحلته، فإذا استوت به قائمة أحرم، وإن ركبها قائمة فحين يستوي عليها. انتهى. وقال ابن حبيب: يتوقف ذلك على مشي الدابة.

واعلم أنه إذا صلى في المسجد فإنه يخرج منه وبعد ذلك يركب دابته، فإذا استوى عليها وهي قائمة أحرم. والله سبحانه أعلم. وقوله:"يحرم إذا استوى"، هو المذهب كما علمت، وقال الأئمة: يحرم عقب سلامه لما في أبي داوود: (قال سعيد بن جبير: قلت لعبد الله بن عباس: عجبت من اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في إهلاله حين أوجب، فقال: إني لأعلم الناس بذلك

(2)

)، إنما كانت منه عليه السلام حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا. خرج عليه السلام حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة أوجبه في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، وسمع بذلك منه أقوام فحفظوه عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، ورأى ذلك

(1)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:739.

(2)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1770.

ص: 497

منه أقوام فقالوا: إنما أهل حينئذ فلما علَا على شرف البيداء أهل، فأدرك ذلك أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء. ولنا الحديث المتقدم وهو معضود بالعمل من عمر وغيره من السلف. قاله الشارح. والله سبحانه أعلم.

(والماشي إذا مشى) يعني أن الماشي ليس كالراكب، فإنه إنما يحرم إذا مشى، ولا يحرم بعد أن استوى قائما بل يصبر حتى يمشي، فإذا فرغ من صلاته وخرج من المسجد إن كان قد صلى فيه فإنه يحرم ماشيا ولا ينتظر خروجه إلى البيداء، وما ذكره هنا من هذين الأمرين بيان للوقت الذي يحرم فيه، وفي تقدم بيان لما ينعقد به، والظاهر أن هذا على جهة الأولوية، وأنه لو أحرم الراكب قبل أن يستوي والماشي قبل أن يمشي كفاه ذلك. والله سبحانه أعلم. والفرق بين الراكب والماشي أن الراكب لا يركب دابته إلا للسير، والراجل قد يقوم لحوائجه، فشروعه في المشي كاستواء الراكب على دابته.

عياض: يهل مستقبلا لأنها إجابة الداعي إبراهيم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، ولا تجيب أحدا موليا ظهرك عنه. نقله الشارح. ويجب على الكري أن ينيخ بالمكتري بباب مسجد ذي الحليفة حتى يصلي ثم يركب، وليس له أن يقول اذهب فصل ثم ارجع إليَّ -يريد- لأن العرف جار بذلك قاله الشارح. وقوله:"يحرم"، ضميره يعود على الراكب؛ أي الراكب المريد للإحرام -كما مر- والماشي عطف عليه.

وتلبية؛ هذه هي السنة الرابعة من سنن الإحرام؛ يعني أنه تسن التلبية عند الإحرام أي مقارنتها للإحرام واتصالها به، وأما التلبية في نفسها فواجبة ويجب أيضا أن لا يفصل بينها وبين الإحرام بطويل، فإن كان الفصل طويلا أو تركها فعليه الدم، وإن قل الفصل فلا دم، وَتَحَصَّلَ من هذا أنه إن فصل لم يكن آتيا بالسنة قل الفصل أو طال، لكن إن طال فدم لتركه الواجب كما لو تركها، وهذا التقرير مأخوذ من كلام عبد الباقي. قال محمد بن الحسن: مثله للحطاب، وحمله على ذلك ما قدمه من كون الدم ينافي السنية، وتقدم جوابه وهو أن عبارات أهل المذهب مختلفة في ذلك، فمنهم من يعبر عما يجبر بالدم بالواجب، ومنهم من يعبر عنه بالسنة، وللحطاب أن عد

ص: 498

التلبية في سنن الإحرام فيه تجوز، ولذلك لما عد في الجواهر سنن الإحرام عد فيها تجديد التلبية لا التلبية نفسها.

ابن العربي: التلبية هي الإجابة والقصد والإخلاص، وتكون بالقلب واللسان، ولا تتم إلا باجتماع الكل. انتهى. والله أعلم. قاله الحطاب. ويلبي العجمي بلسانه إن لم يجد من يعلمه العربية، وتلبي الحائض والجنب، ومن لا يتكلم لا يلبى عنه، وانظر هل يكفي عنها التكبير لمن لا يقدر على حفظها أو كالعدم وأقلها مرة؟ وقال ابن هارون في شرح المدونة: قوله وكره مالك أن يلبي من لا يريد الحج ورآه خرفا

(1)

من فعله، قيل: الذي كرهه مالك إنما هو تلبية الحج، وأما قول القائل لمن دعا

(2)

لبيك فلا كراهة فيه؛ لأن الصحابة لم يزالوا يلبون النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضع فلا يعيب ذلك عليهم، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم القيامة: (لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك

(3)

)، وأما تلبية الحج فتكره في غير موضعها إلا لرواية أو معلم أو متعلم، وقال في التوضيح عن الشيخ ابن أبي جمرة: وقد نص العلماء على أن جواب الرجل من ناداه بلبيك أنه من السفه وأنه جهل بالسنة، واستدل على ذلك بكون الصحابة لم يفعلوا ذلك فيما بينهم، وبكونه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك معهم. انتهى. فانظر ما قاله مع كلام ابن هارون، إلا أن يحمل كلامه على ما حمل عليه ابن هارون كلام المدونة فيتفق كلامهما وهو الظاهر. والله أعلم. قاله الحطاب.

تنبيهات: الأول: قال في الشفاء: وسئل ابن القاسم رحمه الله تعالى عن رجل نادى رجلا باسمه فأجابه لبيك اللهم لبيك؟ قال: إن كان جاهلا وقاله على وجه سفه فلا شيء عليه، قال القاضي رحمه الله تعالى: وشرح قوله أن لا قتل عليه، والجاهل يزجر ويعلم، والسفيه يؤدب ولو قالها على اعتقاد إنزاله منزلة ربه كفر. هذا مقتضى قوله. انتهى. قاله الحطاب.

(1)

هكذا في المؤلف والذي في الحطاب ج 3 ص 517: خُرقا.

(2)

هكذا في المؤلف والذي في الحطاب ج 3 ص 517: دعاه.

(3)

المستدرك، كتاب التفسير، ج 2 ص 363.

ص: 499

الثاني: [قال ابن خليل

(1)

]، في منسكه: قال ثابت البناني: كان مالك بن أنس لا يحرم حتى ينتهي إلى ذات عرق، فإذا انتهى إليها أحرم، وكان لا يكلم أحدا إلا بما لا بد له منه حتى يطوف بالبيت. انتهى.

الثالث: في الخرشي: وتكره الإجابة بالتلبية في غير الإحرام، وأما إجابة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم فمن خصائصه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقد مر قول ابن هارون، وسيأتي عند قول المصنف:"واقتصار على تلبية الرسول"، أن الصواب ما مر عن ابن هارون.

واعلم أن معنى التلبية: الإجابة؛ أي إجابة لك بعد إجابة، وذلك أن الله تعالى قال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، والثانية إجابة قوله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، يقال: إن إبراهيم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه لما أذَّنَ بالحج أجابه الناس في أصلاب آبائهم، فمن أجابه مرة حج مرة ومن زاد زاد، فالمعنى أجبتك في هذا كما أجبتك في ذلك، وأول من لبى الملائكة وكذلك أول من طاف بالبيت، وفي الخرشي: قال ابن الفاكهاني: لو أتى عوضها -يعني التلبية- بتسبيح أو نحوه لم يكن عليه دم، بخلاف ما إذا تركها.

(وجددت لغير حال) يعني أن الملبي لا يطالب بدوام التلبية بحيث لا يسكت عنها، بل يلبي ويسكت عنها، ويجددها أي يعاودها عند تغير كل حال كقيام وقعود ونزول وركوب وصعود وهبوط وملاقاة رفاق وسماع ملب، وفي تلبية من رجع لشيء نسيه في رجوعه روايتان، واللام في قولد:"لتغير"، بمعنى عند، وقوله:"وجددت"، قال الشبراخيتي: استحبابا، كما يفيده كلام المواق والشيخ سالم، وذكر الشارح أنه سنة، وفي نقل بعضهم ما يفيد الوجوب. انتهى.

(وخلف صلاة) الظرف معطوف على المجرور؛ يعني أنه يجدد التلبية أي يعاودها إثر كل صلاة صلاها فريضة أو نافلة. قاله ابن المواز. وابن حبيب وغيرهما. وهل؛ يعني أنه اختلف فيمن أحرم بحج مفردا أو قارنا، هل يستمر يلبي حتى يدخل بيوت مكة، فيقطع التلبية، فإذا طاف وسعى عاودها حتى تزول الشمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها، هذا مذهب الرسالة وشهره ابن

(1)

كذا في الأصل، والذي في الحطاب ج 3 ص 518 ط دار الرضوان: قال خليل.

ص: 500

بشير. فقوله: لمكة؛ أي وهل تنتهي التلبية لابتداء دخول مكة، أو يستمر على التلبية؟ ولو دخل مكة للطواف؛ يعني أن من الشيوخ من ذهب إلى أنه لا يقطع التلبية عند دخول مكة بل لا يزال يلبي إلى ابتداء الطواف، وهو مذهب المدونة لقولها: وكرهها مالك من أول طوافه حتى يتم سعيه. خلاف، مبتدأ حذف خبره أي في ذلك خلاف.

وتحصل من هذا أنه إذا شرع في الطواف لا يلبي حتى يكمل سعيه بلا خلاف، وأن محل الخلاف إذا دخل مكة، ولو أقيمت عليه الصلاة وهو في أثناء الطواف وقطعه للصلاة وصلى، هل يلبي بعد تلك الصلاة أم لا؟ لأنه لم يكمل السعي وهو الظاهر، ولم أر الآن فيه نصا. قاله الحطاب. وفيه نظر إذ كلام المؤلف صريح في أنه لا يعيدها بعد الصلاة وإنما يعيدها بعد السعي. قاله الأجهوري.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وهو ظاهر. والله سبحانه أعلم. وقوله: "أو للطواف"، ولابن الحاجب: لرؤية البيت. قاله عبد الباقي. وإن ترَكت أوله فدم إن طال؛ يعني أن الشخص إذا ترك التلبية أول الإحرام عمدا أو نسيانا ولم يأت بها إلا بعد طول من إحرامه، فإنه يجب عليه الدم وإن عاودها، ومثل الطول ما إذا تركها جملة، وأما إن أتى بها بعد الإحرام بقليل فلا دم عليه، ومفهوم قوله: وإن تركت أوله أنه إذا لبى في أول الإحرام ثم تركها بعد ذلك لا دم عليه، وبذلك صرح أبو الحسن الصغير، قال في شرح قوله في المدونة: وإن توجه ناسيا من [فناء

(1)

] المسجد كان بنيته محرما فإن ذكر من قريب لبى ولا شيء عليه، وإن تطاول ذلك به أو نسيه حتى يفرغ من حجه فليهرق دما، وقال عبد الحق: ظاهر هذا الكلام أنه إذا رجع إلى التلبية بعد الطول لا يسقط عنه الدم برجوعه إليها، بخلاف من لبى أول إحرامه ثم ترك التلبية ناسيا أو عامدا فهذا لا دم عليه. قاله الحطاب. وقال أبو إسحاق التونسي: ولو ابتدأ بالتلبية ثم ترك أو كبر فلا شيء عليه، وقيل: عليه دم، ونقله عنه التادلي، وعلى ذلك اقتصر صاحب التلقين، فقال: وإن قلل منها ولو مرة فلا دم عليه، وقال في العمرة: ويجزئ منها مرة واحدة وإن تركت

(1)

في الأصل: بناء، والمثبت من التهذيب ج 1 ص 493 والحطاب ج 3 ص 518 ط دار الرضوان.

ص: 501

في جميعه فدم، وقال ابن عرفة: فإن لبى حينا وترك ففي الدم، ثالثها إن لم يعوضها بتكبير وتهليل للمشهور وكتاب محمد واللخمي. انتهى.

وقال سيدي إبراهيم: قال ابن العربي: وإن ابتدأها ولم يعدها فعليه دم في أقوى القولين. انتهى. وكأن المصنف اعتمد ما تقدم وهو ظاهر. والله أعلم. قاله الحطاب.

وندب تَوَسّطٌ في علو صوته؛ يعني أنه يندب للملبي أن يتوسط في رفع صوته بالتلبية؛ أي يتوسط بين رفعه وخفضه، فلا يرفعه عاليا ليلا يعقد حلقه ولا يخفضه جدا بحيث لا يسمعه من يليه أو من هو قريب منه وهذا في حق الرجل، وأما المرأة فالمستحب في حقها أن تسمع نفسها فقط. قاله الشبراخيتي وغيره؛ لأن صوتها عورة يخاف منه الفتنة. قاله مالك. قاله الخرشي. وفيها؛ يعني أن الملبي يندب له أن يتوسط في التلبية، فلا يكثرها جدا حتى يلحقه الضجر ولا يقللها حتى يفوت المقصود منها وهو الشعيرة، ولكن يفعل ذلك تارة وتارة: قال مالك: ولا ينبغي للرجل أن يلبي ولا يسكت، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، ويكره كثرة الإلحاح بها. قاله بعض شراح الرسالة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: التوسط في علو الصوت بها والتوسط فيها كل واحد منهما مندوب لا سنة، خلافا للتتائي فيهما. انتهى. وعاودها بعد سعي؛ يعني أنه إذا قطع التلبية عند ابتداء دخول مكة أو عند الأخذ في الطواف على الخلاف المتقدم، فإنه إذا أتم سعيه بين الصفا والمروة يعاود التلبية، والمعاودة حكمها حكم التجديد المتقدم، وقوله:"وعاودها"؛ أي المحرم بحج، وأما المحرم بعمرة فقد انقضت عمرته فلا يعاودها بعد السعي. وإن بالمسجد، مبالغة في قوله:"وتوسط في علو صوته"، كما في الشبراخيتي وغيره؛ يعني أنه يتوسط في رفع صوته بالتلبية، وإن كان بالمسجد؛ يعني المسجد الحرام، ومثله مسجد منى؛ لأن ذلك يكثر فيهما فلا يشتهر بذلك الملبي لأنهما موضع لذلك، وأهل مكة كغيرهم في التلبية، وأما غير المسجد الحرام ومسجد منى من المساجد فيسمع نفسه به ومن يليه. ابن المواز: ويسمع نفسه ومن يليه في جميع المساجد غير المسجدين، فليرفع صوته فيهما.

وفهم مما قررت أن المسجد الحرام ومسجد منى ترفع التلبية فيهما عن غيرهما من المساجد. والله أعلم.

ص: 502

لرواح مصلى عرفة، اللام للانتهاء؛ يعني أنه إذا عاود التلبية بعد السعي لا يزال يلبي على ما مر حتى يروح أي يذهب إلى مصلى عرفة بعد الزوال، كما يشعر به لفظ رواح، فإن ذهب إليها قبل الزوال لبى إليه، فإن أحرم بعرفة بعد الزوال لبى بها ثم قطع على الشهور كما صرح به القرافي في شرح ابن الجلاب، وقال ابن الجلاب: يلبي إلى جمرة العقبة. انتهى. واقتصر التتائي على الثاني.

وأما من أحرم بها قبل الزوال فإنه يلبي للزوال، بمنزلة من أحرم بغيرها وأتاها قبل الزوال كذا ينبغي، ومصلى عرفة هو الذي يقال له مصلى إبراهيم، ومسجد عرنة بالنون، ومسجد نمرة فهي أسماء لمسمى واحد وهو الذي على يمين الذاهب إلى عرفة. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ الخرشي مفسرا لقوله "لرواح مصلى عرفة": بعد الزوال فيقطع ولا يعود إليها على ما رجع إليه مالك وثبت عليه، وكان ينبغي له أن يقول: لوصوله؛ أي لوصول مصلى عرفة وللزوال أيضا، ولا بد من الأمرين، فلو وصله قبل الزوال لبى للزوال، أو زالت عليه الشمس قبل وصوله له لبى لوصوله، فيعتبر أقصى الأمرين. انتهى.

واعلم أن البناء الصغير المربع الذي في الموقف عند جبل الرحمة الذي تسميه العامة بيت آدم، فأصله سقاية للحاج بَنَتْها أم المقتدر، وأما القبة التي على الجبل التي تسميها العامة قبة آدم فبنتها زبيدة زوجة الرشيد، وقد تقدم أن من أحرم من عرفة بعد الزوال لبى بها ثم قطع التلبية، والظاهر أن حد ذلك توجهه للوقوف، لكن ظاهر النقل أنه إذا أتى بالتلبية ولو مرة واحدة كفى. نقله الخرشي عن الأجهوري.

ولما بين مبدأ التلبية لمحرم الميقات بحج ومنتهاها، بين مبدأ المحرم به من مكة لمخالفته له دون منتهاه لموافقته له، فقال: ومحرم مكة يلبي بالمسجد؛ يعني أن من أحرم من مكة من أهلها أو مقيم بها ولا يكون إلا بحج مفرد، يبتدئ التلبية من مسجد مكة وهو في انتهائها على ما سبق، فيقطعها بعد الأخذ في الطواف حتى يتم سعيه فيعاودها لرواح مصلى عرفة، وحكم من أفسد الحج في قطع التلبية وغيره حكم من لم يفسده. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي عند قوله:

ص: 503

"يلبي بالمسجد": ظاهره أن محرم مكة إنما يلبي في المسجد وليس كذلك، فالباء بمعنى: من؛ أي ابتدائية، فابتداؤه من المسجد وانتهاؤه إلى مصلى عرفة كغيره. انتهى.

ولما نوع محرم الحج المتمادي عليه إلى قسمين، نوع محرم العمرة إلى قسمين أيضا بحسب طول المسافة وقصرها، فقال:(ومعتمر الميقات) يعني أن الشخص إذا أحرم بعمرة من الميقات فإنه يلبي تلبية مقارنة لإحرامه على ما سبق، ولا يزال يلبي إلى أن يدخل في أول الحرم مما يلي الميقات، وقوله:"ومعتمر الميقات"؛ يعني الذي أحرم من الميقات بعمرة كما قررت. (وفائت الحج) يعني أن الشخص إذا أحرم من الميقات بحج ففاته بحصر عدو أو مرض أو خروج وقت فتحلل منه بعمرة، فإنه يلبي حتى يدخل أول الحرم؛ لأن عمله صار عمل عمرة، فقوله:"وفائت"، بالجر عطف على "الميقات"؛ أي ومعتمر فائت الحج كما لعبد الباقي وغيره، أو بالنصب عطف على مقدر بعد قوله:"ومعتمر الميقات"؛ أي مدرك الحج، والمعنى على هذا أن المعتمر من الميقات سواء أدرك الحج أو فاته الحج لا يزال يلبي حتى يدخل أول الحرم مما يلي الميقات الذي اعتمر منه، قال فيها: ومن اعتمر من ميقاته قطع التلبية إذا دخل الحرم ثم لا يعاودها. انتهى. وفي هذا الوجه من التكلف ما لا يخفى، والوجه الأول هو الأسعد بظاهر المصنف، ونحا إليه غير واحد. والله سبحانه أعلم.

وبما قررت علم أن قوله: (للحرم) بيان لمنتهى تلبية معتمر الميقات وفائت الحج. والله سبحانه أعلم. فاللام بمعنى: إلى، التي هي لانتهاء الغاية؛ أي إلى أول الحرم مما يلي الميقات، وسيأتي بيان الحرم إن شاء الله تعالى.

(ومن الجعرانة) يعني أن من اعتمر من الجعرانة يلبي حتى يدخل البيوت أو المسجد الحرام، (والتنعيم) يعني أن المعتمر من التنعيم يلبي ولا يقطع التلبية حتى يدخل بيوت مكة أو المسجد الحرام.

وعلم مما قررت أن قوله: (للبيوت) بيان لمنتهى تلبية من أحرم بعمرة من الجعرانة أو من التنعيم. والله سبحانه أعلم. وأن اللام للانتهاء، قال في المدونة: والذي يحرم بعمرة من غير ميقاته مثل الجعرانة أو التنعيم يقطع إذا دخل بيوت مكة، قلت له: أو المسجد الحرام، قال: أو

ص: 504

المسجد الحرام كل ذلك واسع، قال الرماصي: واقتصر المؤلف على البيوت؛ لأنه لم ينقل عن المدونة إلا ذلك، وكأنه سقط من نسخته أو المسجد. قاله محمد بن الحسن. وروى الباجي عن مالك، وقاله ابن المواز أن العبد إذا عَتَقَ بعرفة فأحرم بها أنه يلبي؛ لأن الإحرام لا يكون إلا بتلبية ثم يقطعها مكانه، وكذلك النصراني يسلم، وذكر عن ابن الماجشون أنهما يلبيان إلى جمرة العقبة. انتهى. قاله الشارح.

واعلم أنه لا تكره التلبية للجنب ولا للحائض، لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت: (افعلى ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت

(1)

)، وقياسا على التسبيح والذكر. قاله الشارح.

ولما ذكر سنن الإحرام ذكر سنن الطواف، فقال: الطواف في المشي؛ قوله: "للطواف"، معطوف على المقدر في قوله أولا:"والسنة غسل متصل"؛ أي والسنة للإحرام، ثم قال:"وللطواف"؛ أي والسنة للطواف. قاله الشارح؛ يعني أن سنن الطواف أربع، منها المشي؛ أي يطوف ماشيا لا راكبا لا على الدواب ولا على أعناق الرجال كما نص عليه الشارح، وأطلق المصنف السنة هنا على الواجب الذي ينجبر بالدم وقد مر أن بعضهم يعبر عنه بالسنة ولكونه واجبا يجبر بالدم، قال: وإلَّا يطف ماشيا بأن ركب في طوافه أو حمل، فاللازم دم لقادر؛ يعني أن لزوم الدم لمن طاف راكبا أو محمولا إنما هو حيث كان قادرا على المشي حين طوافه راكبا أو محمولا، والحال أنه لم يعده أي لم يعد الطواف ماشيا، فإن أعاد الطواف ماشيا بعد رجوعه له من بلده مثلا فلا دم عليه، وأما إن كان بمكة فيطلب بإعادته ماشيا ولو مع البعد ولا يجزئه دم، وقوله:"للطواف"، شامل للواجب وغيره، خلافا لتخصيص أحمد له بالواجب، وأما قوله:"وإلا فدم"، فخاص بالواجب والسعي كالطواف في المشي في سائر ما مر، وإذا ركب فيه وفي الطواف معا فالظاهر أن عليه هديا واحدا للتداخل، ويحتمل أن عليه هديين كترك الرمي ومبيت منى. قاله الحطاب.

ومفهوم قول المصنف "لقادر"، أن العاجز لا شيء عليه، وهو كذلك، قال مالك: إلا أن يطيق فأحَبُّ إلي أن يعيد. قاله التتائي. قاله عبد الباقي. قوله: إن العاجز لا شيء عليه، قال محمد

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1650. ولفظه: افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. ومسلم، رقم الحديث:1119.

ص: 505

بن الحسن: لا يشترط في العاجز عدم القدرة بالكلية بل يكفي المرض الذي يشق معه المشي. قاله في التوضيح عن ابن عبد السلام. انتهى. وقوله: "لقادر" قال الشارح: اللام بمعنى: على. انتهى. ولا مانع من كونها للتقوية كما أشرت إليه في الحل. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه. والله سبحانه أعلم.

وقد علمت أن العاجز له الركوب، وإذا ركب فإنه يجب عليه أن يركب ما فضلته طاهرة؛ لأنه لا بد من أن يكون ذلك منه في المسجد، فلا يركب ما فضلته نجسة كالجلالة والخيل ونحو ذلك، والكِبَر عُذْرٌ في الركوب في الطواف والسعي.

وعلم مما مر أند لا فرق في الركوب بين أن يكون على دابة وبين أن يكون على آدمي. سحنون: العاجز يحمل ولا يركب؛ لأن الدواب لا تدخل المسجد. الباجي: له ركوب طاهر الفضلة، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام طاف راكبا، فلما فرغ من طوافه نزل عن راحلته فصلى الركعتين. ذكره عبد الوهاب. وفي الموازية عدم الإجزاء، وحمله أبو الوليد الباجي على مذهب المدونة، قال: ولا خلاف في إباحة الركوب للعذر، ولا يشترط فيه عدم القدرة بالكلية، بل يكفي المرض الذي يشق معه المشي. قاله الشارح. وفي الحطاب: قال القرافي: ويجوز الركوب لمن لا يطيق المشي وفي الكلفة وحدها قولان، والمشهور المنع. انتهى.

وأشار إلى السنة الثانية من سنن الطواف بقوله: (وتقبيل) عطف على المشي، وهو غير منون مضاف إلى (حجر) ويتعلق بالمصدر قوله: بفم؛ يعني أن من سنن الطواف أن يقبل الحجر الأسود بالفم وقوله: "بفم"، صفة كاشفة؛ لأن التقبيل لا يكون إلا بالفم، وتقبيل الحجر وضع الفم عليه، أول؛ أي أول الطواف؛ يعني أن من السنن تقبيل الحجر الأسود بالفم في أول الشوط الأول، وأما في باقي الأطواف فمستحب، وكذلك يسن استلام الركن اليماني بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل في الشوط الأول، وأما باقي الأطوفة فمستحب فيه، ومن سنن تقبيل الحجر الطهارة لأنه كالجزء من الطواف المشترط فيه الطهارة، وإن لم يقدر على استلام الركن اليماني بيده كَبَّرَ فقط.

ص: 506

والحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم الكفار لا المسلمين، أخرج ابن خزيمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (الحجر الأسود ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة وإنما سودته خطايا المشركين، يبعث يوم القيامة مثل أحد يشهد لمن استلمه وقبله في الدنيا

(1)

)، وعن ابن عباس أيضا: (يحشر الحجر الأسود يوم القيامة له عينان ولسان يشهد على من استلمه بحق

(2)

)، وفي الجامع الصغير: (نزل الحجر الأسود أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم، ولولا ما مسه من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا برئ

(3)

)، وقال محمد بن الحسن بناني: إن التقبيل في الطواف الواجب والتطوع هو الذي نسبه ابن عرفة للتلقين ولنقل اللخمي عن المذهب، وقد أطلق ابن شأس وابن الحاجب كالمصنف، وذلك كله خلاف قول المدونة، وليس عليه أن يستلم في ابتداء طوافه إلا [من عند

(4)

] الطواف الواجب. انتهى.

وفي الصوت قولان؛ يعني أنه اختلف في كراهة الصوت وإباحته على قولين، الأول لابن وضاح، والثاني لأبي عمران، ورجح غير واحد الجواز. قاله الحطاب. وقد علمت أن القول بالكراهة لابن وضاح: قال هو وغيره: يضع فاه عليه من غير صوت، والصوت إنما يكون في قبلة الاستمتاع، وقال أبو عمران: هذا ضيق، فلا فرق بين الصوت وغيره، قال: لأن من قبل خبزا أو مصحفا أو صبيا لا يقال إنه قصد الاستمتاع. انتهى. وكره مالك السجود على الحجر وتمريغ الوجه عليه، قال بعض شيوخنا: وكان مالك يفعله إذا خلا به. نقله الحطاب عن الشيخ زروق. وذكر العلامة ابن رُشَيْدٍ في رحلته أن الشيخ محب الدين الطبرى جاءه مستفت يسأله عن تقبيل الحجر يعني أبصوت أم دونه؟ فذكر له التقبيل من غير تصويت، فقال: إني لا أستطيع، قال: فأطرق الشيخ، ثم قال:

وقالوا إذا قبلت وجنة من تهوى

فلا تُمسمعن صوتا ولا تُعلن النجوى

(1)

صحيح ابن خزيمة، ج 3 ص 1160. الحديث:2734.

(2)

الترمذي، كتاب الحج، الحديث:961. ولفظه: والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به الخ. وابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث 2944.

(3)

الترمذي، رقم الحديث:877. ولفظه: نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم. والجامع الصغير، رقم الحديث:3802.

(4)

كذا في الأصل، والذي في التهذيب ج 1 ص 521. "إلا في الطواف".

ص: 507

فقلت ومن يملك شفَاها مَشُوقَةً

إِذَا ظَفِرَتْ يوما بغايتها القصوى

قال بعض المؤرخين: طول الحجر الأسود في الجدار ذراع وشبر، وعرضه ثمان وعشرون إصبعا، وارتفاعه عن الأرض ثلاثة أذرع إلا سبع أصابع. وعن ابن عباس: (أنزل الله الركن والمقام مع آدم ليلة نزل

(1)

). قاله النووي. وقال القرافي في الذخيرة: ويروى أن الحجر الأسود في أول مرة كان له نور يصل إلى آخر هذه الحدود، فلذلك منع الشرع من مجاوزتها لمن أراد الحج تعظيما لتلك الآثار، وروى ابن حبان في صحيحه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة فلولا أن الله طمس نورهما لأضاءا فيما بين الشرق والمغرب

(2)

): وروي: (الحجر يمين الله في الأرض

(3)

). ولم تُرَدْ به الجارحة إجماعا تقدس الله تعالى عن ذلك، ويحتمل معنيين: أحدهما عهد الله، من لمسه كان له عند الله عهد كما قال في الخمس صلوات: (من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة

(4)

)، ثانيهما أن يريد به ضربا من المثل في التقريب كخبر: المصلي يسجد على قدم الرحمن، إنما أراد المبالغة في التقرب: فهو كمن وصل لقدم السلطان الأعظم، وكذلك من وصل لتقبيل اليد في المبالغة في القرب. نقله الخرشي. عن الشيخ زروق.

وللزحمة مس بيدٍ؛ قد مر أن الطائف يقبل الحجر بفيه، ومحل ذلك، إن قدر على ذلك وأما إن لم يقدر على تقبيل الحجر بالفم لأجل ازدحام الناس مثلا، فإنه يمس الحجر بيده إن قدر على ذلك، ثم يضعها على فيه من غير تقبيل على المشهور وهو مذهب المدونة، وفي الموازية: يقبل، وقوله. "يمس"، بفتح الميم مضارع مس، قال تعالى:{ما لم تمسوهن} ، وحذف المصنف معموله أي يمس الحجر، وفي بعض النسخ: لمس بدل يمس. ثم عودٍ؛ يعني أنه إذا عجز عن أن يمس الحجر بيده فإنه يمسه بعود حيث لم يؤذ أحدا وإذا مسه بالعود وضعه على فيه من غير تقبيل، فار يكفي العود مع إمكان اليد، ولا اليد مع إمكان التقبيل بالفم. وَوُضِعَا؛ أي كل من اليد والعود

(1)

الدر المنثور، ج 1 ص 697.

(2)

ابن حبان، رقم الحديث:3732.

(3)

الإتحاف، ج 4 ص 344.

(4)

أبو داود، كتاب الحجر، الحديث:1420.

ص: 508

والفعل مبني للمجهول، على فيه من غير تقبيل، يريد أنه إذا لم يقدر على تقبيل الحجر الأسود بفيه، فإنه يمسه بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل، وكذا إذا عجز عن مس الحجر باليد فإنه يمسه بعود ويضعه على فيه من غير تقبيل. كما قررت قبل والله سبحانه أعلم.

ثم كبر؛ يعني أنه إذا لم يقدر على مس الحجر الأسود لا بيده ولا بعود فإنه يكبر فقط ويمضي بغير إشارة إليه بيده ولا رفع لها، وظاهر المصنف أنه إنما يكبر مع تعذر الاستلام وهو الذي فهمه في توضيحه من المدونة معترضا كلام ابن الحاجب اغترارا بظاهر التهذيب، والصواب ما لابن الحاجب من الجمع بين التكبير والاستلام، لا أَنَّ التكبير يختص بالعجز عن الاستلام، فالمعتمد أنه يكبر مع تقبيله بفيه أو وضع يده أو العود، كما أنه يكبر إذا عجز عن ذلك، وما ذكره المصنف من المراتب كما يجري في الشوط الأول يجري فيما عداه، وإذا جمع بين التكبير والاستلام فظاهر المدونة أو صريحها أن التكبير بعد التقبيل، وظاهر ابن فرحون أنه قبل التكبير، ويجري مثل ذلك في المس بيد ثم عود.

وقد مر أن قوله: "ثم كبر"، من غير إشارة إليه، واختار عياض الإشارة مع التكبير، والأكثر على عدمها، وفي الخرشي: ويجوز تقبيل المصحف والخبز ورأس العالم كما نص عليه أبو عمران، وقال الأجهوري في شرحه: ويكره تقبيل المصحف وكذا الخبز. انتهى. وفي الحطاب: قال في الطراز فيمن لا يستطيع أن يلمس الركن: قال مالك: يكبر ويمضي ولا يرفع يديه، وقال الشافعي: يشير بيديه وهو فاسد، ثم ذكر وجهه.

وأشار إلى السنة الثالثة من سنن الطواف بقوله: والدعاء؛ يعني أنه يسن للطائف أن يطوف داعيا، ومثل الدعاء الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بلا حد؛ يعني أن الدعاء الملابس للطواف غير محدود؛ أي لا حد في الدعاء ولا في المدعو به، فلا يقصر دعاءه على دنياه ولا على آخرته، ويكره أن يكون بدعاء معين. وقوله:"بلا حد"، قد علمت أن مثل الدعاء الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي شرح العمدة: والمستحب أن يطوف بالباقيات الصالحات، وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أو بغير ذلك من الأذكار، ولا يقرأ وإن كان القرآن المجيد أفضل الذكر؛ لأنه لم يرد أنه عليه الصلاة والسلام قرأ في

ص: 509

الطواف، فإن فعل فَلْيُسِر القرَان ليلا يشغل غيره عن الذكر، وفي التوضيح: ومما يستحب أن يقول {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، اللهم إليك بسطت يدي، وفيما عندك زادت رغبتي، فاقبل مسألتي وأقلني عثرتي. وتقدم أن المشهور كراهة التلبية، قال الأجهوري. وما في التوضيح لا يخالف ما تقدم عن شارح العمدة؛ لأن مراده بقوله: لا يقرأ؛ أي غير قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية، أو أنه لم يذكرها على أنها قرآن. انتهى.

وأشار إلى السنة الرابعة من سنن الطواف، بقوله: ورمل رجل؛ يعني أن من أحرم من الرجال من الميقات بحج أو عمرة يسن في حقه الرمل، والرمل بالتحريك أن يثب في مشيه وثبا خفيفا يهز منكبيه، وليس بالوثب الشديد، ولا رمل على النساء في طوافهن.

واعلم أن الرمل مختص بالرجل المحرم من الميقات بحج أو عمرة، وهو سنة في طواف القدوم وطواف العمرة الركني. والله سبحانه أعلم. في الثلاثة الأول؛ يعني أن الرجل إنما يسن في حقه الرمل في الأطواف الثلاثة الأول من طواف القدوم في الحج، أو من طواف العمرة الركني فيما إذا كان الإحرام بعمرة، ولا رمل فيما بقي من الأطوفة ولو لتاركه من الثلاثة الأول، ولا يكون آتيا بالسنة إن فعل كتارك سورة في الأوليين لا يقرأها في الأخيرتين، وإن قرأ لا يجزئه عنها في الأوليين، ولا هرولة في السعي ولا دم على من ترك الرمل، ولو تركه عمدا على المشهور الذي رجع إليه مالك وهو مذهب المدونة.

والأصل في الرمل خَبَرُ أبي داوود عن ابن عباس: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فقال المشركون: [إنهم يقدمون

(1)

] عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب وَلَقُوا منها شرا، فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ولم يأمرهم بذلك في الأشواط كلها رفقا عليهم، فلما رأوهم قالوا، هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أَجْلَدُ مِنَّا

(2)

) فكان السبب في الرمل في حقه عليه الصلاة والسلام وحق الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين إظهار القوة للمشركين، فهو مما زال سببه وبقي حكمه، وخَبَرُ المُوَطَإِ عن جابر: (رأيت رسول الله صلى الله

(1)

كذا في الأصل والذي في أبى داود ج 2 ص 178 ط دار إحياء السنة النبوية "إنه يقدم".

(2)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1886. ولفظه: وأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين. . . . هؤلاء أجلد منا قد ابن عباس ولم يأمر هم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم.

ص: 510

عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أشواط

(1)

)، قال مالك: وذلك الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا، وسيأتي لهذه المسألة أبسط من هذا إن شاء الله تعالى عند قول المصنف: ورمل محرم من كالتنعيم، ويأتي أن الرمل في طواف الإفاضة مستحب، وقال الشارح: قال بعض الأشياخ: الرمل بالنسبة للطائفين ثلاثة أقسام، قِسْمٌ يرملون باتفاق وهم المحرمون من الميقات، وَقِسْمٌ لا يرملون باتفاق وهم النساء والمتطوع بالطواف والطائف للوداع، وَقِسْمٌ اختلف في رملهم وهم المحرمون من الجعرانة والتنعيم والمراهقون والصبي والمريض والمحرم من مكة. انتهى. ولو مريضا؛ يعني أن الرجل يسن في حقه الرمل المذكور ولو كان مريضا حمل على دابة أو غيرها، فيرمل الحامل ويحرك الدابة كما يحركها ببطن محسر. أو صبيا؛ يعني أن الرمل يسن في حق الذكر الطائف، ولو كان صبيا حمل على دابة أو آدمي فيرمل الحامل، وتحرك الدابة كما تحرك ببطن محسر. وقوله: حملا؛ أي الصبي والمريض أي لا بد من الرمل بهما إذا حملا كما قررت، ورد بالمبالغة ما نقله الشارح، فإنه قال: قال في الجواهر: ولو طيف بالمريض الذي لا يقدر على الطواف بنفسه أو بالصبي، فالمنصوص في المريض أنه يرمل به، وفي الصبي قولان حكاهما أبو الحسن اللخمي في المريض. انتهى. ونص ما في التبصرة: واختلف في المريض يطاف به محمولا، فقال محمد: يرمل به، وقال ابن القاسم: لا يرمل بالصبي إذا طيف به محمولا، ولأصبغ: يرمل به. قلت: وهو مذهب المدونة، قال أبو الحسن اللخمي: وعلى قول ابن القاسم لا يرمل بالمريض وهو أحسن فيه، وفي الصبي لأن السنة وردت في ذلك فيمن كان صحيحا لترى قوته، والمريض وإن طيف به محمولا خارج عن ذلك. انتهى. ونسب ابن راشد القول في المريض بعدم الرمل لابن القاسم. انتهى كلام الشارح. قال الشارح: واحترز بقوله: "رجل". من المرأة، لأنه لم يشرع في حق النساء. ابن عبد البر: وأجمعوا على أنه لا رمل على النساء في طوافهن ولا هرولة في سعيهن، وفي الشبراخيتي: ولا رمل على امرأة ولو نابت عن رجل، بل التعليل يفيد نهيها عن ذلك. انتهى. وقوله:"ولو مريضا أو صبيا حملا"، كان الأولى أن يقول: ولو حامل مريض أو صبي، ويمكن أن يقال: يعد المريض والصبي طائفين بطواف الحامل لهما. وللزحمة

(1)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:816.

ص: 511

الطاقة؛ يعني أن المطلوب في الرمل إذا حصل الازدحام الطاقة أي ما يقدر عليه منه فلا يكلف فوق ما يطيقه، قال فيها: وإن زوحم في الرمل فلم يجد مسلكا رمل قدر طاقته. سند: يستحب للطائف الدنو من البيت، فإن كان بقربه زحام لا يمكنه معه الرمل، فإن كان يرجو فرجة إن تربص ووقف قليلا فعل، وإن لم يطمع لكثرة الزحام تأخر حاشية الناس ورمله حاشية الناس أولى من قربه من البيت، فإن تعذر من كل وجه فإنه يمشي ويعذر في ترك الرمل، ويكره الطواف مختلطا بالنساء والسجود على الركن، واستلام الركنين اللذين يليان الحجر، وكثرة الكلام وقراءة القرآن وإنشاد الشعر إلا ما خف كالبيتين إذا اشتملا على وعظ، وشرب الماء لغير مضطر، والبيع والشراء وتغطية الرجل فمه، وانتقاب المرأة والركوب لغير عذر، وحسر المنكبين والطواف عن الغير قبل الطواف عن النفس، وقد مر ذكر هذه المكروهات.

التادلي عن القرافي: فإن قيل كيف يصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه ركب في السعي وأنه رمل فيه؟ قلنا: رمل بزيادة تحريك دابته، ويلزم مثله في الطواف أيضا إذ لا فرق بينهما، وما رأيت أحدا نص عليه إلا ما يستقرأ من هذا الجواب، ويؤيده نصوص المذهب على استحبابه للراكب في بطن محسر وللماشي فلا فرق بينهما. انتهى. وما ذكره صحيح. قاله الحطاب. وفيه ما نصه: فرع: نقل في المسائل الملقوطة عن والده أنه يكره الطواف مع الاختلاط بالنساء. انتهى. ومر أن الرمل إنما هو للرجل، ومحل ذلك إذا طاف عن نفسه أو عن رجل آخر لا عن امرأة، ولا ترمل امرأة ولو نابت عن رجل اعتبارا بفعلها، والفرق بين مراعاة المنوب عنه في الأول دون الثاني أنها عورة كما لعبد الباقي.

وَلَمَّا أنهى الكلام على سنن الطواف، شرع يتكلم على سنن السعي، وذكر منها أربعا فقال: وللسعي لتقبيل الحجر؛ يقال في إعرابه ما قدمته عند قوله: "وللطواف المشي". والله سبحانه أعلم؛ يعني أن من سنن السعي بين الصفا والمروة تقبيلَ الحجر الأسود بعد أن يفرغ من الطواف وركعتيه إذا كان على وضوء؛ إذ لا يقبله إلا متوض، قال الحطاب عند قول المصنف:"وللسعي تقبيل الحجر": قال ابن فرحون: إن كان [على وضوء

(1)

]، فإن الحجر لا يستلمه إلا متوض.

(1)

في الأصل على غير وضوء والمثبت من الحطاب ج 3 ص 522 ط دار الرضوان.

ص: 512

انتهى. وهو ظاهر، وقال ابن عبد السلام: ظاهر المدونة أن هذا الاستلام آكد من الاستلام في الشوط الثاني، وظاهر كلام ابن الحاجب أنهما سواء.

وقوله: "وللسعي تقبيل الحجر" اعلم أنه يجري فيه التفصيل المتقدم من أنه للزحمة يمس بيد ثم بعود ووضعهما على فيه ثم كبر، وَجُعِلَتْ هذه السنة للسعي مع تعلقها بالحجر لكونها بعد ركعتي الطواف، ويخرج للسعي من أي باب، والمستحب من باب بني مخزوم وهو باب الصفا لقربه بعد شربه من ماء زمزم. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: ومن سنن السعي تقبيل الحجر الأسود حين فراغه من الطواف وركعتيه، ثم يمر بزمزم فيشرب منها ويدعو بما أحب، ثم يخرج من أي باب شاء، ويستحب من باب بني مخزوم. انتهى. قال الشيخ زروق: وينوي بشرب ماء زمزم ما أراده، فإن (ماء زمزم لما شرب له

(1)

)، وإن لم يصح الحديث به فقد جربت بركته. انتهى. وسيأتي تصحيح هذا الحديث، واستحب الخروج من باب بني مخزوم، (لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج منه

(2)

)، وقوله: وللسعي تقبيل الحجر، قال في المدونة: فإذا فرغ من طوافه أول ما دخل مكة وصلى الركعتين فلا يخرج إلى الصفا والمروة حتى يستلم، فإن لم يفعل فلا شيء عليه، فإذا طاف بالبيت بعد أن أتم سعيه وأراد الخروج إلى منزلة فليس عليه أن يرجع، فيستلم الحجر الأسود إلا أن يشاء. انتهى. وقال الشيخ زروق: يستحب لمن طاف وركع أن يكون آخر عهده بالبيت، فيقبل الحجر ثم يمر بزمزم فيشرب منها ويدعو عند ذلك بما أحب. انتهى. وهو صريح أنه يستحب تقبيل الحجر بعد الطواف وركعتيه وإن لم يكن بعد ذلك سعي. وقال ابن فرحون: لم يذكروا أنه يقبل الحجر بعد طواف الوداع وقبل الخروج من المسجد، وهو حسن. فتأمله. انتهى.

وأشار للسنة الثانية من سنن السعي، بقوله: وَرُقِيُّهُ: يعني أن من سنن السعي أن يصعد على الصفا والمروة فكلما وصل لإحداهما صعد عليها، لا أنه يصعد عليهما مرة فقط، ولا أنه يصعد على إحداهما فقط دون الأخرى، فإن ذلك بعض سنة، وفي المدونة: ويستحب أن يصعد إلى

(1)

مسند أحمد، ج 3 ص 357.

(2)

عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم. المعجم الأوسط للطبراني، الحديث:2880.

ص: 513

أعلاهما بحيث يرى الكعبة منه، ولا يعجبني أن يدعوَ قاعدا عليهما إلا من علة "ورقية عليهما" هذا في حق الرجال، وأما النساء فتقف أسفل الصفا والمروة، وليس عليهن أن يصعدن إلا لخلو من الزحام، ولهذا قال: كمرأة إن خلا؛ يعني أن المرأة كالرجل في أنها يسن لها الرُّقِيُّ على الصفا والمروة بشرط أن يكون موضع الرُّقِيُّ منهما قد خلا من الرجال ومزاحمتهم، وإلا وقفت أسفلهما. ابن فرحون: السنة القيام عليهما إلا من عذر، فإن جلس في أعلى الصفا فلا شيء عليه، وكما تقف الرجال تقف النساء أيضا إلا من بها علة أو ضعف، وما ذكره في المدونة من استحباب القيام قدر زائد على السنة، ويستحب رفع اليدين بالدعاء رفعا خفيفا.

وأشار إلى السنة الثالثة من سنن السعي بين الصفا والمروة، بقوله: وإسراعٌ بين الأخضرين؛ يعني أنه يسن للساعي إذا مر بين الميلين الأخضرين أن يسرع أي يخب من عند الميل الأول، وهذا الإسراغ فَوْقَ الرَّمَلِ في الطواف، قال سند: سعيا شديدا جيدا، والميلان الأخضران هما العودان اللذان في جدار المسجد الحرام على يسار الذاهب إلى المروة، أولهما في ركن المسجد تحت منارة باب علي، والثاني بعده قبالة رباط العباس، وثم ميلان آخران على يمين الذاهب في مقابلة الميلين الأولين، والميل في الأصل المرود الذي يكتحل به، وسميا ميلين لأنهما يشبهان المرودين، وقوله:"وإسراع بين الأخضرين فوق الرمل"، يريد: للرجال دون النساء. قاله الشارح. وهو ظاهر. والله سبحانه أعلم.

وقال محمد بن الحسن: ذكر الحطاب عن سند أن ابتداء الإسراع يكون قبل الميل الأول بنحو ستة أذرع، خلاف ما يوهمه المصنف. انتهى. وفي الشبراخيتي الجواب عن المصنف، فإنه قال: قال شيخنا في شرحه: قال الحطاب: ومقتضى كلام المصنف أن ابتداء الخبب من عند الميل الذي في ركن المسجد، وليس كذلك لما في الطراز أن ابتداءه قبله بنحو ستة أذرع حتى يجاوز الميلين الأخضرين اللذين بين المسجد ودار العباس، فيترك الرمل ويمشي حتى يبلغ المروة، ونحوه لابن جماعة الشافعي، لكن ما ذكره المصنف نحوه في المواق وابن عرفة، فلا اعتراض عليه. انتهى.

ثم الإسراع المذكور يكون في الذهاب إلى المروة والرجوع منها إلى الصفا، لا أنه لا يكون إلا في الذهاب إلى المروة فقط، وحكمة الإسراع بينهما أنه محل الأنصاب أي الأصنام، وهذا الإسراع

ص: 514

ذهابا وإيابا في جميع الأشواط وهو الذي يدل له ما في شرح المرشد تصريحا، فإنه قال بعد أن ذكر حكم البدء من الصفا: ثم ينزل من المروة ويفعل كما وصفنا من الذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والخبب. انتهى. ويفيده نقل المواق عن أبي إسحاق؛ يعني ابن شعبان.

وأشار إلى السنة الرابعة من سنن السعي بقوله: ودعاء؛ يعني أنه يسن الدعاء عند الصفا والمروة وإن لم يرق عليهما، وظاهر المدونة عند الرقي عليهما ولعله محمول على الأكمل، فهذه السنة عامة فيمن رقي عليهما ومن لم يرق عليهما، ولم يحد مالك في الدعاء حدا ولا لطول المقام وقتا، (وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام رقي على الصفا حتى رأى البيت واستقبل البيت وكبر ثلاثا، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده

(1)

)، ثم دعا، قال ذلك ثلاث مرات، ثم نزل المروة ففعل مثل ذلك، ولا يدع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بهما، وإذا نزل عن إحداهما فإنه يشتغل في مشيه بالذكر والدعاء والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كما في شرح ميارة. وقال الشارح: ولم يحد مالك في الدعاء على الصفا والمروة حدا ولا لطول القيام وقتا، واستحب المكث عليهما في الدعاء، وإن رفع يديه عليهما في الدعاء وفي الوقوف بعرفة فرفعا خفيفا، وترك الرفع في كل شيء أحب إلى مالك إلا في ابتداء الصلاة، فإنه يرفع. ابن حبيب: إذا خرجت إلى الصفا فارتقيت عليه حيث ترى البيت وأنت قائم، فارفع يديك حذو منكبيك وبطونهما إلى الأرض، ثم تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، ثم تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم تدعو ما استطعت، ثم ترجع فتكبر ثلاثا وتهلل مرة كما ذكرنا ثم تدعو ثم تعيد التكبير والتهليل والتحميد ثم تدعو، تفعل ذلك سبع مرات فيكون إحدى وعشرين تكبيرة وسبع تهليلات، والدعاء بين ذلك، ولا تدع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مروي وليس بلازم، ومن شاء زاد أو نقص أو دعا بما أمكنه. أبو محمد: وروي ذلك عن ابن عمر وغيره. ابن حبيب: ثم تفعل على المروة كما

(1)

جزء من حديث جابر الطويل، كتاب الحج، مسلم، رقم الحديث:1218.

ص: 515

فعلت على الصفا، هكذا يفعل في كل وقفة حتى يتم سبعة أشواط، وذلك ثمان وقفات أربع على الصفا وأربع على المروة. انتهى كلام الشارح.

وفي سنية ركعتي الطواف ووجوبهما تردد؛ يعني أن أهل المذهب اتفقوا على عدم ركنية ركعتي الطواف مع أنه لا خلاف في مشروعيتهما: واختلفوا هل هما واجبتان على الإطلاق؟ وإليه نحا أبو الوليد الباجي، أو هما سنة على الإطلاق، وإليه نحا القاضي عبد الوهاب؟ وإلى ذلك أشار بالتردد، وذهب الشيخ أبو بكر الأبهري وأبو الوليد بن رشد إلى أن حكمهما حكم الطواف في الوجوب والندب. قاله الشارح. وعلى قول الأبهري اقتصر ابن بشير في التنبيه، قال الحطاب: وهو الظاهر، قال عبد الباقي: وترك المصنف قول الأبهري؛ لأن الأبهري ليس من المتأخرين حتى يدخله في التردد. انتهى. قال محمد بن الحسن: وفيه نظر، فإن الأبهري في طبقة ابن أبي زيد والقابسي وقد ذكروا أن هذه الطبقة أول طبقة من المتأخرين، ووجه وجوب الركعتين على القول بوجوبهما مع ندب الطواف أنهما لما كانتا تابعتين له فكأنهما من تتمته، وبالشروع فيه كأنه شرع فيهما، فلذا وجب الإتيان بهما على هذا القول.

واعلم أن من ترك ركعتي الطواف حتى تباعَدَ أو رجع لبلده فإنه يركعهما مطلقا ويهدي إن كانتا من فرض فقط، فإن لم يتباعد ولا رجع لبلده ركعهما فقط من فرض أو نفل إن لم تنتقض طهارته، وإلا فإن تعمد نقضها أعاد الطواف ولو غير فرض وصلى ركعتيه وأعاد السعي، وإن لم يتعمد ففي الفرض يعيد الطواف والركعتين والسعي، فإن كان نفلا صلى ركعتيه وخير فيه، فبان من هذا أن الفرض والنفل في ترك الركعتين يتفقان فيما إذا لم تنتقض الطهارة، ولم يحصل بعد وفيما إذا تعمد نقض الطهارة، ويختلفان في حالة البعد وفيما إذا انتقضت طهارته بغير تعمد. انظر الخرشي. وظاهر كلام المصنف هنا، وقوله الآتي:"وركوعه للطواف بعد المغرب قبل تنفله"، أن الفرض لا يجزئ عنهما، فلذا لم يقل ذلك فيهما كما قاله في ركعتي الإحرام، ولعل الفرق أنه قيل بوجوبهما هنا بخلاف ركعتي الإحرام، وكره جمع أسابيع وصلاة ركعتين فقالها أو لكل أسبوع ركعتين عقب أسبوعين أو أكثر، ويقطع الثاني إن شرع فيه قبل ركعتي الأول، فإن أتمه فلكل ركعتان على المشهور لا ركعتان فقط للجميع.

ص: 516

اللخمي: وقياس المذهب أن الثاني طول يوجب استئناف ما تقدم من طواف، وفي الذخيرة: أن الشروع في طواف التطوع يوجب إتمامه، وكذا الحج والعمرة والصلاة والصوم والاعتكاف والائتمام، فهذه التطوعات السبعة يجب إكمالها بالشروع فيها ولا يوجد لها ثامن، وقول المالكية: التطوع يجب إتمامه محمول على هذا، وقد نصوا على أن الشروع في تجديد الوضوء وغيره من قراءة القرآن وبناء المساجد وغيرها من القربات لا يجب إتمامها بالشروع فيها، وأنشد ابن عرفة في ذلك:

صلاة وصوم ثم حج وعمرة

عكوف طواف وائتمام تحتما

وفي غيرها كالوقف والطهر خيرن

فمن شاء فليقطع ومن شاء تمما

ويعني بالوقف بناء الأوقاف، كالمساجد والقناطر والسقايات وحفر الآبار وغير ذلك. قاله عبد الباقي. وتقدم عن محمد بن الحسن ما يفيد التعميم في الفرض والنفل في قوله: وفي غيرها كالوقف والطهر الخ، ونصه عند قول عبد الباقي في قول المصنف في الوضوء:"وبني" استنانا يفيد أن البناء على الوضوء سنة، فإذا رفض ما فعل منه وابتدأ آخر كان مخلا بالسنة، وقد صرحوا بأن المتوضئ مخير في إتمام وضوئه وتركه، ونظموا ما يجب إتمامه بالشروع وما لا يجب فيه بما نصه: صلاة وصوم ثم حج وعمرة الخ.

وتحصل مما مر أنه لا يجمع بين أسبوعين فأكثر من غير أن يركع لكل طواف كان في وقت تحل فيه النافلة أم لا، لكن إذا طاف في وقت تكره فيه النافلة يؤخر ركعتيه لوقت الإباحة فيصليهما بعد طلوع الشمس وبعد غروبها بشرط أن لا ينتقض وضوءه، ولا خلاف بين أرباب المذاهب أن ركعتي الطواف ليستا بركن، والمذهب أنهما واجبتان تجبران بالدم. انتهى. قاله سند. قاله الحطاب. وقال ابن عسكر في العمدة: المشهور أن حكمهما حكم الطواف، وفي الحطاب بعد جلب نقول: فيتحصل من هذا أن المشهور من المذهب وجوب ركعتي الطواف الواجب. انتهى. وقاله غير واحد. وأخر ركعتي الطواف عن سُنَنِ السعي مع أنهما متعلقتان بالطواف السابق على السعي ليقدم السنن قطعا المتعلقة بهما على السنة المختلف في وجوبها وسنيتها. وندبا؛ يعني أنه يندب أن تكون القراءة في ركعتي الطواف بالكافرون مع الفاتحة في الأولى وبالإخلاص معها في الثانية،

ص: 517

والضمير في ندبا عائد على الركعتين، ويتعلق بالفعل المجرور الآتي، وعلى المصنف درك في إسقاط التاء من قوله:"وندبا"؛ لأن الضمير المستتر والبارز حكمهما واحد؛ أي يجب تأنيث الفعل لهما إن كانا لمجازي التأنيث والله سبحانه أعلم. وأما ما في مختصر الواضحة من أنه يستحب أن يقرأ في الأولى بأم القرآن و {قل هو الله أحد} وفي الثانية بأم القرآن و {قل يأيها الكافرون} ففيه مخالفة السنة من وجهين؛ أحدهما القراءة على خلاف ترتيب المصحف، والثاني تطويل الثانية على الأولى، واستدلاله بما روى جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طاف تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، فجعل المقام بينه وبين البيت، ثم قرأ في الركعتين بـ {قل هو الله أحد} و {قل يأيها الكافرون}

(1)

) فلا دليل فيه؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب. قاله الحطاب.

كالإحرام؛ يعني أنه تندب قراءة ركعتي الإحرام بـ {قل يأيها الكافرون} في الأولى و {قل هو الله أحد} في الثانية، فقوله: بالكافرون والإخلاص، متعلق "بندبا" كما مر، فهو راجع لمسألتي المشبه به والمشبه. وبالمقام؛ يعني أنه يستحب إيقاع ركعتي الطواف بالمقام أي مقام إبراهيم؛ أي يستحب إيقاع ركعتي الطواف خلف المقام، وهو الحَجَرُ بفتح الحاء والجيم الذي قام عليه إبراهيم حين أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج، ويقال: من أجاب حج بعدد إجابته، وقوله:"بالمقام"، ليس المراد أنه يوقعهما في داخل البناء المحيط به لأنه قول ضعيف وما مر من سبب قيام الخليل عليه هو أحد أقوال ثلاثة، ثانيها أنه وقف عليه حين غسلت له زوجة ابنه رأسه في قصة طويلة، ثالثها أنه قام عليه لبناء البيت وكان إسماعيل يناوله الحجارة. قاله عبد الباقي.

وقوله: "بالمقام" قد علمت أن إيقاعهما به مندوب، فيصح أن يركعهما في كل موضع حتى لو طاف بعد العصر أو بعد الصبح وأخر الركعتين فإنه يصليهما حيث كان ولو في الحل ما لم ينتقض وضوءه؛ ولكن المستحب أن يركعهما في المسجد أو بمكة، والأفضل من المسجد خلف المقام، والحاصل أن الأفضل المسجد، وأن الأفضل من المسجد خلف المقام في كل طواف، وأن مكة أفضل من غيرها فالمسجد أفضل مواضعها وأفضل المسجد خلف المقام فإن لم يمكنه أن يوقعهما خلف

(1)

مسلم، رقم الحديث:1218.

ص: 518

المقام فحيث ما تيسر من المسجد ما خلا الحِجْرَ والبَيْتَ وظهره، ومن ركع الركعتين الواجبتين من طواف السعي والإفاضة في الحجر أعادهما بالقرب، وإن بعد أعاد الطواف والركوع والسعي ما كان بمكة أو قريبا منها، فإن بعد أجزأتاه ويبعث بهدي. نقله ابن يونس عن ابن القاسم.

ابن بشير: لا يركع ركعتي الطواف الواجب في الحجر، فإن ركعهما فيه فهو بمنزلة ما لو ركعهما في البيت، ويختلف في إعادتهما ما دام بمكة على الاختلاف فيمن صلى الفريضة في البيت، قيل: يعيد في الوقت، وقيل: أبدا، وقيل: لا إعادة، فإن عاد إلى بلده ركعهما هناك، ويختلف هل يلزمه هدي. انتهى. قاله الحطاب. وقال في المدونة: ولا يصلى في الحجر ولا في الكعبة فريضة، ولا ركعتا الطواف الواجب، ولا الوتر، ولا ركعتا الفجر، فأما غير ذلك من ركوع الطواف فلا بأس. انتهى. قاله الحطاب. ودعاء بالملتزم؛ يعني أنه يندب بعد الطواف وركعتيه الدعاء بالملتزم، وهو ما بين الباب والحجر الأسود. أبو عمر: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلصق صدوه ووجهه بالملتزم

(1)

). انتهى. نقله الشيخ زروق. ويستحب له أن يدعو في طوافه بما تيسر، وكذلك في المقام والحطيم والملتزم وعند الحجر الأسود والركن اليماني، والباب المغلق الذي كان فتحه ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما، وفي الحجر تحت الميزاب ولا حد في ذلك كله. قاله محمد بن الحسن. وقال الشبراخيتي: وندب دعاء بلا حد بالملتزم بعد طوافه وهو ما بين الباب والحجر الأسود، فيلتزمه ويعتنقه واضعا صدره ووجهه وذراعيه عليه، باسطا كفيه كما كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعل.

ويُقْبَل الدعاء في خمسة عشر موضعا: الملتزم، وتحت الميزاب، وخلف المقام، وفي الطواف، وفي عرفة، وفي المزدلفة، ومنى، وعند الجمرة الأولى، وعند الجمرة الثانية، وعند الصفا، وعند المروة، وزمزم، وفي السعي، وعند المشعر، وفي الحطيم. وسمي حطيما لأنه يدعى فيه على الظالم فيحطم. ونظمها شيخنا في شرحه فقال:

(1)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1899. البيهقي، ج 5 ص 164.

ص: 519

قبول الدعا خلف المقام وزمزم

كمسعى طواف والحطيم ومروة

وملتزم جمع ومشعر والصفا

منى وبميزاب وموقف رحمة

وبالجمرة الأولى وتالية لها

ولم يذكروا هذا بجمر عقبة

وفي الواضحة: وإذا أردت الخروج فطف بالبيت سبعا؛ يعني طواف الوداع، ثم صل خلف المقام ركعتين، ثم تأتي زمزم فتشرب من مائها، ثم تأتي الملتزم وهو ما بين الركن والباب فتدعو كثيرا رافعا يديك راغبا إلى الله تعالى أن يتقبل حجك وأن يقلبك عتيقا من النار، وألصق صدرك ووجهك بالمتلزم، تم استلم الحجر وقبله إن قدرت على تقبيله، ثم انفر إلى بلدك فقد قضى الله تعالى حجك. قاله الحطاب.

واستلام الحجر؛ يعني أن استلام الحجر الأسود أي تقبيله على ما مر في غير الشوط الأول مندوب، وقد مر أن التقبيل وما في حكمه في الشوط الأول سنة. واليماني أي، وكذلك يستحب استلام الركن اليماني أي لمسه باليد في غير الشوط الأول، وأما استلام الركن اليماني في الشوط الأول فسنة: وقد علمت أن المصنف هنا أطلق الاستلام على تقبيل الحجر الأسود ولمس الركن اليماني باليد، فيستلمه الطائف بعد مروره على الشاميين المحاذيين للحجر بكسر الحاء، فاليماني منتهى في كل شوط آخره الحجر الأسود، وأما بالنسبة لليمن فلا فاصل بينهما.

وعلم مما قررت أن قوله: بعد الأول، متعلق "باستلام"، فهو راجع للمسألتين، وفهم من المصنف أن استلام اليماني سنة في الشوط الأول؛ لأنه لما نفي عنه الاستحباب تعينت السنية؛ إذ لا يتوهم الوجوب لأن استلام الحجر الذي هو آكد منه سنة، وفهم من اقتصار المصنف على هذين الركنين أن الركنين الشاميين لا يستلمان ولا يكبر عندهما، وهو كذلك نص عليه في المدونة وغيرها، ونقل ابن فرحون عن أبي الفرج أنه يكبر عند محاذاة كل ركن.

وعلم مما مر أن عدد التقبيلات ثمانية، سبعة الطواف، والثامنة الواقعة بعد ركعتي الطواف عند إرادة السعي، فالأولى سنة والسبع بعدها مندوبات.

ص: 520

واقتصار على تلبية الرسول صلى الله عليه وسلم يعني أنه يندب للملبي أن يقتصر على التلبية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها، ونقل عن مالك كراهة الزيادة عليها، وتلبيته صلى الله عليه وسلم هي: (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك

(1)

)، وعن مالك إباحة الزيادة عليها، فقد زاد عمر: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك لبيك مرهوبا منك ومرغوبا إليك، وابن عمر: لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرغباء إليك. والعمل. انتهى. والرغباء: المسألة، ومعنى لبيك إجابة بعد إجابة، فالإجابة الأولى إشارة لقوله عز وجل:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، والثانية قوله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، ويقال: إن إبراهيم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه لما أذن بالحج أجابه الناس في أصلاب آبائهم، فمن أجابه مرة حج مرة، ومن زاد زاد، فالمعنى أجبتك في هذا كما أجبتك في الأول. وأول من لبى الملائكة وهم أول من طاف، وتكره الإجابة بها في غير الإحرام، وأما إجابته صلى الله عليه وسلم فمن خصائصه. الجزولي: ما رأينا من قال: إذا لم يقل الصفة التي قال أبو محمد عليه الدم. انتهى. قاله الحطاب.

واعلم أن الصواب ما قاله ابن هارون أن الذي كرهه مالك إنما هو تلبية الحج، وأما مجرد قول الرجل لمن ناداه لبيك فلا بأس به بل هو أحسن أدبا، وفي الشفا عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما ناداه صلى الله عليه وسلم أحد من أصحابه ولا من أهل ملته إلا قال: لبيك

(2)

)، وبه يرد قول ابن أبي جمرة أنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك معهم. انظر حاشية الشيخ بناني. والله سبحانه أعلم. وقوله: إن الحمد، روي بكسر الهمزة على الاستئناف، وبفتحها على التعليل والكسر أجود عند الجمهور، قال ثعلب: لأن من كسر جعل معناه إن الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال معناه لبيك لهذا السبب، والمشهور في النعمة النصب على العطف. عياض: ويجوز فيها الرفع على الابتداء والخبر محذوف، وإن شئت جعلت المحذوف خبر إن، وكذا يقال. في قوله: والملك. ولبيك مثنى عند سيبويه والجمهور منصوب على أنه مفعول مطلق ولا يكون عامله

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1549.

(2)

الشفا للقاضي عياض، دار الفكر، بيروت ط 1. 2001، ص 186. ولفظه: ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: لبيك.

ص: 521

إلا مضمرا من معناه، وليست التثنية فيه حقيقية بل للتكثير والمبالغة، ومعناه إجابة بعد إجابة بعد إجابة.

وقال الشارح: اختلف في معنى التلبية فذكر الشيخ وصاحب الذخيرة فيها سبعة أقوال: الأَوَّلُ الإجابة أي إجابة بعد إجابة، الثَّانِي اللزوم أي أنا مقيم على طاعتك وأمرك من قولهم: لب بالمكان إذا أقام به، الثَّالِثُ المحبة من قولهم لبة إذا كانت تحب ولدها، الرَّابعُ الإخلاص أي إخلاص لك من قولهم لب الطعام ولبابه، الخَامِسُ الخضوع من قولهم أنا ملب بين يديك أي خاضع، السَّادِسُ أن معنى لبيك اتجاهي إليك أي توجهي من قولك داري تلب دار فلان أي تواجهها: السَّابعُ من الإلباب وهو القرب ونظير هذه اللفظة حنانيك ودواليك أي هب لنا منك رحمة بعد رحمة ولك دولة بعد دولة. انتهى. ومذهب يونس أنها أسماء مفرد قلبت الألف فيها ياء كما في على ولدي، ومذهب سيبويه والجمهور هو ما قدمت. والله سبحانه أعلم.

ودخول مكة نهارا؛ يعني أنه يستحب للآتي مكة -شرفها الله تعالى- أن يدخلها نهارا، قال في المدونة عن مالك: ومن أتى مكة ليلا فواسع أن يدخل وَأَسْتَحِبُّ له أن يدخل نهارا. انتهى. وروى البخاري عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة

(1)

)، وقال الشيخ زروق: يستحب للآتي مكة أربع: نزوله بذي طوى وهو الوادي الذي تحت الثنية العليا ويسمى الزاهر، واغتساله فيه، ونزول مكة من الثنية العليا، ومبيته بالوادي المذكور فيأتي مكة ضحى. انتهى. نقله غير واحد. وقال سند: يستحب لمن أتى مكة ليلا أو في ضيق نهاره أن يبيت بذي طوى، فإذا أصبح وأراد دخول مكة اغتسل، وقال أيضا: يستحب أن يدخل مكة على طهر ليكون طوافه متصلا بدخوله. قاله الحطاب. وقال الحطاب أيضا: قال الشيخ زروق في شرح الإرشاد. يستحب له عند إتيان مكة أربع: نزوله بذي طوى وهو الوادي الذي تحت الثنية العليا ويسمى الزاهر، واغتساله فيه لدخول مكة ولا تفعله الحائض والنفساء وهو سنة على المشهور ولا يتدلك فيه بغير إمرار اليد برفق ليلا يزيل الشعث كسائر غسولات الحج التي داخل إحرامه، ونزول مكة من الثنية العليا إن كان من ناحية المغرب، وأن يبيت

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1574.

ص: 522

بالوادي المذكور فيأتي مكة ضحى. انتهى. واستحب مالك للمرأة إذا دخلت نهارا أن تؤخر الطواف، فإن طافت فلا شيء عليها. اللخمي: قال محمد: إن جاء بعد العصر أحب إلي أن يقيم بذي طوف حتى يمسي ليصل بين طوافه وركوعه وسعيه، فإن دخل فلا بأس أن يؤخر الطواف حتى تغرب الشمس، وإن طاف أخر الركوع والسعي حتى تغرب الشمس، فيركع ويسعى إن كان بطهر واحد فإن انتقض وضوءه توضأ وأعاد الطواف والسعي إن كان بمكة، وإن خرج وتباعد بعث بهدي ويقدم المغرب على ركعتي الطواف، قال: وقال أبو مصعب: ذلك واسع، قال: ويختلف إذا أتى بعد صلاة الصبح، فعلى قول مالك: يؤخر الدخول حتى تطلع الشمس، فإن دخل أمسك عن الطواف، وعلى قول مطرف: يدخل حينئذ ويطوف ويركع لأنه جوز الركوع للطواف بعد الصبح ما لم يسفر، وذكر نحوه في النوادر عن محمد بن المواز عن مالك قاله الش.

والبيت؛ يعني أنه يستحب دخول البيت نهارا أو ليلا كما في النفل، (فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن شيبة بعائشة رضي الله تعالى عنها ليفتح لها ليلا، فاعتذر له بأنه لم يفتحها ليلا لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فوافقه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وجاء بها إلى الحجر وقال: صلي فيه

(1)

).

واعلم أنه يستحب النفل في البيت والنظر إليه للأخبار الواردة، ويقول من دخله كما في الخرشي: اللهم أنت وعدت الأمان دُخَّال بيتك وأنت خير منزول به: اللهم اكفني مؤنة الدنيا وكل هول دون الجنة حتى تبلغنيها برحمتك ويستحب أن يستحضر عند رؤية البيت ما أمكنه من الخشوع والتذلل، وعن الشبلي أنه غشي عليه عند رؤية البيت فأفاق وأنشد:

هذه دارهم وأنت محب

ما بقاء الدموع في الآماق

وتحصل مما مر أن دخول البيت ولو ليلا جائز، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم المفاتيح بيد مَنْ هِيَ مَعَهُ جَبْرا لخاطره وتطييبا فلا يكون فيه دليل على كراهة دخوله ليلا. والله سبحانه أعلم. ومقتضى كون ستة أذرع من الحجر من البيت أن من دخل في ذلك المقدار قد أتى بالمستحب من دخول البيت. قاله الجيزي. قاله عبد الباقي. والله سبحانه أعلم. سند: ويستحب دخول البيت

(1)

مسند أحمد، ج 6 ص 67.

ص: 523

لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك

(1)

)، ويستحب التنفل في البيت، قال في مختصر الواضحة: سئل مالك عن الصلاة في البيت وعن دخوله على ما [نذر

(2)

]، عليه الداخل؟ فقال: ذلك واسع حسن. انتهى. قاله الحطاب.

ومن كداء لمدني؛ يعني أنه يستحب لمن أتى مكة من طريق المدينة كان من أهل المدينة أم لا، أن يدخل مكة من كداء، بفتح الكاف والمد والدال المهملة منونا: الثنية التي بأعلى مكة يهبط منها للأبطح والمقبرة تحتها عن يسارك، وهو المعروف الآن بباب المعلى، وضبطها يوسف بن عمر بإعجام الذال وهو غلط، ولعله توهمه من قول السيدة عائشة: موعدك كذا، فإنه بالذال المعجمة، وليس هو الثنية إنما هو اسم كنى به عن موضع، وقوله:"لمدني"؛ أي ذلك للآتي من طريق المدينة، ومفهومه أن الآتي لمكة من غير طريق المدينة لا يندب له الدخول من كداء، سواء كان من أهل المدينة أو من غيرهم، وللفاكهاني: المشهور أنه يندب لكل حاج أن يدخل من كداء وإن لم تكن طريقه لاستقبال الداخل وجه الكعبة. انتهى. ولأنه الموضع الذي دعا فيه إبراهيم ربه بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم فقيل له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، ولذا قال:{يَأْتُوكَ} ، ولم يقل: يأتوني. انتهى. وقال السهيلي: وإنما استحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أتى مكة أن يدخل من كداء؛ لأنه الموضع الذي دعا فيه إبراهيم ربه بأن لخ: وقال الشيخ زروق عند قول صاحب الرسالة: ويستحب أن يدخل مكة من كداء: الثنية التي بأعلى مكة، وإنما يدخل من هذه لفعله عليه الصلاة والسلام، وحكمة دخوله من أعلاها، قيل: لدعوة إبراهيم عليه السلام: إذ قال: {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ، ولم يقل: تصعد إليهم. والله أعلم. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وبهذا يتضح ما تقدم قبل من قول القائل، ولذا قال:{يَأْتُوكَ} ، ولم يقل: يأتوني، فمعناه لو قال يأتوني لكان المأمور به الإتيان إلى البيت من أي جهة كانت. والله سبحانه أعلم. وقوله:"لمدني"، قال الشبراخيتي وغيره: متعلق بمقدر؛ أي ذلك لمدني، فإن قلت: هلا علقت قوله: "لمدني"، بقوله:"دخول"؟ فالجواب أنا لو علقناه به

(1)

البخاري، كتاب الصلاة، الحديث:397. ومسلم، كتاب الحج، الحديث: 1329.

(2)

كذا في الأصل، والذي في الحطاب ج 3 ص 526 ط دار الرضوان: قدر.

ص: 524

لاقتضى أن دخول مكة نهارا بالنسبة للمدني أي: من أتى من طريق المدينة، وليس كذلك. انتهى.

والمسجد من باب بني شيبة؛ يعني أنه يستحب دخول المسجد من باب بني شيبة وإن لم يكن في طريق الداخل كما هو الظاهر من إطلاقاتهم، وهو الظاهر؛ إذ لا كبير كلفة في ذلك، وباب بني شيبة هو المعروف الآن بباب السلام. ابن حبيب: دخل صلى الله عليه وسلم المسجد من باب بني شيبة، وخرج إلى المدينة من باب بني سهم. قاله الشيخ إبراهيم. وخروجه من كدى؛ يعني أنه يستحب للمدني إذا أراد الخروج من مكة أن يخرج من كدى بالضم والقصر منونا، وهو الثنية الوسطى التي بأسفل مكة، فقد خرج منها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ويعرف بباب بني سهم، وفي الموطإ أن الرسول صلى الله عليه وسلم (كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى

(1)

) ينزل لها من باب بني شيبة، وظاهر المصنف استحباب خروجه من كدى وإن كانت طريقه من غيرها، وثم موضع آخر يقال: له كُدَيٌّ بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء، وهو الذي يخرج منه إلى اليمن، وفي الدخول من كداء والخروج من كدى مناسبة في الفتح للدخول وفي الضم للخروج، وندب خروجه للسعي من باب الصفا كما مر.

وركوعه للطواف بعد المغرب قبل تنفله؛ يعني أن من طاف بعد العصر طوافا واجبا أو تطوعا يؤخر ركوعه لطوافه ذلك إلى أن يصلي المغرب، فإذا صلاه فإنه يستحب له أن يركع ركعتي الطواف قبل تنفله للمغرب فالاستحباب منصب على كون ركوع الطواف قبل التنفل، وأما كونه بعد المغرب فاستحبابه معلوم من كراهة صلاة النافلة قبل صلاة المغرب، ولابن رشد: الأظهر تقديمهما على المغرب لاتصالهما حينئذ بالطواف ولا يفوتانه فضيلة أول الوقت لخفتهما، وفي المصنف رد عليه، وإنما جاز الفصل بين الطواف وركعتيه بالمغرب؛ لأنه إذا جاز الفصل بين أجزاء الطواف بالفرض مع الجماعة فالفصل بينه وبين ركوعه أولى، وليس في كلام المصنف أنه يؤخر الطواف حتى تغرب الشمس، وقد نص محمد على أن الأحب لمن جاء بعد العصر أن يقيم بذي طوى حتى يمسي ليصل بين طوافه وركوعه، فإن دخل فلا بأس أن يؤخر الطواف حتى

(1)

صحيح البخاري، رقم الحديث:1575.

ص: 525

تغرب الشمس أي ويصلي المغرب، وظاهر كلام المصنف يشمل من طاف قبل الغروب ومن طاف بعده، وإن كان المستحب لمن دخل مكة قبل الغروب أن يؤخر الطواف حتى يصلي المغرب، وربما يستفاد مما تقدم أن الطواف ولو واجبا كصلاة النافلة في الكراهة بعد العصر إلى أن تصلى المغرب، وبعد الصبح إلى حل النافلة، وقد يقال إن الكراهة في الطواف الواجب إنما هي للفصل بينه وبين ركعتيه لا لذاته. وإذا نوى قبل الوتر أن يوتر ثم يطوف بعد الوتر، هل يكره لأنه تنفل بعد الوتر نوى فعله قبل أن يوتر أم لا؟ والأول هو الظاهر. قاله الخرشي.

وقوله: "وركوعه للطواف"، علم مما قررت أنه عام: فقول عبد الباقي: وندب ركوعه للطواف بعد العصر حين دخوله مكة. انتهى. قال محمد بن الحسن: فيه نظر، ولا وجه لهذا التقييد، يعني بالمقييد قوله: حين دخوله مكة، بل كلامه عام في كل طواف بعد العصر. انتهى. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وركوعه" لخ، هو لمالك، وروي عنه أيضا في العتبية أنه مخير، فإن شاء ركع للطواف أو صلى المغرب. وبعد طلوع الشمس؛ يعني أن من طاف بعد الصبح يستحب له أن يؤخر ركوعه للطواف حتى تطلع الشمس وتحل النافلة، فإذا حل النفل فإنه يستحب له أن يركع للطواف قبل تنفله ويستحب له أن يؤخر دخول مكة حتى تطلع الشمس، كما قال مالك، فإن دخل قبله أمسك لطلوعها، ولو على القول بوجوبهما مراعاة للقول بالسنة، قال عبد الباقي: ويعلم مما هنا أن الطواف ولو واجبا كصلاة النفل في كراهته بعد الصبح والعصر إلى أن ترتفع قيد رمح وتصلى المغرب. انتهى. وقد مر ما يفيد الجواب عما قاله في الواجب.

وبالمسجد؛ يعني أنه يندب إيقاع ركعتي الطواف بالمسجد الحرام، وتقدم ندب إيقاعهما خلف المقام فهو مندوب آخر، فلو أوقعهما بمنزلة أو بأي مكان من مكه أجزأه كما مر، وفي الموازية: قال مالك: وإن طاف للإفاضة بعد الصبح فأحب إلينا أن لا ينصرف حتى يركع الركعتين في إلمسجد أو بمكة.

ولما كان الرمل بالنسبة للطائفين كما مر ثلاثة أقسام: قسم متفق عليه وهو المحرم من الميقات وهو أوكدها، وقسم مختلف فيه والمشهور مَشْرُوعِيَّتُه ندبا للسنة وهو ما ذكره بقوله: ورَمَلُ محرِم من كالتنعيم؛ يعني أن الرجل إذا أحرم بحج أو بعمرة أو بهما من الجعرانة أو من التنعيم، فإنه

ص: 526

يستحب له أن يرمل في الأطواف الثلاثة الأول، وقد علمت أن ذلك في الحج يكون في طواف القدوم، وفي العمرة يكون في طوافها.

وعلم مما قررت أن قوله: "من كالتنعيم"، متعلق بقوله:"محرم"؛ أي الذي أحرم من كالتنعيم، أي يندب له أن يرمل في طوافه، وقد توهم بعض الناس أن قوله:"من كالتنعيم"؛ متعلق "برمل"، فصار يرمل من كالتنعيم في تلك الأماكن الشريفة متمسكا بالمصنف على فهمه، غافلا عن أن الرمل إنما يكون في الطواف في الثلاثة الأول فحصلت له مشقة عظيمة، وقوله:"ورمل"، بصيغة الاسم، عطف على المندوبات، وما مشى عليه المصنف من ندبية رمل الرجل المحرم من التنعيم هو مذهب المدونة، وقيل: إن الرمل غير مشروع في حق من أحرم من كالتنعيم.

وعلم مما قررت أن الكاف مدخلة للجعرانة، كما في الحطاب عن التوضيح ما يفيده. والله سبحانه أعلم. أو بالإفاضة لمراهق؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بحج ولم يطف للقدوم لكونه مراهقا فإنه يستحب له أن يرمل في طواف الإفاضة؛ أي في الأشواط الثلاثة الأول من طواف الإفاضة، وأما لو كان غير مراهق، فإن طاف للقدوم ورمل فيه أو تركه ولو عمدا فلا يرمل في طواف الإفاضة. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وقوله: "لمراهق"؛ أي لمن لم يطف للقدوم، إما لفقد شرطه أو نسيانه أو لتعمد تركه، فلو قال: لكمراهق، لكان أحسن ليشمل من أحرم بالحج من مكة مكيا أو آفاقيا والناسي لطواف القدوم، وأما لو طاف للقدوم وترك الرمل نسيانا أو عمدا فلا يرمل في الإفاضة. انتهى. وقد مر أن القسم المختلف في رملهم: المحرمون من الجعرانة والتنعيم، والمراهقون والصبي والمريض، والمحرم من مكة، وفي الجواهر: وفي مشروعيته -يعني الرمل في طواف الإفاضة للمراهق، وفي طواف القدوم في حق من أحرم من التنعيم وشبهه- خلاف. انتهى. ومذهب مالك في المدونة أنهم يرملون بذلك لكن على سبيل الاستحباب، وقال ابن كنانة وابن نافع: حكمهم في ذلك حكم من طاف للقدوم. انتهى. قاله الشارح. وفي الحطاب: قال ابن الحاجب: وأما طواف الإفاضة للمراهق ونحوه من التنعيم وشبهه، فثالثها المشهور مشروع دونه، قال في التوضيح: قوله: ونحوه؛ أي الناسي أو من يحرم بالحج من مكة مكيا كان أو آفاقيا، أو أحرم بالحج من التنعيم وشبهه أي الجعرانة. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب. قال

ص: 527

مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: فتحصل من كلام الحطاب والشارح هنا وفيما مر أن من طاف للقدوم وهو محرم من التنعيم أو الجعرانة، ومن ترك طواف القدوم وطاف للإفاضة لكونه مراهقا أو ترك طواف القدوم نسيانا أو عمدا، ومن أحرم بالحج من مكة آفاقيا كان أو مكيا، في رملهم ثلاثة أقوال: أحدها وهو المشهور أنهم يرملون ندبا، ثانيها أنهم لا يرملون، ثالثها أنهم كمن أحرم من الميقات وطاف للقدوم فيرملون استنانا. والله سبحانه أعلم.

ومر أن الرمل في حق الرجل إن كان طائفا عن نفسه أو عن رجل لاعن امرأة، وأنه لا ترمل امرأة طافت عن نفسها أو عن امرأة أخرى أو عن رجل، والفرق بين اعتبار المنوب عنه في الأولى دون الأخيرة أن المرأة عورة. والله سبحانه أعلم.

وأشار إلى القسم الثالث المتفق على أنه لا رمل عليهم باتفاق، فقال:(لا تطوع) يعني أنه لا يندب الرمل في طواف التطوع، بل يكره كما استظهره غير واحد، قال الشارح: وقد تقدم أن الطائفين بالنسبة للرمل على ثلاثة أقسام: قِسْمٌ يرملون بلا خلاف وهم المحرمون من المواقيت، وقِسْمٌ لا يرملون بلا خلاف وهم الطائف للوداع أو تطوعا والنساء، وقِسْمٌ اختلف فيهم وهم المحرم من الجعرانة إلى آخر ما مر. وقوله:(ووداع) عطف على تطوع وهو من عطف الخاص على العام؛ يعني أن من طاف للوداع لا يستحب له الرمل، ولله در المصنف، فقد استوفى الأقسام الثلاثة بأوجز عبارة، وألطف إشارة عليه رحمة الديان، وجمعنا وإياه في جنة الرضوان، بجاه سيدنا ومولانا محمد الذي نال به أهل الإيمان، محاسن الحور والولدان، وأمن به العصاة من الخلود في النيران، عليه أفضل الصالة والسلام، وعلى جميع الأنبياء والأصفياء الكرام، وعلى جميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين؛

(وكثرة شرب ماء زمزم) يعني أنه يندب لكل من بمكة آفاقيا أو غيره أن يكثر الشرب من ماء زمزم، ويتوضأ ويغتسل به ما دام بمكة، ويكثر من الدعاء عند شربه، وليقل: اللهم إني أسألك علما نافعا وشفاء من كل داء، وعن ابن عباس: إن شربته تريد الشفاء شفاك الله تعالى، ولظمإ أرواك الله تعالى، ولجوع أشبعك الله تعالى، وقد جعله الله تعالى لإسماعيل وأمه هاجر طعاما، وصَحَّحَ: (ماء زمزم لما شرب له

(1)

) ابن عيينة من المتقدمين والحافظ الدمياطي من المتأخرين، وقال

(1)

مسند أحمد، ج 3 ص 357. ابن ماجه، رقم الحديث: 3062.

ص: 528

فيه الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكر طرقه: إنه يصلح للاحتجاج به على ما عرف من قواعد الحديث، واشتهر عن الشافعي أنه شربه للرمي فكان يصيب من كل عشرة تسعة، وشربه أبو عبد الله الحاكم لحسن التصنيف وغيره فكان أحسن أهل عصره تصنيفا، ولا يحصى كم شربه من الأئمة لأمور قالوها، قال الحافظ ابن حجر: وأنا شربته وسألت الله تعالى أن يرزقني حالة الذهبي في حفظ الحديث، فظهر بطلان من رجح حديث: الباذنجان لما أكل له على حديث ماء زمزم لما شرب له، فإن حديث الباذنجان باطل لا أصل له فضلا عن كونه راجحا، وترجيحه من الغرائب بل من الأمور التي لا يحل نقلها إلا مع التنبيه على بطلانها، قال بعض: إنه من وضع الزنادقة، وقال الزركشي: وقول بعض العوام: هو أصح من حديث ماء زمزم خطأ قبيح، وكل ما يروى فيه باطل، ونحوه لأبي عبد الله القوري والبلالي، والباذنجان بكسر الذال المعجمة. وأخبر بعض الناس أنه أصابه إسهال فشرب ماء زمزم فذهب عنه مع أنه يطلق البطن، قال عبد الباقي: وتعليقه الندب بالكثرة ربما يفهم منه أن أصله قليلا غير مندوب.

ونقله؛ يعني أنه يندب نقل ماء زمزم من مكة لغيرها من بلاد الإسلام، وأصل هذا ما في الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها (أنها كانت تحمل ماء زمزم، وتخبر أنه عليه الصلاة والسلام كان يحمله

(1)

)، ويستحب أن يتزود منه إلى بلده لهذا الخبر، ويستحب أيضا الإكثار من الوضوء به، واستحباب النقل صرح به ابن حبيب، ونقله عنه ابن الحاج في مناسكه، ونقله ابن معلى والتادلي وغيرهم.

واعلم أنه يستحب الإكثار من الطواف أيضا، قال في مختصر الواضحة: فإذا فرغت من السعي بين الصفا والمروة فارجع إلى المسجد الحرام فطاف بالبيت، وأكثر من الطواف ما كنت مقيما بمكة ومن الصلاة في المسجد الحرام الفريضة والنافلة، وقال ابن الحاج: وتكثر من الطواف بالليل والنهار بلا رمل ولا سعي بين الصفا والمروة، وتصلي لكل أسبوع ركعتين خلف المقام، فإنه يستحب كثرة الطواف مع كثرة الذكر، وعن مالك: الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة لمن

(1)

الترمذي، كتاب الحج، الحديث:963. وفيه: تحمل من مَّاء زمزم بدل قوله مَاء زمزم.

ص: 529

كان من أهل البلاد البعيدة: وهو المعتمدة وقال ابن المنير في قول البخاري: (باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف أي طوافا آخر بعد طواف القدوم حتى يتم حجه

(1)

): مشى على مذهب مالك في أنه لا يشتغل بطواف حتى يتم حجه، وقال ابن حجر: ونقل عن مالك أن الحاج لا يشتغل بطواف حتى يتم حجه. قاله الحطاب.

تنبيه: قال الحكيم في نوادر الأصول عن والده: أنه اشتد عليه بالليل الإراقة وهو يطوف، وخشي إن خرج من المسجد أن تتلوث أقدامه بأذى الناس وكان في الموسم، فتوجه زمزم وشرب منها ورجع فلم يحس بالبول حتى أصبح. انتهى. وهذا من الغرائب، فإن زمزم يُدّرُ الإراقة. قاله غير واحد.

وللسعي شروط الصلاة؛ يعني أنه يندب للسعي بين الصفا والمروة شروط الصلاة من طهارة حدث وخبث وستر عورة، وأما استقبال القبلة فلا لعدم إمكانه، ولو انتقض وضوءه أو تذكر حدثا أو أصابه حقن استحب له أن يتوضأ ويسعى، فإن أتم سعيه كذلك أجزأه واستخف اشتغاله بالوضوء ولم يكن مخلا بالموالاة الواجبة في السعي ليسارته، واستشكل تصوير الجنابة في حج صحيح مع أنه مأمور باتصال السعي بالركوع، وأجيب بتصوره في احتلام نوم خفيف عقب سلامه من الركوع لطوافه. قاله الخرشي.

ومن العتبية قال مالك: ومن أحدث في سعيه فتمادى فلا إعادة عليه، وأحسن ذلك أن يتوضأ ويتم سعيه، وقد مر أن من أصابته حقنة يستحب له أن يتوضأ ويسعى، ووضوءه ذلك إنما هو بعد إزالة حقنته، وقوله:"وللسعي شروط الصلاة"، يدخل في ذلك ترك الكلام، وتسعى الحائض والنفساء والجنب، وتقدم الجواب عن استشكال تصور الجنب في حج صحيح، فيندب له أن يتطهر ويبني ومر أن السعي لا تشترط فيه الطهارة من غير خلاف. والله سبحانه أعلم.

وخطبه الضمير في خطبه للحج واللفظ بصيغة الجمع؛ يعني أن خطب الحج مندوبة، وهي ثلاث: بعد ظهر السابع بمكة واحدة؛ يعني أن خطب الحج ثلاث منها واحدة بعد صلاة ظهر اليوم السابع من ذي الحجة وهو يوم الزينة، سمي بذلك لما كانوا يبرزون فيه من زينة المحامل وجلالات الهدايا، وقال بعض أهل الظاهر: إنه سمي يوم الزينة أخذا من يوم الزينة المذكور في

(1)

البخاري، رقم الحديث:1625.

ص: 530

الكتاب العزيز، وقوله:"واحدة"، مبتدأ وخبره:"بعد"، وقوله:"بمكة" حال؛ أي حال كونها كائنة بمكة، ويمكن العكس، ومعنى كونها واحدة أنه لا جلوس فيها، وقيل: يَجْلِسُ في وسطها، وعليه فهما خطبتان.

واعلم أن ما مشى عليه المصنف ومقابله قولان مرجحان، وهذه الخطبة التي بعد ظهر السابع بمكة يفتتحها الإمام بالتلبية إن كان محرما، وباقي الخطب يفتتحه بالتكبير، وفي الشارح والتتائي: أنه يفتتح هذه الخطبة أعني: خطبة السابع بالتكبير وهما قولان، قال في التوضيح عن ابن الحاج: يفتتح هذه الخطبة -يعني خطبة السابع- بالتلبية بخلاف الأخيرتين، وعن ابن حبيب عن الأخوين أنه: يفتتح الجميع بالتكبير، والظاهر أن محل الخلاف حيث كان الإمام محرما كما أشرت إليه في الحل، وأن الأولى له التلبية لأنها مشروعة الآن وهي شعار المحرم، فإن كان غير محرم تعين التكبير. والله سبحانه أعلم. انظر الخرشي.

وعلم مما قررت أن معنى قوله: "بعد ظهر السابع"، بعد صلاة الظهر في اليوم السابع، فلو فعلت قبل ظهر يوم السابع لم يكن آتيا بالمستحب، وفي كثير من النسخ:"وخطبة" بالإفراد، وعليه فيجوز رفع واحدة صفة لخطبة ونصبه على الحال منها وإن كان نكرة لوصفها بالظرف، وجعل المصنف رحمه الله كل ما ذكره من قوله:"ونُدِبَا كالإحرام بالكافرون والإخلاص" إلى آخر الفصل مستحبات، قال الحطاب: وفيها سنن منها هذه؛ يعني وخطبة بعد ظهر السابع إلى قوله: "ودعاء وتضرع للغروب". قال عبد الباقي: والغاية خارجة. انتهى. وقوله: "بعد ظهر السابع"، هذا هو المشهور، وقال في مختصر الوقار: ضحى، وقال فيه أيضا: في الخطبة الثالثة يخطب الإمام من غد يوم النحر ارتفاع الضحى انتهى. وقوله: بمكة مفهومه أن هذه الخطبة لا تكون بغير مكة، وقد ذكر الشافعية أن الحجيج إذا توجهوا لرفة ولم يدخلوا مكة، يستحب لإمامهم أن يفعل ما يفعل بمكة، فانظره. والله أعلم. قاله الحطاب. يُخْيرُ بالمناسك؛ يعني أن الخطيب يخبر في هذه الخطبة المذكورة بالمناسك، أَيْ يُذَكِّرُ بها من كان عارفا ويعلم الجاهل، فهو شامل لهذين القسمين، والمراد بالمناسك هنا ما يُفْعَلُ من خطبته إلى عرفة من خروجهم إلى منى، وصلاتهم بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ومبيتهم بها ليلة عرفة، وصلاتهم الصبح

ص: 531

صبيحتها بمنى، وقدومهم إلى عرفة بعد طلوع الشمس، وتحريضهم على النزول بنمرة، ثم إن إخباره بهذه المناسك يتوقف عليه تحقيق هذه الخطبة، وإن لم يخبر فيها بذلك لم يكن آتيا بها. قاله الشبراخيتي.

وخروجه لمنى قدر ما يدرك بها الظهر؛ يعني أنه يندب الخروج لمنى يوم التروية بمقدار ما يدرك به الظهر قصرا بوقْتِهَا المُخْتَارِ، ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، ويسمى يوم التروية يوم النقلة لانتقال الناس فيه، وعبارة المصنف واقعة كعبارة غير واحد من أهل المذهب، والظاهر أن مرادهم بقولهم: قدر ما يدرك بها الظهر، أن يدرك آخر الوقت المختار، ومن كان به ضعف أو ثقل بحيث لا يدرك آخر الوقت إذا خرج عند الزوال فلا بأس أن يخرج من أول النهار بحيث يدرك آخر الوقت المختار؛ إذ لا يجوز له أن يؤخرها إلى الوقت الضروري. قاله الحطاب. ويكره الخروج إلى منى قبل يومها، وإلى عرفة قبل يومها ولو بتقديم الأثقال، والمستحب أن يخرج بعد زوال الثامن، ومن به أو بدابته ضعف بحيث لا يدرك آخر الوقت إذا خرج بعد الزوال يخرج قبل ذلك كما مر قريبا، وظاهر قوله: ما يدرك بها الظهر، ولو وافق يوم جمعة وهو كذلك عند الجمهور فإنه الأفضل للمسافرين، وأما المقيمون فتجب عليهم، وقوله:"قدر ما يدرك بها الظهر"؛ يعني ويصليها قصرا كما مر: ويصلي بها المغرب والعشاء كما مر ويبيت بها كما قال.

وبياته بها؛ أي بمنى؛ يعني أنه يندب له أن يبيت بمنى ليلة عرفة، وقد مر أن الحطاب جعل هذا سنة، ولا دم في ترك بياته بمنى، ويستحب له أيضا أن يصلي الصبح بها، وقال الشبراخيتي: واختلفت العبارات، فبعضهم قال: يخرج قبل الزوال، وبعضهم قال: بعد الزوال، وبعضهم قال: قرب الزوال، وبعضهم قال: وقت الضحى، ومدارهم على إدراك الظهر في وقتها الاختياري، وما تقدم من أنه لا دم في ترك البيت بمنى هو المشهور، وقال ابن العربي: عليه الدم. قاله الحطاب.

وقال: والحاصل أن الخروج لمنى قدر ما يدرك بها الظهر هو على جهة الأولى، ولو خرج قبل ذلك في يوم التروية جاز، وإنما يكرد التقدم قبل يوم التروية، وسمي اليوم الثامن يوم التروية لما كانوا يحملون فيه من الماء إلى عرفة، ومنى بكسر الميم مقصورا منونا: موضع بين وادي محسر

ص: 532

وجمرة العقبة يذكر ويؤنث، وقد علمت أنه مصروف، ويجوز ترك صرفه، سمى بذلك لما يمنى فيه من الدماء أي يراق.

وسيره بعد الطلوع؛ يعني أنه يندب له أن يسير من منى إلى عرفة بعد طلوع الشمس، وقد مر أنه يكره الخروج إلى عرفة قبل يومها ولا يجاوز بطن محسر قبل طلوع الشمس؛ لأنه في حكم منى، وإن تقدم الضعيف ومن به علة قبل ذلك فلا بأس، ومروره بين المأزمين، ومصب الاستحباب قوله:"بعد الطلوع"، وإلا فالسير لعرفة واجب. قاله الشبراخيتي. وفي الحطاب: وعد الجزولي من السنن التي لا توجب الدم المرور بين المأزمين في الذهاب والرجوع، قال: وهما جبلان يقول لهما الحجاج: العلمين. انتهى. ونزوله بنمرة؛ يعني أن الإمام وغيره يستحب له النزول بنمرة بفتح النون وكسر الميم: مكان بعرفة، فيضرب الإمام به خباء أو قبة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

).

وخطبتان بعد الزوال؛ يعني أنه يستحب خطبتان بعد الزوال بمسجد عرفة وهو مسجد نمرة، يفتتحهما الإمام بالتكبير ويجلس بينهما، ويعلم الإمام الناس فيهما ما بقي من مناسك الحج، من صلاتهم بعرفة ووقوفهم ودفعهم ومبيتهم بمزدلفة، وجمعهم بين المغرب والعشاء، ووقوفهم بالمشعر الحرام، والدفع منه إلى منى، والإسراع بوادي محسر، ورمي جمرة العقبة، والحلق والتقصير والنحر والذبح، وطواف الإفاضة. ابن عرفة: لو صلى بغير خطبة أجزأ. أبو عمر: إجماعا، ولو خطب قبل الزوال وصلى بعده أجزأ. وقوله:"وخطبتان"؛ أي خطبة يجلس في وسطها، والخطبة الثالثة لم يذكرها المصنف، ولعله لترك الناس لها اليوم وهي تفعل في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة أول يوم من أيام الرمي بعد الظهر، وهي واحدة لا يجلس فيها يعلم الناس فيها حكم مبيتهم بمنى، وكيفية الرمي، وما يلزم بتركه أو بعضه، وحكم التعجيل والتأخير وتعجيل الإفاضة والتوسعة في تأخيره، وطواف الوداع ونحو ذلك، وما ورد أنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم الأضحى محمول عند مالك وأبي حنيفة على بعض أيام التشريق؛ لأنها أيام أضحى وأيام نحر، أو هي خطبة من مواعظه صلى الله عليه وسلم العتادة منه، وقوله:"بعد الزوال"، وأما

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1218.

ص: 533

الخطبة التي تفعل الآن بعد العصر فهي مذهب الشافعي. ثم أذن؛ أي ثم بعد شروع الإمام في الخطبة يؤذن المؤذن يوم عرفة؛ أي يؤذن المؤذن يوم عرفة بعد الزوال، وبعد أن شرع الإمام في الخطبة فيؤذن فيها أو بعد فراغها، ولفظ المدونة: ويؤذن المؤذن إن شاء في الخطبة أو بعد فراغها، وسئل مالك عن المؤذن متى يؤذن يوم عرفة، أبعد

(1)

الخطبة، أو بعد فراغ الإمام من الخطبة، أو هو يخطب؟ قال: ذلك واسع، إن شاء والإمام يخطب، وإن شاء بعد ما يفرغ من خطبته. وقال ابن القاسم: وإنما الأذان والإمام يخطب أو بعد فراغ الإمام من خطبته، قال مالك: ذلك واسع. انتهى. وهذا الذي قررت به المصنف هو الذي قرره به محمد بن الحسن بناني، وقرره الخرشي والشبراخيتي وعبد الباقي على أن معنى قوله:"ثم"، بعد الفراغ من الخطبة "أذن"، لا عند جلوسه ولا قبلها ولا فيها أو بعدها، ولا في آخرها بحيث يفرغ منه مع فراغ الخطبة، خلافا لزاعمي ذلك. انتهى. وناقش محمد بن الحسن في ذلك، وقال: إن معنى المصنف: "ثم"، بعد الشروع في الخطبة "أذن"، وجلب ما مر من النقول. والله سبحانه أعلم. وقوله:"ثم أذن". بالبناء للمفعول. قاله غير واحد.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: والظاهر أن نائبه ضمير يعود على التأذين المعهود. والله سبحانه أعلم. أي يؤذن للأولى ويقام لها والإمام جالس على المنبر في الحالتين. وجمع -بصيغة الفعل- بين الظهرين؛ يعني أن الإمام إذا فرغ من خطبته ونزل عن المنبر فإنه يجمع بين الظهرين جمع تقديم بأذان ثان للعصر مع إقامة لها كما في المدونة. ابن الجلاب: وهو الأشهر، وقيل: بأذان واحد، وبه قال ابن القاسم وابن الماجشون وابن المواز، وأتى بقوله: إثر الزوال؛ مع أنه تقدم ما يفيد صريحا أنهما بعد الزوال ليفيد أنه يطلب بتعجيلهما أي يصليهما عقب الزوال، وقوله:"إثر"، متعلق بجمع أي يصلي الظهر والعصر بقرب الزوال إثره جامعا بينهما جمع تقديم، وفي تغيير المصنف الأسلوب إشارة إلى أن حكم الأذان والجمع مخالف لحكم ما قبله وما بعده، وهو كذلك؛ إذ الحكم في كل منهما السنية لا الاستحباب. قاله الشبراخيتي وغيره.

(1)

كذ في الأصل والذي في بناني ج 2 ص 278 أبعد فراغ الإمام من خطبته أو هو يخطب الخ.

ص: 534

وفي مختصر الوقار: ولا يتنفل بينهما، وفي الزاهي لابن شعبان: ويصلي المغرب والعشاء يجمع بينهما يعني بالمزدلفة ولا يتنفل بينهما؛ ثم يوتر، ثم يبيت، وقال الشبيبي في الصلوات المنهي عنها: والصلاة بين الصلاتين في الجمع بعرفة والمزدلفة وليلة المطر، وفي الخرشي: ولا تنفل بينهما ولم يمنعه كجمع وليلة المطر، ومن فاته الجمع بعرفة مع الإمام فليجمع بينهما في رحله. انتهى. وأما قول الجزولي: المشهور أن من فاته الحج لا يجمع وحده، فهو غريب. والله أعلم. انظر الحطاب. وقوله:"وجمع بين الظهرين"؛ يعني ولو وافق يوم جمعة، قال في الذخيرة: جمع الرشيد مالكا وأبا يوسف، فسأله أبو يوسف عن إقامة الجمعة بعرفة؟ فقال مالك لا يجوز؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يصلها في حجة الوداع، فقال أبو يوسف: قد صلاها لأنه قد خطب خطبتين وصلى بعدهما ركعتين وهذه جمعة، فقال: أجهر بالقراءة كما يجهر بالجمعة؟ فسكت أبو يوسف وسلم، وقال ابن الحاجب: والصلاة سرية ولو وافقت جمعة، ويصليها المنفرد جمعا وقصرا، ومن أدركه وقت الجمعة بمكة يوم التروية من مكي أو غيره ممن أقام بمكة أربعة أيام فعليهم أن يصلوا جمعة قبل أن يخرجوا. قاله مالك. ابن القاسم: ومعناه أنه ممن يلزمه إتمام الصلاة. أصبغ: وأما المسافر فمخير، وأحب إلي أن يصلي لفضيلة المسجد الحرام، وقال محمد: أحب إلي خروجه إلى منى.

ودعاء؛ يعني أن الحاج إذا فرغ من الجمع بين الظهرين بعرفة فإنه يقف للدعاء راكبا والماشي واقفا، وللتسبيح والتحميد والتهليل وللصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم. وتضرع؛ يعني أنه يندب له بعد فراغه من الجمع بين الظهرين أن يكون بتلك الحالة، وأن يكون متضرعا متذللا، والمراد بالتضرع إظهار شدة الرغبة في طلب الإجابة؛ بأن يدعُوَ بتلهف ويُظهرَ الكرْبَ والحاجةَ والفاقةَ والذلَّ والافتقارَ، لا على وجه الترفه أو الكسل أو الأنفة والعظمة وعدم الاهتمام والمبَالاة أو نحو ذلك، ويستمر واقفا على تلك الحالة للغروب؛ أي لا تزال أيها الواقف بعرفة بعد الظهرين واقفا تدعو ربك وتضرع إليه حتى تغرب الشمس، فاللام للانتهاء، فإذا غربت الشمس دفع الإمام فتدفع أنت بدفعه، وفي الحديث: (سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسئلوه بظهورها، فإذا

ص: 535

فرغتم فامسحوا بها وجوهكم

(1)

)، ويدعوا بألفاظ القرآن وما جرى مجراها من ألفاظه عليه الصلاة والسلام، كقوله تعالى:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} ، {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} ، {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} ، {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} ، {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} ، {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، إلى آخرها، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} . إلخ، ونحو ذلك.

وقد علمت أن هذا في الوقوف بعرفة، وأما وقوف أهل الآفاق تشبيها بهم فإنه مكروه كما قال المصنف:"واجتماع لدعاء يوم عرفة"، وقال في منسكه: وليكثر من الدعاء والتضرع والابتهال له ولوالديه والمسلمين، فهناك تسكبُ العبرات، وتستقال العثرات، وتنجح الطَّلِبَات، وإنه لموقف عظيم ومجمع جليل تجمع فيه خيار عباد الله تعالى، وقوله:"ودعاء" ويبدأ دعاءه بالحمد لله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بألفاظ القرآن، وعن علي رضى الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثر دعاءي ودعاءِ الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في سمعي نورا وفي بصري نورا وفي قلبي نورا، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأعوذ بك من وساوس الصدور وتشتيت الأمور وعذاب القبر، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل وشر ما يلج في النهار وشر ما تهب به الرياح وشر بوائق الدهر

(2)

). قاله الشبراخيتي. وقال الخرشي: مفسرا للمصنف يعني أنه إذا فرغ من الجمع بين الظهرين بعرفة فإنه يقف للدعاء راكبا والماشي واقفا والتسبيح والتحميد والتهليل والصلاة على المصطفى عليه السلام متضرعا متذللا إلى غروب

(1)

أبو داود، كتاب الصلاة، الحديث 1485.

(2)

مصنف ابن أبى شبية، ج 7 ص 107.

ص: 536

الشمس، فإذا غربت دفع إلى المزدلفة: هكذا فعل النبي عليه السلام، وقد قال عليه السلام: (أفضل الدعاء يوم عرفة

(1)

). انتهى. وفي الحديث: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة

(2)

). انتهى. رواه مسلم. قاله الشارح.

ووقوفه بوضوء؛ يعني أنه يندب للواقف بعرفة أي الحاضر بها أن يكون على وضوء ليكون على أكمل الحالات، وقد علمت أن الركن يحصل بالحضور لجزء من عرفة، ولا يشترط أن يكون واقفا فقوله: ووقوفه أي حضوره فلا ينافي قوله: وركوبه به، أي بالوقوف أي الحضور؛ يعني أنه يندب للواقف بعرفة أن يكون راكبا، "والباء" في "به"، بمعنى؛ في، وإنما ندب الركوب (لوقوفه صلى الله عليه وسلم كذلك

(3)

)، ولكونه أعون على مواصلة الدعاء وأقوى على الطاعات، وهو مستثنى من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا ظهور الدواب كراسي

(4)

)، وقوله:"وركوبه به "، ما لم يضر. قاله الشبراخيتي. ثم قيام؛ يعني أنه إذا أضر الركوب بالدابة أو لم تكن له دابة، فإن القيام في حقه أي الانتصاب على قدميه أفضل من غيره: وهذا في حق الرجال، ويكره القيام للنساء، فالمندوب في حقهن الجلوس للستر، وقوله:"ثم قيام"، هو المشهور، وفي مختصر الوقار: والراكب بمعرفة والجالس أفضل من القائم. انتهى. إلا لتلعب؛ يعني أنه إذا حصل للحاضر عرفة تعب من الوضوء فإنه يكون الأفضل له عدم الوضوء، وكذا إذا حصل له أو للدابة تعب من الركوب فإنه يكون الأفضل في حقه عدم الركوب، وكذا إذا عجز عن القيام يكون الأفضل في حقه عدم القيام. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: قال في الحاشية: وينبغي أن يكون أجر الجالس لتعبه مساويا لأجر القائم، قياسا على ما قالوه في النافلة: أن الجالس لغير عذر أجره على النصف من القائم، والجالس لعذر أجره كالقائم فينبغي أن يكون هنا كذلك؛ إذ لا فرق. انتهى.

(1)

الموطأ، ج 1 ص 162. كنز العمال، رقم الحديث: 12080.

(2)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1348. وفيه: "عبدا" بدك قوله: "عبيدا"

(3)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1661. مسلم، كتاب الحج، الحديث: 1123.

(4)

مسند أحمد، ج 3 ص 441.

ص: 537

وعلم مما قررت أن الاستثناء راجع للمسائل الثلاث، أعني مسألة الوضوء، ومسألة الركوب، ومسألة القيام. والاستثناء شامل في الحقيقة لأربع كما قررت والله سبحانه أعلم.

وصلاته بمزدلفة العشاءين؛ يعني أنه يندب الجمع للعشاءين بالمزدلفة، فإذا غربت الشمس وهو واقف بعرفة فإنه يؤخر المغرب إلى أن يأتي المزدلفة فيجمعها مع العشاء، قال فيها: ومن دفع من عرفة حين غربت الشمس ولم يكن به علة ولا بدابته وهو يسير بسير الناس فلا يصلي المغرب والعشاء إلا بالمزدلفة، فإن صلى قبلها أعاد إذا أتاها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (الصلاة أمامك

(1)

)، قيل لمالك فإن أتى المزدلفة قبل الشفق؟ قال: هذا ما لا أظنه يكون، ولو كان ما أحب له أن يصلي حتى يغيب الشفق، وهكذا قال ابن حبيب وابن القاسم: إنه لا يصلي حتى يغيب الشفق، ولا يشتغل قبل الصلاة بشيء ولو عشاء خفيفا، وفي العتبية: ولا بأس أن يبدأ بحط الرحل الخفيف قبل الصلاة، وأما المحامل والزوامل فلا أرى ذلك، وليبدأ بالصلاة ثم يحط، وفي الموطأ (أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بها ثم أناخ كل إنسان بعيره في بمنزلة ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يفصل بينهما شيئا

(2)

)، وقوله:"وصلاته بمزدلفة العشاءين"، خلاف المذهب، والمذهب أنه سنة كما قال القائل:

والجمع للظهرين يوم الموقف

يسن كالجمع بجمع فاعرف

يعني بجمع المزدلفة، وفسرت المصنف بأن معناه أنه يجمع بين المغرب والعشاء مع أنه صادق بغير الجمع وهو غير مراد، لقوله الآتي:"وجَمَعَ وقصَّرَ"، ومحل كونه يجمع الصلاتين إذا وقف مع الإمام وسار مع الناس أو لم يسر معهم اختيارا، فإن لم يقف معه أصلا أو وقف وحده فإنه لا يجمع بالمزدلفة ولا بغيرها، ويصلي كل صلاة لوقتها كغير الحاج، وإن وقف مع الإمام وتأخر عن السير مع الناس لعجز صلاهما بعد الشفق في أي محل أراد. قاله الشبراخيتي.

واعلم أن صلاة العشاء والمغرب بالمزدلفة غير مجموعتين مخالف للسنة، فيكون مكروها كما لعبد الباقي، وفي الحطاب: والجمع بين الصلاتين بمزدلفة سنة. انتهى. وقال عبد الباقي: وتسمى

(1)

مسلم، رقم الحديث: 1280 البخاري، كتاب الوضوء، الحديث:139. الموطأ، ج 1 ص 273.

(2)

الموطأ، ج 1 ص 273.

ص: 538

المزدلفة جمعا بفتح الجيم وسكون الميم لاجتماع آدام وحواء بها، أو لجمع الصلاتين بها. قاله التتائي. والمذهب أن الجمع بها سنة إن وقف مع الإمام، فإن لم يقف معه؛ بأن لم يقف أصلا أو وقف وحده لم يجمع بالمزدلفة ولا بغيرها، ويصلي كل صلاة لوقتها كما يأتي للمصنف.

وبياته بها؛ يعني أنه يندب البيات بمزدلفة وقال الحطاب ما نصه: جمع الصلاتين بمزدلفة سنة، وكذا المبيت بها إلى الصبح، وأما النزول فواجب. انتهى. وقال عبد الباقي: وندب بياته بها أي بمزدلفة، وأما النزول بها بقدر حط الرحال سواء حطت بالفعل أم لا، وإن لم يجز لتعذيب الحيوان فواجب. وإن لم ينزل فالدم؛ يعني أن النزول بالمزدلفة أي المكث بها بقدر ما تحط به الرحال واجب، ولهذا إن لم ينزل بها حتى طلع الفجر فإنه يلزم الدم فهو من الواجبات التي تجبر بالدم، وقال في منسكه: والظاهر أنه لا يكفي في النزول إناخة البعير، بل لابد من حط الرحال. انتهى. قوله: في النزول؛ أي الواجب. قاله عبد الباقي. ولا فرق في النزول الواجب بين كونه في أول الليل أو وسطه أو آخره، وإن تركه لعذر فلا شيء عليه، وقول المصنف: والظاهر أنه لا يكفي في النزول الخ، مخالف لما مر من أن النزول الواجب يحصل بحط الرحال أو بقدره. والله سبحانه أعلم. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه.

وفي الحطاب بعد جلب كلام: فتحصل أن من ترك النزول من ضير عذر حتى طلع الفجر لزمه الدم عند ابن القاسم، ومن تركه لعذر فلا شيء عليه ولو جاء بعد طلوع الشمس. والله أعلم. انتهى. وقال أشهب: إنما يسقط الدم بالنزول قبل الفجر، فإن أتى بعد الفجر فعليه الدم وإن كان من ضعفة الرجال والنساء والصبيان، وقيل إنه لا دم في ترك النزول أصلا، وفي التوضيح وابن عرفة ما يفيد أن من ترك النزول ليلا بالمزدلفة من غير عذر ثم جاء بعد الفجر أنه لا شيء عليه عند ابن القاسم، وأن من لم يصل إلى المزدلفة إلا بعد طلوع الشمس فعليه الدم عند ابن القاسم أيضا ولو كان لعذر، وليس كذلك. قاله الحطاب. واستثنى المصنف من ندب البيات بمزدلفة فيما يأتي من يرخص لهم من الضعفاء ونحوهم في التقدم عن الناس إلى منى ليلة النحر، لكون بياتهم بها أرفق بهم من بياتهم بمزدلفة، والمزدلفة من الازدلاف والزلف، وهو التقرب لأن الناس إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها أي تقربوا ومضوا إليها، ولما كان قول المصنف: "وصلاته

ص: 539

بمزدلفة "الخ، يصدق بصلاتهما جمعا وبصلاتهما على غير هذا الوجه مع أنه غير مراد، بَيَّنَ المراد بقوله: وجَمَعَ وقصَّر. فعلان ماضيان، قال عبد الباقي: ليفيد أن كلا من الجمع والقصر سنة بانفراده؛ يعني أنه يسن الجمع بمزدلفة بين العشاءين جمع تأخير، وكذلك يسن قصر العشاء، بها وانظر قول عبد الباقي ليفيد أن كلا الخ مع ما مر من حكم المصنف بالندبية في قوله: "وصلاته بمزدلفة العشاءين". إلا أهلها، مستثنى من قوله: "وقصر"، ولا يرجع لقوله: "وجمع"، كما يفيده النقل؛ يعني أن الجمع بين المغرب والعشاء يفعله أهل مزدلفة وغيرهم، وأما القصر فلا يكون إلا من غير أهلها، وأما أهلها فإنهم يتمون بها. كمعنى؛ يعني أن أهل منى يتمون بها وغيرهم يقصر بها، وأما الجمع بها فإن أهلها يجمعون بها كغيرهم. وعرفة؛ يعني أن أهل عرفة يتمون بها ويقصر بها غير أهلها، وأما جمع الظهرين بها فيفعله أهلها وغيرهم. والحاصل أن أهل كل مكان يتمون به ويقصرون فيما سواه، فيتم أهل عرفة بها ويقصرون بمنى ومزدلفة، ويتم أهل مزدلفة بها ويقصرون في عرفة ومنى، ويتم أهل منى بها ويقصرون في عرفة ومزدلفة. قاله سند. وقال: إنه مجمع عليه. نقله الحطاب. وقال: يريد إنه مجمع عليه عند أهل المذهب ونحو ذلك في الجلاب.

وقال بعد جلب نقول كثيرة: وحاصل ما تقدم أن جميع من يخرج إلى الحج يقصر الصلاة في خروجه من مكة قبل وصوله إلى منى على الأحسن. كما قاله سند. وبعد وصوله إليها بلا خلاف في المذهب، وكذا في ذهابه إلى عرفة وفي عرفة، وفي رجوعه للمزدلفة وفي المزدلفة، وفي رجوعه إلى منى وفي مدة إقامته بمنى إلا أهل كل مكان في محلهم فلا يقصرون فيه. انتهى. المراد منه.

وفي الإكمال: ولا خلاف أن الحاج من غير أهل مكة يقصرون بمنى وعرفة، وكذلك عند مالك حكم الحاج من أهل مكة يقصرون بعرفة ومنى لتقصيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أهل عرفة ومنى بمكة لخطبة عمر أهل مكة بالتمام دونهم

(1)

). وذهب أبو حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء إلى أن أهل مكة بمنى وعرفة وأهل عرفة ومنى بمكة يتمون كغير المحرم؛ إذ ليس في المسافة قصر الصلاة، وَحُجَّتُنَا ما تقدم من السنة والاتباع، ولأن في تكرار مشاعر الحج ومناسكه

(1)

الموطأ، كتاب الحج، ص 274.

ص: 540

مقدار المسافة التي فيها قصر الصلاة عند الجميع. قاله الحطاب. وفي المدونة: ويتم أهل منى بمنى وأهل عرفة بعرفة، وكل من لم يكن من أهلها فليقصر الصلاة بها، قال ابن هارون: يريد وإن كان من أهل مكة وهذا إذا لم يكن الإمام من أهل عرفة ولا منى، فإن كان منها أتم وأتم الناس معه، وكره مالك أن يكون من أهلها لأنه يغير سنة القصر. انتهى. قاله الحطاب.

وقال: من أدركته الصلاة من الحجاج وهو في غير مواضع النسك كالرعاة إذا رموا الجمرة وتوجهوا للرعي، فالظاهر من كلامهم أن حكمهم حكم الحجاج. انتهى. وفي الحطاب عن ابن رشد في أثناء كلام: وإذا رموا في اليوم الرابع ثم توجهوا إلى المحصب فنزلوا فيه وأقاموا بمنى ليخف الناس أو أدركتهم الصلاة في الطريق، ففي قصرهم وإتمامهم قولان، رجع مالك إلى القصر وإليه رجع اختيار ابن القاسم وهذا كله في حق من لم يثبت له حكم السفر، أما من قدم قبل الخروج إلى الحج بأقل من أربعة أيام، وعزمه أن لا يقيم بعده فهذا حكمه حكم المسافر في كل موضع حل به. انتهى المراد منه.

ولما كان الجمع بمزدلفة خاصا بمن دفع بدفع الإمام من عرفة وهو يسير بسيره، ذكر من تخلف عنه ونوَّعه إلى نوعين فقال: وإن عجز فبعد الشفق؛ يعني أنه إذا وقف مع الناس بعرفة فلما دفعوا منها إلى المزدلفة عجز عن اللحاق بهم، فإنه يجمع المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق في أي محل ولو غير المزدلفة، ومن لم يقف معهم صلى كل صلاة لوقتها. إن نفر مع الإمام يعني أن محل كونه يجمع بين المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق في أي محل إنما هو فيما إذا نفر مع الإمام؛ أي سار معه من عرفة إلى المزدلفة وعجز عن اللحاق به، هذا مقتضاه وفيه نظر، وصوابه: إن وقف مع الإمام كما تقدمت الإشارة إليه هذا هو الموافق للنقل، وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإن لا ينفر مع الإمام فإنه يصلي كل صلاة عند وقتها، ولا يجمع بينهما كما قال: فكل لوقته، هذا ظاهره وليس بصواب كما علمت، والموافق للنقل أن تقول: وإن يقف مع الإمام فإنه يصلي كل صلاة لوقتها ولا يجمع بينهما، فقوله:"كل"؛ أي كل من الصلاتين، واللام في قوله:"لوقته"، بمعنى: عند، أو في، وذَكَّر الضمير مراعاة للفظ كل، ومفهوم قوله:"عجز"، أنه إن وقف معه وتأخر عنه لغير عجز فإنه يجمع بين الصلاتين على المعتمد، لكن في مزدلفة خاصة

ص: 541

فَعُلِمَ أن الأقسام أربعة: وَقَفَ مع الإمام ووافى المزدلفة قبل صلاتهم جمع معهم، وَقَفَ معه وعجز عن اللحوق جمع بينهما بعد مغيب الشفق في أي محل، لَمْ يَقَفْ معه لا يجمع بل يصلي كل صلاة لوقتها، وَقَفَ معه وتأخر عنه لغير عجز جمع بينهما بالمزدلفة خاصة.

وإنما جمع في هذا الرابع لوجود سبب الرخصة في الجملة وهو وقوفه مع الإمام، وشدد عليه حيث لم يسر معه لغير عذر في أنه لا يجمع إلا في مزدلفة خاصة، وهذا الذي ذكرت أنه هو الصواب تبعت فيه الشبراخيتي ومحمد بن الحسن، فإنه قال: الصواب أن يقول: إن وقف مع الإمام كما لابن الحاجب والمناسك إذ هو المطابق للنقل، ومثله في الخرشي وهو الموافق لما في التوضيح، وبه تعلم ما في تقرير الزرقاني. انتهى.

وإن قدمتا عليه أعادهما؛ يعني أن من أمر بالجمع بمزدلفة إذا خالف بأن قدم المغرب والعشاء قبل النزول بمزدلفة وبعد مغيب الشفق فإنه يعيدهما في الوقت، هذا على أن الضمير في "عليه" عائد على محل الجمع وهو مزدلفة وعلى أن ضمير عليه عائد على الشفق فإنه يعيد المغرب في الوقت والعشاء أبدا.

وارتحاله بعد الصبح مغلسا؛ يعني أنه يندب للحاج ارتحاله من مزدلفة بعد صلاة الصبح حال كونه مغلسا أي في أول وقتها؛ أي في الظلمة قبل الضوء، وندب له وقوفه بالمشعر؛ يعني أنه يندب له أن يرتحل في الظلمة بعد صلاة الصبح. فيأتي المشعر الحرام فيقف به ندبا، والمشعر بفتح الميم وكسرها والفتح أشهر، وهو ما بين جبل المزدلفة وقزح بقاف مضمومة فزاي مفتوحة فحاء مهملة. قاله عبد الباقي والشبراخيتي. قال عبد الباقي: سمي مشعرا لما فيه من الشعائر، وهي معالم الدين والطاعة، ومعنى الحرام المحرم الذي يحرم فيه الصيد وغيره؛ لأنه من الحرم. انتهى. وقال الشبراخيتي: ويقال له جمع وهو الذي بناه قصي في الجاهلية ليهتدي به الحاج المقبلون من عرفات. انتهى.

وقال الحطاب: المشعر اسم للبناء الذي بالمزدلفة ويطلق على جميعها، وقال في الزاهي: فإذا أصبح وصلى وقف الإمام والناس بالمشعر الحرام الذي بناه قصي بن كلاب في الجاهلية ليهتدي به الحجاج المقبلون من عرفات. انتهى. والوقوف في أي جزء من المزدلفة يجزئ، وعند البناء

ص: 542

أفضل، ويجعل البناء على يساره، قال في شرح العمدة لابن عسكر: وليقف بعد الصلاة عند المشعر الحرام وهو المسجد الذي بالمزدلفة. يكبر ويدعو للإسفار؛ يعني أنه يقف بالمشعر الحرام يكبر في وقوفه ويدعو الله تعالى ويهلل ويحمد، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بتذلل وخضوع وسكينة وخشوع مثل ما فعل بعرفة، ولا يزال واقفا مستمرا على تلك الحالة إلى الإسفار، والغاية خارجة، والمجرور تعلق "بوقوفه"، وقوله:"يكبر ويدعو"، هو مصب الندب؛ لأن وقوفه بالمشعر الحرام ليس لذاته، قال الشبراخيتي: وظاهر المصنف أن الندب لا يحصل إلا بالوقوف معهما أو مع أحدهما. انتهى. وظاهر كلام المصنف جواز التمادي بالوقوف إلى الإسفار، ونحوه في الموازية والمختصر، وفي المدونة: لا يقف أحد بالمشعر إلى طلوع الشمس والإسفار، ولكن يدفعون قبل ذلك، وفيها: وإذا أسفر ولم يدفع الإمام دفع الناس وتركوه؛ لأنه ليس بعد الإسفار وقت للوقوف، فيتبعوه فيه والخطأ لا يتبع فيه، ولا خلاف في كراهة التأخير حتى تطلع الشمس، ومن فعله فقد أساء ولا هدي عليه، وقوله:"ووقوفه" الخ، قد مر أنه مندوب، والذي لابن رشد وشهره القلشاني أنه سنة، وقال ابن الماجشون: فريضة. واستقباله به؛ يعني أنه يندب استقبال الواقف للقبلة عند وقوفه بالمشعر الحرام بجعله عن يساره، فالضمير في "استقباله" للواقف، وفي "به" للوقوف أو للمشعر الحرام، الأول للخرشي والثاني للشبراخيتي.

ولا وقوف بعده؛ يعني أنه لا يشرع الوقوف بالمشعر الحرام بعد الإسفار الأعلى بل يفوت الوقوف به، قال في المدونة: وإذا أسفر ولم يدفع الإمام دفع الناس وتركوه لأنه ليس بعد الإسفار وقت للوقوف فيتبعوه فيه والخطأ لا يتبع فيه، ولا خلاف في كراهة التأخير حتى تطلع الشمس ومن فعله فقد أساء ولا هدي عليه. انتهى. وكانت الجاهلية يقفون لطلوع الشمس ففعلنا ذلك لمخالفتهم، وجعل الشارح الضمير في بعده للإمام؛ أي لا يقف أحد بعد الإمام إذا نفر، وعلى أن الضمير في قوله:"بعده" للإسفار، فالمعنى كما تفيده عباراتهم الدخول في الإسفار. والله سبحانه أعلم.

ولا قبل الصبح؛ يعني أنه لا وقوف قبل صلاة الصبح بل يكره، قال ابن فرحون: ومن وقف بعد الفجر وقبل أن يصلي الصبح فهو كمن لَمْ يَقِفْ. انتهى. وإنما ذكره لمخالفة السنة. وإسراع ببطن محسر، بميم مضمومة فحاء مهملة مفتوحة فسين مهملة مكسورة مشددة فراء مهملة: واد بين

ص: 543

مزدلفة ومنى قدر رمي حجر ليس من واحد منهما. قاله النووي والطبري. وفي خبر الصحيحين ما يدل على أنه من منى

(1)

)، وفي نقل صاحب المطالع، وصوبه أن بعضه من منى وبعضه من مزدلفة، سمي محسرا لحسر فيل أصحاب الفيل فيه أي إعيائه، ولبعض الشافعية أن النصارى والجاهلية كانوا يقفون فيه ويتفاخرون، وتسميه أهل مكة واديَ النار لأن رجلا اصطاد فيه فنزلت نار فأحرقته، ويقال له: المهلل لتهليل الناس فيه إذا وصلوه، والمهلل مكان مرتفع عنده. قاله الشيخ إبراهيم. ومعنى كلام المصنف أنه يندب الإسراع في بطن محسر في الذهاب والرجوع، فالراكب يسرع بدابته، والماشي بخطواته. والله سبحانه أعلم. قال الحطاب: الفاكهاني: وانظر سر التحريك ببطن محسر فإني لم أقف على شيء فيه أعتمد عليه: وليس بطن محسر من منى.

(ورميه العقبة حين وصوله) يعني أن هذا الذي دفع من المزدلفة يندب له أن يرمي جمرة العقبة حين وصوله لمنى قبل حط رحله من غير تأخير؛ لأنه تحية الحرم والندب مُنْصَبّ على الظرف؛ أي أن المندوب هو الرمي حين الوصول وإلا فرمي جمرة العقبة واجب. (وإن راكبا) هو مبالغة في قوله: "حين وصوله"؛ أي يندب له رمي العقبة حين وصوله على الحالة التي هو عليها من ركوب أو مشي، وإنما بالغ بقوله:"وإن راكبا"، لدفع توهم أنها كغيرها من بقية الجمار في استحباب رميها ماشيا، وليس المراد أنه يستحب رميها في حالة الركوب، وأن رميها في غير هذه الحالة غير مستحب، ويدخل وقت رميها بطلوع الفجر، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قول المصنف:"ورمي العقبة أول يوم" الخ، وقوله:"ورميه العقبة حين وصوله"، هذا في حق من لم يرخص له في التقدم من مزدلفة لمنى، فإن هؤلاء يدخلون منى قبل الفجر ولا يصح رميها حينئذ، فينتظر حتى يطلع الفجر واستحب بعد طلوع الشمس. قاله البدر. واعترض الشارح قول المصنف:"وإن راكبا"، بأن ظاهره أن الركوب مرجوح وهو خلاف المدونة: الشأن أن يرمي جمرة العقبة ضحوة راكبا، وإن مشى فلا شيء عليه. انتهى. وأجيب بأنه ليس مراد المدونة أن الماشي إذا وصل إلى العقبة يركب ليرميها، بل يرميها على حالته التي وصل عليها ماشيا فلا يشتغل بالركوب، بل الأفضل تركه لأن فيه عدم الاستعجال برميها. قاله عبد الباقي عن التتائي وحلولو.

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1282.

ص: 544

وقوله: "ورميه العقبة"؛ أي من أسفلها، وهو ببطن الوادي، قال مالك: ومن لم يصل إلى أسفلها للزحام فلا بأس أن يرميها من فوقها، ثم رجع فقال: لا يرميها إلا من أسفلها، وانظر لو رمى من فوق لا مع زحام، هل يجزئه أم لا؟ قال بعض شراح الرسالة: إن ذلك يجزئه. قاله الخرشي. وقال الحطاب: قال سند: والركوب في العقبة ليس من سنة الرمي حتى يقال: من قدم ماشيا فليركب وقت الرمي، وإنما السنة الاستعجال، فمن كان راكبا رمى راكبا قبل أن ينزل، ومن كان ماشيا رمى ماشيا، ولو مشى الراكب وركب الماشي لم يكن فيه شيء؛ لأن هذا هيئة وليس بركن مستقل. انتهى. وقال عن النوادر: ومن لم يصل لزحام فلا بأس أن يرميها من فوقها، وقد فعله عمر لزحام ثم رجع مالك فقال: لا يرميها إلا من أسفلها، فإن فعل فليستغفر الله تعالى. انتهى. وقال الحطاب أيضا: وإذا رماها من أسفلها فليستقبلها ومنى عن يمينه وهو ببطن الوادي، وكذلك كان ابن مسعود يفعل ولا يقف عندها بعد الرمي. انتهى. وقال مالك: من رمى جمرة العقبة رجع من حيث شاء. انتهى. قاله الحطاب.

والمشي في غيرها؛ يعني أنه يستحب له أن يمشي في رمي غير جمرة العقبة يوم النحر، فيشمل المشي في جمرة العقبة وغيرها في غير يوم النحر؛ وهو الأيام الثلاثة لغير المتعجل، واليومان للمتعجل وفي الحطاب أنه إن قدم في غير وقت رمي أخر الرمي حتى تطلع الشمس فيمشي لها أي لجمرة العقبة كما يمشي لسائر الجمار، فإن المشي إلى العبادة في هذا الموضع أفضل، لما رواه نافع عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشيا ذاهبا، وراجعا ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك

(1)

)، (وروى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن الناس كانوا إذا رموا الجمار مشوا ذاهبين وراجعين

(2)

). وأول من ركب معاوية بن أبي سفيان، ويرمي جمرة العقبة من أسفلها كما مر، ويستقبلها وهي عن يمينه وهو ببطن الوادي، وكذلك كان ابن مسعود يفعل ولا يقف عندها بعد الرمي، ولا ينصرف الذي يرمي جمرة العقبة على طريقه لأنه يمنع الذي يأتي للرمي، وإنما ينصرف من أعلى الجمرة.

(1)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1969.

(2)

الموطأ، كتاب الحج، ص 277.

ص: 545

وأشار إلى التحلل الأصغر بقوله: وحل بها غير نساء وصيد؛ يعني أنه يحل للحاج ما كان محرما عليه إذا رمى جمرة العقبة أو فات وقت أداء رميها بسبب الإحرام، إلا النساء فلا يحل له أن يقربهن بجماع ولا مقدماته، ولا أن يعقد عليهن، وكذا لا يحل له الصيد بسبب رمي جمرة العقبة فحرمتهما عليه بالإحرام باقية، وحرمة غيرهما بالإحرام زالت برمي جمرة العقبة، فقوله:"بها"؛ أي بجمرة العقبة أي برميها، وكما يحل ما حرم بسبب الإحرام غير النساء والصيد بسبب رمي جمرة العقبة، يحل أيضا بخروج وقت أداء رميها كما مر فخروج وقت أداء رمي جمرة العقبة ورميُها سواءٌ في أن كلا منهما يحل به غير النساء والصيد، وفي أن حرمة النساء والصيد باقية معهما، وظاهر ما سيأتي أن العقد حينئذ يفسخ مطلقا؛ أي قبل الدخول وبعده، وقوله:"وحل بها"، أي برمي جمرة العقبة الكائن قبل طواف الإفاضة، ويسمى هذا التحللُ التحللَ الأصغر والتحللَ الأول، وسيأتي الواجب في النساء والصيد إن شاء الله تعالى. وفي الحطاب أنه إن قَبَّل بعد الرمي فعليه هدي.

وكره الطيب؛ يعني أنه إذا رمى جمرة العقبة الرمي الكائن قبل الإفاضة فإنه يحل له كل شيء كان حراما عليه بإحرامه ما خلا ثلاثة أشياء؛ اثنان يتجنبهما على سبيل الوجوب وهما النساء والصيد كما مر، والثالث يتجنبه على سبيل الندب وهو الطيب، فيكره له استعماله، والتحلل الأكبر هو طواف الإفاضة، وبه يحل ما بقي وهي هذه الثلاثة، وسينص على ذلك، قال في المدونة: وأكره لمن رمى جمرة العقبة أن يتطيب حتى يفيض، فإن فعل فلا شيء عليه، وإذا رمى العقبة فقلم أظفاره وأخذ من لحيته وشاربه واستحد أو طلى بالنؤرة قبل أن يحلق رأسه فلا بأس بذلك، ويستحب له إذا حل من إحرامه أن يأخذ من لحيته وشاربه وأظفاره من غير إيجاب، وقد فعله ابن عمر، وإنما استحب ذلك ليفرق بين الزمنين؛ زمن الإحرام والإحلال كما استحب الفطر في عيد الفطر قبل الغدو إلى المصلى ليفرق بين زمن الصوم وزمن الفطر، وأقام بعض الأشياخ من هنا مثل ما قاله فضل بن مسلمة أن المتوفى عنها إذا انقضت عدتها يستحب لها أن تطيب لتفرق بين الزمنين. قاله الشارح. وقوله: ويستحب له إذا حل من إحرامه الخ، المتبادر منه أنه يندب ولو في التحلل الأصغر. والله سبحانه أعلم. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه. وهو

ص: 546

مقتضى الخرشي أو صريحة. وأشعر قوله: نساء أن هذا في الرجل، ومثله المرأة فيحل لها برمي جمرة العقبة غير رجل وصيد. قاله عبد الباقي. وقوله:"وكره الطيب"؛ أي فلا فدية عليه على المشهور.

وتكبيرة مع كل حصاة؛ يعني أنه يستحب له أن يكبر مع رمي كل حصاة تكبيرة واحدة، وهذا جار في رمي العقبة وغيرها من الجمار، فقوله:"تكبيرة" بالتاء لا بالهاء كما في الخرشي، فيفيد أنها تكبيرة واحدة، وقوله:"وتكبيرة مع كل حصاة"، ظاهر المدونة أنه سنة، قال فيها: ويكبر مع كل حصاة، وإن لم يكبر أجزأه الرمي، قيل: فإن سبح مع كل حصاة؟ قال: السنة التكبير، وكان ابن عمر يكبر إثر كل حصاة، ويقول: رأيت المصطفى صلى الله عليه وسلم يفعله

(1)

)، وقوله:"مع"؛ أي لا قبل ولا بعد، ويفوت المندوب بمفارقة الحصاة ليده قبل النطق به كما هو الظاهر ولو قبل وصولها لمحلها، وقد مر أن التكبير إذا ترك لا شيء فيه. أبو عمر: إجماعا، ابن هارون: لا شيء فيه عند مالك. وذهب قوم إلى أن التكبير هو الواجب في الجمار، وإنما جعل الرمي حفظا لعدده كالتسبيح بالحصى، فالدم يتعلق عندهم بترك التكبير لا بترك الرمي، وحكاه الطبري عن عائشة رضي الله تعالى عنها، والجمهور على خلافه. انتهى. وحكى في الطراز أيضا الإجزاء عن الجمهور، وذكر ابن عطاء الله عن بعض أصحابنا أنه يقول مع التكبير: هذه في طاعة الرحمن وهذه في غضب الشيطان. انتهى. وقال في الزاهي: ويقول إذا رمى الجمار: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا، وقال في النوادر عن ابن حبيب: ويقول كلما رمى أو عمل شيئا من أمر الحج: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا، وظاهر قوله:"تكبيرة"، أنه لا بسملة فيه.

وعلم مما قررت أن التكبيرات بعدد الحصيات، فالتكبيرات سبع والحصيات سبع.

وتتابعها؛ أي الحصيات؛ يعني أنه يندب تتابع الحصيات السبع أي موالاتها في رمي كل جمرة من الجمرات الثلاث؛ أي يتبع الحصاة أختها من غير تربص إلا بمقدار يتميز به كونهما رميتين، ولا يبعد أن يتحد وذلك بوصول الحصاة للجمرة لا بوقوعها في الأرض حولها، ويرمي بأصابعه لا بقبضته.

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1751.

ص: 547

وعلم مما قررت أن المراد بالتتابع الموالاة، وقال الأمير عاطفا على المندوب: وتتابعها أي موالاة الحصيات، وإلا فرمي كل واحدة بمرة واجب، فإن رمى السبع دفعة اعتد بواحدة. انتهى. ولقطها؛ أي لقط سبع حصيات، ولا يكسر حجرا فيأخذ منه قطعا سبعا؛ يعني أنه يندب له أن يلقط جميع الحصيات التي يرمي بها يوم النحر وفي جميع الأيام، هذا مراده كما يفيده الشارح وغيره، وإن كان كلامه هنا في جمرة العقبة يوم النحر فقط، فقوله:"ولقطها"؛ أي فكسرها خلاف المندوب، فيكره في له أن يأخذ حجرا ويكسره. مالك: ولقطها أحب إلي من كسرها، وفي الحطاب: فإن احتاج إلى كسرها فلا بأس، وقال الشارح مفسرا للمصنف: أي لقط الحصيات التي يرمى بها أولى من كسرها للسنة، وله أن يأخذ حصى الجمار من منزلة بمنى أو من حيث شاء، إلا جمرة العقبة فيستحب أخذها من المزدلفة. قاله ابن القاسم، وغيره. نقله عبد الباقي. قال محمد بن الحسن: هكذا نقل في التوضيح هذا التفصيل عن غير واحد. انتهى. وعزاه الحطاب لابن القاسم وابن حبيب وغيرهما.

وفي المقدمات: لما أُمِرَ إبراهيم عليه السلام ببناء البيت سارت السكينة بين يديه فكان يسير بسيرها، فلما انتهت إلى موضع البيت استقرت عليه، وانطلق مع جبريل عليهما السلام حتى أتيا العقبة فعرض له الشيطان فرماه، ثم عرض له عند الثانية فرماه، ثم عند الثالثة فرماه، فكانت سنة الرمي تذكيرا بآثار الخليل وتعظيما لشأنها ببقاء الذكر الجليل، ويروى أن الكبش الذي فدي به إسحاق هرب من إبراهيم فاتبعه فأخرجه عن الجمرة الأولى فرماه سبع حصيات فأفلت، فجاء الجمرة الوسطى فأخرجه عنها فرماه سبع حصيات، فجاء جمرة العقبة فرماه سبع حصيات فأخذه عندها فجاء به المنحر فذبحه، وروي أن سببه تعرض إبليس لإسحاق في المواضع الثلاثة، وأن الخليل أمره في كل منها بحصبه بسبع حصيات. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ الأمير عاطفا على المندوب: ولقط العقبة من مزدلفة والباقي من منى. انتهى.

وذبح قبل الزوال؛ يعني أنه يندب ذبح الهدي قبل الزوال يوم النحر ولو قبل طلوع الشمس، بخلاف الأضحية لتعلقها بالصلاة، ولا صلاة عيد على أهل منى، فلذلك جاز نحر الهدي قبل

ص: 548

طلوع الشمس، ويندب أيضا الحلق قبل الزوال، فلذلك طَلَب؛ أي يطلب الحاج بدنته إن ضلت لى؛ أي للزوال أي لقربه بقدر ما يحلق قبل الزوال ليحلق؛ أي لكون الحلق قبل الزوال مندوبا. من ضلت بدنته بأول النهار يطلبها إلى قرب الزوال ليجدها فينحرها، ويحلق قبل الزوال بعد نحرها فكلاهما مستحب قبل الزوال مكروه بعده، فإن لم يصبها وخشي الزوال حلق ليلا تفوته الفضيلتان، والأصل في تقديم الذبح على الحلق قوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، ودلت السنة على أن النهي في الآية الشريفة للتنزيه، فإنه قال لمن سأله ممن حلق قبل [فافعل ولا حرج

(1)

]، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج

(2)

). انظر شرح الشيخ عبد الباقي.

ثم حلقه، بصيغة الاسم والضمير للرجل؛ يعني أنه يستحب كون الحلق بعد الذبح؛ أي أن الذي يفعل بمنى يوم النحر على الترتيب: رمي، فنحر، فحلق. ولا فرق في استحباب إيقاع الحلق عقب الذبح بين المفرد والقارن على المشهور، وقال ابن الجهم: إن المكي القارن لا يحلق حتى يطوف ويسعى، قال عبد الباقي: ويلزمه ذلك في حق كل من أخر السعي إلى طواف الإفاضة. انتهى. قوله: ويلزمه ذلك الخ، مثله في التوضيح وهو غير ظاهر؛ لأن ابن الجهم إنما قاله في القارن لأجل إحرامه بالعمرة مع الحج، وهي لا حلق فيها إلا مع الطواف والسعي بخلاف الحج وحده، ونص ابن حجر: ولأبي داوود رمي ثم نحر ثم حلق.

وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب إلا أن ابن الجهم المالكي استثنى القارن، وقال: لا يحلق حتى يطوف كأنه لاحظ أنه في عمل العمرة والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف، ورد عليه النووي بالإجماع، ونازعه ابن دقيق العيد. ابن عرفة: ومؤخر السعي لكونه مراهقا كغيره اتفاقا. ولكونه قارنا في كونه كذلك، وتأخير حلقه حتى يسعى للمشهور، وقول ابن الجهم بناء على اضمحلال العمرة في القران واعتبارها. قاله محمد بن الحسن.

(1)

كذا في الأصل ولفظ عبد الباقي ج 2 ص 280 قبل الذبح افعل الخ.

(2)

البخاري، كتاب العلم، الحديث:83. مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث: 1306.

ص: 549

واعلم أن الحلق نفسه يجب هو أو التقصير، وقال الشبراخيتي: واعلم أن تأخير الحلق عن الرمي واجب ينجير بالدم، كما أن تأخير الإفاضة عن الرمي كذلك، وأما تأخير الذبح عن الرمي وتأخير الحلق عن الذبح فمستحب كتأخير الإفاضة عن الذبح. انتهى. وسيأتي للمصنف الإشارة إلى هذا. الباجي: وإذا قدم الحلق على الذبح فإما أن يفعل ذلك خطئا أو جهلا أو عمدا، فإن كان ذلك خطئا أو عمدا فروى ابن حبيب عن ابن القاسم: لا شيء عليه وهو المشهور، وقال ابن الماجشون: عليه الهدي، ووُجِّهَ الأول [بالحديث

(1)

]، ورأى ابن الماجشون أن معنى ذلك: لا إثم؛ لأن الحرج يطلق على الإثم دون الهدي، ولابن القاسم أن يقول: هذا موضع تعليم لما يجب على السائل: فلو وجب عليه الهدي لذكره. قاله الشارح. وقال الأمير: ووجب تأخير الحلق والإفاضة عن الرمي، فتقديم أحدهما يوجب دما، وندب ذبح أو نحر قبل الزوال، وطلب بدنته له ثم حلق جميع رأسه. انتهى.

واعلم أن الحلاق إنما يكون أفضل من التقصير في غير المتمتع، وأما هو فالتقصير في حقه أفضل استبقاء للشعث في الحج كما أشار له في الرسالة، وعن بعضهم: يستحب الإكثار من الدعاء عند الحلق، فإن الرحمة تغشى الحاج عند حلاقه، ولعل المراد أنها تكثر أو يتحقق ذلك، وإلا فالرحمة تغشاه في غير وقت الحلق أيضا، ويبدأ في الحلق بالشق الأيمن، لخبر مسلم بذلك

(2)

)، والظاهر أن مرادهم الشق الأيمن للمحلوق. قاله الحطاب. وقال ابن شعبان عن الزاهي: ويستقبل القبلة أي المحلوق رأسه.

ويروى أن أبا حنيفة رضي الله عنه، قال

(3)

: أخطأت في ستة أبواب من المناسك فعلمنيها حجام، وذلك أني حين أردت حلق رأسي وقفت على حجام، فقلت له: بكم تحلق رأسي؟ فقال أعراقي؟ فقلت: نعم، فقال: النسك لا يشارط عليه، اجلس فجلست منحرفا عن القبلة. فقال: حول وجهك إلى القبلة فحولته، وأردت أن يحلق رأسي من الجانب الأيسر، فقال: أدر الشق الأيمن

(1)

فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج. البخاري، كتاب العلم، الحديث:83. ومسلم، كتاب الحج، الحديث 1306.

(2)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1305.

(3)

(قال) سقطت من الأصل.

ص: 550

من رأسك فأدرته فجعل يحلق وأنا ساكت، فقال: كبر، فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب، قال لي: أين تريد؟ قلت: رحلي، فقال: ادفن شعرك، ثم صل ركعتين، ثم امض، فقلت له، من أين لك ما أمرتني؟ فقال: رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل ذلك.

وقول المصنف: "ثم حلقه"، اعلم أن حكم الصبي في ذلك حكم الرجل، قال مالك: ومن برأسه وجع لا يقدر على الحلاق أهدى، قال بعض: فإن صح فالظاهر أنه يجب عليه الحلق.

ولما كان الحلق بمعنى الإزالة بالحديد أفضل اتفاقا، أشار إلى الإزالة بالنؤرة المختلف فيها بقوله: ولو بنؤرة؛ يعني أن الإزالة للشعر بالنؤرة حلق فهي مجزئة، ورد المصنف "بلو" قول أشهب: لا تجزئ الإزالة بالنؤرة، وقد علمت أن المصنف هنا استعمل الحلق في مطلق الإزالة؛ إذ الحلق إنما يكون بالموسى، والنؤرة بالضم فسرها غير واحد بالجير، قال بعضهم: وقد يسمى بهذا الاسم الخلط المتخذ منها ومن الزرنيخ لحلق الشعر. قاله محمد بن الحسن. وقال عبد الباقي: ومثل الرجل في الحلق البنت الصغيرة وهي من عمرها دون تسع سنين كما يأتي عن التتائي، وهو صريح في أنه يجوز للصغيرة الحلق والتقصير، وذكر البدر ما يقتضي أن الحلق لها أفضل، قال: والظاهر أن المبالغة في الجواز فقط لا في الأفضلية، فهو مثل قوله في التيمم:"كتراب وهو الأفضل ولو نقل" قوله: وذكر البدر ما يقتضي الخ، نقل ابن عرفة القولين، فقال: الشيخ: روى محمد: حلق الصغيرة أحب إلي من تقصيرها، وسمع ابن القاسم: التخيير. اللخمي: بنت تسع كالكبيرة ويجوز في الصغيرة الأمران. قاله محمد بن الحسن. وفي الحطاب: ثم استحباب الحلق على التقصير ليس هو على العموم، بل قد يتعين الحلق في بعض الصور كما إذا كان الشعر قصيرا جدا أو لم يكن في الرأس شعر كالأقرع، فإنه يمر الموسى على رأسه. قاله في المدونة. ويتعين الحلق أيضا في حق الرجل إذا لبد رأسه أو عقص أو ضفر، وإنما تعين الحلق في حق هؤلاء للسنة. قاله الحطاب. ويتعين التقصير في حق المرأة الكبيرة ولو لبدت ويخير في الصغيرة، وتقدم أن التقصير في حق المتمتع أفضل وظاهره: مطلقا.

والذي في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب الحج تقييد ذلك بأن تقرب أيام الحج، ونصه: وسئل عن المعتمر؛ أيحلق رأسه أحب إليك أم يقصر؟ فقال: بل يحلق إلا أن

ص: 551

تكون أيامُ الموسم وتقاربَ الحج مثل الأيام اليسيرة فلا أرى أن يحلق، ويقصرُ أحب إليَّ. ابن رشد: الحلق أفضل؛ لأن الله تعالى بدأ به في كتابه، (ودعا صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة

(1)

)، إلا أن تقرب أيام الحج فالتقصير أفضل، وقد مر أن حكم الصبي حكم الرجل في الحلق، ومن لم يقدر على حلاق رأسه ولا التقصير من وجع به فعليه هدي بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام وسبعة، والترتيب المذكور في الهدي هو على جهة الأولى، ويبلغ بالحلاق وبالتقصير إلى عظم الصدغين. الشيخ محيي الدين: إذا عصيت الله تعالى بموضع فلا تبرح حتى تعمل فيه طاعة كما شهد عليك يشهد لك، وكذلك ما يفارقك منك من قص شارب وحلق عانة وقص أظفار وتسريح لحية وتنقية وسخ لا يفارقك شيء من ذلك إلا وأنت على طهارة، وذكر الله تعالى فإنه مسئول عنك، وأقل عبادة تقدر عليها أن تدعو الله أن يتوب عليك حتى تكون مؤديا واجبا في امتثال قوله عز وجل:{ادعوني أستجب لكم} ، ثم قال:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ؛ يعني بالعبادة: الدعاء. انتهى. وقال عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ، وقال ابن شعبان في الزاهي: قضاء التفث حلاق الرأس وقص الأظفار وإماطة الأذى عن الجسد والوجه والرأس، والنذر رمي الجمار وغيره يوم النحر، وكان ابن عمر يأخذ من لحيته ما جاوز القبضة، ويأخذ من شاربه وأظفاره ولا يأخذ من عارضيه، وكره ابن القاسم في العتبية ذلك للمعتمر بعد السعي قبل أن يحلق. ابن حبيب: وخذ من شاربك ولحيتك عند الحلق، وبالغ في الأخذ من اللحية فإنه يستحب ذلك في ذلك الوقت ما لا يستحب في غيره، والفرق بين الحاج والمعتمر أن الحاج وجد منه تحلل برمي جمرة العقبة، والمعتمر لا تحلل له قبل وقته. انتهى. وقال المحلي عند قوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} ، أي يزيلوا أوساخهم وشعثهم كطول الظفر. انتهى. وقال في التوضيح: ابن حبيب: ويبلغ بالحلاق -يريد وبالتقصير- إلى عظم الصدغين منتهى طرف اللحية. انتهى.

(1)

عن يحي بن الحصين عن جدته أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة. مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث:1303.

ص: 552

وقال ابن فرحون في مناسكه: ولا يتم نسك الحلق إلا أن يحلق جميع الرأس والشعر الذي على الأذنين، قال ابن الحاج: وقال أبو عمر: أجمع العلماء على أن الحاج لا يحلق ما على الأذنين، وينبغي أن ينظر كونهما من الرأس أو من الوجه، وقال ابن عرفة: وفِيهَا الشأن غسل المحرم رأسه بالخطمي والغاسول عند إرادة حلقه. انتهى. نقله الحطاب. ابن حبيب: ويبدأ في حلقه بالشق الأيمن: لما في صحيح مسلم

(1)

). عياض: في بداءة النبي صلى الله عليه وسلم حلقه بالشق الأيمن سنة في التيامن في العبادات وغيرها

(2)

)، وقال ابن شعبان في الزاهي: ويبدأ الحالق بالشق الأيمن ويستقبل القبلة أحب إلي، وقول ابن شعبان: ويستقبل القبلة أي المحلوقُ رأسُه. نقله الحطاب.

أن عم رأسه؛ يعني أنه لا يصح نسك الحلق إلا أن يحلق جميع الرأس، فحلق بعضه كالعدم فهو قيد في النؤرة وغيرها، وقد علمت أن المراد بالحلق: مطلق الإزالة، وقد علمت أيضا أن الحلق بالموسى أفضل من الإزالة بالنؤرة، وقد مر نقل التوضيح عن ابن حبيب: ويبلغ بالحلاق -يريد وبالتقصير إلى عظم الصدغين- منتهى طرف اللحية، وقولُ ابن فرحون: ولا يتم نسك الحلق إلا أن يحلق جميع الرأس والشعر الذي على الأذنين، وقولُ ابن الحاج: قال أبو عمر: أجمع العلماء أن الحاج لا يحلق ما على الأذنين وينبغي أن يكون النظر في كونهما من الرأس أو من الوجه. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: والذي يتضح من كلامهم أن قوله: "إن عم رأسه"، شرط في مقدر؛ أي وتحصل مأمورية الحلق إن عم رأسه؛ أي فإن لم يعم رأسه فكالعدم، وقد مر عن الحطاب أنه يتعين الحلق في حق من لم يكن له شعر كالأقرع، وقال الشبراخيتي: وإطلاق الحلق يتناول الأقرع فيُمِرُّ الموسى على رأسه لأنه عبادة يتعلق بالشعر، فينتقل للبشرة عند فقده كالمسح في الوضوء؛ يعني مسح الرأس.

والتقصير مجزئ؛ يعني أن التقصير يجزئ عن الحلاق، فالحلاق هو الأفضل، لكن من ترك الأفضل وقَصَّرَ أجزاه ذلك عن الحلاق، وهذا إن لم يكن بالشعر عقص أو ضفر أو تلبيد وإلا لم يجزه التقصير كما مر، وعليه الحلق كما في المدونة، وقوله:"والتقصير مجزئ"، ولا بد أن يعم

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1305.

(2)

لفظ الأبى (ع) مشهور سنته استحباب التيامن في العبادات. إكمال الإكمال ج 4 ص 367.

ص: 553

رأسه بالتقصير كما في الحلاق، فيبلغ بتقصيره إلى عظمي الصدغين منتهى طرفي اللحية كما في الحطاب، وقد مر أنه إنما تعين الحلق في حق هؤلاء للسنة، وفي قول المصنف "مجزئ"، إشعار بأن الحلاق أفضل من التقصير وهو كذلك كما عرفت، لخبر: (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: اللهم ارحم المحلقين، ثم قال في الرابعة: والمقصرين

(1)

).

وقد مر أن العلة في وجوب الحلق على الملبد ومن معه إنما هي السنة، ولا يعلل بعدم إمكان التقصير لأنه يمكن أن يغسله ثم يقصر، ويوضح لك ذلكَ أن المرأة ليس عليها إلا التقصير ولو لبدت. الباجي: بعد زوال تلبيدها، والتلبيد أن يجعل الصمغ في الغاسول ثم يلطخ به رأسه عند الإحرام، وقد تقدم أن التقصير للمتمتع أفضل، وهو مقيد كما مر بأن يقع الحج عقب العمرة وإلا فالحلق أفضل كما مر في الرواية: بل يحلق إلا أن تكون أيام الموسم، وتقارب الحج مثل الأيام اليسيرة، فلا أرى أن يحلق ويقصر أحب إلي. انتهى. قوله في الرواية: أيام الموسم، قال الإمام الحطاب: وهي في العرف من أوائل ذي الحجة. والله أعلم. انتهى.

وقال ابن عرفة: سمع ابن القاسم: حلق المعتمر أفضل من تقصيره إلا أن يعقبه الحج بيسيرِ أيامٍ فتقصيره أحب إلي. انتهى. والمراد -والله أعلم- أن يعقبه حلق الحج بدليل التعليل ببقاء الشعث. قاله محمد بن الحسن.

وهو سنة المرأة؛ يعني أن التقصير هو سنة المرأة أي الطريق فيها؛ أي ليس لها إلا هو لا أنه في حقها سنة ولها أن تفعل غيره، وقوله:"المرأة"؛ أي الأنثى ولو صغيرة، كبنت تسع فما فوق كما في التتائي عن اللخمي، وقال أيضا: ولم يعلم من كلام المصنف حكم مخالفتها سنتها، وفيه قولان بالمنع والكراهة. اللخمي: لا يجوز لها أن تحلق لأنه مثلة إلا إن كان برأسها أذى. قاله عبد الباقي. وقال الشبراخيتي: وقوله: "المرأة"؛ أي الأنثى ما لم تصغر جدا، ولذا قال التتائني: ولو بنت تسع فما فوق، وقوله:"سنة المرأة"؛ أي ولو لبدت. الباجي: بعد زوال تلبيدها بامتشاطها. انتهى. وقال الحطاب: قال في التوضيح: ويكره لها الحلاق، هكذا حكى البلنسي في شرح الرسالة، وحكى اللخمي أن الحلق للمرأة ممنوع لأنه مثلة لها، أما الصغيرة فيجوز فيها

(1)

البخاري، كتاب الحج، رقم الحديث:1727. مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث: 1301.

ص: 554

الحلق والتقصير. اللخمي: وكذلك الكبيرة إذا كان برأسها أذى والحلق صلاح لها. انتهى. وقال ابن عرفة: وليس على النساء إلا التقصير، وروى [محمد

(1)

]، ولو لبدت. الباجي: بعد زوال تلبيدها لامتشاطها، ثم قال: وفيها: ولتأخذ في الحج والعمرة من كل قرونها الشيء القليل، وما أخذت من ذلك أجزأها. الشيخ: وروى محمد: حلق الصغيرة أحب إلي من تقصيرها، وسمع ابن القاسم: التخيير. اللخمي: بنت سبع كالكبيرة، ويجوز في الصغيرة الأمران، وحلق بعضه أو تقصيره لغو، ولا نص في تعميمه منهما، والأقرب الكراهة. انتهى. والظاهر أنه لو فعل ذلك -أعني التعميم منهما- انتفت الكراهة، وهو ظاهر كلام الطراز. انتهى كلام الحطاب. قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: معنى التعميم منهما أن يحلق بعض الرأس ويقصر بعضه. والله سبحانه أعلم.

تأخذ قدر الأنملة؛ هذا بيان لتقصير المرأة؛ يعني أن المرأة الأولى لها في تقصيرها أن تأخذ مقدار الأنملة من رأسها، وقد مر أن التقصير كالحلق في التعميم في حق الرجل، وكذا المرأة لابد أن تعم رأسها بالتقصير، قال ابن فرحون في مناسكه: ولابد أن تعم المرأة الشعر كله طويلة وقصيره بالتقصير. نقله الباجي. انتهى.

وعلم مما قررت أن قوله: قدر الأنملة ليس هذا التحديد أمرا لابد منه، وإنما هو على جهة الأولى كما قاله الحطاب، وقال الشبراخيتي: قال ابن عرفة: روى ابن حبيب: قدر الأنملة أو فوقها بيسير أو دونها به، ورواية الطراز: قدر الأنملة لا أعرفها، ولو قال المصنف: كالأنملة، لسلم من هذا. انتهى. والرجل من قرب أصله؛ يعني أن الرجل يأخذ من قرب أصل شعره؛ أي يأخذه من جميع شعره، والأخذ للرجل من قرب أصل الشعر على جهة الاستحباب. مالك: ليس تقصير الرجل أن يأخذ من أطراف شعره، ولكن يجزه جزا، وليس مثل المرأة، فإن لم يجزه فقد أخطأ ويجزئه. ابن عرفة: وفيها: ما أخذ من كل شعره أجزأه، وفي الطراز: قال مالك في الموازية: ليس لذلك حد عندنا معلوم، وما أخذ منه الرجل والمرأة أجزأ. انتهى. وقال ابن عبد السلام: أقل ما

(1)

في الأصل عمر والمثبت من الحطاب ج 3 ص 548.

ص: 555

يكفي من التقصير الأخذ من جميع الشعر طويلة وقصيره، كذا نص عليه في الموازية مع ما يصدق عليه اسم التقصير من غير اعتبار بأنملة أو أقل أو أكثر. انتهى. والله أعلم. قاله الحطاب.

ثم يفيض؛ يعني أنه إذا فرغ من رمي جمرة العقبة يوم النحر، ومن النحر والذبح والحلق أو التقصير، فالأفضل له أن يأتي إلى مكة فيطوف بالبيت طواف الإفاضة سبعا من غير تأخير، فيندب عقب حلقه إلا قدر ما يقضي حوائجه التي لابد منها، ويندب فعل طواف الإفاضة في ثوبي إحرامه الإزار والرداء، ويدخل وقت طواف الإفاضة بطلوع الفجر من يوم النحر، فإن قدم طواف الإفاضة على الرمي فدم، وإن قدمه على الحلق والنحر فلا شيء عليه كما يأتي، والأحسن أن يأتي المصنف بالواو أو بالفاء؛ لأن الفورية هنا مستحبة، قال الشيخ إبراهيم بن هلال في منسكه: وينبغي أن لا يؤخر طواف الإفاضة بعد الحلق إلا بقدر ما يقضي حوائجه التي لابد منها، واستحب مالك له إذا فرغ من طواف الإفاضة أن يرجع إلى منى ولا يشتغل بطواف ولا طوافين، وعن النخعي أنهم كانوا يستحبون أن يطوفوا يوم النحر ثلاثة أسابيع، وقول مالك أولى. ومن أفاض يوم النحر أو في أيام منى فلما فرغ من طوافه سمع الأذان، فواسع أن يقيم حتى يصلي. ابن رشد: لأن الاختيار أن يرجع إلى منى فيصلي بها الظهر إن كان أفاض في صدر النهار، أو المغرب إن كان أفاض في آخره، وفي الزاهي: ولا يمضي من منى إلى مكة في أيام منى للطواف تطوعا، ويلزم مسجد الخيف للصلوات أفضل.

وقوله: "ثم يفيض"، اعلم أن طواف الإفاضة هو التحلل الأكبر، فلذا قال: وحل به ما بقي؛ يعني أنه يحل بطواف الإفاضة ما بقي من المحرمات بالإحرام بعد التحلل الأصغر الذي هو رمي جمرة العقبة وهو النساء والصيد والطيب؛ إذ تقدم أنه يكره استعمال الطيب بعد رمي جمرة العقبة، فإذا طاف للإفاضة فإنه يحل له بطوافها مقاربة النساء بأنواع الاستمتاع وطأ أو غيره، ويحل له الصيد في غير الحرم، ولا يكره له استعمال الطيب، وهذا هو التحلل الثاني الذي هو التحلل الأكبر، فيحل به العقد للنكاح له أو لغيره والوطء ومقدماته، والاصطياد في غير الحرم، ولا يكره له استعمال الطيب كما مر قريبا، ومحل كون طواف الإفاضة يحل به ما بقي من ممنوعات الإحرام إن كان هذا الذي طاف للإفاضة قد حلق أو قصر؛ يعني وكان قد سعى بعد

ص: 556

طواف القدوم، فإن لم يكن قدم السعي فلا يحل ما بقي إلا بفعله وفعل الإفاضة، وقد تم حجه، وتركه المصنف لظهوره، وأتى بقوله: إن حلق ليفيد أنه لم يجعل الترتيب فيما مر واجبا، فلو لم ينبه هنا على أن التحلل يتوقف على تقدم الحلق، لشمل تأخره عن الإفاضة، ولهذا قال: وإن وطئ قبله فدم، الضمير في قبله يرجع للحلق، والمعنى أنه إذا طاف للإفاضة ولم يكن حلق لا يحل له وطء النساء، فإذا وطيء قبل الحلق فإنه يجب عليه الدم.

وقد مر أن تقديم الرمي على طواف الإفاضة واجب ينجبر بالدم، كتأخير الحلق عن الرمي، وأن تأخير الذبح عن الرمي مستحب كتأخير الحلق عن الذبح، وكذا تأخير الإفاضة عن الذبح. والله سبحانه أعلم. ويأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

بخلاف الصيد؛ يعني أن من طاف للإفاضة ولم يكن حلق؛ إذا صار في غير الحرم فإنه لا جب عليه الجزاء لخفة الصيد عن الوطء، وأولى الطيب من الصيد في كونه لا دم فيه، ولو وطئ قبل السعي فإنه يهدي أو صاد فعليه الجزاء، وإنما افترق الصيد من الوطء لشدة الوطء، فإن الوطء يفسد الحج والصيد لا يفسده، وقوله:"بخلاف الصيد"؛ أي في غير الحرم كما مر، ويجوز له ابتداء ويوكل، وقد تقدم أنه يدخل وقت طواف الإفاضة بالفجر من يوم النحر،

ثم شبه في لزوم الدم مسائل، فقال: كتأخير الحلق لبلده؛ يعني أن من أخر الحلق عن وقته عامدا أو جاهلا أو ناسيا حتى رجع لبلده يجب عليه الدم، وقوله:"لبلده"، ولو قرب البلد، ولو فعله بذي الحجة، ومثل تأخيره لبلده تأخيره طويلا، قال عبد الباقي: بأن يحلق بعد أيام منى الثلاثة كما تفيده المدونة كما في الأجهوري. انتهى. ونحوه للأمير، قوله: بأن يحلق بعد أيام منى. الخ. قال محمد بن الحسن: فيه نظر، بل المدونة تفيد خلافه، ونص التهذيب: والحلاق يوم النحر بمنى أحب إلي وأفضل، وإن حلق بمكة أيام التشريق أو بعدها، أو حلق في الحل في أيام منى فلا شيء عليه، وإن أخر الحلاق إلى بلده جاهلا أو ناسيا حلق أو قصر وأهدى. انتهى. التونسي: قوله: إن أخر ذلك إلى بلده فعليه دم، يريد: أو طال ذلك، وقيل: إن خرجت أيام منى ولم يحلق فعليه دم. قاله في التوضيح. فعلم أن قوله: وقيل إن خرجت الخ. مقابل لمذهب

ص: 557

المدونة، وتقييد التونسي -والله أعلم- وتقييد الخرشي الطول بمن بلده [بعيدة

(1)

]، غيرُ صواب، بل الطول عند التونسي يكفي في لزوم الدم مطلقا. انتهى. وقال الحطاب عند قول المصنف:"كتأخير الحلق لبلده"، ما نصه: نحوه لابن الحاجب، قال في التوضيح: يريد أو طال ذلك، ثم قال: فإن قلت: هل يقيد وجوب الدم بما إذا أخره إلى المحرم كطواف الإفاضة؟ قيل: لا؛ لأن الباجي نقل عن ابن القاسم ما ينفي هذا التقييد، ولفظه: قال ابن القاسم: إذا تباعد ذلك بعد الإفاضة أهدى وليس لذلك حد، وإن ذكر وهو بمكة قبل أن يفيض فليرجع حتى يحلق ثم يفيض. انتهى. وقال الأمير مشبها في لزوم الدم "كتأخير الحلق لبلده"، أو لخروج أيام منى، في بناني عن المدونة: تقييده بمن لم يحلق بمكة، وأنه إذا حلق بها أيام التشريق أو بعدها، أو في الحل أيام منى فلا شيء عليه. انتهى.

أو الإفاضة للمُحَرَّم؛ يعني أن الشخص إذا أخر طواف الإفاضة وحده أو مع السعي أو السعيَ وحده حتى دخل المحرم، فإنه يأتي بطواف الإفاضة في الأولى وبطوافها مع السعي في الأخيرتين، وعليه هدي واحد في الجميع، ومفهوم قوله:"للمحرم"، أنه لو طاف طواف الإفاضة قبل غروب آخر يوم من ذي الحجة وصلى الركعتين بعد الغروب كان كمن فعلهما معه في ذي الحجة، وإن فصل بينهما وبينه جرى على ما مر عند قوله:"وفي سنية ركعتي الطواف" الخ، ولو أوقع السعي عقب الركعتين في الفرض المذكور فإن سعيه صحيح لاتصاله بطواف الإفاضة، وعليه الدم لفعله السعي في المحرم، وفعل بعض السعي في المحرم كفعل كله فيه. قاله الشيخ إبراهيم. فقوله:"أو الإفاضة"، معطوف على "الحلق"، فهو من المسائل التي يجب فيها الدم، ولوأخر الحلق لبلده والإفاضَةَ للمحرم فعليه فيهما دمان كما في الخرشي.

ورمي كل حصاة؛ يعني أنه إذا أخر رمي حصاة واحدة من حصيات العقبة أو غيرها عن وقتها وهو النهار حتى دخل الليل، فإنه يلزمه الهدي، والصواب إسقاط لفظة "كل" من قوله:"ورمي كل حصاة"، وقوله:"ورمي"، معطوف على الحلق. أو الجميع؛ يعني أنه لا فرق بين تأخير رمي حصاة واحدة وتأخير رمي أكثر من واحدة حتى دخل الليل في لزوم الدم، فلو أخر رمي

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من الخرشي ج 2 ص 335.

ص: 558

حصيات جمرة كلها أو أخر رمي حصيات جميع الجمار حتى دخل الليل لزمه هدي لذلك التأخير، فقوله: لليل، راجع للمسألتين وهو معمول "لتأخير"، ووقت الأداء هو النهار ووقت القضاء هو الليل، وأولى في لزوم الدم لو فات الوقتان، ولا يلزم في الجميع إلا دم واحد، وأعطي هنا الكل حكم البعض فلم يتعدد الدم بتعدد الحصيات. ابن الحاجب: وفي تركه الجميع أو جمرة أو حصاة هديٌ. ونظير هذا إذا لبس قلنسوة افتدى لذلك، وكذا لو لبس قلنسوة وسراويل وقميصا وخفين وتطيب فليس عليه إلا ما يلزمه من فعل بعض ذلك، نعم لو ترك حصاة أو جمرة وأهدى، ثم فعل مثل ذلك في الثاني أو الثالث لوجب عليه هدي آخر. قاله الشبراخيتي. قال: وعلى هذا فكلام المدونة محمول على الأولى فقط؛ لأنه ذكر فيها أن في ترك الجمار كلها أو جمرة بدنة، وإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد فشاة، وفي الحصاة يهدي ما شاء.

وإن لصغير لا يحسن الرمي؛ يعني أن الهدي يترتب على الحاج بتأخير رمي حصاة أو جمرة أو الجمار كلها إلى الليل، وإن حصل ذلك التأخير لصغير لا يحسن الرمي، فإن لم يرم عنه وليه حتى غربت الشمس فعليه الدم، وكذا لو كان الصبي يحسن الرمي فلم يرم حتى غربت الشمس، وكذا المجنون يؤخر وليه الرمي عنه حتى غربت الشمس والدم على من أحجهم، وإن رمى عن المجنون والصغير في الوقت فلا دم عليه، فرمي وليه عنه كرميه عن نفسه. أو عاجز؛ يعني أن التأخير المذكور يجب فيه الهدي، ولو كان التأخير حصل لأجل عجزه عن الرمي لكبر أو مرض، ولو لإغماء طرأ ولم يكن له من يحمله والدم في ماله.

وعلم مما قررت أن هذا عطف على المبالغ عليه، فهو داخل في حيز المبالغة، ويستنيب جملة مستأنفة لبيان الحكم؛ يعني أن الحكم في هذا الذي عجز عن الرمي أنه يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه، ففائدة الاستنابة الإثم وعدمه؛ أي الإثم إن لم يستنب وعدمه إن استناب؛ لأن الدم واجب مطلقا استناب أم لا، وهذا حيث لم يصح ويرمي عن نفسه في الوقت، وأما إذا صح ورمى عن نفسه في الوقت فيسقط عنه الدم.

والحاصل أن النائب إذا رمى عن العاجز في وقت الرمي فعليه -أي على العاجز- دم النيابة إلا أن يصح المستنيب ويرمي عن نفسه في الوقت فيسقط عنه الدم، وأن النائب إذا رمى عن العاجز

ص: 559

في غير وقت الرمي فدمان؛ دم للنيابة على العاجز ودم للرمي في غير وقته على النائب، إلا لعذر في تأخيره فعلى المستنيب أيضا فيما يظهر. قاله عبد الباقي. ومن العاجز المغمى عليه الذي طرأ إغماؤه كما قررت، وإنما وجب على العاجز الدم دون الصغير ومن ألحق به؛ لأنه المخاطب بسائر الأركان، بخلاف الصغير فإن المخاطب في الحقيقة بالرمي هو وليه وهو الذي أدخله في الإحرام، ويجوز للعاجز الاستنابة في أيام الرمي الثلاثة، ولو رجا الصحة فيها وليس له ذلك في يوم النحر حيث رجا الصحة. قاله عبد الباقي والشبراخيتي. وقال الشبراخيتي بعد كلام: ثم إن الاستنابة في أيام المرض إن وقعت في مرة واحدة ففيها دم واحد، وإن استناب في يوم ثم استناب في اليوم الثاني أيضا فإنه يتعدد عليه الدم بتعددها كذا ينبغي. انتهى. وفي التوضيح: والظاهر أنه إذا رجا الصحة قبل الغروب من أول يوم أنه لا يختلف في تأخيره وعدم استنابته، وقال الشارح: قال في المدونة: وإذا قدر على حمل المريض وهو يقوى على الرمي ويوجد من يحمله حمل ورمى بيده، ولا يرْمِي الحصاة في كف غيره ليرميها ذلك الغير عنه، وإن لم يُستطع حمله أولا يقدر على من يحمله أو لم يستطع الرمي رمى عنه غيره، ثم يتحرى المريض وقت الرمي فيكبر لكل حصاة تكبيرة، وليقف الرامي عند الجمرتين عنه للدعاء، وحسن أن يتحرى المريض ذلك الوقوف فيدعو، وعلى المريض الدم لأنه لم يَرْمِ، وإنما رمى عنه غيره، فإن صح ما بينه وبين غروب الشمس من آخر أيام الرمي أعاد ما رمى عنه في الأيام الماضية وعليه الدم، ولو رمى عنه العقبة يوم النحر ثم صح ذلك اليوم أعاد الرمي ولا دم عليه، وإن صح ليلا فليرم ما رمى عنه وعليه الدم.

والمغمى عليه في الرمي كالمريض. فيتحرى وقت الرمي ويكبر؛ يعني أن العاجز إذا استناب من يرمي عنه فإنه يتحرى وقت رمي النائب عنه ويكبر لكل حصاة كما لو كان هو الرامي بنفسه، وكذا يتحرى وقت دعاء نائبه ويدعو كما في المدونة. وأعاد إن صح؛ يعني أن المريض والمغمى يعيد وجوبا على الظاهر كل منهما ما فعل عنه من الرمي لعقبة يوم النحر وغيرها إن صح، وإنما يعيده إن صح قبل الفوات؛ الظرف يتنازعه "أعاد""وصح"، والفوات يحصل بالغروب؛ أي بغروب الشمس من اليوم الرابع من يوم النحر، فإذا أعاد قبل الفوات من اليوم الأول فلا دم عليه بسبب النيابة؛ لأنه ليس مترتبا عليها فقط، بل عليها وعلى عدم حصوله من المرمي عنه في وقت

ص: 560

الرمي، فإذا صح يومها أعاد، ولا دم لأن جميع يومها وقت أداء لها وأفضله من طلوع الشمس للزوال، فإن صح ليلا أعاد وعليه الدم.

وقضاء كل إليه يعني أن قضاء الرمي في كل من الجمرات العقبة وغيرها ينتهي إلى غروب رابع النحر، وبغروب الشمس منه يخرج وقت الرمي، وعليه دم واحد للجميع ما لم يكن أخرج أولا، فإن كان أخرج أولا تكرر، خلافا لأبي مصعب القائل: أن من تذكر حصاة يرمي في أي وقت كان، وقوله:"وأعاد إن صح"، وإذا قضى فإنه يرمي الجمرة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة عن اليوم الأول ثم يرمي عن اليوم الثاني كذلك ثم الثالث كذلك ولا يرمي الجمرة الأولى ثلاث مرات عن الأيام الثلاثة وهو ظاهر. والله أعلم. قاله الحطاب. وقوله: والليل قضاء، معناه أن الليل الكائن عقب كل يوم من أيام الرمي قضاء لما فات من رمي اليوم الذي قبله مع وجوب الدم على المشهور، ونهار كل رمي أداء له، والنهار الذي بعد أيام الأداء وما بعده إلى غروب الرابع قضاء كما تقدم ذلك، ونبه بقوله:"والليل قضاء"، على أن الليل يُقْضَى فيه خشية أن يتوهم أنه لا يُقضَى إلا في مثل وقت الأداء؛ وهو النهار فكل وقت من ذلك الزمن ليلا أو نهارا، قضاء عما سبقه كان بلصقه أم لا، وتحرير المسألة أن تقول: الرمي لغير المتعجل في أربعة أيام؛

أحدها: يوم النحر الأول وهو وقت أداء لرمي جمرة العقبة ما لم تغرب الشمس منه، فإذا غربت فما بعد ذلك قضاء لرميها إلى غروب الشمس من اليوم الرابع، فإذا غربت فلا رمي بعد ويجب الدم كما يجب إذا لم ترم في وقت أدائها، بل رميت في وقت قضاء رميها. والله سبحانه أعلم.

ثانيها: اليوم الذي بعد يوم النحر يليه وهو وقت أداء لرمي الجمار الثلاث العقبة وغيرها ما لم تغرب الشمس منه، فإذا غربت فما بعدُ قضاءٌ لرمي ذلك اليوم إلى غروب الشمس من الرابع، فإذا غربت فلا رمي بعد، ويجب الدم كما يجب إذا لم ترم في وقت أداء رميها: بل رميت في وقت قضاء رميها. والله سبحانه أعلم. ثالثها: اليوم الثالث من أيام النحر وهو وقت أداء لرمي الجمار الثلاث العقبة وغيرها ما لم تغرب الشمس منه، فإذا غربت فما بعدُ قضاءٌ إلى غروب الرابع ثم لا رمي، فيجب الدم كما يجب إذا لم ترم في وقت أداء رميها بل رميت في وقت قضاء رميها. والله سبحانه أعلم.

ص: 561

رابعها: اليوم الرابع بعد أيام النحر الثلاثة يليها وهو آخر الأيام المعدودات أيام منى، وهو وقت لرمي الجمار الثلاث العقبة وغيرها ما لم تغرب الشمس، فإذا غربت فلا رمي، فعلم من هذا أن للرمي في الأيام الثلاثة الأول وقتين: وقت أداء ووقت قضاء، وأن لرمي الرابع وقتا واحدا أي وقت أداء لا غير، وانتهاء القضاء في الثلاثة الأول والأداء في الرابع يحصل عند غروب الرابع.

وعلم مما مر وجوب الدم في الاستنابة إلا إذا صح المستنيب في وقت أداء، وفعل الرمي في وقت أدائه. وبالله تعالى التوفيق. وأما المتعجل فالرمي بالنسبة له إنما هو في ثلاثة أيام، ولرميه وقت أداء ووقت قضاء ينتهي بالغروب من الرابع كغير المتعجل، وأجر وجوب الدم فيه على ما مر من غير فرق يا فتى. والله سبحانه أعلم.

وَحُمِلَ مُطيق وَرَمَى؛ يعني أن المريض المطيق للرمي يحمل إن وجد حاملا ويرمي الجمار بنفسه وجوبا، ومثله الصغير، ولا يرمي واحد منهما الحصاة في كف غيره ليرمي عنه ولا يجزئ إن وقع، وفي بعض النسخ: ولا يرم بلا ياء، والنسخة الأولى هي المطابقة لما مر في قول المصنف:"ولا يسعى"، من أن الغالب في عبارات الفقهاء هو صيغ الإخبار، إشارة إلى أن هذا أمر قد تقرر عن الشارع، والغالب في عبارات الشارع هو صيغ النهي؛ لأنه ناه وآمر والله سبحانه أعلم.

وعطف على تأخير من قوله: "كتأخير الحلق لبلده"، ما فيه الدم أي الفدية لا الهدي، فقال: وتقديم الحلق؛ يعني أن الحاج إذا قدم الحلق على رمي جمرة العقبة فإنه تلزمه الفدية لوقوعه قبل شيء من التحلل كما في المدونة، لا هديٌ كما يعطيه المصنف؛ لأن الدم إذا أطلق إنما ينصرف للهدي، فإذا رمى العقبة أمر الموسى على رأسه؛ لأن الحلق الأول وقع قبل محله وهو رمي جمرة العقبة، أو الإفاضة؛ يعني أن الحاج إذا قدم طواف الإفاضة على رمي جمرة العقبة فإنه يلزمه الهدي مع الإجزاء على المشهور، وهل يسقط عنه بإعادة الإفاضة بعد الرمي أم لا؟ والظاهر لا يسقط. قاله الحطاب. قال: ويدل عليه كلام صاحب الطراز، وعن مالك: لا تجزئ الإفاضة قبل الرمي وهو كمن لم يفض، وأنه لو وطئ بعد إفاضته وقبل الرمي فسد حجه وهو خلاف مذهب المدونة، وقال أصبغ: أحب إلي أن يعيد الإفاضة وذلك في يوم النحر آكد. انتهى. وفي حاشية

ص: 562

بناني عن المدونة: ولو وطئ يوم النحر أو بعده قبل الرمي وبعد الإفاضة فإنما عليه الهدي وحجه تام. انتهى.

واعلم أن كلام المصنف صادق بفعل الإفاضة قبل يوم النحر، وليس بمراد؛ لأن فعل الإفاضة قبل يوم النحر كلا فعل لأنه فعل لها قبل وقتها، ونازع المواق المؤلف فيما ذكره من أن تقديم الإفاضة على الرمي فيه الهدي مع الإجزاء، فقال: وأما من أفاض قبل الرمي، فقال في المدونة: لا يجزئه، قال: وليرم ثم يحلق ثم يفيض ثانية. انتهى. واعترض الرماصي المواق، فقال: وقع للمواق تورك على المؤلف إذ نسب عدم الإجزاء للمدونة، ونقل كلامه علي الأجهوري مقلدا له، وما نسبه للمدونة غير صحيح، واللفظ الذي أتى به ليس هو لفظها، ولم أر أحدا نسب إليها عدم الإجزاء، وكيف يصح وهي تقول: ولو وطئ قبل يوم النحر أو بعده قبل الرمي وبعد الإفاضة فإنما عليه الهدي وحجه تام؟ وقد جعل الحطاب القول بعدم الإجزاء مقابلا لمذهب المدونة، فتأمله. انتهى. نقله بناني. والله شحانه أعلم. ولو قدم كلا من الإفاضة والحلق على الرمي لوجب فيهما فدية وهدي، فالترتيب بين كل منهما وبين الرمي واجب؛ إذ لو كان مستحبا لما وجب فيه شيء، وهو ظاهر لأن الرمي هو التحلل الأصغر. قاله الخرشي. وغيره.

وعلم مما قررت أن الدم في تقديم الإفاضة على الرمي على حقيقته وهو الهدي.

وعلم مما قررت أن قوله: على الرمي متعلق بتقديم، فهو راجع لمسألتي الحلق والإفاضة. والله سبحانه أعلم.

لا إن خالف في غير؛ يعني أنه إذا خالف عمدا أو جهلا أو نسيانا في غير ما تقدم من الصورتين المتقدمتين؛ كأن حلق قبل أن يذبح، أو ذبح قبل أن يرمي، أو أفاض قبل الذبح أو الحلق أو قبلهما معا، فإنه لا دم عليه في واحدة من هذه الخمس على الأصح، لخبر حجة الوداع: (جعلوا يسئلونه، فقال رجل: لم أشر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: اذبح ولا حرج، وقال آخر: لم أشعر فنحرت قبل أن أرميَ، فقال: ارم ولا حرج، فما سئل عن شيء يومئذ قّدِم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج

(1)

)، انتهى.

(1)

البخاري، كتاب العلم، رقم الحديث:83.

ص: 563

والدليل على التعميم في الصور الخمس قول الصحابي: فما سئل عن شيء الخ، لكنه يشمل الصورتين اللتين قدم المصنف أن فيهما الدم، ولذا قال ابن حجر عن الطبري: فيه رد على مالك في حمله نفيَ الحرج على نفي الإثم مع لزوم الدم فيهما أي الفدية في الأولى والدم في الثانية، وعلى نفي الإثم والدم فيما عداهما: وأجاب الأبي عن مالك بأن الدم أي الفدية في الأولى تخص عموم الخبر المار، لقاعدة أخرى وهي أن في تقديم الحلق على الإفاضة إلقاء التفث عن المُحْرِمِ، وأجاب القسطلاني عن الصورتين بجواب بُحِثَ فيه، وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني: (أفضت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج

(1)

). نقله في التوضيح عن ابن عبد السلام.

وعاد للمبيت بمنى؛ يعني أنه إذا طاف للإفاضة يلزمه أن يعود لمنى للبيات فيها، فالعود لمنى واجب لكنه لا يجب فورا بل يجوز التأخر عنها نهارا بعد الإفاضة، لكن الفور أفضل ولا يمضي من منى إلى مكة: ويلزم مسجد الخيف للصلوات أفضل، ولو طاف للإفاضة يوم الجمعة فالأفضل له أن يرجع إلى منى ولا يصلي الجمعة، وقوله:"للمبيت" مصدر ميمي، "والباء" في "بمنى" بمعنى: في، وهو متعلق بالمبيت. والله سبحانه أعلم.

فوق العقبة، الظرف متعلق بالمبيت؛ يعني أنه إذا عاد من مكة لمنى لأجل البيات بها فإنه يسن له أن يبيت فيها فوق جمرة العقبة من ناحية منى لا من أسفلها من ناحية مكة، فإنه لا يجوز لأنه ليس من منى، ثلاثا معمول للمبيت؛ أي يعود من مكة إلى منى فيبيت بها ثلاث ليال إن لم يتعجل، وهو معنى قوله عز وجل:{وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، وحذف التاء لأنها ليال كما أشعر به قوله:"للمبيت" قاله الشبراخيتي.

وحاصل ما أشار إليه المصنف أن الذي يفعله الحاج بمنى يوم النحر أن يرمي جمرة العقبة حين وصوله إليها، ثم يذبح هديه إن كان معه هدي، ثم يحلق رأسه، ثم يأتي إلى مكة لطواف الإفاضة سبعة أشواط لا يرمل في ذلك ولا يسعى بين الصفا والمروة إن كان قد سعى بعد طواف القدوم: فإذا طاف طواف الإفاضة فإنه يلزمه أن يعود إلى منى لا على الفور، بل يجوز له أن يتأخر بمكة بحيث يدرك المبيت بمنى، ولكن الفور أفضل، وإن كان مكيا جاز له أن يصيب أهله

(1)

الدارقطني، ج 2 ص 252.

ص: 564

قبل أن يأتي منى، فإذا عاد إلى منى فإنه يسن له أن يبيت فيها فوق جمرة العقبة من ناحية منى لا من أسفلها من ناحية مكة، فإنه لا يجوز لأنه ليس من منى، ومدة البيات بها ثلاث ليال إن لم يتعجل، وليلتان إن تعجل كما يأتي.

وعلم مما قررت أن قوله: "فوق العقبة"، تبيين لقوله:"بمنى"، وليس هو تبيينا لمنى؛ لأن ذلك لا يناسب المضاف الذي قدره غير واحد قبل العقبة أي جمرة العقبة؛ لأن جمرة العقبة من منى وما دون الجمرة ليس من منى كما في التوضيح والمناسك. قاله محمد بن الحسن.

واعلم أن منى لها آيات خمس: إحداها أن ما قُبلَ من الحصاة يرفع، الثانية اتساعها للحجيج مع ضيقها في الأعين، الثالثة كون الحدأة لا تخطف منها اللحم، الرابعة كون الذباب لا يقع في الطعام وإن كان لا ينفك عنه كالعسل، الخامسة قلة البعوض بها، ونظمها بعضهم فقال:

وآي منى خمس فمنها اتساعها

لحجاج بيت الله لو جاوزوا العدا

ومنع حداة من تخطف لحمها

وقلة وجدان البعوض بها عُدَّا

وكون ذباب لا يقعْ في طعامها

ورفع الحصى المقبول دون الذي رُدَّا

وفي التوضيح: ولا يجوز المبيت دون جمرة العقبة لأنه ليس من منى، وفي الموطإ (عن عمر: أنه كان يدخل الناس من ورائها

(1)

).

وإن ترك جل ليلة فدم؛ يعني أنه إذا ترك المبيت فوق العقبة جل ليلة فإنه يلزمه الدم على المشهور، وكذا ليلة كاملة أو أكثر، وظاهره ولو كان الترك لضرورة كخوف على متاعه وهو الذي يقتضيه مذهب مالك حسبما روى عنه ابن نافع فيمن حبسه مرض فبات بمكة أن عليه هديا، وفهم من قوله:"جل ليلة"، أن نصفها فدون لا دم فيه، وهو كذلك على ظاهر المدونة. قاله الشارح والشبراخيتي. وقوله:"وإن ترك جل ليلة فدم"، هو المشهور كما علمت، قال في الموازية عن مالك: وإذا بات وراء العقبة جل ليلة فليُهد هديا، وعنه: لاهدي عليه إلا أن يبيت الليلة كلها، نقله الشارح. وعطف على "ثلاثا" قوله: أو ليلتين إن تعجل؛ يعني أنه لا يلزم الحاج أن

(1)

الموطأ، كتاب الحج، رقم الحديث:929.

ص: 565

يبيت بمنى ثلاث ليال بل له أن يتعجل قبلها بأن يبيت ليلتين بمنى: ولا يجوز أن يبيت بها أقل من ليلتين، ويأتي في قوله:"أو ليلتين": "وإن ترك جل ليلة فدم"، ويستثنى من قوله:"ثلاثا أو ليلتين": الرعاة ومن ولي السقاية؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم أرخص للعباس في المبيت بمكة

(1)

)؛ وقوله: "إن تعجل"، كان بمنى أو غيرها كمكة، لكن إن كان بمنى يشترط فيه إذا تعجل الخروجُ منها قبل الغروب من الثاني، بخلاف ما لو لم يكن بمنى وكان ممره بها ولو لشيء نسيه فله أن يتعجل، ولو غربت عليه الشمس بمنى كما في الشارح. والله سبحانه أعلم.

وقوله: "إن تعجل"، هو معنى قوله عز وجل:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، وعدم التعجل أفضل: ويكره التعجيل للمقتدى به، وما مر من أنه يجوز التعجيل لمن يبيت بغير منى هو المشهور، وقال الخرشي والشبراخيتي: قال ابن الماجشون وابن حبيب: يلزم من يبيت بمكة أن يعود للرمي لخروجه عن سنة التعجيل، والدم إن لم يعد، وقال محمد بن الحسن بناني: إن عبد الملك وابن حبيب قالا: من بات بمكة فقد خرج عن سنة التعجيل، ويلزمه أن يرجع فيرمي في اليوم الثالث، وعليه دم لمبيته بمكة، وما قاله محمد بن الحسن هو الظاهر الموافق لقول المصنف:"وإن ترك جل ليلة فدم".

ولو بات بمكة؛ يعني أنه يجوز للحاج أن يتعجل بأن يرمي الجمار يومين بعد يوم النحر، ويخرج من منى بعد ذلك، ولا يرمي في اليوم الثالث، ولا فرق في ذلك بين من يبيت بمنى وبين من يبيت بمكة على المشهور كما علمت، خلافا لابن الماجشون وابن حبيب القائلين: ليس لمن يبيت بمكة التعجل، بل يلزمه أن يعود للرمي لخروجه عن سنة التعجيل، وعليه الهدي لمبيته بغير منى، وقد مر هذا قريبا.

أو مكيا، هو في حيز المبالغة لكونه معطوفا على المبالغ عليه؛ يعني أنه يجوز التعجل للمكي وغيره على الأصح، وقيل: لا يتعجل المكي، والقولان لمالك ويكره للإمام التعجل كما في ابن عرفة، وقد مر ما يفيده، والمبالغة في مقدر؛ أي وله أن يتعجل ولو بات بمكة أو كان مكيا كما في

(1)

استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له. البخاري، كتاب الحج، رقم الحديث:1634. مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث: 1315.

ص: 566

الخرشي. قبل الغروب، الظرف متعلق "بتعجل"؛ يعني أن التعجل يشترط فيه أن يخرج المتعجل من منى قبل غروب الشمس من اليوم الثاني من أيام الرمي؛ بأن يجاوز جمرة العقبة قبل غروب الشمس من اليوم الثاني، فإن غربت وهو بمنى لم يبح له التعجل بل يلزمه المبيت بمنى، ورمي الثالث لأنه لم يصدق عليه أنه تعجل في يومين، وفي الحطاب: ولو رجع إلى منى ثم بدا له قبل الغروب أن يتعجل فله ذلك.

وبين ثمرة التعجل بقوله: فيسقط عنه رمي الثالث؛ يعني أن من تعجل يسقط عنه رمي الثالث من الأيام وهو اليوم الرابع من يوم النحر، وكما يسقط عنه رمي اليوم الثالث يسقط عنه مبيت ليلته أي ليلة اليوم الثالث، فإذا بات المتعجل بمكة ليلة الحادي عشر فإنه يبيت بمنى ليلة الثاني عشر فقط لا ليلتين. ورخص لراع بعد العقبة أن ينصرف؛ يعني أن الراعي إذا رمى جمرة العقبة وطاف طواف الإفاضة فإنه يرخص له في أن ينصرف لرعيه، ولا يذهب إلى منى لرمي الجمار مع الناس، بل يشتغل برعيه حتى يمضي اليومان الأولان من أيام النحر وليلة اليوم الثالث، ويأتي لمنى اليوم الثالث من أيام النحر، فيرمي فيه لليومين؛ يوم النحر الثاني الذي مضى وهو في رعيه، واليوم الثالث من أيام النحر الذي حضر، فيه ثم إن شاءوا أقاموا لرمي اليوم الثالث من أيام الرمي، وإن شاءوا تعجلوا فيسقط عنهم رمي الثالث. هذا هو محل الرخصة، فليس المراد بالثالث الثالث من أيام الرمي؛ إذ لوأخر له لم يجُزْ، فإن وقع وأتى ثالث أيام الرمي رمى لليومين قبله ثم يرمي للثالث الحاضر في وقته وعليه دم للتأخير، وظاهر المصنف: كانوا رعاة إبل لحاجٍّ أو لغيره، أو رعاة غيرها، ووقع في نص: رعاة إبل حجاج. قاله عبد الباقي.

وقال بناني: قوله: وظاهر المص كانوا رعاة إبل الخ قال مصطفى: أطلق المصنف في الراعي كصاحب الجواهر وابن حبيب وابن عرفة وغيرهم من أهل المذهب، مع أن الرخصة (في الموطإ عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسما لِرِعَاءِ الإبل

(1)

)، فقال الباجي: للرعاء عذر في الكون مع الظهر الذي لا بد من مراعاته والرعي له للحاجة إليه في الانصراف، وقد قال تعالى:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ} الآية، فظاهر هذا أنه خاص بالإبل لا سيما الرخصة لا تتعدى محلها: وفي القياس

(1)

أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى الموطأ، كتاب الحج، الحديث:935.

ص: 567

عليها نزاع. انتهى. وكلام المصنف كالمستثنى من قوله: "وعاد للمبيت" الخ، ومن قوله:"أو ليلتين إن تعجل"، وأما أهل السقاية فيرخص لهم في ترك المبيت بمنى فقط لا في ترك الرمي، فيبيتون بمكة ويرمون الجمار نهارا ويعودون لمكة، فليسوا كالرعاة في تأخير الرمي، بل في ترك المبيت. قاله عبد الباقي. وقوله:"ورخص لراع بعد العقبة" الخ، وقال محمد: يجوز له ذلك، ويجوز لهم أن يأتوا ليلا فيرموا ما فاتهم في ذلك اليوم. انتهى. ونقله ابن عرفة وغيره، والظاهر أنه وفاق؛ لأنه إذا رخص لهم في تأخير الرمي لليوم الثاني فرميهم ليلا أولى بالجواز، إلا أنهم إذا جاءوا ليلا فيظهر من كلام صاحب الطراز أنه يلزمهم حكم المبيت بها، قال: لأن حاجة الرعي إنما تكون بالنهار، فإذا غربت الشمس فقد انقضى الرعي، وبهذه العلة فرق أصحاب الشافعي بينهم وبين أهل السقاية، مع أنه أشار إلى ذلك في مناسكه، قال في الطراز: يجوز لأهل السقاية ترك البيت بمنى بخلاف الرعاة. انتهى. قاله الحطاب.

قوله: والظاهر أنه وفاق الخ، اعترضه الرماصي، وذكر من كلام الباجي ما يدل على أنه خلاف. قاله محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم. وقوله: بخلاف الرعاة، لا يخالف ما مر عن عبد الباقي إن حمل على أنهم أتوا منى. والله سبحانه أعلم. قاله جامعه عفا الله تعالى عنه.

تنبيهات: الأول: قال في الطراز: الجمرات ثلاث؛ الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى وهي التي تلي الأولى، ثم الثالثة وهي الجمرة القصوى؛ وهي أبعد الجمار إلى منى وأقربها إلى مكة؛ وهي التي ترمى يوم النحر، وهي على حد أول منى من ناحية مكة. انتهى. وقال الشيخ زروق: وجمرة العقبة آخر منى من ناحية مكة. انتهى. نقله الحطاب.

الثاني: قال الإمام الحطاب: وما وقع في عبارة أهل المذهب من إطلاقهم لفظ العقبة فإنما يعنون به جمرة العقبة، ولا نزاع في ذلك، فقد قال المؤلف قبل هذا:"ورميه العقبة"، وقال بعده:"ورخص لراع بعد العقبة" وقال: "ورمي العقبة أول طلوع الشمس"، ومراده بذلك جمرة العقبة. والله أعلم. انتهى.

الثالث: قال الإمام الحطاب: فائدة تتضمن الكلام على أصل خروج سابق الحاج المبشر عنهم بسلامتهم ووقت خروجه، هل هو يوم العيد أو بعد مضي أيام التشريق؟ قال الشيخ جلال الدين السيوطي في

ص: 568

حاشية الموطإ في جامع القضاء: خَرَّج الخطيب البغدادي من طريق حسين الجعفي عن علي بن زيد عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال: تخرج الدابة من جبل أجياد

(1)

في أيام التشريق والناس بمنى، قال: فلذلك جاء سابق الحاج يخبر بسلامة الحاجِّ الناسَ.

قال الحطاب: هذا أصل لقدوم المبشر عن الحاج، وفيه بيان للسبب في ذلك، وأنه كان من زمن عمر بن الخطاب إلا أن البشر يخرج من مكة يوم العيد، وحقه أن لا يخرج إلا بعد أيام التشريق، ثم حكى في السيرة من طريق سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عبد الله بن عبيد بن عمر

(2)

عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد أراه رفعه، قال: (تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة فبينما هم قعود تربو الأرض فبينما هم كذلك إذ تصعدت

(3)

، قال ابن عيينة: تخرج حين يسير الإمام من جمع، وإنما جعل سابق الحاج ليخبر الناس أن الدابة لم تخرج، فهذه الرواية تقتضي أن خروج المبشر يوم العيد واقع موقعه. والله سبحانه أعلم.

الرابع: قد مر قول محمد في الرعاة إنهم إن رموا النهار أو رموا بالليل أجزأهم، قال الشارح: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في ذلك

(4)

، ومن العتبية: ابن القاسم عن مالك: ومن تعجل فأفاض ثم انصرف فكان ممره على منى فلم ينفر منها حتى غابت الشمس فلينفر ولا يضره، قال عنه محمد: وكذا لو لم تكن ممره إلا أنه نسي فيها شيئا فرجع له فغابت الشمس فيها فلينفر ولا يضره. قاله الشارح.

الخامس: الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة، والأيام المعدودات أيام الرمي الثلاثة بعد يوم النحر، فيوم النحر الأول معلوم فقط، واليوم الرابع معدود فقط، واليومان قبله معلومان معدودان، وتسمى الأيام المعدودات بأيام التشريق، وسميت بذلك لأنهم كانوا لا يذبحون فيها إلا بعد الشروق أو لتشريق الناس لحوم أضاحيهم ليلا تتغير، أو لأن الناس يبرزون فيها إلى منى وهي في المشرق أقوال. ولمالك كراهة تسمية الأيام المعدودات بأيام التشريق، لأن الله سبحانه سماها بالأيام المعدودات.

(1)

في الأصل جياد والمثبت من الحطاب ج 3 ص 553 ط دار الرضوان.

(2)

في الحطاب: عمير، ج 3 ص 353.

(3)

الطبرانى، فى الأوسط، رقم الحديث:1635. وفيه: فبينا هم قعود إذ رنت الأرض بدل تربو الأرض.

(4)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:935.

ص: 569

السادس: قال الخرشي: مقتضى ما ذكره المؤلف من البالغة أن المِنَويَ لا يتعجل وهو واضح، وظاهره: ولو عزم على السفر منها لمحل. انتهى. وفي الطراز: من تعجل سقط عنه رمي الثالث، فإن كان معه حَصًى أعدَّه طرحه أو دفعه لمن لم يتعجل ولا يعرف دفنه، وفي التوضيح: ذكر بعض أصحابنا أنه يدفن الحصى إذا تعجل، وليدر بمعروف. انتهى.

السابع: قوله: "ورخص لراع" الخ، هذه الرخصة جائزة كما قال الشيخ عبد الرحمن، ومثله للحطاب عن مالك. قاله الشبراخيتي. قال: وأما رخصة تقديم الضعفة فمستحبة، ورخصة ترك التحصيب خلاف الأولى.

ولما كان المطلوب استحباب الدفع مع الإمام من المزدلفة ولا يتعجل، ووسع للنساء والصبيان في المتقدم والتأخر كما في المدونة وغيرها، قال عاطفا على أن ينصرف: وتقدم الضعفة في الرد للمزدلفة؛ يعني أنه إذا رجع الناس من عرفة ونزلوا بالمزدلفة فإنه يرخص للضعفاء من الناس كالنساء والصبيان والمرضى ومن تلحقه مشقة حطمة الناس أي زحمتهم أن يتقدموا عن الناس في رجوعهم من المزدافة إلى منى، فيذهبوا من المزدافة ليلا ويبيتون بمنى، وهذه الرخصة مندوبة كما مر.

وعلم مما قررت أن اللام في قوله "للمزدلفة" بمعنى: من، نحو: سمعت له صراخا، ومنه قول جرير:

لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم

ونحن لكم يوم القيامة أفضل

أي منكم، ومتعلق الرد محذوف أي: ورخص تقديم الضعفة في الرد من المزدلفة لمنى. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي عند قوله "للمزدلفة": اللام بمعنى: من، متعلقة بالرد، ومتعلق تقديم محذوف وهو إلى منى؛ أي من ردَّ أي رجع من عرفة بعد غروب ليلة النحر إلى المزدافة يرخص له تقديمه منها إلى منى، يبيت بها إن كان ضعيفا، ونحوه كنساء وصبيان ومن تلحقه مشقة عظيمة في بياته بمزدلفة، فالمُرَادُ بالتقديم بمعنى المتقدم عدم البيات بالمزدلفة لضرورة تلحقه فيها، لا التقديم الذي هو عدم النزول بالكلية، لما تقدم من قوله:"وإن لم ينزل فالدم"، فالرخصة لهم إنما هي في ترك ما زاد على النزول الواجب، وهي هنا مستحبة في حقهم كما علمت، فلا يقال: إنهم تركوا مستحبا وهو المبيت؛ بل فعلوا مستحبا في حقهم وهو تقديمهم لمني، قال علي

ص: 570

الأجهوري: وانظر هل يحصل لهم ثواب المبيت كما ذكروه في الجمع الصوري للمريض ونحوه من حصول فضيلة أول الوقت له دون الصحيح أو لا؟ انتهى. قلت: قوله: ثواب المبيت؛ أي زيادة على ثواب الرخصة. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: انظر هذا التنظير، فإن الضَّعَفَة فعلوا ما هو مشروع في حقهم وهو الأفضل لهم، فكيف يكون لهم ثواب ما هو مرجوح في حقهم؟ وإن كان مراده ثواب المبيت الحاصل لغيرهم. والله سبحانه أعلم. وكما رخص للضعفة في التقديم، رخص لهم في تأخرهم عن الإمام أيضا كما مر، فلو قال المصنف: وتقديم الضعفة أو تأخرهم من المزدافة لكان أحسن وأشمل. انتهى.

وقد مر أن من أتى منى بالليل يؤخر رميه للفجر، وقوله:"في الرد"، سماه ردا لمروره الأول يوم التاسع بالمزدلفة، ولا يصح حمل كلام المصنف على ظاهره من أن الرخصة في المتقدم من عرفة للمزدلفة، ولئن سلم على ظاهره فلا بد من تقييده بإدراك جزء من الليل، فقد ورد ذلك أيضا إلا أنه غير معروف عند أهل المذهب.

وترك التحصيب لغير مقتدي به؛ يعني أنه يرخص في ترك النزول بالمحصب ليلة الرابع عشر لغير مقتدى به، والمحصب ما بين الجبلين للمقبرة؛ أي منتهيا لها سمي بذلك لكثرة الحصباء به، والأبطح منه حيث القبرة التي بأعلى مكة تحت عقبة كداء بالفتح والد، سمي بذلك لانبطاحه. قاله الشبراخيتي. ومفهوم قوله:"لغير مقتدى به"، أن المقتدى به لا يرخص له في ترك النزول بالمحصب لإحياء السنة إلا أن يكون متعجلا أو يوافق نفره يوم الجمعة، فقال مالك: لا أحب للإمام أن يقيم بالمحصب وليدخل مكة ليصلي الجمعة بأهل مكة. قاله الشبراخيتي. وسيأتي للمصنف أنه يستحب تحصيب الراجع أي نزوله بالمحصب، فالرخصة هنا خلاف الأولى، والتي قبلها مندوبة، والتي قبل ذلك جائزة، وفي الخرشي: والمحصب بضم الميم ثم حاء مهملة مفتوحة ثم صاد مشددة مفتوحة ثم باء موحدة: اسم لمكان متسع بين مكة ومنى، قال صاحب المطالع: هو أقرب إلى منى وهو الأبطح والبطحاء وخيف، والمحصب أيضا موضع الجمار من منى، وليس هو المراد هنا، وإنما كان النزول بالمحصب مشروعا (لنزوله صلى الله عليه وسلم

ص: 571

بد وصلاته الظهر والعصر والمغرب والعشاء به

(1)

)، وعن مالك: ليس بمشروع؛ ومثله عن عائشة رضي الله تعالى عنها. ورمى كل يوم الثلاث؛ قوله: "رمى" فعل ماض معطوف على "عاد"، من قوله:"وعاد للمبيت بمنى"؛ يعني أنه إذا عاد لمني فإنه يرمي كل يوم بعد يوم النحر الجمار الثلاث كل واحدة بسبع حصيات، يبدأ بالتي تلي مسجد منى ثم الوسطى التي بالسوق، وختم بالعقبة. أي يرتبهن هكذا، فيبدأ بالتي تلي المسجد، ثم الوسطى التي بالسوق، ثم جمرة العقبة يختم بها، فجملة ما يرميه المتعجل تسع وأربعون حصاة، وغيره سبعون حصاة بزيادته رمي اليوم الرابع وهو إحدى وعشرون حصاة، وعلق "برمى" قوله: من الزوال؛ يعني أن وقت أداء الرمي للجمار أيام منى مبدؤه من الزوال؛ أي وقت أداء كل يوم مبدؤه من زواله، ومختاره للاصفرار وضروريه من الاصفرار للغروب. والظاهر كراهة الرمي به أي بالضروري أي الظاهر كراهة تأخيره إلى الضروري؛ فيرمي به، وقوله:"للغروب"، قد مر أن ما بعد الغروب وقت قضاء للرمي إلى غروب الرابع، فينتهي وقت الرمي.

واعلم أن الفضيلة متعلقة بالزوال من هذه الأيام. واعلم أنه يشترط في صحة الرمي أمور أربعة، أحدها أشار إليه بقوله: في صحته بحجر كحصي الخذف؛ يعني أنه يشترط في صحة الرمي مطلقا أي في أيام منى أو في يوم النحر أمور أربعة: كونه بحجر أي جنس ما يرمى به حجر من حصى أو رخام أو برام؛ ويكون المرمى به في القدرك حصى الخذف بذال وخاء معجمتين وهو الرمي للحصى بالأصابع، وذلك الحصى فوق الفستق ودون البندق، ولا يجزئ الصغير جدا كالقمحة والحمصة فهو كالعدم، ويكره الكبير خوف الإذاية ولمخالفة السنة، ويجزئ عند الجميع؛ لأن فيه الواجب وزيادة. قاله عبد الباقي. قوله: أو برام، قال محمد بن الحسن: البرام في الأصل القدور المتخذة من الحجارة المعروفة بالحجاز واليمن. قاله مصطفى. نقله محمد بن الحسن. قال: ولعل مراده حجارة من ذلك المعدن. انتهى. وقوله: "كحصى الخذف"، هكذا في الصحيح، واستحب الإمام في المدونة أن تكون أكبر من حصى الخذف، قال الباجي: لعل مالكا لم يبلغه

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1764. ومسلم، كتاب الحج، الحديث: 1309.

ص: 572

الحديث: ولو بلغة ما استحب ما هو أكبر منه، والخذف قال الليث: هو رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك أو تجعل مخذفة ترمي بها بين سبابتك وإبهامك، ودخل في الحجارة الرخام كما مر، ويقال له: الزنط، بالنون وكسر الزاي، ولا يصح الرمي بغير الحجارة، وفي الشبراخيتي: وهل حصى الخذف كالفول أو النواة أو دون الأنملة طولا وعرضا؟ أقوال. انتهى. ومثله للشارح في الكبير، وفي التوضيح: قال سند: كان القاسم بن محمد يرمي بأكبر من حصى الخذف، واستشكل الشافعي استحباب مالك كونها أكبر من حصى الخذف مع ما ورد (أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى مثل حصى الخذف

(1)

)، وأجيب بجوابين، أحدهما للباجي، وهو الذي تقدم أن مالكا لم يبلغه الحديث، ثانيهما أنه بلغة ولكن استحب الزيادة على حصى الخذف ليلا ينقص الرامي ذلك. انتهى. نقله الحطاب.

وقال في الزاهي: ويحمل حصى نفسه ولا يستعين على حمله بغيره ولا يغسل الحصى. انتهى. نقله الحطاب. ونحوه للشارح، قال: والجواب الثاني أظهر، وقوله:"بحجر"، قال الشارح: احترز به من نحو الطين والآجر وشيء من المعادن التي نذكرها بعد هذا. القرافي في الذخيرة: ولا يختص بجنس بل ما يسمى حجرا أو رخاما، وظاهر المذهب منع الطين والمعادن كالحديد والزرنيح. انتهى. وقال الشارح أيضا: والخذف بالخاء والذال العجمتين وبالفاء، قال الجوهري: هو الرمي بالحصى بالأصابع. انتهى.

وكانت العرب ترمي بها في الصغر على وجه اللعب، تجعلها بين السبابة والإبهام من اليسرى بسبابته اليمنى. الليث: أو يجعلها بين سبابتيه. انتهى كلام الشارح. ومثله للخرشي.

وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: ورمي، مصدر مجرور معطوف على"حجر"؛ يعني أنه يشترط في صحة الرمي أن يصل المرميُّ به إلى الجمرة برمي لا بوضع أو دحرجة من مكان عال، فإن ذلك لا يجزئ، ولأشهب: يجزئ الطرح، ولا يخفى ما في كلام المصنف من القلق؛ لأن التقدير وصحة الرمي برمي، ويجاب عنه بأنه استعمل الرمي بمعنى الوصول إلى الجمرة، ويشترط في ذلك الوصول أن يكون برمي حقيقة، وبهذا يصح المعنى ويزول القلق، وقوله:"ورمي"، المراد رمي

(1)

مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث:1218.

ص: 573

لكل حصاة بانفرادها، فإن رمى السبع في مرة واحدة احتسب منها بواحدة، والظاهر أنه يشترط أن يكون الرمي بيده فلا يجزئ بقوس أو رجل أو فم، وفي حاشية الشيخ خضر ما نصه: من مستحبات الرمي أن يكون بالأصابع لا بالقبضة، وأن يكون باليد اليمنى إلا أن يكون أعسر لا يحسن الرمي باليمنى. انتهى.

وتحصل مما مر أن الاعتراض اندفع عن المصنف بأن المراد بالرمي الأول الإيصال وبالثاني الاندفاع الناشئ عن الدفع؛ ولا بد أن يكون الدفع حاصلا لكل حصاة. وإن بمتنجس. مبالغة في قوله: "وصحته بحجر"؛ يعني أنه إذا رمى بحجر متنجس فإن ذلك يجزئه لكنه يكره كما نص عليه سند في الطراز، وأنه يستحب له أن يعيده بطاهر، والكراهة وندب الإعادة بطاهر لا يفهمان من كلام المصنف: ونقل ابن الحاج الإجزاء عن مالك في الحجر النجس، وفي الشارح: سند: قالت الشافعية: لو رمى بحجر نجدى أجزأه، قال: وليس ببعيد عن المذهب لكنه يكره، وقد قال: مالكَ: ليس عليه غسلها. انتهى. وقال الحطاب: وكلام صاحب الطراز يدل على أن هذا الفرع ليس بمنصوص عليه لمالك، وقال في التوضيح، ونقل ابن الحاج الإجزاء عن مالك. انتهى.

على الجمرة: متعلق "برمى"؛ يعني أنه يشترط في الرمي أن يكون واقعا على الجمرة، والجمرة اسم للجميع: البناء وما حوله وهو مذهب الطراز، وقال الشارح: هي اسم للبناء وما تحته. قاله الشيخ إبراهيم. وقال عبد الباقي عند قوله: "على الجمرة": وهي البناء وما تحته من موضع الحصى؛ وإن كان المطلوب الرمي على الثاني كما يفيده قول منسكه: ولا ترم في البناء بل ارم أسفله بموضع الحصى، وسيقول المصنف: "وفي إجزاء ما وقف بالبناء تردد، فالمطلوب ابتداء أنه لا يرمي في البناء، فإن رمى فيه ووقف في شقوق البناء ففي إجزائه تردد كما يأتي، ولا يجزئ ما وقع في ظهرها قطعا، وقال ابن فرحون: ليس المراد بالجمرة البناء القديم، فإن ذلك البناء علامة على موضعها ونحوه قول الباجي وغيره: الجمرة اسم لموضع الرمي سميت بذلك لاسم ما يُرمَى فيها، والجمار الحجارة. انتهى. انتهى.

وفي شرح الشيخ عبد الباقي أن صور هذه المسألة تسع وهي: رميها ببطن الوادي وهو المطلوب، كان الرامي بنفسه ببطن الوادي أو ظهره أو فوق البناء، ورميها بظهر الوادي ولا يجزئ كان

ص: 574

الرامي بظهر الوادي أو بطنه أو فوق البناء، ورميها على البناء أي الحائط ووقفت في شقوقه فيه تردد كان الرامي فوق رأس الحائط أو ظهر الوادي أو بطنه. انتهى. وقال الشيخ زروق: من أي جهة رمى الجمرة في مرماها صح الرمي.

ولما أوهم قوله: "على الجمرة" أنه لا بد من إصابة الجمرة أولا، دَفَعَهُ بقوله: وإن أصابت غيرها؛ يعني أنه إذا وقع المرمي به على الجمرة فإن ذلك كاف، ولا فرق في ذلك بين أن يصيب الجمرة أولا، وأن يصيب غيرها قبلها ثم يقع عليها بعد ذلك، لكن بشرط أشار إليه بقوله: إن ذهبت إليها بقوة: يعني أنه إذا رمى الجمرة فأصابت الرمية غيرها فذهبت إليها بقوة من الرمية فوصلتها، فإن ذلك يجزئ، كما إذا رماها فوقعت على محمل فذهبت إلى الجمرة بقوة الرمية، وكذا لو وقعت دون الجمرة ثم تدحرجت إليها بقوة الرمية. قاله الشارح. وقال الخرشي: أي وإن أصابت الحصاة غير الجمرة ابتداء من محمل وغيره فلا يمنع ذلك الإجزاء إن ذهبت إليها بقوة من الرمي لاتصال الرمي بها، قال سند: بمثابة من رمى صيدا فأصاب السهم حجرا، وينقلب بحدة الرمي إلى الصيد فقتله، فإنها ذكاة تامة. انتهى.

وشمل كلامه -يعني المصنف- ما لو وقعت دونها ثم تدحرجت إليها؛ لأنه من فعله. انتهى. وقد مر عن الشارح مثله ومفهوم قوله بقوة أنها لو ذهبت لها لا بقوة الرمي كما لو وقعت على محمل رجل فنقضها صاحب المحمل لم يُجْزِ ذلك؛ لأنها إنما وصلت لها بفعل الذي نقضها، كما لو وقعت عليها من موضع عال؛ لأنه ليس من فعله. والله سبحانه أعلم.

لا دونها؛ يعني أنه إذا رماها فوقعت الرمية دونها ولم تصل إليها فإن ذلك لا يجزئه، وقد مر عن الشارح أنه لو رماها فوقعت دونها ثم تدحرجت إليها بقوة فإن ذلك يجزئه. انتهى. ومفهوم قوله:"دونها"، أنها لو تعدتها الرمية لم يجزه ذلك فهو مفهوم موافقة، فإن رماها وشك هل وصلت إليها أم لا؟ فالظاهر عدم الإجزاء. قاله عبد الباقي. وقوله:"لا دونها"، معمول لفعل مقدر؛ أي لا يجزئ الرمي دونها. قاله الشبراخيتي. وفي الخرشي ما نصه: أما إن تدحرجت إلى الجمرة من عال غير بناء الجمرة فلا، سند: لأن رجوعها ليس من فعله، وللشافعية فيه قولان،

ص: 575

وقال الخرشي عند قوله: "لا دونها"؛ أي لا إن وقعت الحصاة دون الجمرة ولم تذهب بقوة الرمية أو جاوزتها بالبعد منها فلا تجزئ؛ لأن رميه لم يتصل بالجمرة.

وإن أطارت غيرها؛ مبالغة في عدم الإجزاء لوقوع الرمية دون الجمرة؛ يعني أنه إذا رماها فوقعت الرمية دون الجمرة إلا أن الحصاة التي رمى بها أطارت حصاة غيرها فوصلت المطارة لها؛ أي للجمرة، فإن ذلك لا يجزئه، وفي الخرشي: لا يجزئ الرمي إن وقعت الحصاة دون الجمرة ولم تذهب بقوة الرمية، أو جاوزتها بالبعد منها فلا تجزئ؛ لأن رميه لم يتصل بالجمرة، وإن أطارت الرمية غيرها مما وقعت عليه للجمرة أو لغير الجمرة قصدا فوقعت بها لعدم النية. انتهى.

ولا طين؛ يعني أن رمي الجمرة بطين لا يجزئ؛ لأن شرط صحة الرمي أن يكون بحجركما مر، والظاهر أن مثل الطين الطفل أو هو من جملته. قاله عبد الباقي. ومعدن؛ يعني أن الرمي بما هو من المعدن لا يجزئ، سواء كان متطرقا كالذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس؛ أو غير متطرق كالياقوت والزمرذ والزرنيخ والكبريت، قوله:"ولا طين ومعدن"، مرفوعان معطوفان على فاضل يجزئ المقدرة بعد "لا" من قوله:"لا دونها".

وفي إجزاء ما وقف بالبناء تردد؛ يعني أنه إذا رمى الحصاة على الجمرة فَوَقَعَتْ في شُقُوقِ البناء ووقفت فيه بأن لم تنزل إلى أرض الجمرة، فإنه وقع التردد من المتأخرين لعدم نص المتقدمين في الإجزاء وعدمه، فالإجزاء هو الذي كان يميل إليه سيدي أبو عبد الله المنوفي شيخ المصنف، وعدم الإجزاء هو الذي كان يفتي به سيدي خليل الكي شيخ المصنف أيضا والشارح، ولعل الجمرة عنده اسم للمكان المجتمع فيه الحصى فقط، قال الحطاب: والإجزاء هو الظاهر. والله أعلم. انتهى.

وفي الخرشي: مذهب الطراز أن الجمرة اسم للجميع البناء وما حوله، وعليه فما وقف بالبناء مجزئ وهو القياس، فكان ينبغي للمؤلف أن يقطع بالإجزاء فيقول: ويجزئ ما وقف بالبناء. انتهى. وقال الشبراخيتي وعبد الباقي: إن ما للمنوفي هو المناسب لتفسير الجمرة بالبناء وما تحته. انتهى. وقال محمد بن الحسن عند قوله "تردد": الظاهر الإجزاء كما في الحطاب. انتهى.

ص: 576

قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: فتحصل من كلام هؤلاء الأشياخ أن الراجح الإجزاء فيما وقف بالبناء. والله سبحانه أعلم.

وأشار إلى الشرط الثالث بقوله: وبترتبهن؛ يعني أنه إذا أراد الرمي في أيام منى وهي الثلاثة الكائنة بعد يوم النحر، فإنه يشترط في صحة الرمي لهن أن يرتبهن على الكيفية المتقدمة؛ بأن يبدأ بالتي تلي مسجد منى، ويثني بالوسطى، ويختم بجمرة العقبة، وقوله:"وبترتبهن"، عطف على "بحجر"، وفي بعض النسخ بدون باء عطف على "حجر"، والإخلال بالترتيب يبطل ولو سهوا. الباجي: الترتيب واجب كركعات الصلاة. انتهى. وذلك لفعله عليه الصلاة والسلام

(1)

)، ولفعل الصحابة والتابعين. قاله غير واحد. قال الشارح: ولا أظنهم يختلفون في ذلك؛ فلو نكس الجمار فرمى الجمرة الآخرة ثم الوسطى ثم الأولى أعاد الوسطى ثم الآخرة، وكذا لو رمى الوسطى ثم الآخرة ثم الأولى فإنه يعيد الوسطى ثم الآخرة، ولو رمى الأولى ثم الآخرة ثم الوسطى أعاد الآخرة فقط، وفي الشبراخيتي عند قوله "وبترتبه": أي وصحته بترتبهن؛ أي الجمار الثلاث بعد يوم النحر؛ بأن يبدأ بالتي تلي مسجد منى ثم الوسطى ثم العقبة، فالإخلال بالترتيب مبطل ولو سهوا ما دام يوم الجمرة، فإن تذكر قبل خروج يومها، فأشار له بما بعده. انتهى.

وأعاد الحاج أو الرامي استحبابا ما أي شيئا، أو الشيء الذي حضر أي بقي وقته، وعلق "بأعاد" قوله: بعد فعل؛ أي رمي الجمرة المنسية في اليوم الذي ذكرها فيه وجوبا، معد فعل ما بعدها وجوبا أيضا أي المنسية التي فعلها في للظرفية، متعلقة بصلة الوصول قبلها كما لبناني. والله سبحانه أعلم. يومها؛ أي المنسية فقط، لا ما بعدها من غير يومها، ومعنى كلام المصنف أنه لو نسي شيئا من الجمار ثم تذكره قبل خروج وقت الرمي، فإنه يأتي بالنسية وجوبا، وبما فعله بعدها مما هو من يومها وجوبا أيضا، لوجوب الترتيب بين الجمرات لا غير ذلك مما فعله بعد يومها في يوم آخر؛ وبعد إتيانه بما ذكر يعيد ندبا ما حضر؛ أي ما بقي وقته وهو الجمرة أو الجمار التي رماها في اليوم الذي ذكر فيه المنسية إن كان قد رمى ما حضر وقته، وإلا أتى به بعد المنسية وما بعدها مما هو من يومها فقط وجوبا إن ذكر، مثال ذلك ما لو نسي الجمرة الأولى من

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1751.

ص: 577

ثاني النحر، ثم رمى ثالث النحر بتمامه، ثم رمى رابع النحر بتمامه، ثم ذكر في اليوم الرابع ما نسيه وهو الجمرة الأولى من ثاني النحر، فإنه يرمي الجمرة المنسية وجوبا، وكذا ما بعدها مما هو من يومها وجوبا أيضا وهي الوسطى، والعقبة من ثاني النحر لأنه رمي باطل لعدم الترتيب، ثم يرمي اليوم الرابع بتمامه استحبابا لبقاء وقته، وهو المراد بقوله: ما حضر في هذا المثال، وإنما أعاد رمي الرابع لأجل الترتيب فيه مع المنسية، فإنه واجب مع الذكر لا مع النسيان، فلذا ندب فقط: وأما اليوم الثالث فإن رميه صحيح وقد خرج وقته، ومثاله في الصلاة لو نسي الصبح وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم ذكر في تلك الليلة، فإنه يصلي الصبح والمغرب والعشاء لبقاء وقتهما، وقد مر أن "بعد" الأولى في كلام المصنف متعلقة "بأعاد"، "وما" من قوله:"ما حضر"، مفعول "أعادَ"، وما حضر وقته هو رمي اليوم الذي ذكر فيه المنسية، وقوله:"المنسية"، على حذف مضاف كما قررت؛ أي فعل المنسية أي رميها، "وما" من قوله:"وما بعدها"، عطف على "المنسية"؛ أي فعل ما بعد المنسية، وقوله:"في يومها" لعبد الباقي والشبراخيتي: أنها بمعنى من، قال الشبراخيتي: تبيين لما، ونازع في ذلك بناني، وقال: فيه نظر، بل هي على بابها للظرفية لكنها متعلقة بصلة الوصول قبلها. انتهى.

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: وما قاله بناني هو المتعين. والله سبحانه أعلم. وقوله: "فقط"، احترز به مما هو بعد المنسية وهو من يوم آخر، وما مر من أنه يقدم المنسية على أداء ما حضر وقته وجوبا مع الذكر ظاهر إذا اتسع الوقت للأداء والقضاء، وأما لو ضاق على ذلك؛ فقال الحطاب: سئلت عنه فأجبت بأني لا أحفظ فيه نصا، والذي يظهر لي في غير اليوم الثالث أن يقدم القضاء، وإن أدى لفوات الأداء كما في الصلاة الحاضرة مع الفائتة أي اليسيرة، وأما في الثالث الذي هو رابع النحر فالذي يظهر لي أنه يقدم الأداء، وقد فات وقت القضاء حيث لم يبق للغروب إلا ما يسع رمي اليوم الرابع. انتهى. وما قاله ظاهر، ويؤيده قولهم في أرباب الأعذار: إذا ضاق الوقت اختص بالأخيرة إن لم تفعل اتفاقا، وإن فعلت فخلاف. قاله الشيخ سالم. قال: وانظر لو ضاق الوقت عن بعض القضاء مع إمكان رمي جميع اليوم الرابع، هل يقدمه ثم يقضي ما أمكن من بعض الماضي أو يقدم البعض الماضي ثم يفعل رمي اليوم الرابع؟ قاله عبد الباقي.

ص: 578

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: وإذا كان يفعل بعض القضاء لضيق الوقت، فالذي يظهر تقديمه على الأداء لوجوب تقديم القضاء على الأداء مع اتساع الوقت، وفي الخبر: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه بما استطعتم

(1)

)، وقد استظهر الأجهوري أنه يأتي ببعض القضاء مع الأداء في هذا الفرض، قال: ورأيت في ابن عمر ما يوافقه، وقوله:"وأعادما حضر" حكى ابن شأس قولا أنه لا يعيد ما رماه في يومه. قاله الحطاب.

ولما ذكر أن ترتبهن شرط، ذكر أن الفورية مندوبة، فقال: وندب تتابعه؛ يعني أنه يندب تتابع رمي الجمار الثلاث؛ أي الإتيان برمي كل جمرة عقب الأخرى فورا؛ بأن يرمي الثانية عقب الأولى بكمالها، والثالثة عقب الثانية بكمالها، فلا يتكرر مع ما تقدم من قوله:"وتتابعها"؛ لأن ما مر في تتابع الحصيات في كل جمرة كما هو الأنسب، بقوله:"ولقطها"، فلا يؤخر بعض الجمرات عن بعض إلا بقدر ما سيأتي من التتابع.

وعلم مما قررت أن التتابع بمعنى الموالاة، وله صورتان: تتابع بين الحصيات وهذا هو الذي قدمه المصنف بقوله: "ومتابعتها"، وتتابع بين الجمرات بأن يرمي الثانية، على فور الأولى والثالثة على فور الثانية وهذا هو المراد هنا، ولو اقتصر على أحدهما لكفاه. والله سبحانه أعلم.

ولما ذكر أن ترتيب رمي الجمرات واجب، وأن الفور مستحب رتب عليهما، قوله: فإن رمي بخمس خمس اعتد بالخمس الأول؛ يعني أنه إذا رمي الجمار الثلاث في أي يوم من أيام منى بخمس خمس بأن رمي كل جمرة بخمس حصيات وترك من كل منها حصاتين، فإنه يعتد بالحصيات الخمس من الجمرة الأولى فيكملها بحصاتين حيث لم يخرج وقت الرمي، وهو اليوم الثالث من أَيام منى، وإذا اعتد بالخمس الأول من الجمرة الأولى فإنه يلغي خمس الجمرة الوسطى وخمس العقبة فيرميهما سبعا سبعا، وسواء كان ذلك سهوا أو عمدا بناء على أن الفور ليس بواجب، ولا هدي عليه إذا فعل ذلك في اليوم الذي ذكر فيه الحصاتين من كل جمرة، وعليه إن فعله من الغد، وإنما لم يعتد بما فعل بعد الخمس الأول لأنه لم يكمل الأولى، فلم يحصل الترتيب فيبطل رمي الثانية والثالثة.

(1)

البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، الحديث:7288. ومسلم، كتاب الحج، الحديث: 1337. ولفظهما: فأتو منه ما استطعتم.

ص: 579

ولما لم تكن الفورية واجبة كان له البناء على الخمس الأول، وما ذكره المصنف من ندب التتابع طريقة شهرها الباجي وابن بشير وابن راشد، وصدر بها ابن شأس، وحمل أبو الحسن المدونة عليها، وطريقة سند وابن عبد السلام وابن هارون ودرج عليها ابن الحاجب أن الفورية شرط مع الذكر اتفاقات واختلف فيها مع النسيان وعليها فلا يعتد بشيء.

وإن لم يدر موضع حصاة اعتد بست من الأولى؛ يعني أنه إذا رمى الجمرات ثم إنه لم يدر موضع حصاة تحقق تركها أو شك فيه بقيت بيده حصاة أم لا، فإنه يعتد بست حصيات من الجمرة الأولى لاحتمال كونها منها، فيكملها بحصاة ثم يرمي الوسطى والعقبة بسبع سبع، هذا إذا كان الشك في الجمرات الثلاث، فإن تحقق إتمام الأولى وشك في الثانية والثالثة اعتد بست من الثانية، فيكملها بحصاة ويرمي العقبة بسبع، فإن شك مع ذلك في كونها من الجمرة الأولى من اليوم الأول والثاني اعتد بست من الأولى من كلا اليومين، ويكمل عليها، وقوله:"موضع حصاة" أي أو أكثر أي فيعتد بخمس من الأولى في اثنتين، وهكذا كلما زاد الشك اعتد بغير المشكوك فيه، وألغي المشكوك فيه وهذا أيضا مبني على ندب التتابع؛ وأما على وجوبه فلا يعتد بشيء، ومفهوم قوله:"لم يدر"؛ أنه لو درى أنها من الأولى فإنه يعتد بست من الأولى ويكمل عليها، فهو مفهوم موافقة، ولو درى أنها من الثانية اعتد بالأولى وبست من الثانية وكمل على ذلك، ولا يستأنفها على المشهور كما مر. ومن رمى عن نفسه وعن صبي أجزأ رميه ذلك عنه وعن صبي، صورتها أنه رمى الجمرة بأربع عشرة حصاة، سبع عن نفسه وسبع عن صبي أو غيره ممن يرمي عنه؛ فإن ذلك يجزئه عن نفسه وعن الصبي ونحوه، ولو حصاة حصاة، يعني أن ذلك يجزئ، ولما فرق في الإجزاء بين أن يرمي الجمرة رميا كاملا عن نفسه، بأن يرميها بسبع حَصَيَاتٍ عن نفسه أو عن غيره، ثم يرميها بعد ذلك بسبع حصيات عن غيره أو عن نفسه، وبين أن يرمي حصاة عن نفسه أو عن غيره ثم يرمي حصاة عن غيره أو عن نفسه، وسواء وقع ذلك في جمرة واحدة أو في أكثر، فإن ذلك يجزئ عنهما لا حصاة عنه وعن غير، فإن هذا لا يجزئ، ورد المصنف "بلو"، قول القابسي: يعيد عن نفسه ولما يعتد من ذلك إلا بحصاة واحدة، قال ابن يونس: وهو غير صحيح، وما قبل المبالغة أن يرمي جمرة رميا كاملا عن نفسه، ثم يرمي الجمرة

ص: 580

رميا كاملا عن غيره أو عكسه، ولو رمى عنه حصاتين أو أكثر وعن الآخر مثله أو دون أو أكثر فالظاهر الإجزاء وانظر هل هذا من محل الخلاف أم لا؟ قاله عبد الباقي.

ولما قدم أنه يندب له رمي العقبة حين وصوله وإن راكبا، ولم يصرح هنالك بندب ذلك وقت طلوع الشمس: بينه بقوله: ورميُ العقبة أول يوم طلوع الشمس؛ يعني أنه يستحب رمي العقبة عند طلوع الشمس أول يوم من أيام النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، ويستمر ذلك الوقت للزوال، فلو رماها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس فقد ترك مستحبا، وهل هو مكروه كما صرح به الجزولي أو خلاف الأولى.

وعلم مما قررت أن أول الوقت المستحب طلوع الشمس، وآخره الزوال، ويكره بعد الزوال للغروب ووقت الأداء من طلوع الفجر إلى الغروب. قاله ابن بشير وابن هارون في شرح المدونة، ونص ابن هارون: أما رمي العقبة فيستحب بعد طلوع الشمس، ويجوز بعد الفجر إلى الزوال، ويكره بعد الزوال إلى الغروب من غير دم. واختلف في الدم إذا ذكر في الليل وما بعده من أيام التشريق. قاله الحطاب. وقوله:"طلوع الشمس"؛ أي وقت طلوعها، وقال الشارح: بعد طلوعها، وفي المدونة: ضحوة. قاله أحمد. انتهى.

وإلا أثر الزوال قبل الظهر، قوله:"وإلا"، مركب من إن الشرطية ولا النافية، وقوله:"إثر"، متعلق بمقدر؛ أي فالمستحب أن يرمي إثر الزوال؛ يعني أنه إذا لم يكن الرمي في أول يوم من أيام النحر، بل في ثانيها أو ثالثها أو رابعها وهي الأيام المعدودات أيام منى الثلاثة، فإنه يستحب أن يكون الرمي فيها بإثر الزوال قبل أن يصلي الظهر، ولو رمى بعد أن صلى الظهر أجزأه وقد أساء. ووقوفه إثر الأوليين قدر إسراع البقرة؛ يعني أنه يندب للرامي أن يقف للذكر والدعاء إثر رمي كل واحدة من الجمرتين الأوليين من غير رفع يديه، ويكون وقوفه بقدر ما يقرأ القارئ سورة البقرة حال كونه مسرمحا بقراءتها، قوله:"ووقوفه"؛ أي يقف إثر رمي كل واحدة منهما كما مرة يدعو ويهلل ويكبر ويحمد الله تعالى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه يقف إثر الثانية فقط دون الأولى وإن صدق عليه أنه إثر الأوليين، وهذا كالاستدراك على قوله: وتتابعه ووقف إثر كل من الأوليين دون العقبة، لما كان يفعله سالم وابن القاسم فإنهما كانا يفعلان ذلك،

ص: 581

وأما جمرة العقبة فإنه إذا رماها ينصرف ولما يقف عندها للدعاء لعدم الوارد في ذلك. ابن الحاجب: يبدأ بالجمرة التي تلي مسجد منى فيرميها من فوقها مما يلي مسجد منى، ثم يتقدم أمامها. وقوله:"ووقوفه"، قال الشبراخيتي: فيستقبل الكعبة، وفي رفع يديه قولان، قال الموضح: مذهب المدونة عدم الرفع. انتهى. وهو الذي قررت عليه أولا، وضعف ماله رفع اليدين في جميع المشاعر والاستسقاء، وقد ريء رافعا يديه في الاستسقاء، وقد جعل بطونهما إلى الأرض. ياسره في الثانية؛ يعني أنه يستحب للرامي إذا رمى الجمرة الثانية وهي الوسطى أن يتياسر عنها بحيث يقف في جهة يسارها كما في عبارة ابن المواز، ومثله في عبارة ابن شأس وابن الحاجب، ومستند هذه الكيفية كما في التوضيح الاتباع، وفي البخاري من حديث ابن عمر: (ثم يرمي الوسطى فيأخذ ذات الشمال فيسهل

(1)

الخ، قال ابن حجر: قوله: يأخذ بذات الشمال؛ أي يمشي إلى جهة شماله ليقف داعيا في مكان لا يصيبه الرمي، ويلزم من كونه في جهة يسارها أن تكون هي في جهة يمينه. قاله محمد بن الحسن. وقال عبد الباقي والشبراخيتي: وتياسر في وقوفه للدعاء عند الجمرة الثانية، والمراد أنه يتقدم أمامها بحيث تكون جهة يساره حال وقوفه للدعاء بعد رميها، لا أنه يجعلها في مقابلة يساره. انتهى. وقال الشبراخيتي عقب هذا: ويرميها من فوقها مما يلي مسجد منى كالأولى، ولا يرفع يديه ولا يجعلها خلف ظهره، ثم يثلث بجمرة العقبة إلا أنه يرميها من أسفلها من بطن الوادي ولا يقف للدعاء، فتلك السنة.

قال الباجي: ويحتمل من جهة المعنى أن موضع الجمرتين الأوليين فيه سعة للقيام لمن يرمي، وجمرة العقبة موضع ضيق، ولذلك لا ينصرف الذي يرميها على طريقه؛ لأنه يمنع الذي يأتي الرمي: وإنما ينصرف من أعلى الجمرة. انتهى. ونازع بناني في قولهما: بحيث تكون جهة يساره؛ وقال: فيه نظر. وقال الكلام الذي قررتُ به المصنف. وانظر ما تقدم عن مالك من تضعيفه رفع اليدين، مع ما في البخاري من ثبوت رفع اليدين في الجمرتين الأوليين

(2)

)، ولذا قال ابن المنذر

(1)

في الأصل: بذات الشمال فيسئل، والمثبت من البخاري، رقم الحديث:1752.

(2)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1731.

ص: 582

فيما نقل عنه ابن حجر: لا نعلم أحدا أنكر رفع اليدين في الدعاء عند الجمرة إلا ما حكاه ابن القاسم عن مالك. انتهى.

وتحصل مما مر أنه يرمي الجمرتين الأوليين من فوقهما والعقبة من أسفلها، وأنه يقف في الجمرتين الأوليين للدعاء مما يلي مسجد منى، وأنه لا يتياسر في الأولى بل يجعلها خلف ظهره، ويقف للدعاء مستقبل القبلة، وأنه يتياسر في الثانية فيقف في جهة يسارها، ومن لازم ذلك أن تكون في جهة يمينه على ما قال محمد بن الحسن، أو يقف بحيث تكون جهة يساره على ما لعبد الباقي والشبراخيتي وقد علمت أن بناني أنكره، وأنه لا يقف في العقبة. والله سبحانه أعلم. وفي المدونة: ويرمي الجمرتين جميعا من فوقهما والعقبة من أسفلها، فيقف في الجمرتين مما يلي مسجد منى.

وتحصيب الراجع؛ يعني أنه يستحب للراجع من منى لمكة أن يحصب؛ أي ينزل المحصب وهو ما بين الجبلين منتهيا للمقبرة التي بأعلى مكة، سمي بذلك لكثرة الحصباء فيه من السيل، ويسمى أيضا الأبطح لانبطاحه، واستحب نزول المحصب؛ (لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل به

(1)

)، واستحباب التحصيب ثابت للمكي وغيره، والنزول المستحب يستمر ليصلي؛ أي إلى أن يصلي به أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وَنَدْبُ التحصيب إنما هو لغير التعجل على الأصح، وأما المتعجل فلا يندب له ظاهره ولو مقتدى به، ومحله أيضا في غير الجمعة، وإلا ترك النزول به ودخل مكة لصلاة الجمعة. قاله عبد الباقي. لكن زدت فيه بعض الإيضاح، وقال الشبراخيتي: وسبب النزول بالمحصب فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فاللام في "ليصلي"، ليست للعلة بل للغاية؛ أي غاية النزول به إلى أن يصلي أربع صلوات؛ لأن المحصب هو الموضع الذي تحالفت فيه قريش على أنهم لا يبايعون بني هاشم ولا يناكحونهم ولا يأخذون منهم ولا يعطونهم، فنزله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعالى فيه شكرا له حيث ظَفَّره الله تعالى ونصره على أعدائه، وكان مجلسا لسوء جعله الله تعالى

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1464.

ص: 583

مجلسا لخير، ويؤيده حديث أبي رافع حيث قال: (يا رسول الله تأذن لي أن أضرب خيمتك بأي محل؟ فقال عمر: بمكة، فقال صلى الله عليه وسلم: خيف بني كنانة

(1)

). انتهى.

عياض: المحصب هو البطحاء، وخيف بني كنانة. انتهى. القرافي: وليس التحصيب بنسك. عياض: أجمعوا أنه ليس من المناسك؛ أي ليس بمتأكد على وجه السنية أو الوجوب حتى يلزم الدم بتركه. قاله محمد بن الحسن. (ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من منى إلى مكة نزل بالمحصب، وصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم هجع هجعة ثم دخل مكة

(2)

)، وقوله:"ليصلي أربع صلوات"، هذا إذا وصل للمحصب قبل دخول وقت الصلاة، وأما إذا أدركه وقت الصلوات وهو في غير المحصب فإنه يصليها حين أدركه الوقت، ولما يؤخر للمحصب. قاله في المدونة.

وطواف الوداع؛ يعني أن طواف الوداع مندوب لكل من خرج من مكة من مكي وغيره قدم لنسك أو لتجارة؛ وطواف الوداع هو الذي يفعل عند الخروج من مكة، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (لا ينفر أحدكم حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت

(3)

)، ويسمى طواف الوداع طواف المصدر بفتح الصاد والدال، قال في التوضيح: وسمى طواف المصدر إما لكونه يصدر بعده للسفر وإما لكونه يعقب الصدر من منى، قال عياض: الصدر الرجوع. النووي: ويطلق الصدر أيضا على طواف الإفاضة والوداع بفتح الواو وكسرها، وكره مالك في الموازية أن يقال طواف الوداع، قال: وليقل الطواف. انتهى. ويحتمل أنه إنما كره ذلك لأنه إنما يكون من الفارق، فكره له اسم المفارقة لذلك المحل الشريف. والله أعلم. سند: يستحب إذا فرغ من طواف وداعه أن يقف بالملتزم للدعاء، ومحل ندب طواف الوداع للخارج من مكة إن خرج منها لمكان بعيد، سواء كانت نيته العودة أم لا، كالجحفة مثال للمكان البعيد، وأدخلت الكاف مثلها من كل بعيد، ومعنى قوله:"إن خرج": أراد أن يخرج، وأما إن خرج أي أراد أن يخرج لمكان قريب، فإنه لا يندب له طواف الوداع كالتنعيم، وأدخلت الكاف نحو التنعيم من كل مكان قريب، ومحل عدم ندب طواف الوداع لمن خرج من مكة لكان قريب إنما هو حيث كانت نيته العودة، كما إذا خرج

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1464.

(2)

البخاري، كتاب الحج، الحديث: 1768/ 1756.

(3)

لا ينفرن أحد حتي يكون آخر عهده بالبيت. مسلم، باب الحج، رقم الحديث:1327.

ص: 584

لاقتضاء دين أو زيارة أهل، وأما إن كانت نيته الإقامة طويلا أو ذهب لمسكنه فإنه يندب له طواف الوداع، قال الشبراخيتي: ويستثنى ممن خرج لمكان بعيد المتردد لمكة بالحطب ونحوه فلا وداع عليه ولو خرج لمكان بعيد، وكذا يستثنى منه المتعجل. انتهى.

ونحوه للخرشي. وعبد الباقي. وهو غير صحيح بالنسبة للمتعجل كما ذكره بناني، فإنه قال: حاصل ما ذكروه مع كلام المصنف أن الخارج من مكة إن قصد التردد لها فلا وداع مطلقا، وإن خرج لاقتضاء دين، فإن خرج لنحو أحد المواقيت وَدَّعَ ولدونها كالتنعيم لا وداع، وسواء في ذلك المتعجل وغيره؛ إذ لا تعلق لطواف الوداع بالحج، ولا هو من المناسك حتى يفرق فيه بين المتعجل وغيره لاتفاقهم على أن من قصد مكة لا يؤمر به، وفي التوضيح: وليس من شرط الأمر به أن يكون مع أحد النسكين، بل يؤمر به كل من أراد سفرا مكيا كان أو غيره، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم، قال: (لا ينفر أحدكم حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت

(1)

). انتهى.

وإن صغيرا؛ يعني أن طواف الوداع يؤمر به الحر والعبد والصغير والكبير والذكر والأنثى، وظاهر المصنف: ولو كان الصغير غير هميز فيفعله عنه وليه.

تنبيه: يستحب لمن فرغ من ركعتي طوافه أي الوداع أن يقف بين الركن والمقام، فيحمد الله تعالى ويشكره على ما من عليه، ويجتهد في الدعاء فإنه موضع رغبة، وليقل إن شاء: اللهم إنك حملتني على ما سخرت بنعمتك لعبادك، وما كانوا له مقرنين حتى بلغتني بيتك الحرام، فإن كنت يا رب قد قبلت ورضيت فازدَدْ علي رضى، وإلا فالآن قبل أن أبعد عن بيتك غير متبدل بك ولا راغب عنك، اللهم قني شر نفسي وكل ما ينقص أجري أو يحبط عملي، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة.

ابن فرحون: لطواف الوداع ركعتان إن تركهما حتى تباعد أو بلغ بلده ركعهما ولا شيء عليه، وإن قرب وهو على طهارته رجع لهما، وإن انتقض وضوءه ابتدأ الطواف وركعهما، وإن كان بعد العصر ركعهما إذا حلت النافلة في الحرم أو خارجه، ولم يذكروا أنه يقبل الحجر بعد طواف الوداع قبل خروجه من المسجد كما قالوه عند خروجه للسعي وهو حسن، قال محمد بن الحسن:

(1)

لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت. مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث:1327.

ص: 585

وكلام ابن فرحون قصور، والتقبيل بعد طواف الوداع ذكره في الواضحة، ونقله الحطاب عند قوله "ودعاء بالملتزم"؛ وقال سند: يستلم الركن بعده ثم يقف، ويقول: اللهم إني قصدت حج بيتك راجيا لعفوك ومغفرتك ورضوانك، قاضيا لما وجب علي من فرض ذلك، فمننت علي أن بلغتني بيتك ومعالم حجه وأشهدتني مشاهده؛ وهذا أوان رجوعي ووداعي بيتك، فإن كنت يا رب غفرت لي ورضيت عني، وإلا فامنن علي بعفوك ومغفرتك ورضوانك الآن في موطني هذا، ولا تخيب سعيي ولا تقطع رجاءي وأوجب لي التوفيق بطاعتك والعصمة من معصيته بقية عمري، ثم يقبل الحجر أو يستلمه أو يستقبله، ويقول: لا إله إلا الله والله أكبر، أستودع الله تعالى هذا البيت، وأستودعه ديني وخواتم عملي. انتهى.

وتأدي بالإفاضة؛ يعني أن طواف الوداع يتأدى بطواف الإفاضة، ومعنى ذلك أن طواف الوداع ليس مقصودا لذاته، بل المقصود أن يكون آخر عهده المبيت، فأي طواف كان أجزأه فرضا أو تطوعا. نص عليه اللخمي وغيره. فإذا طاف للإفاضة ثم خرج من فوره فإنه لا يستحب له أن يطوف للوداع. والعمرة؛ يعني أن طواف الوداع يتأدى بطواف العمرة، فإذا طاف للعمرة ثم خرج من مكة بأثر سعي العمرة فإنه لا يستحب له أن يطوف للوداع.

وعلم مما قررت أن سعيه للعمرة بعد طوافها لا يكون طولا، ومحل كونه لا يطلب بطواف الوداع بعد الإفاضة والعمرة إنما هو حيث لم يقم بعدهما إقامة تبطل حكم التوديع، وسيأتي بيان الإقامة التي تبطل حكم التوديع، ومعنى قوله: تأدى أنه يسقط الطلب بطواف الوداع، ويحصل له فضله إن نواه بالإفاضة أو العمرة قياسا على تحية المسجد بفرضه. قاله عبد الباقي وغيره.

ولا يرجع القهقري؛ يعني أنه إذا طاف للوداع أو غيره وخرج بإثر ذلك، فإنه لا يستحب له أن يرجع القهقرى، بأن يرجع ووجهه إلى البيت وظهره لخلف كما تفعله الأعاجم والأروام ونحوهم إلى أن يتواروا عن البيت لعدم الوارد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل يكره رجوعه القهقرى أو هو خلاف الأولى، وكذا يقال في القهقرى في زيارة الروضة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وإذا كان الأمر في رجوع القهقرى كذلك فإنه يخرج موليا ظهره للبيت.

ص: 586

وبطل بإقامة بعض يوم؛ يعني أنه إذا طاف للوداع ثم أقام بمكة بعض يوم والمراد به ما فوق الساعة الفلكية، فإنه يبطل كونه للوداع مع صحته في نفسه، وعدم بطلان ثوابه، فيطالب بطواف آخر للوداع إذا أراد الخروج. وقد علمت أن قوله:"بإقامة بعض يوم"، معناه: بمكة، فلو أقام بذي طوى أو بالأبطح لم يبطل وداعه كما لعبد الباقي والشبراخيتي، وعبارة الشبراخيتي: ويستفاد من كلامهم أن الإقامة خارج مكة بموضع يتم فيه المسافر ليس حكمه حكم الإقامة بها. انتهى. والله سبحانه أعلم. لا بشغل خف؛ يعني أنه إذا فعل فعلا خفيفا بعد طواف الوداع من بيع أو شراء أو غيرهما، فإن ذلك لا يضره، وطواف وداعه باق لم يبطل، قال فيها: يسير شغله بعده قبل خروجه لا يبطل، فقوله:"لا بشغل"، عطف على بإقامة.

واعلم أن المسافر من مكة لا يقصر حتى يجاوز ذا طوى. ابن الحاجب: ولو بَرَزَ بهِ الكَرِيُّ إلى ذي طوى فأقام ليلته ويومه لم يرجع، وإن كان من مكة لأنه وداع في العادة؛ إذ قد عهد في السفر أن يقيم المسافر بطرف البلد ثم يسير منه. انتهى. ورجع له إن لم يخف فوات أصحابه؛ يعني أنه إذا قلنا ببطلان طواف الوداع وإن كان صحيحا في نفسه؛ أي ببطلان كونه للوداع أو تركه جملة، فإنه يرجع لطواف الوداع فيفعله حيث لم يبعد ما لم يخف فوات أصحابه الذين يسير بسيرهم أو يمنعه كريه، وإلا فلا يرجع له، وإن حاضت المرأة أو نفست قبل طواف الوداع يفوت، ولا تقيم حتى تطهر؛ لأنه ساقط عنها. قاله في المدونة. سند: فإن طهرت بعد خروجها رجعت إن كانت بقرب مكة وأمكنها الرجوع، قوله:"ورجع" الخ، قال ابن عرفة: ويرجع له من لم يبعد، وفيها: رد له عمر من مر الظهران، ولم يحد له مالك أكثر من القرب، وأرى أن يرجع ما لم يخف فوات أصحابه أو يمنعه كريه. الشيخ: من بلغ مر الظهران لم يرجع له، ومر الظهران واد بينه وبين مكة مسيرة ستة عشر ميلا، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: إحدى وعشرون، ونقل عن الكندي أن مر اسم قرية في الأصل، والظهران اسم للوادي.

وحبس الكري والولي لحيض أو نفاس قدره؛ يعني أن المرأة مبتدأة أو معتادة إذا حاضت أو نفست قبل أن تطوف طواف الإفاضة، فإن كَرِيَّها ووليها يُحْبَسُ كل منهما؛ أي يجبر على إقامته معها مقدار حيضها أو مقدار نفاسها، فيحبس في حيض المبتدأة خمسة عشر يوما، وفي

ص: 587

المعتادة عادتها وأيام الاستظهار، وفي الحامل على تفصيلها، وليس عليها شيء من نفقة الكري ولا نفقة دوابه، ويحبس في النفاس ستين يوما، ويستحب لها أن تعينه بالعلف، فإذا مضى قدر حيضها والاستظهار ولم ينقطع الدم فظاهر المدونة أنها تطوف لأنها مستحاضة، وقيل: لا تطوف ويفسخ الكراء، وقوله:"أو نفاس قدره"، سواء علم الكَرِيُّ بحملها أم لا، طرأ حملها بعد الكراء أم لا، وقوله:"قدر"، ظرف متعلق بحبس.

وعلم مما قررت أن قوله: "وحبس الكري"، ليس في طواف الوداع وإنما هو في طواف الإفاضة، وقد مر أنه يستحب لها في النفاس أن تعينه -أي الكري-كما في الحطاب بالعلف، وليس ذلك في الحيض لقصر زمنه، وفي التوضيح: قال في الجواهر: وإذا قلنا برواية ابن القاسم فتجاوز الدم مدة الحبس؛ فهل تطوف أو يفسخ الكراء؟ قولان. انتهى. والظاهر أنها تطوف، ولا وجه للفسخ؛ لأن مدة الحبس هو أقصى مدة الحيض والنفاس. انتهى كلام التوضيح. وفي ابن عرفة: فإن زاد دمها فظاهرها تطوف كمستحاضة، وتأولها الشيخ بمنعه، وفسخ كرائها كرواية ابن وهب بالاحتياط؛ قال مصطفى: ورواية ابن وهب بالاحتياط بعد استظهارها فيما بين عادتها وخمسة عشر يوما، فظهر للفسخ وعدم الطواف وجه وهو مراعاة رواية ابن وهب بالاحتياط، فقول التوضيح بعد حكاية القولين: والظاهر أنها تطوف ولا وجه للفسخ، غير ظاهر. فتأمله. انتهى.

وقُيّد حبس من ذكر أي جبره على بقائه، إن من؛ يعني أنه قُيد جَبْر من ذكر من ولي وكري على الإقامة مع المرأة المذكورة بما إذا كان الطريق مأمونا حال رجوعهم بعد طوافها للإفاضة حين طهرها، فإن لم يؤمن الطريق فسخ الكراء اتفاقا كما لعياض، ومكثت وحدها للطواف إن أمكنها المقام بمكة وإلا رجعت لبلدها وهي على حالها، ثم تعود في المقابل. هذا هو الظاهر، وطواف العمرة كطواف الإفاضة. قاله الوالد. قاله عبد الباقي. ولما يحبس الولي والكري لأجل رَمْيها، وقال محمد بن الحسن: قوله: [اتفاقا كما لعياض

(1)

]، هكذا نقله التتائي وهو خلاف نقل ابن عرفة عن اللخمي، ونصه: قال اللخمي: ويختلف، هل يفسخ أو يُكْرَى عليها؟ انتهى.

(1)

في الأصل كما لعياض اتفاقا والمثبت من بناني ج 2 ص 289.

ص: 588

ثم قال بعد كلام: فتحصل أنه حيث قلنا لا يحبس لها مع الخوف فهي كالمحصرة لا تحل إلا بالإفاضة، ثم إن أمكنها المقام بمكة فسخ الكراء، وقيل: لا يفسخ بل يكري عليها، وإن لم يمكنها المقام بمكة لم ينفسخ ورجعت لبلدها ثم تطوف في المقابل. انتهى. وقوله:"وقيد"، التقييد لابن اللباد والتونسي وابن أبي زيد، ومهمى انقطع عنها الدم اغتسلت وطافت وجوبا فيهما وإن علمت أنه يعود قبل انقضاء وقتها، وتأخيرُها الطواف والصلاة لعلها تحيض لا يجوز بل مكروه أو ممنوع. انتهى.

تنبيه: لو حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة وإذا انتظرت الطهر تعذر عليها العود لبلدها، فمقتضي يُسرِ الدين أن لها أن تقلد، إمَّا مَا رواه البصريون المالكية عن الإمام مالك من أن من طاف للقدوم وسعى ورجع لبلده قبل طواف الإفاضة جاهلا أو ناسيا أجزأه عن طواف الإفاضة، خلاف ما نقله البغداديون عنه من عدم الإجزاء وإن كان هو المذهب، ولما شك أن عذر الحائض والنفساء أبلغ من عذر الجاهل والناسي، وإمَّا أبا حنيفة القائل: إن للحائض أن تطوف لأنه لا يشترط عنده في الطواف طهارة حدث وخبث، وكذا هو إحدى الروايتين عن أحمد وتلزمها بدنة ويتم حجها لصحة طوافها، وإن كانت تأثم عندهما أو عند أحمد فقط بدخولها المسجد حائضا. والله أعلم بالصواب. قاله عبد الباقي.

وتقدم أن الإحرام بالعمرة كالإحرام بالحج في أن الولي والكري يحبسان لها حتى تطوف للعمرة حيث حاضت بعد الإحرام بالعمرة، فإن حاضت قبله لم يحس الكري، واختلف في فسخ الكراء، فقال ابن عرفة: يفسخ، وقال في التوضيح: لا يوضع من الكراء شيء. قاله الشبراخيتي. وما ذكرته هنا زبدة غير واحد، وفي الحطاب: قال في التوضيح: قال مالك في العتبية: وإذا شرطت عليه عمرة في المحرم فحاضت قبلها لا يحبس على هذا كريها ولا يوضع من الكراء شيء، قال في الذخيرة: لأن المقصود الحج. انتهى. ونقله سند. والرفقة في كيومين؛ يعني أنه إذا كان عذر المرأة يزول في كيومين، فإن رفقة المرأة والكري يجبرون على الحبس أي الإقامة معها؛ قال بعض: ولعله مع الأمن كما سبق، ولا تحبس الرفقة فيما زاد على ذلك بل الكري وحده.

ص: 589

قاله مالك في العتبية، وقوله:"في كيومين"، مقتضى ما في الذخيرة عن مالك أن الكاف استقصائية. قاله غير واحد.

وكره رمي بمرمي به؛ يعني أن رمي الجمار بالحصى الرمي به مكروه، سواء كان الرامي به هوأو غيره، والكراهة ثابتة ولو في حصاة واحدة؛ قال ابن القاسم في المدونة: سقطت مني حصاة فلم أعرفها فرميت بحصاة من حصى الجمرة، فقال لي مالك: إنه لكروه وما أرى عليك شيئا، وهذا الذي ذكره المصنف من إطلاق الكراهة هو المشهور، ومقابله ما نقله الباجي من رواية ابن القاسم عن مالك أنه خفف في الحصاة الواحدة، وظاهر المصنف الكراهة ولو في ثاني عام؛ وكره ذلك (لأنه صلى الله عليه وسلم رمى بسبع

(1)

)، فلو جاز الرمي بمرمي به لسارع الناس إلى الرمي بما رمى به صلى الله عليه وسلم. الأبهري: ومثله لابن شعبان وغيره؛ لأنه أديت به عبادة، كما يكره الوضوء بماء تُوُضِئَ به. ابن عبد البر: ولأن ما يقبل يرفع كما في الحديث المرفوع الذي رواه الديلمي عن ابن عمر: (ما قبلَ اللهُ حج امرئ إلا رفع حصا

(2)

)، قال ابن حجر: وأنا شاهدت من ذلك العجب؛ كنت أتأمل وأرى الناس يرمون كثيرا ولا يسقط منه إلى الأرض إلا شيء يسير، قال التبريزي: قد شاهدت ارتفاع الحجر عيانا، واستدل بذلك المحب الطبري على صحة الوارد في ذلك. قاله الشبراخيتي. وقوله:"مرمي"، بفتح الميم الأولى وكسر الثانية وتشديد الياء اسم مفعول من رمى. اللخمي: لو كرر الرمي بحصاة واحدة سبعا لم يجزه، وناقشه ابن عرفة. قاله الحطاب. وقوله:"مرمي به"؛ سواء كان في تلك الجمرة أو غيرها، وقد مر أن المشهور الكراهة ولو في حصاة واحدة. التونسي: ويعيد ندبا ما لم تمض أيام الرمي فلا شيء عليه، وشبه في الكراهة قوله: كأن يقال للإضافة طواف الزيادة؛ يعني أنه يكره أن يقال لطواف الإفاضة طواف الزيارة؛ أي يكره أن يسمى طواف الإفاضة بطواف الزيارة؛ لأنه أي لفظ الزيارة لفظ يقتضي التخيير وطواف الإفاضة ركن لا تخيير فيه ولا ينجبر بالدم، فكأنه تكلم بالكذب، وأنكر مالك أن يقال: صلاة العتمة

(1)

مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث: كم 1218.

(2)

مسند الديلمي، رقم الحديث: 6362، ج 4 ص 116.

ص: 590

وأيام التشريق، وقال يقول الله تعالى:{وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} ، وقال عز وجل:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} .

أو زرنا قبره عليه الصلاة والسلام؛ يعني أنه يكره أن يقال زرنا قبره عليه الصلاة والسلام، أو زرنا النبي عليه الصلاة والسلام، فلا فرق بين ذكر لفظ القبر أو إسقاطه، وإنما يقال قصدناه أو حججنا إلى قبره عليه الصلاة والسلام. سند: استعظم مالك إطلاق هذه اللفظة في حقه صلى الله عليه وسلم، وفي حق بيت الله تعالى من حيث إنها تستعمل بين الأكفاء وفي السعي لغير الواجب، ويعد الزائر متفضلا على من زاره، [ولا يقول من ذهب

(1)

] إلى السلطان لإقامة ما يجب في حقه أتيت السلطان لأزورد ولا زرت السلطان، وليس من سمعى يطلب حاجته عند أحد يعد زائرا، وكل أولئك يسعون في الحج لحوائجهم وقضاء فرائضهم وعبادة مولاهم، وكذلك في مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام والصلاة في مسجده، إنما يطلبون بذلك الفضل من الله تعالى والرحمة، فليسوا بزائرين على الحقيقة، ولا يرد على هذا حديث: (من زار قبري وجبت له شفاعتي

(2)

)؛ إذ لا دليل فيه لإطلاق لفظ الزيارة من غيره، لكن يرد على ذلك حديث زيارة أهل الجنة لربهم

(3)

)، وهذا الذي ذكرته ملخص غير واحد.

وقوله: ورقي، بضم الراء وكسر القاف وشد الياء مصدر رَقِيَ أي صَعِدَ، وأصله رُقُويٌ كجلوس قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء بعدها للقاعدة المقررة عند التصريفيين، وهو معطوف على نائب "كره"، وهو قوله: رَمْيٌ، وهو مضاف إلى المبيت، يعني أنه يكره رقي المبيت أي دخوله بنعل محقق الطهارة، وأطلق المصنف الرقي على الدخول، وإن كان الرقي معناه الصعود لارتفاع باب البيت فأوقع عليه الرقي لهذا، والله سبحانه أعلم. أو عليه؛ يعني أنه يكره الرقى على البيت أي الصعود على ظهره بنعل محقق الطهارة، أو منبره عليه الصلاة والسلام؛ يعني أنه يكره الصعود على منبره عليه الصلاة والسلام بنعل محقق الطهارة.

(1)

في الأصل: ولا يقولون ذهب، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 361. ط دار الرضوان.

(2)

الدارقطني، ج 2 ص 278. الإتحاف، ج 4 ص 47.

(3)

الترمذي، كتاب صفة الجنة، الحديث:2549.

ص: 591

وعلم مما قررت أن قوله: بنعل، متعلق بقوله:"ورقي"، فهو راجع للمسائل الثلاث، والباء للملابسة أي تكره مصاحبة النعلين لراق في البيت أو عليه أو على منبره صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن لابسا لهما وكره مالك أن يجعل نعله في البيت إذا جلس يدعوة وليجعلهما في [حُجرتِه

(1)

]، وقوله:"بنعل"، مثله الخف المحقق الطهارة، ويحرم وضع المصحف على النعل، وكذا يحرم وضعه على الخف لعظم حرمة القرآن. قاله عبد الباقي. وما ذكرته من تقييد قوله:"بنعل"، بأنه حيث تحققت طهارة النعل. قاله غير واحد. ومقتضاه المنع فيما إذا لم تتيقن الطهارة، فيشمل ما إذا توهمت نجاستها. والله سبحانه أعلم. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه. وصرح بذلك الأمير، فقال: وحرم بغير الطاهر. انتهى. وقال الحطاب: ويؤخذ منه أنه لا كراهة في رقي دُرَج البيت. انتهى. بخلاف الطواف يعني أنه لا يكره الطواف بالبيت بنعل محقق الطهارة. والحجر يعني أنه لا يكره دخول الحجر بكسر فسكون بنعل محقق الطهارة، وظاهره ولو مشى بالنعل في الستة الأذرع من الحجر التي هي من البيت؛ لأن كونها من البيت غيرُ قطعي، وكره أشهب الدخول بالنعل في الحجر، قال: وكراهته في البيت أشد.

وإن قصد بطوافه نفسه مع محموله لم يجز عن واحد منهما؛ يعني أن الشخص إذا طاف حاملا لشخص، وقصد بذلك الطواف أنه عن نفسه وعن محموله من صبي أو مجنون أو مريض، كان المحمول متحدا أو متعددا، فإنه لا يجزئ عن واحد منهما لا عن الحامل ولا عن المحمول؛ لأنه صلاة والصلاة لا تكون عن اثنين، كذا قرره الشيخ سالم. وانظر إدخاله في المصنف ما إذا نوى المريض عن نفسه والحامل عن نفسه أي فقط، والذي يدل عليه قول المصنف مع محموله صحته في هذا عن الحامل فقط، وهو القياس. قاله عبد الباقي. قوله: وانظر إدخاله في المصنف الخ، هذه الصورة التي أدخلها السنهوري في كلام المصنف، تبع فيها الحطاب، ونصه: وظاهر المصنف أنه لا فرق بين كون المحمول واحدا أو جماعة، صغيرا نوى الحامل عنه وعن نفسه، أو كبيرا ينوي هو لنفسه وينوي الحامل لنفسه. والله أعلم. انتهى.

(1)

كذا بخط المؤلف والذي في الحطاب ج 3 ص 562 ط دار الرضوان. حجْزته

ص: 592

قال محمد بن الحسن بناني: فيه نظر، والظاهر ما ذكره الزرقاني، وقوله:"لم يجز عن واحد منهما"، قال الإمام الحطاب: حكى ابن الحاجب وابن عرفة فيمن حمل صبيا ونوى أن يكون الطواف عنه وعن الصبي أربعة أقوال: الإجزاء عنهما وعدمه، والإجزاء عن الحامل دون المحمول وعكسه. وقال ابن الحاجب: إن المشهور عدم الإجزاء عنهما. انتهى. قال محمد بن الحسن بناني: تبع المصنف تشهير ابن الحاجب، قال في التوضيح: لم أر من شهره، قال الحطاب: وظاهر الطراز ترجيح القول بالإجزاء عنهما، ونسب المواق والتوضيح الإجزاء عن الصبي لابن القاسم. انتهى. وقول المصنف:"لم يجز عن واحد منهما"، قد مر تعليله بأن الطواف صلاة، والصلاة لا تكون عن اثنين، قال الشبراخيتي: فإن قلت يرد هذا إجزاء الطواف عن محمولين فأكثر، قلت: الفرق أن المحمولين مارا بمنزلة الشيء الواحد، كذا في الشرح. انتهى.

وفهم من كلام المصنف أنه إذا قصد بالطواف المحمول فقط أنه يجزئه. ابن جماعة: وإذا طاف الولي بغير المميز، فإن كانا غير متوضئين لم يصح، الطواف وكذا إن كان الصبي متوضئا والولي محدثا، وكذلك مذهب المالكية، وإن كان الولي متوضئا والصبي محدثا فوجهان، ومذهب مالك الصحة، قال الحطاب: وما ذكره في الفرعين عن المالكية غريب، وهذا في طوافه عن المحمول وحده لاعنه وعن نفسه.

وأجزأ السعي عنهما؛ يعني أنه إذا حمل صبيا أو مريضا أو صحيحا في ابتداء سعيه بين الصفا والمروة، ونوى بذلك السعي عنه وعن محموله، فإنه يجزئ عنهما لخفة أمر السعي بالنسبة للطواف؛ إذ لا تشترط فيه الطهارة، ولأن الطواف بمنزلة الصلاة فلا يصح فيه الاشتراك. كمحمولين؛ أي كما يجزئ إذا نوى عن محمولين فينهما أي في الطواف والسعي، ومعنى كلامه أن من حمل صبيين أو مجنونين أو نحوهما فأكثر في الطواف أو السعي ينوي ذلك عنهما أو عنهم، فإن ذلك يجزئه عنهما أو عنهم فيهما؛ أي في العبادتين الطواف والسعي، كان المحمول معذورا أم لا، لكن الدم على غير المعذور في الطواف إذا لم يُعِدْه كما مر في قوله:"وإلا فدم لقادر لم يعده" وكذا غير المعذور في السعي، وفي الشبراخيتي: ثم إن المعتبر في طوافه عن المحمول طهارة الحامل وحده إذا كان المحمول غير مميز، وإن كان مميزا فالطهارة شرط في المحمول لا

ص: 593

في حاملد. انتهى. ونحوه لعبد الباقي حيث قال: والمعتبر طهارة الحامل، وكذا يقال في قوله:"كمحمولين"، إن كان المحمول في المسألتين غير مميز، فإن كان مميزا فالمعتبر طهارة المحمول لا الحامل. انتهى. وقوله: والمعتبر طهارة الحامل؛ يعني فيما إذا حمل شخصا ونوى الحامل الطواف عن المحمول، كما أوضح ذلك. والله سبحانه أعلم.

ولما أنهى الكلام على أركان النسكين غير المنجبرة، والواجبات المنجبرة والمندوبات، وما يتبع ذلك. شرع في الكلام على المحظورات والمكروهات، والمحظورات على قسمين: مفسدة وغير مفسدة، ومتعلقهما أفعال الرجل والمرأة، فبدأ بغير المفسدة، وبالمرأة عكس صنيع ابن الحاجب فيهما، قال بعض: ولَعَلَّه إنما بدأ بالمرأة وإن كان البداءة بالرجل أولى، كما ورد بذلك القرآن في آي كثيرة والسنة لقلة الكلام على ما يختص بها، فقال:

ص: 594

‌فصل: في ذكر منهي الإحرام محرمه ومكروهه على الرجال والنساء،

مفسدة ومنجبره. قاله الشبراخيتي. وقال محمد بن الحسن: ممنوعات الإحرام ضربان: ضرب غير مفسد كاللبس والتطيب وفيه الفدية، وضرب مفسد كالجماع ومقدماته، وبدأ بالأول، فقال: حرم بالإحرام على المرأة لُبْسُ قفاز، كرمان شيء يعمل لليدين يحشى بقطن تلبسه للبرد، والباء في قوله:"بالإحرام"، للسببية؛ يعني أنه يحرم بسبب الإحرام بحج أو عمرة من رجل أو امرأة أمور كثيرة يشتركان في الأكثر منها، وتختص الحرمة بالرجل دون المرأة في بعضها، فكل ما يحرم على المرأة يحرم على الرجل دون العكس، فمما يحرم على المرأة بإحرامها بحج أو عمرة: لبس القفاز، وخص المصنف القفاز للخلاف فيه وإلا فغيره مما تُعِدُّهُ لستر يديها مخيطا أو مربوطا، كذلك قاله التتائي. وكذا ستر إصبع من أصابعها، فإن أدخلت يديها في قميصها فلا شيء عليها، وقوله:"لُبس"، بضم اللام مصدر لبس بكسر الباء ومضارعه بفتحها، وأما اللَّبس مصدرا بمعنى التخليط فبفتح اللام من باب ضرب يضرب، ومنه:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ، ولو لبست المرأة القفازين فالفدية، وقوله:"المرأة"، حرة أو أمة صغيرة أو كبيرة، ومثلها الخنثى المشكل. قاله غير واحد. وقال محمد بن الحسن: مقتضى الاحتياط إلحاق الخنثى بالرجل؛ لأن كل ما يحرم على المرأة يحرم على الرجل دون العكس، إلا أن يقال احتمال الأنوثة يقتضي الاحتياط في ستر العورة، وأن حكمه حكم المرأة. والله أعلم. انتهى.

وقد مر أن الباء في قوله: "بالإحرام" سببية، فمبدأ الحرمة مجرد الإحرام، ويحتمل أنها للمعية وأنها للظرفية، وهذان المعنيان يفيدان ما أفادته السببية من أن مبدأ الحرمة مجرد الإحرام، وقال الإمام الحطاب: قال بعضهم: تخالف المرأة الرجل في عشرة أشياء في الحج: في تغطية الرأس، وفي حلقه أي الرأس، وفي لبس المُحِيطِ وفي لبس الخفين، وفي عدم رفع الصوت بالتلبية، وفي الرمل في الطواف؛ وفي الخبب في السعي، وفي الوقوف بعرفة في القيام والركوب أفضل للنساء، وفي البعد عن البيت في الطواف والقرب منه أفضل للرجال والبعد منه أفضل للنساء، وفي الارتقاء على الصفا والمروة. انتهى. قلت: وفي ركوب البحر والمشي من المكان البعيد فيكره ذلك للنساء ولو قدرن ويجب على الرجال إذا قدروا، وفي أنها يشترط في حقها زوج أو محرم أو رفقة مأمونة.

ص: 595

واعلم أن كل ما يحكم له بأنه ممنوع في هذا الفصل ففيه الفدية ما لم يصرح بأنه لا فدية فيه، كتقليبه السيف لغير ضرورة. قاله الحطاب. وستر وجه قوله:"وستر"، بالرفع معطوف علي "لبس"؛ يعني أنه يحرم على المرأة بإحرامها بحج أو عمرة ستر وجهها أو بعضه، ترفها أو لحر أو لبرر ولو لم تلاصق الستر، فلو غطت شيئا من وجهها فالفدية كما لو تبرقعت أو تعصبت. قاله في المناسك. ونص عبد الوهاب في شرح الرسالة في الكلام على غسل الوجه في الوضوء على أنه إن غطت المحرمة شيئا من وجهها وجبت عليها الفدية، ولو غطت ما في الصدغ من البياض لا يلزمها شيء، وذكره على وجه الاحتجاج به على أنه ليس من الوجه، فظاهره أنه متفق عليه، ونصه: وأما حد الوجه فهو عندنا من قصاص شعر الرأس إلى آخر الذقن طولا، ومن الصدغ عرضا، والبياض الذي وراء الصدغ إلى الأذن ليس من الوجه عند مالك، والذي يدل على سقوط غسله أن المرأة إذا أحرمت لزمها كشف جميع وجهها، ثم لا شيء عليها في تغطية هذا الموضع، ولو غطت شيئا من وجهها لزمها الفدية. انتهى. وما ذكره من وجوب الفدية فيما إذا غطت شيئا من وجهها؛ يعني به ما عدا ما يستره الخمار من وجهها فإنه يعفى عن ستره، قال في الطراز: لأنه لما كان عليها ستر رأسها ولا يمكن إلا بجزء من الوجه سترت من الوجه ما يستره الخمار في تخمير الرأس. [وقد

(1)

]، ستر ذلك على كشف جزء من الرأس؛ لأن الرأس عورة، وستر العورة فوق حق الإحرام. انتهى. والله أعلم. قاله الحطاب.

وقال عبد الباقي: وستر وجه أو بعضه. انتهى المراد منه. قال محمد بن الحسن: جزم في بعض وجه المرأة بأنه كجميعه تبعا للحطاب، وحكى فيما يأتي في بعض وجه الرجل تأويلين، وكلام التوضيح وابن عبد السلام يفيد أنهما سواء، وأن التأويلين في كل منهما واعتمده مصطفى. انتهى. إلا لستر؛ يعني أن حرمة ستر وجهها أو بعضه إنما هي فيما إذا سترت ما ذكر لغير قصد الستر عن الرجال، كما إذا سترته لحر أو برد أو ترفه أو لغير قصد، وأما إن كان ذلك لقصد الستر عن الرجال فلا يحرم ولو لاصقته، وقوله:"إلا لستر" اعلم أن الاستثناء متصل كما قاله محمد بن الحسن رادا على عبد الباقي في قوله: إنه منقطع، قال محمد بن الحسن: هو غير صواب، بل

(1)

في الأصل: وفد، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 563. ط دار الرضوان.

ص: 596

هو متصل لدخول ما بعد إلا فيما قبلها لولا الاستثناء. انتهى. وقوله: "إلا لستر" اعلم أنه يجب عليها الستر المذكور إن علمت أو ظنت أنه يخشى من عدم الستر الفتنة وإلا جاز، فمتى أرادت الستر عن الرجال فلها ذلك إلا أن تعلم أو تظن أنه يخشى منها الفتنة أو ينظر لها بقصد لذة، فيجب عليها الستر، ولا يلزم الذكر تغطية وجهه كما قال ابن القطان وغيره: إن غير الملتحي لا يلزمه ستر وجهه وإن كان يحرم النظر إليه بقصد اللذة، وإذا لم يجب ستر وجهه في غير الإحرام ففي الإحرام أولى كما هو ظاهر، وتنظير عبد الباقي قصور. قاله محمد بن الحسن بناني. والله سبحانه أعلم.

بلا غرز وربط؛ يعني أن محل عدم حرمة ستر وجه المرأة أو بعضه بقصد التستر عن الرجال، إنما هو حيث سدلت على وجهها رداء أو نحوه بحيث لا تغرزه بإبرة ولا تربطه، وأما إن غرزت ما تستر به وجهها بإبرة أو ربطته تثبت به ذلك فإنه لا يجوز، ومعنى ربطته عقدته، وفي الحديث: إحرام المرأة في وجهها وكفيها، ومعناه تكشفهما، وفي الطراز: للمرأة أن تستر وجهها عن الرجل، فإن أمكنها شيء في يدها كالمروحة فحسن، وإن لم يمكنها وكان لها جلباب سدلته على رأسها، فإن لم يكن لها جلباب فلها أن تنصب بعض ثوبها تجاهها بيدها، ولها أن تلقي كمها على رأسها، وتسدل بعضه على وجهها. انتهى. نقله الحطاب.

وإلا، مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإن لم تترك ما مر بل فعلت شيئا مما يحرم عليها؛ بأن لبست قفازا أو سترت وجهها أو كفيها أو بعض ذلك لغير قصد ستر عن الرجال، أو فعلته لقصد ستر عن الرجال لكنها غرزت ما سدلته على وجهها أو ربطته؛ أي عقدته، فإنه تلزمها فدية إن طال ذلك، وفي المدونة: وإن رفعته من أسفل وجهها افتدت لأنه لا يثبت حتى تعقده بخلاف السدل، وفي الطراز: فإن عقدت الخمار على رأسها نظرت، فإن حلته بالقرب فلا فدية عليها، وإن تركته حتى طال افتدت. نقله الحطاب. قال: وانظر ما يفعله النساء اليوم من القبة المعلومة من السقف ويربطنها على وجوههن ثم يسدلن عليها الثوب، والظاهر أن عليها الفدية إذا

ص: 597

فعلت ذلك وطال، وقد قال في المدونة في المرأة تتبرقع وتجافي البرقع عن وجهها: إن عليها الفدية، قال في الطراز: لأن البرقع مخيط وضع للوجه وقد عقدته عليه، فقد تم لبسه.

وأشار إلى المُحَّرم الذي تختص حرمته بالرجل: وعلى الرجل محبط. بعضو، عطفت الواو هنا شيئين على معمولي عامل واحد وذلك سائغ؛ يعني أنه يحرم بالإحرام على الرجل أن يلبس ما يحيط بعضو من أعضائه ويدخل فيه القبقاب، ولعله إذا كان سيره عريضا وإلا فلا، ولا يدخل المداس لأن المحرم يلبسه، والمراد بالرجل الذكر حرا كان أو عبدا كبيرا أو صغيرا وتتعلق الحرمة بولي الصغير، وقوله:"محيط"، بضم أوله وبكسر المهملة اسم فاعل من أحاط رباعيا؛ أي استدار كما ضبطه بعض تلامذة المصنف عنه، فيشمل المخيط بفتح أوله وبكسر المعجمة، وقوله:"بعضو"؛ أي محيط بعضو واحد من أعضائه، كيده مثلا فأحرى أكثر منه أو جميع بدنه، وقوله:"محيط"؛ يعني إذا لبسه على الوجه المعتاد، فلو ارتدى بثوب محيط أو بثوب مرقع برقاع أو بإزار كذلك فلا شيء عليه وهو جائز له، وإذا جاز الارتداء بالقميص فلأن يجوز الارتداء بالعباءة المحيطة والملحفة أولى كما قاله اللقاني عن عياض. وفي الحطاب عن ابن عرفة: ولبسُ المخيط الممنوع لبسَ الجائز جائز. وإن بنسخ؛ يعني أنه لا فرق في منع المحيط للمحرم بين ما كان محيطا بسبب خياطة، وبين ما هو محيط بسبب غيرها كنسج، بأن ينسج محيطا كدرع الحديد، فإن العرب سمته نسجا أو ملصق بعضه ببعض، وكجلد حيوان سلخ بغير شق.

واعلم أنه لا خصوصية لدرع الحديد بذلك، فقد قال الشيخ إبراهيم الشبراخيتي: قد شاهدنا بعض الحياكين ينسج الثوب والسراويل على هيئتها، أو زر؛ يعني أنه يحرم على الرجل ما أحاط بعضو من أعضائه فأكثر بسبب زر؛ بأن يكون الثوب مفتحا ويقفله عليه بالأزرار. أو عقد يعني أنه يحرم على الرجل ما أحاط بعضو من أعضائه فأكثر بسبب عقد؛ أي ربطه عليه أو تخليل بعود كما في العتبية، وأما الخيط -الحال أنه لم يحط- فلا يحرم على المحرم كالإزار المرقع برقاع، والبردة الملفقة بفلقتين.

والحاصل أن الرجل لا يلبس ما يمسك بنفسه بخياطة أو غيرها، وإذا لبس الرجل ما ذكر مما يحرم عليه فالفدية، وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة: والتجرد عن المخيط بفتح الميم والمعجمة

ص: 598

واجب، وكذلك المحيط بضم الميم وبالحاء المهملة شرط إحرام الرجال لا النساء، فلا يدع عليه ما يمسك بنفسه لخياطة أو إحاطة لا إزار دون عقد، وقال ابن عرفة: وممنوع الإحرام غير مفسدة التطيب وإزالة الشعث ولبس الرجل المخيط كالقميص والجبة والبرنس والقلنسوة. نقله الحطاب وقال ابن فرحون في كتاب ابن المواز: إجازة التخلل بعود، ومنعه في العتبية. انتهى. وقال ابن عرفة: وفيها: التخليل والعقد والمغروز كالخياطة، قلت: ولذا قالوا: اللبد والمنسوج على صورة المخيط الممنوع مثله، ونقل ابن عبد السلام إجازة التخلل عن كتاب محمد لم أجده له ولما لغيره. انتهى. نقله الحطاب. وقال: لم أقف عليه في نسختي من ابن عبد السلام، ولعله سقط منها. والله أعلم. انتهى.

كخاتم، التشبيه في الحرمة؛ يعني أنه يحرم على الرجل بالإحرام لبس الخاتم ولو كان فضة ووزنه درهمان، وإذا لبسه ففيه الفدية، ومثله السوار، وفهم من تخصيص ذلك بالرجل جوازه للمرأة، فيجوز لهن لبس المحيط بخياطة أو غيرها ولبس الخاتم، وقوله:"كخاتم"، الخاتم بكسر التاء وفتحها والخيتام والخاتام كلها بمعنى، جمعه خواتم وخواتيم، والمراد بالخاتم هنا حلي الإصبع، وقال في القاموس بعد أن ذكر أن الخاتم حلي للإصبع ما نصه: كالخاتم والخيتام والخاتام، والختم محركة جمعه خواتم وخواتيم وقد تختم به، ومن كل شيء عاقبته وآخرته كخاتمته، وفي الحديث: (الأمور بخواتمها

(1)

). اللهم اختم لنا بالسعادة التي ختمت بها لأوليائك، واجعل خير أيامنا وأسعدها يوم لقائك. آمين. آمين. آمين.

وقوله: "كخاتم"، ما ذكره المصنف من الحرمة هو المعروف من قول مالك ومقابله يقول بالجواز وسقوط الفدية. انظر الحطاب.

وقباء؛ يعني أنه يحرم على الرجل لبس القباء بفتح القاف والمد والقصر، واقتصر في القاموس على القصر والكرماني والمصباح والتتائي على المد. نقله عبد الباقي. والقباء مشتق من القبو وهو الضم والجمع، وهو ما كان مفرجا كالقفطان، وسمي بذلك لانضمام أطرافه، وأول من لبسه السيد سليمان صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، قاله القسطلاني. على البخاري. نقله عبد الباقي.

(1)

البخاري، كتاب الرقاق، الحديث:6493. ولفظه: وإنما الأعمال بخواتيمها. والإتحاف، ج 9 ص 205.

ص: 599

وإن لم يُدخل كما يعني أنه يحرم على الرجل بالإحرام لبس القباء، وسواء أدخل يده في كم منه أم لا كما قال: وإن لم يدخل كما فما قبل المبالغة حيث أدخل يدا واحدة في كم، وما بعدها حيث لم يدخل يدا منه في كمه لأنه يلبس كذلك، وظاهره سواء كانت عادته لبسه أم لا وهو كذلك: ومحل المنع إذا أدخل منكبيه في موضعهما منه، وحذف المصنف مفعول يدخل؛ أي وإن لم يدخل يده، "وكما" منصوب بنزع الخافض؛ أي في كم، فإن جعل أسفل القباء على منكبيه فإنه لا فدية عليه لأن القباء لا يلبس على هذه الهيئة، وظاهر هذا التعليل عدم الفدية في لبسه بجعل بطنه على ظهره وظهره داخل جسده مع إدخال منكبيه، ولعله غير مراد، بل فيه الفدية أيضا كما إذا جعل رجليه في كميه حين جعل أعلاه أسفله إن ترفه بذلك أو أزال أذى وإلا فلا. قاله عبد الباقي.

وعلى ما قررت به المصنف لا قلب فيه، وفي بعض التقارير: وإن لم يدخل كما منه في يده وفيه حينئذ قلب، ولعلماء المعاني في القلب ثلاثة أقوال: المنع مطلقا وهذا أصح الأقوال لأنه مخل بالفصاحة، والجواز مطلقا وهذا أضعفها، والتفصيل إن تضمن اعتبارا لطيفا جاز وإلا فلا وهو مستحسن عندهم، وذلك كقول القائل:

ومهمه مغبرة أرجاؤهُ

كأن لون أرضه سماؤه

فإنه تضمن اعتبارا لطيفا. قاله الشبراخيتي.

وستر وجه؛ يعني أنه يحرم على الرجل بالإحرام ستر وجهه كلا أو بعضا، ويفهم منه أن ستر ما انسدل من لحيته لا شيء فيه، وبه صرح سند. قاله الشبراخيتي. وقال عبد الباقي: وستر وجه جميعه لا ستر بعضه فلا يحرم ولا فدية إلا لانتفاع به. انتهى، وما ذكره من أنه لا فدية في ستر بعض وجه الرجل حوأحد تأويلين، ويفيد كلام التوضيح وابن عبد السلام أنهما سواء، واعتمده الرماصي واستظهر بعض الشيوخ عليه الفدية.

أو رأس؛ يعني أنه يحرم بالإحرام على الرجل ستر رأسه كلا أو بعضا، بما يعد ساترا "بما" متعلق "بستر"؛ لأنه مصدر، فهو بفتح السين، وعبارة الأمير: بكل ساتر يعني أن الرجل يحرم عليه بالإحرام ستر بدنه غير الوجه والرأس بنوع خاص، فإحرامه فيه إنما هو بنوع خاص وهو

ص: 600

المحيط، وأما الوجه والرأس فإحرامه فيهما مخالف لسائر البدن، فيجب عليه تجريدهما، ويحرم عليه سترهما كلا أو بعضا بما يعد ساترا عرفا أو لغة بقرينة قوله: كطين؛ يعني أن الطين مما يعد ساترا لأنه يدفع الحر، فغيره أولى كعمامة وخرقة وقلنسوة، ومثل الطين الحناء والطيب والدقيق والجير، وقال الحطاب عند قول المصنف:"وستر وجه أو رأس": قال في الطراز: سواء غطى رأسه أو بعضه، خلافا لأبي حنيفة.

ولا فدية في سيف؛ يعني أن المحرم إذا تقلد بالسيف في حال إحرامه فإنه لا يلزمه فدية لذلك. قاله في التوضيح. وقال ابن الحاجب: عليه الفدية، وظاهر المصنف سواء نزعه مكانه أم لا، وسواء تقلده لعذر أم لا، ولهذا قال: وإن تقلد السيف بلا عذر؛ ووجب نزعه مكانه حيث لبسه لغير عذر كما هو ظاهر المدونة، قال الشيخ أحمد: والظاهر أن السكين ليست كالسيف أي قصرا للرخصة على محلها. قاله الشيخ عبد الباقي.

وقد مر عن الحطاب أن كل ما حكم بأنه ممنوع في هذا الفصل ففيه الفدية ما لم يصرح بأنه لا فدية فيه كمسألة السيف لغير ضرورة. انتهى. وفي الحطاب: قال في النوادر: وإذا مات المحرم خُمِّر وجهُه ورأسُه. واحتزام؛ يعني أنه لا فدية في الاحتزام بثوبه أو بغيره كحبل أو خيط أو عمامة على المذهب إذا أراد العمل؛ لأنه يجوز له حينئذ أن يحتزم، وفيها: والمحرم لا يحتزم بحبل أو خيط إذا لم يرد العمل؛ فإن فعل افتدى، وإن أراد العمل فجائز له أن يحتزم، وعلى ظاهرها حملها أبو الحسن وابن عرفة وغيرهما، وقيد في مختصر الوقار الاحتزام بكونه بلاء، واقتصر عليه الحطاب. قاله محمد بن الحسن. ونص الحطاب: قال في مختصر الوقار: ولا بأس أن يُحَزِّمَ ثوبا على وسطه من فوق إزاره إذا أراد العمل ما لم يعقده. انتهى. وقيل إنه إذا احتزم فوق إزاره ولو لعمل فعليه الفدية، والأول هو المذهب.

واستثفار؛ يعني أنه لا فدية في الاستثفار إذا كان لعمل، والاستثفار جعل طرفي مئزره بين فخذيه ملويا معقودا في وسطه كالسراويل. قاله التتائي تبعا لابن غازي؛ إذ لا يتصور العمل معه إلا بالعقد كما قاله الشيخ علي الأجهوري. قاله الشيخ محمد بن الحسن بناني. رادا على الشيخ عبد الباقي في قوله: إنه لا يعقده في وسطه، وأنه إن فعل افتدى. انتهى.

ص: 601

وعلم مما قررت أن قوله: لعمل؛ راجع للاحتزام والاستثفار، واحترز بقوله: فقط عما إذا احتزم أو استثفر لغير عمل أي خدمة فإن عليه الفدية فيهما، قال الشيخ إبراهيم: ولو أدخل الكاف على احتزام لجري على قاعدته الأغلبية. وجاز خف قطع أسفل من كعب؛ يعني أن المُحْرِمَ يجوز له أن يلبس الخفين إن قطعا أسفل من الكعبين، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين

(1)

)، وقوله:"خف"، الخف هنا يشمل اثنين لأنه اسم للمزدوج، ومثل الخف الجرموق والجورب، وقوله:"قطع"، وكذا لو ثني فيما يظهر. قالد عبد الباقي. وقوله:"قطع" سوا، قطعد هو أو غيره أو اشتراه كذلك، ومثله في أبي الحسن الصغير، ونقل ابن عمر في شرح الرسالة قولين هذا أحدهما، والآخر أنه إنما يغتفر ممن قطعه لا لمن اشتراه كذلك. قاله أحمد. لكن الثاني حكاه الشاذلي بقيل، والظاهر الإطلاق. قاله عبد الباقي.

لفقد نعل؛ يعني أنه إنما يجوز للمحرم لبس الخف المذكور لأجل فقد النعال بالكلية، أو غلوه فاحشا؛ يعني أنه كما يجوز للمحرم لبس الخف المقطوع أسفل من الكعبين لأجل فقد النعال جملة: يجوز له لبسه أيضا لغلو ثمنها غلُوًا فاحشا، بأن يزيد ثمنه أي النعل على قيمته بالثلث كما لأبي الحسن. قاله بناني. فلو لبسه لغير ما ذكر وقد قطع أسفل من الكعبين فعليه الفدية، ولو لضرورة كشقوق في رجليه يقتضي مشيه بالخف وعدم مشيه بالنعل؛ إذ وجود النعل في هذه الحالة كعدمه. قاله الشبراخيتي. وظاهر المصنف اعتبار الفقد والغلو عند الإحرام، فلا يجب عليه ذلك قبل الميقات إذا وجد ثمنا، وفي الطراز: خلاف ذلك، وهو أنه يجب عليه أن يُّعدَّهما أي النعلين قبل الميقات إذا وجد ثمنا، وتبعه الشيخ زروق في شرح الإرشاد، وقال القاضي عياض في قواعده، والتجرد من المحيط والخفاف للرجال وماله حارك من النعال يستر بعض القدم إلا أحدا لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين. انتهى. وماله حارك من النعال كنعل التكرور التي لها عقب يستر بعض القدم. قاله الحطاب. وقوله:"أو غلوه فاحشا"، يشمل قليل الدراهم وغيره، فيشتري النعل ولو مع حاجة، فليس كالوضوء لأن الوضوء له بدل وهو التيمم، وأما كونه

(1)

الموطأ، ج 1 ص 229. البخاري، كتاب العلم، بات من أجاب السائل بأكثر مما سأله، الحديث: 134. مسلم، كتاب الحج، رقم الحديث:1177.

ص: 602

له هنا مندوحة وعي الحفاء فمردود بأن الحفاء لا يطيقه أحد، وعلى تقديره فبمشقة وحرج وهما منفيان من الدين. انظر الشبراخيتي.

وفي الحطاب عن الشيخ سليمان ما نصه: ولا يلبس أيضا القبقاب؛ لأن سيره محيط بأصابع رجليه. انتهى. قال الحطاب عقبه: وهذا إذا كان سير القبقاب غليظا فواضح وإلا فالظاهر الجواز. والله أعلم. انتهى. والقبقاب: النعل من خشب. قاله في القاموس.

واتقاء شمس وريح بيت؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يتقي الشمس بيده؛ أي يجعلها بينه وبين الشمس، وكذلك يجوز له أن يتقي بيده الريح، فقوله:"واتقاء"، عطف على قوله:"خف". واعلم أنه يجوز الاتقاء المذكور باليد مرتفعة ومتصلة كما قاله ابن عاشر؛ لأنها لا تعد ساترا فلا فدية فيها بحال. قاله محمد بن الحسن. وقوله: "بيد"، رد به على ابن المواز القائل: يواري وجهه بطرف ثوبه، وقال الأمير: وستر وجه ورأس بكل ساتر كطين ويد ألصقها طويلا، فيفتدي كما في عبد الباقي، وفي بناني عن ابن عاشر: يجوز الاتقاء باليد ولما فدية بحال لأنها لا تعد ساترا. انتهى. وفي النوادر: ولا بأس أن يواري المحرم بعض وجهه بطرف ثوبه، ولما بأس أن يجعل [يديه

(1)

]، فوق حاجبيه يستر بهما وجهه، وقال مالك في المختصر: وليس على المحرم كشف ظهره للشمس إرادة الفضل فيه. انتهى. وقال سند: لا بأس أن يسد أنفه من الجيفة، واستحبه ابن القاسم إذا مر بطيب، ويأتي للمصنف مفهوم بيد في قوله:"وتظلل ببناء" الخ، وفي الخبر: (ما من محرم يضحى للشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه كيوم ولدته أمه

(2)

)، ولله در القائل:

ضحوت له كي أستظلى بظله

إذا الظل أضحى في القيامة قالصا

فيا أسفى إن كان سعيك باطلا

ويا حسرتى إن كان حجك ناقصا

أو مطر بمرتفع؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يتقي المطر بشيء مرتفع عن رأسه من ثوب ونحوه، وأما الخيمة فيجوز الدخول تحتها من غير عذر كما يأتي، فلا يمثل بها هنا خلافا للتتاءي،

(1)

في الأصل يده والمثبت من النوادر ج 2 ص 349.

(2)

ما من محرم يضحى لله يومه يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه ابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث:2925. البيهقي، ج 5 ص 70.

ص: 603

ويفهم من كالأم المصنف جواز اتقاء المطر باليد والبناء والخباء بالأولى، لنصه على جوازه بالمرتفع، مع أنه يمنع اتقاء الشمس والريح به. قاله الشبراخيتى. وقال: ولو قال المصنف: واتقاء شمس أو ريح أو مطر بيد أو بناء أو خباء أو محارة لا فيها كثوب بعصا إلا المطر به، لسلم من التشتيت مع ما فيه من الاختصار. انتهى.

وقال الحطاب عند قوله: "أو مطر بمرتفع": ظاهر كلام المصنف أنه ألا يستتر بمرتفع من البرد وهو رأي ابن القاسم في المدونة، قال في التوضيح: قال ابن الحاج في مناسكه: وله أن يرفع فوق رأسه شيئا يقيه من المطر، واختلف هل له أن يرفع شيئا يقيه من البرد؟ فوسَّع ذلك مالك في رواية ابن أبي أويس في المدونة، ولم ير ذلك ابن القاسم في المدونة أيضا، وليس له أن يضعه على رأسه من شدة الحر. انتهى. والأقرب جواز ذلك لما في صحيح مسلم وأبي داوود والنسائي عن أم الحصين، قالت: (حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقته عليه السلام والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة

(1)

). انتهى. انتهى كلام الحطاب.

وتقليم ظفر انكسر؛ هو معطوف علي الجائز؛ يعني أن المحرم إذا انكسر له ظفر واحد، فإنه يجوز له أن يقلمه ولا شيء فيه، ونحوه في المدونة، والاثنان والثلاثة كالواحد. قاله أبو إسحاق. نقله التتائي تبعا للشارح. وانظر ما زاد على الثلاثة، هل في تقليمه الفدية أم لا؟ قاله عبد الباقي. ومفهوم قوله:"انكسر" أنه إن لم ينكسر فإن قلمه لإماطة الأذى ففيه الفدية، وإلا فحفنة كما يأتي، وهذا في الواحد، وأما ما زاد عليه ففي تقليمه الفدية مطلقا، وأما تقليم ظفر الغير، فقال ابن عرفة: تقليم المحرم حلالا لغو. انتهى. وقوله: "وتقليم ظفر انكسر"، قال سند بعد أن ذكر تقليم الظفر المنكسر: إذا ثبت هذا فإنه يقتصر على ما كسر منه عملا بقدر الضرورة، وإن أزال جميع ظفره كان ضامنا، كمن أزال بعض ظفره ابتداء من غير ضرورة، فإنه بعض من جملة مضمونة فيكون مضمونا. انتهى. وما قاله ظاهر. ومراده -والله أعلم- أن يقطع النكسر ويواسي

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1298.

ص: 604

الباقي حتى لا تبقى عليه ضرورة فيما يبقى في كونه يتعلق بما يمر عليه. والله أعلم. قاله الحطاب.

وقال عبد الباقي: ثم الجَوَازُ؛ يعني جواز تقليم الظفر المنكسر مقيدٌ بأن يتأذى بكسره وإلا لم يجز قلمه، فإن قلمه جرى فيه قوله الآتي: "وفي الظفر الواحدة لإماطة الأذى حفنة، وبأن يقتصر في تقليمه على ما تزول به الضرورة كقطع المنكسر، ومساواة محله حتى لا يتعلق بما يمر عليه. واعلم أن تقليم ظفر نفسه المنكسر وقلع الشعرة من المعين، وتقليم غير المنكسر لإماطة الأذى مشتركة في أن فعلها جائز لإزالة الضرر، لكن الفدية في الأخيرين دون الأول لغلبة وقوع الضرر به بخلافهما، والقاعدة أن ما كان عاما ويغلب وقوعه لا فدية فيه عند الضرر، كتقليم الظفر المنكسر، وما يندر وقوعه فيه الفدية مع الجواز لذي العذر، والحرمة لغيره. ذكره الحطاب. فإن قلت: الشعرة إنما فيها حفنة فليست كالظفر، قلت: إذا أزالها لإماطة الأذى فيها فدية. انتهى. قولم: والقاعدة أن ما كان عاما الخ، بهذا أجاب الحطاب عن معارضة التونسي بين سقوط الفدية في الظفر المنكسر ولزومها في الظفر غير المنكسر إذا أزاله لإماطة الأذى، وهو ظاهر. فتأمله. قاله محمد بن الحسن.

وارتداء بقميص؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يرتدي أو يأتزر بقميص، وجاز ذلك لأنه لم يلبس لما خيط له، كما يجوز الارتداء والائتزار برداء أو إزار مرقعين، أو فلقتين خيطتا، وإنما سقطت الفدية في ذلك وإن كان لبسا؛ لأن شرط الفدية في المخيط أن يلبس لما خيط له. قاله غير واحد. فلا معارضة بين هذا وبين ما يأتي في باب اليمين، فإن الارتداء والائتزار في البابين كل منهما يعد لبسا.

وفي كره السراويل روايتان؛ يعني أنه اختلف على روايتين، هل يكره للمحرم الارتداء بالسراويل كما يكره لغير المحرم لبس السراويل مع الرداء لقبح الزي، أو لا يكره له ذلك بل يباح، وقوله:"روايتان"، بحث فيه ابن غازي بأن كلام المصنف في المناسك ونحوه للباجي، يفيد أن الجواز قول لغير الإممام. قاله بناني. وأما لبس المحرم للسراويل فلا يجوز، وإن لم يجد إزارا، روى محمد: من لم يجد منزرا لا يلبس سراويل ولو افتدى، وفيه جاء النهي، وروى ابن عبد الحكم:

ص: 605

يلبسه ويفتدي، وبهاتين الروايتين شرح المواق والشارح المصنف، وأخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخطب: السراويل لمن لم يجد الإزار والخفان لمن لم يجد النعلين

(1)

)، وقال مالك في الموطإ في السراويل: (ولم يبلغني هذا

(2)

)، قال ابن عبد السلام: وعندي أن مثل هذا من الأحاديث التي نص الإمام على أنها لم تبلغه إذا قال أحل الصنعة إنها صحت فيجب على مقلد الإمام العمل بمقتضاها، كهذا الحديث. وحديث: (إذن الإمام إذا وافق العيد الجمعة

(3)

)، قال محمد بن الحسن: ويؤيد ذلك ما قال الإمام في رواية معن بن عيسى: ما وافق من رأيي الكتاب والسنة فخذوا به، وما خالف فاتركوه. وتظلل ببناء؛ يعني أنه يجوز للمحرم التظلل بالبناء، كحائط وسقف، قال الشبراخيتي: وأحرى بالشجر، وخباء؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يتظلل بالخباء والخيمة إلا زمن وقوف عرفة: فيكره التظلل من الشمس كما في الشامل، ومثله في المناسك، ونقله الحطاب عن النوادر، وظاهر ما نقله ابن عرفة عن النوادر. المنع لا الكراهة، ونصه: ولا يستظل في النحر ولا يوم عرفة إلا أن يكون مريضا فيفتدي، وفي التمهيد لابن عبد البر: أجمعوا أن للمحرم أن يدخل الخباء والفسطاط، وإن نزل تحت شجرة أن يرمي ثوبا عليها. انتهى. والله أعلم قاله الحطاب. ولله در القائل:

ضَحوتُ له كي أستظلَّ بظِلِّهِ

إذا الظلُّ أضحى في القيامة قَالِصَا

فيا أَسَفى إن كان سَعْيُك بَاطِلاً

ويا حسرتى إن كان حَجُّك نَاقِصَا

ومحارة. قال في القاموس: المحارة شبه الهودج، قال: والهودج مركب النساء؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يستظل بظل المحارة أي يستظل بجانبها، سواء كانت بالأرض أو سائرة، وكذا يجوز له أن يستظل تحتها أي داخلها على ما نقله ابن فرحون، ولكن ظاهر كلام أهل المذهب خلافه. قاله الحطاب. وقوله:"ومحارة"، قال الخرشي: أي وكذلك يجوز الاستظلال بجانب المحارة وهي الكحمل نازلة أو سائرة، ومثل ذلك الاستظلال بالبعير كان باركا أو سائرا أو نازلا، قال في توضيحه: وهو المشهور، ومنع سحنون أن يتظلل بظل المحمل وهو سائر، ونقل ابن بشير في

(1)

سلم، كتاب الحج، الحديث:1178.

(2)

الموطأ، ج 1 ص 230. ولفظه: فقال: لم أسمع بهذا.

(3)

مصنف ابن أبي شيبة، كتاب صلاة العيدين، ج 2 ص 91.

ص: 606

الاستظلال بالبعير قولين، قال بعض: هما القولان المذكوران في الاستظلال بالمحمل، فيكون الراجح منهما الجواز لقول ابن فرحون، والصحيح في المسألتين أي المحمل والبعير الجواز، وقال الحطاب مفسرا للمصنف: يريد أنه يجوز له أن يستظل بجانب المحارة، يريد: وسواء كانت بالأرض أو سائرة، وما ذكره هو أحد القولين، قال في التوضيح: وهو ظاهر المذهب. انتهى.

لا فيبها؛ يعني أنه لا يجوز للرجل المحرم بحج أو عمرة أن يستظل وهو في المحارة بأعواد يرفعها، فقد منعه إمامنا مالك رضي الله تعالى عنه، قال في التوضيح: وهو المذهب، فإن فعل افتدى، وأجازه أبو حنيفة والشافعي وغيرهعا. اللخمي: وإن لم يكشف ما على المحارة افتدى، ولا يستظل تحتها أي فيها إن كان نازلا، فإن فعل افتدى، ولا بأس أن يكون في ظلها خارجا عنها، وقال مالك: إذا كان الرجل عديلا لامرأة أي في المحارة لا تستظل هي ولا يستظل هو، وقاله ابن القاسم، وعن ابن شعبان: يجوز لمعادلة امرأة أو مريض، ونص ابن فرحون على أنه يتظلل في المحارة بالساتر المسمر بها أو المخيط بها، وقواه غير واحد، وقال: إنها على هذا الوجه تكون كالبيت وهو خلاف ظاهر المصنف، وقول اللخمي: وإن لم يكشف ما على المحارة الخ، قال: إن المراد كشف ما فوقها دون كشف جوانبها؛ لأنه حينئذ من باب الاستظلال بجانب المحملى وهو جائز كما مر، وفي شرح عبد الباقي: ويجوز التظلل بالبلاليج والدخول فيها؛ وهي بيوت تجعل في المراكب الكبيرة، وبشراعها بوزن كتاب وهو قلعها، ويجوز أيضا دخول المحرم في المحفة قياسا على البلاليج ولو لم يرفع الجوخ الذي عليها. هذا هو الظاهر. قاله الأجهوري؛ أي الظاهر من كلام ابن فرحون. قاله عبد الباقي.

وقال بناني: بل الظاهر من كلام ابن فرحون خلافه، والجوخ: الملف، وفي الحطاب: وانظر إذا عادل الرجل المرأة وسترت المرأة شقتها ولم يستر الرجل شقته، لكن جعل شقتها من جهة الشمس والظاهر جواز ذلك لأنه من باب الاستظلال من جانب المحارة. انتهى. والشقة بالضم والكسر إحدى شقتي المحمل.

تنبيه: وقع في كلامهم هنا المحفة والمحارة والمحمل، فاحتيج إلى بيانها، أما المحفة، فقال في القاموس: المحفة بالكسر: مركب النساء كالهودج إلا أنها لا تُقَبَّبَ، وأما المحارة فقد مر الكلام

ص: 607

عليها قريبا، وبان مما مر أنها تقَبَّبُ، وأما المحمل فقال في القاموس: المحمل كمجلس: شقان على البعير يحمل فيهمعا العديلان، ويظهر من كلامهم أنه يطلق على المحارة وغيرها، ومر عن الخرشي أن المحمل هو المحارة. والله سبحانه أعلم.

تنبيهات: الأول: قال ابن الحاجب: وفي الاستظلال بشيء على المحمل وهو فيه بأعواد، والاستظلال بثوب في عصا قولان، قال ابن فرحون: احترز بقوله: بأعواد، مما لو كان المحمل مقيما كالمحارة، فإنه حينئذ كالبناء والأخبية فيجوز ذلك. انتهى. قال الحطاب: وما قاله له وجه، ولكن ظاهر كلام أهل المذهب كما قال المصنف.

الثاني: كان البدر القرافي يرتضي ما لابن فرحون، ويجعل قول المصنف:"لا فيها" حالا؛ أي لا مستظلا بغيره حال كونه فيها، واعترض على الحطاب في اعتراضه على ابن فرحون.

الثالث: قال في النوادر: ولا يستظل في البحر إلا أن يكون مريضا فيفعل ويفتدي. انتهى. ونقله ابن الجلاب وابن عرفة وابن فرحون وغيرهم. قاله الحطاب. قال: وكأنه -والله أعلم- فيما عدا البلاليج فإنها كالبيوت، وكذلك الاستظلال بظل الشراع لا شيء فيه فيما يظهر. والله أعلم انتهى. وشراع السفينة ككتاب: قلعها.

كثوب بعصا؛ تشبيه في المنع؛ يعني أنه يحرم على المحرم أن يجعل ثوبا على عصا ويتظلل به، أو يجعله على أعواد ويتظلل به، فلا يجوز ذلك سائرا اتفاقا ولا نازلا عند مالك؛ لأنه لا يثبت بخلاف الخباء والبناء، وجوزه عبد الملك، قال الحطاب: وتعليلهم هذا يقتضي أنه إذا ربط الثوب بأوتاد وحبال حتى صار كالخباء الثابت أن الاستظلال به جائز، وقال ابن الماجشون: لا يستظل إذا نزل بالأرض بأعواد يجعل عليها كساء أو شجرة، ولا بمحمل، وإنما وسع له في الخباء والفسطاط والبيت المبني. انتهى.

وعلم مما قررت أن معنى قوله: "كثوب بعصا"، أنه يمنع التظلل به، وأما اتقاء المطر به فيجوز. قاله محمد بن الحسن بناني.

ففي وجوب الفدية خلاف؛ يعني أن المحرم إذا استظل داخل المحارة أو تحت الثوب المرتفع على الأعواد أو الثوب على عصا، فإن ذلك لا يجوز كما علمت، واختلف في لزوم الفدية له

ص: 608

واستحبابها على قولين: القول بالوجوب هو ظاهر المذهب نقله ابن فرحون، وكل من القولين رجح كما قاله ابن فرحون في شرحه لابن الحاجب والمصنف في مناسكه، فصح تعبير المصنف بخِلافٌ، وقال الحطاب: قال في المناسك: واستحب مالك في يوم عرفة ترك الاستظلال. انتهى. وقال في الشامل: وكره تظليله يوم عرفة. انتهى. وكأنه مبني على أن مقابل المستحب مكروه، وصرح بكراهة مالك لذلك في النوادر، ونقله ابن معلى في منسكه إلا أنهم خصوا ذلك بزمن الوقوف فقط لا بيوم عرفة جميعه. انتهى. ونقل الحطاب كلام النوادر إلى أن قال فيه: واختلف في إظلاله حال الوقوف، فكرهه مالك وأهل المدينة وأحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهم، وأجاز ذلك غيرهم. انتهى. انتهى.

وحَملٌ لحاجة؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يحمل خرجه أو جرابه أو غير ذلك على رأسه لحاجة فيما يحمله لنفسه بأن لا يجدمن يحمله مطلقا، أو وجد من يحمله له بأجرة لا يقدر عليها، وهذا فيما يحمله لنفسه، وقوله: وفقر، خاص بالحمل لغيره؛ يعني أنه إذا كان معاشه من الحمل للناس لأجل فقره فإنه يجوز له الحمل على رأسه، والواو بمعنى أو، لا للعطف التفسيري، فأحد الأمرين كاف.

والحاصل أنه إذا كان الحمل لمعاشه فإنه لا فدية فيه، وإن لم يكن لمعاشه، فإن كان لعدم وجود ما يستأجر به فكذلك، وإن وجد من يحمله مجانا أو بأجرة يقدر عليها فعليه الفدية في حمله. قاله الشيخ إبراهيم. وقال الشيخ عبد الباقي: وجاز لماش حمل لخرجه أو جرابه على رأسه، أو وقره فيه متاعه ملقى خلفه مشدودا حبله على صدره، والوقر بالكسر: الحمل، وكان الحمل لحاجة للحمل، ولو غنيا لعيشه حيث لم يجد من يستأجره أو وجده ولم يجد أجرة.

بلا تجر؛ يعني أن محل جواز الحمل المذكور حيث كان لا لتجر بل لمعاشه، فإن كان لتجر زائد على معاشه فعليه الفدية، وأما التجر الذي لمعاشه كالعطار فإنه داخل في قوله:"وحمل لحاجة وفقر"، فَلا فدية فيه فإن وقفت دابته للتجارة والتجأ إلى حمله حمل وافتدى، وتأثير الضرورة في رفع الإثم وجواز الإقدام لا في سقوط الفدية كما في الحلاق ولبس المُحيط.

ص: 609

وفي الشبراخيتي ما نصه: وكلام أبي الحسن يفيد أنه لا شيء عليه في حمله لهضم نفسه مع قدرته على أن يحمله على غيره. انتهى. وفي شرح عبد الباقي عند قوله: "بلا تجر": ولا يجوز لغير عيش ولو تطوعا ولما غَنِيٌّ لنفسه بخلاً بأجرة، وإلا افتدى، ولو كان لا بخلا بل لكسر نفسه فينبغي المنع. انتهى. وإبدال ثوبه؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يبدل ثوبه الذي أحرم فيه بأن ينزعه ويلبس غيره، ولو قصد بذلك طرح الهوام؛ إذ ليس عليه شعوثة لباسه. وقوله:"ثوبه"، إزارا أو غيره كرداء وحزام، ولو تعدد الثوب المبدل فالمراد بالثوب الجنس، وقوله:"وإبدال"، راعى مالك رضي الله تعالى عنه نزع ثوبه بقمله بمنزلة من ارتحل من بيته وألقاه ببقه حتى مات حتف أنفه؛ أي وأما إن نقل الهوام من جسده أو ثوبه الذي عليه إلى الثوب الذي يريد طرحه فيكون كطرحه. وبيعه يعني أنه يجوز للمحرم بيع ثوبه الذي أحرم فيه ولو لقمل آذاه فيه على المشهور عند مالك وابن القاسم، خلافا لرأي سحنون أنه كطرد الصيد من الحرم، للفرق بأن الصيد أخرج إلى غير مأمن، والقمل يجوز قتله قبل البيع وبعده لغير المحرم. قاله الشيخ عبد الباقي. مالك لا بأس أن ينقل القملة من ثوبه أو بدنه إلى مكان آخر من ثوبه أو جلده، وإذا سقطت من رأسه قملة فليدعها ولا يردها مكانها. ابن الحاج: سئل مالك: المحرم يجد عليه البقة وما أشبهها فيأخذها فتموت؟ قال: لا شيء عليه في هذا. نقله الشيخ سالم. نقله عبد الباقي والشبراخيتي.

(بخلاف غسله) يعني أنه يكره للمحرم أن يغسل ثوبه كما في الموازية وهو ظاهر المدونة، وإن كان ظاهر كلام ابن الحاجب والمصنف المنع، ومحل الكرهة حيث شك في قمله، فإن قتل بعضه حينئذ أخرج ما يجب فيه، فإن تحقق قمله لم يَجُزْ غسله، فإن غسل وقتل أخرج ما يجب فيه. قاله عبد الباقي. ويمكن حمل الكراهة في المدونة على المنع، فيسقط التعقب على المصنف وابن الحاجب. قاله محمد بن الحسن. وقال الحطاب: وظاهر الطراز أن غسله لغير النجاسة ممنوع، وهو الموافق لظاهر المصنف وابن الحاجب، وما تقدم من الكراهة عن الموازية هو كذلك، إلا أنه جعل فيها غسله للوسخ جائزا كغسله للنجاسة. قاله الحطاب. (إلا لنجس) يعني أن محل كراهة غسل الثوب للمحرم أو منعه إنما هو إذا لم تصبه نجاسة، بل غسله لترفه أو وسخ أو غيرهما،

ص: 610

وأما إن أصاب ثوبه نجاسة فإنه يغسله بالماء؛ ولو شك في قمله ولا شيء عليه في قتله حينئذ كما في الموازية، وفي الطراز: يندب له أن يطعم، وأخرج بقوله: فقط غسله بصابون وأُشنان، ونحو ذلك حال نجاسته وشكه في قمله، فلا يجوز، فإن غسل به وقتل بعض قمل أطعم، وإن تحقق نفي قمله جاز غسله بصابون ونحوه كجوازه لترفه أو وسخ حيث تحقق نفيه ولو بصابون. وفي الحطاب بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أنه إذا تحقق أنه لا قمل بثوبه جاز له غسله بما شاء، وإن لم يتحقق ذلك فيجوز غسله للنجاسة بالماء فقط ولا شيء عليه، وإن قتل بعض قمل كما تقدم عن الموازية، وقال في الطراز: يطعم استحبابا، وأما غسله للوسخ فظاهر المدونة أنه مكروه، وقال في الموازية: إنه جائز، وحكى في الشامل في غسله من الوسخ قولين، وأما غسله لغير النجاسة والوسخ فاتفق لفظ المدونة والموازية على كراهة ذلك، وقال ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح: إنها على بابها، وظاهر كلامه في الطراز أن غسلة لغير النجاسة لا يجوز، وهو الموافق لظاهر كلام المصنف. فتأمله. والله أعلم. انتهى.

وقد مر عن محمد بن الحسن بناني: أنه يمكن حمل الكراهة التي في المدونة والموازية على المنع، وقال الخرشي: ولم يتكلم المصنف على ما إذا غسله للنجاسة بصابون ونحوه، حيث لم يتحقق نفي القمل، وظاهر كلام المصنف أنه لا يجوز، والأصل فيما لا يجوز الفدية، وصرح به التتائي. انتهى. ابن الحاج: أجمع أهل العلم أن للمحرم أن يستاك وإن أدمى فمه. ابن عرفة: قلت: لازم منع القاضي الزينة منع السواك بالجوزاء ونحوه. قاله الحطاب والخرشي. وفي الحطاب: وإن أصابت ثوب المحرم نجاسة ولم يدر موضعها افتقده موضعا موضعا: فما يتيقن أنه لا قمل فيه غسله، وما رأي فيه قملا نقله إلى موضع آخر حتى يتيقن سلامته، فإن كثر ذلك عليه، فإن كانت نجاسة لا نفتقر إلى حك وعرك كالبول والماء النجس وشبهه فإنه يواصل صب الماء ويتلطف في غسل ذلك، فإن شك أن يكون قتل شيئا أطعم استحبابا ولا يجب ذلك عليه، وكذلك إن احتاج إلى حك وعرك وكان فيه [قتل

(1)

] شيء من الدواب، فإنه يطعم استحبابا، ولو عرك جميع ثوبه في قصرية وكان قادرا على دون ذلك أطعم، وكذلك إن غسله بغاسول أطعم عند ابن القاسم،

(1)

في الأصل مثل، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 571 ط دار الرضوان.

ص: 611

وافتدى عند مالك إن كان ثوبه كثير القمل. انتهى. وقال سند: غسل ثوب المحرم لا يمنع للإنقاء والتنظيف، وإنما يمنع لأجل قتل الهوام، قال: والأحسن أن من أصاب ثوبه نجاسة أو جنابة نظر إلى ذلك الموضع وافتقده وما حوله من الهوام، فإن قطع أنه لا شيء فيه غسله بما شاء وأنقاه بالماء؛ وإن أصابته نجاسة ولم يدر موضعها افتقدها موضعا موضعا إلى آخر ما مر قريبا.

وبط جرحه؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يبط جرحه؛ أي يشقه ويخرج ما فيه بعصر ونحوه إذا احتاج إلى ذلك، أو ما في حكم ذلك كوضع لزقة عليه، ومثل الجرح الدمل ونحوه لحاجة، وجاز للمحرم حك ما خفي عليه من جسده برفق؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يحك ما خفي عليه من جسده كرأسه وظهره حكا مصاحبا للرفق، والرفق هو ما يأمن معه من قتل الدواب وطرحها، ومفْهوم قوله:"برفق". أن الحك الشديد ليس كذلك وهو كما أفهم، فإنه مكروه، ومَفْهُومُ قوله:"مما خفي". أن ما يراه من جسده له أن يحكه وإن أدماه، وجاز فصد لحاجة؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يفصد أي يشرط إذا احتاج إلى ذلك كما في الموطإ والمدونة، وأما لغير حاجة فينبغي أن يكره كما في الحجامة. قاله غير واحد. ومحل جواز الفصد لِحَاجَةٍ إن يعصبه؛ أي أن محل جواز الفصد إنما كسر حيث كان لا يعصبه؛ وأما إن كان إذا فصد جعل عليه عصابة فإنه يكره له الفصد، فإن عصبة ولو لضرورة افتدى، وقوله:"يعصبه"، مضارع عصب من باب ضرب.

وشد منطقته لنفقته على جلده، قوله:"وشد"، عطف على الجائز؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يشد منطقته بكسر الميم وفتح الطاء على جلده تحت إزاره لأجل حفظ نفقته، كدراهم يجعلها فيها فيشدها على جلده تحت إزاره حفظا لتلك الدراهم التي ينفق بها على نفسه، والمنطقة هي الهميان بكسر الهاء وتقديم الميم على الياء. قال ابن حجر: شبه تكة السراويل تجعل فيه النفقة ويشد في الوسط. قاله محمد بن الحسن. وقال عبد الباقي: وغيره هي مثل الكيس تجعل فيه الدراهم. انتهى. والمراد بشدها أن تدخل خيوطها في أثقابها، ونحو ذلك من غير عقد، فأما لو عقدها على جلده افتدى. قال معناه غير واحد: ونقل محمد بن الحسن عن ابن عرفة فيها: لا بأس بربط منطقته لنفقته تحت إزاردت وجعل سيورها في ثقبها، وقوله:"لنفقته"؛ أي لا مجردة أي فارغة، ولا للتجارة له أو لغيره ولا للتجارة ونفقته ولا لنفقة غيره.

ص: 612

وإضافة نفقة غيره؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يضيف نفقة غيره إلى نفقته التي شدها أولا على جلده تحت إزاره؛ بأن يجعلها معها في المنطقة المذكورة، فإن شدها لنفقة الغير ابتداء أو شدها لهما معا وكانت نفقته هو تبعا فعليه الفدية، وفي الخرشي: والحاصل أن انتفاء الفدية في شد المنطقة يكون بشروط: أن يشدها لنفقة نفسه، وأن يكون الشد على جلده، وأن لا يضيف لها مالًا اتجر فيه، فمتى انتفى واحد منها وجبت الفدية. انتهى. وفي شرح عبد الباقي: وإضافة نفقة غيره لنفقته؛ بأن يودعه رجل نفقته بعد شدها لنفقة نفسه فيجعلها معها من غير مواطأة على الإضافة فيما يظهر. انتهى. وقوله: من غير مواطأة، خلاف ما استظهره في التوضيح من الإطلاق، ونصه: وانظر لو شدها ابتداء له ولغيره، والأقرب سقوط الفدية؛ لأن نفقة غيره تيع كما لو أضاف نفقة غير بعد نفقته، وحمل ابن عبد السلام كلام ابن الحاجب على أنه لا يجوز أن يشدها لنفقته ونفقة غيره، ولم أر ذلك لغيره. انتهى. وما استقْرَبَه في التوضيح هو ظاهر الجلاب واللخمي كما في ابن عرفة، وهو ظاهر الطراز كما في الحطاب، لكن قال ابن عرفة: مفهوم المدونة منع شدها لهما ابتداء. قاله محمد بن الحسن بناني. وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإن لا يكن الأمر كذلك بل شدها فارغة أو لتجر أوله ولنفقة أو فوق إزاره، لا على جلده أو لنفقة غيره أو لتجره أي الغير أو لإضافة نفقته لنفقة الغير أو تجره، أو شدها لنفقته وإضافة تجر الغير لها أو شدها لنفقته ونفقة الغير معا ابتداء، أو شدها مجردة عن قصد، فإنه تلزمه فدية في هذه الصور كلها، وهي إحدى عشرة صورة كما قاله عبد الباقي، وتقدم ما لبناني في واحدة منها، لكن نقل هو أي بناني عن ابن عرفة أنه قال: مفهوم المدونة منع شدها لهما ابتداء. انتهى. فصح ما ذكره عبد الباقي. والله سبحانه أعلم.

وشبه في وجوب الفدية أمورا جائزة، فقال: كعصب جرحه؛ يعني أن المحرم إذا عصب جرحه فإنه تلزمه فدية عصبة لضرورة أو لغيرها عصبة بخرقة صغيرة أو كبيرة كما في المدونة، وفصل ابن المواز في التعصيب بين الخرق الكبار والصغار كما في اللصق، وفَرَّق التونسي بينهما بأن التعصيب والربط أشد من اللصق؛ إذ لابد فيهما من حصول شيء على الجسم الصحيح، بخلاف اللاصق، ولذا صرح في المدونة بأن صغير التعصيب والربط ككبيرهما. قاله محمد بن الحسن.

ص: 613

أو رأسه؛ يعني أن المحرم إذا عصب رأسه فإنه تلزمه الفدية، عصبة لضرورة أو لغيرها، عصبة بخرقة صغيرة أو كبيرة كما في المدونة، وفصل ابن المواز في التعصيب إلى آخر ما مر. أو لصق خرقة كدرهم؛ يعني أن المحرم إذا ألصق على جرحه أو قرحه خرقة، فإنه تلزمه فدية بشرط أن تكون الخرقة اللصقة على جرحه أو قرحه قدر درهم فأكثر، فلو كانت الخرقة أقل من درهم فلا فدية، والمراد بالدرهم الدرهم البغلي.

تنبيهان: الأول: قوله: "أو لصق خرقة". قال محمد بن الحسن بناني ما نصه: ابن عاشر: هذا -والله أعلم- خاص بجراح الوجه أو الرأس لأنهما اللذان يجب كشفهما كما علل به التونسي. الثاني: قال الحطاب والشبراخيتي: انظر إذا كان به جروح متعددة وألصق على كل منها خرقة دون الدرهم والمجموع كدرهم أو أكثر، وظاهر ما في التوضيح وابن الحاجب أنه لا شيء عليه. انتهى.

أو لفها على ذكر؛ يعني أن المحرم إذا لفها أي الخرقة لا بقيد كونها قدر درهم على ذكره، فإنه يفتدي كما لو لفها عليه لأجل بول أو مني أو مذي، بخلاف ما لو جعله في خرقة من غير لف عند النوم، فإنه لا فدية عليه إذا لم تكن كيسا، وإلا فالفدية، وقولي: لا بقيد كونها قدر درهم، قال عبد الباقي عقبه: فيما يظهر، ونحوه للشبراخيتي، والله سبحانه أعلم.

أو قطنة بأذنيه؛ يعني أن المحرم إذا سد أذنيه بقطنة أي واحدة منهما وأولى لو سدهما معا، فإنه تلزمه الفدية سَدَّهما أو إحداهما بما فيه طيب أم لا، كان ذلك لعلة أم لا، وهذا بين لأن عليه كشف أذنيه، سواء قلنا إنهما من الرأس أم لا؛ لأنهما في عظم الرأس كالجبهة والصدغ، فإذا سدهما فقد ستر ما عليه كشفه فيشبه ما لو جعل في صدغه قرطاسا، أو عصب جبهته بعصابة. قاله الحطَّابُ. وَعُورِضَ إيجابهم الفدية في الأذن مطلقا بعدم إيجاب الفدية بلصق خرقة صغيرة دون الأذن، وأجيب بأنه لأجل كثرة انتفاعه بسد الأذن أشبه الكثير. قاله غير واحد.

أو قرطاس بصدغية؛ يعني أن المحرم إذا جعل قرطاسا على صدغيه أو أحدهما، فإنه يفتدي ولو كان القرطاس الذي جعله على صدغيه أو أحدهما دون درهم جعله على ما ذكر لضرورة أم لا. أو ترك ذي نفقة ذهب؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يشد منطقته على جلده تحت إزاره لأجل حفظ

ص: 614

نفقته التي فيها، ويضيف نفقة الغير إليها بعد ذلك كما عرفت، فإذا نفدت نفقة ذي المنطقة وبقيت نفقة الغير فإنه يرد إلى الغير نفقته، فإن ذهب ذو النفقة وعلم بذهابه صاحب المنطقة وتركه ولم يدفع إليه نفقته، فإن ذا المنطقة تلزمه الفدية، فإن لم يعلم بذهابه فلا شيء عليه، وهذا يعلم من كلام المصنف؛ لأنه لا يقال إنه ترك فذهب، إلا إذا كان عالما به.

وعلم مما قررت أن قوله: "أو ترك"، مصدر معطوف على "عصب" من قوله:"كعصب جرح أو رأس"، فهو مجرور، أو ترك درها له، معطوف على "ذي"، من قوله:"ذي نفقة"، فهو معمول "لترك"، وهو مفهوم قوله:"ذهب"؛ يعني أنه إذا نفدت نفقة ذي المنطقة وبقيت نفقة الغير المضافة لها، وكان صاحب النفقة المضافة مصاحبا لذي المنطقة، وترك صاحب المنطقة رد النفقة المضافة لنفقته لصاحبها، فإن ذا المنطقة تلزمه الفدية لتركه رد النفقة المذكورة إلى صاحبها، قال اللخمي: وإن ذهبت نفقته حيث أضاف نفقة الغير إليها فإنه يرد نفقة الغير، وإلا افتدى.

وقد مر أنه إذا لم يعلم بذهابه أنه يبقيها معه ولا فدية عليه، فقد قال ابن القاسم. فيمن أودع صيدا وهو حلال وقد غاب صاحبه: فلا يرسله ويضمن إن فعل ذلك، وكذلك النفقة قبلها بوجه جائز ثم غاب صاحبها فجاز أن يبقيها عنده ولا يخرجها إلى غيره. ابن عرفة: يرد بقدرته على جعلها حيث يحفظ تجره.

ولامرأة خز وحلي؛ يعني أنه يجوز للمرأة المحرمة بحج أو عمرة أن تلبس الخز والحرير والحلي ذهبا أو فضة؛ يعني أن حكمها بعد الإحرام في اللباس كحكمها قبل الإحرام إلا في ستر الوجه والكفين، ويدخل في الحلي الخاتم فيجوز للمرأة لبسه، وقوله: وجاز للمرأة خز وحلي، نبه به على مخالفة قول حكاه اللخمي أن عليها الفدية، وليلا يتوهم أنها مطلوبة بأنها تخشوشن في اللباس إذا أحرمت، وظاهر كلام القاضي منعها التزين والحلي. ابن عبد السلام: لكنه شيء انفرد بنقله، ونقل سند اختلافا من أصحابنا في تحريم الزينة كالكحل والحلي للنساء. قاله الشبراخيتي.

وكره شد نفقته بعصده أو فخذه؛ يعني أنه يكره للمحرم أن يشد منطقته التي فيها نفقته على عضده أو فخذه أو ساقه، ولا فدية في ذلك كله ولم يوسع مالك أن يشدها إلا في الوسط، وذلك

ص: 615

لأن المنطقة من اللباس الممنوع، وإنما جازت للحاجة والضرورة. فلا يعدل بها عن المحل المعروف لها عادة.

وعلم مما قررت أن المراد بالنفقة دراهم مثلا أعدها لشراء نفقته، وكب رأس على وسادة؛ يعني أنه يكره للمحرم أن يكب وجهه على الوسادة؛ لأن هذا مظنة الترفه، فالمراد بالرأس في كلام المصنف: الوجه، من تسمية الجزء الذي هو الوجه بالكل الذي هو الرأس، وليست الكراهة خاصة بالمحرم، لقول الجزولي: النوم على الوجه نوم الكفار وأهل النار والشيطان، ولا بأس بوضع خد المحرم على الوسادة، وعبر عنه ابن رشد بقوله: توسده جائز، وقوله:"وكب رأس"، يقال: كبه فأكب فالثلاثي متعد والرباعي لازم عكس المعهود، قال الله تعالى:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} ، وهذا من أكب رباعيا غير متعد، ومنه قول امرئ القيس:

.................. كما

أكب على ساعديه النمر

وقال جل من قائل: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار} وهذا معدى ثلاثي، فكب الثلاثي لا يكون إلا متعديا، وأكب الرباعي يكون لازما ويكون متعديا. والله أعلم.

ومصبوغ؛ يعني أنه يكره للمحرم أن يلبس المصبوغ، يريد المصبوغ بغير طيب إذا كان يشبه لون المصبوغ بالطيب كالمصبوغ بالعصفر، وإنما يكره لبس المصبوغ المذكور لـ محرم مقتدى به من إمام وعالم، وإنما كره للمقتدى به ليلا يلتبس على من لا يعرف فيقتدى به في المصبوغ الممنوع لبسه، ورواه محمد عن مالك وسيأتي في التنبيه الثالث وجه ترك المصنف للقيدين المذكورين، وأما المصبوغ بما فيه طيب كالورس والزعفران فلا خلاف أنه يحرم لبسه على الرجال والنساء في الإحرام، وتجب الفدية بلبسه، وقوله:"ومصبوغ"، محل كراهته إذا كان غير مطيب وغير مفدم بضم الميم وسكون الفاء وفتح الدال المهملة، فإن كان مفدما وهو القوي الصبغ الذي صبغ في العصفر مرة بعد أخرى حتى صار ثخينا قويا فيحرم على المشهور أي يحرم على الرجال والنساء، وفيد الفدية كالمطيب، وقيل: لا فدية في المعصفر الفدم فهو مكروه، واستظهره صاحب الطراز، وأما المصبوغ بما لا يشبه لونه المصبوغَ بما فيه طيب كالمصبوغ أسود ونحوه من ألوان لا تشبه المعصفر فيجوز الإحرام فيه لمقتدى به وغيره. خلافا لظاهر كلام التلمساني والغزالي من كراهة ما

ص: 616

سوى الأبيض لمقتدى به، وأما غير المحرم فقال عبد الباقي: يجوز له لبس الزعفر والمعصفر، وخبر: (نهي عن أن يتزعفر الرجل

(1)

) حمله مالك على من يلطخ جسده بزعفران، ويؤيده ما روي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يزعفر الرجل جلده

(2)

). اللخمي: روي عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصبغ ثيابه كلها والعمامة بالزعفران

(3)

). انتهى. قوله: وأما غير المحرم الخ، قال محمد بن الحسن: هذا مقيد بغير المعصفر المفدم، وأما هو فإن الإمام مالكا صرح بكراهته للرجال في غير الإحرام كما في المدونة. انتهى. ومفهوم قوله: لمقتدى به، أن غير المقتدى به لا يكره له لبسه في حال الإحرام وهو كذلك، وقد مر أن المصبوغ بطيب يحرم لبسه، فإن غسل حتى ذهب منه ريح الطيب وبقي لونه فكرهه مالك في المدونة، قال: إلا أن يذهب لونه كله فلا بأس به، وإن لم يذهب لونه ولم يجد غيره صبغه بالشق بكسر الميم وسكون المعجمة، المغرة بفتح الميم وسكون الغين المعجمة وقد تفتح: الطين الأحمر، وذكر بعضهم أن صبغها إنما يثبت إذا خلط بزيت، وقال أبو عمر في الاستذكار: إنه إذا غسل الزعفر، حتى ذهب منه ريح الزعفران فلا بأس به عند جميعهم، وروى ابن القاسم عن مالك كراهته ما بقي من لونه شيء، وفي النوادر: قال مالك: إذا غسل المفدم جاز، وقد مر أن المصبوغ بغير الطيب ولا يشبه لون المصبوغ بالطيب لا يكره الإحرام فيه، لكنه خلاف الأولى؛ لأن البياض أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم

(4)

). [قاله

(5)

] أبو داوود والترمذي. وقال حديث حسن صحيح. وابن حبان في صحيحه.

وقال مالك في الموازية: لا ينام المحرم على شيء مصبوغ بورس أو زعفران من فراش أو وسادة إلا أن يغشيه بثوب كثيف، فإن فعل ولم يغشه افتدى إن كان صبغا كثيرات وإذا كان الثوب مصبوغا بزعفران ولم يغسل ولكنه لبس وتقادم وانقطعت رائحة الزعفران منه حتى لا يظهر بوجه كره

(1)

البخاري، كتاب اللباس، الحديث:5846. مسلم، كتاب اللباس والزينة، الحديث: 2101.

(2)

النسائي، كتاب الزينة، الحديث:5237.

(3)

أبو داود، كتاب اللباس، الحديث:4064. بلفظ: وقد كان يصبغ ثيابه كلها حتي عمامته.

(4)

الترمذي، كتاب الجنائز، الحديث:994. وأبو داود، كتاب اللباس، الحديث 4361. وابن حبان، كتاب اللباس وآدابه، الحديث:5399.

(5)

كذا في الأصل، والذي في الحطاب ج 3 ص 574. ط دار الرضوان: رواه أبو داود .. الخ.

ص: 617

للمحرم لبسه ولم يحرم. قاله في الطراز. قاله الحطاب. ومن العتبية وكتاب ابن المواز: قال مالك: ومن أحرم بثوب فيه لمعة من الزعفران فلا شيء عليه وليغسله إذا ذكر. قاله في التوضيح، وابن عبد السلام وغيرهما، وقبلوه كلهم، وقيده ابن رشد بما إذا غسل اللمعة. قاله الحطاب.

وقال: ما ذكره ابن رشد وإن كان ظاهرا من جهة المعنى يرده قول مالك: وليغسله إذا ذكره، فإنه صريح في أنه أحرم فيه قبل غسله، وكأنه -والله أعلم- استخف ذلك ليسارته؛ لأن المراد باللمعة الشيء اليسير، أما لو كان كثيرا فالظاهر ما قاله ابن رشد: ويجوز الإحرام في الثوب غير الجديد ولما ينترع غسله لمجرد كونه غير جديد. فإن كان نجسا أو دنسا غسل من الدنس؛ لأن البياض مستحب، وغسله من الدنس عمل في تبييضه. وقال الشافعي: إن الجديد أفضل، وفي الطراز: فإن كان ثوبه نجسا غسله، فإن لم يغسله وأحرم فيه صح إحرامه وفاقا، ولا شيء عليه؛ لأن الإحرام يصح مع الحدث والجنابة والحيض، فلا تنافيه النجاسة حتى قال أصحابنا: لو كان في بدنه أو ثوبه طيب وأراد أن يحرم ولم يجد ما يزيل به الطيب فأزاله ببوله صح إحرامه وتخلص من فدية الطيب. انتهى.

وقد كان مالك يحرم في ثوب حِجَجًا، وذلك يدل أنه كان يرفعه يُعِده للإحرام؛ إذ لو امتهنه لا أقام حججا لا يغسله وقال مالك في الموازية: من ابتاع ثوبين من أسود فخاف أن يكونا مسروقين فلا يُحرم فيهما إن شك، قيل: إن باعهما وتصدق بثمنهما؟ قال: قد أصاب، والذي قاله من باب الورع والفضيلة لا من باب الوجوب. قاله الحطاب. ولا شك أنه ينبغي أن يحتاط في هذا الباب ويتركهما إذا حصلت ريبة وإن ضعفت، بخلاف باب الطهارة فلا يعمل فيه بالاحتمالات البعيدة. والله أعلم.

وللرجل أن يحرم في ثوب فيه حرير ما لم يكثر، وسئل مالك عن الرجل يكون في تابوته المسك فتكون فيه ملحفة فيخرجها ليحرم فيها وقد [علق

(1)

] فيها ريح المسك؟ قال: يغسلها وينشرها حتى تذهب ريحه.

(1)

في الأصل فيه والمثبت من الحطاب ج 3 ص 580. ط دار الرضوان.

ص: 618

واعلم أنه اختلف في منع التطيب عند الإحرام وإباحته، فمن منع منعه في البدن والثوب، ومن أباحه أباحه في البدن والثوب، وفي الحطاب بعد جلب نقول: والذي يتحصل من هذا أن الثوب إذا كانت فيه رائحة الطيب فلا يحرم فيه، فإن كانت رائحة طيب مؤنث كان الإحرام فيه حراما، وإن كانت رائحة طيب مذكر كان الإحرام فيه مكروها، فإن أحرم فيه فإن كان الطيب مذكرا فلا شيء عليه، وإن كان مؤنثا فحكمه حكم من تطيب عند الإحرام بما تبقى رائحته بعد الإحرام، فالمشهور لا فدية عليه، وقال أشهب: عليه الفدية إن كان كثيرا، واختلف هل هو خلاف أو تفسير؟ انتهى.

تنبيهات: الأول: قال الإمام الحطاب عند قوله "ومصبوغ لمقتدى به" ما نصه: إذا كان لون صبغه يشبه لون المصبوغ بالطيب. انتهى. قال احترزنا به عما يكون صباغه لا يشبه لون المصبوغ بالطيب، فإنه لا يكره الإحرام فيه، ولكنه خلاف الأولى؛ لأن البياض أفضل، لقوله عليه الصلاة السلام: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم

(1)

). قاله

(2)

أبو داوود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح وابن حبان في صحيحه، وذكر صاحب الطراز هذا الحديث بلفظ: خير ثيابكم البياض ألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم، قال اللخمي: يستحب للمحرم لباس البياض؛ وهو في المصبوغ على ثلاثة أوجه: جائز إذا كان أزرق أو أخضر أو ما أشبه ذلك، وممنوع إذا كان بالورس والزعفران وما أشبه ذلك مما هو طيب فإن فعل افتدى، ويجوز إذا كان معصفرا غير مفدم، وكره المفْدم لأنه ينتفض. وقال أشهب: لا فدية فيه، ولم يره من الطيب المؤنث. انتهى. وكأن القسم الثالث من المصبوغ في كلامه هو المعصفر المفدم فجعله مكروها ولم ير فيه فدية.

الثاني: قول المصنف: ومصبوغ لمن يقتدى به، الأصل فيه حديث الموطإ: (أن عمر بن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا وهو محرم، فقال: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر، فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس،

(1)

الترمذي: كتاب الجنائز، الحديث 994. وأبو داود، كتاب اللباس، الحديث 4061. وابن حبان، كتاب اللباس وآدابه، الحديث 5399.

(2)

كذا في الأصل والذي في الحطاب؛ دار الرضوان ج 3 ص 574: رواه أبو داود.

ص: 619

فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال إن طلحة بن عبيد الله قد كان يلبس الثياب الصبغة في الإحرام، فلا تلبسوا أيها الرهط شيئا من هذه الثياب المصبغة

(1)

). قاله الحطاب. ناقلا له عن صاحب الطراز، والمصبوغ بالمدر هو المشق: ونقل الحطاب أيضا عن صاحب الطراز أن المعصفر النافض منعه مالك وأبو حنيفة، وجوزد الشافعي وابن حنبل ولم يرياه من الطيب، واختلف أصحابنا في منعه هل هو منع تحريم أو كراهة -أعني المفدم المشبع- إذا كان ينتفض على الجسد؟ قال في المعونة: من أصحابنا من يوجب فيه الفدية، فعلى هذا يكون من محظورات الإحرام، وقال أشهب: ألا فدية على من لبسه من رجل أو امرأة، وقد أساء وهو الظاهر؛ لأنه لا يعد طيبا كسائر ألوان الحمرة والصفرة اعتبارا بما لا ينتفض، وأبو حنيفة يجعله طيبا، ولا يوجب فيه فدية إذا لم ينتفض. انتهى.

وقال ابن عبد السلام: لما ذكر كراهة المصبوغ لمن يقتدى به، ولهذا قال غير واحد من أهل المذهب وغيرهم: إن العالم المقتدى به يترك من المباح ما يشبه الممنوع مما لا يفرق بينهما إلا العلماء ليلا بقتدي به في ذلك من لا يعرفه، وإن لم يلزم غيره المكف عنه. انتهى. قلت: والظاهر أن أمر العالم بذلك أمر ندب لا إيجاب كما يفهم من هذه المسألة. والله أعلم. قاله الحطاب. وفيه أن المصبوغ بالطيب أو بما في معنى الطيب يرجع في العادة إلى ثلاثة أصباغ: الزعفران والورس والعصفر: وفيه أيضا عن المدونة أنه لا بأس أن يحرم الرجل في البَرَّ كان والطيالسة الكحلية وفي جميع ألوان الثياب، إلا المعصفر المفدم الذي ينتفض وما صبغ بالورس والزعفران، ولا بأس بالورد والمشق. انتهى. والبركان بفتح الوحدة وتشديد الراء مثل الأكسية، وأهل اللغة يقولون: ثوب بركاني، وقال ابن عرفة: إن المصبوغ بالورد كالمصبوغ بالورس وهو غير ظاهر؛ لأن الورس من الطيب المؤنث والورد من الطيب المذكر: والظاهر أن يفصل فيه كما فصل في المصبوغ بالعصفر بين المفدم وغيره والله أعلم. قاله الحطاب.

الثالث: قال الحطاب بعد جلب كثير من النقول: فتحصل من هذا أن البياض أفضل من كل شيء سواه وأن المصبوغ بغير طيب ولا يشبه لون صبغه لون مصبوغ بالطيب جائز لمن يقتدى به

(1)

الموطأ، كتاب الحج: الحديث 718.

ص: 620

ولمن لا يقتدى به من غير كراهة لكنه خلاف الأولى، إلا على ظاهر كلام التلمساني والقرافي أن المصبوغ ولو أزرق أو أخضر يكره للمقتدى به ويجوز للعامة، وأن المصبوغ بغير طيب ولكنه يشبه لونه لون المصبوغ بالطيب والمصبوغ بالطيب إذا غسل حتى ذهب منه ريح الطيب وبقي لونه يكره لمن يقتدى به ويجوز لغير من يقتدى به، وأن المصبوغ بالطيب حرام.

واستغنى المصنف عن التقييد بغير الطيب لما سيذكره من أن استعمال الطيب في الإحرام حرام، واستعمال الثوب الطيب كاستعمال الطيب، واستغنى عن التقييد بكون صباغه ينتبه لون المصبوغ بالطيب فإن ذلك يفهم من التفريق بين من يقتدى به ومن لا يقتدى به. انتهى. وفي الحطاب: قال في الطراز: قال أشهب في المجموعة: وإن شك أن على ثوبيه نجاسة فهذا من باب الوسواس: قال: وأحب إلي غسلهما كانا جديدين أو غسيلين. انتهى.

قال الحطاب عقب نقله هذا: فانظر كيف جعل ذلك من الوسوسة ثم أمره بغسلهما؟ ولعله يريد إذا كان لشكه وجه، وأما إن لم يكن له وجه فالأولى ترك الغسل. والله أعلم. انتهى.

الرابع قال في التوضيح: وأما المعصفرُ غير المفدم والمزعفرُ فيخفف لبسهما في غير الإحرام، نص على المورد في المدونة وعلى المزعفر في غيرها، قال مالك: لا بأس بالمزعفر لغير المحرم وكنت ألبسه، وقال في الحديث في النهي عن أن يتزعفر الرجل: هو أن يلطخ جسده بزعفران. اللخمي: (وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبغ ثيابه كلها والعمامة بالزعفران

(1)

)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس المحرم شيئا مسه ورس أو زعفران

(2)

)، دليل على الجواز لغير المحرم. انتهى. كلام التوضيح. وأصله للخمي، وفي التوضيح أيضا: وأما كراهة المعصفر فلما في الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليَّ ثوبان معصفران، فقال: إن هذين من ثياب الكفار وتلبسهما

(3)

). نقله الحطاب. قال: والحديث في النهي عن المعصفر عام في المفدم وغيره، وهو ظاهر كلام صاحب الطراز، وعلل ذلك بأن فيه

(1)

أبو داود، كتاب اللباس، الحديث:4064. بلفظ: وقد كان يصبغ نيابه كلها حتى عمامته.

(2)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:716. البخاري، الحديث: 1542. مسلم، كتاب الحج، الحديث:1177.

(3)

مسلم، رقم الحديث:2077. ولفظه: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها.

ص: 621

تشبها بالنساء: وقد (لعن النبي صلى الله عليه وسلم من تشبه بالنساء من الرجال

(1)

)، وقال المازري في المعلم: إنما جاز لبس الملاحف المعصفرة للرجال في البيوت وفي أفنية الدور، وكره لباسها في المحافل وعند الخروج إلى السوق، فكأنه رأى أن التصرف بها بين الملإ من لباس الاشتهار، فلهذا نهى عنه، وفي الديار ليس فيها اشتهار فأجازه. انتهى. ونحوه لابن عبد السلام ونقل البرزلي في كتاب الجامع عن ابن العربي أنه قال: وأما الأحمر ومنه المعصفر والمزعفر فأجازه مالك والشافعي وأبو حنيفة، وكره بعض العراقيين المزعفر للرجال. انتهى. وقال ابن عرفة: وفيها كراهة المعصفر المفدم ولو للْمَرْأَةِ في الإِحْرَامِ وللرجل في غيره. عياض وغيره: كان محمد بن بشير القاضي يلبس المعصفر ويتحلى بالزينة من كحل وخضاب وسواك، سأل رجل غريب عنه فَدُلَّ عليه، فلما رآه قال: تسخرون بي؟ فزجروه فقال له ابن بشير: تقدم واذكر حاجتك، فوجد عنده أكثر مما ظنه، عاتبه زونان في لباس الخز والمعصفر. فقال حدثني مالك أن هشام بن عروة فقيه المدينة كان يلبس المعصفر، وأن القاسم بن محمد كان يلبس الخز، ثم ترك لبس الخز، قال يحيى بن يحيى: لا يلزم من يعقل ما يعاب عليه. انتهى. وزونان اسمه عبد الملك بن الحسين بن محمد بن زريق بن عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكنى

(2)

أبا مروان، وزونان، وهو من الطبقة الأولى ممن لم ير مالكا من أهل الأندلس من قرطبة، سمع من ابن القاسم وأشهب وابن وهب وغيرهم، وكان الأغلبُ عليه الفقه، وكان فقيها فاضلا ورعا زاهدا، وُلي قضاء طليطلة؛ وكان يحيى بن يحيى يعجب من كلامه؛ وتوفي سنة ثنتين وثلاثين ومائتين. قاله ابن فرحون في الديباج المذهب. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.

وفي المدونة كما مر: ولا بأس أن يحرم الرجل في البركان والطيالسة الكحلية، [وفي جميع ألوان]

(3)

الثياب إلا المعصفر المفدم الذي ينتفض وما صبغ بالورس والزعفران، فإن مالكا كرهه ولم يكره شيئا من الصبغ غيره، ولا بأس بالمورد والممشق ولا بأس بالإحرام في الثياب الهروية إن كان صبغها بغير الزعفران، فإن كان بالزعفران فلا يصلح. انتهى. سند: البركان كساء أسود مربع من

(1)

البخاري، كتاب اللباس، الحديث:5885.

(2)

الذي في الحطاب ج 3 ص 582: يسمى أبا مروان ويعرف بزونان.

(3)

في الأصل: وفي ألوان جميع والمثبت من التهذيب ج 1 ص 496.

ص: 622

ناعم الصوف يجوز لبسه والإحرام فيه إجماعا. انتهى. والطيالسة جمع طيلسان مثلث اللام من لباس العجم مدور أسود، ومنه قولهم في الشتم: يابن الطيلسان، يريد إنك أعجمي، والثياب الهروية ثياب من رقيق القطن يصفر سداها بالزعفران، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران

(1)

)، فإن وقع نظر إلى الثوب فإن كان ريح الزعفران فيه تعلقت بلبسه الفدية، وإن لم يظهر ريحه بوجه كان مكروها. قاله الحطاب.

وشم كريحان: يعني أنه يكره للمحرم في حال إحرامه أن يشم الطيب المذكر وهو ما يظهر ريحه ويخفي أثره؛ أي تعلقه بما مسه من بدن أو ثوب تعلقا غير شديد قاله عبد الباقي. كالريحان والورد والياسمين والخيرى وشبه ذلك، فإن تعمد شيئا من ذلك فلا فدية عليه، وكذا يكره شم مؤنث الطيب على مذهب المدونة، ومؤنث الطيب هو ما ظهر لونه وأثره أي تعلقه بما مسه تعلقا شديدا كالمسك. قاله عبد الباقي.

وقال بعد ذلك: ما قدمته في تعريف الطيب المذكر والمؤنث مخالف لما في كفاية الطالب، ونصه عند قول الرسالة: وتجتنب أي المعتدة الطيب كله مذكره؛ وهو ما ظهر لونه وخفيت رائحته كالورد، ومؤنثه وهو ما خفي لونه وظهرت رائحته كالمسك. انتهى. وهو أقرب مما للتتاءي؛ يعني التعريف الأول، وقوله: في المذكر ما ظهر لونه؛ أي المقصود الأعظم منه ذلك الخ، فلا ينافي أن الورد له رائحة ذكية لكنها خفية، ولعل معنى كونها خفية أنها لا تنتشر لبعد كانتشار المسك، وقوله: في المؤنث ما خفي لونه؛ أي الغالب إخفاء لونه، فلا ينافي أنه قد يظهره إنسان، وقوله. وظهرت رائحته؛ أي أنها المقصود الأعظم منه ظهورا منتشرا، لا لونه كالورد فإنه يتمتع برؤية لونه بخلاف المسك. انتهى.

وقال الأمير: الأقرب أن مؤنث الطيب ما قصد ريحه كالمسك. انتهى. وقال محمد بن الحسن: ما قدمه -يعني عبد الباقي عن التتائي- هو الذي في التوضيح عن ابن رشد وغيره، وما ذكره عن كفاية الطالب هو الذي فسره به أبو الحسن في شرح المدونة، والأول أقرب إلى اللغة، قال في القاموس: ذكورة الطيب ما ليس له ردع؛ أي ما ليس له أثرت وقال أيضا في القاموس: الردع أثر

(1)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1542.

ص: 623

الطيب في الجسد، فيؤخذ منه أن المؤنث ماله ردع أي أثر، إلا أن جعلهم الحناء من المذكر مع أن لها ردعا في الجسد يخالف اللغة، هذا وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إن خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه

(1)

). أخرجه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه ومثله في الشهاب.

وقد فسر ابن حجر طيب الرجال بالمسك وما في معناه؛ قال ابن وحشي في شرح الشهاب: طيب الرجال كالمسك يشترك في المنفعة به الرجال والنساء، إلا أنه يحرم على النساء عند الخروج كما في الحديث، وطيب النساء كحو الذي تتزين به المرأة للزوج والسيد، مثل الكحل للعين وحمرة المعصفر للوجه والسواد للحاجبين، وهو أمر ينفرد به النساء. انتهى. بمعناه وفيه إضافة المؤنث للرجال والذكر للنساء، والمتجه أن ما للفقهاء اصطلاح خاص بباب الحج. والله أعلم. انتهى.

تنبيهات: الأول: اعلم أن الطيب المذكر يكره شمه ومسه واستعماله، ويقيد ذلك أي كراهة استعماله بغير الحناء، ففي التوضيح: المذكر قسمان؛ قسم مكرره ولا فدية فيه كالريحان، وقسم محرم وفيه الفدية وهو الحناء. انتهى. وماء الورد وسائر ما يعتصر من الرياحين ليس من قبيل المؤنث. بل يكره فقط كأصله، نص على ذلك في الطراز، قال الحطاب: وهو الجاري على القواعد، وقال ابن فرحون: وأما ماء الورد ففيه الفدية. انتهى. أي لأن أثره يبقى في البدن، وكذا ما يعتصر من الرياحين؛ واعترض الرماصي الحطاب بكلام ابن فرحون هذا: قال بناني: وهو غير ظاهر لمخالفته قول المدونة: يكره أن يتوضأ بالريحان، وقد حمله سند على غسل اليد بالماء العصور من الريحان، وكذا قولها: ويكره له أن يأتدم بالزنبق والبَنَفْسَجِ أو شبهه أو يستعط بذلك. انتهى. فكلاهما صريح في كراهته فقط فلا فدية فيه، وبذلك تعلم أن اعتراض مصطفى على الحطاب غير صواب. والله أعلم. انتهى

وأما المؤنث فقد مر أن شمه مكروه على مذهب المدونة، وبه قال ابن القصار، وقال الباجي: المذهب منع شم المؤنث ونص ابن عرفة في كون شمه أي المؤنث دون مس ممنوعا أو مكروها نقلا الباجي عن المذهب وابن القصار، قلت: هو نصها. انتهى. ويحرم مس المؤنث واستعماله.

(1)

الترمذي، كتاب الأدب، الحديث:2788. وفيه: إن خير طيب الرجل بدل قوله الرجال. المستدرك، ج 4 ص 191.

ص: 624

الثاني: لا يكره شم ولا مس الشيح والعصفر والإذخر ونحوها، وفي المدونة: ويكره له أن يتوضأ بالريحان أو يغسل يديه بالأشنان الطيب بالرياحين، فإن فعل فلا فدية عليه، وإن كان طيب الأشنان بالطيب افتدى. انتهى. ومعنى قوله: يتوضأ، يغسل يديه كما مر، وفي الحطاب: وأما الخشائش والزنجبيل والشيح والقيصوم وشبهه مما يقصد شمه ولا يتطيب به ولا منه، فلا فدية فيه. انتهى.

الثالث: قال المصنف في منسكه: وليحذر من تقبيل الحجر والناس يصبون عليه ماء الورد وفيه المسك، وفيه تقوية لما مر عن الطراز والحطاب؛ إذ قيده بكونه فيه المسك. فتأمله والله تعالى أعلم. ومكث بمكان فيه طيب؛ يعني أنه يكره للمحرم أن يمكث بمكان فيه طيب مؤنث غير البيت الشريف، وكذا يكره للمحرم أن يمكث مع رجل متطيب، واستصحابه؛ أي المؤنث يعني أنه يكره للمحرم أن يستصحب الطيب المؤنث.

والحاصل أن المسألة على عشرة أوجه: شم الطيب المذكر ومسه واستعماله، وهذه الأوجه الثلاثة مكروهة مكث بمكان فيه طيب مذكر بحيث لا يشمه واستصحابه لا يكرهان، شم الطيب المؤنث مكروه على مذهب المدونة ممنوع على نقل الباجي عن المذهب، مسه واستعماله محرمان، مكث بمكان هو فيه واستصحابه مكروهان. ويستثنى من قوله:"بمكان فيه طيب"، البيت الشريف. هذا هو تحرير المسألة.

وفي شرح عبد الباقي: أن مس الطيب المذكر بغير شم غير مكروه، ورد عليه محمد بن الحسن، وقال: فيه نظر، بل ظاهر كلامهم أنه مكروه كشمه، وقد صرح في المدونة بكراهة استعماله كما في الحطاب، على أن ذلك ليس على إطلاقه بل يقيد بغير الحناء. انتهى. المراد منه. والله سبحانه أعلم.

وحجامة بلا عذر؛ يعني أنه يكره للمحرم أن يحتجم بلا عذر مطلقا، سواء زال بسببها شعر أو لم يَزُلْ، وسواء خَشِيَ قتل الدواب أو لم يخش، هذا هو المشهور، وقال سحنون: هي جائزة إذا لم يزل بسببها شعر إلا في الرأس خيفة قتل دوابه. قاله في التوضيح. وَوَجَّهَ سند المشهور بأن الحجامة إنما تكون في العادة بشد الزجاج ونحوه، والمحرم ممنوع من العقد والشد على جسده، وهو ظاهر. والله أعلم. قاله الحطاب.

ص: 625

وأما مع العذر فتجوز مطلقا، هذا حكمها ابتداء، وأما بعد الوقوع فقال الحطاب: فإن لم يُزِل بسببها شعراً ولم يقتل قملا فلا شيء عليه، وإن أزال بسببها شعرا فعليه الفدية. وذكر ابن بشير قولا بسقوطها، قال في التوضيح، وهو غريب، وإن قتل قملا فإن كان كثيرا فالفدية وإلا أطعم حفنة من طعام. والله سبحانه أعلم انتهى كلام الحطاب.

وقال محمد بن الحسن بعد أن تكلم على حكم الحجامة ابتداء ما نصه: وأما الفدية فتجب إن أزال شعرا أو قتل قملا كثيرا، وأما القليل ففيه الإطعام. انظر الحطاب. وسواء احتجم في ذلك لعذر أم لا، إلا أن لزوم الفدية إذا احتجم لغير عذر وأزال شعرا يقتضي المنع. انتهى. فالكراهة في هذا الأخير مشكلة. والله سبحانه أعلم. وفي كلام عبد الباقي هنا نظر. والله سبحانه أعلم.

وغمس رأس؛ يعني أنه يكره للمحرم أن يغمس رأسه في الماء خيفة قتل الدواب، فإن فعل أطعم شيئا من طعام، وبقي هذا على المصنف وهو في المدونة، وقال صاحب الطراز: إن هذا الإطعام مستحب، ولعل المصنف حمل الإطعام في المدونة على الاستحباب تبعا للطراز، فلم يذكره لأجل هذا، وحينئذ فلا يتم استدلال الرماصي بالإطعام، على أن الكراهة للتحريم إذ لا إطعام في كراهة تنزيه، وقال: الظاهر أن الإطعام واجب، وما ذكره المصنف من كراهة غمس الرأس هو ما عليه ابن القاسم، وأجازه ابن وهب، وعليه أكثر العلماء.

أشهب: وما يخاف في الغمس يخاف في صب الماء، وكان أشهب وابن وهب يتغاطسان إرادة مخالفة ابن القاسم، ومقتضى هذا أن ابن القاسم لا يقول بكراهة صب الماء على الرأس. وهو كذلك، وحكي عن مالك كراهة الغسل إلا من ضرورة، وقوله:"وغمس"، معطوف على المكروه كما قررت، "وغمس"، مصدر غمس، يقال: غمس رأسه في الماء ومقله بمعنى، وفي الحديث: (إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فامقلوه، فإن في أحد جناحية سما وفي الآخر شفاءً، وإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء

(1)

): وقوله: غمس رأسه، فهم من التعليل المتقدم أن محل الكراهة فيمن له شعر، وأما من لا شعر له فلا يكره ذلك له. وقد مر أن صب الماء على الرأس جائز. نقله ابن يونس، وصاحب الطراز. وذكر ابن فرحون أنه يكره صب الماء على رأسه، وقال في التوضيح: قال ابن

(1)

ابن ماجه، كتاب الطب، الحديث:3504. شرح السنة للبغوي، رقم الحديث: 2815. وأصله في صحيح البخاري.

ص: 626

الجلاب: يجوز له أن يغسل رأسه تبردا، وحكي عن مالك: كراهة الغسل إلا من ضرورة. انتهى. والأول أظهر. والله أعلم. قاله الحطاب.

وقال عبد الباقي: وقيد اللخمي الكراهة في غمس الرأس بما إذا كانت له وفرة، وإلا فلا كراهة. انتهى.

وتجفيفه بشدة؛ يعني أنه يكره للمحرم إذا غسل رأسه أن يجففه بشدة بثوب أو بغيره خشية أن يقتل شيئا من دواب رأسه، وأما إن جففه برفق فلا كراهة، وعبارة عبد الباقي: وتجفيفه لرأسه بخرقة بعد غسله في الماء، قال مالك: ولكن يحركه بيده. انتهى. وقوله: "وتجفيفه"، كذا في نسخ، وفي نسخة بتأنيث الهاء وهي للحطاب، فإنه قال: والضمير المؤنث راجع للرأس وهو مهموز، وقد تبدل همزته ألفا، وقد جرى المصنف رحمه الله تعالى في هذا المختصر على تأنيث الرأس هنا، وفي قوله:"وإن صلعاء"، وفي قوله في البيوع:"وخير في دفع رأس أو قيمتها"، والذي ذكره الزجاجي في جمله وغيره: أن الرأس من الأعضاء التي تذكر ولا يجوز تأنيثها. وقال الفاكهاني: والرأس مذكر ليس إلا، وإنما ذكرت هذا وإن كان معلوما؛ لأني رأيت كثيرا من الفقهاء فضلا عن غيرهم أنثه ولا يعرفون فيه غير التأنيث، وهو من الخطإ القبيح، وقال في شرح العمدة: والرأس مذكر بلا خلاف أعلمه، ونقله القسطلاني، قال: ووهم من أنثه وهو مهموز وقد يخفف بتركه. انتهى. ولعل المصنف أنث باعتبار الجمجمة. انتهى. وسيأتي البحث مع الحطاب في قوله: إن المصنف أنث الرأس، في قوله:"وإن صلعا"، وقال عبد الباقي: وفي نسخة، أو تجفيفها، بالتأنيث باعتبار الهامة، وهو ضعيف للقاعدة المقررة، وهي أن كل ما كان مفردا في الإنسان فيذكر والرأس مذكر إجماعا، وما كان فيه أي أو في الحيوان من حيث هو مزدوج فيؤنث والكلية الثانية أغلبية إذ قد خرج منها الفودان والظفر لقول المصنف: وفي الظفر الواحد، وهو الموافق لقول المصباح: الظفر مذكر. انتهى.

وَنظَرٌ بمِرْآةٍ؛ يعني أنه يكره للمحرم بحج أو عمرة أن ينظر في المرآة مخافة أن يرى شعثا فيزيله، قال في العتبية: لا أحب نظر المحرم في مرآة، فإن فعل فلا شيء عليه وليستغفر. ولبس امراة قباء مطلقا؛ يعني أنه يكره للمرأة لبس القباء مطلقا حرة أو أمة، محرمة أو غير محرمة؛ لأنه

ص: 627

يصفهن، وقوله:"ولبس امرأة" الخ؛ يعني إلا مع زوجها. ابن الحاج: وكراهة القباء للحرائر أشد: وقوله: "ولبس امرأة" الخ. سند. هذا إذا لم يكن فوقه شيء، فإن كان فوقه قميص أو إزار فلا كراهة فيه كالسراويل، ويجوز للمرأة لبسه في بيتها وبين يدي زوجها ومن يجوز لها أن تكشف بدنها عليه إن كانت في أرض ذلك زي نسائها، وإلا فيكره للمرأة أن تشبه بالرجال، ولا يعرف ذلك من زي النساء أصلاً، وإنما هو من زي الرجال، ويجوز للمحرمة وغير المحرمة لبس السراويل إذا لبسته وفوقه قميص [سابل]

(1)

، وإلا فهو أشد فتنة من القباء في حقهن، وفي معنى القباء احتزامهن إلا أنه أخف في حق الإماء ومن لا تمد لها العين، والقباء أشد منه في حق الجميع لما فيه من جمع البدن حتى كأنه جلد المرأة حتى يتخيل فيه كأنها عريانة، بخلاف احتزامها من فوق ثيابها. انتهى.

وعليهما دهن اللحية، عطف على المرأة وعلى الرجل من قوله:"حرم بالإحرام على المرأة" الخ؛ يعني أنه يحرم على المحرم رجلا أو امرأة أن يدهن شعر لحيته، فإذا نبتت للمرأة لحية فإنه يحرم عليها أن تدهنها.

وعلم مما قررت أن الضمير في "عليهما"، عائد على الرجل والمرأة. والرأس؛ يعني أنه يحرم على المحرم ذكرا أو أنثى أن يدهن شعر رأسه، وفي الخرشي: والمعنى أنه يحرم على الرجل وعلى المرأة في حال إحرامهما أن يدهنا شعرهما رأسا أو لحية أو غيرهما، بالدهن مطلقا مطيبا أو غير مطيب: وقد علمت أن شعر اللحية خاص بالرجال بحسب العادة، فإن وجدت لها لحية فيحرم عليها أن تدهنها وهي محرمة. وقال عبد الباقي عند قوله:"دهن اللحية والرأس": أي تسريحهما بالدهن لما فيه من الزينة. ابن الحاجب: ويحرم ترجيل الرأس واللحية بالدهن بعد الإحرام لا قبله. انتهى. والترجيل هو التسريح. وإن صلعا؛ يعني أنه يحرم على المحرم أن يدهن رأسه وإن كان الرأس صلعا بفتح الصاد المهملة واللام أي ذا صلع، وهو انحسار شعر مقدم الرأس، أو بضم الصاد وسكون اللام جمعا لأصلع، ويراد حينئذ جنس الرأس حتى لا يلزم الإخبار بالجمع عن الفرد، ولا يضبط بفتح الصاد وسكون اللام والمد تأنيث الأصلع ليلا يلزم

(1)

في الأصل سائل والمثبت من الحطاب ج 3 ص 584؛ دار الرضوان.

ص: 628

وصف الرأس وهو مذكر بصفة المؤنث. انظر شرح عبد الباقي. وفيه رد على ما مر عن الحطاب في قوله: إن المصنف جرى على تأنيث الرأس في قوله: "وإن صلعا". والله سبحانه أعلم.

وعلم من قوله: "وإن صلعا"، أن المراد بالرأس ما يشمل الشعر إن كان عليه شعر، وما يشمل موضع الشعر إن لم يكن شعر، وأما دهن البشرة تحت الشعر فيدخل في قوله الآتي:"ودهن الجسد"، وقد مر أنه يحرم دهن اللحية والرأس كان مع الدهن طيب أم لا، لمنافاته للشعث المطلوب.

فائدة: أول من لبس القباء سليمان صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، وأول من لبس العمامة ذو القرنين، وذلك أنه طلع له في رأسه قرنان كالظلفين يتحركان فلبسها من أجل ذلك، ثم إنه دخل الحمام ومعه كاتبه فوضع العمامة، وقال لكاتبه: هذا أمر لم يطلع عليه غيرك فإن سمعت به من أحد قتلتك، فخرج الكاتب من الحمام فأخذه هيئة الموت، فأتى الصحراء فوضع فمه بالأرض ثم نادى: ألا إن للملك قرنين، فأنبت الله من كلمته قصبتين، فمر بهما راع فقطعهما واتخذهما مزمارا، فكان إذا زمر خرج من القصبتين: ألا إن للملك قرنين فاشتهر ذلك في المدينة، فقال ذو القرنين: هذا أمر أراد الله تعالى أن يبديه. قاله الخرشي في كبيره.

وإبانة ظفر؛ يعني أنه يحرم عليهما أي الرجل والمرأة بالإحرام إبانة ظفر لغير عذر، وهذا مفهوم قوله فيما مر:"وتقليم ظفر انكسر". أو شعر؛ يعني أنه يحرم على المحرم بحج أو عمرة رجلا أو امرأة أن يزيل شعرا ولو قل، بنتف أو حلق أو نؤرة أو قرض بأسنان. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: فإن أبان شيئا من ذلك وجبت عليه الفدية، قال ابن فرحون: والإبانة بحلق أو نؤرة أو نتف أو قص لسواء. انتهى. أو وسخ؛ يعني أنه يحرم على المحرم رجلا أو امرأة أن يزيل وسخه إلا ما تحت الظفر من الوسخ ولا فدية. رواه ابن نافع عن مالك قاله عبد الباقي وغيره. والبعض في هذه كالكل في التحريم، وهذا فيما إذا أزال المحرم ذلك من نفسه، ففي ابن عرفة: وإزالة ظفر غيره لغو، وقوله:"أو وسخ"، وفي إزالة الوسخ الفدية اتفاقا، ولا بأس للمحرم أن ينقي ما تحت الإبط من الوسخ، ولا فدية. إلا غسل يديه بمزيله؛ مستثنى من قوله:"وسخ"؛ يعني أنه لا يحرم على المحرم رجلا كان أو امرأة أن يغسل يديه بما يزيل عنهما الوسخ،

ص: 629

كحرض بضمتين آخره ضاد معجمة، وهو الغاسول والصابون والأشنان، بضم الهمزة والكسر، والضمير في "يديه" عائد على المحرم ذكرا أو أنثى، وفي "بمزيله" عائد على الوسخ؛ أي مزيل الوسخ من غير طيب، وأخرج "بيديه"؛ رأسه: ففي غسله بما ذكر الفدية، وأفهم الغسل أن الإزالة بغير الغسل أحرى: وأفهم قوله: "بمزيله"، أن غسلهما من غير مزيل أحرى أيضا، إلا تساقط شعر لوضوء؛ يعني أن إزالة الشعر تحرم على المحرم رجلا كان أو امرأة، وفيها الفدية على ما يأتي، إلا أن يكون زوال الشعر حصل بسبب تساقط شعر لأجل تخليله في وضوء ونحو ذلك فلا فدية فيه.

وبما قررت علم أن "تساقط"، عطف على "غسل"؛ فهو داخل في حيز الاستثناء، وقال عبد الباقي: وإلا تساقط شعر ولو كثر من رأسه، كحمل متاعه عليه أو من لحيته أو أنفه لوضوء أو غسل واجبين أو مندوبين أو مسنون الغسل: ولا شيء عليه فيما قتل في واجب وكذا في مندوب ومسنون فيما يظهر ولو كثر، وكذا يجوز الطهر لتبرد، ولو تساقط فيه شعر فإن قتل فيه كثيرا افتدى، فإن قل كالواحدة ونحوها فعليه قبصات بصاد مهملة، وهي الأخذ بأطراف الأنامل، وعلى هذا فيقيد قوله الآتي:"أو قملة أو قملات" بغير ما قتل في غسل تبرد. انتهى. كلام عبد الباقي.

سند عن الموازية: وسألنا مالكا عن المحرم يتوضأ فيمر يديه على وجهه أو يخلل لحيته في الوضوء أو يدخل يده في أنفه لمخاط ينزعه منه أو يمسح رأسه أو يركب دابته فيحلق ساقَه الإكافُ والسرجُ؟ قال مالك: لا شيء عليه في ذلك كله وهذا خفيف ولا بد للناس منه، وقال في النوادر عن كتاب ابن المواز: ولو سقط من شعر رأسه [شيء]

(1)

، لحمل متاعه فلا شيء عليه، وكذلك إن مر بيده على لحيته فتسقط منها الشعرة والشعرتان. انتهى. قاله الحطاب.

ولركوب؛ يعني أن تساقط الشعر لأجل ركوب؛ كساق يحكه الحارك أو الإكاف والسرج لا شيء فيه، ودهن الجسم؛ يعني أنه يحرم على الرجل والمرأة بالإحرام دهن الجسد لغير عذر، سواء كان ما ادهن به مطيبا أم لا، وعليهما الفدية في ذلك، خلافا لابن حبيب في غير المطيب، فإنه

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 585. ط دار الرضوان.

ص: 630

قال: لا فدية عليهما فيه، والمراد بالجسد ما عدا باطن الكفين والقدمين. قاله الخرشي. ككف؛ يعني أنه يحرم على المحرم ذكرا أو أنثى أن يدهن باطن كفه واحدا أو متعددا بمطيب لغير ضرورة، فإن فعل فعليه الفدية، وقيدت المصنف بباطن الكف تبعا للتوضيح، فإنه قال في قول ابن الحاجب: فإن دهن يديه أو رجليه لعلة بغير طيب فلا فدية عليه وإلا فالفدية. انتهى. ما نصه: المراد باليدين باطن الكفين، وأما ظاهرهما فليفتد. نقله ابن حبيب. عن مالك. انتهى. نقله بناني. فمحل التفصيل على هذا بين المطيب وغيره إنما هو في باطن الكف، وأما ظاهره فعليه الفدية ادهن بمطيب أو بغير مطيب، لعلة أم لا. والله سبحانه أعلم.

ورجل؛ يعني أنه يحرم على المحرم ذكرا أو أنثى أن يدهن رجله -مطلقا ظاهرها وباطنها- بدهن مطيب لغير ضرورة، فإن فعل فليفتد، وقيدت كلام المصنف في المسألتين بغير الضرورة؛ إذ هو محل المنع، وأما مع الضرورة فلا إثم، وفيه الفدية؛ لأن هذا فيما إذا ادهن بمطيب.

وعلم مما قررت أن قوله: بمطيب، قيد في المسألتين، ومفهومه أنه لو دهن باطن كفيه ورجليه مطلقا بغير مطيب فلا فدية عليه إن ادهن لعلة ولغيرها، فالفدية. والله سبحانه أعلم.

واعلم أن المدونة كابن الحاجب أطلقت في اليدين ولم تقيد بباطنهما، قال مصطفى: ظاهر كلام ابن عرفة وغيره إبقاء المدونة على ظاهرها، وأن ما نقله ابن حبيب مخالف لها، ولذا أطلق ابن الحاجب وغيره. انتهى.

أو لغير علة؛ يعني أنه يحرم على المحرم رجلا أو امرأة أن يدهن رجليه أو باطن كفيه بدهن غير مطيب إذا لم تكن ضرورة تدعو لذلك، فإن فعل فعليه الفدية، وأما ظاهر الكفين فيدخل في سائر الجسد على ما مر عن التوضيح، وقد علمت أنه لو دهن باطن كفه ورجله مطلقا لغير علة فعليه الفدية، دهنهما بمطيب أو بغير مطيب، ولها قولان؛ يعني أن المحرم رجلا أو امرأة إذا دهن جسده أو بعضه -أعني غير الرجل وباطن الكف بدهن غير مطيب لأجل علة- فإن في وجوب الفدية عليه وعدم وجوبها عليه قولين لا في الحرمة وعدمها؛ إذ الفرض أنه فعله لعلة، فلا إثم عليه. اختصرت عليهما؛ يعني أن هذين القولين اختصرت المدونة عليهما، اختصرها ابن أبي زمنين على الوجوب، واختصرها البرادعي على عدم الوجوب، وتحقيق هذه المسألة: أن دهن

ص: 631

الجسد كلا أو بعضا -أعني بالبعض ما عدا الرجلين وباطن الكفين إذا كان بمطيب- ففيه الفدية كانت هناك ضرورة أم لا، وإن كان بغير مطيب لغير علة فكذلك، وإن كان لعلة ففيه القولان اللذان اختصرت المدونة عليهما، وأما دهن باطن الكفين ودهن القدمين، فإن كان بمطيب فالفدية كانت هناك ضرورة أم لا، وإن كان بغير مطيب لغير علة فالفدية، ولعلة فلا فدية عند الجميع كما لعبد الباقي، وصوبه بناني والمراد باليدين والرجلين، قال عبد الباقي: باطنهما، وأما ظاهرهما فمن الجسد، والمراد بذلك عند المصنف باطن الكفين وظاهر الرجلين وباطنهما كما نقله ابن حبيب عن مالك: وعند الرماصي أن المراد باليدين والرجلين ظاهرهما وباطنهما، وأن الذي رواه ابن حبيب عن مالك مقابل لا تقييد، وظاهر المصنف هنا أن القولين اللذين اختصرت المدونة عليهما إنما هما في باطن الكفين وفي القدمين مطلقا، وأن سائر الجسد فيه الفدية مطلقا، وكذا جعل في منسكه القولين في القدمين وباطن الكفين، والتحقيق هو ما قدمته من أن القولين إنما هما في ما عدا القدمين ونحوهما. والله سبحانه أعلم.

واعلم أن الصور ثمانية: فإذا دهن بمطيب يفتدي كان لعلة أم لا، فعل بجسد كلا أو بعضا، أو ببطن كف أو برجل فهذه أربعة، وإن دهن بغير مطيب لغير علة افتدى أيضا، فعله في الجسد كله أو بعضه، أو في يد أو رجل، فإن دهن بغير مطيب لعلة فلا شيء عليه إن كان بكف أو رجل، فإن كان بجسد غير كف ورجل فقولان في وجوب الفدية وعدم وجوبها، فهذه أربعة أيضا. هذا هو تحرير المسألة. وحكم أكل الدهن الطيب حكم أكل الطيب الآتي ذكره، وإذا ثبت أنه يدهن لضرورة كالشقوق مثلا، فإنه يقتصر على موضع الشقوق ولا يتجاوزه إلا ما لا يحترز من مثله.

وتطيب بكورس؛ يعني أنه يحرم عليهما -أي على الرجل والمرأة- بالإحرام التطيب بالطيب المؤنث وهو ما يظهر ريحه وأثره كالورس والزعفران والمسك والكافور والعنبر، وتجب الفدية باستعماله، فالمراد بالتطيب به استعماله؛ ومعنى استعماله إلصاقه بالبدن أو بعضه أو بالثوب، فلو عبق على جالس بحانوت عطار من غير أن يمسه بشيء منه، أو ببيت تطيب أهله فلا فدية مع كراهة تماديه على ذلك، والورس نبت كالسمسم طيب الرائحة صبغه بين الحمرة والصفرة،

ص: 632

يبقى نبته عشرين سنة. واحترز بقوله: "كورس"، من الطيب المذكر وهو ما يظهر ريحه ويخفى أثره، فإنه لا يحرم استعماله ولكنه يكره كما مرت وفي كتاب الأمير: والأقرب أنه -يعني مؤنث الطيب- ما قصد ريحه كالمسك والعطريات، وفي ماء الورد والريحان خلاف، وبالغ في الحرمة من غير فدية بقوله: وإن ذهب ريحه؛ يعني أن الطيب المذكور يحرم استعماله على المحرم ذكرا أو أنثى، وإن كان قد ذهب ريحه فلنا شيء يحرم استعماله ولا فدية فيه، وهو الطيب المؤنث الذي ذهب ريحه، وسيأتي أيضا في جزاء الصيد أن الدلالة على الصيد تحرم ولا فدية على الدال، وتقدم أيضا قوله:"ولا فدية في سيف"، وقوله في مسألة التظلل بالمحارة والثوب بالعصا:"ففي وجوب الفدية خلاف"، وقال اللخمي: ولو جعل في ثوبه طيبا قد قَدُمَ وذهب ريحه لم يكن فيه فدية. انتهى. وكلامه يقتضي أن ذلك هو المذهب، وهذا هو الظاهر. والله أعلم. قاله الحطاب.

وفي الطراز ما هو صريح في الكراهة حيث ذهب الريح كما في الحطاب.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: والظاهر أنه هو الذي رد المصنف بالمبالغة. والله سبحانه أعلم. وقد مر أن التطيب بكالورس فيه الفدية حيث لم يذهب ريحه، قال في الطراز: ولا فرق في وجوب الفدية بين أن يطيب جميع جسده أو عضوا منه ودون ذلك، وهو قول الشافعي وابن حنبل، وقال أبو حنيفة: إنما تجب الفدية إذا طيب عضوا كاملا مثل الرأس والفخذ والساق وشبه ذلك، فَأَمَّا أن يطيب بعض العضو فلا فدية فيه، واحتج بأنه ليس بتطيب معتاد، وهذا غير صحيح والناس يختلفون في ذلك، وكيفما مس الطيب فقد تطيب.

أو لضرورة كحل؛ يعني أن المحرم إذا اكتحل لضرورة، فإنه تجب عليه الفدية ولا حرمة، وأما لغير ضرورة فيحرم وعليه الفدية، وهو معطوف على ما تضمنته الحرمة من وجوب الفدية فيما قبل المبالغة؛ أي حرم ما سبق، وافتدى إن فعله لغير ضرورة أو لضرورة كحل، وكلام المصنف في الكحل الطيب كما هو سياقه، ومثله غير الطيب إن كان لزينة فقط أولها ولدواء معا فتجب الفدية كما في النقل تغليبا لجانب الزينة. كما نقله الحطاب عن سند عن ابن القاسم: لا بكحل غير مطيب لحر أو برد فلا فدية فيه، وأما اكتحال المحرم لغير ضرورة ففيه ثلاثة أقوال، مشهورها وجوب الفدية على الرجل والمرأة، وقيل: لا تجب عليهما، وقيل: تجب على المرأة

ص: 633

دون الرجل، هذا إن لم يكن مطيبا وإلا ففيه الفدية مطلقا، واكتحاله بغير الطيب لضرورة مرض أو غيره لا فدية فيه. أبو إسحاق: ولبس الحرير للمرأة المحرمة والحلي جائز، بخلاف الكحل للزينة، وإن لم يكن فيه طيب، وعليها الفدية إن اكتحلت للزينة. انتهى.

وفي الموازية: لا تكتحل المرأة بالإثمد، وإن اضطرت إلى الكحل لأنه زينة إلا أن تدعو الضرورة إليه نفسه فتكتحل به ولا فدية. انتهى. ملخصا من الحطاب، وعبد الباقي وبناني.

واعلم أن قوله: "لضرورة"، لا يصح أن يكون معطوفا إلا على مقدر كما قررت؛ لأنه لا حرمة مع الضرورة. ولو في طعام؛ يعني أنه يحرم على المحرم رجلا أو امرأة أن يأكل طعاما فيه الطيب، ومثله الشراب فلا يشرب ما فيه الطيب، وإن فعل افتدى، وكره في المدونة لغير المحرم أن يشرب الماء الذي فيه الكافور للسرف. انتهى. سند: وأما غير المحرم فيختلف حاله بقدر ثمن الكافور وعلو قيمته ونزولها، فإن كان مما لا قيمة له فلا شيء فيه، وتطييب الماء بمثل ذلك ليس بسرف، وهو كإنباذ العسل فيه، وشبه ذلك من مقاصد العقلاء:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ؛ وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان يستعذب له الماء عليه الصلاة والسلام من السقيا: عين بينها وبين المدينة يومان

(1)

). أخرجه أبو داوود. ولم يكن هذا بإسراف في الرفاهية؛ لأنه لم يكن فيه كبير مؤنة كذا ما نحن فيه، وإن كان مما له كبير ولم يطلب بذلك التداوي إلا محض تطييب الرائحة فهو سرف ممنوع، وقوله:"ولو في طعام"، فإن كان لضرورة لم يحرم وفيه الفدية، وقوله:"ولو في طعام"؛ أي من غير طبخ، ورد المصنف بلو قول أشهب: لا فدية فيه، ورواه محمد عن مالك وقوله:"ولو في طعام"، قال الخرشي: لو قال: في كطعام ليدخل الماء كان أحسن؛ لأنهم نصوا على حرمة استعمال الماء الطيب للمحرم. انتهى.

أو لم يطيب؛ يعني أنه لا يجوز للمحرم أن يمس الطيب المؤنث بيده أو بغيرها، ولو لم يعلق فيه شيء منه أو أزاله سريعا وعليه الفدية، وقوله:"أو لم يعلق"، قال الخرشي: أي ولو لم يعلق، فهو معطوف على الفعل القدر بعد لو، داخل في حيز المبالغة؛ أي أن لمس الطيب يحرم ولو لم يعلق به. انتهى. وقوله:"يعلق": بفتح الياء التحتية واللام مضارع علق بكسر اللام. إلا قارورة

(1)

أبو داود، كتاب الأشربة، الحديث:3735. ولفظه: كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا. الخ.

ص: 634

سدت؛ يعني أن المحرم إذا حمل أو مس في حال إحرامه قارورة أو نحوها فيها طيب وهي مسدودة سدا وثيقا محكما؛ بحيث لم يظهر منه رائحة، فإنه لا فدية عليه في ذلك؛ إذ لا رائحة لها حينئذ. ابن الحاجب: ولا فدية في حمل قارورة مصمتة الرأس ونحوها. ابن عبد السلام: لعل مراده بنحو القارورة فأرة المسك غير مشقوقة. انتهى. واستبعد ابن عرفة تفسيره بذلك. قائلا: لأن الفأرة كطيب: قال الحطاب: والأحسن أن يكون مراد ابن الحاجب بنحوها ما ذكره صاحب الطراز من الخريطة والخرج ونحو ذلك. انتهى. وقوله: "إلا قارورة"، استثناء متصل إن قدرت ملابسة ومنقطع إن قدرت مس. قاله عبد الباقي؛ يعني بعد قوله:"إلا"؛ أي إلا ملابسة أو مس قارورة، واختلف أصحاب الشافعي فيمن حمل زجاجة فيها طيب أو خُرْجَهُ على وجه التطيب، فقال بعضهم: عليه الفدية، وقال بعضهم: هذه رائحة مجاورة ولا فدية فيها. انتهى.

ومطبوخا؛ معطوف على المستثنى؛ أي وإلا طيبا مطبوخا؛ يعني أن الطيب إذا طبخ مع طعام فإنه لا فدية في أكله، سواء أماته الطبخ أم لا، وسواء صبغ الفم أم لا هذا هو المذهب، قال في التوضيح: والمذهب نفي الفدية؛ لأنه أطلق في المدونة والموطإ والمختصر الجواز في المطبوخ، وأبقاه الأبهري على ظاهره، وقيده عبد الوهاب بغلبة المازج، وابن حبيب بغلبة المازج بشرط أن لا يعلق باليد ولا بالفم منه شيء. انتهى. ابن عرفة: وما مسه نار في إباحته مطلقا، أو إن استهلك، ثالثها: ولم يبق أثر صبغه بيد ولا فم. الأول للباجي عن الأبهري، والثاني للقاضي، والثالث للشيخ عن رواية ابن حبيب، فقول الأبهري: هو الإباحة مطلقا استهلك أم لا وهو المذهب عن ابن بشير. قاله بناني. قال: وبذلك اعترض مصطفى على الحطاب.

أو باقيا مما قبل إحرامه؛ يعني أنه إذا استعمل الطيب المؤنث قبل إحرامه ورائحته باقية عليه أو أثره، فإنه لا فدية عليه، والمراد بالأثر اللون مع ذهاب الجرم. سند: وإذا قلنا لا فدية في الباقي مع كراهته، فإنه يؤمر بغسله، فإن قدر على غسله بمجرد صب الماء فحسن، وإن لم يقدر إلا بمباشرته فعل ولا شيء عليه؛ لأنه فعل ما أمر به، ومفهوم أثره أو رائحته أنه إن بقي عليه جرم من الطيب تجب عليه الفدية قل ذلك أو كثر، ونقل ابن حجر عن مالك سقوط الفدية في بقاء لونه أو رائحته، قال: وفي رواية عنه تجب، والذي يظهر من كلام الباجي وابن الحاجب

ص: 635

وابن عرفة أنها لا تسقط إلا في بقاء الرائحة دون الأثر. ابن عرفة: ولا يتطيب قبل إحرامه بما يبقى ريحه بعده. الباجي: إن فعل فلا فدية عليه: لأنها إنما تجب بإتلاف الطيب بعد الإحرام، وهذا أتلفه قبله، وإنما يبقى منه بعد الإحرام الرائحة. انتهى.

وعلم مما قررت أن قوله: "باقيا"، عطف على المستثنى، وعلم مما مر أن التطيب قبل الإحرام بما يبقى بعده مكروه فلا فدية فيه كما علمت؛ (لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المتضمخ بالخلوق أن يغسله عنه ولم يذكر له فرية

(1)

).

أو مصيبا من إلقاء ريح؛ يعني أن المحرم إذا ألقت عليه الريح شيئا من الطيب فإنه لا فدية عليه: بشرط أن يطرحه بسرعة، فإن تراخى في طرحه لزمته الفدية، أو غير؛ يعني أن المحرم إذا ألقى عليه غيره شيئا من الطيب فإنه لا فدية عليه، ألقاه على ثوبه أو بدنه، نائما أو غير نائم، أو من غير علمه لكن بشرط أن ينزعه عن نفسه في الحال، وإلا لزمته الفدية. قاله الخرشي. وغيره.

وعلم مما قررت أن "مصيبا"؛ عطف على المستثنى، وقوله: أو خلوق كعبة؛ عطف على "إلقاء"، فهو مجرور أي: مصيبا من إلقاء ريح ومصيبا من خلوق كعبة؛ فهو داخل في الاستثناء؛ يعني أن المحرم إذا أصابه طيب من الخلوق الذي على الكعبة شرفها الله تعالى، فإنه لا فدية عليه، ولو كثر لطلب القرب من البيت؛ والخلوق كصبور، قال الجوهري: ضرب من الطيب، وفي النهاية: طيب مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، ويغلب عليه الحمرة والصفرة، ولا يفسر بما فسره بد سند وهو العصفر؛ لأنه ليس بطيب، ويرده قوله: وخير في نزع يسيره؛ أي خلوق الكعبة؛ يعني أن المحرم إذا كان الذي أصابه من خلوق الكعبة يسيرا فإنه يخير في نزعه عنه وعدمه، فهو راجع للفرع الأخير فقط، ولا يرجع للمسائل الثلاث قبله؛ لأن الباقي مما قبل إن كان لونا أو رائحة لم يتأت نزعه، وتقدم أنه لا شيء فيه؛ وفي كلام الخرشي نظر، وإن كان جرما ففيه الفدية قل أو كثر؛ إذ فيه إتلاف الطيب بعد الإحرام، وأما ما ألقته عليه الريح من الطيب، أو ألقاه عليه غيره، فإنه يجب نزع يسيره فورا، كما يجب نزع كثيرة فورا، فلا فرق

(1)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:728. والبخاري، كتاب الحج، الحديث: 1536. مسلم، كتاب الحج، الحديث:1180.

ص: 636

بين الكثير واليسير فيهما، وإنما يفرق بين اليسير والكثير في مسألة خلوق البيت، فالكثير يجب نزعه فورا ويخير في اليسير، فإن شاء نزعه وإن شاء تركه، فصح أن قوله:"وخير في نزع يسيره"، خاص بمسألة الخلوق، وهو الذي قاله الحطاب والتتائي وارتضاه ابن عاشر والرماصى، وجعله الأجهوري وعبد الباقي وأحمد راجعا لمسألتي الخلوق والباقي مما قبل الإحرام، وجعله الشيخ سالم راجعا للمسائل الثلاث، أعني الباقي مما قبل الإحرام، والصيب من الإلقاء، والمصيب من الخلوق. وذلك كله غير ظاهر، والصواب أنه خاص بمسألة الخلوق كما مر.

وتحصل مما مر أن المصيب مما ألقته الريح أو شخص غير المحرم يجب نزعه فورا، فإن تراخى فالفدية قل أو كثر، وكذا يجب نزع الباقي مما قبل الإحرام إن كان جرما قل أو كثر، وتقدم أن فيه الفدية، وأن المصيب من يسير خلوق البيت يخير في نزعه وتركه، وأشار إلى الكثير منه بقوله: وإلا، مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإن لا يكن المصيب من خلوق البيت يسيرا بل كان كثيرا، فإنه يجب عليه نزعه فورا، فإن نزعه فورا فلا شيء عليه، فإن تراخى في نزعه لزمته الفدية، كما قال: افتدى إن تراخى؛ أي فإن كان المصيب من خلوق البيت كثيرا لزمته الفدية بشرط أن يتراخى في نزعه، واحترز بذلك عما لو نزعه فورا فإنه لا فدية عليه كما عرفت. والله سبحانه أعلم.

وعلم مما قررت أن قوله: "وإلا افتدى إن تراخى"، خاص بمسألة الخلوق، كما أن قوله:"وخير في نزع يسيرة"، خاص بها، ثم ما ذكره المصنف من لزوم الفدية في الكثير من الخلوق إن تراخى في نزعه ضعيف، والمذهب أنه لا فدية فيه، ولهذا قال الرماصي: إنما يؤمر بالغسل أي ندبا، ولا قائل بالفدية إلا ما يؤخذ من ظاهر كلام ابن وهب، وفي المدونة: ولا شيء عليه فيما أصابه من خلوق الكعبة. انتهى. والخلوق من الطيب المؤنث، لكن عفي عنه للضرورة، ومفهوم قوله:"تراخى"؛ أنه لو لم يتراخ لا فدية عليه، فإن قدر على إزالته بمجرد صب الماء فحسن، وإن لم يقدر على نزعه إلا بمباشرة بيده فعل، وإنما لم تكن عليه الفدية مع الفور لأنه فعل ما أمر به، (وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمخ بالخلوق بغسله ولم يذكر فدية

(1)

)، وقوله: "وإلا

(1)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:728. والبخاري، كتاب الحج، الحديث: 5136. ومسلم، كتاب الحج، الحديث:1180.

ص: 637

افتدى إن تراخى"، قال في الطراز: فإن تعذر عليه الماء ليغسل به بدنه أو ثوبه الذي لا يجد غير وطال ذلك، جرى على قولين فيمن ذكر لمعة كان نسيها في وضوئه وبعد منه الماء، قال: وعندي أنه ها هنا يفتدي؛ لأنه قادر على إزالة الطيب من غير ماء، إذ لو أزاله ببوله لأجزاه في باب الإزالة، ويكون حامل نجاسة يغسلها إذا وجد الماء، فجهله ذلك لا ينفعه في حمل الطيب. انتهى.

كتغطية رأسه نائما. تشبيه في وجوب الفدية مع التراخي وعدمه بعدمه؛ يعني أن المحرم إذا غطى رأسه وهو نائم أو غطاه غيره وهو نائم، فإنه إذا انتبه يجب عليه نزعه عاجلا فإن نزعه عاجلا، فلا شيء عليه، وإن تراخى بعد انتباهه في نزعه فإنه تجب عليه الفدية، هذا حكم المحرم المغطي رأسه هو أو غيره، وأما المغطي رأس غيره فسيأتي الكلام عليه قريبا إن شاء الله تعالى، وقوله:"كتغطية رأسه": عورضت هذه المسألة بمسألة من غطى رأسه ساهيا، وبكون من انقلب في نومه فقتل فراخ صيد، فإن الجزاء واجب فيهما، وأجيب عن الأول بأن الساهي ينتفع دون النائم، فإنه لا ينتفع، وعن الثاني بأن هذا من باب الإتلاف لا من باب الترفه، كما لو تدحرج نائم على طيب. ولو تقلب في نومه على نؤرة فانحلق رأسه افتدى لبقاء أثره بعد اليقظة بخلاف ما يزول بإفاقته.

ولا تُخَلَّق أيام الحج؛ يعني أنه يكره أن تخلق الكعبة أيام الحج لكثرة ازدحام الطائفين، ليلا يؤدي إلى أن الطائف يستعمله. قاله الخرشي. وبقاء العطارون فيها. أي في أيام الحج من المسعى؛ يعني أنه يستحسن أي يندب أن يقام العطارون في أيام الحج من السعى؛ أي من موضع السعي بين الصفا والمروة، وتخصيصه ما بين الصفا والمروة بالذكر لأن الطيب كان يباع هناك، وإذا تجر المحرم في الطيب ولم يباشره جاز. قاله الخرشي. وافتدى الملقي الحل؛ يعني أن المحرم إذا كان نائما وألقى عليه شخص حل ثوبا أو ألقاه على رأسه أو ألقى عليه أي على المحرم طيبا مؤنثا، فإنه تلزم الملقي لما ذكر الفدية، إن لم تلزمه؛ أي المحرم الفدية؛ بأن نزع ما ألقي عليه عاجلا حين انتبه، فالضمير البارز عائد على المحرم، والمستتر عائد على الفدية، ومفهومه أنه لو لزمت المحرم الفدية بأن لم ينزع ما ذكر بعد انتباهه في الحال لما لزم الحل الملقي

ص: 638

فدية، وقوله:"وافتدى الملقي الحل" الخ، سواء ألقى يسيرا أو كثيرا؛ لأن قوله:"وخير في نزع يسيره"، خاص بالمخلوق كما مر، فإن المصيب من إلقاء الغير أو الريح يجب نزعه قل أو كثر، فإن تراخى افتدى كما مر، وقوله:"الملقي"، ظاهره سواء ألقاه عليه مما أصابه من خلوق الكعبة وهو يسير وهو ظاهر؛ لأن كلامهم السابق يدل على أنه يعفى عنه لضرورة اللصوق بالبيت الشريف، لا مطلقا وإن ألقاه الغير.

بلا صوم؛ يعني أن الحل الملقي إذا لزمته الفدية فإنها تكون بغير الصوم؛ لأنه نائب عن المحرم، ولا يصح الصوم عن أحد لأنه من الأعمال التي لا تقبل النيابة، وإنما يخير بين أن يذبح شاة تجزئ ضحية، وأن يطعم ستة مساكين يدفع لكل مسكين مدين كما يأتي، وقوله:"بلا صوم"، متعلق "بافتدى"؛ أي وافتدى بغير الصوم من صدقة أو نسك، فإن قيل: الفدية لازمة للملقي الحل بطريق الأصالة، بدليل أنها لا تلزم المحرم إلا إذا عجز الحل عنها، وحينئذ فَلِم لَمْ يَفْتَدِ بالصوم؟ فالجواب أنها: لما كانت تلزم المحرم ابتداء في حالة، وكان إذا عجز الملقي يفتدي ولو بالصوم كما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى، دل ذلك على أنها ليست على الملقي أصالة، بل بطريق النيابة.

وإن لم يجد فليفتد المحرم؛ يعني أنه إذا لم يجد الملقي الحل ما يفتدي به، فإن المحرم يفتدي ولو بالصوم نظرا إلى أنها كفارة عن نفسه، وقوله:"فليفتد المحرم"؛ أي وجوبا، وقيل: ندبا، قال الخرشي: والأول هو الراجح، قال محمد بن الحسن: انظر من أين له ترجيح الأول، وقد رأيت ما لابن يونس وعبد الحق. انتهى. قوله: وقد رأيت ما لابن يونس وعبد الحق؛ يعني بذلك ما نقله عند قوله: "وإن لم يجد فليفتد المحرم"، ونصه: هذه عبارة ابن المواز؛ إذ قال: وإن كان الفاعل عديما أو لم يقدر عليه فليفتد هذا المحرم عن نفسه، قال في التوضيح: وظاهره الوجوب. ابن يونس: وهذا على رأيه فيمن أكره زوجته وهو معدم أن عليها أن تحج قابلا وتهدي، وتتبعه بالأقل من ثمن الطعام والنسك، ولابن القاسم في العتبية: أن الزوج إذا كان عديما وهي ملية ليس عليها هي حج، فعلى هذه الرواية ليس على النائم الطيب إذا كان الفاعل عديما فدية؛ لأن الفدية إنما تعلقت بغيره وهذا أبين. انتهى. ونحوه لعبد الحق. انتهى.

ص: 639

(كأن حلق رأسه) تشبيه في أنه يفتدي بغير الصوم، وفي أن الفدية تلزم المحرم إذا لم يجد الحالق ما يفتدي به، والضمير في "رأسه"، عائد على المحرم، والضمير المستتر في حلق عائد على الحل من قوله:"وافتدى الملقي الحل"، فهو عائد على الصفة من دون الموصوف؛ يعني أن الحلال إذا حلق رأس المحرم بلا إذن كما لو حلقه نائما أو مكرها؛ فإن الحلال تجب عليه الفدية فيفتدي بغير الصوم، فإن لم يجد الحالق ما يفتدي به فليفتد المحرم ولو بالصوم. (ورجع بالأقل) يعني أنه إذا لم يجد كل من الحالق والملقي الحل ما يفتدي به، فإن المحرم يفتدي في المسألتين كما عرفت، فإذا افتدى المحرم فإنه يرجع على الملقي الحل أو الحالق بالأقل من قيمة النسك وكيل الطعام وثمنه كما سبق في الصوم، وقد مر تحريره هناك فراجعه إن شئت، ومحل رجوعه بما ذكر (إن لم يفتد بصوم) يعني أن محل رجوع المحرم على الملقي الحل أو على الحالق إنما هو إذا افتدى بغير الصوم من صدقة أو نسك، وأما إن افتدى المحرم بالصوم فإنه لا رجوع له على واحد منهما بشيء، لا على الملقي الحل ولا على الحالق.

وعلم مما قررت أن قوله: "ورجع بالأقل"، راجع لمسألتي الملقي والحالق، قال عبد الباقي: ثم رجوعه عليه بالأقل حيث أعسر الملقي أو الحالق أو أيسر وأذن للمحرم، وكذا إن لم يأذن كما هو ظاهر الشيخ سالم، وهو الموافق لما ذكروه في الصوم عند قول المصنف:"وإن أعسر كفرت ورجعت" الخ من أن مثله إذا كفرت مع يسره، وبه سقط ما عساه يقال: هو في هذه الحال متبرع. انتهى. قوله: وكذا إن لم يأذن الخ، فيه نظر وجعلهم موضوع المسألة إذا كان الفاعل عديما أو لم يقدر عليه كما في عبارة ابن المواز وغيره يأبى ذلك، وقوله: وهو الموافق لما ذكروه الخ، لم أر من ذكره في الصوم ولا هنا، وإنما ذكره الزرقاني هناك غير معزو كما ذكره هنا، والظاهر خلاف ما ذكره. والله أعلم. قاله محمد بن الحسن بناني. وعبارة ابن المواز: وإن كان الفاعل عديما أو لم يقدر عليه فليفتد هذا المحرم عن نفسه.

وعلى المحرم الملقي فديتان؛ يعني أن المحرم إذا ألقى على محرم طيبا فإنه يجب على المحرم الملقي فديتان، فدية لمسه الطيب وفدية لتطييبه، وهذا حيث لا فدية على المفعول به بأن لم يتراخ، أما لو تراخى المفعول به المحرم في نزع الطيب عن نفسه فإنه تلزمه الفدية: وليس على

ص: 640

الفاعل حينئذ إلا فدية واحدة لمسه الطيب، فقوله:"وعلى المحرم" الخ، هذا إذا مس الطيب ولم تلزم الفدية الملقى عليه، فإن لم يمس ولزمت الملقى عليه فلا شيء على الملقي، وإن مس ولزمت الملقى عليه فعلى الملقي فدية واحدة، وكذا إن لم يمس ولم يلزم المُلْقَى عليه فدية.

والحاصل أن الصور أربع: صورتان فيما إذا مس الملقي طيبا لزمت الملقى عليه فدية أم لا، وصورتان فيما إذا لم يمس كذلك فيلزم الملقى بكسر القاف فديتان في صورة واحدة، وهي ما إذا مس الملقي ولم تلزم الآخر فدية، فإن لزمت الآخر فعلى كل فدية واحدة وإن لم يمس الملقي طيبا فإن تراخى الآخر فعليه فدية ولا شيء على الملقي، وإن لم يتراخ فلا فدية عليه بل على الملقي فدية واحدة. والله سبحانه أعلم. وإنما لزمت الملقي في حالة عدم مسه وعدم لزومها للملقى عليه؛ لأنه كإلقاء الحل على محرم حيث لم تلزم المحرم فدية بأن نزعه عنه فورا، وقوله:"وعلى المحرم الملقي فديتان"، هو قول القابسي، وصوبه ابن يونس، وقال ابن عبد السلام: وهو الصحيح، وقال سند: هو أظهرت وإلى تصويب ابن يونس لقول القابسي أشار بقوله: على الأرجح؛ ومقابله قول ابن أبي زيد: ليس على الملقي المحرم إلا فدية واحدة، ولا يقال صوابه تردت كما قال التتائي؛ لأن اصطلاحه إن قال تردد فقد أشار به لتردد المتأخرين، لا

(1)

أن كل ما اختلفوا فيه عبروا عنه به. انظر حاشية بناني. والله سبحانه أعلم.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: علم مما مر أن تغطية رأس المحرم لا فرق فيها بين أن تكون من حلال أو محرم آخر. والله سبحانه أعلم. وعلم منه أيضا أن المحرم إذا ألقى على حل طيبا فإن الملقيَ تلزمه فدية إن مس الطيب، وإلا فلا. والله سبحانه أعلم. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.

وإن حلق حل محرما بإذن فعلى المحرم؛ يعني أن الحلال إذا حلق رأس المحرم بإذن من المحرم ولو حكما كرضاه بفعله، فإن الفدية تكون على المحرم المحلوق، ظاهره: ولو أعسر، وإلا؛ أي وإن حلق حل رأس محرم بغير إذنه، بأن حلقه والمحرم نائم أو مكره، فإن الفدية تكون عليه؛ أي على الحلال الحالق، وهذا تكرار مع قوله فيما مر "كأن حلق رأسه"، قال عبد

(1)

لفظ البناني لا أنه كلما اختلفوا عبر به ج 2 ص 301.

ص: 641

الباقي: وأعادها لكونها مفهوم قوله هنا: "بإذن". انتهى. ودفع الحطاب التكرار بأن ما هنا بَيَّنَ موضع لزومها للمحرم وموضع لزومها للحلال، وما مر بَيَّن أن حكم الحالق إذا لزمته هو حكم الملقي طيبا. ابن عاشر: وهذه محاولة لا تتم إذ لا مانع من جعل التشبيه تاما حتى يستفاد منه المعنى المفاد هنا. قاله محمد بن الحسن بناني. وفي الحطاب عن سند: المحرم ممنوع من قص أظفاره من غير ضرورة، وكما منع من ذلك منع غيره أن يشاركه في ذلك من حل أو محرم، ومن قصه له بإذنه فالفدية على المفعول كما قلنا في حلاق رأسه، وإن فعله من غير إذن، فإن كان نائما أو مكرها فالفدية على من فعل ذلك، وإن كان غير نائم ولا مكره ولم يأمر بذلك إلا أنه ساكت حتى قصت أظفاره وحلق شعر رأسه ولو شاء لامتنع فالفدية عليه. انتهى.

وإن حلق محرم رأس حل أطعم؛ يعني أن المحرم إذا حلق شعر الحلال من محل تيقن نفي القمل منه كساقه، أو أزال عنه أذى كقلم ظفر فإنه لا شيء عليه، فإن حلق شعره من محل لا يتيقن منه نفي القمل، فإنه يلزمه أن يطعم لاحتمال أن يكون قتل في حلقه قملا.

وعلم مما قررت الفرق بين هذه المسألة وبين ما مر عن ابن عرفة من أن المحرم لا شيء عليه إذا قلم ظفر حلال؛ إذ الظفر لا يحتمل أن يكون فيه دواب تقتل عند التقليم، وقوله:"أطعم"، هو قول ابن القاسم، وقال مالك يفتدي، اختلف الشيوخ هل قول الإمام موافق لقول ابن القاسم؟ وعليه فالمراد بقول الإمام: يفتدي، غير حقيقة الفدية، بل المراد بالفدية حفنة من طعام، وإليه ذهب التونسي، قول الإمام مخالف لقول ابن القاسم؛ وعليه فالمراد بقول الإمام: ويفتدي فدية على الحقيقة من صيام ثلاثة أيام أو صدقة أو نسك بشاة فأعلى وهو للباجي واللخمي وبعض البغداديين. فقوله: تأويلان؛ مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك تأويلان، وقد علمت أهل التأويلين، والمراد بالحفنة هنا ملء يد واحدة، وإن كان المراد بها في اللغة ملء اليدين، وينبغي أن يراعى في اليد هنا اليد المتوسطة. قاله عبد الباقي. وفي الحطاب: وإن قتل قملا كثيرا فعليه الفدية. انتهى. قال محمد بن الحسن: وهو يقتضي أن محل التأويلين إذا قتل قملا قليلا، وليس كذلك؛ لأن أصل هذا التفصيل للخمي وسند، وهما جعلا محل الخلاف إذا قتل قملا كثيرا، زاد سند: أو لم يتحقق شيئا، ونص سند إذا حلق المحرم رأس حلال، فإن تبين له أنه لم يقتل شيئا من الدواب

ص: 642

فلا شيء عليه في المعروف من المذهب، وإن قتل يسيرا أطعم، وكثيرا أو لم يثبت أو لم يدر مَا ثَمَّ فقال مالك: يفتدي، وقال ابن القاسم: يطعم. انتهى. نقله التتائي في الكبير. وهذا التفصيل مبني على تعليل الفدية بقتل القمل، وهو قول عبد الوهاب وسند واللخمي، وذهب البغداديون إلى تعليلها بالخلاف، وإليه ذهب ابن رشد، وعليه فلا فرق بين أن يقتل قملا كثيرا أو قليلا، أو يتحقق نفيه، وعلى الإطلاق حمل السنهوري كلام المؤلف بناء على أن التعليل بالحلاق، وصوبه مصطفى وهو غير ظاهر، والصواب حمله على التفصيل لتعليل ابن القاسم بقتل القمل كما في ابن الحاجب، ولقول المصنف بعد إلا أن يتحقق نفي القمل، ولما تقدم عن سند من أنه المعروف من المذهب، ولقولهم في تقليم المحرم ظفر حلال إنه لا شيء عليه، قال في التوضيح: وهو يرجح من تأول أن الفدية للقمل لا للحلق؛ إذ لو كانت للحلق لوجبت هنا الفدية. انتهى. وهو ظاهر. انتهى. كلام بناني رحمه الله تعالى.

ومفهوم قوله: "حلق محرم رأس حل أطعم"، أنه لو حلق محرم رأس محرم آخر فإن حلقه بغير رضاه، فالفدية على الحالق، وكذا برضاه وتحقق قتل القمل وكان كثيرا فيكون على الحالق فدية، وعلى المحلوق فدية وقيل على الحالق حفنة كما مر؛ إذ هذا من محل الخلاف السابق، وأما برضاه وتحقق نفي القمل فالفدية على المحلوق فقط، وأما برضاه وشك في قتله، فقد مر عن سند أنها من محل الخلاف بين الفدية والإطعام، ولو تحقق القتل وكان يسيرا فعلى المحلوق الفدية وعلى الحالق حفنة، وقيل: فدية كما مر. انظر حاشية الشيخ بناني. قال عبد الباقي بعد أن ذكر المواضع التي تكون فيها الفدية على المحلوق ما نصه: ثم ما على المحلوق رأسه واضح حيث أيسر، فإن أعسر فانظر هل تبقى في ذمته أو تكون على الحالق ويرجع بها على الآخر؟ وكذا يقال فيما إذا كانت على الحالق وأعسر. انتهى. ثم ذكر مفهوم قوله المار:"وتقليم ظفر انكسر" بقوله: وفي الظفر الواحد لا لإماطة الأذى حفنة، مبتدأ وخبره المجرور بفي، وقوله:"لا لإماطة"، معطوف على مقدر تقديره لغير إماطة الأذى؛ يعني أن المحرم إذا قلم واحدا من أظفاره، فإن فعل ذلك لغير إماطة أذى، بل قلم ظفر نفسه عبثا أو ترفها فعليه حفنة، وأما لإماطة الأذى ففدية، وقد مر أن الحفنة ملء اليد الواحدة، وينبغي أن يراعى فيها اليد

ص: 643

المتوسطة؛ وقولي: أو ترفها، قال عبد الباقي: كما هو ظاهر الحطاب، قال: وعلى ما للحطاب يستثنى ذلك من قوله الآتي: "والفدية فيما يترفه به"، ومفهوم قوله:"الواحد"، أن ما زاد على الواحد فيه الفدية، سواء كان لإماطة الأذى أم لا، وإذا أبان واحدا وآخر فإن أبانهما في فور ففدية، وإلا ففي كل واحد حفنة إن أبان الثاني بعد ما أخرج ما وجب في الأول، وإلا ففدية قياسا على ما للحطاب في تعدد الفدية، وينبغي أن يجري مثل هذا فيما إذا قتل قملة وأخرى ونحوها، وأراد المصنف "بالظفر الواحد": ظفر نفسه، وأما ظفر غيره فلا شيء على المحرم في قلم ظفره حيث كان حلا، فإن قلم ظفر محرم مثله جاهلا أو ناسيا، أو قلم له بأمره لافتدى المقلوم ظفره كما في المدونة والذخيرة، وإن فعل به نائما أو مكرها فالفدية على الفاعل من حلال أو حرام.

كشعرة أو شعرات؛ التشبيه في إطعام حفنة من طعام؛ يعني أن المحرم إذا أزال شعر من جسده أو شعرات قليلة لا لإماطة الأذى فإنه يطعم حفنة من طعام، ومر أنه إذا سقط شيء من شعره لوضوء أو ركوب أو نزول أو غسل وما أشبه ذلك، فإنه لا شيء عليه، وكذلك لا شيء عليه إذا أزال وسخ نفسه، أي الوسخ الذي على بدنه، وقوله:"أو شعرات"، جمع قلة عشرة فدون، ومر أنما لغير إماطة الأذى؛ وأما لإماطة الأذى ففدية كما لو كثر بأن زاد على عشرة، فالتشبيه تام.

وقملة أو قملات؛ يعني أن المحرم إذا قتل قملة واحدة أو قملات يسيرة عشرة فدون، فإنه يلزمه إطعام حفنة من طعام، وقوله:"وقملة"، على حذف مضاف؛ أي وقتل قملة، ومثل قتل القمل طرحه لتأديته إلى القتل، وإلى ذلك أشار بقوله: وطرحها؛ بالجر عطف على قتل المقدر، وقوله:"وقملة أو قملات"، سواء قتلها لإماطة الأذى أو غيره، وفي التوضيح: لا يعلم قول في المذهب بوجوب الفدية في قملة أو قملات. انتهى. وقال في التوضيح في قول ابن الحاجب: أما لو نتف شعرة أو شعرات أو [قتل]

(1)

قملة أو قملات أطعم حفنة بيد واحدة كذا في المدونة، وفي الموازية: قبضة، وهي دون الحفنة. انتهى كلامه في التوضيح. قاله الحطاب.

(1)

ساقط من الأصل، والمثبت من التوضيح ج 3 ص 90.

ص: 644

وقال سند في شرح كلامه في المدونة: أما قوله: حفنة في القملة والقملات، فلأن ذلك أفضل مما قتل ويجزئ من كل شيء يطعم، وفي منسك ابن فرحون قال مالك: والحفنة كف واحدة وهي القبضة، وقال بعضهم: والقبضة أقل من الكف. انتهى. قاله الحطاب. وقد مر أن قوله: "وطرحها"، بالجر عطف على قتل المقدر، وجعله الشارح مبتدأ حذف خبره؛ أي وطرحها كذلك، وهذا مبني على جواز القطع عن العطف إلى غيره، وقد تعرض الرضي لهذه المسألة في آخر باب العطف، وحاصل ما عنده فيها أنه: يجوز القطع عن العطف إلى غيره إن كان المعنى الأصلي يفهم مع ذلك من غير لبس، ويمنع إن حصل لبس. قاله أحمد. قاله عبد الباقي.

كحلق محرم لمثله موضع الحجامة، تشبيه في وجوب الحفنة؛ يعني أن المحرم إذا حلق موضع الحجامة من محرم آخر بإذنه فإنه تجب على الحالق حفنة من طعام، وعلى المحلوق الفدية. إلا أن يتحقق نفي القمل؛ يعني أن محل لزوم الحفنة للحالق إنما هو إذا لم يتحقق نفي القمل، وأما إن تحقق نفي القمل فلا شيء عليه وعلى المحلوق الفدية، فالفدية عليه في المسألتين أي فيما بعد الاستثناء، وفي المستثنى منه لحلقه قبل التحلل، وكلام المؤلف شامل لما إذا فعل المحلوق ذلك لضرورة وغيرها، وقد مر الكلام على حلق المحرم رأس المحرم بأتم مما هنا عند قوله:"وهل حفنة أو فدية تأويلان"، فراجعه إن شئت.

وتقريد بعيره؛ يعني أن المحرم إذا قَرَّدَ بعيره؛ أي أزال عنه القراد ولم يقتله فإنه يطعم حفنة من طعام؛ لأنه عَرَّضَه للقتل، وأحرى بعير غيره، فنص على المتوهم؛ لأنه يتوهم أن بعيره لما كان يحتاج إليه والقراد يضعفه لا شيء عليه في تقريده، وأما إن قتل القراد فعليه فدية في كثيرة وحفنة في قليله، ومثل القراد فيما ذكر سائر ما يتولد من جسد البعير، وتعيش فيه كالحلم والحمنان، وفي الخرشي أن دواب البعير المتولدة منه يستوي طرحها عن الدواب وقتلها، كما يستوي ذلك في هوام الإنسان كالقمل، ففي قتلها حفنة إلا الكثير ففيه فدية وهو التحقيق، ويتحصل من كلام غير واحد هنا أنه إذا قتل القراد أطعم في اليسير وافتدى في الكثير. قاله مالك، وقال ابن القاسم: يطعم في اليسير والكثير، ومحل القولين حيث قتل القراد كما قررت، وأما إذا طرحه ولم يقتله فلا خلاف أنه يطعم فقط، وذكر الحطاب والمواق عن المدونة أنه يطعم في طرحه،

ص: 645

وفيه عن الشامل ما نصه: وله طرح برغوث ولا شيء في قتله؛ وقيل يطعم كقتل النمل والعلق والوزغ وإن لدغته، وقراد بعيره ونحوه على المشهور لا طرح ذلك. انتهى. وفيه عن سند: الهوام على ضربين ضرب مختص بالأجسام ومنها يعيش، فلا يقتله المحرم ولا يميطه عن الجسد المختص به إلى غيره، فإن قتله أطعم، وكذا إن طرحه. وضرب لا يختص بالأجسام كالنمل والذر والدود وشبهه، فإن قتله افتدى، وإن طرحه فلا شيء عليه؛ إذ طرحه كتركه. انتهى. فالحلمة والقراد والحمنان جنس واحد ليس هو من هوام الآدمى، وإنما هو من هوام الدواب يسمى صغيرا قمنانا، فإذا زاد قليلا قيل حمنان، فإذا زاد قيل قراد، فإذا زاد قيل حلمة، فهذا يطرحه المحرم عن نفسه لا يختلف فيه، وهل يطرحه عن غيره؟ يختلف فيه. انتهى. وإذا نقل الآدمي ما يختص به كالقمل من مكان من جسده أو ثوبه إلى مكان آخر منهما فلا شيء عليه، ويجري مثل ذلك فيما ينقله الآدمي من جسد بعيره من محل لآخر منه، وكذا سائر الدواب.

لا كطرح علقة؛ يعني أن المحرم إذا طرح العلقة عنه أو عن بعيره فلا شيء عليه، والكاف داخلة على علقة: ومعنى كلام المصنف أن الهوام على ضربين: ضرب يختص بالجسد ويتولد عنه ويعيش فيه كالقمل والقراد للدواب، فلا يقتله المحرم ولا يزيله عن الجسد المختص به إلا أن يكثر فيميطه عند مالك ويفتدي في الكثير ويطعم في اليسير. ابن القاسم: في الكثير واليسير الإطعام. وضرب لا يختص بذلك كالنمل والدود والبراغيث والبق والبعوض والذباب، فللإنسان طرحه عن جسده، وكذا طرحه عن جسد القراد والحلم والحمنان والقمنان لا القمل كما مر، فإن ابتدأ شيء من ذلك بالضرر فقتله، فقال في محرم لدغته ذرة فقتلها وهو لا يشعر: أرى أن يطعم، وكذلك النملة، يريد: لأن ضررها يسير وطرحها يدفع أذاها، وأما القراد والحلم والحمنان فمن دواب البعير فلا يلقيه المحرم لأن ذلك سبب هلاكه إلا أن يضر بالبعير فيزيلها ويطعم. أو برغوث؛ يعني أن المحرم إذا طرح البرغوث عن نفسه أو عن دابته فإنه لا شيء عليه وكذا القرادت وأما قتلهما ففيه فدية إن كثر لا إن قل، وفي الشامل: وله طرح برغوث ولا شيء في قتله. انتهى. والفدية فيما يترفه به؛ يعني أن الفدية المنصوص عليها في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} سببها منحصر في أمرين؛ أحدهما الترفه، ثانيهما أشار إليه بقوله: أو يزيل

ص: 646

أذى؛ يعني أن إماطة الأذى مما يوجب الفدية على المحرم، وتحقيق كلام المصنف أن كل شيء فعله المحرم مما يحصل له به الترفه أو يزيل به أذى عن نفسه تلزمه الفدية بسببه، ومثل لذلك بقوله: كقص الشارب؛ يعني أن المحرم إذا قص شاربه فإنه تلزمه الفدية، وقوله:"كقص الشارب"، قال عبد الباقي عن التتائي إنه مثال للأول، وفيه أي عبد الباقي ما نصه: وفي المواق عن ابن شأس: أنه مثال للثاني والأظهر صلاحيته مثالا لهما. انتهى. أو طفر؛ يعني أن الفدية تلزم في قلم الظفر.

وتحصل من كلام المصنف في قلم الظفر أنه له ثلاثة أحوال: قلم المنكسر لا شيء فيه، قلمه لا لإماطة أذى فيه حفنة، قلمه لإماطة أذى فيه فدية، وما يترفه به هو الذي يكون لا لإماطة أذى، وقوله:"وقص ظفر"، مثال لإماطة أذى؛ إذ هو الذي فيه الفدية إذا كان واحدا، وأما إن تعدد ففيه الفدية كان لإماطة أذى أم لا، فيصح جعله مثالا بشرط أن يتعدد، ولما كان الشارب واحدا أتى به المصنف معرفا، ولما كان الظفر متعددا أتى به منكرا، وقوله:"كقص الشارب أو ظفر"، وكذا تلزمه الفدية أيضا إذا حلق عانته أو نتف إبطه أو أنفه.

تنبيه: قال بناني: لم يبين ابن القاسم ما هي إماطة الأذى، وجعلها الباجي على وجهين، أحدهما أن يَقْلَقَ من طول ظفره فيقلمه وهذا أذى معتاد، والثاني أن يريد مداواة جرح بإصبعه ولا يتمكن منها إلا بذلك. انتهى. ونقله الحطاب عن سند عن الباجي، وقوله:"والفدية فيما يترفه به أو يزيل أذى"، وأولى لو اجتمعا، وفي نسخة بالواو وهي بمعنى: أو. وقتل قمل كثر عطف على قوله: "قص"؛ يعني أن الشخص إذا قتل في حال إحرامه قملا كثيرا، بأن زاد على عشرة وما قاربها تلزمه الفدية ولو في غسل تبرد لا في غسل جنابة فلا فدية ولو كثر. قاله ابن القاسم. ومثل الجنابة الحيض والنفاس، وكذا غسل مسنون أو مندوب كما مر استظهاره، وأما قتله في تبرد مثل الواحد فيطعم تمرات أو قبضات من سويق أو كسرات، وقوله:"وقتل قمل كثر"، هو قول مالك، قال في البيان: ورآه من إماطة الأذى، وقال ابن القاسم: يطعم كسرة، ومثل قتله طرحه كما مر.

ص: 647

وخضب بحناء؛ يعني أن المحرم تلزمه الفدية إذا خضب بالحناء رأسه أو لحيته أو جسده، والحناء بكسر الحاء وتشديد النون. قاله الخرشي. وهو مصروف كما لعبد الباقي، وعبارة عبد الباقي: وخضب لرأسه أو لحيته أو غيرهما كجرح أصابعه، وقوله:"وخضب بكحناء"، مثال صالح للأمرين؛ لأنه يطيب الرأس ويفوحه ويقتل دوابه ويرجل شعره ويزينه، وتجب الفدية بدون هذا، ودخل بالكاف الوسمة بكسر السين وتسكينُها لغة نبت من شجرة كالكزبرة يدق ويخلط مع الحناء من الوسامة وهي الحسن؛ لأنها تحسن الشعر وتجب الفدية ولو نزعه مكانه.

وإن رقعة؛ يعني أن المحرم إذا خضب بالحناء فإنه تلزمه الفدية: ولا فرق في ذلك بين أن يعم العضو بالحناء وأن لا يعمه به فتلزمه الفدية، ولو كانت الحناء رقعة بشرط أشار إليه بقوله: إن كبرت؛ يعني أن الرقعة إنما تكون فيها الفدية إن كبرت بأن كانت قدر الدرهم، قاله الأجهوري. وأفهم قوله:"وخضب"، أنه لو جعلها في فم جرح أو استعملها في باطن الجسد كما لو شربها أو حشا بها شقوقا، فلا شيء عليه ولو كثرت، واحترز بقوله:"كبرت"، عما لو صغرت فإنه لا شيء عليه فيها، وحكم المحرمة تخضب يدها أو رجلها أو رأسها بحناء حكم الرجل في الفدية. قاله في المدونة. والرقعة في الأصل واحدة الرقاع التي تكتب والخرقة.

ومجرد حمام؛ بالجر، عطف على ما تلزم فيه الفدية؛ يعني أن المحرم تلزمه الفدية بمجرد صب الماء الحار عليه من الحمام؛ لأنه مظنة إزالة الوسخ، سواء تدلك أم لا، سواء أنقى من الوسخ أم لا ولو لجنابة، هذا هو المختار عند اللخمي من روايات ثلاث، كما قال: على المختار؛ الثانية إن تدلك، الثالثة إن تدلك وأنقى، وأما مجرد دخول الحمام من غير غسل بل لتدف فجائز ولا فدية فيه، قال عبد الباقي عند قوله وأسقط من كلامه تقييده بجلوسه فيه حتى يعرق. انتهى. قوله: وأسقط؛ يعني المصنف، وقوله: من كلامه؛ أي اللخمي كما في الخرشي. والله سبحانه أعلم. وأما مجرد صب الماء البارد فيه فلا فدية فيه، وما تقدم من أنه لا فدية في قتل قمل بجنابة وما في حكمها ولو كثر محمول على غسل بغير حمام ولو بمسخن أو به بماء بارد.

ص: 648

واعلم أن ما اقتصر عليه المصنف خلاف مذهب المدونة من أنه إنما تجب الفدية على داخله إذا تدلك وأنقى الوسخ، فعلى المصنف الاعتراض في عدوله عن مذهبها ومشيه على ما للخمي، واعتذر عنه الشارح بأنه اقتصر عليه لاختيار غيره من الأشياخ لما اختاره.

واعلم أن الأصل تعدد الفدية بتعدد موجبها إلا في أماكن ذكرها بقوله: واتحدت إن ظن الإباحة؛ يعني أن الفدية تتحد في أماكن أربعة، وإن كان الأصل أنها تتعدد بتعدد الوجب، الأَوَّلُ أن يفعل الوجب الثَّانِيَ مثلا ظانا أنه يباح له فعله أو جاهلا بالحكم أو ناسيا له، كما إذا لبس مُحِيطًا مثلا فلزمته الفدية ثم لبسه ثانيا ظانا أن فعله الثاني لا يوجب غير ما أوجبه الأول، وسواء كان الفعل الثاني على الفور من الأول أو على التراخي منه فليس عليه في ذلك كله إلا فدية واحدة، وكالمعتمر يطوف على غير وضوء ناسيا ثم يلبس الثياب، فإنما عليه فدية واحدة، وإن تكرر ذلك منه، قال فيها: ومن أفسد حجه بجماع ثم أصاب صيدا وحلق من أذى وتطيب، فإن تأول أو جهل أن ليس عليه إتمام ما أفسد فلبس وتطيب وقتل الصيد مرارا عامدا لفعله يرى أن الإحرام سقط عنه فليس عليه إلا فدية واحدة، إلا في الصيد فعليه لكل صيد قتله جزاؤه. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي عند قوله:"واتحدت إن ظن الإباحة": كالذي يطوف في عمرته ثم يسعى، فيحل ويظن أنه على طهارة، فيتبين خلافه أو يظن رفض إحرامه واستباحة موانعه، أو يفسده بوطء فتأول أو جهل أن الإحرام تسقط حرمته بالفساد فيفعل متعددا، يوجب كل واحد فدية من هذه الصور الثلاث، فقول المصنف إن ظن الإباحة في شيء خاص وهو المسائل الثلاث والأولى منها لا يتصور فيها شك الإباحة، والثانية والثالثة يتصور فيهما ذلك، وظاهر كلامهم أن الفدية تتعدد فيهما في حالة الشك. انتهى.

وقال الخرشي: ومحل الاتحاد ما لم يخرج أولا ثم يظن أو ينوى التكرار فتتعدد حينئذ كما في الحطاب، وأما من ظن أن الإحرام أو أن كلا يوجب الفدية إذا انفرد وعند التعدد تجب الفدية بالأول فقط، فإن هذا لا يوجب الاتحاد.

وأشار إلى المكان الثاني بقوله: أو تعدد موجببها بفور؛ يعني أن الفدية تتحد أيضا فيما إذا تعدد موجبها وكان بفور؛ أي في دفعة واحدة كما إذا لبس وتطيب وقتل القمل وحلق الشعر دفعة من

ص: 649

غير تراخ؛ لأنه كالفعل الواحد فإن لم يكن في فور واحد أي وقت واحد تعددت، كذا يفيده ظاهر المدونة، وأقره ابن عرفة خلافا لما اقتضاه كلام ابن الحاجب، واقتصر عليه التتائي من أن اليوم فور وأن التراخي يوم وليلة لا أقل وقوله:"أو تعدد موجبها بفور"، سواء تعدد فعل ذلك في نفسه كما يفعله بعض أكابر من إحرامه ثم لبسه عقبه جميع ملبوسه، أو في غيره ولو تعمده الغير في نفسه أيضا، وتلزمهما حينئذ الفدية كما مر في قوله: وعلى المحرم الملقي فديتان، وهذا يجري في مسائل الاتحاد كلها التي ذكرها المصنف.

وأشار إلى المكان الثالث بقوله: ونوى التكرار؛ يعني أن من فعل شيئا من ممنوعات الإحرام ونوى أنه يفعله بعد ذلك ويكرره: فإن الفدية تتحد في ذلك الفعل، وإن تراخى عن الأول كأن يلبس لعذر أو يتداوى بدواء فيه طيب، وينوي في الأول أنه إذا زال عذره تجرد، فإن عاد إليه العذر عاد إلى اللبس، وفي الثاني أنه كلما احتاج إلى الدواء به فعله، ومحل النية من حين لبسه الأول. قاله سند. وهو الذي يفهم من لفظ المدونة. قاله الحطاب. ومما يتحد فيه الفدية إذا كانت نيته أن يفعل جميع ما يحتاج إليه من موجبات الفدية. قاله اللخمي. ونقله المصنف في المناسك، واستفيد من المصنف أن الفعل المكرر إن لم يكن معه نية يشترط في الاتحاد الفورية، وإن كان معه نية لا تشترط الفورية، وظاهر قوله:"أو نوى التكرار"، لو اختلف الموجب كاللبس مع التطيب. انظر المواق. قاله أحمد. فقول التتائي: أما لو تداوى لقرحة أخرى لتعددت -انتهى-. يحمل على ما إذا لم ينو مداواة الثانية عند الأولى، فيوافق ما للمواق وظاهر المصنف. قاله عبد الباقي. وكلام المصنف مقيد بما إذا فعل الموجب الثاني قبل إخراج فدية الموجب الأول وإلا تعددت، وإذا نوى التكرار لعلة وكرر، ثم زالت وخلفتها أخرى ففعل موجب الفدية أيضا من غير نية قبل ذلك لغيرها، فإنها تتعدد عليه، ويدخل في كلام المصنف ما إذا نوى أن يفعل جميع موجبات الفدية وفعل ما نواه أو متعددا مما نواه فتتحد الفدية، فالمسائل ثلاث: الأولى: أن ينوي فعل كل ما يحتاج إليه من موجبات الفدية، الثانية أن ينوي فعل موجبات الفدية ويفعل ذلك أو متعددا منه؛ الثالثة أن ينوي متعددا من موجبات الفدية معينا فلا تتعدد عليه الفدية في صورة من هذه

ص: 650

الصور الثلاث عند فعل موجب من موجبات الفدية، أو عند إرادة فعله فتتحد الفدية بنية التكرار عند الإحرام كما يفيده الحطاب والمواق وغيرهما. انظر شرح عبد الباقي.

قال محمد بن الحسن: فيه نظر، والذي يفيده الحطاب خلافه، ونصه: ومحل النية من حين لبسه الأول. قاله سند. وهو الذي يفهم من لفظ المدونة. انتهى. وإذا تعدد موجب الحفنة جرى فيه مثك ما جرى في الفدية، فتتحد إن ظن الإباحة، وفي الحطاب: وأما من لبس ثوبا ثم نزعه ليلبس غيره، أو نزعه عند النوم ليلبسه إذا استيقظ، فهذا فعل واحد يتصل في العرف ولا يضره تفرفته في الحس، قال: وقد صرح في المدونة بأن في ذلك فدية واحدة. انتهى.

وأشار إلى المكان الرابع بقوله: أو قدم الثوب على السراويل؛ يعني أنه إذا لبس متعددا كل منه موجب للكفارة وبعضُه نفعُه أعمُّ وبعضُه نفعُه أخصُّ وقدم في اللبس ما نفعه أعم على ما نفعه أخص، فإن الفدية تتحد؛ كأن يقدم في لبسه الثوب أو القلنسوة أو القميص على السراويل أو العمامة أو الجبة ففدية واحدة: إلا أن ينتفع بالسراويل أيضا لطوله أو لدفع حر أو برد به فتتعدد بلبسه؛ لأنه انتفع ثانيا بغير ما انتفع به أولا، ولو عكس فقدم السراويل على الثوب ففديتان، وإن لبس قلنسوة ثم عمامة أو بالعكس ففدية واحدة إن لم تفضل إحداهما على الأخرى، ومن ائتزر بمئزر دوق مئزر ففدية واحدة إلا أن يبسطهما ثم يأتزر بهما فلا شيء عليه كرداء فوق رداء. الشَّيخُ: في كتاب محمد، إن احتزم فوق إزاره ولو بحبل، أو ائتزر بمئزر فوق آخر افتدى إلا أن يبسطهما ليأتزر بهما، والفرق بين مسألتي المئزرين والرداءين أن الرداء فوق مثله ليس كالحزام، بخلاف إزار فوق آخر، وإن لبس قميصا وهو صحيح ثم مرض ثم صح وهو لابسه ففدية واحدة. محمد: وإن لبسه لمرض ثم صح وتمادى لابسه فعليه فديتان. يريد لأن نيته كانت أن يلبسه للمرض خاصة، وقد بَعُدَ ما بين النية الأولى والثانية، والقياسُ على أصله أن لا شيء عليه في التمادي؛ أي أن عليه فدية واحدة؛ لأنه بانقضاء المرض تمادى في اللباس فأشبه ما قرب فعل بعضه من بعض، وكذا القول في التطيب صحيحا ثم مرض، وعكسه. انظر التوضيح. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: إن تطيب وهو صحيح ثم مرض ثم صح وهو عليه ولم يغسله كان عليه على قول محمد فديتان، وإن وصف له طيب فاستعمله ثم أصاب طيبا آخر بقرب الأول ففدية

ص: 651

واحدة، وإن تباعد ما بينهما وذهبت رائحة الأول ففديتان، وكذا إن لم تذهب رائحته حتى استعمل الثاني؛ لأنه لو لم يستعمل الثاني ذهبت رائحة الأول قبل ذلك،

ولما كانت موجبات الفدية كما في توضيحه قسمين: أحدهما ما لا يقع إلا منتفعا به كحلق شعر وتطيب؛ وهذا تجب فيه الفدية من غير تفصيل،

الثاني ما لا ينتفع به إلا بعد طول فلا تجب فيه الفدية إلا بالانتفاع به،

أشار إلى الثاني بقوله: وشرطها في اللبس انتفاع من حر أو برد؛ يعني أنه يشترط في لزوم الفدية في اللبس لثوب أو لخف أن ينتفع به؛ بأن يدفع عنه حرا أو بردا، فلو لبس قميصا رقيقا لا يقي حرا ولا بردا، وتراخي وهو عليه يوما، فإنه يفتدي لأن الطول مظنة حصول الانتفاع: واحترز بقوله: "في اللبس"، عن حلق الشعر والطيب فإن فيهما الفدية من غير تفصيل؛ لأنهما لا يقعان إلا منتفعا بهما؛ لأن موجبات الفدية يشترط فيها أن يحصل بها انتفاع للمحرم، ولكن منها ما لا يقع إلا منتفعا به كحلق الشعر والطيب، فهذا فيه الفدية من غير تفصيل كما عرفت، ومنها ما لا ينتفع به إلا بعد طول كاللباس: فلا تجب فيه الفدية إلا بالانتفاع للمحرم به من حر أو برد، زاد ابن الحاجب: أو طول كيوم، فلو لبس ولم ينتفع من حر أو برد ولم يطل ذلك يوما ولا قريبا من اليوم فلا فدية عليه، ولا شك أن ما قارب اليوم كاليوم.

لا إن نزع مكانه؛ يعني أنه إذا لبس الثوب فنزعه مكانه كقياسه عليه فقط، ونزعه فإنه لا شيء عليه. وفي صلاة قولان؛ يعني أن المحرم إذا لبس المحيط من الثياب في الصلاة، فإنه اختلف في لزوم الفدية له وعدم لزومها له على قولين من رواية ابن القاسم، قال في الطراز بعد ذكره القولين رواية ابن القاسم عن مالك: فراعى مرة حصول المنفعة في الصلاة، ونظر مرة إلى الترفه وهو لا يحصل إلا بالطول، قال الحطاب: وهذا هو التوجيه الظاهر لا ما ذكره في التوضيح من أنه، هل تعد الصلاة طولا أم لا؟ لأن الصلاة ليست بطول لما تقدم. انتهى. والذي تقدم هو أن الطول كاليوم كما في ابن الحاجب وابن شأس وغيرهما. قاله محمد بن الحسن. قال: وبه تعلم أن القولين سواء طول في الصلاة أو لا: خلاف ما ذكره الزرقاني عن الشارح. انتهى.

ص: 652

وعلم مما قررت أن مفهوم قوله: "لا إن نزع مكانه"، غير معتبر؛ لأن ما دون اليوم مما لم يقارب اليوم لا يعد طولا، وفي الخرشي ما نصه: واعلم أن الذي يتحصل مما ذكرنا أن من لم ينزع ملبوسه مكانه؛ فإن نزعه بعد مدة، فإن حصل له فيها انتفاع من حر أو برد فالفدية، وإذا لم يحصل ذلك فلا إلا إذا دام لبسه كاليوم. انتهى. وفيه أيضا: وقولنا: إذا طول في الصلاة تجب الفدية اتفاقا كما يفهم من كلام الشارح، محمول على ما إذا حصل بلبسه انتفاع من حر أو برد، فإن لم يحصل بلبسه ذلك فلا، كما يفيده كلام الجواهر، وقوله:"وفي صلاة قولان"، اعلم أن الأرجح من القولين عدم الفدية كما قاله غير واحد، وفي الحطاب بعد كلام: ففيه ترجيح القول بعدم الفدية وهو الظاهر؛ إذ لم يحصل له انتفاع من حر أو برد. انتهى.

ولم يأثم إن فعل لعذر؛ يعني أن موجب الفدية لا يستلزم حصول الإثم، وإنما هو لحصول المنفعة، لكن المنفعة ربما تقع مأذونا فيها كما في ذي العذر، وربما تحرم كما في حق من لا عذر له. اللخمي: ولا يجوز لأحد أن يأتي بما يوجب الفدية اختيارا، ويكفر لأن ذلك انتهاك لحرمة الله تعالى، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} ؛ أي فاحتاج إلى مُحيط فلبسه، أو إلى دواء فيه طيب فتداوى به، ومن اعتقد أن الفدية من غير عذر تكفر الإثم فقد أخطأ في اعتقاده، كمن يقول: أنا أشرب الخمر أو أزني، وما أشبه ذلك، والحد يطهرني، فإن الحد لا يطهره من ذلك، وإثم الإقدام على ذلك باق عليه، وأمره إلى الله تعالى. قاله الخرشي. وقوله:"لعذر"؛ أي حاصل أو مترقب، فخوف العذر كاف. قاله عبد الباقي.

وَهِيَ نُسُك شاة؛ النسك مثلث النون وبضم السين وسكونها، يقال للعبادة وكل حق لله تعالى، ويقال نسيكة كسفينة، فقوله:"نسك"؛ أي منسوك به، وقوله:"شاة"، بدل أو عطف بيان، فهو مرفوع أو مجرور بالإضافة، وهي للبيان أي نسك هو شاة، وفي بعض النسخ بشاة بالباء، وقيل لثعلب، هل يسمى الصوم نسكا؟ فقال: كل حق لله تعالى يسمى نسكا، والفعل نسك كنصر وكرم، وفي التنزيل:{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} ، أي متعبداتنا، والمنسك الموضع الذي تذبح فيه النسيكة، ورجل ناسك عابد، ومعنى كلام المصنف أن الفدية هي النسك أي التعبد بشاة، أو هي شيء متعبد به وهو شاة، ويخير من خوطب بالفدية بين ثلاثة أشياء: إما أن يذبح شاة فأعلى؛ أي له

ص: 653

النسك بأعلى من شاة أي أكثر منها لحما من بقرة أو بعير، لا أن غير الشاة أفضل منها؛ لأن الشاة أفضل من الإبل والبقر، فليست الفدية كالهدايا بل كالضحايا، فالشاة أفضل فيها إلا أن ينوي بها الهدي، ويشترط في الفدية إذا كانت من النعم من السن والسلامة من العيب ما يشترط في الأضحية كما تفيده المدونة، وهذا القول هو الذي ارتضاه أبو الحسن، ومقابله وهو أن الإبل أفضل ثم البقر ثم الغنم هو للباجي، وقال الأبي: إنه المذهب، والظاهر أنه لا بد من ذبحها، ولا يكفي إخراجها غير مذبوحة. قاله عبد الباقي. وفي المدونة: ولا يجوز في جزاء الصيد والفدية ذوات العوار، ولا يجوز في الفدية إلا ما يجوز في الضحايا. انتهى. وقد مر أن قوله:"أعلى"، معناه أكثر لحما، وإذا نوى بها الهدايا فمعنى أعلى أفضل، وكذا إذا مُشِيَ على ما للباجي، وإذا قلنا إن الشاة أفضل فهل يجري هنا ما جرى في الضحايا من قوله الآتي:"وضأن مطلقا" ثم معز ثم هل بقر الخ أم لا؟ أو إطعام ستة مساكين؛ يعني أن المفتدي بالخيار بين أن يعتدي بشاة أو بغيرها من النعم، ويشترط في ذلك من السن والسلامة من العيوب ما يشترط في الأضحية كما مر، وبين أن يفتدي بإطعام ستة مساكين لكل؛ أي لكل مسكين من المساكين الستة مدان بمد سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم تسليما، ولهذا قال: كالكفارة؛ يعني أن الأمداد المذكورة التي هي اثنا عشر مدا وهي ثلاثة آصع تكون كالكفارة في أنها من غالب القوت بالبلد لا غالب قوته هو، وفي أنها بمده صلى الله عليه وسلم تسليما؛ إذ هو الذي به تؤدى جميع الكفارات ما عدا كفارة الظهار، فإنها بمد هشام على المشهور: وهو مد وثلثان بمده عليه الصلاة والسلام؛ والظاهر أن الشبه به كفارة اليمين، ويأتي حكمها في باب اليمين من قوله:"ولا تجزئ ملفقة" الخ، وقال الشيخ زروق: ولو افتدى من شيء قبل فعله لم يجزه. انتهى.

أو صيام ثلاثة أيام؛ يعني أن المفتدي بالخيار بين أن يفتدي بما يجزئ من النعم ضحية، وبين أن يطعم ستة مساكين لكل مدان كما مر، وبين أن يصوم ثلاثة أيام؛ قال فيها: والإطعام ستة مساكين مدان لكل مسكين بمد النبي صلى اللّى عليه وسلم من جل عيش أهل ذلك البلد من بر أو شعير، والأصل في الفدية قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ، وما في الموطإ: (كان كعب بن عجرة معه صلى الله عليه وسلم محرما؛ فآذاه

ص: 654

القمل في رأسه، فقال له: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل مسكين، أو انسك بشاة أي ذلك فعلت أجزأ عنك

(1)

).

ولو أيام منى؛ يعني أنه إذا افتدى بصيام ثلاثة أيام، فإن ذلك يجزئه، ولو كانت أيام منى وهي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر الأول، وهذا مذهب المدونة، ورد بلو ما في الموازية من أنه مكروه لأنها لم تقيد بالحج، فرأى أنها أيام منهي عن صومها، وما ذكره المصنف هنا مخالف لقوله:"لا سابقيه إلا المتمتع". ولم يختص بزمان أو مكان؛ يعني أن الفدية ذبحا ونحرا أو إطعاما أو صياما كما نقله عبد الباقي عن التتائي، لا تختص بمكان من الأمكنة عن مكان آخر، ولا بزمان من الأزمنة عن زمان آخر فأي مكان فعل ذلك فيه أجزأه، وأي زمان فعل ذلك فيه أجزأه، قال عبد الباقي: وانظر قوله: "أو إطعاما" لخ، ما موقعه هنا؟ وهل يتوهم تخصيصه بمكان أو زمان حتى لا يتقيد؟ وقد أسقط ذلك في صغيره: وإسقاطه هو الظاهر، ثم مقتضاه إطلاق النسك على الثلاثة، ومقتضى المصنف كالآية تخصيصه بالذبيحة. انتهى.

إلا أن ينوي بالذبح الهدي؛ يعني أن النسك لا يختص بزمان ولا مكان إلا أن يكون قد نوى بذبحه النسك أي مذبوحه الهدي، وأما إذا نوى بما ذبحه نسك الهدي، فإن حكمه أي النسك حينئذ كحكمه؛ أي الهدي في أنه يختص بمنى إن وقف به بعرفة، وإلا فمكة والجمع فيه بين الحل والحرم وأفضلية الأكثر لحما، وفي أنه يختص بزمان والتقليد فيما يقلد والإشعار فيما يشعر كالنية، فنية الهدي فيما يقلد أو يشعر دون تقليد أو إشعار يكون بها النسك حكمه كحكم الهدي، والتقليد والإشعار فيما يقلد أو يشعر دون نية الهدي كنية الهدي، ولا يدخل في قوله:"فكحكمه" الأكل، فلا يأكل منها بعد المحل ولو جعلت هديا كما يأتي إن شاء الله تعالى، وأما تقليد ما لا يقلد دون نية فكالعدم، فإذا قلد الغنم ولم ينو بها الهدي فإنه يذبحها حيث شاء في أي زمان: وكلام عبد الباقي هنا منه ما فيه نظر، والله سبحانه أعلم. وقوله:"بالذبح" بكسر الذال، بمعنى المذبوح، وعلم من كون النسك لا يختص بزمان أو مكان أن الإطعام والصوم لا يختصان بشيء من ذلك من باب أحرى. ولا يجزئ غداء وعشاء؛ يعني أنه ألا يجزئه في إطعام

(1)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:954. وفيه: "لكل إنسان" بدل "لكل مسكين".

ص: 655

المساكين الستة غداء وعشاء لكل واحد منهم، ولا غداءان كذلك ولا عشاءان كذلك، وهذا إن لم يبلغ ما ذكر إن لم يبلغ ما ذكر مدين لكل واحد على انفراده وإلا أجزأ، قاله أحمد. قاله عبد الباقي. وإنما لم يجز الغداء والعشاء حيث لم يبلغ ذلك مدين؛ (لأنه صلى الله عليه وسلم سمى مدين مدين

(1)

)، ومعنى قوله:"إن لم يبلغ مدين"، لم يتحقق أنه بلغ مدين، فإن تحقق أن كل واحد بلغ مدين أجزأ، ولكن الأفضل خلافه كما يدل عليه قوله الآتي في الظهار:"ولا أحب الغداء والعشاء كفدية الأذى"، ولو حصل لبعضهم مدان أو أكثر ولبعضهم أقل من مدين، فإنه يكمل لمن لم يحصل له مدان بقيمتهما. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وينبغي إذا بلغ كل واحد على انفراده مدين الإجزاء، ولو في غداء فقط أو عشاء فقط، والفرق بين إجزاء الغداء والعشاء في كفارة اليمين وعدم إجزانهما هنا وفي الظهار إن لم يبلغا مدين، أن الكفارة لليمين أكل مد وهو الغالب في أكل كل شخص في يوم، والظهار والإطعام هنا لكل مدان وهما قدر أكل الشخص في يومين، فلذا لم يجز فيهما الغداء والعشاء؛ لأنهما أكل يوم فقط إن لم يبلغ ذلك مدين.

والجماع؛ عطف على الممنوع على الرجل والمرأة بالإحرام؛ يعني أنه يحرم على المحرم ذكرا أو أنثى بالإحرام الجماع، وكذا تحرم عليهما مقدماته، ولو علمت السلامة، بخلاف الصوم فتكره فقط مع علمها ليسارة الصوم، وقوله:"والجماع ومقدماته"، لا خلاف فيه، ويستثنى من ذلك القبلة لوداع أو رحمة ما لم ينزل، وقوله:"والجماع" الخ، في الحرمة، وقوله: وأفسد. في الإفساد مطلقا؛ يعني أن الوطء إذا وقع قبل التحلل الأصغر يفسد الحج مطلقا؛ أي سواء كان عمدا أو نسيانا أو جهلا أو مكرها، في قبل أو دبر آدمى أو غيره أنزل أم لا، كان موجبا للمهر أم لا، بشرط أن يكون موجبا للغسل كما حرره الشيخ محمد بن الحسن، خلافا لقول عبد الباقي وغيره: إن وطء الصبي يفسد حجه دون وضوئه وصومه، وإنه سواء كان في هواء الفرج أم لا، وإنه سواء كان بخرقة كثيفة أم لا. انتهى.

(1)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:954.

ص: 656

ويدخل في الإطلاق كونه بعد أن فعل شيئا من أفعال الحج أو قبله، وقوله:"مطلقا"، حال من فاعل أفسد، وهو ضمير يعود على الجماع، وفي النوادر: أن المحرم إذا ارتد انفسخ إحرامه ولا يلزمه قضاؤه.

كاستدعاء مني؛ يعني أن المحرم إذا استدعى المني حتى خرج منه فإن ذلك يُفْسد حَجَّهُ، وإن بنظر؛ يعني أنه إذا استدعى المني بنظر أدامه فإن ذلك يُفْسد حَجَّهُ، وكذا لو أدام الفكر فحصل بذلك خروج مني، فإن لم يدم ما ذكر فالهدي مندوب والحج صحيح، ولو قال المصنف: ولو بنظر لكان أولى، ليشير إلى قول أشهب: إنما عليه الهدي، وقوله:"كاستدعاء مني وإن بنظر"، هذا هو المعروف، وقيل: لا يفسده إلا ما يوجب الصداق والحد، وقوله:"كاستدعاء مني وإن بنظر"؛ أي وحصل كما قررت، وإلا فالهدي إن حصل مذي وإلا فلا شيء عليه، وبه تعلم أنه كان الأولى له أن يقول: كإخراج مني، وما تقدم من ندب الهدي إذا أمنى بنظر أو فكر غير مدام هو للأبهري، وهو خلاف الراجح، والراجح وجوب الهدي. ابن عرفة: والإنزال بقصد كالوطء والاحتلام لغو، وفي المدونة: وإذا أدام المحرم التذكر للذة حتى أنزل، أو عبث بذكره فأنزل، أو كان راكبا فهزته الدابة فاستدام ذلك حتى أنزل، أو لمس أو قبل أو باشر فأنزل، أو أدام النظر حتى أنزل، فسد حجه، وكذلك المحرمة إذا فعلت ما يفعله شرار النساء من العبث بنفسها حتى أنزلت. انتهى. وقد أخذ المتأخرون من هذا أن الاستمناء باليد حرام، لقوله: شرار النساء، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، وانظر هذا الأخذ مع قوله: أو عبث بذكره، ولم يقل شرار الرجال فتأمله، ولا شك في حرمة ذلك. والله أعلم. قاله الحطاب. ويأتي في باب النكاح الكلام على الاستمناء باليد، وأنه حرام. والله سبحانه أعلم.

قبل الوقوف مطلقا، الظرف يتنازعه "أفسد""واستدعاء". كما يفيده نقل الخرشي عن بعض الشراح، ولفظه:"قبل الوقوف"، ظرف "لأفسد" "واستدعاء". انتهى. وقال عبد الباقي: وقيد الفساد بقوله: "قبل الوقوف" الخ، ومعنى كلام المصنف أن الوطء وإخراج المني المذكور كل منهما يفسد الحج إذا وقع قبل الوقوف بعرفة مطلقا، فعل شيئا من أفعال الحج كطواف القدوم والسعي

ص: 657

أم لا، ويحتمل قوله:"مطلقا"، أن يفسر بأنه سواء كان الاستدعاء عن أمر يغلب الإنزال منه أم يغلب عدمه: خلافا لقول اللخمي: إن أنزل عن استدعاء يغلب الإنزال منه أفسد، وإن أنزل عن استدعاء يغلب عدم الإنزال منه لم يفسد وعليه هدي. انتهى. قال محمد بن الحسن: ما ذكره اللخمي ليس بمنصوص، وإنما خرجه على عدم الفساد بالإنزال عن فكر، ونظر غير مستدامين؛ وقال سند: إنه تخريج فاسد، وكذا رده ابن عرفة بأن الفعل قوي. انتهى.

أو بعده؛ يعني أنه إذا وطئ أو حصل له خروج المني المذكور بعد أن وقف بعرفة، فإن حجه إنما يفسد إن وقع ذلك منه قبل التحليلين الأصغر والأكبر من طواف إفاضة وَسَعْيٍ مؤخر عن الوقوف ورمي جمرة عقبة، وقوله: يوم النحر؛ متعلق بقوله: "إن وقع"، وقوله: أو فدية، عطف على "يوم"؛ يعني أن الحج إنما يفسد بما ذكر من وطء وإخراج مني حيث وقع الوطء، وما في حكمه يوم النحر أو قبله ليلة المزدلفة، أو يوم الوقوف: ولا بد من لفظة "قبله"، ليلا يتوهم اختصاص الفساد بيوم النحر؛ وإلا؛ أي وإن لم يقع الوطء وما في حكمه قبل إفاضة وعقبة يوم النحر أو قبله، بل وقع قبلهما بعد يوم النحر أو بعد أحدهما ولو في يوم النحر، فالواجب على الفاعل لذلك هدي في الصور الثلاث، وفي نسخة: فدم، والمصنف بحسب ظاهره يشمل ما إذا وقع الوطء وما في حكمه بعد التحليلين رمي العقبة والإفاضة يوم النحر، أو بعده مع أنه لا هدي في هذه؛ وكأنه إنما ترك التنبيه على ذلك اعتمادا على قوله فيما مر:"وحل به ما بقي". والفرق بين وطئه قبلهما بعده، وبين ما إذا وطئ قبلهما في يوم النحر أو قبله، أنه لما خرج يوم النحر صارت جمرة العقبة قضاء، وصار الطواف كالقضاء لخروجه عن وقته الفاضل المقدر له شرعا، والقضاء أضعف من الأداء، ألا ترى أن من أفطر برمضان عليه القضاء والكفارة؛ ومن أفطر في قضائه عليه القضاء فقط؟ قاله المصنف. وقوله:"فهدي"؛ قال النووي: الهَدْيُ والهَدِيُّ لغتان فصيحتان مشهورتان، إسكان الدال مع تخفيف الياء، وكسر الدال مع تشديد الياء. نقله الخرشي. كإنزاله ابتداء؛ يعني أن المحرم إذا أنزل بنظر أو فكر ابتداء؛ أي من غير استدامة، فإن حجه لا يفسد ولو قصد لذة، وعليه الهدي؛ لأن الفساد إنما يكون عنهما إن كان كل منهما للذة مع إدامة كل منهما وخروجه عنها، فإن خرج بلا لذة أو غير معتادة فلا شيء عليه؛ وقال الشيخ أحمد عند قوله: "كإنزاله

ص: 658

ابتداء": كان في لحل يفسد الحج بحصوله فيه على غير هذا الوجه أم لا. انتهى. وقوله: "كإنزاله ابتداء"، قال عبد الباقي: يستثنى من ذلك خروجه عن قبلة بفم أو عن لمس أو عبث بذكر، فيفسد، وإن لم يدم ذلك، بل ظاهر المدونة: وإن لم يقصد بذلك لذة، وإمذائه؛ يعني أن المحرم يلزمه الهدي بإمذائه، سواء خرج ابتداء أو بعد مداومة نظر أو فكر أو قبلة أو مباشرة أو غيرها، وكلام المصنف يقتضي أو يوهم أنه مقصور على ما إذا خرج ابتداء، وأما لو خرج عن إدامة شيء مما ذكر فإنه يفسد، وليس كذلك. قاله الخرشي. وغيره.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: الظاهر أن المصنف لا يوهم ذلك ولا يقتضيه، لكونه أطلق في الإمذاء وقيد في الإنزال. والله سبحانه أعلم. فقوله:"وإمذائه"، سواء خرج في حالة لو خرج فيها المني لأفسد، أو في حالة لو خرج فيها لأوجب الهدي. قاله غير واحد. وقوله:"وإمذائه"، قال الخرشي: وينبغي حيث خرج بلذة معتادة. انتهى.

وقبلة؛ يعني أن القبلة بغير إنزال توجب الهدي وإن لم يحصل عنها مذي، ومفهوم المصنف أن ما عدا القبلة من مقدمة الجماع إذا لم يحصل عنها مذي ولا مني لا توجب هديا، وإنما فيها الإثم، وإن قصد اللذة ووجدها وهو كذلك يريد إلا الملاعبة الطويلة والمباشرة الكثيرة، ففي ذلك الهدي؛ لأنها أشد من القبلة، وقوله:"وقبلة"، محل ذلك إذا كانت على الفم، وأما إن كانت على الجسد فحكمها حكم الملامسة التي ذَكَرْتُهَا لَك، ومحل الهدي في القبلة إن كانت لغير وداع أو رحمة، وإلا فلا شيء فيها إن لم يخرج معها مني أو مذي، وإلا جرى كل على حكمه. الباجي: وكل ما فيه نوع من الالتذاذ بالنساء فيمنع منه المحرم، ثم ما كان منه لا يفعل إلا للذة كالقبلة ففيه الهدي على كل حال، وما كان يفعل منها للذة وغيرها مثل لمس كفها أو شيء من جسدها، فما أتى من ذلك على وجه اللذذ ممنوع، وما كان بغير اللذة فمباح. انتهى. قاله الحطاب.

وقال: الذي يتحصل من كلام ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح والفاسي في تصحيح ابن الحاجب أن يعرى وجوب الهدي في القبلة من الخلاف؛ لأنها لا تفعل إلا للذة فهي مظنتها، والتعليل بالمظنة لا يتخلف، وأن محل الخلاف فيما عداها من ملامسة خفيفة ومباشرة وغمز

ص: 659

ونظر وكلام وفكر، إذا حصل عن ذلك مذي وأن أظهر القولين وأرجحهما وجوب الهدي حينئذ، وأما إن لم يحصل مذي فلا هدي، وقد غَرَّ وسلم، وأما الملاعبة الطويلة والمباشرة الكثيرة ففيها الهدي لأنها مظنة اللذة كالقبلة بل ذلك ألذ، ولا يكاد يتخلف عنه الذي غالبا. والله أعلم. ابن الحاجب: وروي من قبل فليهد، فإن التذ بغيرها فأحب إلى أن يذبح؛ قال في التوضيح: قوله: وروي؛ أي في الموازية. قاله الحطاب.

ووقوعه بعد سعي في عمرته. وقوعه بالجر عطف على قوله: كإنزاله: فهو مما يجب فيه الهدي؛ يعني أن المعتمر إذا وقع منه ما يفسد الحج بعد تمام سعي العمرة وقبل حلاقها، فإنه يلزمه الهدي من غير فساد لانقضاء أركانها: وإلا، بأن وقع من المعتمر ما يفسد الحج في أثناء السعي بين الصفا والمروة أو قبله فسدت عمرته، وفي شرح عبد الباقي أن ما يوجب الفساد في الحج في بعض الأحوال من وطء أو إنزال هو الذي يوجب الهدي في العمرة دون ما يوجب الهدي في الحج: فلا يوجبه في العمرة لأن أمرها أخف، هذا ظاهر الشارح وغيره. واستظهر الشيخ سالم مساواتها له، قال محمد بن الحسن: ما استظهره الشيخ سالم هو الذي يشهد له عموم كلام الباجي الذي نقله الحطاب والتوضيح. انتهى.

ووجب إتمام المفسد؛ بفتح السين اسم مفعول؛ يعني أن المفسد من حج أو عمرة يجب إتمامه، وإنما يجب إتمام الحج المفسد حيث كان يدرك الوقوف في إتمامه أو أدركه قبل الفساد وإتمامه برمي العقبة وطواف الإفاضة والسعي إن لم يكن قدمه، فإن فاته الوقوف فيه وجب تحلله منه بفعل عمرة، ولا يجوز له البقاء على إحرامه؛ لأن فيه تماديا على الفاسد مع تمكنه من الخلاص منه كما يأتي في قوله:"وإن أفسد ثم فات أو بالعكس وإن بعمرة التحلل تحلل وقضاه دونها"، فما يأتي يفيد تقييد ما هنا.

واعلم أنه لا خلاف بين العلماء أن المحرم إذا أفسد حجه أو عمرته يجب عليه إتمامه إلا داوود، وإنما وجب إتمام المفسد مع أن فيه التمادي على الفاسد؛ لأن الحج جعل له غاية وهي التحللات؛ وفي الخرشي: ولو قال المصنف: ووجب إتمام الفاسد لكان أوضح، وإلا بأن لم يتمه سواء ظن إباحة قطعه أم لا، فهو أي المحرم باق عليه؛ أي على إحرامه الفاسد، وبالغ على

ص: 660

بقائه على إحرامه الفاسد، بقوله: وإن أحرم؛ يعني إذا لم يتم المفسد وتمادى إلى السنة الثانية وأحرم بغيره فإنه باق على إحرامه الفاسد، وإحرامه الثاني لغو، ولو قصد به القضاء عن الفاسد من حج أو عمرة، فإنه لا يكون قضاء عنه للغوه؛ ولهذا قال: ولم يقع قضاؤه؛ يعني أن المحرم إذا فسد حجه أو عمرته فلم يتمه، وأحرم لقضائه في العام الثاني، فإنه لا يجزئه ولا ينعقد هذا الثاني وهو على إحرامه الأول الذي أفسده، ولم يقع قضاؤه إلا في السنة الثالثة أو العمرة الثالثة، وإلى ذلك أشار بقوله: إلا في ثالثة، وهذا حيث لم يطلع عليه حتى فات وقوف الثاني، وإلا أمر بالتحلل من الفاسد بفعل عمرة، ولو دخلت عليه أشهر الحج وقضاه في العام الثاني، وعبارة ابن الحاجب: فإن لم يتمه ثم أحرم للقضاء في سنة أخرى، فهو على ما أفسد ولم يقع قضاؤه إلا في ثالثة. انتهى. قاله محمد بن الحسن بناني. وعطف على فاعل وجب من قوله:"ووجب إتمام المفسد"، قوله: وفورية القضاء؛ يعني أن المحرم إذا أفسد حجه أو عمرته فإنه يجب عليه القضاء فورا لما أفسده من حج أو عمرة بعد التحلل من فاسدها أو فاسد الحج، ولو على القول بتراخي الحج ولم يخف الفوات فيقضي الحج في الزمن القابل.

وإن تطوعا؛ يعني أن قضاء الحج المفسد واجب على الفور، ولا فرق في ذلك بين الحج الفرض وحج التطوع، وظاهر كلام المصنف في التوضيح وابن عبد السلام أن من أحرم بحجة تطوع قبل حجة الإسلام ثم أفسدها يقضي الفاسد قبل حجة الإسلام، وقوله:"وفورية القضاء"؛ أي على نحو ما فاته من قران وتمتع وإفراد، فإن خالف أتى فيه قوله:"وأجزأ تمتع عن إفراد" الخ. وقضاء القضاء؛ يعني أن المشهور وهو قول ابن القاسم: أن من أحرم قضاء عما أفسده من حج أو عمرة، ثم إنه أفسد القضاء أيضا يلزمه أن يحج حجتين، إحداهما عن الأصل والأخرى عن القضاء الذي أفسده؛ لأنه أفسد أولا وثانيا وعليه هديان، وتقدم قوله في الصوم:"وفي قضاء القضاء خلاف"، ومشى المصنف هنا على أحد القولين، والفرق بين الحج والصوم أن الحج كلفته شديدة، فشدد فيه بقضاء القضاء سدا للذريعة ليلا يتهاون فيه. قاله المؤلف. وفرق بينهما أيضا بأن القضاء في الحج على الفور، فصارت حجة القضاء كأنها معينة في زمن معين، فلزمه القضاء في فاسدها كحجة الإسلام، وأما زمن قضاء الصوم فليس بمعين، وأما من أفسد قضاء صلاة فليس

ص: 661

عليه إلا صلاة واحدة قولا واحدا، وظاهر قوله:"وقضاء القضاء"، ولو تسلسل، وهل له تقديم الثاني على الأول. انظره. وقوله:"وقضاء القضاء"؛ أي وعليه هديان.

ونحر هدي في القضاء؛ يعني أنه يجب على من أفسد حجه أو عمرته أن ينحر هديا في زمن قضاء حجه أو عمرته لا في زمن فسادهما، ليتفق له الجابر المالي والجابر النسكي وهما الهدي والقضاء، وظاهر العبارة يعطي أن الهدي للقضاء، فلو قال: ونحر هديه فيه، ويكون الضمير في هديه عائدا على الفساد، وفي فيه عائدا على القضاء لكان أحسن. قاله غير واحد. واتحد وإن تكرر لنساء؛ يعني أن من أفسد حجه أو عمرته بغير الوطء أو بالوطء مرارا في امرأة واحدة، بل وإن في نساء، فإنما عليه هدي واحد في ذلك كله لأجل الفساد الواقع بالوطء الأول؛ لأن الحكم له فقط، كثلاثة شركاء في عبد أعتق أحدهم نصيبه منه. ثم أعتق الثاني نصيبه منه فالتقويم على الأول فقط؛ لأنه هو الذي أدخل الفساد في رقبة العبد، ولا تقويم على الثاني لأنه لم يدخل فسادا في رقبة العبد، ونص المدونة: وأما وطؤه مرة أو مرارا امرأة واحدة أو عددا من النساء فليس عليه في ذلك إلا هدي واحد؛ لأنه بالوطء أفسد حجه ولزمه القضاء. عبد الوهاب: وإنما لم يتكرر الهدي بتكرر الوطء خلافا لأبي حنيفة؛ لأن الثاني وطء لم يفسد الحج. نقله الشارح. بخلاف صيد؛ يعني أن الجزاء يتكرر بتكرر الصيد على المشهور لأن جزاءه عوض عما أتلفه، والأعواض تتكرر بتكرر التلفات؛ إذ القاعدة أن من أتلف شيئا لزمه غرمه وإن تكرر، وسواء فعله جهلا أو نسيانا أو عمدا كما يأتي.

وفدية؛ يعني أن الفدية تتكرر بتكرر الموجب على التفصيل المتقدم، ثم إن قوله:"بخلاف صيد وفدية"، ليس له كبير فائدة لتكرره مع ما يأتي في الصيد مع ما فيه من مخالفة ظاهر قوله:"وفدية"، لما قدمه من التفصيل فيها، وجزأ إن عجل؛ يعني أن هدي الفساد يجب أن يكون في زمن القضاء كما مر، فإذا لم يفعل الواجب يأَنْ عجَّل هدي الفساد قبل قضاء المفسد فإن ذلك يجزئه كما هو المنصوص، وليس هذا مكررا مع ما يأتي في فصل الإحصار؛ لأن ما هنا في الفساد وما يأتي في الفوات، فلا تكرار. قاله محمد بن الحسن بناني معترضا على عبد الباقي.

وثلاثة إن أفسد قارنا ثم فاته؛ يعني أن من أحرم بالحج والعمرة حال كونه قارنا، ثم أفسد حجه ذلك، ثم بعد أخذه في إتمامه فاته الوقوف بأن طلع الفجر ولم يقف، أو فاته أو لا ثم أفسده،

ص: 662

فإنه يلزمه ثلاثة هدايا: هدي للفساد وهدي للفوات، وهدي للقران الثاني، فإنه يلزمه أن يقضي قارنا كما يعلم مما يأتي إن شاء الله تعالى. فقوله: وقضى؛ معناه أنه يلزمه أن يقضي ويكون في قضائه قارنا، وكما يلزم من أفسد قارنا ثم فاته ثلاثة هدايا، والقضاء قارنا يلزم من أفسد متمتعا ثلاثة هدايا والقضاء متمتعا، وقوله:"وثلاثة" الخ، هو رواية أصبغ عن ابن القاسم، وصححه ابن الحاجب وغيره من الأشياخ، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أن عليه أربعة هدايا، واختاره ابن المواز، والأربعة الثلاثة الأول وهدي آخر للقران الأول. اللخمي: والأول أحسن؛ لأنه إنما آل أمره إلى عمرة، ولم يتم القران الأول. قاله الشارح.

وعمرة؛ معطوف على هدي من قوله: "وإلا فهدي"، ولو وصله به كان أحسن ليلا يتوهم وصله بما قبله كما فعل بعض، وإنما هو متعلق بالأقسام الثلاثة الداخلة تحت قوله:"وإلا"؛ يعني أنه إذا وقع الوطء وما في حكمه قبل رمي العقبة والإفاضة بعد يوم النحر أو قبل أحدهما ولو في يوم النحر، فإنه لا يفسد الحج، وإذا لم يفسد فإنه يجب عليه هدي كما مر، ويلزم مع الهدي عمرة يأتي بها بعد أيام منى، بشرط أشار إليه بقوله: إن وقع قبل، ركعتي الطواف؛ يعني أن محل لزوم العمرة له مع الهدي إنما هو حيث وقع الوطء وما في حكمه بعد تمام السعي، لكن لم يركع للطواف، أو قبل تمام الطواف أو بعده وقبل ركعتي الطواف ليأتي بطواف وسعي لا ثلم فيهما، وإن وقع وطؤه بعد السعي والطواف بركعتيه وقبل الرمي أو بعده وقبل الحلق، فإنما عليه هدي فقط لسلامة السعي والطواف من الثلم، ولا عمرة عليه حيث قدم السعي وإلا لزمته. وقوله: وعمرة، هذه العمرة ليست بخارجة في الحكم عن إحرام الحج، ولذلك قال مالك: إن طلقها فبانت وتزوج كل واحد منهما قبل أن يعتمر فنكاحهما فاسد، وكذلك إن تزوجها هو بعد انقضاء عدتها. قاله سند: واستشكله بأنه لو نكحت بعد إتمام الفاسد وقبل القضاء صح نكاحها، وانظر إذا أراد أن يحرم بحج قبل أن يأتي بهذه العمرة، هل يصح إحرامه أم لا؟ وإحجاج مكرهته؛ يعني أن من أكره امرأة محرمة على الجماع فجامعها حرة أو أمة أذن لها في الإحرام أم لا، أو أكرهها غيرُه له، يجب عليه إحجاجها من ماله والكفارة عنها أيضا من ماله، والمراد بالكفارة الهدي.

ص: 663

وبما قررت علم أن قوله: "مكرهته"، شامل للزوجة والأمة والأجنبية، ومفهوم قوله:"مكرهته"، أن الحرة الطائعة عليها ذلك من مالها خاصة، وطوع الأمة إكراه ما لم تطلب أو تتزين. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: وقوله: "مكرهته"، يخرج الطائعة وهو كذلك، وظاهره: ولو كانت أمة؛ وقد نقل في التوضيح وغيره عن الموازية أن طوعها كالإكراه، وقال الخرشي: وأما أمته إِذا أذن لها في الحج فلما أحرمت وطئها طوعا أو كرها، فإنه يلزمه أن يحجها بعد ذلك؛ إذ لا فرق بين أن يطأها طائعة أو مكرهة ما لم تطلبه، قال ابن القاسم: ويهدي عنها ولا يصوم، وظاهر قوله:"وإحجاج مكرهته"، ولو صغيرة. انتهى. وبه تعلم أن قول عبد الباقي: أذن لها فيه أم لا، لا يأتي في أمته. والله سبحانه أعلم.

(وإحجاج مكرهته) يعني أن الزوج إذا أكره زوجته وهي محرمة على الجماع فجامعها، فإنه يلزمه أن يحجها من ماله كما علمت، وإن كان أكرهها وهي في عصمته ثم طلقها وتزوجت غيره؛ فإنه يلزم الزوج الأول المكره لها أن يحجها من لماله، ويجبر الزوج الثاني على الإذن لها، وكذا إن باع الأمة، ويجوز بيعها على المنصوص، فإن بيّن وإلا فعيب. ابن يونس: فإن فلس الزوج حاصت الزوجة غرماءه بما وجب لها، ووقف ما صار لها حتى تحج به وتهدي، فإن ماتت قبل ذلك رجعت حصة الإحجاج المغرماء ونفذ الهدي، وفي المدونة: ومن أكره نساءه وهن محرمات أحجهن وكفر عن كل واحدة منهن كفارة، وإن بن منه ونكحن غيره، وإن طاوعنه فذلك عليهن دونه. ومعنى قوله في المدونة: كفر عنهن أهدى عنهن. قاله الخرشي. وقوله: "مكرهته"، قال عبد الباقي: وأما إن أكرهه شخص على أن يطأ غيره أو يطأه غيره فلا شيء على المكره بالكسر رجلا أو امرأة غير الإثم، وسواء كان المكره بالفتح رجلا أو امرأة ولا شيء عليها أيضا، بخلاف الرجل المكره فعليه إحجاج موطوءته؛ لأن انتشاره يعد اختيارا كذا قرره الأجهوري، قوله: ولا شيء عليها أيضا؛ يعني وعلى واطئها إحجاجها، ويمكن إدخالها في كلام المصنف، بأن يكون المراد بقوله:"مكرهته" مكرهة له، أعم من أن يكون هو الذي أكرهها أو غيره. قاله محمد بن الحسن. وهو الذي قررت به كلام المصنف، وقوله: بخلاف الرجل المكره؛ أي بالفتح. قاله محمد بن الحسن. قال: وفي كلامه نظر والظاهر لا شيء عليه.

ص: 664

وعليها إن أعدم؛ يعني أنه إذا أكره محرمة على الجماع وجامعها فإنه يحجها إذا لم يكن معدما، وأما إن كان عديما فإنه يجب على المكرهة أن تحج وتهدي وتفدي من مالها، وإذا فعلت ذلك من مالها رجعت عليه؛ أي على المكره، كالرجوع المتقدم، والتشبيه في مطلق الرجوع بالأقل: فما لزمها من فدية رجعت عليه فيه بالأقل من قيمة النسك وكيل الطعام أو ثمنه، فإن صامت فلا رجوع لها، وما لزمها من هدي ترجع بالأقل من قيمته وثمنه حيث لم تصم، وفي الكراء ترجع بالأقل مما اكترت به، ومن كراء المثل، وفي النفقة ترجع بالأقل مما أنفقت، ومن نفقة مثلها في السفر على غير وجه السرف، وقوله:"كالمتقدم"، تقدم له ذكر الرجوع في مسألة إلقاء الحل الطيب على محرم نائم ولم يجد الحل الفدية، ولم يتقدم ذلك فيما استأجرت به ولا فيما أنفقته وفي التوضيح: ولو كان النسك بالشاة أرفق لها حين نسكت وهو معسر ثم أيسر وقد غلا النسك ورخص الطعام، فإنما يلزم الطعام؛ إذ هو الآن أقل قيمة من قيمة النسك الذي نسكت. انتهى. فاعتبر يوم الرجوع لا يوم الإخراج، وبه يظهر أن قول عبد الباقي: والظاهر أن المراعى في الأقل فيما تقدم يوم الإخراج قصور والنص بخلافه. والله سبحانه أعلم. انظر حاشية بناني. وإنما اعتبر هنا نفقة السفر، وإن كانت إذا حجت الفرض إنما لها عليه نفقة حضرت لأن إحجاجها هنا عليه وكذلك حجة الفرض.

وفارق من أفسد معه؛ فاعل فارق ضمير يعود على المحرم، "ومن" مفعول فارق، وهي واقعة على المرأة، ومفعول أفسد محذوف أي الحج مثلا، ومعه ظرف لغو معمول لأفسد، والضمير فيه عائد على "من"، فلذا أتى به مذكرا رعيا للفظ من وإن كان معناه مؤنثا؛ يعني أن من جامع زوجته أو أمته وهما محرمان، يجب عليه أن يفارق من فعل ذلك معها ليلا يعود إلى مثل ما مضى منه، وقيل: إن المفارقة المذكورة مندوبة، وأفاد المصنف أنه إنما يفارق من وقع الإفساد معها لا غيرها، فالمعية مُفيدَة لعدم وجوب مفارقة من لم يفسد الحج معها، فلا تجب عليه مفارقتها، فهو بمثابة ما لو قال: وفارق من أفسد حجها فقط، وقال:"وفارق من أفسد معه"، قال الإمام الحطاب عنده: جرى رحمه الله على غالب عادته لمن أنه إذا كان في المسألة احتمالات يأتي بلفظ يقبل كل واحد منها، وعبارته نحو عبارة المدونة، ونصها: قال ابن القاسم: ومن جامع زوجته في

ص: 665

الحج فليفترقا إذا أحرما بحجة القضاء حتى يحلا، وقد اختلف في التفريق، هل هو على الوجوب أو على الاستحباب؟ فقال ابن الجلاب وابن القصار: هو مستحب، وفي آخر كلام الطراز ميل إليه، وقال ابن عبد السلام في شرح قول ابن الحاجب: وإذا قضى فارق الخ: يريد أنه إذا قضى الفاسد وجب عليه أن يفارق زوجته أو أمته التي كان إفساده للحجة المتقدمة معها، ثم قال: وظاهر إطلاقات المذهب أن ذلك على الوجوب، وهو أسعد بالأثر، وقال ابن القصار: مستحب؛ وفرق اللخمي بين الجاهل فيستحب والعالم فيجب. انتهى. ونحوه في التوضيح، وقال ابن بشير: ظاهر الكتاب الوجوب، وقال ابن فرحون: ظاهر المذهب الوجوب. انتهى. وظاهر قول المصنف: من أفسد معه أن هذا الحكم خاص بتلك المرأة، ونحوه لابن الحاجب، وقال في التوضيح في شرح قول ابن الحاجب المتقدم: مثله في المدونة وهو يدل على اختصاص الحكم بتلك المرأة؛ وقال اللخمي: لا فرق بين تلك المرأة وغيرها. انتهى. وقال الشيخ زروق في شرح الإرشاد: وهل غيرها من النساء كهي؟ قولان مشهوران. انتهى. انتهى.

وقال الحطاب أيضا: الظاهر أنهما لا [يؤمران]

(1)

بالافتراق في بقية حجهما المفسد، وفي كلام القاضي سند ما يدل له. انتهى. وهذا الذي قاله الحطاب يدل له قول المصنف: من إحرامه؛ يعني أن ابتداء المفارقة لمن أفسد الحج معها من حين إحرامه بقضاء الحج المفسد، وغاية المفارقة لتحلله؛ أي يفارقها من حين أحرم بقضاء المفسد إلى أن يتحلل منه برمي جمرة العقبة. وطواف الإفاضة؛ وينبغي الحلق، قال عبد الباقي: وفي ذكر المبدإ والغاية إشعار بأن هذه المفارقة في حجة القضاء، وهو كما أشعرت وأما في عام الفساد فذكر ابن رشد أنه كذلك، وهو واضح كما يدل عليه علة المفارقة في عام القضاء، بل ربما تدل على أنها في عام الفساد أولى لكثرة التهاون منه في الفاسد الواجب إتمامه، وظاهر الطراز خلافه. وقوله: لتحلله، هذا فيمن قدم السعي، وأما من لم يقدمه فلا يتحلل إلا بتمام السعي. قاله الحطاب. وقوله:"من إحرامه"، ظاهره سواء كان من حج أو عمرة وهو كذلك. نص عليه الكافي وابن فرحون وغيرهما: وقال ابن فرحون: والتحلل في العمرة الحلاق.

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 603 ط دار الرضوان.

ص: 666

وعلم مما قررت أن اللام في قوله: "لتحلله"، للانتهاء. والله سبحانه أعلم.

ولا يراعي في زمن إحرامه بالقضاء زمن إحرامه بالمفسد؛ يعني أنه لا يراعى في حجة القضاء زمن الإحرام الواقع في الحجة الأولى أي المفسدة؛ أي لا يلزمه أن يحرم ثانيا في زمن الإحرام الأول، بل له في حجة القضاء أن يحرم في زمن الإحرام الأول أو قبله أو بعده، فلمن أحرم في شوال مثلا وأفسد أن يحرم بالقضاء في قابل من شوال أو من ذي القعدة أو من ذي الحجة، هذا هو الصواب في تقرير المصنف، وهو الموافق لكلام ابن شأس وابن الحاجب، وفي شرح عبد الباقي احتمال ثان لا كبير فائدة فيه. والله سبحانه أعلم.

بخلاف ميقات إن شرع؛ يعني أن الميقات المكاني الذي أحرم منه في الحجة الأولى إذا كان مشروعا فإنه يراعى، بمعنى أنه يلزمه أن يحرم منه، فمن أحرم من الجحفة أو غيرها من المواقيت فليس له أن يحرم ثانيا من غيره، ومعنى كونه مشروعا أنه مشروع للمحرم الذي أفسد حجه، بمعنى أنه مطلوب منه أن يحرم منه حال مجيئه في المفسد، ولو أقام بمكة إلى قابل بعد إكمال المفسد، فإن أحرم منها خالف الواجب وعليه دم، كما يشمل ذلك قوله: وإن تعداه فدم؛ يعني أنه إذا لم يحرم للقضاء من الميقات الشرعي الذي أحرم منه للمفسد بل تعداه حلالا وأحرم بعد مجاوزته، فإنه يلزمه الدم، ولو كان تعديه له بوجه جائز كإقامته بعد كمال المفسد بمكة إلى قابل كما مر قريبا، واحترز بقوله:"إن شرع"، عما لو كان أحرم أولا قبله، فليس عليه أن يحرم ثانيا إلا من الميقات، وعما لو كان تعداه أو لا فإنه لا يتعداه ثانيا إلا محرما، وظاهر قول مالك في الذي تعداه أولا ثم أحرم: أنه يحرم من المكان الذي أحرم منه، وتأوله اللخمي على أنه كان أحرم منه بوجه جائز كالذي يجاوز غير مريد دخول مكة، وأما من تعداه أولا لغير عذر فيؤمر أن لا يتعداد ثانيا إلا محرما، ونحوه للباجي والتونسي، ويصدق عليه قوله:"إن شرع"؛ لأنه مع العذر مشروع. قاله الشيخ عبد الباقي. وإنما صرح بقوله: "وإن تعداه فدم"، لرفع توهم أنه مع التعدي يحرم فقط من غير فدية. قاله الخرشي. وليس مراده بالميقات الميقات الشرعي، بدليل قوله:"إن شرع"، وقوله:"بخلاف ميقات إن شرع وإن تعداه فدم"، اختصار عجيب جمع فيه عدة من المسائل. قاله الحطاب. أي لأنه إما أن يحرم في المفسد قبل الميقات الشرعي أو منه أو

ص: 667

بعده، وفي كل إما أن يحرم أيضا في القضاء قبل الميقات الشرعي أو منه أو بعده، فتلك تسع؛ وإذا تجاوز الميقات الشرعي ولم يحرم منه، فإما أن يتعداه بوجه جائز أولا، وقد علمت أحكامها.

وأجزأ تمتع عن إفراد؛ يعني أنه إذا أحرم بالحج مفردا فأفسده ثم قضاه متمتعا فإنه يجزئه؛ لأن التمتع إفراد وزيادة؛ إذ المطلوب في القضاء التساوي في الصفة، وعكسه؛ يعني أنه إذا أحرم متمتعا ثم أفست حجه بعد أن فرغت العمرة ثم قضاه مفردا، فإنه يجزئه أيضا، ففي الحقيقة أجزأ إفراد عن إفراد وعليه هديان: هدي للتمتع يعجله وهدي للفساد يؤخره للقضاء. قاله في منسكه. وما وقع في ابن بشير من عدم الإجزاء في هذه ليس بجيد. قاله الخرشي. وفهم من قوله: "أجزأ"، أن المطلوب أولا خلاف ذلك وهو كذلك، قال ابن الحاجب: ويراعى صفته من إفراد وتمتع وقران. ابن عبد السلام: يعني أن الواجب كون القضاء بصفة الأداء حتى يكونا معا إفرادا أو تمتعا أو قرانا، ولا ينبغي أن يخالف بين صفة القضاء والأداء. هذه إطلاقات المتقدمين. قاله الحطاب. فقوله:"وأجزأ" الخ؛ أي مع أن ذلك ممتنع. لا إفراد عن إفراد؛ يعني أنه لو أحرم مفردا ثم أفسده فقضاه قارنا، فإن ذلك لا يجزئه؛ لأن حج القران ناقص عن حج الفرد، وهذا هو المشهور، وحكاه اللخمي عن ابن القاسم، وقال ابن الماجشون: يجزئه، نقله ابن بشير وابن شأس.

أو تمتع؛ بالجر عطف على "إفراد"؛ يعني أنه لو أحرم متمتعا فأفسده ثم قضاه قارنا فإن ذلك لا يجزئه؛ لأن القارن يأتي بفعل واحد للحج والعمرة؛ والمتمتع يأتي لكل واحد منهما بعمل على حدته؛ وعمل واحد لا يجزئ عن عملين، وعكسهما؛ يعني أنه لا يجزئ عكس القران عن الإفراد أو التمتع، وهو ما إذا أحرم قارنا فأفسده ثم قضاه مفردا أو متمتعا، وحاصل ما ذكره المصنف ست صور: اثنتان مجزئتان وأربعة غير مجزئة، وبقي عليه ثلاثة تركها لوضوحها، وهي قضاء القران بالقران، والتمتع بالتمتع، والإفراد بالإفراد، وهي المطلوب شرعا، فالصور تسع، وأجزأ التمتع عن الإفراد، وعكسه يشترط فيه أن يرجع بعد إحلاله من العمرة إلى الميقات الذي أحرم منه بالحج المفسد، عملا بقوله: بخلاف ميقات إن شُرِعَ ولو أقام بمكة، وفي النوادر: من حج قارنا فأفسد بالوطء فقضاه مفردا أو متمتعا لم يجزه؛ وعليه من هذا دمان، دم للقران ودم

ص: 668

للمتعة، ويقضي أيضا قارنا ويهدي هديين. ولم ينب قضاء تطوع عن واجب؛ يعني أن من تطوع بحجة قبل الفرض ثم أفسدها فإنه يلزمه قضاؤها، وإذا قضى ذلك التطوع الذي أفسدة فإنه لا يجزئه عن حجة الفرض إذا نوى عند إحرامه للقضاءِ القضاءَ والفرضَ أو نيابةَ القضاء عن الفرض، وأحرى إذا لم ينو إلا القضاءَ، وذلك ظاهر لأن حجة الفرض في ذمته، وقضاء المفسد في ذمته أيضا، وحجة واحدة لا تجزئ عن اثنتين. البساطي: وصح عن القضاء، وأما من نوى الواجب فقط، فيجزئ ما فعله عن الواجب فقط وقضاء التطوع باق في ذمته، ولو نوى بحجه الواجبَ عليه أصالة مع قضاء النذر المفسد فإنه لا يجزئ ذلك عن الواجب أصالة، كما يظهر من قوله: وإن حج ناويا نذره وفرضه أجزأ عن النذر فقط. انظر حاشية الشيخ بناني.

وكره حملها للمحمل؛ يعني أنه يكره للزوج في حال إحرامه حمل زوجته للمحمل محْرِمَةً أم لا، وأما المرأة المَحْرَمُ فلا يكره للرجل الذي هو محرم لها حملها للمحمل، هذا هو الصواب كما يظهر من قول المواق عن الجواهر من اختصاص الكراهة بالزوج، خلاف ما في الخرشي من الكراهة في المحرم أيضا، وأما الأجنبي فيحرم عليه ذلك مُحْرِمًا أم لا، فالأقسام ثلاثة. ولذلك اتخذت السلاليم؛ يعني أنه لأجل الكراهة المذكورة اتخذت الناس في الحج السلاليم لترقى النساء عليها والسلاليم واحدها سلم بتشديد اللام مَفْتُوحَةٌ وضم السين وهو المرقى، ورؤية ذراعيها؛ مصدر مضاف إلى مفعوله، وهو معطوف على حملها؛ يعني أنه يكره للزوج المحرم أن يرى ذراعي زوجته ظاهرهما وباطنهما، وينبغي حرمة مسهما لكونه مظنة اللذة وهو أقوى من رؤيتهما، لا شعرها، بالرفع عطف على نائب "كره"؛ أنه لا يكره للزوج أن يرى شعر زوجته، وأما مسه فينبغي كراهته، قال الإمام مالك: ولا يلمس كف امرأته تلذذا، ويكرة أن يرى ذراعيها ولا بأس أن يرى شعرها، ويكره أن يحملها على المحمل، وإن الناس ليتخذون سلاليم، ولا بأس أن يقضي المحرم في أمور النساء. انتهى. والمحمل بفتح الميم الأولى وكسر الثانية هو ما يحمل فيه على ظهور الإبل أو غيرها. قاله الخرشي.

والفتوى في أمورهن؛ يعني أنه لا يكره للمحرم أن يفتي في أمور النساء ولو فيما يتعلق بفروجهن. ابن القاسم عن مالك: وأكره للمحرم أن يقلب جارية للابتياع، وقال أشهب عن مالك: وله أن

ص: 669

يمسك امرأته إذا أمن ورب رجل لا يأمن، وفي العتبية من سماع القرينين: ولا بأس أن يمسك يد امرأته إذا أمن على نفسه ولم يخف شيئا.

وعلم مما قررت أن قوله: "والفتوى"، معطوف على قوله:"لا شعرها"، قال محمد بن الحسن بناني: وهذا هو ظاهر المصنف وهو الصواب، لقول الجواهر: ويكره أن يحملها للمحمل، ولا بأس أن يفتي المفتي في أمور النساء، ونحوه لابن الحاجب، قال مصطفى: والمراد بلا بأس هنا الإباحة بدليل مقابلة الأئمة لها بالمكروه، وما في الجواهر هو لفظ الموازية كما في مناسك المؤلف، ونقله ابن عرفة عن النوادر، وبذلك تعلم أن قول الخرشي: عطفه على المكروه هو الظاهر غير صواب. انتهى.

ولما أنهى الكلام على محرمات الإحرام خاصة، شرع في محرماته مع الحرم على أنهما مرادان من قوله:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، وهو المعتمد عند الفقهاء، وسواء كان الإحرام بحج أو عمرة أو بهما، فقال: وحرم به؛ يعني أنه يحرم على الرجل والمرأة بسبب الإحرام تعرض لحيوان بري إلى آخر ما يذكره، فالضمير في "به"، عائد على الإحرام، "والباء" للسببية، وسواء كان الإحرام صحيحا أو فاسدا، كان بحج أو عمرة؛ بأي نوع من أنواع الإحرام، كان في الحرم أو خارجه.

وبالحرم؛ يعني أنه يحرم على من في الحرم مُحْرما أم لا تعرض لحيوان بري إلى آخر ما يذكره، وعلم مما قررت أن الباء في قوله:"بالحرم"، للظرفية؛ أي بمعنى: في، وأن الواو بمعنى: أو كما في قول الشاعر:

وقالوا نأت فاختر لها الصبر والبكى

فقلت البكى أشفى إذا لغليلي

واعلم أنه قد اختلف أهل التفسير في قول الله عز وجل: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، فقيل: وقد أحرمتم بأحد النسكين، وقيل: دخلتم في الحرم، وقيل: هما مرادان؛ لأنه يقال لمن دخل في الحرم قد أحرم؛ لأن الإحرام هو الدخول في حرمات الشيء، ومنه قيل: أحرم بالصلاة دخل فيها، كما يقال: أتهم وأنجد إذا أتى تهامة ونجدا، وأصبح وأمسى إذا دخل في الصباح والمساء، وهذا القول الأخير هو الذي اعتمده الفقهاء. قاله الشارح.

ص: 670

ولما كان للحرم حدود حددها سيدنا إبراهيم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، ثم قريش بعد قلعهم لها، ثم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، ثم عمر ثم معاوية ثم عبد الملك بن مروان، وفي بعضها اختلاف بيَّن المعتمد من ذلك بالأميال، ومركزها البيت، فقال: من نحو المدينة أربعة أليال أو خمسة للتنعيم؛ يعني أن حد حرم مكة من جهة المدينة المشرفة أربعة أميال وقيل خمسة أميال، وعلى كل ينتهي إلى التنعيم المشهور عند الناس الآن تسميته بمساجد عائشة، وقد مر أن المركز هو البيت، فابتداء حرم مكة من جهة المدينة ما يتصل بالتنعيم، والتنعيم من الحل. فيحرم صيد حيوان على من بالبيت أو خارجا عنه مريدا للمدينة أو آتيا منها أو غيرهما، ومنتهى التحريم مبدأ التنعيم مما يلي مكة، ومبدؤه منتهى التنعيم إلى البيت الشريف، وهل ذلك القدر المحرم أربعة أميال أو خمسة؟ خلاف فأو للخلاف، فالتنعيم خارج فيجوز الصيد فيه، والخلاف في أن الأميال أربعة أو خمسة مبني على الخلاف في قدر الميل وفي قدر الذراع.

وعلم مما قررت أن هذا الخلاف ليس في ابتداء الحرم ولما في انتهائه، وإنما هو في عدة أميال ذلك القدر المعين وأذرُعه والله سبحانه أعلم.

ومن العراق ثمانية للمقطع، بفتح الميم والطاء بينهما قاف ساكنة وبضم الميم وفتح القاف والطاء المشددة؛ يعني أن حد حرم مكة من جهة العراق ثمانية أميال، وينتهي للمقطع على ثنية جبل بمكان يسمى القطع، قال في التنبيه: المقطع المذكور في معالم الحرم، سمي بذلك لأنهم قطعوا منه أحجار الكعبة في زمن سيدنا إبراهيم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، وأما العراق فهو بلاد يذكر ويؤنث سمي بذلك لكثرة أشجاره.

ومن عرفة تسعة؛ يعني أن حد حرم مكة من جهة عرفة تسعة أميال، وينتهي إلى حد عرفة، وحد الحرم من جهة الجعرانة تسعة أيضا، وينتهي إلى موضع يسمي شعب آل عبد الله بن خالد ومن جهة اليمن سبعة أميال بتقديم السين، وينتهي إلى موضع يسمي أضاة بوزن نواة.

ومن جدة عشرة لآخر الحديبية؛ يعني أن حد الحرم من جهة جدة بضم الجيم عشرة أميال، وينتهي لآخر الحديبية، وجدة بضم الجيم كما علمت وشد الدال المهملة علم قرية على ساحل

ص: 671

البحر غربي مكة بينهما مرحلتان، وهو علم منقول إذ هي في الأصل الطريق، والجمع جدد كغرف وغرفة، قال جل من قائل:{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ} ، والحديبية ضبطها أكثر المحدثين بتشديد الياء، وضبطها الشافعي بتخفيفها، والمراد لآخرها من جهة الحل؛ إذ الحديبية من الحرم كما قال مالك، والشافعي بينها وبين مكة مرحلة واحدة.

وذكر أيضا ضابطا للحرم بقوله: ويقف سيل الحل دونه؛ يعني أن الحرم يعرف أيضا بأن سيل الحل إذا جرى إليه لا يدخله، وسيله إذا جرى يخرج إلى الحل ويجري فيه، وهذا تحديد للحرم بالأمارة والعلامة، والأول تحديد له بالمسافة، ولمحمد بن عزم رحمه الله تعالى:

إن رمت للحرم المكي معرفة

فاسمع وكن واعيا قولي وما أصف

واعلم بأن سيول الحل قاطبة

إذا جرت نحوه فدونه تقف

وما ذُكِرَ من وقوف سيل الحل دونه أغلبي، فلا ينافي قول الأزرقي: يدخله من جهة التنعيم، وكذا قول الفاكهي: من جهات أخر، ويعتبر التحريم وقت الإصابة لا وقت الرمي، فلو رمى صيدا وهو حلال، ثم أحرم قبل وصول الرمي إليه وأَصَابَتْهُ الرمية بعد إحرامه فعليه جزاؤه. نقله المصنف وابن عرفة. وأما الجزاء الذي يوجبه الحرم فيعتبر فيه كون الصيد بالحرم وقت الإصابة أو مرور السهم بالحرم. تعرض بري، الاسم الأول فاعل حرم وما بينهما اعتراض، والثاني مضاف إليه ما قبله وهو صفة لموصوف محذوف؛ أي حيوان بري وحشي، والإضافة على معنى اللام؛ يعني أنه يحرم على المحرم -وإن لم يكن في الحرم، وعلى من في الحرم وإن لم يكن محرما- أن يتعرض لحيوان بري، ويحرم اصطياده والتسبب في اصطياده ما لم يكن صاده حلال لحلال في الحل، فإنه يجوز للحلال أن يذبحه في الحرم، وأما الحيوان البحري فلا يحرم على المحرم أن يصطاده، لقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} .

وإن تأنس؛ يعني أنه لا يجوز للمحرم ولمن في الحرم التعرض لحيوان بري وحشي، وإن كان قد خرج عن طباع الوحش وتأنس، ويدخل في البري الجراد فيحرم اصطياده، ويدخل فيه أيضا الضفدع البري والسلحفاة البرية ونحوهما، والحيوان البري هو ما مقره البر وإن كان يعيش في

ص: 672

الماء، والبحري ما مقره البحر وإن كان يعيش في البر. قاله عيسى عن ابن القاسم. ابن رشد: وهو تفسير مذهب مالك، وليس من الصيد الكلب الإنسي، فيجوز للمحرم أو من في الحرم قتله، وأما قول البساطي: المشهور عدم جواز قتله، فمراده به الكلب المأذون فيه بالنسبة لغرم القيمة لربه، ولا فرق فيه بين المحرم وغيره، وما تولد من الإنسي والوحشي والبري والبحري فالاحتياط الحرمة في جميع ذلك.

أو لم يؤكل، عطف على قوله:"تأنس"، فهو في حيز المبالغة؛ يعني أنه يحرم التعرض للحيوان البري على المحرم، وعلى من في الحرم سواء كان ما يصاد مأكول اللحم أم لا، كخنزير وقرد مملوكا أم لا، خلافا للشافعي في تخصيصة بما يؤكل.

واعلم أنه يجوز للمحرم أن يذبح الأنعام كلها. نقله ابن فرحون وغيره. وقوله: "إن لم يؤكل"، قد مر أنه خلاف مذهب الشافعي، وعلى مذهبنا ففيه أي في غير المأكول الجزاء، ويقوم على أن لو جاز بيعه. أو طير ماء، منصوب معطوف على خبر كان المحذوفة؛ أي وإن كان الحيوان البري قد تأنس أو كان طير ماء، ومعنى كلامه أن طير الماء أي الطير البري الذي يلازم الماء -فلذا أضيف إليه- يحرم التعرض له على المحرم، وعلى من بالحرم، فلا يجوز اصطياده، وأما الطير الذي يألف الماء وهو من دواب الماء، فيجوز اصطياده كما في الخرشي. وقال الحطاب: قال ابن فرحون في الألغاز: قال مالك: لا يقتل المحرم الطير الذي يكون في البحر إذا كان يخرج إلى البر. فإن كان يخرج إلى البر ولا يعيش إلا في البحر جاز صيده؛ لأنه من طير البحر. انتهى والله أعلم. انتهى. وقوله: أو طير ماء، قال اللخمي: ولما يجوز له أن يصيد طير الماء، وفي المدونة: وإن أصاب شيئا من طير الماء فعليه الجزاء. انتهى. قاله الشارح. وبيضه، بالجر عطف على بري؛ يعني أند يحرم على المحرم وعلى من بالحرم التعرض لبيض الحيوان البري، وجزئه؛ يعني أنه كما يحرم التعرض للحيوان البري بجملته يحرم التعرض لجزئه أي بعضه، فقوله:"جزئه"، بالجيم والزاي المعجمة كما هو في غالب النسخ، وقال بعضهم: هي تصحيف، وهذه النسخة هي التي ارتضاها الحطاب، واستدل لها بقول المناسك: ويحرم التعرض لأبعاض الصيد وبيضه. انتهى. وقال محمد بن الحسن: بحث في هذه النسخة؛ بأن الجزء مستغنى عن ذكره؛ لأنه إن

ص: 673

فرض متصلا فالتعرض له تعرض للكل، وإن فرض منفصلا فإما ميتة بأن ذكاه محرم أو حلال في حرم أو كان بلا ذكاة، وهذا سيأتي، وإما أن لا يكون كذلك فلا يحرم التعرض له أي أكله. والله أعلم. انتهى.

وضبطه ابن غازي بالجيم والراء المهملة؛ أي جرو واحد الأجراء، والمراد به هنا صغار الحيوان البري الذي يحرم صيده، ومعنى المصنف على هذه النسخة أنه يحرم على المحرم وعلى من بالحرم أن يتعرض لصغار الحيوان البري ككباره، قال ابن غازي: أطلقه هنا على الصغير من كل بري تبعا لابن شأس؛ إذ قال: يحرم التعرض لأجرائه وبيضه. انتهى. وبحث في هذه النسخة أيضا بأنه يغني عنه قوله: "وبيضه"؛ لأنه إذا حرم التعرض لبيضه فأحرى جروه، ولأنه يدخل في عموم قوله:"بري"، وأيضا يأتي له النص على الجرو في قوله:"والصغير والمريض" الخ. انظر حسن نتائج الفكر للإمام عبد الباقي. ولا شيء على المحرم في شرب لبن الصيد حيث وجده محلوبا، كما يوجد من لحم الصيد قد ذكي من حلال في حل، ولا يجوز للمحرم أن يحلبه لأنه لا يمسكه ولا يؤذيه، فإن حلبه فلا ضمان عليه ولا يشبه البيض، وقال أبو حنيفة: إن نقص الصيد بذلك ضمن ما نقصه، وإن لم ينقصه لم يضمن، وهذا يجري على قول في المذهب في جرح الصيد إذا نقصه، وقال الشافعي: يضمن اللبن بقيمته، واعتبره بالبيض، ودليلنا أن ذلك [ليس من أجزاء الصيد

(1)

] ولا يكون منه صيد. انظر الحطاب.

ولما كان التعرض لصيد البر حراما ابتداء ودواما، نبه على الدوام بقوله: وليرسله؛ يعني أنه يجب على المحرم أن يرسل الصيد البري إن كان بَيدِهِ أي حوزه، كان بيده حقيقة أو بقفص أو نحو ذلك.

وعلم مما قررت أن قوله: "بيده"، خبر لكان مضمرة، ويصح أن يكون حالا من الهاء في قوله:"وليرسله"؛ أي يجب على المحرم أن يرسل الصيد حال كون الصيد كائنا في يده، قال عبد الباقي: ويصح أيضا أن يكون متعلقا بيرسله، والباء بمعنى: من. انتهى. وفيه نظر؛ لأن الباء لا

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، وقد أثبتناه من الحطاب ج 3 ص 609. ط دار الرضوان.

ص: 674

تكون بمعنى من الابتدائية، وإنما تكون بمعنى من التبعيضية، نحو:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} . انظر حاشية بناني.

أو رفقته؛ يعني أنه يجب على المحرم إذا كان صيده البري مع رفقته أن يرسله، والمراد برفقته أتباعه أو المرافقون له، فإن لم يرسله حتى تلف منه ضمن، وكذا يضمنه هو أيضا إذا لم يرسله حتى تلف منهم، والضمير في "رفقته" يعود على المحرم، وقوله:"وليرسله"؛ أي حيث كان يملكه قبل الإحرام، وأما بعد الإحرام فلا يجوز له التعرض له، فإن تعرض له وأخذه فليرسله، وكذا من في الحرم من حلال مكيا أو آفاقيا، وعلم من هذا أن الأقسام ثلاثة: أحدها أن يملك الصيد قبل الإحرام ثم أحرم وهو في ملكه فليرسله، ثانيها أن يتعرض له بعد الإحرام فليرسله أيضا، ثالثها أن يأخذه من في الحرم فليرسله أيضا، وسواء في الأقسام الثلاثة كان بيده أو مع رفقته، والأولى شمول المصنف لجميعها خلاف ما قدمته تبعا لغيري. والله سبحانه أعلم. انظر حاشية الشيخ بناني.

ولا يمنع شموله لجميعها أن قوله: وزال ملكه عنه خاص بمن كان في ملكه قبل الإحرام أي الدخول في أحد النسكين أو في الحرم؛ لأنه يرجع لما يليق به من الأقسام، وفي هذا الذي ذكرته إجمال.

وها أنا أبدأ بشرح كلام المصنف ثم أرجع إلى تحرير هذا الإجمال، فأقول: معنى قول المصنف: "وزال ملكه عنه"، أن من أحرم بحج أو عمرة وقد كان قبل إحرامه يملك صيدا بريا يزول ملكه عنه بسبب الإحرام حالا ومآلا، فلو أفلته أحد من يده لم يضمن، ولو أفلته صاحبه وأخذه غيره قبل أن يلحق بالوحش وبقي بيد آخذه حتى حل صاحبه من إحرامه كان لآخذه، ولو أبقاه صاحبه بيده حتى حل لزمه إرساله، ولو ذبحه بعد إحلاله لزمه جزاء الصيد كما في الحطاب وغيره، ولو لم يرفع صاحبه يده عنه حتى مات فإنه يلزمه جزاؤه أيضا، ومن اصطاده وهو محرم أو في الحرم فإنه لا يصدق عليه أنه ملكه حتى يقال: زال ملكه عنه، وأما الحلال إذا اصطاد في الحل ودخل به الحرم، فإن كان من أهل الآفاق وجب عليه إرساله ولو أقام بمكة إقامة تقطع حكم السفر، فإن ذبحه حرم عليه سواء ذبحه وهو بمكة أو خرج به عن الحرم، وإن كان من أهل

ص: 675

مكة وهو حلال بأن كان من المترددين مثلا جاز له ذبحه وأكله ولو اشتراه من آفاقي صاده في الحل. وفي التتائي: أن من أقام بمكة طويلا كأهلها، والمراد بعد إحلاله من الإحرام. قاله عبد الباقي. والفرق بين أهل مكة حيث جاز لهم ذلك وبين غيرهم يجب عليهم الإرسال، ما قاله مالك: أن شأن أهل مكة يطول. والله سبحانه أعلم. وقوله: "وليرسله بيده أو رفقته"، هو المشهور، وحكى اللخمي عن محمد: ليس عليه إرساله إذا كان معه في الرفقة، وحكى أبو الحسن الصغير عن أشهب: أنه لا يرسله ولو كان بيده، وجعل الاستدامة ليست كالابتداء، وسبب الخلاف قوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} ، هل معناه اصطياد البر؟ وهو يأتي على قول أشهب. أو معناه نفس الصيد؟ وهو يأتي على قول ابن القاسم، وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا لم يرسله حتى أرسله غيره، فعلى قول أشهب: يضمن له قيمته ولا شيء عليه عند ابن القاسم، وهو الذي قدمته، وانظر ما الفرق على المشهور بين هذا وبين من أبقى بيده خمرا حتى تخللت فإنه يملكها؟ والجامع بينهما أنه في كل موضع لا يجوز له التمادي على الإمساك قبل التحليل من إحرامه والتخليل. قاله الشارح، فإن قيل: لم أوجبوا على المحرم إذا أحرم وبيده صيد أن يرسله، ولم يقل أحد إنه يطلق زوجته، مع أن الإحرام مانع من الاصطياد ومن عقد النكاح؟ فالجواب -والله أعلم-: أن الإحرام مانع من الاصطياد لذاته: وأما عقد النكاح فإنما منع منه لكونه وسيلة إلى الوطء، فبقاء يد المحرم على الصيد فعل في الصيد فأشبه الاصطياد، وأما إمساك الزوجة فليس في معنى تجديد العقد عليها. قاله الحطاب. والله سبحانه أعلم. وقوله:"وزال ملكه عنه"، الضمير في "ملكه"، يرجع للمحرم وللحل في الحرم، لا بإذنه؛ يعني أن من اصطاد صيدا وهو محرم أو في الحرم أو كان يملكه قبل ذلك، وأحرم وهو بيده أو مع رفقته يجب عليه أن يرسله كما مر، وأما من أحرم وفي بيته صيد يملكه، فإنه لا يرسله ولا يزول عنه ملكه بإحرامه، وفي المدونة: ومن أحرم وفي بيته صيد فلا شيء عليه فيه ولا يرسله، وقوله:"لا ببيته"، عطف على "بيده"، واختلف الأشياخ هل كلام المدونة على إطلاقه وعليه فعدم وجوب إرساله وعدم زوال ملكه ثابت؟ وإن كان الذي يملك الصيد الكائن ببيته قد أحرم منه أي من بيته أو مر به وهو للتونسي وابن يونس، أو هو مقيد بمن لا يحرم ببيته ولا يمر به، وإلا وجب إرساله

ص: 676

وزال ملكه عنه، ونقله ابن يونس عن بعض الأصحاب، وقوله: تأويلان، مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك تأويلان. ابن يونس: والفرق بين القفص والبيت أن القفص هو حامل له ومنتقل معه، وهو كالذي بيده. وما كان في البيت ليس كالذي بيده وهو مرتحل عنه وغير مصاحب له فافترقا. أبو محمد: والأول أسعد بالكتاب. قاله الخرشي. وفي هذا تقوية للتأويل الأول، وقال الأمير: ولو أحرم منه أي من البيت على الراجح مما في الأصل. انتهى. فلا يستجد ملكه؛ يعني أنه لا يجوز للمحرم أن يتسبب في أن يتجدد له ملك الصيد، فلا يتملكه بشراء أو هبة أو صدقة أو إقالة ممن اشتراه منه قبل الإحرام، وإذا رُدَّ عليه بعيب ولزم بالحكم لم يجب عليه إرساله، كالذي يدخل في ملكه جَبْرًا بميراث، ومعنى قوله:"فلا يستجد ملكه": لا يستحدث ملكه. وفي التوضيح: قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبوله بعد إحرامه ولا شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، وقوله:"فلا يستجد ملكه" مفرع على قوله: "وحرم به وبالحرم تعرضى بري"، وهذا الذي قررت به المصنف هو الأقرب في تفسيره، وأما حمله على أنه يستجد ملكه بعد إحلاله حيث أبقاه بيده فبعيد، قاله محمد بن الحسمن. وإذا اشترى شخص صيدا وهو حلال، فلما أحرم اطلع على عيب به فيعد إحرامه فوتا ويرجع بالأرش، ولا إشكال في، وجوب إرساله. والله أعلم. انظر الخرشي.

تنبيه: ما تقدم من أنه لا يستجد ملكه، محله إذا كان الصيد حاضرا معه، وأما إن كان الصيد غائبا عنه فيجوز له استجداد ملكه، قال سند: ويحرم ابتياع الصيد بحضرته وقبول هبته. انتهى. ونقله التادلي. وقال اللخمي: يجوز للشخص أن يشتري وهو محرم بمكة صيدا بمدينة أخرى ويقبل هبته انتهى. قاله الحطاب.

ولا يستودعه، بالبناء للمفعول، والنائب ضمير يعود على المحرم والضمير البارز للصيد؛ يعني أنه لا يجوز للمحرم أن يقبل الصيد وديعة من حلال أو محرم، قال في الطراز: ولا يجوز للمحرم أن يأخذ صيدا وديعة، فإن فعل رده إلى ربه، فإن غاب، فقال في الموازية: عليه أن يُطْلِقَهُ ويضمن لربه قيمته، ومعناه إذا لم يجد من يحفظ الصيد عنده، ولو وجده لم يرسله. انتهى. وكلام التوضيح -والله أعلم- يوهم أنه يجب إرساله بلا تفصيل، ونقله ابن غازي والشارح وسلماه،

ص: 677

وليس كذلك. انظر الحطاب. قاله بناني. وقوله: "ولا يستودعه"، قد مر أنه إن فعل يرده إلى ربه إن وجد، فإن أبى ربه أن يأخذه منه فليرسله بحضرته ولا يضمن، بخلاف ما إذا أرسله بغيبته فإنه يضمن. قاله في الطراز. قاله الحطاب. وفي كتاب محمد: إن أودع حلال حلالا صيدا بالحل ثم أحرم به، فإن كانا رفيقين أرسله، وإن لم يكونا في رحل واحد فكأنما خلفه ببيته. قاله الحطاب.

ورد إن وجد مودعه؛ يعني أن من أودع صيدا وهو حل ثم أحرم وهو بيده، يجب عليه أن يرده إلى مودعه بكسر الدال، فإن أبى من قبوله أرسله المودع بالفتح ولم يضمنه لإباية ربه من أخذه له، ولعله حيث تعذر جبر بحاكم على أخذه، وإلا يجد ربه ولا حلالا يودعه عنده، بقي بيده ولم يرسله؛ لأنه قبله في وقت يجوز له قبوله فيه، فإن مات عنده بتفريطه أوأرسله ضمن قيمته؛ لأن المحرم يضمن الصيد باليد.

وعلم مما قررت أن قوله: "ورد إن وجد" الخ، ليس مفرعا على ما قبله، بل هو مفرع على مستقل وهو من كان عنده صيد مودع قبل إحرامه فأحرم وهو عنده، والحاصل أن إيداع الصيد من محرم أو غيره تسع؛ لأنه: إما أن يودع الصيد حلال عند حلال ثم يحرم المودع بالفتح، أو حلال عند محرم، أو محرم عند محرم فهذه ثلاث، وفي كل منها إما أن يجد المودَعُ بفتح الدال ربَّ الصيد، وإما أن لا يجده لكن يجد حلالا يودعه عنده، وإما أن لا يجد ربه ولا من يودعه عنده، فالمجموع تسع، فإذا كان المودع بالكسر حال الإيداع حلالا وأحرم بعده وحضر مع المودع بالفتح، فإنه يجب إرساله، فإن لم يحضر مع المودع بالفتح فإن كان المودع بالفتح حلالا ثم أحرم فإنه يرده لربه إن أمكن، فإن لم يمكن أودعه له عند من يحفظه، فإن لم يمكن أبقاه بيده، وإن كان المودع بالفتح حال الإيداع محرما والمودع بالكسر إذ ذاك حلالا ولو أحرم بعد ذلك، فإنه يرده لربه إن أمكن، فإن لم يمكن أودعه له عند من يحفظه حلالا إن أمكن، فإن لم يمكن أرسله وغرم قيمته لربه، ولا جزاء عليه؛ لأن الجزاء إنما هو بهلاكه أو التسبب في ذلك أو إمساكه للهلاك، وإن كان ربه حين الإيداع محرما فإن المودع بالفتح يرسله ولو مع حضوره.

ص: 678

وفي صحة الشراء قولان؛ يعني أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز للمحرم شراء الصيد حال إحرامه؛ أي لا يجوز له الإقدام على شرائه، وأما لو تعدى المحرم واشترى صيدا من حلال فقيل: هذا البيع صحيح، وهو قول ابن حبيب، وقيل: فاسد وهو في الموازية، وعلى القول الأول يجب على المشتري إرساله ويغرم قيمته لربه دون ثمنه. قاله سند. وَوَجَّهَه بقوله: لأن ربه كان سببا في وضع يد المحرم عليه وإرساله فلم يبق له حق في عينه، وإنما حقه في ماليته والرجوع بقيمته، واستظهر القولُ بأنه يغرم ثمنه، وعلى ما لسند يقال لنا بيع صحيح يمضي بالقيمة، ثم إنه على القول بالصحة لو لم يرسله ورده لربه فعليه جزاؤه. قاله سند عن ابن حبيب. وعلى القول بالفساد يرده لربه لأنه بيع فاسد لم يفت، فإن لم يجد ربه فقياس ما تقدم أنه إذا لم يجد حلالا يودعه عنده أرسله وضمن لربه قيمته: فلو ابتاعه بالخيار أي على أن الخيار للمبتاع وهما حلال، ثم أحرما قبل مضى أمد الخيار نظر، فإن اختار المبتاع الإمضاء غرم الثمن وأطلقه، وإلا فلا ثمن عليه، ويُطْلَقُ على البائع، وإن كان الخيار للبائع، ثم يحرمان يوقف البائع، فإن لم يختر فهو منه وسرحه، وإن أمضى فهو من المشتري ويسرحه، ولو سرحه قبل إيقاف البائع ضمن قيمته لإتلافه لما في ملك البائع، ولم يمض البيع.

وعلم مما قررت أن محل القولين في المصنف: إذا كان البائع حلالا فإن كان محرما ففاسد قطعا.

ولما ذكر حرمة التعرض للبري عموما أخرج منه ما استثني في الصحيحين بخبر: (خمسٌ فواسقُ يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحِدَأة والعقرب والفأرة والكلب العقور

(1)

)، ولمسلم:(خمس فواسق)

(2)

بالإضافة من غير تنوين، فقال: إلا الفأرة مستثنى من قوله: وحرم به، وبالحرم تعرض بري؛ يعني أن الفأرة تقتل في الحل وفي الحرم، ويقتلها المحرم وغيره، والتاء هنا للوحدة لا للتأنيث، والفأرة بهمزة ساكنة وقد تسهل، ويلحق بها بنت عرس وما يقرض الثياب من الدواب. والحية؛ يعني أن الحية يجوز قتلها في الحل وفي الحرم للمحرم ولغيره، ويدخل في الحية الأفعى، وقوله:"والحية"، التاء فيها للوحدة لا للتأنيث كالتي قبلها، وكذا الرتيلاء والزنبور وهو

(1)

البخاري، كتاب جزاء الصيد، الحديث: 1828/ 1829. ومسلم، كتاب الحج، الحديث: 1198.

(2)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1198.

ص: 679

الدبر. نص عليه صاحب التلقين. والرتيلاء دابة صغيرة ربما قتلت من لدغته، والعقرب؛ يعني أن العقرب يباح قتلها في الحل، وفي الحرم للمحرم ولغيره.

وقوله: "إلا الفأرة والحية والعقرب" اعلم أنه لا فرق في هذه الأجناس الثلاثة بين الصغير والكبير منها؛ لأن صغيرها يؤذي كما أن كبيرها يؤذي، وسواء بدأت بالإيذاء أم لا، ولهذا قال: مطلقا؛ أي يجوز قتل هذه الأجناس الثلاثة مطلقا؛ أي صغيرة كانت أو كبيرة، وغرابا؛ يعني أن الغراب يباح قتله في الحل والحرم للمحرم وغيره؛ وسواء كان أسود أوأبقع وهو ما خالط سواده بياض، وتقييده في بعض طرق (الحديث بالأبقع

(1)

) لا يخصص العام الواقع في طريق أخرى، بل هو فرد منه؛ لأن شرط المخصص المنافاة على ما عليه غالب أهل المذهب، ولبعض أنه من باب تقييد المطلق. قاله ابن عبد السلام. والله سبحانه أعلم. وحدَأَةٍ: يعني أن الحدأة بوزن عنبة يباح قتلها في الحل والحرم للمحرم وغيره، فيجوز قتل هذه الخمس لا بنية الذكاة، فإن قصد تذكيتها لم يجز قتلها كما لسند عن عبد الوهاب، فإن قتلها بنية الذكاة فعليه جزاؤها، وكذا يقال في طير خيف إلا بقتله ووزغا محل.

وفي صغير غراب وحدأة مبتدأ وخبر؛ يعني أنه اختلف في قتل صغار الغربان والحدأة، فقيل: يباح قتلها للمحرم وغيره، وقيل: لا، قال ابن راشد وغيره: المشهور إباحة القتل لعموم الحديث، وقال ابن هارون: المشهور المنع في الصغير منهما ما لم يصل إلى حد الإيذاء، وعلى القول بالمنع فلا جزاء فيه مراعاة للقول الآخر: ويجوز قتل الغراب والحدأة وإن لم يبدءا بالأذى. كعادي سبع، العادي من السباع هو الذي يتعرض للإنسان؛ يعني أن ما يعدو من السباع يجوز للمحرم ومن في الحرم وغيرهما قتله، فقوله:"كعادي سبع"، تشبيه في أنه يقتله المحرم ومن في الحرم لأجل الإيذاء، وجواز قتله مقيد بما إذا لم ينو ذكاته، فإن قتلد بنية الذكاة ففيه الجزاء، مع أنه لا يجوز كما تقدم، ومثل لعادي السباغ بقوله: كذيب، وأسد ونمر ونحوها، وهو تفسير للكلب العقور الوارد في الحديث، وفسروه بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم في عُتَيْبَةَ بنِ أبي لَهَبٍ:

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1198.

ص: 680

(اللهم سلط عليه كلبا من كلابك

(1)

)، فعدا عليه الأسد فقتله، هذا هو الراجح أنه عتيبة بالتصغير، وأما أخواه عتبة بالتكبير ومعتب فقد أسلما عام الفتح كما ذكره ابن عبد البر وابن حجر وغيرهما، خلاف ما في الشفاء من أن عتبية المصغر هو الذي أسلم وهو معترض بأن المشهور خلافه، والحديث حسن أخرجه الحاكم. انظر حاشية الشيخ بناني.

إن كبر قيد في عادي السبع؛ يعني أن العادي من السباع إنما يقتل إن كبر، وأما إن صغر فيكره قتله ولا جزاء فيه، فقد نقل الفاكهاني في شرح الرسالة عن القاضي عبد الوهاب أن قتل صغار السباع مكروه ولا جزاء فيه، وقال المصنف في مناسكه: ولا تقتل صغار السباع على المشهور، لكنه إن فعل فلا جزاء على المشهور، وبالكراهة صرح في الطراز، فقال: رأى ابن القاسم أن هذا مما يكره ولا يحرم؛ لأنه من جنس ما يضر ويباح قتله، وإنما كره للمحرم قتله لعدم إذايته في حقه، وظهر مما مر أن المصنف أتى بالكاف لِيَرْجِعَ إليه، قوله:"إن كبر". والله سبحانه أعلم. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه.

وقد مر تفسير الكلب العقور الوارد في الحديث بأنه العادي من السباع وهو المشهور، وقيل: المراد الكلب الإنسي، قال اللخمي: وهو ظاهر قول أشهب لأنه قال: يقتل الكلب وإن لم يعقر، زاد في النوادر: وإن كان كلب ماشية، ونص أشهب على أنه يقتل صغار السباع، وقال بعضهم: اتفقوا على دخول السباع تحت لفظ الكلب العقور، واختلفوا في الكلب والمشهور عدم دخوله. انتهى. نقله الشارح. وروي عن مالك جواز قتل القرد والخنزير. ابن حبيب: ولا يقتل الدب وإن قتله فعليه جزاؤه. قاله الشارح.

كطير خيف إلا بقتله؛ يعني أن الطير إذا عدا وخيف منه وكان لا يندفع إلا بقتله، فإنه يجوز قتله ولا جزاء فيه.

وبما قررت علم أن الاستثناء راجع لمقدر؛ أي ولا يندفع إلا بقتله، ويصح رجوعه "لخيف"، بتضمينه لا يؤمن منه، وظاهر حذف متعلق خيف يعم ولو على الطعام والشراب وانظره. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: خيف منه على النفس أو بعض الأعضاء أو الدواب أو المال، وينبغي

(1)

فتح الباري، ج 4 ص 39.

ص: 681

تقييده بما له بال. انتهى. الباجي: ولا خلاف في المذهب أنه لا يجوز قتل سباع الطير غير ما في الحديث ابتداء، ومن قتلها فعليه الفدية، فإن ابتدأت بالضرر فلا جزاء على قاتلها وهو المشهور، وقال أشهب: عليه في الطير الفدية وإن ابتدأت بالضرر، واحتج ابن القاسم بأن الإنسان أعظم حرمة من الطير، فإذا قتله الإنسان دفعا عن نفسه فلا شيء عليه، وقوله:"كطير خيف" الخ، يخص بغير الغراب والحدأة لما مر. ووزغا لحل بحرم، عطف على قوله:"إلا الفأرة"؛ أي وإلا وزغا لحل بحرم؛ يعني أنه يجوز للحل أن يقتل الوزغ في الحرم، ومفهوم قوله:"لحل"، أن المحرم يمنع من ذلك وهو كذلك، قال في الذخيرة: ومنع مالك قتل الوزغ للمحرم مع إباحة قتلها في الحرم، والفرق أن الإحرام سريع الزوال، ولو لم تقتل في الحرم لكثرت فيه، ويطعم المحرم إذا قتلها، وعلى ذلك المذهب كله، وبه تعلم أن ما في المدونة من كراهة قتل الوزغ للمحرم المراد به التحريم، ولو كان المراد كراهة التنزيه ما قال: أطعم كسائر الهوام، والقاعدة أن ما جاز قتله في الحرم جاز للمحرم قتله في الحل، إلا أن مالكا رحمه الله تعالى رأى أنه لو تركها الحلال في الحرم لغلبت في البيوت وحصل منها الضرر بإفساد ما تصل إليه ومدة الإحرام قصيرة، وقد ورد الحديث بالحض على قتل الوزغ ولولا أن شأنها الأذى لم يحض؛ لأنه لا يجوز إتلاف نفس الحيوان لغير علة.

وفي الحطاب عن الفاكهاني قال: قال العبدي: جملة ما يجوز للمحرم قتله وفي الحرم ثلاثة عشر: ستة تذبح للأكل، وسبعة تقتل للضرر ودفع أذاها، فأما ما يذبح للأكل: فبهيمة الأنعام الثلاثة الإبل والبقر والغنم. وثلاث من الطير البط والإوز والدجاج، وأما ما يقتل لدفع الضرر فثلاثة هوائية وهي الغراب والحدأة والزنبور، على اختلاف في الزنبور وثلاثة ترابية العقرب والفأرة والحية، والكلب العقور.

كإن عم الجواد تشبيه في عدم الجزاء المفهوم من الاستثناء، فكأنه قال: ولا جزاء في هذه المستثنيات "كإن عم الجراد"؛ يعني أنه إذا عم الجراد بحيث لا يستطاع دفعه، والحال أن المحرم اجتهد في التحفظ من قتله، فما أصابه منه بعد ذلك فهدر، قال في المختصر: وإذا عم

ص: 682

الجراد على الناس ولم يستطيعوا دفعه فلا شيء على من أصاب منه شيئا، ولو أطعم شيئا من الطعام كان أحسن، وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإن لم يعم الجراد أو عم ولم يجتهد في التحفظ وقتله مفرطا، فقيمته؛ أي الجراد الذي قتل لازمة له طعاما يحتمل كالجلاب من غير حكومة. ابن رشد: وهو ظاهر المدونة، ولابن القاسم: بحكومة. قاله التتائي. وعلى الاحتمال الأول ما تقوله أهل المعرفة، وعلى الثاني فإن أخرج من غير حكومة أعاد، ولا مانع من عود قوله:"وإلا فقيمته"، لمسألة الوزغ أيضا أي، وإلا بأن قتل المحرمُ الوزغ فقيمته لقول مالك، وإذا قتل المحرم الوزغ أطعم كسائر الهوام. انتهى. قاله غير واحد. وقوله:"فقيمته"؛ أي حيث قتل أكثر من واحدة بدليل قوله: وفي الواحدة حفنة؛ يعني أنه يلزمه في قتل الجرادة الواحدة حفنة من طعام بيد واحدة على المعتمد، وظاهر قوله:"الواحدة"، أن فيما زاد عليها القيمة وهو ظاهر الجلاب أيضا، وفي المواق ما يفيد أن الحفنة في الواحدة والاثنتين والثلاث إلى العشر، لا أن كل واحدة فيها حفنة، وفيما زاد على العشر القيمة وظاهر المصنف تعين الحفنة أو القيمة من الطعام، وقال الباجي: لو شاء الصيام لحكم عليه بصوم يوم. انتهى. وما ذكره المصنف من لزوم القيمة في أكثر من واحدة والحفنة في الواحدة جار فيما إذا قتله عمدا، بل وإن في نوم أو نسيان؛ يعني أنه إذا انقلب على الجراد في نوم فقتله، فإن في الواحدة قبضة أي حفنة بيد واحدة، وفي أكثر منها القيمة على ما مر، فلا فرق بين من قتله نائما ومن قتله عامدا إلا في الإثم وعدمه، ومثل النوم النسيان كما مر. كدود، تشبيه في وجوب الحفنة من غير تفصيل بين الواحدة وغيرها؛ يعني أنه يلزم في قتل الدود والنمل والذر والذباب قل أو كثر حفنة يبد واحدة. الخرشي: وأما الدود الذي يخرج من الجراح فيجري على ما تقدم من قوله: كشعرة أو شعرات الخ. انتهى. والحفنة والقبضة بمعنى كما في الشارح وفي الشارح: وإذا وطئ ببعيره على ذباب أو ذر أو نمل فقتلهن فليتصدق بشيء من الطعام، قال ابن المواز: بقبضة بحكومة، فإن أخرج بغير حكومة أعاد. ابن رشد: ظاهر الكتاب أن الجراد لا حكومة فيه، فإن قتلت الدابة شيئا من ذلك بنفسها فلا شيء عليه.

وعلم مما قررت أنه لا فرق بين الواحدة وغيرها في لزوم الحفنة في الدود ونحوه.

ص: 683

ولما ذكر أن التعرض للبري بأي وجه حرام، شرع في ذكر موجب جزائه، فقال: والجزاء بقتله؛ يعني أن الجزاء يجب بقتل الحيوان البري حيث قتله لغير مخمصة، بل وإن كان ذلك لأجل مخمصة؛ أي يجب الجزاء بقتل الصيد وإن قتله لمخمصة أي شدة مجاعة عامة أو خاصة تبيح الميتة، وتقدم عليه كما يأتي في باب المباح، وقوله:"والجزاء بقتله"، هذا لا إشكال فيه، وذكره توطئة لما بعده من قوله:"وإن لمخمصة"، وما بعده، وإذا اشتدت المخمصة حتى أبيحت الميتة، فهل يجوز اصطياده حينئذ وعليه الجزاء أو لا؟ قولان، وقيل: يجوز ولاجزاء. قاله عبد الباقي. وجهل؛ يعني أنه إذا قتل الصيد يجب عليه الجزاء لأجل جهل الحكم أو العين، قال عبد الباقي مقررا للمصنف: ويجب عليه الجزاء، وإن انتفى عنه الإثم لأجل جهل الحكم. قال محمد بن الحسن في سقوط الإثم بالجهل: نظرٌ لجرأة الإقدام قبل علم الحكم، ولم أَرَهُمْ ذَكَرُوا سقوط الإثم إلا في النسيان وهو ظاهر. انتهى. وكذلك يجب عليه الجزاء في قتل، وإن انتفى عنه الإثم لأجل نسيان؛ أي نسي كونه محرما أو أنه في الحرم أوأنه صيد أو الحكم، وكذلك يجب عليه الجزاء، بمعنى أنه يتكرر عليه لأجل تكرر؛ أي تكرر قتله للصيد فيتعدد الجزاء بتعدد المصيد، وفي المدونة: ومن قتل صيودا فعليه بعددها كفارات. انتهى. وحكى في الجواهر عن ابن بشير أنه حكى عن محمد بن عبد الحكم أنه قال: لا جزاء في غير العمد ولا فيما تكرر قاله الشارح. وقال: -يعني ابن عبد الحكم-: وليس عليه بعد أول مرة إلا ما وعد الله تبارك وتعالى بقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} ؛ أي في الآخرة أو يعفو عنه، قال: وهو نص كتاب الله تعالى. انتهى. والجواب عما قال ابن عبد الحكم: أن ما في الآية خرج مخرج التغليظ، فلا ينافي الجزاء، وينتقم الله منه في الآخرة، وإن شاء سامحه، وقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} الآية، خرج مخرج الغالب وقررت قوله:"وتكرر"، على أنه مصدر داخل في حيز المبالغة تبعا لغير واحد، وقرره بعضهم على أنه فعل ماض وفاعله الجزاء، ومتعلق "تكرر" محذوف؛ أي وتكرر الجزاء بتكرر الصيد، وكان ينبغي له أن يأتي بالمتعلق، فيقول: وتكرر بتكرره.

كسهم مر بالحرم تشبيه في لزوم الجزاء، والمعنى أنه إذا رمى وهو في الحل صيدا في الحل إلا أن بينه وبين الصيد بعض حرم، فمر السهم ببعض الحرم فقطعه وخرج إلى الصيد فقتله، فإنه ميتة

ص: 684

وفيه الجزاء، ولا يؤكل عند ابن القاسم قرب أو بعد. وقال أشهب: يؤكل ولا جزاء عليه. ابن عبد السلام: ووافق أشهبَ عبدُ الملك بشرط البعد، قال: ولا أدري كيف يتصور البعد في رمية السهم. نقله الشارح. قال الشارح: قلت: ليس المراد بالبعد إلا أن يكون بين الرامي وبين الحرم مسافة لا يقطعها السهم غالبا، فوافق من مقدور الله تعالى أنه قطعها، ومر بطرف الحرم لقوة حصلت للرامي في ذلك أو لجودة القوس والسهم، ولا بعد في تصور ذلك. انتهى.

وكلب تعين طريقه؛ يعني أن الحلال إذا أرسل على صيد في الحل كلبا ليس له طريق توصله للصيد إلا من الحرم فوصل إليه من الحرم وقتله فإنه ميتة، وعلى مرسل الكلب جزاؤه لأنه حينئذ منتهك لحرمة الحرم، فقوله:"طريقه" إما بالرفع على أنه فاعل "تعين"، والضمير فيه يعود على الكلب؛ أي تعين طريقه من الحرم، وإما بالنصب والفاعل ضمير يعود على الحرم؛ أي تعين الحرم طريقه، ومفهوم كلام المصنف لو كان للكلب طريق غير الحرم لم يكن عليه جزاء لعدم انتهاكه حرمة الحرم وهو كذلك، نص عليه ابن الحاجب، وسوَّى اللخمي بين مسألتي السهم والكلب في الاختلاف، واختار فيهما جواز الأكل وَعَدَمَ الجزاءِ، والتقييد في الكلب تبع فيه المصنف ابن شأس وابن الحاجب. قاله ابن غازي.

أو قصر في ربطه؛ يعني أن من هو محرم أو في الحرم ومعه كلب أو جارح يصطاد به، فقصر في ربطه فانفلت منه فقتل صيدا في الحل أو في الحرم، فإنه ميتة لا يؤكل وعليه جزاؤه لتقصيره في ربطه، فإن لم يقصر في ربطه فلا شيء عليه، فالضمير في "ربطه"، للجارح كلبا أو بازيا أو غيرهما. أو أرسل بقربه فقتل خارجه؛ يعني أن الصائد إذا أرسل كلبه أو بازيه من الحل بقربه أي الحرم وهو ما يغلب على الظن أنه إنما يدركه بالحرم فقتله بعد أن خرج به من الحرم، فإن الصيد لا يؤكل، وعلى الصائد الجزاء.

واعلم أنه اختلف في حكم الاصطياد قرب الحرم، فقال مالك: إنه مباح إذا سلم من قتله في الحرم، وقال في التوضيح: المشهور أنه منهي عنه إما منعا أو كراهة بحسب فهم قوله صلى الله عليه وسلم: (كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه

(1)

)، قال الحطاب: والظاهر الكراهة، ثم إن

(1)

البخاري، كتاب الإيمان، الحديث:52.

ص: 685

قتله في الحرم أو بعد أن خرج منه ففيه الجزاء، وإن قتله بقرب الحرم قبل أن يدخله فالمشهور أن لا جزاء عليه، وهو قول مالك وابن القاسم، قال التونسي: ويؤكل وقال ابن عبد الحكم وابن حبيب: عليه الجزاء، والمتبادر من كلام المصنف هو الصورة الأخيرة، لكن لضعف القول بالجزاء فيها تعين حمله على الثانية، ويجعل قوله:"خارجه"، حالا من فاعل "قتل". تأمل. قاله محمد بن الحسن. ومفهوم "بقربه"، أنه لو أرسله في بعد من الحرم وهو كما في التوضيح ما يغلب على الظن إدراكه فيه قبل دخوله الحرم أو يرجع عنه، فقتله فيه أو أدخله فيه، ثم أخرجه منه فقتله، فإنه لا جزاء فيه، وهو كذلك لكنه لا يؤكل في الوجهين. وفي الواضحة: أن ما قتل قريبا من الحرم يسكن بسكونه ويتحرك بتحركه، فعليه جزاؤه، ولو أرسله على صيد قرب الحرم فعدل عنه إلى غيره في الحرم فعليه جزاؤه؛ لأنه غرر، كما لو أرسل على ذيب في الحرم فعدل إلى ظبي. ونقل الحطاب بعد أن نقل ما مر عن التوضيح أن البعد عند ابن القاسم ما لا يظن أن الكلب يلجئ الصيد إليه، وأنه إما أن يدركه قبل ذلك أو يرجع عنه. وعند ابن الماجشون: ما لا يتحرك الصيد فيه بحركة ذلك الموضع، وما مر عن التوضيح يفيد أن الظن غير القوي والشك في ذلك من القرب، وكلام ابن القاسم يفيد أن الشك من البعد كما في الخرشي. والله أعلم. وظاهر قول المصنف:"بقربه": [سواء

(1)

] تعين الحرم طريقه أم لا وهو ظاهر؛ لأنه لما كان قربه جاز دخوله إياه. أبو إبراهيم: لو جر الشخص أو الكلب الصيد من الحل فأدخله الحرم، ثم خلى عنه حتى خرج الصيد من غير أن يخرجه ثم اتبعه فقتله، فينبغي أن يؤكل كمسألة العصير يصير خمرا ثم تخلل. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال: يمكن جعل هذه المسألة مفهوم قول المصنف: وطرده من حرم؛ لأنه صادق بما إذا تسبب في إدخاله الحرم، وبما إذا كان فيه من غير سببه. انتهى. وقوله:"وطرده"، عطف على "قتله" من قوله:"والجزاء بقتله"، فهو مما يلزم فيه الجزاء؛ يعني أن الإنسان إذا طرد الصيد من الحرم وأخرجه إلى الحل، فصاده صائد في الحل أو هلك فيه قبل أن يعود إلى الحرم، أو شك في هلاكه وهو لا ينجو بنفسه فإنه يلزم الصائد جزاؤه.

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل وقد أثبتناه من عبد الباقي ج 2 ص 314.

ص: 686

الحطاب: لا إشكال في حرمة ذلك؛ يعني طرد الصيد من الحرم، قال: فإن فعل ثم عاد الصيد إلى الحرم فلا جزاء عليه، وإن صاده صائد في الحل فعلى من نفره جزاؤه؛ لأنه السبب في إتلافه، وهو كمحرم صاد صيدا في أرض غير مسبعة، ثم أرسله في أرض مسبعة فأخذته السباع وإن لم يتيقن تلفه، فإن كان في موضع ممتنع يتحقق منعته فيه فلا جزاء عليه، وإن لم يكن ذلك متيقنا فعليه جزاؤه، وأما طرد الصيد عن طعامه أو رحله فلا بأس به إلا أن يهلك بسبب طرده فعليه الجزاء، كقضية سيدنا عمر. قاله محمد بن الحسن. يشير بذلك إلى ما نقل عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل دار الندوة بمكة، فوضع ثيابه على شيء واقف يجعل عليه الثياب، قال: فوقعت فيه حمامة فخفت أن تؤذي ثيابي فطردتها، فوقعت على هذا الواقف الآخر، فخرجت حَيَّةً فَأكَلَتْها فخشيت أن طردي إياها كان سببا لحتفها، فقال لعثمان ونافع: احكما علي، فقال أحدهما لصاحبه: ما تقول في عنز ثنية عفراء تحكم بها على أمير المؤمنين؟ فقال له صاحبه: نعم، فحكما عليه. انتهى. نقله الحطاب.

وتحصل مما مر أنه إن لم يطرده فلا جزاء عليه، وإن طرده منه، فإن عاد إلى الحرم فلا جزاء، وإن صاده صائد في الحل فالجزاء، وإلا فإن كان في موضع ممتنع تحقق منعته فيه فلا جزاء على طارده، ولو حصل له التلف بعد ذلك أو صيد؛ لأن طرده حينئذ لا أثر له وإلا فالجزاء.

وقال الشارح عند قوله: "وطرده من حرم": يعني ويجب الجزاء بطرده من الحرم إلى الحل، وهكذا قال في المدونة، يريد إذا كان الصيد لا ينجو بنفسه لأنه أخرجه من مأمنه وعرضه للتلف، فإن كان ينجو بنفسه فلا شيء عليه، نص على ذلك اللخمي وابن يونس، وحكى التونسي في إخراجه من الحرم قولين: الأول أن عليه الجزاء وأطلق، والآخر أن لا جزاء عليه إذا كان ينجو بنفسه، ولو أطلقه في الأندلس. انتهى.

ورمي منه، عطف على قوله:"بقتله"، والضمير في قوله:"منه"، عائد على "الحرم"؛ يعني أن من رمى من الحرم صيدا في الحل فقتله فعليه الجزاء، ولا يؤكل عند ابن القاسم نظرا لابتداء الرمية، خلافا لأشهب وعبد الملك نظرا لانتهائها، وقوله:"ورمي منه"، بخلاف ما لو رأى صيدا في الحل وهو في الحرم فعدا عليه من الحرم، وذلك لأن الإرسال يكون بدءا لذكاة وعنده تشترط

ص: 687

التسمية، وأما الذي عدا خلف الصيد فإنما يبتدئ الاصطياد من حين يطرده ويأخذه، فلا اعتبار بما قبل ذلك. وله: أي الحرم، وهو معطوف على قوله:"منه"؛ يعني أن من رمى من الحل صيدا في الحرم فقتله فإنه لا يؤكل اتفاقا، وعليه الجزاء لأنه يصدق عليه أنه قتلُ صيدٍ، وفي المدونة: من رمى صيدا في الحل وهو في الحل فهرب الصيد وتبعته الرمية، فإن إصابته في الحرم ففيه جزاؤه، وإن أصابته في الحل فلا شيء عليه، قرب من الحرم أو بعد، وهو المشهور. وقال ابن عبد الحكم: ما قارب الشيء له حكمه، وقال ابن الماجشون: كل ما يسكن بسكون ما في الحرم ويتحرك بحركته فله حكمه. قاله الشارح. ومثل الرمي في الحالين؛ أي منه أو له إرسال الكلب، ويفهم من المصنف أن من بالحرم إذا أراد صيدا بالحل فذهب له عازما على اصطياده فرآه بالحرم ولم يرمه ولم يرسل عليه كلبه ونحوه حتى خرج من الحرم فصاده في الحل، لا شيء عليه وهو كذلك. وفي كلام سند ما يفيده انظر الحطاب. قاله عبد الباقي.

وعطف على قوله: "بقتله"، قوله: وتعريضه للتلف. والمجرور متعلق "بتعريضه"؛ يعني أنه لا فرق في لزوم الجزاء للصائد بين قتله للصيد وتعريضه للتلف حيث لم تحقق سلامته، مثال ذلك حبسه ونتف ريشه الذي لا يقدر مع نتفه على الطيران، وإلا فلا جزاء فيه، وإذا نتف ريشه ثم أمسكه عنده حتى نبت وأطلقه فلا جزاء عليه، وليس من تعريضه للتلف أخذه من مكة وإرساله للأندلس حيث لا يخاف عليه. قاله ابن عرفة، وغيره. قوله:"وإرساله"؛ أي إطلاقه لا بعثه عنده في بيته -مثلا- فلا يعارض قوله: "وليرسله"، وقوله:"وزال ملكه عنه". قاله عبد الباقي. قال محمد بن الحسن: فيه نظر؛ إذ لا يتصور عادة إطلاقه من مكة للأندلس، وإنما المراد بعثه عنده في رحله ثم يرسله بالأندلس. والله أعلم. وليس من تعريضه للتلف كون الغير يقدر عليه بسبب جرحه له، خلاف ما استظهره البساطي وسلمه التتائي؛ لأنه مهما علم أنه لا يموت بالجرح، أو برئ منه بنقص والتحق بجنسه فلا شيء فيه، وإن كان الغير يقدر عليه وهو مذهب المدونة، ويدخل في قول المؤلف:"ولو بنقص". ابن عرفة: وإن برئ ناقصا ففي غُرم نقصه ولغوه، ثالثها: إن كان نقصه يسهل اصطياده، وعزا الثاني للمدونة وعبد الحق وابن القصار.

ص: 688

وجرحه بالجر، عطف على قوله:"بقتله"؛ يعني أنه يجب الجزاء في جرح الصيد المذكور جرحا لم تنفذ مقاتله منه، وغاب إن لم تحقق سلامته من ذلك الجرح.

وعلم مما قررت أن قوله: ولم تحقق سلامته، قيد في الجرح والتعريض للتلف؛ يعني أن محل وجوب الجزاء في جرح الصيد وتعريضه إذا لم تحقق سلامة الصيد منهما، فإن تحققت سلامته منهما فلا شيء عليه حيث برئ بلا نقص، بل ولو بنقص، فهو مبالغة في المفهوم، والباء فيه بمعنى: مع؛ يعني أن الصيد إذا برئ من جرحه ومن الفعل الذي عرضه به للتلف ناقصا، فإنه لا شيء عليه على المشهور، وهو مذهب المدونة، وقال ابن المواز: يلزمه ما بين القيمتين، فيقوم صحيحا بعشرة أمداد مثلا، ومعيبا بثمانية فيغرم ما بين القيمتين وهو مدان، وحمله اللخمي وغيره على الخلاف. ابن عبد السلام: وهو الظاهر، وقال ابن يونس: ويحتمل الوفاق، ويحمل قول ابن القاسم: لا شيء إذا استيقن، أنه سلم؛ أي سلم بغير نقص. قاله الشارح. وكونه وفاقا ضعيف قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله:"ولم تحقق سلامته"؛ أي لم يغلب على الظن سلامته. قاله الخرشي.

تنبيه: إذا نتف ريشه ماذا يفعل به؟ ظاهر قوله فيما مر: "وليرسله"، أو صريحه أنه يرسله، فإن تحقق سلامته فلا شيء عليه، وإن لم يتحقق سلامته وداه. وقال اللخمي. محمد: يدعه في موضع ينسل فيه، ثم عليه جزاؤه. ابن حبيب: يحبسه حتى يَعْفُوَ رِيشُهُ ثم يرسله ويطعم مسكينا، فإن غاب قبل أن ينسل وخيف عطبه فليده، ويختلف على هذا إذا جرح صيدا فلم يستطع النجاة، هل يحبسه حتى يبرأ أو يرسله ويغرم جزاءه الآن؟ فإن حبسه لم يغرم الآن شيئا، فإن برئ بغير شين فلا شيء عليه، وإن بقي شين غرم ما نقصه. نقله الشارح.

وكرر إن أخرج لشك ثم تحقق موته؛ يعني أنه إذا جرح الصيد وغاب عنه ولم يعلم هل مات أم لا، فإنه يجب عليه أن يخرج الجزاء كما مر، فإذا أخرجه ثم تحقق بعد الإخراج أنه مات فإنه يجب عليه أن يخرج الجزاء ثانيا، وهو مراده بالتكرير.

وعلم مما قررت أن المراد بالشك مطلق التردد، وقوله:"لشك"؛ أي لأجل شك نشأ عن رمي الصيد ونحوه، هل مات أم لا؟ وقوله:"ثم تحقق"، مثل التحقق غلبة الظن، وقوله: "إن أخرج

ص: 689

لشك"، قال عبد الباقي: ولو كانت الرَّمْيَةُ أنفذت مقاتله، قال محمد بن الحسن: فيه نظر، بل ظاهر كلامهم أن إنفاذ القاتل كالموت بالفعل، وأنه لا يكررها إن أخرجها بعد إنفاذ المقاتل. انتهى. وإنما كرر الإخراج؛ لأنه تبين أنه أخرج قبل الوجوب؛ لأن الموجب على الحقيقة إنما هو القتل، وغيره إنما أوجب لأنه موصل إليه، فإذا تبين أنه أخرج قبله وجب الإخراج عند حصول الموجب الحقيقي. وقد مر عن الشيخ بناني أن إنفاذ المقاتل بمنزلة القتل، ومفهوم قوله: "ثم تحقق"، أنه لو بقي على شكه لم يكرر الإخراج، وكذا إن تحقق بعد الإخراج للشك موته قبل الإخراج كما في النقل، وكلامه صادق بهذه الثانية، فلو قال: ثم مات، لأفاد القصر على الأولى.

ككل من المشركين، تشبيه في قوله:"وكرر"؛ يعني أن الجماعة من المحرمين إذا اجتمعوا على قتل صيد ولو لم يكونوا في الحرم، أو كانوا في الحرم ولو لم يكونوا محرمين، فإنه يلزم كل واحد منهم جزاء كامل: فقوله: "من المشتركين"، بالجمع والألف واللام للجنس؛ أي جنس المشتركين، والجنس يصدق بالاثنين فأكثر أو بالتثنية، وهي بيان لأقل ما يتحقق به الاشتراك، فتحصل من هذا أن معنى كلام المصنف أن المحرمين أو من في الحرم إذا اشتركوا في قتل صيد، فإنه يجب على كل واحد منهم جزاء كامل، وفيها: وإن أرسل كلبه على صيد في الحرم فأشلاه بعدُ آخرُ فأخذ الصيد، فإن انشلى الكلب بإشلائه فعلى الذي أشلاه أيضا الجزاء، ومفهوم قوله:"من المشتركين"، أنه لو تمالأ جماعة على قتلة فقتله واحد منهم، فجزاؤه على قاتله فقط كما هو ظاهر كلامهم وظاهر كلام المصنف: لا ينظر إذا قتله جميعهم لمن فعله أقوى في حصول الموت، ويدل له قوله: أو أمسكه ليرسله فقتله محرم، وإلا فعليه، وأما لو تميزت جنايات كل واحد، وعلم أو ظن أن موته من ضربة معين: فالظاهر أن الجزاء عليه وحده؛ لأنه اختص بقتله إلا أن تكون ضربة غيره هي التي عاقته عن النجاة، ولو اشترك حل ومحرم ليس بالحرم فعلى المحرم جزاؤه. فقط. وبإرسال لسبع؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا أرسل كلبه أو بازيه على سبع ونحوه مما يجوز للمحرم قتله، فأصاب صيدا غيره مما يحرم قتله، فإنه يلزمه جزاؤه. وقوله:"لسبع"؛ أي على سبع كما قال عبد الباقي، وقال الخرشي: لا يحتاج إلى جعل اللام بمعنى:

ص: 690

على؛ لأن أرسل يتعدى باللام نحو: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} ، وبعلى نحو:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وبإلى نحو:{إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} .

قال جامعه عفا الله تعالى عنه: والظاهر ما لعبد الباقي لا ما للخرشي. والله سبحانه أعلم. ولو قال: لكسبع، لشمل كل ما يجوز قتله، وقوله:"لسبع" كما إذا ظن أنه سبع ثم تبين أنه غيره من بقر وحش أو ظبية مثلا، وليس المراد أنه أرسله على سبع فقتله كما هو ظاهره؛ لأنه يمنع منه قوله: فيما سبق. "وعادي سبع". وقوله: "وبإرسال"، عطف على بنفسه مقدر بعد قوله:"بقتله"، وما ذكره المصنف هو مذهب المدونة. وقال أشهب: لا جزاء عليه. قاله اللخمي. قال: وهو أبين، ولو لزم من أرسل على ذيب في الحرم الجزاء، للزم المحرم إذا أرسل على ذيب في الحل فأخَذَ صيدا؛ لأنه غرر أيضا. نقله الشارح.

أو نصب شرك له؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا نصب شركا للسبع فعطب فيه حمار وحش مثلا، فإن الجزاء يلزمه كحافر بير لسارق معين فوقع فيها غيره، فعليه الدية، قال فيها: وإن نصب المحرم شركا للذيب والسباع مخافة على غنمه أو دابته أو على نفسه، فوقع فيه صيد ظبي أو غيره فعطب فعليه الجزاء، كمن حفر في منزلة بيرا للسارق أو عمل في داره شيئا ليتلف فيه السارق، فهو ضامن إن وقع فيه السارق فمات، ولو وقع فيه غير السارق فمات ضمن ديته. وقال سحنون: لا جزاء عليه في الصيد؛ لأنه فعل ما يجوز له.

وبقتل غلام أمر بإفلاته فظن القتل؛ يعني أن المحرم إذا كان معه صيد فأمر عبده بإفلاته؛ أي بأن يرسله ويخلي سبيله، فظن العبد أن السيد المحرم أمره بقتله فقتله الغلام، فعلى السيد جزاؤه، ولا شيء على العبد إلا أن يكون محرما فعليه جزاء آخر، ولا ينفع السيد خطأ الغلام، ويلزم السيد المحرم بقتل غلام محرم أمره السيد بالقتل فقتل طائعا أو مكرها جزاءان عنه وعن الغلام، وواحد إن كان المحرم أحدهما، وما وجب على العبد فيما فعله بأمر سيده في الهدي والإطعام إن شاء أخرج عنه أو أمره بذلك من ماله، أو يصوم العبد عن نفسه. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي بعد قوله:"فظن القتل": وعلى العبد جزاء أيضا إن كان محرما ولا ينفعه خطؤه، وأما لو أمره بذبحه وذبحه فعلى السيد الجزاء أيضا بالأولى، وسواء كان العبد محرما أو حلالا.

ص: 691

انتهى. وعلى العبد المحرم جزاء ثان إن أطاع سيده أو أكرهه، لكن يقوم به عن العبد، ومثل الأمر بالذبح الأمر بالاصطياد، ومثل الغلام الولد الصغير. قاله الوالد. قاله عبد الباقي. وقوله:"فظن القتل"، سواء كان ما أمر به السيد شأنه أن يفهم منه ذلك أم لا، ومفهوم "ظن القتل": لو شك في القتل ما حكمه. ومقتضى اللخمي أن الجزاء على العبد فقط. وهل إن تسبب السيد فيه؟ يعني أن الشيوخ اختلفوا هل يقيد وجوب الجزاء على السيد الذي في المدونة: بما إذا تسبب السيد فيه أي في الصيد؛ بأن أذن له في صيده ولو عَبَّر به لكان أظهر، فإن لم يأذن له فيه فلا شيء على السيد، والجزاء على العبد إذ لم يفعل السيد الأخير. أولا. تقيد المدونة بذلك بل الجزاء على السيد مطلقا، تسبب أي أذن له في الصيد أم لا، في ذلك تأويلان؛ الأول لابن الكاتب، والثاني لابن محرز، فقوله:"أوْلا" نفي راجع لقوله: "إن تسبب"؛ أي لا يشترط تسبب السيد فيه أي إذنه في الصيد، وجوز ابن غازي تشديد الواو فيه منصوبا على الظرفية؛ أي في حالة الصيد، وعليه فقد حذف التأويل الثاني، والمذهب هو الإطلاق قاله غير واحد وبسبب؛ يعني أنه كما يجب الجزاء بقتل الصيد يجب بقتله بسببٍ قصد المحرم سببيته، كالأمور السابقة من إرسال سبع ونصب شرك ونحو ذلك، بل ولو اتفق كونه سببا من غير قصد جعله سببا، ومثل لذلك بقوله:(كفزعه فمات) يعني أن من السبب الاتفاقي ما لو رآه الصيد، والحال أنه لم يقصد التعرض له ففزغ منه فمات، فإنه يلزمه جزاؤه، وهذا هو المشهور وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقال أشهب: لا شيء عليه أبو إسحاق: وهو الصواب، واختاره أيضا ابن المواز. الشيخ: وهو أظهر ولا يكون الصيد أعظم من حرمة الآدمي، وإليه أشار بقوله: والأظهر عند ابن عبد السلام والمصنف وابن فرحون، لا ابن رشد كما يوهمه كلامه. قاله غير واحد. وقال محمد بن الحسن: وصواب قوله: "والأظهر" والأرجح، والأصح عند التونسي وابن المواز خلافه؛ أي خلاف قول ابن القاسم وهو قول أشهب بعدم الجزاء.

وأقيم من هذه المسألة مسائل مِنْهَا: تضمين الغرة في الجنين على من أفزع حاملا فألقت حنينها، ونزلت بعمر رضي الله تعالى عنه إذ أرسل أعوانا فخافت حامل فأسقطت، فاستشار فأفتاه من حضر بعدم الضمان؛ لأنه مأذون له في البعث. فقال لعلي رضي الله تعالى عنه: ما تقول يا أبا

ص: 692

الحسن؟ فقال: أرى عليك الغرة مُوَدَّاة. أبو الحسن: وهذا بشرط إثبات ما فزعت منه، ومشاهدتها الفزع واتصال مرضها بإلقائه وشهادة امرأتين بإلقائه، وزاد ربيعة وسحنون: شهادة على رؤية الجنين، ومنها تضمين من مشى أو نام في طريق ففزعت منه دابة فألقت ما عليها. وحاصله أن من فعل ما يجوز له فنشأ عنه ما لم يقصده، هل يضمن أم لا؟ قاله الخرشي. ثم قال: وجد عندي ما نصه: ويؤخذ من قوله: "كفزعه فمات". ما لو فتح شخص بابه وكان مسندا عليه جرة عسل مثلا فانكسرت، أنه يضمنها؛ لأن الفعل قارن الإتلاف على قول محمد بن عرفة، بخلاف نار في محل فأحرقت دار جاره فلا ضمان؛ لأن الفعل لم يقارن التلف، وقوله:"والأظهر والأصح خلافه"؛ أي ولكن لا يؤكل، وكذا فيما شَبَّهَهُ من المسائل، بقوله كفسطاطه؛ يعني أن المحرم إذا نصبت له خيمة وهي المراد بالفسطاط، فتعلق صيد بأطنابها فمات، فإنه لا جزاء عليه على المذهب. وللجلاب عن ابن القاسم: عليه الجزاء، كجوازه على رمحه المركوز فعطب، قال في توضيحه: وهو ضعيف.

وبئر لماء؛ يعني أنه إذا حفر بئرا لماء فعطب فيه الصيد فإنه لا جزاء عليه، ووافق ابن القاسم أشهب على سقوط الجزاء في البئر، وقال بالجزاء في مسألة "فزعه فمات". قال الحطاب: وهي مناقضة لا يشك فيها، وحكى بعضهم قولا بوجوب الجزاء في مسألة البئر وهو ضعيف، وفرق في الذخيرة بأن رؤيته مستلزمة لهربه بخلاف حفر البئر، وظاهر قوله:"وبئر لماء"، ولو بالطريق، فليس الصيد كالآدمى في هذا، ولعل الفرق أن الصيد شأنه أنه ليس له طريق معينة، بخلاف الآدمي.

ودلالة محرم؛ يعني أن المُحْرِم إذا دل مُحْرِمًا على الصيد فقتله فإنه لا جزاء عليه، وكذا لو دل الحلال وهو في الحرم غيره على صيد فإنه لا جزاء عليه، ولم يختلفوا فيما إذا قتله محرم أن عليه الجزاء، وفيما إذا قتله حلال في الحل أنه لا جزاء عليه، واختلفوا في الدال إذا كان محرما والمشهور لا جزاء عليه كما قاله المصنف. قال في المدونة: وإذا دل المحرم على صيد محرما أو حلالا فقتله المدلول عليه، فليستغفر الله تعالى الدال ولا شيء عليه، وحكى ابن المواز عن أشهب أنه قال: إذا دل المحرم محرما على صيد فقتله فعلى كل واحد منهما جزاء، وإن دل عليه حلالا

ص: 693

فليستغفر الله تعالى ولا شيء عليه. أبو إسحاق: كذا الرواية عن أشهب، والأشبه أن على الدال الجزاء إذا دل على الصيد حلالا. أو حل؛ يعني أن المحرم إذا دل حلالا على الصيد فقتله فإنه لا جزاء على الدال، قوله:"ودلالة محرم أو حل"، من إضافة المصدر لفعوله، والفاعل محذوف أي أن المحرم إذا دل على الصيد محرما أو حلالا فإنه لا جزاء على الدال المحرم، ومثل دلالة المحرم لغير على الصيد إعانته للغير بمناولة سوط أو رمح مثلا، فقد أساء أي أثم ولا جزاء عليه على المشهور، واقتصر صاحب المدخل على القول بوجوب الجزاء على المحرم في دلالة المحرم على الصيد، وفيمن أعطى سوطه أو رمحه لمن يقتل صيدا. سند: وإذا أمر عبده أو ولده أو من تلزمه طاعته ومن يده كيده فالضمان عليه فيه وليس على العبد ضمان آخر، بخلاف من أحرم وبيده صيد فأمر عبده بذبحه فإن عليهما جميعا الجزاء، وإذا دل المحرم الحلال على الصيد لم يؤكل.

والحاصل أن الصيد لا يؤكل فيما مر من قوله: "كفسطاطه" إلى هنا. وقال سند في الطراز فيما قتله الحل بدلالة محرم: وإذا قلنا لا جزاء عليه فلا يأكل منه ويحرم عليه، وإن أكل منه فعليه الجزاء. قاله القاضي أبو الحسن، والقاضي عبد الوهاب، ويفهم منه أنه ليس بميتة، ويجوز لغيره أن يأكل وليس كذلك، فقد قال هو في شرح مسألة ما صيد للحلال: وجملة ذلك إن صاده المحرم لا يحل له أكله لا يختلف فيه، وكذلك ما صاده له الحلال بأمره أو كان من المحرم فيه معونة أو إشارة وهو أيضا متفق عليه. انتهى. نقله الحطاب.

ورميه على فرع أصله في الحرم؛ يعني أنه إذا كان شجرة أصلها ثابت في الحرم ومنها فرع في الحل وعليه طائر مثلا، فرماه الحلال بسهمه فقتله، فإنه يؤكل ولا جزاء فيه هذا هو المشهور وهو مذهب المدونة، وذهب عبد الملك بن الماجشون على وجوب الجزاء عليه، وهو على أصله أن كل ما يسكن بسكون ما في الحرم ويتحرك بتحركه فله حكمه، ولا خلاف في وجوب الجزاء فيما إذا كان الفرع في الحرم وأصله في الحل؛ لأنه يصدق عليه أنه اصطاد في الحرم. سند: ولو كان بعض الصيد في الحرم وبعضه في الحل ففيه الجزاء. وقاله الشافعي. وذكر عن أبي حنيفة الضمان إن كانت قوائمه في الحرم لا رأسه.

ص: 694

واعلم أنه لا يلزم من جواز رمي الصيد الكائن على فرع بالحل وأصله بالحرم وعدم الجزاء فيه، وأنه يؤكل جواز قطع ذلك الفرع كما ظن التتائي فإن ابن عرفة صرح بعدم جواز قطع ذلك الفرع؛ لأن المعتبر في الشجر أصله، وفي الصيد محله. وعلم منه أنه إن كان الشجر مغروسا في الحل جاز قطع فرعه الذي في الحرم، وإن غرس في الحرم حرم قطع غصنه الذي في الحل. وقوله:"ورميه على فرع أصله في الحرم"، قال الشيخ عبد الباقي: وهو خارج عن جدار الحرم ويؤكل، وأما لو كان الفرع مسامتا لجدار الحرم والطير فوقه، فالظاهر أن فيه الجزاء، كما لو كان الطير على الجدار نفسه أو على غصن بالحرم وأصله بالحل، وأولى في الحرمة والجزاء وعدم الأكل إذا كان الأصل والغصن بالحرم. انتهى. وقوله:"ورميه"، بالجر عطف على:"فسطاط"، وقوله:"أصله في الحرم"، مبتدأ وخبر، والجملة صفة "لفرع". والله سبحانه أعلم.

أو بحل وتحامل فمات به؛ يعني أنه إذا كان الصائد والمصيد في الحل فضربه أو رماه فوقع السهم فيه فتحامل الصيد أي ذهب بنفسه ودخل الحرم فمات به أي بالحرم، فإنه لا جزاء على الرامي ويؤكل، وهذا إن أنفذ السهم مثلا مقتله؛ أي الصيد، والحال أن الصيد في الحل اتفاقا، وكذا لا جزاء عليه ويؤكل إن لم ينفذ مقتله في الحل عند أشهب واختاره اللخمي، وإلى ذلك أشار بقوله: على المختار.

وعلم مما قررت أن كلام المؤلف صواب؛ إذ الأقوال ثلاثة: قول التونسي بالجزاء ولا يؤكل، وقول أصبغ بعدم الجزاء ولا يوكل وقول أشهب بعدم الجزاء ويوكل وهو الذي اختاره اللخمي كما عرفت، فاختياره منصب على نفي الجزاء خلافا للأول وعلى الأكل خلافا للثاني. والله أعلم. قاله محمد بن الحسن. وفي كلام عبد الباقي نظر، وما اختاره اللخمي هو المشهور.

أو أمسكه ليرسله فقتله محرم؛ يعني أن المحرم إذا أمسك صيدا ليرسله لا ليقتله فعدا عليه غيره فقتله، فإن كان القاتل له محرما أو حلالا في الحرم فجزاؤه على القاتل ولا شيء على المحرم الذي أمسكه، وإلا يقتله محرم آخر بل قتله حلال ليس في الحرم، فعليه أي فعلى الممسك الجزاء، فلو قتله في الحرم وهو حلال فعليه جزاء، وليس على المسك جزاء آخر خلافا لما في شرح عبد الباقي. وغرم الحل له الأقل، مرتب على قوله:"وإلا فعليه"؛ يعني أنه إذا قلنا إن

ص: 695

الجزاء على الممسك أي حيث كان محرما والقاتل حلال، فإن ذلك القاتل الحلال يغرم له أي للممسك المحرم الأقل من قيمة الصيد وجزائه، وإنما غرَّمه مع زوال ملكه عنه كما مر لتسببه بسبب القتل في لزوم الجزاء على الممسك للإرسال. قاله عبد الباقي مع توضيح مني. وقال الخرشي: الأقل من القيمة طعاما أو من المثل بأن يغرم المثل كالشاة مثلا في الثعلب، وإن لم يكن للصيد فقيمته، فإن صام الممسك فلا شيء على الحلال. وللقتل، هذا مفهوم قوله:"ليرسله"؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا أمسك الصيد للقتل فقتله محرم آخر أو من في الحرم، فإنهما أي القاتل والممسك للقتل شريكان في وجوب الجزاء؛ أي على كل واحد منهما جزاء كامل، لا أنهما يشتركان في جزاء واحد، وأما إن قتله حلال فعلى الممسك ولا شيء على الحلال. قاله الشارح في الكبير.

وما صائده محرم؛ يعني أن ما صاده المحرم مما يحرم عليه اصطياده أي مات باصطياده بسهمه أو كلبه أو ذبحه، وإن لم يصده أو أمر بذبحه أو أعان على صيده بإشارة أو مناولة سوط، فإنه يكون ميتة وعليه جزاؤه، ولا يجوز أكله لحلال ولا لمحرم، وسواء ذبح في حال إحرامه أو بعد إحلاله، ومثل ما صاده محرم ما صاده حلال في الحرم في كونه ميتة. أو صيد له؛ يعني أن ما صيد لأجل المحرم معينا كان المحرم أو لا ميتةٌ، فقوله:"صيد له"؛ أي صيد له بغير أمر منه ولا إعانة وذبح في حال إحرامه، وكذا صيد ذبحه حلال لأجل أن يضيف به المحرم، وأما ما صيد للمحرم وذبح بعد إحلاله فإنه يكره أكله ولا يَحْرُمُ. قاله الحطاب.

فتحصل من هذا أن ما صاده المحرم أو صيد بأمره أو بإعانته أو بدلالته فهو ميتة مطلقا، ذبح في حال إحرامه أو بعد إحلاله، وإن ذبح بعد إحلاله بغير إذنه خلافا لما في عبد الباقي، فإنه غير صواب، وأما ما صيد له بغير أمر منه ولا إعانة ولا دلالة، فإنما يحرم إن ذج في حال إحرامه، وأما إن ذبح بعد إحلاله فإنه يكره أكله، وما ذبح له كما صيد له، ومفهوم قوله:"أو صيد له"، أنه لو صاده حل لحل، فإنه يجوز للمحرم الأكل منه وهو قول المصنف الآتي:"وجاز مصيد حل لحل".

وعلم مما قررت أن قوله: ميتة، خبر عن "ما" من قوله:"وما صاده محرم أو صيد له"، فهو راجع للمسألتين، وهو ميتة عند الجمهور، وسواء في الثانية ذبحه ليباع للمحرم أو ليهدي له به،

ص: 696

وفي الخبر: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوا أو يصد لكم وأنتم حرم

(1)

)، فإن قلت: يشكل مذهب الجمهور بالشاة المغصوبة يذبحها الغاصب لأنها ليست عندهم ميتة ولا فرق بينها وبين الطير يذبحه المحرم؟ فالجواب أن النهي في الصيد عن القتل والذبح يستلزمه بخلاف الغصب، ولأنه لما كان قصد الشرع الزجر عن قتل الصيد، كان جعله ميتة على من صاده موافقا لذلك؛ إذ لو لم يجعل ميتة لتسارع الناس إلى إمساك الصيد وقتله ويعطون جزاءه لخفة أمره لأن طالبه غير معين ولا كذلك المغصوب، ومن أحرم ومعه صيد يجب إرساله، فإن ذبحه بعد إحلاله فعليه جزاؤه ولا يكون ميتة، ففرقوا بين ما كان ملكا له قبل الإحرام فيؤكل، وبين ما صيد بعد الإحرام فلا يؤكل، وإن كان لا يملك واحد منهما.

واعلم أن ما صيد وقت الإحلال كونه يجوز إرساله فيه نظر؛ لأنه بصيده صار مالا وفي إرساله ضياعه، فمن صاد صيدا وهو حلال ولم يطرأ عليه إحرام وهو عنده لا يرسله؛ لأنه مال، وفي ذلك تضييع مال. والله سبحانه أعلم. انظر حاشية الشيخ بناني.

كبيضة؛ يعني أن بيض الصيد غير الإوز والدجاج إذا كسره محرم أو شواه أو شوي له، فإنه يحرم أكله على المحرم والحلال، قال الشيخ عبد الباقي: وظاهره نجاسته حتى في حق غيره، خلافا لبحث سند قائلا بأن البيض لا يفتقر لذكاة حتى يكون بفعل المحرم ميتة على غيره، ولا يزيد المحرم فيه في حكم غيره على فعل المجوسي إذا شوى البيض أو كسره لا يحرم بذلك على المسلم، بخلاف الصيد فإنه يفتقر لذكاة شرعية والمسلم ليس من أهلها، قال أحمد: وهو بين. انتهى. وَوُجِّهَ المشهور بأنهم جعلوا البيض هنا بمنزلة الجنين؛ لأنه لما كان ينشأ عنه نزل منزلته، وباحتمال أن يكون فيه جنين، ويرشح هذا ما يأتي من أن من أفسد وكر طير حمام -مثلا- فيه فراخ وبيض عليه في البيض الدية، ثم على بحث سند فقشره طاهر للمحرم وغيره، وعلى ما ذكره المصنف كغيره من أن البيض ميتة فقشره نجس قطعا، فلا وجه لتنظير التوضيح فيه. انتهى. يشير إلى قوله في التوضيح: وانظر هل يحكم لقشر البيض بالنجاسة أم لا؟ قوله: خلافا لبحث سند قائلا لخ، قال بناني عنده ما معناه نصه: أما منع المحرم منه فبين، وأما منع

(1)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1851. الترمذي، كتاب الحج، الحديث: 846. النسائي، كتاب المناسك، الحديث:2827.

ص: 697

غير المحرم ففيه نظر؛ لأن البيض لا يفتقر

إلى آخر ما مر قريبا، وقوله: وعلى ما ذكره المصنف كغيره لخ، كلام المدونة لا يفيد إلا عدم الأكل، ولا يفيد أنه ميتة، ونصها على نقل ابن عرفة: إن شق بيض نعام فأخرج جزاءه لم يصلح أكله ولا لحلال انتهى واقتصر عليه، وهذا هو الظاهر؛ إذ كونه ميتة بعيد. والله أعلم. انتهى.

واستظهر الحطاب أن قشر البيض المذكور ليس بنجس. والله سبحانه أعلم. وكون ما صاده المحرم أو صيد له ميتة كبيضه هو مذهب الجمهور، وذهبت طائفة إلى أنه ليس بميتة، والحجة لنا قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، وفي الخبر: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوا أو يصد لكم وأنتم حرم

(1)

). وقد مر.

وفيه الجزاء يعني أن ما صيد من أجل المحرم معينا أم لا، يكون على المحرم فيه الجزاء، ومحل كون الجزاء على المحرم فيه إن علم المحرم بأنه صيد لمحرم وَأَكَلَ منه، فعليه الجزاء بقيدين؛ أحدهما أن يأكل ذلك المحرم، ثانيهما أن يعلم أنه صيد لأجل محرم كان هو الآكل أو غيره، والجزاء عليه من حيث أكله عالما، لا من حيث كونه ميتة. الباجي: اختلف عن مالك هل يَجْزِي كل الصيد أو قدر ما أكل؟ انتهى. وظاهر كلام المصنف الأول. قاله عبد الباقي.

وعلم مما قررت أن الضمير في قوله: "وفيه"، عائد على ما صيد من أجل محرم، وأما ما صاده محرم فعليه الجزاء فيه، سواء أكل هو منه أو غيره أو لم يؤكل منه، ولا جزاء على الغير الآكل ولو محرما، وعلم بأنه صيد محرم كما قال: لا في أكلها؛ أي ميتة الصيد؛ يعني أن المحرم إذا أكل ما صاده محرم أو من في الحرم، فإن ذلك المحرم الذي لم يحصل منه إلا مجرد أكل ميتة الصيد لا جزاء عليه، وإنما الجزاء على من قتل الصيد، فهو راجع لأكل المحرم ما صاده محرم غيره، وترتب فيه على الصائد الجزاء، ويرجع أيضا لمفهوم إن علم؛ أي أن ما صيد لأجل محرم لا شيء عليه في أكله المجرد عن العلم بأنه صيد لمحرم، وقوله:"لا في أكلها"، أنث الضمير لا قدمه من أنه ميتة، وإنما لم يَكُنْ فيما صاده المحرم أو من في الحرم محرم آخر؛ لأنه ميتة كما علمت، وأكل الميتة لا جزاء فيه. وقوله:"لا في أكلها"، هو المشهور، وإنما افترق صيد المحرم مما

(1)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1851. الترمذي، كتاب الحج، الحديث: 846. النسائي، كتاب المناسك، الحديث:2827.

ص: 698

صيد له؛ لأن صيد المحرم وجب عليه فيه الجزاء باصطياده له، وما صيد له لم يجب على صائده الحلال فيه جزاء، فوجب الجزاء على من أكل منه؛ لأنه صار بمنزلة صائده. قاله عبد الباقي. وجاز مصيد حل لحل؛ يعني أن المحرم يجوز له أن يأكل من لحم صيد صاده حلال في الحل لنفسه أو لحلال آخر، يريد إذا ذكاه قبل أن يحرم الذي صيد له، وأما ما صيد له قبل أن يحرم وذبح بعد أن أحرم فهو داخل فيما ذبح للمحرم فهو ميتة، صرح بذلك اللخمي وصاحب الطراز، ونقله في التوضيح. قاله الحطاب.

وعلم مما قررت أن متعلق "جاز" محذوف؛ أي جاز ذلك للمحرم وأحرى لغيره، وأن قوله:"لحل"، متعلق بمصيد، وقوله:"وجاز مصيد حل لحل"، ذكره لأجل قوله: وإن سيحرم؛ يعني أنه يجوز أكل ما صاده حلال في الحل لنفسه أو لحلال آخر وإن كان الصائد أو المصيد له أو كل منهما، يريد أن يحرم ولم يحصل منه في اصطياده بأن مات بالصيد قبل الإحرام أو تمت ذكاته قبله، وإلا لم يأكله كما مر قريبا لزوال ملكه عنه بالإحرام، ويدخل فيما ذبح لمحرم. وذبح محرم ما صيد بحل؛ يعني أنه يجوز لحلال ساكن بالحرم أن يذبح بالحرم ما صاده حلال في الحل، كان هو الصائد أو غيره، ويجوز لكل أحد أكله كما في الخرشي لا محرم، خلافا لعبد الباقي القائل: صاده حلال أو محرم، فإنه غير صواب، وأما الآفاقي الداخل في الحرم بصيد معه صاده في الحل فلا يجوز له ذبحه ولو أقام بمكة إقامة تقطع حكم السفر، ويجب عليه إرساله بمجرد دخول الحرم كما قدمه بقوله:"وزال ملكه عنه"، لكن في التتائي أن إقامته بها طويلا تنزل منزلة ساكنه في جواز ذبحه وهو حلال ما صيد بحل، والضمير في ذبحه يرجع للحلال المقيم بمكة، ومفهوم قول المصنف:"بحل"، أن ما صيد بحرم لا يجوز ذبحه لساكن الحرم ولو كان الصائد حلالا وهو كذلك، ويعلم من هذا أن الصيد في الحرم أشد حرمة من صيد المحرم في الحل؛ لأنه يحرم الصيد فيه على كل أحد، بخلاف الصيد في الحل فإنه إنما يحرم على المحرم فقط. وفي المدونة: وجائز أن يذبح الحلال بمكة الحمام الإنسي والوحشي، والصيد يدخله من الحل فيذبحه في الحرم؛ لأن شأن أهل مكة في ذلك يطول وهم محلون في ديارهم، والمحرم إنما يقيم

ص: 699

محرما أياما قلائل. قال مالك: وما أدركت ممن اقتُدِيَ به من يكره ذلك إلا عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى، ثم أجازه، وللشيخ عبد الباقي هنا سؤال وجواب ساقطان. والله سبحانه أعلم. وليس الإوز والدجاج بصيد؛ يعني أنه يجوز للمحرم أن يذبح الإوز والدجاج ويأكله؛ لأن أصله لا يطير، فليس بصيد، والدجاج جمع دجاجة للذكر والأنثى مثلث الأول من الدج وهو المشي الرويد، سميت بذلك لإقبالها وإدبارها. قاله الخرشي. ولأجل ما ذكر يجوز للمحرم أن يأكل بيض الإوز والدجاج، وكذلك يجوز للمحرم أن يذبح البقر والغنم وينحر الإبل لا البقر الوحشي؛ لأنه صيد. سند: ويختلف في دجاج الحبش، وتسمى الدجاجة السندية، وهي تشبه الدجاج، فقال الشافعي: في دجاج الحبشة الجزاء؛ لأنها وحشية: وعن ابن حنبل: لا جزاء فيه، ومقتضى المذهب أن ينظر، فإن كانت مما يطير كانت كحكم حمام الدور. انتهى. نقله الإمام الحطاب. وقال عبد الباقي عند قوله: والدجاج ولو حبشيا؛ إذا كان لا يطير، فإن كان مما يطير فصيد كما هو مقتضى المذهب كما قال سند، وأما الإوز العراقي فصيد كالبقر الوحشي، وأما البقر الإنسي فيجوز له ذبحه كالغنم والإبل. انتهى؛ يعني بذبح الإبل نحرها. والله سبحانه أعلم. وقوله:"الإوز" بكسر الهمزة وفتح الواو وتشديد الزاي والوز لغة فيه وهو اسم جنس الواحدة إوزة، قيل: هو طير الماء، وقيل: هو الطير الذي يقال له: البط، وقد يجمع بالواو والنون، فيقال: إوزون.

(بخلاف الحمام) يعني أن الحمام الوحشي وغيره صيد، فليس للمحرم أن يذبحه ولو روميا متخذا للفراخ، فلا يؤكل هو ولا يبضه؛ لأنه من أصل ما يطير. وفي المدونة: وكره مالك أن يذبح المُحْرِمُ الحَمَامَ الوحشيَ والحمام الرومي الذي لا يطير، وهذه الكراهة تحتمل أن تكون على بابها، فإن فعل فلا جزاء، وهو قول مالك في الواضحة، وتحتمل أن تكون على المنع، فإن فعل فعليه الجزاء وهو قول مالك في كتاب محمد، أصبغ: قال مالك: ولا يذبح المحرم فراخ برج له، ولا بأس بما يذبح أهله منه، ولا يأكل هو ما ذبحوا له منه. أشهب: لا بأس أن يأكلوا ما ذبحوا منه لأنفسهم وهو محرم، ولابن القاسم أن المحرم إذا أصاب حمارا وحشيا بعد ما دجن وداه. نقله الشارح.

ولما أنهى الكلام على حرمة التعرض للحيوان البري وما يترتب عليه من لزوم الجزاء، ذكر حكم النبات بقوله: وحرم به قطع ما ينبت بنفسه؛ يعني أنه يحرم في الحرم المتقدم ذكره على كل

ص: 700

أحد محرما كان أو غير محرم أن يقطع ما جنسه ينبت بنفسه من غير علاج، كالبقل والطرفاء وأم غيلان ونحوها، ولو استنبت بعلاج نظرا لجنسه، ولا فرق بين الأخضر ويسمى عشبا، وخلا بفتح الخاء والقصر، وبين اليابس ويسمى حشيشا، ويحرم قطع ما ذكر ولو لاحتشاش البهائم كما هو ظاهر كلام الكافي وابن رشد. وحمل عليه ابن عبد السلام قول المدونة: يكره الاحتشاش، وحملها سند على ظاهرها وهو كلام أبي الحسن. إلا الإذْخِرَ، مستثنى مما ينبت بنفسه؛ يعني أن الإذخر الذي بالحرم يجوز قطعه لاستثنائه في الحديث، وهو بذال معجمة نبت معروف كالحلفاء طيب الريح واحدة إذخرة وجمعه أذاخر، والأصل فيما ذكر المصنف ما في الصحيحين: (لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام عليه الصلاة والسلام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن الله تعالى حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيننا وبيوتنا، فقال عليه الصلاة والسلام: إلا الإذخر

(1)

). قوله: لا يعضد شجرها، العضد القطع والكسر، وقوله: لقيننا القين الحَدَّادُ. والسنا؛ أي وإلا السنا فهو عطف على المستثنى؛ يعني أنه يجوز قطع السنا الذي في الحرم، وهو بالقصر نبت معروف يتداوى به، قاسه أهل المذهب على الإذخر لشدة الحاجة إليه في الأدوية ورأوه من قياس الأولى، ويطلق بالقصر أيضا على الضوء للبرق، قال جل من قائل:{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} ، وفي القاموس: السنا ضوء البرق، ونبت مسهل للصفراء والسوداء والبلغم ويمد. انتهى. والسناء بالمد: الرفعة.

تنبيه: المُلْحَقَاتُ بالإذخر ستة: أحدها السنا كما علمت، ثانيها الهش، قال مالك: الهش تحريك الشجر بالمحجن ليقع الورق، والمجحن عصا معوجة ومن الهش قوله تعالى:{وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} . ثالثها العصا، رابعها السواك، خامسها قطع الشجر للبناء والسكنى بموضعه، سادسها قطع الشجر لإصلاح الحوائط والبساتين. فجملة المستثنيات سبعة كما قاله التادلي. وفي المدونة: وجاز الرعي في حرم مكة وحرم المدينة في الحشيش والشجر، وأكره أن يحتش في الحرم

(1)

البخاري، رقم الحديث: 112/ 1838. مسلم، رقم الحديث: 1355.

ص: 701

حلال أو حرام خيفة قتل الدواب، وكذلك المحرم في الحل، فإن سلموا من قتل الدواب فلا شيء عليهم وأكره لهم ذلك. (ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخبط، وقال: هُشوا وارعوْا

(1)

)، وقال مالك: الهش تحريك الشجر بالمحجن ليقع الورق، ولا يخبط ولا يعضد، والعضد: الكسر. انتهى. قاله الحطاب. قال: وظاهر كلام أبي الحسن أن الكراهة على بابها، فإنه قال في قوله: خيفة قتل الدواب: أما لو تيقن أنه يقتلها لمنع. أبو عمر في الكافي: ولا يجوز لحلال ولا لحرام قطع شيء من شجر الحرم المباح ولا كسره، ولا أن يحتش في الحرم، ولا بأس بقطع كل ما غرسه الآدميون من النخل والشجر، وقد رخص في الرعي في الحرم وفي الهش من شجره للغنم. انتهى. وفي رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب الحج، قال: لا بأس أن يخبط المحرم لبعيره من غير الحرم. ابن رشد: الخبط هو أن يضرب بعصاه الشجر ليسقط ورقها لبعيره، وذلك جائز في الحل للحلال والمحرم؛ إذ يامن ذلك المحرم من قتل الدواب بخلاف الاحتشاش، ولا يجوز ذلك في الحرم لحلال ولا لحرام، وإنما الذي يجوز لهما فيه الهش، وهو أن يضع المحجن في الغصن فيحركه حتى يسقط ورقه، فيؤخذ من قوله أن الخبط لا يجوز في الحرم وأن الاحتشاش لا يجوز أيضا، ويجوز اجتناء ثمار الأشجار التي تنبت بنفسها في الحرم، وأدخل التادلي في مناسكه كالمؤلف وابن معلى في الممنوعات إخراج شيء من تراب الحرمين وأحجارهما وأشجارهما وأغصانهما والكيزان المعمولة من ترابهما والأباريق ونحوها إلى غيرهما، ومن أخذ شيئا من ذلك وجب عليه رده، وتبعوا في ذلك ابن الصلاح. ابن فرحون: وذلك يدل على إخراجه عن قواعد المذهب ويحتاج لتوقيف، وكذا كراهة الشافعية إدخال تراب الحل وأحجاره للحرم مع أن أكثر أشجار الكعبة من غير الحرم، ويشكل عليهم ذلك بنقل ماء زمزم وهو مساو للتراب في العنصرية، وبأن الوليد بن عبد الملك نقل أساطين الرخام ولم ينكره السلف عليه مع أن شأنهم القيام في الحق والرجوع إليه، وبأن مالكا استخف شراء كسوة الكعبة، وبأنه أجاب السائل عن حصاة تعلَّقتْ به من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يلزم ردها للمسجد؟ فقال: لا، وأرخص في طرحها، فقال السائل: يا أبا عبد الله إنها تصيح إذا خرجت

(1)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:2039. ولفظه: لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن يهش هشا رفيقا.

ص: 702

منه حتى ترد إليه، فقال: دعها ينشق حلقها. فقال: أَوَلَهَا حلق؟ فقال: ومن أين تصيح؟ فألزمه إبطال ما ذكر من صياحها. انتهى. قول ابن فرحون: ويشكل عليهم ذلك الخ، فيه نظر؛ لأن الأصل منع إخراج شيء من الحرم وخرج ماء زمزم لدليل، وهو إذنه عليه الصلاة والسلام فيه، وبقي ما عداه على الأصل، وأما كراهة إدخال تراب الحل وأحجاره للحرم فما نقلوها عن الشافعية، وإنما نقلوا عنهم ما يجري على قواعد المذهب وهو إخراج شيء من تراب الحرمين وأحجارهما الخ، ولم ينقلوا عنهم كل ما قالوه في مذهبهم، وأما استخفاف مالك شراء كسوة الكعبة فليس مما نحن فيه؛ لأن الكلام في نقل التراب وما ذكر معه، وكذلك جوابه عن حصاة تعلقت به لأن الكلام في تعمد النقل، وفرق بينه وبين من لم يعلم تعلق الحصاة به على أنه ما أنكر إلا صياحها ردا على من تجرأ وأخبر بصياحها من غير دليل، وبالجملة فما قاله ابن فرحون غير وارد.

تنبيه: علم مما مر أن محل حرمة قطع شجر الحرم إذا كان لغير مصلحة؛ بأن كان ليدخره أو يفرغ الأرض منه، وأما لو أراد أن يبني في موضعه أو يغرس فيه فإنه يجوز كما مر.

كما يستنبت، تشبيه في جواز القطع، وهو مفهوم قوله:"ما ينبت بنفسه"؛ يعني أنه يجوز أن يقطع من نبات الحرم ما جنسه يستنبته الناس بالمعالجة، كخس وعناب وعنب وحنطة وذرة ونحوها. وإن لم يعالج؛ يعني أن ما شأن جنسه أن يستنبت في الأرض يجوز قطعه في الحرم وإن نبت بنفسه من غير علاج، اعتبارا بأصله بمنزلة ما توحش من الإنسية، ولا جزاء؛ يعني أن من قطع شجر الحرم الذي يحرم قطعه وهو ما شأنه أن ينبت بنفسه لا جزاء عليه؛ لأنه قدر زائد على التحريم يحتاج إلى دليل، بل يستغفر الله تعالى خلافا للشافعي في إيجاب بقرة في الشجرة الكبيرة، وفي الصغيرة شاة كما روى عن ابن عباس، وأجيب بأن مالكا إمام الحديث ضعفه، وشبه في الحكمين السابقين لشجر حرم مكة وهما الحرمة وعدم الجزاء. قوله: كصيد المدينة؛ يعني أن صيد المدينة يحرم التعرض له كصيد مكة، إلا أن صيد المدينة لا جزاء فيه فيحرم قتله وأكله، ولا جزاء فيه، وإن كان المحرم لها النبي صلى الله عليه وسلم، والمحرم لمكة الخليل

ص: 703

صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، قال عبد الباقي: لأنه كاليمين الغموس، وكون المحرم لمكة الخليل لا يعارض خبر: (إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض

(1)

) الخ؛ لأن نسبته لإبراهيم لظهور تحريمه له بعد الطوفان لا ينافي إخبار نبينا بأن الله تعالى حرمه يوم خلق السماوات والأرض. انتهى. كلام الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ بناني: قال ابن رشد في رسم الحج من سماع القرينين ما نصه: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة بريدا في بريدة وقال: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها

(2)

)، واختلف أهل العلم فيمن صاد فيها صيدا؟ فمنهم من أوجب عليه الجزاء فيه كحرم مكة سواء، وبذلك قال ابن نافع، وإليه ذهب عبد الوهاب، وذهب مالك إلى أن الصيد فيها أخف من الصيد في حرم مكة، فلم ير على من صاد فيها إلا الاستغفار والزجر من الإمام، قيل له: فهل يؤكل الصيد يصاد في حرم المدينة؟ قال: ما هو مثل ما يصاد في حرم مكة، وإني لأكرهه، فروجع فيه، فقال: لا أدري. انتهى. وبه تعلم ما في كلام الزرقاني، وقوله: إن صيد المدينة كاليمين الغموس، تبع فيه التوضيح، وكلام ابن رشد المذكور بخلافه. انتهى. كلام البناني. وقال الخرشي عند قوله:"كصيد المدينة": والمعنى أن المدينة شرفها الله تعالى يحرم الصيد في حرمها ولا جزاء فيه، وهذا هو المشهور؛ لأن المذهب لحوقها بمكة في تحريم الصيد بحرمها، ولا يؤكل حينئذ، وكذلك يحرم قطع شجر حرم المدينة وما نبت فيه بنفسه كما في حرم مكة، وما استثني هناك يستثنى هنا، وهل عدم جزائه لأن الكفارة لا يقاس عليها، أو لأن حرمة المدينة أشد فهي كاليمين الغموس؟ قولان، وقال الشارح عند قوله "كصيد المدينة": تشبيه في الأمرين السابقين: تحريم الصيد، وعدم الجزاء.

بين الحرار الأربع؛ يعني أن الحرم في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم بالنسبة للصيد هو ما بين حرارها الأربع المحيطة بها، جمع حرة: أرض ذات حجارة نخرة كأنها أحرقت بالنار، من جهات المدينة الأربع وهي اللابتان في جانبي الشرق والغرب، والغربية

(1)

البخاري، كتاب الجزية والموادعة، الحديث 3189.

(2)

البخاري، كتاب الاعتصام، رقم الحديث:7333.

ص: 704

حيث ينزل الحاج والأخرى تقابلها شرقي المدينة، وحرتان أخريان أيضا من ناحية الجوف والقبلة. انظر الخرشي. والمدينة بالنسبة للصيد داخلة.

وشجرها، بالجر عطف على "صيد"؛ يعني أن شجر المدينة يحرم قطعه كما يحرم التعرض لصيدها. بريدا في بريد؛ يعني أن تحديد حرم المدينة بالنسبة للصيد وبالنسبة لقطع الشجر مختلف، فهو بالنسبة للصيد ما قدمه، وهو ما بين الحرار الأربع، وبالنسبة لقطع شجرها بريد في بريد؛ أي أن حده من كل جهة من جهات المدينة الأربع بريد والمدينة خارجة عنه، فقطع الشجر الذي بها غير حرام، ويعتبر طرف البيوت التي كانت في زمنه عليه الصلاة والسلام، وما كان خارجا عنه من البيوت يحرم قطع ما نبت به.

والحاصل أن المدينة نفسها داخلة في حدود الحرم بالنسبة للصيد، وليست بداخلة بالنسبة لقطع الشجر والنقل يفيد ذلك، والمراد بشجرها ما نبت بنفسه؛ أي شأنه ذلك، قال بعض الشراح: في عبارة المؤلف قلق؛ لأن البريدين إذا تقاطعا صليبا نصفيا هكذا: +، فيكون نصف بريد من كل جهة، وأجيب بأن "في" بمعنى: مع، على حد قوله تعالى:{ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} ؛ أي مع أمم؛ أي بريدا مصاحبا لبريد حتى يستوفى جميع الجهات. وقال أحمد: بريدا طولا من البيوت ويقاس من كل جهة من جهتي الطول، وبريدا عرضا من البيوت ويقاس كذلك من الجهتين، وحينئذ فالمسافة بريد من كل جهة من الجهات الأربع، وبهذا التقرير سقط ما يقال من أن في عبارة المصنف قلقا، ولم يحرم قطع الشجر الذي بالمدينة لأنه يشغل عن بناء البيوت المرغب في سكناها، وقطع الخارج عنها يفوت ثمره لأهلها، وقيس ما لا ثمر فيه على ما فيه ثمر، وقد مر أنه يعتبر طرف البيوت التي في زمنه عليه الصلاة والسلام، وسورُها الآن هو طرفها في زمنه عليه الصلاة والسلام، فما خرج عنه من البيوت يحرم قطع ما ينبت به.

ولما كان جزاء الصيد ليس كالفدية والهدي، بل لابد فيه من حكم الحكمين لقوله عز وجل:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، أشار إلى ذلك بقوله: والجزاء بحكم عدلين؛ يعني أنه يشترط في جزاء الصيد أن يحكم به حكمان، وتشترط فيهما العدالة، ولا بد من حكمهما ولو كان الحيوان غير مأكول كخنزير. وتعتبر قيمته طعاما على تقدير جواز بيعه، فإن أخرج الكفارة

ص: 705

قبل الحكم بها أعاد ولابد من لفظ الحكم، والأمر بالجزاء قاله الحطاب، ولا تكفي الفتوى ولا الإشارة؛ لأن الحكم إنشاء، فلا بد فيه من اللفظ ولا يحتاجان لإذن الإمام، ولابد أيضا أن لا يكون من ترتب عليه الجزاء أحدهما، واشتراط العدالة يستلزم الحرية والبلوغ وعلم ما يحكمان به، وصرح به لأجل تقييده بالجار والمجرور، فقال: فقيهين بذلك؛ يعني أنه يشترط في الحكمين أن يكونا فقيهين بأحكام الصيد؛ بأن يعرفا ما يحكم به من قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، ثم قال:{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} ، مثله؛ أي الصيد، وهو خبر المبتدأ؛ أعني قوله:"والجزاء". من النعم؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا وجب عليه الجزاء، فإنه بالخيار بين ثلاثة أمور أيها فعل أجزأ: أحدها هدي بالغ الكعبة مثل الصيد من النعم أي مقاربه في القدر والصورة، فإن لم يوجد فالقدر كاف، والنعم الإبل والبقر والغنم، وقوله: من النعم، بيان لمثله، ولا يجوز أن يكون مثله مبتدأ. ثانيا ومن النعم خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، وهو قوله:"والجزاء"، لخلو الجملة الواقعة خبرا عن الرابط؛ لأن الضمير في "مثله"، عائد على الصيد، قال عبد الباقي: وكلامه -يعني المصنف- هنا في غير ما ورد فيه شيء معين مما سيذكره، فلا يكون فيه ما ذكر هنا، بل ما سيذكره إما بحكم أو بلا حكم كحمام مكة والحرم ويمامه، فقوله:"والجزاء"، حكم على بعض الأفراد. انتهى. قوله: وكلامه هنا الخ، قال محمد بن الحسن: هذا الكلام باطل، والنقل يدل على التخيير بين الأنواع الثلاثة في الجميع ما ورد فيه شيء وما لم يرد فيه غير حمام مكة والحرم.

تنبيه: قد مر أنه يشترط اللفظ بالحكم والأمر بالجزاء، ومعنى الأمر بالجزاء أن المحكوم عليه يأمرهما بالحكم عليه بالجزاء أي بأحد الثلاثة لا بخصوص لفظ الجزاء، وفي التتائي: لابد من لفظ الحكم والجزاء، واعترضه الرماصي بأن الحكمين لا يشترط أن يتلفظا بالجزاء بل بالحكم فقط، ففي الموطإ: (قال عمر لرجل بجنبه: تعال أحكم أنا وأنت فحكما

(1)

). قاله محمد بن الحسن بناني. وظاهر المصنف أنه لابد من الحكم في الجزاء مثلا أو طعاما أو صياما، قال الحطاب: ولا أعلم خلافا في اشتراط الحكم في الأولين، وأما الصوم فصرح ابن الحاجب باشتراط ذلك فيه: وذكر

(1)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:948.

ص: 706

صاحب الطراز في ذلك خلافا بعد أن قال: لا يختلف المذهب في استحبابه: ثم ذكر عن الباجي أنه قال: الأظهر عندي استئناف الحكم، وظاهر كلام ابن عرفة بل صريحه أن الصوم لا يشترط فيه الحكم. انتهى. قال الرماصي: أطلق رحمه الله تعالى الخلاف، فظاهره من غير تفصيل وليس كذلك، ولابد من بيان محله. قال الفاكهاني في شرح الرسالة: إن أراد ابتداء أن يصوم فلا بد أن يحكما عليه، فينظر لقيمة الصيد لأنه لا يعرف قدر الصوم إلا بمعرفة قدر الطعام، ولا يكون الطعام إلا بالحكم، وأما إن أراد الطعام فلما حكما عليه أراد الصيام، فهاهنا قال جماعة من أصحابنا: لا يحتاج إلى حكمهما في الصوم؛ لأن الصوم بدل من الطعام لا بدل من الهدي، بدليل قوله تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} ، وكان الصوم مقدرا بالطعام بتقدير الشرع، فلا حاجة إلى الحكمين. انتهى. فينزل كلام ابن الحاجب تبعا لابن شأس على الأول، ونحوهما قول المدونة، والمحكوم عليه مخير إن شاء أن يحكما بجزاء ما أصاب من النعم أو بالصيام أو بالطعام، وكلام الطراز وابن عرفة والباجي على الثاني. ثانيهما أشار إليه بقوله: أو إطعام بقيمة الصيد؛ يعني أنه إن شاء أخرج مثل الصيد من النعم كما مر، وإن شاء أطعم بقيمة الصيد أي أخرج قيمة الصيد طعاما، فيقوم بالطعام حيا كبيرا ويخرج ذلك الطعام، ولا يقوم بدراهم ثم يشتري بها طعاما، لكن لو فعل أجزأ على المشهور، والذي يفهم من كلام التوضيح وابن عبد السلام والكافي أن صورة هذه المسألة أنه قوم الحكمان الصيد بدراهم، ثم قوما تلك الدراهم بطعام وحكما عليه به. قاله الخرشي. وقوله:"بقيمة الصيد"؛ أي ولا يُقَوَّمُ المثل خلافا للشافعي، ودليلنا أن الطعام جزاء عن الصيد، فوجب اعتبار الصيد. قاله الشارح.

يوم التلف؛ يعني أن قيمة الصيد طعاما إنما تعتبر يوم التلف أي تلف الصيد، لا يوم تقويم الحكمين ولا يوم التعدي ولا يوم الأكثر منهما، ويخرج من طعام جل عيش ذلك المكان كما قال: بمحله؛ أي التلف، وهو متعلق بقوله:"أو إطعام وبقيمة الصيد". قاله الخرشي. والظاهر أن الظرف قبله ظرف مستقَر حال من قيمة. والله سبحانه أعلم. ومعنى قوله: "بمحله"، أنه يعتبر كل من الطعام والتقويم بمحله أي التلف، فيقال: كم يساوي هذا الطير -مثلا- من طعام غالب

ص: 707

عيش هذا المحل؟ فيقال: كذا، فيلزمه، وظاهره اعتبار قيمته بمحله، وإن قلت: وفهم من قوله: "إطعام"، أنه لو دفع قيمته دراهم أو عرضا لم يجزه ويرجع به إن كان باقيا.

واعلم أنه إن أخرج الجزاء هديا اختص بالحرم، وإن كان صياما فحيث شاء، وإن كان طعاما اختص بمحل التقويم، وإلا يكن للصيد قيمة ببلد الإتلاف أو لم يجد به مساكين، فيقوم أو يطعم بقربه أي بمحل قريب من محل التلف، فإن لم يكن حكم عليه حتى رجع لأهله فأراد الإطعام حكم اثنين ممن يجوز تحكيمهما ووصف لهما الصيد، وذكر لهما سعر الطعام بموضع الصيد فإن تعذر عليهما تقويمه بالطعام قوماه بالدراهم، ويبعث بالطعام إلى موضع الصيد كما يبعث بالهدي إلى مكة.

ولا يجزئ بغيره؛ يعني أنه إذا أخرج قيمة الصيد طعاما ودفعه لمساكين ليسوا بمحل التلف ولا بقربه، فإن ذلك لا يجزئه، فالضمير في "لا يجزئه"، عائد على الإطعام لا على التقويم، قال البناني: لم نر من ذكر عدم الإجزاء في التقويم بغير محل التلف، وقوله:"ولا يجزئ بغيره"؛ أي مع الإمكان. قاله عبد الباقي. ولا زائد على مد لمسكين؛ يعني أنه إذا كفر بالإطعام فإنه يدفع لكل مسكين مدا فقط، والمعتبر في ذلك مده صلى الله عليه وسلم، فإن دفع للمسكين أكثر من مد فإنه لا يعتد بالزائد على المد كما في كفارة اليمين، فإذا وجبت عليه مثلا خمسة أمداد فأطعمها لأربعة أشخاص فقراء فلابد من إطعام شخص آخر، وتنزع الزيادة سواء كانت عند البعض أو عند الكل، ولا تتصور القرعة في هذا المثال، وإنما محلها فيما إذا دفع عشرة أمداد لعشرين مثلا، فإنه ينزع من عشرة بالقرعة، ويكمل للآخرين ولا يجزئ الناقص إلا أن يكمل كما في اليمين.

إلا أن يساوى سعره، هذا مرتب على قوله:"ولا يجزئ بغيره"؛ يعني أن مذهب المدونة أن من أخرج الطعام بغير محل تلف الصيد لا يجزئه ذلك كما قدمه قريبا، وظاهرها سواء ساوى محل الإخراج موضع التلف في السعر أم لا، وقال ابن المواز: إن اتفق السعر في موضع الإخراج وموضع التلف، أو كان موضع الإخراج أغلى أجزأ ذلك، وإن كان في موضع الإخراج أرخص فلا.

واختلف الشيوخ في مذهب المدونة، فمنهم من جعل كلام ابن المواز تفسيرا لها، ومنهم من جعله خلافا لها واعتمده ابن الحاجب، وإلى ذلك أشار بقوله: فتأويلان؛ يعني أنه إذا أخرج الطعام

ص: 708

بغير محل تلف الصيد فهل لا يجزئه ذلك عند المدونة مطلقا، سواء ساوى سعر محل الإخراج سعر محل التلف أم لا، فيكون قول ابن المواز خلافا أو لا يجزئ ذلك عند المدونة إلا أن يساوي سعر محل الإخراج سعر محل التلف، أو يكون سعر محل الإخراج أغلى فيجزئه ذلك عندها، فيكون قول ابن المواز تفسيرا للمدونة. والله سبحانه أعلم. وحكى القاضي أبو الحسن عن مالك أن الهدي إذا نحر بمكة أو بمنى جاز أن يطعم منه مساكين الحل بأن ينقل إليهم.

واعلم أن في الإطعام بغير محل تلف الصيد ثلاثة أقوال: مذهب المدونة كما مر، وقول ابن المواز الذي اختلف في كونه تفسيرا للمدونة أو خلافا لها، ومذهب الموطإ الإجزاء وهو قول ابن وهب وأصبغ وغيرهما، وفهم مما مر أنه لو كان سعر موضع الإخراج أغلى وأخرج على مقدار سعر محل التلف، فإن ذلك لا يجزئه وهو كذلك.

وأشار إلى النوع الثالث من الأمور التي يخير فيها المكفر بقوله: أو لكل مد صوم يوم؛ يعني أنه إذا أراد أن يصوم في جزاء الصيد فإنه يصوم عن كل مد بمده صلى الله عليه وسلم يوما ولو جاوز ذلك شهرين وثلاثة. قاله في المدونة. وكمل لكسره؛ يعني أن المد إذا انكسر فإنه يصوم له يوما كاملا، فإذا قيل مثلا ما قيمة هذا الظبي المصيد، فإذا قيل قيمته سبعة أمداد من الحنطة ونصف مد فإنه يصوم سبعة أيام عن سبعة أمداد، ويصوم أيضا وجوبا يوما كاملا، وفي المدونة: وأحب إلي أن يصوم لكسر المد يوما. انتهى. قال الشارح: وأحب في كلامه للوجوب، وفي الذخيرة ما يدل على أن ذلك مستحب؛ وهو يدل على أنه يجوز إلغاء الكسر وهو ضعيف.

فالنعامة بدنة؛ يعني أنه يُكْتَفَى في إخراج المثل من النعم عن الصيد بالمقاربة في القدر والصورة، فمن صاد نعامة فجزاؤها بدنة. وقد علمت أن هذا إذا صادها محرم أو من في الحرم، قال الشارح: لا إشكال أن في النعامة إذا أصابها المحرم مطلقا أو غيره في الحرم بدنة من الإبل؛ لأنها تقاربها في القدر والصورة، فقوله:"فالنعامة بدنة"؛ أي فالنعامة فيها بدنة أو نظيرها بدنة، فلا بد من حذف. انتهى. وقوله:"فالنعامة بدنة"، قد حكم بذلك ابن عباس وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم. قاله السيوطي رحمه الله تعالى.

ص: 709

تنبيه: اعلم أن ما في شرح عبد الباقي تبعا للأجهوري من أنه يتعين في النعامة، وما ذكره المصنف بعدها إخراج المثل من النعم فيتعين في النعامة بدنة، وفي الفيل ذات سنامين إلى آخر ما ذكره المصنف، وأنه ليس له الإطعام ولا عدله صياما غير صحيح. قال البناني ناقلا عن مصطفى: ما قاله علي الأجهوري خطأ فاحش خرج به عن أقوال المالكية كلهم؛ إذ كتب المالكية مصرحة بأن البدنة التي في النعامة والبقرة التي في حمار الوحش والعنز التي في الظباء وغير ذلك مما حكمت به الصحابة بيان للمثل المذكور في الآية المخير فيها. ولما ذكر الباجي ما في الموطإ أن عمر وعبد الرحمن بن عوف حكما على رجل أصاب ظبيا بعنز، قال: يريد أنه اختار المثل ولذا حكما عليه بعنز، ومن تصفح كلام الأئمة ظهر له ما قلناه انتهى. انتهى. فالخيار في الأمور الثلاثة ثابت مطلقا ما عدا حمام مكة والحرم ويمامه.

والفيل بذات سنامين؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا أصاب فيلا، فإن جزاءه بدنة ذات سنامين، فالنعامة والفيل كل منهما ببدنة من الإبل، إلا أن بدنة الفيل ذات سنامين؛ وهي بدنة البخت: إبل تأتي من نحو خراسان للواحد منها سنامان، والبدنة هي الواحد من الإبل ذكرا أو أنثى، والظاهر أن قوله:"بذات سنامين"، متعلق بمحذوف تقديره: والفيل يجازى أو يعدل أو يحكم فيه بذات سنامين؛ لأن ذات السنامين تقرب من خلقة الفيل. ابن الحاجب: ولا نص في الفيل، فقال ابن ميسر: بدنة خراسانية ذات سنامين، وقال القرويون: القيمة، وقيل: قدر وزنه لغلاء عظمه. انتهى. التوضيح: قال بعضهم: وصفة وزنه أن يجعل في مركب فينظر إلى حيث ينزل في الماء، ثم يملأ بالطعام حتى ينزل ذلك القدر. انتهى. وقال ابن ميسر: فإن لم توجد البدنة الخراسانية فعليه قيمته طعاما.

وحمار الوحش؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا قتل حمار وحش فإنه تلزمه بقرة. وبقرة؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا قتل بقرة وحش فإنه تلزمه بقرة، والبقرة للواحد ذكرا أو أنثى أي يلزم من أراد أن يكفر بالمثل في حمار وحش أو واحد من بقر الوحش بقرة إنسية، وله أن لا يكفر بالمثل بل بالإطعام أو الصوم، وذلك لأن البقرة الوحشية تشابهها البقرة الإنسية في الصورة والقدر، وتشابه الإنسية الحمار الوحشي وتقاربه في القدر.

ص: 710

وعلم مما قررت أن قوله: بقرة، يجري فيه ما جرى في البدنة من التخيير بين الأمور الثلاثة المثل من النعم والطعام والعدل من الصيام، وقد حكم ابن عباس وأبو عبيدة رضي الله تعالى عنهم في بقر الوحش وحماره ببقرة. ابن شأس: وفي الأيل بقرة، والأيل قريب من شكل البقرة مستطيل القرون. قاله الشارح. والبقرة الواحد يقع على المذكر والمؤنث، جمعه بقر وبقرات وبقر بضمتين.

والضبع؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا قتل ضبعا وأراد أن يكفر بالمثل، فإنه تلزمه شاة وهي الواحدة من الغنم ذكرا أو أنثى. الجوهري: الضبع معروفة، ولا يقال ضبعة لأن الذكر ضبعان. والثعلب؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا قتل ثعلبا وأراد أن يكفر بالمثل فإنه تلزمه شاة، فإن لم يرد التكفير بالمثل فله أن يكفر بصوم أو إطعام في قتل الثعلب والضبع.

وعلم مما قررت أن قوله: شاة؛ يجري فيه ما جرى في قوله: "بقرة"، ويقال لأنثى الثعالب: ثعلبة، وللذكر: ثعلبان، ومحل الجزاء في الضبع والثعلب في غير ما إذا كان لا ينجو منهما إلا بقتلهما، وإلا فلا جزاء عليه كما صرح به القاضي في التلقين، ونقله في التوضيح عن الباجي أنه المشهور من المذهب فيمن عدت عليه سباع الطير أو غيرها فقتلها. كحمام مكة؛ يعني أن من قتل شيئا من حمام مكة تلزمه شاة وتتعدد بتعدد الصيد، والحرم؛ يعني أن ما صيد بالحرم من الحمام تلزمه فيه شاة؛ أي في كل واحد مما صيد من حمام مكة وحمام الحرم شاة، وعطف الحرم على مكة من عطف العام على الخاص، فالحرم غير مكة ملحق بمكة عند مالك وأصبغ وعبد الملك، وهو مذهب المدونة وهو المشهور، خلافا لابن القاسم القائل: فيه حكومة كحمام الحل إذا صاده حرم. ويمامه؛ يعني أن من قتل شيئا من يمام مكة والحرم تلزمه شاة، وتتعدد بتعدد المقتول، قال الإمام الحطاب: والمراد بحمام مكة والحرم ويمامه ما صيد في مكة والحرم. قال في المدونة: ولا بأس بصيد حمام مكة في الحل للحلال. ابن يونس: هذا يدل على أنه إن صاده المحرم في الحل فإنما عليه قيمته طعاما أو عدل ذلك صياما، وإنما تكون فيه شاة إذا صاده في الحرم. ابن ناجي: قال المغربي: وظاهر الكتاب أنه يجوز صيده، وإن كان له فراخ، قلت: إذا كان له فراخ فالصواب تحريم صيده لتعذيب فراخه حتى يمتن، وكان شيخنا أبو مهدي يفتي

ص: 711

بالنهي عن صيادته حينئذ، ولا أدري أراد به التحريم أو الكراهة. قاله الحطاب. وحكم ابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة، وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام. نقله السيوطي.

واليمام: الحمام الوحشي، وهو ضرب من طير الصحراء هذا قول الأصمعي، وكان الكساءي يقول: الحمام هو البري واليمام هو الذي يألف البيوت، ويقال: إن حمام مكة من ذرية الحمام التي عشت على النبي صلى الله عليه وسلم، وقولهم: والمراد بحمام مكة والحرم ويمامه ما صيد في مكة أو الحرم، يشمل ما ولد بمكة والحرم وغيره مما لم يولد بهما منه، وفي المدونة: وأما دبسي الحرم وقمريه، فإن كان عند الناس من الحمام ففيه شاة. ابن عبد البر: الدبسي نوع من الحمام، وفي القرطبي أن الدبسي والفواخت والقمري وذات الأطواق كله يمام، والدبسي نوع من الفواخت يشبه أن يقول في تصويته: اذكروا الله واذكروا ربكم.

بلا حكم؛ يعني أنه يلزم في قتل كل واحد من حمام مكة ويمامها وحمام الحرم ويمامه شاة بلا حكم؛ أي لا يحتاج إلى حكم في هذه الشاة، ولا بد من الحكم في كل شيء حتى الجراد إلا حمام مكة والحرم ويمامه؛ لأن ما اتفق عليه من الشاة فيه ليس بمثل، والحكم إنما يحتاج إليه لتحقيق المثل، وقوله:"بلا حكم"، كالاستثناء من قوله: والجزاء بحكم، فكأنه قال: إلا حمام مكة فشاة من غير حكم لخروجه؛ لأنه من الديات التي تقررت بالدليل، فلا تخيير فيها، والحكم إنما يكون فيما فيه تخيير.

واعلم أن حمام مكة ويمامه خالفا غيرهما من الصيد في أنهما ليس فيهما مثل، وفي أنهما لا يحتاج فيهما لحكم، وفي أنهما لا يطعم فيهما، بل إن عجز عن الشاة صام عشرة أيام، وإنما كان فيهما شاة مع إمكانها لأنه يألف الناس، فشدد فيه ليلا يتسارع الناس لقتله، ومقتضى ما تقدم أنه تلزمه شاة حيث قتله في الحرم، ولو كان حلا فإن خرج حلال عن الحرم وقتله خارجه فلا شيء عليه، فإن اصطاده محرم بحل وقتله به فقيمته طعاما، كما أشار له بقوله: وللحل، اللام بمعنى: في، خبر مقدم مبتدؤه قوله:"القيمة" الآتي؛ يعني أن المحرم إذا قتل حماما في الحل فإنه تلزمه قيمته طعاما بالحكومة، وضب؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا قتل ضبا فإنه تلزمه قيمته طعاما أو عدل ذلك صياما، وأرنب؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا قتل أرنبا فإنه تلزمه

ص: 712

قيمته طعاما أو عدل ذلك صياما. ويربوع يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا قتل يربوعا فإنه تلزمه قيمته طعاما أو عدل ذلك صياما، وجميع الطير؛ يعني أن الواجب في جميع الطير على من قتل منه شيئا محرما أو في الحرم قيمته طعاما أو عدل ذلك صياما، ما عدا حمام الحرم ويمامه كما مر، ولو قال: وسائر الطير، لكان أنسب؛ لأنه بمعنى: باقي، وقد يرد بمعنى: جميع.

وعلم مما قررت أن قوله: "وضب"، عطف على:"وللحل"، وكذا ما بعده.

تنبيه: قال عبد الباقي ما معناه: أن الضب والأرنب ونحوهما من الحيوان فيها القيمة طعاما أو عدله من الصيام، وأما الطير غير حمام الحرم وما ألحق به فيتعين فيه القيمة طعاما، فإن لم يقدر عليها أو لم يجدها فعدلها صياما، وهذا التفصيل هو الصواب. انتهى. قوله: وهذا التفصيل هو الصواب، قال محمد بن الحسن: فيه نظر، بل خلاف الصواب، فإن الذي عليه أهل المذهب أن ما كان من الصيد لا مثل له لصغره، مخير فيه بين الإطعام والصيام، وما له مثل مخير فيه بين الثلاثة المثل والإطعام والصيام، ولم يفصل أحد فيما ليس له مثل بين الطير وغيره، قال في كتاب الضحايا من المدونة: ولا بأس بصيد حمام مكة في الحل للحلال، قال ابن يونس: هذا يدل على أنه إن صاده المحرم في الحل فإنما عليه قيمته طعاما أو عدل ذلك صياما، وإنما تكون فيه شاة إذا صاده في الحرم. انتهى.

وفي المدونة: وإذا أصاب المحرم اليربوع والضب والأرنب وشبهه حكم فيه بقيمته طعاما. انتهى. وقال ابن وهب: في الضب شاة. ابن زرقون: وفي كتاب ابن حبيب عن مالك: أن في كل واحد من الأرنب واليربوع شاة، ثم قال في المدونة: وأما حمام غير مكة والحرم ففيه حكومة. انتهى. قاله الشارح.

القيمة، قد مر أنه مبتدأ خبره "للحل"، وأن اللام بمعنى: في، على حد قوله تعالى:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} ، وعلى حد قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، ومعنى ذلك أن من قتل الحمام واليمام في الحل وهو محرم فإنه لا تلزمه شاة، وإما عليه قيمة ما قتل طعاما يوم التلف كما مر أو عدل ذلك صياما، وكذا يقال فيمن قتل ما عطف عليه وهو محرم أو في الحرم. والصغير؛ يعني أن الصغير من الصيد الذي يجب فيه المثل أو الطعام أو الصيام كغيره أي كالكبير؛ أي فيقوم على أنه كبير فيغرم قيمته طعاما على أنه كبير، أو يأتي بصيام عدل ذلك أو

ص: 713

يخرج عنه من النعم ما يخرج عنه من النعم لو كان كبيرا. والمريض؛ يعني أن المريض من الصيد فيما وجب فيه من مثل أو طعام أو عدله صياما كغيره أي كالصحيح، فعليه مثله أي على أنه صحيح أو قيمته طعاما كذلك أو عدل ذلك صياما. والجميل؛ يعني أن الجميل من الصيد الذي يجب فيه المثل أو قيمته طعاما أو عدل ذلك صياما كغيره أي كالقبيح. القرافي: والفراهية والجمال لا يعتد بهما في تقويم الصيد؛ لأن التحريم كان للأكل وإنما يؤكل اللحم انتهى والمعيب عيبا لا يؤثر في اللحم كالسليم، وتقوم ذات الصيد بقطع النظر عن ذكورته وأنوثته، ولا تقوم الأنثى على أنها ذكر ولا الذكر على أنه أنثى. وفي الحطاب: يعني أن جزاء الصغير كجزاء الكبير، وجزاء المريض كجزاء الصحيح، وجزاء الجميل كجزاء القبيح، وهذا عام في المثل والطعام والصيام، كما يفهم ذلك من كلام ابن الحاجب وابن عرفة وغيرهما. انتهى.

وقال ابن عبد السلام: وأما الصغر والكبر والعيب والسلامة فكان ينبغي مراعاتها كما راعاها الشافعي، وإن كان المستحسن عنده مثل مذهبنا، ولكن منع أهل المذهب من ذلك في الطعام أنهم لا يلتفتون إلى مثل هذه الصفات في الجزاء إذا كان هديا، فلما لم يعتبروها في أحد أنواع الجزاء إذا كان من النعم ألحقوا بها بقية الأنواع. انتهى. والظاهر أن الحكمين يجتهدان في الكبر لأنه يختلف بالعلو والوسط مثلا.

واعلم أنه يشترط في المخرج أن يكون سنة كالأضحية كما يأتي.

وعلم مما قررت أن قوله: كغيره، خبر عن قوله:"والصغير"، وما عطف عليه، وتقدم تفسيره بالنظر لكل واحد من الثلاثة فراجعه إن شئت، وهذا الذي ذكره إنما هو في القيمة الواجبة لحق الله عز وجل.

وأشار إلى القيمة بالنسبة لمالكه بقوله: وقوم لربه بذلك؛ يعني أنه لو كان الصيد الموصوف بما ذكر من صغر ومرض وجمال وقبح وسلامة وعيب وغير ذلك مملوكا لشخص، فإنه يقوم لربه على من أتلفه بذلك الوصف الذي هو عليه من صغر ومرض وغيرهما، فيأخذ قيمته على تلك الأوصاف علية أم لا. معها؛ أي مع القيمة أي الدية الواجبة لله عز وجل؛ أي يلزمه أن يخرج قيمتين؛ قيمة لربه من الدراهم على ما هو عليه علية أم لا، وقيمته طعاما على ما هو عليه من الأوصاف

ص: 714

التي تقدم أنها تلغى، أو عدلها صياما أو مثله من النعم على أنه كبير صحيح إلى آخر ما مر، وإذا كان الصيد معلما منفعة شرعية يرتفع بها ثمنه فتلغى تلك الصفة في الواجب لحق الله عز وجل، وتعتبر في القيمة الواجبة لربه. والله سبحانه أعلم.

وعلم مما مر أن قوله: "والصغير"، عام في المثل والطعام والصيام، واستحسن اللخمي القول بأنه يقوم على حاله حتى في حق الله تعالى، لقوله عز وجل:{فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، ولا يلزم أكثر منه، وقوله:"معها"، متعلق "بقوم" والله سبحانه أعلم.

واجتهدا؛ يعني أنه يجب على الحكمين الاجتهاد؛ أي بذل الجهد أي الطاقة فيما يجازى به، وهذا فيما لهما فيه مدخل، وأما ما لا يحتاج لحكم فلا مدخل لهما فيه. وإن روي فيه؛ يعني أنه يجب على الحكمين الاجتهاد حيث لم يرو في المصيد المقتول شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، بل وإن روي أي نقل فيه أي جزاء المصيد المقتول شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة كبدنة في نعامة، وقوله: فيه، متعلق "باجتهدا"؛ أي واجتهدا فيه أي في جزاء المصيد المقتول حيث لم يرو فيه شيء، بل يجتهدان وإن روي فيه شيء، فالضمير المجرور في الموضعين عائد على الجزاء، وفيه لف ونشر غير مرتب، فالأول متعلق "بروي"، والثاني متعلق "باجتهدا"، واستشكل الاجتهاد فيما روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة شيء كالنعامة، فإن فيها بدنة، ففي أي شيء يقع الاجتهاد؟ وأجاب غير واحد تبعا لأبي الحسن تبعا لابن محرز أن مصب الاجتهاد الأعراض والجزئيات اللاحقة، كالسمن والهزال بأن يرى أن في هذه النعامة بدنة سمينة أو هزيلة مثلا لسمن النعامة وهزالها. انتهى. وكذا غير السمن والهزال من الأوصاف.

ولمحمد بن الحسن بناني ما حاصله أن الحكم لا بد منه حتى في المروي فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو اتفق عليه السلف؛ لأن الله تعالى قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} ، وأن الاجتهاد خاص بغير ما ذكر، وحينئذ فالاجتهاد فيما يجب لا في الأحوال من السمن والهزال، كما قال أبو الحسن تبعا لابن محرز إذ ظاهر كلامهم أن الحكمين لا يتعرضان لذلك، وإنما عليه أن يأتي بما يجزئ في الأضحية. قاله مصطفى. انتهى.

ص: 715

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: مشى كلام البناني -والله سبحانه أعلم- أن الحكم عام في المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء، وفي المتفق عليه وغيرهما، وأن الاجتهاد إنما يكون فيما لم يُرْوَ فيه شيء ولم يتفق عليه، فإذا اختلفت الصحابة في شيء لم يخرج عن جماعتهم، لكن لا بد من الاجتهاد في تعيين ما يحكمان به عليه، كما أنهما يجتهدان فيما لم يرو فيه عن الصحابة شيء لا فيما روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، أو اتفق عليه فلا يتعرضان للاجتهاد فيه، وإنما يحكمان عليه، وعليه أن يأتي بما يجزئ ضحية. والله سبحانه أعلم.

تنبيه: قال في المدونة: وليبتدئا بالاجتهاد ولا يخرجا باجتهادهما عن آثار من مضى. أبو الحسن الصغير: والذي روى أن في الظبية شاة وفي البقرة الوحشية بقرة. انتهى. عبد الوهاب: وإنما قلنا إن التحكيم يلزم فيما حكمت فيه الصحابة، ولا يكتفى بما تقدم من الحكم فيه، خلافا للشافعي في أنه يكتفى فيما حكمت فيه الصحابة بما تقدم الحكم به لقوله تعالى:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فعم. انتهى. وقد علمت أن الحكمين لا يخرجان باجتهادهما عن آثار من مضى، مثل أن يخرجا عما وجب القضاء فيه ببدنة إلى الشاة أو بالعكس.

وله أن ينتقل؛ يعني أن الحكمين لا يحكمان عليه بالجزاء إلا بعد تخييره في أحد الأنواع الثلاثة فيما هي فيه إما المثل أو الإطعام أو الصيام، فإذا اختار أحدها حكما عليه به، ثم بعد ذلك له أن ينتقل عما حكما عليه به إلى غيره، يريد بحكم منهما أو من غيرهما، فإذا حكما عليه بالجزاء بالمثل فأراد بعد حكمهما أن يرجع إلى الطعام أو الصيام فله ذلك بعد أن يحكما عليه بما انتقل إليه أو يحكم له به غيرهما. إلا أن يلتزم؛ يعني أن ما تقدم من أن له أن ينتقل هو مذهب المدونة وظاهرها، سواء عرف ما حكما به عليه والتزمه أم لا، واختلف الشيوخ هل كلام المدونة على ظاهره؟ وهو تأول الأكثر منهم سند وغيره وهو المعتمد، أو إنما محل كلام المدونة إذا لم يعرف الصائد ما حكما به عليه ويلتزمه، وأما إن عرفه والتزمه فليس له أن ينتقل عنه وهو تأويل ابن الكاتب وابن محرز، وإلى ذلك أشار بقوله: فتأويلان؛ مبتدأ حذف خبره؛ أي في ثبوت الانتقال له وعدمه تأويلان.

ص: 716

وعلم مما قررت أن محل التأويلين إذا عرف المحكوم عليه ما حكما به والتزمه، لا إن التزمه من غير معرفة كما يوهمه المصنف نص عليه الشيخ البناني. قال عبد الباقي: والظاهر أن الالتزام إنما يكون باللفظ. [وقد علمت أن المعتمد من التأويلين تأويل الإطلاق، والظاهر أن الالتزام على القول الآخر إنما يكون باللفظ. قاله الشيخ عبد الباقي. والله سبحانه أعلم

(1)

]. وإن اختلفا ابتدئ بالبناء للمجهول، [الحكم منهما أو من غيرهما أو من إحدهما مع غير صاحبه

(2)

]؛ يعني أن الحكمين إذا اختلفا في قدر ما حكما عليه به من جزاء الصيد أو في نوعه، فإنه يبتدئ الحكم غيرهما أو هما أو أحدهما مع غير صاحبه حتى يجتمع على أمر واحد، وقوله: ابتدئ؛ أي الحكم ثانية، أو ثالثة حتى يحصل الاتفاق على أمر واحد. قال في المدونة: وإن حكما فاختلفا ابتدأ الحكم فيه غيرهما حتى يجتمعا على أمر واحد. ولا يجزئ أن يأخذ بقول أرفعهما ولا بقول الآخر لأنه حكم بقول واحد والشرط حكمان، ولا يُكتَفى بقول آخر بعد ذلك يوافق أحد الحكمين الأولين.

والأولى كونهما بمجلس؛ يعني أن الأولى أي المستحب أن يكون الحكمان وقت الحكم في مجلس واحد ليطلع كل واحد منهما على حكم صاحبه، محمد: وأحب إلينا أن يكون الحكمان في مجلدى واحد

(3)

من أن يكونا واحدا بعد واحد. ابن عبد السلام: ولو قيل إن ذلك شرط لما بعد؛ لأن السابق منهما بالحكم منفرد ولا ينعقد له حكم وكذا اللاحق. انتهى. وتبعه ابن فرحون. والله أعلم قاله الحطاب. ونقص حكمهما إن تبين ظهرا الخطأ؛ يعني أن الحكمين إذا تبين الخطأ في حكمهما تبينا واضحا كما في المدونة، فإنه ينقض حكمهما كحكمهما بشاة فيما فيه بقرة أو بدنة، وببقرة فيما فيه شاة وببعير فيما فيه شاة أو إطعام، وظاهره ولو رضي المحكوم عليه بذلك.

وفي الجنين؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا ضرب بطن ظبي فألقت جنينا، فإن الواجب فيه عشر قيمة أمه حيث ألقته ميتا، ومعنى ذلك عشر قيمتها من الطعام أو عدله من الصيام. والبيض؛ يعني أن المحرم أو من في الحرم إذا كسر بيضا فإن فيه عشر قيمة الأم؛ أي في كل

(1)

ما بين المعقوفين ليس في النسخة التي فيها خط المؤلف.

(2)

ما بين المعقوفين ليس في النسخة التي فيها خط المؤلف.

(3)

انظر الحطاب الجزء 3 ص 680.

ص: 717

واحدة من أي طائر كان عشر قيمة الأم، يتعدد بتعدد البيض، ولو أتلف اثنين في فور واحد وهذا في غير المذر، وأما المذر فلا شيء عليه في كسره.

وعلم مما قررت أن قوله: عشر دية الأم، مبتدأ وخبره قوله:"في الجنين"، وقوله:"عشر دية الأم" أي، عشر قيمتها كما قررت، ومعنى ذلك عشر قيمتها من الطعام أو عدله من الصيام. ولو تحرك؛ يعني أن في الجنين عشر قيمة أمه طعاما أو عدله صياما إن ألقته أمه، ولا فرق في ذلك بين أن تلقيه ميتا لا حراك به وبين أن يتحرك بعد الإلقاء ثم يموت قبل أن يستهل صارخا، وهذا قول ابن القاسم وهو المشهور، وقال أشهب: إذا تحرك فالواجب فيه جزاء أمه ولو لم يستهل. ابن عبد السلام: ولعل الخلاف في الحركة اختلاف في حال هل هي دليل على الحياة أم لا؟ انتهى. وأما إن استهل الجنين صارخا ثم مات فالواجب فيه حينئذ دية أمه كاملة. وقوله: "والبيض"، كان فيه فرخ أم لا، ولو خرج منه الفرخ ولم يتحرك أو تحرك ومات قبل أن يستهل، وأما إن استهل ففيه دية أمه كاملة كالجنين، وإلى ذلك أشار بقوله: وديتها إن استهل؛ يعني أن الجنين والفرخ إذا مات كل منهما بعد أن استهل صارخا بعد انفصاله عن أمه أو عن البيضة فإن فيه دية كاملة، وقوله:"وفي الجنين"؛ أي إن ألقته بسبب ضرب، ولو تيقن أنه مات قبل ضرب بطنها برائحة ونحوها فلا شيء عليه، وقوله:"وفي الجنين" الخ، بشرط أن يزايلها كله وهي حية وهو ميت كجنين الآدمية، فلو ألقته ميلًا وهي ميتة فلا شيء عليه فيه لا ندراجه في جزائها، فإن استهل فله جزاء ثان.

واعلم أنه يخير في الجنين والبيض بين عشر قيمة الأم من الطعام وبين عدل ذلك صياما يصوم مكان كل مد يوما إلا بيض حمام مكة فالحكم فيه عشر قيمة الشاة طعاما، فإن تعذر صام يوما، ومر أنه يتعدد عشر الأم بتعدد الجنين وتعدد البيض، وهو قول أبي عمران في البيض: ولو كسر عشر بيضات ففي كل بيضة واجبها لا شاة عن جملتها؛ لأن الهدي لا يتبعض كمن قتل من اليرابيع ما يبلغ قدر شاة فلا يجمع فيها، واستظهر ابن عرفة أنه يدفع في العشر شاة، وفرق بينها وبين اليرابيع فإن العشر بيضات أجزاء كل بخلاف اليرابيع قائمة بنفسها وقد مر أن المذر لا شيء في كسره، وكذا ما اختلط بياضه بصفاره فيما يظهر، أو وجد في صفارة نقطة دم لعدم تخلق فرخ في جميع ذلك، وقوله:

ص: 718

"وفي الجنين والبيض عشر دية الأم"؛ أي عشر جزاء الأم، وقد مر أنه يكمل الكسر فكذا هنا، ولا بد من حكم عدلين في البيض ظاهره ولو بيض حمام الحرم. وقوله:"إن استهل"، الظاهر أن مثل الاستهلال سائر ما تحقق به الحياة ككثرة الرضع فيما يرضع.

واعلم أن الصور أربع؛ لأنه إما أن يستهل أو لا، وفي كل إما أن ينفصل عنها حية أو ميتة، فإن استهل وماتا فديتهما، وإن استهل ومات أحدهما فدية الميت فقط، كما إذا لم يستهل وماتت هي لا إن لم تمت هي ففيه هو العشر كما قال المصنف، وقد مر جميع ذلك فراجعه إن شئت. ابن نافع: اتبع في بيض النعام ما جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سأله محرم عن ثلاث بيضات نعامة أصابهن، فقال: صم لكل بيضة يوما، وفي المدونة: وإن أفسد محرم وكر طير فلا شيء عليه إلا أن يكون فيه بيض أو فراخ، ولعبد الباقي والخرشي كلام هنا غير صحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ولما كانت دماء الحج على التخيير تارة وعلى الترتيب أخرى، وأنهى الكلام على ذات التخيير، شرع في الكلام على المرتبة، فقال: وغير الفدية والصيد مرتب هدي، قوله:"وغير"، مبتدأ وخبره "هدي"، وقوله:"مرتب"، خبر مبتدأ محذوف؛ أي وهو مرتب، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره معترضة بين المبتدأ الظاهر وخبره؛ يعني أن اللازم في الحج لاختلال أمر من أموره أو العمرة إما الفدية وإما جزاء الصيد وقد تقدما، وإما غيرهما وهو هدي ثم صيام، وهذا الغير مرتب فلا ينتقل عن الهدي إلى الصيام إلا بعد العجز عن الهدي، وهو يجب لترك جمرة ومبيت ليلة من ليالي منى وطواف القدوم، وغير ذلك من الواجبات التي تجبر بالدم، وقوله:"مرتب"؛ أي هو على مرتبتين لا ينتقل عن أولاهما للثانية إلا بعد العجز عنها ولا ثالث لهما، وأشار إلى الأولى بقوله:"هدي"؛ أي أن الجابر في الحج غير الفدية وجزاء الصيد هدي ثم صيام، والهدي منحصر في بهيمة الأنعام، وأشار إلى أفضل الهدي بقوله: وندب إبل؛ يعني أن الأفضل في الهدي أن يكون من الإبل، فبقر؛ يعني أنه يلي الإبل في الفضل البقر، فالإبل في الهدايا أفضل ثم يليها

ص: 719

البقر، ويلي البقر في الفضل الضأن، فالأولى أن يقول: وندب إبل فبقر فضأن، والمعز تجزئ ولا أفضلية لها.

ثم صيام ثلاثة أيام؛ يعني أنه إذا عجز عن الهدي وعن ثمنه ولم يجد من يسلفه، فإنه يصوم ثلاثة أيام وأول وقتها من إحرامه أي من حين إحرامه بالحج إلى يوم النحر، فإن فرق الثلاثة أجزأه؛ لأن موالاتها مستحبة، والأصل في ذلك قوله تعالى:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} ، وألحق العلماء بذلك كل نقص وجب فيه هدي، واْخْتُلِفَ فيمن يجب عليه صيام الثلاثة في الحج على أربعة أقوال قيل: إنما تجب على القارن والمتمتع خاصة وهو لأصبغ، وقيل: إنما تجب عليهما وعلى المفسد لحجه ومن فاته الحج وهو لابن القاسم، وقيل: إنما تجب على هؤلاء الأربعة وعلى كل من وجب عليه الهدي لشيء تركه من أمر الحج من حين إحرامه إلى يوم وقوفه بعرفة، وَقِيلَ: تجب على هؤلاء الأربعة وعلى كل من ترك من أمر الحج ما يوجب الدم مطلقا قبل الوقوف أو بعده من نزول كنزول مزدلفة، وهذان القولان قائمان من المدونة.

وصام أيام التشريق يعني أنه إذا أخر صوم الأيام الثلاثة إلى يوم النحر، فإنه يصوم أيام التشريق وهي: أيام منى الثلاثة، قال عبد الباقي: ونحوه لأحمد والأجهوري تبعا لأبي الحسن، ولا يجوز تأخيره لأيام منى إلا لعذر. انتهى. وتعقبه الرماصي بأنه خلاف قول الباجي: إن تقديم الصوم أفضل، ونحوه قول ابن رشد: لا ينبغي له أن يؤخر، وقول ابن عرفة: لاستحباب كمال صومها قبل يوم عرفة، وقول المدونة: وله أن يصوم الثلاثة أيام ما بينه وبين يوم النحر، وصام الثلاثة الأيام التي بعده. انتهى. فلو كان صومها واجبا قبل يوم النحر ويأثم بالتأخير ما قالت: وله. والحاصل الأظهر من المذهب كما قال الباجي: أن صيامها قبل يوم النحر مفضل لا واجب. والله أعلم. قاله بناني. قوله: "وصام أيام التشريق". الباجي: والأظهر من المذهب أن صومها على وجه الأداء، وإن كان الصوم قبلها أفضل كوقت الصلاة. بنقص لحج، يتنازعه الفعل والمصدر؛ أعني قوله:"صام"، وقوله:"صيام"؛ يعني أن صوم ثلاثة أيام يترتب عليه بسبب نقص الحج، واحترز بقوله:"لحج"، من العمرة، فإنه يؤخر صوم الثلاثة عن أيام التشريق كما يأتي. إن تقدم الوقوف، شرط في كون الثلاثة من إحرامه، وفي صومه لأيام منى إن فات ذلك؛ يعني أن كون

ص: 720

محل صومه للثلاثة الأيام من إحرامه وصومه لأيام التشريق إنما هو إذا تقدم النقص على الوقوف بعرفة، كتعدي الميقات بالإحرام وتمتع وقران وترك طواف قدوم، فتقدم النقصان على الوقوف بعرفة شرط في أمرين؛ أحدهما كون صوم الثلاثة من إحرامه إلى يوم النحر، والثاني كونه إذا فات ذلك صام أيام منى.

وسبعة، مجرور عطف على "ثلاثة"؛ أي على العاجز عن الهدي صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع من منى؛ يعني أن السبعة يصومها بعد رجوعه من منى أي فراغه من الرمي، فيشمل أهل منى ومن أقام بها، ولا يلزمه أن يصل الثلاثة بالسبعة، وليس المراد بالرجوع من منى الرجوع الأول لطواف الإفاضة، ولو أوقع شيئا من السبعة بمنى فالظاهر من المذهب عدم الإجزاء. قاله سند. لأن الرجوع شرط فلا يجزنه أن يصوم حتى يرجع، وقال أبو حنيفة وابن حنبل: إذا فرع من أفعال حجه صام السبعة، ابن عاشر: انظر لو أوقع بعضها في أيام منى والظاهر عدم الإجزاء، ومفهوم قوله:"إن تقدم الوقوف"، أنه لو تأخر النقص عن الوقوف، كترك النزول بالمزدلفة وترك رمي أو حلق أو كان النقص وقت الوقوف بعرفة كلزوم الهدي للمار بعرفة الناوي للحج، وكإنزال ابتداء، وامذائه حين الوقوف، أواخر الثلاثة حتى فاتت أيام التشريق، فإنه يصومها مع السبعة متى شاء، إلا أنه لا يصوم أيام التشريق.

وقد مر أن قوله: "بنقص"، يتنازعه المصدر والفعل، ويحتمل أن يتعلق بالفعل، والباء للسببية، فإن جعل من باب التنازع فاته الكلام على العمرة، مع أنه إذا حصل النقص فيها قبل الوقوف وجب عليه صوم الثلاثة أيضا من حين إحرامه، وذلك بأن يكون قد أحرم أولا بعمرة، وحصل فيها نقص ثم أحرم بعدها وإن بقران، وإن جعل متعلقا "بصام" فقط كان كلامه شاملا لمسألتي الحج والعمرة، ويكون قوله:"من إحرامه"، بيانا لمبدأ صيام الثلاثة الأيام في الحج والعمرة، ويكون قوله:"بنقص لحج"، بيانا للغاية المفصلة بين الحج والعمرة؛ أي فإن كان النقص في حج صام أيام منى، وإن كان في عمرة أخر صوم الثلاثة عنها، والفرق بينهما أن الحج واجب والعمرة سنة فأفعاله أقوى. وقوله:"إن تقدم الوقوف"، لا يغني عن قوله:"لحج"؛ لأن النقص المتقدم عن الوقوف قد يكون من عمرة، كما إذا كان متمتعا أو قارنا كما مر بيانه، ورجح بعضهم تعلق

ص: 721

المجرور بالفعل، فإن من كان نقصه يوم عرفة فما بعده يستحيل صومه له قبله، فيغني عن رجوع الشرط له قوله:"من إحرامه"، انظر الخرشي. وقوله:"وسبعة إذا رجع"، هو تفسير للآية الكريمة، وبتفسير الرجوع المتقدم يفيد أنه يجزئه الصوم لسبعة في الطريق وهذا هو المشهور، وفسره في الموازية بالرجوع إلى الأهل إلا أن يقيم بمكة، واختاره اللخمي. ابن عبد السلام: والمشهور أظهر؛ لأن المذكور في الآية الحج لا السفر، فالرجوع إذًا من الحج لا من السفر.

سند: ولأن الحكم معلق على مطلق الرجوع، فيكفي فيه ما يقع عليه الاسم، وذلك صادق بالرجوع من منى فلا يقيد بزائد عليه إلا بدليل، ويستحب تأخير صيام السبعة للرجوع إلى الأهل للخروج من الخلاف، فإذا رجع إلى الأهل استحب له التعجيل، فإن استوطن مكة صام قولا واحدا. وقوله:"وسبعة إذا رجع"، ولو متعجلا، ولو لم يقم بمكة، ولو صام العشرة قبل الوقوف فالظاهر أنه يجتزئ بثلاثة كما يفهم من توضيحه. قال مالك: لو نسي الثلاثة حتى صام السبعة، فإن وجد هديا فأحب إلي أن يهدي وإلا صام، وفسره التونسي بأنه لا يجتزئ منها بشيء، ولو صام الثلاثة ثم مات، فقال مالك: أرى أن يهدى عنه سواء مات ببلده أو بمكة. ابن رشد: ولو وجد الهدي بعد صوم الثلاثة لم يجب أن يهدي إلا أن يشاء، وإنما قال مالك: أرى أن يهدى عنه استحبابا من أجل أنه لا يصوم أحد من أحد.

ولم تجز إن قدمت على وقوفه؛ يعني أنه إذا قدم السبعة على الوقوف بعرفة أو بعضها فإنها لا تجزئ ولا شيء منها، وقوله:"تجزئ"، بضم التاء وسكون الجيم، وكذا لا تجزئ إن قدمت على رجوعه من منى كما مر، وهل يجتزئ منها بثلاث حيث قدمها على الثلاث ناسيا أو عامدا؟ والمذهب أنه لا يجتزئ. قاله الخرشي. قال: واتصال الثلاثة بعضها ببعض، واتصال السبعة بعضها ببعض، واتصال السبعة بالثلاثة مستحب. انتهى. قوله:"واتصال السبعة بالثلاثة" الخ، إنما يظهر إذا أخر الثلاثة للرجوع أو أقام بمكة. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه. والله سبحانه أعلم.

كصوم أيسر قبله، تشبيه في عدم الإجزاء؛ يعني أنه إذا أيسر قبل الشروع في الصوم فإنه لا يجزئه الصوم؛ أي صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، بل يجب عليه الهدي لأنه صار واجدا،

ص: 722

لأن الله تعالى إنما أباح الصوم لغير الواجد، لقوله عز وجل:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} . أو وجد مسلفا لمال ببلده؛ يعني أن من قدر على الهدي لكونه وجد من يسلفه لا يجزئه أن يصوم، بل يجب عليه أن يهدي بشرط أن يكون مليا ببلده، فإن لم يجد مسلفا أو لا مال له ببلده صام، ولا يؤخره لبلده ولا لمال يرجوه بعد خروج أيام الحج؛ لأنه مخاطب بصوم الثلاثة في الحج بخلاف من يكفر ليمين، وكذا عند ابن القاسم لظهار فإنهما يؤخران؛ لأنهما في سعة. وقوله:"لمال"، اللام إما بمعنى: مع، وهو متعلق "بوجد"؛ أي وجد مسلفا مع مال ببلده، وإما صلة "لمسلف"، وقوله:"ببلده"، متعلق بمحذوف تقديره: ويأخذه ببلده أي ويصبر ليأخذه ببلده. قاله الخرشي.

وندب الرجوع له بعد يومين؛ يعني أنه إذا أيسر بعد أن صام يومين، فإنه يندب له الرجوع للهدي، فلو تمادى على الصوم لأجزأه. وقوله:"تدب الرجوع" إلخ، قال محمد بن الحسن بناني: نحوه لابن الحاجب وابن شأس، وأصله قول اللخمي: استحب مالك لمن وجد الهدي قبل أن يستكمل الأيام الثلاثة أن يرجع إلى الهدي، وفي المدونة: إن صام ثلاثة أيام في الحج ثم وجد ثمن الهدي في اليوم الثالث فليمض على صومه، فإن وجد ثمنه في أول يوم فإن شاء أهدى أو تمادى على صومه. انتهى. قال مصطفى: فأمره بعد يومين بالتمادي، وخيره في أول يوم وكل ذلك مخالف لما هنا. انتهى. قال محمد بن الحسن: قد يصح حمل ما ذكره المصنف ومتبوعاه على ما في المدونة؛ بأن يراد باستحباب الرجوع بعد يومين؛ أي وقبل الشروع في الثالث كما نقله التتائي عن ابن ناجي، خلافا للخمي، وأن المراد بالتخيير الذي فيها عدم اللزوم، فلا ينافي الاستحباب. انتهى. وقول عبد الباقي: يجب الرجوع للهدي إن أيسر بعد الشروع في الصوم وقبل كمال يوم غير صحيح. قاله بناني أيضا. وقال عبد الباقي: وأما بعد تمام الثالث فلا يرجع لأنها قسيمة السبعة، فكانت كالنصف كما في التتائي، وهو يقتضي أن ليس له الرجوع إلى الهدي مع أنه هو الأصل. وفي الحطاب ما نصه: قال ابن رشد: لو وجد الهدي بعد صوم الثلاثة لم يجب عليه إلا أن يشاء. انتهى.

ص: 723

قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: ويتحصل من كلامهم هنا أنه إذا أيسر قبل الشروع في الصوم، فإنه يجب عليه الرجوع إلى الهدي، وبعد الشروع في الصوم يندب له الرجوع للهدي ما لم يشرع في اليوم الثالث؛ بأن أيسر في اليوم الأول أو الثاني أو بعد تمام اليومين، وقبل الشروع في الثالث، فإن أيسر في اليوم الثالث تمادى على الصوم على مذهب المدونة، وندب له الرجوع في الهدي عند ابن شأس واللخمي، وأما إن أيسر بعد كمال الثالث فإنه يتمادى، ولابن رشد: تمادى على الصوم ولا يجب عليه الهدي إلا أن يشاء.

ووقوفه به المواقف، عطف على قوله:"إبل"؛ يعني أنه يندب للحاج أن يوقف هديه معه المواقف، وأراد بها عرفة والمشعر الحرام ومنى، وعدت منى موقفا لوقوفه فيها عقب الجمرتين الأوليين، وليست المزدلفة من المواقف خلافا للشارح والتتائي، وإنما هي مبيت، وقال عبد الباقي: وندب وقوفه به بالهدي المواقف كلها، فالندب منصب على الجميع، وإن كان وقوفه به بعرفة جزءا من الليل شرطا وهذا فيما ينحر بمنى، وأما ما ينحر بمكة فالشرط فيه أن يجمع فيه بين الحل والحرم، ويكفي وقوفه به في أي موضع من الحل وفي أي وقت. انتهى. قوله: منصب على الجميع إلخ، نحوه في التتائي والحطاب، وتعقبه ابن عاشر ومصطفى بأن كلام المؤلف لا يحتاج لتأويل، بل هو على ظاهره من أن كل موقف مستحب؛ لأن وقوفه بعرفة جزءا من الليل إنما هو شرط لنحره بمنى، وليس شرطا في نفس الهدي حتى لو ترك بطل كونه هديا، ولا منافاة بين استحباب وقوفه به بعرفة وبين كونه شرطا في نحره بمنى، والنحر بمنى غير واجب بل إن شاء وقف به بعرفة ونحره بمنى، وإن شاء لم يقف به بها ونحره بمكة. قاله في المدونة. نقله الشيخ بناني. والله سبحانه أعلم.

والنحر بمنى؛ يعني أنه يندب نحر الهدي بمنى وكذا جزاء الصيد، ويشترط في النحر أن يكون نهارا فلا يجزئ ليلا على المشهور، وأما الفدية فلا تختص بمكان كما قدمه، ولو عبر بالذكاة كان أشمل، وقررته بالندب مع استيفاء الشروط الآتية تبعا لغير واحد منهم الحطاب، ومقتضى حل الشارح والتتائي أنه مع استيفائها واجب، وعزيا عن عياض الوجوب لابن القاسم، واتفق الشارح والحطاب على الإجزاء إن نحر بمكة مع استيفاء الشروط. قاله عبد الباقي. وقال محمد

ص: 724

بن الحسن: صوب مصطفى ما اقتضاه حل الشارح والتتائي من الوجوب؛ لأنه صرح به عياض في الإكمال، وما قاله الحطاب غير ظاهر، قال: ولا دليل له في قول المدونة، ومن أوقف هدي جزاء صيد أو متعة أو غيره بعرفة، ثم قدم به مكة فنحره بها جاهلا أو ترك منى متعمدا أجزأه. انتهى. لأن الإجزاء لا يدل على الجواز. انتهى. وعلى ما للتتاءي والشارح يكون قوله:"والنحر"، مبتدأ، وخبره:"بمنى"، وعلى ما للحطاب ومن تبعه يكون معطوفا على المندوب، وقوله:"والنحر بمنى"، الأولى التعبير بالذكاة لأنه أشمل.

إن كان في حج؛ يعني أن النحر يجب أو يستحب أن يكون بمنى على ما مر بثلاثة شروط، الأول أن يكون الهدي سيق في إحرام حج فرض أو منذور أو تطوع، أو ما كان عن نقص في عمرة أو جزاء صيد، وقد علمت أن ذلك سيق في إحرام حج. اللخمي: قال مالك: فيمن كان عليه جزاء صيد في عمرة أو شيء نقصه من عمرته فوقفه بعرفة ثم نحره بمنى: أجزأه، واحترز بذلك مما ساقه في العمرة، فإن المستحب أن ينحره بمكة، وما مر من أن من نحر هديه الذي أوقفه بعرفة بمكة جاهلا أو متعمدا أجزأه هو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقال أشهب: لا يجزئه، وظاهر نقل ابن يونس سواء كان ذلك في أيام منى أو بعدها، خلاف نقل اللخمي عن أشهب: أن عدم الإجزاء فيما ذبح بمكة أيام منى، وأما ما ذبح بمكة بعد أيام منى فيجزئ.

سند: وإذا سيق الهدي في إحرام لم ينحر وإن بلغ مكة حتى يحل من الإحرام كان بحج أو عمرة، وإن ساقه في غير إحرام نحره وأجزأه، قال مالك في الموازية: وكل هدي دخل مكة من الحل فعطب فنحر بها يجزئ إلا هدي التمتع.

وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: ووقف به هو أو نائبه؛ يعني أنه يشترط في وجوب نحر الهدي بمنى أو ندبه على ما مر أن يكون صاحبه قد وقف به بعرفة أو وقف به نائبه وقوفا، كوقوفه هو أي صاحب الهدي؛ بأن يقف به في جزء من الليل، فقوله:"كهو"؛ أي كوقوفه الركن المتقدم، وقد مر أنه لا بد له من جزء الليل. ابن هارون: وأما شرط كون الوقوف بالهدي ليلا فلا أعلم فيه خلافا؛ لأن كل من اشترط الوقوف بعرفة جعل حكمه حكم ربه فيما يجزئ من الوقوف، والمراد بالنائب كما قال ابن غازي من ناب عن رب الهدي، إما بإذنه كرسوله، وإما بغير إذنه كمن

ص: 725

وجد هديا مقلدا فوقف به عن ربه. والله أعلم انظر الحطاب. واحترز بقوله: "أو نائبه"، عن وقوف التجار لأنهم ليسوا نائبين عنه إلا أن يشتريه منهم ويأذن لهم بالوقوف عنه، وبقوله:"كهو"، عن وقوف به بغير الليل.

وأشار إلى الشرط الثالث بقوله: بأيامها. متعلق بمحذوف تقديره: ونحر بأيامها؛ يعني أنه يشترط في وجوب نحر الهدي بمنى أو ندبه أن يكون النحر واقعا في أيام منى -هذا ظاهر سياقه- وعليه فيقتضي أن اليوم الرابع محل للنحر والذبح بمنى؛ لأنه من أيام منى بل إذا أطلقت أيام منى فإنما يراد بها اليوم الرابع واليومان قبله، وبذلك عبر في توضيحه أيضا ونقله عن عياض في الإكمال، وعليه قرره الشارح والتتائي، وقال الأجهوري وأحمد: والمعتمد أيام النحر فقط؛ إذ اليوم الرابع ليس محلا للذبح ولا النحر فتجوز في التعبير، ولو عبر بأيام النحر كان أولى. اللخمي: والنحر والذبح بمنى ومكة يختلف، فأما منى فيختص ذلك فيها بأيام معلومة وهي: يوم النحر ويومان بعده، فإن ذهبت لم يكن منحر ولا مذبح إلا لمثله من قابل، وأما مكة فكل أيام السنة فيها مذبح ومنحر، وفي الطراز عن الموازية: فإن لم ينحرها بمنى في ثالث النحر فلا ينحرها بمنى في ثالث أيام منى، ولكن بمكة فإن نحرها بمنى فعليه بدلها.

وقال القاضي عياض في التنبيهات: وأيام التشريق هي يوم النحر وثلاثة بعده، سميت بذلك لصلاة التشريق، وهي صلاة العيد لكونها عند شروق الشمس، وسميت سائر الأيام باسم أولها، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ذبح قبل التشريق أعاد، وقيل: سميت بذلك لأنهم لا يذبحون فيها إلا بعد شروق الشمس، وهو قول ابن القاسم: إن الضحية لا تذبح في اليوم الأول ولا في الثاني حتى تحل الصلاة، وخالفه أصبغ في غير اليوم الأول، وقيل: سميت بذلك لأن الناس كانوا يشرقون فيها لحوم ضحاياهم؛ أي ينشرونها ليلا تتغير، وقيل: لأن الناس يبرزون فيها إلى المشرق وهو المكان الذي يقيم الناس فيه بمنى تلك الأيام، وكذا يأتي لأصحابنا وغيرهم أنها الأيام الأربعة، وقال مالك في الموطأ وغيره: أيام التشريق هي الأيام المعدودات، وهي الثلاثة التي بعد يوم

ص: 726

النحر وهو الأكثر، ومثله لابن عباس، وقد مر أن مالكا كره أن يقال أيام التشريق، وقال الله عز وجل:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} ، والأيام المعلومات هي أيام النحر الثلاثة.

وإلا، مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإن لم توجد هذه الشروط الثلاثة كلا أو بعضا؛ بأن لم يكن ساق الهدي في إحرام الحج بل ساقه في إحرام العمرة نذرا أو جزاءَ صَيْدٍ أو تطوعا كما يأتي أو ساقه لا في إحرام، أو فاته الوقوف به بعرفة، أو خرجت أيام النحر، فإنه يتعين ذكاته بمكة وجوبا شرفها الله تعالى، فإن لم يرد الذبح بها صبر لقابل وذبح بمنى، وقوله:"بمكة"، ولا يجزئ بمنى خلاف ما مر عن اللخمي، ولا غيرها لقوله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، فإن ذكاه خارجا عن بيوت مكة إلا أنه من لواحقها فالمشهور عدم الإجزاء، ونص ابن القاسم على أنه لا يجزيه بذي طوى، والأفضل فيما ذبح بمنى أن يكون عند الجمرة الأولى، ولا يجوز النحر دون جمرة العقبة مما يلي مكة؛ لأنه ليس من منى. ابن عرفة: ومحل ذكاة الهدي الزماني فجر النحر نهارا. انتهى. وسواء ذبح قبل الإمام أو بعده، قبل الشمس أو بعدها بخلاف الأضحية؛ لأن الإمام في العيد لما كان يصلي بهم فهم يتوقفون على ذبحه، وفي الحج لا عيد لهم، وإذا بعث بهدي تطوع مع رجل حرام ثم خرج بعده حاجا، فإن أدرك هديه لم ينحره حتى يحل، وإن لم يدركه فلا شيء عليه، ولو كان الرسول دخل بحج ثم دخل ربه بعمرة، قال في الموازية: يؤخره ربه حتى ينحره في الحج؛ لأن النحر في الحج أفضل من العمرة لجعل الشارع له زمنا معينا، وما اعتنى الشرع به يكون أفضل، وإن سيق الهدي في عمرة ودخل ربه بعمرة فأراد تأخيره حتى يحج من عامة، فقال مالك: لا يؤخره لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} .

ولما كان الواجب في كل هدي واجب أو تطوع الجمع بين الحل والحرم، وكان ما يذبح بمنى مجموعا فيه بين الحل والحرم؛ لأن شرطه الوقوف به بعرفة وهو حل، بَيَّنَ المصنف أن ذلك يشترط فيما يذبح بمكة الذي من صورة ما فات الوقوف به بعرفة، فقال: وأجزأ إن أخرج لحل؛ يعني أنه إذا أخرج هديا من الحرم فإنه لا بد أن يخرجه للحل وإلا لم يجز وهذا هو المعروف في المذهب، وقال صاحب الطراز: روى أبو قرة عن مالك في الهدي إن اشتراه من الحرم وذبحه فيه: أجزأه. انتهى. ونقله أبو الحسن. قاله الحطاب. وإذا كان الهدي مما يقلد ويشعر فالأحسن

ص: 727

أن يؤخر ذلك حتى يخرج به إلى الحل، فإن قلده وأشعره في الحرم أجزأه. قاله في الطراز. قاله غير واحد. والأحسن أن يباشر ذلك بنفسه، وأن يحرم إذا دخل به. قاله في الطراز. ونقله عن النوادر. فإن دخل به حلالا أو أرسله مع حلال أجزأه. قاله في المدونة، وهل يجري هنا؟ قوله:"والجعرانة أولى ثم التنعيم"، وقوله:"أخرج"، بالبناء للمجهول، وقوله:"لحل"، من أي الجهات ولو بالشراء من الحل، وسواء كان المخرج له حلا أو محرما كما لو قتل بعد الإحلال صيدا في الحرم وسواء أخرجه هو أو نائبه حلا أو محرما، وهذا من فوائد بناء أخرج للمجهول. قاله عبد الباقي.

وقال الخرشي: قد علمت أنه لا بد أن يجمع في الهدي بين الحل والحرم، فإذا فات الهدي الموقوف بعرفة فإنه ينحره أو يذبحه بمكة، وحينئذ لا يخلو إما أن يكون اشتراه من الحل أو من الحرم، فإن كان اشتراه من الحل فلابد أن يدخله الحرم، وإن كان اشتراه من الحرم فلا بد أن يخرجه إلى الحل ثم يدخله إلى الحرم، ولا فرق فيما ذكر بين الهدي الواجب والتطوع، ولا بين أن يكون الخارج به صاحبه أو نائبه، ولا يشترط في المبعوث معه أن يكون حراما، ولذا بنى قوله أخرج للمجهول. انتهى.

(كأن وقف به فصل مقلدا ونحر) يعني أن من ضل هديه بعد أن وقف به بعرفة فوجده شخص فنحره بمنى في أيامها أو بمكة بشرطه لأنه رآه هديا أجزأه ذلك، فالتشبيه في الإجزاء، وقوله:"كأن وقف به" بالبناء للمجهول ليشمل ما وقفه ربه وغيره، وقوله:"مقلدا"، حال من الضمير الراجع للهدي، يتنازع فيه الفعلان قبله وأن مصدرية، قال جماعة من الأشياخ: من وجد هديا ضالا في أيام منى لم ينحره إلا في اليوم الثالث، لعل أن يأتي ربه، وإذا خاف خروج أيام النحر نحره عن ربه وأجزأه؛ لأنه بالتقليد وجب. اللخمي: فإن عجل النحر أول يوم أجزأ، وإن وجده بعد أيام منى لم يعجل بالنحر إلا أن يخشى ضيعته أو يشق حفظه فينحره بمكة، وقوله:"كأن وقف به" الخ، أي فيجزئ ولو نواه من نحره عن نفسه غلطا.

والحاصل أنه إن ضل قبل الجمع فيه بين الحل والحرم ووجده مذكى فإنه لا يجزئ، وإن ضل بعد جمعه فيه بين الحل والحرم، فإن لم يكن وقف به بعرفة ووجده بمكة أجزأه، وإن وجده

ص: 728

بمنى لم يجزه كما لو وجده بها مع عدم شرط من باقي الشروط المعتبرة في الذبح بمنى، وأما إن تحقق نحره ولم يدر هل نحره بموضع يجزئ نحره فيه أم لا؟ فظاهر كلام المواق الإجزاء. قاله الشيخ علي الأجهوري. وفي المدونة: أن من قلد هديه وأشعره ثم ضل منه فأصابه رجل فأوقفه بعرفة، ثم وجده ربه يوم النحر أو بعده أجزأه ذلك التوقيف؛ لأنه قد وجب هديا، ونحوه لابن الحاجب، قال محمد بن الحسن البناني: ولولا "الفاء"، في قول المصنف:"فضل"، لكان حمله على هذا الفرع أولى. والله أعلم. انتهى.

وقال: يجب أن يقيد قول عبد الباقي: ومفهوم قوله وقف به أنه إن لم يقف به بعرفة فضل مقلدا ثم وجده مذكى بمنى لم يجزه -انتهى- بما إذا لم يعلم أن واجده وقف به وإلا أجزأه. انتهى. واستدل على ذلك بما ذكر من كلام المدونة، ويصح أن يحمل كلام المصنف على أنه وجد الهدي منحورا فجعل قوله:"ونحر" معطوفا على "وقف".

ثم أعاد الكلام على الهدي المسوق في إحرام عمرة لبيان زمانه وما يترتب عليه بقوله: وفي العمرة بمكة؛ يعني أن الهدي المسوق في إحرام العمرة سواء وجب لنقصها كخلل في إحرامها، كمجاوزة الميقات غير محرم، وترك تلبية أو إصابة صيد أو لنقص حج تطوعا أو نذرا أو جزاء صيد، محل تذكيته مكة شرفها الله تعالى، وقد علمت أن كل ما ذكر سيق في إحرام عمرة، وكذا ما سيق في غير إحرام، قال عبد الباقي: وأعاد هذه المسألة مع دخولها في قوله: "وإلا فمكة" كما علمت لقوله: بعد سعيها؛ يعني أن تذكية الهدي المسوق في إحرام العمرة إنما تكون بعد سعي العمرة، فلا يجزئ نحره قبله لأنهم نزلوا سعيها منزلة الوقوف في هدي الحج في أنه لا يذكى إلا بعده.

ثم حلق؛ يعني أن الحلق يؤخر عن ذكاة الهدي المسوق في إحرام العمرة، فقوله:"ثم"؛ أي بعد نحر الهدي المذكور يحلق رأسه، وقوله:"ثم حلق"؛ يعني أو قصر على ما مر، وإذا حلق أو قصر حل من عمرته، وقوله:"ثم حلق"، تأخير الحلق عن الذكاة مندوب كما مر للمصنف في الحج، وقول الأبهري: لا يجوز، لا يعارض ما مر لحمل قوله لا يجوز على الكراهة، فالنهي في الآية للكراهة؛ يعني قوله عز وجل:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} .

ص: 729

وإن أردف لخوف فوات؛ يعني أنه لو أحرم شخص بعمرة، وساق هديا تطوعا وقلده أو أشعره، ثم إنه أردف حجا عليها لأجل خوف فوات الحج، إن تشاغل بعمل العمرة بسبب ضيق الوقت، فإنه يجزئه ذلك الهدي لقرانه الحاصل بإردافه الحج على العمرة، أو حيض؛ يعني أن المرأة إذا أحرمت بعمرة وساقت معها هديا تطوعا، ثم إنها حاضت وخافت إن استمرت على حيضها حتى تكمل العمرة فتطهر فاتها الحج فأردفت الحج على العمرة لأجل ذلك، فإنه يجزئها لقرانها الحاصل بإردافها الحج على العمرة ذلك الهدي؛ أي هدي التطوع الذي ساقته في إحرام عمرتها، قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: الظاهر أن قوله: "أو حيض"، عطف على مقدر؛ أي أردف شخص لخوف فوات بالتشاغل بالعمرة لضيق وقت أو حيض. والله سبحانه أعلم.

وعلم مما قررت أن قوله: أجزأ التطوع لقرانه، جواب الشرط؛ أعني قوله:"وإن أردف"، فهو راجع للمسألتين -أعني- خوف الفوات بالتشاغل بالعمرة، وخوف الفوات في انتظار الطهر من الحيض، وقوله:"التطوع"؛ أي هدي التطوع، وهو ما سيق لغير شيء وجب أو يجب في المستقبل، والضمير في قوله:"لقرانه"، يرجع لما ذكر من الشخصين، ولو حذف المصنف قوله:"لخوف فوات أو حيض"، لكان أشمل وأخصر؛ إذ لو أردف لا لخوف فوات ولا لعذر لكان الحكم كذلك، وكلامه يوهم خلاف ذلك، فالمدار على إردافه في محل يصح فيه الإرداف، وظاهر قوله:"أجزأ التطوع لقرانه"، وإن قلد أو أشعر للعمرة قبل الإرداف، قال عبد الوهاب في المعونة: ويستحب للمردفة لحيض أن تعتمر بعد فراغها من القران، كما فعلت عائشة رضي الله عنها، وقوله:"أجزأ التطوع لقرانه"، لكن الأفضل في المسألتين هدي غيره، وقوله:"وإن أردف لخوف فوات أو حيض"، قال الخرشي: موضع نحره مكة إن نظر لإحرامه أولا بالعمرة، وإن نظر للمآل فموضع نحره منى؛ لأنه حج وهو الظاهر. انتهى.

وقوله: "أجزأ التطوع لقرانه"، قال الشارح: فإن قيل هدي التطوع صار بالتقليد والإشعار واجبا لغير القران فلا يجزئ عنه، أجيب بأن الحج قد يجزئ بعض أفعاله بنية التطوع عن الواجب كما في الإفاضة إذا نسي طوافها ثم طاف بعده تطوعا. انتهى.

ص: 730

وقوله: كإن ساقه فيها ثم حج من عامة؛ تشبيه في الإجزاء، والضمير المجرور "بفي" عائد على العمرة؛ يعني أن المعتمر إذا ساق هدي التطوع في عمرته، فلما حل من عمرته بدا له فأحرم بالحج وحج من عامة ذلك وصار متمتعا، فإنه يجزئه هدي التطوع عن تمتعه كما أجزأ عن قرانه، وهو أحد قولي مالك في المدونة. ابن القاسم: هو أحب إلي، وقد فعله أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال صاحب الطراز وغيره: إن الخلاف جار مطلقا سواء ساق الهدي بنية التطوع، أو ساقه ليجعله عن متعته، فالقول بالإجزاء غير مقيد، وتأول عبد الحق المدونة على أن الخلاف إنما هو إذا ساقه للمتعة، وأما إذا ساقه بنية التطوع فإنه يتفق على أنه لا يجزئه عن المتعة، وإليه أشار بقوله: وتؤولت أيضا بما إذا سيق للتمتع؛ يعني أن عبد الحق تأول القول الذي في المدونة بالإجزاء على ما إذا سيق الهدي للتمتع أي ساقه ليجعله عن متعته، وأما إذا سيق بنية التطوع فإنه لا يجزئ، والمذهب من التأويلين الأول لأنه ظاهر الكتاب. قاله عبد الباقي. وقال: فإن قلت: لِمَ أجزأ التطوع المحض عن القران ولم يجز عن التمتع على التأويل الثاني إذا لم يُسَقْ له؟ قلت: لأن القران لما كانت العمرة فيه تندرج في الحج فتعلقها بالحج فيه أقوى من تعلقها به في التمتع، فكأن الذي سيق فيها سيق في الحج، ومثله في الخرشي، فإن قيل: يشكل الكلام فيما إذا سيق للتمتع فإنه ليس من هدي التطوع في شيء، والكلام إنما هو في هدي التطوع، فالجواب أنه لما قلده أو أشعره قبل الإحرام بالحج سماه تطوعا لذلك فهو تطوع حكما، ويجزئ عن متعته، وفي الخرشي: أن قوله: "سيق للتمتع"، يشمل ما إذا سيق ابتداء للتمتع أو للتطوع، ثم جعله للتمتع على تقدير حصوله، فلا منافاة بين كونه سيق تطوعا وبين كونه سيق للتمتع، ثم إنه لا إشكال في أنه يستحب له أن لا يجتزئ به. قاله الحطاب.

والمندوب بمكة المروة؛ يعني أن الهدي الذي ينحر أو يذبح بمكة يندب أن يكون نحره أو ذبحه بالمروة، لما في الموطأ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بمنى:(هذا المنحر وكل منى منحر)، وفي العمرة عند المروة: (هذا المنحر وكل فجاج مكة وطرقها منحر

(1)

). والمراد بمكة: القرية نفسها، فلا يجوز النحر بذي طوى، بل حتى يدخل مكة كما قال ابن القاسم، ودل قوله: وكل

(1)

الموطأ، ج 1 ص 269.

ص: 731

فجاج مكة الخ، على أن قوله: هذا المنحر؛ أي المندوب كما قال المصنف، وقال إمامنا مالك رضي الله تعالى عنه: منى كلها منحر إلا ما خلف العقبة، قال: وأفضل ذلك عند الجمرة الأولى. نقله سند عن الموازية، وكذا ابن عرفة وغيرهما. والله أعلم. قاله الحطاب.

وفي الإكمال: واختلف عندنا فيما خرج عن بيوتها من فجاجها؛ أيجزئ الذبح بذلك أم لا؟ انتهى. نقله الشارح. وفي الموازية عن مالك: كل ما محله من الهدي مكة ولم يقدر أن يبلغ به داخل بيوت مكة ونحره في الحرم لم يجزئه، وإنما محله مكة أو ما يليها من منازل الناس. نقله الشارح. وفي نقل الشارح (أنه قد نحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه بالحديبية في الحرم

(1)

)، فأخبر الله تعالى أن ذلك الهدي لم يبلغ محله، قال في البيان. قوله نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه بالحديبية في الحرم، معناه: نحر هديه في الحرم إذ كان بالحديبية؛ لأن الحديبية في الحل، لكنه لم يكن صلى الله عليه وسلم ممنوعا من دخول الحرم، فبعث بهديه من الحديبية إلى الحرم فصحت لمالك الحجة بذلك، كما ذهب إليه من أن محل الهدي من الحرم مكة القرية بنفسها لا جميع الحرم؛ لإخبار الله تعالى أنه لم يبلغ محله لقوله:{وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} . انتهى.

(وكره نحر غيره) يعني أن الشخص إذا نحر غيره هديه عنه أو ذبحه عنه، فإنه لا إشكال في إجزاء ذلك ولكنه يكره، فالمستحب للشخص المهدي أن يباشر ذكاة هديه بنفسه. كالأضحية؛ يعني أن الهدي كالأضحية في أنه يكره أن يذبح أو ينحر غيره عنه أضحيته، ولا إشكال في الإجزاء، وفهم من التشبيه أنه لا بد من كون النائب مسلما، وإلا لم يجز ما ذبحه أو نحره من أضحية -وهو كذلك- لأن ذبح الأضحية والهدي قربة والكافر ليس من أهل القرب. ابن يونس: كره مالك للرجل أن ينحر هديه أو أضحيته غيره. ابن المواز: وتلي المرأة ذبح أضحيتها بيدها أحب إلي، وظاهر كلام المؤلف أنه ليس له الاستنابة ولو لم يهتد إلا بمعلم وهو كذلك، إلا أن لا يحسنه جملة.

وعلم مما مر صريحا أنه لو استناب مع القدرة فإن ذلك يجزئه، وقد استناب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه بعد أن نحر من البدن سبعا في عام الحديبية، وكان الهدي

(1)

البخاري، كتاب الشروط، الحديث:2732.

ص: 732

سبعين بدنة. قاله الخرشي. وتخصيص الكراهة بالذبح والنحر يفهم منه جواز الاستنابة في السلخ، وتقطيع اللحم وهو كذلك. قاله سند. نقله الخرشي. ولو قال المصنف: وكره ذكاة غيره، لكان أشمل. قاله الخرشي.

وقال الشارح: واختلف إذا نحر عنه غير مسلم، فالمشهور أنه لا يجزئ؛ لأنه قربة والكافر ليس من أهل القرب، وخالف في ذلك أشهب، قال في المدونة: وكره مالك للرجل أن ينحر هديه أو أضحيته غيره، فإن نحر له غيره أو ذبح أجزأ إلا أن يكون غير مسلم فلا يجزئ، وعليه البدل. انتهى. وفي الحطاب: فإن نحر له غيره أو ذبح أجزأه إلا أن يكون غير مسلم فلا يجزئه، وقال أشهب: يجزئه إذا كان ذميا. سند: وموضع المنع أن يلي الذمي الذبح، فأما السلخ وتقطيع اللحم فلا بأس به عند الجميع. انتهى.

وعلم مما مر أن قوله: "غيره"، المراد به المسلم، فليس على عمومه.

وإن مات متمتع فالهدي من رأس ماله؛ يعني أن المتمتع إذا مات من غير هدي أو مات عن هدي غير مقلد، فإن هدي التمتع يجب على الورثة أن يخرجوه من رأس المال وإن لم يوص، كزكاة الحرث والماشية إذا مات بعد الوجوب فإنها تخرج من رأس المال وإن لم يوص، بخلاف العين؛ لأنه يمكن إخراجها سرا والهدي يشعر ويقلد ويساق من الحل إلى الحرم، فإنه لا يخفى لكنه يؤخر عن دين الآدمي. قاله عبد الباقي والخرشي. وفي الحطاب: أن الهدي بعد التقليد والإشعار لم يكن للغرماء عليه سبيل حيث فلس. انتهى.

إن رمى العقبة؛ يعني أن محل كون هدي التمتع يخرج من رأس مال المتمتع إذا مات، إنما هو حيث مات بعد أن رمى جمرة العقبة أو فات وقت رميها الأدائيُّ بفوات يوم النحر؛ بأن مات بعد يوم النحر بتمامه والحال أنه لم يرمها، وكذا لو طاف للإفاضة قبل رميها، فالهدي من رأس المال في هاتين الصورتين لتعليلهم وجوبه من رأس المال بأنه حصل له معظم الأركان مع حصول أحد التحليلين، فكان كمن أشرف على فراغ العبادة، وإن مات قبل ذلك لم يجب على الورثة شيء، فإن قلد الهدي تعين ذبحه ولو مات صاحبه قبل الوقوف.

ص: 733

والحاصل أنه إذا مات بعد رمي العقبة أو بعد فوات وقت رميها أو بعد الإفاضة، فالهدي من رأس المال، فإن مات قبل الثلاثة -أي مات والحال أنه لم يرم، ولم يطف للإفاضة، ولم يفت وقت الرمي بغروب يوم النحر- فلا شيء عليه لا من رأس مال ولا من ثلث ولا يعارض ما هنا قوله:"ودم التمتع يجب بإحرام الحج"؛ لأن معنى قوله: "يجب": يجب وجوبا موسعا فيه، وإنما يتحتم برمي العقبة وما هو مثلها، ونظير هذا ما يأتي من أن كفارة الظهار تجب بالعود وتتحتم بالوطء، ومفهوم قوله:"متمتع"، أنه إن مات القارن فالهدي من رأس ماله حيث أردف الحج على العمرة إردافا صحيحا ثم مات. قاله عبد الباقي. والخرشي.

وسن الجميع وعيبه كالأضحية، قوله:"سن" بكسر السين مبتدأ، وقوله:"كالأضحية" خبر عنه وعن المعطوف عليه؛ يعني أن سن جميع دماء الحج من هدي وجزاء ونسك وعيبه كسن الأضحية وعيبها، فما لا يجزئ في الأضحية من السن لا يجزئ هنا، وما لا يجزئ من جهة العيب فيها لا يجزئ هنا، والسن هي المشار إليها بقول المصنف في باب الضحية "بجذع ضأن وثني معز وبقر وإبل ذي سنة وثلاث وخمس"، والعيب هو المشار إليه بقوله:"كبين مرض وجرب وبشم" الخ، وبقوله:"لا إن أدمى"، وتخالف الأضحية في أن الذكر والأنثى هنا سواء، وإنما الأفضل عند مالك الأعظم بدنا ذكرا أو أنثى، ومن العلماء من يرى أن الأنثى أفضل.

والمعتبر حين وجوبه وتقليده؛ يعني أن المعتبر في مساواة الهدايا ونحوها للضحايا في السن والعيب المذكورين إنما هو من حين وجوب الهدي، وتقليده لا يوم نحره وهذا هو المشهور، وليس المراد بالوجوب أحد الأحكام الخمسة، وإنما المراد تعيينه وتمييزه ليكون هديا، والمراد بالتقليد هنا أعم منه فيما يأتي؛ لأن المراد به هنا إنما هو تهيئته للهدي، وإخراجه سائرا إلى مكة كالغنم فإنها لا تقلد، فالمراد بالتقليد والوجوب هنا متقارب. قاله الحطاب.

سند: الهدي يتعين بالتقليد أو بالإشعار أو بسوقه أو نذره وإن تأخر ذبحه، قال الحطاب: وَيُبَيِّنُ ذلك -يعني ما قدمته عنه من تقارب التقليد والوجوب- ما في بعض نسخ ابن الحاجب: ويعتبر حين الوجوب وهو حين التقليد. انتهى. وفي الخرشي: وقوله: "وتقليده"، عطف تفسير، وإذا

ص: 734

قلد لا يباع في الديون اللاحقة، ويباع في الديون السابقة ما لم يذبح. انتهى. وعلم مما مر أن التقليد بالمعنى المتقدم يعم الغنم وغيرها.

فلا يجزئ مقلد بعيب؛ يعني أنه بسبب كون الوقت المعتبر في سن الهدي وسلامته من العيب هو وقت وجوبه وتقليده؛ أي تعيينه للهدي وتمييزه عن غيره، لا يجزئ هدي قلد أي عين للهدي معيبا أو غير بالغ السن المجزئة، ولو زال عيبه أو بلغ السن قبل الذبح، وإنما لم يجز لأنه وقت الوجوب وهو التقليد أي التعيين للهدي بصفة ما لا يجزئ، وإلى هذا أشار بقوله: ولو سلم؛ أي لا يجزئ إذا كان حين التعين للهدي معيبا، ولو طرأت له السلامة من العيب بعد ذلك قبل الذبح أو النحر بأن زال عيبه قبل التزكية، كما لو سمن بعد أن كان هزيلا، وقوله:"مقلدا"، بفتح اللام والباءُ في قوله:"بعيب" للمصاحبة؛ أي قلد الهدي مصاحبا للعيب، وقوله:"فلا يجزئ" الخ، خاص بالواجب والنذر المضمون، وقد علمت أن ما ذكره المصنف من أن المعتبر وقت الوجوب هو المشهور، وعلى مقابله يجزئ الهدي إذا قلد وهو معيب، أو لم يبلغ السن المجزئة وزال عنه العيب قبل التذكية، أو بلغ السن المجزئة قبلها. اللخمي: وإذا سيق الهدي عن واجب لم تبرأ الذمة إلا ببلوغه محله، لقوله تعالى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، فإن ضل أو سرق أو هلك أو عطب قبل بلوغه لم يجزه، وإن قلد وأشعر عن واجب وهو هزيل أو معيب مضى هديا ولم يجزه، وكذلك إذا سمن أو ذهب العيب لأنه قد وجب بالتقليد والإشعار، وعلى القول بأن الهدي لا يجب بذلك يكون له رده وبيعه إذا لم يزل العيب، وإن زال العيب أجزأه. انتهى. قاله الشارح.

وقال الحطاب عند قوله "فلا يجزئ مقلد بعيب ولو سلم": أي فبسبب أن المعتبر حين وجوبه وتقليده لا يجزئ المقلد بالعيب ولو سلم بعد التقليد وقبل نحره؛ لأنه أوجبها معيبة ناقصة عن الإجزاء، ويجب عليه بدله إن كان مضمونا، بخلاف ما لو قلده سالما ثم طرأ له العيب، فإنه يجزئه لأنه أوجبها سالمة مجزئة، وهذا معنى قولها: ومن قلد هديا وأشره وهو لا يجزئه لعيب به فلم يبلغ محله حتى زال ذلك العيب لم يجزه، وعليه بدله إن كان مضمونا، ولو قلده سالما ثم حدث له ذلك قبل محله أجزأه. انتهى.

ص: 735

ابن حبيب: ولو قلد هديا سمينا فوجده أعجف، فإن كان العجف يحدث في مثل مسافته أجزأه، وإن كان لا يعجف في مثلها لم يجزه في الواجب، ولو أشعره أعجف ونحره سمينا، فإن كان لا يسمن في مثل مسافته أجزأه، وإن كان يسمن في مثلها فأحب إلينا أن يبدله لما يخشى أن يكون حدث سمنه. قاله ابن الماجشون. نقله الشارح.

وقال عبد الباقي: فلا يجزئ هدي واجب أو منذور مضمون مقلد بعيب، ولا ما لم يبلغ السن، ولو سلم أو بلغ السن المجزئ قبل الذبح، بخلاف عيب لا يمنع الإجزاء فيجزئ كعيب يمنعه في متطوع به أو منذور معين، ثم يجب إنفاذ ما قلد معيبا هديا لوجوبه بالتقليد، سواء كان واجبا أو غيره، وسواء كان عيبه يمنع الإجزاء أم لا.

بخلاف عكسه؛ يعني أنه إذا قلد الهدي سليما ثم تعيب بعد ذلك فإنه يجزئه، ولا فرق في ذلك بين المتطوع به والواجب على المشهور وهو مذهب المدونة، ولهذا كان قوله: إن تطوع به؛ أي بالهدي خلاف المعتمد، فإن مقتضاه بحسب ظاهره أن محل إجزاء الهدي إذا قلد سليما وطرأ له العيب، إنما هو في ما إذا كان الهدي متطوعا به، وأما الواجب فلا يجزئ، وليس كذلك إذ المعتمد أنه يجزئ في الواجب أيضا، وقول المصنف:"بخلاف عكسه"، مقيد بما إذا تعيب من غير تعديه ولا تفريطه، فإن كان بتعد منه أو تفريط ضمن كما في الحطاب عن الطراز، ومقيد أيضا بما إذا لم يمنع التعيب بلوغ المحل، ولو منعه كعطب أو سرقة لم يجزه الهدي الواجب والنذر المضمون كما يأتي. قاله البناني.

وأرشه؛ أي هدي التطوع؛ يعني أنه إذا اشترى هديا وقلده ثم اطلع على عيب فيه قديم يمنع الإجزاء أم لا، فإنه يتعين هديا، ولا يجوز له رده على بائعه ولا بيعه ثم ينظر، فإن كان تطوعا وكذا لو كان منذورا معينا، فإنه يرجع بأرش العيب، فإن بلغ ثمن هدي اشترى به هديا، وقوله:"وأرشه"، مبتدأ وخبره المجرور الآتي أعني قوله:"في هدي". وثمنه؛ أي هدي التطوع؛ يعني أنه إذا اشترى هديا وقلده ثم استحق من يده فإنه يرجع بالثمن على بائعه، فإن بلغ ثمن هدي اشترى به هديا، وقوله:"ثمنه"، عطف على قوله:"وأرشه".

ص: 736

في هدي؛ أي يجعل الأرش في هدي يشترى به، وكذا الثمن كما مر. وهذا إن بلغ؛ يعني أن محل شراء الهدي بالأرش والثمن حيث بلغ ما يشترى به هدي، وإلا يبلغ كل من الأرش والثمن ثمن هدي تصدق به؛ أي بما ذكر من ثمن الهدي المستحق وأرش العيب.

تنبيه: قد مر الاعتراض على قول المصنف: "إن تطوع به"، وقد شرحت كلامه على ظاهره، قال عبد الباقي: وأجيب عن المصنف بثلاثة أجوبة، أحدها للمواق: أن هنا واوًا نقصت من الكاتب، وعلى هذا فقوله:"وأرشه" صوابه بالفاء، فيكون جواب الشرط، وهو من تتمة قوله:"فلا يجزئ مقلد بعيب"، والمعنى على هذا أنه إذا اشترى هديا وقلده ثم اطلع على عيب فيه قديم -وقلنا إنه لا يجزئه- فإنه يتعين هديا، ولا يجوز رده ولا بيعه على المشهور، ثم ينظر فإن كان تطوعا أو منذورا معينا فإنه يرجع بأرش العيب، فإن بلغ ثمن هدي اشترى به هديا، وقوله:"وثمنه"، معناه أنه إذا اشترى هديا وقلده ثم استحق من يده، فإنه يرجع بالثمن على بائعه إن كان قد أخذ، فيشتري به هديا إن بلغ ثمن هدي، فإن لم يبلغ ما ذكر من الأرش والثمن ثمن هدي تصدق به هذا هو معنى المصنف على الجواب الأول.

ثانيها: أن قوله: "إن تطوع به"، مقدم عن محله، والأصل: وأرشه وثمنه في هدي إن بلغ وإلا تصدق به إن تطوع به وفي الفرض الخ، وعلى هذا فهو مرتب أيضا على قوله:"فلا يجزئه مقلد بعيب"، كما في الوجه الأول، فمؤدى الوجهين واحد.

ثالثها: لجد علي الأجهوري، وهو إبقاءُ قول المصنف على ظاهره، ويحمل قوله:"بخلاف عكسه"، على من قلد هديا يظنه سليما فتبين أنه معيب، فإنه يجزئ في التطوع دون الواجب. انتهى. قال محمد بن الحسن بناني: هذا الجواب -يعني جواب الأجهوري- لا يصح؛ لأن حمل كلام المؤلف على هذه الصورة يقتضي أن قوله: "فلا يجزئ مقلد" الخ، عام في التطوع وغيره، وليس كذلك لما تقدم أنه خاص بالواجب والنذر المضمون. فتأمله. وقد اقتصر الحطاب على الجوابين الأولين واستقرب الثاني منهما. انتهى.

وفي الفرض يستعين بهما في غير، هذا مفهوم قوله:"إن تطوع به"؛ يعني أن ما تقدم هو حكم الهدي المتطوع به أو المنذور المعين، وأما المأخوذ من أرش أو ثمن في استحقاق أو تعييب الهدي

ص: 737

الفرض الأصلي أو المنذور المضمون فإنه عليه بدله، ويستعين بالأرش وبثمن المستحق في البدل. قاله في التوضيح. قاله الحطاب. وقال بعد أن شرح قوله:"وأرشه وثمنه في هدي إن بلغ وإلا تصدق به وفي الفرض يستعين به في غير" انتهى. هذا إذا كان العيب يمنع الإجزاء، وإن كان العيب لا يمنع الإجزاء فيستحب له أن يجعل ما يأخذه عن العيب في هدي، وفي شرح عبد الباقي عند قوله:"يستعين به في غير"، وهذا في عيب يمنع الإجزاء، فإن لم يمنعه فكالتطوع يجعل في هدي إن بلغ وإلا تصدق به. انتهى.

قال محمد بن الحسن: قوله: فإن لم يمنعه فكالتطوع الخ، يشمل العيب الخفيف مطلقا والعيب الطارئ بعد التقليد؛ لأنه بطروه لا يمنع الإجزاء.

ويتحصل من كلامهم هنا أربع صور؛ لأن الهدي إما تطوع ومثله النذر المعين، وإما واجب ومثله النذر المضمون، وكل منهما إما أن يمنع العيب الإجزاء أم لا، ومحل التفصيل إذا كان الهدي واجبا، والعيب يمنع الإجزاء لكونه شديدا متقدما على التقليد. انتهى. وأما ما لا يمنع الإجزاء فلا فرق فيه بين هدي التطوع والواجب. انتهى.

وحاصل هذا الحاصل أن هدي التطوع أو المنذور المعين يشترى بما يؤخذ فيه من أرش عيب أو ثمن مستحق هديٌ إن بلغ كل ثمن هدي، وإلا تصدق به سواء كان العيب يمنع الإجزاء أم لا، وأما الهدي الواجب الأصلي والمنذور غير المعين فإنه عليه بدل كل، ويستعين بالأرش وثمن المستحق في البدل، هذا إذا كان العيب يمنع الإجزاء، فإن لم يمنعه فكالتطوع يجعل في هدي إن بلغ وإلا تصدق به.

تنبيه: قال في التوضيح: وحكم أرش الجناية كحكم أرش العيب. التونسي: ولو جنى على الهدي جناية لم تتلف نفسه وتنقصه كثيرا ويمكن معها وصوله حتى ينحر في محله فما أغرمه إلا ما نقص، ولو كانت تؤدي لعدم وصوله لكان كأنه قتله فعليه جميع قيمته، وإذا غرم الجاني قيمته فالظاهر أن له بيع لحمه كما يظهر ذلك من كلام صاحب الطراز؛ لأنه يقول: لست أنا الذي تقربت به، وإذا عين هديا من الإبل ثم اطلع على أن فيه قبل التقليد عيبا. وقلنا: يجب عليه بدله، فهل يجزئه أن يبدله بأدنى أو بمثل ما عين؟ فالأحسن أن يبدله بمثل ما عين،

ص: 738

والواجب أن يجزئه ما كان يجزئ أولا. قاله سند فيما إذا عطب الهدي الواجب قبل محله والبابان واحد. قاله الحطاب. وقال: وإذا قلد هديا ثم وجده معيبا فتعدى وذبحه فإنه يضمنه بهدي لا عيب فيه. انتهى.

وَسُنَّ إشْعَارُ سُنُمها؛ أي الإبل يعني أنه يسن إشعار سنم الإبل؛ التي جعلت هدايا، والسنم بضم السين والنون جمع سنام، فإذا كان للهدي سنام فإنه يسن أن يشعر سنامه، وإشعار السنام هو شقه، واقتضى كلام المصنف أنه إذا لم يكن للهدي من الإبل سنام فإنه لا يشعر، ورواه محمد وشهر لأنه تعذيب قوي، وفي المدونة خلاف ذلك، وأنه يشعر ما لا سنام له من الإبل إذا كان هديا، وظاهر كلامهم أن ماله سنامان يشعر في سنام واحد، وقد مر أن الضمير في سنمها للإبل، والدليل على ذلك ذكره البقر والغنم بعدُ ابن عرفة. الإشعار شق يسيل دما، والمراد بالسنة هنا ما قابل الواجب والمندوب.

من الأيسر؛ يعني أن الإشعار؛ وهو شق يسيل دما كما مر عن ابن عرفة يكون في الجانب الأيسر من السنام، ولفظ المناسك أن يشق من سنامها الأيسر، وقيل: الأيمن من نحو الرقبة إلى المؤخر، وقيل: طولا قدر أنملتين ونحو ذلك، وقال ابن عرفة: وفي أولوية الإشعار في الشق الأيمن أو الأيسر، ثالثها أنه سنة في الأيسر، ورابعها: هما سواء. انتهى. وعلم من أول الحل أن من في قوله: "من الأيسر"، بمعنى في واللام في قوله: للرقبة، بمعنى: من؛ يعني أن الإشعار يبدأ به من جهة الرقبة إلى جهة المؤخر لا من الموخر إلى جهة الرقبة، ولا من المقدم إلى جهة ركبتي البعير، وقد مر أن "من" في قوله:"من الأيسر"، بمعنى في، وأن اللام في قوله:"للرقبة"، بمعنى: من، فالأول كقوله تعالى:{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} ؛ أي في الأرض، والثاني كقول الشاعر:

لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم

ونحن لكم يوم القيامة أفضل

أي منكم، قال عبد الباقي: ولا بد في الندب من أن يسيل الدم. وفي الحطاب: أن الإشعار أن يقطع في أعلى السنام قطعا يشق الجلد، ويدمى من ناحية الرقبة إلى ناحية الذنب قدر أنملتين في الطول. انتهى. وهو بحسب ظاهره يعطي أن هذه الكيفية هي السنة. والله سبحانه أعلم. وما مر من أن الإشعار من الرقبة للمؤخر هو المشهور، وقال ابن حبيب: يشعر طولا مسميا؛ يعني أنه

ص: 739

يستحب للمشعر أن يسمى الله تعالى حالة الإشعار، لما في الموطأ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (بسم الله والله أكبر

(1)

). الأبهري وابن رشد وغيرهما: والسنة أن يستقبل هو والهدي حال الإشعار القبلة، ويشعر بيمينه وخطام الهدي في يساره، فإذا فعل ذلك وقع الإشعار في الجانب الأيسر. نقله الشارح. وقال ابن جماعة: وتشعر قياما مستقبلة القبلة في جانبها الأيسر في أعلى الأسنمة قطعا

(2)

يشق الجلد، ويدمي من ناحية الرقبة إلى ناحية الذنب في الأسنمة خاصة. انتهى. نقله الحطاب. قال: وما ذكره من أنها تشعر قياما غريب؛ لأن ذلك غير ممكن والله أعلم. انتهى. وقوله: "وسن إشعار"، ويشعر من يصح نحره، فإن أشعر من لم يصح نحره لم تحصل تلك السنة في هذا الهدي، وهل يسن لربها فيه إعادته أم لا لزيادة التعذيب؟ قال مقيد هذا الشرح عفا الله تعالى عنه: والظاهر أنه يسن لربها إشعارها؛ لأن الأمر به ثابت، فكيف يسقط بما هو كالعدم؟ والله سبحانه أعلم.

وتقليد؛ يعني أنه يسن تقليد الهدي وهو تعليق شيء في العنق، وكان الأولى تقديم هذه في الذكر؛ لأن السنة تقديمه في الفعل على الإشعار خوفا من نفورها لو أشعرت أولا، وكأنه اعتمد على قوله فيما مر:"وتقليد هدي ثم إشعاره"، وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا أهدى من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة، يقلده قبل أن يشعره وذلك في مكان واحد وهو متوجه للقبلة، يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر، وكان إذا طعن في سنام هديه وهو يشعره، قال: بسم الله والله أكبر.

واعلم أن الهدي منه ما يقلد ويشعر، ومنه ما يقلد فقط، ومنه ما لا يقلد ولا يشعر، فلهذا التفصيل ذكر هنا ما أجمله فيما مر، وزمن التقليد والهدي عند الإحرام؛ لأنه سبب الهدي إلا أن يكون الهدي لا يجب إلا بعد الإحرام فلا يقلد ولا يشعر إلا بعده أي يكره قبله على المعتمد. ابن عرفة: يستحب لسائقه فعلهما من ميقاته ولباعثه من حيث بعثه، وفي كراهة فعلهما بذي الحليفة مؤخرا إحرامه للجحفة نقلا الباجي سماع ابن القاسم مع رواية محمد، ورواية داود بن سعيد: لا

(1)

الموطأ، كتاب الحج، الحديث:146.

(2)

في إحدى النسخ: قسما.

ص: 740

بأس به، وفعلهما بمكان واحد أحب إلي. وفي البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها

(1)

). نقله الشارح.

وندب نعلان؛ يعني أنه يستحب لمن قلد هديه أن يقلده بنعلين، والنعل الواحد مجزئ، بنبات الأرض، مندوب ثان. قاله غير واحد؛ يعني أنه يستحب أن يعلق النعلين أو النعل بحبل من نبات الأرض، فلا يجعل من الأوتار ولا من الشعر وما أشبه ذلك مخافة أن يحبس في غصن شجرة عند رعيها، فيؤدي ذلك إلى اختناقها، والحبل من نبات الأرض يمكنها قطعه ولذلك ينبغي أن يكون غير قوي، وفائدة التقليد أن يعلم بذلك المساكين فيجتمعون له، وقيل: ليلا تضيع فيعلم أنها من الهدايا فترد، ولم يكتف بالتقليد لأنه بصدد الزوال. وفي العتبية: لا يقلد ولا يشر إلا من ينحر، فلا تقلد امراة تجد رجلا يقلد ويشر لها، والظاهر أن العلة أي علة كراهة إشعار المرأة الأنوثة، وكونه بنبات الأرض هو المشهور. وقال ابن حبيب: لا فرق بين نبات الأرض وغيره، واختاره اللخمي لما في بعض الأحاديث (أن قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من عهن

(2)

)، وحكى ابنِ شأس قولا بكراهة التقليد بالنعال والأوتار، ونحوه لابن بشير. قاله الشارح.

وتجليلها، عطف على المندوب، والتجليل هو أن يجعل عليها شيئا من الثياب بقدر وسعه، فالتجليل إلباسها الجلال، جمع جل بضم الجيم، وجمع الجلال أجلة؛ يعني أن تجليل البدن فقط مندوب، ففي التوضيح: إنما تجلل البدن دون البقر والغنم، وقد جاء أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يجلل بُدنه بالقباطي والأنماط والجلل، ثم يبعث بها إلى الكعبة فيكسوها إياها، وما ذكره المصنف من ندب تجليل البدن نحوه في البيان. وفي المدونة: ويجلل إن شاء، ونحوه لابن الحاجب، وفي الخرشي: ويستحب أن تجلل الهدايا لأن ذلك أبهى لها ويكون ذلك كله للمساكين.

وشقها؛ يعني أنه يستحب أن يشق الجلال عن الأسنمة مخافة السقوط، ومحل ذلك إن لم ترتفع الجلال؛ يعني أن محل ندب شق الجلال عن الأسنمة إنما هو حيث لم ترتفع أثمان الجلال بأن

(1)

البخاري، رقم الحديث:1699. مسلم، رقم الحديث: 1321.

(2)

البخاري، كتاب الحج، الحديث:1705.

ص: 741

قل ثمنها مثل الدرهمين، وأما إن ارتفعت أثمانها بأن زادت على درهمين فإنه لا يشقها ليلا يفسدها على المساكين؛ ولأن فيه إضاعته لما لهم، ويندب تأخير تجليلها إلى وقت الغدو من منى إلى عرفة، وفي المدونة: وأما من أراد الإحرام ومعه هدي فليقلده ثم يشعره ثم يجلله إن شاء، وكل ذلك واسع. وفي الموطإ: والبياض أحب إلي. نقله الخرشي.

وقلدت البقر؛ يعني أن البقر تقلد أي يسن تقليدها فيما يظهر. قاله عبد الباقي. وقوله: فقط، معناه أن البقر لا تشعر مع التقليد، وإنما يفعل لها التقليد دون الإشعار إلا بأسنمة؛ يعني أن البقر إذا كان له أسنمة فإنه يشعر ويقلد، فيفعل به الأمران معا، وهل يجلل أم لا؟ قولان، الأول نقله الأبي عن المازري، والثاني نقله الباجي عن المبسوط. فقول عبد الباقي عن الشيخ سالم: وانظر هل تجلل حينئذ أم لا؟ قصورٌ. قاله البناني. والله سبحانه أعلم. وعزا ابن عرفة للمدونة أن البقر لا تشعر مطلقا كانت ذات أسنمة أم لا، وتعقبه الرماصي بقولها: وتقلد البقر ولا تشعر إلا أن تكون لها أسنمة فتشعر. انتهى.

لا الغنم؛ يعني أن الغنم لا تشعر ولا تقلد، فالأول حرام لأنه تعذيب فأصله المنع في غير ما ورد فيه النص، والثاني يكره كما في الخرشي، قال إمامنا مالك رضي الله تعالى عنه: ولا تقلد الغنم ولا تشعر ولا تساق في الهدي إلا من عرفة؛ لأنها تضعف عن قطع المسافة الطويلة. نقله الإمام الحطاب.

والحاصل أن الإبل تقلد وتشعر وتجلل فوقت التقليد والإشعار عند الإحرام إلا أن يكون الهدي لا يجب إلا بعد الإحرام فلا يقلد ولا يشعر إلا بعده؛ أي يكره قبله على المعتمد، ويفعل التقليد قبل الإشعار، ويندب تأخير التجليل إلى وقت الغدو من منى إلى عرفة، وهل تشعر الإبل مطلقا كان لها سنام أم لا تشعر إلا إذا كان لها سنام؟ الأول للمدونة، والثاني رواه محمد وشهر، وأن البقر يقلد فقط إن لم يكن له سنام، فإن كان له سنام قلد وأشعر وهل يجلل أم لا قولان؟ وأما الغنم فلا تقلد ولا تشعر بل تساق للهدي ولكن لا تساق في الهدي إلا من عرفة لأنها تضعف عن قطع المسافة الطويلة. والله أعلم.

ص: 742

وفي الشارح: ولا خلاف أن الغنم لا تشعر، وهل تقلد أم لا؟ المشهور أنها لا تقلد خلافا لابن حبيب لما في مسلم عن عائشة (أنه عليه الصلاة والسلام أهدى إلى البيت غنما فقلدها

(1)

)، وقد سبق أن الإبل إذا كان لها أسنمة تشعر وتقلد بلا خلاف، وكذا إن لم يكن لها أسنمة خلافا لما رواه محمد عن مالك. انتهى.

ولما كان منع الأكل من الهدي ونحوه على أربعة أقسام، أشار إلى الأول منها بقوله: ولم يؤكل من نذر مساكين عين مطلقا؛ يعني أن الهدي ونحوه في الأكل منه وعدمه على أربعة أقسام: قسم لا يؤكل منه مطلقا قبل المحل وبعده، وقسم يؤكل منه مطلقا، وقسم يؤكل منه قبل لا بعد، وقسم عكسه. فالأول وهو الذي لا يؤكل منه مطلقا عطب قبل المحل أو بعده هو أن ينذر للمساكين هديا يعينه لهم باللفظ أو بالنية سواء كان المساكين معينين أو لا، ويحرم على المتقرب به ورسوله وما مورهما ممن ليس مستحقا الأكل منه مطلقا، سواء بلغ محله وهو منى بشروطها، وإلا فمكة حيث سلم، أو لم يبلغ محله بأن عطب قبل وصوله للمحل، أما عدم الأكل منه قبل وصوله للمحل فلأنه غير مضمون، وأما بعد المحل فلأنه قد عين آكله وهم المساكين.

قال عبد الباقي: ومثله هدي التطوع إذا جعل للمساكين بالنية أو باللفظ عين أم لا والفدية إن لم تجعل هديا، فهذه الثلاثة يحرم على مهديها الأكل منها مطلقا. انتهى. قال محمد بن الحسن في قوله: ومثله هدي التطوع الخ، الصواب إسقاط هذا والذي بعده، أما هدي التطوع فلأنه لم أر فيه التفصيل الذي ذكره بل كل من ذكره إنما يجعله من القسم الرابع كالمصنف، على أن ما فصله فيه غير صحيح، وذلك أنه إن سماه للمساكين باللفظ، كهذا هدي للمساكين صار نذرا لا تطوعا؛ لأنه سيأتي أن النذر لا يختص بصيغة: لله علي، وقد قالوا في نحو: أنا محرم ومالي في سبيل الله، إنه نذر، وإن سماه لهم بالنية جرى على الخلاف الآتي في انعقاد اليمين بالنية، ثم إن كان نذرا جرى على حكمه وإلا فهو على حكم التطوع، وأما الفدية إذا لم تجعل هديا فلأنها لما كانت لا تختص بمكان بل حيثما ذبحت فذلك محلها لا يتصور فيها ذبح إلا بعد المحل، فهي داخلة في قول المصنف:"والفدية والجزاء بعد المحل"، ولذلك أطلق فيها.

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1321.

ص: 743

وأشار إلى القسم الثاني وهو الذي يؤكل منه مطلقا عطب قبل المحل أو بعده بقوله: عكس الجميع؛ يعني أن جميع الهدايا مما ليس معينا للمساكين، على العكس من المنذور المعين للمساكين فيجوز الأكل منها مطلقا عطب قبل المحل أو بعده، كان جميع هذه الهدايا متطوعا بها أو واجبة، وسواء منها ما تقدم ذكره كواجب لنقص لحج أو عمرة أو فوات، وتعدي ميقات وترك نزرل بعرفة نهارا وبمزدلفة ليلا، ومبيت بمنى ورمي جمار وطواف قدوم وتأخير حلاق، وكهدي فساد على المشهور. وما لم يتقدم ذكره كنذر غير معين فله الأكل منها مطلقا، بلغت محلها أم لا ويتزود كما في التتائي الصغير، ونحوه لأحمد ولا بد أيضا أن لا يجعل غير المعين للمساكين؛ لأنه إذا جعل لهم فهو قوله الآتي:"إلا نذرا لم يعين"، فالنذر المضمون إذا لم يسمه للمساكين ولا نواه لهم يأكل منه قبل المحل إذا عطب لوجوب بدله عليه، وبعد المحل إذا سلم لأن آكله غير معين فهو على سنة الهدايا، وقد قال تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} ، والقانع هو السائل كذا فسره ابن عباس، ويقع في اللغة مرادا به من يقنع باليسير، وليس مرادا هنا لعطفه المعتر عليه وهو من يتعرض للسؤال ولا يسأل، فالأول من القنوع بمعنى السؤال، والثاني من القناعة، قال الشاعر:

لمال المرء يصلحه فيغني

مفاقره أعف من القنوع

فله إطعام الغني والقريب؛ يعني أنه بسبب هذه الإباحة المطلقة أي التي ليست مقيدة بما إذا عطب قبل المحل، ولا بما إذا سلم حتى بلغ المحل، يجوز له أن يطعم الغني والقريب وإن لزمته نفقته، وله أكل الكل والتصدق بالكل وبالبعض بلا حد على ظاهر المذهب، إلا أنه لا يدع الأكل والصدقة لقوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} .

وكره لذمي؛ يعني أنه يكره أن يطعم ذمي منها أو يتصدق عليه بشيء منها؛ لأنه ليس من أهل القرب، واستثنى مما يؤكل منه مطلقا ما يؤكل في حال دون آخر، وتحته نوعان أشار للأول منهما وهو ثالث الأقسام أي الذي يؤكل منه قبل لا بعد بقوله: إلا نذرا لم يعين؛ يعني أنه إذا نذر نذرا للمساكين ولم يعينه بل كان مضمونا في الذمة، كلله عليه هدي للمساكين، أو لله علي هدي أو بدنة ونواه لهم فإنه لا يأكل منه بعد بلوغ محله. والفدية، عطف على المستثنى أعني

ص: 744

"إلا نذرا"؛ أي وإلا الفدية للأذى؛ يعني أن الفدية للأذى إذا جعلت هديا كما قدمه بقوله: "إلا أن ينوي بالذبح الهدي" الخ، فإنه لا يؤكل منها بعد بلوغ محلها، فإن لم ينو بها الهدي امتنع الأكل منها بكل حال؛ لأنها حيثما ذبحت فذلك محلها لأنها لا تختص بمكان. وجزاء الصيد؛ يعني أن جزاء الصيد لا يؤكل منه بعد بلوغه للمحل.

وعلم مما قررت أن قوله: بعد المحل راجع للأمور الثلاثة المستثناة؛ أعني نذر المساكين الذي لم يعين، والفدية، وجزاء الصيد. وقوله:"بعد المحل"، المحل منى أو مكة أو ما يذبح المحصور فيه من الموضع الذي حصر فيه، وهذه الأمور الثلاثة هي أنواع القسم الثالث، وامتنع في المضمون؛ أعني المستثنى الأول لوصوله للمساكين، وفي الفدية لأنها بدل عن الترفه، فالجمع بين الأكل منها والترفه كالجمع بين العوض والمعوض، وفي الجزاء؛ لأنه قيمة متلف، وقوله:"بعد المحل"، ظرف منصب بفعل مقدر؛ أي فلا يؤكل منه في الثلاث بعد بلوغ المحل، وأما قبل المحل فيؤكل منه في الثلاث إذا عطب لوجوب بدله عليه وبعثه للمحل فلم يأكل مما وجب عليه.

وعلم من المصنف أن النذر معين ومضمون، وفي كل إما أن يسمى للمساكين لفظا أو نية، وإما لا، فالمعين إن سميَ لهم ولو نية امتنع الأكل منه مطلقا كما قدمه بقوله:"ولم يؤكل من نذر مساكين" الخ، وإن لم يسم لهم ولا نويَ امتنع قبل لا بعد، وهذا بقي على المصنف، وذكره في التوضيح عن اللخمي، ونص عليه سند، فلو قال المصنف بعد قوله:"وهدي تطوع" ونذرا عين عطبا قبل المحل، لوفى بذلك. قاله الحطاب. هذا حكم النذر المعين. وأما النذر المضمون فإن سماه للمساكين امتنع بعد لا قبل كما قال:"إلا نذرا لم يعين"، وإن لم يسم لهم ولم ينو لهم أكل منه مطلقا كما قال عكس الجميع.

وأشار للنوع الثاني من النوعين وهو القسم الرابع بقوله: وهدي تطوع إن عطب قبل محله، قوله:"وهدي"، عطف على المستثنى كما قدمته؛ أي وإلا هدي تطوع؛ يعني أن هدي التطوع إذا عطب قبل محله فإنه لا يؤكل منه لأنه غير ضامن له لو تلف، إلا أن يمكنه ذبحه فيتركه حتى يموت فيضمنه؛ لأنه مأمور بذبحه مؤتمن عليه. قاله سند. فمنع من الأكل قبله لاتهامه على عطبه،

ص: 745

وقيل: المنع تعبد، وأما إن بلغ محله سليما فله الأكل منه، وهدي التطوع هو ما لم يجب بشيء، ولم يجعله للمساكين بلفظ ولا نية.

وتلقى قلادته بدمه؛ يعني أن هدي التطوع إذا عطب قبل محله، فإن صاحبه ينحره ويلقي قلادته بدمه لتكون قلادته الملقاة بدمه علامة لكونه هديا ولإباحة أكله. ويخلى للناس؛ يعني أنه إذا نحر هدي التطوع وألقى قلادته بدمه، فإنه يخلي بينه وبين الناس؛ أي يتركه للناس مسلمهم وكافرهم غنيهم وفقيرهم، وكلامه مفيد لأمرين إجزاؤه مع عطبه قبل المحل، وعدم أكله هو منه، وعد هذا قسما رابعا إنما هو باعتبار مفهوم الشرط، وهو أنه يأكل منه بعد حيث لم يعطب، وما ذكرته من أن هدي التطوع لا يختص بالفقير هو ظاهر المدونة، وصرح به ابن عبد السلام والتوضيح خلاف ما ذكره سند من أن هدي التطوع مختص بالفقير، ونقله الحطاب. وفي المدونة: وإن عطب هدي التطوع ألقى قلائدها في دمها إذا نحرها، ورمى عندها جلالها وخطامها، وخلى بينها وبين الناس، ولا يأمر من يأكل منها فقيرا ولا غنيا. انتهى.

قال الصرصري: قال الشيخ عن شيخه عن أبي محمد صالح: إن قولها: ألقى قلائدها في دمها، هو مقصود وذلك علامة لكونها هديا ولإباحة أكلها وليلا تباع. أبو محمد صالح: إنما قال لا يأمر من يأكل منها سدا للذريعة وحسما للباب، وذلك مخافة أن يخص بها أصحابه. انتهى. نقله العلامة الخرشي.

كرسوله، تشبيه فيما قبله من عدم الأكل وإلقاء القلادة بالدم والتخلية بينها وبين الناس؛ يعني أن رسول صاحب هدي التطوع إذا عطب الهدي المبعوث معه قبل محله، ينحره أو يذبحه، ويلقي قلادته في دمه، ويخلي بين الناس وبينه، ولا يأكل منه ولو كان فقيرا على مذهب المدونة كما حققه الرماصي والبناني. وقال سند: إن الرسول يأكل من هدي التطوع إذا عطب قبل محله إن كان فقيرا، ونصه: وكل هدي لا يأكل منه صاحبه لا يأكل منه نائبه، إلا إن كان بصفة من يستحقه، وما قررت به كلام المصنف من أنه تشبيه في ما قبله بلصقه هو المتبادر منه، ويحتمل أنه تشبيه في جميع ما تقدم من الأحكام والأفعال وهو الأظهر، قال فيها: والمبعوث معه الهدي يأكل منه إلا من الجزاء والفدية والنذر للمساكين، إلا أن يكون الرسول مسكينا فجائز أن يأكل

ص: 746

منه. نقله عبد الباقي وغيره. قال محمد بن الحسن: هذا الذي نقله عن المدونة هو في غير ما عطب من هدي التطوع قبل محله، وفي شرح عبد الباقي عند قوله:"كرسوله": واعلم أنه يجوز الأكل فيما بينه وبين الله تعالى، وأما في الظاهر فحكمه كربه في الأكل وعدمه، إلا فيما إذا عطب الواجب قبل محله فلا يأكل منه لتهمة أن يكون عطبه بسببه، فلو قامت بينة على ذلك أو علم أن ربه لا يتهمه أو وطن نفسه على الغرم إن اتهمه جاز له الأكل. انتهى. قوله: إلا فيما إذا عطب الواجب لخ، يشمل نذرا لم يعين، والفدية منويا بها الهدي وجزاء الصيد.

وفي الطراز: فإن بلغ الهدي محله كان حكم الرسول حكم المرسل، فكل هدي يأكل منه صاحبه إذا بلغ محله فنائبه يأكل منه، وكل هدي لا يأكل منه صاحبه فنائبه لا يأكل منه إلا أن يكون بصفة مستحقه، فإن أكل السائق من الهدي إذا عطب قبل محله، فإن كان واجبا لم يجز ربه ونظرت في تضمينه فلا يقبل فيه مجرد قوله لما أكل، ولو لم يأكل قبل، فإن شهد له أحد من رفقته نظرت، فإن أكل من الهدي لم تقبل شهادته للتهمة ولأنه يثبت لنفسه أنه ما أكل إلا مباحا؛ إذ هو ممنوع أن يأكل منه إذا نحر بغير خوف، إلا أنه لا يضمن لأن الرسول يزعم أنه ما أكل إلا بوجه جائز، فيضمن السائق والحالة هذه. ولا يرجع على أحد ممن أطعمه، ويضمن قيمة الهدي وقت نحره لا هديا مكانه، وإنما يضمن الهديَ يهَدْيِ رَبُّه فقط، وإن كان تطوعا فليس على ربه إلا هدي بقيمة ما رجع به، وإن كان واجبا فعليه هدي بأصل ما وجب عليه. نقله الحطاب.

وقوله: "كرسوله"، قال في الموطإ: إن الذي بعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه، قال يا رسول الله: كيف أصنع بما عطب من الهدي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بدنة عطبت من الهدي فانحرها ثم ألق قلائدها في دمها ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها

(1)

)، قالوا: وهو هدى تطوع. انتهى. نقله الشارح.

وضمن في غير الرسول بأمره بأخذ شيء؛ يعني أن صاحب الهدي التطوع إذا عطب قبل محله مأمور بأن يخلي بينه وبين الناس ولا يأمر أحدا بأخذ شيء منه كما مر، فإن أمر أحدا بأخذ شيء فإنه يضمن بدل الهدي، كما يضمن إذا أكل منه، وهذا الضمان إنما هو في رب الهدي، وأما الرسول فإنه

(1)

الموطأ، كتاب الحج، ج 1 ص 262.

ص: 747

وإن كان مساويا لصاحب هدي التطوع في كونه لا يأكل منه ولا يأمر أحدا لا ضمان عليه إن فعل ذلك. قال في التوضيح: لأنه أجنبي، ولا ضمان على صاحب الهدي أيضا إذا لم يكن أمر الرسول بذلك.

(كأكله من مصنوع) يعني أن رب الهدي إذا أكل من هدي يمنع له أن يأكل منه، فإنه يضمن بدل الهدي؛ لأن أكله منه أبطل إراقة الدم فيه، فوجب أصل الهدي، وكذا لو أطعم منه

(1)

غنيا أو ذميا مما لا يجوز له الأكل منه، فإن عليه البدل كما في المدونة، وكذا إذا أطعم منه من تلزمه نفقته. قاله في الطراز.

وعلم مما قررت أن قوله: بدله. مفعول "ضمن"، وهذا الذي قررت به قول المصنف:"وضمن في غير الرسول بأمره بأخذ شيء"، من تخصيصه بهدي التطوع هو الذي قرره به الحطاب، فإنه قال: ولا يصح أن يريد أنه يضمن إذا أمر بأخذ شيء من الهدي الممنوع من الأكل منه كما قال البساطي: فإن الفدية والجزاء ونذر المساكين إذا بلغت المحل لا يأكل منه، وله تفرقتها على المساكين، ويأمرهم بالأخذ منها. انتهى. وصوب هذا التخصيص محمد بن الحسن بناني، قال: ويدل على التخصيص بهدي التطوع قوله: "كأكله من ممنوع"؛ إذ لو كان عاما لقال: كأكله منه. انتهى. وشرح المصنف على التعميم غير واحد كعبد الباقي، فإنه قال: وضمن رب الهدي في غير مسألة الرسول بأمر بأخذ شيء من ممنوع كأكله أي ربه من ممنوع بدله مفعول ضمن؛ أي هديا كاملا لا قدر أكله فقط ولا قدر أخذ مأموره فقط، سواء أمر مستحقا أو غيره إن كان الهدي تطوعا كغيره إن أمر غير مستحق وإلا فلا شيء عليه، وأما الرسول فلا ضمان على المهدي إن لم يكن أمره ربه به لأنه أجنبي تعدى، ولا على الرسول إن أكل أو أمر من يأكل أو يأخذ حيث كان مستحقا أو مأموره مستحقا وإلا ضمن قدر أكله وقدر أخذ مأموره. انتهى.

قال بناني: قوله: وإلا ضمن قدر أكله الخ، صحيح ولا يخالفه قول المدونة كابن الحاجب: فإن أكل الرسول لم يضمن. انتهى. لقول أبي الحسن -يريد-: لم يضمن البدل، وأما ما أكل منه فيضمنه لأنه متعد. انتهى. وصرح في الطراز كما في الحطاب بأنه يضمن أيضا ما أطعمه لغير المساكين. انتهى. قال عبد الباقي: وبجعلنا ضمير"ضمن" لرب الهدي مع تقدير في غير مسألة

(1)

لفظ الحطاب وكذا إذا أطعم غنيا الخ، ج 3 ص 634.

ص: 748

الرسول، كما قال التتائي، يندفع قول البساطي كغيره: الظاهر أن "في" زائدة، وأن المعنى: وضمن غير الرسول، وذلك الغير هو رب الهدي، وقوله:"من ممنوع"، على هذا راجع لما بعد الكاف، وقوله:"بدله"؛ أي ويصير حكم البدل حكم المبدل من المنع، فإن أكل أيضا من ذلك البدل فإنه يضمن بدلا كاملا أيضا لتنزله منزلة المبدل منه لا قدر أكله فقط.

وعلم مما مر أن الرسول لا يضمن، سواء أكل من هدي التطوع أو غيره كما لو أمر حيث كان مستحقا أو مأموره مستحقا وإلا ضمن قدر أكله فقط وقد أخذ مأموره فقط لا هديا كاملا. والله سبحانه أعلم. وقال الحطاب: وإذا قال للناس صاحب الهدي كلوا، وقال أبحتها للناس، فلم أر في ذلك نصا، وظاهر قول المدونة: فإن أكل أوأمره بأكلها أو بأخذ شيء منها فعليه البدل أنه يضمن في قوله: كلوا أو خذوها واقتسموها ونحو ذلك، ولا يضمن في قوله: أبحتها للناس؛ لأنه لم يأمر أحدا بأخذ شيء، ولو قال: من شاء فليأخذ، فالظاهر لا يضمن. انتهى. ولو كان عليه هدي واجب فضل، فأبدله بغيره فعطب قبل محله فأكل منه لأن عليه بدله ثم وجد الأول، فإنه ينحره، قال في الطراز: قال في الموازية: ولا بد له من بدل الثاني؛ لأنه صار تطوعا أكل منه قبل محله. انتهى. نقله الحطاب.

وقد مر أن أكل من تلزمه نفقته من ممنوع كأكله هو فيوجب البدل، ومحل ذلك إذا أطعمهم، فإن أكل منه بغير إذنه من تلزمه نفقته فإنما عليه قدر ذلك، ولو لم يكن الوالد والولد في عياله لم يلزمه شيء، ولزم ذلك الأب إن كان مليا وكذا الولد، فإن كان الولد البالغ فقيرا فذلك له جائز لأنه ليس في عيال أحد وهو من جملة المساكين، بخلاف الأب الفقير فإن نفقته على الولد، ولو أكل منها الغني أو الذمي بغير إذنه فعلى الآكل قدر ما أكل، وكذا لو دفعها ربها لمن يفرقها فأعطى الفرق منها غنيا أو ذميا فعلى المفرق بدل ذلك. والله أعلم. ولو أعطى الفدية أو الجزاء أو نذر المساكين فأطعمه المساكين من ذلك، فلم أر فيه نصا، والظاهر أنه لا شيء عليه، وإنما هو مكروه من باب أكل الرجل من صدقته الواجبة. والله أعلم. قاله الحطاب.

وإذا نسك في الفدية أو جعلها هديا ثم أكل منها، وقلنا يلزمه البدل، فهل يلزمه بدل الذي أكل منه؟ ولا يجوز أن يبدله بدونه كما لو جعل الفدية بدنة ثم أكل منها، وأراد أن يبدل ذلك بشاة

ص: 749

أو بقرة، أو أراد أن يطعم أو يصوم، والظاهر أنه يلزمه بدل ذلك الذي أكل منه، ولم يذكر المصنف حكم بيع شيء من الهدي ولا الاستئجار به، وقد صرح في المدونة وغيرها بأنه لا يعطى الجازر شيئا من لحمها ولا جلدها ولا خطامها ولا جلالها وهو واضح، فإن باع شيئا من اللحم أو استأجر به؛ فظاهر كلام غير واحد أن حكمه حكم الأضحية، وصرح بذلك شارح الرسالة المسمى: بكرامة الجزولي، ونصه: فإن وقع شيء من بيع الأضحية والهدي والنسك فسخ ما لم يفت، فإن فات فقيل: يصرف الثمن فيما ينتفع به من طعام وماعونه كالرحا والغربال، وقيل: يتصدق به، وقيل: يصنع به ما شاء، والمشهور في الأضحية أنه يتصدق به، فكذلك هنا إلا أنه ينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يبلغ ذلك ثمن هدي، فإن بلغ اشترى به هديا، وإذا أكل رب الهدي أكلا ممنوعا، فإنه يلزمه البدل -أي هدي كامل- ولا يلزمه قدر ما أكل فقط، واختلف الشيوخ هل ذلك عام في كل ممنوع؟ وشهره صاحب الكافي، أو هو عام إلا أن يكون ذلك الذي منع الأكل منه نذر؟ أي منذورًا لمساكين عُيِّنَ لهم، كلله علي نذر هذه البدنة، وجعلها باللفظ أو بالنية للمساكين، عينوا أم لا، فإنما يلزمه حينئذ قدر أكله لحما إن عرف وزنه، وقيمته إن لم يعرف، وشهره ابن الحاجب، في ذلك خلاف في التشهير كما علمت، وهذا الثاني هو المعتمد؛ لأنه قول ابن القاسم في المدونة كما في الشارح، قال: وهو الذي ينبغي أن يكون هو المشهور، وأشعر قوله:"قدر أكله"، أن الخلاف غير جار فيما أمر بأخذه من نذر المساكين العين، فلا يضمن كاملا باتفاق. قاله الشيخ علي الأجهوري. قاله عبد الباقي.

قال محمد بن الحسن: الذي يظهر من كلام المصنف أنه يضمن هديا كاملا؛ لأنه داخل فيما قبل الاستثناء تأمله، وإن كان ما ذكره الزرقاني ظاهرا من جهة الفقه. انتهى.

قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: وما قاله محمد بن الحسن هو الذي يعطيه كلام المصنف، والحاصل أن كل ما منع ربه من أكله قبل محله وبعده، أو قبله فقط أو بعده فقط إذا أكل شيئا منه، فإنه يضمن بدله أي هديا كاملا إلا في المنذور المعين للمساكين، فهل هو كذلك؟ أو إنما يضمن قدر أكله فقط؟ وهو المعتمد، في ذلك خلاف، وأما إذا أمر ربُّه غيره بأخذ شيء مما منع منه أو بأكله مند فأخذ أو أكل وكان المأمور غير مستحق، فإن ربه يضمن هديا كاملا إلا في المنذور

ص: 750

المعين للمساكين، وينبغي أن يتفق على ضمان قدر أكله فقط على ما للأجهوري، وهو خلاف ظاهر المصنف من أنه يضمن هديا كاملا، وأما إذا كان المأمور بالأكل والأخذ مستحقا؛ بأن كان مسلما فقيرا لا تلزمه نفقته، فإن كان ذلك من غير هدي التطوع فلا شيء عليه، وإن كان من هدي التطوع فهل هو كذلك وهو ما عليه اللخمي وسند ومن وافقهما؟ أو يلزمه بدله هدي كامل وهو ما يفيده كلام المدونة مع شرحها وهو المرتضى عندهم وهو المتبادر من كلام المصنف؟

والخطام والجلال كاللحم؛ يعني أن حكم خطام الهدايا وجلالها حكم لحمها في المنع والإباحة، فالهدي الذي لا يجوز لصاحبه أن يأكل منه لا يجوز له أن يأخذ شيئا من خطامه ولا من جلاله، فإن أخذ شيئا من ذلك وأتلفه كلا أو بعضا لزمه قيمة ما أخذ فقط، وإن لم يتلفه رده، والهدي الذي يجوز لصاحبه أن يأكل منه يجوز له أخذ خطامه وجلاله، والخطام بالكسر هو الزمام، سمي بذلك لأنه يقع على خطم الهدي أي أنفه، والجلال بكسر الجيم ما يجعل عليها من الثياب، جمع جل بضم الجيم وجمع الجلال أجلة.

وعلم مما قررت أن التشبيه في قوله: "كاللحم"، غير تام؛ لأنه إن أخذ قطعة من هذين، أو أمر بأخذها وإن حرم عليه إنما يضمن قيمة ذلك، ولا يلزمه البدل إن أتلف، فإن لم يتلف ذلك رده. وفي التوضيح: والمطلوب أن لا يعطي الهدي إلا بعد نحره، فإن دفعه للمساكين قبل نحره ونحروه أجزأه، وإن استحيوه فعليه بدله واجبا كان أو تطوعا، أما الواجب فظاهر لأن الذمة لم تبرأ، وأما التطوع فهو كمن أفسده بعد الدخول فيه، فيجب قضاؤه. انتهى. نقله عبد الباقي.

قال ابن الحاجب: وخطام الهدايا كلها وجلالها كلحمها، وفي هدي الفساد قولان. ابن عبد السلام: يريد حيث يكون مقصورا على المساكين يكون الخطام كذلك، قال أشهب: إن أعطى جلال بدنته الواجبة لبعض ولده فلا شيء عليه. انتهى. والخلاف في جلال الهدي في الفساد مبني على الخلاف في اللحم، والمشهور جواز الأكل من لحمه. والله سبحانه أعلم. انظر الحطاب. وإن سرق بعد ذبحه أجزأ؛ يعني أنه إذا سرق الهدي الواجب من صاحبه بعد أن ذبح، كجزاء الصيد وفدية الأذى ونذر مضمون لمساكين وما وجب لقران، فإنه يجزئه ولا بدل عليه. سند: لأنه بلغ محله ووقع التعدي في خالص حق المساكين، وله المطالبة بقيمته وصرفها للمساكين فيما ليس

ص: 751

له الأكل منه كالثلاثة المذكورة، وأما ماله الأكل منه فله المطالبة بقيمته، ويفعل بها ما شاء كما ذكره الحطاب عن سند، خلاف ما يقتضي كلام عبد الباقي من تعين صرفه لهم مطلقا.

لم قبله؛ يعني أنه إذا سرق الهدي الواجب قبل الذبح فإنه لا يجزئ صاحبه وعليه بدله، فكلام المصنف في الواجب كما علمت، وأما المتطوع به ومثله المنذور المعين فإنه لا بدل عليه فيما إذا سرق ذلك قبل الذبح، ومثل ما سرق ما ضل أو مات قبل نحره كما في المدونة، فإن كان واجبا غير منذور معين لم يجز، وإن كان متطوعا به أو منذورا معينا أجزأ، والفرق بين هذا وبين ما مر أنه إذا تعيب بعد التقليد فإنه يجزئ أن ذات العيب باقية للفقراء تحقيقا بخلاف المسروق، ففي المدونة: من سرق هديه الواجب بعد ما ذبحه أجزأه. سند: هذا بين؛ لأنه إنما عليه هدي بالغ الكعبة وقد بلغ الهدي محله، فإن كان جزاء صيد أو فدية أذى أو نذر مساكين فقد أجزأه، ووقع التعدي في خالص حق المساكين، وله المطالبة بقيمته وصرف ذلك للمساكين؛ لأنه كان تحت يده وكانت له قسمته إن شاء، وإن كان غير ذلك فله المطالبة بالقيمة، ويفعل بها ما شاء كما يفعل في قيمة أضحيته إذا سرقت، واستحب له ابن القاسم أن يدع المطالبة بالقيمة لما فيه من مضارعة البيع. انتهى.

وفي المدونة: وكل هدي واجب ضل من صاحبه بعد تقليده أو مات قبل أن ينحره بمنى أو في الحرم أو قبل أن يدخل الحرم فلا يجزئه وعليه بدله، وكل هدي تطوع هلك أو سرق أو ضل فلا بدل على حاحبه فيه.

وحمل الولد على غير؛ يعني أن الإنسان إذا أهدى بدنة وقلدها وأشعرها ثم ولدت، فإنه يلزمه أن يحمل الولد إلى المحل، وندب له أن يحمله على غير الأم المذكورة ولو بأجرة إن لم يمكن سوقه، كما يحمل رحله أفضل من حمله عليها، ولا يخالف قوله: وندب عدم ركوبها بلا عذر، وأما المولود قبل التقليد فيستحب فقط ذبحه ولا يجب، وعبارة الإمام في الموازية. تقتضي استحباب حمله معها.

ثم عليها؛ يعني أنه إذا لم يجد غير الأم يحمله عليه، فإنه يحمله على أمه إن كان فيها قوة، وإن نحره دون البيت وهو قادر على تبليغه بوجه فعليه هدي بدله؛ أي هدي كبير تام. وإلا؛ أي

ص: 752

وإلا يمكن حمله عليها لضعفها أو خوف هلاكها، ولا أمكن حمله بأجرة من مال صاحبه، فإنه يجعله عند من يحفظه حتى يشتد، ثم يرسل إلى محله، فإن لم يمكن تركه -عند ثقة، لكونه بفلاة من الأرض، أو لعدم وجود ثقة يقوم عليه- ليشتد، متعلق "بترك"، واللام للغاية؛ أي إلى أن يشتد أي يقوى.

فكالتطوع؛ أي فحكم هذا الولد الذي لم يمكن تركه إلى أن يشتد كحكم هدي تطوع يعطب قبل محله، فلينحره ويخل بينه وبين الناس ولا يأكل، فإن أكل فعليه بدله، وكذا إن أقر بأخذ شيء منه، ولا تجزئه بقرة في نتاج البدنة، وقوله:"فكالتطوع"، جواب الشرط الثاني، وقوله:"فإن لم يمكن" الخ جواب الشرط الأول مقدر فعله بعد إن ولا النافية، وتقديره: وإن لم يمكن وإن الشرطية في كلا الموضعين داخلة على نفي.

وعلم مما مر أن حمل الولد من حيث هو واجب، وحمله على غير الأم أفضل من حمله على الأم، وقوله:"تركه"، بصيغة المصدر فاعل "يمكن"، ولو وجد الأم معيبة لم يكن له أن يتصرف في ولدها وكان تبعا لها في حكم الهدي، وفي الحطاب ما معناه: فإن لم يكن له محمل حمله على أمه كما يحمل عليها زاده عند الحاجة والضرورة، فإن لم يكن فيها ما يحمله قال ابن القاسم: يتكلف حمله، يريد: لأن عليه بلوغه بكل حيلة يقدر عليها، قال أشهب: له أن ينفق عليه حتى يجد له محملا، ولا محل له دون البيت.

ولا يشرب من اللبن؛ يعني أنه إذا قلد الهدي أو أشعره، فإنه خرج من ملكه، فلذا لا يشرب من لبنه، وإن فضل عن ري فصيلها، وهذا في الهدي الذي لا يجوز له الأكل منه، وقوله:"ولا يشرب"؛ أي يكره ذلك حيث لم يضر شربه الأم أو الولد؛ لأنه نوع من الرجوع في الصدقة، وليتصدق به فإن لم يفضل أو أضر منع، وأما غير الممنوع من أكله فيجوز شربه. كذا يفيد أحمد. وحمله بعضهم على الإطلاق، فيكره شرب لبن كل منهما حيث لم يضر وإلا منع. قاله عبد الباقي. وقال محمد بن الحسن: ما حمله عليه البعض هو الموافق لإطلاق أهل المذهب المدونة وغيرها، وتعليلهم النهي بخروج الهدي عن ملكه بالتقليد والإشعار، وبخروجه خرجت المنافع،

ص: 753

فشربه نوع من العود في الصدقة، وبأن ذلك يضعفها ويضعف ولدها يدل على العموم. قاله مصطفى. انتهى. ونحوه للخرشي.

قال مقيده عفا الله عنه: وهو ظاهر. والله سبحانه أعلم.

وقال ابن عرفة: ابن حارث: اتفقوا على منع ما يروي فصيلها، فإن لم يكن أو فضل عنه، فقال مالك: لا يشرب. فإن فعل فلا شيء عليه. أشهب: لا بأس به وإن لم يضطر ويسقيه من شاء ولو غنيا. انتهى. وهذا إذا لم يكن في تركه ضرر، وإلا فيحلب ما تزول به الضرورة، وصرح ابن عبد السلام بأن شرب لبنها مكروه على المذهب، وحكى بعض الشيوخ قولا بالإباحة، وأجاز إمامنا مالك شربه لضرورة.

واعلم أن فضل، إن كان بمعنى: زاد، فهو من باب قتل، وإن كان بمعنى بقي فمضارعه مثلث وماضيه بالكسر والفتح، والمصنف يحتمل المعنيين، قاله الخرشي.

وغرم إن أضر بشربه الأم أو الولد موجَب فعله، "الأم" مفعول "أضر"، وقوله:"أو الولد"، معطوف على "الأم"، "وموجب"، بفتح الجيم مفعول "غرم"؛ يعني أنه إذا حلب لبن الهدي وشربه ولو في الحالة التي يمنع فيها ذلك أو يكره ولم يحصل بذلك ضرر للأم ولا للولد، فإنه لا شيء عليه؛ لأن بعض العلماء أرخص فيه، وأما إن أضر ذلك بالأم أو بالولد فإنه يلزمه أن يغرم ما أوجبه فعله؛ أي يغرم الأرش مع النقص والقيمة مع التلف، كانت الأم مما يمتنع أكله أم لا، وقوله:"بشربه"، وكذا إن أضر بها أو بولدها الحلب، وإن لم يشرب اللبن فيغرم موجب فعله من قيمة فيهما، أو أرش فيهما وكذا يغرم موجب تركه إن أضر ترك اللبن في ضرعها الأم أو الولد. كما في شرح عبد الباقي وغيره.

وندب عدم ركوبها؛ يعني أن الهدي يندب لصاحبه عدم ركوبه ويكره له ركوبه، على المشهور، وقيل: يجوز ما لم يكن ركوبه فادحا، قاله الحطاب. بلا عذر؛ يعني أن محل ندب عدم ركوب الهدي إنما هو حيث لم تدع للركوب ضرورة، وأما ركوب الهدي لأجل ضرورة فإنه جائز، وعبارة عبد الباقي: فإن ركبها لعذر؛ أي اضطرار بأن لم يجد دابة أو ما يكريها به لم يكره. انتهى. والباء في قوله: "بلا عذر"، للمصاحبة وإذا ركبها حيث يجوز له ذلك بأن ركبها لعذر،

ص: 754

فإنه لا يلزم النزول عنها بعد الراحة؛ أي لا يلزمه النزول إذا زاد تعبه واستراح، وإنما يندب فقط، وإذا نزل بعد الراحة فلا يركبها ثانيا إلا إذا اضطر كالأولى. وإذا ركبها لغير عذر فتلفت ضمنها، فإن ركبها لعذر وتلفت، فقال عبد الباقي: لم يضمنها إلا إذا تعدى في هيئة ركوبه عليها. انظر التتائي. انتهى.

قال بناني في قوله لم يضمنها: فيه نظر، لقول الحطاب: قال سند: وهذا مقيد بشرط سلامتها، فإن تلفت بركوبه ضمنها. انتهى. ونص الحطاب الذي أشار إليه هو عقب قوله:"فلا يلزم النزول بعد الراحة"

(1)

)، قال سند: وهو مقيد بشرط سلامتها: وإن تلفت بركوبه ضمنها، قال: ولا يركبها بمحمل ولا يحمل عليها متاعا، وإنما يفعل من ذلك ما دعت الحاجة إليه. انتهى. وقال الحطاب أيضا عن سند على قول مالك: ولا يركبها إلا من ضرورة: ينبغي إن استغنى عن ركوبها أن يريحها. انتهى. وقال في الإرشاد: ولا يركب عليها ولا يحمل عليها إلا من ضرورة، فإذا زالت بادر للنزول والحط، قال الشيخ زروق: لأن ما أبيح للضرورة قيد بقدرها، والمشهور ليس عليه النزول بعد راحته ولا له الرجوع إلا لعذر. انتهى. وقال الشارح مفسرا للمصنف: يعني فإذا ركبها لعذر فلا يلزمه النزول إذا زال تعبه واستراح. اللخمي: ولا يركبها بمحمل، ولا يحمل عليها زادا ولا شيئا يتعبها به وذكر ابن الجلاب: أنه يحمل عليها زاده للضرورة، وفي شرح عبد الباقي: وندب عدم ركوبها والحمل عليها بلا عذر. انتهى. وقال الشارح عند قول المصنف: "فلا يلزم النزول بعد الراحة": هكذا قال في المدونة، ونصها: وليس عليه أن ينزل بعد راحته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اركبها ويحك)

(2)

في الثانية أو الثالثة. انتهى.

ونحرها قائمة؛ يعني أنه يندب نحر الهدي إذا كان من الإبل قائما؛ أي قائمة على قوائمها الأربع مقيدة بلا عقل كما نص عليه غير واحد، أو معقولة؛ يعني أنه يندب أحد أمرين في نحر الهدي إذا كان من الإبل، إما أن ينحر قائما على قوائمه الأربع مقيدا، أو قائما على ثلاث قوائم معقولة يده اليسرى.

(1)

هذا الكلام ذكره الحطاب ج 3 ص 638 عقب قول خ: وندب عدم ركوبها بلا عذر.

(2)

مسند أحمد، ج 3 ص 291/ 276. وفي الموطإ والصحيحين ويلك.

ص: 755

وعلم مما قررت أن قوله: "معقولة"، عطف على مقدر؛ أي قائمة مقيدة أو معقولة، وليس معطوفا على قوله:"قائمة"، لاقتضائه المغايرة مع أنها في كلا الوجهين تكون قائمة. والله أعلم. واعترض ابن عرفة ذلك بأن النص أنها إنما تنحر قائمة مقيدة إلا أن يخاف ضعفه عنها وامتناعها من الصبر فيعقلها، وعليه "فأو" في كلام المصنف للتنويع لا للتخيير، ويقيد الفرع الثاني بأن يعقلها لعذر، فلو قال: ونحرها قائمة وتعقل لعذر، لسلم من اعتراض ابنِ عرفة: ونقل التتائي عن سند أن البقر إذا نحرت فقائمة أيضا، ولم يذكر هل تقيد وهو الظاهر، وتعقل لعذر فيما يظهر إن أمكن عقلها. قاله عبد الباقي. وإذا خاف أن لا يقدر على نحر الإبل قائمة فلينحرها باركة، والأصل في الصفتين القرآن، قال تعالى:{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} . ابن حبيب: هو أن تصف يداها بالقيود وقت نحرها، وقرئ صوافن وهي المعقولة في يد واحدة. قاله الخرشي.

والحديث: قال الشارح: وإنما استحب ذلك لما روي أنه عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها، ولما أخرجه مسلم (أن ابن عمر مر على رجل وهو ينحر بدنة باركة، فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم

(1)

)، ولأنها إذا نحرت قائمة -يعني غير مقيدة ولا معقولة- ربما شردت منه. مالك: ولا يعرقبها إلا أن يخاف أن يغلب ويضعف عنها، قال: وأحب إلي أن ينحرها باركة من أن يعرقبها، قال. وليربطها بحبل ويمسكها رجلان رجل من كل ناحية وهي قائمة مصفوفة أحب إلي من أن ينحرها باركة، واستحب إذا كثرت أن تصف صفا، وكذلك إن كانت واحدة أن تصف يداها. انتهى. كلام الشارح.

وأجزأ إن ذبح غيره عنه مقلدا؛ يعني أن الهدي المقلد أو المشعر إذا نحره شخص عن صاحبه ولو بغير إذنه، فإنه يجزئ عن صاحبه حيث كان الذي نحره مسلما لا كافرا؛ لأنه ليس من أهل القرب، وإذا نحره كافر فعلى صاحبه بدله، وتقدم أن الاستنابة في نحر الهدي مكروهة، ويأتي

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1320. البخاري، كتاب الحج، الحديث: 1713.

ص: 756

مثله في الضحايا، قال أبو إسحاق: إذا وجد بدنة ضالة في أيام منى لم ينحرها إن لم يعرف صاحبها إلا في اليوم الثالث من أيام النحر لعل ربها أن يأتي، فإذا خيف خروج أيام منى نحرها عن ربها وأجزأته؛ لأنها بالتقليد والإشعار وجبت.

ولو نوى عن نفسه إن غلط؛ يعني أن الغير إذا نوى الهدي المقلد عن نفسه فإنما يجزئ عن صاحبه إذا كان ذلك غلطا، وأما إن نوى عن نفسه تعديا فإنه لا يجزئ عن صاحبه ولا عن الذابح، ولربه أخذ القيمة منه كما قاله بناني، قال في التوضيح: ولا يجزئ سواء وكله صاحبه على ذبحه أو لم يوكله، وقاله ابن عرفة أيضا، وهذا هو المشهور وهو مذهب المدونة، قاله في الرفقاء يغلطون فيذبح هذا هدي هذا ويذبح الآخر هدي الآخر أنه يجزئ. قاله الحطاب. وإذا لم يجز صاحبه في مسألة التعدي فالمشهور أنه لا يجزئ الذابح، وروى أبو قرة عن مالك أنه يجزئ الذابح وعليه قيمته. انتهى. وفي ابن الحاجب: وإذا نحر الهدي غير صاحبه عن صاحبه أجزأه، وإن كان بغير إذنه، ونحوه في المدونة. وفي شرح عبد الباقي مبينا لمفهوم قوله:"إن غلط": فإن تعمد لم يجز عن الأصل أنابه أم لا، ولا عن المتعمد أيضا، بخلاف الأضحية فتجزئ عن ربها، ولو ذبحها النائب عن نفسه عمدا، ولابد من إنابة ربها له دون الهدي، فهي تخالف الهدي في هذين الأمرين؛ أي أنه إذا لم يستنبه لم تجز الضحية على أي وجه ذبحت إلا في عادة كقريب، بخلاف الهدي فيجزئ إن ذبحه بعد التقليد ولو بغير إذن المهدي كما عرفت، ثاني الأمرين أن الضحية تجزئ فيما إذا استنابه المالك على التضحية، وإن ذبحها النائب عن نفسه عمدا بخلاف الهدي فلا يجزئ حيث ذبح الغير عن نفسه عمدا أنيب أم لا، والفرق في الأمر الأول أن الضحية لما كان لربها أكلها دون وجوب تصدق وإنما المدار على إظهار شعيرة الإسلام طلب فيها الاستنابة حيث لم يذبح ولم تجز مع عدمها، والهدي لما منع مهديه من أكله إما مطلقا أو في بعض الحالات كما مر كان كل أحد كأنه مخاطب بذكاته لإيصاله للفقراء، فلذا أجزأ فعل غيره بغير إذنه، وأما في الثاني فالفرق بينهما أن الضحية لما افتقرت إلى إنابة أجزأت عن ربها مع نية النائب عمدا عن نفسه، لإلغاء نيته لأنها خلاف نية المنيب، والهدي لما لم يفتقر لإنابة لم يجز

ص: 757

عن ربه إن تعمد الغير ذبحه عن نفسه لإخراجه الهدي عن موضوعه الشرعي. انظر حسن نتائج الفكر. وفيه فرق آخر عن الشيخ سالم فيه نظر كما لبناني. والله سبحانه أعلم.

ولا يشترك في هدي؛ يعني أنه لا يجوز الاشتراك في الهدي أي لا في ذاته ولا في أجره ولو كان تطوعا والأقارب والأجانب في ذلك سواء، ومثل الهدي في ذلك الفدية والجزاء، فلو قال: في دم، لكان أشمل، ويأتي في الضحية "بلا شرك إلا في الأجر". وفي المدونة: ولا يشترك في هدي تطوع ولا واجب ولا نذر ولا جزاء صيد ولا فدية، وأهل البيت والأجانب سواء. انتهى. وذلك لما رواه مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا يرى دما عن أكثر من واحد. وروي عن مالك جواز الاشتراك في هدي التطوع دون غيره، لما في الموطإ ومسلم عن جابر: (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبع والبقرة عن سبع

(1)

)، وإذا قلنا بجواز الاشتراك فلا فرق بين أن يكون الهدي قد وهب لهم أو ابتاعوه، اتفقت أنصباؤهم أو اختلفت، لكن الظاهر أنه لا يشاركهم ذمي ولا من لا يريد التقرب، كمن يريد بيع نصيبه ونحوه؛ لأن العبادة هي النحر والعبادة لا يكون بعضها غير عبادة، وهل تجوز القسمة أم لا بناء على أنها تمييز حق أو بيع؟ وقوله:"ولا يشترك في هدي"؛ أي تحريما كما مر التنبيه عليه في أول الحل، وإذا اشترك في هدي لم يجز عن واحد من المشتركين، والفرق بين الضحية تجوز الشركة فيها في الأجر دون الهدي أن الهدي خرج عن ملك ربه ولم يبق له فيه تصرف حتى بالاشتراك، بخلاف الضحية. والله سبحانه أعلم.

وإن وجد بعد نحر بدله نحر إن قلد؛ يعني أن الهدي الواجب أو جزاء الصيد إذا ضل أو سرق بعد أن قلد فأبدله صاحبه ونحر البدل ثم وجد الهدي الأصلي، فإنه يجب عليه أن ينحره؛ لأنه تعين بالتقليد ولا يرده في ماله، ولو اختلط واجب بتطوع فضل أحدهما لزم بدله، ومنع من الأكل منهما كما لو لم يضل. ذكره ابن عرفة. وقوله:"نحر"؛ يعني إن قلد، ويصير تطوعا لأن البدل ناب عن الواجب. قاله الخرشي.

(1)

الموطأ، كتاب الضحاياة، الحديث:9. ومسلم، كتاب الحج، الحديث: 1318.

ص: 758

وقبله نحرا إن قلدا؛ يعني أن الهدي الواجب أو جزاء الصيد إذا ضل أو سرق فأبدله صاحبه ثم وجد الهدي الأصلي قبل نحر البدل، فإنهما -أي الهدي الأصلي والبدل- ينحران معا إن كانا قد قلدا لتعينهما بالتقليد، وإلا بأن وجد الضال قبل نحر بدله وهما غير مقلدين، أو الضال مقلد دون البدل، أو البدل مقلد دون الضال بيع واحد منهما؛ أي من غير المقلدين في الصورة الأولى إما الضال أو بدله، ونحر الآخر أو ذبح، وبيع غير الضال في الصورة الثانية، ونحر الضال وبيع الضال في الثالثة ونحر البدل أو ذبح، ويستحب أن ينحر أفضلهما، ومثل التقليد الإشعار. والمراد بقوله:"بيع واحد"، أنه يفعل به ما شاء؛ لأنه لم يتعين للهدي لا خصوصية البيع فقط، وخص البيع لأنه أقوى في الدلالة على التصرف، والمراد ببيع أحدهما بيع واحد منهما لا بعينه في الصورة الأولى، وواحد معين في الأخيرتين.

الخرشي: والمراد بالتقليد هنا الخاص لا سوقه على سنة الهدي الذي هو أعم. انتهى.

ولما أنهى الكلام على ما أراد من مسائل الحج والعمرة شرع في الكلام على موانعهما، وعدها في توضيحه خمسة، وزاد عليه بعض، فقال: العدو والفتن والمرض والحبس والزوجية والرق والسفه والدين والأبوة، قال في توضيحه: زاده ابن شأس، وكأن المؤلف أسقطه إما لأنه مختلف فيه، وإما لأنه لا يمنع من إتمام النسك، وإن منع منه ابتداء بخلاف المرض والعدو وحبس السلطان ومنع السيد، فإنها تمنع ابتداء ودواما، واختلف في الزوجية هل تمنع الدوام أم لا؟ انتهى فقال: فصل في ذكر موانع الحج والعمرة بعد الإحرام، ويقال للممنوع: محصر، ولما كان الحصر مطلقا على ثلاثة أقسام كما في توضيحه عن البيت وعرفة معا، وعن البيت فقط، وعن عرفة فقط، بدأ بالأول منها مصدرا بواو الاستئناف، فقال: وإن منعه عدو؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بحج أو عمرة فحصر عن مواضع النسك الذي أحرم به بسبب عدو من الكفار تغلب على البلاد -نعوذ بالله من ذلك- فإن له أن يتحلل بالنية مما هو فيه، أو فتنة؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بحج أو عمرة فحصر عن مواضع النسك الذي أحرم به بسبب فتنة وقعت بين المسلمين، كالفتنة الواقعة بين ابن الزبير والحجاج، فإن له أن يتحلل بالنية مما هو محرم به حيث كان بالحرم أو غيره أو حبسٌ؛ يعني أن الشخص إذا أحرم بحج أو عمرة فمنعه عن الوصول لمواضع النسك

ص: 759

الذي أحرم به كونه حُيسَ ظلما وعدوانا، فإن له أن يتحلل بالنية مما هو محرم به حيث كان، فمعنى قوله: لا بحق أنه حبس ظلما وعدوانا من غير حق مترتب عليه، وذلك صادق بما إذا حبس في غير حق أصلا، وبما إذا حبس بحق ثابت مع ثبوت عسره، وخرج منعه بحق ثابت مع عدم ثبوت عسره فهو كالمنع بالمرض، فلا يتحلل إلا بفعل عمرة لا بالنية فقط، وظاهر كلام ابن رشد أن المعتبر في الحبس بحق ظاهر الحال، وإن لم يكن حقا في نفس الأمر حتى أنه إن حبس بتهمة ظاهرة فهو كالمرض، وإن كان يعلم من نفسه أنه بريء وهذا هو ظاهر المدونة والعتبية كما نقله الحطاب، قال ابن عبد السلام: وفيه عندي نظر، وكان ينبغي أن يحال المرء على ما يعلم من نفسه؛ لأن الإحلال والإحرام من الأحكام التي بين العبد وربه وقبله في التوضيح، وظاهر الطراز يوافقه. انظر الحطاب. وقوله:"أو حبس لا بحق"، ذكره في البيان عن مالك، وفي الموازية عن مالك. أن حبس السلطان كالمرض. ولم يفصل، وساق ابن رشد الأول على أنه تفسير لهذا وهو اختيار ابن يونس، فلذا اعتمده المصنف، ونقل ابن بشير أنه -أي الحبس- كالعدو.

بحج أو عمرة؛ يعني أن له أن يتحلل بالنية في المأمور الثلاثة، سواء كان محرما بحج أو عمرة، قال فيها: والمحصر بعدو غالب أو فتنة في حج أو عمرة يتربص ما رُجِيَ كشف ذلك، فإذا أيس من أن يصل إلى البيت فليحل بموضعه حيث كان من البلاد بالحرم أو غيره، ولا هدي عليه إلا أن يكون معه هدي فلينحره هنالك، ويحلق أو يقصر ويرجع إلى بلده. انتهى. وقوله:"وإن منعه عدو"؛ يعني من الكفار، وقوله:"أو فتنة"؛ يعني الفتنة الواقعة بين المسلمين فلا تكرار، وقوله:"أو حبس"، مصدر عطف على فاعل "منعه"، وقوله:"بحج أو عمرة"، الباء للملابسة؛ أي حال كونه أي المحرم متلبسا بحج أو عمرة. قاله الخرشي. وهو صريح في أن قوله:"بحج أو عمرة". ظرف مستقر.

وعلم مما قررت أن قوله: فله التحلل، جواب الشرط؛ أعني قوله:"وإن منعه"، فهو راجع إلى الأمور الثلاثة، ومعنى قوله:"فله التحلل"، أن له أن يخرج من إحرامه بالنية وهو أفضل في حقه من البقاء على إحرامه، قارب مكة أو دخلها، دخلت أشهر الحج أم لا كما هو ظاهر إطلاقهم.

ص: 760

واعلم أنه إنما يكون له التحلل بشرطين أحدهما أشار إليه بقوله: إن لم يعلم؛ يعني أنه إنما يكون له التحلل بشرط أن يكون حين إحرامه لم يعلم بالعدو أو الفتنة أو الحبس لا بحق، فإن علم بذلك فليس له التحلل إلا أن يكون حين إحرامه ظن أن العدو لا يمنعه فمنعه فله التحلل، (كما وقع له صلى الله عليه وسلم أنه أحرم عالما بالعدو ظانا أنه لا يمنعه، فلما منعه تحلل

(1)

)، فبان من هذا أن مفهوم "إن لم يعلم"، فيه تفصيل.

وعلم مما قررت أن الضمير في قوله: به، يرجع لما ذكر من عدو أو فتنة أو حبس، قال عبد الباقي: وهذا أولى من رجوع ضمير "به" للمنع لشموله للشك؛ إذ معناه لم يعلم بالمنع بأن طرأ العدو أو سبق، ولم يعلم به أو علمه وظن عدم منعه أو شك في منعه، والنقل أنه ليس له التحلل عند الشك اتفاقا، نعم له فيه ترك الإحرام ابتداء كما في كلام يحيى الحطاب. قاله الشيخ عبد الباقي. وقوله: ليس له التحلل عند الشك اتفاقا الخ، قال محمد بن الحسن عنده: الذي في التوضيح قال اللخمي: وإن شك في منعهم له لم يتحلل إلا بشرط الإحلال، ثم قال خليل: وظاهر المذهب أن شرط الإحلال لا يفيد. انتهى. وبهذا جزم المصنف، فقال فيما يأتي:"ولا يفيد لمرض أو غيره نية التحلل بحصوله"، ونقله في التوضيح عن المازري وعياض. انتهى.

وحاصل ما للحطاب أن الظن ملحق بالعلم، وأن الشك والوهم لا يتحلل معهما، وجلب الحطاب كلام التوضيح.

واعلم أن قوله: فله التحلل فيما إذا أحرم بحج أو عمرة كما مر، لكن إذا أحرم بالحج فالمنع حينئذ المراد به المنع من البيت وعرفة معا، وأما العمرة فالحصر فيها عن البيت؛ إذ ليس لها وقوف بعرفة، فإذا حصر عنهما معا فله التحلل بالنية، وإن حصر عن أحدهما في الحج، فإن كان بمكان قريب بأن حصر عن عرفة لم يحل إلا بعمرة، وعن البيت فلا يحل إلا بالإفاضة وبمكان بعيد، حكمه حكم من حصر عنهما معا إن حصر عن الوقوف بعرفة، وأما إن حصر عن الإفاضة فلا يحل إلا بالإفاضة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، والحصر في العمرة هو الأصل لا رواه مالك في الموطإ (أنه بلغة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية

(1)

البخاري، كتاب المغازي، الحديث:4185.

ص: 761

فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت

(1)

)، والأصل في ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، وقوله:"فله التحلل"، هذا إذا كان العذر قائما، أما لو تراخى حتى زال فلا يحلله إلا البيت. وفي الطراز: أن له أن يحل ويحلق مثل ما لو كان العذر قائما إذا فاته إدراك الحج وهو على بعد من مكة.

ثاني الشرطين أشار له بقوله: وأيس من زواله قبل فواته؛ يعني أنه كما يشترط في كونه له التحلل أن لا يعلم بالعدو ومن في حكمه حين الإحرام، يشترط أيضا أن ييأس من زوال المانع قبل فوات الحج؛ بأن يعلم أو يظن أن المنع لا يزول إلا بعد فوات الحج، وأشعر كلام المصنف بأنه أحرم في وقت يدرك فيه الحج لولا الحصر، وأما إن حصر بعد ما أحرم، وكان لا يمكنه الحج وإن لم يكن حصر لم يتحلل وبقي على إحرامه إلى قابل حتى يحج؛ لأن العدو ليس هو الذي منعه من الحج، فقد دخل على البقاء على إحرامه، كمن أحرم وهو يشك في المنع مع سعة زمن الإدراك.

وقررت المصنف على أن قوله: "قبل فواته"، متعلق "بزواله"؛ لأن ذلك هو ظاهره، وعليه فظاهره أنه يحل إذا أيس من زوال العدو قبل فوات الحج، ولو بقي من الوقت ما لو زال العدو لأدرك فيه الحج، وهو ظاهر أول كلام المدونة والذي اختاره ابن يونس وسند ما في آخر كلامها، وهو أنه لا يحل حتى يكون في زمن يخشى فيه فوات الحج، وقالا: إن كلامها الثاني يفسر الأول، قال الحطاب: إذا علم أن هذا هو الراجح فينبغي أن يحمل كلام المصنف عليه، فيكون معنى قوله:"وأيس من زواله" الخ، أنه لم يبق بينه وبين ليلة النحر زمن يمكن فيه السير ولو زال العدو. والله تعالى أعلم.

واعلم أن قوله: "وأيس من زواله"؛ خاص بالحج، وأما العمرة فقال في التوضيح: قال ابن القاسم: وليس للعمرة حد فيحل، وإن كان لا يخشى فيها فوت، وقال ابن الماجشون: يقيم إن رجا إدراكها بفوره بما لا ضرر فيه على الصبر عليه، فإن لم يرجه إلا في طول فليحل، وقال محمد بن الحسن: إن قوله: "قبل فواته"، يحتمل أن يتعلق بقوله:"فله التحلل". وقاله غيره. وعليه فيكون ردا لقول أشهب: إنه لا يكون إلا يوم النحر. انتهى. المراد منه.

(1)

الموطإ، كتاب الحج، الحديث:98.

ص: 762

ولا دم؛ يعني أنه لا دم عليه لما فاته من الحج بحصر العدو ونحوه على المشهور، وأوجبه أشهب لقوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، وتأوله ابن القاسم على الحصر بمرض، ورده اللخمي بأن الآية نزلت بالحديبية وكان حصره بعدو، ولقوله تعالى:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} ، والأمن إنما يكون من عدو، وأجيب عن دليل أشهب بجوابين: أحدهما للتونسي وابن يونس: أن الهدي في الآية لم يكن لأجل الحصر إنما ساقه بعضهم تطوعا، فلا دليل فيها على الوجوب كما يقوله أشهب، الثاني: أن الإحصار في الآية بالمرض لا بالعدو وهذا لابن القاسم كما مر، وعزاه ابن عطية لعلقمة وعروة بن الزبير وغيرهما، وقال: المشهور في اللغة أحصر بالمرض وحصر بالعدو. انتهى. وقال: في قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} : قال علقمة وغيره: المعنى: فإذا برئتم من مرضكم، وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: إذا أمنتم من خوفكم من العدو. انتهى. وكون الآية نزلت بالحديبية لا يرد هذا التأويل، بل يقوي تأويل ابن القاسم قوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} . نقله بناني.

واعلم أن المحصور بعدو يحلق أين كان، ولا قضاء حيث تحلل قبل الفوات، وأما لو أحصر ولم يتحلل حتى فاته الحج لوجب عليه الهدي للفوات فقط عند ابن القاسم لا هدي للحصر، خلافا للشافعي في إيجاب هديين، ووجب القضاء اتفاقا، ويكون الحصر بعد الفوات لا تأثير له، فإن أراد التحلل فمنع من مكة كان كالمحصر في العمرة، فيتحلل من غير طواف ويقضي الحج لا العمرة. قاله الشيخ عبد الباقي عن الشيخ سالم. وقوله:"فله التحلل"؛ أي فإن قدر على التقرب إلى مكة لم يلزمة ذلك ويحل بموضعه. قاله في الطراز. قاله الحطاب.

تنبيه: قال في سماع أبي زيد من كتاب القذف من البيان فيمن زنى وكان بكرا وأخذ بمكة وهو محرم: فإنه يقام عليه الحد وينفى ولو كان بمكة ولا ينتظر به أن يفرغ من الحج. ابن رشد: لأن التغريب من تمام الحد، فتعجيله واجب لا يصح أن يؤخر لأجل إحرامه، ولعله إنما أحرم فرارا من السجن، وقد كان مالك إذا سئل عن شيء من الحدود أسرع الجواب وأظهر السرور، وقال:

ص: 763

بلغني أن يقال: (لحد يقام بأرض خير من مطر أربعين صباحا

(1)

)، وإذا سجن كان حكمه حكم المحصر بمرض. انتهى.

بنحر هدي؛ متعلق بقوله: "فله التحلل"؛ يعني أن تحلله يكون بنحر هدي، إن كان معه ساقه عن شيء مضى أو تطوع فينحره حيث كان إن لم يتيسر إرساله لمكة، فإن كان غير مضمون فلا ضمان عليه، وحكمه في الأكل حكم ما بلغ محله، وإن كان الهدي مضمونا جرى على حكم الحج المضمون، فإن قلنا يسقط عنه الفرض أجزأ، وإلا فلا يسقط الهدي أيضا.

وحلقه؛ يعني أن تحلل المحصور ومن في حكمه يكون بنحر الهدي إن كان معه مع حلق رأسه، ولابد من نية التحلل،

وما قررت به المصنف تقرير له بحسب ظاهره؛ إذ ظاهر كلامه أن التحلل إنما يحصل بنحر الهدي والحلاق، وليس كذلك، فإن نية التحلل كافية، ففي الشامل: وكفت نية التحلل على المشهور، ولو نحر وحلق ولم ينو التحلل لم يتحلل كما صرح به في الطراز، وأجيب عن المصنف بأن "الباء" في قوله. "بنحر هديه" الخ للمصاحبة فيفيد أن النية كافية. قاله محمد بن الحسن.

ولا دم إن أخره، الضمير البارز يرجع للتحلل أو للحلق؛ يعني أن المحصر الذي يجوز له التحلل إذا أخر الحلق أو التحلل إلى بلده لا دم عليه لأجل ذلك التأخير؛ لأن الحلق لما وقع في غير زمانه ومكانه لم يكن نسكا بل تحللا فقط، وفي الخرشي: فإن قلت هل يصح الإحرام بالحج مرتين في عام واحد؟ قلت: نعم، هذا يصح في رجل أحرم ثم أحصر فتحلل بعمر لما غلب على ظنه أن الإحصار لا يزول ثم زال والوقت باق فأحرم بالحج ثانيا، وقوله:"ولا دم إن أخره"، قال في المدونة: وإن أخر حلاقه حتى رجع إلى بلده حلق ولا دم عليه. انتهى. نقله الشارح.

ولا يلزمه طريق مخوف؛ يعني أن العدو إذا حصر الحاج ومنعه من إتمام نسكه، فإنه لا يلزمه أن يسلك طريقا مخوفا توصله إلى إتمام مناسكه حيث كانت مخوفة على النفس أو على المال الكثير كاليسير مع عدو ينكث، والحال أنه لو سلك الخوف لم يفته الحج، وأما المأمونة فيلزمه سلوكها

(1)

حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا. سنن ابن ماجه، كتاب الحدود، الحديث:2538. ونحوه في سنن النسائي، الحديث: 4904.

ص: 764

وإن بعدت إن اتسع الوقت لإدراك الحج ولم تعظم مشقتها وإلا لم تلزمه، وقوله:"ولا يلزمه"؛ أي لا يجب عليه، وينبغي الحرمة لقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وفي بعض النسخ: مخيف بضم الميم، وإسناد الإخافة إلى الطريق مجاز؛ لأن الخيف قاطعها لا هي. والله سبحانه أعلم.

وفي الحطاب: قال في التوضيح: إذا كانت [الطريق غير مخوفة]

(1)

، ولو كانت أبعد، فليس بمحصور إن بقي من المدة ما يدرك فيه الحج. انتهى. فمفهومه أنه لو بقي من المدة ما لا يدرك فيه الحج أنه محصور، وقال في الطراز: إن كانت له طريق أخرى يقدر على الوصول منها لا يخاف فليس بمحصور، وليسلك تلك الطريق طويلة كانت أو قصيرة، يخاف فيها الفوات أو لم يخف، وهو كمن أحرم بالحج من أول ذي الحجة من مصر أو بأقصى المغرب، فإنه وإن أيس من إدراك الحج لا يحله إلا البيت لأنه يجد طريقا إلى البيت. انتهى. فتأمله مع كلام التوضيح. فإن مفهوم كلامه في التوضيح مخالف له. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.

وكره إبقاء إحرامه، ليس هذا من فروع المحصر للعدو ومن في حكمه، وإنما هو في حق من فاته بأحد الوجوه الآتية؛ إذ من تقدم يكره له البقاء على إحرامه إلى قابل بعد أو قرب؛ يعني أن من فاته الحج بأحد الوجود الآتية يندب له التحلل بعمرة، ويكره له البقاء على إحرامه في الحج لقابل من غير أن يتحلل بفعل عمرة.

ومحل الكراهة إن قارب مكة أو دخلها؛ لأنه لا يأمن على نفسه من مقاربة صيد أو نساء، فإحلاله أولى وأسلم؛ إذ الغالب عدم الوفاء بحق الإحرام مع طول المقام، وإنما ذكر المصنف "أو دخلها"، وإن كان أحرى ليلا يتوهم تحريم إبقاء إحرامه إن دخل، وأنه يجب عليه التحلل بفعل عمرة وليس كذلك، فإن بعد عن مكة لم يكره له البقاء على إحرامه إلى قابل، ووجه التفصيل الذي ذكره المصنف أنه لما كان لا يتحلل إلا بعمرة، خير في البعد لتعارض مشقة البقاء على الإحرام ومشقة الوصول إلى البيت، وكره البقاء مع القرب لتمكنه من البيت، وإذا بقي على إحرامه أجزأه على المشهور خلافا لابن وهب، قال: لا يجزئه عن حجة الإسلام ولا هدي عليه،

(1)

الذي في الأصل طريق ولو وما بين المعقوفين من الحطاب ج 3 ص 643.

ص: 765

خلافا للعتبية ووجه مالها بأنه كتأخير أفعال الحج عن وقتها، ولأن الغالب عدم الوفاء بحق الإحرام مع طول المقام، ولهذا قال بعضهم: إن الهدي لا يؤكل منه لاحتمال أن يكون أماط أذى. انظر الحطاب.

ولا يتحلل إن دخل وقته. هذا أيضا فيمن يتحلل بعمرة كالذي قبله؛ يعني أن من بقي على إحرامه ممن تحلله بعمرة يكره له البقاء على إحرامه إن قارب مكة أو دخلها كما قدمه، فإذا ارتكب المكروه بأن بقي على إحرامه حتى دخل وقت الإحرام من العام الثاني، فإنه لا يتحلل من إحرامه الذي بقي عليه بفعل عمرة؛ أي يكره له ذلك فيما يظهر. قاله عبد الباقي. وكذا لو بعد من مكة وبقي على إحرامه حتى دخل وقت الإحرام من العام الثاني فإنه لا يتحلل من إحرامه ذلك بفعل عمرة، فكلام المصنف شامل للأقسام الثلاثة كما حققه الرماصي. انظر حاشية الشيخ بناني. وأما من تحلله بالنية؛ وهو الممنوع بعدو أو فتنة أو حبس لا بحق، فظاهر ما مر أن له التحلل في أي وقت، وإلا؛ أي وإن لم يمض على إحرامه الأول الذي أمر بعدم التحلل منه بفعل عمرة بل خالف وتحلل بفعلها بعد دخول وقت الحج ثم أحرم بالحج، ففي ذلك ثلاثة أقوال لابن القاسم في المدونة:

أحدها: يمضي تحلله أي يصح وبيس ما صنع بناء على أن الدوام ليس كالابتداء، ولا يكون متمتعا وهو الأقرب؛ لأن المتمتع من تمتع بالعمرة إلى الحج وهذا تمتع من حج إلى حج لأن عمرته كلا عمرة إذ شرطها الإحرام وهو مفقود هنا، وهذه التي تحلل بها إنما تحلل بفعلها لا بها بتمامها.

ثانيها: لا يمضي وهو باق على إحرامه، بناء على أن الدوام كالإنشاء؛ أي أن بقاءه على إحرامه الأول مثل إنشائه إحراما الآن وأردف عليه عمرة فتبطل كما مر. والله سبحانه أعلم. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه.

ثالثها؛ أي ثالث الأقوال: يمضي تحلله، وإذا مضى فهو حينئذ متمتع؛ ولم يختلف قول ابن القاسم في المدونة في مسألة ثلاث مرات إلا هنا، واختلف قول مالك فيها كثيرا.

ص: 766

ولا يسقط عنه الفرض؛ يعني أن الشخص إذا حصر عن نسكه بعد الإحرام بعدو ومن في حكمه فلم يات به، وتحلل منه بنحر هديه وحلقه أو بفعل عمرة، فإن كان في تطوع لم يلزمه قضاء ذلك عند الجمهور، وإن كان في واجب نظرت، فإن كان معينا كالنذر المعين فلا شيء فيه أيضا كالتطوع يتعين بعد الشروع فيه، وإن كان في واجب مضمون كالنذر في الذمة أو فريضة الإسلام في الحج، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل: يبقى الوجوب في ذمته، وقال ابن الماجشون: يجزئه، ومثله لأبي مصعب وابن سحنون، قالوا: لأنه فَعَلَ مقدورَه وبذل وسعه، وإنما يستحب له مالك القضاء، وأما العمرة فإن لم ينذرها أو نذرها نذرا معينا فهي كالحج التطوع، وإن كان نذرا مضمونا فهي في ذمته، وإنما سميت عمرته عليه الصلاة والسلام عمرة القضاء للمقاضاة عليها مع قريش، لا أنها قضاء عن عمرة الحصر الماضية، خلافا للحنفية، قال بعض: ولو قلنا به لا يلزمنا محظور؛ لأنا نقول: دل فعله صلى الله عليه وسلم على جواز القضاء لا على وجوبه؛ لأن الذين صدوا معه صلى الله عليه وسلم كانوا ألفا وأربعمائة ولم يعتمر معه إلا نفر يسير، ولم ينقل أنه أمر الباقين بالقضاء، ولو وجب لبينه لهم وأمرهم به. قاله سند. نقله عبد الباقي وغيره.

ولم يفسد بوطء إن لم ينو البقاء؛ يعني أنه إذا أحصر وقلنا يجوز له التحلل، فتارة ينوي البقاء على إحرامه إلى العام القابل، وتارة لم ينو ذلك، فإن لم ينو البقاء على إحرامه إلى العام القابل بأن نوى التحلل من إحرامه ثم أصاب النساء، فإنه لا يفسد حجه، وفائدة ذلك أنه لا يلزمه إتمام المفسد ولا قضاؤه فورا، وأما إن لم ينو التحلل ولا البقاء، فكما إذا نوى البقاء على إحرامه إلى قابل، والحكم فيه أنه إذا أصاب النساء فقد أفسد حجه ويلزمه إتمامه كما مر عند قوله:"ووجب إتمام المفسد" ويلزمه أيضا قضاؤه على الفور كما مر عند قوله: "وفورية القضاء"، وحملت قوله:"إن لم ينو البقاء"، على ما إذا نوى عدم البقاء، بأن نوى التحلل مع أنه صادق بما إذا لم ينو شيئا؛ لأنه إذا لم ينو شيئا فالأصل بقاء ما كان على ما كان، فلو قال المصنف: إن نوى عدم البقاء، لكان أظهر.

ولما أنهى الكلام على من أحصر عن جميع أماكن النسك من البيت وعرفة، شرع في القسم الثاني وهو الحصر عن البيت فقط، فقال: وإن وقف وحصر عن البيت فحجه تم؛ يعني أن الحاج إذا

ص: 767

وقف بعرفة وتمكن منها؛ بأن وقف بها ليلة النحر، ثم أحصر عن البيت لمرض أو عدو كما في النص أو حبس بحق أو فتنة، فإن حجه قد تم أي أدركه؛ لأن (الحج عرفة

(1)

)، وليس المراد حقيقة التمام بقرينة قوله: ولا يحل إلا بالإفاضة؛ يعني أن حجه قد تم بمعنى أنه أدركه ولم يفته، لكنه يتوقف كمال حله على طواف الإفاضة، فيبقى محرما ولو أقام سنين، قال أحمد: فإن مات قبلها لكان قد أدى ما عليه من فرض الحج. انتهى. وهو خلاف ظاهر كلامهم. قاله إبراهيم اللقاني. وفي نقل المواق ما هو كالصريح فيما لأحمد. قاله عبد الباقي. ودعم بناني ما لأحمد أيضا، ثم إن تيسر لهذا المحصور طواف الإفاضة قبل تمام ذي الحجة فلا دم عليه، وإن أخره للمحرم فعليه دم كما مر. والله سبحانه أعلم.

وعليه للرمي ومبيت منى ومزدلفة هدي، مبتدأ وخبره:"عليه"؛ يعني أن المحصر بعدو أو نحوه أو بمرض ونحوه عن البيت، فإنه لا يحل إلا بطواف الإفاضة كما مر، فإن أحصر عن البيت فقط فالأمر واضح، فإن أحصر عنه وعن ما قبله مما بعد الوقوف كالرمي للجمار ومبيت منى ونزول مزدلفة فإنه يجب عليه لجميع ذلك هدي واحد، ولا يقال إن مذهب ابن القاسم سقوط الهدي عن من أحصر بعدو؛ لأن ذلك في حق من لم يقف بعرفة، وقوله:"مزدلفة"، عطف على قوله:"ومبيت"، على حذف مضاف؛ أي ونزول مزدلفة، ولا يخفى أن الهدي في المزدلفة إنما يكون بترك نزوله بها قدر ما تحط الرحال لا بترك المبيت بها كما مر.

كنسيان الجميع؛ يعني أنه يلزمه للثلاثة هدي واحد حيث وقف بعرفة وحصر عن البيت، فهو كما إذا نسي الجميع من الرمي والبيت بمنى ومزدلفة، وإن لم يكن محصورا فإنه يلزمه لذلك هدي واحد، وكذا لو تعمد ترك ذلك فإنه يكفيه لذلك هدي واحد مع الإثم عند ابن القاسم، وقال أشهب: يتعدد عليه الهدي وهو المفهوم من كلام المصنف في مناسكه وتوضيحه، وعليه فاللازم له ثلاث هدايا: هدي لترك المزدلفة وهدي لترك الرمي، وهدي لترك المبيت بمنى.

وعلم مما قررت أن "كنسيان الجميع" أصل لما قبله: فهو مشبه عليه كما يفيده الشارح. والله سبحانه أعلم.

(1)

ابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث:3015. والترمذي، كتاب الحج، 889.

ص: 768

وفي الحطاب بعد جلب نقول: والحاصل أن في التعدد مع العمد قولين لابن القاسم وأشهب، فعند ابن القاسم: لا يتعدد، وعند أشهب: يتعدد، وهو الذي يفهم من كلام المصنف هنا وفي مناسكه، وصرح به في توضيحه. والله أعلم. وفي عبارة المصنف تورك؛ لأن قوله:"وحصر عن البيت"، يقتضي أنه لم يحصر عن غير البيت، وقوله:"وعليه الرمي" الخ، يدل على أنه أحصر عن ذلك، والجواب أن قوله:"حصر عن البيت"، سواء حصر عن ما قبله مما بعد الوقوف أو لا، وقوله:"وعليه للرمي"؛ الخ حيث منع من ذلك.

وإن حصر بما سبق من الأمور الثلاثة عن الإفاضة؛ أي عرفة، وسماها إفاضة لقوله تعالى:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} . قاله عبد الباقي. وفي كلام غيره ما يقتضي أن المراد بالإفاضة إفاضة عرفة؛ أي الدفع منها أي الذهاب منها إلى المزدلفة، لكن على تقدير مضاف أي حصر عن سبب الإفاضة من عرفة، وهو الوقوف بعرفة، وإيضاح معنى كلام المصنف أن من تمكن من البيت ثم حصر عن الوقوف بعرفة لم يحل إلا بفعل عمرة، وقوله:"حصر"؛ أي حبس عن الحضور بعرفة بسبب أحد الثلاثة المتقدمة أي: العدو والفتنة والحبس ظلما.

أو فاته الوقوف بغير؛ يعني أن المحرم بحج إذا فاته الوقوف بعرفة بغير الأمور الثلاثة المتقدمة فإنه لا يحل بالنية، وإنما يحل بفعل عمرة، ومثل للغير بقوله: كما إذا فاته لمرض أو خطأ عدد، ولو لجميع أهل الموسم، بعاشر أو خفاء هلال، أو حبس بحق.

وعلم مما قررت أن قوله: لم يحل إلا بفعل عمرة، جواب الشرط؛ أعني قوله:"وإن حصر"، فهو راجع لمسألتي الحصر والفوات.

بلا إحرام صفة لعمرة، فهو ظرف مستقر، والباء للملابسة؛ يعني أن تحلله المذكور بفعل عمرة لا يكون بتجديد إحرام للعمرة، بل ينوي أنه متحلل من إحرامه السابق للحج بفعل هذه العمرة المتحلل بها. والله سبحانه أعلم.

وعلم مما هنا وما مر أن من أحصر عن البيت وعرفة معا بمرض ونحوه أنه كمن فاته الوقوف بعرفة فقط، في أنه إنما يتحلل بعمرة لا بنية فقط أو مع هدي وحلق، وقد مر التصريح بذلك. والله سبحانه أعلم.

ص: 769

ولا يكفي قدومه؛ يعني أن هذا الذي لا يحل إلا بفعل عمرة؛ إذا طاف للقدوم فإنه لا يجتزئ بطوافه ذلك للقدوم عن طواف العمرة وسعيها [التي طلب بها]

(1)

، للإحلال.

تنبيهات: الأول: قيد قوله: "أو حبس"؛ بقوله: "بحق"؛ لأنه من أمثلة قوله: "بغير"، ومفهومه دخل في قوله:"وإن حصر عن الإفاضة"، فقول الخرشي وعبد الباقي: إنه إن حبس ظلما حل بالنية في أي موضع كان غير صواب؛ لأن الفرض أنه متمكن من البيت، فلا يحل بالنية إلا إن كان بعيدا من مكة كما مر، فالعجب من قولهما هذا مع أنهما قالا أولا: وإن حصر عن الإفاضة بما سبق من الأمور الثلاثة ومنها الحبس ظلما. انظر حاشية الشيخ بناني.

الثاني: قال الإمام الحطاب: هذا القسم -أعني المحصر عن الوقوف- وإن كان حكمه حكم من فاته الوقوف لكمرض من أن كلا منهما لا يحل إلا بفعل عمرة، فإنه يخالفه في حكم آخر، وهو أن المحصر بعدو لا قضاء عليه كما صرح به المصنف في مناسكه، وصرح به غيره، بخلاف من فاته الحج فإن عليه قضاء ما فاته ولو تطوعا.

الثالث: قول المصنف: "أو أخطأ الجم بعاشر"، هو في بيان المجزئ وعدمه، وما هنا في بيان كيفية التحلل إذا لم يجزه.

الرابع: قال الإمام الحطاب: إذا أفسد المحرم حجه ثم حصر، فهل له أن يتحلل؟ وهل يلزمه القضاء؟ لم أر فيه نصا، وقال ابن جماعة الشافعي في منسكه الكبير: إن له أن يتحلل ويلزمه القضاء ودم الفساد ودم الحصر، كذا قال الشافعية والحنفية والحنابلة، قال: وهو مقتضى المالكية إلا أنه لا هدي عندهم على المحصر، وما قاله ظاهر. والله أعلم انتهى.

وحبس هديه معه إن لم يخف عليه؛ يعني أن المريض ونحوه إذا كان معه هدي، فإنه يحبسه معه إن لم يخف عليه من العطب، كطول مرضه مثلا رجاء أن يتخلص من المانع، فينحر هديه إذا بلغ محله، قال في المدونة: وإذا كان مع المحصر بالمرض هدي حبسه حتى يصح فينطلق به معه، إلا أن يصيبه من ذلك مرض يتطاول به ويخاف على الهدي، فليبعث به وينحر بمكة،

(1)

في الأصل: الذي طلب بهما، والمثبت من عبد الباقي، ج 2 ص 337.

ص: 770

ويقيم هو على إحرامه. نقله الشارح. وجعلت فاعل "حبس": المريض ومن في حكمه تبعا لغير واحد.

قال عبد الباقي: وهذا يعني قوله: "وحبس هديه" الخ في المريض ومن في حكمه، كمن حبس بحق، وأما المحصر بعدو فإن أمكن إرساله أرسله وإلا ذبحه بأي مكان شاء، وجعل التتائي كلام المصنف على ظاهره شاملا للمريض والمحصر بالعدو وهدي التطوع، ولكن نقله كالشارح والمواق يفيد ما قدمناه؛ وأيضا صدر بتقرير الشارح: وحبس هدي المريض ومن في حكمه معه على سبيل الندب كما قال سند، ولو أمكنه إرساله سواء كان الهدي واجبا أو تطوعا، ومفهوم الشرط أنه لو خيف عليه أرسله إن أمكن وإلا ذكاه بموضعه، وحمل بعضهم الحبس على الوجوب في الهدي الواجب، وعلى الندب في التطوَّع به، وحمل أحمد الحبس على الوجوب وأطلق. انتهى.

وفي الخرشي بعد جلب نقول: فالذي يتحصل على هذا أنه إما أن يمكن إرساله أم لا، وفي كل إما أن يخاف عليه أم لا، فإن خيف عليه وأمكن إرساله أرسله مطلقا، أحصر بمرض أو غيره، وإن خيف عليه ولم يمكن إرساله فإنه ينحر أو يذبح بأي محل، وإن لم يخف عليه فهدي المريض يحبسه معه ولو أمكن إرساله، وهدي المحصر بغير مرض يذبح أو ينحر بمحله إن لم يمكن إرساله، وكل من الحبس والإرسال حيث قيل به فهو في هدي التطوع مندوب، كما يدل عليه ما ذكره الحطاب عن سند، وأما في الهدي الواجب فواجب. وقد جعل الزرقاني الحبس واجبا وأطلق، فيحمل على الهدي الواجب فلا يخالف ما لسند. انتهى.

وفي الحطاب: قال سند: من ساق هدي تطوع يستحب له أن ينحره بنفسه وأن يكون بصحبته، فإذا خاف عليه العطب كان بلوغه مع غيره أولى من عطبه قبل بلوضه، ولو أرسله من غير خوف أو حبسه مع الخوف إلا أنه لم يصنع فيه [شيئا]

(1)

حتى هلك لم يكن عليه شيء، وإنما الكلام فيما هو الأحسن.

ولم يجزه عن فوات؛ يعني أن المحصر إذا كان عنده هدي تطوع قلده أو أشعره قبل الفوات، فإنه لا يجزئه عن دم الفوات، سواء بعث به إلى مكة أم لا؛ لأنه ترتب عليه قبل الفوات فلا

(1)

ساقط من الأصل، والمثبت من الحطاب ج 3 ص 648 ط دار الرضوان.

ص: 771

يجزئه عما رجب عليه بسبب الفوات؛ فيلزمه هدي للفوات مع حجة القضاء، وهذا صريح في لزوم الهدي مع الفوات، وهو ظاهر في الحصر بمرض، وأما المحصور بعدو ونحوه فقد مر أن ابن القاسم يقول: لا دم عليه وهو الذي درج عليه المصنف فيما مر، حيث قال: ولا دم، خلافا لأشهب القائل: عليه هدي للفوات، وقد مر ذلك، فإن قلت: قد مر: "وإن أردف لخوف فوات أو لحيض أجزأ التطوع لقرانه"، وظاهره: ولو قلده وأشعره قبل الإرداف، وهو ظاهر كلام الشارح هناك وهو مخالف لا هنا، وكذا قوله:"كإن ساقه فيها ثم حج من عامة" الخ؛ فإنه يفيد أن ما ساقه في العمرة يجزئ عن التمتع على ما صدر به هناك، وظاهره: ولو قلده وأشعر قبل الإحرام بالحج، فالجواب أن إحرام الحج والعمرة لما كانا مندرجين تحت مطلق الإحرام لم يكن بينهما من المخالفة ما بين الحج وفواته، فلذا أجزأ ما سيق في العمرة عن التمتع والقران، ولم يجز ما سيق في الحج عن فواته، وبأن ما سيق في الحج حيث فات بمنزلة ما لم يسق في نسك، بخلاف ما سيق في عمرة فإنه سيق في نسك قطعا.

وخرج للحل إن أحرم بحرم؛ يعني أن المحصر الذي لا يحل إلا بفعل عمرة يجب عليه أن يخرج إلى الحل من غير إنشاء إحرام كما مر، ومحل لزوم خروجه للحل إن كان قد أحرم من حجه الذي منع منه بحرم؛ لأن كل إحرام لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم. أو أردف؛ يعني أن المحصر الذي لا يحل إلا بفعل عمرة يجب عليه أن يخرج إلى الحل من غير إنشاء إحرام كما مر، ومحل لزوم خرجه للحل إن كان قبل منعه قد أحرم بالحج بالحرم، أو كان قد أردف الحج على العمرة في الحرم؛ إذ كل إحرام لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم، ثم يحج هذا الذي تحلل بعمرة في العام القابل ويهدي.

وأخر دم الفوات للقضاء؛ يعني أنه يجب عليه أن يؤخر الهدي الذي ترتب عليه من أجل الفوات إلى عام القضاء ليجتمع الجابر النسكي والمالي، ولا يقدمه عام الفوات، وإن خاف الموت فلو قدم الهدي في عام الفوات فإنه يجزئه، وإلى ذلك أشار بقوله: وأجزأ إن قدم؛ يعني أنه إذا خالف الواجب فقدم الهدي عام الفوات مع العمرة التي اعتمرها للتحلل، فإنه يجزئه، قال فيها: لا يقدم هدي الفوات وإن خاف الموت، فإن فعل أجزأ؛ لأنه لو هلك قبل أن يحج أهْدِيَ

ص: 772

عنه، ولو كان لا يجزئه إلا بعد القضاء ما أهْدِيَ عنه بعد الموت، وقال أشهب: لا يجزئ، قال بعض: وهو يخالف ابن القاسم في مسألة الموت أيضا فلا تقوم عليه بها حجة، وقد مر قول المؤلف:"ونحر هدي في القضاء وأجزأ إن عجل"، لكن ذلك في المفسد، وهذا في الفائت.

تنبيهان: الأول: قال الإمام الحطاب: انظر إذا أحرم بالحج من مكة ثم خرج إلى عرفة فوقف في اليوم الثامن ولم يعلم بذلك حتى فاته الوقوف، ثم علم بذلك بعد رجوعه إلى مكة، فهل يؤمر بالخروج إلى الحل أم لا؟ لم أر فيه نصا، والظاهر أنه يجزئه ولا يؤمر بالخروج ثانيا، قال في سماع عيسى في رسم استأذن من كتاب الحج: وسئل ابن القاسم عن الذي يأتي عرفة وقد طلع الفجر؟ قال: يرجع على إحرامه إلى مكة، وينوي به عمرة فيطوف ويسعى ويقصر ويحل ويرجع إلى بلاده ويحج قابلا ويهدي، قال ابن رشد: وهذا كما قال، وهذا مما لا اختلاف فيه. انتهى. وأما لو أحرم من مكة ثم خرج إلى الحل لحاجة ثم فاته الحج وهو بمكة، فالظاهر أن خروجه ذلك لا يكفيه؛ لأن المقصود أن يخرج إلى الحل لأجل الحج. فتأمله. والله أعلم. انتهى.

الثاني: قال إمامنا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه: من فاته الحج بخطإ العدد أو مرض أو خفاء هلال أو شغل أو بأي وجه غير العدو، فلا يحله إلا البيت ويحج قابلا ويهدي متطوعا كان أو مفترضا، ومن دخل في حج أو عمرة وجب عليه الإتمام، قال الله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وسواء غلب على ذلك أو لم يغلب؛ لأن من فاته الحج مغلوب، ومن أغمي عليه مغلوب، ومن مرض مغلوب فجعل على من فاته الحج لغلبةٍ القضاء كان تطوعا أو واجبا، خلافا لنوافل الصلاة والصوم التي إذا غلب عليها لم يلزمه قضاء، وجاءت السنة في حصر العدو؛ بأنه لا قضاء عليه في النوافل، فخرج حصر العدو عما سواه. قاله الحطاب. قال: وإنما نبهت على هذا وإن كان ظاهرا؛ لأن بعض الناس توقف في وجوب قضاء التطوع حيث لم يره في ابن الحاجب وابن عرفة وغيرهما من المتون والشروح المتداولة؛ وقد صرح به غير واحد. والله أعلم.

وإن أفسد ثم فات؛ يعني أنه إذا اجتمع الفساد مع الفوات فإنه يغلب الفوات بأن يتحلل بعمر سواء كان الفساد سابقا؛ بأن أحرم بحج ثم جامع ففسد حجه لأجل ذلك، وفاته الحج قبل أن يتم المفسد، فإنه يجب عليه أن يتحلل من إحرامه الفاسد بفعل عمرة، ولا يجوز له تغليب

ص: 773

الفاسد بأن يبقى على إحرامه لقابل؛ لأن فيه تماديا على الفاسد، أو كان الفساد لاحقا كما أشار إليه بقوله: أو بالعكس. بأن أحرم بحج وفاته ثم أفسده بوطء قبل أن يتحلل منه بفعل عمرة أي قبل الشروع فيها، فإنه يجب عليه أن يتحلل بفعل عمرة، ولا يجوز له البقاء على إحرامه؛ لأن فيه تماديا على الفاسد اتفاقا في المسألتين، ويخرج إلى الحل إن أحرم بحرم أو أردف فيه على ما تقدم، ويقضي الحج من قابل دون العمرة الفاسدة في الصورة الثانية؛ لأنها ليست عمرة في الحقيقة، وإنما تحلل بطواف وسعي. قاله الخرشي. وقوله:"أو بالعكس"، الظاهر أنه متعلق بمحذوف تقديره: أو كان الأمر بالعكس، بأن يحرم بحج ويفوته ثم يفسده بوطء قبل أن يتحلل منه بفعل عمرة. والله سبحانه أعلم. قاله مقيد هذا الشرح عفا الله عنه.

وإن بعمرة التحلل، المبالغة راجعة للصورة الثانية؛ أي وإن حصل الفساد في عمرة التحلل أي وقع في أثنائها، ومعنى كلامه أنه يتحلل بفعل عمرة، سواء وقع الفساد قبل الشروع في عمرة التحلل أو وقع في أثنائها أي عمرة التحلل، فيكتفي بها.

وعلم مما قررت أن قوله: تحلل. جواب الشرط، فهو راجع لمسألتي أفسد ثم فات أو بالعكس، ومعنى تحلل بقي على تحلله بالعمرة الصحيحة فيما إذا حصل موجب الفساد قبل فعلها، وبالعمرة الفاسدة حيث حصل موجب الفساد في أثنائها، فليس عليه إذا فسدت أن يفعل عمرة غيرها بل يتمها فقط، وقد أشار الشارح وغيره إلى ما يفيد ذلك، وعبارة عبد الباقي عند قوله:"تحلل": وجوبات ولا يجوز له البقاء على إحرامه؛ لأن فيه تماديا على الفساد، والمراد: بقي على تحلله في الصحيحة والفاسدة التي وقع الوطء فيها، فلا يطلب بإعادتها صحيحة، بل يتم سعيها وتكفي في التحلل. انتهى. والله سبحانه أعلم.

وقضاه دونها؛ يعني أنه يلزمه أن يقضي الحج دون العمرة التي حصل الوطء فيها في الصورة الثانية فلا يقضيها لأنها في الحقيقة تحلل لا عمرة، قال في التوضيح: إذا اجتمع في الحج فوات وإفساد سواء كان الإفساد أولا أو ثانيا فلا يجوز له البقاء هنا على إحرامه؛ لأن فيه تماديا على الفساد، ويتحلل بفعل عمرة من الحل إن كان أحرم بحج من مكة أو أردف فيه: وإن كان إحرامه من الحل لم يخرج إليه. انتهى. قال ابن عبد السلام: لم يجز له البقاء على إحرامه إلى

ص: 774

قابل اتفاقا. انتهى. نقله الحطاب. وقال عقبه: فعلم منه أن قول المصنف: "تحلل"، على جهة الوجوب. انتهى. وظاهر قوله:"تحلل"، أنه لو أخر إحرامه حتى دخلت أشهر الحج، أو وطئ في أشهر الحج أنه يؤمر بالتحلل هنا وجوبا، وهو الظاهر، فيتحلل ليخلص من الفساد ويقضيه في تلك السنة. والله أعلم. قاله الحطاب.

واعلم أن هذا الذي اجتمع عليه الفساد والفوات عليه هديان، هدي للفوات، وهدي للفساد إن قضى مفردا، سواء كان أحرم مفردا أو متمتعا وأما لو كان أحرم قبل ذلك متمتعا، وقضى متمتعا أو كان أحرم قارنا وقضى قارنا، أو كان أحرم مفردا وقضى متمتعا فعلية ثلاث هدايا، في كل واحدة من هذه الصور الثلاث هدي للفساد، وآخر للفوات، وآخر للقران أو للتمتع، ولا شيء في القران أو التمتع الفائت، كما أشار إلى ذلك بقوله: لا دم قران ومتعة للفائت، الواو في قوله:"ومتعة"، بمعنى: أو: يعني أنه لا شيء عليه في القران أو التمتع الفائت؛ لأنه آل أمره إلى عمرة ولم يتم القران. قاله اللخمي. ويقال مثله في التمتع، وقوله:"للفائت"، سواء حصل مع الفوات فساد كما في هذا الذي نحن فيه، أو انفرد الفوات عنه. قاله عبد الباقي. وقوله:"لا قران أو متعة للفائت"، وإذا لم يكن هدي للفائت من قران أو متعة فيكون عليه ثلاث هدايا: هدي للفساد، وهدي للفوات، وهدي للقران أو التمتع الثاني، وهذا هو مذهب ابن القاسم، وله أيضا وجوب أربعة بزيادة دم للفائت، وهو الذي رد المصنف، وفي هذا نوع تكرار مع قوله فيما مر:"وثلاثة إن أفسد قارنا"، وإيضاح ما قدمته من قولي: وإذا لم يكن هدي للفائت من قران الخ، أن تقول: فإذا أحرم قارنا أو متمتعا ثم فاته الحج ثم حصل منه مفسد أو تقدم الفساد على الفوات ثم قضى متمتعا أو قارنا، فإنه يجب عليه هدي للفساد وهدي للفوات وهدي للثاني من قران أو تمتع، وليس للفائت من قران أو تمتع هدي، وقيل: يكون له وعليه فتكون الهدايا أربعة.

وعلم مما قررت أن قوله: "وعليه هديان"، محله إن قضى مفردا سواء أحرم مفردا أو متمتعا، وأما لو أحرم متمتعا وقضى متمتعا، أو أحرم قارنا وقضى قارنا، أو أحرم مفردا وقضى متمتعا فعليه ثلاث هدايا كما عرفت، ولهذا قال الخرشي: ولو قال عقب قوله "هديان" ما نصه: إن

ص: 775

قضى مفردا وإلا فثلاثة ولا دم، لوفى بالمراد بلا كلفة، وكذا لو قال عقب "تحلل": وقضاه دونها وعليه ثلاثة إن قضى قارنا أو متمتعا وإلا فهديان ولا دم لقران أو تمتع فات. انتهى.

(ولا يفيد لمرض أو غيره: نية التحلل بحصوله) يعني أنه إذا نوى عند إحرامه أنه متى حصل له مرض أو حبس أو حصر من عدو أو غير ذلك مما يمنع من تمام نسكه يكون متحللا من إحرامه من غير فعل عمرة، فإن تلك النية السابقة على وجود العذر لا تفيده عند حصول المانع، ولا بد في التحلل من نية يحدثها له؛ لأن هذا شرط مخالف لسنة الإحرام، ومثل اشتراطه بالنية اشتراط ذلك باللفظ قبل وجود العذر، فإنه لا يفيد في التحلل؛ وقوله:"بحصوله"، متعلق "بالتحلل"، والباء سببية. قاله الخرشي. وقوله:"لمرض"، أصالة بأن يكون صحيحا وينوي أنه إذا مرض تحلل، أو زيادة بأن يكون مريضا وينوي أنه إذا زاد عليه مرضه أو أقعده تحلل قاله الخرشي. وقوله:"لمرض"، اللام للتعليل، وهو متعلق "بتفيد"؛ أي ولا تفيد نية التحلل بسبب حصول المرض لأجل مرض يحصل على تقدير حصوله. والله سبحانه أعلم.

(ولا يجوز دفع مال لحاصر إن كفر) يعني أن الحاصر عن الحج إذا كان كافرا فإنه لا يجوز دفع مال إليه قليلا أو كثيرا، لأجل أن يمكن الحاج من الوصول إلى مكة أو غيرها، لما فيه من الذل للمسلمين وتقوية ما هو فيه وهذا هو المشهور، وقال ابن عرفة: قلت: الأظهر جوازه وَوَهَنُ الرجوع بصده أشد من إعطائه. انتهى. قال الإمام الحطاب: وقد لا يسلم له ذلك. انتهى. قال الأجهوري: الظاهر ما لابن عرفة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ومفهومُ الشرط -يعني قوله إن كفر- جواز دفع ما قل من المال لمسلم كدفع لظالم لا ينكث كما قدم المصنف، بل يجب. انتهى. قال محمد بن الحسن: قوله ومفهوم الشرط الخ، بل يجوز الدفع للمسلم مطلقا قل أو كثر كما في الحطاب عن سند، لكن القليل يجب دفعه بشرطه بخلاف الكثير، وقوله:"ولا يجوز دفع" الخ، قد مر أنه المشهور، وهو طريقة ابن شأس وابن الحاجب، وتبعهم المصنف، وصرح سند بأنه يجوز مع الكراهة، فإنه قال: إن بذل المشركون الطريق للمسلمين على مال يدفعونه لهم كره لهم دفع ذلك لما فيه من الذلة وكان التحلل أولى، ويجوز دفعه لهم. قاله الحطاب.

ص: 776

فتحصل أن في ذلك ثلاثة أقوال: المنع لابن شأس وتابعيه، والكراهة لسند، والجواز لابن عرفة. قاله الحطاب. ابن عبد السلام: وأما إعطاء المال فقد مال جماعة من أهل المذهب وغيرهم إلى جواز ذلك في غير مكة إذا دعت الضرورة إليه، ولا يوجد عنها محيص، وينبغي أن يجوز ذلك هنا بطريق الأولى؛ لأن الضرورة في تخليص مكة أو تحصيل المناسك آكد.

وفي جواز القتال مطلقا تردد؛ يعني أنه اختلف المتأخرون في النقل عن المذهب في جواز قتال الحاصر عن الحج بالحرم أو بمكة مطلقا، كان الحاصر كافرا أو مسلما، فذكر ابن شأس وابن الحاجب أن ذلك لا يجوز، وذكر سند وابن عبد البر أن قتال الحاصر جائز، قال في التوضيح: قال ابن هارون: والصواب جواز قتال الحاصر، ومحل الخلاف إذا لم يبدأ الحاصر بالقتال، فإن بدأ به جاز بلا خلاف، قال ابن عرفة: قتال الحاصر البادئ به جهاد وإن كان مسلما، وفي قتال غير بادئ به نقلا سند وابن الحاجب مع ابن شأس عن المذهب، والأول الصواب إن كان الحاصر بغير الحرم؛ يعني بالحرم غير مكة، وأما في غير الحرم فلا يختلف في جوازه، قال ابن عرفة: وإن كان بها أي بمكة فالأظهر نقل ابن شأس، لحديث:(إنما أحلت لي ساعة من نهار). انتهى المراد منه. واعترض على ابن هارون، واعتراضه عليه غير ظاهر؛ لأنه قد نقل عن سند جوازه، ونقل المصنف في التوضيح جوازه عن صاحب الكافي، وكلام ابن العربي كاف في ذلك أيضا، وأما حديث: (إنما أحلت لي ساعة من نهار

(1)

)، وما في معناه من الأحاديث الدالة على المنع، فإن ذلك محمول كما قاله النووي عن الشافعي على القتال بما يعم كالمنجنيق إذا أمكن صلاح الحال بدونه وإلا جاز، وجاز حمل السلاح حينئذ بمكة وخبر:(لا يحل لأحدكم أن يحمل السلاح بمكة)

(2)

محمول عند أهل العلم على حمله لغير ضرورة، ولا حاجة وإلا جاز، وهو قول مالك والشافعي وغيرهما: ويجوز دخولها بعده صلى الله عليه وسلم لحرب في قتال جائز، وقول القاضي: لا يحل دخولها بعده لحرب أو بغي، يحمل على غير القتال الجائز، وأما هو فيجوز دخولها له ولو بغير إحرام، وقول الخبر: (وإنما أحلت لي ساعة من نهار

(3)

)؛ أي أحل

(1)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1355.

(2)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1355.

(3)

مسلم، كتاب الحج، الحديث:1355.

ص: 777

لي إراقة الدم فيها دون الصيد، وهي ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر كما في ابن حجر. قاله عبد الباقي.

وقوله: "وفي جواز القتال" الخ؛ يعني ولو أهل مكة، قال ابن فرحون: أما حكم قتال أهل مكة إذا بغوا على أهل العدل، فذهب بعض الفقهاء إلى منع قتالهم مع بغيهم، وأن يضيق عليهم حتى يرجعوا عن البغي، ورأوا أن أهل مكة لا يدخلون في عموم قوله تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ} ، والذي عليه أكثر الفقهاء أنهم يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم إلا بالقتال؛ لأن قتال البغاة حق لله تعالى، فحفظ حقه في حرمه أولى من أن يكون مضاعا فيه.

وفي الحطاب بعد جلب نقول: فتحصل من هذا أن الأرجح قتال البغاة إذا كانوا بمكة، وأنه لا يحل حمل السلاح بها لغير ضرورة، وأن حمله لضرورة جائز، وأنه يجوز دخولها من غير إحرام لقتال جائز. انتهى.

ولولي منع سفيه؛ يعني أن السفيه محجور عليه، فلوليه أن يمنعه من السفر إلى الحج، فإن أذن له في السفر إلى الحج وكان نظرا ومصلحة في حق السفيه فإن ذلك جائز، وإن أحرم حينئذ فليس له تحليله، وقوله:"سفيه"؛ أي شخص سفيه، فيشمل السفيه ولو زوجة؛ وقوله:"وللولي منع سفيه"، لم يذكر هذا الفرع ابن الحاجب، وذكره في التوضيح ناقلا له عن سند، ونصه: قال مالك: ولا يحج السفيه إلا بإذن وليه فينظر له؛ فإن رأى ذلك نظرا أذن له وإلا فلا. ابن عاشر: وهو مشكل إذ لم يذكروا من شروط وجوبه الرشد، وكيف يصح منع الولي إذا توفرت الشروط والأسباب وانتفت الموانع، قال الحطاب ناقلا عن ابن جماعة الشافعي: اتفق الأئمة الأربعة على أن المحجور عليه لسفه كغيره في وجوب الحج عليه، لكنه لا يدفع المال إليه انظره. انتهى. نقله بناني.

كزوج في تطوع؛ يعني أن المرأة لزوجها أن يمنعها من الإحرام بالحج التطوع، فإن أذن لها فيه فليس له أن يحللها، وأما حجة الإسلام فليس لزوجها أن يمنعها من الخروج إليها إن قلنا إن الحج على الفور، وكذا على القول بالتراخي، فإن تركت له المهر على أن يأذن لها في حج الفرض، فقال مالك وابن القاسم: لها أن ترجع عليه به لأنه يلزمه أن يدعها، ولابن القاسم في رواية أبي جعفر أن العطية لازمة إن كانت عالمة أن لها أن تحج وإن كره زوجها، وإن كانت

ص: 778

جاهلة رجعت؛ واختاره يحيى بن عمر. ابن يونس: هذا يحتمل الوفاق، وبه جزم ابن رشد، قال: ولو أعطته مهرها على أن يحج بها لم يجز؛ لأنه فسخ دين في دين. قاله ابن القاسم في سماع أصبغ. وقوله: "كزوج في تطوع"، هذا إذا لم يكن الزوج محرما، وأما إن كان محرما بحج أو عمرة فإنه لا يحللها؛ لأنها لم تفوت عليه الاستمتاع، ولهذا ألغز بعضهم بهذه المسألة بقوله: فإن قلت: امرأة أحرمت بالحج تطوعا وليس لزوجها أن يحللها؟ قلت: إذا أحرم زوجها بالحج فليس له منعها من الحج تطوعا لأنها لم تعطل عليه استمتاعا. قاله الخرشي.

تنبيه: قال عبد الباقي عند قوله "كزوج في تطوع": وهذا إذا كانت رشيدة، فإن كانت سفيهة فله المنع حتى في الفرض، كما هو ظاهر عبارتهم، وذكر أحمد عن بعض شيوخه أنه ليس له المنع في الفرض وفيه نظر. انتهى المراد منه.

قوله: فإن كانت سفيهة فله المنع الخ، غير صحيح؛ لأنها إن كانت سفيهة فالذي له منعها من الفرض هو وليها لا زوجها كما زعمه، نعم إن كان زوجها وليها فله ذلك، لكن من حيث إنه ولي لا من حيث إنه زوج. قاله بناني.

تنبيه آخر: في الخرشي: ليس للأمة المتزوجة أن تحج إلا بإذن زوجها وسيدها، وقاله الأئمة، وقال محمد بن الحسن: إن إذن السيد كاف؛ لأن السفر حق له فيسافر بها ولو كره الزوج، وهذا واضح فيمن لم تبوأ، وأما من بوئت فليس للسيد السفر بها. انتهى كلام الخرشي.

وإنما قال المصنف: "في تطوع"، ولم يقل: في حج تطوع، ليشمل الإحرام بحج التطوع والعمرة. والله أعلم قاله الحطاب.

وإن لم يأذن فله التحلل؛ يعني أن السفيه أو الزوجة إذا أحرم هو مطلقا أو أحرمت هي في التطوع بغير إذن وليه أو بغير إذن الزوج، فإن لكل من الولي أو الزوج أن يحلل محجوره من سفيهة أو زوجة كتحلل المحصر، فإن أذن الولي للسفيه لم يكن له أن يحلله ولا يدفع إليه المال، بل يصحبه لينفق عليه بالمعروف أو يصحب من ينفق عليه من ماله أي مال السفيه، وإذا حلل الزوج الزوجة حيث أحرمت في التطوع بغير إذنه، فعليها القضاء لما حللها منه إذا أذن لها أو تأيمت، قال عبد الباقي: بخلاف السفيه والصغير إذا حللهما وليهما فلا قضاء عليهما لما

ص: 779

حللهما منه كما مر، ومثل التطوع النذر المعين، فتقضيه المرأة بعد أن تأتي بحجة الإسلام،

والمضمون أولى. انتهى. قوله: بخلاف السفيه، قال بناني: هذا هو الذي نقله المصنف عن سند

وهو خلاف ما صرح به ابن رشد في البيان من لزوم القضاء في السفيه والزوجة والعبد، وعزاه

لمذهب ابن القاسم وروايته، وعزى القول بسقوطه في الجميع لأشهب، وفي المواق: لا يخلو إحلال

الزوج لزوجته من أربعة أوجه: إما أن يحللها من حجة الإسلام، أو من تطوع، أو نذر معين، أو

نذر مضمون. أما حجة الإسلام فليس عليها أن تقضي ما حللها منها وعليها حجة الإسلام؛ وأما

التطوع فتقضيه على قول ابن القاسم، وكذا تقضي أيضا النذر المعين عند ابن القاسم، خلافا لأشهب، وأما النذر المضمون فيقضى قولا واحدا. انتهى. من اللخمي. نقله الخرشي. قال: وعلى أن السفيه كالمرأة تجري فيه هذه الأقسام الأربعة، فإن قلت كلام البيان والمواق من أن للزوج أن يحلل الزوجة من حجة الفريضة خلاف قول المصنف كزوج في تطوع، فإنه يفيد أن ليس له منعها في الفريضة وليس له تحليلها، قلت: يحمل كلامهما على الزوجة السفيهة. انتهى.

وقد مر عن الشيخ بناني أنه إنما يمنعها الولي لا الزوج، إلا أن يكون الزوج وليا فيمنعها من حيث إنه ولي لا من حيث إنه زوج. انتهى. وفهم من قول المصنف في تطوع أنه ليس له منعها من الفرض ولا تحليلها وهو كذلك، فلو حللها في الفرض فالتحليل باطل.

كالعبد؛ يعني أن السيد له أن يمنع عبده من الإحرام، فإذا أحرم والحال أن سيده لم يأذن له في الإحرام، فإن له أن يحلله ويجب عليه القضاء: وظاهره مطلقا سواء كان تطوعا أو نذرا معينا أو مضمونا، أو نوى بذلك حجة الفرض يظن أنها عليه، وكذلك ظاهر كلامه في المناسك وهو ظاهر كلام ابن الحاجب أيضا، فيكون ما ذكره في التوضيح عن اللخمي من التفصيل بين أن يكون أحرم بتطوع أو نذر معين، فلا يلزمه قضاء، أو أحرم بنذر مضمون أو بحجة الفرض يظن أن ذلك عليه فيلزمه القضاء مقابل المشهور، وهو ظاهر كلام ابن فرحون. قاله الحطاب.

واختلف هل للسيد أن يرد عقده للنذر، فأجاز ذلك ابن القاسم، ومنعه أشهب وهو أحسن؛ لأن العقد لا يضر السيد ما رام في ملكه، ولا ينقص من ثمنه إذا باعه، وإذا أذن له سيده في الإحرام وأحرم وكان لا يستطيع المسير، فالظاهر أنه يلزم السيد أن يكري له؛ لأنه هو الذي ورطه بإذنه

ص: 780

كما قالوا: إذا وطئ الأمة أو الزوجة مكرهة أنه يجب عليه إحجاجها؛ لأنه ورطها في وجوب القضا،، وقوله:"كالعبد"؛ يعني ولو ذا شائبة، كالمدبر وأم الولد والعتق بعضه والمعتق لأجل، وأما المكاتب فله أن يستأجر فيما لا يضر سيده، فله أن يحرم بغير إذن سيده إذا كان إحرامه لا يضر بنجوم الكتابة، وإن أضر إحرامه بنجوم الكتابة فلسيده تحليله، وعليه القضاء إذا أذن له أو عتق كالقن، ولا يكون التحليل بإلباسه الرقيق المحيط لكن بالإشهاد على أنه حلله من هذا الإحرام، فيتحلل بنيته ويحلق رأسه، وظاهره أن التحليل إنما يكون بهذين، والظاهر أن الإشهاد كاف سواء امتنع العبد من التحلل أم لا، كما أن تحليله والحلاق كاف من غير إشهاد، والظاهر جريان ما ذكر في تحليل المرأة والسفيه، ويقوم التقصير في حقها مقام الحلاق في حق المذكر.

وأثم من لم يقبل؛ يعني أن السفيه والعبد والزوجة إذا أمروا بعدم الإحرام فخالفوا وأحرموا، فإن الإثم عليهم لعدم قبولهم ما أمروا به، كذا قرره الخرشي، وقرره عبد الباقي على أنهم إذا أمروا بالتحلل فلم يقبلوا ما أمروا به من التحلل فإنهم يأثمون، والظاهر شمول المصنف للمسألتين. والله أعلم.

وله مباشرتها؛ يعني أن للزوج أن يباشر زوجته أي يجامعها إذا امتنعت من التحلل، وله أن يكرهها على ذلك ويفسد حجها والإثم عليها دونه لتعديها على حقه، قال عبد الباقي: والظاهر أنه إن نوى بذلك تحليلها كان كافيا وإلا فسد. انتهى. وفي الخرشي: وينوي بمباشرتها التحلل وتكفي نية الزوج، وإن لم ينو تحللها بمباشرة فسد عليها وعليها إتمامه وهدي، ويجب على الزوج تمكينها من إتمام المفسد. انتهى. قول عبد الباقي: والظاهر أنه إن نوى الخ، قال بناني: مثله في الخرشي، وفيه نظر، وظاهر كلامهم أنها لا تكفي، وأنه لا بد من نية المحرم؛ ويدل على ذلك قول المصنف وغيره:"وأثم من لم يقبل"، قال في التوضيح إن لم تقبل ما أمرها به من التحلل أثمت بمنعها حقه الخ، فهو صريح في أن التحلل إنما يقع من المحرم لا من غيره. انتهى.

وقوله: كفريضة قبل الميقات، تشبيه في أن للزوج أن يحللها وأن له أن يباشرها؛ يعني أن المرأة إذا أحرمت بحجة الفريضة قبل الميقات الزماني أو المكاني، فإن للزوج أن يباشرها وله أن

ص: 781

يكرهها، فإذا أحرمت بالفريضة من الميقات المكاني قبل أشهر الحج فله تحليلها وإفساد حجها، وكذا لو أحرمت في أشهر الحج قبل الميقات المكاني، وإنما يكون له تحليلها حيث أحرمت بالفريضة قبل الميقات الزماني أو المكاني بشرطين: أن يكون قد احتاج إليها ولم يحرم وإلا فليس له تحليلها، قال عبد الباقي: ثم إن حللها بالشرطين لم يلزمها غير حجة الفرض، وأما إن أفسده فإنها تتمادى عليه وتقضيه وتحج حجة الإسلام. انتهى. قوله: وتقضيه وتحج حجة الإسلام، قال محمد بن الحسن بناني: ليس عليها أن تقضي غير حجة الإسلام كما صرح به اللخمي ونقله المواق، ونحوه في كلام ابن رشد. انتهى.

وقال الشارح عند قوله: "كفريضة قبل الميقات": وقيد اللخمي ذلك بما إذا خرج معها، وأما إن خرجت دونه أو خرج وأحرم معها فليس له تحليلها ولا مباشرتها: وقوله: وإلا، مركب من إن الشرطية ولا النافية، وهو راجع لقوله:"وإن لم يأذن" لخ، أي وإن أذن الولي للسفيه والسيد للعبد والزوج للزوجة في التطوع، ثم أراد كل الرجوع عن ذلك الإذن، فلا منع له؛ أي فليس لمن ذكر منعهم من ذلك، بشرط أشار إليه بقوله: إن دخل؛ أي فليس لمن ذكر أن يمنع من دخل منهم في الإحرام من إتمام ما أحرم به، وكذا النذر المأذون فيه، وإذا أحرمت الزوجة بحجة الإسلام أو بغيرها بإذنه سقط من نفقتها ما زاد على نفقة الحضر على المذهب، وقيل: تسقط بالكلية، واحترز بقوله: إن دخل مما إذا أراد الرجوع في الإذن قبل الإحرام، فإن له ذلك، وقد نص مالك على أن له ذلك في العبد، وقال سند: ظاهر الكتاب له المنع بعد الإذن إن لم يحرم، وإذا قلنا إن للسيد ذلك ورجع قبل الدخول فأحرم العبد ولم يعلم برجوع السيد، فهل يملك إحلاله؛ قال سند: يخرج على القولين بناء على أن الوكيل ينعزل بعزل الموكِّل إذا لم يعلم بعزله، أو لا ينعزل. انظر الحطاب.

وللمشتري إن لم يعلم رده؛ يعني أن السيد إذا باع رقيقا محرما ولم يعلم المشتري بإحرامه حين شرائه له، فإن له أن يرده؛ لأنه عيب كتمه البائع، وهذا حيث لم يقرب زمن الإحلال وإلا فليس له رده، والظاهر أن القرب ما لا ضرر فيه على المشتري، واحترز بقوله:"إن لم يعلم"، عما إذا اشتراه وهو عالم بإحرامه. فليس له رده حينئذ: وفي المدونة: وإن باع عبده وأمته وهما

ص: 782

محرمان جاز بيعه، وليس للمبتاع أن يحللهما وله إن لم يعلم بإحرامهما الرد كعيب إلا أن يقربا من الإحلال. انتهى.

واعلم أن مذهب المدونة جواز بيع العبد محرما، سواء قرب الإحلال أو لا، قال المصنف في منسكة: وهو المشهور، وقال سحنون: لا يجوز بيعه ويفسخ، ألا ترى أن ابن القاسم يقول: إذا واجر عبده شهرا لم يجز له بيعه؟ اللخمي: وقد يفوق بين السؤالين بأن العبد المحرم منافعه لمشتريه، وفي الإجارة منافعه قد بيعت فيستحق من كان في الإحرام لهذا. انتهى. وقيد ابن بشير خلاف سحنون بأن يبقى من مدة الإحرام زمان كثير، قال في التوضيح: وظاهر ما حكاه اللخمي عنه العموم.

لا تحليله؛ يعني أنه ليس للمشتري تحليل العبد الذي اشتراه محرما، وإنما له رده إن لم يعلم بإحرامه حين الشراء كما هو موضوع المصنف، وليس للعبد أيضا تحليل نفسه، وظاهر قول المصنف: وللمشتري الخ، سواء كان أحرم الرقيق ذكرا أو أنثى بإذن سيده البائع أو بغير إذنه، ثم إذا رده فللبائع تحليله إن لم يعلم به قبل بيعه ولو قرب زمن إحلاله، وقد مر أن المشتري لا يرد العبد إن قرب زمن الإحلال؛ لأنه إنما ثبت له رده لعيب الإحرام وهو مع قرب زواله كلا عيب، وأما البائع فله رد الإحرام لوقوعه بغير إذنه، ولو علم بالإحرام وباع العبد ولم يعلم المشتري فليس للبائع تحليله إذا رد له، ونظير هذه المسألة في أن للمشتري الرد إن لم يعلم من اشترى أمة فظهرت معتدة أو مريضة أو محبوسة فله ردها إذا لم يعلم.

وإن أذن فأفسد لم يلزمه إذن للقضاء؛ يعني أن السيد إذا أذن لرقيقه في الإحرام فأحرم ثم أفسد إحرامه بجماع أو غيره، فإنه لا يلزم السيد أن يأذن له ثانيا في قضاء المفسد قاله أشهب. لأنه عبادة ثانية، وقال أصبغ: يلزمه الإذن؛ لأن لزوم حجة القضاء من آثار إذنه. ابن المواز: والأول أصوب، وإلى تصويب ابن المواز أشار الشيخ خليل بقوله: على الأصح؛ أي لا يلزم السيد ذلك على قول أشهب الذي هو الأصح، لكون ابن المواز قال: إنه أصوب، وفي الموازية: وإذا أذن له ففاته الحج فعليه القضاء والهدي إذا عتق. قاله الشارح. وقال عبد الباقي: وظاهر الموازية أن الفوات كالإفساد، ومثل العبد السفيه إذا أذن له وليه فأفسد، والزوجة إذا أذن لها زوجها

ص: 783

فأفسدت؛ وإذا أذن السيد للعبد في الإحرام بالحج فأحرم وفاته فأراد العبد لَمَّا فاته أن يعتمر ليحل وأراد السيد منعه وإحلاله مكانه، فقال أشهب في الموازية: إن كان قريبا فلا يمنعه وإن كان بعيدا فله منعه، فإما أن يبقى إلى قابل، وإما أن يأذن له في فسخه في عمرة. نقله غير واحد. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: والظاهر أو المتعين أن قوله: فإما أن يبقيه الخ، مرتب على قوله: إن كان قريبا فلا يمنعه. والله سبحانه أعلم.

وما لزمه عن خطإ أو ضرورة؛ يعني أن ما لزم العبد الذي أذن له سيده، الإحرام عن خطإ صدر منه؛ كان فاته الحج لخطإ عدد أو هلال أو خطإ طريق أو في قتل صيد، أو لزمه عن ضرورة كلبس أو تطيب للتداوي، فإن السيد إما أن يأذن له في إخراج ما لزمه من مال السيد أو من مال العبد، فإنه يحتاج في إخراجه من ماله لإذن من السيد: كما يحتاج في إخراجه من مال السيد للإذن، فإن أمن له السيد في الإخراج مما ذكر فعل؛ وظاهر قول المدونة أن العبد لا يحتاج في ماله لإذن سيده في الإخراج، وهو قول الشيخ عبد الرحمن، خلاف ما قدمته تبعا لغير واحد كما يفيده أبو الحسن على المدونة، وإلا أي: وإن لم يأذن له السيد في إخراج ما لزمه من مال السيد ولا من مال العبد صام العبد بلا منع؛ أي ليس للسيد حينئذ أن يمنعه من الصيام، وإن أضر به في عمله: وإنما له أن يمنعه من الإحرام، هذا هو المشهور، خلافا لابن وهب وعبد الملك وابن حبيب فيما إذا أضر الصوم به في عمله قائلين: له منعه من الصوم حينئذ.

وإن تعمد، هذا هو مفهوم قوله:"وما لزمه عن خطإ أو ضرورة"؛ أي أنه إذا تعمد الرقيق موجب الهدي أو الجزاء أو الفدية، فله أي فللسيد منعه. أي العبد من الصوم وأولى من الإخراج، وإنما يكون له منعه من الصوم إن أضر الصوم به أي بالعبد في عمله للسيد؛ لأنه هو الذي أدخل ذلك على نفسه، وأما الإخراج فقد مر أنه لا بد فيه من إذن السيد في الخطإ والضرورة فأحرى في العمد.

وبقي على المصنف من الموانع: الدين الحال أو الذي يحل في غيبته وهو موسر، فيمنع من الخروج إلا أن يوكل من يقضيه عند حلوله، فإن اتهمه على عدم العود حلفه، وليس له تحليله إن أحرم ولا له هو التحلل، لا يقال: استغنى المصنف عن ذكره بذكر الاستطاعة؛ لأنا نقول:

ص: 784

يجب على القادر المشي وله صنعة تقوم به، وقد يقال: استغنى عن ذكره هنا بما ذكره في باب الفلس من قوله: "وسفره إن حل بغيبته". وبقي عليه أيضا الأبوة فللأبوين المنع من التطوع ومن الفرض على إحدى الروايتين. قاله في الجواهر. لكن سيأتي في الجهاد: "كوالدين في فوض كفاية"، وهو يفيد المنع في التطوع لا في حجة الإسلام. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى جميع عباد الله الصالحين.

فائدة: ها أنا أذكر لك صفة الحج والعمرة،

أما صفة الحج فهي أن تحرم من الميقات؛ أي تدخل بالنية في حرمة أحد النسكين أو كليهما مع القول أو الفعل المتعلقين به، والحرمة الذمة، والأمر الذي لا يحل انتهاكه، وقد مر التعريف بالميقات ووقت الإحرام، وقد مر أن الجحفة ميقات أهل المغرب، وقد مر الإحرام من رابغ، هل هو جائز لأنه من أعمال الجحفة ومتصل بها واعتمده غير واحد، أو يكره لأنه من باب الإحرام قبل الميقات؟ فإذا وصلت الميقات وأردت الإحرام فتنظف بحلق العانة، ونتف الإبط، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ثم تغتسل، ولو كانت حائضا أو نفساء صغيرا أو كبيرا، وإن كنت جُنُبًا فاضتسل للجنابة والإحرام، ويجزئك ذلك، وكذلك الحائض إن طهرت حينئذ فتغتسل للحيض والإحرام.

واعلم أنه يتدلك في غسل الإحرام، ويزيل الوسخ بخلاف ما بعده من الاغتسالات الآتية في الحج فليس فيها إلا إمرار اليد مع صب الماء، ويراعى في هذا الغسل الاتصال بالإحرام كغسل الجمعة، قال في الموازية: وإن اغتسل بالمدينة ثم مضى من فوره أجزأ، وإن اغتسل غُدوة ثم أقام إلى العشاء ثم راح إلى ذي الحليفة فأحرم منها لم يجزه الغسل، وإن اغتسل غدوة ثم أقام إلى الظهر كرهته. انتهى.

ثم بعد الفراغ من الغسل يلبد رأسه إن كانت له وفرة، والتلبيد أن يأخذ صمغا وغاسولا فيخلطهما ثم يجعل ذلك في الشعر فيلتصق بعضه ببعض ولا تكثر دوابه، ثم يلبس رداء وإزارا ونعلين، ولو ارتدى بثوب واحد جاز، والأفضل البياض، ولا يجوز المعصفر ولا المورس.

ص: 785

ثم تستصحب هديا، ويستحب أن يقلده إن كان من الإبل أو البقر، والتقليد جعل شيء في العنق، والأفضل أن يفتل شيئا مما تنبته الأرض، ويجعل فيه نعلين ويعلقه في عنق الهدي، ثم يشعره إن كان من الإبل سواء كان لها أسنمة أم لا، ومن البقر إن كان له سنام، ولا تقلد الغنم ولا تشعر.

والإشعار أن يشق في سنامها من الجانب الأيسر من جهة الرقبة إلى جهة المؤخر قدر أنملتين ونحو ذلك، قائلا: بسم الله والله أكبر مستقبلا هو وهديه وزمامه بيده اليسرى، ثم يُجلله إن كان من الإبل،

والتجليل أن يجعل عليه ثوبا بقدر وسعه، ويشق الجلال عن الأسنمة مخافة سقوطها إلا أن يكون ثمنها -أي الجلال- كثيرا فلا تشق، ثم يصلي سنة الإحرام ركعتين فأكثر يقرأ فيهما بالكفرون والإخلاص، فإن كان وقت نهي انتظر وقت الجواز إلا أن يخاف فوات الرفقة أو يكون مراهقا فيحرم بغير صلاة، ويدعو الله عقب تنفله ويسأله العون على تمام نسكه، ثم يركب راحلته فإذا استوى عليها أحرم، وإن كان ماشيا فحين يَشرع في المشي يحرم.

والإحرام هو الدخول بالنية في حرمة أحد النسكين مع قول لتعلق به أي الإحرام كالتلبية والتكبير والتهليل والتسبيح، أو فعل متعلق به كالتوجه إلى الطريق والتقليد والإشعار، لا ما لم يتعلق بالإحرام من قول وفعل كالبيع مثلا.

والتلبية هي أن يقول لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك للث لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. يروى بكسر همزة إن الحمد وهو المختار، ويروى بفتحها، ويحضر قلبه عند التلبية أنه يجيب مولاه فلا يضحك ولا يلعب، ويجدد التلبية عند تغير الأحوال كالقيام والقعود والنزول والركوب والصعود والهبوط وملاقاة الرفاق ودبر الصلوات، ويتوسط في رفع الصوت بها وفي ذكرها، فلا يلح بها بحيث لا يفتر ولا يسكت، وقد جعل الله لكل شيء قدرا ولا ترفع المرأة صوتها، ولا بأس أن يعلم الأعجمي التلبية بلسانه، ولا يرد الملبي السلام بالإشارة على المشهور، بخلاف الصلاة، قال مالك: ويرد الملبي السلام بعد فراضه من التلبية.

وتحصل مما مر ذكر سنن الإحرام الأربعة: الغسل ولبسه الإزار والرداء والنعلين متجردا عن المُحيط: والثالث والرابع التلبية وصلاة ركعتين، ثم إذا دنت مكة من المحرم، فإن وصل إلى

ص: 786

ذي طوى أو ما كان على قدر مسافتها فإنه يغتسل لدخول مكة بصب الماء مع إمرار اليد بلا تدلك، وهذا الغسل في الحقيقة للطواف بدليل سقوطه عمن لا يطوف من حائض ونفساء، بخلاف غسل الإحرام كما مر، فإذا دخل مكة من غير غسل اغتسل ثم طاف هذا إن جاء نهارا وهو أفضل، فإن جاء ليلا أو في آخر النهار استحب له أن يبيت خارج مكة، فإذا أصبح اغتسل ودخل، وإن اغتسل ثم بات لم يجزه ذلك الغسل، ثم يدخل مكة من كداء: الثنية التي بأعلى مكة يهبط منها للأبطح والمقبرة تحتها، وإن لم تكن في طريقه ما لم يؤد إلى الزحمة وإذاية الناس، فيتعين ترك ذلك، وإذا وصل إلى الحرم، قال: اللهم إن هذا حرمك وحرم رسولك فحرم لحمي ودمي على النار، اللهم أمني من عذابك يوم تبعث عبادك، ومن كان محرما بعمرة قطع التلبية حينئذ، وكذا من كان محرما بحج مفردا أو قارنا وفاته الحج، وأما المحرم بحج ولم يفته الحج فإنه يستمر يلبي إلى أن يصل لبيوت مكة، وقيل إلى الطواف.

وكان بعض السلف يقول عند دخول مكة: اللهم البلد بلدك والبيت بيتك جئت أطلب رحمتك وألزم طاعتك متبعا لأمرك راضيا بقَدَرِكَ، أسألك مسألة المضطر إليك المشفق من عذابك أن تستقبلني بعفوك وأن تتجاوز عني برحمتك وأن تدخلني جنتك. وصحح الشافعية أن دخولها ماشيا أفضل، فإذا دخل مكة ترك كل شغل وقصد المسجد ليطوف بالبيت طواف القدوم إلا أن يخاف على رحله الضياع فليؤوه، واستحب مالك للمرأة الجميلة إذا قدمت نهارا أن تؤخر الطواف إلى الليل، ويدخل المسجد من باب بني شيبة وهو المعروف الآن: بباب السلام، ويدور إليه إن لم يكن في طريقه، فيقدم رجله اليمنى ويقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. وهذا مستحب لكل من دخل مسجدا أيِّ مسجد كان.

ابن حبيب: ويستحب إذا وقع بصره على البيت أن يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وتكريما. وأنكر مالك ذلك خوف اعتقاد الجاهل وجوبه. والله أعلم.

ص: 787

ويستحضر ما أمكنه من الخشوع والخضوع، ولا يركع تحية المسجد بل يقصد الحجر الأسود، لأنه هو الذي يبتدأ الطواف من عنده، وينوي طواف القدوم أو طواف العمرة إن كان فيها، ويعين النسك إن كان إحرامه مطلقا غير معين؛ فيقبله بفيه ويكبر، وإن زوحم عن تقبيله لمسه بيده ثم وضعها على فيه من غير تقبيل ثم يكبر، فإن لم تصل يده فبعود إن كان لا يؤذي به أحدا وإلا تركه وكبر ومضى، ولا يشير بيده ولا يدع التكبير استلم أولا، ثم يشرع في الطواف فيطوف والبيت عن يساره سبعة أشواط، فإذا وصل إلى الركن اليماني وهو الركن الذي قبل الحجر الأسود لمسه بيده ثم وضعها على فيه من غير تقبيل وكبر، فإن لم يقدر كبر ومضى، وأما الركنان الشاميان وهما اللذان يليان الحجر بكسر فسكون فلا يقبلهما ولا يستلمهما: وهل يكبر لهما؟ قال ابن الحاجب علي ما في بعض نسخه: بخلاف الركنين اللذين يليان الحجر فإنه يكبر فقط. ابن عرفة: وقول ابن الحاجب يكبر لهما لا أعرفه. قاله الشيخ ميارة.

واعلم أن في البيت أربعة أركان، أحدها له فضيلتان وهو ركن الحجر الأسود. والفضيلتان كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم، والركن اليماني له الفضيلة الثانية فقط، وليس للآخرين أي الشاميين شيء من الفضيلتين، فلذلك يقبل الأول ويستلم الثاني فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان. هذا على رأي الجمهور. واستحب بعضهم تقبيل الركن اليماني أيضا.

فقد علمت أن ابتداء الطواف من الحجر الأسود، فإذا وصل إليه فذلك شوط، وكلما مر به أو بالركن اليماني فعل لكل واحد منهما ما ذكرته لك إلى آخر الشوط السابع، إلا أن تقبيل الحجر الأسود ولمس اليماني أول مرة سنة، وفيما بعدها مستحب فقط، ويرمل في الأشواط الثلاثة الأول من هذا الطواف، ويمشي في الأربع بعدها، والرمل فوق المشي ودون الجري، فإن لم يرمل في الثلاثة الأول أو في شيء منها لم يرمل فيما بعدها من الأشواط، ولا يرمل النساء ولا يرمل الرجل إذا حج عن المرأة؛ ومن زوحم عن الرمل فعلى وسعه، ولا يرمل في غير طواف القدوم من طواف الإفاضة إذا كان سعى بعد طواف القدوم ولا في طواف الوداع والتطوع، ومن طاف بصبي أو مريض رمل بهما.

واعلم أن الإسراع أحد مثلثات الحج هذا، والثاني الإسراع بين الميلين الأخضرين في السعي بين الصفا والمروة، والثالث الإسراع في بطن محسر واد بين مزدلفة ومنى، وذلك في الرجوع من مزدلفة

ص: 788

إلى منى صبيحة يوم العيد لرمي جمرة العقبة، وبعد الفراغ من الطواف يصلي ركعتي الطواف بركعهما خلف القام، يقرأ في الأولى بالفاتحة والكافرون، وفي الثانية بالفاتحة والإخلاص، وإن اقتصر على الفاتحة أجزأ.

الحطاب: والظاهر أنه لا بد لهما من نية تخصهما؛ لأنه قد قيل بوجوبهما مطلقا وبسنيتهما كذلك وبتبعيتهما للطواف، ويستحب له الدعاء بما شاء من أمور الدين والدنيا بعد الطواف بالملتزم وهو ما بين الباب والحجر الأسود، فيلتزمه ويعتنقه واضعا صدره ووجهه وذراعه عليه، باسطا كفيه كفعل ابن عمر، لقوله: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك

(1)

).

والملتزم أحد المواطن الخمسة عشر التي قال الحسن البصري رضي الله تعالى عنه: يستجاب فيها الدعاء وهي: في الطواف، وعند الملتزم، وتحت الميزاب، وفي البيت، وعند زمزم، وعند الصفا وعند المروة، وفي السعي: وخلف المقام، وفي عرفات، وفي مزدلفة، وفي منى، وفي الجمرات الثلاث.

واعلم أنه يشترط في الطواف الطهارة من الحدث والخبث وستر العورة، ويتيمم إذا كان ممن حكمه التيمم، ويكون الطائف خارجا بكل بدنه عن الشاذروان، ويكون الطواف أيضا من وراء جميع الحجر. والشاذروان بناء لطيف بحائط الكعبة، فلا يمشي عليه الطائف. والحجر بناء محوط مدور على نصف دائرة خارج عن الكعبة.

واعلم أن المقبل للحجر الأسود والمستلم لليماني ينصب كل منهما قامته بعد التقبيل والاستلام ويثبت مكانه حتى يعتدل قائما على قدميه، ثم يطوف لأنه لو طاف مطأطأ رأسه ويداه في هواء الشاذروان أو وطئه برجله لم يصح طوافه، ويكون الطواف داخل المسجد كما عرفت، ويكون أشواطه ولاء، فإذا فرغ من الطواف وركعتيه قبل الحجر الأسود، ثم يخرج إلى الصفا من أي باب أحب عند مالك؛ واستحب ابن حبيب خروجه من باب الصفا ويقدم رجله اليسرى في الخروج، ويقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك. وهذا مستحب لكل من خرج من مسجد أي مسجد كان، فإذا وصل إلى الصفا رقي عليها، ويستحب ذلك للمرأة إن خلا الموضع فيسقبل

(1)

أبو داود، كتاب المناسك، الحديث:1899. وابن ماجه، كتاب المناسك، الحديث: 2962.

ص: 789

القبلة، ولا يستحب رفع اليدين على المشهور، ثم يقول: الله أكبر ثلاثا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير: لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو يقول ذلك ثلاث مرات، ولا يدع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ينزل ويمشي ويشتغل بالذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بقي بينه وبين الميل المعلق في ركن المسجد نحو ستة أذرع خب، والخبب فوق الرمل حتى يصل إلى الميلين اللذين أحدهما في جدار المسجد والآخر في جدار بلاط العباس رضي الله تعالى عنه، فيترك الخبب ويمشي حتى يبلغ المروة؛ فذلك شوط؛ فإذا وصل المروة رقى عليها، ويفعل كما تقدم في الصفا ثم ينزل ويفعل كما وصفنا من الذكر والدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ الخبب، فإذا وصل إلى الصفا فذلك شوط ثان. وهكذا حتى يستكمل سبعة أشواط، يعد الذهاب للمروة شوطا والرجوع منها للصفا شوطا، فيقف أربع وقفات على الصفا وأربعا على المروة، فيبدأ بالصفا ويختم بالمروة.

وقد مر أنه يمسك عن التلبية إذا دخل مكة، فيمسك عنها حتى يطوف ويسعى ثم يعاودها حتى تزول الشمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها، ثم إذا زالت الشمس من اليوم الثامن من أيام العشر وهو يوم التروية طاف الناس سبعا، ثم خرجوا من مكة إلى منى ملبين بقدر ما يدركون بها صلاة الظهر أي آخر وقته المختار، ويكره التراخي عن ذلك إلا لعذرة وكذلك يكره التقدم قبله، فإذا وصلوا إلى منى نزلوا بها حيث شاؤوا، وصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح كل صلاة في وقتها، ويقصرون الرباعية بمنى للسنة إلا أهل منى فإنهم يتمون، وإذا كان يوم التروية يوم جمعة، فقال مالك: يصلي الإمام بمنى ركعتين سرا بغير خطبة ومن خاف خروج وقت الظهر في الطريق قبل أن يصل إلى منى صلاها، وتردد مالك في قصره وإتمامه. قاله سند. والأحسن أن يقصر ويبيت بمنى، وهذه الليلة من الليالي التي يطلب إحياؤها، فليكثر فيها من الصلاة والدعاء والذكر، ويوم التروية مشتق من الري؛ لأن الناس يعدون الماء فيه ليوم عرفة.

واعلم أن السنة أن لا يخرج الناس من منى يوم عرفة حتى تطلع الشمس، والمبيت بمنى سنة قد أميتت عند كثير من الناس، فينبغي المحافظة على إحيائها، فإذا وصل إلى عرفة فلينزل بنمرة

ص: 790

وهي السنة، وقد ترك اليوم غالبا، وإنما ينزل الناس في موضع الوقوف، فينبغي المحافظة على إحياء هذه السنة أيضا، فإذا قرب الزوال فليغتسل كغسل دخول مكة، فإذا زالت الشمس فليأت مسجد نمرة ويقطع التلبية حينئذ، فلا يلبي بعد ذلك على المشهور إلا أن يكون أحرم في عرفة فليلب حينئذ ويقطع لأن كل إحرام لا بد له من التلبية، ثم يخطب الإمام بعد الزوال خطبتين يجلس بينهما يعلم الناس فيهما ما يفعلون إلى اليوم الثاني من يوم النحر، ثم يصلي بالناس الظهر والعصر جمعا وقصرا، لكل صلاة أذان وإقامة ومن لم يحضر صلاة الإمام جمع وقصر في رحله ولو ترك الحضور من غير عذر، ويتم أهل عرفة بها، فإذا كان يوم عرفة يوم الجمعة، فقال ابن الحاجب: الصلاة سرية، ولو وافق جمعة، ثم يدفع الإمام والناس إلى موقف عرفة، وعرفة كلها موقف وحيث يقف الإمام أفضل والوقوف راكبا أفضل، لفعله عليه الصلاة والسلام، إلا أن يضر بدابته، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام وقف مفطرا. والقيام أفضل من الجلوس: ولا يجلس إلا لتعب، وتجلس المرأة ووقوفه طاهرا متوضئا مستقبل القبلة أفضل، ويكثر من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

ابن حبيب: وإذا سألت فابسط يدك، وإذا رهبت واستغفرت فحولهما ولا تزال كذلك مستقبل القبلة بالخشوع والتواضع والتذلل وكثرة المذكر بالتهليل والتسبيح والتعظيم والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء لنفسك ولوالديك والاستغفار إلى أن تحقق غروب الشمس، إذ الوقوف الركني هو الكون في عرفة في جزء من ليلة النحر، فإذا بقي بها حتى تحقق الغروب فقد حصل القدر الواجب من الوقوف، ومن خرج من عرفة قبل الغروب ثم لم يعد إليها حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج فيتحلل منه بأفعال عمرة، ويجب عليه القضاء قابلا والهدي، فإذا تحقق غروب الشمس دفع الإمام ودفع الناس معه إلى المزدلفة بسكينة ووقار، فإذا وجد فرجة حرك دابته، وليحذر مما يعتقده كثير من الجهلة وهو أن من لم يخرج من بين العلمين لا حج له فتحصل بسبب ذلك المزاحمة العظيمة والضرر الكبير، والعلمان ساريتان عظيمتان بنيتا في حد الحل. قاله ابن عبد الصادق.

ص: 791

ويندب المرور بين المأزمين بفتح اليمين وكسر الزاء وبالهمزة وهما جبلان بين عرفة ومزدلفة يستحب المرور ببنهما للحاج كما في ابن الحاجب، ثم إذا وصل للمزدلفة صلى المغرب والعشاء جمعا ويقصر العشاء بأذانين وإقامتين: ويصلي مع الإمام إن تيسر له ذلك وإلا ففي رحله، ويتم أهل مزدلفة فيها، والضابط في التقصير أن أهل كل مكان يتمون به ويقصرون فيما سواه، فأهل مكة يتمون فيها ويقصرون فيما سواها من منى وعرفة ومزدلفة، ويتم أهل عرفة بعرفة ويقصرون بمنى ومزدلفة ومكة. ويتم أهل مزدلفة بها ويقصرون في غيرها، وكذا أهل منى ولا بأس بحط الرحل الخفيف قبل الصلاة، وأما المحامل فلا، ولا يتعشى إلا بعد الصلاتين إلا أن يكون عشاء خفيفا فلا بأس به بعد صلاة المغرب وقبل العشاء وبعدهما أولى، والنزول بالمزدلفة واجب والمبيت بها إلى الفجر سنة، ولا يكفي في النزول إناخة البعير، بل لا بد من حط الرحل والجلوس ساعة، ويستحب إحياء هذه الليلة بالعبادة وأن يصلي بمزدلفة الصبح في أول وقتها، ثم إذا صلى الصبح يقف بالشعر الحرام مستقبل القبلة، والمشعر عن يساره، فيثني على الله تعالى ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ويدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين، والمشعر اسم لبناء مزدلفة ويطلق على جميعها وكلها موقف، ولا وقوف عند المشعر قبل صلاة الصبح ولا بعد الإسفار، ويلقط سبع حصيات لجمرة العقبة من المزدلفة، وأما بقية الجمار فليلقطها من أي موضع شاء من منى أو غيرها، ثم يدفع قرب الإسفار إلى منى ويحرك دابته ببطن محسر وهو قدر رمية بحجر، ويسرع الماشي في مشيه، فإذا وصل إلى منى أتى جمرة العقبة على هيئته من ركوب أو مشي إلا أن يكون في إتيانه كذلك إذاية للناس فيحط رحله ويأتي، فإذا وصل إليها وهي على طريق منى استقبلها ومنى عن يمينه ومكة عن يساره ثم يرميها بسبع حصيات متواليات يكبر مع كل حصاة؛ فإن رماها من فوقها أجزأ وليستغفر الله تعالى، فإذا رمى جمرة العقبة في يوم النحر فقد حصل به التحلل الأول، ثم يرجع إلى منى فينزل حيث أحب، وينحر هديه إن أوقفه بعرفة وإلا نحره بمكة بعد أن يدخل به من الحل، ثم يحلق جميع شعر رأسه وهو الأفضل أو يقصره، ثم يأتي مكة فيطوف طواف الإفاضة في ثوبي إحرامه استحبابا، ثم يصلي ركعتين ثم يسعى سبعة أشواط كما تقدم إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، فإن كان قد سعى بعده لم يعد السعي وهذا هو

ص: 792

التحلل الثاني، ويسمى: التحلل الأكبر، ويدخل وقت طواف الإفاضة بطلوع الفجر يوم النحر، فإذا فرغ من طواف الإفاضة وسعيه إن كان لم يسع رجع إلى منى بلا تأخير فإن إقامته بها حينئد، أفضل من إقامته بمكة، والأفضل له أن يصلي الظهر بمنى إن أمكنه ويقيم بها إلى أن يكمل حجه، والبيت بمنى واجب ثلاث ليال لمن لم يتعجل وليلتين للمتعجل، ويشترط في البيت أن يكون فوق جمرة العقبة، فمن بات دونها فكأنه لم يبت ويسقط البيت عن الرعاة، فإذا رموا يوم النحر يرخص لهم أن يذهبوا ويأتوا في اليوم الثالث فيرموا لليوم الثاني ثم لليوم الثالث ولا دم عليهم، ويسقط البيت أيضا عن من ولي السقاية بمكة، ثم إذا زالت الشمس من اليوم الثاني وتحقق الزوال فليذهب ماشيا متوضئا قبل صلاة الظهر ومعه إحدى وعشرون حصاة، فيبتدئ بالجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد منى فيرميها من جهة مسجد الخيف استحبابا وهو مستقبل مكة بسبع حصيات، ويكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم أمامها وهو مستقبل القبلة، ثم يدعو يمكث في دعائه قدر إسراع سورة البقرة، ثم يأتي الجمرة الوسطى فيرميها بسبع حصيات من جهة مسجد الخيف أيضا، ثم يتقدم أمامها ذات الشمال ويجعلها على يمينه ويدعو قدر إسراع سورة البقرة أيضا، ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات، ولا يقف عندها؛ لأن موضعها ضيق، ولذلك لا ينصرف الذي يرميها على طريقه؛ لأنه يمنع الذي يأتي للرمي، وإنما ينصرف من ورائها، ثم يرجع إلى منى فيصلي بها الظهر وبقية الصلوات كل صلاة في وقتها ويقصر الصلاة جميعُ الحاج بمنى إلا أهلها، ويكبرون دبر الصلوات من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الصبح في اليوم الرابع، والتكبير أن يقول: الله أكبر ثلاثا، ويقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله، أكبر الله أكبر ولله الحمد، ويكثر الحاج بمنى من هذا الذكر، ويسن للإمام في هذا اليوم -أعني ثاني النحر- أن يأتي إلى مسجد منى فيصلي بالناس الظهر، ثم يخطب خطبة واحدة يعلمهم فيها بقية أفعال الحج وحكم التعجيل والنزول بالمحصب، وهذه الخطبة قد تركت منذ مدة، فإذا زالت الشمس من اليوم الثالث رمى الجمار الثلاث بعد الزوال قبل صلاة الظهر على الصفة المتقدمة، ثم إن شاء أن يتعجل إلى مكة فله ذلك، ويسقط عنه البيت ليلة الرابع ورمي يومها، ويشترط في صحة التعجيل أن يخرج من منى قبل غروب الشمس من اليوم الثالث، وإن غربت قبل أن يجاوز جمرة العقبة لزمه المبيت بمنى ورمي اليوم

ص: 793

الرابع، فإذا زالت الشمس في اليوم الرابع رمى الجمار الثلاث كما مر، وقد تم حجه فإذا رمى في اليوم الرابع فينفر من منى ويؤخر الظهر، فإذا وصل الأبطح نزل فصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويقصر الرباعية، وما خاف خروج وقته من الصلوات قبل الوصول إلى الأبطح فليصله حيثما كان، والنزول بالأبطح إنما يشرع لغير المتعجل، ووسع مالك لمن لا يقتدى به في تركه، فإذا صليت العشاء فاقدم إلى مكة وقد تم حجك فأكثر من الطواف مدة إقامتك، ومن شرب ماء زمزم والوضوء به، ولازم الصلاة في الجماعة الأولى.

وأما صفة العمرة فهي أن ينوي أنه داخل في حرمة هذا النسك مع قول أو فعل تعلقا به كما مر في الحج، وميقاتها ميقات الحج. ويسن لمن كان أحرم بحج مفردا أن يخرج إلى الجرانة أو التنعيم فيحرم بعمرة ثم يدخل إلى مكة فيطوف ويسعى ويحلق وقد تمت عمرته، فإذا عزمت على الخروج من مكة فليكن آخر عهدك الطواف بالبيت ويسمى طواف الوداع، وإذا خرج الحاج من مكة فإنه يستحب له الخروج من كدى بالضم والقصر وهو الثنية الوسطى التي بأسفل مكة، ولتكن نيته وعزيمته وكليته زيارته صلى الله عليه وسلم وزيارة مسجده، وما يتعلق بذلك لا يشرك معه غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم متبوع لا تابع، فهو رأس الأمر المطلوب والمقصود الأعظم المرغوب، فإن زيارته صلى الله عليه وسلم سنة مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها، وليكثر الزائر من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في طريقه، ويكبر على كل شرف، ويستحب أن ينزل خارج المدينة فيتطهر ويركع ويلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويجدد التوبة، ثم ليمش فإذا وصل المسجد فليبدأ بالركوع إن كان وقت يجوز فيه الركوع، وإلا فليبدأ بالقبر الشريف، ويكون ركوعه في محراب النبي صلى الله عليه وسلم إن قدر أو في الروضة أو في غيره من المواضع، ثم يتقدم إلى القبر الشريف ولا يلتصق به، ويستقبل وهو في ذلك متصف بكثرة الذل والسكنة والانكسار والفقر والفاقة والاضطرار يشعر نفسه أنه واقف بين يديه صلى الله عليه وسلم، قال مالك فيقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته، ثم يقول: صلى الله عليك وعلى أزواجك وذريتك وعلى أهلك أجمعين كما صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك عليك وعلى أزواجك وذريتك كما بارك على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، فقد بلغت الرسالة وأديت الأمانة وعبدت ربك وجاهدت في

ص: 794

سبيله ونصحت لعباده صابرا محتسبا حتى أتاك اليقيق، صلى الله عليك أفضل الصلاة وأتمها وأطيبها وأزكاها، ثم يتنحى إلى اليمين نحو ذراع، ويقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق ورحمة الله وبركاته صفي رسول الله وثانيه في الغار، جزاك الله عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ثم يتنحى إلى اليمين نحو ذراع أيضا ويقول: السلام عليك يا أبا حفص الفاروق ورحمة الله وبركاته، جزاك الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرا. وكره مالك لأهل المدينة الوقوف بالقبر كلما دخل أحدهم المسجد أو خرج، وقال: إنما ذلك للغرباء؛ لأنهم قصدوا ذلك، وليحذر الزائر مما يفعله بعض الجهلة من الطواف بالقبر الشريف على ساكنه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، والتمسح بالبناء وإلقاء المناديل والثياب عليه ومن تقرب العامة بأكل التمر في الروضة وإلقاء شعورهم في القناديل، وهذا كله من المنكرات.

ويستحب أن يزور البقيع والقبور المشهورة فيه ومسجد قباء ويتوضأ من بير أريس ويشرب منها، وهذا في حق من كثرت إقامته وإلا فالمقام عنده صلى الله عليه وسلم أحسن ليغتنم مشاهدته صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن أبي جمرة: لما دخلت مسجد المدينة ما جلست إلا الجلوس في الصلاة وما زلت واقفا هناك حتى ارتحل الركب، ولم أخرج إلى البقيع ولا غيره، ولم أر غيره صلى الله عليه وسلم، وقد كان خطر لي أن أخرج إلى البقيع، فقلت: إلى أين أذهب؟ هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين والمضطرين والفقراء والمساكين؛ وليس ثم من يقصد مثله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وعظم، ويستحب للحاج تعجيل الأوبة، وأن يستصحب الهدية يدخل بها السرور على أقاربه وحشمه ونحوهم، ولله در ابن عاشر حيث يقول:

وإن ترد ترتيب حجك اسمعا

بيانه والذهن منك استجمعا

إن جئت رابغا تنظف واغتسل

كواجب وبالشروع يتصل

قوله: كواجب؛ أتي كالغسل الذي ذكره في باب الغسل، فصفته كصفته، وقوله: وبالشروع أي: في الإحرام.

ص: 795

والبس ردا وأزرة نعلين

واستصحب الهدي وركعتين

بالكافرون ثم الإخلاص هما

فإن ركبت أو مشيث أحرما

بنية تصحب قولا أو عمل

كمشيٍ أو تلبية مما اتصل

أي مما تعلق بالإحرام

وجددنها كلما تجددت

حال وإن صليت ثم إن دنت

مكة فاغتسل بذي طوى بلا

دلك ومن كدا الثنية ادخلا

إذا وصلت للبيوت فاتركا

تلبية وكل شغل واسلكا

للبيت من باب السلام واستلم

الحجر الأسود كبر وأتم

سبعة أشواط به وقد يسر

وكبرن مقبلا ذاك الحجر

متى تحاذيه كذا اليماني

لكن ذا باليد خذ بياني

إن لم تصل للحجر المس باليد

وضع على الفم وكبر تقتد

وارمل ثلاثا وامش بعدُ أربعا

خلف المقام ركعتين أوقعا

وادع بما شئت لدى الملتزم

والحجر الأسود بعد استلم

واخرج إلى الصفا فقف مستقبلا

عليه ثم كبرن وهللا

واسع لمروة فقف مثل الصفا

وخب في بطن المسيل ذا اقتفا

وادع بما شئت بسعي وطواف

وبصفا ومروة مع اعتراف

ويجب الطهران والستر على

من طاف ندبها بسعي اجتلى

وعد فلب لمصلى عرفه

وخطبة السابع تأتي للصفه

وثامن الشهر اخرجن لمنى

لعرفات تاسعا نزولنا

واغتسلن قرب الزوال واحضرا

الخطبتين واجمعن واقصرا

ظهريك ثم الجبل اصعد راكبا

على وضوء ثم كن مواظبا

على الدعا مهللا مبتهلا

مصليا على النبي مستقبلا

هنيئة بعد غروبها تقف

وانفر لمزدلفة وتنصرف

ص: 796

في المأزمين العلمين نكب

واقصر بها واجمع عشا لمغرب

قوله: وتنصرف في المازمين الخ، قال ميارة: إن العلمين بدل من المأزمين؛ أي وسر ندبا بين المأزمين أي العلمين، وقوله: نكب، مفعوله محذوف أي: ونكب الانصراف في غير ما بين المأزمين إلا لزحام يحصل معه ضرر. قاله غير ميارة أيضا. وقال ابن عبد الصادق: وتنصرف في المأزمين أي تمر بينهما، وقوله: العلمين، مفعول نكب، ساريتان بنيتا على حد الحل تزعم العامة أن من لم يمر بينهما لا حج له، فأمر باجتنابهما لذلك:

واحطط بها وبت وأحي ليلتك

وصل صبحك وغلس رحلتك

قف وادع بالمشعر للإسفار

وأسرعن ببطن وادي النار

وسر كما تكون للعقبة

فارم لديها بحجار سبعة

من أسفل تساق من مزدلفه

كالفول وانحر هديا إن بعرفه

أوقفته واحلق وسر للبيت

فطف وصل مثل ذاك النعت

وارجع وصل الظهر في منى وبت

إثر زوال غده ارم لا تفت

ثلاث جمرات بسبع حصيات

لكل جمرة وقف للدعوات

طويلا إثر الأوليين أخر

عقبة وكل رمي كبرا

وافعل كذاك ثالث النحر وزد

إن شئت رابعا وتم ما قصد

ومنع الإحرام صيد البر

في قتله الجزاء لا كالفأر

وعقرب مع الحدا كلب عقور

وحية مع الغراب إذ تجور

ومنع المحيط بالعضو ولو

بنسج أو عقد كخاتم حكوا

قوله: أو عقد أي: محيطا بسبب عقد بعضه ببعض مثلا.

والستر للوجه أو الرأس بما

يعد ساترا ولكن إنما

ص: 797

تمنع الأنثى لبس قفاز كذا

ستر لوجه لا لستر أخذا

أي يمنع لها أن تستر وجهها إلا أن تكون سترته عن أعين الناس مخافة الفتنة.

ومنع الطيب ودهنا وضرر

قمل وإلقا وسخ ظفر شعر

ويفتدي لفعل بعض ما ذكر

من المحيط لهنا وإن عذر

ومنع النسا وأفسد الجماع

إلى الإفاضة يُبَقَّى الامتناع

قوله إلى الافاضة متعلق بيبقى

كالصيد ثم باقي ما قد منعا

بالجمرة الأولى يحل فاسمعا

وجاز الاستظلال بالمرتفع

لا في المحامل وشقدف فع

قوله: بالمرتفع أي: عن رأسه كالخباء والبيت.

وسنت العمرة فافعلها كما

حج وفي التنعيم ندبا أحرما

قوله: كما حج أي: سنت عينا مرة في العمر كما في الحج، وتندب بعد ذلك.

وإثر سعيك احلقن أو قصرا

تحل منها والطواف كثرا

ما دمت في مكة وارع الحرمه

لجانب البيت وزد في الخدمة

ولازم الصف فإن عزمتا

على الخروج طف كما علمتا

وسر لقبر المصطفى بأدب

ونية تجب لكل مطلب

سلم عليه ثم زد للصديق

ثم إلى عمر نلت التوفيق

واعلم بأن ذا المقام يستجاب

فيه الدعا فلا تمل من طلاب

وسل شفاعة وختما حسنا

وعجل الأوبة إذ نلت المنى

وادخل ضحى واصحب هدية السرور

إلى الأقارب ومن بك يدور

ص: 798

ولما أنهى الكلام على الحج أتبعه بالكلام على الذكاة والضحايا لأنهما كالتتمة لكتاب الحج؛ لأن المحرم يطلب بذبح الهدي ونحره إما وجوبا أو سنة، ولأن المصنف أحال عيوب الهدي وسنه على الضحايا، ولذلك قال: باب في الذكاة.

ص: 799