المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، صلى الله على - لوامع الدرر في هتك استار المختصر - جـ ٨

[محمد بن سالم المجلسي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، صلى الله على سيدنا محمد وءاله وصحبه وسلم تسليما. واعلم أنه تجاذب الحضانة أمران أحدهما: النكاح لأنه منشؤها، والآخر البيع لأن الحاضن عليه حفظ المحضون وله قبض نفقته وتحصيل ما به قوامه، وذلك إنما يحصل بالبيع فلذا وضع البيع متصلا بالحضانة فقال:

‌باب: في البيع الشامل للصرف والمراطلة

قال الشيخ أبو علي: البيع مصدر باع الشيء إذا أخرجه عن ملكه بعوض أو أدخله فيه، فإنه من الأضداد، قال في القاموس: باعه يبيعه بيعا ومبيعا، والقياس مباعا إذا باعه وإذا اشتراه ضد، وهو مبيع ومبيوع، وكسيد البائع والمشتري والمساوم، وابتاعه اشتراه، والتبايع المبايعة، واستباعه سأله أن يبيعه، وشراه يشريه ملكه بالبيع وباعه كاشترى فيهما ضد، وكل من ترك شيئا وتمسك بغيره فقد اشتراه، ومنه:{اشتروا الضلالة بالهدى} . وشاراه مشاراة وشراء بايعه. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: فتبين منه أن البائع يطلق على آخذ السلعة، وعلى دافعها، وهو قابض الدراهم أو الدنانير أو هما، وكذا المشتري والشاري يطلق عليهما أيضا:{ومن الناس من يشري نفسه} يبيع، ومنه {وشروه بثمن بخس}. وقال الزناتي في شرح الرسالة: إن لغة قريش استعمال باع فيما إذا أخرج واشترى فيما إذا أدخل، وهي أفصح، وعلى ذلك اصطلح العلماء تقريبا للفهم، والشراء يمد ويقصر. انتهى. وقال عبد الباقي: وهو يعني البيع من الأبواب المحتاج إليها، ففي القبس: البيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام العالم؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان محتاجا للغذاء مفتقرا للنساء، وخلق له ما في الأرض جميعا، كما أخبر في كتابه، ولم يتركه سدى يتصرف باختياره كيف شاء، فيجب على كل أحد أن يتعلم ما يحتاج إليه، فإن كل مكلف يجب عليه أن لا يفعل شيئا حتى يعلم حكم

الله فيه. انتهى. وقول بعضهم: يكفي ربع العبادات، ليس بشيء؛ إذ لا يخلو مكلف غالبا من بيع أو

شراء، فإن فعل متفقا على تحريمه من غير علم أثم من جهتي القدوم والفعل، فإن كان مختلفا فيه،

فقال القرافي: هل نؤثمه بناء على التحريم أو لا بناء على التحليل؟ لم أر لأصحابنا فيه نصا. وكان عز

الدين بن عبد السلام يقول: إنه آثم من جهة أنه قدم غير عالم. انتهى. قوله: فقال القرافي: هل نؤثمه

ص: 1

لخ، قال بناني: الظاهر أن تردد القرافي إنما هو من جهة الفعل، وأما إثمه من جهة الإقدام فلا إشكال فيه كما نقله عن عز الدين. والله أعلم. وقوله: وقول بعضهم يكفي ربع العبادات.

اعلم أن أصل العلوم أربعة، الأول: ربع العبادات، ويشتمل على كل ما يرجع إلى التعبد، كتعليم الفقه في باب الصلاة والزكاة والصيام والحج، ومعرفة عقائد الدين والأذكار، وغير ذلك، والربع الثاني: ربع العادات، وهو كل ما يرجع إلى مصلحة الجسد، كالأدب والأكل والشراب، ومعرفة وجوه الكسب من الحلال والحرام والبياعات، وما يتعلق بها. والربع الثالث: ربع المهلكات، وهو كل خلق مذموم شرعا، كالكبر والحسد والعجب والغضب والسرقة، كما لا ينحصر. والربع الرابع: وبه يتم الكلام، هو: ربع المنجيات، وهو كل خلق محمود شرعا: كالخوف من الله تعالى والزهد في الدنيا والمحبة له، كما لا ينحصر، نقلته من خط من عزاه للقرافي، مفسرا به هذا المحل من الخرشي. وفي الشادلي: أن الفقه أربعة أرباع، ربع العبادات، وربع العادات، وربع الجنايات، وربع الأقضية والشهادات. انتهى. وفي شرح عبد الباقي: وحكمه؛ يعني البيع الجواز، لقوله تعالى:{وأحل الله البيع وحرم الربوا} . ولخبر أحمد والطبراني: (أفضل الكسب بيع مبرور وعمل الرجل بيده

(1)

) وقد يعرض وجوبه لمضطر لشراء طعام أو شراب، وندبه كمن أقسم على إنسان أن يبيع سلعة لا ضرورة عليه في بيعها؛ لأن ابرار القسم مندوب في مثل ذلك، والكَرَاهةُ كبيع هر أو سبع لا لأخذ الجلد، وَالتَّحرِيمُ كالبيوع المنهي عنها. قال الرهوني: قال الحطاب: البيع المبرور الذي بر صاحبه فلم يعص الله فيه ولا به ولا معه. قاله الشيخ زروق. والذي يقتضيه الوضع اللغوي أن مَعْنَى لم يعص الله فيه، لم يجعله ظرفا للمعصية، فإذا جعله ظرفا لها فليس بيعه بمبرور، وذلك بأن تكون المعصية متعلقة بالبيع، ومَعْنَى لم يعص الله به، لم يجعله آلة للمعصية، فإن كان آلة لها فليس بمبرور، وذلك أن تكون المعصية وقعت بنفس البيع، كبيع الإنسان مال غيره بغير إذنه مثلا، ومعنى لم يعص الله معه، أنه لم تقع معصية مصاحبة له وقت وقوعه خارجة عنه، والله أعلم. ومثل هذا الحديث في الدلالة على فضل البيع ما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق مع النبيئين

(1)

الكنز، رقم الحديث 9195.

ص: 2

والصديقين والشهداء يوم القيامة

(1)

). ذكره عبد الحق. وكما دل هذان الحديثان على مدح الصدق والبر في التجارة دل غيرهما على ذم ضد ذلك، فقد أخرج الترمذي عن رفاعة بن رافع: أنه خرح مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون، فقال: (يا معشر التجار- فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم، فقال- إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق

(2)

). قال: حديث حسن صحيح.

فائدة: أخرج البزار عن سلمان الفارسي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته

(3)

). وهذا الحديث يفيد أن السوق مؤنثة، وفي المصباح ما نصه: والسوق يذكر ويؤنث، وقال أبو إسحاق: والسوق التي يباع فيها مؤنثة وهي أفصح وأصح، وتصغيرها سويقة، وقال في القاموس: والسوق معروفة ويذكر. انتهى. وقال عبد الباقي: ومن إطلاق البيع على الشراء خبر: (إلا يبع أحدكم على بيع أخيه

(4)

)؛ أي لا يشتر على شرائه؛ لأن النهي إنما وقع على المشتري، كما يدل عليه لفظ: أحدكم وأخيه، لا على البائع. انتهى. وما ذكر من إطلاق البيع على الشراء في الحديث هو الذي نقله الباجي عن ابن حبيب وأبي عبيد قائلا: ليس للحديث وجه غير هذا عندي؛ لأن البائع لا يكاد يدخل على البائع، وإنما المعروف أن يزيد المشتري على المشتري. قال الباجي: وعندي أنه يحمل اللفظ على ظاهره، فيمنع البائع أيضا من أن يبيع على بيع أخيه إذا كان قد ركن المشتري إليه، ووافقه في ثمن سلعته، ولم يبق إلا إتمام العقد، فيأتي من يصرفه عن ذلك بأن يعرض عليه على غير وجه الإرخاص عليه، وإنما حمل ابن حبيب على ما قاله لأن الإرخاص مستحب مشروع، فإذا أتى من يبيع بأرخص من بيع الأول فلا منع في ذلك عنده. والله أعلم. ولا فرق بين المسلم والذمي، ولفظ الأخ في الحديث خرج مخرح الغالب قاله ابن حجر. وقول عبد الباقي: كما يدل عليه لفظ، أحدكم وأخيه، لا دلالة في

(1)

الدارقطني، ج 3 ص 7. الترمذي، رقم الحديث 1209.

(2)

الترمذي، رقم الحديث 1210.

(3)

مجمع الزوائد، ج 4 ص 79.

(4)

صحيح البخاري، رقم الحديث 2139.

ص: 3

لفظ أحدكم ولا في لفظ أخيه على أن البيع في الحديث بمعنى الشراء، ورجح الرهوني كون البيع بمعنى الاشتراء في الحديث بوجوه، منها: ما وقع من الزيادة في حديث ابن عمر، فقد أخرجه النسائي بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يبع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر. وأخرجه الدارقطني كذلك، وزاد إلا الغنائم والمواريث فدل: حتى يبتاع أو يذر، على أن معنى لا يبع لا يشتر، وكذا إلا الغنائم والمواريث كما يظهر بأدنى تأمل. وَمِنْهَا: أنه جزم بذلك غير واحد من الأئمة مع كونه مرويا عن الإمام في الموطإ. ومنها: أن حمل البيع على ظاهره يحتاج معه إلى التقييد بأن لا يقصد بذلك الإرخاص، وإلا فلا نهي، بل هو إذ ذاك مستحب، وما لا يحتاج إلى تقييد أولى مما يحتاج إلى تقييد. ثم قال: فتحصل أن ما جزم به الحطاب ومن تبعه هو الراجح. انتهى. قال عبد الباقي وغيره: وحكمة مشروعيته التوصل إلى ما في يد الغير على وجه الرضا، وذلك يفضي إلى عدم المنازعة والمقاتلة والسرقة والخيانة والحيل المكروهة. وقال الحطاب: يقال: باع الشيء يبوعه بوعا إذا قاسه بالباع وهو قدر مد اليدين. قاله في الصحاح: وهذا واوي العين، والبيع ياءي العين، وأبعت الشيء عرضته للبيع، ويقال: بايعته من البيع والبيعة، والبيع يطلق على الإخراج والإدخال، وكذلك الشراء وخبر: لا يبع أحدكم على بيع أخيه. أي لا يشتر على شرائه. انتهى. وقد مر تفسير البيع لغة، وأما معناه شرعا فقال ابن عرفة: البيع الأعم عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، فتخرج الإجارة والكراء والنكاح، وتدخل هبة الثواب والصرف والمراطلة والسلم، والغالب عرفا أخص منه بزيادة: ذو مكايسة، أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة، معين فيه غير العين، فتخرج الأربعة. انتهى بلفظه. قاله الشيخ أبو علي. قوله: بزيادة أي إذا أردت تعريف الأخص فقل فيه ما قيل في الأعم، وتزيد ما ذكره من قوله: ذو مكايسة، بأن تقول: البيع الأخص عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، ذو مكايسة أحد عوضيه لخ، وحاصل ما لابن عرفة: أن البيع في الشرع يطلق على معنى أعم ومعنى أخص، والأخص أكثر استعمالا من الأعم عند أهل الشرع، وقوله: عقد معاوضة، خرج به نحو الهبة والصدقة، وقوله: على غير منافع، أخرج به ما ذكره في نفس حده، وتدخل فيه الأربعة المذكورة

ص: 4

في الحد نفسه، كما بينه هو بنفسه، وتدخل المبادلة والإقالة والتولية والشركة في المشتري، والقسمة على القول بأنها بيع، والشركة في الأموال والأخذ بالشفعة، وأما الشفعة فاستحقاق، ويدخل التصيير، وقوله: معين فيه غير العين، هو نعت للفظ عقد، وضمير: فيه، عائد على عقد؛ وقوله: غير العين، هو نائب عن الفاعل لمعين، وفيه، متعلق بمعين؛ وقوله: ولا متعة لذة، هو من إضافة الأعم إلى الأخص؛ إذ التمتع يكون بالجاه مثلا، وبالأكل فهو يكون بالمحسوس وبالمعنوي، ولا كذلك التلذذ إذ إنما يكون بالمحسوس؛ وقوله: معين فيه غير العين، معناه أن البيع إذا وجد في عقدته عين، وغير عين أو لم يكن في عقدته إلا غير العين، فإن غير العين في الصورتين يكون معينا شخصيا لا كليا، كما إذا باع ثوبا بعينه بدراهم فالثوب معين وهو غير العين، وكذا بغل بعينه بثوب بعينه؛ إذ يصدق عليهما غير العين في الصورتين، ولو كان هذا الغير غائبا فإنه معين أيضا، كما إذا اشترى بدراهم عبدا غائبا، فإن لم يكن هذا الغير معينا، كما لو باع دراهم بعرض في الذمة: أو باع عرضا معينا بعرض في الذمة، فالعقدة سَلَمٌ في الصورتين، وظاهر كلامه أن العين إذا عينت كقوله لغيره: أشتري بهذه الدراهم الحاضرة المعينة منك عبدك الفلاني، فذلك بيع؛ لأن الدراهم لا تتعين بدليل قولها: لو كان رأس المال عرضا يكال أو يوزن أو يعد أو طعاما أسلم في عرض، فأقاله لم يكن لك إلا ذلك بعينه؛ لأن ذلك يباع لعينه، والدراهم لا تباع لعينها، فإن أسلمت إليه دراهم في طعام أو غيره، ثم أقالك بعد التفرق ودراهمك في يده، فأراد أن يعطيك غيرها مثلها فذلك له وإن كرهت، اشترطت استرجاعها بعينها أم لا. انتهى. انظر شرح الشيخ أبي علي. وقوله: غير العين: المراد بالعين في كلام ابن عرفة المسكوك من الدنانير والدراهم إذ ذاك هو العين عند هذا الشيخ كما في الرصَّاع، وعلى ما لابن عرفة يكون من دفع ثوبا في معلوم قدرٍ ذهبٍ أو فضةٍ لأجَلٍ؛ عقدته عقدة سلم، بخلاف ما لودفعه في دنانير لأجل فإن ذلك بيع لا سلم. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: والظاهر أن هذا فرق من جهة الاصطلاح فقط، لا من جهة ما يترتب من الأحكام، كما يفيد ذلك الرهوني. والله سبحانه أعلم. وقوله: ذو مكايسة، يخرح الهبة للثواب إذ الكايسة هي المغالبة، وهي يقضى فيها على الواهب بقبول ما يباع به الموهوب وإن لم يرض، فلا مغالبة، ويخرج الصرف والمراطلة بقوله: أحد عوضيه غير ذهب ولا فضة، وكذا المبادلة،

ص: 5

ويخرج السلم بقوله: معين فيه غير العين، ويرد على حد ابن عرفة الإقالة بزيادة أو نقص؛ أي لقوله: إن الإقالة تدخل في الأعم، ثم عرف الأخص بعد ذلك. انظر الحطاب. ولم يعرف المؤلف البيع بل أشار إلى ما ينعقد به بقوله:

ينعقد البيع بما يدل على الرضى؛ يعني أن البيع ينعقد أي يحصل وتوجد حقيقته بسبب ما يدل على رضي المتبايعين من قول من الجانبين، أو قول من أحدهما وفعل من الآخر، أو فعل منهما كما بالغ عليه بقوله: وإن بمعاطاة أي ينعقد بما يدل على الرضى وإن حصل الرضا بمعاطاة من الجانبين. قال عبد الباقي مفسرا للمص: ينعقد أي يحصل البيع؛ إذ هو عقد معاوضة كما مر، فلا معنى لانعقاد العقد، ولا يفسر بيصح أو يلزم لأنه قد يحصل البيع أي العقد المذكور ولا يصح ولا يلزم، ولا يفسر أيضا بيوجد عقده لما فيه من إضافة الشيء إلى نفسه، وأشار المص إلى أن أركانه ثلاثة العاقد، ويشمل البائع والمشتري. والمعقود عليه: ويشمل الثمن والمثمن. والصيغة: وبدأ بها لقصر الكلام عليها فقال: بما يدل على الرضا، من العاقدين قولا من الجانبين أو فعلا منهما أو من أحدهما، وبالغ بقوله: وإن بمعاطاة، المقتضية للفعل من الجانبين لأنها هي محل الخلاف بيننا وبين الشافعية، ويفهم منه حكمه من أحدهما، وسيصرح به بقوله "وبابتعت وبعتك ويرضى الآخر فيهما" وقوله: وإن بمعاطاة، خلافا لقول الشافعي: لا بد من القول مطلقا، ولأبي حنيفة في غير المحقورات، واختاره النووي، واستحسنه ابن عمار المالكي. وقوله: وإن بمعاطاة، الباء للسببية؛ أي وإن حصل الرضا بسبب معاطاة أو وإن كانت الدلالة على الرضا بمعاطاة. قال الأجهوري تبعا للحطاب: بيع المعاطاة العاري عن اللفظ من الجانبين يتوقف اللزوم فيه على قبض الثمن والثمن، وأما أصل وجود العقد فلا يتوقف على ذلك. انتهى. وذكره غيرهما. نقله الشيخ أبو علي. وقال بعد كلام:

وحَاصِلُ ما تقدم إن كان عرف عمل عليه، وإن لم يكن عرف وحصل التقابض من الجانبين فلا إشكال في اللزوم، وإن حصل من أحد البائعين إعطاء والآخر لم يعط فمن لم يعط فلا إشكال في

ص: 6

عدم البيع من ناحيته فضلا عن لزومه، والمعطي الظاهر لزوم البيع من ناحيته لأن إعطاءه بمنزلة قول أحد المتبايعين: بعتك، وهذا هو الظاهر من كلام الشاطبي. انتهى. وقال عبد الباقي: فإن حصل قبض في أحد العوضين فقط فالبيع صحيح، وإلا كان أكله فيه غير حلال ولكن لا يلزم، فمن أخذ ما علم ثمنه كرغيف ولم يدفع الثمن، فله رده وله أخذ بدله بعد قبضه وقبل دفع الثمن، وليس فيه بيع طعام بطعام لما علمت أنها منحلة قبل القبض من الجانبين. انتهى.

قوله: فالبيع صحيح لخ، قال بناني: محل الصحة حيث وجد من الآخر ما يدل على الرضا، وإلا لم ينعقد البيع بينهما، وأكله غير حلال. ابن عرفة: بياعات زماننا في الأسواق إنما هي بالمعاطاة، فهي منحلة قبل قبض المبيع، ولا يعقدونها بالإيجاب والقبول اللفظيين، وقول المص: ينعقد البيع، أراد به المعنى الأعم بدليل ذكره فيه الصرف والمراطلة والإشارة كالنطق، كانت من غير أخرس أو من أخرس إلا أن يكون أعمى فتمنع معاملته لتعذر الإشارة منه. قاله عبد الباقي عن القرافي. قال بناني: إنما تتعذر من الأعمى الأصم كما في الوثائق المجموعة، فيقيد كلام القرافي بكون الأخرس الأعمى أصم قال عبد الباقي:

فروع: الأول: يجوز لشخص شراء سلعة لا يعلم صحة ملك بائعها ولا عدمه، فإن استحقت رجع بثمنها، وأما ما علم صحة ملك بائعها فيجوز شراؤها بالأولى، ولكن إن استحقت من مبتاعها لم يرجع بثمنها كما يذكره المص، وأفي ما علم عدم صحة ملك بائعها فلا يجوز شراؤها، ولكن له الرجوع بالثمن إذا استحقت من يده، نظرا لسبق ظلم البائع بيعه

(1)

ما ليس في ملكه، فهو أحق بالحمل عليه، ولم ينظر لعلم المشتري بعدم ملك البائع لتأخره عن البائع، قوله: ولكن إن استحقت من مبتاعها لخ، قال بناني: هذا على ما فيه من الخلاف كما يأتي مقيد بما إذا لم تتضمن الوثيقة عهدة الإسلام في درك العيب والاستحقاق، وإلا ارتفع الخلاف وثبت الرجوع. قاله ابن الهندي. انتهى.

(1)

كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 5 ص 4 لبيعه

ص: 7

الثاني: لشخص أيضا أن يشتري وقت السعة قوت سنة أو أكثر لا بوقت الضيق، فإنما يشتري ما لا يضيق على غيره كقوت شهر أو أيام، فإن اشترى ما يضيق أو اشترى كثيرا وقت السعة، تم حصل للناس ضرر، وجب عليه بيع ما زاد على قوته وقوت من تلزمه نفقته إن خيف بحبسه إتلاف المهج باتفاق الباجي والقرطبي وابن رشد، فإن مسّت الحاجة ولم يكن الخوف المذكور بل دونه وجب عند ابن رشد، وقال الباجي: لا، واتفق على جواز احتكار غير الطعام كصوف وكتان حيث لا ضرر على الناس في احتكاره، وفي الطعام خلاف، قوله: وجب عليه بيع ما زاد على قوته لخ، أما من اشترى ما يضيق على الناس فإنه يؤخذ منه بالسعر الذي اشتراه به، وأما من اشتراه وقت السعة فإنه يؤخذ بسعر وقته، كما في الحطاب عن القرطبي. وقوله: وفي الطعام خلاف: قال المازري: قال ابن القاسم وابن وهب: سئل مالك عن التربص بالطعام وغيره رجاء الغلاء؟ قال: ما سمعت فيه بنهي، ولا أرى بأسا أن يحبس إذا شاء، ويبيع إذا شاء، ويخرجه إلى بلد آخر. وقال ابن العربي في العارضة: إذا كثر الجالبون للطعام وكانوا إن لم يشتر منهم ردوه كانت الحكرة مستحبة. انتهى. ونحوه للخمي. قاله بناني. وقال الرهوني: قوله: يجوز لشخص أيضا أن يشتري قوت سنة، يدل عليه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة من فعله عليه الصلاة والسلام. وقوله: وفي الطعام خلاف، يقتضي أن الخلاف لم يعتمد منه شيء وليس كذلك، بل الجواز هو المشهور ومذهب المدونة، ثم نقل عن ابن رشد: أنه لا خلاف أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة في وقت يضر احتكاره بالناس. وأما في وقت لا يضر احتكارها فيه بالناس ففيه أربعة أقوال.

أحَدُهَا: إجازة احتكارها كلها: القمح والشعير وسائر الأطعمة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: المنع من احتكارها جملة من غير تفصيل، للآثار الواردة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحتكر إلا خاطئ، وهو مذهب مطرف وابن الماجشون. والثالث: إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير، وهو دليل رواية أشهب عن مالك في رسم البيوع الأول من

ص: 8

كتاب جامع البيوع. والرَّابعُ: المنع من احتكارها ما عدا الأدم والفواكه والسمن والعسل والتين والزبيب وشبه ذلك. وقال مالك فيمن احتكر في وقت يضر بالناس: اشترك فيه أهل السوق بالثمن الذي اشتراه به، وإن لم يعلم سعره فبسعره يوم اشتراه، وأرى إذا طال أمد ذلك أن يمضي ولا يرد. انتهى. وهو أتم مما مر عن بناني. والله سبحانه أعلم. وقال الرهوني: وهذا التفصيل مبني على المشهور، وأما على القول بالمنع مطلقا فإنه يباع عليه بالثمن الذي اشتراه به مطلقا. وفي سماع ابن القاسم: إذا غلا الطعام واحتيج إليه وبالبلد طعام فلا بأس أن يأمر الإمام أهل الطعام بإخراجه للناس. ابن رشد: مثله في الموازية، وهوأمر لا أعلم فيه خلافا؛ لأن هذا وشبهه مما يجب الحكم فيه للعامة على الخاصة، كالنهي عن بيع حاضر لباد، وتلقي السلع حتى يهبط بها الأسواق. الباجي: من معه طعام زراعة وجلبه لم يمنع من احتكاره كان في ذلك ضرورة أو غيرها، قال محمد عن مالك: يبيع هذا متى شاء ويمسك متى شاء ولو بالمدينة، وأما من صار إليه طعام بابتياع في وقت سعة ورخاء ثم لحق الناس شدة، قال محمد: قيل لمالك: إن كان الغلاء الشديد وعند الناس طعام مخزون يباع عليهم؟ قال: ما سمعته، وقال في موضع آخر: لا بأس أن يأمر الإمام بإخراجه إلى السوق. ابن عرفة: ظاهر العتبية وقول ابن رشد: أنه إذا وقعت الشدة أمر أهل الطعام بإخراجه مطلقا كان زراعة أو غيرها، خلاف ما نقله الباجي. وقال الرهوني: المتعين عندي في فهم ما نقله الباجي وابن يونس عن الموازية وسلماه أن ذلك حيث لا يؤدي عدم إخراجه إلى هلاك النفوس، وإلا فيتعين إخراج ذلك، وقد جزم القرطبي بذلك في الطعام المجلوب، ونقله مقتصرا عليه كأنه المذهب، ولم يحك فيه خلافا. فتأمله بإنصاف. والله أعلم. وإذا اشترى ليبيع في الحين فليس باحتكاره وإنما ذلك إذا اشتراه ليدخره رجاء الزيادة. واعلم أن دخول السوق لا يزري بأهل الهيئات ولا يحط من مرتبتهم، فقد كان عمر رضي الله عنه يدخل السوق ويكفي في هذا من الحجة قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} ردا لقول المشركين {{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} .

ص: 9

الفَرْعُ الثَّالِثُ من فروع عبد الباقي: لا يقبل البيع تعليقا إلا في مسألة، وهي من اشترى شيئا عرضا أو حيوانا أو عقارا كما في الناصر اللقاني وطلب البائع الإقالة، فقال له المشتري: أخاف أن تبيعه لغيري، فقال: إن أو إذا بعته لغيرك فهو لك بالثمن الأول أو بالذي أبيعه به فأقاله المشتري، فإذا باعه البائع لغيره فهو له إن باعه بالقرب كيوم ونحوه قياسا على القرب في بيع الثنيا، كذا استظهره علي الأجهوري، وفي نقل الشيخ سالم عن الناصر اللقاني أن القرب أن يبيعها في زمن فيه التهمة، والبعد أن يبيعها بزمان تنقطع فيه التهمة، لا إن بعد هذا إن أتى بإذا أو إن كما قررنا، فإن أتى بمتى فله أخذه إن شاء ولو بعد إن باعه بالثمن الأول، وكذا بغيره إن علمه المقيل لا قبل علمه به ليلا يلزم جهل الثمن.

ومسائل التعليق ثلاث: الأولى تعليق البيع وهذا لا ينعقد به إلا في المسألة السابقة، وكذا لا ينعقد به النكاح. قال علي الأجهوري:

لا يقبل التعليق بيع ونكاح

فلا يصح بعت ذا إن جا فلاح

أي أن ذلك ليس بعقد لا حالا ولا مئالا. الثَّانِيَةُ: تعليق لزومه كأبيعك بشرط أن لا ينعقد، صوابه: أن لا يلزم البيع إلا بدفع الثمن، وهذه جائزة معمول بها كما لأبي الحسن على المدونة. الثَّالثَة: أن ينعقد البيع بينهما، ثم يقول البائع: إن لم تأت بالثمن لوقت كذا فلا بيع بيننا، فهذا يبطل الشرط ويجوز البيع كما يأتي للمص في قوله: أو إن لم تأت بالثمن لكذا فلا بيع. انتهى. قوله: إلا في مسألة وهي من اشترى لخ: هذا الذي ذكره من جواز الإقالة على شرط إن باعه للغير فهو للمقيل بالثمن هو قول مالك في سماع أشهب: وقال ابن رشد: الذي يوجبه القياس والنظر عندي أنه لا فرق في هذا بين الإقالة والبيع. وأنه إذا أقاله أو باعه على أنه متى باعه من غيره فهو أحق به أن ذلك لا يجوز؛ لأن فيلا إبطالا لحق المشتري وظلما له في أن يأخذ منه في ابتاعه دون حق. انتهى. وصرح البرزلي نقلا عن المازري بأن هذا هو المشهور؛ لأن الإقالة بيع والشرط المذكور يفسد البيع لما فيه من التحجير، فإن نزلت فسخت الإقالة ما لم تفت. نقله الحطاب عند قول المص الآتي: والإقالة بيع لخ، وقول الزرقاني: وفي نقل الشيخ سالم لخ: ما

ص: 10

ذكره هو الذي في المتيطى إذ قال: والمراد بالطول ما تنقطع فيه التهمة عن البائع ويظهر منه حدوث رغبة في البيع. انتهى. فما استظهره علي الأجهوري من خلافه لا يعتد به.

وببعني فيقولَ بعت، هذا داخل في حيز المبالغة؛ يعني أن البيع ينعقد بما يدل على رضي المتبايعين وإن حصل ذلك بقول المشتري للبائع: بعني سلعتك هذه، فيقول البائع: بعتكها أو نحوه مما يدل على الرضا، فالبيع يصح بتقديم القبول على الإيجاب، كقول المص: وببعني فيقول بعت، خلافا للشافعي، فهو معطوف على قوله بمعاطاة، وظاهره لزوم المشتري الشراء ولو قال: لا أرضى. قال عبد الباقي: وهو قول مالك في كتاب محمد، وقول ابن القاسم وعيسى بن دينار، واختاره ابن المواز، لكنه خلاف قول ابن القاسم في المدونة: إنه إنما يلزمه الشراء إن استمر على الرضا به أو خالف ولم يحلف، فإن حلف لم يلزمه، فتساوي هذه المسألة مسألة التسوق الآتية، بل الحلف في هذه أولى من الآتية؛ لأن دلالة المضارع في الآتية على البيع والشراء أقوى من دلالة الأمر في هذه عليه، ومثل قوله: بعني لخ، قول البائع اشتر مني سلعة كذا أو خذها، فيقول: اشتريت، فلو قال: وكبعني، لشمل ذلك، ويجاب بأنه تبع لفظ المدونة في قوله: بعني، فقط لا فيه وفي قوله: بعت؛ لأن الذي فيها فيفعل وهو شامل للفظ بعت وغيره. انتهى. قوله ولكنه خلاف قول ابن القاسم في المدونة لخ، من المعلوم أن قول ابن القاسم في المدونة مقدم على قوله في غيرها وعلى قول غيره في غيرها، لكن لما كان ابن القاسم في المدونة استند في هذه المسألة للقياس على مسألة التسوق وكان قياسه مطعونا فيه اعتمد المص البحث فيه فجزم باللزوم ولو رجع المشتري وحلف وهو المعتمد، وقول الزرقاني: بل الحلف فيه أولى من الآتية لخ، فيه نظر، فإن دلالة الأمر على الرضا أقوى من دلالة المضارع عليه؛ لأن صيغة الأمر تدل على الإيجاب، كما في أبي الحسن وغيره، ويفيده كلام التوضيح وابن عرفة وغيرهما، فهو يدل عليه عوفا وإن كان في أصل اللغة يحتمل. انظر الحطاب. قاله بناني. وقوله: فيقول، هو بالنصب؛ وقوله، وببعني لخ.

ص: 11

تنبيه: قال أبو علي: قال أبو حنيفة والشافعي: لا ينعقد حتى يقول المبتاع بعدُ: اشتريت، وقول المص: وببعني، البيع لازم ولو قال الطالب للبيع: لا أرضى، وهذا هو الذي رجحه الشيوخ كما في نقول الحطاب وغيره، ومثل بعني قول المالك للسلعة اشتر مني أو خذ مني، فإن البيع لازم كما نص على ذلك ابن رشد ونقله الحطاب.

وبابتعت أو بعتك ويرضى الآخر فيهما. هذا أيضا داخل في حيز المبالغة؛ يعني أن البيع ينعقد بما يدل على الرضا، وإن كان ما يدل على الرضى قول المشتري: ابتعت هذه السلعة بكذا، ويرضى البائع بقول أو فعل أو إشارة، أو كان ما يدل على الرضا، قول البائع بعتك هذه السلعة، ويحصل من المشتري: ما يدل على رضاه من قول أو فعل أو إشارة؛ صرح بهذا الحطاب وأبو علي؛ أي بأن قوله: وبابتعت لخ: معطوف على ما في حيز المبالغة؛ قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: رد بالمبالغة في بعني وابتعت في يقوله بعض الشافعية: لا بد أن يتقدم ما يدل على الإيجاب على ما يدل على الرضا، وفي المعاطاة قول الشافعي وما قبل المبالغة في بعت على هذا حيث حصل القول والفعل من كل واحد منهما. والله سبحانه أعلم. قال الشيخ أبو علي: وظاهر كلام المص أن البيع في هاتين الصورتين يلزم المتكلم أولا ولو قال للآخر بعد أن أجابه صاحبه بما يدل على الرضا: ما أردت الشراء أو ما أردت البيع وإنما كنت مازحا أوأردت اختبار ثمن السلعة أو نحو ذلك وهو كذلك. انتهى. والضمير في قوله: فيهما، راجع للمسألتين أي مسألة ابتعت ومسألة بعتك. قال الحطاب: وظاهر كلام المص أن البيع في هاتين الصورتين ينعقد ويلزم المتكلم أولا، ولو قال الآخر بعد أن أجابه صاحبه بما يدل على الرضا: ما أردت الشراء أو ما أردت البيع، وإنما كنت مازحا، أو أردت اختبار ثمن السلعة أو نحو ذلك، وهو كذلك على ما نقل ابن أبي زمنين في مقربه ومنتخبه عن ابن القاسم في هاتين المسألتين والمسألتين اللتين بعدهما الآتيتين في كلام المص، من التفرقة بين أن تكون الصيغة بلفظ الماضي أو المضارع. انتهى.

تنبيه: قال ابن عرفة: موجب لزوم البيع لأول المتعاقدين قرب قبول الآخر. ابن رشد: لو قال: أبيعك سلعتي بعشرة إن شئت، فلم يقل: أخذت، حتى انقضى المجلس لم يكن له شيء اتفاقا. وفي القبس: الإيجاب على الفور عند الشافعي؛ وقيل: يجوز اليسير من الزمان، وقيل: الكثير،

ص: 12

ومقتضى الدليل جواز تأخيره لما لا يبطل كونه جوابا. نقله الرهوني. ونقل عن الحطاب: والذي تحصل عندي من كلام أهل المذهب أنه إذا أجابه في المجلس بما يقتضي الإمضاء والقبول من غير فاصل لزم البيع اتفاقا، وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزمه البيع اتفاقا، وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض حتى لا يكون جوابه جوابا للكلام السابق، ولا يشترط أن لا يحصل بين الإيجاب والقبول فصل بكلام أجنبي عن العقد ولو كان يسيرا، كما يقوله الشافعية، وهذا التفصيل المذكور كله في بيع المساومة.

وأما بيع المزايدة فقال الحطاب بعد كلام: فتحصل من كلام ابن رشد والمازري وابن عرفة في بيع المزايدة أن كل من زاد في السلعة فلربها أن يلزمه إياها بما زاد، إلا أن يسترد البائع سلعته ويبيع بعده أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة، إلا أن يكون العرف اللزوم بعد الافتراق أو يشترط ذلك، فيلزم المشتري البيع بعد الافتراق في مسألة العرف بمقدار ما جرى به العرف، وفي مسألة الشرط في الأيام المشترطة وبعدها بقرب ذلك، على مذهب المدونة، فإن شرط المشتري أنه لا يلزم البيع إلا ما دام في المجلس فله شرطه ولو كان العرف بخلافه. انتهى. قال الرهوني: وظاهر قوله: في مسألة الشرط في الأيام المشترطة لخ، سواء كانت الأيام قليلة أو كثيرة، والظاهر أنه يتعين أن تكون تلك الأيام مقدار الأيام التي يجوز أن تباع تلك السلعة إليها بخيار، وإلا كان البيع فاسدا. انتهى. وقال الحطاب: وتحصل أيضا أن بيع المزايدة يلزم كل من زاد في السلعة ولو زاد غيره خلافا للإبياني، وقد جرى العرف في مكة وكثير من البلاد على ما قال الإبياني، وظاهر ما تقدم عن ابن رشد أن لربها أن يلزمها كل من زاد ولو كان العرف بخلاف، وجرت العادة أيضا بمكة أن من رجع بعد الزيادة لا يلزمه شيء ما دام في المجلس وهذا والله أعلم مبني على القول بخيار المجلس، كما هو مذهب الشافعي. والله أعلم.

وحلف وإلا لزم إن قال أبيعكها بكذا، هذه إحدى ثلاث مسائل يلزم صاحبها البيع إن لم يحلف فإن حلف لم يلزمه، ومعنى كلامه أن من قال لشخص: أبيعك سلعتي بكذا، فرضي المشتري، ثم قال البائع: لا أرضى، فإن البائع أي القائل: أبيعكها بكذا، يحلف أنه ما أراد البيع، فإن

ص: 13

حلف لم يلزمه البيع، وإن لم يحلف لزمه البيع، ومحل الحلف حيث قال بعد رضي المشتري: لا أرضى، وأما لو قال قبل رضي المشتري: لا أرضى، فله الرد ولا يمين؛ وأما ما لابن رشد من أنه إذا رجع أحد المتبايعين عما أوجبه لصاحبه قبل أن يجيبه الآخر لم يفده رجوعه إذا أجابه صاحبه بعد بالقبول، فإنه في صيغة يلزم بها الإيجاب أو القبول كصيغة ماض، وما للمص هنا صيغة مضارع، فإن أتى أحدهما بصيغة فيض ورجع قبل رضي الآخر لم ينفعه رجوعه، كما إذا أتيا بصيغة ماض، ومحله أيضا إن لم تقم قرينة على البيع أو عدمه وإلا عمل عليها من غير حلف، وأشار للثانية بقوله:

أو أنا أشتريها به؛ يعني أنه إذا قال: أنا أشتري سلعتك بكذا، فرضى الآخر، ثم قال: لا أرضى ولم أرد الشراء بقولي: أنا أشتريها بكذا، وإنما أردت الوعد مثلا، فإنه يحلف المشتري أي القائل أنا أشتريها به أنه لم يرد الشراء بما قال، فإن حلف لم يلزمه الشراء، وإن نكل لزمه، ومحل الحلف حيث قال بعد رضي البائع: لا أرضى. وأما لو قال قبل رضاه: لا أرضى فله الرد ولا يمين عليه، ومحله أيضا إن لم تقم قرينة على الشراء أو عدمه وإلا عمل عليها من غير حلف، مثال القرينة ما إذا أشهد قبل السوم أنه يريد كذا مثلا. والله أعلم. وأشار للثالثة بقوله: أو تسوق بها فقال: بكم؟ فقال: بمائة. فقال: أخذتها؛ يعني أنه إذا تسوق شخص بسلعة أي أوقفها في السوق المعد لها لبيعها كالإبل في رميل مصر، فقال له شخص: بكم؟ فقال: بمائة، فقال: أخذتها، فقال المتسوق: لا أرضى ولم أرد البيع بذلك، فإنه أي المتسوق يحلف أنه ما أراد البيع بذلك وإنما أراد الهزل أو اختبار ثمن سلعته مثلا، فإن حلف لم يلزمه البيع، وإن نكل لزمه، وقوله: وحلف وإلا لزم، هو في المسائل الثلاث كما عرفت، ويلزم البيع في المسائل الثلاث إن لم يحلف بلا رد يمين على الآخر لأنها يمين تهمة. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: ومعنى المسألة أن من أوقف سلعة في السوق للسوم فقال له شخص: بكم تبيعها؟ فقال صاحب السلعة: بمائة مثلا فقال المشتري: أخذتها بها، فقال صاحب السلعة: ما أردت البيع وإنما أردت اختبار ثمنها أو كنت لاعبا أو نحو ذلك. فإنه يحلف أنه في أراد إيجاب البيع، فإن حلف لم يلزمه البيع، وإن لم يحلف لزمه، وهذا قول مالك في كتاب الغرر من المدونة. قال فيها: يحلف

ص: 14

بالله ما ساومه على إيجاب البيع، وما ساومه إلا على كذا للأمر الذي يذكره، فإذا حلف لم يلزمه البيع وإن لم يحلف لزمه، ولمالك أيضا في أول رسم من سماع أشهب من كتاب البيوع: أن البيع يلزمه وليس له أن يأبى، وقال أبو بكر الأبهري: إن كان الذي سمى قدر قيمة السلعة أو كانت تباع بمثله لزمهما البيع، وإن كان لا يشبه أن يكون ذلك ثمنها حلف أنه لاعب ولم يلزمه. انتهى. وهذه الأقوال الثلاثة تجري في المسألتين اللتين قبل هذه أعني قوله: أبيعكها بكذا أو أنا أشتريها به، كما في الحطاب: وفاعل تسوق ضمير يعود على البائع، والضمير في بها يعود على السلعة، وفاعل قال الأول والثالث يعود على المشتري، وفاعل قال الثاني يعود على البائع، ولا بد من تقدير جملة بعد قوله: أخذتها، وهي فقال صاحبها: ما أردت البيع، ويدل على ذلك قوله: وحلف، وإلا لزم، وقد تقدم مثل ذلك في نظيرتها في تقرير المص. والله سبحانه أعلم. وقوله: أو تسوق بها لخ.

اعلم أن المسائل ثلاث، إحداها: منطوق المص فيها ثلاثة أقوال كما عرفت، قال ابن عرفة: ومن قال لمن وقف سلعة لبيع: بكم هي؟ فقال: بكذا، فقال: أخذتها به، فقال: لا أرضى، ففي لزوم البيع واقفها ولغوه إن حلف ما ساومه على الإيجاب، ثالثها إن كان الثمن قيمتها أو ما تباع به وإلا فالثاني، لسماع القرينين

(1)

ولها، ولابن رشد عن الأبهري. الثانية: مفهوم قوله: أو تسوق بها، وهي ما لو وجد شخص آخر في غير السوق والسلعة معه فإنه يحلف ولا يلزمه البيع باتفاق. الثالثة: مسألة النخاس وهي قول مالك فيمن أتى بعض النخاسين الذين يبيعون الرقيق والدواب فيماكسه في الدابة إلى أن يقول النخاس: هي بكذا، فيقول السائم: أذهب أستشير فيها، فيقول: نعم، فيأتي فيرضاها، فيقول البائع: بدا لي أن الذي كان بيننا إنما كان مساومة أو قد زيد عليك فبعتها من غيرك: يلزم النخاس البيع. والنخاس هو الدلال، ومسألة النخاس هذه خارجة عن الخلاف، فالحاصل أن منطوق المص فيها ثلاثة أقوال، ومفهومه يحلف ولا يلزم البيع باتفاق، ومسألة النخاس البيع فينها لازم للنخاس باتفاق، وقوله: أو تسوق بها لخ.

(1)

في الأصل القرويين والمثبت من الحطاب ج 5 ص 16 ط دار الرضوان.

ص: 15

اعلم أنه إن قامت قرينة على البيع فيلزم البيع كما إذا حصل تماكس وتردد بينهما أو سكت مدة ولا يمين، وإن قامت قرينة على عدم إرادة البيع فالقول للبائع بلا يمين، وهذا التفصيل لا فرق فيه بين الموقفة في السوق وغيرها، وإنما الفرق بينهما فيما إذا لم تقم قرينة على إرادة البيع ولا عدمه، فالموقوفة للسوق فيها الأقوال الثلاثة، وغير الموقوفة في السوق متفق على أن صاحبها يحلف وإلا لزمه البيع، قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: ومسألة النخاس لزم فيها البيع باتفاق لما فيها من التراجع والمماكسة. انظر الحطاب. والله سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: وانظر هل من القرينة على عدم إرادة البيع في إذا ذكر البائع ثمنا قليا، فيما تكثر قيمته كمائة وهي تساوي مائتين؟ فقال المشتري: آخذها بالمائة، فلا يحلف البائع وهو الظاهر أم لا، وأشعر كلام المص أن البيع منحل من جانب البائع لا من جانب المشتري؛ قوله: هل من القرينة لخ، ليس من القرينة بدليل مقابلة ما للمص بقول الأبهري المتقدم. والله سبحانه أعلم.

تنبيهات: الأول: قال البرزلي في نوازله: رجل قال في سلعته وقد عرضها: من أتاني بعشرة فهي له، فأتاه رجل بذلك إن سمع كلامه أو بلغه فهو لازم، وليس للبائع منعه، وإن لم يسمعه ولا بلغه فلا شيء له، ومثله في نوازل العيوب من العيار. قاله بناني.

الثاني: مثل هذه المسائل أعني قوله: وحلف وإلا لزم لخ، ما إذا قال المشتري: أتبيع سلعتك بكذا؟ فقال البائع: نعم، أو بعتكها، فقال المشتري: ما أردت الشراء، فإنه يحلف المشتري وإلا لزم؛ وكذا لو قال السائم: أنا آخذها بكذا وكذا، فقال البائع قد بعتكها بذلك، فقال السائم: لا آخذها بذلك، فهي كقوله: أنا أشتريها به، فيجري فيها الخلاف المتقدم ذكره، والقول الذي مشى عليه المص في المسائل الثلاث هو قول مالك وابن القاسم في كتاب الغرر من المدونة، وهو مذهب ابن الاسم وطريق فُتْيَاهُ. والله أعلم. قاله الحطاب. واعْلَمْ أن قول بعضهم: إن مسألة النخاس يجري فيها الخلاف المذكور غير صحيح.

الثالث: قال الحطاب تقدم أن معنى تسوق بها أوقفها في السوق، والظاهر أن المراد بالسوق سوق تلك السلعة، وأما سوق غيرها فحكمها حكم غير السوق. وكلام الباجي في المنتقى يدل على ذلك،

ص: 16

يعني: فيتفق في الموقوفة في سوق غير سوقها على أنه يحلف وإلا لزم، ويختلف في الموقوفة في سوقها المعد لها.

الرابع: قال الحطاب بعد جلب نقول: تحصل من هذا أن البائع إذا قال في مسألة السوم: لا أرضى لأني ما أردت البيع، يقبل قوله سواء تسوق بها أو لم يتسوق بها، وسواء قال: إنما أردت اختبار ثمن السلعة أو كنت لاعبا أو غير ذلك، ويحلف أنه ما أراد إلا ذلك، إلا أن يتبين صدق قوله بما تقدم من أن يكون أشهد قبل المساومة أنه إنما يريد كذا وكذا ولا يريد البيع، أو ما يدل على ذلك من قرائن الأحوال، وهذا إذا أنكر البيع مكانه من ساعته، وأما لو سكت بعد قول المشتري: أخذتها سكوتا يقتضي رضاه بالبيع، لم يقبل قوله، كما فهم ذلك من كلام ابن رشد؛ وكذلك إذا وقع بينه وبين المشتري تردد في المماكسة يقتضي رضاه بالبيع فيلزمه بلا خلاف، يعني كمسألة النخاس، وكذلك أيضا إذا وقع منه لفظ يقتضي الرضى بالبيع، كقوله: أذهب فأشتريها فإنه يلزمه كما تقدم عن ابن رشد، وكل هذا يجري أيضا في قول المشتري: أنا آخذها بكذا، أو أنا أشتريها بكذا، على ما اقتضاه كلام ابن رشد: ويجري أيضا في قول البائع إذ لا فرق بينهما؛ وكما يؤخذ من كلام ابن رشد.

الخامس: ذكر ابن راشد في المذهب أنه لو أقر النادي السلعة على التاجر وشاور صاحبها فأمره بالبيع ثم زاد غيره عليه فهي للأول. قاله الابياني. انتهى. قلت: ما ذكر عن الابياني هو في مذهب

(1)

السماسرة له، وزاد فيها فقال: وسواء ترك السمسار الثوب عند التاجر أو كان في يده وجاء به إلى ربه، فقال له ربه: بعه، ثم زاده فيه تاجر آخر إنه للأول، قال: وأما لو قال رب الثوب لمن شاوره: اعمل فيها برأيك، فرجع السمسار ونوى أن يبيعه من التاجر فزاده فيه تاجر آخر فإنه يعمل برأيه ويقبل الزيادة إن شاء ولا يلزم البيع بالنية. قلت: وهذا إذا

(2)

لم تحصل الزيادة إلا بعد مشاورة ربه وأمره السمسار بالبيع، وأما لو زاد فيه شخص قبل مشاورة رب

(1)

في الحطاب ج 5 ص 23 ط دار الرضوان: مسائل السماسرة.

(2)

ساقطة من الأصل، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 23 ط دار الرضوان.

ص: 17

السلعة فقد تقدم عن مالك من رواية ابن القاسم أنه يخبر رب السلعة بالزيادة وبمن زاد. قال ابن رشد: إنما استخف للرجل أن يزيد، وأجاز للوكيل أن يخبر رب السلعة بالزيادة، ولم ير ذلك من السوم على سوم أخيه؛ لأن النهي عن ذلك إنما هو مع الركون، وصاحب السلعة هنا غائب لا يعلم إن كان يميل إلى البيع بذلك الثمن أم لا. قاله الحطاب.

وقال بعد هذا الكلام، وبعد نقول كثيرة، وبعد ما ذكرته عنه في بيع المزايدة عند قوله: وبابتعت لخ: هذا حكم بيع المزايدة، وأما بيع الرابحة وهو أن يذكر له ثمن السلعة وما ضربه عليه، ويقول المشتري: أربحك في كل عشر كذا وكذا، فإذا رضي رب السلعة بذلك فقد لزم المشتري شراؤها إذا كان ذلك في فور، بحيث يكون كلام أحدهما جوابا للآخر ولم يحصل منهما إعراض عما كانا فيه، وأما بيع الاستيمان والاسترسال وهو أن تقول: بعني كما تبيع الناس، فإذا أعطاه البائع مثل ما يبيع الناس فقد لزمه البيع وليس له رجوع. هذا ما ظهر لي في بيع المرابحة وبيع الاستيمان. والله أعلم. انتهى. وبيع المساومة قد مر الكلام عليه، وفي شرح عبد الباقي: ما معناه أن بيع المساومة إن أجاب أحدهما الآخر بما يقتضي الإمضاء والقبول في المجلس من غير فاصل لزم البيع اتفاقا، وإن تراخى القبول عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لم يلزم البيع قطعا، وكذا لو حصل فاصل يقتضي الإعراض عما كانا فيه حتى لا يكون كلامه جوابا للكلام السابق في العرف فلا ينعقد البيع، وكذا يلزم في بيع المرابحة والمزايدة والاستيمان أي كبعني كما تبيع الناس مع الفور في الثلاثة كالأول، فإن أعرض البادي لم يلزم في الأربعة؛ يعني في غير ما يلزمه كصيغة الماضي، فإن انقضى المجلس لم يلزم فيها بيع إلا في بيع المزايدة، فللبائع أن يلزم السلعة لمن زاد حيث اشترط البائع ذلك أو جرى به عرف ولو بعد إمساكها حتى انقضى مجلس النداء أو ردها وباع بعدها أخرى، فإن لم يشترط ذلك ولا جرى به عرف لم يكن له ذلك. قال المازري: إنما نبهت على ذلك لأن بعض القضاة ألزم بعض أهل الأسواق في بيع المزايدة بعد الافتراق مع أن عادتهم الافتراق على غير إيجاب اغترارا بظاهر ابن حبيب، فنهيته عن هذا لأجل مقتضى عوائدهم. ابن عرفة: والعادة عندنا أي بتونس وكذا عندنا بمصر عدم اللزوم، وهو واضح إن بعد ولم تكن السلعة بيد المبتاع، فإن كانت بيده فالأقرب اللزوم، كبيع الخيار بعد زمنه فيلزم فيه

ص: 18

البيع من المبيع بيده، وعلى كلام المازري لو لم تكن عادة فالأقرب أن للبائع إلزام من زاد بعد التفرق ما لم يسترد السلعة ويشتغل ببيع أخرى ويمسكها حتى ينقضي مجلس النداء، واعلم أن له إلزام من زاد ولو زاد غيره بعده خلافا للابياني، وقد جرى العرف في مكة وكثير من البلاد على ما قال الابياني، فإن شرط المشتري أن لا يلتزم البيع إلا ما دام في المجلس فله شرطه ولو كان العرف بخلافه لتقديم الشرط عليه. انتهى.

وشرط عاقده تمييز، قال الحطاب: والمعنى أنه يشترط في انعقاد البيع أن يكون عاقده مميزا، وإذا كان شرط عاقده التمييز فلا ينعقد بيع غير المميز لصغر أو جنون أو إغماء ولا شراؤه. انتهى. وقال بناني: الظاهر أن هذا شرط في وجود العقد لا في صحته، وأن المراد شرط وجود عقد عاقده لأن فقد التمييز يمنع انعقاد البيع بحيث لا توجد حقيقته لفقد ما يدل على الرضا حينئذ، لا صحته فقط مع وجود حقيقته. تأمل. انتهى. وقال أبو علي: الضمير المضاف إليه عاقد عائد على البيع المفهوم من السياق، والمراد بالعاقد البائع والمشتري، والمعنى أن شرط صحة عقد

(1)

عاقد البيع التمييز: فلا يصح من غير الميز كالصبي والمجنون والمغمى عليه. انتهى. وقال عبد الباقي: والمميز من يفهم الخطاب ويرد الجواب. قاله ابن فرحون. أي إذا كلم بشيء من مقاصد العقلاء فهمه وأحسن الجواب عنه، لا أنه إذا دعي أجاب إذ هذه لا تكفي لشموله للبهيمة، ولا ينضبط التمييز بسن، ولا ينعقد من غير مميز لصغر أو جنون أو إغماء منهما أو من أحدهما عند ابن شاس وابن راشد والمص، ولابن عرفة: لا ينعقد من مجنون مع مثله، وأما مع من يلزمه عقده فينظر له السلطان بالأصلح في إتمامه وفسخه، لقولها من جن في أيام الخيار نظر له السلطان، ولسماع عيسى عن ابن القاسم: إن باع مريض ليس في عقله فله أو لوارثه إلزام المبتاع، ابن رشد: لأنه ليس بيعا فاسدا كبيع السكران، واعترض الحطاب دليله الأول بطروه بعد العقد؛ لأنه قياس مع وجود الفارق؛ إذ المقيس: الجنون فيه قبل العقد، والمقيس عليه: الجنون فيه طار بعد العقد، ولعل دليله الثاني فيمن عنده تمييز كالمعتوه. انتهى. قوله: ولا ينعقد من غير مميز لخ، هذا هو

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من الخرشي ج 5 ص 8.

ص: 19

ظاهر المص تبعا لابن الحاجب وابن شاس، وتعقبه مصطفى قائلا: الذي لابن رشد والمازري وعياض وغيرهم صحة العقد ولو من غير مميز، قال: وهو الظاهر إذ لا موجب لفسخه تنرعا، والرواية كذلك، سمع عيسى ابن القاسم: إن باع مريض ليس في عقله فله ولورثته إلزامه المبتاع، ابن رشد: لأنه ليس بيعا فاسدا كبيع السكران عند من لا يلزمه بيعه، وقال المازري في العلم: شرط العاقد إطلاق اليد احترازا من المحجور كالصغير والمجنون والسفيه؛ فسوى بين هذه الثلاثة، ومراده شرط اللزوم، ثم نقل عن عياض ما يقتضي أن عقد المجنون والصغير ليس بفاسد شرعا، قال: واقتصر ابن عرفة على ما لهؤلاء معرضا عن كلام ابن الحاجب وابن شأس من غير تعرض له برد ولا بقبول، وَقَوْلُ الحطاب: الأولى أن يحمل كلام هؤلاء الشيوخ على من عنده شيء من التمييز كالمعتوه، وأما من ليس عنده شيء من التمييز فالظاهر أن بيعه غير منعقد؛ لأنه جاهل بما يبيعه ويشتريه. انتهى. فيه نظر: لأنه خلاف كلامهم. انتهى كلام مصطفى. قال بناني: بل في حمل عليه الحطاب كلامهم هو الصواب، ليوافق ما للمص ومتبوعيه، ويدل له تشبيه ابن رشد بالسكران المختلف فيه، ويأتي أن محل الخلاف عنده في السكران الذي عنده شيء من التمييز، ويشهد له أيضا قول القاضي عبد الوهاب في التلقين: وفساد البيع يكون لوجوه: منها ما يرجع إلى التعاقدين، مثل أن يكونا أو أحدهما ممن لا يصح عقده كالصغير والمجنون أو غير عالم بالبيع، وقول ابن بزيزة في شرحه: لم يختلف العلماء أن بيع الصغير والمجنون باطل لعدم التمييز، وقول أبي عبد الله المقري في قواعده: إن العقد من غير المميز فاسد عند مالك وأبي حنيفة لتوقف انتقال الملك على الرضا لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه

(1)

). ولا بد من رضي معتبر وهو مفقود من غير المميز. انتهى. وقول المقري في قواعده: إن العقد من غير المميز فاسد عند مالك لخ، نقله مصطفى نفسه، فهذه النصوص صريحة فيما قاله المص من البطلان، على أن ما نقله مصطفى عن المازري وابن رشد لا يدل على ما ادعاه. فتأمله. انتهى. وقوى الرهوني ما للمص غاية، وأبطل ما سواه غاية، بما يعلم بالوقوف عليه فراجعه إن شئت. والله سبحانه أعلم.

(1)

التمهيد، ج 5 ص 173.

ص: 20

تنبيه: أركان البيع ثلاثة وهي في الحقيقة خمسة، أحدها: الصيغة وهي ما يدل على الرضا، وقد مر الكلام عليها. والثاني والثالث: العاقد وهو البائع والمشتري. والرابع والخامس: المعقود عليه وهو الثمن والمثمن، ولما كان البائع والمشتري من أركان البيع احتيج إلى بيانهما ليعلم البائع من المشتري، وكذلك الثمن والمثمن، فالمشتري هو دافع الدنانير أو الدراهم أو هما معا، والبائع هو دافع السلعة، والدنانير والدراهم هي المسماة بالثمن، والسلعة هي المسماة بالمثمون، قال في الطراز: المعقود علمه ثمن ومثمون، فالثمن الدنانير والدراهم وما عداهما مثمونات، فدافع المسكوك مشتر، ودافع غيره بائع، ويبقى النظر في بيع فرس بتوب مثلا حاضرين، ودفع دراهم في دينار، أو درهم في درهم، أو دينار في دينار، كما هو في باب الصرف والمبادلة وكالمراطلة، فمن هو صاحب الإيجاب والقبول؟ وما هو الثمن والمثمون؟ وفي الجزولي على الرسالة ما حاصله: أن كل واحد من المتعاوضين بائع لما خرج من يده، مشتر لما أخذه، واصطلح الفقهاء على أن آخذ العرض يسمى مشتريا، وآخذ العين يمسى بائعا. انتهى. ومراده بالعين المضروب من النقدين كما عند ابن عرفة. انتهى. قاله الشيخ أبو علي.

إلا بسكر فتردد مستثنى من مفهوم ما قبله فكأنه قال: فلا ينعقد بيع غير المميز إلا أن يكون عدم تمييزه بسكر أدخله على نفسه، ففي عدم انعقاد بيعه تردد؛ أي طريقان، فطريق ابن شعبان وابن شأس وابن الحاجب أن المشهور عدم انعقاد بيعه، وطريق ابن رشد والباجي الاتفاق على عدم انعقاده؛ وبه تعلم أن المؤلف لو أسقط قوله إلا بسكر لخ، لكان أولى؛ لأن بيع غير المميز ليس بمنعقد، إما اتفاقا على ما للباجي وابن رشد، أو على المشهور على ما لابن شعبان ومن وافقه؛ ومحل التردد في السكران الطافح بحرام؛ قال ابن عرفة: والسكران بغير الخمر كالمجنون. انتهى. قلت: وهذا إذا شرب شيئا مباحا أو تداوى به ولم يعلم أنه يسكره، وأما إذا شربه وهو عالم بإسكاره فلا فرق بين الخمر وغيره. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: ومحله فيمن سكر حراما ولو بحلال كلبن حامض يتحقق السكر منه، فإن سكر حلالا ولو بمحرم كشرب خمر يظنه غيره فكالمجنون المطبق، فلا يلزمه بيعه ولا يصح منه. انتهى.

ص: 21

وعلم مما قررت أن الاستثناء من المفهوم، فالكلام في الطافح، ولا يصح جعل التردد في المنطوق بجعل الباء بمعنى مع؛ أي إلا أن يكون تمييزه مع سكر فتردد؛ لأنه متى كان عنده نوع من التمييز فلا خلاف في صحة بيعه، وإنما الخلاف في لزومه، والمعتمد عدمه، وكلام المص هنا في الصحة لا في اللزوم؛ لأنه سيذكره. قاله عبد الباقي.

وقال الحطاب: وأما السكران المميز فلا خلاف في انعقاد بيعه، وإنما اختلف الطرق في لزومه، فحكى ابن رشد الخلاف، قال: وقول مالك وعامة أصحابه أنه لا يلزم، وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب، والخلاف الذي أشار إليه هو قول ابن رشد: السكران قسمان: سكران لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة. فلا خلاف أنه كالمجنون في جميع أحواله وأقواله فيما بينه وبين الله وفيما بينه وبين الناس، إلا في ما ذهب وقته من الصلوات، فقيل: إنه لا يسقط عنه، بخلاف المجنون من أجل أنه أدخل السكر عليه، فكأنه تعمد تركها، والثاني: السكران المختلط الذي معه بقية من عقله، فاختلف أهل العلم في أقواله وأفعاله على أربعة أقوال، أحدها: أنه كالمجنون فلا يحد ولا يقتص منه ولا يلزمه بيع ولا عتق ولا طلاق ولا شيء من الأشياء، وهو قول محمد بن عبد الحكم وأبي يوسف، واختاره الطحاوي. والثاني: كالصحيح لأن معه بقية من عقله، وهو قول ابن نافع: أنه يجوز عليه كل ما فعل من بيع وغيره، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. والثالث: يلزمه الأفعال ولا يلزمه الأقوال، فيقتل بمن قتله ويحد في الزنى والسرقة ولا يحد في القذف ولا يلزمه طلاق ولا عتق، وهو قول الليث والرابع: تلزمه الجنايات والعتق والطلاق والحدود، ولا تلزمه الإقرارات والعقود، وهو مذهب مالك وعامة أصحابه وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب. انتهى. انظر الحطاب.

وقوله: إلا بسكر فتردد، قد علمت أن المعتمد عدم الانعقاد لأن الكلام في الطافح ويحلف أنه ما عقل حين باع، ذكره ابن شعبان: ولا يقال: القول لمدعي العقل؛ لأنه مدعي الصحة؛ لأنا نقول مدعي عدم العقل معه سبب يستند إليه. قاله عبد الباقي. وقال: وإنما لم يصح بيع السكران أو لم يلزم كإقراره وسائر عقوده، بخلاف جناياته وعتقه وطلاقه وحدوده سدا للذريعة؛ لأنا لو فتحنا هذا الباب مع شدة حرص الناس على أخذ ما بيده وكثرة وقوع البيع منه لأدى إلى أنه لا

ص: 22

يبقى له شيء، بخلاف طلاقه وقتله وإتلافه وعتقه وما يتعلق به حق لغيره، فيلزمه ذلك لأنا لو لم نلزمه ذلك لتساكر الناس ليتلفوا أموال غيرهم ويستبيحوا دماءهم وغيرها. انتهى. قوله: وإنما لم يصح بيع السكران أو لم يلزم؛ أي لم يصح في الطافح أو لم يلزم فيمن عنده نوع من التمييز، ولكنه صحيح في حقه، وقوله: كإقراره وسائر عقوده بخلاف جنايته لخ، ظاهره يقتضي أن هذا التفصيل في الطافح ومن عنده نوع من التمييز وليس كذلك، بل الطافح كالمجنون لا يؤخذ بشيء أصلا لا جنايات ولا غيرها، وإنما التفصيل فيمن عنده نوع من التمييز، قال ابن رشد في كتاب النكاح: سكران لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة فلا خلاف أنه كالمجنون في جميع أحواله وأقواله، إلا فيما ذهب وقته من الصلوات فقيل: إنه لا يسقط، بخلاف المجنون. انظر حاشية الشيخ بناني.

ولزومه تكليف، لما ذكر ما يشترط في انعقاد البيع، ذكر ما يشترط في لزوم البيع لعاقده؛ إذ لا يلزم من انعقاد البيع لزومه؛ يعني أنه يشترط في لزوم البيع أن يكون عاقده مكلفا، فلو باع المميز غير المكلف واشترى، انعقد بيعه وشراؤه، لكنه لا يلزم ولوليه النظر في إمضائه ورده بما يرى أنه الأصلح للصبي، وظاهر كلامه أن بيع السفيه البالغ والعبد البالغ الذي لم يؤذن له لازم لأنهم مكلفون، وليس كذلك، بل تصرفهم غير لازم، ولولي السفيه والسيد والغرماء النظر في ذلك، وتبع المص في هذه العبارة ابن الحاجب. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: ولزومه تكليف في بيع متاع نفسه، وأما في بيع متاع غيره فوكالة، فلا يتوقف على التكليف، ويلزم بيعه من غير إذن موكله، لأن إذنه له أولا في البيع كاف، وفي كلامه حذف واوين مع معطوفيهما؛ أي ورشد وطوع، ويدل على الأول قوله في الحجر: وللولي رد تصرف مميز، وهو شامل للسفيه، قال أحمد: وقد اعتبر بعضهم القرينة ولو كانت بعد ذلك بكثير أي لأن الكتاب كالشيء الواحد، ويدل على الثاني قوله: لا إن أجبر عليه جبرا حراما، كما قال ابن غازي، ففي الكلام حذف لدليل، وفي شرح الشيخ أبي علي ما يفيد الجواب من المص بأن كلامه لا حصر فيه، إنما معناه أن التكليف شرط في اللزوم، وهل ثم شرط آخر أم لا؟ كقوله: شرط للصلاة طهارة حدث وخبث. انتهى. وفي كلام

ص: 23

المص العطف على معمولي عامل واحد وهو سائغ. لا إن أجبر عليه جبرا حراما؛ يعني أن المكلف إنما يلزمه ما عقد على نفسه من البيع إذا كان طائعا، فأما إن أجبر على ذلك جبرا حراما فلا يلزمه، واحترز بالجبر الحرام من جبر القاضي المديان على البيع للغرماء فإنه يلزمه لأنه جبر شرعي، ويأتي للمصنف محترزه حيث قال: ومضى في جبر عامل، قال عبد الباقي مفسرا للمص: لا إن أجبر العاقد عليه أي على البيع، وكذا على سببه، وهو طلب مال ظلما، ولو لم يجبر على البيع على المذهب جبرا حراما، وهو طلب ما ليس بحق فيصح، ولا يلزم في الجبر على البيع إجماعا، ويعني بالجبر على البيع الجبر على إخراج السلعة من اليد بالبيع ولا يطلب منه مالا ولا في الجبر على سببه على المذهب لقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ولخبر: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس

(1)

). وسواء كان الجبر لمسلم أو ذمي كضغطه فيما يتعدى

(2)

عليه به في الجزية أو الخراج، علم المشتري بضغط البائع أم لا، مع إثم العالم بالجبر، وحرمة المسلم أشد، وسواء باع المضغوط بنفسه متاعه أو باعه قريبه أو غيره بإذنه، أما لو باع قريبه أو زوجته مال أنفسهما لتخليصه ولو من العذاب فليس ببيع مضغوط لاختيارهما في ذلك، فهو حسبة منهما، إلا الوالدين إذا عذب ولده ما فباعا أو أحدهما شيئا من متاعهما فإنه إكراه؛ لأن المولد إذا عذب بين يدي والديه أو علما بتعذيبه فكأنه إكراه للوالدين فلا حسبة، والله تعالى يقول:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} . قاله أبو الحسن. ولكن تقدم للمص أنه جعل قتل ولده إكراها للوالد لا تعذيبه، لكنه في الطلاق قد يفرق بقوة الاحتياط في الفروج، وسواء أيضا أخرج المضغوط للبيع مكبولا أو موكلا بة حارس، أو أخذ عليه حميل أو كان مسرحا دون كفيل، إلا أنه إن هرب خلفه

(3)

الظالم إلى منزلة بالأخذ والمعرة في أهله؛ أي أو عزله من منصبه أو التزامه أو وظيفته، وسواء كان له عين غير ما باعه أو لم يكن. قاله الحطاب. كخشيته من الظالم أن يزيد عليه ظلمه إذا أعطى ما عنده من النقد، بخلاف إشاعة بيع متاعه. ابن عرفة عن سحنون: لو أكره على بيعه بثمن فباعه بأكثر ولا قدرة له على عدم البيع فهو مكره، ولو أكره على دراهم

(1)

التمهيد، ج 5 ص 173.

(2)

في عبد الباقي 5 ص 8: يعتدى.

(3)

في الحصاب ج 5 ص 37 ط دار الرضوان: خالفه.

ص: 24

يفي بعض سلعته بها فباعها كلها فإن ذلك يكون إكراها، كما يفهم من مسألة من أكره على دراهم وعنده دراهم تفي بها أو تزيد عليها ولم يدفع منها وباع سلعة من سلعه فإنه يكون في بيعها مكرها كما مر. انتهى. قوله: أو عزله من منصبه. قال بناني: في كون الخوف من العزل ضغطا نظر، وفي المواق عن ابن عرفة ما يقتضي خلافه، ونصه بعد أن ذكر أن وكيل الظالم غير معذور في فعله وإن خاف القتل أو نحوه إن لم يفعل: هذا ونحوه من نصوص المذهب مما يبين لك حال القضاة في تقديمهم من يعرفون جرحته شرعا للشهادة في الدماء والفروج، ويعتذرون بالخوف من موليهم القضاء، مع أنهم فيما رأيت لا يخافون إلا عزلهم عن القضاء. انتهى. وفي ابن فرحون: من أكره على هبة نصف دار أو عبد فوهب جميع ذلك، أو على أن يهب ألفا فوهب ألفا وخمس مائة فهذا كله باطل، وكذا لو أكره على أن يبيع أمته لفلان فوهبها له، أو على أن يقر له بألف فوهب له ألفا، فهذا كله باطل. نقله بناني. وقال عبد الباقي: والظاهر أن الإكراه على سبب الخلع لا يكون إكراها على الخلع، فمن أكره على مال ولا يمكنه وفاؤه إلا بمخالعة امرأته فخالعها لذلك فإنه يلزمد طلاق الخلع. انتهى. وقوله: لا إن أجبر عطف على مقدر أي وكل رشيد يلزمه البيع إن طاع شرعا لا إن أجبر عليه جبرا حراما، وقوله: إن طاع شرعا يدخل فيه من أكره بحق فإنه طائع شرعا كما يأتي، وأفاد المص أن البيع من المكره بالفتح منحل من جانبه وله أن يلزم المشتري منه ما اشتراه بالثمن الذي باعه به، ولا كلام له. قاله عبد الباقي. وقال: وسكت عن شراء المضغوط شيئا لأنه لازم له على المشهور، وقيل: لا يلزمه، والفرق بين البيع والشراء أن الشراء فيه إدخال في ملكه بخلاف البيع.

وهذه حيلة حسنة تنفع رب الدين على مضغوط يتسلف منه حال ضغطه فيبيعه سلعة بدين، ثم يتبعه به في ذمته ولا يسلفه نقدا؛ لأنه لا يلزم ما تسلفه حال ضغطه، وإنما يرجع به المسلف على الظالم. قال الناصر: قياسا على حميل المضغوط إذا غرم فإنهم صرحوا بأن المشهور أنه لا يرجع على المضغوط، وبأنه يرجع على الظالم، فقياسه أن المسلف له كذلك، وعلى هذا يستوي بيعه لمتاعه والحمالة عنه وقرضه مالا في عدم اللزوم، وأما إذا ضغط الحميل نفسه بسبب حمالته

ص: 25

فباع متاع نفسه فلا يلزم البيع. انتهى. وقال الرهوني بعد كلام: فتحصل أن في القرض خلافا، وأن الراجح لزوم رده، قال: وهذا الخلاف في القرض إنما هو على المشهور في بيع المضغوط، وأما على ما جرى به العمل من لزوم بيعه فلا إشكال في لزوم قرضه. انتهى. وقال بناني: قول الزرقاني: وسكت عن شراء المضغوط إلى قوله: قاله الناصر اللقاني، نص ما في الناصر في حواشي التوضيح: قال الشيخ أبو الحسن في آخر كراء الدور والأرضين ما نصه: وفي قرض المضغوط قولان والمشهور لا يلزمه، وفي بيعه قولان والمشهور يلزمه. انتهى. فلعل قوله: وفي بيعه؛ أي البيع منه؛ وأما إن كان مراده بيع متاعه لغيرد فيشكل قوله: المشهور لزومه؛ لأنه خلاف المذهب على ما تقدم، وإن وافق كلام اللخمي والسيوري. انتنهى. كلام الناصر اللقاني. قال الشيخ أبو علي عقبه: وهو كلام مشكل على كل حال، فإن شراءه إن كان ضغطا فلا فرق بينه وبين البائع، وفي المعيار عن القلشاني: أن من اشترى سلعا يدفعها في مظلمة والبائع يعلم بضغطه فهو بمنزلة بيع المضغوط ويرجع بائعها بالثمن أو بأعيانها إن وجدت عند الضاغط. قال: ولم أرها منصوصة، وكذا تشهير عدم اللزوم في القرض فيه نظر. فقد قال في التوضيح: ولو أعطى المضغوط حميلا فتغيب فأخذ المال من الحميل لم يرجع الحميل عليه بشيء، بخلاف ما لو أخذ ما ضغط فيه من رجل سلفا، فقال أصبغ: يرجع عليه بما أسلفه لأن السلف معروف، قال فضل: وعلى أصله فيرجع الحميل لأن الحمالة معروف. انتهى. ونقل ابن رشد من ابن دحون: يلزمه رد ما أسلف ولم يحك خلافه، فتبين أن المنصوص في الحميل أنه لا يرجع، وفي السلف أنه يرجع، وقول الزرقاني: قال الناصر قياسا على حميل لخ، لم أجد هذا القياس عند الناصر في حواشي التوضيح، وهو قياس غير ظاهرت إذمن حجة المضغوط أن يقول للحميل: أنت الذي ظلمت ومالك لم تدفعه إلي، بخلاف السلف، على أن النص مضى في المسلف بخلافه، قال عبد الباقي: واحترز بقوله جبرا حراما، من الجبر الشرعي، كجبر القاضي المديان على البيع لوفاء الغرماء، أو المنفق للنفقة، أو ملتزم الكورة أي الإقليم أو البلد مثلا بمال فيعجز عنه، فيجبر على البيع لذلك، أو للجزية أو للخراج الحق، فليس من ذلك بل هو جائز لازم، وجائز شراؤه لكل أحد إلا أن يكون معسرا، فيلجأ إلى بيع ما يترك للمفلس فكالإكراه الظلم، ومن الإكراه الحق الجبر على بيع الأرض للطريق أو

ص: 26

لتوسيع المسجد، والطعام إذا احتيج له، وهذه من المسائل العشر التي يجبر الشخص فيها على بيع ماله، ومنها الكافر يجبر على بيع عبده المسلم أو الصغير، وعلى بيع مصحف في ملكه، كما يأتي للمص، ومالك الماء لمن به عطش أو لزرعه، وصاحب الفدان في رأس جبل يحتاج الناس إليه في الحراسة من العدو، وصاحب الفرس أو الجارية يطلبها السلطان، وإن لم تدفع أضر بالناس، فيجبر على الدفع، ورب علج على بيعه لفداء مسلم إذا قال من هو في يده: لا أفديه إلا به، بل وإن لم يقل فيما يظهر، حيث علم أنه لا يطلقه إلا بالعلج المذكور، وله الأكثر من قيمته وثمنه إن اشتراه، وقيمته إن لم يشتره في هذا أي مسألة العلج، ويكون ذلك في بيت المال، كما يفيده من حيث المعنى قول المص: وبدئ بالفيء، وأما مسألة الفدان والأمة أو الفرس يطلبها السلطان فالذي يظهر فيها لزوم القيمة. انتهى كلام عبد الباقي بإصلاح فيه من كلام الرهوني. وقوله: لتوسيع المسجد، في أحمد تقييده بمسجد الجمعة. قال بناني: الواقع في كلام ابن رشد كما في المواق هو التقييد بمسجد الجمعة وهو الظاهر انتهى.

تنبيهات: الأول: قول عبد الباقي: ومن الإكراه الحق الجبر على بيع الأرض للطريق، ظاهره كانت الطريق عامة أو خاصة وليس كذلك، بل الجبر خاص بالطريق العامة، قال في النوادر عن مالك في الطريق إذا كانت لأقوام وسدت فلا يجبر من حولها على بيع أرضهم لتوسيعها، وكذلك إذا كانوا يذهبون فيها للمساجد إلا مسجد الجمعة، وكمل يجوز للغير المرور في الأرض التي احتيج إلى بيعها لتوسيع الطريق قبل نظر الإمام أو لا يجوز لهم ذلك إلا بإذن مالكها؟ فلا يحدثوا فيها طريقا من دون إذنه، بل يحتالوا لأنفسهم حتى ينظر لهم إمامهم. قاله الرهوني. وجلب في ذلك نقولا كثيرة، ثم قال بعدها: والظاهر أن يقيد ذلك بالسعة، وأما مع الضيق والضرورة كما إذا كان العدول عنها يؤدي إلى الخوف على نفسه، ولم يمكنه طلب المتحلل من مالكها، فإنه لا يحوم عليه إذ ذاك المرور؛ لأنه إذا كان يجب على الإنسان مواساة غيره بفضل ماله مع ذهاب ذلك بالكلية، فبالمرور في أرضه مع بقاء ملكه عليها وانتفاعه به أولى، والله أعلم انتهى.

ص: 27

الثاني: قد مر أن توسيع الطريق يجبر فيه الإنسان على دفع متاعه لأجله؛ قال سحنون في نهر إلى جانب طريق الناس وبجانبها أرض لرجل فمال النهر على الطريق فهدمها: أنه إن كان للناس طريق لا ضرر عليهم في سلوكها فلا طريق لهم على هذا الرجل، وإن دخل عليهم ضرر أخذ لهم الإمام طريقا من هذه الأرض ويعطي قيمتها من بيت المال. نقله عنه ابن رشد. ووقع في نقل المواق والحطاب عن سحنون في مسألة الطريق هذه بثمن يدفعه الإمام، والظاهر أن المراد بقوله: بثمن، القيمة. قاله الرهوني.

الثالث: زاد في الدر النثير على المسائل المذكورة مجرى الماء، فقال متصلا بما قدمناه عنه في الطريق ما نصه: وكذلك إذا لم يوجد لمسلك الماء موضع. انتهى منه بلفظه. وتشبيهه ذلك بالطريق يفيد أن ذلك في ماء لغير قوم معينين وإلا فلا جبر. قاله الرهوني.

الرابع: لا يقاس على الاحتياج إلى توسيع المسجد الاحتياج إلى توسيع المئضاة، ففي نوازل المئضاة من المعيار: وسئل الرماح هل يجبر حاحب الأرض على بيع أرضه لتزاد في الميضاة؟ فأجاب: لا يجبر لأن الوضوء في الميضاة لا فضيلة فيه، وإذا ضم للمسائل المتقدمة مسلك الماء، والطعام المحتكر، ومسألة جبر العامل الآتية: كانت المسائل ثلاث عشرة. قال الرهوني وقد نظمتها فقلت:

ويجبر ذو ملك على بيع ملكه

لأشياء قد عدت فخذها وحصل

لحق ودين

(1)

أو لتوسيع مسجد

فأطلق وقيد تقتدي بمحصل

كذلك ذو علج لتخليص مسلم

وذوأمة حسنا لتعطى لبطل

كذاك لتوسيع الطريق ومن له

فدان بوعر جنة لمؤمل

(1)

في الرهوني ج 5 ص 25 كدين.

ص: 28

وذو فضل قوت أو شراب وكافر

لد مصحف أو مسلم طفل اعقل

ومسلك ماء ثم ملك لعامل

ومحتكر فاحفظ وكن ذا تأمل

الخامس: بيع الجائع وتصرفه في ماله وما قيل

(1)

من النقول التي تقتضي فسخ ذلك وإبطاله ولو بعد طول، كل ذلك مخالف للقواعد ظاهر الفساد والاختلال. قاله سيدي عبد القادر في الأجوبة. وفي المفيد: بيع المضطر لا يجوز، وهو في معنى من أكره على البيع، وأما من اضطره الحق إلى بيع متاعه، أو اضطرته الحاجة والفاقة فلا بأس بالشراء منه بما يجوز التبايع به. انتهى. وفي الدر النثير: ابن عبد البر: بيع المضطر والمضغوط لا يجوز، وهو في معنى من أكره على البيع، والتجارة لا تكون إلا عن تراض، قال: وأما من اضطره الحق إلى بيع متاعه أو اضطرته الحاجة والفاقة فلا بأس بالشراء منه بعا يجوز التبايع به. قاله الرهوني.

ورد عليه بلا ثمن؛ يعني أن من أجبر على سبب البيع بأن طلب منه المال ظلما فباع سلعة مثلا لتحصيل ما طلب منه، يرد عليه ماله الذي أكره على بيعه بلا ثمن، ولا يفيته تداول أملاك ولا هبة ولا عتق؛ أي يأخذه ممن هو بيده بلا غرم ثمن، ويرجع المشتري على الظالم أو وكيله، وسواء علم المشتري أنه مكره أم لا، وأما لوأجبر على البيع دون المال فيرد إليه بالثمن، إلا أن تقوم بينة، وهل يصدق إن ادعى التلف كالمودع أم لا؟ خلاف على حد سواء، فكلام المؤلف هنا فيما إذا أجبر على سبب البيع لا على البيع فقط؛ فلذا قال بعض: في كلام المؤلف حذف، والتقدير لا إن أجبر عليه أو على سببه، وقوله: ورد عليه بلا ثمن، راجع للثانية، وقوله: ورد عليه إن كان قائما وقيمته إن فات وكان مقوما ومثله إن فات وكان مثليا. قاله الخرشي. وقد مر شمول قوله: لا إن أجبر عليه للجبر على البيع وللجبر على سببه، ومنهم من جعله في الجبر على سبب البيع فقط؛ لأنه هو محل الخلاف. وقال عبد الباقي: قوله: ورد عليه، عام، وقوله:

(1)

في الرهوني ج 5 ص 21: وما خيل عليكم.

ص: 29

بلا ثمن، خاص بما إذا أجبر على سبب البيع إذا علم أن الظالم أو وكيله قبضه من المضغوط ومن المشتري، أو جهل هل قبضه للظالم أو لوكيله أو لرب المتاع؟ أو لم يعلم هل دفعه المضغوط للظالم أو بقي عنده أو صرفه في مصالحه؟ أم لا، وكذا إن علم بقاؤه عنده وتلف بغير سببه فيما يظهر، فإن علم أنه صرفه في مصلحته أو بقي عنده أو أتلفه عمدا رجع عليه، ولا فرق في قول المص: بلا ثمن، بين علم المشتري بضغط البائع أم لا. قاله ابن القاسم. وقال سحنون: هذا إذا علم بضغطه وإلا رد عليه بالثمن، ومقتضى التوضيح أن كلامه مقابل وأن قول ابن القاسم هو المعتمد، وهو ظاهر المص أيضا، حيث لم يقيد ذلك بالعلم وحيث رد عليه بلا ثمن، فيرجع به المشتري على الظالم إن أقبضه له، وعليه أو على وكيله إن أقبضه لوكيله، حيث ثبت أنه دفعه للظالم، أو أن الظالم أوصاه بقبضه وإلا فعلى الوكيل فقط، وينبغي أن يجري مثل هذا فيمن أكره شخصا على دفع مال ووكل من يقبضه، وربما يدل عليه ما لابن عرفة كما في التتائي، وأشر قوله: ورد عليه، بأنه باق، فإن وجده قد فات أي بتلف، أخذ الأكثر من قيمته وثمنه من الظالم أو وكيله على التفصيل المتقدم، وإنما لم يرجع قوله: بلا ثمن: لما إذا أكره على البيع فقط دون أخذ الثمن منه لأنه عنده، فيرده للمشتري إن كان قائما، فإن تلف وثبت تلفه ببينة أنه من غير سببه فلا رجوع له عليه، فإن لم يثبت بل ادعاه ففي تصديقه قولان، لسحنون وهما متساويان. ولو تلف المبيع عند المشتري في الإكراه على البيع فقط فلربه رد ثمنه وأخذ قيمته إن زادت من المكره بالكسر أو المبتاع، ولا رجوع لأحدهما على الآخر. وانظر لو تنازع البائع والمشتري هل الإكراه على البيع؟ فيرد على المشتري الثمن؛ أو على سببه فلا يرد عليه الثمن، ولم تقم قرينة على صدق أحدهما، والظاهر أن القول للبائع لاتفاقهما على الضغط واختلافهما في صفته، وإن تنازعا في الضغط وعدمه فالقول لمدعي عدمه، كما يفيده البرزلي وابن فرحون. انتهى. قوله: وقال سحنون: هذا إذا علم بضغطه؛ قال بناني: تفصيل سحنون إنما هو إن كان المضغوط هو الذي قبض الثمن وإلا لم يغرمه مطلقا، هذا الذي يدل عليه كلام ابن رشد وابن سلمون، وقال الرهوني قول الزرقاني: ولا فرق في قول المص: بلا ثمن لخ، يقتضي انفراد ابن القاسم بذلك وليس كذلك، بل قد رواه ابن القاسم عن مالك في المبسوط، كما ذكره ابن رشد في البيان، ونقله غير واحد،

ص: 30

ورواه مطرف أيضا عن مالك، كما لابن عرفة عن الشيخ أبي محمد بن أبي زيد، ورواه ابن عبد الحكم وأصبغ، كما نقله غير واحد، وقوله: وقال سحنون، يقتضي انفراد سحنون بذلك وليس كذلك، بل قاله ورواه عن الإمام كما نقله غير واحد، وقوله: ومقتضى التوضيح أن كلامه مقابل، وأن قول ابن القاسم هو المعتمد، يشهد لاعتماده العزو الذي ذكرناه، لكن قول سحنون قوي أيضا، لأنه رواه عن مالك أيضا وأفتى به ابن رشد في نوازله، وأفتى به أيضا أبو الحسن والشيخ أبو القاسم الغبريني. واعلم أن الصور أربع؛ لأنه إما أن يتولى المضغوط قبض الثمن أو لا، وفي كل إما أن يعلم المشتري بضغطه أم لا، فإن لم يقبضه فلا يرد الثمن علم المشتري بضغطه أم لا، وإن قبضه فإن علم بضغطه فلا يرد الثمن وإلا رده.

تنبيهات: الأول: قال الشيخ أبو علي: من أكره على دفع المال لا يلزمه بيعه على المشهور، ومن أكره على البيع لا يلزمه بيعه إجماعا كما في ابن عرفة والتوضيح. قال ابن عرفة في الإكراه على البيع ما نصه: وبيع المكره عليه ظلما لا يلزمه. الشيخ عن أبي الحسن والأبهري: إجماعا، قال ابن سحنون عنه: وللبائع إلزام المشتري طوعا وأخذ مبيعه ولو تعددت أشْرِيَتُه كمستحق ذلك، ولا يفيته عتق ولا إيلاد، ويحد المشتري بوطئها، ولو أكره العاقد، إن لم يلزم أحدهما ما ألزمه الآخر بعد زوال الإكراه. انتهى المقصود منه. الشيخ عن سحنون: من أكره على إعطاء مال ظلما فبيعه لذلك بيع مكره، زاد ابن رشد عنه في أجوبته: ولرب المبيع أخذه دون ثمن إن كان المشتري عالما بضغطه ظلما، وإلا فالثمن. انتهى. وقد مر أن ابن القاسم ومطرفا وغيرهما لا يفصل هذا التفصيل، ويتبع المشتري بثمنه الظالم إن دفعه له، ولو قبضه وكيل الظالم اتبع أيهما شاء، قال مطرف: إن قال الوكيل: ما فعلته إلا خوفا من الظالم، لم يعذر لقوله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وكذا كل ما أمر بفعله ظلما من قتل أو قطع أو جلد أو أخذ مال وهو يخاف إن لم يفعله نزل به مثل ذلك فلا يفعله، فإن فعله لزمه القصاص والغرم. وقال ابن عبد الحكم وأصبغ ومطرف: جهل وصول ثمن مبيع المضغوط للظالم باحتمال صرفه المضغوط

ص: 31

في منافعه كتحقق وصوله إن كان إكراه له حتى باعه، إلا أن يوقن أنه صرفه في منافعه، فلا يأخذ مبيعه إلا بدفع ثمنه، والمشتري إن علم ضغط المضغوط فكغاصب في ضمان المبيع وغلته، وإلا فكمشتر ما استحق منه فيهما. انظر شرح الشيخ أبي علي.

الثاني: قال عبد الباقي: ورد عليه ما جبر على بيعه أو على سببه ولا يفيته تداول أملاك ولا عتق ولا هبة ولا إيلاد، ويحد المشتري إن علم ووطئ فلا يدرأ الحد بيع المكره وإن كان صحيحا، لعدم لزومه، وكذا بيع الفضولي على ما يأتي في باب الزنى إن شاء الله. انتهى. قوله: ويحد المشتري إن علم ووطئ لخ، قال بناني: ظاهره أن الحد في كل من الجبر على البيع والجبر على سببه، وفيه نظر إذ لم يذكره ابن رشد إلا في الجبر على البيع. ونقله الحطاب وغيره. وأما الجبر على سبب البيع فإن الخلاف فيه شبهة يدرأ الحد بها وهو ظاهر، كيف والعمل جار فيه بلزوم البيع في زمننا؟ وهو قول ابن كنانة، وأفتى به اللخمي والسيوري واستحسنه حذاق المتأخرين، ومال إليه ابن عرفة، وأفتى به ابن هلال والعقباني والسرقسطي، ونقل العقباني أن الفشتالي قاضي فاس به كان يفتي. نقله في المعيار. ونقل الشيخ القصار أنه جرى به الحكم في مدينة فاس أكثر من مائتي سنة. انتهى المراد منه. وقال الشيخ أبو علي: قال ابن كنانة: بيع المكره على دفع المال لازم لأنه أنقذه مما كان فيه من العذاب، وقال ابن هلال بعد أن ذكر الإجماع على الإكراه على نفس البيع: وأما المضغوط أي على المال فيلزمه بيعه عند ابن كنانة لأنه لم يجبر على البيع، وإنما أجبر على غرم مال فافترقا عنده، ويحتج لمذهب جمهور الأصحاب بأنه وإن لم يجبر على البيع لكنه ألجئ إليه لأنه أجبر على سببه فهو في معنى المكره على البيع، ثم قال: وبقول ابن كنانة أفتى السيوري واللخمي، قال اللخمي: ولو كان مولى عليه، واستحسن ذلك حذاق المتأخرين، وإليه مال ابن عرفة.

الثالث: قال البرزلي: سئل ابن عبد الرحمن عمن اضطره السلطان ببيع سلعته وقام بعد سبعة عشر عاما وأنكر المشتري الإكراه؟ فأجاب: إذا ثبت الإكراه في أمر لا يلزمه فبيعه غير لازم، وإن لم يثبت فالبيع له لازم، وإن ادعى على المشتري المعرفة له بذلك حلفه. البرزلي: ويؤخذ منه أن الضرر لا يحاز ولو طالت السنون إذا كان أصله ظلما، ونص عليه ابن سهل فيمن يعلم بالظلم أن

ص: 32

حيازته لغو، وسئل من أين توصل إلى الملك؟ انتهى. قلت: ظاهر جواب ابن عبد الرحمن أن له القيام بعد سبعة عشر عاما، ولو زال عنه الإكراه بقرب البيع وتمكن من القيام، وظاهر كلام البرزلي أو صريحه أنه حمله على ذلك لقوله: إذا كان أصله ظلما إذ لو كان مقهورا في تلك المدة لم يحتج لهذا الشرط لأن الظلم منسحب عليه، وقد سلم الحطاب كلامهما ولم يذكر ما يخالفه، مع أنه مخالف لما في كتب الأحكام والنوازل من أن السكوت بعد زوال التقية مضر بشرطه. قاله الرهوني.

الرابع: قال في سماع عيسى من كتاب الوديعة: من أودع متاعا فعدي عليه فأغرم على ذلك المتاع غرما، لم يكن على صاحب المتاع شيء مما غرم، ابن رشد: قد قيل: إن له أن يرجع على صاحب المتاع بما غرم على متاعه، وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يعلم صاحب المتاع به، وأما ما علم به مثل المتاع يوجه به الرجل من بلد إلى بلد مع رجل وقد علم أن بالطريق مكاسا يغرم الناس على ما يمرون به عليه من المتاع فلا ينبغي أن يختلف في أنه يجب على رب المتاع ما غرم على متاعه، وقد رأيت ذلك لابن دحون، وقال: إنه بمنزلة الرجل يتعدى عليه السلطان فيغرمه، فيتسلف ما يغرم، فذلك دين لازم، وهو حلال لمن أسلفه، ووجه ما ذهب إليه أنه إذا علم بذلك فكأنه قد سأله أن يسلفه ما يلزمه من الغرم، ومن هذا المعنى ما قال سحنون في الرفاق في أرض العرب تعرض لهم اللصوص فيريدون أكلهم، فيقوم بعض أهل الرفقة فيضامنهم على مال عليه وعلى جميع من معه وعلى من غاب من أصحاب الأمتعة، فيريد من غاب أن يدفع ذلك عن نفسه، قال: إذا كان ذلك مما عرف من سنة تلك البلاد أن إعطاء المال يخلصهم وينجيهم فإن ذلك لازم لمن حضر ولمن غاب ممن له أمتعة في تلك الرفاق، وعلى أصحاب الظهر من ذلك ما ينوبهم، وإن كان يخاف أن لا ينجيهم ذلك وإن أعطوا، وكان فيهم موضع لدفع ذلك مما أوجب لهم أن يدفعوا عن أنفسهم وأموالهم، فإن لم يفعلوا وأعطوا على ذلك شيئا لم يرجع بذلك على من غاب من أصحاب الأمتعة وبالله التوفيق. انتهى. قاله الحطاب.

ص: 33

ومضى في جبر عامل. قال الخرشي: يعني أن السلطان إذا جبر العامل على بيع ما بيده ليوفي من ثمنه ما كان العامل ظلم فيه غيره فإن ذلك البيع ماض، وسواء دفع السلطان للمظلوم حقه أم لا، لكن إن رد المال إلى أربابه فقد فعل ما وجب عليه، وإلا فقد ظلم، والمراد بالعامل من يأخذ المال ظلما سواء ضرب على يده أم لا انتهى. وكلام عبد الباقي هنا فيه تخليط. قاله الرهوني. وقال الحطاب: ومضى البيع المجبر عليه إذا كان ذلك في جبر السلطان عاملا من عماله فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، وذلك أن السلطان إذا أراد تولية أحد أحصى ما بيده، فما وجده بعد ذلك زائدا على ما كان بيده وعلى ما كان يرزقه من بيت مال المسلمين وإنما أخذه بجاه القضاء والولاية أخذه منه، فإن كان له تجارة وزراعة وأشكل مقدار ما اكتسبوه بالقضاء والعمالة شاطرهم، وقد شاطر سيدنا عمر رضي الله عنه أبا هريرة وأبا موسى وغيرهما، ولا تظن الهدايا بأبي هريرة وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم، إلا ما يقتضي أخذا، وما ذكره المص هنا مفهوم قوله جبرا حراما.

ومنع بيع مسلم ومصحف وصغير لكافر، يتعلق ببيع؛ يعني أنه يحرم بيع المسلم للكافر، وكذلك يحرم بيع المصحف للكافر، وكذلك يحرم بيع الصغير للكافر. قال عبد الباقي: ومنع على مسلم وكافر لخطابه بفروع الشريعة، بيع مسلم صغير أو كبير ومصحف وكذا جزؤه، وصغير كافر يجبر على الإسلام، وهو حربي غير مؤمن. لكافر، ومفهوم صغير أن الكتابي الحربي الكبير يباع لكافر إن كان على دينه وبقي به عندنا، ففي مفهوم صغير هنا تفصيل يبينه قوله الآتي: وله شراء بالغ على دينه لخ، فلا اعتراض عليه، والمراد بالكبير من المجوس أو من أهل الكتاب من عقل دينه، سواء بلغ أم لا وهذا لا ينافي قولهم: يجبر المجوس مطلقا وصغير الكتابيين الحربيين، ومثل البيع الهبة والصدقة، وقول المدونة: هبة المسلم للكافر جائزة معناه ماضية لا أنها تجوز ابتداء ثم يجبر على إخراجه. قاله الحطاب عن أبي الحسن. وكذا يمنع أن يباع للحربيين آلة الحرب من سلاح أو كراع أو سرج وجميع ما يتقوون به في الحرب من نحاس أو خباء أو آلة سفن وماعونه، ويجبرون على بيع ذلك إن وقع. قال في التوضيح: وكذا الدار لمن يتخذها كنيسة، والخشبة لمن يتخذها صليبا، والعنب لمن يعصرها خمرا، والنحاس لمتخذه ناقوسا، وكل شيء يعلم أن المشتري

ص: 34

قصد به أمرا لا يجوز، كبيع الجارية لأهل الفساد الذين لا غيرة لهم، أو يطعمونها من حرام، والمملوك لمن يعلم منه الفساد به انتهى كلام عبد الباقي.

وقال الحطاب: لما ذكر شرط انعقاد البيع وشرط لزومه، ذكر شرط جوازه ابتداء، وهو صحة تقرر ملك المشتري على المبيع، ولو وجب عتقه بعد ذلك، فيجوز شراء من يعتق عليه لأن ملكه يتقرر عليه، وذلك هو الموجب لعتقه عليه، أعني تقرر ملكه عليه، وأما المسلم والمصحف فلا يصح تقرر ملك الكافر عليهما بلا خلاف، فإن وقع ذلك فاختلف فيه، فمذهب المدونة أن البيع يمضي ويجبر الكافر على إخراج ذلك عن ملكه، قال في المدونة: فإن ابتاع الذمي أو المعاهد مسلما أو مصحفا أجبر على بيعه من مسلم ولم ينقض شراؤه، ثم قال: ولو كان الكافر المشتري للمسلم عبدا لمسلم فإنه يجبر على بيعه لأنه له حتى ينتزعه سيده، وصرح المازري بأنه المشهور، وقال سحنون وأكثر أصحاب مالك: ينقض البيع، وبه صدر ابن الحاجب، وقيد ابن رشد الخلاف أي مذهب المدونة ومقابله وهو قول سحنون وأكثر أصحاب مالك، بأن يكون البائع عالما بأن المشتري نصراني، قال: ولو باعه من نصراني وهو يظنه مسلما لَبيعَ عليه ولم يفسخ اتفاقا؛ قال في الواضحة: ويعاقب المتبايعان على القول بالفسخ، ونقله ابن عبد السلام والمص في التوضيح، قال ابن عبد السلام: قلت: وينبغي أن يعاقبا أيضا على مذهب المدونة إلا أن يعذرا بالجهل، قال ابن عرفة عن ابن حارث: وفي مبايعة الكافر بالعين فيها اسم الله، قول ابن القاسم فيها كراهية مالك وأعظم ذلك، وقول ابن عبد الحكم: لا بأس بذلك، وفي المدونة: ولا يباع من الحربيين آلة الحرب من سلاح أو كراع وسرج وغيرها، مما يتقوون به من نحاس وخُرْثِىٍّ وغيره، خرثي بثاء مثلثة وبضم الخاء المتاع المختلط أبو إسحاق: فإن بيع ذلك منهم بيع عليهم، وأما بيع الطعام فقال ابن يونس عن ابن حبيب: يجوز في الهدنة، وأما في غير الهدنة فلا. قاله ابن الماجشون. وبمنع بيع السلاح لمن يعلم أنه يريد به قطع الطريق على المسلمين وإثارة الفتنة بينهم.

تنبيه: إن أسلم العبد وله ولد من زوجته النصرانية المملوكة لسيده بيع الثلاثة، لمنع بيع الصغير دون أمه؛ إذ لابد من بيع الصغير لأنه قد حكم بإسلامه لإسلام أبيه. قاله الحطاب. قال: وكذلك

ص: 35

يشترط في جواز البيع أن لا يعلم أن المشتري قصد بالشراء أمرا لا يجوز. والله أعلم. انتهى. وقال بناني عن ابن عرفة، وسماع عيسى ابنَ القاسم: يمنع بيع

(1)

مصحف ابن مسعود. ابن رشد: لأن قرءانيته لم تثبت، قلت: وعليه بيع ما يوجد اليوم على أنه التورية والإنجيل. انتهى. ثم قال عن الحطاب: وأما بيع الطعام فقال ابن يونس عن ابن حبيب: يجوز في الهدنة، وأما في غير الهدنة فلا. قاله ابن الماجشون. انتهى. قلت: كلام الشاطبي في العيار يقتضي أن المذهب المنع مطلقا، وهو الذي عزاه ابن فرحون في التبصرة، وابن جزي في القوانين لابن القاسم. انظر شرح أبي علي والله أعلم. وذكر في المعيار من الشاطبي أن بيع الشمع يمنع إذا كانوا يستعينون به على إضرار المسلمين، وإن كان لأعيادهم فمكروه. انتهى. وقال أبو علي عند قوله: ومنع بيع مسلم ومصحف وصغير لكافر هذا مما لا خلاف فيه بالنسبة إلى المسلم والصحف؛ لأن فيه انتهاك حرمة الإسلام بملكه المصحف وإذلال المسلم واستيلائه عليه، واختلف إن وقع هل يفسخ ويرد المبيع إلى ربه أو يصح ويجبر على بيعه، والخلاف مقيد بما إذا علم البائع بأن المشتري كافر، وأما إذا ظن أنه مسلم فلا يفسخ بلا خلاف ويباع عليه، والمراد بالصغير هنا الصغير الكافر. انتهى.

ابن جزي: لا تجوز التجارة إلى أرض الحرب. وقال سحنون: هي جرحة، ولا يدخل مسلم بلادهم إلا لمفاداة مسلم، وينبغي للإمام أن يمنع الناس من الدخول إليها ويجعل على الطريق من يصدهم. انتهى. وقال ابن ناجي على المدونة: ولا يشترى منهم بالدنانير والدراهم التي فيها اسم الله لخ، ما نصه: التعليل يقتضي التحريم، وأجازه ابن القاسم وابن كنانة وابن عبد الحكم وبه العمل عندنا بإفريقية، وأخذ المازري من قولها: لا يكتب في عقودهم بسم الله الرحمن الرحيم، وأما ذكر الحمد لله وحده، أو ذكر اسم رب الدَّين المسلم إذا كان مسمى بعبد العزيز أو بعبد الله وشبه ذلك فخفيف، وجرى العمل عندنا بكتب ذلك. انتهى. ولا يجوز من المعاملة بين المسلم والذمي إلا ما يجوز بين المسلمين، فإن عامله بما لا يجوز من البيع وغيره فالحكم فيه كالحكم فيما بين المسلمين. انتهى. وأهل الخلاف من الأعراب وغيرهم لا تجوز إعانتهم بكل ما يتقوون

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 11.

ص: 36

به على مفسدتهم، وعلى قول ابن القاسم من منع بيع الطعام للكفار مطلقا إذا بيع لهم يباع عليهم من مسلم، وقيل: يفسخ.

ووقعت مسألة بتونس في نصراني من أهل الجزية ثبت عليه أنه باع ولدا مسلما لأهل الحرب النازلين بالأمان للتجارة، فأفتى ابن عبد السلام بقتله على أن يصلب ويقتل، واختار بعض شيوخنا أنه نقض العهد فيرى الإمام فيه رأيه، ولا يجوز تعليم المسلم أولاد النصارى القرآن، ومن المعلوم أن الإعانة على المعصية معصية، ولو وهب النصراني العبدَ المسلم للثواب فلم يثبه فله أخذه ليباع عليه، وفي الرهوني عن المقدمات: وإنما يجوز أن يباع منهم من العروض ما لا يتقوون به في الحرب ولا يرهب في القتال، ومن الكسوة ما يقي الحر والبرد لا أكثر، ولا من الطعام إلا ما لا يتقوى به مثل الزيت والملح وما أشبه ذلك، وفي الرهوني عن اللخمي عن ابن حبيب في أهل العهد وتجار الحربيين: يمنعون من حمل السلاح والحرير والحديد والنحاس والأدم والخيل والبغال والحمير والغرائر والأخرجة والزفت والقطران والشمع واللُّجُم والسروج والمهامز والبسط والكتان والصوف والطعام والقمح والشعير، يريد في الطعام مثل الشدائد إذا كان يرجى بمنعهم أن يتمكن منهم، وأما الحرير والصوف والكتان والملابس فالأمر فيه خفيف.

وأجبر على إخراجه؛ يعني أن الكافر إذا اشترى المسلم أو الصحف أو الصغير فإنه يجبر على إخراج ما ذكر من ملكه؛ قال عبد الباقي: وأجبر على إخراجه فيما ذكر المص وفي جميع ما مر، ودل كلامه على أنه لا فسخ مع القيام بل يمنع ذلك ابتداء ويمضي بعد الوقوع ولو مع القيام، ولكن يجبر على الإخراج في القيام والفوات، وكحذا هو المشهور ومذهب المدونة كما مر. بعتق، يعني أنه يجبر على إخراج المسلم من ملكه بأي وجه كان، من بيع وعتق وصدقة، أوهبة؛ يعني لغير ثواب، وأما هبة الثواب فلا يكتفى منه بها، بل يرد له ذلك ويباع عليه، كما مر؛

وعلم مما قررت أن قوله: بعتق، لا مفهوم له بل المراد إخراج ما ذكر عن ملك الكافر بأي مخرج كان. ولو لولدها الصغير على الأرجح؛ يعني أن الكافرة إذا اشترت شيئا مما ذكر من المصحف والمسلم والصغير الكافر فإنه يكتفى في إخراجه من ملكها بهبته لولدها الصغير المسلم، ويتصور

ص: 37

كون ولدها الصغير مسلما بأن يكون من زوجها المسلم، أو الكافر وأسلم المولد نفسه لصحة إسلام الصغير المميز، ولو لم ينفر من أبويه، وأولى في الاكتفاء الهبة لولدها الكبير الرشيد المسلم، وقدرتُها على الاعتصار من الصغير ليست مانعة من الاكتفاء بالهبة في الإخراج، وهذا قول ابن الكاتب وأبي بكر بن عبد الرحمن ورجحه ابن يونس، ومقابله لابن مناس بالميم المفتوحة قبل النون، ووجه الأولوية مع أن الصغير والكبير سواء في الاعتصار منهما أن الكبير بصدد أن يفيتها على الواهبة، بخلاف الصغير لعدم إمضاء تصرفه، وإنما ذكر المص الصغير لأن فيه فرض الخلاف والترجيح عند ابن يونس، واحتج ابن مناس بعدم الاكتفاء في حلية إحدى الأختين بهبة الأخرى لمن يعتصرها منه، وفرق ابن يونس بأن مالك الأختين مسلم له الاعتصار، والكافرة ممنوعة منه، فإن اعتصرت أجبرت على الإخراج، قال الحطاب: الخلاف المذكور وترجيح ابن يونس إنما هو في مسألة عبد النصرانية يسلم، وما ذكر المص في اشتراء الكافرة المسلم فكأنه رأى أن لا فرق بينهما، والذكر الكافر كالأنثى فإنها فرض مسألة. انتهى. قال بناني: القياس أي قياس الأب على الأم لا ينهض للفرق بأن الأب له تسلط على مال ولده، بخلاف الأم فلا حجر لها عليه غالبا، وإن اشتركت مع الأب في الاعتصار، فلعل فرض المسألة في المرأة مقصود لذلك. والله أعلم. قاله أبو علي. وبحث الرهوني مع بناني إن عنى أن له تسلطا على مال ولده في الجملة فمسَلَّم، لكن لا يقدح ذلك في مساواته للأم هنا، وإن عنى في مسألة النزاع هنا وهي كون الأب كافرا وولده الصغير مسْلِما فلا نسلِّم أن له تسلطا على مال ولده إذ لا ولاية للأب الكافر على ولده المسلم. فقد قال الزرقاني عند قول المص في الحجر "والولي الأب" ما نصه: المسلمُ، فقَيَّدَ الأب بكونه مسْلِما، وسَلَّم له ذلك بناني نفسه وغيره وهو حقيق، فقد نص في المدونة وغيرها على أنه لا يزوج الكافر ابنته البكر المسلمة، وحكى عليه ابن حارث الاتفاق، عللوه بأنه لا ولاية له عليها، ونصوا على أنه إن وكل مسلما يعقد عليها فعقد عليها ذلك المسلم فذلك النكاح فاسد يفسخ وإن دخل بها.

واعلم أن الصدقة لا تعتصر فلا يأتي فيها الخلاف، فإن وقعت الهبة لمن لا يعتصر منه فكالصدقة، وإلا جاء الخلاف، وقد حكى أبو الحسن الاتفاق على الصدقة أنها كافية في الإخراج، وقوله: ومنع بيع مسلم لخ، وقد مر أن مثل البيع الهبة والصدقة فإن وقع مضى وأجبر

ص: 38

على إخراجه، وسواء كان المتصدق أو الواهب مسلما أو كافرا، قال في المدونة: وإن وهب مسلم عبدا مسلما لنصراني أو تصدق به عليه جاز ذلك، وبيع عليه، والثمن له، وقال ابن يونس: قوله: وإن وهب مسلم، يريد: أو نصراني، وقوله: جاز، قال أبو الحسن: يريد مضى، ولم يرد أنه يجوز ابتداء، ومثل ذلك إذا أسلم عبد الكافر فإنه يجبر على بيعه ولو كان العبد صغيرا. قال في المدونة: إن عقل الإسلام، وظاهر المص أن الكافر يتولى بيع العبد وهو ظاهر المدونة. قال أبو الحسن: وليس كذلك؛ لأن فيه إهانة للمسلم، بل يبيعه الإمام، ولو وهب الكافر العبد المسلم الذي اشتراه لمسلم للثواب فلم يثبه، فله أخذه ويباع عليه، وأقام بعض الشيوخ من هذه المسألة، أعني مسألة الهبة للثواب، أن النصراني إذا اشترى مسلما ثم باعه من مسلم قبل أن يعرض له أن بيعه جائز ولا ينقض؛ لأنه فعل ما كان ينعله الإمام، وقال ابن شعبان ينقض بيعه لأن توليه إهانة للمسلم فيفسخ حتى يتولاه الإمام.

تنبيه: قال ابن عرفة: قال المازري: لو أسلم عبد الكافر الموجر من نصراني فسخ باقي مدة الإجارة، وهذه الرواية على فسخ شراء الكافر للمسلم، وعلى بيعه عليه يوجر من مسلم بقية المدة. ابن عرفة: يفرق ببقاء ملك الكافر في إجارته عليه، ولذا يفتقر لبيعه بعدها. انتهى. قلت: ولو كان موجرا من مسلم فعلى ما قال المازري لا تفسخ الإجارة، وعلى ما قال ابن عرفة تفسخ وهو الظاهر. قاله الحطاب. لا بكتابة، قال الحطاب شارحا للمص: أي لا يكفي في إخراج العبد المسلم من ملك الكافر مكاتبته إياه، بل تباع كتابته عليه على المشهور، سواء أسلم عنده ثم كاتبه، أو اشتراه مسلما ثم كاتبه، أو كاتبه ثم أسلم، كما سيقوله المص في باب الكتابة؛ يعني قوله: ومضت كتابة كافر لمسلم وبيعت؛ ومقابل المشهور أن الكتابة تبطل ويباع عبدا. قاله في المبسوط. ونقله ابن الحاجب وغيره. والله أعلم. وأما التدبير فإنه ينفذ ويواجر على سيده الكافر، سواء اشتراه مسلما ثم دبره، أو أسلم عنده ثم دبره، أو دبره ثم أسلم، على المشهور، كما سيذكره المص في باب التدبير، والمعتق إلى أجل حكمه حكم المدبر، بل هو أولى؛ وفي كلام ابن يونس إشارة إليه، وأما الإيلاد فالذي رجع إليه مالك في أم ولد الذمي تسلم هي أو يولدها بعد إسلامها

ص: 39

أنه ينجز عتقها، إلا أن يسلم هو قبل عتقها فتبقى له أم ولد، قاله في المدونة. والفرق بين المدبر وأم الولد أنه لم يبق له فيها إلا الاستماع وقد حرمت عليه، وأما المدبر فله خدمته فلذلك أوجر عليه، وأما التبعيض فحكمه حكم من أعتق بعض عبده على التفصيل الآتي. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: لا يكفي الإخراج بكتابة مع تولي قبض نجوم الكتابة، بل تباع كما سيفيد وجوبَ بيعها بقوله: ومضت كتابة كافر لمسلم وبيعت، فلا يقال: قد كفت الكتابة في الإخراج. ولو أدخل كافا على كتابة ليشمل التدبير والاستيلاد كان أولى، ويوجر المدبر عليه، وصورة الاستيلاد أن تسلم أمته القن فيطؤها بعد إسلامها فتحمل منه. فينجز عتقها عليه إلا أن يسلم هو قبل عتقها، وكذا إن أولدها قبل إسلامها أي وطئها وهي قن فحملت منه ثم أسلمت، وتباع خدمة معتق لأجل. انتهى. وبيع عليه ما يملك من معتق بعضه، فإن أعتق هو بعضه قوم باقيه عليه أي على سيده الكافر. قاله بناني. قال مقيده عفا الله عنه: يعني فيما إذا كان الباقي لغيره، فلو كان الباقي له هو لكمل عليه عتقه بالحكم. كما مر من الحطاب قريبا. والله سبحانه أعلم. وقوله: لا بكتابة، مخرج من مقدر، فكأن المص قال: وأجبر على إخراجه ويكون الإخراج بعتق لخ، لا بكتابة. قاله أبو علي. قال مقيده عفا الله عنه: المقدر عامل بعتق، وقوله: لا بكتابة عطف على بعتق: وهو ليس مقدرا. والله سبحانه اعلم.

أو رهن؛ يعني أنه لا يكفي في إخراج العبد المسلم من ملك الكافر أن يرهنه لمسلم، بل يباع عليه كما لو رهنه لكافر، قال عبد الباقي: أو رهن لعبد أسلم عند ذمي فرهنه بعد إسلامه، فلا يكفي رهنه في إخراجه عليه بل يباع. انتهى. أي لأن الرهن باق على ملك راهنه. وأتى برهن ثقة، يعني أنه إذا رهن الكافر عبده المسلم، وقلنا: إن ذلك لا يكفي في الإخراج وأنه يباع عليه، فإنه يأتي للمدين برهن ثقة إن أراد أخذ الثمن الذي بيع به العبد، وإن أراد تعجيل الدين فله ذلك. قاله أبو علي. وقوله: ثقة أي قيمته كقيكته وضمانه كضمانه.

إن علم مرتهنه بإسلامه ولم يعين؛ يعني أن ما ذكر من أن الكافر لا يجبر على التعجيل وله أن يأتي برهن ثقة مكانَ العبد المبيع، مقيد بما إذا كان المرتهن عالما بإسلام العبد فارتهنه على ذلك ولم يعين الرهن حين العقد بل وقع على رهن مطلق. وإلا أي وإن لم يعلم بإسلام العبد حين

ص: 40

الارتهان، أو علم به ولكن عين العبد للرهنية عجل؛ أي يباع العبد ويعجل للمرتهن حقه، وليس له أن يأتي برهن آخر. قاله أبو علي. قوله: إن علم مرتهنه بإسلامه ولم يعين، القيد الأول لابن محرز، والثاني لبعض القرويين. قاله بناني. وقال الخرشي بعد كلام وعلم مما ذكرنا أن قوله: وإلا عجل يدخل تحته ثلاث صور: وهي ما إذا لم يعلم المرتهن بإسلامه وعين، وهي يتفق فيها ابن محرز وبعض القرويين على التعجيل، وما إذا لم يعلم بإسلامه ولم يعين، وما إذا عين وعلم بإسلامه، وكلاهما يختلف فيه. انتهى المراد منه. وقال أبو علي: وحاصل هذه المسألة على ما في التوضيح ونقحه الحطاب أن المدونة قال فيها ما نصه: وإذا أسلم عبد النصراني فرهنه بعته عليه وعجلت الحق إلا أن يأتي برهن ثقة مكان العبد فيأخذ الثمن، فقيده بعض القرويين بما إذا لم يقع الرهن على عينه، وقيده ابن محرز بعلم المرتهن للعبد بإسلامه، فجمع المص بينهما، فالصور أربع.

الأولى: علم المرتهن بإسلامه ولم يعين، فله أن يأتي برهن ثقة، وهو صريح كلام المتن وموافق للقيدين. الثانية: لم يعلم مرتهنه بإسلامه وعين، فيعجل الحق على ما قال المص، وهو موافق للقيدين أيضا. الثالثة: انتفاء العلم ولم يعين، فمقتضى كلام المتن تعجيل الحق، وهو موافق لقيد ابن محرز. الرابعة: علم وعين فمقتضى كلام المص التعجيل أيضا، وهو موافق لقيد بعض القرويين، ومخالف لقيد ابن محرز. والثلاث الأواخر داخلة في قول المتن: وإلا عجل، وجعل اللخمي محل الخلاف إذا أسلم العبد قبل الرهن، وأما بعده فلا يعجل اتفاقا إذا أتى برهن ثقة وتبعه في الشامل. وهذا كله إذا أراد الكافر أخذ الثمن وإلا فلو عجله لكان له ذلك، وقول المتن: وإلا عجل، هذا إذا كان الراهن مليا وكان الدين مما يعجل، وأما إن كان معسرا أو كان الدين مما لا يعجل وهو العرض والطعام إذا كانا من بيع ففيه أقوال، من جملتها أن الثمن يبقى رهنا، وعليه فيقيد به كلام المتن، ويدل عليه ما يأتي للمص من هذا في بابه. انتهى. وقال الشبراخيتي: فإن كان الدين مما لا يعجل، فقيل: يمضي البيع ويبقى الثمن رهنا، وقيل: يغرم قيمته وتبقى رهنا، وقيل: يأتي برهن مثله. انتهى. وفي الرهوني ما معناه: فإن كان عرضا من بيع خير

ص: 41

المرتهن في قبول التعجيل فإن قبله فلا إشكال، وإن لم يقبله فقيل يبقى الثمن رهنا لخ، وقد مر أن قوله: وأتى برهن ثقة، مقيد بما إذا أراد الراكمن أخذ الثمن الذي يباع به العبد الذي لم يكتف برهنه في إخراجه عن ملك سيده الكافر، فإن أراد تعجيله في الدين فله ذلك.

كعتقه قال عبد الباقي: أي إذا أعتق الكافر عبده المسلم الذي رهنه عند أمره ببيعه فإنه يعجل الحق سواء كان موسرا أو معسرا، ولا يبقى المعسر ليلا يدوم ملكه على مسلم، وبهذا يعلم أن التفصيل الآتي في الرهن من قول المص: ومضى عتق الموسر وكتابته وعجل والمعسر، يبقى في غير الكافر. كذا قرره بعض شيوخنا. قاله أحمد. ولا يخفى أن تعجيل الحق من المعسر إنما يكون برد عتقه وبيع العبد عليه فلا ضرر على المرتهن. وهل يقيد التعجيل في هذه بما إذا كان مما يعجل وإلا جرى فيه ما مر وهو الظاهر؟ أم لا، ورد علي الأجهوري على أحمد قوله: إنما يأتي في غير الكافر، بأنه خلاف ظاهره الشامل للسيد المسلم والكافر وظاهر شراحه؛ أي فما هنا مجمل وما يأتي مفصل له ولغيره. انتهى. قول عبد الباقي: كذا قرره بعض شيوخنا لخ، مثله للشيخ أحمد بابا وهو ظاهر، وما رده علي الأجهوري غير ظاهر، وكذا ما في الحطاب ومن تبعه من قصر ما هنا على الموسر غير صواب، وقال الحطاب. كعتقه؛ الضمير راجع للعبد المرهون وليس هو خاصا بمسألة العبد الكافر إذا أسلم، بل مراده أن الراهن إذا أعتق عبده الرهون فإنه يقضى بتعجيل الدين الذي عليه إن كان موسرا، وستأتي المسألة مفصلة في باب المرهن. انتهى. وبالغ الشيخ أبو علي في صحة ما لعبد الباقي من أحمد، وقال: إنه هو الحق، واعترض على الحطاب والفيشي والخرشي، وصوب الرهوني ما للحطاب. والله سبحانه أعلم.

وجاز رده عليه بعيب يعني أنه إذا بيع على الكافر عبده المسلم فإنه يجوز للمشتري إذا وجد به عيبا أن يرده عليه، بناء على أن الرد بالعيب نقض للبيع من أصله، وهو المذهب، وقيل: لا يجوز، ويتعين الرجوع للأرش بناء على أن الرد بالعيب ابتداء بيع. قاله الخرشي. ومثله لعبد الباقي إلا أنه زاد: ولا يقال على جواز رده: لا يتولى البيع إلا السلطان وبيعه بيع براءة؛ لأنا نقول: بيعه ليس ببيع براءة في هذه المسألة، بل في مال المفلس. انتهى. قال بناني: تبع في هذا التخصيص عليا الأجهوري، ولم نجد ما يشهد له من كلام الأئمة، فالصواب إبقاء القاعدة على

ص: 42

أصلها، وأما السؤال فإنه غير وارد إلا على من فرض المسألة فيما يشمل إسلامه قبل البيع وبعده كالمص وبعض شروحه كالحطاب، أما من فرضها في خصوص إسلامه بعد البيع كابن رشد وابن شأس وابن عبد السلام وابن عرفة والمواق فلا يرد عليه شيء. تأمل. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: ويظهر لي أنه لا يصح إلا فرض ابن رشد ومن ذكر معه: أو بيعُ الكافرِ المسلمَ لا بيع الحاكم؛ لأن بيع الحاكم لا رد فيه في الرقيق، والمبيع هنا رقيق، وهذا هو ظاهر النقول التي ساقها المواق، وكذا كلام ابن سلمون وغير واحد، واستثناء هذه المسألة من ذلك الحكم يحتاج إلى دليل واضح. انتهى المراد منه. وقال الحطاب: وما ذكره المؤلف من الرد هو لابن القاسم، وقال أشهب وغيره: لا يجوز رده ويتعين الرجوع بالأرش، وقال أبو علي: وجاز رده عليه بعيب؛ هذا مذهب ابن القاسم؛ وما أحسن عبارة ابن الحاجب في هذا إذ يقول: وفي رده عليه بعيب أو يتعين الأرش قولان، لابن القاسم وأشهب، بناء على أنه فسخ أو ابتداء، وقول أشهب قال به ابن الماجشون واختاره ابن حبيب، وظاهر المتن ولو نوى المسلم بالعبد الإسلام كما في التهذيب. انتهى.

وفي خيار مشتر مسلم يمهل لانقضائه؛ يعني أن الكافر إذا باع عبده الكافر لمسلم بالخيار؛ أي بخيار للمسلم المشتري للعبد، وأسلم العبد في أمد الخيار، فإن المسلم المشتري للعبد يمهل في ترويه إلى أن ينقضي أمد الخيار، ولا يستعجل بإعلام ما عنده من رد أو إمضاء، وقوله: في خيار، متعلق بيمهل. قاله بناني. وقال الحطاب مفسرا للمص: يعني أن الكافر إذا باع عبده الكافر لمسلم فأسلم العبد في أيام الخيار، فإن كان الخيار للمسلم فإنه يمهل لانقضائه لتعلق حق المسلم بالتأخير؛ المازري: وهو ظاهر المدونة، فإن رده المسلم على الكافر بيع عليه أي جبر على إخراجه بشيء مما تقدم.

ويستعجل الكافر؛ يعني أن العبد الكافر إذا أسلم في أيام الخيار والخيار لكافر فإن ذلك الكافر الذي له الخيار يستعجل بإعلام ما عنده من رد أو إمضاء بائعا كان أو مشتريا؛ قال الحطاب مفسرا للمص: ويستعجل الكافر أي وإذا كان الخيار للكافر فإنه يستعجل، وظاهره سواء كان

ص: 43

بائعا أو مشتريا، وهو ظاهر في الأول منصوص عليه في الثاني. نقله بناني. وقال عقبه قلت: بل هو منصوص عليه فيهما كما في المدونة، ونصها على نقل المواق: لو باع نصراني عبدا نصرانيا من نصراني بخيار للمشتري أو للبائع فأسلم العبد في أيام الخيار لم يفسخ البيع، وقيل لمالك الخيار: اختر أو رد، ثم بيع على من صار إليه. انتهى. وظاهر المص أن الكافر يستعجل سواء كان العاقد معه مسلما أو كافرا، والذي في نص ابن يونس أن ذلك محله إذا كان العاقدان كافرين، ونصه: قال بعض أصحابنا: إذا كان المتبايعان كافرين عجل الخيار، وإن كان أحدهما مسلما لم يعجل إذ قد يصير للمسلم منهما. انتهى. ابن عرفة عن التونسي: انظر لو كان الثلاثة كفارا وأسلم العبد وبائعه، هل يعجل تخيير الكافر كما لو أسلم العبد وحده أو يؤخر؟ لأن الملك والخراج لمسلم يريد أن الخيار للمشتري. انتهى. نقله بناني. قال: ولم أر في كلام ابن عرفة وغيره ما يوافق إطلاق المص: فقول الزرقاني: إن قول ابن يونس ضعيف كما في التوضيح وغيره قد علمت ما فيه. تأمله. على أن المص نقل كلام ابن يونس واعتمده مقتصرا عليه، وليس فيه ما يشير إلى ضعفه، ونقل أيضا ابن عرفة عن ابن محرز مثل النظر الذي للتونسي. انتهى.

كبيعه إن أسلم وبعدت غيبة سيده، تشبيه في تعجيل السلطان لبيعه، قال الخرشي: يعني أن العبد الكافر إذا أسلم وسيده الكافر غائب بعيدة كعشرة أيام مع الأمن أو اليومين مع الخوف فإن السلطان يتعجل بيعه ولا يمهله إلى مجيء سيده، فالتشبيه في استعجال بيعه وجهل محل السيد كبعده، فلو بيع عليه ثم قدم السيد وأثبت أنه أسلم قبل العبد نقض البيع، ولو أعتقه المشتري نقض العتق، ولو حكم فيه؛ لأن الحكم لم يصادف محلا انظر أبا الحسن؛ إلا أن يكون الحكم من مخالف يرى أن بيعه على الوجه المذكور لا ينقض. وقال الحطاب عند قوله "كبيعه إن أسلم وبعدت غيبة سيده": تشبيه في تعجيل البيع. وقاله في المدونة. وجهل موضعه كبعد غيبته. قاله أبو الحسن. قال: وهذا إذا لم يطمع بقدوم السيد، فإن طمع بقدومه انتظر يدل عليه ما في كتاب العيوب. انتهى. وفهم من تقييد الغيبة بالبعيدة أنه لا يبيعه في القريبة وينتظره، وصرح به في المدونة، فإن بيع العبد ثم قدم السلب فأثبت أنه أسلم قبل إسلام العبد كان له أن يأخذه بطريق الاستحقاق، فإن عتق كان له نقض العتق قاله أبو الحسن. وقال عبد الباقي: وشبه في تعجيل

ص: 44

السلطان بيعه قوله: كبيعه إن أسلم العبد في غيبة سيده الكافر وبعدت غيبة سيده بأن كانت عشرة أيام مع الأمن أو يومين مع الخوف، وهل يتلوم له إن رجي أم لا؟ فيه الخلاف الذي ذكره في الخيار بقوله: فتلوم في بعيد الغيبة إن رجي قدومه كإن لم يعلم موضعه، وفيها أيضا نفي التلوم، وفي حمله على الخلاف تأويلان، واقتصار الحطاب على التلوم حيث رجي قدومه فيه قصورٌ، واقتصر أحمد عن المشدالي على أن جهل الموضع كبعد الغيبة، ومفهوم المص إن قربت غيبته لم يبع بل يكتب إليه، لاحتمال إسلامه قبل إسلام العبد أو بعده وقبل بيعه فإنه أحق به. قال أحمد: لو بيع عليه أي في منطوق المص ثم قدم وأثبت أنه. إلى آخر ما مر. قَوْلُ الزرقاني: واقتصار الحطاب على التلوم حيث رجي قدومه فيه قصورٌ، فيه نظر؛ إذ ما في الحطاب نقله عن أبي الحسن، وقد أحال على ما في كتاب العيوب، ونصه: قال أبو الحسن: وهذا إذا لم يطمع، إلى آخر ما مر. وفي المدونة: قال ابن القاسم: إذا أسلم عبد النصراني وسيده غائب فإن بعدت غيبته بيع عليه ولم ينتظر، وإن قربت غيبته نظر في ذلك السلطان وكتب فيه خوف أن يكون قد أسلم، أو يرى أن يسلم الآن، وكذلك النصراني الغائب تسلم زوجته،

وعلم مما قررت أن محل قوله: إن أسلم وبعدت غيبة سيده، في إسلام العبد في غيبة سيده الكافر؛ لأن قوله: بعدت غيبة سيده، جملة حالية، وأما لو غاب وتركه مسلما فالظاهر أنه يباع مطلقا ولا ينتظر قربت غيبته أو بعدت. قاله ابن رشد. قاله أبو علي.

وفي البائع يمنع من الإمضاء، هذا مفهوم قوله: وفي خيار مشتر مسلم؛ يعني أن المسلم إذا باع عبده الكافر من كافر على أن الخيار للبائع المسلم تم أسلم العبد في أمد الخيار فإن البائع المسلم يمنع من إمضاء البيع وهو ظاهر المدونة. قاله الشيخ أبو علي. وقال الشيخ محمد بن الحسن عند قوله: وفي البائع يمنع من الإمضاء، ذكر ابن الحاجب في هذا قولين وهما مخرجان، كما نقله ابن شأس عن المازري، على أن بيع الخيار هل هو منحل فيمنع من الإمضاء لأنه كابتداء بيع أو منبرم فيجوز. قال في التوضيح: والمعروف من المذهب انحلاله، ثم قال: والظاهر المنع وإن قلنا إنه منبرم إذ لا فرق بين ما في يد المسلم رفع تقريره وبين ابتداء بيعه بجامع تمليك الكافر للمسلم

ص: 45

في الوجهين. انتهى. فاعتمد المص هنا ما هو مخرج على المعروف من المذهب مع أن المنصوص لابن محرز خلافه، ونصه: لو كان البائع مسلما والخيار له وأسلم العبد فواضح كون المسلم على خياره، ولو كان الخيار للمشتري احتمل بقاء الخيار لمدته إذ الملك للبائع، وتعجيله إذ لا حرمة لعقد الكافر. انتهى. ونقله ابن عرفة وأقره، وبه نظر المواق في كلام المص، وأيده بكلام ابن يونس المتقدم. والله أعلم. نعم، في نقل ابن عرفة عن اللخمي أنه قال: استحسن عدم إمضائه فإن فعل مضى. انتهى. ومثله لأبي الحسن، فعدم الإمضاء عندهما مستحب فقط، وقوله: وفي البائع لخ، اعلم أن الصور العقلية في المسألة تسع: لأن المتبايعين إما كافران

(1)

معا، أو الكافر البائع فقط، أو المشتري فقط، فهذه ثلاث، وكل منها الخيار فيه إما للبائع فقط، أو للمشتري فقط، أو لهما، فهي تسع، يؤخذ مما تقدم حكم ست منها، وهي: لا إذا كان الخيار لأحدهما فقط، والثلاث الباقية وهي: أن يكون الخيار لهما معا في الأقسام الثلاثة، فإذا كان أحدهما مسلما والخيار لهما فإن كان المسلم بائعا منع من الإمضاء على ما عند المص، وإن كان مشتريا بقي الخيار لمدته لحق المسلم، ثم إن اتفقا على الرد أو الإمضاء عمل عليه، وإن اختلفا قضي لمن رد منهما، وذلك إن صار للمسلم فظاهر، وللكافر أجبر على إخراجه، ومثل ما قلناه يأتي إذا كانا معا كافرين، لكن مع الاستعجال، ومن صار له منهما عجل عليه إخراجه من ملكه. انتهى. وهذه التسع مأخوذة من كلام المص إما صريحا وإما تلويحا. انظر حاشية الشيخ بناني. وفهم من قول المص: وأجبر على إخراجه لخ، أنه لو واجر كافر عبده الكافر لكافر أو مسلم فأسلم العبد في أثناء مدة الإجارة لانفسخت الإجارة، وبيع من مسلم أي يخرجه من ملكه بشيء مما مر، انظر شرح الشيخ أبي علي. وقد مر شيء من هذا.

وفي جواز بيع من أسلم بخيار تردد؛ يعني أن الكافر إذا أسلم عبده فإنه يجبر على إخراجه من ملكه كما عرفت، وهل يجوز له أن يبيعه على خيار له أو للمشتري لما فيه من طلب الاستقصاء للكافر الذمي في ثمنه، وفي العدول عنه تضييق على الكافر ولا يدفع ضرر بضرر؟ أو لا يجوز لبقاء المسلم في ملك الكافر زمن الخيار، في ذلك تردد للمازري. قاله الخرشي. وقال أبو علي: أي إن

(1)

في الأصل: كافرين، والمثبت من بناني ج 5 ص 14.

ص: 46

الكافر إذا أسلم عبده هل يجوز له أن يبيعه على خيار أم لا؟ المازري: وفيه نظر؛ لأن المبيع بالخيار على ملك البائع وخراجه له، أو يقال: قد يحتاج إلى إثبات الخيار للاستقصاء في الثمن، والعدول عن ذلك تضييق على الذمي، والضرر لا يدفع بالضرر. انتهى. وقال عبد الباقي: وفي جواز بيع مَنْ؛ أي رقيق كافر أسلم وسيده كافر يجبر على بيعه، فهل يجوز له بيعه بخيار للبائغ؟ أو للمشتري أو لهما للاستقصاء في الثمن؛ لأنه وإن حدث إسلامه عنده فلا يمنع من حقه وهو استقصاؤه الثمن، وهل هو ثلاثة أيام لحصول الاستقصاء بهما؟ وعليه فيستثنى هذا من قوله في الخيار: وكجمعة في رقيق، وعليه أحمد تبعا للتوضيح عن المازري، أو جمعة لاستقصاء الثمن ولاختيار المبيع، وهو ظاهر إطلاق المص فيما يأتي، طريقان؛ وعدم جواز بيعه بخيار تردد، وعلى القول بعدم الجواز لو باع بخيار فالظاهر رد البيع. قاله أحمد. فإن قيل: القول بجواز بيعه بخيار يخالف قوله: ويستعجل الكافر، قلت: لا يخالفه لأن ما مر لما وقع البيع على الخيار أولا فقد حصل الاستقصاء في الثمن فلا مضرة عليه في الاستعجال، ولو منع هنا من بيعه بخيار ابتداء لفات الاستقصاء فيحصل له الضرر، والمعنى أن نفس عقد الخيار فيه استقصاء بخلاف عقد البت، وأشعر قوله: بيع من أسلم، أن إسلام العبد طرأ عند الكافر وهو مقتضى نص المازري، وأما لو اشترى الكافر مسلما ابتداء وجبر على إخراجه وأراد بيعه بخيار فليس له ذلك، لتعديه بشراء المسلم بخلاف إسلامه عنده فهو معذور فيه، هذا هو الذي ينبغي الجزم به، وعلم منه ومن المص في ما مر أن الأقسام ثلاثة: إسلامه زمن الخيار فيستعجل الكافر، وشراؤه ابتداء مسلما فلا يمكن من بيعه بخيار، وإسلامه عنده ففيه تردد. انتهى كلام عبد الباقي: قال بناني قول الزرقاني تبعا للتوضيح من المازري لخ: ليس في التوضيح ذكره المدة، وقوله: طريقان لخ؛ ذكرهما أبو الحسن في الخيار، عزا الأولى لعياض، والثانية لابن رشد، وعلى الأولى فلا يختص ذلك ببيع الكافر المسلم حتى يصح الاستثناء مما يأتي. فتأمله. قاله بناني. وقال الشيخ أبو علي بعد كلام ما نصه: فكيف تستثنى مما سيأتي؟ إن هذا غلط، أو تجعل المسألة هنا فيها طريقان، وإنما هي من أفراد باب الخيار، فما كان فيه يكون فيها انتهى. وقال الحطاب عند قوله: وفي جواز بيع من

ص: 47

أسلم لخ، توقف في ذلك المازري، وفي كلام اللخمي ميل للجواز وهو الظاهر لأن له استقصاء الثمن، ألا ترى أنه لا يلزم أن يبيعه بأول ثمن يعطى به. انتهى. ففيه ترجيح القول بالجواز. والله سبحانه أعلم.

وهل منع الصغير إذا لم يكن على دين مشتريه. قد مر أنه يمنع بيع الصغير للكافر، ومعنى كلامه: أنه اختلف في منع بيع الصغير لكافر، فقيل: محل منعه إذا لم يكن على دين مشتريه أي على معتقده الخاص، لا أنه موافق له في النصرانية مثلا، فإن ذلك لا يكفي إذ تحتها أنواع، بحيث يبغض المتصف بأحدها المتصف بغيره، فإن كان على دين مشتريه جاز بيعه، وينبغي اشتراط إقامته به بدار الإسلام إن راهق لا دونه، وقيل: منع بيع الصغير للكافر مطلق أي غير مقيد بكونه على غير دين مشتريه، فيمنع بيعه للكافر على دينه أو لا وإلى ذلك أشار بقوله: أو مطلق والقول بمنعه إن لم يكن على دين مشتريه، ومقابله المانع مطلقا كل منهما يقيد بما أشار إليه بقوله: ان لم يكن مه أبوه، وأما إن كان معه أبوه فلا عبرة بالابن لأنه تابع؛ قال ابن يونس: قال سحنون: وأما الصغير الذي معه أبوه فحكمه حكم أبيه. انتهى. والحكم فيه هو قول المص: وله شراء بالغ على دينه لخ.

وعلم مما قررت أن قوله: إن لم يكن معه أبوه، شرط في كل من التأويلين انظر حاشية الشيخ بناني. وقوله: تأويلان، مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك تأويلان، الأول: ذكره عياض عن بعضهم ولم يرتضه، والثاني: وهو الإطلاق هو الذي ارتضاه عياض، قال الشيخ محمد بن الحسن رحمه الله تعالى: اعلم أن المؤلف ذكر الصغير في هذا المحل ثلاث مرات هذا ثانيها، فحمله الحطاب في هذا وما بعده على الكتابي. قال: والأول يحتمل أن يكون كذلك ليجري الكلام على نسق واحد، وتكون أل فيما بعده للعهد وهو الظاهر، ويكون حكم المجوسي مأخوذا بالأحروية، لأن مذهب المدونة أن المجوس يجبرون على الإسلام صغيرهم وكبيرهم، ويحتمل أن يريد بالصغير المتقدم ما يعم الكتابي والمجوسىي، ولكن يحتاج إلى تخصيص التأويلين بالكتابي، وكأنه قبل تقييد عياض للمدونة بكون الكتابي ليس معه أبوه. انتهى. قال الحطاب: فكأنه يقول يمنع بيع الصغير من أهل الكتاب للكافر، وهل محل ذلك إذا لم يكن على دين مشتريه؟ وأما إن وافقه في

ص: 48

الدين فيجوز، أو المنع من بيع الصغير الكتابي مطلق؛ أي سواء كان على دين مشتريه أو لم يكن، وقوله: إن لم يكن معه أبوه؛ أي المنع من بيع الصغير الكتابي محله إن لم يكن معه أبوه، لأنه حينئذ يجبر على الإسلام، وأما إن كان معه أبوه فلا يمنع؛ لأنه لا يجبر حينئذ على الإسلام، هذا حكم صغير الكتابيين؛

وأما صغار المجوس فإن لم يكن معهم آباؤهم فإنهم يجبرون على الإسلام ويمنع الكافر من شرائهم بلا خلاف، وإن كان معهم آباؤهم ففيهم خلاف، وكذلك اختلف في الكبير من المجوس هل يجبر على الإسلام أم لا؟ ولم يختلف في الكبير ممن سبي من أهل الكتاب أنه لا يجبر على الإسلام. قاله ابن رشد. وفي معنى الكبير من عقل دينه. قاله في سماع محمد بن خالد. وظاهر المدونة في كتاب التجارة أن المجوس يجبرون على الإسلام، ويمنع النصارى من شرائهم مطلقا، صغيرهم وكبيرهم، ونصها: قال ابن نافع من مالك في المجوس: إنهم إذا ملكوا أجبروا على الإسلام، ويمنع النصارى من شرائهم ومن شراء صغار الكتابيين، ولا يمنع من كبار الكتابين، وهذا في المجوسي المسبي، فأما المجوس الذين ثبتوا على مجوسيتهم بين ظهراني المسلمين فلا يجبرون على الإسلام. وقيله ابن رشد في البيان، وقال: إنه لا خلاف في أنه لا يجبر على الإسلام. انتهى كلام الحطاب باقتصار. وفي شرح أبي علي: لم أر أحسن من كلام الجواهر في النازلة، فإنه قال: فأما شراء العبد الذي ليس بمسلم فيختلف حكمه باختلاف صورة، وهي ثلاث الأولى: أن يشترى بالغا على دينه فلا يمنع من شرائه إذا كان يسكن به بلد المسلمين، ولا يباع لمن يخرج به عن بلاد المسلمين لما يخشى من إطْلاعه أهلَ الحرب على عورة المسلمين. الثانية: أن يكون هذا العبد صغيرا ففي الكتاب وغيره منعه لما يرجى من إسلامه وسرعة إجابته إذا دعي إلى الإسلام، لكونه لم يرسخ في نفسه الكفر، بخلاف الكبير، قال في العتبية: فإن بيع منه فسخ البيع؛ قال الإمام: ويتخرج فيه على القول الآخر أنه يباع عليه من مسلم، وقال محمد: لا يمنع من شرائه لأنا لسنا على يقين من إسلامه إذا اشتراه مسلم. الصورة الثالثة: أن يكون العبد بالغا على غير دين مشتريه، وفيها مسألتان الأولى: أن يكونا كتابيين، كيهودي يباع

ص: 49

من نصراني، أو نصراني يباع من يهودي، فقال ابن وهب وسحنون بالمنع من شرائه لما بينهما من العداوة والبغضاءة فيكون إضرارا بالمملوك. الثانية: أن يكون العبد من المجوس أو الصقالبة أو السودان. فأراد الكتابي شراءه، فحكى الإمام أبو عبد الله في ذلك ثلاثة مذاهب، الأول: الجواز مطلقا، قال: وهو ظاهر الكتاب؛ إذ قال فيه: ما علحته حراما وغيره أحسن منه، قال: وأطلق في الصغير منهم والكبير. الثاني: المنع مطلقا في الصغير والكبير، وعزاه إلى ابن عبد الحكم. الثالث: التفرقة بينهما فيمنع في الصغير ويجوز في الكبير، ثم قال بعد جلب كثير من النقول: وإذا تبين هذا وأن سبب المنع من البيع هو الجبر على الإسلام وعدمه كما يفهم من كلام ابن شأس وغيره، وصرح به في التوضيح في صغار الكتابيين، فالعبد الكافر فيه ستة أقسام: كتابي كبير لا جبر فيه إجماعا، كما يأتي في نقل اللقاني، وعكسه صغير مجوسي لا أب معه، يجبر اتفاقا كما في ابن عرفة، أو إجماعا كما في نقل اللقاني على لما يأتي. وكبير مجوسي فيه خلاف، وصغير مجوسي معه أحد أبويه فيه خلاف كذلك، وقسم خامس: صغير كتابي معه أبوه، صغير كتابي لا أب معه، وفيهما خلاف أيضا: وفي الكافي: ومن سبي من غير أهل الكتاب مجوسيا أو صقلبيا أو تركيا أو هنديا أو ديلميا أو بربريا أو غيرهم ممن لا كتاب لهم أجبروا كلهم على الإسلام، البالغ منهم وغير البالغ، ومنع اليهود والنصارى من شرائهم. ولم ينقلوه هنا وهو في غاية الاحتياج إليه لأنه صريح ولم يذكر له مقابلا، فإذا تمهد هذا فالراجح في صغار الكتابيين هو الجبر مطلقا، كان معه أبوه أم لا، ولذلك صدر به ابن عرفة، وهو ظاهر المدونة ولا علينا فيمن تأولها، وظواهر المدونة نصوص عند الفقهاء، ويروى أن ظاهرها كظاهر ما ورد الشرع به، وقال بعد أن حكى الخلاف في المجوسي الكبير: والأكثر أن هذا الخلاف إنما هو في الطارئ على المسلمين، والمأخوذ في الغنيمة وشبه ذلك، وأما من هو بين أظهر المسلمين فإنه لا يجبر على الإسلام. وقال بعد جلب كثير من النقول:

وحاصل ما تقدم أن الكبير الكتابي لا يجبر إجماعا، والصغير المجوسي الذي لا أب معه يجبر إجماعا، وغير هذين وهو الصغير الكتابي والصغير المجوسي الذي معه أبوه يجبران على

ص: 50

الراجح، كان مع الصغير الكتابي أب أم لا، والكبير المجوسي مثلهما في الجبر على الراجح. وتلخيص ذلك الجبر في الجميع إلا الكتابي الكبير، وقد قلت في ذلك:

ومومن يملك غير مومن

فضمه لدينه جبرا عني

إلا كبيرا من ذوي الكتاب

على الصحيح دون ما ارتياب

وبيع كل مجبَرٍ قد منعا

من كافر لسبب قد سمعا

وجود والد لمن قد جُبرا

لصغر لغو لدى من حَرَّرا

وقال بعد أن ذكر أن المراد بالصغير الأول الكتابي، وأن المجوسي يفهم بطريق الأحروية: ويحتمل أن يقصد المص معنى لطيفا، وهو أنه أطلق الصغير وأراد به الصغير الكتابي والصغير المجوسي، كان معهما أبواهما أم لا؟ وقوله: وهل منع الصغير إنما هو في الكتابي؟ وقرينة ذلك قوله: على دين مشتريه؛ لأن شبهة الدين إنما هي لأهل الكتاب -وإن كانوا مبعدين من رحمة الله ملعونين- بدليل نكاح الأنثى منهم، وأما المجوسي فلا دين ولا شبهة دين حتى يقال على دين مشتريه، مع أن جميع من تكلم على المسألة إنما ذكر بيع المجوسي لأهل الكتاب، ولم يذكر أحد بيع المجوسي من المجوسي حتى المص في توضيحه، فالقيد لا يكون إلا في الكتابي، وهذا معنى لطيف غاية.

وجبره تهديد وضرب؛ يعني أن المسلم إذا اشترى من يجبر على الإسلام وهو المجوسي مطلقا وصغير الكتابيين، فإنه يجبره من اشتراه على الإسلام، وكيفية جبره أنه يجبر بالتهديد أي الوعيد وبالضرب، ويقدم الأول وجوبا، قال عبد الباقي: ويكونان بمجلس، كذا ينبغي وأن يكرر ذلك عليه، وظاهر المص أنه لا يعتبر ظن الإفادة، وظاهره أنه لا يهدد بالسجن، وبهذا التقرير

ص: 51

علم أن هذا ليس راجعا لقوله: وأجبر على إخراجه؛ لأنا نتولى بيعه عليه ولا يتولاه هو، فكيف يتأتى جبره؛ لأنه ينزع من يده ويباع عليه جبرا؛ أي يخرج من ملكه، وقد علمت أن هذا الذي يجبر على الإسلام لا يجبر بالقتل. وله شراء بالغ على دينه؛ يعني أن الكافر يجوز له شراء البالغ من أهل دينه، كيهوديين أو نصرانيين، وقد مر أن معنى على دينه على معتقده الخاص. إن أقام به. قال عبد الباقي: أي شرط في عقد البيع أن يقيم به ببلد الإسلام، فإن لم يشترط ذلك لم يجز شراؤه ولم يصح ولو أقام بالفعل، كذا ينبغي؛ وهذا خاص بالمبيع الذكر، فإن كان أنثى جاز بيعها لمن هو على دينها وإن لم يقم بها، وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم تكن كالذكر في كشف عورات المسلمين. انتهى. قول الزرقاني: فإن لم يشترط ذلك لم يجز شراؤه ولم يصح لخ، قال الرهوني من شيخه: فيه نظر. والظاهر أن بيعه صحيح. ولكن لا يمكن من المشي به إلى بلده، وما قاله هو الظاهر قياسا على ما تقدم في شرائه المسلم وما معه. انتهى المراد منه. قوله: وله شراء بالغ على دينه لخ. أطلق المص رحمه الله في جواز شراء الكافر من على دينه ولم أر أحدا ممن تكلم عليه قيده بشيء، مع أند يجب تقييده بما إذا كان لا يجبر على الإسلام، وإلا فلا يجوز كما نقله ابن يونس عن ابن القاسم وأقره. لا غيره يعني أنه لا يجوز للكافر شراء الكافر البالغ الذي ليس على دينه. فالضمر في غيره راجع لدينه كما يفهم من تقرير عبد الباقي، فإنه قال: لا غيره؛ أي لا يجوز شراء بالغ على غير دين المشتري، والمتبادر من عدم الجواز المنع، وهذا قول ابن وهب وسحنون: واختاره اللخمي؛ وكون المتبادر من عدم الجواز المنع. قاله الرهوني. قال: وبه صرح اللخمي بقوله: يمنعه ابن وهب وسحنون، وإلى هذا القول الذي اختاره اللخمي أشار بقوله:

على المختار، ومقابل المختار في التوضيح وهو الجواز، حكاه سحنون عن بعض أصحاب مالك، وهو ظاهر قول مالك من رواية ابن نافع عنه، ونسبه اللخمي والمازري وابن شأس لابن المواز.

تنبيه: قال الرهوني: المنع هنا على القول به لحق الآدمي لا لحق الله، كبيع المسلم والمصحف، ولذا قيده ابن يونس بما إذا لم يرض، فإنه نقل عن ابن وهب: ولا يجوز أن يباع اليهود من النصارى، والنصارى من اليهود. قال سحنون: يكره ذلك للعداوة التي بينهم. ابن يونس: إلا أن

ص: 52

يرضى البالغون منهم بذلك. انتهى. وقوله: يكره، المراد بالكراهة المنع، كما يدل على ذلك تعليله، وبان من هذا أن المنع من رفع التظالم، فلا يقال: إن المنع مبني على خطابهم بفروع الشريعة. والله سبحانه أعلم. انظر الرهوني. وقال أبو علي: وقد اختلف في الكتابي يشتري المجوسي ومن ليس من أهل الكتاب على ثلاثة أقوال، حكاها المازري وغيره، الجواز وهو ظاهر المدونة، والمنع وعزاه اللخمي لابن عبد الحكم، والجواز في الكبار والمنع في الصغار، وقال ابن بشير: قال الشافعي: كل من كان من أهل الكفر يدين بغير دين أهل الكتاب من الصقالبة والبربر والسودان والترك وأشباههم يطلق عليه الفقهاء المجوس، ولم يفوق مالك بين الكبار والصغار في تحريم المتجر بهم إلى دار الحرب، ولا في جبرهم على الإسلام في المدونة، ثم قال: وأما المجوسي الكبير فلا يباع لأن الراجح فيه الجبر على الإسلام، وقول المتن: لا غيره، هو على إطلاقه كان المبيع كتابيا كبيرا أو مجوسيا كبيرا، وأما الصغير مطلقا فقد تقدم منعه مطلقا، وقد علمت مما مر أن التأويلين ضعيفان. والله أعلم.

والصغير، قال الرهوني: الصواب أنه معطوف على غير مدخول النفي أي لا يجوز شراء كافر صغير على دينه، وقوله: على الأرجح، صوابه على الأصح لأنه لعياض لا ابن يونس، كما نبه عليه غير واحد، وأشار المص إلى المعقود عليه بقوله: وشرط للمعقود عليه طهارة؛ يعني أنه يشترط في المعقود عليه ثمنا أو مثمنا أن يكون طاهرا أو يمكن تطهيره كالثوب المتنجس بدليل ما يأتي، وذكر المؤلف للمعقود عليه خمسة شروط، الأول: الطهارة واحترز به من النجس كما قال: لا كزبل؛ يعني أن الزبل ونحوه مما كانت نجاسته ذاتية لا يجوز بيعه، فالكاف مدخلة لما كانت نجاسته ذاتية كالميتة ولحم الخنزير، ومثل النجاسة الذاتية ما لا يمكن تطهيره كزيت تنجس، ونحوه مما قدمه بقوله: ولا يطهر زيت خولط ولحم طبخ وزيتون ملح لخ، وكاللبن والعسل المتنجسين؛ قال الحطاب مفسرا لقول المص: لا كزبل وزيت تنجس: يعني إذا كان المعقود عليه من شرطه الطهارة فيجوز بيع كل طاهر حاو للشروط الآتية، لا غير الطاهر مما نجاسته ذاتية، كزبل الدواب، أو كالذاتية لكونه لا يمكن تطهيره كالزيت المتنجس، وذكر هذين

ص: 53

لكونهما مختلفا في بيعهما فيعلم أن المشهور فيهما المنع، ولينبه على أن الممنوع إنما هو بيع النجس الذاتي أو الذي كالذاتي كما تقدم. واعلم أن المذهب أن الأعيان النجسة لا يصح بيعها، إلا أن في بعضها خلافا، وبيع النجاسة على وجهين، محرم ومختلف فيه، فبيع كل نجاسة لا تدعو الضرورة إلى استعمالها ولا تعم بها البلوى حرام، كالخمر والميتة لحمها وشحمها، ولحم الخنزير، والأصل في ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم تسليما: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها؟ فقال: لا، هو حرام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومهما أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه

(1)

). ومعنى أجملوه أذابوه، وقوله: حرم، قال القرطبي: صحة الرواية بإسناد حرم إلى الضمير الواحد، تأدبا منه عليه الصلاة والسلام أن يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين، كما رد على الخطيب قوله: ومن يعصهما فقال له: (بيس خطيب القوم، قل: ومن يعص الله

(2)

). انتهى. وقال بناني: حصَّل الحطاب في بيع العذرة أربعة أقوال: المنع لمالك على فهم الأكثر من المدونة، والكراهة على ظاهر المدونة وفهم أبي الحسن لها، والجواز لابن الماجشون، والفرق بين الاضطرار لها فيجوز وعدمه فيمنع لأشهب في كتاب محمد، وأما الزبل فذكر ابن عرفة فيه ثلاثة أقوال: قياسُه ابنُ القاسم على العذرة في المنع عند مالك، وقول ابن القاسم بجوازه، وقال أشهب في المدونة: المشتري أعذر من البائع، وتزاد الكراهة على ظاهر المدونة في العذرة، وفهم أبي الحسن. وفي التحفة:

ونجس صفقته محظوره

ورخصوا في الزبل للضروره

وهو يفيد أن العمل على بيع الزبل دون العذرة، وصرح به ابن لب كما نقله عنه في المعيار، وهو الذي به العمل عندنا للضرورة. انتهى. قال ابن الحاجب: الزيت المتنجس يمنع في الأكثر بناء

(1)

مسلم، رقم الحديث 1531.

(2)

مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث 870 ولفظه "بيس الحطيب أنت قل .... "

ص: 54

على أنه لا يطهر. التوضيح: قول الأكثر صرح المازري بمشهوريته، ومقابله رواية وقعت لمالك وبها كان يفتي ابن اللباد. انتهى. وقال ابن رشد في سماع القرينين من كتاب الصيد: والمشهور عن مالك المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها أن بيعه لا يجوز، والأظهر في القياس أن بيعه جائز لمن لا يغش به إذا بين، لأن تنجيسه بسقوط النجاسة فيه لا يسقط ملكه عنه، ولا يذهب جملة المنافع منه، ولا يجوز أن يتلف عليه، فجائز له أن يبيعه لمن يصرفه فيما كان له هو أن يصرفه فيه، وهذا في الزيت على مذهب من لا يجيز غسله، وأما على مذهب من يجيز غسله وقد روي ذلك عن مالك، فسبيله في البيع سبيل الثوب المتنجس انتهى. نقله بناني. وقال عبد الباقي: لا كزبل، المعطوف بلا مقدر والعطف على مستفاد من معنى ما تقدم؛ أي يشترط كون المعقود عليه طاهرا لا غيره كزبل، وحذف معطوفها لقرينة سائغ وزيت تنجس، والكاف داخلة على زيت تقديرا، فدخل سائر المائعات التي حلتها نجاسة ولا تقبل التطهير، واحترز به من نحو ثوب نجس فإن بيعه صحيح، ولكنه عيب في الجديد مطلقا كغيره إن أفسده الغسل. انظر الحطاب والطخيضي. زاد الحطاب: قلت: الظاهر وجوب التبيين وإن كان لا يفسده الغسل، وإن لم يكن عيبا خشية أن يصلي فيه المشتري، خصوصا إن كان بائعه ممن يصلي، فإنه يحمل على الطهارة، والذي في التتائي الصغير: وأما ما نجاسته عارضة يمكن زوالها كالثوب المتنجس فجائز بيعه، ويجب بيانه إن كان الغسل يفسده أو كان مشتريه مصليا. انتهى. ونظم بعضهم ما قال عبد الباقي أولا فقال:

نجاسة الثوب الجديد مطلقا

عيب كبال إن فساد يتقى

وقال بناني: قال القلشاني: الظاهر في الثوب الجديد التفصيل ببن ما يفسده الغسل كالبندقي الرفيع من الثياب فهذا عيب ينقص الثمن، ويجب للمشتري به الرد، وما لا يفسده فهذا هو الذي لا ينقص الثمن، وكذلك في ثوب الميت الفرق بين ميت الوباء وغيره، فإن نفرة النفوس

ص: 55

شديدة من ثياب ميت الوباء التي مات فيها، ونفرة النفوس عنها تزهد في شرائها فينقص ذلك ثمنها. والله أعلم. وهو يفيد ما للتتاءي من التفصيل في الجديد. انتهى.

تنبيهات: الأول: قال الإمام الحطاب: جمع اللخمي العذرة مع الزبل وحكى فيها ثلاثة أقوال: الجواز لابن القاسم على ما خرجه له في العذرة، والكراهة لمالك، والمنع لابن عبد الحكم. واعلم أن القول بالمنع هو الجاري على أصل المذهب في المنع

(1)

من بيع النجاسات، والقول بالجواز لمراعاة الضرورة، ومن قال بالكراهة تعارض عنده الأمران؛ لأن أخذ الثمن عن ذلك ليس من مكارم الأخلاق. الثاني: قال في الشامل: وجاز بيع روث إبل وبقر وغنم ونحوها، وفي المدونة: ولا باس ببيع خثاء البقر وبعر الغنم والإبل؛ عياض: صوابه خِتْي البقر. الرهوني: خثي البقر جمعه أخثاء، كحلس وأحلاس وهو للبقر كالغائط للإنسان، يقال خثى البقر يخثي خثيا من باب رمى، وهو كالتغوط للإنسان، والاسم الخثي وزان حصن وحمل والجمع أخثاء. وفي الحطاب: وأما عظام الميتة وقرونها وأظلافها ففي طهارة ذلك ونجاسته خلاف مذكور في باب الطهارة، والمشهور النجاسة في ذلك كله، وفي أنياب الفيل فيمنع البيع، قال ابن الحاجب: وفي عظام الميتة، ثالثها يجوز في ناب الفيل، قال في التوضيح: الخلاف مبني على الخلاف في الطهارة، والمشهور أنه نجس فلا يباع. انتهى. ونقل ابن عرفة في الطهارة عن أصبغ أنه إن وقع البيع فإنه إن كانت العظام أو ناب الفيل صلقت فلا يفسخ إن فات، وإن لم تصلق فيفسخ ولو فات، وهذا على قوله إنها تطهر بالصلق، فعلى المشهور يكون الحكم واحدا قبل الصلق وبعده، وكذلك جلود الميتة لا يجوز بيعها وإن دبغت، وقيل يجوز والقولان مبنيان على الطهارة، ومقابل المشهور لابن وهب جواز البيع بعد الدبغ بشرط البيان. قاله في التوضيح. ونقل ابن عرفة هذين القولين بعد الدبغ، وأما قبله فنقل في ذلك طريقين الأولى: لابن الحارث لا يجوز اتفاقا. الثانية: لابن رشد في جواز البيع والانتفاع ثلاثة أقوال، الأول: الجواز فيهما لابن وهب، الثاني: المنع فيهما وهو المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وقول ابن عبد الحكم؛ والثالث: يجوز الانتفاع لا البيع وهو

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 51 ط دار الرضوان.

ص: 56

رواية لابن القاسم في جامع العتبية، ومذهب المدونة المنع

(1)

من بيع ذلك كله. قال في البيوع الفاسدة منها: ولا يجوز بيع ميتة ولا جلدها وإن دبغ، ولا يواجر به على طرحها لأن ذلك بيع. قال: ولا أرى أن يشتري عظام الميتة، ولا أنياب الفيل، ولا يتجر بها، ولا يمتشط بها، ولا يدهن بمداهنها. انتهى.

الثالث: على قول مالك في المدونة أنه لا يجوز بيع جلد الميتة وإن دبغ، قال ابن عرفة: سمع عيسى ابنَ القاسم: لو اشترى بثمنه غنما فنمت ثم تاب تصدق بالثمن لا الغنم، عيسى: إن وجد بائعه أو وارثه رده إليه وإلا تصدق به، فإن جاء مستحقه خير بين الصدقة والثمن كما في اللقطة، ابن رشد: قول عيسى تبيين لقول ابن القاسم: يتصدق بالثمن.

الرابع: قال ابن القاسم: لا بأس ببيع شعر الخنزير الوحشي وهو كصوف الميتة؛ أصبغ: هذا خطأ، لا خير في ذلك، وهو مثل الميتة الخالصة أو أشد،

(2)

كلُّ شيء منه حرام حي وميت، وصوف الميتة إنما حل لأنه حلال منها وكعي حية، وشعر الخنزير ليس بحلال حيا وميتا، لا يباع ولا يوكل ثمنه، ولا تجوز التجارة فيه، والكلب أحل منه وأطهر، وثمنه لا يحل، قد حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى عن ثمنه. ابن رشد: قول ابن القاسم هو الصحيح على أصل مالك، إلى أن قال: وقول أصبغ ليس ببين، وقياسه فاسد، وفي الشامل: وجاز بيع صوفها كشعر خنزير خلافا لأصبغ، قال مقيده: وعليه رد المص في باب الطهارة بقوله: ولو من خنزير. الخامس: قال الإمام الحطاب: تقدم أنه دخل تحت الكاف المقدرة في قوله: وزيت تنجس، كل متنجس لا يقبل التطهير، ومنه ما ذكره البرزلي: أنه لا يجوز بيع مصحف كتب من دواة ماتت فيها فأرة، وقال ابن عبد السلام: وإذا كانت النجاسة عرضية فلا خلاف في عدم اعتبارها. انتهى؛ يعني فيما يقبل التطهير كما نص عليه أبو علي، والله سبحانه أعلم.

السادس: قال البرزلي: وسئل الصائغ عن بيع قاعة المرحاض وليس المراد إلا ما يجتمع فيه لحاجة المشتري

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 52 ط دار الرضوان.

(2)

في الأصل وأشد والمثبت من الحطاب ج 5 ص 3 ط دار الرضوان.

ص: 57

إليه وهل يطيب الثمن للبائع أم لا؟ فأجاب: البيع في البيت لا يرد. قال البرزلي: قلت: ظاهره أنه يكرد ابتداء لأنه إنما تكلم عليه بعد الوقوع فيجري فيه الخلاف الذي فيه، وظاهر المذهب الجواز لأن المبيع إنما هو القاعة، ولواحقها غير معتبرة، كمال العبد، وحلية السيف التي النصل تبع لها، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها تابعة لأصلها إلى غير ذلك، ومنه مسألة شيخنا في بيعه الفدان الذي له ولولا هي

(1)

لما كانت له قيمة يعول عليها. انتهى. قلت: الظاهر من المذهب المنع ابتداء لأن المقصود من الصفقة لا يجوز بيعه، وأما بعد الوقوع فيمضي عدى ما قال مراعاة للخلاف. فتأمله والله أعلم. قاله الحطاب. وقال الشيخ أبو علي: ومسألة المرحاض التي نقلها الحطاب عن البرزلي الظاهر فيها المنع، لا ما قاله البرزلي وسلمه الحطاب؛ لأن السؤال وقع فيه أن ما في المرحاض هو المقصود وحده، والفتوى للصائغ وهي خطأ، وسكوت البرزلي والحطاب عن ذلك فية ما فيه، وأما بيع مصحف كتب من دواة ماتت فيها فأرة فغير جائز، كما في البرزلي وغيره، وهو ظاهر، وكذلك إذا قتل المسلمون كافرا وطلب أهله جثته بثمن فإن ذلك لا يجوز كما قاله عياض وغير واحد نقله الحطاب في آخر الجزية. انتهى. وقال أبو علي بعد جلب نقول في الثوب النجس: وقد تبين من هذا كله أن البيان إنما يجب في الجديد وما يفسده الغسل لا غير. السابع: قال الرهوني عن التوضيح: منع مالك في العتبية أكل الخبز المخبوز بروث الحمير، وكلام العتبية هو: وسألته من الطعام يوقد تحته بأرواث الحمير أيوكل أم لا؟ فقال: أما الخبز الذي يطبخ به فلا يوكل، وأما ما طبخ في القدور فأكله خفيف وهو يكره بدءا، وقال سحنون مثله، وعلل ذلك في البيان بأن ما في القدور لا يصل إليه شيء من عين النجاسة من أجل الذي بينه وبينه، وإنما يكره من أجل دخان الروث لما في ذلك من الشبهة من أجل من يقول إن الدخان نجس وإن لم يكن عندنا نجسا. انتهى المراد منه. وهذا خلاف ما للمصنف في الطهارة من نجاسة دخان النجس. والله سبحانه أعلم.

الثامن: قال ابن عاصم:

ما يستجاز بيعه أقسام

أصول أو عروض أو طعام

(1)

أي القاعة المذكورة قاله مقيده عفا الله عنه.

ص: 58

أو ذهب أو فضة أو ثمر

أو حيوان والجميع يذكر

أخبر أن ما يجوز بيعه ينقسم إلى ستة أنواع، الأوَّل: أصول وذلك الدور والحوائط والفنادق والحوانيت والأرضون وغير ذلك. الثاني: عروض كالثياب والسلاح والآلات ونحوها. الثالث: طعام كالحبوب من القمح والشعير والقطاني وإدام كالسمن والزيت ومصلحاته كالملح والبصل ونحوهما. الرابع: كذهب وفضة وهما النقدان اللذان يتعلق بهما الأغراض من حيث التنمية المنوطة بهما. الخامس: ثمر وذلك كالفواكه والمقاثي والخضر. السادس: حيوان كالرقيق والدواب والأنعام والوحش والطير، ولبيع هذه الأقسام شروط ذكرها المص وكيفيات يأتي بيانها.

وانتفاع، لما فرغ من الكلام على الشرط الأول من شروط المعقود عليه، أتبعه بالكلام على الشرط الثاني، وهو: الانتفاع؛ يعني أنه يشترط في المعقود عليه أن يكون منتفعا به، واحترز بذلك من الأعيان التي لا منفعة فيها فلا يحل بيعها ولا تملكها كالخشاش والخنافس. لا كمحرم أشرف، قال غير واحد إنه محترز قوله: انتفاع؛ أي فلا يجوز بيع محرم الأكل الذي أشرف على الموت، وأما المباح فيجوز بيعه ولو أشرف على الموت. قال عبد الباقي: لا كمحرم أشرف على الموت، أي قوي مرضه واشتد ولم يبلغ حد السياق، واحترز به من مباح أشرف ولم يبلغ حد السياق فيجوز بيعه، بخلاف بالغ السياق أي نزع الروح للموت فيمنع بيعه ولو مباحا كما هو ظاهر إطلاقهم، ونص ابن محرز قائلا: للغرر في حصول الغرض من حياته، وفي صيرورته لحما، وفي حصول ذكاته لاحتمال عدم حركته بعد ذبحه. انتهى. قال بناني: تبع في التقييد بالمحرم ابن عبد السلام، وتعقبه ابن عرفة قائلا: إن من أشرف على الموت لا يجوز بيعه سواء كان مباحا أو محرما، وأجيب بحمل الإشراف في كلام ابن عبد السلام على الذي لم يبلغ حد السياق، وأما إذا بلغ حد السياق فيتفق على المنع مباحا أو محرما، واعتمد غيره هذا الجواب، وهو مردود؛ لأن

ص: 59

من لم يبلغ حد السياق يجوز بيعه مطلقا مباحا أو محرما، كما يأتي في الحامل المقرب وذي المرض الخفيف.

(1)

انتهى. ولبعضهم:

كذا المريض في سوى السياق

يجوز بيعه على الإطلاق

واعلم أن الأعيان على قسمين الأول: ما لا منفعة فيه أصلا فلا يصح بيعه ولا تملكه كما صرح به المازري وابن شأس ومثل بالخشاش والخفاش والعصافير التي لا يجتمع من مائة منها أوقية لحم. الثاني: ما له منفعة وهو على ثلاثة أقسام، الأول: ما كان جميع منافعه محرمة شرعا فذلك لا يحل بيعه ولا تملكه، ومثل بالدم المسفوح. الثاني: ما كانت منافعه كلها محللة كالثوب فيحل بيعه وتملكه، إلا أن يتعلق بتلك المنفعة حق لآدمي، كالحر فإنه أحق بنفسه، أو دلّه كالمساجد فلا يصح بيعه ولا ملكه، وقد يمنع حق الآدمي البيع دون الملك، كأم المولد. الثالث: ما فيه منافع محللة ومنافع محرمة فإن كان جل المنافع المقصود من العين محرما والمحلل تبعا فواضح إلحاقه بالقسم الأول، ويمكن تمثيله بالزيت النجس فإن جل منافعه كالأكل والادهان وعمله صابونا،

(2)

إنما فيه إيقاده في غير المساجد، وانتفاع غير الآدمي منه، وذلك في حكم التبع؛ وإن كان جل المنافع المقصود من العين محللا والمحرم تبع فواضح إلحاقه بالقسم الثاني، ومثل بالزبيب مما يمكن أن تعمل منه الخمر؛ وإن كانت منافعه المقصودة منها محلل ومنها محرم أو واحدة مقصودة والباقي محلل فهذا هو المشكل على الأفهامْ، ومزلة الأقدامْ، وفيه ترى العلماء يضطربون، وجزم ابن بشير بأن المنافع المقصودة إذا كان بعضها محللا وبعضها محرما لم يصح البيع، ونصه: وإن وزعت المنافع المقصودة في النوعين لم يصح البيع لأن ما يقابل ما حرم منها من أكل المال بالباطل، وما سواه من بقية الثمن يصير مجهولا، وهذا يطرد في كون المحرم بمنفعة واحدة مقصودة كما يطرد في كون المنافع بأسرها محرمة، وهذا النوع وإن امتنع بيعه لما ذكر من الوجهين فملكه صحيح ينتفع به مالكه. انظر الحطاب. وعدم صحة البيع ظاهر من كلام المازري

(1)

كذا في الأصل والذي في البناني ج 5 ص 17: المخوف.

(2)

في الحطاب: وعمله صابونا والإيقاد في كل موضع منه على المشهور إنما فيه إيقاده لخ، ج 5 ص 55 ط دار الرضوان.

ص: 60

أيضا، قال ابن شاس: لو تحقق وجود منفعة محرمة ووقع الالتباس في كونها مقصودة، فمن الأصحاب من يقف في جواز البيع، ومنهم من يكره ولا يحرم. انتهى.

تنبيهات: الأول: قال في الجواهر: إذا تقرر اشتراط المنفعة فيكفي مجرد وجودها، وإن قلت: ولا يشترط كثرة القيمة ولا عزة الوجود بل يصح بيع الماء والتراب والحجارة لتحقق المنفعة وإن كثر وجودها، ويجوز بيع لبن الآدميات لأنه طاهر منتفع به. انتهى. وأجازه أيضا الشافعي وابن حنبل ومنعه أبو حنيفة لأنه جزء حيوان منفصل عنه في حياته فيحرم أكله وبيعه، وجوابه القياس على لبن الأنعام، وفرق بشرف الآدمي وأنه إنما أبيح منه الرضاع للضرورة، كتحريم لحمه، ويندفع الفرق بما روي عن عائشة رضي الله عنها (أرضعت كبيرا فحرم عليها ولو كان حراما ما فعلت ذلك ولم ينكر عليها أحد من الصحابة فكان إجماعا على إلغاء هذا الفرق. قاله القرافي.

الثاني: السّم جميع منافعه محرمة؛ قال سحنون: لا يحل بيع السم ولا ملكه على حال، والناس مجمعون على تحريم بيعه. انتهى. والقرد مما لا منفعة فيه فلا يصح ملكه ولا بيعه؛ قال في أول البيوع من المتيطية: ما لا يصح ملكه لا يصح بيعه بإجماع، كالحر والخمر والخنزير والقرد والدم والميتة وما أشبه ذلك، ونقل الجزولي عن ابن يونس: ثمن القرد حرام كاقتنائه، وقال ابن رشد: أجمع أهل العلم على أن لحم القرد لا يوكل، وحكى المص في الأطعمة قولين في كراهته وحرمته، وقال في المسائل الملقوطة: لا يجوز بيع الحر والخنزير والقرود والخمر والدم والميتة والنجاسات، وما لا منفعة فيه كخشاش الأرض والحيات، والكلاب غير المأذون في اتخاذها، وتراب الصواغين، والصور وآلات الملاهي، والأحباس ولحوم الضحايا، والمدبر والمكاتب، والحيوان المريض مرضا مخوفا، والأمة الحامل بعد ستة أشهر، والحيوان بشرط الحمل، وما في بطون الحيوان، ولا استثناؤه، والطير في الهواء،

(1)

والسمك في الماء، والعبد الآبق، والجمل الشارد، والغائب على غير صفة، والبيع بغير تقليب، وملك الغير، والمغصوب، وكل ما فيه خصومة،

(1)

في الأصل الهوى والمثبت من الحطاب ج 5 ص 57 ط دار الرضوان.

ص: 61

والدين على الميت أو الغائب، وما لم يبد صلاحه، والدار بشرط سكناها أكثر من سنة، والدابة بشرط ركوبها أياما كثيرة والبيع بثمن مجهول، أو إلى أجل مجهول أو في وقت صلاة الجمعة، نقله الحطاب. قال: والقصد منه الكلام على بيع القرد، وبقية ذلك أوأكثره تكلم عليه المؤلف، كل شيء في بابه، لكن جمع النظائر في محل واحد لا يخلو من فائدة. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب. والمدَر الذي يأكله الناس ذكر المص في الأطعمة قولين في كراهة أكله ومنعه، والقول بالكراهة لمحمد، والقول بالتحريم لابن الماجشون، وذكر صاحب المدخل أن المشهور التحريم، واقتصر ابن عرفة على نقل قول ابن الماجشون، وأما بيعه فقال ابن عرفة: في كراهة بيعه وحرمته ثالثها الوقف. انتهى. ونقل ابن شد أنه إن كان فيه نفع غير الأكل جاز بيعه ممن يؤمن أن يبيعه ممن يأكله.

الثالث: سئل ابن غالب عمن صناعته عمل ثياب الحرير هل هو في سعة من عمل عمائم منها وشبهها مما لا يلبسه إلا الرجال؟ وهل بيعها مباح له؟ فأجاب: لا بأس ببيعها وعملها وإن كانت مما يلبسه الرجال؛ لأنه قد يشتريها من لا يلبسها ومن يصرفها في غير اللباس، وفي ثمانية أبي زيد مثله، ويقيد هذا بأن يبيعها ممن لا يلبسها، وقال القرطبي في شرح حديث مسلم: (إن من الكبائر شتم الرجل والديه

(1)

) فيه حجة لمن منع بيع العنب ممن يعصره خمرا، وبيع ثياب الحرير ممن يلبسها وهي لا تحل له. انتهى. نقله الحطاب: وفي زبدة الأوطاب في بيع ثياب الحرير لمن يلبسها وهي لا تحل له قولان بالجواز والمنع. انتهى.

وعده نهي؛ يعني أنه مما يشترط في المعقود عليه أن لا يكون منهيا عن بيعه فيجوز بيع ما لم ينه عن بيعه. لا ما نهي عن بيعه؛ ككلب صيد وماشية وزرع، فأحرى ما لم يؤذن في اتخاذه لما في الصحيح:(أنه صلى الله عليه وسلم نهى من بيع الكلب)

(2)

من غير تقييد، وشهر أيضا القول بالجواز في المأذون في اتخاذه واختاره ابن رشد، واقتصر المؤلف على الأول لقوته إذ هو قول ابن القاسم، وشهره ابن رشد وغيره، قال في التوضيح: والمشهور المنع؛ قال في البيان: وهو المعلوم من

(1)

التيسير، ج 4 ص 107.

(2)

عن أبي مسعود الأنصاري رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومَهْرِ البغيِّ وحلوان الكاهن. البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2237. مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1567.

ص: 62

قول ابن القاسم وروايته عن مالك. قاله الحطاب. قال: وعلى المشهور فروى أشهب يفسخ إلا أن يطول وحكى ابن عبد الحكم: يفسخ وإن طال، ويفهم من كلام صاحب الشامل ترجيح الأول، فإنه قال: وعلى المنع يفسخ إلا أن يطول، وقيل: مطلقا. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وعدم نهي عن بيعه، مع كونه طاهرا لخروج النجس بما مر وإن أذن في اتخاذه بدليل قوله: لا ككلب صيد أو زرع وأجنة لأنها من الزرع، أبو عمر في تمهيده: وكذا يجوز اتخاذه أي اقتناء الكلب من حيث هو للمنافع كلها ودفع المضار، وفي غير البادية من المواضع المخوف فيها السراق. انتهى من المواق. وكل ذلك داخل تحت الكاف الداخلة على صيد، وقول الرسالة: ولا يتخذ كلب في الدور في الحضر، قال ابن ناجي عليها: ما لم يضطر لحفظه فيتخذ حتى يزول المانع، وقد اتخذ الشيخ ابن أبي زيد كلبا في داره حين وقع حائط منها، وكان يخاف على نفسه من الشيعة، فقيل له في ذلك، فقال: لو أدرك مالك زمننا لاتخذ أسدا ضاريا، واقتصر المص على منع بيع كلب الصيد للخلاف فيه فأولى غيره، ومنع بيع

(1)

كلب الصيد قول مالك ورواية ابن القاسم عنه، وشهره ابن رشد خلافا لتجويز ابن كنانة وابن نافع بيعه، ولقول سحنون: أبيعه وأحج بثمنه، فالخلاف في المأذون في اتخاذه قال أحمد: ينبغي منع قتله لمالكه، قيل: والنص كذلك، وأما المنهي عن اتخاذه فلم يقل أحد بجواز بيعه، ويجوز قتله كما في التتائي هنا، بل يطلب كما في أحمد هنا والحطاب في باب المباح: وقوله: وعدم نهي أي تحريم لكل المبيع أو بعضه ولو قل، فيمنع بيع مائة قلة خل فيها قلة خمر كما يأتي. انتهى كلام عبد الباقي. وقوله: وعدم نهي لا ككلب صيد، بنى المص هذا على عدم النهي ولم يبْنِه على الانتفاع، فكأنه أراد والله أعلم ما نهي عن بيعه مما لم يفقد فيه شرط آخر وهو ظاهر؛ لأن المازري وابن شأس وغيرهما ذكروا أن مثل ما لا منفعة فيه

(2)

ما منافعه كلها محرمة كالدم، أو جل المقصود كالزيت المتنجس، بخلاف ما منافعه كلها أو جلها محللة كالعنب، فإن كانت المنافع المقصودة منها محرم ومنها محلل ككلب الصيد

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 17.

(2)

ساقطة من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 17.

ص: 63

أشكل الأمر: وينبغي أن يلحق بالممنوع، ولعل المص لإشكاله لم يقنع بأخذه من شرط الانتفاع. انظر حاشية الشيخ محمد بن الحسن. ولابن عاصم رحمه الله تعالى:

واتفقوا أن كلاب الماشيه

يجوز بيعها ككلب الباديه

وعندهم قولان في ابتياع

كلاب الاصطياد والسباع

قال الشيخ ميارة: يعني أنه يجوز بيع الكلاب المتخذة لحفظ المواشي مما يعدو عليها من الحيوان المفترس، وبيع الكلاب المتخذة للبادية. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: يعني أنها تتخذ في البادية لغير الماشية، كخوف السراق وغيره من المضار. فقد نص أبو عمر على أن الكلب من حيث هو يقتنى للمنافع كلها ودفع المضار. انتهى. وقوله: وعندهم قولان لخ؛ يعني أنه اختلف في بيع كلاب الصيد وفي بيع السباع كالفهود ونحوها. ابن الحاجب: وفي كلب الصيد والسباع قولان. قاله الشيخ ميارة. قال الشارح: وقع في البيت الأول من هذين البيتين لفظ الاتفاق ولا يخلو من نقد. انظر بقية كلامه. انتهى. وقال بناني: انتقد ولده في الشرح حكاية الاتفاق، وما في التحفة هو ظاهر ما لابن سلمون.

تنبيه: في الرهوني عن المدونة: ومن قتل كلبا من كلاب الدور مما لم يوذن في اتخاذه فلا شيء عليه؛ لأنه يقتل ولا يترك، وإن كان ما أذن في اتخاذه لزرع أو ضرع فعليه قيمته، قال ابن ناجي: ظاهر قوله: لا شيء عليه، لا قيمة ولا عقوبة وهو كذلك، وما ذكره من لزوم القيمة في المأذون هو المعروف، ونقل الفاكهاني عن سحنون أنه لا قيمة على من قتله كالشافعي، قلت: ولا أعرفه لغيره، ويقوم منها: أن من قتل أم ولد رجل يغرم قيمتها، وإن استهلك لحم أضحية فإنه يغرم قيمته، وكذلك من استهلك زيتا نجسا أو جلد ميتة أو زرعا قبل بدو صلاحه، أو قتل مدبرا، وهو كذلك في الجميع. وقال ابن يونس في كتاب الغصب في أم المولد إذا غصبت فماتت قيل: لا ضمان عليه كالحرة، وقيل: هي كالأمة، وفيها أيضا في كتاب الغصب: ومن غصب جلد ميتة غير مدبوغ فعليه قيمته إن أتلفه، كما لا يباع كلب ماشية أو زرع أو صيد، وعلى قاتله

ص: 64

قيمته بالغة ما بلغت. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: وحاصل ما عند المازري أن اتخاذ الكلب لغير منفعة ممنوع، وللصيد وحراسة الزرع والضرع جائز، والخلاف إنما هو فيما إذا احتيج إليها لحراسة الدور، فقيل بالجواز للحاجة، وقيل بالمنع لأنها تؤذي من لا يسرق وتروع المسلمين، واتخاذها في الثلاث الأول في الحديث، وفي الأبي: اختلف قول مالك في المأذون في اتخاذه فأجازه مرة، وهو مذهب أبي حنيفة، ومنعه مرة، واختلف في تأويل قوله: بالمنع، هل هو على الكراهة؟ لقوله في الموطإ: أكره ثمن الكلب، ولقوله في رواية ابن نافع: ولا بأس ببيعه في الميراث والمغانم أو هو على التحريم وهو قول الشافعي. وابن القاسم يكرهه للبائع ويجيزه للمشتري.

تنبيه آخر: قال في زبدة الأوطاب: يكره أن يباع للصبيان ما يلعبون به مما قل ثمنه، وكذا بيع بعض الصور التي يلعب بها الجواري يتخذنها بنات وعرائس، وفي الحديث ما يدل على جواز لعبهن بذلك للتدريب، وعليه فيجوز بيعها وشراؤها، وتحمل الكراهة على الاكتساب بذلك أو لذي المروءة. وقال المواق: ابن القاسم: يفسخ بيع البوق والعود والكبر ويؤدب أهله. ابن رشد: يفسخ في الأولين اتفاقا، وقوله: في الكبر خلاف قوله: يجوز استعماله ويقطع سارقه.

وجاز هر وسبع للجلد، راجع لهما قال الخرشي: يعني أن شراء ذات الهر وذات السبع لأخذ جلده جائز، وأما شراء ما ذكر للحم أو له وللجلد فمكروه كما يفيده ما ذكره ابن ناجي، وإذا ذكي الهر ونحوه للجلد لا للحم فيوكل اللحم على القول بأن الذكاة لا تتبعض، وإن قلنا تتبعض فلا يوكل اللحم، وأما الجلد فيوكل على كل من القولين، والمراد بالسبع ما له جرأة أي شدة وقوة على الافتراس والعداء. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز هر وسبع؛ أي بيع ذاتهما للجلد واللحم للمشتري كما في أحمد، وأما شراء ذاتهما للحم فقط أو له وللجلد فمكروه، ثم إذا ذكي للجلد فقط

ص: 65

لم يؤكل لحمه على القول بتبعيض الذكاة وهو المذهب، كما قال ابن ناجي لنجاسته بعدم تعلق الذكاة به، وعلى أنها لا تتبعض فيوكل لتعلق الذكاة به، والجلد يوكل على القولين وينتفع به، ولو قال: وجاز كهر لكجلد لكان أخصر وأحسن لشمول كهر لكل مكروه الأكل، ولدخول شراء الفيل لعظمه والقط لزَباده. انتهى. وقال الرهوني عن ابن رشد: ويؤخذ من هذه المسألة جواز بيع الجلد وهو على ظهر الحيوان،

وحصل فيه في البيان قبل الذبح ستة أقوال الأول: الجواز: والثاني: الكراهة ويمضي بالثمن. الثالث: الكراهة ويفسخ إلا أن يذبح الشاة فيمضي بالثمن. الرابع: الكراهة فيفسخ إلا أن يقبضه المبتاع فيمضي بالثمن. الخامس: يفسخ إلا أن يقبض المشتري الجلد ويفوت عنده فيمضي بالثمن. السادس: أن شراءه لا يجوز ويفسخ فإن فات عنى المشتري صح بالقيمة. انتهى. والفتوى بالجواز. انتهى المراد منه. قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن المراد بالكراهة في القول الثالث والرابع المنع، أو يحمل الفسخ على الندب. والله سبحانه أعلم. وقال في زبدة الأوطاب في اختصار الحطاب عند قوله: وجاز هر وسبع للجلد ما نصه: ظاهره أن بيع ما ذكر من الهر والسبع لا لأخذ جلودها لا يجوز وهو كذلك على تحريم أكلها، وعلى القول بكراهته يكره بيعها. قاله ابن ناجي. الجزولي: يكره بيع السنور على الصحيح. انتنهى. وقال الحطاب عند قوله: وجاز هر وسبع للجلد، ما نصه: نحوه في كتاب الضحايا من المدونة قال ابن ناجي: ولا أعلم فيه خلافا لخ كلامه، وقال بناني: الصواب أن قوله: للجلد، قيد في بيع السبع فقط، وأما الهر فيجوز بيعه لينتفع به حيا، وللجلد على ظاهر المدونة، وبه شرح المواق، خلاف ظاهر المص، وناقشه الرهوني في ذلك. والله سبحانه أعلم. وقال أبو علي: وجاز هر وسبع للجلد؛ أي وجاز بيع هر وسبع لأخذ جلودها، وهكذا ذكر في المدونة مع زيادة، ففي كتاب الضحايا: ويجوز بيع الهر وبيع الأسد والسباع والفهود والنمور والذياب. إن كان ذلك لتذكى لأخذ جلودها، فإذا ذكيت جاز بيع جلودها ولباسها والصلاة عليها. انتهى. وأما للحمها فينبني بيعها على الخلاف في لحمها، فيحرم البيع على التحريم ويكره على الكراهة. انتهى. وذكر الشيخ أبو علي أن الراجح من الأقوال الستة المارة في بيع الجلد على ظهر الحيوان المنع، خلاف ما مر. قال: وقد نص عليه

ص: 66

المؤلف في باب الإجارة حيث قال: وكجلد لسلاخ، قال ابن عرفة: الإجارة تجري على بيعه، ثم قال: وإن كان ابن عبد البر قال في كافيه: واختلف في بيع الجلود على ظهور البقر والغنم ونحوها قبل أن تذبح، فأحل ذلك مرة وكرهه أخرى، وتحصيل مذهبه عند أصحابه جوازه. انتهى. ثم ذكر ما يفيد أن الراجح الجواز في البيع دون الإجارة، وأجاب عن ترجيحه المار بما يعلم بالوقوف عليه. والله سبحانه أعلم.

فائدة: قال الشيخ أبو علي عن ابن شأس: الحيوان كله يقبل التذكية إلا الخنزير، فأما سائر الحيوان فيطهر جميع أجزائه من لحم وعظم وجلد، سواء قلنا يوكل أو لا يوكل، كالسباع والكلاب والحمير والبغال؛ إذا ذكيت طهرت على كلا الروايتين في إباحة أكلها ومنعه، وقال ابن حبيب: لا تطهر وما ذكره لا يخفاك ما فيه، وهو خلاف قول المتن "وما ذكي وجزؤه إلا محرم الأكل"، وذكر العوفي أن الاستئجار على كتب التورية والإنجيل لا يجوز، وفي بيعهما قولان، وقال عن ابن ورد: النِّمس يأخذ شبها من الكلاب ومن الهر ومن السباع فيما تقتضيه أحكام الكل، إلا أنه أقرب شبها بالهر في المعنى، فبيعه عندي جائز كبيع الهر. انتهى.

وحامل مقرب؛ يعني أن الحامل المقرب يجوز أن تباع فإضافة بيع القدر إلى الحامل من إضافة المصدر لمفعوله. قال الشيخ أبو علي مفسرا للمص: يعني أن بيع الحامل المقرب التي قاربت الوضع يجوز، هذا هو الأصح عند بعضهم؛ ومنع ذلك غيره ثم قال بعد كلام كثير: واعلم بأن المص قال: وحامل مقرب، وذو المرض المخوف كذلك، كحا في ابن الحاجب والتوضيح وابن غازي وابن عرفة، وذكر المشرف فالمشرف يمنع بيعه مطلقا كان المبيع مأكول اللحم أم لا، وذو المرض المخوف يجوز بيعه مطلقا، وأحرى ذو المرض الخفيف، وعلى هذا فالمشرف يمنع بيعه مطلقا لا غير. انتهى. وقد مر قول بعضهم:

كذا المريض في سوى السياق

يجوز بيعه على الإطلاق

ص: 67

وقال بناني عند قوله: وحامل مقرب، اعتمد المؤلف في بيع ذي المرض المخوف والحامل المقرب نقل ابن محرز وابن رشد عن المذهب الجواز، وقطع ابن الحاجب بأنه الأصح، وكذا ابن سلمون. ابن عرفة: ابن محرز: وذو مرض السياق ومقاربة الموت يمنع بيعه، وفي جواز بيع ذي مرض غيره يوجب قصر تصرف الحر على ثلثه: نقل ابن رشد من مذهب مالك مع دليل قولها في الخيار: إذا ولدت الأمة في أمد الخيار فولدها معها في بت البيع ورده، وظاهر قولها في الاستبراء وسماع عيسى ابن القاسم: في الرد بالعيب، ونص أصبغ: لا بأس ببيع المريض ما لم تنزل به أسباب الموت، وعن ابن حبيب: المذهب منع بيع هذا المريض والحامل بعد ستة أشهر مع ابن الماجشون، ومال إليه سحنون، وأما تصرف الحامل بعد ستة أشهر وذي المرض المخوف فسيأتي إن شاء الله في باب الحجر أنه يحجر عليه في تبرعه بزائد الثلث لا في معاوضة مالية.

وقدرة عليه؛ يعني أنه يشترط في صحة عقد البيع أن يكون المعقود عليه ثمنا أو مثمنا مقدورا عليه، بأن يكون البائع يقدر على تسليمه للمشتري. والمشتري يقدر على أخذه، قال الخرشي مفسرا للمص: أي وشرط للمعقود عليه قدرد عليه للبائع والمشتري، فلا يباع ما قدر عليه مشتريه وعجز عنه بائعه، ولا ما عجزا عنه. انتهى. وقال عبد الباقي: وشرط للمعقود عليه ثمنا ومثمنا قدرة لبائع ومشتر عليه، أي على تسليمه وتسلمه، ومنه النحل في جبحه فيجوز شراؤه لأنه مقدور عليه وهو في جبحه وإن لم يعلم عدده لعدم إمكانه، لا شراؤه وهو طائر عنه، ثم إن اشتراه وهو فيه دخل الجبح، كما إذا اشترى الجبح نفسه فيدخل النحل، ولا يدخل العسل في الوجهين. قاله ابن رشد. انتهى.

لا كآبق؛ يعني أنه لا يجوز بيع الآبق لعدم القدرة على تسليمه وتسلمه. مالك: وبيعه حينئذ فاسد. وضمانه من بائعه؛ ويفسخ وإن قبض، وأدخلت الكاف الطير في الهواء، والسمك في الماء، والبعير الشارد.

وإبل هملت أي ولا يجوز بيع إبل أهملت؛ أي تركت في المرعى حتى توحشت لاستصعاب تحصيلها وعدم معرفة ما بها من العيوب. قال عبد الباقي: لا كآبق بالفعل حال إباقه ولم يعلم كونه عند أحد، أو علم أنه عند الإمام فيمنع بيعه على المشهور: لأنه شراء ما فيه خصومة، فإن

ص: 68

علم أنه عند غيره جاز إن علم المشتري صفته، وكذا البائع إن غاب عنه مدة يظن تغييره فيها عادة، ويمنع النقد فيه بشرط. انتهى. قوله: فإن علم أنه عند غيره جاز لخ، قال بناني: نحوه للمتيطي، ونصه: ويجوز بيع العبد الآبق إذا علم المبتاع موضعه وصفته، فإن وجد هذا الآبق على الصفة التي علمها المبتاع قبضه وصح البيع فيه، وإن وجده قد تغير أو تلف كان من البائع ويسترجع المبتاع الثمن، وقال سحنون: إنما يجوز ابتياع الآبق إذا كان في وثاق. انتهى. وقال المتيطي: ويجوز بيع الحيوان الغائب على الصفة، وكذلك البعير الشارد إذا علم صاحبه مكانه وصفته. انتهى. لكن شرط أبو محمد صالح في الآبق شرطا آخر، وهو: أن يكون مقبوضا لصاحبه كما نقله المشدالي على قول التهذيب: إلا أن يدعي المبتاع معرفته بمكان قد عرفه فيه فيكون كبيع الغائب، ونصه: الصقلي: وذلك إذا علم أنه عند رجل في حياطته. أبو محمد صالح: يريد وقد حاطه عليك وعلم أنه لك، احتراز من شراء ما فيه خصومة. انتهى. وقال في الوثائق المجموعة: ولم يُجز سحنون بيع الآبق وإن عرف المبتاع موضعه، إلا أن يكون موقوفا لصاحبه عند غير سلطان، ولا خصومة فيه لأحد، فإن وقف عند السلطان أو كانت فيه خصومة لأحد لم يجز بيعه. انتهى. وفي التحفة:

والعبد في الإباق مع علم محل

قراره مما ابتياع فيه حل

انتهى. وقال الشيخ أبو علي من ابن عرفة: وفيها مع سائر الأمهات: منع بيع الآبق والشارد، ولا ما ند وضل ولو قربت غيبة الآبق؛ وفي الكافي: ومن الغرر بيع السمك في الماء، وبيع الضوال، والعبد الآبق، والبعير الشارد الصعب، والإبل الصعاب، إلا أن يدعي مشتري الآبق معرفة موضعه، ومشتري الجمل الشارد والصعب القدرة على أخذه والمعرفة، ثم قال: والحاصل أن الآبق إذا علم موضعه وصفته جاز بيعه على حكم بيع الغائب بلا فرد، بل هو فرد من أفراده، ولكن بشرط آخر أن يكون الآبق مقبوضا لصاحبه، وأما البعير الشارد فإن ادعى مشتريه معرفة موضعه والقدرة عليه فذلك جائز أيضا، وأما معرفة موضعه فقط فإنه لا يكفي، ثم قال:

ص: 69

فائدة: قال في تنبيه الغافل: ومن الطرر للغبريني على المدونة: مذهب ابن القاسم جواز بيع ما فيه خصومة، ومذهب سحنون منعه. انتهى. ومذهب سحنون هو المشهور. ومغصوب يعني أنه لا يجوز بيع المغصوب لعدم القدرة عليه، فهو من محترزات قوله: وقدرة عليه، واستثنى من ذلك قوله: إلا من غاصبه؛ يعني أن المغصوب لا يجوز بيعه إلا لغاصبه. قال عبد الباقي: ومغصوب لغير غاصبه حيث كان الغاصب ممن

(1)

لا تأخذه الأحكام مقرا به أم لا اتفاقا، وكذا إن كان ممن تأخذه ولكنه منكر، وعليه بينة على المشهور من منع شراء ما فيه خصومة للغرر، لا إن كان ممن تأخذه وهو مقر فيجوز بيعه لغيره حينئذ، فتستثنى هذه الصورة من كلامه، إلا من غاصبه من بمعنى اللام، فيجوز بيعه له لأن كونه تحت يده تسلم بالفعل وهو أقوى من القدرة على التسليم. قوله: فتستثنى هذه لخ، قال بناني: قول المص: وقدرة عليه، قرينة على عدم دخول هذه الصورة في كلامه. انتهى. وقال أبو علي: ومغصوب إلا من غاصبه؛ أي فلا يجوز بيعه إلا ممن غصبه لأن غير غاصبه لا يمكنه تحصيله، فليس مقدورا على تسليمه، وقال ابن رشد وغيره: يجوز بيعه من غير غاصبه إذا كان الغاصب مقرا بالغصب مقدورا عليه بلا خلاف، ولا يجوز إن كان ممتنعا من دفعه ممن لا تأخذه الأحكام مقرا أو منكرا بلا خلاف: وإن كان منكرا وهو ممن تأخذه الأحكام وعليه بالغصب بينة ففيه قولان جاريان على القول في شراء ما فيه خصومة. ابن رشد: والمشهور منهما المنع لأنه غرر.

وهل إن رد لربه مدة؛ يعني أنه اختلف في جواز بيع المغصوب من غاصبه هل هو مشروط بأن يرد المغصوب لربه ويبقى عنده مدة حدها بعضهم بستة أشهر فأكثر؟ كما هو ظاهر نصوصهم، خلاف ظاهر المدونة، وهي طريق ابن عبد السلام، أو فيه التفصيل الذي ذكره ابن رشد، وهو: إن علم أنه عازم على الرد جاز بيعه له اتفاقا. وأنه خير عازم فيمنع اتفاقا، وإن أشكل الأمر فقولان، قال عبد الباقي: المشهور منهما الجواز. كما في المواق والسنهوري. وقوله:

تردد، مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك تردد أي طريقان، طريق ابن عبد السلام، وطريق ابن رشد، قال عبد الباقي: ثم الراجح من التردد القول بعدم اشتراط الرد مدة حيث عزم على الرد أو

(1)

في الأصل مما والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 18.

ص: 70

أشكل أمره. قال أحمد: وإنما طلبت المدة المذكورة على القول بذلك ليتحقق انتفاء الغصب؛ لأنه لو قبضها وبقيت عنده مدة يسيرة ثم ردها إلى الغاصب آل الأمر إلى أنه كأنه باع مغصوبا لعدم تحقق انتفاء الغصب، بخلاف ما إذا قبضها وباعها لغير الغاصب فإنه يجوز له ذلك بمجرد القبض؛ لأنه حينئذ لم يبع مغصوبا، فقد ظهر الفرق بين المسألتين. انتهى. وقوله: وهل إن رد لربه مدة تردد، قال ابن غازي: منه يُسْتَرْوَحُ أن فرض المسألة عزم الغاصب على الرد. انتهى. وحينئذ فتقرير كلامه: وهل إن رد لربه أو مطلقا تردد، فالطريق الثانية مطوية للعلم بها من كلامه حيث كان الفرض عزم الغاصب على الرد، فقول الزرقاني: حذفها للعلم بها عندهم يقال عليه: حذفها للعلم بها من كلامه.

تنبيهات: الأول: قد مر قول عبد الباقي: إن المشهور من القولين فيما إذا أشكل الأمر الجواز. قال الرهوني: قول الزرقاني: المشهور منهما الجواز كما في المواق، كذا في جميع النسخ التي وقفنا عليها وليس في المواق ما عزاه له من التشهير؛ فانظره؛ والظاهر أن القول بالمنع هو الراجح؛ ثم قال بعد أن ذكر ما يفيد ترجيحه عنده: ومما يرجحه أنه منصوص لمالك من رواية مطرف وزياد عنه، ولمطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ، كما نقله ابن حبيب عنهم في الواضحة مسلما له، فهو قائل به، وبه حكم ابن بشير، ثم ذكر من الشيخ أبي علي ما يفيد أن الراجح عنده القول بالجواز فيما إذا أشكل الأمر؛ وقال: إن كلام أبي علي غير مسلم. فانظره.

الثاني: قال الحطاب: قال في التوضيح: ولا يجوز بيعه؛ يعني المغصوب من غير غاصبه إذا كان المشتري يقدر على خلاصه بجاهه؛ لأنه يأخذه بيعه فيكون من أكل المال بالجاه. انتهى. وفي المدونة: وإن وهبت عبدك المغصوب جاز ذلك إن قبضه قبل موتك، ويؤخذ منه أن من وهب ماله وهو بيد اللصوص لرجل أنه يسوغ له أكله. قاله الداوودي.

الثالث: قال الحطاب: وحيث قلنا لم يجز البيع، فالمعنى أنه لا يصح ولا يلزم البائع، وليس المعنى يحرم عليه أن يأخذ من الغاصب ثمنا؛ لأنه يستخلص ما قدر عليه من حقه. انتهى. وقال الرهوني: مثل بيع المغصوب من غير غاصبه بيع ما عقله القاضي، والعلة فيهما واحدة، وقد

ص: 71

أجاب أبو الحسن بأنه فاسد إن وقع، وسلمه العلامة ابن هلال في الدر النثير قائلا: جعل الشيخ رحمه الله عقل القاضي للأملاك مانعا من بيعها؛ لأن البائع لا يقدر على التسليم، ولا يقدر المبتاع على القبض والانتفاع، ومن شرط المبيع أن يكون مقدورا على تسليمه. انتهى. قلت: الظاهر أن مراده ما عقله القاضي مما ليس فيه خصومة، كعقله للقسم بين الشركاء مثلا، وأما ما فيه خصومة فلا يتوقف الفساد فيه على العقل كما صرح به ابن رشد. انتهى.

وللغاصب نقض ما باعه إن ورثه؛ يعني أن الغاصب إذا باع ما غصبه لشخص ثم ورثه من ربه فإن له نقض البيع الصادر منه قبل الإرث، لانتقال ما كان لموروثه له، وقد كان لموروثه النقض، ولهذا لو تعدى شريك في دار فباع جميعها ثم ورث حظ شريكه فله نقض البيع في حصة غيره وأخذ حصته بالشفعة. قاله في سماع سحنون من كتاب الغصب. ومنه يؤخذ أنه لا خصوصية للغاصب بما ذكر، بل يجري ذلك في بيع كل فضولي. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وللغاصب نقض بيع ما باعه حال غصبه لأجنبي أو وهبه له أو تصدق به عليه لتبرعه بما لا يملكه، كذا ينبغي إن ورثه من المغصوب منه فينقضه إن لم يسكت، ولو أقل من عام فيما يظهر، والظاهر أنه لا يعذر بالجهل. انظر الحطاب. وإنما كان له نقضه لانتقال ما كان لموروثه له، وقد كان لموروثه النقض، وكذا لو تعدى شريك في دار إلى آخر ما مر. وقال الحطاب: هذه مسألة الغصب من المدونة، وتصورها ظاهر، وكذا من تعدى على مال غيره فباعه، قال في كتاب الغرر: من المدونة: ومن تعدى في متاع عنده وديعة فباعه، ثم مات ربه فَكَانَ المتعدي وارثه، فللمتعدي نقض ذلك البيع إذا ثبت التعدى وهو بيع غير جائز.

لا اشتراه؛ يعني أنه إذا اشترى الغاصب من المغصوب منه ما باعه لأجنبي فإنه لا ينقض بيع الأجنبي، كما إذا باعه لأجنبي بعد أن اشتراه من المغصوب منه، أو غرم قيمته. قاله عبد الباقي. ثم محل المص ما إذا اشتراه ليتحلل بذلك صنيعه، أو احتمل أنه اشتراه لذلك، وأما إن علم أنه اشتراه ليتملكه فقط، وقد بين ذلك قبل الشراء فله نقض بيعه؛ ذكره اللخمي. ومثل شرائه هبة المغصوب منه له أو صدقته عليه به لأن للغاصب اختيارا في قبول ذلك من المغصوب منه، كذا يظهر، فليس له نقض بيعه الصادر منه قبل هبة ربه له. اللخمي: وإن علم المشتري أن البائع

ص: 72

منه فضولي وأحب المشتري رد البيع قبل قدوم المغصوب منه لم يكن له ذلك إن كان قريب الغيبة، وله ذلك إن كان بعيدها؛ لأن عليه في وقفه في ضمانه حتى يقدم ضررا قاله عبد الباقي. وقال الحطاب عن عبد الحق: وإذا تعدى على سلعة رجل فباعها ثم اشتراها من ربها فليس له نقض البيع، والفرق بين الرد على مذهب ابن القاسم فيهما؛ يعني في الشراء والإرث، أنه إذا ورثها فلم يجرها إلى نفسه وإنما جرها الميراث، وإذا اشتراها فهو اجترها، فكأنه أراد أن يحل صنيعه، وإذا قلنا: له نقض ما باعه إذا ورثه فإذا مات موروثه وسكت بعد موته ولم ينقض البيع، لم يكن له نقضه بعد ذلك؛ وانظر هل يبطل حقه ولو سكت بعد الموت شيئا يسيرا؟ لم أر في ذلك نصا، ولا شك أنه إذا سكت عاما بطل حقه على ما سيأتي في بيع الفضولي، وإن سكت أقل من ذلك فالظاهر البطلان، وانظر هل يعذر بالجهل؟ والظاهر أنه لا يعذر به. انتهى. وقال الخرشي عند قوله: لا اشتراه فإن تسبب في إدخاله ملكه بأن اشتراه أو قيله بهبة من ربه

(1)

أو نحوها بعد أن باعه فليس له نقض بيعه الصادر مند قبل ذلك على المشهور. وقال بنَّانِي عند قوله: لا اشتراه: عن ابْنِ عَاشِرٍ: انظر كيف يتصور مع فرض بيعه وجود شرط شرائه الذي هو العزم على رده لخ. انتهى. وأجِيبَ بأن محل الشرط المتقدم إذا كان الغاصب غير مقدور عليه، بحيث لا تناله الأحكام، وإلا جاز بيعه للغاصب من غير شرط، وعليه ما هنا. انتهى. وهذا الجواب لا يدفع بحث ابن عاشر؛ لأن في بيعه للغاصب وهو تحت يد غيره قد تملكه بوجه جائز في ظاهر الأمر، شِرَاءَ ما فيه خصومة، والظاهر في الجواب أن المشتري من الغاصب كان غير عالم بالغصب حين الشراء ثم علم به وسلمه، والتقييد بعدم العلم موجود في المدونة، ونصها: ومن ابتاع أمة من غاصب ولم يعلم به، ثم ابتاعها الغاصب من ربها فليس للغاصب نقض ما باع لأنه تحلك صنيعه، وكأنه غرم القيمة له. انتهى. وإذا حمل على هذا اندفع بحث ابن عاشر؛ لأن

(1)

في الأصل ربها والمثبت من الخرشي ج 5 ص 17.

ص: 73

تسليم المشتري الآن للغصب يوجب قدرة الغاصب على أخذه المغصوبَ منه ورد ثمنه، فيتأتى

(1)

منه العزم على الرد. فتأمله بإنصاف. قاله الرهوني. والله سبحانه أعلم.

ووقف مرهون على رضى مرتهنه؛ يعني أن الراهن إذا باع ما رهنه فإن ذلك البيع يوقف على رضى المرتهن، وهذا مجمل يأتي تفصيله في باب الرهن بقوله: ومضى بيعه قبل قبضه لخ، فقوله: ووقف مرهون؛ أي إمضاء بيع مرهون. وملك غيره على رضاه؛ يعني أن من باع مال غيره بغير إذنه فإن ذلك البيع يوقف إمضاؤه على رضا مالكه، فإن أمضاه مضى وإن رده رُدَّ.

ولو علم المشتري؛ يعني أن من بيعَ ماله بغير إذنه فإن ذلك البيع صحيح متوقف على إجازة المالك له، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المشترى عالما بأن البائع فضولي أي متعد أو لا، خلافا لأشهب بفساد البيع إذا علم المشتري بتعدي البائع، فلا يصح عنده البيع حينئذ ولو أمضاه المالك، وإنما يلزم بيع الفضولي المشتري إذا كان المالك قريبا أو حاضرا لا غائبا بعيدا يضر الصبر إلى قدومه أو مشاورته، وللمشتري من الفضولي الغلة حيث لم يعلم بالتعدي، أو علم وكانت هناك شبهة تنفي عن البائع تهمة التعدي، ككونه حاضنا للأطفال كالأم تقوم بهم وتحفظهم، ولكونه من سبب المالك ممن يتعاطى أموره، ويزعم أنه وكيل؛ ثم يقدم المالك وينكر؛ ويدل على ذلك مسألة اليمين أنه لا يبيع لفلان فباغ ممن هو من سببه. انظر الخرشي. وقال عبد الباقي: وملك غيره على رضاه، ولو علم المشتري بأنه فضولي، وهو لازم من جهته منحل من جهة المالك، فله إجازته، ويطالب الفضولي فقط بالثمن؛ لأنه بإجازته بيعه صار وكيلا، ويأتي في الوكالة "وطولب بثمن ومثمن ما لم يصرح بالبراءة" ولا طلب له على المشتري وله رده، لكن بالقرب، فإن سكت مع العلم عامًا فلا رد له، وليس له إلا طلب الثمن، فإن سكت مدة الحيازة لم يكن له شيء. انظر الحطاب. وقيد المص بثلاثة قيود، أحَدُهَا: أن ما يكون المالك حاضرا بيع الفضولي، فإن حضره وسكت لزمه البيع، فإن سكت بعد انقضاء المجلس الحاضر له حتى مضى عام ونحوه ولم يطالب بالثمن فلا شيء له على البائع. ثانيها: في غير الصرف، وأما فيه فيفسخ كما يأتي في قوله: إن لم يخبر المصطرف بالتعدي. ثالثها: في غير الوقف وأما فيه فلا يتوقف على رضى

(1)

في الأصل فيأتي والمثبت من الرهوني ج 5 ص 52.

ص: 74

واقفه، بل هو باطل وإن كان الملك له؛ لأن الملك له في شيء خاص وهو ما أشار إليه بقوله "فله أو لوارثه منع من يريد إصلاحه". انتهى. وقال بناني عن ابن عرفة: وبيع ملك الغير بغير إذنه والبتاع يجهله، المذهب لربه إمضاؤه. وفيها: كان بائعه غاصبا أو متعديا. المازري: لو علم المبتاع غصبه ففي إمضائه بإمضاء مستحقه قولان مشهوران. وينبغي حمله على أنهما دخلا على بت البيع مطلقا، وعدم تمكين مستحقه من رده، ولو دخلا على تمكينه من حله لم ينبغ أن يختلف في فساده، وفيها: لو علم مبتاعه أن المبيع مغصوب وربه غائب فله رده لحجته بتخيير ربه إذا قدم. انتهى. وأطلق في المدونة الغيبة، وقيده اللخمي بالغيبة البعيدة، وقبله أبو الحسن. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: للمالك نقض بيع الفضولي غاصبا أو غيره إن لم يفت، فإن فات بذهاب عينه فقط فعليه الأكثر من ثمنه وقيمته غاصبا أم لا، فيما يظهر في الغاصب، وإن كان خلاف ظاهر ما في الغصب من تضمينه القيمة فقط. انتهى. قوله: فيما يظهر في الغاصب لخ، قال الرهوني: انظر قوله: فيما يظهر، مع أنه نص المدونة في مواضع، قال فيها: ومن غصب أمة فزادت قيمتها عنده أو نقصت، ثم قتلها أو وهبها أو تصدق بها ففاتت، فإنما عليه قيمتها يوم الغصب فقط، ولو غصبها وقيمتها مائة ثم باعها وقيمتها مائتان، ثم لم يعلم للأمة موضع، فإنما لربها على الغاصب الثمن الذي قبض فيها، أو قيمتها يوم الغصب. انتهى. ثم جلب نصين منها فيما قال. والله سبحنه أعلم. وقال عبد الباقي: وحيث نقض المالك بيع الفضولي مع القيام فللمشتري منه الغلة إن اعتقد أن الفضولي مالكه، أو لم يكن عنده اعتقاد شيء أصلا، أو علم أنه غير مالكه لكن لشبهة اعتقد بهيا نفي عدائه، كحضنه أطفالا كأم تقوم بهم وتحفظهم، وككونه من ناحية المالك ويتعاطى أموره ويزعم أنه وكيل ثم يقدم المالك وينكر ونحو ذلك، ومقتضى أبي الحسن أنه يجري هنا الخلاف الجاري في اليمين المشار إليه بقوله "إن كان من ناحيته وهل إن علم تأويلان" وكذا له الغلة إن ادعى أن المالك وكله ولم يكذبه. انتهى. قال بناني: إذا لم يكذبه المالك في دعوى الوكالة لزم البيع، خلاف ما يفيده كلامه. انتهى. وقال عبد الباقي: قال التتائي: وذكر المص بيعه ولم يذكر ابتياعه مع أن حكمهما واحد كما في الإرشاد. انتهى. ويمكن

ص: 75

حمل المص على ما يشملها

(1)

بتقدير وتصرف ملك غيره وتكون إضافة تصرف لملك على معنى في إذا كانت للإخراج، وعلى معنى اللام إذا كانت للإدخال، والمعتمد حرمة بيعه وشرائه، كما قال القرافي: إنه المشهور، لا جوازه، ولا ندبه كما للطراز؛ قال الحطاب: والحق أنه يختلف بحسب المقاصد وما يعلم من حال المالك أنه الأصلح له، وإذا اشترى لغيره ولم يُجِزه لزم الشراء، ولا يرجع رب المال على البائع بماله، أي الذي دفعه له المشتري إلا أن يكون المشتري أشهد أن الشراء لفلان بماله والبائع يعلم ذلك، أو صدق المشتري فيه، أو تقوم بينة أن الشيء الذي اشترى به ملك للمشترى له، فإن أخذ المشترى له ماله ولم يجز الشراء انتقض البيع فيما إذا صدقه البائع أنه اشترى لغيره، أو قامت بينة أن البائع يعلم ذلك، ولم ينتقض مع قيام البينة أن المال للمشترَى له، بل يرجع على المشتري بجميع الثمن، ويلزم البيع. هذا قول ابن القاسم وأصبغ انتهى. وقال ابن الماجشون: القول قول المشترى له فيحلف أنه ما أمر المشتريَ فيأخذ ماله إن شاء من المشتري، وإن شاء من البائع، ويرجع البائع على المشتري بما أخذ منه، والبيع لازم، ولا رجوع للمشتري إن أخذ منه على البائع. وقال في زبدة الأوطاب: وملك غيره على رضاه، ولو علم المشتري، قال ابن عرفة: وفيها كان بائعه غاصبا أو متعديا. انتهى. وسواء كان البائع أجنبيا أو قريبا، أو كان المبتاع رقيقا وباع نفسه، وفي جواز الإقدام على بيع مال الغير ومنعه قولان، والظاهر أنه يختلف باختلاف المقاصد، وما يعلم من حال المالك أنه الأصلح، وإنما يلزم هذا البيع للمشتري إذا كان المالك حاضرا أو قريب المكان، وأما إن كان بعيد المكان فلا يلزمه البيع لما يلحقه من الضرر بسبب الصبر، وهل يدخل المبيع في ضمان المشتري في بيع الفضولي؟ ظاهر كلام ابن رشد أنه يدخل في ضمانه إذا أجاز مالكه البيع، فكأن البيع لم يزل جائزا من يوم وقوعه، وإنما يكون البيع موقوفا على رضا المالك إن لم يكن حاضرا للبيع. ابن رشد: وإن حضر الصفقة فسكت حتى انقضى المجلس لزمه البيع وكان له الثمن، وإن سكت بعد انقضاء المجلس حتى مضى العام ونحوه استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه، وإن لم يعلم بالبيع إلا بعد وقوعه فقام حين علم أخذ حقه، وإن لم يقم إلا بعد العام ونحوه لم يكن له إلا الثمن، وإن لم يقم

(1)

في عبد الباقي ج 5 ص 19: يشملهما.

ص: 76

حتى انقضت مدة الحيازة لم يكن له شيء. انتهى. وفهم من قوله: حتى انقضى المجلس أنه لو تكلم قبل انقضاء المجلس لم يلزمه البيع، وهو كذلك، ولو سكت حتى انقضى المجلس ثم قام وادعى الجهل فلا يعذر بجهله، ولم يذكر المؤلف حكم شراء الفضولي وهو كبيعه، فإذا اشترى سلعة لغيره بغير إذنه فإن البيع ينعقد، ولا يكون للبائع حل الصفقة إذا أخذها المبتاع لنفسه، ولا يفيد إقرار البائع بعد البيع بالتعدي، ففي المدونة: لو باع أمة ثم أقر بغصبها لم يصدق على المبتاع وغرم لربها قيمتها. انتهى. الرهوني: الأكثر من ثمنها أو قيمتها. وفي الحطاب: وسئل ابن أبي زيد عن امرأة باع زوجها ملكا لها وهي ساكتة عالمة بالبيع؟ فأجاب: إن أنكرت ذلك فلها ذلك ولا يمين عليها، إلا أن يدعي المشتري عليها أنها رضيت بذلك. انتهى. قوله: إن أنكرت ذلك؛ يعني بالمجلس. قاله مقيده. والله أعلم. قال الحطاب: وهذا في الرشيدة، وأما السفيهة فللقائم نقضه وإن طال الزمان.

فرع: قال الحطاب: دار بين رجلين باع أحدهما من أجنبي نصفها على الإشاعة، هل يقع بيعه على نصفه؟ فينفذ، أو على نصفه ونصف شريكه فينفذ في نصيبه دون نصيب شريكه، اختلف في ذلك. انتهى.

تنبيه: في الحديث الشريف (أنه عليه الصلاة والسلام دفع لرجل دينارا ليشتري له به شاة فاشترى به شاتين، ثم باع إحداهما بدينار وأتى به وبشاة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام (بارك الله لك في صفقة يمينك

(1)

) فاستجيب دعاؤه فيه، فكان يخرج بعد ذلك إلى الكوفة فيربح الربح العظيم، ولا يقال: هذا شراء؛ لأنا نقول بهذا الحديث استدل المالكية على بيع الفضولي، مع أن الحديث فيه بيع شاة بعد أن صارت في ملكه عليه الصلاة والسلام. تنبيهات: الأول: قال ابن عاصم:

وحاضر بيعَ عليه ماله

في مجلس فيه السكوت حاله

يلزم ذا البيع وإن أقر من

باع له بالملك أعطى الثمن

(1)

الترمذي، رقم الحديث 1258.

ص: 77

وإن يكن وقت المبيع بائعه

لنفسه ادعاه وهو سامعه

فما له إن قام أيَّ حينِ

في ثمن حق ولا مثمونِ

قال الشيخ ميارة: من بيع عليه ماله، لا يخلو إما أن يكون حاضر المجلس عند البيع، وعليه تكلم في هذه الأبيات، أو غاب عنه ثم بلغه وهو الذكور في الأبيات بعد هذه، وفي كل من الوجهين إما أن يقر البائع بالملك فيه لرب ذلك الشيء، أو يدعيه لنفسه، فإن كان حاضرا فلا قيام له قام بقرب أو بعد مدة، وإن كان غائبا ففيد تفصيل، وأثار بالأبيات إلى أن الحكم في الرجل يباع عليه ماله وهو حاضر فلا يقر ولا ينكر وسكت حتى انقضى المجلس، فإن البيع يلزم، وإن أقر له البائع بالملك، أعطي الثمن وأما إذا باعه وهو ينسبه لنفسه، وهو يقول: إنما أبيع مالي وصاحب المال ساكت لا يقر ولا ينكر. ثم قام يطلبه بعد ذلك فلا سبيل له إليه، وسكوته رضى منه بدعوى البائع، وإقرار منه له بالملك، أو يكون أراد به الكر والخديعة، كما قال مالك رحمه الله: فيلزمه ذلك إذا كان البائع لا سلطان له ولا قدرة له على الغصب، فمن بيع ماله بالقهر والغلبة لا حكم لسكوته.

الثَّاني: قال ابن عاصم:

وغائب يبلغه ما عمله

وقام بعد مدة لا شيء له

وغير من في عقدة البيع حضر

وبالمبيع بائع له أقر

وقام بالفور فذا التخيير في

إمضائه البيع أو الفسخ اقتفي

وإن يقم من بعد أن مضى زمن

فالبيع ماض وله أخذ الثمن

إن كان عالما بفعل البائع

وساكت

(1)

لغير عذر مانع

(1)

كذا في الأصل والذي في تحفة الحكام ج 2 ص 14: وساكتا.

ص: 78

قوله: وغائب يبلغه، البيت، معناه أن من بيع ماله وهو غائب عن مجلس العقد، والبائع يدعيه لنفسه، وبلغ ذلك رب المال، ولم يقم إلا بعد مدة، لا شيء له في ثمن ولا مثمون، فضلا عن رد البيع وفسخه، والدليل على أنه ادعاه لنفسه قوله في البيت الثاني: وبالمبيع بائع له أقر، ومفهوم قوله: بعد مدة، أنه لو قام بالفور كان له النظر في إمضاء البيع وأخذ الثمن، وفسخ البيع وأخذ شيئه، وقوله: وغير من في عقدة البيع لخ؛ يعني أند لو بيع ماله وهو غائب، والبائع يقر أن المبيع لغيره، وقام ربه بالفور فإنه يخير في إمضاء البيع وأخذ الثمن، وفسخه وأخذ شيئه، وأما إن لم يقم حتى مضى زمن، فإن البيع يمضي، ولرب المبيع أخذ الثمن، هذا إذا كان عالما بفعل البائع وسكت لغير عذر، ومفهومه أنه إن لم يعلم فله القيام وإن مضى زمن، كما أنه لو سكت لعذر من خوف على نفسه أو ماله فلا حكم لسكوته، فله القيام طال الزمن أو قصر، وقوله: وغير من في عقدة البيع حضر، مستغنى عنه لأنه هو فرض المسألة. وبالله تعالى التوفيق. وأشار بالبيت الأول إلى قوله في المفيد: وكذلك إن باعه وهو غائب وهو يدعيه لنفسه، فبلغ صاحب المال ذلك، فلا يغير ولا ينكر ولا يشهد على ذلك عدولا، ثم قام يطلبه بعد ذلك فلا سبيل له إلى ذلك، ولا إلى ثمنه. انتهى. وقال أحمد بن عبد الملك في الرجل الذي لم يحضر البيع: إذا علم وسكت يوما أو يومين فإن له القيام وفسخ البيع، ما لم تكثر الأيام فيلزمه، واعتمد الناظم هذا، ولم يعتمد ما نقل عن ابن زرب: أنه سئل عن رجل بيع عليه ماله وهو غائب، ثم علم بالبيع وسكت سنة أو سنتين؟ فقال: القيام له واجب؛ أي له الخيار إلى سنة أو سنتين. قال الشارح: وفي جعل ابن زرب الخيار للغائب بعد علمه إلى سنة أو سنتين إشكال. فتأمله. انتهى. وإشكاله ظاهر، والظاهر اللزوم. قاله الشيخ ميارة. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ أبو علي: والحاصل أن الحاضر تفصيله ظاهر، وأن الغائب نقل ابن بطال يدل على أن له نقض البيع إلا في الأيام الكثيرة، وظاهر أن ذلك نحو الشهر وما يقرب منه، بدليل مقابلته باليومين ونحوهما، وابن زرب جعل له الخيار إلى السنة والسنتين، وفيه إشكال، ولكن تقدم كلام ابن رشد: أن الخيار إنما يقطع بمضي عام فيمن لم يحضر العقد بعد علمه ولم يبين هل البائع ادعاه

ص: 79

لنفسه أو لا، وكلام ابن رشد انظره عنى قول المتن: وملك غيره على رضاه. الثَّالِثُ: قال ابن رشد: وأما الهبة والصدقة والتدبير والعتق فإن كان حاضر المجلس فسكت حتى انقضى المجلس لم يكن له شيء، وإن لم يكن حاضرا فقام حين علم كان على حقه، وإن لم يقم إلا بعد العام كان القول قول الحائز، وأما الكتابة فيتخرج ذلك على الاختلاف في الكتابة هل هي بيع أو عتق؟ وقد مضى الكلام عليهما. الرجراجي بعد كلام في الحيازة: فإن فوَّت الحائز هذه الأشياء ببيع أو هبة أو تصدق أو إصداق أو عتق أو إيلاد قبل انقطاع أمد الحيازة، فلا يخلو أن يبادر المالك بالإنكار حين علم أو يتراخى عنه، فإن بادر بالإنكار في الحال من غير تراخ فله الرد للبيع والعتق والصدقة، وإن لم يقابله بالإنكار في الحال إلا أنه قام بالقرب، فله الثمن في البيع، والقيمة والعتق بعد أن يحلف أنه ما سَوَّغ ذلد ولا تركه إلا ليأخذ الثمن أو القيمة، والهبة والصدقة والإصداق مردودة بعد يمينه أنه ما تراخى عن القيام بنَفْسِ الْعِلْمِ إلا للتدبير في إقامة الحجة، وهذا تفسير ما وقع لمطرف في الواضحة، فإن تراخى عن الإنكار مدة طويلة يفهم منها إسقاط الحجة وتسليم الشيء لحائزه وتسويغ فعله فلا خلاف في المذهب أن ذلك يدل على الملك للحائز، وفيه فوائد وبيان لما أشار إليه ابن الناظم، إلا أن في رطء الإماء لخ، وإلى ما مر أشار ابن عاصم بقوله:

وحاضر لواهب من ماله

ولم يغير ما رأى من حاله

فالحكم منعه القيام بانقضا

مجلسه إذ صمته عين الرضا

والعتق مطلقا على السواء

مع هبة والوطء للإماء

قوله: والعتق، مبتدأ وخبره على السواء مع هبة؛ يعني أن العتق يستوي مع الهبة، فإن كلا منهما إذا وقع بحضرة المالك وسكت، حفى انقضى المجلس وهو ساكت بلا عذر يمنعه من القيام لا قيام له بعد ذلك، ومعنى: مطلقا، كان العتق ناجزا أو لأجل. وقوله أو وطء الإما، قال

ص: 80

الشارح: فيه إشكال فليتأمل. قال الشيخ ميارة: وإشكاله ظاهر، فإن الإقدام على بيع مال الغير وهبته ليس كالإقدام على وطء ملك الغير. والله أعلم. ولعل ذلك مع ادعاء الواطئ أن سيدها وهبها له أو باعها منه، فإذا وطئها وسيدها حاضر لا مانع له من الكلام فذلك حوز يمنع قيام سيدها، كمن حاز دارا على حاضر عشر سنين لخ، فإن الحوز لا ينفع إلا مع ادعاء الملكية، وفي تقسيم الحوز ذكروا وطء الإماء وأنه من أقوى أوجه الحوز. انتهى. قال أبو علي: قوله: ولعل ذلك لخ، رأيت قول الرجراجي: فإن فوت الحائز لخ، ولم يشترط شيئا وهذا هو ظاهر كلام ابن رشد؛ لأن كلامه في تصرف الحائز الذي يفوت به الحوز. انتهى.

الرابع: من له دين على رجل فمات المدين وحضر رب الدين لقسم التركة فإن بقي من التركة قدر دينه فأكثر لم يقسم، فلربه القيام بدينه بعد يمينه أن سكوته وقت قسم ما قسم لم يكن إسقاطا

(1)

لحقه ولا تركا له، ولابد مع ذلك من يمين أخرى، وهي يمين القضاء أنه لم يقبضه ولا شيئا منه، ولا تركه ولا أحال عليه، لوجوبها على من له حق على ميت، أو غائب، أو صغير، ثم يقضى دينه مما لم يقسم من التركة، وفهم من كلامه أنه إذا حضر القسم وقسم جميع التركة ولم يتكلم فلا قيام له، إلا أن يكون سكوته لعذر، وفهم منه أيضا أنه إن بقي ما لا يفي إلا ببعض الدين، فإنه يقتضي ذلك البعض ويسقط الباقي. والله أعلم. وإلى ذلك أشار في التحفة بقوله:

وحاضر لقسم متروك له

عليه دين لم يكن أهمله

لا يمنع القيام بعد أن بقي

للقسم قدر دينه المحقق

ويقتضي من ذاك حقا ملكه

بعد اليمين أنه ما تركه

(1)

في الأصل لإسقاط والمثبت من ميارة ج 2 ص 19.

ص: 81

قال في المنتخب: قيل لعيسى: فلو مات رجل فاقتسم ورثته ماله ورجل حاضر ينظر إلى قسمهم ثم قام بعد ذلك بذُكر حق، قال: فلا شيء له، إلا أن يكون له عذر في ترك القيام وهو يدعي حقه عند ما يحدث فيه هذا الإحداث، تشهد البينة أنه كان مدعيا لحقه، أو يكون غائبا، أو يكون لهم سلطان فيمتنعون به، ونحو هذا مما يعتذر به، فهو على حقه أبدا وإن طال زمانه إذا كان له عذر من بعض ما وصفنا. انتهى. ولو قال: إنما سكتُّ لأن الرسم كان غائبا عني وخفت إن طلبت ديني عجزني القاضي، وقال: لم أجد ما أقوم بد حتى الآن، فلا شيء له. انظر شرح الشيخ ميارة. والله تعالى أعلم.

الخامس: إذا استفاد الزوج مال زوجته فاستغل حائطها أو حرث أرضها أو أكراها لغيره وقبض الكراء، ولم يكن مُتَّعَ بذلك، أو قبض لها دينا أو ثمن ما باعه من أمتعتها نائبا عنها، وسكتت عن طلب ما يجب لها من ذلك، ثم قامت بعد ذلك تطلب ما يجب لها من ذلك، فالمنصوص في المذهب عن مالك أن لها القيام في حقها على الزوج في حياته، هذا أي مطلق

(1)

الاستفادة، واختلف في السكنى بخصوصها هل ترجع عليه بكراء ما سكن أر لا ترجع؟ وكذلك اختلف فيما استغله من جنانها ومات الزوج، والذي جرى بد العمل أنه إن مات الزوج أخذت كراء ما استغله، مفهومه: أنها لا تأخذ كراء ما سكن، ومفهوم: في الموت، أنها ترجع في حياته، وأما ما متعت به الزوج بعد عقد النكاح فلا رجوع لها به من ذلك، وإلى هذا أشار ابن عاصم بقوله:

والزوجة استفاد زوج مَالَهَا

وسكتت عن طلب لما لها

لها القيام بعد في المنصوص

والخلف في السكنى على الخصوص

كذاك ما استغله من غير أن

مُتَّع إن مات كمثل ما سكن

فيه الخلاف والذي به العمل

في الموت أخذها كراء ما استغل

(1)

في شرح ميارة ج 2 ص 17: هذا في مطلق.

ص: 82

قال في طرر ابن عات: قال القاضي: فإن وزع مالها وهي رشيدة وانتفع به وهي تحته فطالبته بالكراء كان ذلك لها، وكذلك إن أكرى مالها وهي ساكتة تنظر فيه ثم طلبته بالكراء كان لها، ورجعت به عليه إن أحبت لأن مال أحد لا يطيب إلا عن طيب نفس منه، المرأة وغيرها في ذلك سواء. نقله الشيخ ميارة. ثم نقل بعده ما هو: ولم يختلف قول مالك أنه إذ أكل مالها وهي تنظر ولا تغير، أو أنفقت عليه أن لها أخذه بذلك (بعد يمينها

(1)

لا تنفق عليه ولا تتركه يأكل إلا لترجع عليه بحقها لا حسبة) انتهى.

والعبد الجاني على مستحقها، فيه عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه، ومعنى كلامه أن العبد الجاني إذا بيع بغير إذن المجني عليه فإنه يوقف إمضاء بيعه على رضا المجني عليه، فله رد بيع المالك وإمضاؤه، وقوله: على مستحقها أي الجناية، ومستحق الجناية هو المجني عليه. والله تعالى أعلم. قال بناني: لم يذكر يعني المص حكم الإقدام على البيع مع علم الجناية، قال ابن عرفة: وفي هباتها لابن القاسم: من باع عبده بعد علمه بجنايته لم يجز إلا أن يحمل الأرش وإلا حلف ما أراد حمله. انتهى. ونقل أبو الحسن عن اللخمي الجواز واستحسنه وهو ظاهر.

وحلف إن ادعي عليه الرضا بالبيع: يعني أن المجني عليه إذا ادعى على مالك العبد الجاني أنه رضي بتحمله للجناية بسبب بيعه له فإن السيد يحلف أنه ما قصد بالبيع تحمل الأرش، فمعنى حلف توجهت عليه اليمين. قال عبد الباقي: وحلف بالبناء للفاعل أي السيد العالم بالجناية؛ أي توجهت عليه اليمين إن ادعى عليه المجني عليه الرضا بتحمل الأرش بالبيع؛ أي بسببه لظهور فعله على ما قال المدعي: أنه باع راضيا بتحمل الجناية، فيحلف على نفي ذلك، وذكر البيع لأنه الغالب، وإلا فالهبة والصدقة كذلك، كما في المدونة، ويصح بناء حلف للمفعول أيضا بشد اللام، فإن نكل لزمه الأرش. انتهى. قوله: وإلا فالهبة والصدقة كذلك؛ قال الرهوني:

(1)

لفظ ميارة ج 2 ص 18 بعد يمينها أنها لم تنفق عليه ولا تركته يأكل على وجه الحسبة إلا لترجع عليه بحقها.

ص: 83

الإشارة إلى جميع ما أفاده كلام المص في البيع. انتهى؛ يعني من قوله: والعبد الجاني على مستحقها وحلف إن ادعِيَ عليه الرضى بالبيع إلى آخر ما يأتي. والله تعالى أعلم. ومثل الهبة والصدقة العتق، وقوله: إن ادعي عليه، قال بناني: ينبغي ضبط ادُّعِيَ بالبناء للمفعول ليشمل ما إذا ادعى المجني عليه، وما إذا ادعى المشتري لما له من الحق.

ثم للمستحق رده؛ يعني أنه إذا حلف السيد أنه ما باع راضيا بتحمل الجناية، فإنه يثبت الخيار لمستحق الجناية وهو المجني عليه، بين أن يرد البيع ويأخذ العبد في جنايته، وبين أن يمضيه ويأخذ الثمن؛ أي ما بيع به العبد، كما يأتي للمص من قوله: وله أخذ ثمنه وعلم من قوله: الرضا بالبيع، أنه باعه عالما بالجناية، وأما لو باعه غير عالم بالجناية فلا يمين على البائع؛ ومحل تخيير المستحق، إن لم يدفع له السيد أو المبتاع الأرش فإن دفع له السيد أو المبتاع الأرش فلا كلام له؛ أي للمجني عليه حينئذ، وقدم السيد لأنه هو الذي يخير أولا، فإن دفع الأرش فلا إشكال، وإن امتنع السيد من دفع الأرش خير المشتري، فإن دفع الأرش تم البيع، فإن امتنع أيضا فهو محل خيار المجني عليه بين رد البيع وإمضائه، فقوله:

وله؛ أي للمجني عليه إمضاء بيعه، وإذا أمضاه فله ثمنه، راجع لقوله: ثم للمستحق رده، أي وبعد أن يحلف البائع أنه ما رضي بتحمل الجناية يخير المستحق بين أن يرد البيع ويأخذ العبد الجاني، وبين أن يمضي البيع ويأخذ الثمن، هذا إن لم يدفع له السيد أو المبتاع الأرش، وإلا فلا كلام له، إن دفع المبتاع الأرش من عنده رجع على البائع به؛ أي بالأرش الذي افتكه به من المجني عليه إن كان أقل من الثمن، أو بثمنه. أي العبد الجاني إن كان، الثمن أقل من الأرش؛ أي يرجع على البائع بالأقل منهما؛ لأن من حجة البائع للمبتاع أن يقول له: لم يلزمني إلا ما دفعت لي إن كان الثمن أقل، وإن كان الأرش أقل يقول لا يلزمني غيره.

تنبيه: قال الرهوني: سكت المص وشراحه من حكم ما إذا دفع البائع الأرش، هل له أن يفسخ البيع؟ ولا كلام للمشتري، وفي ابن عرفة: ما نصه: وفي جناياتها: إن باعه بعد علمه حلف ما أراد حمل الأرش وكان للمجني عليه أخذ الثمن أو العبد، إلا أن يشاء ربه فكه بالأرش فيكون له إلزام المشتري بيعه إن كان أعلمه بجنايته، وإلا فلا، قال غيره: هذا إذا كانت جنايته عمدا وإن

ص: 84

كانت خطئا فكعيب ذهب. قلت: ظاهره أن لربه فسخ بيعه بعد فكه من المجنى عليه بعد حلفه. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: قال ابن القاسم: ولو فداه البائع فللمبتاع رده لهذا البيع، إلا أن يكون بيَّنه له البائع. قال غيره: هذا في العمد، وأما في الخطإ فلا، وهو كعيب ذهب. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: وإلى تفسير هذا الغير لقول ابن القاسم أشار المص بقوله:

وللمشتري رده إن تعمدها؛ يعني أن المشتري للعبد الجاني له أن يرد البيع إذا لم يعلم المشتري بتعمده للجناية عند البيع لأنها عيب، ولا رد له إن كانت الجناية خطئا كما هو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة.

تنبيهات: الأول: قال عبد الباقي عند قوله: إن لم يدفع له السيد أو المبتاع الأرش، ما نصه: فالخيار للسيد أولا حيث كانت الجناية على غير النفس عمدا أو خطئا ثم قال: وقولي: حيث كانت على غير النفس، احترازا عما إذا كانت على النفس، فإن ولي المجني عليه يخير في قتله واستحيائه، فإن استحياه خير سيده حينئذ بين إسلامه وفدائه. انتهى.

الثَّانِي قال عبد الباقي: وقيد قوله: أو بثمنه إن كان أقل بما إذا سلم البائع العبد الجاني للمشتري، ثم فداه المشتري فإن باعه للمشتري ثم قبل تسليمه له سلمه للمجني عليه، فدفع له المشتري الأرش أو الثمن فأخذه منه، فإن المشتري يرجع بثمنه، ولو كان أكثر من الأرش الذي فداه به؛ لأن من حجته أن يقول للبائع: أنت أخذت مني الثمن في مقابلة العبد مع أنك سلمته للمجني عليه، فادفع لى ما أخذته مني، وهو قيد معتمد. كما يفيده السوداني وأحمد عن التوضيح، وعن ابن غازي. انتهى. قوله: كما يفيده السوداني لخ، قال بناني: ليس في التوضيح ولا في ابن غازي ما ذكره، ولم ينقله الشبراخيتي إلا عن السوداني وأحمد. انتهى. وقال الرهوني: بحث فيه بناني والتاودي بأنه ليس في التوضيح ولا ابن غازي، وذلك يدل على أنهما قبلا الفرق بين الصورتين، وإنك ما بحثهما في العزو، وقال شيخنا الجنوي: ليس في التوضيح ولا في ابن غازي شيء، ولا يفهم من كلامهما، وليس الفرق بينهما بجلي. انتهى. وما قاله ظاهر.

ص: 85

الثالث: قال في زبدة الأوطاب: لسيد العبد الجاني بيعه إلا أن يلتزم إعطاء الأرش وهو ثقة مأمون، أو يأتيَ بضامن فيؤخر اليومين ونحوهما، فإن بادر فباعه ودفع الأرش للمجني عليه مضى بيعه وإلا لم يمض، وحكى اللخمي قولا بجواز بيعه.

الرَّابع: إذا ولدت الأمة بعد الجناية لم يسلم ولدها معها؛ لأن المجني عليه إنما يستحقها يوم الحكم، وقد زايلها الولد قبله، وتُسْلَمُ بمالها، وهو قول أشهب في الولد والمال، قاله الحطاب. ونقله من المدونة. قاله الرهوني. وما نقله عنها هو في كتاب جنايات العبيد منها، وذكر ابن يونس عنها مثله هناك ولم يزد عليه شيئا، وهو يوهم قبل التأمل أنها تسلم ويبقى الولد على ملك سيدها وذلك لا يصلح للتفرقة، فالمراد من كلامها، هذا أنه لا حق للمجني عليه في الولد، وما وراء ذلك شيء آخر بَيَّنه في كتاب التجارة لأرض الحرب: ونصها: ومن له أمة وولدها صغير فجنت الأم أو الولد جناية فاختار السيد إسلام الجاني، قيل له وللمجني عليه: بيعاهما، ثم يقسم الثمن على قيمتهما جميعا. انتهى. وإذا جنى العبت فلم يحكم فيه حتى جنى جنايات على قوم خير سيده بين فدائه منهم وبين تسليمه لهم يتحاصون فيه، فإن فداه ثم جنى خير ربه.

الخامس: اعلم أن كلام المص هنا أعني قوله: والعبد الجاني لخ، شامل للنفس والطرف، فالعبد الجاني في قتل العمد يوقف بيعه على مستحق الجناية فإن قتله فلا إشكال وإن استحياه خير سيده بين إسلامه وفدائه، فالتخيير في الرد والإمضاء جاء بعد تخيير آخر في قتله واستحيائه.

السادس: في الجواهر: الجاني إذا تعلق برقبته أرش الجناية ثم باعه سيده بعد علمه صح البيع ووقف اللزوم، فإن دفع الأرش لأهل الجناية لزم البيع إن كان أعلم المبتاع بجنايته، إلى آخر كلامه. نقله الشيخ أبو علي. وقال الشيخ أبو علي بعد نقول ما نصه: وهذا كالصريح على أن الجناية لا فرق في كونها في الأموال أو في الدماء.

ورد العبد ليضربنه ما يجوز؛ يعني أن من حلف بحرية عبده ليضربنه ضربا يجوز له، كعشرة أسواط، وسواء أطلق في يمينه أو أجل ثم باعه قبل أن يضربه فإن البيع ينقض؛ إذا نقض البيع رد العبد المحلوف بحريته لملكه؛ أي ملك سيده حلف بحريته، ويستمر في ملكه، ولا يرجع من البيع للحرية، خلافا لقول ابن دينار: إند يرد البيع ويعتق. ويمنع في صيغة الحنث

ص: 86

المطلقة من البيع والوطء، والمؤجلة من البيع، فإن لم يضربه حتى مات السيد عتق من ثلثه، ولو كاتبه ثم ضربه بر عند ابن المواز، وقال أشهب: لا يبر ويمضي على كتابته ويوقف ما يؤدي، فإن عتق بالأداء تم فيه الحنث وصار حرا وأخذ كل ما أدى، وإن عجز ضربه إن شاء. وقال أصبغ عن ابن القاسم مثله في العتبية، نقله أبو الحسن وأتى بهذه المسألة في سلك اشتراط القدرة، لأن البائع لا قدرة له على التسليم، ولا خصوصية للضرب بل حيث حلف بحرية عبده أو أمته وكانت يمينه على حنث، ومفهوم قوله: ما يجوز، لو حلف على ما لا يجوز له رد البيع وعجل عتقه بالحكم. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ولما قدم أن من الشروط القدرةَ على التسليم، ذكر ما لا قدرة للبائع فيه على التسليم، الآن الممنوع شرعا كالممنوع حسا، فقال: ورد البيع في حلفه قبله بحرية رقيقه ذكرا أو أنثى صيغة حنث لأضربنه مثلا أو أحبسنه أو أفعل به ما أي فعلا يجوز، فلما منع من البيع حينئذ رد بيعه أجل الفعل أم لا، فإن لم يرد البيع حتى انقضى الأجل في المقيد به وحنث؛ أي جاء وقت حنثه أن لو كان في ملكه ارتفعت عنه اليمين فلم يرد البيع. قاله ابن يونس. قال الحطاب: ويعلم مند أن الأمة أو العبد قبل رد البيع في ملك المشتري وضمانه. انتهى. وهو يشمل المؤجل وغيره، ولا ينافي هذا ما في المدونة: من أنه إذا مات السيد قبل أن يضربه عتق من ثلثه، قال فضل: لأنه لو فعل في المرض بر، فتركه ذلك كابتداء عتقه في المرض، لحمل كلامها على ما إذا فات وهو في ملكه بأن لم يبعه أو بعد رد بيعه، ثم ما تقدم من منعه من البيع أجِّل أم لا، مثله المنع من الوط، إن لم يؤجل، فإن أجل فله وطؤها إليه، بخلاف العتقة لأجل فيمنع من بيعها ووطئها أيضا؛ لأنه شبيه بنكاح المتعة، ولأن مجيء الزمن محقق، بخلاف الحلف بعتقها ليفعلن بها كذا مع التأجيل، فيحتحمل أن يفعل بها قبل الأجل فينتفي حنثه

(1)

فحنثه غير محقق قاله أبو الحسن. ورد لملكه واستمر فيه في موضوع حلفه على ما يجوز، وذكره لدفع توهم رده لضربه ما يجوز ثم جبره على عوده للمشتري، فإن حلف بحريته على ما لا يجوز من ضرب وغيره رد البيع أيضا وعتق عليه بالحكم، كحلفه ليضربنه ألف سوط. قال في

(1)

في الأصل حينئذ والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 21.

ص: 87

المدونة: عَجَّلتُ عتقه أي بعد رد البيع إذ لا يعتق عليه وهو في ملك المشتري، فإن تجرأ وضربه قبل الحكم، عتق عليه بالحكم إن شأنه، وإلا بيع عليه، ولا ينافي عتقه عليه بالشين بعد التجرؤ قولها: عجلتُ عتقه؛ لأن معناه بالحكم على طريقة ما مر في قوله. "أو بمحرم كإن لم أزن إلا أن يتحقق قبل التنجيز" وبهذا التقرير علم أن البيع يرد مطلقا حلف بعتقه على ما يجوز أو على ما لا يجوز، لكن يرد لملكه

(1)

المستمر إن جاز، ورد لملكه وعتق عليه إن لم يجز. انتهى. وقوله ورد البيع في لأضربنه لخ، اعلم أنه إذا ضربه وهو في ملك المشتري في بره قولان، ورد البيع واضح على القول بعدم بره بضربه في ملك المشتري، وكذا على بره حيث لم يمكنه المشتري من ضربه، وإلا لم يرد البيع. قاله عبد الباقي. وقال: ولو كاتبه ثم ضربه بر عند ابن المواز؛ أي بناء على أنها بيع وأنه يبر بضربه عند المشتري، وقال أشهب: لا يبر، ويمضي على كتابته ويوقف ما يؤدي: فإن عتق بالأداء تم فيه الحنث وصار حرا وأخذ كل ما أدى، وإن عجز ضربه إن شاء، وقال أصبغ عن ابن القاسم مثله في العتبية، وهو مبني على أن الكتابة بيع وعلى أنه لا يبر بضربه عند المشتري، وأما على أنها عتق فيحنث بمجردها ولو عجز كذا يظهر، وينبغي أن يقيد قول ابن المواز بما إذا وقع الضرب قبل أداء نجوم الكتابة، وأما بعد أدائها فلا يبر؛ إذ بالأداء تم فيه الحنث وصار حراة وعليه فالخلاف بين ابن المواز وغيره فيما إذا ضربه قبل أداء النجوم؛ فتأمله.

تنبيه: علم مما قررت أنه حلف على حنث بحرية عبده المبيع كانت صيغة يمينه لأضربنه أو لأحبسنه أو لأفعلن به كذا، فالمدار إنما هو على الحلف بحرية عبده الذي باعه، والصيغة صيغة حنث، ولا خصوصية للضرب، فلو حلف بحرية غير الذي باعه كقوله لياسر: صانع حر إن لم أضربك، فقال عبد الباقي: يعتق عليه ذلك الغير بمجرد البيع، قال الرهوني: كتب شيخنا الجنوي على قوله: فيعتق ذلك الغير، ما نصه: غير ظاهر والظاهر أنه لا يحنث حتى يموت العبد أو السيد، ولكن يمنع من بيعه ووطء الأمة، نعم إن قيد بأجل يجوز له الوطء، وإذا بلغ الأجل يعتق عليه. انتهى من خطه. وما قاله ظاهر لا شك فيه؛ وقد تقرر في باب اليمين والطلاق

(1)

في الأصل لملك والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 21.

ص: 88

أن المشهور في صيغة الحنث عند عدم النية أنها على التراخي، ولا يتحقق الحنث فيها إلا بالموت. انتهى المراد منه. قال مقيده عفا الله عنه: قوله: ولكن يمنع من بيعه، مراده بيع المحلوف بحريته على ضرب غيره، وقال عبد الباقي: وأما لو حلف بالطلاق فينجز عليه بمجرد بيعه لأن فيه عزما على الضد. قال بناني: فيه نظر؛ لأن هذا قول ابن دينار وهو خلاف مذهب المدونة: أنه يضرب له أجل الإيلاء، لعله يملكه. انتهى. فَإن قُلْت: هو في فرض المص عزم على الضد. فالْجَوَابُ: أنه لا يلزم من بيعه له أن يعزم على الضد لاحتمال أن يكون ناسيا، أو ظن أن المشتري لا يمنعه من ضربه، وأن ذلك يفيده أو يحتال على ضربه تعديا. انظر الشبراخيتي. وهذا السؤال مبني على الحنث بالضد وقد مر ما فيه. انظر حاشية الشيخ بناني. وقال الشيخ أبو علي محصلا لهذد المسألة أعني قوله: ورد البيع في لأضربنه ما يجوز ورد لملكه:

والحاصل أن من حلف بعتق ملك له فإن كانت يمينه على بر فلا يمنع من البيع ولا من الوطء في الأمة، وإن مات فلا عتق أصلا، وعلى حنث فيمنع من البيع والوطء، وإن مات فمن الثلث يعتق، ولا يمنع خدمة ولا استئجارا في يمين الحنث، وأحرى في يمين البر. انتهى المراد منه. واعلم أنهم مثلوا لما لا يجوز بألف سوط، ومثلوا للجائز بعشرة أسواط، وأما المائة فقال أصبغ: إنها من التعدي. وقال ربيعة: إنه إذا حلف ليجلدن عبده مائة سوط، وقف حتى ينظر أيجلده أم لا؟ قال الشيوخ: هو موافق لقول مالك، وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إذا حلف ليجلدنه مائة فقد أساء ويترك وإياه. وقال ابن حبيب: وبالأول أقول، ويصدق السيد أن العبد وقع منه ذنب يقتضي الأدب، ولو أقر أنه يضربه ظلما بغير سبب عتق عليه. وقال أبو محمد: إنه يمكن من ضربه بغير ذنب إذا كان يسيرا واستبعده ابن رشد. قاله الحطاب؛ يعني إذا حلف بحريته مثلا. انظر زبدة الأوطاب. قوله: واستبعده ابن رشد، هو جدير بذلك بل بالإنكار. قاله مقيده عفا الله عنه.

وجاز بيع عمود عليه بناء للبائع؛ يعني أنه يجوز للشخص أن يبيع عمودا له عليه بناء له. قال الخرشي: ذكر المؤلف هذا لدفع توهم أن كونه عليه بناء للبائع يمنع القدرة على تسليمه، والمعنى

ص: 89

أنه يجوز للشخص بيع عمود عليه بناء لبائعه أو لغيره بقيدين: أوَّلُهُمَا: لجواز الإقدام على البيع لا لصحته، وهو ما أشار إليه بقوله: إن انتفت الإضاعة؛ أي إضاعة المال الكثير من جهة البائع خاصة، بأن يكون البناء الذي عليه لا كثير ثمن له، أو يكون المشتري أضعف للبائع الثمن الذي أخذ به العمود، أو يكون البائع احتاج إلى هدم البناء الذي على العمود بسبب اختلاله، أو غير ذلك من الوجوه. والنهي عن إضاعة المال إنما هو حيث لم يقع في مقابلة شيء ولو يسيرا بدليل جواز الغبن. والثاني لصحة البيع وهو المشار إليه بقوله:

وأمن كسره؛ أي وأمن على العمود كسره عند إخراجه من البناء ليحصل التسليم الحِسِّي، ويرجع في أمن كسره لأهل المعرفة، فإن لم تنتف الإضاعة صح البيع: وأما إن انتفى الشرط الثاني فلا يصح البيع. انتهى كلام الخرشي. وقال عبد الباقي: وجاز بيع عمود عليه بناء للبائع أو غيره برضاه. ودفع بهذا توهم أن البناء عليه يمنع القدرة على تسليمه إن انتفت الإضاعة لمال البائع الكثير، بأن أضعف له المشتري الثمن، أو كان على العمود بناء يحتاج للنقض أو يسير، فإن لم تنتف الإضاعة فظاهر المص عدم الجواز لكنه صحيح؛ لأن هذا حق آدمي، وظاهر كلام غيره الجواز؛ لأن إضاعة المال إنما، تمنع حيث وقعت لا في مقابلة عوض أصلا؛ لأن بيع النفيس بثمن يسير راجع إلى بيع الغبن، أو باب السفه، وكلاهما حق آدمي، فعلى هذا يكون هذا الشرط غير معتبر. وأما قوله: وأمن كسره، فهو معتبر فإذا لم يؤمن كسره لم يجز، ويفسد البيع، ولو اشترط المشتري سلامته. انتهى. قال بناني: قول الزرقاني: بأن أضعف له المشتري لخ، هذا ذكره اللخمي كما في التوضيح، ثم ذكر اعتراض الحطاب لهذا الذي للخمي. قال بناني: وما قاله الحطاب غير مسلم لأن إضاعة المال إنما تكون فيما لم ينتفع به أحد، وهنا ليست كذلك. انتهى. ثم قال بناني: ومما تنتفي به الإضاعة أن يمكن تعليق البناء وتدعيمه. قاله عياض. وقول الزرقاني: وظاهر كلام غيره الجواز لخ، أصل هذا لابن عبد السلام، ونصه: والقيد الأول لا حاجة إليه في هذا الباب؛ لأن بيع النفيس بالثمن اليسير راجع إلى باب الغبن أو باب السفه، وكل ذلك من حق الآدمي، والكلام هنا إنما هو في حق الله تعالى. ولا يصح تركه ولو تواطأ المتبايعان عليه. هذا الذي يذكر في الشروط والأركان والموانع، وبه تعلم أنَّ بَحْثَ بعضهم مع

ص: 90

الزرقاني بأنه ليس في ابن عرفة ولا في التوضيح ولا في غيرهما من الشروح ما يفيد الجواز الذي ذكره غيرُ ظاهر، نعم يبحث في تعليل ابن عبد السلام بأن ما ضاع على أحد المتبايعين في الغبن ينتفع به الآخر، وفي البناء ينقض لا ينتفع به أحد، فهو إضاعة محضة. والله أعلم. وهو من الفساد المنهي عنه كما في التنبيهات، ونصه: قالوا: إنما هذا إذا كان يمكن تدعيمه وتعليقه، ولو كان البناء الذي عليه لا يمكن نزع العمود إلا بهدمه لكان من الفساد في الأرض الذي لا يجوز. انتهى كلام بناني.

وقال الحطاب: قال في التوضيح: إن انتفت إضاعة المال فإن إضاعته لا تجوز، كما إذا كان لا يقدر على إخراجه إلا بهدم الغرفة التي فوقه لأن ذلك من الفساد. اللخمي: إلا أن يكون قد أضعف له في الثمن أو تكون الغرفة تحتاج إلى النقض أو كان عليه بناء يسير. انتهى. وقال أبو علي: وجاز بيع عمود عليه بناء للبائع، هذا نحو قوله في المدونة: ولا بأس بشراء عمود عليه بناء للبائع، المازري: وشرط هذا البيع أن لا يتضمن إضاعة المال في هذا البناء، وأن يؤمن على العمود الإفساد، وإليه أشار بقوله: إن انتفت الإضاعة وأمن كسره. اللَّخْمِيُّ: وإزالة البناء الذي على العمود على البائع، وهو معنى قوله:

ونَقَضَه البائعُ؛ أي نقض البناء الذي على العمود على بائع العمود. قال الحطاب: قال في التوضيح: ولم يذكر المص يعني ابن الحاجب من عليه النقض، والمنصوص لمالك أنه على البائع، وذكر المازري عن بعض الأشياخ أنه استبعده، قال: ولا وجه لاستبعاده. وحكى عن ابن القاسم أن على البائع أن يزيل ما فوق العمود ليصل المبتاع إلى قبضه. انتهى. وقال عبد الباقي: ونقضه، أي البناء الذي على العمود البائعُ أي أزال ما عليه اتفاقا وكذا قلعه نفسه، ويشهد له ما حكاه المازري عن مالك وهو أحد قولين مرجحين، والآخر أنه على المشتري، وصدر به القرافي؛ وذكره صاحب النكت عن بعضهم، وعزاه ابن يونس للقابسي، وعلى الأول فضمانه في قلعه من البائع، وعلى الثاني من المبتاع. كذا يظهر. لا قول الحطاب كالتتاني عن بعض القرويين على المبتاع مطلقا. وإذا بيع سيف محلًّى وغَنَم فقط على ظهرها صوف ونخل فقط عليها تمر فإزالة الحلية

ص: 91

وقلع الصوف والثمرة على البائع، وإذا بيعت الحلية نفسها أو الثمرة أو الصوف فإزالة كل عن محله على مبتاعه، ومن دعا إلى تخليص ملكه أجيب وإن لم يرض الآخر. انظر الحطاب. انتهى وهواء فوق هواء من وصف البناء قال الخرشي: يعني أنه يجوز للشخص أن يقول لصاحب أرض: بعني عشرة أذرع فوق ما تبنيه فوق أرضك إن وصف متعلق البناء الذي للأسفل والذي للأعلى، يصف كل بناءه

(1)

لانتفاء الغرر. لأن صاحب الأسفل يرغب في خفة بناء الأعلى، وصاحب الأعلى يرغب في ثقل بناء الأسفل، ويوصف المرحاض وقناته والميزاب ومصبه. فقوله: وهواء أي مقدار من هواء، وأما الهواء فلا يصح بيعه، وهواء بالمد وهو ما بين السماء والأرض وأما بالقصر فهو ما تحبه النفس. قال في توضيحه: وفرش سقف الأسفل بالألواح على من اشترط عليه، وإلا فعلى البائع على الأصح، ولا يجوز لمبتاع الهوا، بيع ما على سقفه إلا بإذن البائع؛ لأن الثقل على حائطه. انتهى. قال بعضهم: ويفهم مند أنه ملك ما فوق بنائه من الهواء، إلا أنه لا يتصرف فيه لحق البائع في الثقل لخ، ومفهوم فوق هواء مفهوم موافقة كأن يبني المشتري الأسفل والبائع الأعلى، ويجبر صاحب الأسفل على البناء ليتمكن صاحب الأعلى. انتهى كلام الخرشي. وفي حاشية بناني أن الظاهر منعهما معا من البناء فوق الأعلى. وقال الحطاب: وهواء فوق هواء؛ أي وجاز بيع هواء فوق هواء فأحرى هواء فوق بناء إن وصف البناء أي الأعلى والأسفل ويصف بماذا

(2)

يبنيه من آجر وحجر. قاله في التوضيح. وقال اللخمي: ويصف عرض حيطان البناء ويبنيه بالمعتاد من آجر وحجر. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز بيع مقدار هواء فوق هواء بأن يقول شخص لصاحب أرض: بعني عشرة أذرع فوق ما تبنيه بأرضك وقدرنا مقدار لأنه المراد وأما الهواء نفسه فلا يصح بيعه إن وصف البناء الذي للأسفل والذي للأعلى. ووصف لفظا أو عادة ما يبني به، ويملك الأعلى الهواء الذي فوق بنائه ولكنه لا يبني فيه إلا برضى الأسفل.

تنبيهان: الأول: قال عبد الباقي: ثم إنه يجري هنا قوله الآتي: وهو مضمون، ويجري في قوله: وغرز جذع لخ، قوله هنا: إن وصف البناء، ففيد احتباك انتهى. الثاني: قال الحطاب في

(1)

في الأصل بنائه والمثبت من الخرشي ج 5 ص 21.

(2)

في الأصل: بم ذا، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 69 دار الرضوان.

ص: 92

التوضيح: قال علماؤنا: من ملك أرضا أو بناء ملك هواها

(1)

إلى أعلى ما يمكن واختلفوا هل يملك باطنها أو لا

(2)

؟ على قولين ورجح بعضهم الملك لقوله عليه الصلاة والسلام: (طوقه من سبع أرضين

(3)

) وفيه نظر. انتهى. وفي حاشية بناني: ولا مرفق لصاحب الأسفل في سطح الأعلى إذ ليس من الأفنية.

وغوز جذع في حائط، هذه المسألة تارة تكون بيعا وتارة تكون إجارة، وحينئذ فيقدر بعد الواو محذوف؛ أي وجاز عقد على غرز جذع لشخص في حائط لآخر، وصورتها أن تقول لشخص: بعني موضعا من حائطك لأغرز فيه هذا الجذع، فإذا لم تضربا لذلك أجلا فهو بيع. وهو مضمون، يعني أن الحائط المذكور مضمون في ذمة بائع الموضع من الحائط، فإذا انهدم لزمه أن يعيده، وأما إذا اختل موضع الجذع فإصلاحه على صاحب الجذع، ولما كان قوله: وغرز جذع، شاملا لما إذا عينا أجلا وما إذا لم يعينا أجلا بحسب ظاهر اللفظ استثنى من ذلك استثناء متصلا قوله: إلا أن يذكر مدة؛ يعني أنهما إذا عقدا على مدة معينة فإنه لا يكون الحائط مضمونا في ذمة البائع؛ لأن العقدة حينئذ إنما هي إجارة، وإذا كانت إجارة فإنها تنفسخ بانهدامه؛ أي الحائط قبل تمام المدة لتلف ما تستوفى منه المنفعة، وإذا فسخت فإنه يرجع فيها للمحاسبة. قال الخرشي مفسرا للمص ما نصه: هو؛ يعني قوله: وغرز، معطوف على بيع بعد حذف المضاف؛ أي وجاز معاقدة غرز جذع، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه؛ أي وجازت المعاقدة على موضع غرز جذع أي إدخال جذع أو جذوع في حائط لرجل ثم تارة لا يعين فيه مدة فيكون بيعا، وإذا انهدم الحائط لزم البائع إعادته، وأما إن حصل خلل في موضع الغرز فإصلاحه على المشتري إذ لا خلل في الحائط، ولو باع البائع داره بحائطه أو مات فاستظهر الحطاب أن بناء الحائط على الوارث أو على المشتري إن علم، وإلا فعيب وتارة يعين مدة فتكون إجارة موضع الغرز من الحائط، تنفسخ بانهدام الحائط ويرجع للمحاسبة لتلف ما يستوفى منه، فإن قيل: إن كان بيعا فلم لزم البائع

(1)

كذا في الأصل والذي في الحطاب ج 5 ص 70 ط دار الرضوان هواءها.

(2)

في الأصل أولى والمثبت من الحطاب ج 3 ص 70 ط دار الرضوان.

(3)

البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم الحديث 3193.

ص: 93

إعادة الحائط مع أن ذلك صار مملوكا للمشتري؛ وكان المناسب أنه إذا انهدم لا شيء على البائع، فالجواب: أن مشتري محل الجذع بمثابة من اشترى علوا على سفل، فيلزم صاحب الأسفل إعادته لأجل أن يتمكن صاحب الأعلى

(1)

)، وإنما قدرنا معاقدة ليشمل البيع والإجارة بدليل التفصيل الذي بعده. انتهى كلام الخرشي. وقال عبد الباقي: وجاز عقد على غرز جذع؛ أي جنسه فيشمل المتعدد في حائط لآخر بيعا أو إجارة، وهدم موضع الجذع

(2)

على المشتري أو المكتري، كمن استأجر أرضا ليبني بها فتهيئتها عليه فيما يظهر، لا على البائع كنقض العمود وهو مضمون، فيلزم البائع أو وارثه أو المشتري منه مع علم محل الجذع إعادة الحائط إن هدم، ويستمر ملك موضع الجذع للمشتري أو وارثه أو المشتري منه، فإن لم يعلم المشتري من البائع محل الجذع خير في نقض شرائه، ولا كلام له في محل الجذع، وأما إن حصل خلل في موضع الجذع فإصلاحه على المشتري؛ إذ لا خلل في الحائط. واستثنى من قوله: مضمون، استثناء متصلا على التقدير الذي ذكره قوله: إلا أن يذكر المستأجر موضع الجذع مدة حين عقدها فإجارة تنفسخ بانهدامه أي الحائط قبل تمام المدة، ويرجع للمحاسبة، ولا يلزم الموجر إعادته لفسخها بتلف ما يستوفى منه. انتهى المراد منه. وقال الرهوني: وغرز جذع في حائط وهو مضمون؛ يعني بشرط وصف الجذع، أو الجذوع غلظا أر رقة ونحوهما كما في المواق عن المدونة، وإن أطلق المص وأغفل الزرقاني وغيره هذا التقييد.

تنبيه: هذه المسألة شبيهة بمسألة من اشترى ممرا في دار من غير أن يشتري من رقبة الأرض شيئا، وقد جمع بينهما في المدونة، فيجري في هذه الإشكال الذي جرى في مسألة الممر، قال الوانوغي عند قول المدونة في كتاب القسمة: ومن اشترى من رجل ممرا في داره من غير أن يشتري من رقبة الأرض شيئا جاز. انتهى. قلت: وهاهنا بحث يوجب إشكالا في المسألة تقديره أن يقال: المشترى إما عين فالمصطلح عليه بيع، وإما منافع فالصطلح عليه إجارة أو كراء، لابد من الأجل فيها، فيلزم على هذا فساد مسألة المدونة هذه؛ يعني لأن المنافع مشتراة وهي غير

(1)

كذا والذي في الخرشي: الأعلى بالانتفاع. ج 3 ص 22.

(2)

ساقط من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 22.

ص: 94

موقتة، أجاب شيخنا ابن عرفة بأن بيع المنافع على قسمين، منافع يبقى معها التصرف للمكري في أصل ما تستوفى منه، ومنافع لا يبقى معها تصرف ببيع أو تحبيس أو هبة، فالأول: هو الذي يشترط فيه الأجل، والثاني: لا لأنه لما لم يبق له شيء صار كالمشتري للأصل، فصار شبيها ببيع العين، فلذا صحت ولم تفتقر لضرب الأجل. انتهى. ونقله ابن غازي وأقره. وتأمله ولابد. انتهى. وفي الحطاب ما معناه: لو اختل موضع غرز الجذع مع صحة بناء الحائط قيل لصاحب الجذع: أصلح موضع جذعك أو دع؛ لأنه ملك الوضع ويترتب على ذلك أحكام الملك من الهبة والميراث. والله أعلم. انتهى.

وعدم حرمة؛ يعني أنه يشترط في المعقود عليه عدم حرمة لملكه أو بيعه، واعلم أنه إن فسرنا قوله: وعدم حرمة، بحرمة التملك، ورد عليه إناء النقد فإنه يصح بيعه ولا يجوز تملكه، وإن فسرنا قوله: وعدم حرمة بحرمة البيع كان مستغنى عنه بقوله: وعدم نهي. قال عبد الباقي عند قوله: وعدم حرمة مستغنى عنه بقوله: وعدم نهي، ولعله أتى به ليبين أن المراد بالنهي المنفي هو الحرمة ولأجل قوله:

ولو لبعضه، وهوأي قوله: ولو لبعضه، مقيد بما إذا دخلا أو أحدهما على علم حرمة الحرام كقلتي خل، فإذا إحداهما خمر، وشاتين إحداهما ميتة، وثوب وخنزير يعتقد أحدهما أنه قنفذ، والآخر يعلم ذلك، وعبدين استحق أحدهما بحرية، ومشتر دارا فوجد بعضها حبسا، فيفسد العقد في الجميع لجمع الصفقة حلالا وحراما، مع علمهما أو أحدهما بذلك كما علمت، وبه تقيد القاعدة المذكورة، وأما إذا جهل كل منهما ذلك فلا يفسد، ثم إن كان وجه الصفقة فعليه رد الباقي. وإن كان أقلها لزمه الباقي بما ينوبه من الثمن، كما هو مصرح به في باب الاستحقاق، ويجري مثله في العيوب، وقوله: ولو لبعضه، أشار إلى القاعدة المقررة وهي الصفقة: إذا جمعت حلالا وحراما بطل الجميع بشرط أن يدخلا أو أحدهما على ذلك.

وفي المسألة تسعة أقوال: أحدها: وهو المشهور يبطل الجميع. وهو قوله: ولو لبعضه. ثانيها: يبطل الحرام ويحح الحلال؛ ذكره اللخمي عن ابن القصار. ثالثها: إن كان الحلال النصف فأكثر

ص: 95

جاز الحلال وبطل الحرام، وإلا بطل الجميع، وهو رأي اللخمي. رابعها: إن سميا لكل واحد منابه جاز الحلال وبطل الحرام، وإلا بطل الجميع. خامسها: إن علما بذلك بطلت كلها، وإن لم يعلما جاز الحلال وبطل الحرام. سادسها: إن كان ذلك لمالك واحد بطلت كلها وإن كان لالكين جاز الحلال وبطل الحرام. سابعها: الفرق بين جنس واحد وجنسين. ثامنها: إن كان الحق لله تعالى بطلت كلها، وإن كان لحق المخلوق بطل الحرام فقط. تاسعها: إن كان مما لا يجوز تملكه ولا بيعه بحال كالخمر والخنزير بطلت كلها، وإن كان مما يتمول ولا يجوز بيعه كأم الولد جاز الحلال وبطل الحرام. نقله الرهوني.

تنبيه: ابن عرفة: الصقليان عبد الحق وابن يونس ذكرا عن أبي العباس الأبياني في رجل اشترى قلال خل ونقلها، فوجد منها ثلاثة خمرا، فعرض له شغل أياما، ثم رجع ليردها فوجدها قد صارت خلا، إن ثبت ذلك ببينة سقط عنه من الثمن بحسب قلال الخمر، وإن لم يعرف ذلك إلا من قوله لم يرد عليه من الثمن شيئا، إلا أن يقر البائع بذلك. قال أبو محمد: الجواب صحيح ويرد القلال التي كانت خمرا إلى البائع، ابن عرفة: لما ذكر المازري قول الأبياني قال: استدركه أبو محمد وتأوله على أن هذه القلال التي تخللت ترد لبائعها، وهذا يمكن أن الأبياني لم يُرِدْه لأن هذه القلال كانت خمرا عند العقد فلا ملك للبائع عليها، فتخللها عند المبتاع رزق ساقه الله إليه، كطائر سقط في داره. نقله محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم. قال الرهوني: هذا يقتضي أن ابن عرفة اقتصر على ما نقله عنه وأنه سلم كلام المازري وليس كذلك، بل زاد متصلا بما نقله عنه: وكان بعض من لقيناه لا يحمل كلام أبي محمد على ما فهمه المازري، ويحمله على أن خل القلال التي كانت خمرا يسقط منابها من الثمن، ويكون خلها للمبتاع، ويحمل معنى قول أبي محمد: يرد القلال التي كانت خمرا للبائع، على رد القلال من حيث هي ظروف، لا ردها بما فيها، والصواب ما فهمه المازري عن أبي محمد، وأما استشكاله إياه وقول من لقيناه فيردهما قول المدونة في كتاب الغصب في مسلم غصب خمرا فخللها: فلربها أخذها. انتهى. فالعجب من محمد بن الحسن كيف ترك هذا من كلام ابن عرفة، ثم نقل عن ابن ناجي ما نصه: وظاهر الكتاب يقتضي أنه لو لم يتسبب في إصلاحها بل تخللت بنفسها أنه يأكلها من غير إساءة وهو

ص: 96

كذلك بإجماع. قاله ابن رشد. فإن قيل لِمَ لَمْ يتم البيع فيها ويكون تخللها كذهاب عيب بالمبيع قبل رده؟ فالجواب أن المعيب تعلق البيع به صحيح لو رضيه المبتاع صح، والخمر لا يصح تعلق العقد به بحال. انتهى. قاله ابن غازي. وهو ظاهر والله أعلم انتهى كلام الرهوني.

وجهل بمثمون أو ثمن؛ يعني أنه يشترط في صحة عقد البيع عدم الجهل بالمثمن أو الثمن، قال الخرشي مفسرا للمص: أي ومما يشترط في البيع عدم الجهل بالمثمون والمثمن، فلابد من كونهما معلومين للبائع والمبتاع، وإلا فسد البيع، وجهل أحدهما كجهلهما على المذهب، وقيل: يخير الجاهل، وقوله: بمثمون أو ثمن؛ أي قدر أو كمية أو كيفية وصفة، وإنما فصل في هذا الشرط دون ما قبله من الشروط بل أجمل ليعلم منه أن كل ما اشترط في أحدهما فهو شرط في الآخر؛ أي ليعلم أن جميع ما مر شرط فيهما أي في الثمن والمثمون، ولو استمر على إجماله لتوهم أنه خاص بالمثمون، فرحمه الله تعالى. انتهى كلام الخرشي. وقال عبد الباقي: وعدم جهل منهما أو من أحدهما بمثمون أو ثمن، فَمَا جهل جملة وتفصيلا كبيع شيء متعدد بزنة حجر أو صنجة مجهولة كما في الش يُمْنَعُ بل.

ولو جهل تفصيلا وعلمت جملته فيمنع ويفسد العقد، ورد المص بلو قول أشهب بالجواز، وأما إن تعلق الجهل بالجملة فقط وعلم التفصيل فلا يفسد، كبيع صبرة بتمامها مجهولة القدر كل صاع بكذا، كما سيقول: أو كل صاع؛ لأنه لا يخرج جزء من الثمن إلا بإزائه

(1)

جزء من الثمن المعلوم وفاقا للشافعي وأحمد ومنعها أبو حنيفة لجهالة الجملة. انتهى. قال بناني: وقد منعها ابن مسلمة أيضا من أصحابنا. انتهى. قال عبد الباقي: ثم محل فساده فيما ذكر المص مع جهل أحدهما إذا علم العالم بجهل الجاهل وإلا لم يفسد البيع، وإنما حكمه كبيع الغش والخديعة، فللجاهل منهما إذا علم الخيار بين إمضاء البيع ورده، وإذا ادعى الجاهل على العالم أنه يعلم بجهله حلف لرد دعواه، فإن نكل حلف المدعي وفسخ البيع؛ ومحل قوله: بمثمون، عند تيسر العلم كشراء حاضر بحاضرة بمكيال بادية لجهول له، وشراء باد ببادية بمكيال حاضرة مجهول

(1)

في الأصل: بإزالة، والمثبت من عب ج 5 ص 23.

ص: 97

له، وإلا جاز كشراء حاضر في بادية بمكيالها المجهول له، وباد بمكيال حاضرة فيها مع جهله له، فالأقسام أربعة، والمراد بعلم المثمن حقيقة أو حكما، فدخل بيع سمن أو زيت وزن بظروفه كل رطل بكذا على أن توزن ظروفه بعد تفريغه ويطرح وزنها من الجملة كما بمصر، فهذه جائزة؛ ودخل أيضا بيعه كل رطل بكذا على أن يوزن بظروفه ويتحرى الظرف ويطرح، على ما أفتى به عبد الباقي بن سراج من جواز هذه أيضا: وظاهره وإن لم يكن الظرف زقا ووافقه غيره إذا كان زقا فقط؛ قال مالك: لأن الناس قد عرفوا وزنها أي الزقاق فإن لم يعرفوه لم يجز ذلك، والمراد بالناس ما يشمل المتبايعين لا غيرهما فقط ليلا يجهلا، ويحتمل أن شأن ذلك أن يعرفه الناس وكان الزائد على الظرف أن لو وجد هبة كما يقع في وزن البصل عندنا بمصر، ولا يجوز نقص الوزن ليزيده بعده شيئا يسيرا يرى أنه وفى له به حقه كما يقع عندنا بمصر؛ وشدد في منعها صاحب الدخل.

وفي الرهوني عن شيخه متعقبا على عبد الباقي أن المسائل ثلاث: أنْ يوزن السمن مثلا بظروفه على أن يطرح وزنها من الجملة، فهذه لا إشكال في جوازهما. الثانية: كذلك إلا أنه يتحرى ظروفها ويطرح من الجملة، وهذه مسألة ابن سراج. الثالثة: أن يوزن بالظروف ولا يطرح شيء، وهي مسألة مالك وجاز ذلك في الزقاق وسئل من القلال؟ فقال: لو علمت أنها مثل الزقاق ما رأيت بها بأسا. انتهى.

قال: وبقيت رابعة وهي بيعه بظروفه على أن يطرح من الوزن قدر معلوم يتفقان عليه ويسميانه عند العقد ولا يزنان الظرف بالفعل ولا بالتحري، وهي جائزة أيضا إذا شهدت العادة أن ذلك لا يختلُّ إلا يسيرا. انتهى. ومن الجهل بالثمن وقوع العقد على دراهم أو دنانير مجملة الصفة مع تعددها بالبلد ولم يغلب إطلاقها على شيء واختلف النَّفاق فالعقد فاسد، فإن غلب إطلاقها على معين حملا عليه، أو اتفقت نَفاقا صح البيع وأجبر البائع على قبول ما يدفع له منها، ومن الجهل بالمثمون شراء نصف شقة ولم يبين ما يأخذه من أي ناحية منها، وليس للتجار سنة بشيء، واختلف مع البائع ونكلا أو حلفا أو اتفقا على وقوع العقد على الإبهام، فإن كان لهم سنة بشيء صح أو حلف أحدهما على البيان صح وكانا على سنتهم وقضي للحالف. انتهى.

ص: 98

وكلام عبد الباقي هذا يوضحه كلام الحطاب: من اشترى نصف شقة ولم يسم المشتري أولا ولا آخرا، فقال البائع: لا أعطيك إلا الآخر، وقال: المشتري لا آخذ إلا الأول، فإن ادعى كل واحد أنه سمى، أو اتفقا على الإبهام وادعى كل واحد أنه أراد النصف الذي طلبه، حلف كل واحد منهما، فإن حلفا أو نكلا فسخ البيع، وإن حلف أحدهما كان القول له، وإن اتفقا على عدم التسمية وعدم النية كانا شريكين فيها، يقسم الثوب على القيمة ثم يستهمان عليه. انتهى. وفي الرهوني: من الجهل بالمثمون شراء النحل في الأجباح دون كشف عنها ومثل المص لجهل التفصيل بقوله:

كعبدي رجلين بكذا كناية عن الثمن؛ يعني أنه لا فرق بين أن يكون الجهل جملة وبين أن يكون تفصيلا، وجهل التفصيل مثاله بيع عبدين لرجلين يبيعانهما جملة بثمن واحد وتحت ذلك ثلاث صور: أن يكون لكل منهما عبد أو لأحدهما عبد والآخر بينهما، أو كانا بينهما بأجزاء مختلفة، وأما إن كانا بينهما بأجزاء متفقة فالبيع صحيح إذ لا جهل. قال عبد الباقي: والمنع في الصور الثلاث مقيد بما إذا لم ينتف الجهل فإن انتفى جازة كما إذا سميا لكل عبد ثمنا، أو قوما كلا بانفراده، أو دخلا على المساواة قبل التقويم أو بعده، أو جعلا لأحدهما جزءا معينا من الثمن الذي ذكره المشتري أو قبل ذكره ثم بيعا عقدا واحدا. وما ذكره المص تعدد فيه البائع والمبيع، سواء كان المشتري متحدا أو متعددا كما يشمله ظاهره، وسكت عما إذا اتحد البائع وتعدد المشتري بكسر الراء سواء اتحد البيع أو تعدد، والجواز في الأول واضح لأن كل واحد من المشتريين يأخذ بقدر ثمنه من المبيع، وأما الثاني فمقتضى العلة المنع لجهل كل من المشتريين ما اشترى. وفي المواق: البيع صحيح بعد الوقوع وكيفية قسمة بينهما تعلم من كلام الشامل الآتي؛ ثم الشراء في هذه المسائل كالبيع، ففي الشامل: لو اشتريا سلعتين على الشركة جاز، وعلى أن كل واحد يأخذ واحدة بما يناسبها من الثمن قولان. قال الحطاب: والجاري على المشهور المنع. انتهى. وظاهر المص علم المشتري أنهما شريكان أو ظن ذلك، وأشار التونسي إلى أن محل الفساد إذا علم المشتري ذلك لا إن ظن. انتهى. وهذا مبني على الخلاف السابق.

ص: 99

تنبيهات: الأول: قد مر قول عبد الباقي: ثم محل فساده فيما ذكر المص مع جهل أحدهما إذا علم العالم بجهل الجاهل وإلا لم يفسد قال بناني: هذا التفصيل هو الذي اختاره ابن رشد في البيالت وجزم به، ونحوه في المعيار آخر المعاوضات، لكنه خلاف ظاهر المدونة من الإطلاق وهو مختار اللخمي. قال الحطاب: ولعل المص اعتمد على ظاهر المدونة، فيحمل كلامه على إطلاقه ويؤيد ذلك مسألة العبدين الآتية. انتهى. وقال أبو الحسن في قول المدونة: وإن جهل أحدهما أو كلاهما لم يجز ما نصه: انظر قوله: وإن جهله أحدهما، ظاهره سواء علم العالم بجهل صاحبه أم لا أن ذلك يفسخ ثم ذكر ما لابن رشد. ثم قال: وفيما قاله ابن رشد نظر؛ لأنهما دخلا على غرر فكيف يصح هذا العقد. تأمله. وقال الشيخ أبو علي: ظاهر المص أنهما مهمى جهلا أو أحدهما علم العالم بجهل صاحبه أم لا أن البيع فاسد، وهو الذي شهره عياض. وقال ابن محرز: هو أظهر القولين. قال أبو علي. وهو الصحيح في النازلة، وكلام ابن رشد خلاف المذهب. انتهى. وقال المسناوي: حمل المص على الإطلاق هو الصواب.

وقول الزرقاني: وإذا ادعى الجاهل على العالم لخ، اعلم أن المسائل ثلاث: تارة يثبت علم العالم منهما بجهل الآخر، وتارة يثبت جهل الجاهل دون علم الآخر به، وتارة لا يثبت واحد منهما، ففي الأولى يفسد، وفي الثانية له الخيار عند ابن رشد ويفسد عند غيره، وفي الثالثة يلزم البيع؛ فإن ادعى الجاهل في هذه علم صاحبه بجهله حلف له، وإن نكلى حلف مدعي الجهل أنه كان جاهلا حين العقد وثبت له الخيار. والله أعلم. وظاهر كلام ابن رشد أن اليمين تتوجه إذا ادعى عليه أنه يعلم بجهله ولو كان في الوثيقة أنه عرف الثمن والمثمن، وهذا إنما يظهر فيمن عادة الموثقين منهم التساهل في أمر الوثائق وإلا فلا.

الثاني: قد مر قول عبد الباقي: إن محل قوله: وجهل بمثمون، عند تيسر العلم وإلا جاز كشراء حاضر في بادية بمكيالها لخ. قال الرهوني: هذا هو المشهور ومقابله لأشهب، وهل الخلاف في الفسخ فقط مع اتفاقهما على عدم جواز ذلك ابتداء وهو الذي يقتضيه أول كلام التوضيح؟ أو الخلاف في الجواز ابتداء وهو الذي يقتضيه كلامه آخرا. انتهى المراد منه.

ص: 100

الثالث: قوله: ولو تفصيلا كعبدي رجلين بكذا. قال الحطاب: فإن وقع فسخ على المشهور، فإن فات ففي المدونة: يمضي بالثمن مفضوضا على القيم، وفي غير الموازية: أنه يمضي بالقيمة كالبيع الفاسد. انتهى. أي المتفق على فساده. وقال الحطاب:

فرع: فإن سميا لكل واحد ثمنا أو قوما أو دخلا على المساواة بعد التقويم جاز. قاله في التوضيح. انتهى. وكتبت هذا بعد ما مر لتقويته.

مسألة: اعلم أن اشتراط ضمان مثل المستحق في عقدة البيع يفسد به البيع، قال ابن القاسم: إذ لا يدري أي الصفقتين ابتاع، وإن كان التزام ذلك بعد عقد البيع فالبيع جائز والشرط باطل، وسواء كان الملك للبائع فقط، أو كان شريكا

(1)

بينه وبين غيره وضمن للمشتري المثل إن لم يجز الشريك. نقله الرهوني، وفيه: أنه إذا باع الأخ على أخيه الغائب وشرط عليه المشتري أنه إن لم يجز الغائب البيع المذكور أعطاه عوض المبيع من أرضه، فإن البيع فاسد ويفسخ وإن أجازه الغائب. انتهى. وهذا هو الأول أو قريب منه، وعلل الفساد في هذا بأنه غرر، قال الرهوني: ويؤخذ من التعليل الفساد إذا وقع الشرط على وجه آخر وهو أنه إن قام عليه فإنه يرضي القائم من ماله، وهذا منصوص عليه. انتهى. بالمعنى ونقل من الأدلة ما فيه كفاية. والله سبحانه أعلم.

ورطل من شاة يعني أنه لا يجوز للشخص أن يشتري رطلا من لحم شاة مثلا قبل سلخها ذبحت أم لا لأنه لحم مغيب، ومحل المنع ما لم يكن المشتري للرطل مثلا هو البائع للشاة ووقع الشراء عقب العقد بناء على أن اللاحق للعقود كالواقع فيها، وينبغي تقييد المنع أيضا بما إذا لم يدخلا على جعل الخيار للمشتري كما في مسألة الزيتون الآتية.

وتراب صائغ مثال لما جهل جملة وتفصيلا. نقله الشيخ بناني عن ابن الحاجب وابن عرفة قال: وهو الظاهر؛ يعني أنه لا يجوز بيع تراب الصائغ والعطار. قال مقيده عفا الله عنه: هذا المثال والذي قبله معطوفان على عبدي، لكن على اللف والنشر من غير ترتيب؛ إذ قوله: وتراب صائغ، مثال لما جهل جملة وتفصيلا، فهو مثال لما قبل المبالغة؛ ورطل من شاة لما جهلت صفته

(1)

في الرهوني ج 5 ص 66: شركة.

ص: 101

فهو أيضا مثال لما قبل المبالغة. والله سبحانه أعلم. ودخل بالكاف في المثال الأول غير العبيد من الثياب والحيوان وغير ذلك، وبالكاف المقدرة في الثاني الرطل من جميع الحيوانات، ومثل الرطل ما فوقه وما دونه، ودخل بالكاف في الثالث تراب العطار وكل صنعة بالتراب ويعسر تخليصها منه والله سبحانه أعلم. وفي المدونة: ولا يجوز بيع لحم شاة حية أو مذبوحة أو لحم بعير كسر قبل الذبح والسلخ كل رطل بكذا من حاضر ولا مسافر. انتهى.

ورده مشتريه يعني أن تراب الصواغين ونحوهم لا يجوز بيعه؛ إذ لا يدري المشتري هل فيه شيء أم لا؟ وهل ما فيه قليل أو لا؟ فإن وقع فسخ ورد التراب لربه إن لم يفت، وأخذ ثمنه إن كان قد دفعه؛ ولا فرق على المشهور بين كون المشتري قد خلصه أم لا كما قال المص:

ولو خلصه، وقال ابن أبي زيد: قيمته على غرره، وعلى المشهور لو خلصه فله الأجر إن لم يزد على قيمة الخارج، وإلا فهل له الأجر أيضا أو لا؟ قولان. والثاني طريق ابن يونس وهو الراجح، وعلى الأول فإن لم يخرج منه شيء فله أجرة المثل في ذمة البائع، وعلى الثاني فلا شيء له. قوله: وهو الراجح، قال بناني: هو خلاف المشهور فهو مرجوح لا راجح انتهى. قال غير واحد: فإن فات عند المشتري فقيمته يوم قبضه على غرره أن لو جاز بيعه انتهى.

لا معدن ذهب أو فضة؛ يعني أنه لا يمنع بيع تراب معدن الذهب أو الفضة بغير صنفه، وأما بصنفه فيمنع لأن الشك في التماثل كتحقق التفاضل، وأما المعدن نفسه فلا يباع بل إذا مات من أقطعه الإمام له عاد للإمام ويقطعه لمن شاء، كما في المدونة. انتهى. قاله بناني. وقال أحمد: هذا أي بيع تراب معدن ذهب أو فضة من جملة بيع الجزاف فلابد فيه من شروطه الممكنة هنا، ويقوم مقام عده بمشقة كون تحصيله بمشقة. انتهى. وفي قوله: ويقوم لخ، نظر لأن هذا أصله مما يباع وزنا، وما يباع وزنا لا يشترط فيه أن يوزن بمشقة. انتهى. قال بناني: قول الزرقاني عن أحمد: بيع تراب المعدن من بيع الجزاف الخ، قال بعض الشيوخ: لا مانع من بيعه بالكيل مثلا فهو كغيره من المثليات في الكيل والجزاف فيجري على حكم غيره. انتهى. وقال عبد الباقي: وينبغي جواز معدن نحاس وحديد كمعدن عين، والفرق بين معدن ذهب أو فضة وبين ما قبله من منع تراب صائغ شدة الغرر في الأول دون الثاني كما يفهم من الشارح. وأما التفرقة بصنعة

ص: 102

المخلوق في الأول والخالق في الثاني ففيها نظر. قاله الشيخ كريم الدين. وقال الشيخ أبو علي: قول ابن الحاجب: بخلاف معادن الفضة وفي معادن الذهب قولان. التوضيح: أي بخلاف تراب معادن الفضة فيجوز بيعه لأنه يحزر ما فيه من الفضة، والمشهور في معادن الذهب الجواز، نص عليه المازري: والشاذ لابن حمدون. وفي المدونة في نقل المواق عند قول المص: وطين لبن: أن التراب مثلي فمن غصبه فعليه مثله كيلا أو وزنا.

وشاة قبل سلخها؛ يعني أنه يجوز بيع الشاة بعد ذبحها وقبل سلخها جزافا لا وزنا. انظر المواق والحطاب. لأنه بيع لحم وعرض وزنا. فقول التتائي بالجواز ولو بيعت وزنا على أحد المشهورين غير ظاهر؛ وعلل الجواز فيما ذكره المص بدخولها في ضمان المشتري بالعقد، وما كان كذلك فليس من باب بيع اللحم الغيب، بخلاف ما لا يدخل في ضمانه بالعقد كرطل من شاة وكبيع ما هنا وزنا. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب عن ابن يونس: قال ابن القاسم: ويجوز بيع شاة مذبوحة لم تسلخ ما لم يكن على الوزن كلها أو بعضها، ولا يجوز بيع شاة مذبوحة بشاة مذبوحة وإن لم يكن على الوزن إلا أن يقدر على تحريها. قال ابن يونس: يريد ويستثني كل واحد جلد شاته ليلا يدخله لحم وعرض بلحم وعرض. وقال أصبغ: لا يقدر على تحري ذلك ولا يجوز. وقال مثله سحنون ولم يعجب ابن المواز قول أصبغ. انتهى. والفرق بين هذه وبين بيع رطل أوأرطال في السابقة هو ما مر قريبا، وقوله: وشاة، معطوف على عمود. وقوله: قبل سلخها، وأولى بعده؟ وقال الشيخ أبو علي مفسرا لقوله: وشاة قبل سلخها: أي وكذا يجوز بيع الشاة المذبوحة قبل سلخها قياسا على جواز بيع الحي الذي لا يراد إلا للذبح. انتهى.

وحنطة في سنبل وتبن إن بكيل مسألتان كما قاله غير واحد ومعنى الأولى أنه يجوز بيع الحنطة في سنبلها سواء كان السنبل قائما لم يحصد أو حصد بشرط أن يكون ذلك على شرط الكيل، كأن يشتري منه قفيزا بكذا، ويشتريه جميعا كل قفيز منه مثلا بكذا، ومعنى الثانية أنه يجوز شراء الحنطة في تبنها بعد الحصاد والدرس إن كان ذلك على شرط الكيل، كأن يشتري منه قفيزا بكذا لخ، ومفهوم الشرط في قوله: إن بكيل، أنه لا يجوز بيع الحنطة في سنبلها ولا في تبنها جزافا

ص: 103

وهو كذلك. قال في المنتقى: لا خلاف أنه لا يجوز أن تفرد الحنطة في سنبلها بالشراء دون السنبل على الجزاف ما دام فيه. قاله الحطاب. وقال المواق: من المدونة: لا بأس ببيع زرع استحصد كل قفيز بكذا بثمن نقدا أو مؤجلا ولو تأخر درسه خمسة عشر يوما. قال سيدي ابن سراج رحمه الله: وهذا مستثنى من بيع المعين يتأخر قبضه أكثر من ثلاثة أيام للضرورة. وذكر ابن يونس هذا الفصل وقال في آخره: وهذه مسائل استحسان وإنما فيها التسليم والاتباع للعلماء، وقد نص ابن الحاجب على جواز بيع الحنطة على كيل وهي في تبنها. انتهى.

وقت جزافا؛ يعني أنه يجوز بيع القت جزافا إذا كان ذلك مما ثمرته في رأس قصبته كالقمح ونحوه لإمكان حزره عند رؤيته، لا نحو فول وحمص مما ثمرته في جميع قصبته فلا يجوز بيع قته جزافا لعدم إمكان حزره عادة عند رؤيته. قاله عبد الباقي وغيره. والقت جمع قتة وهي الحزمة. وقال الحطاب مفسرا للمص: والمعنى أنه يجوز بيع الزرع جزافا بعد حصده إذا كان حزما، هذا هو المشهور، وقيل: لا يجوز:

لا منفوشا، النفوش هو المخلوط بحيث لا يبقى سنبله لناحية بحيث يمكن حزره يعني أنه لا يجوز بيع الزرع منفوشا لعدم إمكان حزره، فالمدار على إمكان الحزر فالجواز، وعدمِه فلا يجوز البيع جزافا. وقوله: لا منفوشا، عطف على قت باعتبار محله. والله سبحانه أعلم. قال الشيخ محمد بن الحسن: واعلم أن المبيع إما الحب وحده وإما السنبل بما فيه من الحب فإن كان المبيع الحب وحده فيجوز بالكيل في الأحوال كلها، ويجوز جزافا في المخلص فقط دون غيره، وإن كان المبيع السنبل بما فيه من الحب جاز بيعه جزافا في القت والقائم دون المنفوش وما في تبنه. انتهى. الباجي: لا خلاف أنه لا يجوز أن يفرد الحنطة في سنبلها، وكذلك الجوز واللوز والباقلاء لا يجوز أن يفرد بالبيع دون قشره على الجزاف ما دام فيه، وأما شراء السنبل إذا يبس ولم ينفعه الماء فجائز، وكذلك الجوز واللوز والباقلاء انتهى.

وزيت زيتون بوزن؛ يعني أنه يجوز بيع زيت زيتون على الوزن، كأن يقول: أبيع لك رطلا مثلا من زيت زيتوني هذا، أو أبيعك زيت زيتوني هذا كل رطل منه بكذا، ومفهوم قوله: بوزن، أنه لو كان جزافا لم يجز البيع، وهو كذلك. قاله الحطاب. وأشار المؤلف رحمه الله تعالى إلى أن

ص: 104

البيع المذكور إنما يجوز إذا لم تختلف كيفية خروجه بقوله: إن لم يختلف، فإن اختلف خروجه لم يجز بيعه إلا بعد خروجه ورؤيته.

إلا أن

(1)

يخير المشتري عند عصره؛ أي إلا أن يجعل البائع للمشتري الخيار، والمراد يدخل على شرط الخيار فيجوز البيع حينئذ، ولا يجوز النقد فيه حينئذ للتردد بين السلفية والثمنية، وبما قررنا علم أن الاستثناء من مفهوم قوله: إن لم يختلف، وصرح به ليلا يفهم الفساد مطلقا إن اختلف. قاله عبد الباقي. وقال: وجاز بيع زيت زيتون بوزن إن لم يختلف خروجه بل عرف عند الناس وكان الأمر فيه قريبا كالزرع فلا يتأخر تمام عصره أكثر من نصف شهر، ويجوز فيه النقد بشرط؛ كما قد تفيده المدونة خلافا للشيخ أحمد. انتهى. قال الرهوني في قول عبد الباقي: إلا أن يجعل البائع للمشتري الخيار: ظاهره أن البائع لا يشترط جعل الخيار له. وفي التوضيح عن بعض الأندلسيين: وينبغي أن يشترط الخيار لهما معا. انتهى.

وقال عبد الباقي: قال التتائي: وربما أشعر قوله: زيت زيتون، بأنه لو اشترى زيتونا على أن على ربه عصره لم يجز، وهو كذلك. انتهى. ولا يقال: مسألة المص كذلك فلا فرق بين ما أجيز وما منع؛ لأنا نقول: مسألة المص وقع الشراء على الزيت فقط ولذا كان [الثفل]

(2)

)، فيها للبائع، والممنوعة وقع على الزيتون بزيته معا على أن على البائع عصره. انتهى. قاله عبد الباقي. وقال بناني: علل المنع في المدونة بأنه كأنه ابتاع ما يخرج من ذلك من الزيت وهو مجهول. انتهى. وهو ظاهر لأن صورة المص شراء الزيت فيها بالوزن، والزيتون في هذه لم يعرف قدر ما يخرج من زيته. وقال أبو الحسن في شرح النص المذكور ما نصه: الشيخ: إن قال: أشتري منك ما يخرج من هذا فهو فاسد، وإن قال: أشتريه منك وأواجرك بكذا فهو جائز وهو بيع وإجارة، وإن قال: أشتريه منك على أن عليك عصره فإنه لا يجوز، وبهذا يرد قول ابن عاشر: لم يظهر وجه منعه إذ غاية ما فيه بيع وإجارة. انتهى.

(1)

في الأصل: الآن، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 26.

(2)

في الأصل: الثقل، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 26.

ص: 105

وقال الشيخ أبو علي عن ابن يونس: قال مالك: ولا يجوز شرا، سمسم أو زيتون أو حب فجل بعينه على أن على البائع عصره، أو زرعا قائما على أن على البائع حصاده ودرسه، وكأنه ابتاع ما يخرج من ذلك كله وذلك مجهول، فأما إن ابتعت منه ثوبا على أن يخيطه لك أو نعلين على أن يحذوهما فلا بأس به، وإن ابتعت منه قمحا على أن يطحنه لك فقد استخفه مالك بعد أن كرهه، وقوله: إلا أن يخير لا يقال: هذا خيار أيامه كثيرة؛ لأنا نقول: هذا اغتفر للحاجة بدليل أن هذ المدة تكون وإن لم يكن به خيار. انتهى.

ودقيق حنطة، صورتها أن يشتري منه صاعا منه دقيق الحنطة أو يشتري منه دقيق هذه الحنطة كل صاع بكذا، فإن ذلك جائز إذا لم تختلف كيفية خروجه وإلا فلا، إلا أن يخير، كما في المدونة. قاله غير واحد. قال عبد الباقي: فلو قدمه على الشرط والاستثناء لينطبقا عليه أيضا كان أولى؛ وما في التتائي مما يوهم ضعف الشرط هنا غير ظاكر، وكأنه تبع ما فيها في محل آخر، ففيها: ولا يجوز شراء سمسم لخ ما مر قريبا. قال الرهوني: قول الزرقاني: وكأنه تبع ما فيها لخ، يقتضي أن هذا الذي نقله عن المدونة هو مسألة المص هذه وليس كذلك. قاله شيخنا الجنوي. وما قاله ظاهر وإن كان كلام المواق يوهم أنهما مسألة واحدة. انتهى المراد منه. ولقد صدق هو وشيخه في ذلك. والله سبحانه أعلم.

وصاع؛ يعني أنه يجوز شراء قدر معين من صبرة كصاع أو اثنين أو ثلاثة أو أقل من صاع كمد ونصف مد. أو كل صاع يعني يجوز شراء جميع الصبرة على الكيل نحو كل صاع من هذه الصبرة بدينار مثلا.

وعلم مما قررت أن قوله: من صبرة، راجع للمسألتين، وقوله: وإن جهلت، مبالغة؛ ومعنى ذلك أنه يجوز شراء صاع من صبرة كانت الصبرة معلومة الصيعان أو مجهولتها، وكذلك يجوز شراء جميع الصبرة على الكيل كل صاع منها بدينار، كانت معلومة الصيعان أو مجهولتها، قال الشيخ أبو علي عند قوله: وصاع: أو كل صاع من صبرة وإن جهلت، لا خلاف في ذلك إذا اشترى صاعا واحدا كانت الصبرة معلومة الصيعان أو مجهولتها، وكذا إذا كانت معلومة وقال:

ص: 106

اشتريت منك مجموعها كل صاع بكذا. انتهى. واختلف إذا قال: أشتري منك مجموعها كل صاع بدينار وهي مجهولة الصيعان، والمشهور الجواز ومقابله لابن مسلمة.

لا منها وأريد البعض؛ يعني أنه إذا قال: أبيعك آصعا من هذه الصبرة وأريد البعض منهما أو من أحدهما فإن هذا البيع فاسد، وكذا أذرع من هذا الثوب مثلا وأريد البعض. قال أبو علي مفسرا للمص: واختلف إذا قال: أخذت منك منها كل صاع بكذا وهي معلومة الصيعان أو مجهولتها. ابن عبد السلام: والمنع عندي أقرب، ومال إليه المازري بشرط أن يريد بمن التبعيض، وأما إن أراد بها بيان الجنس والقصد أن يقول: أبيعك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم فلا. وإلى هذا أشار بقوله: لا منها وأريد البعض. انتهى. فقوله: وأما إن أراد بها أي بمن بيان الجنس فلا؛ هو مفهوم قول المص: وأريد البعض؛ لأنه إذا لم يرد البعض تكون من تبيينيةً؛ أي آصع منها أي هي الصبرة.

تنبيه: قد مر قريبا أنه إذا قال: أبيعك هذه الصبرة كل صاع منها بدينار وهي مجهولة الصيعان والمشترى جميعها فإنها جائزة على المشهور، ومقابل المشهور لابن مسلمة، وفي القسطلاني: أن البيع في هذه الصورة يصح عند الشافعية كالمالكية والحنابلة وأبي يوسف في الكل، ومثلها ببعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم. قال: وقال أبو حنيفة: يصح في واحد فقط. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: لا منها أو من ثوب أو شقة وأريد في جميع ذلك منهما من المشتري ومن البائع أو من أحدهما البعض؛ فلا يجوز لجهل الثمن حالا ومئالا، ومثل ذلك ما إذا لم يرد بمن شيئا فإنه يمنع، كما قال ابن عرفة، خلاف ما يفيده المص، فإن أريد بمن بيان الجنس أي التعميم جاز، ويشترط في الجواز رؤية الصبرة والثوب حيث اشترى كل صاع أو ذراع بكذا؛ لأنه مظنة حزره، لا لتعلم صفة المبيع وإلا اكتفي برؤية بعضه.

وشاة واستثناءَ أربعة أرطال؛ يعني أنه يجوز للشخص أن يبيع شاة ويستثنيَ منها أربعة أرطال أو أكثر بشرط أن لا يبلغ الثلث، وهو مختلف باختلاف الحيوانات كبرا وصغرا؛ وقوله: واستثناء، منصوب على المفعول معه، وقوله: وشاه واستثناءَ لخ، وكذلك لو باعها ثم اشترى منها أربعة

ص: 107

أرطال لأن اللاحق للعقد كالواقع فيه. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وجاز بيع شاة، فهو عطف على عمود واستثناء منصوب مفعول معه ليفيد مقارنة الاستثناء للبيع أربعة أرطال ونحوها مما دون الثلث، فاستثناء الثلث ممنوع ولو كان قدر أربعة أرطال ومحل كلام المص إن بيعت قبل الذبح أو بعده وقبل السلخ. انتهى المراد منه.

فإن بيعت بعد السلخ فله أن يستثني من الأرطال مبلغ الثلث كما يأتي للمص: وصبرة وثمرة لخ، وقوله: وشاة واستثناءَ أربعة أرطال، وكذاك يجوز بيعنها واستثناء لبننها وصوفها ولو تأخر قبض المشتري لها لأخذ الصوف واللبن ثلاثة أيام، لا أزيد ليلا يكون فيه بيع معين يتأخر قبضه، وهذا يوافق قوله في كراء الدابة "وبيعها واستثناء ركوبها الثلاث لا جمعة وكره المتوسط" وهذا المتقدم في صوف أو لبن الشاة إن قلنا: إن المستثنى مبقى، فإن قلنا: إنه مشترى من المشتري لها فيجوز تأخر قبضه ولو لكنصف شهر. كما قال في القسمة بناء على أنها بيع، لكن لا تسلم الشاة للمشتري ليلا يلزم بيع معين يتأخر قبضه، ثم يأخذ اللبن أو الصوف إلى تمام نصف شهر. انتهى. قول عبد الباقي: ونحوها مما دون الثلث، قال بناني: هذا هو الذي في بعض روايات المدونة، وعليه حمل أبو الحسن المدونة، فقال في قولها: وإن استثنى من لحمها أرطالا يسيرة ثلاثة أو أربعة، الشيخ: يعني أو خمسة أو ستة أو أكثر مما دون الثلث، يدل عليه قولها: ولم يبلغ به مالك الثلث، وبه تعلم أن قول الحطاب: إن أبا الحسن حمل المدونة على جواز استثناء قدر الثلث فيه نظر. انتهى. وناقشه الرهوني بأن لأبي الحسن كلامين، أحدهما: تسليم رواية عياض التي هي صريحة في جواز استثناء قدر الثلث، وثانيهما: ما نقله بناني، وعند ابن وضاح مكان الثلث الذي هو رواية عياض الثلاث. انتهى. وقولُ الزرقاني: ثم يأخذ اللبن أو الصوف إلى تمام نصف شهر. انتهى. نَصُّ أبي الحسن: قول المدونة: ولا بأس باستتناء الصوف والشعر؛ اللخمي: إذا كان يجز إلى يومين أو ثلاثة وهو في هذا بخلاف أن يكون الصوف هو المبيع فإنه يجوز بقاؤه العشرة الأيام أو الخمسة عشر يوما؛ الشيخ: وهذا أي تقييد اللخمي على أن المستثنى مبقى. نقله بناني. وقال الحطاب: قال في المدونة: ولا بأس باستثناء الصوف والشعر؛ قال ابن يونس: لا خلاف أنه جائز؛ قال اللخمي: إذا كان يجز إلى يومين أو ثلاثة. وانظر إذا اختلف

ص: 108

البائع والمشتري في الموضع الذي يأخذ منه الأرطال المستثنيات من الشاة، والظاهر أنه يجري على المسلم. انتهى. وقال الحطاب: قال في المدونة: ولا يجوز أن يستثني الفخذ أو البطن أو الكبد، وأجاز ذلك اللخمي والمازري وعياض، ورده ابن عرفة. قال الحطاب: ومذهب المدونة المنع، فلا يجوز استثناء عضو معين من الحيوان وما رد به ابن عرفة عليهم ظاهر. والله أعلم.

تنبيه: قال أبو الحسن ما نصه: مسألة الاستثناء لا تخلو من خمسة أوجه، الأولُ: أن يستثني الصوف والشعر فهذا جائز بشرط أن يشرع في الجزاز أو يتأخر يوما أو يومين، كاستثناء ركوب الدابة يوما أو يومين في البيع. الثاني: أن يستثني جزءا شائعا فهذا جائز باتفاق ولا يجبر على الذبح، الثالث: الجلد والرأس وفيه أربعة أقوال، ورواية ابن القاسم يجوز في السفر ولا يجوز في الحضر. الرابع: استثناء الجزء المعين كالفخذ والكبد منعه نصا في الكتاب؛ الخامس: الأرطال اليسيرة، ابن القاسم: أربعة أرطال، وفي رواية ابن وهب: ثلاثة، وفي كتاب محمد: الخمسة والستة وما دون الثلث، وهو قوله في الكتاب: ولم يبلغ به الثلث، وقيل: الثلث، وقيل: لا يجوز رأسا. انتهى باختصار. قاله بناني.

ولا يأخذ لحم غيرها؛ يعني أن البائع المستثني للأرطال لا يجوز له أن يأخذ من المشتري عن الأرطال المذكورة لحما من غير لحم الشاة التي استثنيت منها الأرطال. قال الخرشي: ولو قال: ولا يأخز بدلها أي الأرطال لشمل أخذ بدلها لحما أو غيره، وإنما امتنع غير اللحم مطلقا بناء على أن علة المنع في هذه هي بيع الطعام قبل قبضه، وهذا على أن المستثنى مشترى، وأما على أنه مبقى فعلة المنع أنه بيع لحم مغيب وهو يمتنع باللحم وغيره، وهذا مستفاد من كلام الحطاب. قاله الخرشي وعبد الباقي. زاد عبد الباقي: ثم إذا حصل فوت في المستثنى منه كموت فلا يضمن المشتري الأرطال للبائع بناء على أن المستثنى مبقى كما يأتي في قوله: لا لحما، وأما إذا فوتها بأكل ونحوه فإنه يغرم مثلها لأنها موزونة والموزون مثلي. انتهى. وقال ابن الحاجب: ولا يأخذ منه لحما على الأصح وأنكر عليه ابن عرفة مقابل الأصح، فقال: لا أعرفه، وتقرير ابن عبد السلام برواية مطرف لا يتم لأنها في المرض لا مطلقا، وصحته كفوته. قال الحطاب: يشير

ص: 109

إلى ما رواد مطرف من مالك في من اشترى جزورا مريضة واستثنى البائع من لحمها أرطالا يسيرة، فتركها حتى صحت، أنه لا يجبر على ذبحها ويعطيه مثل اللحم الذي استثنى. قال ابن عرفة: واعتذر المازري بأن صحته كفوته، ونقل في التوضيح هذه الرواية وزاد: أنه إن ماتت فهو ضامن لما اشتري منها، وإن صحت فعليه شراء ما استثنى عليه أو قيمته ولا يجبر على الذبح لأنه كان ضامنا لما استثنى عليه. انتهى.

وصبرة وثمرة واستثناء قدر الثلث؛ يعني أنه يجوز بيع صبرة وثمرة جزافا واستثناء بائع كل منهما كيلا قدر ثلث منهما فأقل لا أكثر، وأشعر ذكر القدر بأن المستثنى كيل، فلو كان شائعا جاز بكل حال، كما يأتي في قوله: وجزء مطلقا. وفرق للمشهور بجواز الثلث هنا ومنعه في الشاة برؤية المبيع هنا وعدم رؤيته هناك؛ فقوله: وصبرة عطف على شاة. قاله الخرشي وغيره. قوله: فأقل لا أكثر، صواب؛ قال ابن رشد: اتفاقا، وقوله: وفُرِق للمشهور لخ، هذا الفرق للمازري. وقد نقله ابن عرفة والمص في التوضيح والمواق وابن غازي في تكميله وقبلوه. انتهى. قوله: وصبرة وثمرة، قال بناني: ومثل الثمرة المقاثي والخضر ومغيب الأصل، فيجوز في ذلك كله أن يستثني قدرا معينا بالكيل أو الوزن أو العدد بشرط كونهما الثلث فأدنى. انتهى. وإذا كانت الثمرة أنواعا واستثنى من نوع منها أكثر من ثلثها إلا أنه ثلث الجميع فأقل فاختلف فيه قول مالك، وأخذ ابن القاسم وأشهب بالمنع. قاله عبد الباقي. قال الرهوني: نحوه في التوضيح، وفي ابن عرفة: والروايات جواز بيع الحائط واستثناء ثلث ثمره كيلا من صنف إن كان المستثنى ثلثه، فإن كان أكثر منه وهو ثلث ثمر الحائط ففي منعه مطلقا وجوازه إن كان في المصنف فضل بَيِّن بعد المشترى، ثالثها: يكره، لأصبغ مع سحنون وسماعه ابن القاسم وسماع القرينين وسماع ابن القاسم. انتهى. وقال عبد الباقي: وسياق المص استثناء كيل الثلث في صلب عقد بيع الصبرة والثمرة جزافا ونحوهما كحديد كما في ابن عرفة. ومثله إذا أراد الشراء لما ذكر من الثلث بعد العقد وقبل قبض الثمن، أو بعده وقبل التفرق، أو كان مقاصة إن لم يكن البائع من أهل العينة، وإلا امتنع قبضا أو مقاصة، ولو بعد المفارقة إلا بعد طول انتهى. قوله: أو كان مقاصة، معطوف على مقدر؛ أي سواء كان الشراء للثلث نقدا أو مقاصة وهو راجع للصورة الأولى، أعني قوله:

ص: 110

وقبل قبض الثمن؛ يعني سواء نقد البائع للمشتري ثمن الثلث أو قاصه به من ثمن الكيل، وقوله: إن لم يكن البائع من أهل العينة؛ يعني أن الشراء بعد قبض الثمن إنما يجوز إن لم يكن البائع من أهل العينة؛ أي الذين عادتهم دفع القليل في الكثير، كما يأتي في محله إن شاء الله. فإن كان من أهل العينة امتنع الشراء على وجه دفع القليل في الكثير، كأن يبيع له صبرة بدينارين وبعد قبضهما وقبل التفرق أو بعده يشتري البائع بعضها بثلاثة أو أكثر إلى أجل. فتأمل. ونص الحطاب: وإن كان بعد قبض الثمن كله وتفرقهما فإنه يجوز مطلقا إلا أن يكون من أهل العينة. قاله ابن يونس: وقوله: إن لم يكن البائع، صوابه: المشتري، أو مراده البائع ثانيا؛ لأن العينة لا تتصور بعد القبض إلا من المشتري كما بيناه، وإنما تكون من البائع قبل القبض. انتهى المراد منه. وفي البيان: أن القدر الذي يجوز أن يستثنى ابتداء يجوز أن يكون قضاء، ومن ثم أفتى ابن زكرياء فيمن اشترى ثمار حائط ودفع بعض الثمن وبقي عليه بعضه فدفع لبائعه بعض أعدال من ثمر الحائظ الذي اشتراه فإنه يجوز قضاؤه حيث كانت ثلاثا فأقل، مستدلا بما لابن رشد قاله عبد الباقي. قوله، القدر الذي يجوز أن يستثنى لخ؛ أي يجوز أن يكون قضاء عما بقي من ثمن الصبرة أو الثمرة. قاله بناني؛ يعني: فلا يدخله اقتضاء الطعام من ثمن الطعام.

وجلد وساقط بسفر فقط؛ يعني أنه يجوز بيع حيوان واستثناء جلده، وكذا يجوز بيع حيوان واستثناء ساقطه، والساقط الرأس والأكارع. ومحل الجواز في المسألتين إنما هو في السفر، ويكره ذلك في الحضر، والمعتبر سفر المشري فيما يظهر. قاله عبد الباقي.

وما قررت به المص من أن قوله: بسفر؛ راجع للمسألتين، قرره به الحطاب وغيره، وقرره عبد الباقي وغيره على أن قوله: بسفر، راجع لمسألة الجلد؛ وأما مسألة الساقط فهي جائزة سفرا وحضرا. قال الحطاب: وجلد وساقط: الساقط هو الرأس والأكارع فقط، ولا يدخل في ذلك الكرش والفؤاد، كما تقدم عن المدونة أنه لا يجوز أن يستثني البطن أو الكبد، وإنما نبهت على ذلك لدخول هذه الأشياء في الساقط في العرف، بل هي المتبادرة خصوصا، وقد استدل ابن يونس للمسألة (بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر اشتريا شاة في مسيرهما إلى المدينة من راع

ص: 111

وشرطا

(1)

له سلبها) والسلب في اللغة يطلق على ذلك كما قاله في القاموس. بسفر فقط وأما في الحضر فلا يجوز. كما نقله المازري من المذهب. وفي المونة: كراهة ذلك. قال في التوضيح: وبذلك فسرها أبو الحسن، واحتج بقول ابن حبيب: خفف مالك ذلك في السفر وكرهه في الحضر؛ إذ له هنالك قيمة، ولا يفسخ إن نزل، وظاهر كلامه في التوضيح أنه يفسخ على المشهور، وجعل ابن رشد الخلاف إنما هو في الجلد؛ قال: وإذا استثنى الرأس والأكارع فلا تكره في سفر ولا حضر، كمن باع شاة مقطوعة الأطراف قبل السلخ، وجعله ابن عرفة خلافا للمدونة، وكذا صاحب الشامل. انتهى. وقال أبو علي من عبد الوهاب: إنما قلنا استثناؤها أي الجلد والسواقط جائز في الجملة، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مروا براع فاشتروا منه شاة وشرطوا له رأسها وسواقطها: وروي ذلك عن زيد بن ثابت وجماعة من الصحابة. انتهى. غير أن عمر لم يهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المعروف هو وأبو بكر، ولذلك في التوضيح لم يذكر عمر وأصاب في ذلك، والحديث في أبي داوود، ورواه ابن أبي زيد، وحكاه عنه ابن يونس بإسقاط عمر وذلك هو الصواب، وأن الذي ذهب مع النبي صلي الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه هو عامر بن فهيرة رضي الله عنه، لا عمر رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون في المعونة تصحيف. انتهى. وفي المعونة لعبد الوهاب: قال المحققون من أصحابنا: والمذهب أن السواقط إذا كانت لها قيمة فالاستثناء غير جائز في حضر ولا في سفر. انتهى. ولا فرق بين أن يستثنى الساقط فقط، أو الجلد فقط، أو الجلد والساقط معا، فيجوز ذلك في السفر دون الحضر. والله سبحانه أعلم.

وجزء منه شائع؛ يعني أنه يجوز البيع لشيء أي شيء مما يباع مع استثناء جزء منه شائع مطلقا نصفا كان أو ثلثا أو ربعا أو غير ذلك من الأجزاء، قليلا كان أو كثيرا، في سفر أو حضر، من الشاة والصبرة والثمرة وغير ذلك وكأنه باع ما لم يستثن؛ وسواء اشترى الحيوان على الذبح أو على التبقية: ويكون شريكا للمبتاع بقدر ما استثنى.

(1)

في الأصل: وشرط، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 78 دار الرضوان.

ص: 112

وتولاه المشترى، هذا الفرع راجع لمسألة الجلد والساقط، فهو خاص بها كما يفيده كلام المواق، وكما صرح به محمد بن الحسن، والضمير في تولاه عائد على الذبح؛ يعني أن المشتري هو الذي يتولى الذبح في مسألة استثناء الجلد والساقط، فتكون أجرته عليه ويتولى شأن المبيع كله من سلخ وعلف وسقي وغير ذلك، قال ابن محرز: الصواب أن تكون أجرة الذبح على المشتري لأنه ليس بمجبور على الذبح؛ إذ لو شاء أعطى جلدا من عنده، وهذا بخلاف الأرطال لأنه مجبور على الذبح، فوجب أن يكون عليه قسطه من أجرة الذبح والسلخ. انتهى. وكلام بناني قُلْتُ: وقد يقال: يصح يعني كلام المص بعود الضمير على الذبح، وجعل هذا الفرع خاصا بمسألة الجلد والساقط بناء على ما صوبه ابن محرز من أن أجرة الذبح على المشتري فقط، وعلى هذا حمله المواق، وأيضا لما كان المشتري لا يجبر على الذبح في الجلد والساقط وأن له دفع المثل أو القيمة للبائع صارا كأنهما في ذمته وكان البائع لا حق له في المبيع، فيصح كلام المص حينئذ بعود الضمير للمبيع، وهذا الفرع على هذا وإن لم يذكروه صريحا فهو لازم من كلامهم كما فهمه المص وهو ظاهر. انتهى. ونقل الشيخ أبو علي عن ابن يونس في كتاب الصناع: ومن وهب لرجل شاة ولآخر جلدها فغفل عنها حتى أنتجت فالنتاج لصاحب اللحم وعليه مثل الجلد أو قيمته لصاحب الجلد، ولو هلكت لم يكن له شيء وكذا الناقة، وإذا دعا صاحب الجلد إلى الذبح فلصاحب اللحم الاستحياء ويغرم مثل الجلد أو قيمته، ابن يونس: فإن تراضيا بالذبح وتشاحا على من يكون أجر الذبح والسلخ فأرى أن يكون أجر ذلك بينهما على قدر قيمة اللحم وقيمة الجلد، فإن كان قيمة الجلد من الجميع الثلث أو الربع فعلى صاحبه ثلث أجر الذبح والسلخ أو ربعه. انتهى. فظاهره أن المشتري لا يتولى الذبح في هذه الصورة. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: وهو خلاف ما صوبه ابن محرز. والله سبحانه أعلم.

ولم يجبر على الذبح فيهما؛ يعني أن المشتري لا يجبر على الذبح في مسألة استثناء الجلد والساقط ومسألة الجزء، ومعنى عدم الجبر أنه مخير إن شاء ذبح وإن شاء ترك، هذا في مسألة الجلد والساقط، فإذا اختار الذبح فله أن يدفع الجلد والرأس وإن رضي البائع بأخذ المثل. قاله

ص: 113

الشيخ أبو علي. وقال عبد الباقي: فإن ذبحها تعين للبائع ما استثناه من جلد وساقط بسفر إلا أن يفوت فالقيمة. انتهى. ومسألة الجزء نقل ابن يونس من عيسى بن دينار أنه لا يجبر على الذبح؛ ولو اشتراها على الذبح كما في الحطاب. وفي المواق: من المدونة: قال ابن القاسم: من باع شاة أو بقرة واستثنى جزءا من ذلك ربعا أو نصفا فلا بأس بذلك، كأنه باع ما لم يستثن. قال عيسى: وسواء اشتراه على الذبح أو الحياة، ويكون شريكا للمبتاع بقدر ما استثنى؛ بعض القرويين: ولا يجبر على الذبح آبيه ويكون شريكا للمبتاع بقدر ما استثنى وإن كان قد اشتراه على الذبح. ابن يونس: هذا هو الصواب، وفي النوادر في ثلاثة اشتروا شاة مثلا بينهم إن كانت يتوزعون لحمها جبر على الذبح آبيه. وإن كانت للتجارة بيعت عليهم إلا أن يتراضوا بالمقاواة. انتهى.

بخلاف الأرطال؛ يعني أن مسألة استثناء الأرطال المتقدمة في قوله: وشاة واستثناء أربعة أرطال، يجبر فيها المشتري على الذبح لأن المشتري دخل على أن يدفع للبائع لحما ولا يتوصل إليه إلا بالذبح. قال عبد الباقي مفسرا للمص: بخلاف الأرطال فيجبر المشتري على الذبح لأنه لا يتوصل البائع لحقه من اللحم الداخل على استثنائه إلا به، ولم يجبر على الجزء لأنهما إن تشاحا في الذبح بيعت عليهما ودفع لكل واحد منهما ثمن معلوم، وفي استثناء الأرطال لا يعلم كم يقع له من الثمن. قاله أبو الحسن. وأجرة الذبح والسلخ عليهما بحسب ما لكل في الجزء والأرطال، وعلى المشتري فقط في الساقط، وأما في الجلد فأجره الذبح على المشتري وأجرة السلخ على البائع، فالأقسام ثلاثة، وإنما كانت أجرة الذبح عليهما في الجزء مع عدم جبر المشتري عليه لأن البائع شريك، فبسبب ذلك كانت الأجره عليهما. انتهى. قال الرهوني: كلام ابن عرفة يفيد أن الراجح في أجرة السلخ عند استثناء الجلد كونها على المشتري. انظر كلامه بعد هذا عند قوله: ضمن المشتري جلدا لخ. انتهى. وقال بناني: وفي الحطاب: وفي كون مسألة الجلد والساقط كذلك أي عليهما بقدر ما لكل واحد وهو اختيار ابن يونس، أو على المشتري لأنه غير مجبور على الذبح، وصوبه ابن محرز قولان. وأما السلخ ففي الجلد إن قلنا: إن المستثنى مبقى، فعلى البائع، وإن قلنا: مشترى، فيختلف على من تكون، وأشار بعضهم إلى أنها عليهما، وأما مسألة

ص: 114

الرأس فأجرة السلخ على المشتري بناء على القول بضمان المشتري في الموت. نقله ابن عاشر عن ابن عرفة. انتهى.

تنبيه: قد مر الكلام على أن المشتري لا يجبر على الذبح في مسألة الجزء ولو اشتراه على الذبح، ومر مقابله؛ والراجح كما يظهر من النقول هو عدم الجبر فيما إذا اشتراه على الذبح. انظر الحطاب والمواق. ولما قدم أن المشتري لا يجبر على الذبح في مسألة استثناء الجلد والساقط ذكر أنه يخير إذا لم يذبح بقوله.

وخير في دفع رأس أو قيمتها؛ يعني أنه إذا استحيى المشتري الشاة مثلا في مسألة الجلد والساقط فإنه يحكم بالتخيير في دفع مثل الرأس والجلد وقيمة ذلك. وهي أعدل؛ يعني أن القيمة أعدل أي أصوب، لموافقة القاعدة في أن هذه الأشياء مقومة، وللسلامة من بيع اللحم بمثله وكون القيمة أعدل من المثل. قاله ابن يونس وغيره.

وعلم مما قررت من تقدير مثل بعد دفع أن هذا غير مشكل؛ لأن التخيير إنما هو فيما إذا لم يذبح المشتري الشاة ولا ينافي حينئذ حكاية الخلاف المشار إليه بقوله: وهل التخيير للبائع أو للمشتري، قد مر أنه يحكم بالتخيير في دفع رأس أو جلد وقيمتها ولم يبين من له التخيير، يعني أن الشيوخ اختلفوا فيمن يكون له التخيير المذكور، فقيل: إن المخير المشتري إن شاء دفع للبائع ساقطا أو جلدا، وإن شاء دفع له قيمة ذلك، وقيل: التخيير للبائع في أخذ ما شاء من المثل والقيمة. قال الحطاب: قال الرجراجي: والقولان تؤولت المدونة عليهما؛ والقول بأنه للمشتري أسعد بظاهرها. وقال ابن عرفة: وصوبه ابن محرز، وهو ظاهرها. والله أعلم. انتهى. وقال الخرشي: ولابد من قولنا: بدل أو مثل رأس كما قدرنا؛ لأن التخيير المذكور إنما هو في حالة عدم الذبح، ولا يتصور في هذا الحالة دفع الرأس ونحوها، وأما حيث ذبحت فيتعين أخذها إلا أن تفوت فقيمتها، وهل تعتبر القيمة يوم استحق أخذها أو يوم فواتها. انظر في ذلك. وما تقدم من أنها يتعين أخذها حيث ذبحت ولم تفت يقتضي أنه لا يجوز أخذ شيء عنها ولو غير لحم، وهذا هو الموافق لما مر في مسألة الأرطال، وهو ظاهر ما نقله أبو الحسن. ولكن ذكر

ص: 115

بعضهم أن الراجح يجوز أخذ دراهم أو عرض أي غير لحم عنها، وعليه فيفترق ما يجبر على الذبح فيه من غيره في هذا، ثم إنه أنث قوله: أو قيمتها نظرا إلى أن الرأس الهامة. انتهى. وقال عبد الباقي: وخير في دفع بدل أو مثل رأس وبقية ساقط ومثل جلد، فلو قال: كرأس كان أشمل، أو قيمتها أنثها لأنها بضعة أو هامة، وإلا فهو مذكر اتفاقا. ومحل التخيير حيث لم يذبحها، فإن ذبحها تعين للبائع ما استثناه من ساقط وجلد بسفر إلا أن يفوت فالقيمة، وانظر هل يوم استحقاق الأخذ أو يوم الفوات؟ ويجوز مع عدم الفوات أخذ دراهم أو عرض بدل ذلك. والفرق بينها وبين الأرطال أن الأرطال بيع اللحم المغيب بخلاف هذه. انتهى. ونحوه للخرشي وهي أعدل، وهل التخيير للبائع؟ وهو غير ملائم لقوله: دفع، فلو حذف لفظ دفع لاستقام

(1)

). انتهى المراد منه. وتقدير بدل أو مثل رأس يستقيم به الكلام والله سبحانه أعلم. وقوله: قولان، مبتدأ حذف خبره أي في ذلك قولان. قال بناني: والخلاف وإن كان مفروضا في الجلد في كلام عياض وابن يونس وغيرهما، لكن كلام المدونة الذي تؤول عليه القولان صريح في تسوية الجلد والرأس في الحكم، فلا يقال: كان على المص أن يذكر الخلاف في محله وهو الجلد خلافا للمصطفى. انتهى. وقال الرهوني: ما نقله بناني هنا من الحطاب يدل على أن القول الثاني أقوى، خلاف ما يقتضية تصدير المص بأنه للبائع. انتهى. وقوله: قولان، هنا قول ثالث وهو أن الخيار للحاكم.

تنبيه: نقل الشيخ أبو علي عن الباجي في المنتقى أنه اختلف قول مالك فيمن أتلف شيئا من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن، فقال مرة: في ذلك المثل، وقد قال ذلك فيمن باع بعيرا واستثنى جلده حيث يجوز ذلك. ثم استحيا المشتري البعير. فإن للذي استثناه شراء جلده يريد مثله، ثم قال: أو قيمته والقيمة أعدل، والقول الذي يعتمد من مذهب مالك أن في ذلك كله القيمة، وإنما المثل فيما يكال أو يوزن.

ولو مات ما استثني منه معين ضمن المشتري جلدا وساقطا لا لحما؛ يعني أنه لو مات الحيوان الذي استثني منه جزء معين وذلك في مسألتي الساقط والجلد والأرطال فإن المشتري يضمن الساقط

(1)

في الأصل لا استقام والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 29.

ص: 116

والجلد ولا يضمن الأرطال، وهذا إنما يتأتى في السماوي إذ لو أكلها لضمن له مثل الأرطال. قاله الخرشي. قال الرهوني عند قوله: ولو مات ما استثني لخ، هذا قول ابن القاسم في سماع أصبغ، وقال في سماع عيسى: لا ضمان عليه، وردهما ابن دحون إلى وفاق بحمل الأول على أنه فرط بتأخير الذبح، والثاني على عدم التفريط، واختار ابن رشد أنه خلاف وسلمه في التوضيح. انتهى. وقوله: ضمن المشتري لخ، قال بناني عن الرماصي: أطلق في الضمان سواء كان عن تفريط من المشتري أو لا وهو مرتضى ابن رشد؛ قال: وليس معنى الضمان أنه يغرم البائع قيمته أو جلدا مثله وإنما معناه أن ينظر إلى مثله، فإن كانت قيمته في التمثيل درهمين وكان بيع الشاة بعشرة دراهم رجع البائع على المبتاع بسدس قيمة الشاة، كمن باع شاة بعشرة دراهم وعرض قيمته درهمان فاستحق العرض من يد البائع وقد فاتت الشاة عند المبتاع وهذا بين كله لا إشكال فيه. قلت: هذا لفظ ابن رشد في رسم أوصى أن ينفق على أمهات أولاده. قال مصطفى: وقد نقل كلامه ابن عبد السلام وابن عرفة والمص في التوضيح وقبلوه، فهو مراد المص بالضمان. انتهى. وقال الرهوني بعد كلام المص: ضمن المشتري جلدا لخ، بعد أن ذكر الخلاف الذي قدمته: موضوع هذا أن الحيوان مات بنفسه، وانظر إذا مات بفعل المشتري ما الحكم في ذلك؟ أما الضمان فلا أظنهم يختلفون فيه ولاسيما إذا تعمد ذلك. انتهى. ثم قال: إنه كاستحيائه فيجري فيه ما سبق. انتهى. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: ولو مات ما أي حيوان استثني منه معين من جلد وساقط وأرطال ضمن المشتري للبائع من المعين جلدا وساقطا؛ لأنه لا يجبر على الذبح فيهما؛ لأن له دفع مثلهما، فكأنه في ذمته، لا لحما وهو ما عبر عنه قبل بالأرطال، وغاير اختصارا أو تفننا، فلا يضمن لجبره على الذبح، ولما لم يقم عليه البائع فيما له جبره كان مفرطا ما لم يأكلها المشتري فيضمن مثل الأرطال لأنه مثلي، واحترز بالعين عن الجزء الشائع فإنه لا ضمان عليه لأنه شريك وهو في حصة شريكه بمنزلة المودع في الضمان. انتهى. وقوله: ضمن المشتري جلدا وساقطا، هذا إذا جاز ذلك بأن كان ذلك في السفر، وأما لو استثناه في الحضر فقيل: يضمن له قيمة الشاة بجلدها، وقيل: يضمن له قيمتها بدونه، والراجح الأول، وهذا إذا ماتت بأمر من الله

ص: 117

تعالى: وأما لو هلكت بسببه لوجب عليه غرمها بجلدها قولا واحدا. والله سبحانه أعلم. انظر الرهوني. وفي تضمين الصناع منها: من وهب لرجل لحم شاة ولآخر جلدها فغفل عنها حتى ولدت فولدها لذي اللحم وعليه مثل الجلد أو قيمته لصاحبه ولا شيء عليه من مثل جلد الولد ولا قيمته، ولذي اللحم استحياؤها ويغرم لذي الجلد مثله أو قيمته، ولو هلكت الشاة لم يكن له في الولد شيء. انتهى. وسكت عن الجلد هل يضمنه أو لا؟ والظاهر أنه لا يضمنه، ولا يجري فيه القولان السابقان. والله أعلم. انتهى قاله الرهوني. ولما ذكر أنه يشترط في البيع أن يكون المعقود عليه معلوما خشي أن يتوهم من ذاك منع بيع الجزاف فقال.

وجزاف؛ يعني أنه يجوز بيع الجزاف بشروط تذكر إن شاء الله تعالى. وهو مثلث الجيم، وهو بيع الشيء بلا كيل ولا وزن ولا عدد، وعرف ابن عرفة الجزاف بقوله: بيع ما يمكن علم قدره دون أن يعلم، والأصل منعه، وخفف فيما شق علمه أي في المعدود، أو قل جهله أي في المكيل والموزون إذ لا تشترط المشقة فيهما، وقال الخرشي مفسرا للمص: وجاز بيع جزاف أي صودف جزافا واتفق أنه

(1)

جزاف لا ما كان مدخولا عليه، فلا يجوز أن تأتي للحام مثلا وعنده صبرة لحم مجزفة وتقول له: زدني؛ لأن العقد وإن كان إنما يحصل بعد الزيادة إلا أنه دخل معه على الجزاف وشرطه أن لا يكون مدخولا عليه ولبيع الجزاف شروط أشار لأولها بقوله:

إن ريء؛ يعني أنه يشترط في بيع الجزاف أن يكون مرئيا؛ واعلم أنه فرق في المدونة من رواية ابن القاسم عن مالك بين الطعام المصبر والزرع القائم، فمنع أن يشتري الطعام المصبر وهو غائب عنه على رؤية متقدمة، وأجاز ذلك في الزرع القائم، وأجاز ابن حبيب بيع الصبرة الغائبة على الرؤية المتقدمة؛ وإلى ما قاله ابن حبيب ذهب ابن رشد؛ وقال: إن تفرقة الإمام بين الطعام المصبر والزرع القائم تفرقة لاحظ لها في النظر؛ فالله أعلم بصحتها. فإن حمل كلام المص على ما لابن رشد كان معنى قوله: إن ريء صادقا بالرؤية المتقدمة وبالرؤية حين العقد، لكنه خالف رواية ابن القاسم في المدونة عن الإمام، إن أراد المرءي الحاضر يكون كلامه في الصبرة لا في الزرع

(1)

في الأصل: أنها، والمثبت من الخرشي ج 5 ص 27.

ص: 118

القائم والثمر في رءوس الشجر، وأجاب الحطاب عن اعتراض ابن رشد بما يعلم بالوقوف عليه وسلمه غير واحد، واعترضه الرهوني.

وقال: والجواب الحق عندي أن الاعتراض مرفوع من أصله لأنه مبني على أن بيع الزرع القائم والثمر في رءوس الشجر، لا على الكيل من بيع الجزاف الحقيقي الذي شرط له أئمتنا الشروط المعروفة المذكورة هنا عند المص وشروحه، وذلك غير مسلم بل بيع الزرع القائم والثمرة في رءوس الأشجار خارج عن الجزاف الحقيقي، فهو أصل مستقل وردت به السنة وهو كبيع العروض والحيوان، ويشهد لما قلناه كلام ابن عرفة نفسه، وكلام المدونة وغيرها إلى آخر ما ذكره. وقال الشيخ أبو علي: وحاصل نقول الحطاب أن الغائب لا يباع جزافا مطلقا، وأما إن حضر المجلس فيكفي رؤية بعضه كغرارة مملوة قمحا مفتوحة، وكقلة من السمن وإن لم تكن تفتح كقلال الخل التي يفسدها الفتح فيجوز بيعها جزافا بلا فتح ولا رؤية بعض، ولا يجوز شراء ملء الغرارة أو القارورة فارغة على أن تعمر من حاضر، وأحرى من غائب، ولو بعد تفريغها من شيء اشتراه فيها جزافا أو لم تفرغ أصلا؛ لأن في ذلك قصدا إلى الشراء بمكيال غير معلوم للمكيال المعروف، إذ المبيع غير مرءي، ولا كذلك إذا وجدهما مملوتين؛ فإن المبيع مرءي والبيع لا يجوز إلا على رؤية أو صفة، والحاضر لا يباع بالصفة إلا إذا عسرت رؤيته، وبيعُ قلال الخل التي يفسدها الفتح إنما جاز للضرورة، كبيع البرنامج إنما جاز لما في حل الأحمال للسُّوَّام من الضرر بأصحابها. انتهى المراد منه. وقوله: إن ريء، قال عبد الباقي: ورؤية بعضه المتصل به كافية، كما في مغيب الأصل، وكصبرة فتكفي رؤية ما ظهر منها؛ ولا يشترط رؤية باطنها، ولا تكفي رؤية بعض منفصل، ولا يصح في غائب عن مجلس العقد ولو كان على كيل أو مغيب في تبنه؛ ومحل اشتراط الرؤية ما لم يلزم منها تلف المبيع وإلا لم تشترط، كقلال الخل فيجوز بيعها مطينة إن كانت مملوة أو علم المشتري قدر نقصها من البائع أو غيره، ولابد من بيان صفة ما فيها من الخل؛ ويجوز بيع الغائب جزافا من حوائط ثمر غائبة، فيباع ثمرها كيلا أو جزافا إذا كانت على مسيرة خمسة أيام، ولا يجوز النقد فيها بشرط، فإن بعدت لم يجز شراء ثمرها. انتهى. وفي المدونة:

ص: 119

ومن مر بزرع فرآه ثم قدم فابتاعه وهو مسيره اليومين بشرط أنه منه إن أدركته الصفقة فذلك جائز وهو كالعروض في النقد فيه والشرط. انتهى. المغربي: الزرع إذا كان قائما في فدانه فإذا حصد قيل فيه: حب أو حنطة. انتهى. وقال مالك فيها: وكذلك حوائط الثمر الغائبة يباع ثمرها كيلا أو جزافا وهي على خمسة أيام، ولا يجوز النقد فيها بشرط. انتهى. وهذا إنما هو على رؤية تقدمت. قاله عياض وابن عرفه. انتهى. انظر حاشية الشيخ محمد بن الحسن. ولثانيها بقوله:

ولم يكثر جدا؛ يعني أنه يشترط في بيع الجزاف أن لا يكثر جدا بحيث يتعذر حزره. قاله غير واحد. وهذا الشرط والذي قبله عامان في المكيل والموزون والمعدود. ولثالثها بقوله: وجهلاه؛ يعني أن من شروط بيع الجزاف أن يجهله البائع والمشتري، واحترز بذلك عما لو علم أحدهما قدره كما سيذكره المص، ولم يحترز بد عما إذا علماه لأنهما إذا علماه فلا وجه لفساد البيع. انظر الرهوني. ولرابعها بقوله:

وحزر؛ يعني أنه يشترط في بيع الجزاف أن يكون البائع والمشتري من أهل الحزر، بأن يعتاداه، وأن يحزرا بالفعل، والحزر التقدير والخرص. قال عبد الباقي: أسقط فيه يعني في حزرا ضمير الجزاف دون ما قبله؛ لأنه لا يكفي أن يحزراه بالفعل وهما من غير أهل الحزر، بل لابد أن يكونا من أهله بأن يعتاداه، كما في ابن عرفة. وأن يحزرا بالفعل، فإن اختلفت عادتهما في حزر قدر كيله ووَكَّلا من يحزره بالفعل جاز، كذا يظهر، وحزر من بابي ضرب وقتل كما في المصباح. قاله عبد الباقي. وقال اللخمي: شرط بيع الجزاف كونه ممن اعتاد الحزر لأنه لا يخطئ إلا يسيرا، ولو كان أحدهما غير معتاد ولم تقصد أفراده لم يجز. نقله المواق. ولخامسها بقوله:

واستوت أرضه؛ يعني أنه يشترط في بيع الجزاف أن يكون الموضع الذي فيه الجزاف سالما من ارتفاع وانخفاض؛ أي دخلا على أنها مستوية فإن انكشف الغيب عن استوائها فالأمر واضح، أي فالبيع ماض. ابن شأس: إن اشترى صبره تحتها دكة تمنع تخمين القدر إن تبايعا على ذلك لم يصح البيع للغرر، وإن اشترى فظهرت فله الخيار. ابن عرفة: وكذا الحفرة والخيار هنا للبائع. نقله المواق. وقال عبد الباقي عند قوله: واستوت أرضه: شرط في الجواز، ولا يلزم من انتفائه انتفاء الصحة فإنه صحيح، ثم إن تبين أن في الأرض علوا فللمشتري الخيار في الرد،

ص: 120

وانخفاضا فللبائع الخيار. قاله أحمد. وأما ما قبل هذا الشرط فهو شرط في الجواز والصحة كالذين بعده. انتهى. قوله: واستوت أرضه شرط لخ قال بناني: فيه نظر بل إذا علما أوَّلًا عدم الاستواء فسد، وإذا دخلا على الاستواء فظهر عدمه فالخيار، كما في الحطاب والمواق. انتهى. ولسادسها الخاص بالمعدود بقوله:

ولم يعد بلا مشقة، يعني أنه يشترط في بيع المعدود جزافا أن يكون في عده مشقة، فإذا كان يعد بسهولة فلا يجوز بيعه جزافا، وتخصيصه العد بالذكر مخرج للكيل والوزن، فيجوز بيع المكيل والموزون جزافا وإن لم يكن في الكيل والوزن مشقة لأنهما مظنة المشقة، قال في الرسالة: ولا بأس بشراء الجزاف فيما يكال أو يوزن. ابن ناجي: ظاهره وإن قل الطعام وحضر المكيال، وهو كذلك، نص عليه ابن حارث. ولسابعها بقوله:

ولم تقصد أفراده، يعني أنه يشترط في بيع الجزاف أن يكون المبيع غير مقصودة أفراده كالجوز وصغار السمك، فإن قصدت أفراده بالثمن والرغبة كالعبيد والدواب فلابد من عده، ولا يصح بيعه جزافا، وإيضاح هذا أن من المبيع ما يقصد مبلغه دون أعيان آحاده، كالشعير والجوز وسائر الفواكه والبقول، فما هذا سبيله يجوز بيعه جزافا لأنه ليس القصد إلى عين كل واحدة من آحاده، لأن أحدا لا يقصد كل جوزة وكل باذنجانة، وإنما المقصود جملته ومبلغه، فإذا علم ذلك بالحزر عند مشاهدته جاز بيعه، ومن المبيع ما تقصد أعيانه وآحاد كل عين في نفسها كالعبيد والحيوان والثياب والجواهر، لأن كل واحد من جماعتها يحتاج إلى اختبار في نفسه والعلم بسلامته من العيوب، وليس الغرض المبلغ دون العين، فما هذا سبيله يعظم الخطر فيه ويكثر بالمجازفة فيه، فلا يجوز بيعه جزافا. انتهى. نقله الشيخ أبو علي عن القاضي عبد الوهاب. إلا أن يقل ثمنه، هذا مستثنى من مفهوم الشرط قبله، أي فإن قصدت أفراده أي المعدود، فلا يجوز بيعه إلا أن يقل ثمنه أي الجزاف المعدود كالبطيخ مثلا فإنه أي البطيخ تختلف أفراده اختلافا بينا، لكن لما كان ثمن البطيخ بحسب العادة من أصله قليلا قل الغرر، وصيرت هذه القلة المختلف آحاده اختلافا بينا بمنزله المتفق الأفراد؛ وعلى هذا فالتحقيق في ضمير ثمنه عائد على

ص: 121

المعدود المبيع جزافا، وكون الضمير للأفراد التي يشملها قولنا: المعدود المبيع جزافا ربما يكون هو أولى. لأنه هو ظاهر النقول سيما كلام القاضي، ولأن قلة ثمن الكل يلزم منه قلة ثمن أجزائه. نقله الشيخ أبو علي؛ وفي الخرشي توجيهات ثلاث للضمير في ثمنه، بأن يعود على الفرد أو على جملة المبيع أو على ما بين الأفراد. والله سبحانه أعلم.

ويتحصل من كلامهم هنا أن القلة في ثمن الجزاف المعدود إذا كانت أفراده مختلفة اختلافا بينا تقوم مقام تساوي أفراده. فيجوز بيعه جزافا إذا كان في عده مشقة، وذلك كالبطيخ والأترج فإن ثمنهما قليل بحسب العادة، وأن المتساوي الأفراد والذي تفاوت أفراده غير منظور إليه لقلة ثمنه يجوز بيعهما جزافا؛ لأن القصد في هذين القسمين إنما هو إلى مبلغهما لا إلى أفرادهما. والله سبحانه أعلم. واعترض كلام المازري في البطيخ والأترج القائل بعدم جواز بيعهما جزافا فإنه قال: لابد من كون الثمن لا يختلف عند المتعاقدين في الصغر والكبر. قال عبد الباقي: وعلم من المص أن ما يباع جزافا إما أن يعد بمشقة أم لا، وفي كل إما أن تقصد أفراده أم لا، وفي كل إما أن يقل ثمنه أم لا، فمتى عد بلا مشقة لم يجز جزافا قل الثمن أم لا، وإن عد بمشقة فإن لم تقصد أفراده جاز بيعه جزافا قل الثمن أم لا، وإن قصدت جاز جزافا إن قل ثمنها ومنع إن لم يقل، فالمنع في خمسة والجواز في ثلاثة، وبقي من شروط الجزاف أن لا يشتريه مع مكيل على تفصيله الآتي له؛ وصرح بمفهوم قوله: إن ريء، فقال:

لا غير مرءي، بالجر عطف على محل إن ريء؛ إذ هو في محل الصفة لجزاف؛ أي وجاز بيع جزاف مرءي، لا غير مرءي ومر أنه يستثنى قلال الخل المطينة التي يفسدها الفتح، ومثلها الثوب الرفيع الذي يفسده الفتح والنشر، فيباع على الصفة مع كونه حاضرا دون أن ينشر ويقلب. انظر الحطاب. وإن أي ولأجل اشتراط كون الجزاف مرءيا لا يجوز أن يشتري ملء ظرف وهو فارغ ابتداء، بل ولو ملئه ثانيا بعد تفريغه، بعد أن اشتراه أولا بما فيه مع ما يملؤه ثانيا، وجعل ذلك عقدة واحدة لعدم رؤيته ثانيا حين العقد عليهما معا فقد دخلا على الجزاف. قاله عبد الباقي. وقوله وقد دخلا على الجزاف، هو كالصريح في المنع ولو كان الزرع الذي يملؤه منه صبرة بين أيديهما. والله سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: ويقيد قوله: وإن ملء ظرف لخ، بما إذا

ص: 122

كان الظرف مكيالا مجهولا ولهم مكيال معروف غيره، وإلا جاز كما مر من جواز شراء حاضر ببادية بمكيالها لعدم مكيال معلوم له بها، ومن جواز شراء باد بحاضرة بمكيالها لعدم مكيال معلوم للبادي، نعم شراء ما في المكيال المجهول جزافا جائز بشروطه، لا على أنه مكيل به مع تيسر معلوم له. المازري: وقد يهجس في النفس أن لا فرق بين ما أجازوه ومنعوه إذ لا يختلف حزر الحازر لزيت في قارورة ولمقدار ملئها منه؛ وأشار ابن رشد لما يفيد الجواب بأن ما أجازوه لم يقصد فيه إلى الغرر لحضوره فخف أمره، بخلاف ملئه ثانيا فإنه غرر مدخول عليه، وذكر ابن غازي عن القباب أن ما يفعله أهل بلاده من إعطاء العطار درهما ليعطيه به أبزارا أي كفلفل كما عندنا بمصر أيضا، فيجعل له شيئا من الأبزار في كاغد فيحمله المشتري من غير معرفة قدره لا يجوز. انتهى. أي من غير رؤية فإن فتحه ورءاه جاز وإن لم يعرف وزنه؛ إذا وجدت فيه بقية شروط الجزاف ما عدا المشقة؛ لأنها لا تشترط في المكيل والموزون. انتهى. وفي الحطاب عن ابن رشد: ولا يجوز الشراء بمكيال مجهول إلا في موضع ليس له مكيال معلوم على ما قاله في المدونة. وفي التوضيح: اختلف أصحابنا إذا وقع التبايع بمكيال مجهول، فقال أشهب: لا يفسخ، والظاهر هو القول بالفسخ.

إلا في كسلة تين مستثنى من المبالغتين يعني أن ما مر من منع شراء ملء الظرف الفارغ أو ما فيه مع ملئه ثانيا بعد تفريغه إنما هو في غير ما هو كسلة التين، وأما ذلك فإنه يجوز فيه الأمران بأن يشتري ملء السلة الفارغة أو يشتري ما فيها مع ملئها ثانيا بعد تفريغها، والسلة بفتح السين؛ قال عبد الباقي: إلا في كسلة تين وعنب وقربة ماء وجراره وراويته مما جرى العرف بأن ضمانه من بائعه إذا انشق قبل تفريغه، فيجوز شراء ملئه فارغا وملئه ثانيا بعد تفريغه بدرهم مثلا في عقد واحد؛ لأن السلة ونحوها بمنزلة المكيال المعلوم، وإذا اختلفت المياه تعين فتحه عند الشراء. انتهى كلام عبد الباقي. وقال الخرشي عند قوله: إلا في كسلة تين؛ أي إلا أن يقع ذلك في سلة تين أو عنب أو نحوهما فلا بأس بشراء ملئه فارغا أو ملئه ثانيا بعد تفريغه بدرهم؛ لأن التين والعنب غير مكيل فأكثر كيل الناس له بالسلل، فجرى ذلك مجرى المكيال لهما، والقمح مكيل

ص: 123

فملء الغرارة منه بيع بمكيال مجهول؛ لأن الغرارة ليست بمكيال له. انتهى؛ يعني أن الغرارة ليست بمكيال للقمح لأن له مكاييل كالإردب والقفيز والويبة، فالعدول عن تلك المكاييل إلى غيرها غرر، وأما التين مثلا فلا مكيال له ولكن كثر تقدير الناس له بالسلل فجرى ذلك مجرى المكيال للتين وذكر المازري ما هو قريب من هذا أو هو نفسه، وهو أن القمح مكيل فملء الغرارة منه بيع بمكيال مجهول، والعنب غير مكيل فلم يكن ملء السلة منه مثل ذلك. انتهى. انظر ابن غازي والحطاب. قال عبد الباقي: ثم عطف على غير مرءي ثلاثة أشياء أحدها قوله:

وعصافير حية بقفص؛ يعني أنه لا يجوز بيع عصافير حية محبوسة بقفص جزافا، وكذا ما هو مثلها من الطير مما يتداخل فلا يباع جزافا لأنه يموج ويدخل بعضه في بعض فلا يمكن الحزر، وقوله: بقفص، وأولى غير المحبوسة بالقفص، وأما المذبوح من ذلك أي من العصافير ومشاكله فيجوز بيعه جزافا فيما كثر لعدم التداخل، لا فيما قل.

قال مقيده عفا الله عنه: وعلم مما مر أن هذا الجواز في المذبوح إنما هو فيما لم تقصد أفراده من الطير وذلك ظاهر. والله سبحانه أعلم. وقال المواق: ابن حبيب: أما الطير حيا فلا يباع في الأقفاص جزافا قل أو كثر حتى يعد. ابن رشد: اتفاقا لأنه يموج ويلوذ ويدخل بعضه تحت بعض فيعمى أمره، وأما الطير المذبوح فيجوز بيعه جزافا فيما كثر ولا يجوز فيما قل. انتهى. وقوله: بقفص، القفص بالتحريك محبس الطير قاله في القاموس ثانيها قوله:

(وحمام برج) يعني أنه لا يجوز بيع الحمام ببرجه مجردا عن برجه، وأما إن بيع مع برجه فذلك جائز لأن الحمام تبع، وهو كذلك في المدونة. وقوله: وحمام ببرج. قال عبد الباقي: إلا أن يحيط به معرفة قبل الشراء فيجوز بيعه جزافا. فإن قلتَ: حيث أحاط به معرفة قبل الشراء يمنع بيعه جزافا. قلتُ: المراد أحاط به معرفة بالحزر كما في المواق والتتائي عن ابن القاسم. فلا منافاة بهذا القيد بين ما قاله المص من المنع وبين ما لابن القاسم من الجواز بحمل كل على حالة خاصة. انتهى. وقال الرهوني: إن الحمام إذا بيع مع برجه فإن كلام الطرر يفيد الاتفاق على جوازه. انتهى. قال عبد الباقي: ومنع ابن القاسم في العتبية بيع الخشب الملقى بعضه على بعض جزافا لخفة مؤنة عده كالغنم، ولا بأس بشراء صغاره جزافا.

ص: 124

تتمة: قال الحطاب: ونحل الأجباح لا خلاف في جواز بيعه جزافا لمشقة عده، وظاهره أنه يباع بدون الأجباح، وفي أحمد: لا يباع بدونها. وظاهر النقل السابق وكلام ابن عرفة خلافه. وقال البرزلي: إن اشترى الأجباح دخلت النحل وكذا العكس، ولا يدخل العسل في الوجهين. قاله ابن رشد. ويجمع بين ما للحطاب وأحمد بحمل الجواز على بيعه حالة كونه في الجبح بدليل قوله: لمشقة عده، وحمل ما في أحمد من المنع على ما إذا كان طائرا منها لعدم القدرة عليه. وقول الحطاب: لمشقة عده، به يفرق بين جوازه وهو في جبحه وبين منع بيع الحمام وهو في برجه، فالحمام لا مشقة في عده عادة بخلاف النحل.

فرع: قال الأجهوري على الرسالة عند قولها: وما أفسدته الماشية ليلا من الزرع والحوائط فعلى أربابها لخ، ما نصه: وهذا كله فيما يمكن منعه من الإتلاف بربط ونحوه أي كقفل، وأما ما لا يمكن كحمام الأبرجة والنحل فهل يمنع أربابها من اتخاذها؟ وهو ما رواه مطرف عن مالك أو لا يمنعون؛ وعلى أرباب الزرع والشجر حفظه؛ وهو قول ابن القاسم وابن كنانة وابن حبيب.

فرع: قال في المدونة ولا يصاد حمام الأبرجة، ومن صاد منه شيئا رده إن عرف ربه، وإن لم يعرف ربه فلا يأكله أي وموضعه بيت المال، كمال ضل صاحبه، وإذا دخل حمام برج لرجل في برج لآخر ردها إلى ربها إن قدر وإلا فلا شيء عليه، ومن وضع أجباحا في جبل فله ما دخلها من النحل. قال في العتبية: شرط الأجباح أن يضعها في موضع لا ينتهي إليه سرح نحل البلد. انتهى. وفي التتائي في باب الذكاة عند قول المص: كالدار لخ، ما نصه: في المجموعة عن ابن كنانة في الرجل يجد النحل في شجرة أو صخرة: لا بأس أن ينتزع عسلها إذا لم يعلم أنها لأحد، ولا يحل له أن يأكل نحل جبح نصبه غيره لا في عمران ولا في مفازة. انتهى كلام عبد الباقي. وقال الرهوني بعد أن جلب كلام صاحب الطرر نقْلَ ابن فتحون عن أبي الوليد وغيرَه: فتحصل من كلامه أولا وآخرا أن البرج إذا بيع واشترط المبتاع حمامه فهو له بلا خلاف، وإن لم

ص: 125

يشترطه ففي كونه له أو للبائع قولا ابن العطار مع ابن فتحون

(1)

)، ونقل ابن فتحون عن الشيخ أبي الوليد، وفي جواز بيع الحمام وحده ببرجه جزافا ومنعه قولان.

مسألة: قد مر عن عبد الباقي: وإذا دخل حمام برج لخ، وكذلك النحل قال أشهب: هي في النحل أجْوزُ إذ لا يعرف أبدا. وقال ابن حبيب وابن عبدوس: وإن لم يعرف الحمام الذي آوت إلى برجه من حمام غيره فله أن يأكل فراخ ذلك البرج، وكذلك إن لم يستطع ردها. ثالثها: مفهوم قوله: ولم تقصد أفراده، وهو قوله:

وثياب؛ يعني أنه لا يجوز بيع الثياب جزافا لأنها تقصد أفرادها، نص عليه ابن أبي زيد وغيره، ومثل الثياب غيرها مما تقصد أفراده كما مر كالحيوان والرقيق وغير ذلك، إلا أن صغار الحوت ونحوها كالعصافير المذبوحة مما لا تقصد أفراده. والله سبحانه أعلم.

ونقد إن سك والتعامل بالعدد يعني أن النقد أي الذهب والفضة إذا كان مسكوكا والحال أن التعامل بالعدد فإنه لا يباع جزافا لأن أفراده تقصد. قال عبد الباقي: ونقد ذهب أو فضة يمنع بيعه جزافا لقصد أفراده أيضا، وكذا فلوس كما قال ابن ناجي: إنه المشهور في التعامل بها عددا، وكذا الجواهر، وإنما نص على النقد لكثرة الغرر لحصوله بجهة الكمية وجهة الآحاد لأنه يرغب في كثرتها ليسهل الشراء بها، ولا يعلل بكثرة الثمن ليلا يرد الجواهر واللؤلؤ ونحوهما. انتهى. يعني الجواهر التي يجوز فيها الجزاف لصغرها فلا ينافي ما قدمه قريبا من المنع في الجواهر. قاله بناني. وفي الحطاب: أن قوله: ونقد، يشمل الفلوس؛ قال: وهو صحيح.

وإلا بأن تعومل بالمسكوك وزنا أو لم يسك النقد جاز بيعه جزافا لعدم قصد أفراده حينئذ؛ واعلم أن قوله: وإلا، يدخل تحته ثلاث صور بحسب ظاهره؛ لأن مقتضاه وإلا يجتمع الشرطان بأن فقدا أو أحدهما، وذلك شامل للمسكوك التعامل به وزنا فيجوز بيعه جزافا، لم يكن مسكوكا وتعومل به وزنا لا إشكال في جواز بيعه جزافا، لم يكن مسكوكا والتعامل بالعدد، وهذه مقتضى المص جوازها مع أن الحكم فيها المنع؛ كما ذكره الشبراخيتي. وقد يقال: لبعد هذه الصورة لم يستثنها، على أن ابن عبد السلام بحث في جوازه في المسكوك المتعامل به وزنا بأن آحاده

(1)

كذا في الأصل والذي في الرهوني ج 5 ص 77 ابن فتوح.

ص: 126

مقصودة لأنه يرغب في كثرتها لسهولة شراء السلع اليسيرة كنصف درهم وربعه. وفي كلام عبد الباقي هنا تخليط. والله أعلم. والمراد بالمتعامل به وزنا ما يوزن بصنجة وينقص صرفه بنقص وزنه من غير مراعاة عدد، وإذا تعومل بهما معا كدنانير مصر وقروشها روعي العدد. قاله عبد الباقي. وقال أبو علي: واحترز بالمسكوك من التبر والمصوغ ونحوهما فيجوز ذلك جزافا. قال المازري: ولو كان الحلي محشوا إذا عرف قدر الساتر للمحشو من المذهب والفضة بأن تعلم رقته من غلظه وأمكن حزره. انتهى. وقول المص: ونقد إن سك، فيه دليل على أن النقد يطلق على المسكوك وغيره، وفي المواق عن المدونة: بيع الدنانير والدراهم قمار ومخاطرة. الأبهري: لأن الغرر يدخلها من وجهين، من جهة صفة الدراهم ومن جهة المبلغ، فلم يجز ذلك لكثرة الغرر. وعبارة ابن رشد: لأن المطلوب حينئذ آحاده ومبلغه. ابن بشير: فإن كان التعامل في المسكوك بالوزن فجل أهل المذهب أنه يجوز بيعه جزافا؛ لأن المطلوب حينئذ مبلغة لا آحاده، وأما ما كان من العين مصوغا أو مسكوكا فهو بمنزلة العروض يجوز بيعه جزافا، وفي المدونة: لا بأس ببيع سوار الذهب لا يعلم وزنه بفضة لا يعلم وزنها، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة جزافا، وإن أسلم نقار فضة أو تبرا مكسورا جزافا لا يعلم وزنه في سلعة موصوفة إلى أجل جاز، ويجوز بيع الحلي المحشو جزافا، وفي المدونة: لا يجوز أن يسلم في سلعة موصوفة إلى أجل دراهم أو دنانير جزافا، عرفا عددها أم لا إذا لم يعرفا وزنها وذلك قمار وخطار. قال ابن يونس: يريد إلا في بلد تجوز فيه عددا فليس في بيعها مخاطرة لأنه أمر قد عرفوه، وقد قال مالك في قوم كانت بينهم دواب فباعوها بدراهم مختلفة الوزن منها الناقص والوزن ثم اقتسموها عددا بغير وزن، فقال: أرجو أن لا يكون به بأس. قال ابن رشد: معنى هذا إذا كان الناقص منها يجوز بجواز الوازن، وأما إن كان الناقص منها لا يجوز بجواز الوازن فاقتسماها عددا دون أن يعرف الناقص منها من الوازن فهو غرر لا يجوز. انتهى. ثم أفاد تفصيلا في مفهوم قوله: وجهلاه، بقوله:

فإن علم أحدهما بعلم الآخر بقدره خير؛ يعني أن أحد المتبايعين في الجزاف إذا علم بعد العقد بأن الآخر كان عالما حين العقد بقدر المبيع فإن الجاهل منهما يخير في رد المبيع وإمضائه كعيب

ص: 127

دلس به، ومحل التخيير إذا كان العلم والجهل من الجهة التي يباع عليها كمكيل علم أحدهما بكيله وجهله الآخر، وأما لو جهلا مكيله وعلم أحدهما وزنه أو عدده فلا خيار لاستوائهما في جهل الجهة التي وقع اعتياد المبيع عليها، إلا إذا استلزم ذلك معرفة المبيع على الجهة التي وقع اعتياد العقد عليها. قال ابن رشد: ما يعد أو يكال أو يوزن لا يجوز بيعه جزافا إلا مع استواء البائع والمبتاع في الجهل بعد ما يعد منه أو وزنه أو كيله؛ لأنه متى علم أحدهما ذلك وجهله الآخر كان العالم بذلك منهما قد غر الآخر الجاهل وغشه، فإذا علم عدد الجوز لم يجز أن يبيعه جزافا، وإن كان العرف أن يباع كيلا لأنه يعرف كيله بمعرفة عدده، وأما معرفة عدد القثاء فلا تأثير له في المنع من بيعه جزافا؛ إذ لا يعرف قدر وزنه بمعرفة عدده لاختلافه في الصغر والكبر، بخلاف الجوز الذي يقرب بعضه من بعض. وهذا بين. انتهى. انظر الرهوني. سحنون: روى ابن وهب: لا يبيع الجوز جزافا من عرف عدده، ويبيع القثاء جزافا من عرف عددها. انتهى. وقوله: خير فإن بقيت الصبرة مثلا فإنها ترد أو يأخذها ولا شيء له، وإن فاتت لزم فيها الأقل من الثمن أو قيمتها، هذا إذا كان العالمُ هو البائعَ والجاهلُ هو المشتريَ كما هو الغالب، فلو انعكس الأمر بأن كان العالم هو المشتريَ والجاهل هو البائعَ فعلى المشتري الأكثرُ من الثمن والقيمة؛ لأنه متعد. قاله الشيخ أبو علي.

وإن أعلمه أولا فسد؛ يعني أن العالم إذا أعلم حين العقدِ الجاهلَ بأنه عالم بقدر الجزاف فإن العقد يفسد. وقوله: وإن أعلمه. وكذا لو علم به من غيره لتعاقدهما على الغرر. قال عبد الباقي: وإذا فسد رد المبيع لربه إن كان باقيا فإن فات لزمت القيمة بالغة ما بلغت، وأما ما فيه التخيير وفات فيلزم المشتري فيه الأقل من الثمن والقيمة أي قيمة الجزاف حيث كان التخيير فيه للمشتري، فإن كان للبائع بأن علم المشتري فقط بقدره لزم المشتري الأكثر من الثمن والقيمة. انتهى. قال عبد الباقي: وينبغي له أن لا يعطيه طعاما بدلها لما فيه من الاقتضاء عن ثمن الطعام طعاما. قاله ابن رشد. انظر التتائي مع الشارح. انتهى. قوله: وينبغي له أن لا لخ، قال الرهوني: قال في التوضيح: وإن أراد المبتاع أن يصدق البائع في الكمية ويردها له لانبغى أن لا يجوز على أصولهم في الاقتضاء عن ثمن الطعام طعاما. انتهى.

ص: 128

كالمغنية يعني أن مسألة الجزاف فيما إذا أعلم العالم الجاهل بأنه عالم بالقدر، هي كمسألة الأمة المغنية فإن بائعها إذا أعلم المشتري حين العقد أنها مغنية فإن البيع يفسد، وإن لم يعلم بذلك إلا بعد العقد فإن البيع يصح ويثبت الخيار للمشتري في الرد وإمضاء البيع، فقولُه: كالمغنية جوابٌ عن استشكال ابن القصار كون علم أحدهما عيبا؛ لأن العيب إذا أعلم البائع به المشتري جاز الرضا به، ولو أعلمه هنا فسد، فإنه لا منافاة بين كون الشيء يفسد به العقد إذا قاربه ولا يفسد به إذا اطلع عليه بعد ذلك لدخوله على الغرر في الأول دون الثاني، كما قال سحنون فيمن باع أمة وشرط أنها مغنية: إن البيع فاسد ولو اطلع على ذلك بعد البيع لم يفسد وكان له الخيار. انتهى. ثم محل الفساد إن قصد البائع بالتبيين الاستزادة في الثمن، فإن قصد التبري جاز لأن الغناء في الأمة عيب، والعيب يوجب الخيار للمشتري علم به البائع أم لا، فإذا أعلمه بالعيب على جهة التبري من العيب جاز البيع ولا خيار للمشتري حينئذ لرضاه بالعيب، والتاء في المغنية للتأنيث وأما بيع المغني فلا يوجب خيارا ولا فسادا. نقله الروياني عن المالكية كما في الحطاب. ولعل وجهه مع كون المنفعة غير شرعية فيه أيضا أنه لا يخشى من غناه

(1)

تعلق الناس به عادة أي شأنه ذلك بخلاف الجارية. قاله عبد الباقي. وقوله: "وإن أعلمه أولا فسد كالمغنية"، عدم جواز البيع على ذلك عند الإمام مالك، ونقل المازري جواز ذلك عن الشافعي وأبي حنيفة، كان المنفرد بالعلم البائع أو المشتري، فإنه يجب لمن لا علم عنده بعلم الآخر الخيار، وحكى المازري عن بعض أهل المذهب أن البائع لا خيار له في علم المشتري. نقله الشيخ أبو علي. وقال: فإن قلت: ولِمَ عبر المص بقوله: وإن أعلمه أوَّلا مع أن العلم كاف. قلت: سر هو ليشبه به قوله: كالمغنية؛ لأن فيه شرطا من البائع وهو يلزمه الإعلام أو هو هو. انتهى

ولما كان الغرر المانع من صحة العقد قد يكون بسبب انضمام معلوم لمجهول؛ لأن انضمامه إليه يصير في المعلوم جهلا لم يكن وكان في ذلك تفصيل، أشار إليه المص تبعا لقول المقدمات: منَ الأشياء ما الأصل فيه أن يباع كيلا ويجوز بيعه جزافا كالحبوب، ومِنها ما الأصل فيه أن يباع

(1)

كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 5 ص 34 غنائه.

ص: 129

جزافا ويجوز بيعه كيلا كالأرضين والثياب أي غير الشقق جمع شقة لأنها تكال، ومنها ما لا يباع جزافا ولا كيلا إذ لا يتصف بواحد منهما كالعبيد وسائر الحيوان، ويجوز بيع شيئين جزافا أوكيلا في عقد واحد لخ، فقال عاطفا بالجر على غير مرءي:

وجزاف حب مع مكيل منه؛ يعني أن البيع يفسد إذا كان المبيع جزافا من الحب مع مكيل من الحب في عقدة واحدة. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وجزاف حب كقمح مما أصله البيع كيلا مع مكيل منه لخروج أحدهما عن الأصل. انتهى. وقال المواق عن ابن رشد: حكم الموزون والمعدود حكم المكيل.

أو أرض؛ يعني أنه لا يجوز بيع جزاف من الحب مع مكيل أرض كصبرة قمح وعشرة أذرع من هذه الأرض. قال عبد الباقي: لخروجهما عن الأصل، فأرض عطف على ضمير منه من غير إعادة الجار، وهو جائز عند الكوفيين، واختاره ابن مالك وغيره. ومنه {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} أي بالجر في قراءة حمزة {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. ومذهب البصريين وهو الصحيح إعادة الجار. وقال أحمد: أرض معطوف على موصوف مكيل؛ أي مع حب مكيل منه. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر تقدير شيء لا حب ولابد مع ذلك من تقدير صفة لأرض أي مكيلة. والله سبحانه أعلم.

واعلم أن بيع الشيئين معا ثلاثة أقسام؛ لأنهما إما أن يكونا جزافين، أو مكيلين، أو أحدهما مكيل والآخر جزاف، فالقسم الأول والثاني جائزان، ويأتي الكلام عليهما قريبا إن شاء الله تعالى، والقسم الثالث فيه أربع صور لأنه إما أن يكون أصلهما معا الكيل، أو أصلهما معا الجزاف، أو أصل ما بيع جزافا الكيل وأصل ما بيع بالكيل الجزاف، أو العكس، فالثلاث الأولى ممنوعة، والرابعة جائزة، فأشار المص إلى الصورة الأولى والثانية بقوله: وجزاف حب مع مكيل منه، وإلى الثالثة الممنوعة بقوله:

وجزاف أرض مع مكيله؛ يعني أنه لا يجوز بيع جزاف الأرض مع مكيله لخروج أحدهما عن الأصل، وأشار إلى الصورة الرابعة الجائزة بقوله: لا مع حب؛ يعني أن الحكم في بيع جزاف الأرض مع مكيل الحب ليس كالحكم فيما ذكر قبله، فالحكم في ذلك عدم الجواز فيفسد البيع،

ص: 130

والحكم في هذا الجواز فيصح البيع، قال في المقدمات: والجزاف مما أصله أن يباع جزافا كالأرضين لا يجوز بيعه مع المكيل منه باتفاق، واختلف في بيعه مع المكيل مما أصله أن يباع كيلا على قولين، الجواز لابن زرب وعدمه لابن العطار. وقال ابن عرفة: ولابن محرز مثل ما لابن زرب. وقال ابن رشد: وما ذهب إليه ابن زرب هو الصحيح. قوله مع مكيل منه: أي من الحب سواء كان من جنس المكيل أو من غير جنسه. قاله الحطاب. وقال في بعض النسخ: مكيلة بالتاء المنونة. وفي بعضها: مع مكيلها بالتأنيث ولا إشكال عليهما. وفي بعض النسخ: مع مكيله بالضمير المذكر، وكأنه ذكَّره وإن كان عائدا للأرض كناية عن الجنس. والله أعلم. وأشار إلى بيع الجزافين بقوله:

ويجوز جزافان؛ يعني أنه يجوز بيع الجزافين صفقة واحدة. قال عبد الباقي: ويجوز جزافان صفقة واحدة كان أصلهما المبيع جزافا أو كيلا، أو أحدهما كيلا والآخر جزافا كحب وأرض؛ لأنهما في معنى الجزاف الواحد من حيث تناول الرخصة لهما. ومكيلان؛ أي وكذا يجوز بيع مكيلين صفقة واحدة سواء كان أصلهما الكيل أو الجزاف أو أحدهما. قاله عبد الباقي. وقال في المواق عن ابن رشد: لا خلاف في جواز بيع المكيلين في صفقة واحدة والجزافين في صفقة واحدة أيضا على كل حال. انتهى.

وجزاف مع عرض؛ يعني أنه يجوز بيع الجزاف مع العرض في صفقة واحدة؛ يعني العرض الذي لا يباع كيلا ولا وزنا ولا عددا كعبيد ودواب فلا تدخل الثياب والأرضون. قاله الرهوني. قال مقيده عفا الله عنه: أي لأنه لا يخلو حينئذ مما مر. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ أبو علي: وحاصل كلام ابن رشد أنه إذا اجتمع معلوم ومجهول فإن جاء كل واحد على أصله فأجِزْ، وإن خرجا معا عن أصلهما أو أحدهما فامنع والمجهولان يجوزان مطلقا، وكذا المعلومان بلا تقييد في جميع ما ذكر انتهى.

قال مقيده عفا الله عنه: ومن هذا تعلم أنه يمتنع اجتماع صبرة قمح مبيعة جزافا مع عشرين مدا من الذرة كما نص عليه الحطاب، ويعلم منه أيضا منع بيع صبرة قمح مبيعة جزافا مع ذهب

ص: 131

موزون في صفقة واحدة. وبالله تعالى التوفيق. ويأتي نحوه للحطاب عند قول المص. "ولا يضاف لجزاف" وللشيخ أبي علي:

والجمعُ للجزاف مع ضد حُظِر

وقد بدَا الخروجُ عن أصلٍ شُهِر

وجزافان على كيل إن اتحد الكيل والصفة؛ يعني أنه يجوز بيع جزافين على شرط الكيل بشرط أن يتحد الكيل؛ أي يتحد ثمنه بأن يكون المأخوذ بدرهم مثلا من أحد الجزافين مقدار المأخوذ من الآخر بدرهم، وبشرط اتحاد الصفة أيضا فلابد من اتحاد ثمن الكيل واتحاد الصفة، كصبرة قمح وأخرى مثلها كل إردب بدينار، فإن اختلفا معا لم يجز اتفاقا، كصبرة قمح كل صاع منها بدينار، مع صبرة شعير كل صاع منها بدرهم أو بدينارين، وإن اتفقت الصفة واختلف ثمن الكيل كصبرتي طعام واحد إحداهما صاع بدينار والأخرى بدينارين لم يجز، لاختلاف الثمن، وكذا لو اختلفت الصفة واتفق الثمن كصبرتي قمح وشعير كل صاع بدينار. قال الحطاب مفسرا للمص: يعني أنه يجوز بيع الجزافين على الكيل بشرط أن يتحد الكيل الذي بيعا عليه ويتحد صفتهما كصبرتي قمح بصفة واحدة بيعا في صفقة واحدة على أن كل مد بدينار، ولا خلاف في جواز ذلك. قاله في البيان والمقدمات. فإن اختلف الكيل والصفة كصبرة قمح وصبرة شعير بيعتا في صفقة واحدة على أن صبرة القمح كل مد بدينار وصبرة الشعير كل مد بنصف دينار فلا خلاف في منع ذلك أيضا. قاله في البيان والمقدمات. وإن اختلف الكيل الذي بيعتا عليه واتفقت الصفة أو اتفق الكيل الذي بيعتا عليه واختلفت الصفة، فالأولى كصبرتي قمح صفة واحدة، فيشتريهما صفقة واحدة هذه ثلاثة أرادب بدينار؛ وهذه أربعة أرادب بدينار والثانية كصبرة من قمح وصبرة من شعير يشتريهما صفقة واحدة ثلاثة أرادب بدرهم، أجاز ذلك أشهب ولم يجزه ابن القاسم. قاله في البيان والمقدمات. وعلى قول ابن القاسم مشى المص، فالصور الثلاث عنده ممنوعة، وذلك مستفاد من مفهوم الشرط، والاختلاف بالجودة والرداءة كالاختلاف بالصنف، قاله في العتبية في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ. انتهى. واعلم أن علة المنع مع الاختلاف أنه يصير جزافا على كيل معه غيره، وهو لا يجوز كما أشار إليه بقوله:

ص: 132

ولا يضاف لجزاف على كيل غيره مطلقا، قال الحطاب مفسرا للمص: يعني أن الجزاف إذا بيع على الكيل فلا يجوز أن يضاف إليه غيره مطلقا بأي وجه كانت المغايرة، فلا يضاف إليه جزاف آخر من صفته مخالف له في الكيل الذي بيع عليه، ولا جزاف مخالف له في صفته وإن وافقه في الكيل الذي بيع عليه، ولا يضاف له عرض كعبد أو ثوب أو دار، ولا يضاف له إلا جزاف مثله موافق له في صفته وفي الكيل الذي بيع عليه، وقال الخرشي: ومعنى مطلقا كان الغير من جنس المبيع أو غيره مكيلا أو موزونا أو مذروعا، وبعبارة سواء سمَّى للغير ثمنا أم لا لأنه مع التسمية قد يساوي أكثر فاغتفر لأجل هذا، ومع عدمها لا يدري ما يخصه من الثمن، وعلى هذا لا يجوز بيع الزرع جزافا على كيل بأرضه. انتهى.

تنبيه: قال ابن غازي: من البين أن الموزون والمذروع في هذا الباب في معنى الكيل

(1)

). قال الحطاب: قلت: وقد صرح في المقدمات بأن حكم الموزون والمذروع والمعدود حكم المكيل. وقال القباب: فاللبن والزبد أصلهما معا البيع على الكيل لأن اللبن يباع بالمكيال والزبد بالوزن، وهو في هذا الباب في معنى الكيل، فبيع القربة جزافا لا يجوز مع بيع الزبد وزنا لأنه من باب جمع الجزاف مع المكيل مما أصلهما الكيل، هذا إن اشترى القربة مع رطل ونصفه من الزبد، وأما إن اشترى القربة وزبدها بحساب كذا أوقية بدرهم فهو من باب الجزاف على الكيل مع غيره، فإن اشترى اللبن والزبد على غير كيل ولا وزن كان من باب جمع الجزافين وهو جائز. والله أعلم. انتهى.

تنبيه آخر: وقع في عبارة الخرشي هنا ما نصه: يعني أن من باع جزافا على أن كل قفيز بكذا، وعلى أن مع المبيع سلعة كذا من غير تسمية ثمن لها بل ثمنها من جملة ما اشترى به الكيل

(2)

فإن ذلك لا يجوز. ونحوه لعبد الباقي فانظر من أين لهما هذا القيد؟ وظاهر كلام ابن رشد وغيره

(1)

كذا في الأصل والذي في شفاء الغليل ج 2 ص 606 المكيل.

(2)

كذا في الأصل والذي في الخرشي ج 5 ص 32 المكيل.

ص: 133

الإطلاق. ومن خط شيخ شيوخنا أبي العباس بن الحاج هنا ما نصه: سواء سمَّى لذلك الغير ثمنا أم لا، بدليل صور المنع الثلاث في مفهوم ما قبله. تأمل. انتهى. قاله بناني.

وجاز برؤية بعض المثلي؛ يعني أنه يجوز بيع المثلي برؤية بعضه مكيلا كقمح، وموزونا كقطن، وأخرج المقومات فلا يكفي رؤية بعضها على ظاهر المذهب، كما قال في التوضيح، وقال ابن عبد السلام. ظاهر الروايات مشاركة المقوم للمثلي. انتهى. وفي بعض النسخ: وجاز رؤية بعض المثلي بدون حرف الجر، والمعنى عليها: وجاز رؤية بعض المثلي في البيع إذ الكلام فيه ولا يحتاج لتقدير حرف. قاله عبد الباقي. وقال في زبدة الأوطاب في اختصار الحطاب عند قوله: وجاز برؤية بعض المثلي: ليس هذا خاصا بالمكيل وكذا في الجزاف ويكفي رؤية بعض المثلي المكيل سواء كان حاضرا بالبلد أو غائبا. التوضيح: [وينبغي التحفظ على العين]

(1)

فيكون كالشاهد عند التنازع. فإن خرج الآخر مخالفا لما رآه أولا فإن كان ذلك يسيرا لزم، وإن كان كثيرا لم يلزم، ويأتي للمص "ولا كلام لواجد في قليل لا ينفك" لخ، واحترز بالمثلي فإنه لا يكفي رؤية بعض المقوم. التوضيح: وهو ظاهر المذهب، وقيل: كالمثلي يلزم باقيه إذا كان على الصفة وهو مقابل الأصح في قول الشامل: لا مقوم على الأصح. انتهى.

والصوان؛ يعني أنه يجوز بيع ما في الصوان برؤية ظاهره، والصوان بكسر الصاد وضمها ما يصون الشيء، كقشر الرمان والبيض والجوز. وفيه لغة صيان. قال عبد الباقي: لا كلام للمشتري إذا خرج الباقي مخالفا قليلا لا ينفك كم سيأتي، وإلا خير. قال الشارح عبد الحق: إنما يلزم الباقي إذا خرج موافقا لأوله بشرط أن لا يكون الأول معيبا؛ لأنه يقول: ظننت الباقي سليما فاغتفرت العيب فيما رأيت أولا. انتهى. وهذا في عيب مثله يحدث في الأول ويغلب السلامة منه في الباقي، كسواد بأعلى مطمورة، وأما في عيب لا يحدث في الأول إلا ويحدث مثله في الباقي كسوس، فلا كلام للمشتري في وجوده في الباقي حيث وجده في الأول. وقولُ بعضهم: لو قال: وكفت رؤية الصوان وبعض المثلي كان أظهر، يقتضي أنه لا يكفي رؤية بعض الصوان مع أنه يكفي، وقوله: كسواد بأعلى مطمورة؛ يعني من القمح أو غيره من المثليات.

(1)

لفظ التوضيح ج 5 ص 242 وينبغي الاحتفاظ على المعين.

ص: 134

وعلى البرنامج؛ يعني أنه يجوز البيع والشراء مُعْتمَدًا على الأوصاف المكتوبة في البرنامج، والمراد به الدفتر المكتوب فيه صفة ما في العدل، وكأن الأصل منعه، لكنه أجيز لما في حل العدل من الحرج على البائع من تلويته

(1)

ومئونة شده إن لم يرضه المشتري، فأقيمت الصفة مقام الرؤية. انتهى. قاله الخرشي. والدفتر بفتح الدال وقد تكسر، والبرنامج قال في التوضيح: بفتح الباء وكسر الميم. وقال الفاكهاني: رويناه بفتح الميم ولم يذكر عياض غير الكسر وأما الباء فبالفتح لا غير. انتهى. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وجاز بيع عدل عرض أو طعام على البرنامج، وهو الدفتر المكتوب فيه ما في العدل بكسر العين المهملة، لما في حله من الحرج على البائع. قال أحمد: والظاهر أن البائع إذا حفظ ما في العدل ووصفه كان كافيا، وإن لم يكن برنامج، وبرنامج مصروف وإن كان أعجميا لأنه اسم جنس لا علم، واحترز بالبيع عليه من نحو ثوب مطوي على الصفة فيمنع، كساج مدرج وهو الطيلسان، وقيل: الثوب الرفيع لأن العدول عن نشره وتقليبه مع إمكانه من غير ضرر غرر كثير. قال في الموطإ: فرق بينهما أي البرنامج والثوب عمل الماضين. انتهى. وقوله: مع إمكانه من غير ضرر غرر كثير هو محل المنع، فإن كان في نشره إفساد له حيث لم يرضه المشتري فيجوز بيعه بالصفة كالبرنامج، وبه صرح ابن رشد، فإن باع على البرنامج عدة كخمسين ثوبا فوجدها المشتري إحدى وخمسين فإن اتفقت صفة وثمنا رد للبائع واحدا لا بعينه، فإن كان الزائد مخالفا لصفة البرنامج رده بعينه، فإذا اختلفت لخمسة أصناف كل صنف منها عشرة ووجد الزائد في عشرة معينة كان البائع شريكا بجزء من أحد عشر جزءا، فإن اتفقت صفات الخمس واختلف ثمنها كان شريكا بجزء من أحد وخمسين جزءا؛ أي يرد له جزءا، من أحد وخمسين جزءا، كما عبر به ابن الحاجب، كذا روى الأخوان عن مالك، فإن وجدها المشتري تسعة وأربعين ثوبا وضع من ثمنها جزءا من خمسين، وإن نقصت أكثر لم يلزم المشتري فله رد المبيع. انتهى. قوله: فإن اتفقت صفات الخمسين واختلف ثمنها لخ؛ يعني اتفقت صفاتها بأن كانت من نوع واحد واختلف ثمنها لاختلافها بالجودة والرداءة. انتهى. وقال

(1)

في الخرشي الصغير ج 5 ص 33: تلويثه.

ص: 135

الخرشي: وعلى البرنامج، فإن وجد على الصفة لزم وإلا خير المشتري. وقال الشيخ أبو علي: وقول المص: وعلى البرنامج، قال أبو الحسن: قال ابن يونس: قال الأبهري: أجازه جماعة من التابعين يكثر عددهم، وله أصل يرجع إليه وهو الضرورة، ومن أصوله التي يرد إليها ما اتفق المسلمون على جوازه من السلم لما يلحق الناس من الحاجة إليه. عبد الوهاب: وهو كبيع الغائب على الصفة، وهذا إنما يستدل به على من يجيز بيع الغائب على الصفة. والشافعي يخالف في بيع الغائب على الصفة. انتهى. والقول للبائع هنا ما لم يأخذه المشتري على تصديق البائع له، أو ليقلب فالقول للمشتري. انتهى.

ومن الأعمى؛ يعني أنه تجوز معاملة الأعمى بيعا وشراء ونكاحا وغير ذلك، إلا فيما يتوقف على الرؤية كالجزاف وإنما ذكر البيع عن الأعمى مع البرنامج والغائب ونحوه لكونه لا يبصر، وإنما يشتري على الصفة فشابه شراء الشيء الغائب. انظر الحطاب. وقال عن الوثائق المجموعة: ولو كان أعمى أصم لم تجز مبايعته ولا معاملته ولا نكاحه، ويجوز بيع الأبكم الأصم. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز البيع غير جزاف على الصفة من الأعمى؛ أي له؛ هذا هو الذي يتوهم فيه عدم الجواز، وأما بيعه هو ما يملكه فلا إشكال في جوازه. وقال أحمد: وجاز العقد فيشمل البيع والشراء. انتهى. وحقيقة الأعمى من تقدم له إبصار، وأما من ولد أعمى فيسمى أكمه، والحكم فيهما سواء خلافا للأبهري في منعه البيع لمن ولد أعمى، وفي معناه من عمي صغيرا بحيث لا يتخيل الألوان، ومحل الخلاف فيما يتوقف على الرؤية لا فيما يتوقف على شم أو ذوق كمسك وسكر فيجوز قطعا. انتهى. قوله: ومحل الخلاف فيما يتوقف على الرؤية لخ، قال الرهوني: فيه نظر، بل الخلاف مطلق، والتفصيل إنما هو للخمي من عند نفسه، فإنه قال أول كتاب الغرر ما نصه: واختلف إذا خلق أعمى فمنع أبو جعفر الأبهري ذلك، وأجازه أبو محمد عبد الوهاب، وأرى أن يجوز فيما يرى أن مثل ذلك يلزم العلم بمعرفته لمباشرته لمثله مثل الملابس لخ، وفي المقصد المحمود: والأعمى الناطق السميع على ضربين أعمى منذ ولد، فهذا لا تجوز معاملته في البيع والابتياع لجهله بالمبيع، وأجازها الشيخ أبو الحسن فيما يرجع إلى الذوق واللمس دون ما يرجع إلى اللون. انتهى. وقال بناني: إن الأعمى الأخرس لا تمنع معاملته إذا كان يسمع؛ لأن

ص: 136

الإشارة منه ممكنة، وإنما تمنع معاملة الأعمى الأصم أو من وجدت فيه الثلاثة. انتهى. وقال عبد الباقي: واعلم أن البيع للأعمى على الصفة والبيع على البرنامج وبيع الساج الدرج وقلال الخل مطينة تستثنى مما يأتي من أن شرط المبيع على الصفة أن لا يكون حاضرا لمجلس العقد. انتهى المراد منه. وقال الشيخ أبو علي بعد كلام: وإذا تقرر هذا فقول المتن: ومن الأعمى أي وجاز البيع من الأعمى؛ أي صدوره منه.

وبرؤية لا يتغير بعدها؛ يعني أنه يجوز البيع برؤية للمبيع متقدمة شأن المبيع أنه لا يتغير بعدها إلى يوم العقد ولو كان حاضرا لمجلس العقد أو البلد، فإن كان يتغير بعدها لم يجز على البت ويجوز على خياره بالرؤية، وأما المبيع على الوصف فلابد أن يكون غائبا إلا ما مر استثناؤه. قاله غير واحد. وقال الحطاب عند قوله: وبرؤية لا يتغير بعدها، فإن كانت مدة يتغير فيها فالبيع فاسد على الأصح، إلا أن يباع بصفة مؤتنفة أو على أنه بالخيار إذا رأى، وقيل: إن شرط النقد فسد وإلا جاز. قاله في الشامل. وأصله في التوضيح: والأول مذهب المدونة: وهذا في غير الجزاف. وأما الجزاف فلا يجوز بيعه إلا إذا كان حاضرا كما تقدم، وتقدمت مسألة المدونة في الثمار الغائبة، وذكر ابن عرفة هنا عن المدونة أنه يجوز بيع الزرع الغائب برؤية متقدمة؛ وذكر ابن رشد في بيع الصبرة بذلك قولين: الجواز لابن حبيب والمنع لابن القاسم في المدونة. انتهى. وقال الشيخ أبو علي بعد جلب نقول كثيرة: وإذا تبين هذا فالمذهب أن المدة إذا كان يمكن فيها تغير المبيع فالبيع فاسد سواء شرط نقدا أم لا. انتهى. وقال القاضي في معونته: يجوز بيع السلعة الغائبة على رؤية متقدمة إذا كان من وقت الرؤية إلى وقت العقد من المدة ما لا يتغير فيه المبيع، والاعتبار في ذلك بالعرف في مثل تلك السلعة. انتهى. وفي الشامل: وإن كان يتغير في مثلها فسد على الأصح، وقيل: إن اشترط النقد وإلا جاز. وقوله: وبرؤية لا يتغير بعدها، حذف المرءي ليعم فيشمل العقار والعروض والحيوان والزرع القائم. انتهى.

وحلف بائع مدع أن ما في العدل موافق للبرنامج لبيع أي في مسألة بيع برنامج وقد تلف أو بقي وادعى المشتري بعد قبض المبتاع وغيبته عليه عدم موافقته أو بعضه للبرنامج، وادعى البائع أن

ص: 137

المبيع غير ما أتى به المشتري بعد غيبته على العدل؛ ومعمول حلف هو أن موافقته أي العدل المبيع حاصلة للمكتوب في البرنامج، فإن حلف فلا شيء عليه. قاله عبد الباقي. وقوله: وحلف مدع لخ، قال عبد الباقي: وبما قررنا علم أن صلة مدع محذوفة أي الموافقة، وأن اللام في لِبيعِ ليست صلة مدع؛ إذ البيع على البرنامج متفقان عليه لا مدع له أحدهما فقط، وأنها بمعنى في، وأن موافقته معمول حلف، وخبر أن محذوف؛ فإن قلت: القاعدة أن الذي يحلف هو المدعى عليه فلِمَ عبر عنه المص بمدع؟ قلت: هو مدع الموافقة ومدعى عليه حقيقة كما يشهد له قوله فيما يأتي: إن المدَّعَى عليه من ترجح قوله بمعهود أو أصل، وهو صادق بالبائع هنا، ويمكن حمل قوله: وحلف مدع لخ، على ما يشمل البائع كما تقدم والمشتري، وذلك إذا ادعى البائع أن ما في البرنامج من العدة غلط، وأن الذي في العدل أكثر منه، فيحلف المشتري أن موافقته للمكتوب فإن نكل من توجهت عليه غرم بمجرد نكوله في الاتهام، وبعد يمين الآخر في التحقيق. انتهى كلام عبد الباقي. وقال محمد بن الحسن عند قوله: وحلف مدع لبيع: هذا إن قبضه على تصديق البائع، وإن قبضه على أن المشتري مصدق كان القول قوله، وكذلك إن قبضه ليقلب وينظر. قاله أبو الحسن عن اللخمي. انتهى. وقدمت نحوه عن الشيخ أبي علي. والله سبحانه أعلم.

وعدم دفع ردي أو ناقص، معطوف على بيع من قوله: لبيع برنامج؛ أي وحلف مدع عدم دفع ردي أو ناقص، ومراده أن من صرف دراهم أو دنانير من صراف أو أخذها من مقرض أو مدين أو نحو ذلك وقبضها المدفوعُ له بقول الدافع: إنها جياد، وغاب عليها ثم ردها أو رد شيئا منها وادعى أنه ألفاه رديا أو ناقصا، وأنكر الدافع لها أن يكون المردود من دراهمه أو دنانيره، فإنه يحلف ما دفعت إلا جيادا في علمي؛ ابن يونس: ولا يعلمها من دراهمه إلا أن يحقق أنها ليست من دراهمه فيحلف على البت، ولو اختلف النقاد في الرداءة والجودة لم يلزم رب الدين إلا ما اتفق على جودته، كما أنه لا يلزم الدافع في البدل إلا ما اتفق الشهود على رداءته. قاله الخرشي. وقال الحطاب: لا يجبر البائع أن يقبض من الثمن إلا ما اتفق على أنه جيد، فإن قبضه ثم أراد رده لرداءته فلا يجبر الدافع على بدله إلا إن اتفق على أنه ردي، وإذا أحضر الدين لرب الدين فقال شاهدان: هو جيد؛ وقال شاهدان: هو ردي؛ لم يلزمه قبضه حتى يتفق

ص: 138

على جودته، ولو قبضه فلما قلبه

(1)

ألفاه رديا وشهد شاهدان برداءته وشاهدان بجودته لم يجب له بدله إلا بالاتفاق على رداءته. انتهى. وقوله: وحلف لخ، يحلف في نقص العدد على البت، وفي الغش على نفي العلم، ونقص الوزن يحلف فيه على نفي العلم إلا أن يحقق، وهذا كله إذا اتفقا على أنه قبضها على المفاصلة أو اختلفا؛ لأن القول قول الدافع بيمين إنه على المفاصلة، وإن اتفقا على أنه قبضها ليزنها فالقول قول القابض: إن ما قبضه ردي أو ناقص بيمينه. انظر الخرشي. ونحوه لعبد الباقي: وفيه وإن تنازعا في صفة القبض فالقول للدافع بيمينه إلا لقرينة على أن القبض ليزنها. انتهى. وقال الشيخ أبو علي عند قوله: وحلف على عدم دفع ردي أو ناقص: أي وحلف مدع عدم دفع ردي أو ناقص، ومراده أن من صرف دنانير أو دراهم من صيرفي وغاب عليها ثم رد شيئا منها رديا، فأنكر الصيرفي، فإنه يحلف ما أعطاه إلا جيادا؛ قال في المدونة: وكذلك من قبض طعاما على تصديق الكيل ثم ادعى نقصا، أو قبض دينا فأخذ صرة، صدق الدافع أن فيها كذا ثم وجد ذلك ناقصا، فإن القول قول الدافع. انتهى. وقال أيضا: إنه لو اختلف المشتري والبائع في عين المشترى الذي رده المشتري على الخيار كان القول للمشتري مع يمينه كما في المدونة، كان مما يغاب عليه أم لا، إلا أن يقيم بينة على ما ادعاه؛ وعلل بأنه ائتمنه ولا يلزمه أكثر مما أقر به. وقوله: وعدم دفع ردي أو ناقص، لا فرق في ذلك بين الصيرفي وغيره في الحلف على العلم؛ وقال ابن كنانة: يحلف الصيرفي على البت، والأول هو ظاهر المدونة؛ قال فيها: وإن قلت حين ردها إليك: ما دفعت إلا جيادا في علمي، فالقول قولك وتحلف ما أعطيت إلا جيادا في علمك لخ.

وبقاء الصفة إن شك؛ يعني أنه إذا وقع البيع في غائب على رؤية متقدمة لا يتغير بعدها ثم قبضه المبتاع ظانا بقاءه على رؤيته المتقدمة وادعى أنه ليس على صفته التي رآه عليها - بأن تخلف ظنه بعد قبضه - وادعى البائع بقاءه على صفته، فإن البائع يحلف على بقاء الصفة التي رآه عليها المشتري أوَّلًا، هذا إن شك هل يتغير فيما بين الرؤية والقبض أم لا، فإن قُطِع بعدم التغير

(1)

في الأصل قبله والمثبت من الحطاب ج 5 ص 91.

ص: 139

فالقول للبائع بلا يمين، وإن قُطِع بالتغير فالقول للمشتري. والظاهر أن ترجيح قول أحدهما كالقطع به قاله الأجهوري. وظاهر قوله: كالقطع به، أنه يصدق بغير يمين؛ وفي بعض الشروح: بيمين؛ وهو الملائم لقوله: وحلف من لم يقطع بصدقة. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي مفسرا للمص: يعني أنه إذا اشترى شخص شيئا غائبا على رؤية متقدمة، ثم تنازع هو والبائع في أن هذه هي الصفة التي وقع العقد عليها أو تغيرت، فإن قرب ما بين الرؤيتين بحيث لا يتغير المبيع فيه فالقول للبائع، وإن بعد بحيث لا يبقى على حاله فالقول للمشترى في أنه تغير عما هو عليه حال العقد، وإن أشكل الأمر فقال ابن القاسم: القول للبائع بيمين؛ والأصل عدم الانتقال عن الصفة، فحيث قطعت أهل المعرفة لأحدهما فالقول قوله بلا يمين، وإن رجحت لواحد منهما فالقول له بيمين، وإن أشكل الأمر فالقول للبائع بيمين؛ وأما ما بيع على الصفة فإنه في حالة الشك يحمل على عدم بقاء الصفة فيكون القول قول المشتري؛ فكلام المؤلف فيما إذا بيع على رؤية متقدمة كما صرح به حلولو، فقال في قوله: وبقاء الصفة إن شك: هذا من تتمة قوله: وبرؤية لا يتغير بعدها. انتهى. انتهى كلام الخرشي. وقوله: إن شك، خلافا لأشهب القائل: القول للمشتري. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي عند قوله: وبقاء الصفة إن شك: هو من تتمة قوله: وبرؤية لا يتغير بعدها، احترازا عما بيع على الصفة، فالقول للمشتري عند الشك في بقائها إن لم يكن هناك أهل معرفة، وإلا رجع إليهم في كون المبيع على الصفة التي وقع عليها العقد أم لا. قال في التوضيح: والفرق بين البيع على الصفة وعلى الرؤية أن البيع في مسألة الرؤية متعلق على بقاء صفة المبيع والأصل بقاؤها، فمن ادعى الانتقال فهو مدع وهو المشتري، بخلاف البيع على الصفة فإن الأصل عدمها وهو موافق لقول المشتري. نقله عبد الباقي.

تنبيهان: الأول: لو تنازعا في عين السلعة المبيعة بالرؤية فالقول للمشتري بالاتفاق مع يمينه. قاله الحطاب. الثاني: قال المواق: من ابتاع سلعة غائبة على رؤية متقدمة فلما رآها قال: تغيرت، فإن قرب ما بين الرؤيتين بحيث لا يتغير في مثله فالقول قول البائع مع يمينه، وإن بعد بحيث لا يبقى على حاله قبل قول المشتري، وإن أشكل الأمر فقال ابن القاسم: القول قول البائع، خلافا لأشهب. انتهى. وهذا الذي قاله اللخمي صححه غير واحد، وهو الذي عليه كلام المص،

ص: 140

وفي كلام الحطاب نظر، لكن قول المواق عن اللخمي: فإن قرب ما بين الرؤيتين بحيث لا يتغير في مثله فالقول قول البائع مع يمينه فيه نظر؛ وهو سبق قلم أو وهم منه رحمه الله، فإن الذي في التوضيح والحطاب عن اللخمي هو سقوط اليمين عن البائع في هذه الحالة. انظر الرهوني.

وغائب ولو بلا وصف على خياره بالرؤية يعني أنه يجوز بيع الغائب ولو لم يوصف بشرط أن يكون للمشتري الخيار برؤيته. عبد الوهاب: لا يجوز بيع بغير صفة ولا رؤية؛ وأجاز ذلك في المدونة إذا اشترط خيار الرؤية؛ وكان أصحابنا يقولون: إنه خارج عن الأصول؛ ابن يونس: لا وجه لمنعهم جوازه لأنه لا غرر فيه. انظر المواق. وقال عبد الباقي: وجاز بيع غائب ولو بلا وصف لنوعه أو جنسه كما يأتي في التولية، وقيد جواز بيع غير الموصوف بما إذا بيع على شرط خياره أي اختيار المشتري لا الخيار المبوب له، فلا يشترط بالرؤية للمبيع ليخف غرره لا على اللزوم أو السكت فيفسد في غير التولية، فإن السكوت فيها لا يضر لأنها معروف، فهذا قيد في المبالغ عليه فقط، لا لما قبله إذ ما بيع بوصف لا يشترط فيه هذا الشرط ولا يعلم من كلامه هل للمبتاع الخيار قبل الرؤية أم لا، بل ربما يتوهم منه الثاني مع أن الخيار له قبلها أيضا كما في النقل، فالبيع منحل من جهة المشتري قبل الرؤية وبعدها، ولازم من جهة البائع عند ابن محرز، خلافا لقول عبد الحق: منحل من جهته أيضا. انتهى. وقال بناني: اعلم أن بيع الغائب فيه ست صور؛ لأنه إما أن يباع على صفة أو على رؤية متقدمة أو بدونهما، وفي كل منها إما أن يباع على البت أو على الخيار، كلها جائزة إلا السادس، وهو البت فيما بيع دون صفة ولا رؤية. فقوله: وغائب أي على صفة أو على رؤية متقدمة بتا أو خيارا. وقوله: على خياره بالرؤية، قيد فيما بعد لو فقط. وما ذكره هو المشهور ومذهب المدونة كما عزاه لها غير واحد، وأشار بلو لرد القول: بأن الغائب لا يباع إلا على صفة أو رؤية متقدمة. قال الحطاب: قال في المقدمات: وهو الصحيح. وفي كتاب الغرر من المدونة دليل هذا القول؛ وقال في التوضيح: إنه في المدونة ونسبه لبعض كبراء أصحاب مالك. وقال ابن عرفة: إنه المعروف من المدونة ونص غررها.

ص: 141

قال الحطاب: ولم أقف في غررها على ما ذكره في التوضيح ولا على ما ذكره ابن عرفة. انتهى المراد منه. ويأتي الكلام على كون هذه المسألة تكون كأمد الخيار الآتي أولا عند قوله:

أو على يوم، عطف على ما في حيز لو كما قال ابن غازي؛ يعني أنه يجوز بيع الغائب على الصفة ولو كانت مسافته على يوم، خلافا لابن شعبان لسهولة إحضاره في اليوم. قال عبد الباقي: أو بيع على الصفة باللزوم غائب ولو على يوم ذهابا فقط فيجوز، لا فيما على الصفة بالخيار، ولا فيما على خياره بالرؤية، ولا فيما على رؤية متقدمة، فلا يشترط كون ذلك على يوم، فإنما أتى بهذا في حيز المبالغة ردا على قول ابن شعبان بناء على أن يوما فدون كالحاضر لسهولة إحضاره واعترض الحطاب المص باقتضائه أند لابد من إحضار حاضر البلد مع أن الذي يفيده النقل أن حاضر مجلس العقد لابد من رؤيته إلا فيما في فتحه ضرر أو فساد كما مر، وغير حاضر مجلس العقد يجوز بيعه بالصفة ولو بالبلد على المشهور وإن لم يكن في إحضاره مشقة؛ قال الش: ويؤخذ ذلك من المدونة من خمس مواضع. انتهى كلام عبد الباقي. وقال الخرشي: يعني أن ما بيع على الصفة على اللزوم يكفي أن يكون على مسافة يوم. ومنعه ابن شعبان لسهولة إحضاره في اليوم، فهو معطوف على ما في حيز المبالغة ليفيد أن فيه خلافا. انتهى. وقول ابن شعبان رواية عن مالك. انظر الرهوني.

تنبيه: قد مر أن بيع الغائب يجوز بلا وصف وبلا رؤية متقدمة على خيار المشتري بالرؤية على المعروف من المذهب، فإذا فرعنا عليه فهل يشترط أن يكون بين محل المبيع ومحلٍّ عُقِدَ البيعُ فيه المسافةُ التي تقطع في المدة المجعولة حدا للخيار في بيع المرءي بخيار كالشهر في الدار والجمعة في الرقيق وثلاثة في دابة ونحوها أو لا يشترط ذلك؟ قال الرهوني: لم أقف على نص في ذلك بعد البحث الشديد عنه ومطالعة الكتب التي بأيدينا وسمعناها غير ما مرة، إلا ما فهمه الحطاب من كلام ابن عبد السلام والتوضيح من أنه يجوز ولو بعُد واستظهره؛ انظره عند قوله "ولم يبعد كخراسان من إفريقية" وتبعه على ذلك الزرقاني وأبو علي هناك، والظاهر أنه يشترط ذلك لأنه إذا كان ذلك شرطا في بيع الخيار الحقيقي مع أنه مجمع على جوازه فكيف بهذا الخيار الذي

ص: 142

منعه الشافعي رضي الله عنه، وفيه في المذهب ما قد علمت مع ظهور وجه منعه إلى آخر كلامه، لكن ما قاله الحطاب وعبد الباقي وأبو علي ظاهر كلامهم هنا. قاله مقيده عفا الله عنه.

أو وصفه غيرُ بائعه وصف مصدر مضاف مجرور معطوف على وصف من قوله: بلا وصف، والضمير في وصفه عائد على المبيع، وغير بالرفع فاعل المصدر؛ أي وجاز بيع الغائب على الوصف باللزوم ولو بلا وصفه غيرُ بائعه، منطوقه بأن وصفه بائعه فقط، فهو داخل في حيز المبالغة منفي، وهذا الذي مشى عليه المص هو ظاهر المذهب وأخذه جماعة من المدونة؛ ابن العطار: وبه العمل؛ وفي الموازية والعتبية اشتراط وصف غير البائع لأن البائع لا يوثق بصفته إذ قد يقصد الزيادة في الصفة لتنفق سلعته. انظر الرهوني. إن لم يبعد يعني أنه يشترط فيما بيع على اللزوم كان على وصف أو رؤية متقدمة أن لا يبعد، وأما إن بعد.

كخراسان من إفريقية فإنه لا يجوز البيع على اللزوم، كان على وصف أو رؤية متقدمة وقوله: كخراسان من إفريقية؛ يعني من كل ما يظن فيه التغير قبل الوصول إليه.

وعلم مما قررت أن قوله: إن لم يبعد، شرط فيما بيع على اللزوم، فإن باعه على خياره بالرؤية من غير وصف أو رؤية متقدمة أو مع وصف أو رؤية متقدمة جاز ولو بعد جدا. انظر الحطاب. قاله عبد الباقي. وقال: إن ما بيع على الخيار لا يشترط فيه قرب ولا عدم تغير، ومثل للبعيد بقوله: كخراسان من إفريقية، ويعلم منه أن القريب ما دونه. انتهى. وقد مر بحث الرهوني مع الحطاب وعبد الباقي وأبي علي عند قوله: أو على يوم، فراجعه إن شئت.

فرع: فإن وجد الغائب المبيع على الصفة بصفته المشترطة بموافقة من المشتري أو شهدت بذلك بينة، لزم المبيع وإلا فلا. قاله الحطاب.

فرع: فإن وقع البيع على صفة اتفقا عليها وتنازعا عند قبضه هل هو باق على صفته التي وقع عليها التعاقد أم لا رجع في ذلك لأهل المعرفة، فإن قالوا: إنه عليها

(1)

لزم وإلا فلا. قاله الحطاب. وقد مر هذا عند قوله: وبقاء الصفة إن شك ولم تمكن رؤيته بلا مشقة، شرط فيما بيع وهو غائب

(1)

في الأصل عليه والمثبت من الحطاب ج 5 ص 93.

ص: 143

على الوصف باللزوم فقط، فهو راجع لأحد فردي ما قبله؛ يعني أن ما بيع على الوصف باللزوم وهو غائب يشترط في جواز بيعه أن تكون في رؤيته مشقة، فإن لم تكن في رؤيته مشقة فإنه لا يجوز بيعه على الصفة باللزوم، وأما ما بيع على رؤية متقدمة أو على الخيار فيجوز بيعه ولو كان حاضرا بالبلد، بل ولو كان حاضرا بين يدي المتعاقدين بأن يكون بينه وبينهما حائل أو في صندوق مثلا. فلا يشترط فيه رؤية ثانية. قال الرهوني: تبع المص في قوله: ولم تمكن رؤيته بلا مشقة ما في الموازية مع قبوله قول ابن عبد السلام: الأشهر الجواز لأنه منصوص عليه في المدونة في خمسة مواضع، وإنما مَنعَه في كتاب ابن المواز. انتهى. وما كان ينبغي له ذلك. وقد بين في التوضيح المواطن الخمسة، وكلها تقيد ما قاله إلا الأول منها في كلامه فإنه لم يظهر لي وجه الدليل منه. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: ولم تمكن رؤيته؛ أي الغائب المبيع على الصفة باللزوم فقط، فهو راجع لأحد فردي ما قبله بلا مشقة، وأما ما بيع بالخيار أو على خياره بالرؤية أو برؤية متقدمة فلا يشترط فيه هذا الشرط؛ وتقدم قريبا اعتراض الحطاب لهذا الشرط وأنه ضعيف. انتهى.

وقال الشيخ أبو علي: وحاصل ما عند الحطاب في هذا أعني في البيع على الصفة على اللزوم أن المبيع على الصفة على ثلاثة أقسام: ما ليس على مسافة يوم فهو في حكم الحاضر في البلد الذي ليس في مجلس العقد، وما هو على مسافة يوم، وما هو حاضر المجلس؛ أما ما هو على مسافة يوم فقد تقدم جوازه عند المص، وأما الذي في المجلس فإنه لا يجوز بيعه على الصفة على اللزوم يعني في غير البيع على البرنامج المتقدم، وأما الذي في البلد ولم يكن بالمجلس وفي معناه ما ليس على مسافة يوم ففيه خلاف قوي، فالذي عند ابن عبد السلام وابن عرفة الجواز، والذي في ابن شأس وهو ظاهر المتن عدم الجواز؛ قال الحطاب: والظاهر ما قاله ابن عبد السلام وابن عرفة، وقولنا: ما بالمجلس لا يجوز ما لم يكن في نشره أو في حله فساد، أو لم يمكن الاطلاع عليه كالذي في صندوق وغاب مفتاحه، وهذا كله يدل عليه التعليل وهو القصد إلى الغرر. انتهى. الوانُّوغي: بيع الغائب على مذهب مالك خمسة أوجه: حَاضرُ المجلس غائب عن العين المشهور منع بيعه على الصفة، ابن رشد لا ينبغي أن يختلف فيه وإنما جاز بيع الساج للضرورة، وَحَاضِرُ

ص: 144

البلد في جواز بيعه على الصفة قولان، وَغائِبٌ عن البلد كيومين يجوز العقد فيه والنقد بشرط، ومُتَوَسِّطٌ كالستة أيام يجوز فيه العقد دون النقد، وبَعِيدٌ جدا لم يجز بيعه فضلا عن النقد. انتهى. نقله أبو علي. واعلم أن الساج الدرج أي الطيلسان المطوي في جواز بيعه على الصفة وهو حاضر مجلس العقد ومنعه قولان، والمشهور المنع وهو مذهب الموطإ، ولابد أن يقيد بما إذا لم يكن في فتحه فساد وإلا فيجوز كما في بيع البرنامج، وقد أشار إلى ذلك اللخمي كما ذكره ابن عرفة.

والنقد فيه عطف على فاعل جاز والضمير للغائب؛ يعني أنه يجوز النقد في بيع الغائب من غير شرط مطلقا سواء كان عقارا أو غيره مثليا أو غيره على ظاهر المدونة خلافا لابن محرز. قاله الحطاب. وهذا فيما إذا بيع على اللزوم كان على وصف أو رؤية متقدمة. الرجراجي: بلا خلاف، وأما إذا بيع على خيار فلا يجوز النقد فيه كما سيأتي في فصل الخيار. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وجاز النقد تطوعا بدليل ما بعده فيه أي في المبيع الغائب على اللزوم عقارا أو غيره، لا على الخيار المبوب له، أو الاختيار فيمنع النقد ولو تطوعا. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال مالك: إن بعدت غيبة الرقيق والحيوان والعروض والطعام جاز شراؤه ولم يجز النقد فيه لغلبة الغرر فيه من تغيير أو هلاك، فيصير النقد فيه تارة ثمنا وتارة سلفا، وكذلك النقد لا يجوز فيما بيع على خيار أو مواضعة إلا أن يتطوع بالنقد بعد العقد في ذلك كله فيجوز.

ومع الشرط في العقار؛ يعني أنه يجوز النقد بشرط في بيع العقار، قال فيها: أما الدور والأرضون والعقار الغائبة قريبا كان ذلك أو بعيدا فجائز شراؤها والنقد فيها لأمْنِهَا. نقله المواق. قوله: ومع الشرط في العقار، قال بناني: قيده في التوضيح بما إذا بيع العقار جزافا، قال: فإن بيع مذارعة فلا يصلح النقد فيه. قاله أشهب في العتبية. وكذلك قال مالك. انتهى وتبعه في الشامل. قال الحطاب: وهذا ظاهر في الأرض البيضاء، وأما الدار فلا بد ذرعها كما يأتي، وذرعها كالصفة لها، واعترض المصطفى تقييد التوضيح قائلا: والظاهر أن قول أشهب هذا وما رَوَى عن مالك خلاف المعتمد، ولذا أطلق غير واحد جواز اشتراط النقد في العقار، كالمدونة وابن الحاجب وابن عرفة وغيرهم. انتهى. وناقش الرهوني مصطفى وقال: إن هذا التقييد هو المعتمد. وقال أبو علي:

ص: 145

إنه المعتمد. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وجاز النقد مع الشرط في العقار المبيع على اللزوم بوصف غير البائع وإن بعد لأنه مأمون لا يسرع إليه التغير بخلاف غيره، وأما بوصف البائع فلا يجوز النقد فيه بشرط. انتهى. ويجوز تطوعا خلافا لعبد الباقي، وفيما قاله عبد الباقي نظر لأنه علل بالتردد بين السلفية والثمنية وهو إنما يوثر مع الشرط كما هو مقرر. والله سبحانه أعلم. ثم قال عبد الباقي: ولابد من ذكر ذرع الدار في وصفها فقط دون وصف غيرها من الأرض البيضاء، واختلف إذا باع الدار والأرض أو الخشبة أو الشقة فوجد أكثر مما سمَّى البائع من ذرع ذلك، فقيل: يكون البائع شريكا به وقيل: للمبتاع لشرائه جميع المبيع، فإن وجد أنقص فقيل: كالاستحقاق، وقيل: كالعيب، وكذا اختلف فيمن باع نصيبه من دار وذكر أنه الثلث فبان أنه أكثر، فهل للمبتاع نظرا لقوله نصيبه؟ أو إنما له الثلث نظرا إلى آخر كلامه، وهو المناسب لقول المص في الخيار في مسألة الصبرة المبيعة على كيل فإذا زاد فللبائع وإن نقص فكالاستحقاق. انتهى. قوله: فإن وجد أنقص فقيل: كالاستحقاق لخ، هذان القولان مرتبان على القولين قبلهما وقد أجحف بذلك، ونص كلام ابن رشد باختصار: وقد اختلف إذا باع الدار أو الأرض أو الخشبة أو الشقة على أن فيها كذا وكذا ذراعا، فقيل: إن ذلك بمنزلة أن يقول: أشتري منك كذا وكذا ذراعا، فإن وجد أكثر كان البائع شريكا وإن وجد أقل كان ما نقص بمنزلة المستحق، إن كان يسيرا لزمه الباقي بما ينوبه من الثمن، وإن كان كثيرا كان مخيرا في الباقي بين أخذه بما ينوبه ورده، وقيل: إن ذلك كالصفة للمبيع فإن وجد أكثر كان للمبتاع وإن وجد أقل كان المبتاع بالخيار بين أخذه بجميع الثمن ورده؛ والقولان قائمان من المدونة. انتهى.

تنبيهات: الأول: قد مر قول عبد الباقي: ولابد من ذكر ذرع الدار في وصفها لخ، قال محمد بن الحسن: هكذا في سماع القرينين. وقاله سحنون وبيَّنه ابن رشد بأن معناه أنه لابد في صفتها من تسمية ذرعها، فيقال: الدار التي في بلد كذا بموضع كذا، وحَدُّها كذا وصفتها كذا، وذرع ساحتها في الطول كذا وفي العرض كذا، وطول بيتها الكذا كذا وعرضه كذا، حتى يأتي على جميع مساكنها ومنافعها بالصفة والذرع، ولو ذكر صفتها واكتفى عن تذريعها، بأن يقول: على أن فيها كذا وكذا ذراعا لجاز ذلك والأول أحسن، وليس المعنى أنه لا يجوز أن يشتريها على

ص: 146

الصفة إلا كل ذراع بكذا ما بلغت إلا أن يكون قد رأى الدار ووقف عليها، كالأرض لا يجوز شراؤها على الصفة كل ذراع بكذا دون أن يراها، وكالصبرة لا يجوز شراؤها كل قفيز بكذا دون أن يراها. انتهى من البيان ببعض اختصار. وظاهر كلام ابن رشد أن هذا هو المذهب لأنه بيَّنه معتمدا له، مع عادته في البيان أن ما كان من رواية العتبية مخالفا للمذهب نَبَّه عليه، ولهذا اعتمده الحطاب ومن تبعه، وقد اعترضه مصطفى بأنه خلاف المعتمد قائلا كما يظهر من كلام أهل المذهب، ونقل قول ابن عرفة يشترط في لزوم بيع الغائب وصفه بما تختلف به الأغراض لأنه المعتبر في السلم المقيس هذا عليه، وسمع القرينان: لا تباع دار غائبة بصفة إلا مذارعة. وقاله سحنون. انتهى. وقول الجزيري في وثائقه: يجوز النقد في شراء الدار الغائبة بشرط صفة غير البائع، ولا يجوز بيعها إلا مذارعة، ولا يجوز بيعها على صفة البائع إلا بشرط نظر المبتاع، وعلى أن لا ينقد وفي سماع أشهب: لا يجوز بيعها إلا مذارعة وقاله سحنون. قلت: فيه نظر، بل السماع في كلامها يحتمل أنه تفسير لما قبله ويعضده أن الذرع بالمعنى الذي ذكره ابن رشد من الصفات التي تختلف بها الأغراض، وقد نقل المواق عند قوله: وجزاف إن ريء، عن الباجي عن مالك ما ذكره في السماع على وجه يفيد أنه المذهب. انتهى.

الثاني: قال الأمير: استشكلوا بيع العقار الغائب جزافا بأن شرط الجزاف أن يكون مرءيا، وأجابوا بأنه مبني على الاكتفاء بالوصف أو بالرؤية السابقة. انتهى.

الثالث: قوله: ومع الشرط في العقار، فإذا لم يشترط النقد في بيع العقار فهل يجبر عليه المشتري بالحكم أو لا يجبر؟ قولان. قال الرجراجي: الصحيح أنه لا يجبر، وأما في غير العقار فلا يجبر على النقد اتفاقا؛ يعني حيث قرب كاليومين ولم يشترط فيه النقد. ابن عرفة: اللخمي والمازري: لو باع دارا على مذارعة أو نخلا على عددها ففي كونها من البائع أو المبتاع رواية المازري ونقله عن ابن حبيب مع الأخوين، وقد مر قول المص: ومع الشرط في العقار، وظاهره الإطلاق كما مر عن غيره، ومر اعتماد المصطفى له [وتعقبه

(1)

الرهوني] للمصطفى. وقال الحطاب عن ابن رشد: إنما لا يجوز النقد

(1)

كذا في الأصل، ولعلها: وتعقب الرهوني.

ص: 147

فيها؛ يعني الدار إذا كان البائع هو الذي قال: إن فيها كذا وكذا ذراعا، وأما إن قال ذلك غير البائع من مخبر أو رسول فالنقد في ذلك جائز. انتهى. فجعل ذلك بمنزلة ما اشتري على الصفة، وذلك أن ذرع الدار إنما هو على الصفة لها. انتهى. وقال أبو علي: إن كلام الحطاب هذا غير ظاهر، واعتذر عن إطلاق المص بأن العقار إذا بيع مذارعة مما فيه حق توفية. والله سبحانه أعلم. وضمنه المشتري يعني أن العقار الغائب يضمنه المشتري بالعقد، قال عبد الباقي: وضمنه أي العقار المبيع غائبا جزافا وأدركته الصفقة سالما المشتري؛ أي دخل في ضمانه بمجرد العقد بيع بشرط النقد أم لا، سواء اشترط الضمان على البائع أم لا. انتهى. وقال الخرشي: أي وضمن العقار المشترى جزافا إذا أدركته الصفقة سالما المشتري بالعقد بَعُدَ مكانه أو قرب، وسواء بيع بشرط النقد أم لا، وهذه المسألة مقيدة لقوله الآتي: وإلا الغائب فبالقبض. انتهى. وقال المواق: ولم يختلف قول مالك في الربع والدور والأرضين والعقار أن ضمانها من المبتاع من يوم العقد وإن بعدت. ابن المواز: قال مالك: وإذا بيع الحائط الغائب وفيه الحيوان والعبيد فالعقد في ذلك كله جائز، والضمان من المبتاع من يوم العقد وإن بعدت غيبته. ابن يونس: لأن ذلك تبع للحائط كما يكون في ذلك الشفعة إذا بيع مع الحائط. انتهى. وعلم من هذا أنه يجوز فيه النقد للتبعية، قال الشيخ أبو علي: وقول المص: ومع الشرط في العقار؛ أي ولو كان العقار فيه حيوان اشتري معه للتبعية، فالحيوان الذي في الحائط كالحائط في شرط النقد وفي الضمان؛ أي يدخل في ضمان المشتري كما يدخل عقاره كذلك، وهذا كله في ابن يونس، ونقله ابن عرفة عن المازري أيضا قائلا: لا فرق بين القريب والبعيد. انتهى. وقوله: وضمنه المشتري، هو الراجح من القولين المتقدمين في كون ضمان العقار المبيع غائبا من المبتاع أو البائع كما قاله الرهوني. وقوله: وضمنه المشتري، قد مر تقييد غير واحد له بالمبيع جزافا كما أنه مر في قوله: ومع الشرط في العقار، فلو بيعت الأرض على التكسير لما أبيح فيها شرط النقد كما مر الكلام على ذلك، وتكسير الأرض هو بيعها مذارعة وبيع الحائط على عدد النخل. انظر الرهوني. وفيه أن بيع العقار له ثلاث صور، الأولى: بيعه جزافا وهذه الصورة الضمان فيها من المشتري على المشهور، ومقابله قولة لمالك حكاها ابن المواز. الثانية: بيعه على الكيل أو العد كأن يبيع له مائة ذراع مثلا من أرضه

ص: 148

المستوية أو من داره، أو يبيع له جميع داره أو جميع أرضه كل ذراع بكذا بشرط حضورها ورؤيتها على ما مر تفصيله، وهذه الضمان فيها من البائع حتى يستوفي المشتري كما جزم بذلك غير واحد، قال في المعين: وإذا بيعت دار غائبة على المذارعة أو حائط فيه نخل على عدد النخل وأرض على التكسير فضمان ذلك على البائع حتى يقبضه المبتاع، وفي المدونة: من لك عليه دين حال أو إلى أجل فلا تأخذ به دارا غائبة. قال ابن ناجي: وقال غير واحد: إنما منع أخذ الدار الغائبة في الدين لأنها بيعت على المذارعة فصار فيها حق توفية. وقال ابن غازي في تكميله عند نصها هذا: عياض قال أبو إسحاق. وإنما لا يجوز أن يأخذ به عقارا غائبا إذا أخذه على صفة أو تذريع إذ لا يكون في ضمانه إلا بعد العقد ووجودها على الصفة، فأما إذا كان على رؤيته ومعرفته ولم يشترها على التذريع فهو قبض ناجز كالنقد، وقد برئ البائع منها وهي من المشتري، ونحوه لأشهب عن مالك في العتبية، ابن رشد: لو هلك جزء من الأرض قبل قيسها كان من بائعها إجماعا.

الثالثة: أن يبيع الدار أو الفدان على أن فيها كذا وكذا ذراعا أو البستان على أن فيه كذا وكذا نخلة، وهي محل الخلاف المتقدم عن ابن عرفة، وكلام ابن عرفة: اللخمي والمازري: لو باع دارا على مذارعة أو نخلا على عددها ففي كونهما من البائع أو المبتاع رواية المازري ونقله عن ابن حبيب مع الأخوين وهو خلاف في حال، كما أفاده اللخمي وابن يونس؛ فقول مالك مبني على أن ذلك مما فيه حق توفية، وقول الأخوين مبني على أنه زيادة في الصفة، كما صرح به ابن يونس، ويحمل على أن ذكره الأذرع زيادة بيان في صفتها، وقول الإمام هو الراجح، ويدل على رجحانه اقتصار غير واحد عليه، كصاحب المفيد وغيره، وهو الذي رجحه اللخمي وابن يونس، وقول ابن حبيب والأخوين في الدور والنخل: إن المصيبة من المبتاع إذا قيست فوجدت على ما شرط من الأذرع أو العدد أو نقصت يسيرا. نقله الرهوني. وقال بعد نقله لكلام ابن يونس: ويؤخذ من كلامه أن اشتراط النقد لا يجوز على كل من القولين، أما على قول مالك فهو مصرح به، وأما على قول الأخوين فإنه لا يتحقق كون المدفوع ثمنا إلا إذا وقع الكيل والعدد ووجد ما اشترط

ص: 149

كاملا منه، وإلا رد بحساب ما لم يجده من ذلك، فتردُّدُ المدفوع بين السلفية والثمنية حاصلٌ، وذلك هو علة منع اشتراط النقد؛ وبذلك تعلم ما في تسليم بناني اعتراض مصطفى فيما سبق على التوضيح، وإشارته للبحث في كلامه هنا، بل ما سبق أولى بالاعتراض. انتهى.

تنبيه: في الحطاب أن النقص والنماء كالهلاك. انتهى المراد منه. فالنقص على من عليه الضمان وله النماء. والله سبحانه أعلم.

وجاز اشتراط النقد في غيره أي العقار إن قرب محله كاليومين ذهابا وبيع على اللزوم برؤية متقدمة أو بوصف غير ربه، ولم يكن فيه حق توفية، والكاف استقصائية. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي مفسرا للمص: أي وجاز اشتراط النقد في غير العقار إن بيع بغير وصف بائعه، وبيع على اللزوم، ولم يكن فيه حق توفية، وقرب مكانه كاليومين ذهابا عند ابن القاسم، وعند مالك القرب ما كان على يوم ونحوه؛ ابن شأس: وقيل: نصف يوم ففي الإتيان بالكاف مع اليومين نظر. انتهى. القلشاني: إذا كان المبيع بصفة البائع لا يجوز النقد. قال ابن القاسم: إذا بيعت الدار على الصفة من غير البائع جاز النقد لأنها مأمونة ولا يجوز بصفة البائع. وقال اللخمي: إن عرف البائع بالعدالة والخير وقلة الحرص جاز شرط النقد في المبيع على وصفه، ولا يجوز على غير وصف مأمون ولو كان غير البائع، ومفهوم إن قرب أنه إن بعد يمنع اشتراط النقد فيه كما مر للتردد بين السلفية والثمنية وهو جهل في الثمن، وقال المواق: من المدونة قال مالك: الرقيق والحيوان والعروض والطعام إن قربت غيبة ذلك كيوم أو يومين جاز شراؤه وجاز النقد فيه. انتهى. وفي نقله أنه يجوز النقد فيه إذا وصفه غير صاحبه ولا يجوز إن وصفه صاحبه.

تنبيهان: الأول: قوله: والنقد فيه، ظاهره كيفما كان الثمن وهو كذلك؛ قال في التوضيح: وظاهر كلام المص وهو ظاهر المدونة على ما نص عليه عياض أن نقد الثمن في الغائب بغير شرط جائز في كل شيء. الثاني: إذا لم يقض بالنقد حيث لا شرط فيما يجوز فيه الشرط في إيقاف الثمن قولان. وضمنه بائع يعني أن غير العقار يضمنه البائع بعُد أو قرب بيع بشرط النقد أم لا، وقد علمت جواز اشتراط النقد حيث قرب إلا لشرط، راجع لهما؛ يعني أن المشتري يضمن العقار بفتح العين بمجرد العقد إلا أن يشترط الضمان على البائع فينتقل الضمان من المشتري إلى البائع، وكذلك

ص: 150

البائع يضمن غير العقار إلا أن يشترط الضمان على المشتري فينتقل الضمان عن البائع إلى المشتري. قال عبد الباقي مفسرا للمص: إلا لشرط من بائع غير العقار أن ضمانه على المشتري فلا يضمنه البائع، ونقل عن أحمد وغيره أن قوله: إلا لشرط، راجع لهما خلاف ما صدر به عن جَدِّ علي الأجهوري. وقال الخرشي: أي إلا لشرط من المشتري على البائع في العقار وفي غيره من البائع على المشتري فيعمل بالشرط، وينتقل الضمان عمن كان عليه إلى من اشترط عليه. انتهى. وصوب الرهوني رجوع قوله: إلا لشرط، لهما كما قال عبد الباقي عن أحمد ومن وافقه، فإنه قال: وهو الظاهر، ويفيده كلام التوضيح كما قاله بناني. وكذا كلام ابن عرفة يفيد أيضا أن شرط المشتري ضمان العقار على البائع معمول به على الأرحج. وقد جزم اللخمي بذلك وساقه كأنه المذهب، ونصه: وإذا كانت المصيبة من المشتري فإنه يجوز أن يشترط أن يكون في ضمان البائع. انتهى.

وقوله: إلا لشرط، قال محمد بن الحسن: قال في التوضيح: اسْتُشْكِلَ بأن فيه ضمانا بجعل لأن نقل الضمان إلى من ليس عليه لا يكون إلا بحصة من الثمن، وأجيبَ: بأنه إنما اشترط كل واحد على الآخر ما لزمه على قول وحاصله مراعاة الخلاف. انتهى. فيؤخذ منه رجوع قوله: إلا لشرط، للضمانين معا؛ والله أعلم. وسياق التوضيح يقتضي أن الإشكال في الاشتراط بعد العقد مع أنه لا يظهر وجه الإشكال إلا فيما إذا كان الاشتراط واقعا في العقد. انتهى. قال الرهوني: هو مبني على أن الاشتراط وقع بدون زيادة في الثمن وليس كذلك، ففي ابن عرفة: وفي صحة اشتراط الضمان عقب العقد على من ليس عليه حيث يجوز فيه قولان خرجهما اللخمي على فعله عثمانُ وعبدُ الرحمن، أو فيه بعد تراضيهما العقدَ مصوبا منعه لأنه ضمان بجعل، والمازري على أن الملحق بعقد كواقع فيه أوَّلا، ونص اللخمي: فقيل: يجوز لفعل عثمان وعبد الرحمن، وقيل: لا يجوز، وإنما كانا متساومين؛ ثم قال: والقياس لا يجوز. انتهى المراد منه. قال: وقد صرح ابن يونس بأن قضية سيدنا عثمان كانت بزيادة، فإن عثمان بن عفان باع الفرس من عبد الرحمن بن عوف وهي غائبة، فقال عبد الرحمن: هل لك أن أزيدك أربعة آلاف على أن يكون ضمانها منك

ص: 151

حتى أقبضها؟ ففعل عثمان. ومعنى ذلك أنهما كانا [متراضيين

(1)

] بعْدُ ولم يتم البيع بينهما فيكونَ ضمان بجعل، وكذا بيَّن ابن حبيب أنهما كانا متراضيين فالإشكال ساقط. والراجح من القولين المنع انتهى.

أو منازعة قال الخرشي: الأحسن رجوعه لما كان ضمانه من المشتري، إما أصالة في العقار أو بشرط في غيره؛ أي أن محل كون الضمان في العقار أصالة أو في غيره بالشرط على المشتري إذا لم تحصل منازعة بين المتعاقدين في أن العقد صادف المبيع هالكا أو باقيا أو سالما أو معيبا، فإن حصلت منازعة فيما ذكر فالقول للمشتري والضمان على البائع بناء على أن الأصل انتفاء الضمان عن المشتري، وعزاه في توضيحه لابن القاسم في المدونة. انتهى. أبو علي: المشترى على رؤية سابقة إذا هلك، قال في المدونة وتبعه المؤلف: ضمانه من البائع. وقالت في بقاء الصفة وتبعها المؤلف: القولُ للبائع فيه، وكلاهما على خلاف الأصل؛ إذ الأصل عدم الهلاك وعدم النقص فلم فرقوا بينهما؟ قلت: الهلاك ثبت وقوعه، والصفةُ البائعُ يقول: هي باقية لم تتغير أملا والمشتري يزعم تغيرها فعليه البينة، ولو سلم البائع نقصها أو ثبت ببينة لكان القول للمشتري كالمسألة الأولى. انتهى. وجعل جَدُّ علي الأجهوري قوله: إلا لشرط، راجعا لضمان البائع، وقوله: إلا لمنازعة، راجعا لضمان المشتري.

تنبيه: قال المواق عند قول المص: وضمنه بائع إلا لشرط، بعد أن ذكر المواضع التي يضمن فيها البائع والمواضع التي يضمن فيها المشتري ما نصه: والنقص والنماء كالهلاك وهذا في كل سلعة غائبة بعيدة أو قريبة.

وقبضه على المشتري؛ يعني أن قبض الغائب أي الخروج إليه للإتيان به على المشتري. اللخمي: وعلى من اشترى شيئا غائبا أن يخرج لقبضه، وليس على البائع أن يأتي به، فإن شرط ذلك على البائع وأنه في ضمانه حتى يقبضه لم يجز، وكان بيعا فاسدا، وتكون مصيبته إن هلك قبل وصوله من بائعه، وإن شرط أن ضمانه حين الإتيان به من مشتريه فجائز، وكان بيعا وإجارة، فإن هلك قبل خروجه من موضع بيع فيه أو في الطريق يحط عن المشتري من الثمن بقدر الإجارة.

(1)

في الرهوني ج 5 ص 91 متراوضين.

ص: 152

انتهى. نقله الحطاب. وقال عبد الباقي: وقبضه أي الغائب أي الخروج للإتيان به على المشتري، وشرطه إياه على بائعه مع كون ضمانه منه يفسد بيعه، وإن كان ضمانه في إتيانه من مبتاعه فجائز وهو بيع وإجارة. قاله ابن عرفة. انتهى. وقال بناني: قال ابن عرفة: سمع أصبغ ابنَ القاسم من اشترى سلعة غائبة بعينها وهو ببلد على أن يوفاها بموضعه لا خير فيه للضمان. ابن رشد: هذا بين لأن بعض الثمن وقع فيه للضمان ولا يحل وهو حرام بإجماع. ابن عرفة: لا يتوهم أن هذا خلاف المذهب في جواز شرط الضمان على البائع في الغائب لأن ذلك في مدة الوصول إليه لا في مدة إيصاله. انتهى المراد منه. وقال المواق: ابن المواز: ولا يصلح أن يضرب لقبض السلعة الغائبة أجلا قريبا أو بعيدا لأن ذلك من وجه الضمان لسلعة بعينها وذلك لا يحل، وإنما يجوز بيع ذلك على أن يتوجه في قبضها قرب ذلك أو بعد تعجل ذلك أو تأخر لا يشترط في ذلك وقت. قال ابن القاسم: ولو اشترى سلعة غائبة على أن يوافيه بها البائع بموضع آخر لم يجز. ابن المواز: وهو وجه الضمان لسلعة بعينها. أصبغ: وكذلك لو قال: على أن توافيني بها ها هنا. ابن المواز: وهذا إذا كان ضمان السلعة من البائع وإن كان لا يضمن إلا حمولتها فلا بأس بذلك. انتهى.

تنبيهات: الأول: قال الشيخ أبو علي: لم يتكلم المص على أمور ذكرها غيره، منها قول ابن الحاجب: ويشترط في لزوم بيع الغائب وصفه بما يختلف الثمن به، وأصل هذا قول الجواهر: والصفة حيث قلنا: بجواز البيع عليها، فيجب أن تذكر الصفات المقصودة التي تختلف الأغراض بسببها والأثمان باختلافها؛ إذ لا يرفع الغرر إلا ذكرها. اللخمي: ويكون المشتري ممن يعرف ما وصف له، ثم إذا وافق المبيع الصفة فلا خيار لأحدهما، فإن اختلفا في الصفة التي وقع العقد عليها فالقول قول المشتري، وإن اتفقا على الصفة واختلفا في كون المبيع عليها رجع في ذلك إلى أهل المعرفة، وهو لا يحتاج إلى شرح، كما لا يحتاج طيب الخبز إلى إدام. انتهى. ابن عرفة: والمذهب أنه يشترط في لزوم بيع ما غاب وصفه بما تختلف الأغراض به لأنه المعتبر في السلم

ص: 153

المقيس هذا عليه. انتهى. وقد مر قول المص: وغائب ولو بلا وصف لخ، وهو يشمل الغائب غيبة العوضين معا. انظر شرح الشيخ أبي علي.

الثاني: قال ابن عرفة: وفي ضمان الغائب غير ذي توفية فيه بعد عقده قبل قبضه مبتاعُه أو بائعُه، ثالثها في الربع، ورابعها فيما جاز شرط نقده لقربه، لروايات المازري مع اللخمي، ونقلهما قول ابن حبيب، زاد التونسي: لم يختلف قول مالك فيهما. قلت: لم يختلف قوله في الربع. الصقلي عن محمد عن مالك: الدور من البائع. ولمالك الرباع من المبتاع ولو بعدت وعليه أصحابه أجمع. اللخمي: على الأول يجوز شرطه على بائعه، وعلى الثاني في جوازه على المبتاع قولان؛ لها ولرواية العتبي؛ وظاهر قول ابن القاسم فيها: الدور والأرضون من المبتاع على كل حال أنه كذلك ولو شرطه على البائع.

الثالث: قال ابن شهاب: كان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من أجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيع، فكان الناس يقولون ليتهما تبايعا حتى ننظر أيهما أجد، فابتاع عبد الرحمن بن عوف من عثمان فرسا باثني عشر ألفا إن كانت هذا اليوم صحيحة فهي مني، ولا إخال عبد الرحمان إلا كان عرفها، ثم إن عبد الرحمن قال لعثمان: هل لك أن أزيدك أربعة آلاف وهي منك حتى يقبضها رسولي، قال: نعم، فزاد عبد الرحمن أربعة آلاف على أنها من عثمان فماتت، وقدم رسول عبد الرحمن فعلم الناس أن عبد الرحمن أجد من عثمان رضي الله عنهما. عياض: أجَد أسعد والجَد السَّعد والبَخت. وقوله: فماتت وقدم رسول عبد الرحمن، فيه دليل على أن على المشتري الخروج إلى الغائب المشترى، وفي هذا الحديث من الفوائد تجارة الصحابة رضي الله عنهم، ومباشرتهم التبايع بأنفسهم، والمعاوضة فيها دليل على التكايس في التجارة، وفيها شراء الحيوان الغائب، ومعلوم أنه لم يشتره إلا على رؤية متقدمة أو صفة معلومة، وفيه أن ضمان الغانب إذا بيع على المشتري إلا أن يشترطه على البائع، وفيه جواز المبيع والشرط، وفيه أن ما جاز أن يعقد عليه من الشروط يجوز أن يلحق بالعقد، وذلك أن عبد الرحمن بعد وجيبة المبيع شرط في ضمانها على عثمان بما أراده من الدراهم لقوله: ثم، وثم تقتضي المهلة والتراخي، وكان شيخنا أبو الحسن يقول: إنهما من قبل شرط عبد الرحمن

ص: 154

متساومان ولم ينبرم بينهما عقد، ويستدل أن عثمان لم يقل نعم إلا بعد هذا الشرط وهذا القول له وجه غير أنه خلاف الظاهر الذي ذكرناه. انتهى نقله الشيخ أبو علي. الرابع: قال المواق عند قوله: وفي غيره إن قرب كاليومين لخ، قال ابن رشد: وإذا كان لا يجوز فيه النقد فيجوز شراؤه بالعين، وأما إن اشتراه بعرض فإن وضعاه عند أمين فهو جائز وإلا لم يجز. انتهى.

وحرم في نقد وطعام ربا فضل ونساء؛ يعني أنه يحرم في النقد ربا الفضل وربا النساء، وكذلك يحرم في الطعام ربا الفضل وربا النساء، والربا الزيادة، والإضافة بيانية أي يحرم في النقد الربا الذي هو التفاضل بين النقدين أو الطعامين، كما أنه يحرم فيهما الربا الذي هو الزيادة في الزمن بأن يتأخر قبض أحد العوضين في النقد أو الطعام عن قبض الآخر، وهذا فيه إجمال لكن يؤخذ تفصيله من المص، وتَفْصِيلُهُ أن تقول: يحرم في النقد، والمراد به المذهب والفضة سكا أم لا الذي هو متحد الجنس التفاضل في القدر، كما يحرم فيه تأخر قبض أحد العوضين عن قبض الآخر، وأما إن لم يتحد الجنس كذهب بيع بفضة فإنما يحرم ربا النَّساء لا التفاضل، وأما الطعام فينقسم إلى ربوي وغيره، فالربوي يحرم فيه التفاضل بشرط اتحاد جنسه، فإن لم يتحد جنسه جاز التفاضل، وحرم ربا النساء كغير الربوي، فإنه يحرم فيه ربا النساء مطلقا، ويجوز فيه التفاضل مطلقا؛ أي اتحد الجنس أو اختلف، ويأتي الكلام على المزابنة، وأما بيع النقد بالطعام فلا يدخله ربا الفضل ولا ربا النساء. والله سبحانه أعلم. قال الخرشي عند قوله: وحرم في نقد وطعام ربا فضل ونساء؛ أي وحرم كتابا وسنة وإجماعا، وصح رجوع ابن عباس عن [إباحة]

(1)

، ربا الفضل لقوله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده وقال: هم سواء)

(2)

في نقد ذهب أو فضة، من أي نوع مضروب أو غيره أو طعام ومصلحه ربا فضل أي زيادة ونساء أي تأخير، لكن ربا الفضل يمتنع فيما اتحد جنسه من النقد واتحد من الطعام الربوي، ولا بأس به في مختلف الجنس فيهما يدا

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الخرشي ج 5 ص 36.

(2)

مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1598.

ص: 155

بيد، وربا النساء يحرم في النقود والطعام ولو جنسين أو غير ربويين، فكلام المؤلف هنا مجمل ويأتي تفصيله في باب الربويات، وأن هذا كالترجمة لما بعده. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: ولما ذكر أركان البيع وشروطه وموانعه العامة شرع في موانع خاصة ببعض أنواعه، منها الربا مقصور وهو ربا فضل أي زيادة وربا نساء بالمد أي تأخير، فقال: وحرم في نقد وطعام ربا فضل ونساء، ودليل الحرمة في النقد خبر: (لا تُشِفُّوا الذهبَ والفضة

(1)

) بضم المثناة فوق وكسر المعجمة أي لا تفضلوا، وخبر: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، بالمد أشهر من قصره، وبهمزة مفتوحة حالة المد وتكسر في لغة، وكررها لأنها من جانبي المتبايعين؛ أي خذ وخذ، وهو اسم فعل وأصله هاك أبدلت الكاف همزة، ودليل الحرمة فيه وفي الطعام ومصلحه خبر: (الذهبُ بالذهب والفضة بالفضة والبُرُّ بالبُرِّ والشعيرُ بالشعير والتمرُ بالتمر والملحُ بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد

(2)

). انتهى. قوله: مثلا بمثل، الظاهر أنه حال وسواء بسواء تأكيد لد وخبر المبتدأ المجرور بالباء في المواطن أو محذوف أي جاز مثلا، وقوله: يدا بيد حال أيضا ويحتمل أن تكون المثلية بالنسبة للموزون والمساواة بالنسبة للمكيل، فلا توكيد على هذا. وقوله: فإذا اختلفت هذه الأجناس أي مع الاتفاق في عِلّية الربا كالطعمية في المطعومات والثمنية أو غلبتها في النقود، فلا يرد أن الخبر يوهم قصر جواز بيع الطعام كالبر بالذهب أو الفضة على كونه يدا بيد، لكونه ذكر اسم الإشارة بعد الجمل التي قدمها، وقيد الجواز بكونه يدا بيد مع أن الإجماع قام على جواز بيع الطعام بالنقد ولو غير يد بيد، وقد مر أن قوله: نقد، عام في أنواع الذهب والفضة، فيحرم ذلك في التبر والمصوغ والمسكوك والمكسور، وقوله: ربا فضل، المراد بالفضل زيادة القدر لا زيادة الصفة، فلا تحرم. وللشيخ علي الأجهوري:

ربا نَسَإ في النقد حَرِّمْ ومثلُه

طعامٌ وإن جنساهما قد تعددا

وخُصَّ رِبًا فضلٍ بنقد ومثلُه

طعامُ رِبًا إن جنسُ كل تَوَحَّدا

(1)

انظر مسلم، رقم الحديث 2177.

(2)

مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1587.

ص: 156

وبين ابن عرفة حقيقة الطعام بقوله: ما غلب اتخاذه لأكل الآدمي أو لإصلاحه أو شربه انتهى. فالذي غلب اتخاذه لأكل الآدمي كالقمح، والذي غلب لإصلاحه كالفلفل، وخرج الزعفران فإنه وإن كان مصلحا لكنه لم يغلب في ذلك، ودخل بقوله: شربه اللبنُ وخرج عنه الماء، فإنه لم يغلب لشرب الآدمي، وخرج ما اتخذ للدواء، والعلةُ في تحريم الربا في النقدين الثمنيةُ، وهل المعتبر في ذلك كونهما ثمنين في كل الأمصار أو جلها، أو في كل الأعصار فتكون العلة بحسب ذلك قاصرة عليهما، أو المعتبر مطلق الثمنية فتكون متعدية إلى غيرهما في ذلك خلاف في جريان الربا في الفلوس إذا بيع بعضها ببعض أو بذهب أو بورق. انتهى. نقله الشيخ أبو علي. وفي الإرشاد: والمنصوص كراهة التفاضل والنساء في الفلوس؛ وفي التفريع: ويكره صرف الفلوس إلى أجل وبيع بعضها ببعض متفاضلا حين كان يتعامل بها، فأما في وقتنا هذا فهي كالعروض. وفي التلقين: والتفاضل في الفلوس إذا حصل التعامل بها ممنوع وهو في الحقيقة منع كراهة لا منع تحريم. انتهى. نقله الرهوني. وجعلها ابن عرفة في تعريفه للصرف كالعين، فقال معرفا له: بيع الذهب بالفضة أو أحدهما بفلوس. انتهى المراد منه. وقال الغزالي من جملة كلام له في الدنانير والدراهم: خلق الله الدراهم والدنانير حاكمين متوسطين بين سائر الأموال، فيقال: هذا الجمل يساوي مائة دينار، وإنما قدر بهما لأنه لا غرض في أعيانهما، فمن ملكهما كأنه ملك الأشياء كلها، فالنقد لا غرض فيه وهو وسيلة لكل غرض، فالدنانير والدراهم بهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما، وهما محتاج إليهما من حيث إن الناس محتاجون إليهما لذوات كثيرة. انتهى المراد منه. وسيأتي قول المص: علة طعام الربا لخ.

لا دينارٌ ودرهم أو غيره بمثلهما، قوله: لا دينار بالرفع عطف على مقدر؛ أي يجوز ما تحقق خلوه من قسمي الربا لا دينار ودرهم لخ، ومعنى كلامه أنه لا يجوز بيع دينار ودرهم بدينار ودرهم مثلهما لعدم تحقق المماثلة باحتمال كثرة الرغبة في أحد الدينارين أو الدرهمين فيقابله من الجهة الأخرى أكثر من دينار أو درهم فتقع المفاضلة؛ لأن الجهل بالتماثل كتحقق التفاضل. قاله

ص: 157

التتائي. فالفضل المتوهم كالفضل المتحقق، فقد أناطوا الحكم هنا بالوهم، وهو يقتضي الجواز عند تحقق انتفاء الفضل، وما في عبارة بعضهم: الشك في التماثل كتحقق التفاضل، أراد به مطلق التردد فيشمل الوهم لا حقيقة الشك فقط، وكذلك لا يجوز بيع دينار وشاة بدينار وشاة مثلا؛ فالدينار مثلا هو أحد الطرفين وقد صاحبه درهم أو شاة أو ثوب مثلا، والضمير في غيره للدرهم، وهذا الذي شرحت به المص هو على نسخة أو غيره، وأما على نسخة الواو فتكون الواو في قوله ودرهم بمعنى أو، والمعنى عليها لا يجوز دينار أو درهم وغيره بمثلهما أي بمثل الدرهم وغيره في صورة، ومثل الدينار وغيره في صورة ويدخل في عموم غيره دينار ودرهم بمثلهما. والله سبحانه أعلم. الباجي: منع مالك والشافعي بيع دينار وثوب بدينارين لما فيه من التفاضل بين الذهبين؛ لأن السلعة تقسط مع دينارها على الدينارين فيصيب كل دينار نصف دينار ونصف السلعة، وربما كان الثوب أكثر قيمة من الدينار أو أقل، فيقابل أكثر الدينارين أو أقلهما، ويقال: بل الدينار الذي مع الثوب أقل أو أكثر، ولهذا منعه الشافعي: وإن لم يقل بالذرائع.

وهذه المسألة تعرف بمد عجوة؛ لأنها تفرض فيمن باع مد عجوة ودرهما بدرهمين، وجوزها أبو حنيفة بل أجاز بيع مائة دينار في قرطاس بمائتي دينار ويحتسب بالقرطاس في مائة دينار، وأجاز الشافعي مائة دينار ودرهم بمائة دينار ودرهم. انتهى. وهذه الأخيرة عن الشافعي غير المتقدمة عنه التي منعها كما لا يخفى. قاله عبد الباقي. وفي بعض النسخ: كدينار أو درهم وغيره بمثلهما بجر دينار بالكاف وعطف درهم بأو وعطف غيره بالواو، فضمير مثلهما يعود على دينار وغيره في صورة، وعلى درهم وغيره في أخرى، والكاف للتمثيل على هذه النسخة كما للخرشي. تنبيهات: الأول: قول المص: وحرم في نقد وطعام لخ، علم منه أن غير النقد والطعام لا يدخله ربا الفضل والنساء وهو كذلك، وفي حديث مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين. قال القرطبي: فيه دليل على جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلا نقدا وهذا لا يختلف فيه، وذلك في سائر الأشياء ما عدا ما يحرم التفاضل في نقده من الربويات. انتهى.

ص: 158

الثَّاني: اعلم أنه ورد في الربا من الإيذان بحرب من الله ورسوله فيمن لم يتركه ما لم يرد في غيره قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ولهذا قال القائل:

ولم يجئ في سائر الذنوب

ما جاء في الربا من الحروب

الثالث: الربا مقصور من ربا يربوا فيكتب بالألف وتثنيته رِبَوان، وأجاز الكوفيون كتابته وتثنيته بالياء بسبب الكسرة في أوله، وغلطهم البصريون. قال العلماء: وقد كتبوه في المصحف بالواو، فقيل: لأن أصله الواو، وقال الفراء: إنما كتبوه بالواو لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من الحيرة ولغتهم الربوا فعلموهم صورة الخط على لغتهم، وكذا قرأها أبو سمال العدوي بالواو وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة بسبب كسرة الراء، وقرأ الباقون بالتفخيم لفتحة الباء، ويجوز كتابته بالألف والواو، والرماء بفتح الراء والمد هو الربا. قاله في النهاية. وكذا الربية بضم الراء والتخفيف لغة في الربا، وأصل الربا الزيادة، يقال: ربا فلان يربو إذا زاد. واختلف في ضبط قراءة العدوي، فقيل: بفتح الباء وقيل بضمها. قاله الحطاب.

فائدة: قوله في الحديث (لا تشفوا بعضها على بعض) هو بضم التاء وكسر الشين المعجمة أي لا تفضلوا، والشف بكسر الشين الزيادة، ويطلق على النقصان فهو من الأضداد. قاله الحطاب. وفي كتاب الآجال من المدونة: ولا بأس أن تبيع عبدك بعشرة دنانير من رجل على أن يبيعك الرجل عبده بعشرين دينارا أو بعشرة دنانير؛ لأن المالين مقاصة، فأما إن شرطا إخراج المالين أو أضمرا إضمارا يكون كالشرط عندهما لم يجز، ثم إن أرادا بعد الشرط أن يدعا

(1)

التناقد لم يجز.

ومؤخر، معطوف على قوله: لا دينار؛ أي بسبب حرمة ربا الفضل حرم ما تقدم، وبسبب حرمة ربا النساء يحرم ما تأخر فيه أحد النقدين. قاله الحطاب. ولو قريبا أو غلبة؛ يعني أنه يحرم الصرف المؤخر ولو كان التأخير منهما أو من أحدهما قريبا، أو كان غلبة كما لو كان عليه قفل وعسر فتحه، قال عبد الباقي: وحرم صرف مؤخر ولو كان التأخير منهما أو من أحدهما قريبا

(1)

في الأصل يدع والمثبت من الحطاب ج 5 ص 99.

ص: 159

مع فرقة بدن، وفسد العقد إن دخلا عليه لو في البعض، ولو لم يتأخر شيء أو دخلا على التناجز وأخرا اختيارا ولو البعض كاضطرار في العوضين كما أشار إليه بقوله: أو غلبة لا في بعض أحدهما فيمضي ما وقع فيه التناجز، واختلف في مضي ما وقع فيه التأخير، فتأمل تلك الأقسام الأربعة. قاله عبد الباقي. قال بناني: هي التأخير القريب اختيارا في الكل أو في البعض والتأخير غلبة في الكل أو في البعض. انتهى. وقوله: ولو قريبا، إنما يحمل على مفارقة المجلس قبل التقابض لقول سند: إذا تصارفا في مجلس وتقابضا في مجلس آخر فالمشهور منع ذلك على الإطلاق، وقيل: يجوز فيما قرب. انتهى. فلم يذكر الخلاف إلا في المفارقة للمجلس وقال ابن الحاجب: والمفارقة تمنع المناجزة، وقيل: إلا القريبة. ومقتضى كلام بناني أن هذا إنما هو في المفارقة اليسيرة التي ليست لسبب يعود بإصلاح على العقد. وأما المفارقة اليسيرة بسبب يعود بإصلاح على العقد كما لو فارقه الحانوت والحانوتين لتقليب ما أخذه أو كان التأخير يسيرا ولم تحصل مفارقة كأن تصرف دينارا من صيرفي فيدخله تابوته ثم يخرج الدراهم فإن هاتين الصورتين فيهما قولان، مذهب المدونة الكراهة ومذهب الموازية والعتبية الجواز، فلا يصح حمل كلام المص على ما يشملهما لعدم وجود قول بالمنع فيهما كما في الحطاب، خلافا لما يفيده كلام التوضيح. انتهى. قاله محمد بن الحسن. وقول عبد الباقي: ولو كان التأخير منهما أو من أحدهما قريبا، قال الرهوني: يقتضي أن مقابل لو في الصورتين معا وهو خلاف ما صرح به ابن ناجي في شرح المدونة عند قوله: ومن لقي رجلا عنده دراهم فواجبه عليها ثم مضى معه إلى الصيارفة ليتناقدا لم يجز، فإنه قال: أراد بقوله: فواجبه عليها، عقد معه الصرف فقط ثم مضيا إلى الصيارفة فتناقدا معا فتبطله التفرقة إجماعا؛ صرح به المازري، ففرق بين التفرقة قبل قبض أحد العوضين أو بعد حصول أحدهما، فالأول تبطله التفرقة إجماعا والثاني فيه قول باعتبار المفارقة القريبة لنقل ابن شأس وابن الحاجب. انتهى. وقوله: أو غلبة، عطف على قريبا فيفيد أن الخلاف في البعيد والقريب مع الغلبة. انظر حاشية الشيخ بناني. قال عبد الباقي: وظاهر قوله: ولو قريبا يشمل القيام للحانوت والحانوتين للوزن والتقليب بعد القبض، ونحوه للخمي لأنه بمثابة ما لو دخل على عدم انبرام العقد، وعلى هذا فلابد من تقليبه قبل ذلك، وعند ابن رشد أن المفارقة للتقليب

ص: 160

غير مضرة، وكره في المدونة إدخال صيرفي دينارا أعطي له في تابوته أو يخلطه ثم يخرج الفضة ولكن يدعه حتى يزن الفضة فيأخذ ويعطي، وأبقى أبو الحسن الكراهة على بابها. انتهى. وقد مر عن بناني أن هاتين الصورتين لا يصح شمول المص لهما لعدم وجود قول فيهما بالمنع. راجع ما مر قريبا. وقوله: ونحوه للخمي، قال بناني: هذه النسبة للخمي أصلها في التوضيح، واعترضه الحطاب بأن اللخمي إنما ذكر في التأخير القريب بعد القبض أو قبله قولين، الكراهة والتخفيف. انتهى. وقال الحطاب مفسرا لقوله: أو غلبة، سواء غلبا معا على التأخير كما لو غشيهما ليل أو حال بينهما سيل، أو غلب عليه أحدهما بسبب هروب صاحبه منه، ولو كان قاصدا بهروبه فسخَ العقد، وهذا أحد قولين. وقال الباجي: إنه الظاهر من المذهب، والثاني: أنه لا يفسخ وهو لمالك. ورجح ابن يونس هذا القول. وقال: الصواب أن لا يفسخ. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: وشمل قوله: ومؤخر، هروبهما أو أحدهما لقصد نقض الصرف، وحكى بعضهم في هروب أحدهما قولين في فساده في الجميع، وصحته في الجميع وحكى الرجراجي قولا ببطلانه فيما بقي بعد الهروب وصحته فيما وقع فيه الهروب فقط، ولعل وجهه مع جمع الصفقة حلالا وحراما حينئذ معاملته بنقيض قصده، وهذا إذا قامت قرينة على قصده ذلك، فإن قامت على أن هروبه لغيره فسخ العقد كإن شك فيما يظهر لاحتماله لما يُمنع قطعا، ولما يُمنع على أحد قولين. انتهى.

تنبيهات: الأول: ذكر ابن جماعة في باب المناجزة في الصرف أنه لا يجوز لمن باع طعاما بطعام أن يتشاغل المتبايعان ببيع آخر حتى يتناجزا لأنه كالصرف فإن تشاغلا ببيع آخر ولم يطل كان مكروها، وإن طال كان العقد الأول فاسدا نقله الحطاب.

الثاني: قال في المدونة: وإن صرفت من رجل دينارا بدراهم فلم يقبضها حتى أخذ سلعة بها أو قبضت منه نصفها وأخذت [بنصفها]

(1)

سلعة مكانك فذلك جائز، وإن ردت

(2)

السلعة بعيب رجعت بدينارك ولو صرفته منه بدراهم على أن تأخذ منه سمنا أو زيتا نقدا أو مؤجلا أو على أن تقبضها

(1)

في الأصل نفصها والمثبت من التهذيب ج 3 ص 107.

(2)

في التهذيب ج 3 ص 107 رددت.

ص: 161

ثم تشتري بها هذه السلعة فذلك جائز، وإن ردت

(1)

السلعة رجعت بدينارك لأن البيع إنما وقع بالسلعة واللفظ لغو، ومن باع من رجل دراهم بدنانير وقبض الدنانير ثم باعه بالدراهم عرضا جاز، بخلاف ما إذا أراد أن يصرف منه الدنانير بدراهم فإنه لا يجوز حتى يطول الفصل بين الصفقتين. انتهى. نقله الحطاب.

الثالث: إذا وقع التقابض في الصرف ثم أودع أحدهما ما قبضه عند الآخر لم يجز. قاله في رسم شك من سماع ابن القاسم. قال ابن رشد: إنما لم يجز ذلك لأنه آل إلى الصرف المؤخر فإنهما على القصد إلى ذلك، ولو صح ذلك منهما لم يكن عليهما في ذلك حرج، وقد أجاز ذلك ابن وهب في سماع أبي جعفر إذا طبع عليه وهو بعيد؛ لأن الطبع عليه لا يرفع التهمة. انتهى. ولو كان ذلك مما يعرف بعينه لجاز. ومعنى قولهم: يعرف بعينه، أن يكون الشيء إذا غيب عنك وأبدل لك عرفت أنه غير شيئك. قاله الحطاب.

الرابع: قال في رسم القبلة من سماع ابن القاسم: فإن انعقد بينهما الصرف على أن يتأخر منه شيء فسخ، وإن عقدا على المناجزة ثم أخر أحدهما صاحبه بشيء انتقض الصرف فيما وقعت فيه النظرة باتفاق، فإن كانت النظرة بأقل من صرف دينار انتقض صرف دينار، وإن كان في أكثر من صرف دينار انتقض صرف دينارين، وفي أكثر من صرف دينارين انتقض صرف ثلاثة، هكذا أبدا. وما وقع فيه التناجز على اختلاف فيه، وإن وقع على المناجزة ثم تأخر منه شيء بغلط أو سرقة أو نسيان مضى الصرف فيما وقع فيه التناجز باتفاق وفيما وقع فيه التأخير إن رضي الذي هو له بتركه على اختلاف فيه نقله الحطاب.

الخامس: قال في مختصر الوقار: ومن اصطرف فعجزت الدراهم درهما فلا يجوز للمصطرف أن يقرض الصيرفي درهما يتم به الصرف ويطالبه به دينا، ومن اصطرف دراهم وعجزت كسرا وأخره على الصيرفي ثم علم بمكروه ذلك فوهبه الصيرافي

(2)

ليجيز بذلك صرفه لم يجز ذلك، ولابد لهما أن يتناقضا الصرف ويرجع كل واحد منهما على صاحبه بمثل نقده، ومن اصطرف دراهم وعجزت

(1)

في التهذيب ج 3 ص 107 رددت.

(2)

في الحطاب ج 3 ص 105 ط دار الرضوان للصيرفي.

ص: 162

درهما فلا بأس أن يأخذ به ما أحب من طعام وإدام وعرض وغير ذلك معجلا قبل أن يفترقا، ولا بأس أن يأخذ ببعض ديناره بعد المصارفة ما أحب قبل قبض الدراهم قبل أن يفترقا إذا كان ذلك أقل من الثلث بما صرفه به وأدنى منه، ولا بأس أن يبيع الرجل الثوب معجلا بدينار إلى شهر، والدينار

(1)

بكذا وكذا درهما إلى شهرين؛ لأن البيع إنما وقع بالدراهم، ولا ينظر إلى قبح كلامهما إذا صح العمل بينهما، كما لا ينظر إلى حسن كلامهما إذا قبح العمل بينهما. انتهى.

السادس: قوله: أو غلبة قال الباجي: هو ظاهر المذهب، خلافا لما في الموازية والعتبية عن مالك، وقوله: لا دينار ودرهم لخ، راجع لقوله: ربا فضل، وقوله: ومؤخر، راجع لقوله: ونساء. قاله الخرشي. والله سبحانه أعلم.

السابع: قال الشيخ أبو علي: محصل كلام الناس بعد تأمله غاية أن المفارقة قبل التقابض مفسدة مطلقا، أما مع البعد فلا إشكال، وكذا مع القرب على المشهور، والطول في المجلس قبل التقابض وبعد العقد مفسد، ودُونَ الطول مكروه غير مفسد، والمفارقة مع القرب بعد التقابض للرؤية ونحوها جائزة، ذهبا معا أو أحدهما ومع الطول ممنوع، وإن كان كلام الطراز يدل على أن هذا غير ممنوع لأن العقد تم مع القبض، ولكن المفهوم من كلام المحققين هو المنع، وكأن ذلك لم يتم معه العقد إذ لا يتم إلا بالقبض الذي لا احتمال فيه بحسب الطاقة. انتهى.

الثامن: قال الشيخ أبو علي: وظهر أن قول المتن، أو غلبة، إنما هو في المؤخر لا فيما تناجزا فيه، وأما إن قبض أحد العوضين ولم يقبض الآخر فذلك بمنزلة عدم القبض. انتهى. وقد صرح ابن هارون بأن ما وقع فيه التقابض ماض اتفاقا. قاله الرهوني. قال: وهو ظاهر كلام عبد الباقي. والله سبحانه أعلم.

أو عقد ووكل في القبض، قال الخرشي: معطوف على مدخول لو، فهو منخرط في سلك الإغياء؛ أي وكذلك يبطل الصرف إذا تولى قبضه غير عاقده، بأن عقد شخص ووكل غيره في القبض، وعكسه بأن يوكل في العقد ويتولى القبض؛ لأن الشرط في صحة الصرف أن يكون العاقد هو

(1)

هامش بخط المؤلف: أل للعهد أي ذلك الدينار.

ص: 163

القابض؛ لأنهم أجروا التوكيل مظنة التأخير، فأجروا عليه حكمه، ومحل المنع ما لم يقبض الوكيل بحضرة الموكل وإلا جاز على الراجح، وما في الشامل من المنع مطلقا مشكل، وظاهر المؤلف يشمل ما إذا كان الوكيل شريكا للموكل فيما وقع فيه الصرف، فيمنع إن لم يقبض بحضرة الموكل وإلا جاز. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال مالك: إن وكلت رجلا يصرف لك دينارا فلما صرفه أتيته قبل أن يقبض فأمرك بالقبض وقام يذهب فلا خير فيه. قال مالك: فلا يصلح للرجل أن يصرف ثم يوكل من يقبض له ولكن يوكل من يصرف له ويقبض. انتهى. وقال عبد الباقي: وعطف على مدخول لو قوله: أو عقد ووكل في القبض؛ أي وكذا يبطل الصرف إذا تولى قبضه غير عاقده وكالة عنه لأن التوكيل مظنة التأخير إلا أن يقبض الوكيل بحضرة الموكل فيجوز على الراجح خلافا لتشهير الشامل المنع، وعكس المص في الصورة وكل في العقد وقبض الموكل كَهُو في الحكم والقيد جار فيه، وظاهر المص يشمل ما إذا كان الوكيل شريكا للموكل فيما وقع فيه الصرف فيمنع إن لم يقبض بحضرة الموكل وإلا جاز وهو المعتمد من أقوال.

تتمة: سئلتُ عمن يدفع لرجل دينارا ليشتري له به سلعة ثمنها الدينار أو صرفه فهل للرجل أخذ الدينار وشراء السلعة من عنده بفضة قدر صرف الدينار؟ فأجبتُ: بأن ظاهر قول المص: ومؤخر، المنع وكذا قوله: أو غاب نقد أحدهما وطال مع عدم تعاقده مع صاحب الدينار على الصرف، وإن لم يحصل للموكل من ذلك ضرر، وعرضته على علي الأجهوري فاستحسنه، وقال: هو الأحوط في الدين، وإن كان ظاهر ما في الوكالة يفيد عدم المنع حيث لا نقص في السلعة على الموكل. انتهى كلام عبد الباقي. قوله: إلا أن يقبض الوكيل لخ، قال الرهوني: بهذا جزم ابن رشد في المقدمات وابن هارون في اختصار المتيطية، وقال ابن بشير: يكره. انتهى. وقول عبد الباقي: فأجبت بأن ظاهر قول المص لخ، قال بناني: ظاهره أنه لم يقف فيما سئل عنه على نص مع أن ذلك منصوص عليه بالجواز، لكن يجب عليه أن يعلم رب الدين بذلك فإن أجاز ذلك له وإلا دفع إليه الدراهم التي اشترى بها تلك السلعة وأخذ منه ديناره. قاله ابن رشد. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: ما نقله يفيد ما قاله عبد الباقي لا ما قاله هو. والله سبحانه أعلم. الرهوني: قد اقتصر ابن جماعة في مسألة الزرقاني على أنها حرام كما قاله شيخنا الجنوي. والله

ص: 164

أعلم. وقال الحطاب عند قوله "أو عقد ووكل في القبض": وظاهره ولو قبض الوكيل بحضرة العاقد وهو خلاف ما حكاه اللخمي وابن رشد عن المذهب وكذا ابن بشير، ولكنه قال: يكره. المازري عن ابن القاسم: لا خير فيه، أشهب: لا يفسخ إن وقع، ابن وهب: لا بأس به. وذكر الباجي هذه الأقوال في الحوالة. انتهى.

وقول عبد الباقي: وهو المعتمد من أقوال. قال الإمام الحطاب بعد جلب نقول: فَتَحَصَّلَ في المسألة ثلاثة أقوال أحدها: أنه يجوز أن يذهب ويوكل من يقبض له في المسألتين. والثاني: لا يجوز إلا أن يقبض بحضرته في المسألتين. والثالث: الفرق بين الذي يوكل أجنبيا فلا يجوز إلا أن يقبض بحضرته، وبين أن يوكل شريكه فيجوز أن يقبض بعد ذهابه. انتهى. والقول الأول رده المص بلو على هذا التقييد، لكن ظاهر المص المنع مطلقا، كما قاله أبو علي، فإنه قال: والحاصل أن الوكالة والحوالة والحمالة لا تجوز مطلقا بلا قيد أصلا، ولو بلا تأخير أصلا، هذا الذي يعتمد. انتهى المراد منه. وينبني على القول الثالث أنه لو حضر الوكيل والموكل العقد وعقدا جميعا فإنه يجوز أن يذهب الموكل ويأمر الوكيل بالقبض، لكن المشهور هو ما علمت من أنه لا فرق بين الأجنبي والشريك. والله سبحانه أعلم.

فرع: لا تجوز الحوالة في الصرف وإن قبض المحال من المحال عليه مكانه قبل مفارقة الذي أحاله على مذهب [ابن]

(1)

القاسم، خلافا لسحنون في إجازة ذلك إذا قبض المحال ما أحيل به مكانه قبل مفارقة الذي أحاله، ولا تجوز الحمالة في الصرف إلا أن تكون الحمالة بالدنانير إن استحقت الدراهم، أو بالدراهم إن استحقت الدنانير.

تنبيه: حكى ابن رشد الإجماع على منع الخيار الشرطي في الصرف وتعقب بحكاية غيره الخلاف، قال: وأما الخيار الحكمي ففي فساد الصرف فيه قولان، وينبني على ذلك مسائلُ: منها من وكل على صرف دنانير فصرفها من نفسه أو وكله شخص على صرف دنانير وآخر على صرف دراهم فصرف دراهم هذا بدنانير هذا. وقد حصل ابن رشد في المسألتين ثلاثة أقوال:

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 107.

ص: 165

الجواز فيهما، وعدمه فيهما، والجواز في الثانية دون الأولى، وعلى هذا الثالث اقتصر ابن جماعة. قاله الحطاب.

أو غاب نقد أحدهما وطال. معطوف أيضا على مدخول لو؛ يعني أنه يفسد الصرف إذا غاب نقد أحد المصطرفين عن مجلس العقد وطال ولم تحصل مفارقة أجسام، فإن لم يطل كما لو استقرضه من شخص بجانبه أو حل صرة لم يفسد مع الكراهة، وهذا لا ينافي ما مر من قوله: ولو قريبا؛ لأن ما مر حصلت معه مفارقة بدن منهما وما هنا لم تحصل مفارقة بدن فلذلك فسد مع الطول وصح وكره مع القرب. والله سبحانه أعلم.

أو نقداهما؛ يعني أنه يفسد الصرف إذا غاب النقدان عن مجلس العقد بأن لم يكن مع واحد منهما نقد وتصارفا ولو لم يحصل طولٌ ولا مفارقةٌ بأن استقرض كلٌّ ممن بجانبه. قال في المدونة: وإن اشتريت من رجل عشرين درهما بدينار وأنتما في مجلس واحد ثم استقرضت أنت دينارا من رجل إلى جانبك واستقرض هو الدراهم من رجل إلى جانبه فدفعت إليه الدينار وقبضت الدراهم فلا خير فيه، فلو كانت الدراهم معه واستقرضت أنت الدينار فإن كان أمرا قريبا كحل الصرة ولا تبعث وراءه ولا تقوم لذلك جاز ولم يجزه أشهب. انتهى. أبو الحسن: قوله: ولا خير فيه، معناه وهو حرام لأنهما دخلا على الفساد والغرر؛ إذ لا يدري كل واحد منهما هل يجد من يقرضه، فقد عرضا الصرف إلى التأخير، وقال أيضا في المسألة الثانية عن ابن يونس: وبَيِّنٌ أنَّ هذا إذا لم يعلم صاحب الدراهم أنه لا شيء عند صاحب الدينار وإلا فلا يجوز الصرف عند ابن القاسم وأشهب ونحوه للقابسي. وقال عياض: إذا كان السلف منهما جميعا كثر الغرر من الجهتين، وإن كان من الجهة الواحدة كان أقل خطرا، والغرر القليل مغتفر وقل ما تسلم منه البيوعات

(1)

انتهى. والحاصل: كما نقله ابن غازي عن ابن عبد السلام أنهما إن تسلفا معا اتفق ابن القاسم وأشهب على فساد الصرف، وظاهره طال أو لم يطل، وإن تسلف أحدهما وطال فكذلك، وإن لم يطل ففيه اختلاف بين ابن القاسم وأشهب؛ لأن تسلفهما معا مظنة التأخير بخلاف تسلف أحدهما فقط. انتهى. وقد مر قول ابن يونس: وبَيّنٌ أن هذا الخ، وقال في

(1)

في الأصل البيواعات والمثبت من التنبيهات ج 3 ص 1488 ط نجبيويه.

ص: 166

التوضيح: واختلاف الأشياخ في تسلف أحدهما مقيد بما إذا لم يعلم الذي عقد على ما عنده أن الآخر عَقَد على ما ليس عنده، وأما إن علم ذلك فيتفق على البطلان أو الخلاف مطلق علم أم لا طريقان نقلهما المازري. انتهى. وقوله: أو غاب نقدُ أحدهما وطال أو نقداهما، هذه المسألة تسمى مسألة الصرف على الذمة، وقوله الآتي: أو بدين مسألة صرف ما في الذمة.

تنبيه: حكى المازري أن مذهب الشافعي جواز الصرف مع غيبة أحد النقدين، وقال الطبري: أكثر أهل العلم على جواز عقد الصرف على الفضة والذهب الغائبين واستشهد لذلك بقضية عمر في صرف أبي طلحة رضوان الله عليهما. قاله الشيخ أبو علي. وصنيع المص صريح أو كالصريح في أن قوله: أو غاب نقد أحدهما وطال أو نقداهما، إنما هو على المشهور؛ وأما على مقابله فلا منع؛ وهو خلاف ما نقله أبو علي عن ابن الحاجب، فإنه قال: وعبارة ابن الحاجب في كلام المتن: وإذا تسلفا أو أحدهما وطال بطل اتفاقا، وإن لم يطل صح خلافا لأشهب. انتهى.

أو بمواعدة، قال الخرشي مفسرا للمص: أي وفسد عقد الصرف الناشئ عن مواعدة من غير إنشاء عقد، كاذهب بنا إلى السوق بدراهمك فإن كانت جيادا أخذتها منك كذا وكذا بدينار. قال فيها: ولكن يسير معه على غير مواعدة، وجَعْلُنَا الباءَ بمعنى عن متعلق بفسد وفاعله عقد الصرف أدَلُّ على المراد من تعلقها بحرم؛ إذ لا يلزم منه الفساد. وقال الشيخ أبو علي مفسرا للمص: أي وحرم الصرف بمواعدة، ومعناه أن يقول له: اذهب بنا إلى السوق بدراهمك فإن كانت جيادا أخذتها منك كذا وكذا درهما بدينار. انتهى. وقال ابن عاشر: ويظهر لي أنه معطوف على مسائل الخلاف قبله، فقتديره: أو كان التأخير بمواعدة. قال في التوضيح: في المواعدة على الصرف ثلاثة أقوال، الجواز والمنع والكراهة. والمنعُ ظاهرُ المذهب. ابن عبد السلام: وهو المشهور؛ لأن فيها: ولو قال له المبتاع: اذهب بنا إلى السوق بدراهمك فإن كانت جيادا أخذتها منك كذا وكذا درهما بدينار لم يجز ولكن يسير معه على غير مواعدة. انتهى. ونسب اللخمي الكراهة لمالك وابن القاسم، وصرح المازري بأنها المشهور من المذهب، والجواز لابن نافع وابن عبد الحكم، والمنع

ص: 167

لأصبغ. قال أصبغ: ويفسخ إن وقع. وقاله ابن القاسم في سماع أصبغ. واستحسن اللخمي الجواز. نقله الشيخ أبو علي. وقال المقري في قواعده:

قاعدة: أصل مالك منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية، ومن ثم منع مالك المواعدة في العدة، وعلى بيع الطعام قبل قبضه، ووقت نداء الجمعة، وعلى ما ليس عندك، وفي الصرف مشهورها المنع وثالثها الكراهة، وشهرت أيضا لجوازه في الحال وشبهت بعقد فيه تأخير، وفسرت به المدونة وهو في غاية الحسن والتحقيق. قاله الشيخ أبو علي. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: أو حصل التأخير بمواعدة أي سببها أي جعلاها عقدا لا يأتنفان غيره، كاذهب بنا إلى السوق بدراهمك لخ، قال الرهوني: فيه نظر وإفساد لكلام الأئمة، وإنما المراد المواعدة على حقيقتها إلى آخر كلامه، وأحسن ما قيل في ذلك ما مر عن المقري أنها شبهت بعقد فيه تأخير، وفسرت به المدونة. والله سبحانه أعلم. وقال المواق: قال ابن رشد: لا يجوز في الصرف مواعدة ولا كفالة ولا خيار ولا حوالة. قال ابن المواز: من اشترى سوارين ذهبا بدراهم على أن يريهما لأهله فإن أعجبهم رجع إليه فاستوجبهما وإلا ردهما فقد خففه مالك وكرهه أيضا، وبيع الحلي مزايدة منعه ابن عرفة، قال: على المعروف في الصرف بخيار. ولابن أبي زيد في أول مسألة من ترجمة المناجزة في الصرف ما يقتضي أن بيع الحلي مزايدة جائزٌ، راجعه فيه. انتهى المراد منه. أو بدين إن تأجل وإن من أحدهما، هذه المسألة تلقب بالصرف في الذمة وصورتها: أن يكون لأحدهما على الآخر دينار أو ديناران مثلا، والآخر عليه دراهم فيتطارحان ما في الذمتين، فإن كان ما في الذمتين مؤجلا أو ما في ذمة أحدهما لم يجز، وإن حلا معا جاز، وكذا إن كان الدين من جهة واحدة وأراد من عليه الدين أن يصارف صاحبه عليه جاز إن كان قد حل ودفع إليه الآخر العوض في ساعته قبل أن يفترقا. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وعطف على ما في حيز المبالغة قوله: أو بدين؛ أي حرم الصرف الواقع في دين إن تأجل عليهما بأن كان لأحدهما على الآخر دينار لأجل وللآخر عليه فضة لأجل فيتطارحان ما في ذمتهما

(1)

كل دينار بكذا، بل وإن كان المؤجل من أحدهما والآخر حالا؛ لأنه في المسألتين صرف مستأخر؛ ومفهوم الشرط جواز

(1)

في عبد الباقي ج 5 ص 43: ذمتيهما.

ص: 168

الحالَّين في ذمتهما لعدم التأخير، وإن سمي صرف ما في الذمة، ولا يسمى مقاصة لعدم اتحاد المصنف. انتهى. وقال في نقل المواق: حقيقة الصرف على الذمة هي مسألة الكتاب؛ يعني قول المص: أو غاب نقد أحدهما وطال أو نقداهما، وأما صرف ما في الذمة فهو أن يكون لك في ذمته ذهب وله في ذمتك فضة أو العكس فتصرفه منه بغير تأخير، فإن كان ما في الذمة حالًّا فالمشهور الجواز وإن كان ما في الذمة غير حالٍّ فالمشهور المنع. ابن رشد: ومن له على رجل ديناران فله أن يأخذ منه دينارا وصرف الدينار الآخر دراهم، وقوله: أو بدين لخ، لا فرق بين أن يكون الدين من بيع أو قرض كان الدين متعددا أو من جهة واحدة. المواق عن الباجي: لو كان لرجل على رجل دينار وللآخر عليه دراهم حالة جاز أن يتطارحاها صرفا. ابن عرفة: في جواز ذلك مطلقا ومنعه، ثالثها تجوز المقاصة إن حلا معا، وهذا القول الثالث هو المشهور. انتهى.

أو غاب رهن أو وديعة؛ يعني أن من ارتهن عينا أو أودِعها فلقي الراهن أو المودع والحال أن العين المرهونة والمودعة غائبة فإنه لا يصح الصرف في تلك العين الغائبة بأن يدفع المرتهن للراهن عنها ذهبا إن كانت فضة أو يدفع عنها فضة إن كانت ذهبا ويفسد ذلك الصرف إن وقع. قال عبد الباقي مفسرا للمص: أو أي وكذا يفسد عقد الصرف إذا تصارف مرتهن مع راهنه بعد وفاء الدين أو قبله حيث رضي بذلك، أو مودع بكسر مع مودع بالفتح وغاب رهن مصارف عليه أو وديعة كذلك عن مجلس الصرف، ولو شرط الضمان على المبتاع بمجرد العقد، خلافا للخمي. وأما إن كان الضمان على البائع فيمنع اتفاقا ونحوه للخرشي.

ولو سك؛ يعني أن الغائب عن المجلس من رهن أو وديعة يفسد الصرف الواقع فيه، ولا فرق بين أن يكون هذا الغائب مسكوكا وبين أن يكون غير مسكوك، وهذا هو المشهور، وأتى بلو لرد رواية محمد جواز صرف المرهون المسكوك الغائب عن المجلس، إما لحصول المناجزة بالقبول أو للالتفات إلى إمكان التعلق بالذمة، فأشبه المغصوب؛ إذ هو على الضمان إن لم تقم بينة. قاله الخرشي. ومفهوم: إن غاب أنه لو كان حاضرا في المجلس فلا منع وظاهر كلامه أنه لا خلاف في حرمة المصوغ وإنما الخلاف في المسكوك فقط. وليس كذلك بل الخلاف في الجميع كما في

ص: 169

التوضيح. قاله الخرشي. وقال بناني عند قوله: ولو سك: لا وجه لهذه المبالغة. الحطاب: ظاهر كلامه أن الخلاف إنما هو في المسكوكين لا في المصوغين وليس كذلك، بل الخلاف في الجميع كما في التوضيح عن الجواهر. انتهى. وقال الرهوني: قول بناني عن الحطاب: لا وجه لهذه المبالغة لخ، قلت: كلام ابن عرفة يفيد أن الخلاف في المصوغ ليس بمنصوص وإنما هو إلزام وتخريج انتهى المراد منه.

كمستأجَر؛ يعني أن العين المستأجرة حكمها حكم الوديعة فتمنع المصارفة عليها إن غابت عن مجلس الصرف وتجوز المصارفة عليها إن حضرت، قال المواق عن ابن شأس: المستأجر حكمه حكم الوديعة. وعارية؛ يعني أن العين المستعارة حكمها حكم العين المرهونة فيمنع الصرف فيها إن غابت عن مجلس الصرف، ويجوز الصرف فيها إن حضرت. قال المواق عن ابن شأس: قال القاضي أبو الوليد: العارية حكمها حكم الرهن. قال بعض المتأخرين: وهو ظاهر. انتهى.

وعلم مما قررت أن التشبيه في المنع إن غاب وفي الجواز إن حضر ولو تلف الرهن أو الوديعة ووجب عوضهما، فجاز الصرف على العوض وهذا داخل في مفهوم قوله: أو بدين إن تأجل لخ. تنبيه: قال الحطاب: وإنما فصَل المص المسألتين الأوليين عن الأخيرتين بالكاف ولم يعطفهما بالواو لأن الحكم في المسألتين الأوليين منصوص للمتقدمين، وأما الأخيرتان فألحقهما المتأخرون بهما، كما قاله في الجواهر، ونقله في التوضيح عنها. واعلم أن المسكوك لا تتصور فيه العارية ولا الإجارة لانقلابه قرضا في العارية ولعدم جواز إجارة المسكوك على المشهور، وعلى القول بإجازة إجارة المسكوك لا يتأتى هذا الفرغ أيضا لأنه يشترط ملازمة المالك له. والله تعالى أعلم. انظر الحطاب.

ومغصوب إن صيغ، هذا الشرط راجع للمغصوب فقط. وقوله: ومغصوب بالجر عطف على مستأجر؛ يعني أن المغصوب إذا كان مصوغا فإنه لا يجوز المصارفة عليه إن كان غائبا، وإن كان حاضرا جاز الصرف، فالكاف المقدرة في المعطوف للتشبيه في المنع في الغيبة، والجواز في الحضور. قال الحطاب: والمعنى أن المصوغ لا يجوز صرفه إذا كان غائبا عن مجلس الصرف، ومفهوم الشرط أنه لو كان مسكوكا جاز صرفه ولو كان غائبا، وهو كذلك على المشهور. قاله ابن الحاجب

ص: 170

وغيره. وفي معنى المسكوك ما لا يعرف بعينه من المكسور والتبر. قاله في التوضيح. انتهى. وقال عبد الباقي: ومغصوب بالجر داخل في المشبه، يحرم صرفه غائبا عن مجلس العقد لغاصبه أو لغيره إن صيغ كحلي، بخلاف مسكوك وتبر ومكسور، وكل ما لا يعرف بعينه فيجوز صرفه غائبا على المنصوص، وَالفَرْقُ أن المصوغ إذا هلك تلزم فيه القيمة لدخول الصنعة فيه، وقبل هلاكه يجب رد عينه، فيحتمل عند غيبته أنه هلك ولزمته قيمته وما يدفعه في صرفه قد يكون أقل أو أكثر فيؤدي إلى التفاضل، وأما غيره فبمجرد غصبه ترتب في ذمته فلا يدخل في صرفه في غيبته احتمال التفاضل، وهذا واضح في المسكوك بناء على أن الدنانير والدراهم لا تتعين، وإلا لكانت كالمصوغة. وقولي في المغصوب: غائبا عن مجلس العقد تحرز عن حضوره فيجوز لربه صرفه لغاصبه وكذا لغيره مقرا به وتأخذه الأحكام فيما يظهر. قاله علي الأجهوري. انتهى. قوله: بناء على أن الدنانير لخ، الجواب أنه وإن قلنا: إنها تتعين فهي مضمونة بوضع اليد عليها ولا تعرف بعينها فشابهت الدين المشهورَ جوازُ صرفه. قاله التوضيح عن ابن بشير. قال: ولا يريد ابن بشير أن كلا منهما علة مستقلة وإلا لزم جواز صرف المصوغ لتعلقه بالذمة بوضع اليد. انتهى. نقله الرهوني.

إلا أن يذهب فيضمن قيمتد فكالدين، يعنى أن ما مر من منع صرف المغصوب المصوغ إذا كان غائبا إنما هو إذا كان قائما: فإن ذهبت ولزمت الغاصب قيمته فإنه يجوز صرف القيمة حينئذ؛ لأنها كالدين أي الحالِّ لأنها لا تكون إلَّا حالَّةً، ما ذكره من لزوم القيمة إذا تلف الحلي المصوغ، قال في التوضيح: هو المشهور لأن المثلي إذا دخلته صنعة صار من المقومات، ومقابله يقول: إنما يلزمه مثله فتصح المصارفة على وزنه. والله أعلم. قاله الحطاب. وقال: فإن لم تذهب عين المغصوب بالكلية ولكنه تعيب عيبا يوجب الخيار لصاحبه في أخذه وتضمينه للغاصب القيمة، فيخير صاحبه فإن اختار أخذه جاز صرفه إن أحضره اتفاقا، وإن لم يحضره لم يجز صرفه على المشهور كما تقدم، وإن اختار تضمين الغاصب القيمة فهي دين في ذمة الغاصب فتجوز مصارفته عليها على المشهور. قاله في التوضيح. انتهى. وقوله: إلا أن يذهب لخ، هذا

ص: 171

الحكم جار فيما مر من قوله: أو غاب رهن أو وديعة ولو سك كمستأجر وعارية، فإذا تلف ذلك ولزم فيه العوض فإنه يجوز صرف ذلك العوض لأنه كالدين الحالِّ.

وبتصديق قيه. قال الخرشي: معطوف على نقد والباء للملابسة؛ أي وحرم الصرف حالة كونه متلبسا بتصديق [فيه

(1)

]، من وزن وعدد وجودة انتهى. والعلة فيه أنه يختبره بعد التفرق فقد يجده ناقصا أو رديا فيرجع به فيودي إلى صرف متأخر. انظر المواق. قاله بناني. وقال الحطاب مفسرا للمص: أي وكذلك لا يجوز الصرف بتصديق أحدهما الآخر في وزن أو صفة. وقيل: يجوز، وقال اللخمي: إن كان ثقة صادقا جاز التصديق وإلا فلا. وقيل: يكره، حكى الأربعة ابن عرفة. انتهى. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وحرم الصرف المتلبس بتصديق، فيه أي في وزنه أو عدده أو جودته. انتهى. قال عبد الباقي: وشبه في منع التصديق فروعا خمسة فقال: كمبادلة ربويين؛ يعني أنه لا يجوز التصديق في مبادلة ربويين من نقدين أو طعامين متحدي الجنس أو مختلفَيْه، فمعنى ربويين أنه يدخلهما الربا ولو نَساءً بيعا كيلا أو جزافا على كيل أو أحدهما مكيل والآخر جزاف على كيل، فيمنع التصديق فيه ليلا يوجد نقص فيدخل التفاضل أو التأخير، لا جزافين على غير كيل إذ لا يتصور فيهما تصديق. قاله عبد الباقي. وقال الرهوني عن ابن يونس: قال مالك وسحنون: لا يجوز التصديق في تبادل الطعامين أو الذهبين أو الفضتين، والعلة ما ذكره ابن حبيب أنهم لم يتناجزوا لأنه يختبر ذلك بعد التفرق. انتهى. وقال عبد الباقي: وإذا وقع التصديق في الصرف أو مبادلة ربويين ففي فسخ كلٍّ خلافٌ. فقال ابن رشد: لا يفسخ فيهما، وقال ابن يونس: يفسخ فيهما، ولو وجدهما كما ذكر نقله الحطاب. انتهى. وقال الحطاب: قال ابن رشد بعد أن ذكر الخلاف في التصديق في الصرف وفي مبادلة الطعامين: فإذا وقع لم ينفسخ للاختلاف الحاصل في ذلك، وهو خلاف ما ذكره ابن يونس أنه لابد من نقض الصرف وإن وجده كما ذكره، ونصه: ولا يجوز التصديق في الصرف ولا في بدل الطعامين. قال: ولا يجوز أن يصارفه سوارين على أن يصدقه في وزنهما وينقض الصرف، وإن افترقا ووجدهما كذلك فلابد أن ينقض، فلو وزنهما قبل التفرق فوجد نقصا فرضيه أو زيادة فتركها الآخر فذلك جائز. وقال

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الخرشي ج 5 ص 40.

ص: 172

أشهب: في افتراقهما على التصديق فيجد زيادة أو نقصا فترك الفضل من هو له جاز ذلك، وكذلك إن كانت دراهم فوجد فيها رديا أو دون ما قال من الوزن فتركه ولا يتبعه أن ذلك جائز. انتهى. وقوله: وبتصديق فيه كمبادلة ربويين، قال الشيخ أبو علي: قال الشارح في شامله: وبتصديق منهما أو من أحدهما في وزن أو صفة على المشهور كتصديق في مبادلة طعامين أو نقدين في كيل أو وزن أو عدد. انتهى بلفظه.

ومُقْرَض يعني أنه يحرم التصديق في الشيء المقرض بفتح الراء لاحتمال وجدان نقص فيغتفره المقترض لأجل حاجته، أو عوضا عن معروفه فيدخله السلف بزيادة، واعترض أبو علي هذا التعليل بأنه إنما يظهر في زيادة العدد أو الوزن لا في الصفة؛ إذ لا تضر زيادة الصفة إلا مع الشرط أو العادة، وأما رد القرض فلا يحرم التصديق فيه إن لم يكن معجلا قبل أجله. ومبيع لأجل يعني أنه يحرم التصديق في المبيع لأجل فإذا باعه صبرة من القمح بعشرة دنانير إلى شهر مثلا، وقال له: إنها وسق مثلا، فلا يجوز له أن يصدقه في ذلك، وقوله: ومقرض ومبيع لأجل، كان المقرض طعاما أو غيره، وكذلك المبيع لأجل فيمنع التصديق فيه طعاما كان أو غيره، فإن وقع التصديق في المقرض ففي فسخه وعدمه قولان، والأول ظاهر المدونة، ولو وقع التصديق في المبيع لأجل ففيه قولان أيضا بالفسخ وعدمه. قال عبد الباقي: الأشبه أن لا يفسخ على ظاهر المدونة. قاله عبد الباقي عن الأجهوري.

ورأس مال سلم؛ يعني أنه يحرم التصديق في رأس مال السلم، فإذا أسلم إليه دنانير أو دراهم أو غيرها في عرض لأجل فإنه لا يجوز التصديق في ذلك، وعلل عبد الباقي التصديق في هذا والمبيع لأجل بقوله: ليلا يغتفر آخذه نقصا فيه لأجل التأخير، ففيه أكل أموال الناس بالباطل. وقال عند قوله: ورأس مال سلم: وظاهر المص عجله قبل أجله المرخص له في تأخيره إليه يعني ثلاثة أيام أو دفعه في آخر جزء منه، وأبقاه على هذا الظاهر الشارح وغيره واحد، وحمله التتائي على ما إذا عجله قبل أجله المرخص له في تأخيره إليه، ولعله ليس للاحتراز عن آخر جزء منه، بل

ص: 173

لأنه محل توهم أن التصديق فيه في هذه الحالة جائز. انتهى. قال عبد الباقي: وينبغي جري الخلاف في رأس مال السلم إذا وقع التصديق فيه؛ يعني الخلاف المتقدم في المبيع لأجل.

ومعجل قبل أجله؛ يعني أنه لا يجوز التصديق في المعجل قبل أجله ليلا يغتفر نقصا يجده فيه فيصير سلفا جر نفعا لأن المعجل مسلف، قال عبد الباقي: واعترض المص بأن المعتمد جواز التصديق في رأس مال سلم، وعليه فانظر ما الفرق بينه وبين غيره مما ذكره المص؟ قال بناني عن المصطفى: واعلم أن هذه المسائل سردها المص في توضيحه كما سردها في مختصره من غير عزو ولا بيان الراجح، وقد علمت أن الراجح في رأس مال السلم الجواز، وفي مبادلة الطعام بالطعام لا ترجيح لأحدهما على الآخر. انتهى.

وبيع وصرف؛ يعني أنه يحرم اجتماع البيع والصرف في عقد واحد، وهذا هو المشهور خلافا لأشهب، قال في التوضيح: وعلى المشهور فإن وقع فقيل: هو كالعقود الفاسدة فيفسخ ولو مع الفوات؛ وقيل: من البياعات المكروهة فيفسخ مع القيام لا مع الفوات؛ ابن رشد: وهو المذهب ومثل الصرف المبادلة، وكذا لا يجتمع اثنان من العقود السبعة المجتمعة في قول الشيخ ميارة:

عقود منعنا اثنين منها بعقدة

لكون معانيها معا تتفرق

فجعل وصرف والمساقاة شركة

نكاح قراض قرض بيع محقق

وحكى ابن عرفة في اجتماع البيع والصرف ثلاثة أقوال، المنع، والجواز، والجواز بقيد التبعية في الدينار الواحد وهو المشهور، وقوله: وبيع وصرف، ظاهرة الفساد ولو لم يعلم المتبايعان بحرمة اجتماعهما وهو كذلك، مثال اجتماع البيع والصرف ثوب وديناران مثلا بمائتي درهم وصرف الدينار خمسون، واستثنى أهل المذهب صورتين من منع اجتماع البيع والصرف لليسارة، أولاهُمَا قوله:

إلا أن يكون الجميع دينارا؛ يعني أنه يجوز اجتماع البيع والصرف هذه الصورة، وهي أن يكون جميع المبيع من الذهب في الفضة والعرض دينارا، فإن ذلك يجوز لليسارة كشاة وخمسة

ص: 174

دراهم بدينار، فما قابل الدراهم من الدينار صرف، وما قابل الشاة منه بيع، وإذا كان الجميع دينارا جاز اجتماعهما، سواء كان الصرف تابعا أو متبوعا أو متساويين على الراجح. والثانية قوله: أو يجتمعا فيه؛ يعني أنه إذا اجتمع البيع والصرف في دينار فإن ذلك جائز ولو كان المبيع من الذهب أكثر من دينار، سواء كان الصرف تابعا كأن يشتري عشرة أثواب وعشرة دراهم بأحد عشر دينارا وصرف الدينار عشرون درهما، فلو ساوى الثياب مائتي درهم وأعطاه معها عشرين درهما منع لعدم اجتماع البيع والصرف في دينار، أو كان الصرف متبوعا كمائة درهم وخمسة دراهم وشاة بأحد عشر دينارا وصرف الدينار عشرة، وقال بناني عند قوله: أو يجتمعا فيه: بأن تكون الدراهم التي مع السلعة أقل من صرف دينار أو ثمن السلعة أقل من صرف دينار. انتهى. وقيل: لابد من تبعية البيع ولابد من وجود المناجزة في سلعة البيع والصرف في صورتي المص على المذهب خلافا للسيوري أن كلا يعطى حكمه. قاله عبد الباقي.

وسلعة بدينار إلا درهمين؛ يعني أن مما ينخرط في سلك البيع والصرف أن يتعاقدا على سلعة بدينار إلا درهما أو درهمين فيمنع ذلك. إن تأجل الجميع، الدينار من المشتري والسلعة والدرهمان من البائع؛ لأنه بيع وصرف تأخر عوضاه، ولأنه الدين بالدين، أو تأجلت السلعة من البائع دون النقدين، وتأجيل بعض السلعة كتأجيل كلها. وقوله: أو السلعة، هو المشهور خلافا لأشهب القائل بالجواز. وقوله: أو السلعة إلا إلى مثل خياطتها أو بعث من يأخذها وهي معينة فكتعجيلها. أو أحد النقدين؛ يعني أنه لو تأجل أحد النقدين فإن ذلك كتأجيل السلعة وكتأجيل الجميع فيفسد العقد لذلك، والمراد بالنقدين الذهب والفضة، فالذهب الدينار والفضة الدرهمان المستثنيان، ومثل تأجيل أحد النقدين تأجيل بعضه.

بخلاف تأجيلهما؛ يعني أنه لو تأجل النقدان وتعجلت السلعة فإن العقدة حينئذ تجوز لأن السلعة لا تعجلت وتأخر النقدان علم أن الصرف غير مقصود ليسارة الدرهمين، فلم يكن صرفا متأخرا، وأن البيع هو المقصود؛ لأن الاعتناء بتقديم المقدم يدل على أنه هو المقصود، ولا يرد على ذلك منع ما إذا تعجل النقدان وتأجلت السلعة؛ لأنها لما كانت كالجزء من النقدين فكأن تأجيلها

ص: 175

تأجيل لبعضهما ولو تقدما، وقوله: بخلاف تأجيلهما؛ أي بأجل، واحد فإن اختلف أجلهما امتنع؛ إذ هو بمنزلة تأجيل أحد النقدين؛ لأن أحدهما يعجل أولا فيصير الآخر مؤجلا فقط. قاله أحمد. قاله عبد الباقي.

أو تعجيل الجميع يعني أن من باع سلعة بدينار إلا درهمين يجوز ذلك إذا تعجل الجميع، بأن عجل صاحب الدينار ديناره وعجل له صاحب السلعة والدرهمين السلعة والدرهمين، وعلم من هذا أن هذه المسألة لها ست صور، الأولى: أن يتعاقدا على سلعة ودينار ويستثني صاحب الدينار درهما أو درهمين من ديناره، ومعنى هذا أن أحد العوضين سلعة ودرهم أو درهمان من جانب، والعوض الآخر دينار، ويتأجل الجميع، فتمنع العقدة بلا إشكال، لما فيه من المصرف المتأخر عوضاه، ولأنه الدين بالدين. ابن الحاجب: وتأجيل الجميع ممتنع. ابن شأس: لأنه الدين بالدين، وهذا القسم ظاهر، وإنما أتى به والله أعلم لبيان تتميم الصور. الثانية: أن تتأجل السلعة ويتعجل النقدان فالمنع، وهو مذهب المدونة، وأطلق رحمه الله المنع كظاهر المدونة، وقال في التوضيح: قيل: والمشهور فيما إذا تأجلت السلعة مقيد بما عدا التأخير اليسير. قال محمد: إلا أن يتأخر الثوب بمثل خياطته أو حتى يبعث في أخذه وهو بعينه فلا بأس به، وهذه المصورة الثانية خالف فيها أشهب فأجازها. المواق: من المدونة قال ابن القاسم: إن تناقدا الدينار والدرهم وتأخرت السلعة لم يصلح عند مالك. قال ابن المواز: إلا أن يتأخر الثوب لمثل خياطة أو حتى يبعث في أخذه وهو ثوب بعينه فلا بأس به. انتهى.

الثالثة: أن يتأجل الدينار ويتعجل الدرهمان أو الدرهم والسلعة، فيدفع أحدهما السلعة والدرهم أو الدرهمين لصاحبه، ويكون على الآخر دينار في ذمته. الرابعة: أن يتأجل الدرهمان أو الدرهم ويتعجل الدينار والسلعة، وتحقيق ذلك أن يدفع صاحب السلعةِ السلعةَ ويكون في ذمته درهم أو درهمان، ويأخذ من الآخر دينارا عاجلا، فالمنع في هاتين المصورتين بإجماع، وهما المشار إليهما بقول المص: أو أحد النقدين. قال المواق: ابن يونس: اختصارُ ما في المدونة إن كان أحد العينين مؤجلا لم يجز بإجماع لأنه الذهب بالورق إلى أجل. انتهى. ويأتي في مسألة الرد ما يخالف ما ذكره المواق من الإجماع.

ص: 176

الخامسة: أن يتأجل النقدان وتعجل السلعة وهذه جائز، قال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: إن تأخر الدينار والدرهم إلى أجل وعجلت السلعة فجائز. ابن الكاتب: فإذا حل الأجل لم يجز للبائع أن يدفع الدرهم ويأخذ الدينار، وإنما ينظر إلى صرف الدينار دراهم ثم يدفع إلى البائع باقيه. ابن يونس: ظاهر الكتاب أنه يجوز أن يدفع الدرهم ويأخذ الدينار. وفي الحطاب: أن هذا هو ظاهر المدونة عند الأكثر، وصرح المازري بمشهوريته. السادسة: أن يتعجل الجميع، وهذه جائزة بالأولى من تعجيل السلعة فقط، وإنما ذكرها تتميما لصور المسألة، وقد مر أن المستثنى درهم أو درهمان، فلو كان المستثنى ثلاثة أو أكثر فهو من جملة ما اجتمع فيه البيع والصرف في دينار، فيجوز مع التعجيل للجميع لا إن لم يتعجل البعض أو الكل، وحاصل ما مر أن هذه المسألة من أفراد قوله: إلا أن يكون الجميع دينارا، وذلك لابد فيه من تعجيل الجميع، إلا أنهم هنا أجازوا العقد إذا تعجلت السلعة وتأجل غيرها ليسارة الدرهمين، فكأن البيع هو المقصود بدليل تعجيل السلعة وتأجيل غيرها، ولو كان المستثنى ثلاثة دراهم فأكثر رجع إلى الأصل فلابد من تعجيل الجميع.

تنبيهات: الأول: إذا وجد في الدرهمين عيب فهل يجوز البدل أو لابد من نقض الصفقة، في ذلك قولان. ابن عرفة: لو وجد بالدرهمين عيبا ففي جواز البدل ونقض الجميع نقل اللخمي مع الصقلي عن مالك ورواية ابن وهب، وعزا الباجي الأول لرواية ابن القاسم، ولم يحك ابن محرز غير الأول، وعزاه لمحمد، وزاد: لأن الصرف تبع ولو كثر الدراهم انتقض في الجميع. نقله الرهوني. الثاني: قوله وسلعة بدينار إلا درهمين إلى آخره، هذه المسألة من فروع البيع والصرف كما مر التنبيه عليه، وإنما خصها بالذكر لأنهم جوزوا فيها ما لم يجوزوه في مسألة البيع والصرف، وذلك أنهم أجازوا أن يتقدم السلعة ويتأخر النقدان، كما أشار المؤلف إلى ذلك بقوله: بخلاف تأجيلهما لأن الدخول هنا على البيع، والصرفُ غير مقصود، بخلاف البيع والصرف فإنهما مقصودان، وقوله: إلا درهمين، بيان لليسير الذي اغتفر معه تأجيل النقدين في هذه

ص: 177

المسألة، فلو كان المستثنى ثلاثة دراهم أو أكثر رجع إلى البيع والصرف ولم يجز ذلك إلا مع تعجيل الجميع. قاله في المدونة.

الثالث: لو تعددت الدنانير، والدراهم على حالها، لكان الحكم كما تقدم، كما لو اشترى سلعة بدينارين إلا درهمين، أو بثلاثة دنانير أو بأربعة دنانير إلا درهمين، فإن تأجلت الدنانير والدرهمان جاز إلى آخر ما تقدم نظيره. انظر الحطاب. وقد مر أن تأجيل بعض السلعة كتأجيلها كلها، وأن تأجيل بعض أحد النقدين كتأجيله كله. والله سبحانه أعلم. الرابع: فهم من قوله: إلا درهمين، أنه لو استثنى صاحب الدينار من ديناره جزءا شائعا لم يكن الحكم كذلك وهو كذلك، قال فيها: ولو ابتاعها بخمسة دنانير إلا ربعا أو سدسا جاز تعجيل أربعة وتأخير الدينار الباقي حتى يأتيك بخمس أو ربع وتدفع إليه الدينار، وكذلك إن تأخرت الأربعة ودفع دينارا أو أخذ سدسه أو ربعه فلا بأس به. انتهى المراد منه.

الخامس: قال في المدونة: وإن ابتعت سلعة بنصف دينار أو ثلث أو ربع وقع البيع على الذهب وتدفع إليه ما تراضيتما عليه، فإن تشاححتما قضي عليك في جزء الدينار بدراهم بصرف يوم القضاء لا يوم التبايع. قال اللخمي: وإذا باع سلعة بنصف دينار أو بدينار فوهب له نصفه لم يحكم على الغريم فيه إلا بدراهم بصرف يوم القضاء، إلا أن يشاء الغريم أن يأتي بدينار فيكونان شريكين فيه: فلا يكون للطالب في ذلك مقال لأن دفع الدراهم من حق الغريم لا عليه. قاله الحطاب.

السادس: لو باعه السلعة بنصف دينار فلم يقبضه حتى باعه سلعة أخرى بنصف دينار لكان الحكم للطالب بدينار صحيح. قاله في رسم تأخير صلاة العشاء من كتاب الصرف. ونقله اللخمي عن الموازية. ابن رشد: وهذا كما قال لأنه إنما قضي لمن وجب له نصف دينار بصرفه من الدراهم من أجل أن الدينار القائم لا ينقسم. فإذا وجب له نصفان أعطاه دينارا كما ثبت له في ذمته إذا كان موسرا ولو كان معسرا وأتاه بنصف دينار لجبر على أن يأخذه ويتبعه بالنصف الآخر، ولم يكن له أن يقول: أنا أؤخره حتى يوسر فيعطي دينارا، ولو باعه بدينار قائم فأتاه بنصف دينار دراهم وهو معسر فأبى أن يأخذ، وقال: أنا أنظره حتى يوسر فآخذ منه دينارا لكان له ذلك،

ص: 178

بخلاف ما إذا كان له ديناران فأتاه بأحدهما فأبى أن يأخذه فإنه يجبر على أخذه. انتهى. نقله الحطاب. وقال: قلتُ: ولا يفهم من قوله فيما إذا كان له عليه دينار وهو معسر فجاء بنصفه دراهم: إنه لا يجبر على ذلك أنه يجوز برضاه أن يصارفه على الدينار بدراهم يأتيه بها مفرقة، وإنما ذلك إذا كان يصارفه بما جاء من الدراهم على جزء من الدينار. انتهى.

كدراهم من دنانير بالمقاصة ولم يفضل شيء، اعلم أن هذه المسألة على ثلاثة أقسام، أن تتعدد الدنانير والدراهم المستثنيات من الدنانير تعددا يحصل معه صرف دينار فأكثر، ولم يفضل شيء من الدراهم عن صرف الدينار واحدا أو أكثر، أو يفضل درهم أو درهمان أو يفضل أكثر من ذلك دون صرف الدينار، والكلام الآن في القسم الأول وهو: ما إذا لم يفضل شيء، وصورة كلام المص هنا أنه يجوز للشخص أن يشتري سلعا بدنانير يستثني من كل دينار درهما حيث دخل المتبايعان على المقاصة، بمعنى أنه كلما اجتمع من الدراهم قدر دينار تقاصا فيه أي أسقطا ما يقابله من الدنانير، مثال ذلك: أن يشتري منه عشرين سلعة كل سلعة بدينار إلا درهما أو درهمين، واتفقا على أن صرف الدينار عشرون درهما واشترطا المقاصة فكأنهما دخلا على أن الثمن تسعة عشر دينارا أو ثمانية عشر دينارا، فيجوز البيع نقدا أو مؤجلا إلا إذا تأجل الجميع فيمنع للدين بالدين، وفي هذا المثال لم يفضل شيء. وأشار للقسم الثاني بقوله:

وفي الدرهمين كذلك؛ يعني أنهما إذا دخلا على المقاصة وفضل بعدها درهم أو درهمان فإن الحكم في المسألة كذلك أي كمسألة سلعة بدينار إلا درهمين، فيمنع إن تأجل الجميع أو السلعة أو أحد النقدين، بخلاف تأجيلهما أو تعجيل الجميع، مثال ذلك أن يشتري منه عشرين سلعة كل سلعة بدينار إلا درهما وعشر درهم أو درهما ونصف عشر درهم وصرف الدينار عشرون، فمجموع المستثنيات اثنان وعشرون درهما أو واحد وعشرون درهما، فيسقط منها لأجل المقاصة عشرون درهما، ويفضل درهمان أو درهم، ويصير كأنه باعه عشرين سلعة بتسعة عشر دينار إلا درهمين أو إلا درهما، فهذه بعينها هي مسألة سلعة بدينار إلا درهمين فيفصل فيها تفصيلها. قاله عبد الباقي. أي لأنه لا فرق بين تعدد السلعة واتحادها. وأشار للقسم الثالث بقوله:

ص: 179

وفي أكثر كالبيع والصرف؛ يعني أن الحكم في فضل أكثر من درهمين مما لم يبلغ صرف الدينار كمسألة البيع والصرف؛ أي من أفراد قوله: إلا أن يكون الجميع دينارا أو يجتمعا فيه فيجوز العقد إن تعجل الجميع وإن تأجل شيء من الجميع فسد العقد كله، ومفهوم قوله: بالمقاصة أنهما لو شرطا نفي المقاصة أو سكتا عنها لفسد العقد في الأقسام الثلاثة كلها. والله سبحانه أعلم. وقولي أول الحل: تعددا يحصل معه صرف دينار لخ، تحرز عما لو كانت الدراهم المستثنيات أقل من صرف دينار، والحكم في ذلك أنه إن كان المستثنى درهما أو درهمين فقد قدمه المص بقوله: وسلعة بدينار إلا درهمين؛ إذ لا فرق بين تعدد السلع واتحادها، وإن كان المستثنى أكثر من ذلك ولم يبلغ صرف دينار فهو قوله: إلا أن يجتمعا فيه، فيجوز العقد إن تعجل الجميع وإن تأجل شيء من الجميع فسد، ولا معنى لاشتراط المقاصة بالمعنى المذكور هنا، ولا لاشتراط نفيها. والله سبحانه أعلم. أي فالحكم في كذه الحالة على ما ذكر مطلقا، اشترط نفيها أو سكت عنها، أو دخلا عليها، وقد علمت أن ذلك لا معنى له. والله أعلم. وحاصل قوله: كدراهم من دنانير لخ: أنه من أفراد قوله: إلا أن يجتمعا فيه، إلا أنه إذا كان المستثنى درهما أو درهمين كان موافقا لمسألة سلعة بدينار إلا درهمين في الحكم، فإن كان أكثر من ذلك دون صرف دينار رجع إلى الأصل، فلابد من تعجيل الجميع، فإن كان صرف دينار فأكثر فإن دخلا على المقاصة ولم يفضل شيء صار بيعا محضا، فإن فضل درهم أو درهمان فأجْرِه على مسألة سلعة بدينار إلا درهمين، فإن فضل أكثر دون حرف دينار رجع إلى الأصل، فلابد من تعجيل الجميع.

وصائغ يعطى الزنة والأجرة؛ يعني أنه تحرم معاقدة صائغ على أن يعطى زنة المصوغ ويزاد على الزنة الأجرة: أتي أجرة الصياغة، وهذا صادق بصورتين إحداهما: أن يشتري من صائغ قطعة فضة بوزنها دراهم، ويدفع له الفضة يصوغها ويزيده الأجرة. الثانية: أن يراطله الشيء المصوغ بجنسه ويزيده الأجرة، والحكم في الأولى المنع وإن لم يزده الأجرة لما فيها من ربا النساء إن لم يزده، وهو وربا الفضل إن زاده الأجرة، والحكم في الثانية الجواز إن لم يزده الأجرة، فلو وقع الشراء بنقد مخالف لنقد الصائغ جنسا كشراء فضة منه بذهب أو عكسه امتنعت الصورة الأولى للنساء، وجازت الثانية لاختلاف الجنس وكونه يدا بيد، قال في الواضحة: ولا ينبغي لصائغ

ص: 180

وسكاك أن يعمل لك إلا فضتك أو ذهبك، وإما عمل أهل السكة في جمعهم ذهبَ الناسِ فإذا فرغت أعطى كل واحد بقدر ذهبه وقد عرفوا ما يخرج من ذلك فلا يجوز، هكذا قال من لقيت من أصحاب مالك. وذكر في التوضيح فيما إذا عرفوا لما يخرج من ذلك بعد التصفية وحققوه قولين بالجواز وعدمه. انتهى. وصوب ابن يونس الأول. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب عن ابن عرفة: ولا يجوز للشخص أن يراطل الصائغ الفضة ثم يدفعها إليه في المجلس ولو لم يذكر له أنه يريد صوغها حتى يفترقا ويبعد ما بين ذلكَ. انتهى.

كزيتون وأجرته لمعصرة يعني أنه يمنع أن يدفع الشخص لأهل المعصرة زيتونا وأجرة عصره ويأخذ منهم قدر ما يخرج منه زيتا. فقوله: معصرة بفتح الميم وآخره تاء وهو على حذف مضاف كما قررت أي لأهل المعصرة، أو بضم الميم من أعصر وآخره هاء الضمير عائد على الزيتون، وذلك ممنوع ولو لم يختلف خروجه لعدم تحقق المماثلة إن كان يوفيه من زيت حاضر عنده، وإلا فالمنع لا ذكر وللنسيئة، واعلم أن المنع حاصل وإن لم يزده الأجرة. والله سبحانه أعلم. فلا مفهوم لقوله: وأجرته، ومثل الزيتون الجلجلان وبزر الفجل وبزر الكتان والقصب ونحو ذلك. ابن عرفة: وفي جواز جمع حبوب ذوات زيت لناس شتى بعد معرفة ما لكل منهم ثم يقسم زيته على أقدارهم سماع ابن القاسم في كتاب الشركة، وقول سحنون: لا خير فيه، مع قول ابن حبيب: سألت عنه من لقيته من المدنيين والمصريين؟ فلم يرخصوه. قلت: يتفق اليوم على المنع لكثرة المعاصر، ويستخف جمع ما لا يمكن عصره لقلته مع اتحاد أرض الزيتون. انتهى. وكذا اختلف في خلط لبن لناس شتى وقسم جبنه، فمنعه الحفار وأجازه ابن لب للضرورة بشرط أن يكال كل يوم، وأما إذا كيل أول يوم واستمر على ذلك كل يوم فيمنع لكثرة الغرر، وحكي عن الشاطبي الجواز مطلقا وليس بظاهر، والظاهر أن السمن كالجبن. قاله عبد الباقي. وقال: وأما دفع قمح ليأخذ قدر ما يخرج منه دقيقا فإن كان في ذلك تأخير أو دفع له أجرة أمتنع كما يقع بمصر، وإلا فينبغي أن يجري فيه الخلاف المذكور هنا، ونص ابن عرفة فيه وفي جواز جمع حبوب ذوات زيت لخ ما مر، وفي كلام عبد الباقي هذا نظر ظاهر؛ لأن المسألتين متباينتان. قال بناني: مسألة

ص: 181

الخلاف المذكور بعيدة من هذه جدا والظاهر أن مسألة القمح كمسألة الزيتون لا فرق بينهما. انتهى. ويأتي للمص "وجاز قمح بدقيق وهل إن وزنا" لخ، وليست هي هذه لأن هذه يأخذه بقدر ما يخرج منه قمحا وهذا ظاهر. وقال المواق عند قوله: كزيتون وأجرته لمعصرة: ابن شأس: ينخرط في هذا السلك دار المعاصر يأتيها من معه زيتون فيقدر قدر ما يخرج فيأخذه زيتا ويعطيهم الأجرة، وفي ذلك قولان سببهما القياس على الرخص. انتهى المراد منه:

بخلاف تبر يعطيه المسافر وأجرته دار الضرب ليأخذ زنته؛ يعني أن هذه الصورة تخالف ما مر من المنع فيما قبلها فإنها جائزة، وهي أن يدفع المسافر ذهبا أو فضة ولو كان ذلك مسكوكا سكة لا تروج لأهل دار الضرب أي السكة، ويأخذ منهم عاجلا زنة ما دفعه إليهم ويزيدهم أجرة الضرب لحاجته إلى الرحيل، وظاهره وإن لم تشتد. ابن حبيب: لا يجوز ذلك. وقاله من لقيته من أصحاب مالك. ابن رشد: والصواب لا يجوز إلا لخوف النفس المبيح لأكل الميتة. وإلى تصويب ابن رشد أشار بقوله:

والإظهر خلافه، محمد روى أشهب: إنما كان هذا حين كان الذهب لا نقش فيه والسكة واحدة، واليوم وكل بلد سكة زالت الضرورة فلا يجوز.

وعلم مما قررت أنه لا مفهوم لقوله: تبر، فلا فرق بين التبر والمسكوك الذي لا يروج بمحل الحاجة والمصوغ وغير ذلك، فيجوز دفع ما ذكر لأهل دار الضرب ليأخذ زنته مضروبا ويزيد الأجرة على القول الأول، وعلم مما مر أن محل الخلاف في غير الضرر المبلغ للموت، وفي شرح عبد الباقي عند قوله: والأظهر خلافه: ولو اشتدت حاجته إن لم يخف على نفسه الهلاك، وأبيح له أكل الميتة، وإلا جاز كما في ابن رشد. وكذا يقال في قوله: كزيتون لخ، والظاهر جواز فعل ذلك لحاضر مع المسافر المذكور. وقوله: دار الضرب، انظر لو فعل ذلك مع غير أهل دار الضرب هل يجوز أم لا؟ وبخلاف درهم بنصف وفلوس أو غيره. قوله: وبخلاف عطف على بخلاف، وهذه المسألة تعرف بمسألة الرد في الدرهم، وهي مستثناة للضرورة من منع التفاضل المعنوي المشار إليه بقوله قبل "لا دينار ودرهم أو غيره بمثلهما" ومعنى كلامه أنه يجوز إعطاء درهم لشخص على أن يأخذ منه نصف درهم ويأخذ منه في النصف الآخر فلوسا أو غيرها

ص: 182

كطعام، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وبخلاف إعطاء درهم شرعي أو ما يروج رواجه زاد وزنه عنه أو نقص كثمن رئال؛ إذ ليس عندنا بمصر درهم شرعي يتعامل به في شراء الحاجة بنصف أو

(1)

ما يروج رواج النصف زاد وزنه عنه أو نقص وفلوس أي يدفعه له ليأخذ بنصفه فضة وبباقيه فلوسا أو غيره أي غير الفلوس. انتهى. نحو قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} . كلحم أو طعام أو غيرهما، قال عبد الباقي: ويجوز ذلك بسبعة شروط عند المص تبعا للمتأخرين كابن أبي زمنين، وإلا فالأصل المنع في الرد في الدرهم لكونه بيع بعضه ببعض مع أحدهما سلعة. أولها: كون المدفوع درهما لا أزيد. وثانيها: كون المردود نصفه فأقل ليعلم أن الشراء هو المقصود، وإليهما أشار بقوله: درهم بنصف، فإن كان المردود أكثر من نصف لم يجز. ولثالثها: بقوله:

في بيع، لذات أو منفعة، لكن في بيع المنفعة لا يجوز إلا إذا دفع الدرهم بعد استيفاء المنفعة، كأن يواجره بدرهم صغير على أن يخصف له نعلا أو يخيط له ثوبا أو غير ذلك، فلما تم العمل طلبه بدرهمه الصغير فيقول له: ليس عندي درهم صغير فيدفع إليه المصانع صغيرا، ويأخذ منه كبيرا بثمن الكبير -أي التام- الدرهمَ الصغيرَ الذي هو نصف درهم تام وما استوفاه من عمل الأجير حيث لم يكونا دخلا على ذلك في أصل العقد، انظر شرح الشيخ أبي علي. وإنما اشترط في بيع المنفعة أن يكون ذلك بعد استيفاء العمل لأن من الشروط أن ينتقد الجميع وذلك لا يكون إلا بعد استيفاء المنفعة، فلو أعطى شخص نعلا مثلا لمن يخصفها واتفقا على ذلك بدرهم صغير يدفعه الصانع لرب النعل ويعطي رب النعل درهما كبيرا للصانع ويترك عنده شيئه حتى يستوفي عمله لم يجز لأنه تأخير في بيع الفضة بالفضة. واحترز بالبيع عن القرض والصدقة والهبة فلا يجوز ما ذكر في القرض. قال عبد الباقي: كأن يدفع له عن درهم عنده نصف درهم وعرضا مثلا عند الاقتضاء. ومثاله عند الدفع أن يدفع شخص لآخر درهما وهو يريد أن يقرض نصف درهم على أن يرد نصفه الآن فضة أو غير ذلك ويكون الباقي في ذمته لوقت يتراضيان عليه، ومثال الصدقة أي

(1)

كذا والذي في عبد الباقي ج 5 ص 47: أي.

ص: 183

والهبة أن يدفع لآخر درهما على أن يكون له نصفه صدقة ويدفع نصفه فضة. انتهى. قوله: كأن يدفع له عن درهم عنده نصف درهم وعرضا لخ، قال بناني: الظاهر أن هذا بيع وحكمه الجواز، والذي مثل [به

(1)

] لمواق للاقتضاء أن يعطي من في ذمته نصف درهم درهما ويرد عليه الآخر نصفا. انتهى. الرهوني: الذي في المواق عن القباب: ومنع إذا أسلفه ثلثي درهم أن يأتيه بدرهم صحيح فيعطيه بباقيه فضة، ومثله في ابن يونس عن المستخرجة، وهو لو كان إنما أسلفه ثلثي درهم فرد عليه درهما ودفع إليه المسلم ثلث درهم لم يجز. انتهى. الرهوني: قول المص: في بيع، ظاهر في أن البيع انعقد على ذلك، كأن يتفق شخص مع جزار مثلا أن يعطيه درهما ويعطيه في نصفه أو ثلثه لحما وفي باقيه فضة، وهذه لا خلاف فيها عند من يجيز الرد في الدرهم، وهناك صورة أخرى أن يتقدم الشراء بنصف درهم أو ثلثيه ويأخذ اللحم مثلا ويذهب ثم يأتي بدرهم يدفعه للبائع ويرد عليه ما فضل عما كان بذمته فضة، وهذه حكى فيها ابن عرفة قولين، وتبعه ابن ناجي في شرح المدونة، ومسألة الرد في الدرهم كان مالك يقول بكراهتها ثم خفف لضرورة الناس، وبما رجع إليه أخذ ابن القاسم وهو المشهور من المذهب، ومنع من ذلك سحنون، وفصل أشهب فأجازه حيث لا فلوس ومنعه في بلد توجه فيه الفلوس، وهذه طريقة أكثر الشيوخ. قاله الحطاب. واحترز المص بقوله: درهم، عن الدينار فإنه يمنع الرد فيه، قال الشيخ أبو علي: هو متفق على منع الرد فيه. وقال الحطاب: قال ابن عرفة بعد أن نقل منع الرد في الدينار. قلت: نقْلُ بعضهم جوازَ الرد في الدينار لا أعرفُه، ونقل عن بعض عدول بلدنا المدرسين فتواه به فبعث إليه القاضي ابن عبد السلام وأتاه يسأله عما نقل عنه ليؤنبه على ذلك، فأنكر فتواه بذلك. انتهى. قال الحطاب: وهذا في غير الدينار المشترك بين اثنين. قال ابن ناجي في شرح المدونة في مسألة الحلي المشترك: أفتى ابن عبد السلام بجواز رد الذهب في مثله للشريكين في دينار من قولها في الحلي من باب أحرى؛ لأن قطع الحلي يجوز بخلاف قطع الدينار، ونص على الجواز أبو حفص واللخمي. وأشَارَ إلى الشَرْطِ الرَّابع بقوله: وسكا؛ يعني أنه يشترط في جواز مسألة الرد في الدرهم أن يكون الدرهم والنصف أو ما دونه مسكوكين. وللخامس بقوله واتحدت، يعني أنه لابد أن

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من بنانى ج 5 ص 27.

ص: 184

تتحد سكة الدرهم وسكة النصف. قال عبد الباقي: وسكا أي المأخوذ والمردود، واتحدت سكة كل من الدرهم والنصف؛ أي تعومل بهما معا، وإن كان التعامل بأحدهما أكثر من الآخر احترازا من أن يدفع أو يرد عليه من سكة لا يتعامل بها، وليس المراد باتحادهما كونهما سكة سلطان وأحد أو مملكة واحدة، فإن ذلك غير شرط، ولو قال: وتعومل بهما كان أوضح. قاله عبد الباقي. وقال بناني عند قوله: وسكا واتحدت: ظاهرُ السماع وابن رشد وهو الذي يقتضيه ابن يونس إلغاءُ هذين القيدين. قاله ابن عرفة. انظر المواق. وإنما اشترطهما عياض. انتهى. قال الرهوني في قوله: وإنما اشترطهما عياض. فيه نظر من وجهين، أحدهما: أن عياضا لم يقله من عند نفسه بل نقله عن غيره. قال أبو الحسن: عياض: قال بعض الشيوخ: ولو كان الغالب في البلد المعاملة بالخراريب والدراهم الصغار لم يجز كما لو كانت سكتهم مكسورة، ثم قال: ولا يختلفون في هذا، ولقد سبقه لذلك اللخمي في تبصرته فإنه قال: ولو كان الذي يرجع إليه فيه غير مسكوك لم يجز. وقال ابن ناجي في شرح المدونة: وظاهر الكتاب أنه لا يشترط في الرد كونه غير مسكوك، وهو ظاهر قول ابن القاسم في العتبية، وهو خلاف نقل اللخمي عن المذهب. ثانيهما: أن كلامه يقتضي أن الخلاف الذي ذكره في سكة المردود عليه والمردود، وليس كذلك، بل محله سكة المردود، وأما سكة المردود عليه فلابد منها، وقد تقدم قول عياض: كما لو كانت سكتهم مكسورة، مع قوله: ولا يختلفون فيه. وسلمه أبو الحسن والقباب وغيرهما. وللسادس بقوله: وعرف الوزن؛ يعني أنه يشترط في مسألة الرد في الدرهم أن يعرف وزن الدرهم ووزن النصف. قال القباب: من شروط الرد معرفة الوزن وإلا كان بيع الفضة بالفضة جزافا ولا خفاء في منعه. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وعرف الوزن أي عرف أن هذا يروج بدرهم وهذا بنصف درهم، وإن اختلفا وزنا لم يضر، وكذا لو تفاوتا في الجودة لاسيما عند جهل الأوزان كما في بعض البلاد، هذا ما يفهم من آخر كلام الحطاب، قال: ولم يذكر ابن عرفة وغيره هذا الشرط والذي قبله انتهى. ونحوه في المواق كأنهما لم يرتضيا الشرطين. انتهى. قال الرهوني: المواق هنا سلم كلام المص ونقل عليه كلام القباب، نعم بحث فيه نقلا عن شيخه ابن سراج عند قوله قبل: كدينار ودرهم لخ،

ص: 185

فانظره. انتهى. ولقد صدق في أنه سلم كلام المص هنا. وقال الشيخ أبو علي بعد جلب نقول كثيرة: وحاصل نقول ابن ناجي والبرزلي أن المردود إذا كان يساوي نصف الدرهم المدفوع وزنا ورواجا فالجواز ولا إشكال، وإن كان يساويه رواجا وهوأكبر وزنا أو جهل وزنه فالراجح الجواز، وقد رأيت جواز الجهل في المقدار إذا عدم الميزان، وأما إن لم يعدم فلا يجوز إلا بعد المعرفة بالوزن، ثم يفصل فيه بما تقدم. انتهى؛ يعني والله سبحانه أعلم: فإن اتفقا وزنا ورواجا فالجواز ولا إشكال، وإن اتفقا رواجا اختلفا وزنا فالراجح الجواز ثم قال: وملخص هذا كله إن عدم الميزان جاز مع جهل القدر، وإن لم يعلم فلابد من المساواة في الرواج ولو كان أكثر وزنا من نصف الدرهم المدفوع، وظاهر نقول ابن ناجي والبرزلي أن تساوي النفاق كاف وإن مع وجود الميزان انتهى المراد منه. وللسابع بقوله:

وانتقد الجميع؛ يعني أنه لابد في مسألة الرد في الدرهم من انتقاد الجميع. أي الدرهم ومقابله. وقوله: كدينار إلا درهمين، معناه أنه إذا انتقد الجميع وحصل ما قبله من الشروط في مسألة الرد في الدرهم جازت كجواز مسألة سلعة بدينار إلا درهمين حيث انتقد الجميع. وقوله: وإلا؛ أي وإن لم يكن الانتقاد كالانتقاد للجميع في مسألة سلعة بدينار إلا درهمين بأن تأجل شيء من الدرهم ومقابله فلا يجوز ذلك العقد، وعدلت عن ظاهر المص، فإن ظاهره أنه إذا تأخر أحد النقدين يجري على الخلاف في مسألة الدرهم والدرهمين إذا تأخر أحد العينين، لتضافرهم أنه إن تأخر شيء من ذلك لم يجز. قال في التوضيح: الشرط الخامس أن ينقد الجميع وإن تأخر أحد النقدين جرى على الخلاف في مسألة الدرهم والدرهمين إذا تأخر أحد العينين انتهى. قال بناني: وهذا هو الذي أراد في مختصره، لكن قال مصطفى: لم أر كذا الإجراء لغيره لا في ابن عبد السلام ولا ابن عرفة ولا غيرهما، بل صرح ابن عرفة بشرط المناجزة في الرد، ولذا قال المواق: فإن تأخر شيء من ذلك لم يجز، وكان خليل غنيا عن الإتيان بمسألة الدينار إلا درهمين. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: إن كلام صاحب العيار أن التناجز هنا في الجميع مجمع عليه فإنه لم يفصل. انتهى. والفرق بين هذه ومسألة دينار إلا درهمين أن المردود والمردود عليه هنا من نوع

ص: 186

واحد، والمماثلة فيه واجبة بالسنة والإجماع، ووجود غيرهما معهما يمنع من تحقق المماثلة، بخلاف اجتماع البيع والصرف. قاله الرهوني وغيره. وقال عبد الباقي: وبما مر يعلم منع إعطاء قرش أو نصفه أو ربعه وأخذ نصفه فضة ونصفه سلعة، وكذا ما زاد على ثمن الرئال المقارب للدرهم الشرعي، لذكرهم هنا أن مسألة المص إنما أجيزت لاحتياج غالب الناس لذلك، بخلاف ربع القرش أو نصفه، نعم لو حصل البيع لسلعة ابتداء على قرش إلا نصفه أو ربعه مثلا لجاز ذلك. انتهى. قوله: وكذا ما زاد على ثمن الرئال لخ: قال: هو محترز قوله: درهم شرعي أو ما يروج رواجه، وهو يفيد أنه لا يجوز الرد في الرئال الكبير الرومي، وبهذا أفتى المعاصرون من أئمة فاس للشيخ الإمام أبي عبد الله القصار، وأفتى هو بالجواز، وبه العمل، قال أبو زيد في عملياته:

والردُّ في الرئال أفتى القصَّار

به ولكن ساعدتْه الأنظارْ

ولو وجد الدرهم أو المردود معيبا فلا يجوز البدل على قول ابن القاسم، وهل يجوز على مذهب أشهب؟ اختلف في ذلك.

تنبيه: قوله: كدينار إلا درهمين وإلا فلا، في نسخة ابن غازي: وإلا فلا كدينار ودرهمين، وهي صواب، ومعناها وإلا أي وإن لم تتوفر الشروط فلا يجوز كما لا يجوز الرد في دينار وهو محترز درهم ولا في درهمين وهو محترز درهم أيضا؛ أي كما لا يجوز الرد في أكثر من درهم كدرهمين مثلا. والله سبحانه أعلم.

وردت زيادة بعده لعيبه يعني أن من صرف من شخص دراهم بدنانير ثم زاد أحدهما صاحبه زيادة لأجل المصرف فإنه إذا وجد عيبا بالأصل ورده رد معه الزيادة، وإن وجد العيب بالزيادة وحدها فلا رد له، ولذا قال: لا لعيبها؛ أي لا يرد الزيادة لأجل عيبها مع سلامة الأصل. وقاله في المدونة. وظاهرها كانت الزيادة لاستصلاح العقد أم لا، وقال إسماعيل القاضي: إن كانت لاستصلاحه أبطلت الصرف وإلا فلا؛ قال الإمام الحطاب: فهم منه يعني من المص أنه لو لم يوجد عيب لصح الصرف؛ ولا يقال إن الزيادة لما كانت ملحقة بالعقد صارت كجزء من الصرف

ص: 187

تأخر فيفسد الصرف بتأخره؛ لأنها على مذهب المدونة هبة للصرف تبطل بالموت والفلس، وقال القاضي إسماعيل: إذا كانت الزيادة لإصلاح الصرف أبطلت الصرف. والله أعلم.

(وهل مطلقا) يعني أن الإمام مالكا قال في الموازية ما هو خلاف ما في المدونة بحسب الظاهر، وذلك أنه قال: إن الزيادة ترد لعيبها، واختلف الشيوخ هل ذلك محمول على الخلاف؟ وهو معنى قوله: وهل مطلقا؛ أي أن ما في المدونة مِنْ عدم الرد باق على إطلاقه فلا ترد الزيادة لعيبها مطلقا عينت أم لا، أوجبها الصيرفي على نفسه أم لا، أو هو محمول على الوفاق، وعليه فذهب القابسي وغيره أن محل عدم الرد حيث لم يوجب الصيرفي الزيادة على نفسه، وأما إن أوجبها على نفسه فترد الزيادة لعيبها. وهذا معنى قوله:

(أو إلا أن يوجبها) أي لا ترد الزيادة لعيبها إلا أن يوجبها الصيرفي على نفسه فترد. قال عبد الباقي: ومعنى إيجابها أن يعطيها له بعد قوله: نقصتني عن صرف الناس فزدني، وإن لم يقل له: نعم أزيدك، أو أن يقول له عقب قوله: عن صرف الناس: أنا أزيدك. وأولى إذا اجتمع طلب الزيادة مع قوله: أنا أزيدك وعدم إيجابها كأن يقتصر على دفعها عقب قول الآخر: نقصتني عن صرف الناس من غير نطق بطلب زيادة ولا نطق الآخر بأزيدك. فعلم من هذا أن ما في المدونة من عدم الرد محمول على ما إذا لم يوجب الزيادة وما في الموازية محمول على ما إذا أوجب الزيادة فيتفقان على عدم الرد فيما إذا لم يوجب الزيادة، وعلى رد الزيادة لعيبها إذا أوجبها، فيتفقان على ردها لعيبها ويبدلها ولا ينتقض الصرف، ومن الأشياخ من وفق بين المدونة والموازية بغير ذلك، وهو أن ما في المدونة من عدم الرد محمول على ما إذا عينت الزيادة، فقال له: أزيدك هذا الدرهم مثلا فلا رد له وإن كان زائفا؛ ويحمل ما في الموازية على ما إذا لم تعين الزيادة كأزيدك درهما فعليه فيتفقان على عدم الرد في المعين، وعلى الرد وأخذ البدل في غير المعين. وإلى هذا التأويل أشار بقوله:

أو إن عينت؛ عطف على قوله: مطلقا أي لا ترد الزيادة لعيبها إن عينت، فإن لم تعين ردت الزيادة لعيبها وأخذ بدلها، واعترض هذا التأويل بأن المدونة فيها: زاده درهما نقدا أو إلى أجل، والأجل ينافي التعيين. وأجيب: بحمل قوله: إلى أجل، أنه قال: تأتيني عند أجل كذا فجاءه

ص: 188

عند الأجل فأعطاه درهما فوجده معيبا، بخلاف قوله: أزيدك درهما، فإنه يحمل على الجيد. قاله الشيخ أبو علي. وقال: ولم أقف على ما هو الراجح في النازلة وإن كان ظاهر كلامهم هو رجحان ما صدر به المص، ولعله هو الذي تبع الفيشي ومن تبعه انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: وحق لتأويل الخلاف أن يكون راجحا لأنه هو ظاهر المدونة. والله سبحانه أعلم. وقوله: تأويلاتٌ، مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلات ثلاثة، الأول: تأويل الخلاف والأخيران تأويلا الوفاق.

فرع: قال في المسائل الملقوطة: لو قبض المشتري بعيرا فسرق فأعلم البائع فحط عنه بعض الثمن لأجل المصيبة ثم وجده رجع البائع بما وضع عنه لانتفاء السبب، وكذا لو حط عنه بسبب الخسارة فربح أو خشية الموت عن مرض حدث فعوفي، فإن جميع ذلك كالشرط، ولا تكلم على ما ينقض الصرف أتبعه بالكلام على ما يطرأ على الصرف من عيب أو استحقاق، فقال: وإن رضي بالحضرة بنقص وزن؛ يعني أنه إذا حصلت المناجزة بين المصطرفين في النقدين ثم إنه ظهر في النقدين أو في أحدهما نقص وزن فرضي به المصطرف بحضرة العقد فإنه يصح الصرف؛ لأن له أن يبيع به ابتداء، وجعل بعضهم موضع وزن قدر ليشمل الوزن والعدد وهو جيد.

أو بكرصاص بالحضرة؛ يعني أنه إذا تناجز المصطرفان في النقدين ثم إنه اطلع بحضرة العقد على أن العقود عليه أو بعضه رصاص أو نحاس أو حديد أو نحو ذلك فرضي به بالحضرة مَن دُفع له فإن المصرف يصح، ومعنى بحضرة العقد بقربه، والصواب حذف قوله: بالحضرة الآخرة؛ لأن قوله: بالحضرة الأولى، متعلق برضي فهو منسحب في الجميع. أو رضى بإتمامه؛ يعني أنه لو تناجز المصطرفان ثم اطلع على عيب في العوضين أو في أحدهما بحضرة العقد فرضي من دفع له العيب بإتمامه أي العقد بأن يكمل النقص أو يبدل الرصاص ونحوه وكان رضاه بذلك بالحضرة، فإن المصرف يصح مع إتمامه.

أو بمغشوش مطلقا؛ يعني أنه لو تناجز المصطرفان ثم اطلع على أن العقود عليه أو بعضه مغشوش فرضي به الآخذ بحضرة العقد فإن الصرف يصح، كما لو رضي بتبديله بالحضرة، كما قال المص:

ص: 189

أو رضي بإتمامه، ومعنى قوله: مطلقا، كان معينا من الجانبين أو من أحدهما أو غير معين، وليس هذا الإطلاق خاصا بالمغشوش. بل راجع لجميع ما سبق؛ هذا هو الصواب.

وعلم مما قررت أن قوله: صح، جواب الشرط أي قوله: وإن رضي، فهو راجع للمسائل الأربع. والله سبحانه أعلم. وفاعل صح ضمير يعود على الصرف.

وأجبر عليه إن لم يعين؛ يعني أنه إذا قلنا: إن الصرف يصح حيث حصل الرضى المذكور، فإن حصل التراضي على ذلك فالأمر ظاهر، وإن امتنع الآخذ من الرضى بالنقص وما في حكمه ولا طاع الآخر بإتمامه فإنه يجبر على إتمام العقد من أباه حيث لم تعين الدراهم والدنانير عند العقد، كأن يقول: بعني عشرة دنانير بمائة درهم، ومعنى إن لم يعين لم يقع العقد على عين كل من العوضين، أو لم يقع على عين ما وجد به العيب منهما، فمنطوق المص صادق بصورتين، وهما: إذا لم يعينا، أو عين السليم دون المعيب ومفهومه صادق بصورتين: أن يعينا عند العقد كهذا الدينار بهذه العشرين درهما، أو يعين ما وجد به العيب فقط فلا يجبر فيهما.

وإن طال نقص إن قام به، هذا مفهوم قوله: بالحضرة؛ يعني أنه إذا طال ما بين العقد والاطلاع ولو لم تحصل مفارقة أو حصلت مفارقة بدن ولو لم يحصل طول فإنه ينقض الصرف في جميع ما تقدم أن له الرضى به بحضرة العقد إن قام واجد العيب به أي بحقه في العيب، ومجرد القيام مبطل، كما هو ظاهره. وقاله أبو علي. خلاف ما يأتي عن عبد الباقي. ومفهوم الشرط عدم النقض إن لم يقم به في الجميع. قال عبد الباقي: وقول المص: إن قام به؛ أي وأخذ بدله بالفعل، وأما إن قام به بعد الطول فأرضاه بشيء ولم يبدله له فهو جائز، ولا ينقض الصرف. قاله في معين الحكام عن ابن المواز. والظاهر أنه إن قام به ولم يأخذ شيئا بل رضي به بلا شيء كذلك. انتهى. قوله: وأما إن قام به لخ، نحوه في المواق عن ابن المواز، وقال ابن عرفة: اللخمي: في جواز الصلح عن الزائف بعين أو عرض مطلقا أو حتى يتفاسخا قولا محمد وابن شعبان. قاله بناني. كنقص العدد، تشبيه في النقص مع الطول لا بقيد القيام؛ يعني أنه إذا اطلع على نقص العدد بعد طول أو مفارقة فإنه ينقض الصرف وإن لم يقم به. وقوله: كنقص العدد يسيرا كان أو كثيرا، وألحق اللخمي نقص الوزن فيما يتعامل به وزنا بنقص العدد.

ص: 190

وهل معين ما غش كذلك أو يجوز فيه البدل، يعني أن المعين من الجانبين أو من أحدهما المغشوش اختلف في حكمه إذا قام به مع الطول أو المفارقة هل هو كذلك ينقض أو يجوز فيه البدل في هذه الحالة بناء على أنها تتعين بالتعيين. قال المصنف: والفرق بين المعين وغيره أنهما في المعين افترقا وليس في ذمة أحدهما شيء لآخر فلم يزل مقبوضا إلى حين البدل بخلاف غير المعين فلم تزل ذمة كل منهما مشغولة. انتهى. في ذلك تردد، على حد سواء في المعين من الجانبين، وأما من أحدهما فالراجح النقض إن قام به وإلا فلا. قاله عبد الباقي. وقال أبو علي: إن الراجح أنه كذلك. وقال بناني في قوله: تردد؛ أي طريقان الأولى لابن الكاتب وعليها جل المتأخرين، والثانية للخمي وابن عبد الرحمن. وحاصل مسألة المص أن العيب إما نقص عدد أو وزن أو رصاص أو نحاس أو مغشوش، فإن اطلع على ذلك بحضرة العقد من غير مفارقة ولا طول جاز الرضى به، وبالبدل في الجميع، ويجبر على إتمام العقد من أباه منهما، إن لم تعين الدراهم أو الدنانير، فإن عينت فلا جبر، وإن اطلع على ذلك بعد مفارقة أو طول فإن رضي به صح في الجميع إلا في نقص العدد، فليس له الرضى به على المشهور، فلابد من نقضه سواء قام به أم لا؛ وألحق اللخمي به نقص الوزن فيما يتعامل به وزنا، وأما إن لم يرض به بل قام به فإنه ينقض في الجميع إلا في المغشوش المعين من الجانبين، فهل يجوز فيه البدل أو ينقض؟ تردد. قاله عبد الباقي. وقال أبو علي بعد جلب نقول: وملخَّصَه إن رضي بالحضرة بلا طول جاز الرضا بما وجد والبدل في الجميع، ويجبر على البدل آبيه إن لم يكن تعيين وإلا فلا جبر، وإن كان ذلك بعد الطول أو المفارقة ولم يقم صح في الجميع إلا في نقص العدد وما في معناه، وهو نقص الوزن حيث كان التعامل به، ولا فرق بين ما عين وغيره على المشهور، فالراجح كون المغشوش من المعين كغيره، وقوله: نقض، مجمل يأتي تفصيله في قوله:

وحيث نقض فأصغر دينار؛ يعني أنه لو وجد عيب في الدراهم المقابلة بالدنانير كنقص أو غش والسكة واحدة، وفي الدنانير صغير وكبير فإنما ينقض الصرف في مقابلة أصغر الدنانير. إلا أن يتعداه؛ يعني أن محل النقض في مقابلة الأصغر إنما هو حيث كان موجب النقض قدر الدينار

ص: 191

الأصغر فأقل ولو درهما، وأما إن تعداه ولو بدرهم فإنه ينقض دينار أَكبر منه، قال الخرشي مفسرا للمص: أي وحيث حصل النقض للصرف وكان في الدنانير الصغير والكبير، وكانت السكة متحدة في النفاق والرواج بدليل ما بعده، فينقض الصرف في الأصغر، ولا يتجاوز لأكبر منه إلا أن يكون موجب النقض تعدِى الصغيرَ ولو بدرهم فأكبر منه ينتقل النقض إليه وهكذا؛ لأن الدراهم المضروبة لا تقطع لأنه من الفساد في الأرض، ولا يجوز أن يصطلحا على إبقاء الأصغر ونقض الأكبر ويكمل له؛ لأن الصغير استحق النقض فيودي إلى بيع ذهب وفضة بذهب. انتهى. وقال عبد الباقي: وحيث نقض الصرف أي في بعضه لوجود نقص أو غش في بعض الدراهم وكان في الدنانير المقابلة للدراهم صغير وكبير فأصغر دينار ينقض صرفه، إلا أن يتعداه موجب النقض ولو بدرهم فأكثر منه ينقض صرفه وهكذا، ولا ينقض الصغير مع قطعة من الكبير بقدر ما يقابل النقص أو الغش الزائد على الصغير؛ لأن الدنانير المضروبة لا تقطع إذ هو من الفساد في الأرض، إلا لسبك كما قال فيما مر: لا كسر مسكوك إلا لسبك، ثم ما ذكره هنا في السكة المتحدة نفاقا اتحد صاحبها أو تعدد.

لا الجميع؛ يعني أنه إنما ينتقض الأصغر أو الأكبر على ما مر ولا ينقض الجميع، هذا هو المشهور، وعن ابن القاسم: ينقض الجميع بناء على مقابلة الأجزاء بالأجزاء أو المجموع بالمجموع، فإن وقع الصرف في تبر وشبهه ووجد عيب ببعضه أو ببعض الفضة نقض مقابله فقط، وإن وقع في مصوغ وتعدد نقض في الجميع المعيب وغيره وجد العيب ببعض المصوغ أو بثمنه إن اختلفت آحاد ذلك المصوغ اختلافا تختلف به الأغراض، فإن اختلفت دون ذلك نقض المقابل فقط إن كان العيب في الثمن، وهل كذا إن كان بالمصوغ نفسه أو ينقض الجميع، وصوبه الصقلي لأن تعلق الغرض به أقوى من تعلقه بثمنه خلاف. قاله عبد الباقي. فإن تساوت آحاده فسخ منه واحد فقط فيما يقابله من الدراهم الزائفة.

وهل الحكم المذكور وهو فسخ أصغر دينار إلا أن يتعداه فأكبر منه دون فسخ الجميع ولو لم يسم لكل دينار؛ أي سواء سمى عند العقد لكل دينار عددا من الدراهم أو لم يسم، أو إنما ذلك مع التسمية، وأما إن لم يسم فينتقض صرف الجميع، في ذلك تردد للمتأخرين في نقل المذهب، ولا

ص: 192

حاجة لذكره بل هو يشوش الفهم؛ لأن الراجح عند الطريقتين أنه إنما ينتقض في ذلك الأصغر، وذلك أن المص في التوضيح ذكر في ذلك طريقين، إحداهما: للمازري وابن عبد السلام أن المذهب اختلف هل ينقض جميع الصرف؟ أو إنما ينقض صرف أصغر دينار وهو المشهور، سواء سميا لكل دينار عددا أم لا. الثانية: للباجي أنه إن سميا لكل دينار شيئا فلا خلاف أنه إنما ينتقض صرف الدينار، وإن لم يسميا فقولان. والمشهور أنه لا ينقض إلا صرف دينار. انتهى. قال عبد الباقي: ويجاب عن المص بأنه يشير بالتردد للطرق وإن كان بعضها مشهورا. انتهى. وقال أبو علي: كلام المتن في غاية الحسن، صدر بالمذهب ثم ذكر مقابله، ثم بيَّن أن هذا القول المردود هل رده حتى في عدم التسمية؟ أو رده إنما هو في التسمية لا غير، وهذا غاية في التحقيق. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: ولقد صدق في أنه غاية في التحقيق وهو غاية في الحسن. والله تعالى أعلم.

تنبيه: جعل اللخمي محل هذا الخلاف إذا وقع الصرف على غير معين، وأما إن وقع على معين فإن قابل الزائف دينارا واحدا أو وجد العيب بدينار واحد فالاتفاق. قاله الشيخ أبو علي. وبهذا وبغيره مما مر تعلم أن قوله: وحيث نقض فأصغر دينار لخ، سائر في وجود العيب في الدنانير والدراهم، وقد نص الحطاب على ذلك.

وهل ينفسخ في السكك أعلاها أو الجميع قولان ما مر في السكة المتحدة. وهذا في المتعددة؛ يعني أنه اختلف على قولين فيما إذا اختلفت سكة الدنانير بالعلو والجودة ووجد عيب في الدراهم فقيل: ينقض الصرف في مقابلة الدينار الذي سكته أعلى وهو لأصبغ، وقيل: يبطل الصرف في الجميع الأعلى والأدنى وهو لسحنون، وظاهر كلام ابن يونس وابن رشد والباجي ترجيحه. انظر الحطاب. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وهل يفسخ الصرف لوجود نقص أو غش في السكك المختلفة بالعلو والدناءة أعلاها لأن العيب من جهة دافع الدراهم المردودة، فهو مدلس إن علم بالعيب، أو مقصر في الانتقاد إن لم يعلم، فأمر برد أجود ما في يديه من الدنانير، وعلى هذا القول فإن زاد ما به العيب من الدراهم عن صرف أعلاها وهناك متوسط كبير وأدنى صغير، فسخ المتوسط لأنه أعلى من الأدنى، أو يفسخ الجميع لاختلاف الأغراض في السكة المختلفة لا الأعلى

ص: 193

فقط قولان محلهما إن لم يشترط شيء وإلا عمل به. كذا ينبغي، ويجري مثله في قوله: وحيث نقض فأصغر دينار لخ، انتهى. وذكر الرهوني ما يفيد ترجيح القول الثاني الذي مر عن الحطاب ترجيحه.

وشرط البدل جنسية يعني أنه يشترط في البدل حيث أجيز أو وجب على ما مر في قوله: وأجبر عليه إن لم يعين الجنسية فلا يجوز أخذ قطعة ذهب بدل دراهم زائفة ولا عكسه؛ لأنه يؤدي إلى أخذ ذهب أو فضة عن ذهب، ولا أخذ عرض عنه لأنه يؤدي إلى دفع ذهب في فضة وعرض، إلا أن يكون العرض يسيرا يغتفر اجتماعه في البيع والصرف، ولا يشترط اتفاق الصنفية على المعتمد خلافا للشارح وأحمد، فيجوز أن يرد عن الدرهم الزائف أجود منه أو أردى أو أوزن أو أنقص؛ لأن البدل إنما يجوز بالحضرة، ويجوز فيها الرضى بأنقص أو أردى، والمراد بالجنسية النوعية كما عرفت من التقرير. قاله عبد الباقي.

وتعجيل يعني أنه يشترط في البدل أيضا التعجيل للسلامة من ربا النساء، وأجاز ذلك أشهب، قال: لأن هذا من رفع الخصومة والنزاع لا معاوضة حقيقة، ولا يرد على قول المص: جنسية، مسألة الطوق من الذهب المبيع بدراهم فوجد به عيب فصالح بائعه على دراهم نقدا فإنه جائز، كما في المدونة؛ لأنه صلح لا بدل: قاله عبد الباقي. وقال بناني: ولما ذكر ابن الحاجب الخلاف في البدل فرع على الجواز، فقال: وشرط البدل الجنسية والتعجيل خلافا لأشهب فيهما، قال ابن عرفة: هذا يقتضي منعه بعرض مطلقا وليس كذلك بل بشرط عدم يسارة العرض المعتبرة في البيع والصرف، ويقتضي عموم قول أشهب في الخصومة وغيرها وليس كذلك، بل بشرط الخصومة أو توقعها بقرينة. انتهى. وقول عبد الباقي: خلافا للشارح الذي منعه الشارح من اختلاف الصفة هو ما دار فيه الفضل من الجانبين لأنه مثل للممنوع بصرف دراهم متوسطة في الجودة، اطلع في بعضها على زائف وأخذ عنه درهما أجود وأنقص في القدر أو أدون في الصفة وأرجح في الوزن. انتهى. وقوله: ولا يرد على قول المص جنسيه لخ، محل الجواز إذا كان ذلك من السكة الأولى وإلا فلا يجوز كما في كلام المدونة الذي أشار إليه، وهو: إن ابتاع الطوق ذهبا فيه مائة دينار بألف درهم محمدية نقدا فوجدت به عيبا فصالحك عنه البائع على دينار نقدا جاز، وكأنه في

ص: 194

عقد البيع، وإن صالحك على مائة درهم محمدية من سكة الثمن فإن كانت نقدا جاز، وكأن البيع وقع بتسع مائة، وإن كانت إلى أجل [لم يجز

(1)

] لأنه بيع وسلف منك للبائع، وإن صالحك على مائة يزيدية من غير سكة الثمن أو على تبر فضة [لم يجز

(2)

] لأنه بيع ذهب وفضة [بفضة

(3)

]. انتهى. وتأمل كلامها يظهر لك أن علة الجواز كون اللاحق للعقود كالواقع فيها. فقول عبد الباقي: لأنه صلح لا بدل؛ غير صحيح. والله أعلم انتهى. قاله الرهوني.

وإن استحق معين سك بعد مفارقة أو طول أو مصوغ مطلقا نقض؛ يعني أن الصرف إذا كان بمسكوك من الجهتين أو من إحداهما وكان ذلك المسكوكَ معينا ثم استحق ذلك المسكوك المعين بعد أن افترق المتصارفان أو قبل أن يفترقا ولكن بعد طول المجلس طولا لا يصح معه الصرف، أو كان الصرف على مصوغ من الجهتين أو من إحداهما ثم استحق ذلك المصوغ مطلقا؛ أي سواء كان استحقاقه بحضرة العقد قبل المفارقة والطول أو بعد أحدهما أو بعدهما، فإن الصرف ينتقض في جميع ذلك، فأما إذا استحق المصوغ فالمذهب انتقاض الصرف كما ذكر، ولم أر فيه خلافا. قال ابن عبد السلام: لأن المصوغ مراد لعينه فينتقض البيع بسبب استحقاقه، فكيف بالصرف؟ وأما المسكوك المعين إذا استحق بعد المفارقة والطول فما ذكره المص من انتقاض الصرف صحيح، وهو المشهور عند ابن شأس وابن الحاجب وغيرهما، وظاهر كلام الرجراجي وابن الكاتب أنه منتقض بلا خلاف. وظاهر كلام المص أن الانتقاض معناه الفسخ وأنه لا يجوز البدل ولو رضيا بذلك. وهكذا قال الرجراجي. وقال اللخمي: يجوز البدل مع المراضاة ولو كان بعد الافتراق والطول. انتهى. قاله الحطاب. وقال الخرشي: وعلم مما قررنا أن قول المؤلف: معين، لا مفهوم له وإنما قيد به لأجل قوله: وهل إن تراضيا تردد، فإن التردد في المعين، وأما غير المعين فيجبر من أبى، والقول لمن طلب الإتمام من غير تردد. انتهى. وقال عبد الباقي: وإن استحق في الصرف معين عند العقد وكذا غيره على المعتمد، وإنما قيد به لأجل قوله: وهل إن تراضيا لخ؛ لأن التردد

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الرهوني ج 5 ص 109.

(2)

ساقطة من الأصل والمثبت من الرهوني ج 5 ص 109.

(3)

ساقطة من الأصل والمثبت من الرهوني ج 5 ص 109.

ص: 195

فيه؛ وأما غير المعين فيجبر الآبي لمن طلب الإتمام من غير تردد كما يأتي سك وكذا مكسور وتبر بعد مفارقة من أحدهما لمجلس الصرف أو بعد طول لمن غير افتراق بدن أو مصوغ مطلقا؛ أي حصلت مفارقة أو طول أم لا نقض الصرف، ووجه النقض مطلقا في المصوغ أنه يراد لعينه، فغيره لا يقوم مقامه. ولقائل أن يقول: كونُ غيره لا يقوم مقامه ظاهرٌ بالنسبة إلى عدم لزوم المستحق منه غيره، وأما إذا تراضيا بالحضرة على غيره فلم لا يقال بجوازه؟ وكأن الصرف وقع عليه. والجوابُ: أن أخذ العوض بعد استحقاق ما وقع عليه العقد بمثابة من عقد ووكل في القبض مع حضوره. انتهى. قول عبد الباقي: وكذا غيره على المعتمد لخ، ما ذكره من تسوية المعين بغيره في التفصيل هو مذهب ابن القاسم في المدونة، وخالفه أشهب فيها وسحنون، ففرقا بين المعين فينقض وغيره فلا ينقض، واختلف الشيوخ في فهمها

(1)

أعلى تأويلات:

أحدها: لابن رشد وابن يونس أن خلافهما فيما بعد الافتراق والطول ويتفقان على الصحة إذا استحق بالحضرة. الثاني: لابن الكاتب أن خلافهما فيما استحق بالحضرة، فعند ابن القاسم يصح مطلقا وعند أشهب ينقض في المعين ويصح في غيره، ويتفقان على النقض بعد الافتراق والطول مطلقا. الثالث: للخمي حمل الإطلاق في كلام ابن القاسم على تفصيل أشهب، وخصه بما استحق بالحضرة فجعله وفاقا. هذا محصل كلام أبي الحسن بمعناه، فابن القاسم على التأويلين الأولين يسوي بين المعين وغيره في التفصيل بين الحضرة وغيرها،

(2)

وقال ابن عبد السلام كما في الحطاب: إنه المشهور لخ.

وإلا أي وإن لم يكن استحقاق المعين المسكوك وما ألحق به بعد مفارقة أو طول بل قبلهما صح الصرف، وهل محل الصحة في المعين المسكوك وما شابهه إن تراضيا بالبدل؟ وعليه فمن أبى منهما لا يجبر، أو يصح مطلقا وعليه فمن أبى منهما يجبر. قال الحطاب مفسرا للمص: أي وإن استحق المسكوك المعين ولم يحصل مفارقة ولا طول بل استحق بالحضرة فإن الصرف صحيح لا ينتقض ويعطيه بدل المستحق، ثم اختلف المتأخرون في نقل المذهب هل عدم انتقاض الصرف

(1)

في الأصل فهمهما والمثبت من بناني ج 5 ص 52.

(2)

في الأصل وغيره والمثبت من بناني ج 5 ص 52.

ص: 196

محله ما إذا تراضيا -يعني المتصارفين- بالبدل؟ وأما إن لم يتراضيا بالبدل فلا يجبران عليه ويفسخ الصرف، أو يجبر صاحب الدراهم المستحقة على البدل ويصح الصرف وإن لم يتراضيا في ذلك.

تردد؛ أي طريقان الأولى: منهما لابن يونس واللخمي والمازري والرجراجي وغيرهم، والثانية: لابن الكاتب وابن عبد السلام، هذا أقرب ما يحمل عليه كلام المص، ويكون لم يتكلم على المسكوك غير المعين؛ والحكم فيه أنه إن حصل الاستحقاق بعد الطول أو المفارقة انتقض الصرف بلا خلاف على ظاهر كلام الرجراجي واللخمي، بل صرح بذلك ابن الكاتب فيما نقله عنه ابن عرفة، أما إن لم تحصل مفارقة ولا طول فحكى في التوضيح عن بعضهم أنه لا ينتقض بلا خلاف، وهو ظاهر كلام اللخمي والمازري وابن الكاتب وابن عبد السلام، وظاهر كلام ابن الحاجب أن فيه خلافا. والمشهور عدم النقض. انتهى المراد منه. وسوى بعضهم بين المعين وغيره في جريان التردد فيه. والله سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: وما ذكره المص في استحقاق الكل، وأما استحقاق البعض فيجري على استحقاق بعض المثلي الآتي في قوله "وحرم التمسك بالأقل إلا المثلي" وينقض ما يقابل ذلك. وقال الشيخ أبو علي: وقال الرجراجي ما حاصله: إن حصل افتراق فالنقض، ولا يجوز البدل عينت الدراهم أم لا، وقبل الافتراق وعينت فالبدل جائز لا لازم، وغير معينة فالبدل جائز عند ابن القاسم، ولأشهب الصرف والبدل لازمان.

وللمستحق إجازته؛ يعني أن المستحق للمصوغ أو للمسكوك المصروف، له إجازة عقد الصرف وإلزامه للمصطرف في الحالة التي ينقض فيها الصرف، وذلك بعد مفارقة أو طول في غير مصوغ، وفيه مطلقا، وفي الحالة التي لا ينقض صرف المسكوك فيها، وإذا أجازه أخذ ثمنه ممن باعه، وليس لمستحق منه عدم الرضى بالإجازة لأن بيع الفضولي لازم من جهة المشتري. الحطاب: يفهم من هذه المسألة أن العين يمكن استحقاقها وتقبل الشهادة على عينها، وقد نص على ذلك في كتاب الشهادات من المدونة.

إن لم يخبر المصطرِفُ؛ يعني أنه إنما يكون للمستحق إجازة عقد الصرف إذا لم يخبر المصطرف أي المشتري لهذا المستحق بأن من صارفه متعد، وأما إن أخبر بذلك فليس للمستحق الإجازة، بل

ص: 197

يجب نقض الصرف حينئذ لأنه عقد فاسد، كصرف الخيار المشترط في الصرف، والمصطرف بكسر الراء اسم فاعل يطلق على من أخذ الدراهم أو الدنانير، والمراد به هنا من استُحِق من يده وهو المشتري لهذا المستحق، وإذا أراد دافع الدراهم إجازة المستحق حيث تكون له الإجازة فإن للمستحق أن يرجع بالدراهم عوض الدينار المستحق؛ لأنه أجاز الصرف فيه، لكن بشرط أن يقبض الدراهم في الحال؛ لأن من شرط الإجازة حضور الشيء المستحق وقبض الثمن في الحال، كما في المدونة. قال الحطاب: شرَطَ في المدونة في إجازة ذلك حضور الشيء المستحق والثمن الذي يأخذه المجيز. قال فيها: ومن اشترى خلخالين من رجل بدينار أو دراهم فنقده ثم استحقهما رجل بعد التفرق وأراد إجازة البيع واتباع البائع بالثمن لم يجز ذلك، ولو استحقهما قبل تفرق المتبايعين واختار أخذ الثمن فلا بأس إن حضر الخلخالان، وأخذ الثمن مكانه، ولو كان المبتاع قد بعث بهما إلى بيته لم يجز، ولو افترقا لم أنظر إلى ذلك الافتراق، ولكنه إذا حضر الخلخالان وأخذ المستحق الثمن من البائع أو من المبتاع فذلك جائز، وإن غاب الخلخالان لم يجز. ابن عرفة: التونسي: لو أمضى المستحق البيع في غيبة البائع وطاع المبتاع بدفع ثمنه ليرجع به على بائعه جاز.

وجاز محلَّى وإن ثوبا يخرج منه عين إن سبك بأحد النقدين؛ يعني أنه يجوز أن يباع بأحد النقدين شيء محلًّى بذهب أو فضة، كمصحف وسيف حلي كل منهما بذهب أو فضة، بل وإن كان المحلَّى بأحدهما ثوبا طرز بأحدهما أو نسج به، حيث كان المحلَّى ثوبا أو غيره، يخرج منه شيء إن سبك أي أحرق بشروط تذكر، ومفهوم: يخرج منه، أنه إن لم يخرج منه شيء بعد السبك فإنه يكون بمنزلة المجرد من ذلك فيجوز بيعه بدون الشروط الآتية؛ فقوله: وجاز محلًّى؛ أي جاز بيعٍ شيء محلًّى. وقوله: بأحد النقدين، متعلق بمحلًّى؛ ولا يصح أن يتنازع فيه بيع المقدر ومحلًّى. ولجواز بيع المحلى شروط أشار لأوَّلِهَا بقوله:

إن أبيحت؛ يعني أنه يشترط في جواز بيع المحلَّى بأحد النقدين إذا بيع بأحد النقدين أن تكون الحلية مباحة كسيف وحلي ملبوس امرأة، فإن كان الحلية محرمة كدواة وسرج وركاب فإنه لا يجوز بيعه بأحد النقدين، بل يباع بالعرض إلا أن يقل عن صرف دينار كاجتماع البيع والصرف.

ص: 198

قاله عبد الباقي. وقال بناني: لما كان الأصل في بيع المحلى المنع لأن بيعه بصنفه بيع ذهب وعرض بذهب، وفيه بغير صنفه بيع وصرف في أكثر من دينار، وكل منهما ممنوع، لكن رخص فيه للضرورة كما ذكره أبو الحسن عن عياض، شرطوا لجواز بيعه هذه الشروط، فما كان غير مباح الاتخاذ فليس من محل الرخصة، فلذا لا يباع إلا على حكم البيع والصرف، كما صرح به أبو الحسن. انتهى. ولثانيها بقوله:

وسمرت؛ يعني أنه يشترط في الجواز المذكور أيضا أن تكون الحلية قد سمرت بمسامير يؤدي نزعها إلى فساد الشيء المحلى، وإلا فلا يجوز بيعه بصنفه ولا بغيره من النقد إلا على حكم البيع والصرف أو بالعرض، ومن بيع الحلية المسمرة بيع عبد له أنف أو أسنان من العين. وعجل؛ يعني أن المحلى بأحد النقدين يشترط في جواز بيعه بأحدهما سواء كان صنف ما فيه أو خلافه أن يعجل المبيع المعقود عليه الشامل لكل من العوضين، فإن أجل امتنع بالنقد وجاز بغيره. بغير صنفه مطلقا، متعلق ببيع المقدر؛ أي جاز بيع المحلى بأحد النقدين بالشروط المذكورة بغير صنف حليته مطلقا، كانت الحلية تبعا للجوهر أي الذات التي هي بها أم لا؛ أي سواء كانت الثلث فدون أو أكثر.

وبصنفه إن كانت الثلث؛ يعني أن المحلى بأحد النقدين يجوز بيعه بالشروط المذكورة بصنف ما حُلِّيَ به بشرط أن تكون الحلية تبعا للذات التي هي بها، بأن تكون الثلث فدون، وفي بعض النسخ بإسقاط: بغير صنفه، فيكون قوله: وبصنفه معطوفا على مقدر، تقديره: بغير صنفه وقوله بغير صنفه، يشمل بحسب ظاهره غير العين، وليس بمراد؛ وإنما المراد العين. وهل بالقيمة أو بالوزن؛ يعني أن الشيوخ اختلفوا هل يعتبر الثلث بقيمة الصياغة في الحلية أو يعتبر الثلث بوزن الحلية؟ فإذا كان وزن الحلية عشرين وبصياغتها تساوي ثلاثين وقيمة النصل أربعون جاز على الثاني دون الأول. قاله في التوضيح. وعلم من هذا أنه تضم قيمة الحلية أو وزنها لقيمة المحلى، وينظر في مناب الحلية من ذلك المجموع هل هي ثلثه أو أقل أو أكثر؟ والله سبحانه أعلم. ابن عرفة: والثلث هو من مجموع وزن الحلية أو قيمتها مع قيمة المحلى النصل والجفن. وقوله:

ص: 199

خلاف، مبتدأ حذف خبره أي في ذلك خلاف، والقول بالقيمة قال ابن يونس: هو ظاهر الموطإ والموازية وظاهر ابن الحاجب ترجيحه، والثاني: قال الباجي: هو ظاهر المذهب. انتهى. وقال الرهوني عن الجواهر: قال بعض المتأخرين والصحيح الأول.

وإن حلي بهما لم يجز بأحدهما؛ يعني أن الشيء المحلى بالذهب والفضة معا لا يجوز بيعه بأحدهما إلا إن تبعا الجوهر؛ يعني أن محل منع بيع المحلى بالنقدين معا بأحدهما إنما هو حيث لم تكن الحلية تبعا للجوهر أي الذات التي بها الحلية، لا خصوص الجوهر الذي هو الحجر النفيس كما قاله الشيخ أبو علي. وأما إن كانت الحلية المجتمعة من الذهب والفضة تبعا للذات المبيعة فيجوز بيعها بأحدهما. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وإن حلي ثوب بهما وبجوهر ولؤلؤ لم يجز بيعه بأحدهما؛ أي النقدين كانا متساويين أم لا، إلا إن تبعا الجوهر الذي فيه وهو ما قابل النقد، فيجوز بأحدهما كان تابعا للآخر أو متبوعا عند ابن حبيب في الواضحة، وزاد شرط التعجيل، والظاهر أن الشرط الذي ذكره المص مزيد على ما تقدم كما في بيعه بصنفه، ويمكن أن يقيد كلام المص بما إذا بيع بأقلهما ويكون ماشيا على ما عند اللخمي وصاحب الإكمال، وقد ذكر ابن بشير القولين. قاله أحمد. وهل تعتبر التبعية بالقيمة أو بالوزن؟ خلاف وهو إنما يتأتى في صنف ما بيع به، وأما غيره فلا يتصور اعتبار وزنه بل قيمته. قال أحمد: وانظر ما الحكم إذا بيع بالنقدين معا؟ والذي تقتضيه قواعد الذهب المنع لأنه بيع ذهب بذهب وفضة، وبيع فضة بفضة وذهب. وأشعر قوله: تبعا الجوهر، أن المصوغ الذهب والفضة من غير عرض فيه أصلا لا يجوز بيعه بأحدهما ولا بهما بحال، وهو ما رواه ابن القاسم في المدونة واختاره، ورجع له الإمام وهو المشهور، وروى علي الجواز إذا كان أحدهما الثلث وبيع بصنف الأقل، واختاره اللخمي، ومحل هذا الخلاف حيث جاز اتخاذه كملبوس المرأة وإلا منع، ولو بالتابع [كالركاب الفضة

(1)

] مطلي بالذهب ونحوه، وعلم مما مر أنه إن كان مع المحلى غيره من عرض كسيف حلي بذهب ولؤلؤ، أو حلي بذهب ولؤلؤ وجوهر وفضة وبيع بصنفه في الأول أو بأحد النقدين في الثاني أنه يقوم المحلى بعرضه ونقده، وينسب مناب حلية النقد لقيمة ما عداه،

(1)

في عبد الباقي ج 5 ص 54: كركاب فضة لخ.

ص: 200

وكسيف حلي بذهب وبيع مع جفنه بذهب فيقوم ذلك، وينسب مناب الحلية لما عداه. والله سبحانه أعلم.

تنبيهات: الأول: قال عبد الباقي عند قول المص: وسمرت على المحلى بمسامير يؤدي نزعها لفساد كمصحف سمرت عليه، أو سيف على جفنه أو حمائله. قال بناني: نحوه في التوضيح والحطاب عن الباجي، وفيه: جواز تحلية الحمائل فانظره. انتهى. الثاني: نص الباجي وغيره على جواز بيع أواني الذهب والفضة إن بيعت بصنفها فبالوزن، وبغير صنفها فنقدا، وبالعروض فأمرها ظاهر، وما ذكروه في بيعها ظاهر إذا لم يقابل شيء من الثمن صياغتها. الثالث: قال في المدونة: لا أرى لمسلم ببلد الحرب أن يعمل بالربا مع حربي، وذكر ابن عرفة أن المشهور منع الربا بين العبد وسيده. قاله المواق.

وجازت مبادلة القليل المعدود دون سبعة بأوزن منها بسدسٍ سدسٍ، المبادلة بيع المسكوك بالمسكوك من نوعه عددا من غير وزن؛ يعني أن المبادلة بزيادة في أحَد النقدين تجوز جوازا مستوي الطرفين بشروطٍ: أن تقع بلفظ المبادلة، وأن يكون التعامل عددا لا وزنا، وأن تكون قليلة، وأن تكون دون سبعة، وأن يكون واحد بواحد، وأن تكون على قصد المعروف لا على وجه المبايعة، وأن تكون مسكوكة، وأن تتحد السكة. فقوله: وجازت مبادلة؛ أي وجاز العقد معبرا عنه بهذه الصيغة، فلابد أن تقع المعاقدة بينهما بهذا اللفظ؛ وأن تكون الزيادة في كل درهم أو دينار سدسا سدسا على مقابله من الجانب الآخر، وهو الدانق الذي تسمح النفوس به غالبا. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وجازت مبادلة القليل بشروط ذكر منها ثلاثة، أحدها: قوله: القليل. وثانيها: قوله: المعدود؛ أي المتعامل به عددا، وبين القليل بقوله: دون سبعة، أراد ستة لا ما زاد عليها، ولم يبلغ سبعة فإنه يمنع كما هو مقتضى كلامهم، وإن اقتضى كلامه جوازه، كما لا تجوز في المتعامل به وزنا، وأشار لا يتضمن موضوع المسألة مع الشرط الثالث بقوله: بأوزن منها بسدس سدس؛ أي تكون الزيادة في كل دينار أو درهم سدسا على مقابله من الجانب الآخر وهو دانق؛ لأنه الذي تسمح النفس به غالبا؛ ومقتضى النظر منعه لطلب الشارع

ص: 201

المساواة في النقد المتحد الجنس، وقصد المعروف بانفراده لا يخصص العمومات الدالة على منع ذلك، فإن ذلك حق لله وليس بحق آدمي، إلا أن التعامل لما كان بالعدد صار النقص اليسير غير منتفع به فجرى مجرى الرداءة، والزيادة مجرى الجودة، فقد زاده معروفا والمعروف يوسع فيه ما لا يوسع في غيره، بخلاف التبر وشبهه. انتهى. ونحوه لغير واحد. وزاد الحطاب: وأما الطعام فيجوز مبادلة المبلول والمعفون منه بالصحيح السالم على وجه المعروف في القليل والكثير على ما في رسم القبلة من سماع ابن القاسم. وما وقع [في رسم النسمة

(1)

] من سماع عيسى، ومنع من ذلك أشهب كالدنانير الكثيرة النقص بالموازنة، فلم يجز المعفون بالصحيح ولا الكثير العفن بالخفيف. انتهى. وقوله: دون سبعة، التوضيح: لا يجوز بدل السبعة بأوزن منها [لأن زيادتها

(2)

] على ضعف أقل الجمع، وتجوز في الثلاثة اتفاقا لأنها أقل الجمع، ومذهب المدونة الجواز فيما بينهما: وقوله: المعدود، قال الحطاب مفسرا له يعني أن من شرط جواز المبادلة أن تكون في المعدود أي في الدراهم والدنانير التي يتعامل بها عددا وقوله: بأوزن شرط ثالث، وهو: أن تكون الزيادة بالوزن، واحترز [بذلك

(3)

] من الزيادة بالعدد فلا تجوز المبادلة. قاله في التوضيح. وقاله القباب. ومن شروط المبادلة أن تكون يدا بيد. انتهى. وقال عبد الباقي: وأولى في الجواز إذا كانت الزيادة في كل أقل من سدس، أو بعضها أقل وبعضها قدره، وفهم من قوله: المعدود أنها لا تجوز في التبر ولا في المكسور، ولا يشترط اتحاد السكة، خلافا للخمي وإن اقتصر عليه أحمد؛ إذ يرده ما يأتي في مسألة الهاشمي بالعتيق. انتهى. وهو خلاف ما مر عن الخرشي من قوله: وسكا واتحدت. انتهى. وأشعر قوله: بسدس سدس، أنه لو كانت الدنانير والدراهم من أحد الجانبين مساوية للجانب الآخر جازت في القليل والكثير من غير شرط من شروط المبادلة. وهو كذلك.

فائدة: مر أن السدس وزن دانق، وأنه شامل لدانق الدينار والدرهم، وما قيل: إنه يؤخذ للمظلوم بأخذ ماله من حسنات ظالمه في كل دانق سبعون صلاة مقبولة زاده

(4)

بعض مشايخ الحنفية: في

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 135 ط دار الرضوان.

(2)

في الحطاب ج 5 ص 135 دار الرضوان والتوضيح ج 5 ص 299 لزيادتها.

(3)

في الأصل: من ذلك، وانظر التوضيح ج 5 ص 299.

(4)

كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 5 ص 55 زاد.

ص: 202

جماعة، يصدق بدانق الدينار والدرهم، لكن إن ثبت حمله على دانق الدرهم فدانق الدينار يؤخذ فيه أكثر انتهى كلام عبد الباقي. وقوله: بسدس سدس، يصدق بأكثر من مرتين كما في نحو ادخلوا رجلا رجلا، فليس هنا حذف الواو مع ما عطفت. والله سبحانه أعلم. قال الشيخ أبو علي: وأما شرط وقوع المبادلة بلفظها فلم أره في غير التوضيح وإن نسبه بعضهم للخمي وبعضهم لأبي الحسن. انتهى. وقال الحطاب: قال القباب: زاد بعض المتأخرين في شروط المبادلة أن تكون على وجه المعروف لا على وجه المكايسة وهو مأخوذ من لفظ المدونة. انتهى. وفي المواق: قال مالك: من أبضِع معه دينار لا بأس أن يبدله بأجود منه عينا ووزنا. قيل: أترى أن يعلم صاحبه إذا أبدله؟ قال: لا بأس عليه أن يعلمه ولا ضمان عليه. ابن رشد: استخفه لغلبة الظن أن صاحب الدينار يرضى بذلك فليس عليه أن يعلمه، والقياس ألا يجوز إلا برضاه وأن يكون ضامنا له إن فعله بغير رضاه إذ لا يلزمة قبول معروفه، ولعله لا يرضاه فيدخله عدم المناجزة للخيار الواجب فيه. انتهى المراد منه. ابن القاسم: إذا أبضع الرجل بدنانير مع رجل وأبضع آخر معه بدراهم فيشتري

(1)

بهما حاجتهما لا بأس أن يصرف الدنانير بالدراهم بصرف الناس. انتهى. وقد أجاز مالك في أحد قوليه لمن وكل على الصرف أن يصرف من نفسه. انتهى.

والأجود أنقص؛ يعني أن السبب في جواز المبادلة المذكورة المعروف بشرط تمحضه وحصوله من جانب واحد، فإذا دار الفضل من الجانبين منعت فلذلك امتنع إبدال النقد الأجود جوهرية حال كونه أنقص وزنا بإبدال النقد الأردى جوهرية حال كونه كامل الوزن لدوران الفضل من الجانبين؛ لأن صاحب الأجود الناقص يرغب في الأدنى لكماله، وصاحب الأردى الكامل يرغب في الناقص لجودته. أو أجود سكة يعني أن النقد الأجود سكة حال كونه أنقص وزنا ممتنع إبداله بالأردى سكة الكامل وزنا لدوران الفضل من الجانبين، كذا فسره الخرشي؛ وفسره عبد الباقي بأنه أجود سكة وأنقص وزنا وجوهرية، ويقابله ردي السكة الكامل وزنا وجوهرية.

(1)

في المواق ج 6 ص 177 يشتري ط دار الكتب العلمية.

ص: 203

وعلم مما قررت أن قوله: ممتنع خبر عن المسألتين. قاله أبو علي. وقال عبد الباقي بعد ما مر عنه: بل لو كان مقابل الأجود سكة كاملا وزنا فقط أو أجود جوهرية فقط لمنع أيضا للعلة المذكورة، فتدخل مسألة مالك في المدونة ففيها عن سحنون: قلت لابن القاسم: فإن كانت سكة الوازن أفضل، فقال: قال مالك: لا خير في هاشمي ينقص خروبة بقائم عتيق وازن، فتعجبت منه. فقال لي: ابن كامل لا تعجب. قاله ربيعة. ابن القاسم: لا أدري من أين أخذه، ولا بأس به عندي. انتهى. ابن عرفة تبعا لابن عبد السلام: وجه قول مالك إن العتيق جيد الجوهرية وكامل الوزن وردي السكة لأنه ضرب بني أمية، والهاشمي ردي الجوهرية وناقص الوزن وجيد السكة لأنه ضرب بني العباس، فبطل تعجب ابن القاسم. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: إن كان الأنقص هو الأجود فهذا لا يجوز قولا واحدا لخروجه عن باب المعروف، وإن تساوت السكتان فيجوز قولا واحدا لأن الفضل في أحد الطرفين، وإن كان الأرجح أفضل فقولان الجواز لابن القاسم وهو الأصل لأنه أبلغ في المعروف، والمنع لمالك. انتهى.

وإلا أي وإن لم يكن الأجود جوهرية أنقص بل كان مساويا في الوزن أو أوزن أو لم يكن الأجود سكة أنقص بل كان مساويا أو أوزن جاز، عند ابن القاسم لتمحض الفضل من جانب واحد، ولما قدم الصرف والمبادلة ذكر المراطلة بقوله: ومراطلة عين بمثله؛ يعني أن المراطلة جائزة إذا كانت مثلا بمثل والمراطلة بيع الذهب بالذهب وزنا والفضة بالفضة وزنا كرطل برطل مثله، وقوله: عين بمثله، ذكر ضمير المؤنث باعتبار أنها نقد والمراد بالعين هنا المسكوك وغيره، وتجوز مراطلة المسكوك بالمسكوك وغيره، اتحدت السكة أم لا، وتكون في المتعامل به عددا أو وزنا، وتشمل الأنصاف مع الكبار بخلاف المبادلة لابد أن تكون واحدا بواحد لا واحدا باثنين، والظاهر أنه لا تشترط فيها الصيغة لوجود ما يميز وهو الوزن، بخلاف المبادلة لابد فيها من لفظ المبادلة لأنها رخصة بخلاف المراطلة، والوزنُ يكون على وجهين أحدهما قوله:

بصنجة بفتح الصاد وبالسين أفصح ما يوزن به وسواء كانت معلومة القدر أم لا فتوضع في إحدى الكفتين ويوضع الذهب أو الفضة في الأخرى. والثاني قوله: أو كفتين. فتوضع عين أحدهما في كفة وعين الآخر في كفة، والكفة بكسر الكاف والفتح لغةٌ لكل ما استدار ككفة الميزان، وأو في

ص: 204

المص إشارة لقولين كما في التتائي لا للتخيير، والأول أرجح عند المتأخرين لحصول التساوي بين النقدين وظاهر هذا عدم اغتفار الزيادة في المراطلة وهو كذلك. قاله عبد الباقي. وقال بناني عن الرماصي: قال عياض في الإكمال: اختلف في جواز المراطلة بالمثاقيل، فقيل: لا تجوز المراطلة إلا بكفتين، وقيل: بالمثاقيل وهو أصوب. انتهى. قال الرماصي: وما صوبه سبقه إليه المازري، وصرح بذلك ابن شأس تبعا لهما والمراد بالمثاقيل كما قال الأبي الصنجة. انتهى. وبالغ على جواز المراطلة بكفتين فقط بقوله:

ولو لم يوزنا؛ أي العينان قبل وضعهما في الكفتين وهذا هو الأصح، وإليه ذهب أبو عمران وغيره، ومنعه القابسي إلا بعد معرفة وزنه. ابن يونس: والأول أصوب، وإلى تصويب ابن يونس أشار بقوله: على الأرجح. وعلم مما قررت أن الخلاف خاص بالكفتين كما قاله عبد الباقي. قال بناني: تخصيصه الخلاف بالكفتين هو قول المتيطي. قال الشيخ أبو الحسن القابسي وأبو القاسم بن محرز: إذا كان الذهبان مسكوكين أو أحدهما فلا تجوز المراطلة بهما في كفتين إلا بعد المعرفة بوزن أحدهما لأن ذلك من باب بيع المسكوك جزافا وهو خطر. انتهى. لكن تعليله بالجزاف يفيد الخلاف أيضا في الصنجة إذا جهل قدرها وهو ظاهر. قال في التوضيح: عياض: وعلى قول القابسي إذا [كانت عددا

(1)

] فلابد من معرفة عدد الدراهم من الجهتين أو الدنانير بخلاف الوزن؛ لأن معرفة وزن أحدهما معرفة لوزن الآخر. انتهى. وقال عبد الباقي: ولو لم يوزنا أي العينان قبل وضعهما في الكفتين على الأرجح، خلافا لقول القابسي: لا تجوز إلا بعد معرفة وزن العينين ليلا يؤدي إلى بيع المسكوك جزافا. انتهى. فمحل الخلاف في ذهب أو فضة يمتنع بيعه جزافا كالمتعامل به عددا، وأما التعامل بهما وزنا فيتفق على الجواز وإن لم يوزنا وبالغ على الجواز بقوله:

وإن كان أحدهما؛ يعني أنه تجوز المراطلة في العين وإن كان أحد العوضين كله أجود من جميع مقابله، كدنانير مغربية تراطل بمصرية أو اسكندرية. أو بعضه؛ يعني أنه تجوز المراطلة ولو كان

(1)

في الأصل كان عدد والمثبت من التوضيح ج 5 ص 295 والتنبيهات ج 3 ص 1532.

ص: 205

بعض أحد العوضين أجود من الآخر وبعضه مساو له؛ أي أحد العوضين بعضه أجود من عوض الآخر، وبعضه مساو لعوض الآخر، كمصرية تراطل بمغربية ومصرية.

وعلم مما قررت أن قوله: أجود. خبر كان فهو راجع للمسألتين. والله سبحانه أعلم. واعلم أن المغربي أجود من المصري والمصري أجود من الأسكندري. قاله بناني وغيره لا تجوز المراطلة إن كان نقد أحدهما بعضه أدنى من الآخر وبعضه أجود منه، مثل مغربية واسكندرية تراطلان بمصرية لدوران الفضل من الجانبين.

تنبيهان: الأول: اعلم أن كيفية الوزن أن توضع الصنجة في كفة ويوضع الذهب أو الفضة في الكفة الأخرى، فإذا اعتدلا أزال الذهب أو الفضة ووضع ذهب الآخر أو فضته مكان ذلك، أو يجعل ذهب هذا في كفة وذهب هذا في الكفة الأخرى حتى يعتدلا. الثاني: سئل ابن أبي زيد عمن راطل دراهم بدراهم ثم وجَد أحدُهما زيوفا فأراد الرد: هل يفسخ الجميع كالصرف أو يفسخ بقدر الزيوف؟ فأجاب: إنما ينتقض ما يقابل الزيوف وتمضي المراطلة في الطيب من الجانبين. انتهى. نقله الشيخ أبو علي. وانظر قوله: كالصرف مع ما مر من قوله: وحيث نقض فأصغر دينار لخ: إلا إن عنى بقوله: كالصرف، مقابل المص في قوله: لا الجميع. وقوله: لا أدنى وأجود، قال ابن عرفة: الموزونان إن اتحدا في الجودة أو اختص بها كل أحدهما أو كانا في الرداءة كذلك جاز، وإن اختص بعضه بجودة وبعضه برداءة لم تجز. ابن رشد وابن بشير: اتفاقا. والأكثر على تأويل السكة والصياغة كالجودة؛ يعني أن الأكثر من الشيوخ على فهم المدونة أن السكة في المراطلة كالجودة التى مر قريبا أنه يدور الفضل بها، فكما لا يجوز مراطلة جيد وردي بمتوسط بينهما لدوران الفضل من الجانبين لا يجوز مراطلة أردى سكة وأعلى بمتوسط سكته بينهما لدوران الفضل من الجانبين، وكذا لا تجوز مراطلة ردي مسكوك بجيد تبر لدوران الفضل من الجانبين أيضا؛ لأن صاحب التبر الجيد يرغب في المسكوك الردي لسكته وصاحب المسكوك الردي يرغب في التبر الجيد لجودته، قال الخرشي: لا تجوز مراطلة دنانير سكة واحدة بدنانير سكتين أدنى وأجود؛ يعني لأن صاحب السكة الواحدة يرغب في السكتين لعلو إحداهما على سكته. وصاحب السكتين يرغب في السكة الواحدة لأنها أعلى من إحدى سكتيه، ولا مسكوك

ص: 206

بتبرين أعلى وأدنى لرغبة صاحب التبرين في المسكوك لسكته، ولرغبة صاحب المسكوك في التبرين لعلو أحدهما على مسكوكه، ولا مسكوك بتبر جيد ومسكوك لرغبة ماحب التبر والمسكوك في مسكوك صاحبه لأنه مسكوك كله، ولرغبة صاحبه في جودة التبر المصاحب للمسكوك، والأكثر من العلماء أيضا على فهم المدونة أن الصياغة كالجودة فيدور الفضل بها مع مقابلها من مكسور ونحوه، فلا تجوز مراطلة مصوغ ردي بجيد تبر، فجميع ما قيل في السكة يقال في الصياغة، وعلى تأويل الأكثر على ما قال المص من اعتبار الصياغة والسكة يمتنع مراطلة المصوغ بالمسكوك، إلا أن يكون الفضل من جهة واحدة أي بأن تكون إحداهما تفضل الأخرى قطعا. قاله عبد الباقي. وفي المسألة ثلاثة أقوال أحدها: يعتبران فإن الغرض يتعلق بهما كالجودة. ثانيها: لا يعتبران لأن الشرع إنما طلب المساواة في القدر خاصة وهو منقوض بالجودة وهو قول القابسي، واختاره ابن يونس. ثالثها: تعتبر الصياغة دون السكة لأن الصياغة مقصودة لنفسها دون السكة. ولما أنهى الكلام على بيع النقد الخالص بجنسه وبغير جنسه شرع في بيع المغشوش بمثله وبغيره بقوله: ومغشوش بمثله؛ يعني أنه يجوز بيع المغشوش بالمغشوش. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وجاز بيع مغشوش كذهب فيه فضة بمثله مراطلة أو مبادلة أو غيرهما. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن المراد بقوله: أو غيرهما، الصرف أي بيع مغشوش من الذهب بمغشوش من الفضة. والله سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: قال أحمد: وتساوى الغشُّ وهو واضح. انتهى. قال بناني: فيه نظر. وقال اللقاني: ولو لم يعرفا قدر ما فيه لمن الغش على المذهب خلافا لابن عبد السلام، والمثلية لا تستلزم تساويَ الغش. وقال الحطاب: ظاهره ولو لم يتساو غشهما وهو ظاهر ابن رشد وغيره، ولم يلتفت المص إلى قول ابن عبد السلام، ولعل ذلك مع تساوي الغش لأنه لم يجزم به ويعسر تحقق تساوي ذلك. انتهى. قلت: صرح أبو عمر كما في المواق بأنه لا يجوز بيع بعضها ببعض إلا أن يحيط العلم بأن الداخل فيها سواء. انتهى.

وبخالص؛ يعني أنه يجوز بيع المغشوش بالخالص على القول الراجح المأخوذ من كلام المدونة وغيرها، وحكى ابن رشد في البيان قولين، قال: والصحيح عدم الجواز، وإليه أشار المص بقوله:

ص: 207

(والأظهرُ خلافُه) يعني أن القول بأنه لا يجوز بيع المغشوش بالخالص قال ابن رشد: إنه الصحيح، وجعل صاحب الشامل القول بالجواز هو المذهب. قال الخرشي: والخلاف إنما هو في المغشوش الذي لا يجري بين الناس وإلا فيجوز اتفاقا، كما يظهر من كلام التوضيح، وظاهر كلام ابن رشد دخول الخلاف فيه. واعلم أن خلاف ابن رشد المشار إليه بقوله: والأظهر خلافه، خاص بالثانية. (لمن يكسره) يعني أن بيع المغشوش على أربعة أقسام، الأول: أن يباع لمن يكسره ولا يغش به بعد الكسر. والثاني: قوله: (أو لا يغش به) يعني أنه يجوز أن يباع لمن يعلم أنه لا يغش به بأن يصفه أو يقتنيه ولم يعامل به أحدا أو يغير ضرب الدراهم ويجعله قلادة مثلا، وعلى هذا فالمدار على من لا يغش به. قال عبد الباقي: فلو قال: لمن لا يغش به لكان أخصر. والله تعالى أعلم. وقال المواق عن ابن رشد: يجوز أن تباع الدنانير والدراهم المغشوشة بالنحاس ممن يكسرها أو ممن يعلم أنه لا يغش بها. وهذان القسمان جائزان باتفاق، وقوله: لمن يكسره أو لا يغش، قيد في جواز بيعه مبادلة أو مراطلة أو صرفا أو غير ذلك. قال عبد الباقي: والمغشوش الذي لا منفعة فيه إلا الغش لا يجوز بيعه بحال، وأشار إلى الثالث بقوله:(وكره لمن لا لمن لا يؤمن) يعني أنه يكره بيع المغشوش لمن لا يؤمن أن يغش به المسلمين، مثَّلَ ابنُ رشد لمن لا يؤمن بالصيارفة، ونازعه ابن عرفة بأن التمثيل بهم وقع في الرواية لمن يغش لا لمن لا يؤمن. قاله بناني. قال: وبه يبطل الجمع الذي ذكره الزرقاني بينهما. وأشار إلى القسم الرابع بقوله: (وفسخ ممن يغش) يعني أن المغشوش إذا بيع ممن يعلم أنه يغش به فإنه يفسخ البيع. (إلا أن يفوت) حقيقة بذهاب عينه أو حكما بتعذر المشتري كما في البيان. قال عبد الباقي: وهل صياغته فوت أم لا؟ لأنه إنما تغيرت صفته فقط نظر فيه أحمد، وليس في البيان ما يرده كما توهم. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: بل في البيان ما يرده لأنه لم تذهب عينه ولم يتعذر المشتري. والله سبحانه أعلم. (فهل يملكه أو يتصدق بالجميع أو بالزائد على من لا يغش؟) يعني أن المغشوش إذا بيع ممن يعلم أنه يغش به فإنه يفسخ البيع كما علمت، أما إذا فات البيع بأن عجز عن رده فإنه اختلف فيما يفعل بالعوض، فقيل: يملكه أي يتقرر ملكه له ويستمر، لكن

ص: 208

يندب له التصدق به، وقيل: يتصدق بالجميع أي بجميع عوض المغشوش وجوبا، وقيل: يتصدق بالزائد من العوض على عوض من لا يغش به لو بيع له وجوبا، ويتصدق بغير الزائد ندبا وقوله: أقوال، مبتدأ حذف خبره أي في ذلك أقوال. قال الحطاب: جعل المص المسألة على أربعة أقسام، الأول: أن يبيع المغشوش أو يصرفه أو يراطل به من يكسره فهذا جائز. ابن رشد: باتفاق. لكن قيد ابن الحاجب الجواز بما إذا أمن أن يغش به مع كسره. قال في التوضيح: وإن لم يؤمن ذلك فلابد من سبكه وهو ظاهر. وأصله في المدونة، قال فيها: وإذا قطعه جاز بيعه إذا لم يكن يَغُرُّ به الناسَ فالمدار على انتفاء الغش به. الثاني: أن يبيعه لمن يعلم أنه لا يغش به وهذا أيضا جائز باتفاق. الثالث: أن يبيعه لمن لا يؤمن أن يغش به فهذا مكروه. الرابع: أن يبيعه ممن يعلم أنه يغش به فهذا لا يحل له ذلك. قال في التوضيح: واختلف في بيعها ممن لا يدرى ما يصنع بها، فأجازه ابن وهب وجماعة من السلف، وكرهه ابن القاسم ورواه عن مالك. انتهى. وقال المواق عن ابن رشد: صياغة الحلي من الذهب الخالصة والمشوبة

(1)

بفضة أو نحاس جائز استعمالها مباح إذا كان يمتاز. قال سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} وبيعه جائز بالعروض والدراهم، ولا يجوز مراطلة وإنما الذي يجب أن يكسر ما كان منه مغشوشا أعلاه ذهب وداخله نحاس. انتهى.

تنبيه: قال الرهوني: في جامع المعيار عن أبي عمران: كل شيء يأكله الإنسان من مال غيره فإنه ينتفع به إذا حلله [له

(2)

] ربه إلا خمسة أشياء: الرشوة في الحكم، وحلوان الكاهن، ومهر البغي، وأجرة المغني والنائحة، فهؤلاء الخمس لا ترد على أربابها وإنما تصرف في مصارف

(3)

الخير والبر. انتهى. وقال بناني: حكى الحطاب في كتاب الالتزامات قولين بالتصدق والرد في مهر البغي والقواد والمخنث. انتهى. قال عبد الباقي: ولما كان بين المراطلة وقضاء الدين موافقة في أن كلا منهما ينظر فيه لدوران الفضل فيمنع [وعدمه

(4)

] فيجوز ذكره عقبها، فقال:

(1)

في الأصل المشربة والمثبت من المواق ج 6 ص 195 ط دار الكتب العلمية.

(2)

ساقط من الأصل والمثبت من الرهوني وكنون ج 5 ص 115.

(3)

في الأصل تصاريف والمثبت من الرهوني وكنون ج 5 ص 115.

(4)

في الأصل: وفي عدمه، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 57.

ص: 209

وقضاء قرض بمساو وأفضل صفة؛ يعني أنه يجوز قضاء القرض بالمساوي في القدر والصفة وبالأفضل في الصفة. سواء كان ذلك القرض عينا أو طعاما أو عرضا، وسواء كان العرض حالا أو مؤجلا، وحل الأجل أو قضاه قبل الأجل. قاله الحطاب. وقال الخرشي: ومعنى كلام المؤلف أنه يجوز لمن عليه دين من قرض أن يقضيه بالمساوي لما في الذمة لدخولهما عليه، وبالأفضل صفة إذ هي زيادة لا يمكن فصلها، وسواء حل الأجل أم لا؛ لأن في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام رد في سلف بكر رباعيا، وقال: إن خيار الناس أحسنهم قضاء

(1)

وظاهر قوله: وأفضل صفة في الطعام وغيره وهو المذهب. انتهى. وقال المواق: قال ابن عرفة: الاقتضاء عرفا قبض ما في ذمة غير القابض وهو في القرض بالمماثل والأجود صفة. الشيخ رحمه الله: ولو قبل الأجل. انتهى. وقال أبو علي: أي ويجوز لمن عليه دين قرض أن يقضيه بمساو لما في الذمة وبالأفضل صفة، ظاهر كلام المتن: حل الأجل أم لا طعاما كان أم لا وهو كذلك في الجميع، وقضاء القمح عن الشعير لا يدخل في كلام المتن لإن أفضل من كذا يقتضي المشاركة في الصنفية كالأجود كما ذكروه، لاسيما والقول بأن الشعير جنس مباين للقمح قوي فافهمه ولابد؛ إذ القمح لا يقضى عن الشعير كما في ابن الحاجب وغيره. والله سبحانه أعلم. وقال بناني بعد كلام: الخلاف جار في كل من اختلاف النوع كالقمح والشعير. واختلاف الصفة كالسمراء والمحمولة، والراجح فيهما هو جواز القضاء بالأفضل قبل الأجل وأحرى بعده، فالصواب عدم تقييد المص باتحاد النوع. قال عبد الباقي: وقيد قوله: وأفضل صفة بقيدين أحدهما: أن لا يشترط ذلك عند القرض وإلا منع وفسد، كاشتراط زيادة القدر والعادة كالشرط كما في الرسالة. الثاني: أن يتحد نوعهما أو يختلف ولكن حل الأجل فإن لم يحل الأجل منع كقضاء إردب قمح عن إردب شعير، كما يمنع عكسه قبل حلوله أيضا لأن فيه ضع وتعجل، ولا يرد على هذا القيد أنه يقتضي منع قضاء السمراء لأنها أجود عن المحمولة قبل الأجل مع أن الراجح الجواز لاتحادهما نوعا وإن اختلفا صفة. انتهى بحذف منه وما ذكره من المنع خلاف الراجح، بل الراجح من قولي ابن القاسم الجواز

(1)

البخاري، كتاب الاستقراض، رقم الحديث 2392. مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1600.

ص: 210

واستحسنه سحنون، ولا فرق بين ما اتحد نوعه واختلف. قاله البناني. وقد مر شيء منه. قال عبد الباقي: والدليل على أن قوله: وأفضل صفة، شامل لا إذا حل الأجل وما إذا لم يحل قوله: وإن حل الأجل بأقل صفة وقدرا؛ يعني أن الشخص يجوز له قضاء ما عليه من دين القرض بأقل صفة وقدرا، وأولى بأقل صفة فقط أو قدرا فقط حيث حل الأجل أو كان حالا في الأصل، وإنما اشترط الحلول لأن ذلك قبل الأجل ممتنع إذ يدخله ضع وتعجل، وظاهر كلامه أن ذلك يجري في النقد المتعامل به عددا أو وزنا، فقوله: بأقل متعلق بقضاء فاعل جاز جواب الشرط؛ أي وإن حل الأجل جاز قضاؤه بأقل صفة وقدرا، وقال أبو علي: أي وكذا يجوز القضاء بأقل صفة وقدرا إذا حل الأجل أو كان حالا في الأصل؛ لأنه حسن اقتضاء فإن لم يحل الأجل امتنع لما فيه من ضع وتعجل. انتهى. ففي هذا الفرع حسن اقتضاء، وفي الفرع قبله حسن قضاء. وقال عبد الباقي: وإن حل الأجل أو كان حالاًّ ابتداء جاز القضاء بأقل صفة وقدرا معا، كنصف إردب قمح ردي عن إردب قمح كامل جيد. انتهى. وفي المدونة: ومن أقرضته قمحا فقضاك دقيقا مثل كيله جاز، وإن كان أقل من كيله لم يجز. قال الرهوني: وفيه أن أشهب أجاز ذلك، وهو الذي مر عليه عبد الباقي حيث قال هنا ممثلا لما يجوز: وكدقيق عن قمح أقل من كيله لا إن لم يحل لأن فيه ضع وتعجل، أو كان الدقيق أجود. انتهى. أي لدوران الفضل. وقوله: أقل، صفةٌ لدقيق، وفي الحطاب:

فرع: قال في آخر كتاب الصرف من المدونة: ومن أقرضته قمحا فقضاك دقيقا مثل كيله جاز، وإن كان أقل من كيله لم يجز. قوله: مثل كيله جاز يريد ما لم يكن الدقيق أجود عينا فيمتنع لأنه باع فضل ريع القمح بجودة الدقيق. وقوله: إن كان أقل من كيله لم يجز خلافا لأشهب في قوله: إن ذلك جائز. انتهى. واعلم أن القضاء هو دفع الدين، والاقتضاء هو أخذ الدين. والله سبحانه أعلم. وفي المواق عن ابن بشير: وإن قضى في القرض أنقص جاز مطلقا سواء كان النقص في العدد أو الصفة أو فيهما وهذا إذا حل الأجل، وأما قبله فلا يجوز لأنه من باب ضع وتعجل. انتهى.

ص: 211

لا أزيد عددا؛ يعني أنه لا يجوز قضاء دين القرض بأزيد عددا، فلا يجوز أن يدفع أربعة قضاء عن ثلاثة حيث كان التعامل بالعدد، وقوله: لا أزيد عددا، أجازه أشهب، وفي الرسالة: ومن رد في القرض أكثر عددا في مجلس القضاء فقد اختلف في ذلك إن لم يكن فيه شرط ولا وأْيٌ ولا عادة، فأجازه أشهب وكرهه ابن القاسم ولم يجزه. انتهى. وقال الحطاب: وأما الزيادة في العدد فلا تجوز ولو قل على المشهور، وهو مذهب المدونة وعزاه المازري لظاهر المذهب، وقيل: يجوز مطلقا. وعزاه اللخمي لعيسى بن دينار والقاضي عبد الوهاب، وقال: إنه صحيح، وقيل: إنه يجوز بالقليل كدرهمين في مائة وهو لأشهب.

أو وزنا: يعني أنه لا يجوز قضاء القرض بأزيد منه وزنا حيث كان التعامل وزنا. إلا أن تكون الزيادة يسيرة جدا كرجحان ميزان على ميزان فيجوز عند ابن القاسم. قاله الخرشي. وقال: فحيث كان التعامل بالعدد جاز أن يقضيه ذلك العدد كان مثل وزنه أو أقل أو أكثر، وإن قضاه أقل من العدد فإن كان وزنه مساويا للعدد أو أقل جاز، وإلا منع، وأما إن كان التعامل بالوزن فيجوز أن يقضيه ذلك الوزن زاد على العدد أو نقص أو ساوى؛ وأما إن كان التعامل بهما فيلغى الوزن، وهو صريح المدونة وعليه حملها أبو الحسن، ونقل الباجي: أنه يلغى العدد؛ وقد علمت أنه خلاف ظاهرها. انتهى. وقال أشهب بجواز الزيادة اليسيرة ولم يقيد يجِدًّا. وقال الحطاب: أما الزيادة في العدد فلا تجوز ولو قل على المشهور، وأما الزيادة في الوزن فإن كان التعامل بالوزن فلا يجوز إلا كرجحان الموازين كما قال المص، وأما إن كان التعامل بالعدد فجائز أن يقضي مثل العدد الذي عليه ولو كان أزيد في الوزن. قال في التوضيح لما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم إن خيار الناس أحسنهم قضاء

(1)

): لهذا أجاز أصحابنا إذا كان التعامل بالعدد لمن استسلف عشرة دراهم ناقصة أو أنصافا أن يقضيه عشرة دراهم كاملة بغير خلاف. انتهى. وأصل المسألة في المدونة قال في كتاب الصرف: وإن أسلفت رجلا مائة درهم عددا وزنها نصف درهم فقضاك مائة درهم وازنة على غير شرط جاز، وإن قضاك تسعين وازنة فلا خير فيه، ثم قال: وإن أقرضك مائة درهم وازنة عددا فقضيته خمسين درهما أنصافا جاز، ولو قضيته مائة درهم أنصافا ونصف

(1)

البخاري، كتاب الاستقراض، رقم الحديث 2392. مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1600.

ص: 212

درهم لم يجز. قال أبو الحسن: وهذا في بلد تجوز فيه الدراهم عددا، وأما في بلد لا تجوز فيه الدراهم إلا وزنا فلا يجوز بيعها ولا قرضها إلا وزنا، فيجوز حينئذ أن يقضيك عن مائة أنصافا خمسين درهما عددا مثل وزنها. انتهى. ونقل ابن عرفة عن بعض شيوخه أنه نقل عن شيوخه أنهم اختلفوا في مسألة المدونة المذكورة، فمنهم من قيد الجواز بكون الأنقص معتبرا درهما بذاته لا نصف درهم، وإلا منع كزيادة كثيرة في العدد كخمسين قيراطا جديدة تونسية لا يصح عنها خمسون درهما جديدة تونسية، ومنهم من أطلق الجواز فيصح قضاء خمسين درهما عن خمسين قيراطا، والقيراط عندهم نصف الدرهم، وعلم من كلام المدونة أنه لا يصح أن يقضيه عن المائة درهم مائتي درهم أنصافا، ولا عن المائة نصف خمسين درهما ولا درهما عن نصفين

(1)

)، وهو ظاهر. والله أعلم. انتهى كلام الحطاب.

أو دار الفضل من الجانبين، قال عبد الباقي: عطف على معنى أزيد عددا؛ أي لا إن زاد عدد القضاء ولا إن دار فضل من الجانبين، وهذا كالتقييد لقوله: وإن حل الأجل لخ، مثال ذلك أن يدفع قضاء تسعة محمدية عن عشرة يزيدية. وثمن المبيع من العين كذلك من بيانية؛ يعني أن ثمن المبيع المترتب في الذمة إذا كان عينا فإنه كذلك أي يجري في قضائه ما جرى في قضاء القرض من منعه عند دوران الفضل من الجانبين، ومن جوازه بالمساوي وأفضل صفة قبل الأجل وبعده، وبأقل صفة وقدرا إن حل الأجل لا قبله إلا في حالة واحدة أشار لها بقوله:

وجاز ثمن المبيع إذا كان عينا بأكثر، عددا أو وزنا مما وقع عليه العقد، فكأنه قال: إلا أنه يجوز بأكثر لأن علة منع ذلك في القرض -وهي السلف بزيادة- منتفية في قضاء ثمن المبيع، وظاهره قضاه بأكثر قبل الأجل أو بعده. قال الحطاب: إنما قيده بالعين لأن قضاء الأفضل في الطعام والعروض قبل الأجل ممتنع في البيع قولا واحدا لما فيه من حط الضمان وأزيدك. انتهى. ويأتي هذا للمص في باب السلم إن شاء الله تعالى.

(1)

في الأصل نصين والمثبت من الحطاب ج 5 ص 140 ط دار الرضوان.

ص: 213

ودار الفضل بسكة وصياغة وجودة، قرره التتائي على أن الواو في صياغة بمعنى أو، وفي وجودة بمعنى مع، يعني أنه يدور الفضل بالسكة مع الجودة ويدور أيضا بالصياغة مع الجودة في باب الاقتضاء قرضا أو غيره، فلا يقتضي عشرة تبرا أجود عن مثلها مسكوكة ولا عكسه، ولا مصوغ ردي عن مثله طيب غير مصوغ وعكسه، ابن الحاجب: والسكة والصياغة في القضاء كالجودة اتفاقا. التوضيح: والاتفاق الذي حكاه المص إنما هو فيما بين المسكوك والمصوغ وغيرهما، لا فيما بين المصوغ والمسكوك؛ لأنه اختلف في جواز اقتضاء المسكوك عن المصوغ وعكسه، على قولين حكاهما ابن عبد السلام وغيره. انتهى. ومذهب ابن القاسم الجواز، وبتقرير التتائي تخرج هذه الصورة من كلام المص، وهو الصواب. قاله بناني. وقرر المص بأنه يدور الفضل بالسكة مع الصياغة فلا يقتضي مسكوكا عن مصوغ ولا عكسه، وفيه القولان اللذان حكاهما التوضيح عن ابن عبد السلام وغيره. والواو في: وجودة بمعنى مع على كلا التقريرين، وفي: وصياغة بمعنى مع على التقرير الثاني. وحاصل التقرير الثاني أن المصور الست كلَّها ممتنعة وهي: القضاء بالمسكوك عن التبر الجيد، وعكسه، والقضاء بالمسكوك عن المصوغ، وعكسه، والقضاء بالمصوغ عن التبر الجيد، وعكسه، وعلى تقرير التتائي تخرج صورتا السكة والصياغة.

تنبيه: قال بناني: واعلم أن من صور دوران الفضل مسألة المجموعة والقائمة والفرادى وهي في المدونة انظرها في المواق والتوضيح. وقال في تكميل التقييد عن أبي الحسن ما نصه: تحصيل ما في المدونة أن القائمة يجوز اقتضاؤها عن كل شيء، والمجموعة لا يجوز اقتضاؤها عن شيء، والفرادى يجوز اقتضاؤها عن القائمة، ولا يجوز اقتضاؤها عن المجموعة، وقد جمعته في بيت:

خذ قائما عن كلها لا ما اجتمع

والفرد خذ عن ذاك لا عن ذا فدع

المواق: فالمجموعة قال في المدونة: هي المقطوعة الناقصة تجمع في الكيل. ابن عرفة: يريد المعتبر وزنها من حيث جمعها لا من حيث آحادها. والقائمة: هي المائة الجياد إذا جمعت مائة زادت في الوزن مثل الدينار. والفرادى: إذا جمعت في الوزن نقصت في المائة مثل الدينار. وقال اللخمي: القائم يزيد حبة، والمجموع يزيد وينقص، والفرادى ينقص حبة. فالفرادى والقائم معلوما الوزن

ص: 214

بخلاف المجموع. وقال ابن شأس: للقائمة فضل العين والوزن، وللمجموعة فضل العدد ونقص الصفة، وللفرادى نقص الوزن وقد تكون خالصة أو دون ذلك. انتهى. ومذهب المدونة أن يقتضى قائمة عن مجموعة، وتعقب بأن فيه دوران الفضل. وانظر الجواب في ابن عرفة. انتهى كلام المواق. وتعقب الرهوني ما أجيب به. والله سبحانه أعلم. انتهى. ولما كانت النقود وما في حكمها مما يقع به التعامل كالفلوس من المثليات تضمن بمثلها شرع في الكلام على قضائها إذا ترتبت في الذمة من بيع أو قرض أو غيرهما ثم حصل خلل في المعاملة بها بقوله:

وإن بطلت فلوس فالمثل؛ يعني أن الشخص إذا ترتبت له على أحد فلوس أو نقد من قرض أو غيره ثم قطع التعامل بها أو تغيرت من حالة إلى أخرى، فإن كانت باقية فإن الواجب على من ترتبت عليه المثل. قاله الخرشي. وقال الحطاب: يعني أن من أقرض فلوسا أو باع بها سلعة ثم إنه بطل التعامل بتلك الفلوس وصار التعامل بغيرها فإنما يجب له تلك الفلوس ما دامت موجودة ولو رخصت أو غلت. وقال أبو علي: آي ولو باعه بفلوس أو أسلفها له ثم قطع التعامل بها فإنما يجب عليه مثلها وهو المشهور لأنها من المثليات، وقال المواق: من المدونة: من لك عليه فلوس من بيع أو قرض فأسقطت لم تتبعه إلا بها ولو كانت حين العقد مائة بدرهم ثم صارت ألفا به.

أو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم؛ يعني أنه إذا عدمت الفلوس فالواجب على من ترتبت عليه قيمتها وتعتبر قيمتها وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين من العدم والاستحقاق، فلو عدمت أول الشهر الفلاني وحل الأجل آخره فالقيمة آخره فإن حل الأجل أوله وعدمت آخره، فالقيمة يوم العدم، ولو أخره أجلا ثانيا وقد عدمت عند الأجل الأول فالقيمة عند الأجل الأول لأن التأخير الثاني بالقيمة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: أو عدمت جملة في بلد تعامل المتعاقدين، وإن وجدت في غيره، فالقيمة واجبة على من ترتبت عليه، وتعتبر قيمتها وقت اجتماع الاستحقاق أي الحلول والعدم معا، ولا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما، فإذا استحقت أي بالحلول ثم عدمت فالتقويم يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت أي حلت فالقيمة يوم استحقت، ولو أخره أجلا ثانيا بعد عدمها وقد عدمت عند الأجل الأول أو

ص: 215

قبله لزمه قيمتها عند الأجل الأول؛ لأن التأخير الثاني إنما كان بالقيمة ولو أخره بها بعد حلولها وقبل عدمها ثم عدمت أثناء أجل التأخير لزمه قيمتها عند حلول أجل التأخير، كما يفيده أبو الحسن؛ لأن التأخير لم يكن للقيمة بل للمثل وقد عدم، ويفهم منه أنه إذا تأخر عدمها عن الأجل الثاني أن قيمتها تعتبر يوم عدمها، وهذا كله على مختار المص هنا، تبعا لابن الحاجب، تبعا للخمي وابن محرز؛ والذي اختاره ابن يونس وأبو حفص أن القيمة تعتبر يوم الحكم. قال أبو الحسن: وهو الصواب. البرزلي: وهو ظاهر المدونة. فكان على المص أن يذكر القولين أو يقتصر على الثاني. وقيدها الوانُّوغي وأقره المشدالي وابن غازي في التكميل بما إذا لم يكن من المدين مطل، وإلا وجب عليه لمطله ما آل إليه الأمر من السكة الجديدة أي الزائدة على القديمة كما هو ظاهر. ويدل عليه ما نقله علي الأجهوري عن السيوطي، لا الناقصة عنها ولا القيمة لأنه ظالم بمطله

(1)

). انتهى. وبحث بدر الدين القرافي مع الوانوغي فقال: تقييد الوانوغي لم يذكره غيره من شراح المدونة وشراح ابن الحاجب، وللبحث فيه مجال ظاهر؛ لأن مطل الدين لا يوجب زيادة في الدين، وله. طلبه عند الحاكم وأخذه منه، وبحث فيه أيضا بعض أصحابنا بأن غايته أن يكون كالمغصوب والغاصب لا يتجاوز معه ما غصب. انتهى. قال بعضهم: وإذا رأيت أن إطلاق المدونة عند الشيوخ يقوم مقام النص كما قال ابن عرفة، وتابع الشيوخ بعضهم بعضا على قولها وأبقوه على ظاهره، ظهر ما قاله البدر وبعض أصحابه. انتهى. وفي العيار أن ابن لب سئل عن النازلة نفسها؟ فأجاب: بأنه لا عبرة بالمماطلة ولا فرق بين الماطل وغيره إلا في الإثم. انتهى. قاله بناني.

تنبيهات: الأول: قال الحطاب: لا خصوصية للفلوس بل الحكم كذلك في الدنانير والدراهم كما أشار إليه في كتاب المصرف من المدونة، وصرح به في التلقين والجلاب وغيرهما. قال في الجلاب: ومن اقترض دنانير أو دراهم أو فلوسا أو باع بها وهي سكة معروفة ثم غير السلطان السكة وأبدلها بغيرها فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد. وقال الشيخ أبو علي: قال

(1)

في الأصل بظلمه والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 60.

ص: 216

المقري في قواعده: الأصل قضاء ما في الذمة بمثله، فإن تعذر أو تعسر رجع إلى القيمة. وقوله: أو عدمت فالقيمة، قال بناني: وتعتبر القيمة في بلد العاملة وإن كانا حين القبض في غيرها.

الثاني: قوله: وإن بطلت فلوس فالمثل. قال الرهوني: هذا مذهب المدونة، وعليه عول القاضي عبد الوهاب في تلقينه، وابن الجلاب في تفريعه، واللخمي في تبصرته، وابن يونس في ديوانه، وابن رشد في أجوبته، وابن عسكر في إرشاده، ولم يحكوا فيه خلافا. فقد سُئل ابن رشد رضي الله عنه عن الدنانير والدراهم إذا قطع السكة فيها وأبدلت بسكة غيرها ما الواجب في الديون والمعاملة المتقدمة وأشباه ذلك؟ فقال رضي الله عنه: المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة. فقال له السائل: فإن بعض الفقهاء يقول: إنه لا يجب له إلا السكة المتأخرة؛ لأن السلطان قد قطع تلك السكة وأبطلها فصارت كلا شيءٍ. فقال وفقه الله: لا يلتفت إلى هذا القول، فليس بقول لأحد من أهل العلم، وهذا نقض لأحكام الإسلام ومخالفة لكتاب الله وسنة النبي عليه السلام في النهي عن أكل المال بالباطل، إلى آخر كلامه. وذكر جماعة الخلاف، واختلف في مقابل هذا المشهور، فأفتى ابن عتاب أنه يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة، وجزم أبو الحسن في كتاب المصرف بأن الشاذ الاتباع بقيمة السلعة. نقله الرهوني. وقال: أما على أن الواجب في الشاذ هو قيمة السلعة يوم دفعها تصوره ظاهر، وأما على أن الواجب قيمة السكة المقطوعة فقد استشكله ابن عبد السلام، وأجاب ابن عرفة بأنها إذا كانت تقوم في حال عَدَمها على تقدير وجودها فكذا تقوم في حال وجودها وانقطاع التعامل بها على تقدير ثبوته، وتقويمُ الشيء على تقدير حالة غير حاصلة في المدونة وغيرها كثير. انتهى. ويفهم منه أن الخلاف الآتي في انعدامها يجري هنا، إلا أنه يقال هنا: وقت اجتماع الاستحقاق والقطع. انتهى كلام الرهوني بحذف منه ثم قال: ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب وصريح كلام آخرين منهم أن الخلاف السابق محله إذا قطع التعامل بالسكة

ص: 217

القديمة جملة، وأما إذا تقررت

(1)

بزيادة أو نقص فلا. انتهى. قال: قلت: ينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه. انتهى المراد منه.

الثالث: قوله: وقت اجتماع الاستحقاق والعدم، قد علمت أن معناه الأقصى من الحلول والعدَم، وقد علمت أن اللازم له القيمة في هذا الوقت أو يوم الحكم على الخلاف المذكور، فلو قضاه مما تجدد التعامل به فهل يجوز ذلك أم لا؟ الظاهر أنه جائز وأنه من باب صرف ما في الذمة.

ولما أنهى الكلام على أنواع البيع ومتعلقاته شرع الكلام على شيء من متعلقات الغش لوقوعه غالبا في البياعات وهو ضد النصيحة وبدأ من أحكامة بقوله: وتصدق بما غش يعني أن من فعل فعلا ليغش الناس به فإنه يؤخذ منه ما غشه أي أحدث فيه الغش ويتصدق به أدبا لصاحبه. قاله أبو علي. وقال عبد الباقي: وتصدق بما غشه أيَ أحدث فيه الغش وأعده ليغش به الناس فيحرم عليه بيعه ويفسخ، فإذا رد له تصدق به على من يعلم أنه لا يغش به أدبا للغاش ليلا يعود لارتكاب المحرم لخبر: (من غشنا فليس منا

(2)

). أي ليس على مثل هدينا وسنتنا، فإن أحدث فيه الغش لا ليبيعه أو ليبيعه مبينا غشه ممن لا يغش به أو شك في حاله فإنه لا يتصدق به عليه، فإن لم يبين للمشتري وكان لا يغش به إذا بقي عنده فله التمسك به ويرجع بما بين الصحة والغش إن علم قدره وإلا فسد البيع، وأفهم قوله: تصدق بما غش: أنه لا يكسر الخبز ولا يراق اللبن، وطرحُ عمر له ليس مذهبنا وبتسليمه فيحمل على القليل، وأما الكثير فقال أبو الحسن: لا قائل بأنه يراق ويرد الخبز المكسور لربه إن كان غشه نقص وزن، فإن كان بإدخال شيء فيه بيع عليه ممن يؤمن أن يغش به.

ويتصدق بما غش حيث قل، بل ولو كثر الشيء المغشوش، وهو قول مالك، وقال ابن القاسم: لا يتصدق بالكثير، بل يؤدب صاحبه ويترك له أي حيث يؤمن أن يغش به وإلا بيع ممن يؤمن. كما مر قريبا في الخبز القليل إذا تحري وكسر وكان نقصه غير نقص الوزن. قال الشيخ سالم: وفي كون المص أشار بالمبالغة لقول مالك نظرت لأن اللخمي ذكر عنه أن التصدق بالكثير جائز لا

(1)

كذا في الأصل والذي في الرهوني ج 5 ص 121 تغيرت.

(2)

مسلم، رقم الحديث 101.

ص: 218

واجب، ولو حمل تصدق على الجواز لصح أن المص أشار بالمبالغة لقول مالك، وقوله: وتصدق بما غش، هو المشهور، وقيل: يراق اللبن وتحرق الملاحف الردية. قاله ابن العطار. وأفتى به ابن عتاب في أعمال الخزازين إذا غشوا فيها، وقيل: تقطع خرقا خرقا وتعطى للمساكين. قاله ابن عتاب. وقيل: لا يحل الأدب في مال امرئ مسلم. حكى هذه الأقوال ابن سهل. قال ابن ناجي: واعلم أن هذا الخلاف إنما هو في نفس المغشوش هل يصح فيه الأدب أم لا؟ وأما لو زنى رجل مثلا فإنه لا قائل فيما قد علمت أنه يؤدب بالمال، ما يفعله الولاة في ذلك فجور لا شك فيه. انتهى. وقال الشيخ سيدي عبد الواحد الونشريسي: أما مسألة العقوبة بالمال، فقد نص العلماء على أنها لا تجوز بحال، وفتوى البرزلي بتحليل المغرم اللقب بالخَطَا، لم يزل الشيوخ يعدونها من الخَطَا، ويقبضون عن متابعته الخُطَا، وما وقع من الخلاف في طرح المغشوش أو التصدق به وحرق الملاحف الردية النسج وشبه ذلك إنما هو من باب العقوبة في المال لا من باب العقوبة به، ومنه التصدق بأجرة المسلم المؤاجر من كافر نفسه في عصر الخمور ورعي الخنزير إن اطلع عليه بعد الفوات بالعمل والتصدق بأثمان الخيل والسلاح المبيعة ممن يقاتل بها المسلمين، وما روي عن مالك من حرق بيت الخمار كما في نوازل البرزلي فهي رواية شاذة، وهو راجع لذلك أيضا؛ لأن المراد البيت الذي يوجد فيه الخمر ليبيعها فيه، فهو راجع إلى العقوبة في المال الذي عصى الله فيه، كما هو لائح من كلام ابن رشد في سماع القرينين، واستحسان البرزلي ما يفعله حكام قرى تونس من إغرام مُرسِلِ البهائم في الكروم شيئا مدخولا عليه جارٍ على مذهبه، إلا أن يكون ما يغرمه قدر ما أتلفته البهائم فيكون من باب غرم المتلف لا من باب العقوبة بالمال. انتهى. قاله بناني. وقال الحطاب عند قوله: ولو كثر: هذا قول مالك، وقال ابن القاسم: لا يتصدق إلا بما كان يسيرا. قال ابن رشد: وقول ابن القاسم أحسن من قول مالك؛ لأن الصدقة بذلك من العقوبات بالأموال، [والعقوبة بالمال

(1)

] أمر كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك وعادت العقوبة بالأبدان، فكان قول ابن القاسم أولى بالصواب، والقياس أن لا يتصدق بقليل ولا كثير. وقال

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 146 ط دار الرضوان.

ص: 219

القرطبي في حديث التي لعنت الناقة رأتت النبي صلى الله عليه وسلم: يستفاد منه جواز العقوبة بالمال في المال لمن جنى فيه بما يناسب ذلك. وقال في الإكمال: فيه العقاب في المال ليزجر غيرها. (إلا أن يكون اشترى كذلك) يعني أن محل التصدق المذكور إنما هو حيث لم يكن اشتري مغشوشا، وأما إن اشتراه كذلك أي مغشوشا فإنه لا يتصدق به عليه ولا ينزع منه ولكن لا يمكن من بيعه قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: إلا أن يكون اشترى كذلك يريد أو وهب له أو ورثه. قال ابن رشد: فلا اختلاف أنه لا يتصدق بشيء من ذلك، والواجب أن يباع ممن يؤمن أن يغش به.

(إلا العالم ليبيعه) مستثنى من المستثنى؛ يعني أن من اشترى مغشوشا وهو عالم بأنه مغشوش واشتراه (ليبيعه) ممن يغش به فإنه يتصدق به عليه قبل أن يبيعه أو بعده ورد عليه فإن تعذر رده عليه، بفواته أو ذهاب المشتري ففي ثمنه الأقوال الثلاثة التي قدمها المص، فالتصدق به عليه قبل أن يبيعه كما مر محمول على ما إذا فات رده لبائعه، وما مر من فسخه فيما إذا لم يفت، فلا منافاة بين قوله هنا: يتصدق به على مشتريه عالما بغشه ليغش به، وبين ما مر من فسخه. ومفهوم قوله: ليبيعه، أن شراءه مع علمه بغشه ليأكله أو يدخره لا يتصدق به عليه وهو كذلك، ثم ذكر بعض جزئيات الغش مدخلا لما لم يذكره تحت كاف التمثيل. فقال:

(كبل الخمر بالنشاء) كأن سائلا سأله عن كيفية الغش ما هي؟ فقال: كبل الخُمُر لخ؛ أي مثال الغش هو بل الخمر بالنشا، والخمر جمع خمار بالكسر من أي صنف كان من خز أو حرير أو غيرهما، والنشا بالقصر وقد يمد ما يعمل منه الجلد يبلون به الخمر لتظهر صفاقتها وتصفى به ألوان الثياب، ومعنى يعمل منه الجلد يلصق به، وهو يعمل من القمح، ويأتي أنه ليس بربوي بل ليس بطعام وتصميغ حاكة صنعتهم هي كبل الخمر، ويخير المشتري ولو علم أن أصل النشاء والصمغ فيه لأنه قد يخفى عليه قدر ما فيه. قاله ابن حبيب. أي بين التماسك والرد فإن فاتت ردت للأقل من الثمن والقيمة. قاله عبد الباقي. وقال المواق عن ابن عرفة: الغش التدليس وهو

ص: 220

إبداء البائع ما يوهم كمالا في مبيعه كاذبا أو كتم عيبه وهو محرم إجماعا كبيرة، لحديث مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله، فقال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا

(1)

). ولا يجب فسخه. سمع ابن القاسم: لا خير في خُمُر تعمل من القز وترش بخبز مبلول لتشد وتصفق وهو غش. ابن رشد: لظن مشتريها أن شدتها من صفاقتها، فإن كان مشتريها علم أن شدتها من ذلك فلا كلام له وإلا فله ردها. انتهى. وقال الحطاب عند قوله: كبل الخمر

(2)

بالنشا: فإن علم المشتري أنها مبلولة بالنشا وأن ذلك يصفقها ويشدها لم يكن له كلام، وإن لم يعلم أنها مرشوشة بذلك كان بالخيار بين أن يرد أو يمسك، فإن فاتت ردت إلى القيمة إن كانت أقل من الثمن؛ وكذلك إن علم أنها

(3)

مرشوشة بذلك ولم يعلم أن ذلك يشدها، وهذا نحو ما قاله ابن حبيب: إن ما يصنعه حاكة الديباج من تصميغها غش لأنه وإن كان التصميغ لا يخفى عن المشتري فقد يخفى عليه قدر ما أحدث عليه من الشدة والتصفيق. والله أعلم. انتهى.

وسبك ذهب الجيد وردي، هذا مثال للغش أيضا؛ يعني أن سبك الذهب الجيد مع الردي من الغش لأنه يوهم جودة جميعه، وكذا الفضة. قال في الجواهر: ويكسر إن خيف التعامل به. الفاكهاني: ومِن خلط الجيد بالردي خلطُ لحم الذكر بالأنثى، وحرم خلط جيد بردي كانا من صنف أو كل واحد من صنف، ولو دخل على تبيين قدر كل واحد قبل الخلط وصفته لاحتمال غش من يشتريه، ووجب تخليص كل قبل البيع إن أمكن، فإن عسر كقمح بشعير صح البيع بعد الوقوع، وكذا فيما يمكن، وهذا كله إن لم يكن الردي تبعا وإلا جاز خلطه وبيعه من غير بيان وليس للمبتاع كلام. قاله عبد الباقي. قوله: وإلا جاز خلطه وبيعه لخ، فيه نظر بل ظاهر كلام ابن رشد أن خلطه حرام مطلقا، وأن الذي يجوز إن كان تبعا هو بيعه من غير بيان. قاله بناني.

(1)

مسلم، رقم الحديث 102.

(2)

في الأصل الخبز والمثبت من الحطاب: ج 5 ص 147 ط دار الرضوان.

(3)

في الأصل أنه والمثبت من الحطاب: ج 5 ص 147 ص دار الرضوان.

ص: 221

وقال الحطاب: قال ابن رشد: خلط الجيد بالردي لا يجوز لأحد أن يفعله وإن بين

(1)

عند البيع أنه مخلوط. وينبغي للإمام أن يمنع منه، فإن فعل كان للمشتري أن يرد وإن بين أنه مخلوط جيد بردي، إلا أن يبين مقدار الردي الذي خلط بالجيد وصفتهما جميعا قبل الخلط حتى يستوي علمهما فلا يكون للمشتري حينئذ أن يرد، ويكون هو قد باء بالإثم في خلطه إذ قد يغش به غيره، ويكره له أن يبيعه ممن يخشى أن يغش به، ولا يجوز له أن يبيعه ممن يعلم أنه يغش به، وهذا في الصنف الواحد الذي يخلط ولا يمتاز بعد الخلط جيده ورديئه كالزيت والسمن والعسل وشبه ذلك، وأما الصنفان اللذان يمتازان بعد الخلط إلا أنه لا يعلم مقدار كل واحد منهما كالقمح والشعير والسمن والعسل وما أشبه ذلك، فإن كان أحد الصنفين منهما يسيرا جدا تبعا لصاحبه فله أن يبيع ولا يبين، وإن لم يكن أحدهما يسيرا ولا تبعا لصاحبه فلا يخلو من أن يكون يمكن تمييزه أو لا، فإن كان يمكن تمييزه كالغلث مع الطعام واللحم السمين مع المهزول وما أشبه ذلك فلا يجوز أن يباع الكثير من ذلك علي ما هو عليه حتى يتميز أحدهما من صاحبه، ويجوز أن يباع القليل منه على ما هو عليه، وإن كان مما لا يمكن تمييز أحدهما من صاحبه؛ كالماء من اللبن أو العسل والقمح من الشعير والسمن من العسل، فقيل: يجوز بيعه على بيان ما فيه إذ لا يقدر على تخليص بعضه من بعض ممن يأكله ويأمن أن يغش به. قاله ابن حبيب في الواضحة في اللبن والعسل المغشوشين. وقيل: إن ذلك لا يجوز وهو قول مالك في الواضحة وكتاب ابن المواز: أن من خلط قمحا بشعير لقوته يكره له أن يبيع ما فضل منه، يريد إلا أن يتبين مقدار الشعير من القمح، وقيل: إن كان خلطه للبيع لم يجز له أن يبيعه، فإن خلط للأكل جاز له أن يبيعه وهو قول ابن القاسم: وقيل: لا يجوز له أن يبيعه إلا أن يكون خلطه للأكل وهو يسير وهو قول مطرف وابن الماجشون، وعلم من كلام ابن رشد أن الكراهة في قول محمد: إن من خلط قمحا بشعير يكره له أن يبيع لخ، على المنع. انتهى. الحطاب: ولا يجب فسخ بيع الغش اتفاقا. قاله ابن عرفة. ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: من غش في أسواق المسلمين يعاقب بالسجن والضرب وبالإخراج من السوق إن كان معتادا للغش، ولا يرجع إليه

(1)

في الأصل كان يبين والمثبت من الحطاب ج 5 ص 144 ط دار الرضوان.

ص: 222

حتى تظهر توبته. وقول ابن حبيب: إن المعتاد للغش يخرج، يريد قد أدب فلم يردعه الأدب. وقوله: حتى تظهر توبته، صحيح لأنه لم يخرج أدبا له، وإنما أخرج لقطع ضرره إذ قد أدب فلم ينفع فيه الأدب.

تنبيه: سئل ابن رشد عمن اشترى مصحفا فوجده ملحونا كثير الخطإ غير صحيح هل عليه بيان ذلك عند البيع مع أنه إن بين لم يشتره أحد؟ فأجاب: لا يجوز له البيع حتى يبين. قلت: في جواز البيع نظر لأن كثرة الخطإ لا يقدر على ضبط الصفة معها، فأشبه بيع القمح إذا وجد فيه كثير الغلث لا يجوز بيعه حتى يغربل، وكذلك هذا حتى يضبط ويصحح، ومثله شراء كتب الفقه واللغة وغيرهما على القول بجواز البيع إذا وجد فيها الفساد والنقص كثيرا أو التكرار في الكلام، فحكمه حكم المصحف، وتقدمت مسألة إذا كتب مصحف بدواة ماتت فيها فأرة أنه يدفن ولا يجوز بيعه، وكأنه من الأشياء التي لا يجوز بيعها كالزيت والطعام المائع المتنجسين، لا كالثياب المتنجسة.

فرع: قال السخاوي في كتابه الأصل الأصيلْ، في تحريم النقل من التورية والإنجيلْ: قال في العوفية: اختلف في بيعها وشرائها وجعل من جملة الأموال علي قولين، وأما الإجارة على كتابتها فلا تجوز. وروى ابن وهب عن مالك في المجموعة: جواز وصية الكافر بها، وبه قال ابن القاسم وأشهب، فإن قلنا: بأنها مال وجوزنا بيعها على أحد القولين، فالجواز وإلا فلا. انتهى من الحطاب. وقال أبو علي: واللبن يخلط به بعض الماء لإخراج زبده لا بأس به، وكل ما هو مصلح جرت العوائد به كما يفهم من كلام ابن رشد وغيره. انتهى. ثم قال: الغش المحرم هو الذي لم يعرفه الناس، وأما إذا كان معروفا لا يخفى بل من شأنه أن يحاط به ويدرك وجرت العوائد به فليس ذلك محرما، واستمر حال بائعي سلل التين وحمولات العنب على جعل الطيب أعلاه، ثم ما يليه أدنى منه وأطيب مما تحته، وعلم ذلك المتبايعون وهو خفيف ولا مقال لمبتاعه إلا أن يكثر خلاف الأسفل لما فوقه فيكون معيبا. انتهى. ثم قال بعد كلام: والحاصل أن الغش

ص: 223

هو ما لم يعلم، وما علم فلا، ومن أجل خفاء الغش وجب الخيار لمشتريه، فإن لم يخْفَ ولو بالعادة فلا خيار بل ولا منع. انتهى.

ونفخ اللحم؛ يعني أن من أمثلة الغش نفخ اللحم، يريد بعد السلخ لأنه يغير طعم اللحم ويظهر أنه سمين، فإن علم بذلك المشتري فله رده، وأما نفخ الذبيحة قبل السلخ فلا كراهة فيه لأنه يحتاج إليه وفيه صلاح ومنفعة. قاله الحطاب. وقال عن ابن رشد: ولا بأس بخلط اللبن بالماء لإخراج زبده وبالعصير ليتعجل تخليله؛ لأن ذلك إنما يفعل للإصلاح لا للغش. انتهى. وقال عبد الباقي: ونفخ اللحم بعد سلخه كما يفيده إضافة نفخ إلى اللحم: فليس قولنا بعد سلخه قيدا زائدا على المص؛ لأنه يغير طعم اللحم ويظهر أنه سمين، ونفخ الحوت ليظهر طيبه، وخلط الزعفران والمسك، وخلط اللبن بماء إلا يسيرا لاستخراج زبده، كنفخ جلد لحم قبل سلخه لاحتياجه لذلك ففيه صلاح ومنفعة، ويسير ماء عصير ليتعجل تخليله. قال التتائي: ويعاقب الغاش بسجن أو ضرب أو إخراجه من السوق إن اعتاده قاله ابن الماجشون. وقال ابن القاسم: لا يشترط في إخراجه اعتياده. انتهى. ولا يرجع إليه حتى تظهر توبته بناء على أن إخراجه لقطع ضرره بعد تأديبه بغير الإخراج، لا على أن نفس إخراجه تأديب، كما يقتضيه التتائي لعطفه بأو، فلا يمنع أن يرجع إليه بعد مدة يرى أنه تاب بها وإن لم تظهر توبته، ثم محل تأديبه بإخراجه منه حيث لا يمكن أن يرجع له ويعرف به لاتساعه، وإلا فأدبه بضرب أو سجن، وكذا يقام من السوق الشرير. كما في أحمد عن بعض الشيوخ. انتهى. وقال الخرشي: إضافة المؤلف النفخ للحم تخرج نفخ الجلد فلا يحتاج كلام المؤلف إلى أن يقال فيه: بعد السلخ لاستفادة ذلك من كلامه.

ولما أنهى الكلام على وجوه الربا في النقد، ولم يتكلم على كونه تعبدا أو معللا، وعلى أنه معلل هل علته غلبة الثمنية أو مطلق الثمنية، وينبغي على ذلك دخول الفلوس النحاس فتخرج على الأول دون الثاني، شرع في الكلام على علته في الطعام، وعلى متحد الجنس ومختلفه لحرمة التفاضل في الأول دون الثاني، وحرمة ربا النساء فيهما، كما أشار إلى ذلك كله إجمالا بقوله: وحرم في نقد وطعام ربا فضل ونساء، فقال:

ص: 224

‌فصل: في بيان الربوي من الطعام وغير الربوي،

ويدخل في الطعام المصلح. واعلم أن علة ربا النساء في الطعام مجرد الطعم على غير وجه التداوي كان مدخرا مقتاتا أم لا، كرطب الفواكه نحو تفاح ومشماش، وكالخضر نحو بطيخ، وكالبقول نحو خس وهندبا وأما علة ربا الفضل في الطعام فأشار إليها بقوله:

علة طعام الربا اقتيات وادخار، قال الشبراخيتي: ثم إن ترك التركيب على ظاهره، فالعلة بمعنى العلامة والأمارة؛ أي أن علامة طعام الربا الاقتيات والادخار لخ، وإن جعل فيه قلب مع حذف مضاف كانت العلة على حقيقتها بمعنى الجالبة للحكم، كالسرقة في القطع، وبهذا يتضح كلام عبد الباقي والخرشي الآتي، وقال الخرشي: المراد بالعلة العلامة أي علامة الطعام الربوي الذي يحرم فيه ربا الفضل الاقتيات وهو قيام البنية به، والادخار وهو عدم فساده بالتأخير، ولا حد له على ظاهر المذهب، وإنما المرجع فيه للعرف، وحكى التادلي حده بستة أشهر. انتهى. وقال عبد الباقي: علة حرمة طعام الربا. قال بناني على حذف مضاف: أي علة حرمة ربا طعام الربا المتقدمة في قوله: وحرم في نقد وطعام ربا فضل؛ إذ ما هنا مبني على ما تقدم، اقتياتٌ أي قيام البنية به، وجعل بعض معنى علة علامة قائلا: لأن ما ذكره المص علامة الحرمة وادخار لا يفسد المقتات بتأخيره إليه، وذكر علة الحرمة مع أن مختصره لتبيين ما به الفتوى يقتضي ترك العلة والدليل ليبين الجزءيات المقتاتة

(1)

والمدخرة وغيرها، والذي هو صنف منها وغير صنف، ومبنى ذلك على قاعدتين وجوب المناجزة مع اختلاف الجنس، ووجوب المماثلة مع اتحاد الجنس، والبحث في الفروع إنما هو في تحقيق هاتين القاعدتين هل وجدتا أم لا؟ انتهى. ولابد من كون الادخار معتادا فلا عبرة بادخار الجوز والرمان لندوره، وفي معنى المقتات ما يصلح القوت. قاله بناني.

وهل لغلبة العيش تأويلان؛ يعني أنه اختلف شارحو المدونة في أنه يشترط أن يكون ادخاره لأجل غلبة العيش بأن يكون غالب استعماله اقتيات الآدمي بالفعل، أو لا يشترط ذلك وهو قول الأكثر

(1)

في الأصل المقتاة والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 62.

ص: 225

كما في التتائي. قاله عبد الباقي. والتأويل الأول لابن رزق، تأول المدونة علي قول القاضيين: إنه لابد مع كونه مقتاتا ومدخرا أن يكون غالبا في عيش الآدميين والتأويل الثاني لابن رشد والأكثر، وهو المعول عليه والمشهور من المذهب. قاله بناني. وقال الخرشي: وتظهر فائدة الخلاف في التين والبيض والجراد والزيت: وقد اقتصر المص في البيض والزيت على أنهما ربويان بناء على أن العلة الاقتيات والادخار، وذكر في الجراد الخلاف في ربويته بناء على الخلاف في العلة، وذكر أن التين ليس بربوي بناء على أن العلة الاقتيات والادخار، وكونه متخذا للعيش غالبا، ثم إن نخالة القمح طعام بخلاف نخالة الشعير. وظاهره أن حرمة ربا الفضل في الطعام ولو في قليل، فلا تباع حبة قمح بحبتين وهو الصحيح. انتهى. وقال عبد الباقي: وترك علة حرمة ربا النساء وهو مطلق الطعمية على وجه الغلبة لا للتداوي. واعلم أن الشيء الواحد قد يكون طعاما ومؤتدما في عرف، وغير طعام في آخر. لقول البرزلي: ابن عرفة الليم طعام والنارنج غير طعام، كأنه أخذه علي عرف بلده تونس أن الليم يصير للإدام والنارنج إنما يصنع للمصبغات ونحوها، ولا يؤكل إلا نادرا ولو عكس أو جرى مجرى الليم في بلد كان طعام. انتهى. قال التتائي: وهو بمصر مقصود بالأكل. انتهى. وقصارى أمر أى الليم أنه طعام غير ربوي خلاف ما يقتضيه كلام عبد الباقي. والله سبحانه أعلم. وقال الحطاب: الأصل في هذا الباب قوله عليه الصلاة والسلام (البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد واستزاد فقد أربى فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)

(1)

وفي رواية (الآخذ والمعطي فيه سواء

(2)

). وقصر الظاهرية الحكم على هذه المسميات لنفيهم القياس، وأما من يقول بالقياس فلا خلاف بينهم أن الحكم ليس مقصورا عليها، وإنها اختلف في العلة المقتضية للمنع حتى يقاس عليها، وقد اختلف فيها على عشرة أقوال، ذكر المص منها قولين، الأول: أنها الاقتيات والادخار؛ قال ابن الحاجب: وعليه الأكثر. قال بعض المتأخرين: وهو المعول عليه في المذهب. وتأول ابن رشد المدونة عليه. ومعنى الاقتيات أن يكون الطعام مقتاتا أي تقوم به البنية، ومعنى الادخار أن لا

(1)

مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1587.

(2)

مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1587.

ص: 226

يفسد بتأخيره إلا أن يخرج التأخير عن العادة. الثاني: أن العلة الاقتيات والادخار وكونه متخذا للعيش غالبا، وهذا القول للقاضيين أبي الحسن بن القصار وعبد الوهاب، وتأول أبو جعفر بن رزق المدونة عليه. الثالث: للقاضي إسماعيل، العلة الاقتيات وما يصلحه. الرابع: لابن نافع، العلة الادخار. والخامس: روئي عن ملك غلبة الادخار، ويظهر الفرق بينه وبين ما قبله في العنب الذي لا يزبب فعلى الادخار يخرج وعلى غلبته يدخل. السادس: قال الأبهري: العلة الاقتيات والادخار أو التفكه والادخار. السابع: لابن الماجشون؛ العلة المالية فلا يباع ثوب بثوبين، قال ابن بشير: وهذا يوجب الربا في الدور، ولأرضين ولا يمكن قوله. الثامن: نسب لربيعة، العلة مالية الزكاة. التاسع: لأبي حنيفة رضي الله عنه العلة الكيل. العاشر: قال الشافعي رضي الله عنه: العلة الطعم. قال الحطاب: وترك المص بقية الأقوال لضعفها عنده، ولا بأس بذكرها ثم ذكر ما قدمته.

وفي التنبيهات: لابد مع الادخار من شرط العادة فيه ولا يلتفت إلى ما ادخاره نادر، فيجوز التفاضل في الجوز والرمان، وهذا نص المدونة مشهور المذهب، وروى ابن نافع كراهة التفاضل فيهما لأنه يدخر وييبس، وفي معنى الاقتيات ما يصلح القوت كاللحم والتابل. قاله الحطاب. وقد مر تعريف ابن عرفة للطعام وهو ما غلب اتخاذه لأكل، آدمي أو لإصلاحه أو لشربه، فيدخل اللحم والفلفل ونحوهما واللبن، وتخصيصه صلى الله عليه وسلم الأربعة المذكورة بالذكر، لينبه بالبر على كل مقتات في حال الرفاهية تعم الحاجة إليه، وبالشعير على ما يقتات في حال الشدة كالدخن والذرة، وعلى أنه لا يخرج عن الاقتيات وإن انفرد بصفة أخرى لكونه علفا، وبالتمر على كل ما يقتات وفيه حلاوة ويستعمل فاكهة في بعض الأمصار كالزبيب والعسل، وبالملح على كل مصلح للقوت. قاله الحطاب. وقال: واختلف في النخالة هل حكمها حكم الطعام أم لا؟ فقيل: لا يجوز بيعها بطعام إلى أجل ولا بيعها قبل قبضها ولا اقتضاء الطعام من ثمنها، وقيل: يجوز ذلك لأنها كالعلف. قاله الحطاب. ولما كان اتحاد الجنسية يمنع التفاضل واختلافها يبيحه بين ذلك بقوله.

ص: 227

كحب وشعير وسلت، هذا مثال للطعام الربوي؛ يعني أن الحب ربوي، والمراد بالحب البر، ومن الطعام الربوي أيضا الشعير، ومن الطعام الربوي أيضا السلت؛ بضم السين وهو حب بين القمح والشعير لا قشر له يسمى عند المغاربة وبعض المصريين بشعير النبي صلى الله عليه وسلم. وهي جنس؛ يعني أن هذه الثلاثة جنس واحد، فيحرم فيها التفاضل، فلا يجوز التفاضل بين القمح والشعير، ولا بين القمح والسلت، ولا بين الشعير والسلت، وهذا هو المعتمد لتقارب منفعتها، خلافا لقول السيوري وتلميذه عبد الحميت الصائغ: القمح والشعير جنسان. ابن عبد السلام: هو الصحيح لخبر: (البر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء

(1)

) لخ، ووجه الاستدلال بالخبر قوله في آخره: فإذا اختلفت هذه الأجناس، يقتضي عدم جنسية الشعير والقمح كما هو ظاهر. قال الشارح: ورد بأن تقارب منفعتهما يصيرهما جنسا واحدا، وفي حديث مسلم -عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع من قمح، فقال: بعه ثم اشتر به شعيرا، فذهب وأخذ صاعا وزيادة بعض صاع. فلما أخبر معمرا قال له: رده رده ولا تأخذه إلا مثلا بمثل، فإني كنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الطعام بالطعام مثلا

(2)

بمثل). وكان طعامنا يومئذ الشعير، فقيل: فإنه ليس مثله. قال إني أخاف أن يضارع -ما يقَوِّي المشهور- قاله عبد الباقي. وقوله: ما يقوي المشهور، ما مبتدأ وخبره في حديث المتقدم، وقال الحطاب: قال المازري في المعلم: لم يختلف في المذهب أنهما أي القمح؛ الشعير جنس واحد، وقال السيوري وتلميذه عبد الحميد: هما جنسان، واختاره ابن عبد السلام لظاهر الحديث، أعني قوله: فإذا اختلفت هذه الأجناس، وأما السلت فالمذهب أنه كالقمح، قال ابن ناجي: ولا يتخرج فيه قول السيوري، وهذه إحدى المسائل الثلاث التي خالف فيها عبد الحميد الإمام، وحلف بالمشي إلى مكة ألا يفتي فيها بقول مالك رضي الله عنه، ونظمها بعضهم بقوله:

عبد الحميد خالف الإمام

لدي ثلاث هاكها نظاما

(1)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2174. مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1586.

(2)

مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1592.

ص: 228

جنسية القمح مع الشعير

تدمية بيضا بلا نكير

ترك خيار مجلس وقد حلف

بالمشي لا يفتي بقول من سلف

وسيأتي البحث مع عبد الحميد في حلفه هذا في فصل الخيار إن شاء الله. وعلس، يعني أن العلس ربوي وهو حب مستطيل عليه زغب حبتان منه في قشر يقرب من خلقة البر، والمشهور المعروف من المذهب أنه لا يلحق بالثلاث، وأنه جنس منفرد، وقيل: إنه يلحق بها وهو قول المدنيين ورواه ابن حبيب وحكاه ابن عبد البر عن ابن كنانة. قاله الحطاب. وأرز، يعني أن الأرز من الربوي. ودخن؛ يعني أن الدخن من الطعام الربوي. وذرة؛ يعني أن الذرة من الطعام الربوي، والدخن قمح السودان، والذرة البشنة. قاله الخرشي والحطاب. وعكس بناني.

وهي؛ أي الأربعة. أجناس؛ أي يجوز فيها التفاضل مناجزة. قال الحطاب: والمشهور أن الدخن والذرة والأرز أجناس متباينة يجوز التفاضل بينها، وأنها لا تلحق بالقمح، وذكر الباجي عن ابن وهب: أنها جنس لا يجوز التفاضل بينها، وذكر ابن محرز عنه أنها تلحق بالقمح وما معه. قاله الحطاب. وقال المواق عن أبي عمر: اتفق قول مالك أن الدخن والذرة والأرز أصناف يجوز التفاضل بينها. وقطنية؛ يعني أن القطنية من الطعام الربوي وهي بضم القاف وكسرها وسكون الطاء المهملة وكسر النون وتشديد التحتية وتخفيفها كعدس ولوبيا وحمصرر وترمس وفول وجلبان وبسيلة وهي قريبة من الجلبان.

ومنها، أي القطنية في باب الربوات دون باب الذكاة، كرسنة، بكسر الكاف وتشديد النون وهي الكِشْنَى بوزن كسرى، نبت شجرة صغيرة لها ثمر في غلاف مسهل مبول للدم مسمن للدواب نافع للسعال. الفاكهاني عن الأبهري: القطنية حبوب كثيرة سميت قطنية لقطونها في بيوت الناس من قطن بالمكان إذا أقام به.

ص: 229

وهي أجناس يعني أن القطنية أجناس يجوز التفاضل بين الصنفين منها مناجزة. قال الحطاب: المشهور من المذهب أن القطنية أجناس متباينة يجوز التفاضل بينها، وهو قول مالك الأول واختاره ابن القاسم. قال صاحب الطراز: لاختلاف صورها وأسمائها الخاصة بها ومنافعها وعدم استحالة بعضها إلى بعض؛ ولأن المرجع في اختلاف الأصناف إلى العرف وهي في العرف أصناف، ألا ترى أنها لا تجمع في القسم بالسهم؛ وقيل: إنها جنس واحد وهو قول مالك الثاني، قال في الرسالة: والقطنية أصناف في البيوع، وقد اختلف فيها قول مالك؛ ولم يختلف قوله في الزكاة أنها صنف واحد. انتهى. قال الرهوني: قال القلشاني: كان شيخنا الغبريني رحمه الله يقول ناقلا عن بعض الشيوخ: بل اختلف قوله في الزكاة كما اختلف قوله في البيوع. انتهى. وقال الحطاب: واختلف في الكرسنة هل هي من القطاني وهو المشهور أو هي صنف مستقل على حدته؟ قاله ابن حبيب. وقيل: إنها غير طعام وهو ظاهر قول يحيى بن يحيى: لا زكاة فيها. قال ابن رشد: وهو الأظهر؛ لأنها علف لا طعام. وقوله: وكمي أجناس، أخبر بأجناس عن لفظة هي لأنها واقعة على متعدد.

وتمر؛ يعني أن التمر من الطعام الربوتي. وزبيب؛ يعني أن الزبيب من الطعام الربوي. الحطاب: لا خلاف أن أصناف التمر كلها جنس واحد وكذلك أصناف الزبيب وأنهما أعني الزبيب والتمر جنسان. والله أعلم. قال الجزولي: والقشمش زبيب صغير لا عظم له. قاله الحطاب. ولحم طير: يعني أن لحم الطير من الطعام الربوي: ومنه الإوز والدجاج وطير الماء ونعامة وإن لم تطر. قاله عبد الباقي. قال بناني: المراد بطير الماء الذي يألف الماء ويخرج منه إذ هذا من جنس الطير لأنه بري، وأما الذي هو داخل الماء ولا يخرج منه فهذا من دواب الماء ولا يصح إدخاله هنا انتهى.

وهو جنس راجع للتمر وما بعده على سبيل التوزيع؛ يعني أن التمر جنس فلا يجوز التفاضل بين أصنافه ولا خلاف في ذلك، وكذلك الزيت كله جنس واحد فلا يجوز التفاضل بين أصنافه بلا خلاف ولا خلاف، في أنه هو والتمر جنسان كما مر قريبا، وكذلك لحم الطير كله صنف واحد فلا يجوز فيه التفاضل. قال عبد الباقي: والظاهر أنه لا يجري في مكروه الأكل من الطير كالوطواط مع مباح الأكل منه ما جري في مكروه الأكل من ذوات الأربع مع مباح الأكل منها

ص: 230

ويأتي. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: والأولى رجوع: وهو جنس للحم طير؛ لأنه هو الذي يتوهم فيه أن يكون جنسا مع غيره من اللحوم، وأما التمر والزبيب فلا يتوهم فيهما أنهما جنس واحد ولا أن كل واحد تختلف أصنافه بحيث تصير أجناسا، ولذلك اتفق على ما ذكر ابن عبد السلام: القياس اختلاف لحوم الطير. انتهى.

ولو اختلفت مرقته يعني أن اختلاف الأمراق لا يخرج لحم الطير عن اتحاد الجنسية وهو المشهور. قال في المدونة: المطبوخ كله صنف وإن اختلفت صفة طبخه. وقال اللخمي: القياس اختلافه لتباين الأغراض وهذا إذا طبخ بأبزار وإلا فكالعدم. قاله أبو علي. وقال عبد الباقي: أي أن لحم الطير جنس واحد، ولو طبخ في أمراق مختلفة بأبزار أم لا، ولا يخرجه ذلك عن كونه جنسا واحدا، وما يأتي من قوله:"وطبخ لحم بأبزار" غير هذا لأنه في نقله عن اللحم الني. قاله أحمد. قوله: في نقله عن اللحم الني، فيه نظر، ويرده ما يأتي له هناك. تأمله. قاله الرهوني. وقال الأجهوري: حقه أن يؤخر هذا يعني قوله: ولو اختلفت مرقته عن قوله: وذوات الأربع؛ أي ليكون راجعا لها ولما هنا لا لأنه خاص بذوات الأربع، ولعله لم يؤخره ليلا يتوهم رجوعه لما بعد الكاف قاله عبد الباقي. وقال بناني: لا محل لهذا هنا والأولى تأخيره بعد ذكر ذوات اللحوم ويقول: والمطبوخ من جنس جنس ولو اختلفت مرقته كما في المدونة، ثم يقول: وفي جنسية المطبوخ لخ، وكذا فعل ابن الحاجب. انظر مصطفى. وقال الخرشي: ولو اختلفت مرقته، لما في المدونة: والمطبوخ كله صنف وإن اختلفت صفة طبخه. اللخمي: القياس اختلافه لتباين الأغراض.

كدواب الماء؛ يعني أن دواب الماء كلها جنس واحد، ويدخل في دواب الماء آدمي الماء وفرسه وغير ذلك من تمساح وسلحفاة وبيض حيها وميتها. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي عند قوله: كدواب الماء ما نصه: كلها جنس واحد حتى آدميه وفرسه وكلبه وخنزيره على المعتمد خلافا للمص في باب المباح، وعليه فيجري فيهما مع مباحه قطعا ما جرى في مكروه الأكل من النعم مع مباحه ويأتي. قال الحطاب: والصير إذا ملح لا يصير جنسا غير جنس السمك انتهى. والبطارخ

ص: 231

في حكم المودع في السمك وليس من جنسه فيباع أي منفردا عن السمك بالسمك متفاضلا كما يباع الطير ولحمه ببيضه متفاضلا. انتهى. قوله: والصير إذا ملح لخ، قال في التنبيهات: الصير بالكسر حيتان صغار مملوحة. قاله بناني.

وذوات الأربع؛ يعني أن ذوات الأربع لحومها جنس واحد وحشيا كان أو إنسيا، ولهذا قال: وإن وحشيا قال الشيخ أبو علي: ولا خلاف في ذلك، وعلى ما قاله تكون إن لدفع الإيهام. والله سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: وذوات الأربع إبل وبقر وغنم بل وإن كان ذواتها وحشيا كغزال وحمار وحش وبقره

(1)

كلها صنف واحد إن كانت مباحة الأكل، فإن منع أو كره ففي المدونة: لا بأس بلحم الأنعام بالخيل وسائر الدواب نقدا أو مؤجلا لأنه لا يوكل لحمها أي الخيل وبهيمة غير الأنعام، وأما بالهر والثعلب والضبع فمكروه بيىع لحم الأنعام بها لاختلاف الصحابة في أكلها، ومالك يكره أكلها من غير تحريم، ولم يذكر أبو الحسن أن الكراهة في قولها: فمكروه، على التحريم، وفي الذخيرة: أنها عليه، وعلى ما في الذخيرة فلحم الأنعام ومكروه الأكل جنس واحد، وعلى ما لأبي الحسن جنسان، وليس من الطعام هنا خشاش أرض وأفاعي كثعبان وبنات عرس كالفأر ولا ضفدع وسلحفاة وسرطان بَرِّيَّات، ولا يباع خشاش ولو بعضه ببعض لعدم الانتفاع به، ومقتضى ما تقدم من أن الشيء يكون طعاما بمحل دون آخر جري مثل ذلك في الفار وشبهه، وظاهر المص أن ذوات الأربع جنس، ودواب الماء جنس آخر، فيباح التفاضل بين دواب الماء وبين ذوات الأربع يدا بيد. انتهى. ووقع في كلام عبد الباقي هنا أن الطير كله جنس واحد بريا أو بحريا، قال؛ كما في التتائي وقد مر عن الشيخ بناني ما يوضح ذلك، وهو: أن المراد بالبحري الطير الذي يألف الماء ويخرج منه، وأما الذي هو في داخل الماء ولا يخرج منه فإنه من دواب الماء. والله سبحانه أعلم.

والجراد: عطف على دواب الماء يعني أن الجراد جنس وحْدَه، وفي المدونة: لا بأس بالجراد بالطير وليس هو لحما؛ وبين الاختلاف في كونه ربويا أم لا بقوله: وفى ربويته خلاف؛ يعني أن

(1)

في الأصل وبقر والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 64.

ص: 232

الشيوخ اختلفوا في كون الجراد ربويا. ابن الجلاب: جنس رابع عند مالك، وهو مقتضى مذهبه لأنه يفتقر عنده إلى الذكاة ويمنع منه المحرم، وبالجملة فظاهر المذهب أنه جنس ربوي، وعزا ابن عرفة لظاهر المدونة نحو ما في الجلاب، وفي كونه غير ربوي قال المازري: المعروف من المذهب أن الجراد ليس بربوي خلافا لسحنون انتهى. قال الحطاب: ولو اختلفت مرقته أشار بلو لقول اللخمي: القياس أنه يجوز التفاضل فيما اختلفت مرقته لاختلاف الأغراض في ذلك، وليس هذا خاصا بلحم الطير بل الحكم جار في دواب الماء ولحوم ذوات الأربع ولحم الجراد على القول بأنه ربوي؛ ويستفاد هذا من تشبيه هذه الثلاثة بلحم الطير. انتهى. سند: وكبود السمك ودهنه وودكه له حكم السمك وليس البطارخ من ذلك، وهو بيض السمك فإنها في حكم الودع فيه حتى ينفصل عنه كبيض الطير ولبن الأنعام، ولا يحنث [في]

(1)

اليمين المعلقة باسم السمك ببيضه ولا في اليمين المعلقة باسم البيض والبطارخ بالسمك، ولم يكن البيض في الطير كاللحم لأن البيض لا تتوقف استباحته على الذكاة كاللبن، بخلاف اللحم. والله سبحانه أعلم. سند: اللحوم عند مالك أربعة أجناس، لحم ذوات الأربع جنس علي اختلاف أسماء الحيوان إنسيها

(2)

ووحشيها، ولحم الطير جنس مخالف للحم ذوات الأربع علي اختلاف أسماء الطيور، ولحم الحوت جنس ثالث مخالف للجنسين الأولين على اختلاف أسماء الحوت كان له شبه في البر وقوائم يمشي عليها أو لا شبه له، والجراد جنس رابع؛ فكل جنس من هذه الأربعة يجوز بيعه بالجنس الآخر متفاضلا ويابسا بطري، ولا يجوز في الجنس الواحد تفاضل ولا طري بيابس، قال في المدونة: الجراد ليس بلحم أي ذي لحم، وذكر ابن الجلاب أنه جنس رابع عند مالك إلى آخر ما مر. الخرشي: والحاصل أن كون الجراد طعاما متفق عليه والخلاف في ربويته. انتهى. وقد مر أن الجراد بالجر عطف على دواب، وقيل: إنه عطف على حب فيكون مشى على ربويته أولا واستدرك ذلك بالخلاف المذكور، وقيل: بالرفع مبتدأ حذف خبره أي والجراد طعام.

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 153 ط دار الرضوان.

(2)

في الأصل إنسها والمثبت من الحطاب ج 5 ص 151 ط دار الرضوان.

ص: 233

وفي جنسية المطبوخ من جنسين قولان؛ يعني أنه اختلف في المطبوخ من جنسين بأبزار في قدر أو قدور هل يصيران بذلك جنسا واحدا ولا يلتفت إلى اختلاف اللحم وإلى اختلاف ما يطبخ به؟ أو يبقى كل واحد على حاله في ذلك قولان؛ قال في الجواهر: المذهب أن الأمراق واللحوم المطبوخة صنف واحد ولا يلتفت إلى اختلاف اللحم وإلى اختلاف ما تطبخ به، واختار اللخمي وابن يونس أن اللحمين المختلفي الجنس إذا طبخا لا يصيران جنسا واحدا بل يبقيان على أصلهما، وإذا عرفت هذا عرفت أن الجاري على قاعدة المص أن يقول: خلاف، لأن كلا من القولين قد رجح. قال في التوضيح: واعلم أن ظاهر المذهب جواز بيع المطبوخ بالمطبوخ وزنا وهو الذي يؤخذ من المدونة، قال سند: وعلى قول ابن حبيب: يمنع القديد والمشوي بالمشوي؛ لا يجوز المطبوخ بالمطبوخ لاختلاف تأثير النار، وعلى الجواز فهل تراعى المثلية في الحال أو في كون اللحم نيا؟ قولان، قال سند: والظاهر الأول. قاله الحطاب. وقال الخرشي: وفي كون المطبوخ من جنسين بأبزار في قدر أو قدور كلحم طير ولحم حوت أو لحم من ذوات الأربع جنسا واحدا فيحرم التفاضل بينهما كما قاله في الجواهر، وعدم كونه جنسا واحدا بل يبقيان على حالهما واختاره ابن يونس؛ وأما إن طبخ أحدهما بما ينقل فإن طبخ بأبزار والآخر بغيرها أو طبخ كل منهما بغير أبزار فإنهما جنسان قطعا، وأما هما مع لحم آخر فإن لم يكن مطبوخا بناقل جاز بيعه بهما أو بأحدهما متفاضلا كان من جنسهما أم لا، وإن كان مطبوخا بناقل جرى فيه الخلاف المذكور. انتهى. وفي كلام عبد الباقي هنا نظر ظاهر. والله سبحانه أعلم.

تنبيه: سئل أبو صالح عن الحوت كيف يتناسل، فأجاب: بأن قال: الذكر من الحوت يتقيأ من فيه فتتلقاه الأنثى بفمها فتبلعه وتضعه من مخرجها. وسئل: عن الجراد مما ذا يخلق؟ فأجاب: بأنه يخلق من الحوت ينثره في كل سنة مرة أو مرتين. قاله في المعيار. نقله الشيخ أبو علي وهذا الذي قاله في الحديث فإن فيه: أنه نثرة حوتة. ويعني بهذا أن ذلك أصله فلا ينافي أنه يتناسل بينه. قاله مقيده عفا الله عنه.

ص: 234

تنبيه آخر: المواق: حكي عن أبي محمد أنه قال في المطبوخ بالمطبوخ: يُتحرَّى اللحمان وما معهما من المرق لأن المرق من اللحم، وقال غيره: إنما يتحرى اللحم خاصة حيث كان نيا ولا يلتفت إليه بعد ذلك ولا إلى ما معه من المرق. انتهى. وقال عبد الباقي: وفي اتحاد جنسية المطبوخ من جنسين كلحم طير وبقر بأبزار لا ما طبخ بغير أبزار لأنه صلق وهو لا يخرجه عن أصله كما يأتي، وعدم اتحاده وبقائهما جنسين على أصلهما قولان، وعلى الأول فالظاهر أن مرقة كل كلحمه. انتهى.

والمرق؛ يعني أن مرق اللحم كاللحم فيباع بمرق مثله وبلحم مطبوخ وبمرق ولحم كهما بمثلهما متماثلا في الصور الأربع. قاله عبد الباقي. وقد مر مقابله قريبا، وما عليه المص لابن أبي زيد، فيجعل المرق تابعا للحم كان لها عين قائمة كاللفت والباذنجان أم لا، حتى إنه يجعل الهريسة بالهريسة كأنه لحم ولم يجعله لحما وقمحا بلحم وقمح، وغيره يخالفه ويقول: لا يتبع ذلك اللحم ولا يباع معه لأنه لحم وبقل بلحم وبقل ويجوز بيع بعضه ببعض متماثلا أو متفاضلا إن كان من البقول غير المدخر وإن ادخر كالبصل والثوم فلا يجوز بيعه متفاضلا.

والعظم؛ يعني أن العظم في بيع اللحم بلحم نيا أو مطبوخا كاللحم بمنزلة نوى التمر حيث لم ينفصل عنه أو انفصل عنه وكان يوكل، وإلا بيع باللحم متفاضلا إن أخرج ما في العظم من دهن، وإلا فكبيع دهن وعرض بلحم من جنسه فيما يظهر؛ وكتب بعض الشيوخ: أنه لا ينظر لما في المنفصل من المخ؛ والظاهر خلافه. قاله عبد الباقي.

والجلد؛ يعني أن الجلد المأكول ولو ببعض البلاد ولو منفصلا كاللحم. قال الخرشي: فتباع شاة يعني مذبوحة بأخرى يعني مذبوحة أيضا، ولا يستثنى الجلد لأنه لحم، بخلاف الصوف فلابد من استثنائه لأنه عرض مع طعام. ونحوه لعبد الباقي. وزاد عبد الباقي: والجلد المدبوغ كعرض. وقال الخرشي: والظاهر أن المدبوغ كعرض. انتهى. وقال المواق: وأما الجلد ففي المدونة: لا خير في شاة مذبوحة بشاة مذبوحة إلا مثلا بمثل تحريا إن قدر على تحَرِّيهما في جلودهما قبل السلخ. قال ابن أبي زمنين: ينبغي على أصولهم أن لا يجوز حتى يستثني كل واحد منهما جلده، وإلا

ص: 235

فهو لحم وسلعة بلحم وسلعة. ابن رشد: هذا رواية يحيى وليس بصحيح لأن الجلد لحم يوكل مسموطا معتادا. ومن المدونة: ما أضيف إلى اللحم من شحم وكراع وكبد وكرش وقلب ورئة وطحال وكلى وحلقوم وخصي ورأس وشبهه فله حكم اللحم، فلا يجوز باللحم ولا بعضه ببعض إلا مثلا بمثل، ولا بأس بأكل الطحال، ولا يجوز رأس برأسين إلا أن يكون رأس يساويه في التحري والوزن صغيران فيجوز، ويأتي في القسمة أن لأحد الشريكين أن يفضل صاحبه بزيادة ما لم يكن اللحم الذي أخذه شريكه أحسن، وما نسبه المواق لابن رشد نسبه أبو علي للباجي وقال: ما نسبه المواق لابن رشد لم أقف عليه. انتهى.

وعلم مما قررت أن قوله: كهو، خبر عن المبتدإ فهو راجع للمسائل الثلاث. والله سبحانه أعلم. وكذلك العصب له حكم اللحم. وما مر من تقييد الجلد بالمأكول قاله غير واحد. قال أبو علي: وهو غير صحيح لأن المذهب أن الجلد لحم فإنه يوكل مسموطا، وظاهر المص يعم بيع لحم ومرق بلحم ومرق: وبيع مرق بمرق، وبيع مرق بلحم، وهو كذلك في الجميع، وقوله: والعظم كهو، هذا هو المشهور، وقيل: يتحرى العظم ويسقط فإذا بيع العظم الذي لا يوكل وعليه لحم بلحم خالص إنما يباع الذي عليه من اللحم ويلغى العظم فتعتبر المماثلة بين اللحمين ويلغى العظم.

تنبيه: نقل الشيخ أبو علي عن ابن جزي: اللحوم عند الشافعي صنف واحد، وعند أبي حنيفة أصناف مختلفة، وهي عند مالك ثلاثة أصناف. انتهى؛ يعني الطير وذوات الأربع ودواب الماء. ونقل أبو علي عن الباجي: واختلف قولُ الشافعي فمرة قال: كل جنس من الحيوان فلحمه لحم جنس مخصوص يجوز التفاضل بينه وبين لحم غيره، وهو قول أبي حنيفة، غير أن أبا حنيفة يجعل البخت والعراب جنسا واحدا، والبقر والجواميس جنسا واحدا، والضأن والماعز جنسا واحدا، وقال الشافعي: اللحوم كلها واحدة، لحوم ذوات الأربع، ولحوم الطير، ولحوم الحيتان. انتهى.

ويستثنى قشر بيض النعام؛ يعني أنه إذا بيع البيض بالبيض فإنه لا يجوز أن يبيع بيضة النعام بما فيها ببيضة نعام بما فيها؛ لأن ذلك بيع سلعة وطعام بطعام من جنسه وسلعة، وإنما يجوز أن يبيع ما في البيضة بما في البيضة بشرط تحري المساواة وإن اقتضى مساواة ما في بيضة بما في بيضتين، ويستثني كل واحد قشر بيضته فلا يكون من جملة المبيع، وكذلك يستثنى

ص: 236

قشر بيض النعام إذا بيع بغيره من البيض، فيستثني بائع بيض النعام قشر بيضه. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وعلى المشهور من أن البيض ربوي فيتحرى إذا بيع بعضه ببعض ولو اقتضى التحري مساواة بيضةٍ ببيضتين، ويستثنى قشر بيض النعام من الجانبين إذا بيع بمثله ولبائعه إذا بيع ببيض دجاج مثلا، لما فيه في الأول من بيع عرض وطعام بعرض وطعام، وفي الثاني من بيع عرض وطعام بطعام وذلك ممنوع، وإنما كان عرضا لأنه لكثافته له قدر من الثمن، ولو بيع بيض النعام بدراهم فلا يستثنى قشره، فالمص شامل للصورتين، وعلى مستثني قشر بيض النعام أجرة كسره، كمن اشترى شاة مثلا واستثنى جلدها، وما أصابه في الكسر من بائعه، كمسألة بيع عمود عليه بناء للبائع، كذا يظهر؛ ومثل بيض النعام بيع عسل بشمعه بمثله أو بعسل بدون شمعه فيجوز إن استثنى الشمع وإلا فلا، وإن بيع بدراهم ونحوها جاز مطلقا. انتهى.

وقال الحطاب: اعلم أن البيض ربوي على المشهور فلا يباع بالبيض إلا بالوزن أو بالتحري وقشره تابع له كالعظم للحم، إلا بيض النعام فإن قشره كسلعة فلا يبيعه ببيض آخر إلا أن يستثنيه صاحبه لأنه يصير سلعة وربوي بربوي وذلك لا يجوز، وهذا أحد القولين، وسيأتي ذلك إن شاء الله. انتهى. وليس معنى المص أنه استثنى الشرع قشر بيض النعام فيصح البيع وإن لم يستثنه صاحبه. وقوله: ويستثنى قشر بيض النعام، قال في الجواهر: وإذا قلنا بأن البيض ربوي فأجزنا بيع بعضه ببعض تحريا فإن كان فيه بيض نعام فهل يتحرى ويسقط قشره حتى لا يجوز بيعه إلا أن يستثني بائعه؟ قولان؛ الاستثناء لأنه كسلعة مع ربوي فلا يجوز بيعه وهي معه بصنفة، ونفي الاستثناء لأنه غير مستقلى إلا بالقشر ولا يمكن بقاؤه مفردا فهو من ضرورته فيعطى حكم العدم أو حكم ما هو حافظ له. انتهى. الرهوني عن القاموس: القشر بالكسر غشاء الشيء خلقة أو عرضا وكل ملبوس، الجمع قشور انتهى.

تنبيه: قال في المدونة: ولا بأس بشاة لبون بلبن وزبد أو سمن أو جبن أو حالوم يدا بيد، ولا ينبغي إلى أجل، ولا بأس بشاة لا لبن فيها بلبن أو سمن إلى أجل وأما شاة لبون بطعام إلى أجل،

ص: 237

فجائز لأنه لا يخرج منها. انتهى. وفهم منه أن اللبن فيها غير منظور إليه، وإنما منع في اللبن إلى أجل للمزابنة، ولهذا جاز بيعها في الطعام إلى أجل، ولا بأس أيضا بالدجاجة البياضة بالبيض نقدا ولا يجوز إلى أجل، وإن لم تكن بياضة فلا بأس بها بالبيض نقدا وإلى أجل وإن كانت تبيض قبل الأجل، ويجوز بيع النخل التي ليس فيها تمر بتمر إلى أجل يكون للنخل تمر قبله، وقد تضمن هذا جواز بيع نخل لا تمر فيه بثمر من جنسه وإن كان يثمر في أثناء الأجل، ومثله بيع شاة لا لبن فيها بلبن إلى أجل، وإن كان يحصل فيها اللبن في أثناء الأجل. قاله الخرشي في كبيره.

وذي زيت بالجر؛ يعني أن ذا الزيت ربوي؛ ومثل له بقوله: كفجل. قال الحطاب مفسرا للمص والمعنى أن ما له زيت كحب الفجل والسلجم والجلجلان والقرطم والزيتون ربوي، وهذه الحبوب أصناف أي كل واحد منها جنس يجوز بيعه بالجنس الآخر متفاضلا، وفي بعض النسخ ذو بالرفع على أنه مبتدأ وخبره أصناف، وعلى هذه النسخة يكون قوله:

والزيوت، عطف عليه وعلى جر ذي يكون قوله والزيوت مبتدأ وخبره: أصناف؛ يعني أن الزيوت أصناف أي أجناس كأصولها. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وذو زيت يوكل، قال أحمد: أي وصاحب الزيت أصناف، وأخبر بأصناف عن صاحب لكونه شاملا لمتعدد، والرفع أولى من الجر لإفادة كونها أصنافا بخلاف الجر. انتهى. كفجل أي بزر الفجل الأحمر إذ هو الذي يخرج منه زيت طعام ويسميه أهل البر زيت السيمقا وهو غير السماق، وأما الأبيض فليس بطعام، ودخل بالكاف سلجم وجلجلان وقرطم وزيتون ونحوه. واحترزت بقولي: يوكل، عن بزر الكتان وزيته فليس بربوي، بل ليس بطعام على المعتمد، فيجوز التفاضل في زيته لأنه لا يراد للأكل غالبا كما في التتائي عن التوضيح، والزيوت المأكولة أصناف أي أجناس كأصولها، فلا يباع نوع منها بنوعه متفاضلا مناجزة، فإذا كانت أصنافا فأصولها أصناف بالأولى. انتهى.

وهذا يعلم منه أن نسخة الجر حسنة أيضا. والله سبحانه أعلم. وقال الحطاب عن ابن عرفة: وفي كون بزر الكتان ربويا رواية ابن كنانة ونقل اللخمي عن ابن القاسم: لا زكاة فيه. انتهى. وقال الحطاب بعد جلب نقول: فعلم من هذا أن الراجح في بزر الكتان وزيته أنهما غير ربويين، وكأن

ص: 238

المص ترجح عنده أنهما ربويان بحسب بلده فإن كثيرا من الناس بمصر يستعملون زيت الكتان لقلي السمك ونحوه. انتهى. وقال أبو علي بعد جلب كلام: وتلخيصُه كلُّ زيت يدخر ويوكل ففيه الربا أكل حبة أم لا، وإن كان لا يوكل فلا ربا فيه، ولو أكل حبة على ما رجحه في زيت الكتان. انتهى. ثم قال: وكلام سند يدل علي أن الربا في الزيوت بحسب البلدان، فما كان من البلدان لا يوكل فيه على سبيل الاعتياد فهو ذو ربا عندهم وإلا فلا انتهى.

كالعسول؛ يعني أن العسول أصناف يجوز بيع كل صنف منها بالآخر متفاضلا يدا بيد. قال عبد الباقي: كالعسول المختلفة من نحل وقصب وعسل رطب وعنب وخروب فإنها أصناف يجوز التفاضل بينها مناجزة، وكل منها جنس ولو اختلف. قاله التتائي. فالتشبيه في كونها أصنافا. انتهى المراد منه.

فرع: قال ابن رشد في رسم سلعة سماها سماع ابن القاسم من النذور: لم ير مالك ما يطيب من الزيوت بأشجار الأرض يخرج من صنفه، وإنما يخرج بذلك إذا طيب بصريح الطيب كالمسك والعنبر والعود وشبهه. انتهى. ونحوه في الشامل فيمن حلف على الزيت أن لا يأكله أو لا يبيعه يحنث بالزيت المطيب ما لم يخرجه ما فيه من الطيب عن صنفه حتى يجوز التفاضل فيه إلى أجل إلا أن ينوي الزيت الخالص فلا يحنث على كل حال. والله أعلم.

لا الخلول؛ يعني أن الخلول ليست كالعسول فإن الخلول كلها صنف واحد يمنع التفاضل فيه. والأنبذة؛ يعني أن الأنبذة كلها صنف واحد يمنع فيها التفاضل، وأما الأنبذة والخلول فصنف واحد على المعتمد لتقارب منفعتهما، فالخل والتمر طرفان لبعد ما بينهما فيجوز فيهما التفاضل مناجزة، والنبيذ واسطة بينهما فيباع الخل بالنبيذ متماثلين لا متفاضلين، ولا يباع النبيذ بالتمر على كل حال. قال عبد الباقي مفسرا للمص: لا الخلول فإنها كلها صنف والأنبذة كلها صنف أي جنس واحد، فنبيذ التمر مع نبيذ الزبيب صنف واحد، والخلول مع الأنبذة جنس واحد على المعتمد لتقارب منفعتها، وذكر الشارح أن الخلول جنس والأنبذة جنس آخر، وعلى الأول فيباع

ص: 239

الخل بالنبيذ متماثلا لا متفاضلا، ويباع الخل بأصله على القولين ولو متفاضلا، ولا يباع النبيذ بأصله لا متماثلا ولا متفاضلا لأنه من بيع الرطب باليابس من جنسه،

فإن قلت: لم بيع الخل بأصله مع جريان العلة المذكورة؟ قلتُ: الخل يذهب معه أصله بالكلية، بخلاف النبيذ فإن أصل التمر أو الزبيب يبقي معه، فإن قيل: لم جاز بيع الخل بأصله ومنع بيع القصب بعسله وقطارته؟ قلت: لتقارب منفعة القصب والعسل وبعد منفعة الخل من أصله. قاله عبد الباقي. وقال المواق عن اللخمي: عسل النحل والقصب والعصير أصناف يجوز بيع أحدها بالآخر، ثم قال: ولا يباع القصب بعسله ولا برُبِّه إلا أن يدخله الأبزار، وأجاز في السليمانية بيع قصب السكر بالسكر؛ لأن ذلك صنعة ويطول أمره، ولا يباع عسل القصب بربه، وهو كالطري باليابس لأن عسل القصب إذا عمل رُبَّا انقص

(1)

. ابن عرفة: الخلول وإن اختلفت أجناسها جنس واحد كخل العنب بخل التمر لاتفاق المنافع، وأما التمر بخله والعنب بخله فجائز. وقال ابن حبيب: الأشربة الحلال لم كان من التمر والزبيب والتين صنف. انتهى.

والأخباز؛ يعني أن الأخباز لا تراعى أصولها لأن المنفعة فيها واحدة، فلا يجوز فيها التفاضل وإن كانت أصولها يجوز فيها التفاضل مناجزة، هذا هو المشهور ولهذا قال: ولو بعضها قطنية، وكانت الأخباز جنسا واحدا وجرى في جنسية المطبوخ من جنسين خلاف؛ لأن الخَبز أشد من الطبخ لاحتياجه لأمور سابقة عليه، كالطحن والعجن، بخلاف الطبخ، ثم إن كانت الأخباز من جنس واحد اعتبرت المماثلة في دقيقها، وإن كانت من أصناف اعتبرت المماثلة بالوزن، والأسوقَة كلها صنف كالأخباز، ويجوز التفاضل بين السويق والخبز لاختلاف طعمهما ومنافعهما. قاله عبد الباقي.

إلا الكعك بأبزار؛ يعني أن الكعك إذا عجن بأبزار أو بزر واحد فإنه ينتقل عن ما لا بزر فيه من الخبز والكعك فيجوز التفاضل بينهما مناجزة: وقوله: إلا الكعك بأبزار؛ أي أو دهان فينتقل بالادهان كما ينتقل بالأبزار. قال أحمد: وانظر هل الكعك بأبزار صنف وبالدهن صنف آخر

(1)

كذا والذي في المواق ج 4 ص 12: نقص.

ص: 240

[و]

(1)

الجميع صنف واحد؟ واستظهر بعض شيوخنا الثاني انتهى. ومقتضى نقل المواق الأول، ومثل الأبزار أيضا السكر فالكعك به ناقل عما بدونه وعن خبز، وانظر هل هو أي ما بالسكر مع ذي الأبزار صنف أو صنفان؟ وكذا في الكعكين بأبزار مختلفة بحيث يختلف طعم كل، هل الجميع صنف واحد أو مختلف؟ وهو مقتضى التعليل، باختلاف الطعم، ومثل العجن بأبزار تضمخه بها كالكعك بالسمسم بمصر لا وضع حبة سوداء علي بعض رغيف.

وبيض، هو وما بعده بالجر عطف على حب فهو ربوي؛ يعني أن البيض ربوي وهو صنف واحد من نعام وغيره، وبيض ما يطير وم لا يطير ما يحضن وما لا يحضن. المازري: فيتحرى المساواة وإن اقتضى التحري مساواة بيضة ببيضتين، ولا يدخل في كلام المص بيض الحشرات فيما يظهر، بل ليس بطعام وكذا لحمها؛ وجزمُ كريم الدين بربوية لحمها لا يَظهر. قاله عبد الباقي. وسكر يعني أن السكر ربوي وهو صنف. قال عبد الباقي: ويجوز بيع السكر بالقصب وعسله أي مائة بلا طبخ وربه وهو ماؤه المطبوخ، ولا يجوز بيع القصب بعسله ولا بربه لأنه من الرطب باليابس إلا أن يدخل ربه أبزارت وكذا لا يجوز بيع العسل بربه، وينبغي تقييده بما إذا لم يدخله أبزار كالذي قبله، ولا يباع سكر نبات بما يقطر منه، ويباع القطر المذكور بما يباع به السكر الأبيض غير النبات، وبنفس السكر الأبيض المذكور. قاله كلي الأجهوري. وشمل قول المص: وسكر، الأبيض بالنبات.

وعسل؛ يعني أن العسل ربوي، واعلم أن كونه ربويا يفهم من كون العسول أصنافا، كما أن ربوية البيض تفهم مما مر من قوله: ويستثنى قشر بيض النعام. والجواب عن ذلك أن في ربوية العسل خلافا، وفي ربوية البيض خلافا فأتى بذكرهما للتنصيص على رد المقابل لأن مقصد المص إنما هو الرد على مقابل الراجح. والله أعلم. وقد علمت أن المشهور ربوية البيض، وأن المشهور ربوية العسل.

(1)

كذا والذي في عبد الباقي، ج 5 ص 66: أو

ص: 241

ومطلق لبن؛ يعني أن اللبن ربوي حليبا ومخيضا ومضروبا فيه زبد أم لا من إبل وبقر وغنم، وهو جنس واحد لأنه مقتات وإن كان لا يدخر فيخرج منه ما يدخر كالجبن والسمن، وأيضا فاستمراره صيره كالمدخر، وبهذا الثاني يدخل لبن الإبل لأنه لا يستخرج منه ما يدخر لكن يستمر في الضرع؛ وشمل لبن الآدمي كما في ابن عرفة لا مكروه الأكل بل ليس بطعام فيما يظهر لعدم صدق حده عليه.

تنبيه: في الذخيرة: هل اللبأ جنس غير اللبن لاختلاف الاسم والمنفعة فلا يخرج منه سمن ولا يوكل إلا مطبوخا؟ أو هو من جنس اللبن وهو الظاهر وهو أقرب للبن من الشعير للقمح. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: وشمل قواه: مطلق لبن، مطلق لبن الآدمي فلا يجوز التفاضل فيه لا بجنسه ولا بغيره وهو كذلك نص عليه المشدالي في حاشيته على المدونة. وقال ابن ناجي على المدونة: ولبن الآدمي عندي كأحد الألبان من الأنعام يحرم التفاضل فيه وفيها. انتهى. وقال المواق: من المدونة: لبن الإبل والبقر والغنم صنف واحد، ويجوز لبن الغنم الحليب وفيه زبده بلبن مضروب قد أخرج زبده. أو بلبن اللقاح ولا زبد، فهي كما جاز دقيق بقمح مثلا بمثل وللقمح ريع بعد طحنه ولا يجوز التفاضل في شيء من ذلك.

وحلبة؛ يعني أن الحلبة بضم الحاء واللام تضم وتسكن تخفيفا ربوية واختلف هل هي ربوية إن اخضرَّتْ؟ فيمنع بيعها قبل قبضها؛ التفاضل فيها وأما إن يبست فلا يمنع ذلك فيها، أو هي ربوية مطلقا اخضرت أو يبست؛ في ذلك تردد، هذا هو ظاهر المص كابن الحاجب ونحوه للجزولي، ويفسر المص ليوافق النقل بأنه اختلف في الحلبة هل هي طعام؟ وهو قول ابن القاسم في الموازية أو دواء وهو قول ابن حبيب؟ أو الخضراء طعام واليابسة دواء وهو قول أصبغ؟ واختلف المتأخرون هل هذا القول تفسير؟ وأن المذهب على قول واحد أو لا. وإلى هذا أشار المص بقوله: تردد.

فرع: قال الجزولي: وأما النشا وهو شيء يكون عند الجلاد للكتب يلصق به الجلود وهو مصنوع من الطعام فإنه يجوز بيعه قبل قبضه؛ ويجوز فيه التفاضل من غير خلاف مع أنه كان أصله من طعام، وإنما ذلك لأنه خرج عن كونه طعاما. انتهى نقله عبد الباقي. ومصلحه، بالجر عطف

ص: 242

على كحب وقد عرف ابن عرفة الطعام بأنه ما غلب اتخاذه لأكل آدمي أو لإصلاحه أو شربه. انتهى. والملح ملحق بالربوي لأنه يصلح القوت؛ يعني أن مصلح الطعام ربوي ومثل للمصلح بقوله: كملح وبصل وثوم؛ يعني أن الملح والبصل والثوم من مصلحات الطعام فهي رِبَوِية. قال الخرشي عند قوله: كملح وبصل وثوم ما نصه: اتفاقا في الجميع، وقال عبد الباقي: كملح وبصل وثوم أخضرين أو يابسين ربويان بلا خلاف كما في الشارح فيمنع فيهما التفاضل، خلافا لقول ابن العربي: يجوز فيهما التفاضل وهما جنسان كما في الشارح. انتهى. فيمنع بيع الرطب منهما باليابس منهما.

وتابل، يعني أن التابل بفتح الباء وكسرها من المصلحات فهو ربوي والتابل واحد توابل القدر ومثل للتوابل بقوله: كفلفل، بضم الفاءين، قال الخرشي: ولا يجوز بيع الرطب من البصل والثوم باليابس منهما، وأما ما عداهما من الكزبرة وما بعدها فظاهر ما في الرسالة أن الأخضر منه غير ربوي، وقال عبد الباقي: كفلفل يابس؛ وألحق به ابن عرفة الزنجبيل. وكزبرة، بضم الكاف والباء الموحدة وتفتح الباء أيضا وتبدل الزاي سينا ربوية إن كانت يابسة لا خضراء إن لم يكن عرف بجعلها كالسابق من المصلح، كما يقتضيه ابن عرفة في النارنج. قاله عبد الباقي. وكروياء كزكرياء وروي بوزن تيمياء، وأنيسون وسمار، كسحاب وكمونين، الأبيض والأسود ويسمى الثاني حبة سوداء، وشونيز بفتح الشين المعجمة وهذا الاسم أظهر فيه وأكثر استعمالا. قاله التتائي. قاله عبد الباقي.

وهي؛ أي المذكورات وما أدخلته الكاف أولا وثانيا وما عطف على كل واحد من مدخوليهما أجناس، فالكمونان جنس واحد عند الشارح والمواق، وقال التتائي بعد أجناس: وكذا القرفة والسنبل. قاله عبد الباقي. وقال بناني: وهي أجناس أي على ما استظهره الباجي. قال ابن عرفة: وفي كون التوابل جنسا أو أجناسا نقل الشيخ عن محمد عن ابن القاسم: الشمار والأنيسون جنس، والكمونان جنس. وقال البابجي: الأظهر أنها أجناس لاختلاف منافعها وتباين الأغراض فيها. انتهى. والشمار زريعة البسباس وهو النافع، والأنيسون حبة الحلاوة. انتهى كلام بناني.

ص: 243

وقوله: كفُلفُل إلى آخر الستة: هذه الستة أمثلة للتابل، وقال الشيخ أبو علي: ومصلحه كملح إلى وكمونين؛ هذا عطف على قوله: كحب، والمعنى أن الربا يدخل أيضا فيما هو مصلح للمدخر المقتات كالملح وما ذكر معه، ولا خلاف في ربوية الثوم والبصل وهما جنسان عند مالك، والملح نجس آخر. المازري: واختلف في التوابل هل هي ربوية أم لا؟ وعن ابن القاسم أن الشمار والأنيسون من الطعام، ونحا أصبغ ومحمد إلى أنهما مع الكمونين دواء. انتهى. والتابل ذكر في المحكم أن بعضهم يهمزه. قاله الحطاب. والتوابل هي الأبزار والأبازير. وقال محمد وأصبغ: الشمار والكمونان والأنيسون ليست طعاما هي دواء. إنما التابل الذي هو الطعام الفلفل والكروياء والكزبرة والقرفا والسنبل. انتهى. وقد مر أن الشونيز هو الأسود. قال الحطاب: والشونيز بفتح النتمين الحبة السوداء.

لا خردل؛ يعني أن الخردل ليس بربوي؛ والخردل بدال مهملة كما في التنزيل وجاء إعجامها، ولو أدخل الكاف على خردل ليدخل بزر البصل والجزر والبطيخ والقرع والكراث والحرف وهو حب الرشاد الكاف أحسن. ويقال في حب الرشاد قوة حتى قيل: اسقه الحرف، وألقه من الحرف

(1)

)، قاله عبد الباقي. رفال بناني: قال بعضهم: الخردل هو زريعة الجرجير وهو المعروف بحب أصناب، والقول بأنه الحرمل أو الحرف خطأ. انتهى. وظاهر كلام ابن الحاجب أن الخردل ربوي، وقال المواق: تقدم نص ابن أبي زيد عن ابن القاسم: أنه أي الخردل ربوي. أبو حفص: لا يجوز التفاضل في الأشربة كلها شراب الورد وشراب البنفسج وشراب الجُلاَّب وغيره لأن النفعة فيه متقاربة.

وزعفران؛ يعني أن الزعفران ليس بربوي بل ليس بطعام. ابن يونس: إجماعا عبد الحق عن ابن يونس: من منع سلف زعفران في طعام يستتاب فإن لم يتب ضربت عمقه لإجماع الأمة علي إجازته، فسألت أبا عمران عن ذلك؟ فقال: إن ثبت عنده ذلك الإجماع بخبر الواحد لم يستتب، وإن ثبت بطريق يحصل له العلم بذلك يستتاب. ابن عرفة: الصحيح أن الإجماع الذي يستتاب

(1)

في عبد الباقي ج 5 ص 67 الجرف.

ص: 244

منكره ما كان قطعيا وهو ما بلغ قائله عدد التواتر ونقل متواترا على خلاف فيه، ثالث الأقوال إن كان نحو العبادات الخمس، وما نقل من الإجماع في الزعفران لم أجده في كتب الإجماع. انتهى. قال بناني: موضوع هذا الخلاف الإجماع المتواتر مطلقا والتفصيل بين العلوم بالضرورة وغيره هو القول الثالث. انتهى. وخضر يعني أن الخضر ليس بربوي وإن كان طعاما،

ودواء؛ يعني أن ما يتخذ للدواء ليس بربوي بل ليس بطعام، قال عبد الباقي: ودواء وزراريع لا يعتصر منها زيت ليس بطعام بالكلية. وقال بناني: نحو صَبر وحرمل وشاهجتر

(1)

)، ولا يدخل فيه أشربة الطيب لأنها ربوية وهي جنس واحد لأن منفعتها متقاربة، فلا يجوز التفاضل بين شراب الورد وشراب البنفسج وشراب جُلاب مثلا. انظر الحطاب. واعلم أن ما يتخذ للدواء لا زكاة فيه، وقال المواق: في الرسالة: وما يكون من الأدوية والزراريع التي لا يعتصر منها زيت فلا يدخل فيما يحرم من بيع الطعام قبل قبضه والتفاضل في الجنس الواحد منه، وعنى بهذه الزراريع زريعة الكراث والبطيخ. ابن رشد: لأنها لا توكل إلا للتداوي فهي كالحرف، قال اللخمي: وعيون البقر والزفيزف يجوز التفاضل فيهما لأنهما إنما يرادان بعد اليبس للعلاج. انتهى.

وتين؛ يعني أن التين ليس بربوي، قال عبد الباقي: الراجح أنه ربوي كما في نقل المواق ونص آخره: فهذا نص مالك أن التين ربوي وظاهره شموله للأخضر واليابس، وقيل: الأول غير ربوي. انتهى. والظاهر أن كلام عبد الباقي هذا غلط فقد حكى ابن عرفة فيه ثلاثة أقوال: رِبَويته مطلقا، عدم ربويته مطلقا، ما يُيَبَّس أي يمكن تيبيسه ربوي وما لا يمكن تيبيسه ليس بربوي. انظر الرهوني. وقال المواق: أما زكاة التين فقد تقدم أن مالكا ترجح قوله في زكاتها، وأما في هذا الباب فالنصوص لمالك أنها ربوية وإن كانت لا تُيَبَّس، قال: ويحكم فيه بالأغلب. وقال الشيخ أبو علي: وكان ابن حبيب يذهب إلى وجوب الزكاة في التين؛ وقال في الشامل: وكتين وحب فجل على الأظهر فيهما، ذكره عاطفا له على القمح والشعير، فأنت ترى الراجح هو وجوب الزكاة في التين. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: ويجاب عن المص بأن بعضهم جعل التين من

(1)

في بناني ج 5 ص 67: وشاهترج.

ص: 245

نوع الفاكهة التي لا تدخر ولم ير فيه زكاة لذكر مالك له في موطئه مع الرمان والفرسك انتهى. على أن الذي يظهر من النقول ربوية التين. والله سبحانه أعلم.

وموز؛ يعني أن الموز ليس بربوي على المشهور وهو مذهب المدونة والموطإ وفاكهة؛ يعني أن الفاكهة ليست بربوية كخوخ وإجاص وتفاح وكمثرى ورمان وعُنَّبٍ بضم العين وتشديد النون وهو الزفزوف وأترجٍّ وبطيخ وقثاء. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وقال المواق عن ابن عرفة: الفواكه التي لا تقتات ولا تدخر غير ربوية اتفاقا. من المدونة قال مالك: كل طعام أو إدام يدخر فلا يجوز فيه التفاضل بصنفه وإن كان يدا بيد، وأما ما لا يدخر من ذلك مثل رطب الفواكه كالتفاح والرمان والموز والخوخ وإن ادخر، وكذلك جميع الخضر البقول فلا بأس بصنف من ذلك كله بصنفه أو بخلافه يدا بيد متفاضلا. ابن المواز: الزيزف وعيون البقر والتفاح من رطب الفواكه وإن يُبَس بعضه فليس بالغالب، ولا يُيَبَّس للأصل معاش بل يتداوى به فله حكم رطب الفواكه، ولا بأس بالتفاضل في رطبه برطبه ويابسة بيابسة وكذلك الموز.

ولو ادخرت بقطر، يعني أن الفاكهة ليست بربوية ولو كانت تدخر في بعض البلاد، كالرمان فإنه يجوز فيه التفاضل. قال المواق: قال اللخمي: أجاز مالك التفاضل في الرمان ورأى أن لا يجوز فيها التفاضل لأنها تدخر. انتهى. وقال أبو علي: ولو ادخرت بقطر أي دون غيره كالرمان والإجاص والخوخ، وأجاز مالك في المدونة التفاضل في الرمان وهو المشهور، ومثله في الخوخ انتهى. وقال الخرشي: واختار اللخمي ربوية الرمان، قال: لأنه يدخر، وقوله: ولو ادخرت هو بالدال المهملة ويجوز قليلا إعجامها وهو من الذخر بالذال المعجمة وأبدلت تاء الافتعال دالا بعد الدال والذال والزاي لأنها مستثقلة بعد هذه الأحرف؛ وإلى هذا أشار الشيخ الأجلُ بقوله:

طا تا افتعال رد إثر مطبق

في ادان وازدد وادكر دالا بقي

والإجاص بكسر الهمزة وتشديد الجيم ثمر معروف، وهو دخيل لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب. قاله الخرشي.

ص: 246

وكبندق يعني أن البندق ليس بربوي وكذا ما في معناه من الجوز واللوز والفستق مما يدخر ولا يقتات على المعتمد؛ لأن العلة مركبة من الادخار والاقتيات، والقائل بالادخار فقط قائل بالربوية فيها أي في هذه المذكورات من الجوز واللوز والفستق والبندق، بضم أوله وثالثه، والفستق كقنفذ وجندب، وما عزاه عبد الباقي هنا للمواق عن ابن عرفة من أن ظاهر اللخمي والقاضي الاتفاق على ربوية الجوز واللوز قال فيه بناني: إن المواق وقع له تحريف في كلام ابن عرفة. والله سبحانه أعلم.

وبلح إن صغر؛ يعني أن البلح الصغير ليس بربوي، وقوله: وبلح إن صغر بأن اخضر وانعقد لأنه حينئذ علف والطلع أحرى، وإذا كان البلح الصغير علفا جاز بيعه بكبير أو بسر أو رطب أو تمر ولو إلى أجل إن كان مجذوذا، فإن كان في شجره فإنما يجوز يدا بيد وإنما اشترط فيه إذا كان في شجره أن يكون يدا بيد لأنه لا يجوز بقاؤه وإنما يجوز على الجذ، واعلم أن ثمر النخل سبع: فالطلع والإغريض لا يتعلق بهما حكم بالأولى مما ذكر المص، وما عداه إما بلح صغير أو كبير أو بسر أو رطب أو تمر، والمراد بالبسر ما يشمل الزهو، فالأقسام خمسة لا ستة، وكل واحد من الخمسة إما أن يباع بمثله أو بغيره، فهي خمس عشرة صورة، الجائز منها تسع، وهي: بيع البلح الصغير بمثله وبالأربع بعده، وبيع البلح الكبير بمثله، وبيع الرطب بمثله، وبيع التمر بمثله، والبسر بمثله، فهذه تسع؛ وشمل بيع البسر بمثله بيع البسر بالمزهي لأنهما شيء واحد كما تفيده المدونة، والست الباقية ممنوعة، وهي: بيع التمر بالرطب، وبيع التمر بالبسر، وبيع التمر بكبير البلح، وبيع كبير البلح بالرطب، وبيع كبير البلح بالبسر، وبيع البسر بالرطب؛ ومما يجري على ألسنة الشيوخ في ترتيب درجات تمر النخل مشيرين بكل حرف لأول كلمة من أسماء تلك الدرجات قولهم:

طاب زبرة، وهي: الطلع والإغريض والبلح والزهو والبسر والرطب والتمر. وفي المدونة: لا يجوز تمر برطب أو بسر أو بكبير البلح، ولا كبير البلح برطب أو بسر، ولا بسر برطب على حال لا مثلا بمثل ولا متفاضلا. أبو الحسن: الأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التمر

ص: 247

بالرطب (أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذا

(1)

). وهو تنبيه على العلة. قال مالك: وكذلك كل رطب من الثمار بيابسه، قال ابن القاسم في العتبية: لا يباع شيء من الثمر رطبه بيابسه كان مما يدخر أم لا، كان مما يجوز فيه التفاضل أم لا. لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الرطب باليابس. وقد ذكر ابن رشد في بيع الرطب باليابس في النوع الذي يجوز فيه التفاضل ثلاثة أقوال؛ ونصه في سماع عيسى من المسلم الثاني: أما الرطب باليابس من صنفين كانا مما يجوز فيه التفاضل أو مما لا يجوز فلا اختلاف في جوازه بكل حال، وأما الرطب باليابس من المصنف الواحد الذي لا يجوز فيه التفاضل فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، لما جاء في الحديث، وأما الرطب باليابس من المصنف الواحد الذي يجوز فيه التفاضل كالتفاح والخوخ فاختلف فيه على ثلاثة أقوال، أحدها: أن ذلك لا يجوز وإن تبين الفضل بينهما وهو دليل احتجاجه في هذه الرواية وفي سماع أصبغ بعد هذا. والثاني: أن ذلك جائز وإن لم يتبين الفضل فيه بينهما، وهو قول ابن القاسم في رسم باع شاة بعد هذا. والثالث: أن ذلك جائز إن تبين الفضل بينهما، وغير جائز إن لم يتبين الفضل بينهما وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب البيوع. انتهى. قاله بناني: وقال الشيخ أبو علي: وحاصل ما في التوضيح أن البلح الصغير فيه قولان هل هو طعام أم لا؟ والراجح أنه ليس بطعام، والبلح الكبير فيه قولان هل هو ربوي أو طعام غير ربوي؟ والراجح أنه ربوي. انتهى. وقال المواق: قال في المدونة: البلح الكبير ربوي.

وماء يعني أن الماء لا يدخله الربا بل ليس بطعام. قال عبد الباقي: وماء ليس بربوي بل ليس بطعام فيجوز فيه التفاضل والنسيئة لا اجتماعُهما لأنه سلف بزيادة. قاله أحمد. انتهى. وقال المواق: قال ابن عرفة: المعروف أن الماء غير طعام. قال في المدونة: يجوز بيع الماء قبل قبضه ومتفاضلا وبطعام إلى أجل ولهذا قال المص: ويجوز بيع الماء بطعام إلى أجل قال عبد الباقي: ويجوز بيعه قبل قبضه وبيع بعضه ببعض متفاضلا يدا بيد لا لأجل إن عجل القليل إذ فيه سلف

(1)

ابن حبان، رقم الحديث 4975.

ص: 248

جر نفعا، وكذا إن عجل الكثير على ظاهر المدونة، ولعله مبني على أن تهمة ضمان بجعل توجب المنع وهو ظاهر المص في السلم لا ما له في بيوع الآجال: والماء العذب وما في حكمه مما لا يشرب إلا عند الضرورة كالماء القيسوني بمصر جنس واحد، والأجاج وهو ما لا يشرب بحال كماء البحر الملح جنس آخر، فيجوز التفاضل بينه وبين الحلو نسيئة، وقال أبو علي مفسرا للمص: وكذلك الماء لا يدخله الربا وهو المعروف من المذهب، ويجوز فيه التفاضل، والمشهور جواز بيعه بالطعام لأجل. انتهى.

والطحن؛ يعني أن الطحن لا ينقل الجنس عن أصله. والعجن؛ يعني أن العجن لا ينقل عن الدقيق ولا عن الحب، ولهذا يأتي للمص: كعجن بحنطة أو دقيق. والصلق؛ يعني أن الصلق لا ينقل عن الأصل لعوده له إذا يبس فيحرم بيعه بأصله ولو متماثلا لأنه بيع رطب بيابس. إلا الترمس؛ يعني أن الصلق ينقل الترمس، فالترمس المصلوق يجوز التفاضل بينه وبين الترمس الذي لم يصلق. قال عبد الباقي: فينقل صلقه إن نقع في الماء حتى يحلو، فأراد بصلقه الناقل الهيئة المجتمعة منه، ومن نقله في الماء لا مجرد صلقه كما يتوهم من ظاهره. والتنبيذُ؛ يعني أن التنبيذ لا ينقل عن الأصل، فنبيذ التمر، جنس مع التمر فلا يجوز بيعه به بحال لا متماثلا ولا متفاضلا لأنه بيع رطب بيابس من جنسه، وكذلك نبيذ الزبيب بالزبيب؛

وعلم مما قررت أن قوله: والطحن، مبتدأ وخبره قوله: لا ينقُل، فهو راجع للمسائل الأربع: الطحن وما عطف عليه. والله سبحانه أعلم. والعصر مثل التنبيذ فلا يجوز بيع زيت بزيتون ولو كان هذا الزيتون لا يخرج منه زيت. قاله مالك. ولم يتكلم عليه المص. قاله عبد الباقي.

بخلاف خله؛ يعني أن تخليل أصل النبيذ أي جعل ما ينبذ خلا ينقل عن الأصل، فإذا خلل التمر أو الزبيب أي صُيِّرا خلا فإن ذلك الخل يجوز بيعه بالزبيب والتمر متفاضلا أو متماثلا، فيجوز بيع خل التمر بالتمر متماثلا أو متفاضلا، وكذلك خل الزبيب، فالحكم فيهما واحد، فالخل والتمر مثلا طرفان لبعد ما بينهما فيجوز التفاضل بينهما، والنبيذ واسطة بينهما لقربه من كل منهما، فلا يجوز بيع النبيذ بالتمر علي حال لأنه رطب بيابس من جنسه، ولا بالخل إلا

ص: 249

مثلا بمثل كما مر. والله سبحانه أعلم. وفي الجواهر: وقد اتفق أهل المذهب على أن طحن هذه الحبوب لا يخرجها عن أصلها، وكذلك العجن بعد الطحن، واختلفوا في الصلق على قولين هل يعد ناقلا أو لا؟ وقال بعض المتأخرين: هو ناقل في الترمس، ومذهب المدونة أن التنبيذ لا ينقل، والمشهور أن الخل ناقل. ابن الحاجب: وفي الصلق ثالثها في الترمس ناقل وفي الفول ليس بناقل. قاله أبو علي. وقال المواق: قال الباجي: نص مالك على جواز التمر بخله فقاس عليه ابن القاسم العنب بخله فجوزه. انتهى المراد منه.

وبخلاف طبخ لحم بأبزار؛ يعني أن اللحم إذا طبخ بأبزار أي توابل فإنه ينتقل عما لا بزر فيه وظاهر كلام ابن بشير أن كل ما طبخ بأبزار ينقل عن ما لا بزر فيه، وسواء في ذلك اللحم والأرز وغيرهما. قاله بناني رَادًّا به قول عبد الباقي: إن طبخ الأرز بأبزار لا ينقله عن أصله. انتهى. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وبخلاف طبخ لحم بأبزار أي توابل اتحدت أو اختلفت، فناقل عن المطبوخ بدونها وعن المني وطبخ أرز مع لحم بلا أبزار ناقل عن أرز بغير لحم ولو بأبزار، لا لحم طبخ بماء وملح لأنهما غير أبزار. ابن عرفة: فإن أضيف إليهما بصل فقط أو ثوم كان يراه بعض شيوخنا معتبرا؛ وهو مقتضى آخر كلام ابن حبيب خلاف مقتضى أوله. انتهى. وهو يفيد أن المراد ما يشمل مصلح الطعام وأنه يكتفى بإضافة واحد منها إلى الملح؛ وما نقله عن بعض شيوخه سبقه به أبو الحسن عن أبي محمد صالح، وكأنه لم يقف عليه.

وشيِّه؛ يعني أن شي اللحم بالأبزار ينقله عما لا بزر فيه. رنجفيفه؛ يعني أن تجفيف اللحم بالنار أو الشمس أو الهوى

(1)

مع الأبزار ناقل عما لا بزر فيه. وعلم مما قررت أن قوله: بها؛ أي بالأبزار، راجع للشي والتجفيف، ومفهوم المصنف أن الطبخ بدون أبزار والشي بدونها والتجفيف بدونها كل منها غير ناقل وهو كذلك، ولا يباع قديد بأبزار بمشوي بها. انتهى.

(1)

في عبد الباقي ج 5 ص 69: الهواء.

ص: 250

والخَبزِ؛ يعني أن الخبز ناقل عن الحبوب وعن الدقيق وعن العجين، قال المواق من المدونة: لا بأس بالخبز بالعجين أو بالدقيق أو بالحنطة متفاضلا لأن الخُبز قد غيرته الصنعة. انتهى. وقال عبد الباقي: والخبز بفتح الخاء المعجمة ناقل عن العجين والدقيق والقمح، فيباع المخبوز بكل ما ذكر متماثلا ومتفاضلا، ويباع الخبز بالنشا متفاضلا لأن صنعته أخرجته عن منفعة الأكل لغيره، ويجوز بيعه قبل قبضه والتفاضل فيه بلا خلاف كما مر عن أحمد عن الجزولي عند قوله: تردد. انتهى.

وقلي قمح؛ يعني أن قلي القمح وغيره من الحبوب ناقل. ابن عبد السلام: والمشهور أن قلي القمح وغيره من الحبوب ناقل لأنه يزيل المعنى المقصود من الأصل غالبا نقله الشيخ أبو علي. وسويق وسمن، الظاهر أن الواو في وسمن بمعنى مع، وأن مراده أن السويق إذا لُتَّ بسمن ينقل عن السويق غير اللتوت. انتهى من حاشية الشيخ محمد بن الحسن. وأما إن قلنا: إن معنى المص أن السويق ينقل عن الأصل فلا حاجة لذكره لأنه إذا كان القلي ناقلا فأحرى أن ينتقل السويق لأن السويق هو الحب القلي المطحون المضاف إلى ماء، وحمل أحمد المص على غير ظاهره، فقال: ليس المراد بالسويق هنا القمح المقلي المطحون، لاستفادته مما قبله بالأولى، بل المراد منه القمح المصلوق المطحون، وهذا لا يستفاد مما قبله. انتهى. وهذا تتوقف صحته على أن اجتماع الصلق والطحن ناقل، وعلى التقرير الأول يسلم المص من الاعتراض المذكور ويسلم من اعتراض ابن غازي أن قوله: وسمن يقتضي جنس غير الزبد والحليب. قاله بناني. وقال الحطاب: وأما السمن فناقل بالنسبة إلى لبن أخرج زبده، وأما بلبن فيه زبد فلا يعد ناقلا كما نص عليه في المدونة، وأما الأسوقة بالنسبة إلى بعضها فجنس واحد، نقله القباب عن ابن رشد. والله أعلم. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: لا شك أن الأسوقة جنس واحد وإن اختلفت أصولها كما في ابن رشد وغيره، وتقدم قول ابن رشد: الأخباز والأخلال والأسوقة لا تُراعَى أصولها؛ لأن المنفعة في ذلك واحد، فلا يجوز التفاضل في الخبز ولا في الخل ولا في النبيذ ولا في السويق، هذا هو المشهور؛ والسويق أيضا جنس وحده مباين لدقيق الحب غير المقلي وللحبوب غير المقلية

ص: 251

وللأخباز أيضا، وأما الحب المقلي مع السويق فجنس واحد ولا فرق بينهما إلا الطحن وهو غير ناقل: وإنما معنى كلام المص ما جوَّزه الحطاب، وهو أن الواو في وسمن بمعنى مع، والمعنى أن السمن إذا لت بالسويق صار هذا السويق الملتوت جنسا مخالفا للأسوقة غير الملتوتة، ويدل على هذا ما ذكره اللخمي وغيره أن الدهن بمنزلة الأبزار. انتهى المراد منه. والله سبحانه أعلم. وفي المواق عن المدونة: لا بأس بالسويق بالدقيق أو بالحنطة متفاضلا. انتهى.

يجوز بيع التمر بالتمر؛ يعني أنه يجوز بيع التمر بالتمر حيث كانا جديدين أو قديمين؛ بل ولو كان أحدهما جديدا والآخر قديما. وقدم بضم الدال، وتعتبر المماثلة بينهما بالكيل أو بالوزن، فإذا وقع مع ذلك تفاوت فيسير ورد بلو قول عبد الملك: يمنع القديم بالجديد، واستحسنه اللخمي لكثرة جفاف القديم فلا تحقق المماثلة، وأما قدم بالكسر فمن القدوم، وأما من التقدم فبالفتح والكسر كنصر وعلم. قاله مع ما مر من ضبط المص في القاموس. ويلتبس مكسور الدال في القدوم والتقدم ولعل المتعلق يبين نحو قدم من السفر وعلى أقرانه، وظاهر قوله: من التقدم شموله للتقدم المعنوي كتقدم زيد بالعلم على أقرانه والرتبة الزمانية نحو قدم زيد على عمرو بمعنى تقدم سنة عليه أو عاش بعده؛ ولم يقل في هذا الأخير بضم الدال مع وجود المعنى الموجود في ضد الجديد لعدم سماعه. انتهى. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: قال في المسائل الملقوطة: اختلف في بيع النوى بالتمر على ثلاثة أقوال: قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل: إن كان نقدا جاز وإلا فلا. انتهى.

(وحليب) يعني أنه يجوز بيع اللبن الحليب بمثله (ورطب) يعني أنه يجوز بيع الرطب بمثله. قال الحطاب عند قوله: ورطب، قال القباب: الرطب بضم الراء وفتح الطاء هو التمر الذي دخله إنضاج ولم ييبس فإن يبس فهو تمر، والمعنى أنه يجوز بيع الرطب بمثله عند ابن القاسم وهو المشهور خلافا لابن الماجشون. انتهى. الباجي: انظر إذا كان نصف الثمرة بسرا ونصفها قد أرطب هل يجوز بيع بعضه ببعض؟ ابن عرفة: الأظهر على مشهور المذهب جوازه، ويجوز بيع البسر بالبسر، وخرج اللخمي منعه من قول ابن الماجشون في الرطب بالرطب. انتهى كلام الحطاب. وقال الخرشي: ورطب من أي صنف بمثله وهو بضم الراء. (ومشوي) يعني أنه يجوز

ص: 252

بيع المشوي بمثله. وقديد؛ يعني أنه يجوز بيع القديد، قال الخرشي: يتحرى ما فيهما قبل المشي والتقديد. وقال أبو علي: والحاصل إنْ تماثل المشوي مع المشوي فالجواز، وكذا القديد مع القديد فالجواز أيضا إنْ تماثلا، وإنْ تخالفا في الرطوبة واليبوسة فلا يجوز إلا بالتحري على قول لم يذهب عليه المص. وقال بناني: إذا اعتبرنا المماثلة فيهما بالتحري للأصول فلا عبرة بالشي والتقديد استوى أو اختلف. انتهى. وقوله: ومشوي وقديد، هذا إذا كانا بغير أبزار فيهما، أو بأبزار فيهما فإن كان الأبزار في أحدهما جازا مثلا بمثل ومتفاضلا. قاله اللخمي. وهو ظاهر. قاله الحطاب. وقال عن ابن رشد: لم يجز المشوي بالمشوي ولا القديد بالقديد إلا بتحري أصولهما. انتهى.

وعفن؛ أي منتن يعني أنه يجوز بيع العفن بالعفن، قال الخرشي: بتحري ما فيهما من العفن لقولها: إذا اشتبها في العفن فلا بأس به وإن تباعدا لم يجز. قوله: ورطب إلى آخر الأربعة، جعل عبد الباقي هذه الأربعة من التمر، وقرر الأجهوري المص على أن هذه الأربعة من اللحم، ثم قال عبد الباقي: ولا يباع القديد والمشوي بمثلهما إن اختلفت صفة شَيِّه وتقديده. أنتهى. وصنيع الحطاب صريح أو كالصريح في العموم، فإنه قال عند قوله: وعفن: قال في كتاب القسمة من المدونة: إذا تبادلا قمحا عفنا بعفن مثله فإن اشتبها في العفن فلا بأس به، وإن تباعدا لم يجز، وإن كانا مغشوشين أو كان أحدهما أو كلاهما كثير التبن أو التراب حتى يصير خطرا لم يجز أن يتبادلا إلا في الغلث الخفيف أو يكونا نقيين، وكذلك سمراء مغلوثة بشعير مغلوث لا يجوز إلا أن يكون ذلك شيئا خفيفا، وليس حشف التمر بمنزلة غلث الطعام؛ لأن الحشف من التمر والغلث غير الطعام. انتهى. قال أبو الحسن في مسألة العفن: معناه إذا كان العفن خفيفا واستدل بمسألة الغلث، قلت: ليس العفن كالغلت، فإن الغلث ليس من الطعام، وأما العفن فهو وصف الطعام وليس هو بشيء زائد مع الطعام. انتهى من الحطاب. وقال بعد كلام: فتحصل من هذا أن في مبادلة المعفون بالسالم والمأكول أي المسوس بالصحيح ثلاثة أقوال: الجواز وهو قول مالك، والمنع فيهما وهو قول أشهب، والجواز في المعفون والكراهة في المأكول وهو قول سحنون.

ص: 253

انتهى. والجواز على القول الأول مقيد بما إذا كان ذلك على وجه المعروف كما قدمه الحطاب، فإنه قال عن ابن رشد: وأما الطعام فيجوز مبادلة المأكول منه والمعفون بالصحيح والسالم على وجه المعروف في القليل والكثير إلى آخره.

وزبد؛ يعني أن الزبد يجوز بيعه بمثله. وسمن؛ يعني أنه يجوز بيع السمن بمثله وجبن، يعني أنه يجوز بيع الجبن بمثله.

وأقط يعني أنه يجوز بيع الأقط بمثله، والأقط بفتح الهمزة وكسر القاف وقد تسكن ويجوز ضم أوله وكسره هو جبن اللبن المستخرج زبده، وخصه ابن الأعرابي بالضأن، وقيل: لبن مجفف متحجر يطبخ به. قاله ابن حجر. قاله الحطاب. وقال في القاموس: الأقط مثلثة ويحرك وككتف ورجل وإبل شيء يتخذ من المخيض الغنمي.

وعلم مما قررت أن قوله: بمثلها؛ أي المذكورات راجع للحليب وما بعده، ولو أخر الحليب عن الأربع بعده لوصله بما تولد منه. واعلم أن الحليب وما تولد منه، سبعة أنواع: حليب وزبد وسمن وجبن وأقط ومخيض ومضروب، وبيع هذه السبعة بعضها ببعض من نوعه وغير نوعه ثمان وعشرون صورة، الجائز منها ست عشرة صورة، بيع كل واحد منها بنوعه فتلك سبع، وبيع المضروب بالمخيض، وبيع كل من المخيض والمضروب بالحليب، وهذه ثلاث بعد سبع فتلك عشر، وبيع كل من المخيض والمضروب بالزبد أو السمن أو الجبن من الحليب، فهذه ست تضم للعشر الأولى، فإن كان الجبن لا من حليب بل من مخيض أو من مضروب امتنع بيعه بهما لأنه رطب بيابس من جنسه، وأما بيع المخيض والمضروب بالأقط فقيل: يجوز، وعليه فلابد من التماثل، وقيل: يمنع، واستظهره الحطاب قائلا: لأن الأقط مخيض أو مضروب يبس، فهو من الرطب باليابس. وكذا اختلف في جواز بيع الجبن بالأقط ومنعه، فعلى الجواز في هذه الصور الثلاث تصير جملة الصور الجائزة تسع عشرة؛ والصور الممتنعة تسع: بيع الحليب بزبد أو سمن أو جبن أو أقط، وبيع الزبد بسمن أو جبن أو أقط، وبيع السمن بجبن أو أقط، ويزاد على هذه الصور التسع الممتنعة الصورتان اللتان قدمتهما، وهما: بيع المخيض والمضروب بالجبن من المخيض والمضروب، فالصور ثمان وعشرون بلا هاتين، ست عشرة جائزة كما عرفت، وتسع

ص: 254

ممنوعة؛ وثلاث مختلف فيها، وكأنهم لم يعدوها ثلاثين لأنهم لم يراعوا في الجبن إلا كونه من الحليب. والله سبحانه أعلم.

واعلم أن الصور الجائزة لابد فيها من المماثلة في بيع كل من الأنواع السبعة بمثله، وكذا إذا بيع المخيض أو المضروب بالحليب فإن بيعا بزبد أو سمن أو جبن لم تعتبر المماثلة. قاله عبد الباقي. قال الرهوني: ما ذكره من الصور أصله في الحطاب، ومحصله: أن الصور ثمان وعشرون، ست عشرة منها جائزة، وتسع ممتنعة، وثلاث مختلف فيها، وقد جمعت ذلك تقريبا للحفظ مع بيان الراجح من صور الخلاف فقلت:

حليب وزبد ثم سمن وجبنه

وأقط ومضروب مخيض تنوع

لِكج فكلّ معْ تساو بمثله

كذا أول بالآخرين موسَّع

مخيض بمضروب كذا وهما معا

بما قبل أقط مطلقا تتتبع

مخيض ومضروب بأقط وجبنها

به فيه خلف واختيار ينوَّع

فالأحسن منع في المخيض وصنوه

وعكس بجبن ماعدا ذاك يمنع

ولبعضهم:

السمن والزبد والأجبان مع أقط

لا تبتعنْ بعضها ببعض إذ منعا

والجبن إن بعته بالمثل من أقط

فلا يراه أبو إسحاق ممتنعا

إن الحليب بهذا الكل ممتنع

وبالضريب مباح ما قد امتنعا

أما الحليب فبالمضروب بعه ولا

تبغ الزيادة في شيء فيمتنعا

وما ذكره المص من أن الحليب يجوز بمثله هو مذهب المدونة، وحكى أبو الفرج المنع، ولا يباع رطب الجبن بيابسه، وقال ابن عرفة: قال مالك: لا بأس بالحالوم الرطب بيابسه، وبالجبن

ص: 255

بالحالوم تحريا، ومن كتاب محمد: ولا بأس بيابس الجبن برطبه على التحري إن قدر على ذلك؛ ولا يصح بغير تحر. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: أشعرت المثلية في اللحم المشوي والقديد والعفن أنه لا يباع لحم مشوي لا ناقلَ به بقديد أو عفن أو لحم ني أو طبخ بغير أبزار ولو مثلا بمثل؛ لأنه رطب بيابس، وكذا إن كان بالعوضين مما ذكرنا ناقل فإن وجد الناقل بأحدهما جاز بالآخر ولو متفاضلا.

كزيتون؛ يعني أنه يجوز بيع الزيتون بمثله فيباع الزيتون الرطب بالزيتون الرطب، والزيتون اليابس بالزيتون اليابس، لا طري بيابس فيمنع كيلا أو وزنا. ولحم؛ يعني أن اللحم يباع بلحم مثله، ولابد من تساويهما في الرطوبة، ولهذا قال اللخمي: وإنما يجوز إذا ذبحا في وقت واحد أو متقارب، ومحل منع الرطب باليابس في اللحم ما لم يكن فيه أبزار وإلا فهو جنس آخر. لا رطبهما بيابسهما. هكذا بضمير التثنية في النسخ المشهورة؛ يعني أنه لا يجوز رطب الزيتون بيابسه ولا رطب اللحم بيابسه، وفي بعض النسخ بالإفراد عائد على جميع ما مر.

ومبلول بمثله؛ يعني أنه لا يجوز بيع المبلول بمثله من جنسه الربوي لا متماثلا ولا متفاضلا لا كيلا ولا وزنا لعدم تحقق المماثلة في البلل؛ إذ من الحب ما يقبل من الماء ما لا يقبل غيره، وهذا ظاهر في الوزن وكذا في الكيل بالنظر إلى أنه قد لا يماثل حالة الجفاف، لكون أحدهما يشرب أكثر من الآخر. وقوله: ومبلول بمثله، هذا هو المشهور ومقابله في الجلاب الجواز بشرط كون البلل واحدا. قاله أبو علي. وقال المواق: من المدونة قال مالك: لا تجوز الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة أو المبلولة ولا بالشعير ولا بالسلت لا متساويا ولا متفاضلا. ولبن بزبد؛ يعني أنه لا يجوز بيع اللبن بالزبد. إلا أن يخرج زبده. فيجوز بيعه به وبالسمن، وكذا لبن لا زبد فيه كلبن الإبل فيباع بالزبد كما في ابن الحاجب على ما في أحمد. قاله عبد الباقي. واعلم أن الجهل بالتساوي فيما يجري فيه الربا يمنع صحة العقد، ونص ابن الحاجب على ما في الرهوني لا بأس بلبن الإبل بالزبد لأنه لا زبد له. انتهى.

واعتبر الدقيق في خبز بمثله؛ يعني أنه إذا بيع الخبز بالخبز فإنه يعتبر دقيق كل إن عرف وإلا تحري، وظاهر المص اعتبار الدقيق سواء كان الخبزان من جنس واحد أو من جنسين وهو ظاهر

ص: 256

ابن الحاجب أيضا، وتعقبه في التوضيح تبعا لابن عبد السلام بأن الباجي قيده بالصنف الواحد، وأن ابن رشد قال: لا اختلاف في اعتبار الوزن إذا كان أصلهما مختلفا. قال المصطفى: والقيد مذكور لابن القاسم في العتبية، وقال ابن رشد فيه: إنه الصحيح، وقد ذكره عنه ابن عرفة، فعزوه للباجي قصور. قاله بناني. قال عبد الباقي عند قوله: واعتبر الدقيق في خبز بمثله من صنف واحد ربوي، فإن كانا من صنفين مطلقا أو واحد غير ربوي اعتبر وزن الخبزين. فقط. انتهى. قال بناني: فيه نظر، بل إذا كانا غير ربويين أو أحدهما غير ربوي لم يعتبر وزن ولا غيره؛ لأن التفاضل حينئذ يجوز. انتهى. والفرق بين اعتبار الدقيق في الخبزين من صنف واحد واعتبار الوزن في الخبرين من صنفين أنه لما كان التفاضل يحرم في الخبزين من الصنف الواحد بالنظر إليهما وإلى أصلهما نظر إلى الأصل لقلة الخطإ فيه، بخلاف الخبزين من جنسين لا يحرم التفاضل في أصلهما وإنما يحرم في الخبزين، فلذلك نظر إليهما دون أصلهما.

فرع: قال في العمدة: ويجوز قسمة الخبز واللحم والبيض ونحو ذلك على التحري عند تعذر الموازين ويسهم عليه. قاله الحطاب.

كعجين بحنطة أو دقيق؛ يعني أنه يجوز بيع العجين بالحنطة وكذا يجوز بيع العجين بالدقيق، ويعتبر الدقيق من الجانبين في الأولى ومن العجين في الثانية إذا كان أصلهما من جنس واحد ربوي، وإلا جاز من غير تحر بالكلية لدقيقهما، لكن لابد من علم قدر العجين ومقابله ولو بالتحري فيما يكون فيه التحري ليقع العقد على معلوم. وجاز قمح بدقيق؛ يعني أنه يجوز بيع القمح بالدقيق. واعلم أنه وقع لمالك في بيع القمح بالدقيق قولان بالجواز وعدمه، وظاهر كل منهما الإطلاق أي سواء وزنا أو كيلا، واختلف المتأخرون في حملهما على الوفاق والخلاف، وإلى ذلك أشار بقوله:

وهل محل الجواز إن وزنا، وهو حمل ابن القصار لا إن كيلا فيمنع، ويتفق القولان حينئذ؟ أو الجواز مطلقا وزنا أو كيلا وهو حمل غيره فيختلف القولان، في ذلك تردد، ابن عبد السلام: وحملُ ابن القصار غيرُ صحيح لأنه فسر قول مالك بما نص على خلافه، وذلك أن مالكا منع في

ص: 257

المدونة بيع القمح وزنا بدراهم لأنه عدول به عن مكياله خشية الوقوع في الضرر، فكيف يباع وزنا بما يمنع التفاضل بينه وبينه وهو دقيقه؟ ابن عرفة: وكنت أجبته بأنه في البيع غرر لأن المعروف فيه الكيل والوزون منه مجهول قدره فيؤدي وزنه إلى جهل قدر البيع، وفي المبادلة بين القمحين المقصود اتحاد قدر ما يؤخذ وما يعطى وهو حاصل في الوزن. قاله ابن غازي. ويرد جوابه قول المص كغيره: واعتبرت المماثلة بمعيار لخ، قال جميعه عبد الباقي بإدخال شيء فيه من كلام الخرشي. القباب: المشهور الذي قاله مالك في المدونة أنه إنما يُراعَى مد قمح بمد دقيق ولا يلتفت إلى القمح إذا طحن يكون أكثر لأن القمح كله لا يجوز بيعه إلا مثلا بمثل في الكيل، ومعلوم أنه إذا طحن يكون دقيق بعضه أكثر، وكذلك القمح بالشعير، وقد سبقه إلى الاستدلال المذكور ابن يونس؛ وقد أجاز الصحابة الشعير بالقمح مثلا مع أن ريعه أكثر من ريع الشعير والدقيق بالقمح مثله لأن للقمح ريعا إذا طحن. قال ابن القاسم: ويجوز القمح بدقيقه أو بدقيق شعير أو سلت مثلا بمثل ولا يجوز متفاضلا. وفي كتاب محمد: وإن كان للحنطة ريع وهذه السمراء أكثر دقيقا من البيضاء وهي مثلا بمثل جائزة، فكان على المص أن يحذف هذا المتردد ويقتصر على المشهور. قاله الرهوني؛ يعني المشهور الذي ذكره القباب وهو أنه يراعى الكيل في بيع القمح بالدقيق. انتهى. والريع الزيادة. والله سبحانه أعلم.

تنبيه: هذا الذي قررت به المص هو الذي قرره به غير واحد وهو ظاهره، وقرره بعضهم بقوله: وهل الجواز إن وزنا لا إن كيلا أو الجواز إن كيلا لا إن وزنا؟ فيكون شق المتردد المطوي ما مر عن ابن عبد السلام؛ وهذا وإن كان خلاف ظاهر المص هو المعتمد من جهة النقل، وقال أبو علي: الراجح الجواز مطلقا، وقال بناني: قال ابن شأس: اختلف في بيع القمح بالدقيق، فقيل: بالجواز مطلقا، وقيل: بنفيه مطلقا، وقيل: بجوازه بالوزن لا بالكيل؛ وبعض المتأخرين يرى أن هذا تفسير للقولين: وبعضهم ينكر ذلك، وإلى هذا أشار بالتردد. والله سبحانه. أعلم.

تنبيه آخر: قد مر قول المص: واعتبر الدقيق في خبز بمثله، ومر أنه إنما يعتبر الدقيق حيث كان الخبزان من صنف واحد وأما من صنفين فيعتبران بالوزن. انتهى. وهذا في البيع ومثله هبة الثواب، وأما في القرض فيكفي وزن الخبزين لصعوبة تحري الدقيق ولأنه معروف قل ذلك القرض

ص: 258

أو كثر، بل في الأقفهسي ما يفيد إلغاء الوزن وأنه يكفي العدد لأنهم لا يقصدون بذلك المبايعة، وفي التوضيح نحوه لكنه قيد بالسلف القليل، قال: كرغيف. انتهى. والظاهر إلغاء تقييد القلة ويؤيد ذلك قول الأجهوري عن ابن شعبان: لا بأس أن يتسلف الجيران فيما بينهم الخبز والخمير ويقضون مثله، وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: فيتسلف أهل المنازل فيما بينهم الخبز والخمير ويتعاطون السراج فإن ذلك زيادة في الرزق.

واعتبرت المماثلة بمعيار الشرع؛ يعني أن المماثلة التي طلبها الشارع في الربوي تعتبر أي إنما يعتد بها إذا وقعت بمعيار الشرع، ومعيار الشرع فيها الكيل فيما حفظ عن الشارع فيه الكيل، كالقمح، والوزنُ فيما حفظ عن الشارع صلى الله عليه وسلم فيه الوزن كالنقد، فلا يباع قمح بقمح وزنا ولا نقد بمثله كيلا، والمراد بالعيار الشرعي ما وضعه السلطان لا عين الكيال والصنجة الموجودين في زمنه صلي الله عليه وسلم فقط. وإلا؛ أي وإن لم يكن للشرع في هذا الشيء الربوي معيار بكيل ولا وزن فتعتبر المماثلة بالعادة العامة، كلحم وجبن لأنهما بالوزن في كل بلد، فإن لم تكن عادة عامة فالخاصة، كجوز ورمان وأرز وسمن ولبن وزيت وعسل فإنه يختلف باختلاف البلدان، فيعمل في كل محل بعادته، والبصل والبلح ببعض البلدان بالكيل وببعضها بالوزن، وببعضها أحدهما بالكيل والآخر بالوزن، فإن اختلفت العادة قدر بأيهما إن تساويا وإلاَّ قُدِّر بالأكثر. قاله عبد الباقي. وقال أبو علي: وأما ما يقع به التماثل في المقادير فإنه على ضربين، أحدهما: أن يكون له مقدار في الشرع، والثاني: أن لا يكون له مقدار في الشرع، فالأول كالكيل في الحبوب لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأوسق في زكاة التمر والحبوب في حكمه في اعتبار نصاب الزكاة، فكان الكيل مشروعا فيه، وكذا شرع في إخراج زكاة الفطر وقدر المذهب والفضة في الزكاة بالوزن.

ص: 259

فإن عسر الوزن جاز التحري؛ يعني أنه إذا عَسُر الوزن فيما معياره الوزن لعدم ميزان أو غيره فإنه تعتبر المماثلة بين الربويين بالتحري بأن يتحرى وزن هذا ويتحرى وزن هذا حتى يتماثلا. قال عبد الباقي: ومفهوم عسر أنه لو لم يعسر الوزن لم يجز التحري، وأشعر قوله: عسر الوزن، بأن الكيل والعدد لا يعسران وهو واضح؛ إذ يجوز هنا الكيل بغير المعهود، ثم تقييده بالسعر هو قول الأكثر؛ وفي ابن عرفة والمدونة: أنه يجوز التحري في الوزون وإن لم يعسر الوزن. انظر المواق والتتائي. ويعتبر في التحري من شروط الجزاف ما يمكن منها فيه. قاله عبد الباقي. وقال بناني: حاصل ما لابن رشد أن كل ما يباع وزنا ولا يباع كيلا مما هو ربوي تجوز فيه المبادلة والقسمة بالتحري وهو في المدونة، وكل ما يباع كيلا لا وزنا مما هو ربوي لا تجوز فيه المبادلة ولا القسمة بالتحري بلا خلاف، وأما ما ليس بربوي فاختلف في جواز القسمة فيه والمبادلة على التحري على ثلاثة أقوال، أحدها: الجواز فيما يباع وزنا لا كيلا، وهو مذهب ابن القاسم فيما حكي عن ابن عبدوس، والثاني: الجواز مطلقا، وهو مذهب أشهب وقول ابن القاسم في العتبية وابن حبيب. والثالث: عدم الجواز مطلقا، وهو الذي في آخر كتاب المسلم الثالث من المدونة. انتهى باختصار. ومقتضاه ترجيح القول الثالث، ونقل ابن عرفة عن الباجي أن المشهور جواز التحري في الموزون دون المكيل والمعدود، رواه محمد وغيره. انتهى. وهو القول الأول في كلام ابن رشد. انتهى. وسلم الرهوني تشهير الباجي هذا، وقال: إنه صواب، وأما تشهير بناني للقول الثالث فتعقبه هوأي الرهوني بما يعلم بالوقوف عليه.

تنبيه: قال أبو علي: المبادلة تكون بكل آنية ولو كانت مجهولة المقدار وكذا الفخار وأواني النحاس والقفاف. انتهى.

إن لم يقدر علي تحريه لكثرته؛ الصواب الإتيان بلا قبل إن لم يقدر، ومعنى ذلك أنه إنما يجوز التحري المذكور فيما إذا عسر الوزن حيث لم يكثر حتى لا يستطاع تحريه، وأما إن كثر حتى لا يستطاع تحريه فإنه لا يجوز التحري حينئذ، وقد مر أن التقييد بالعسر هو قول الأكثر، وأن في المدونة أنه يجوز التحري في الموزون وإن لم يعسر الوزن، قال ابن رشد: وهذا في المبايعة والمبادلة

ص: 260

ابتداء، وأما من وجب له على رجل وزن من طعام لا يجوز فيه التفاضل فلا يجوز له أن يأخذه منه تحريا إلا عند الضرورة بعدم الميزان، على ما قاله في نوازل سحنون من جامع البيوع. انتهى. ولما أنهى الكلام على البيع الصحيح وما يعرض له أخذ يتكلم على البيع الفاسد وجعل هذا الكلام مقدمة له أعني قوله: وفسد منهي عنه؛ يعني أن المنهي عنه من عبادة أو معاملة يفسد أي يحكم الشرع بفساده أي عدم نفوذه، فصحة البيع مثلا ترتب آثاره، كالملك وفساده عدم ترتب آثاره، فبان من هذا أن صحة البيع مثلا هي ترتب آثاره من التمكن من بيعه وهبته أي المبيع وأكله وغير ذلك. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وفسد منهي عنه لذاته كخمر وميتة أو لوصفه كبيع غاصب لمغصوب لأن المنهي يقتضي الفساد شرعا، وقال الحطاب: واختلف الأصوليون هل المنهي يدل على فساد المنهي عنه أم لا؟ والمذهب أنه يدل على فساد المنهي عنه. قال ابن عبد السلام: وهذا هو المشهور في مذهبنا. وقال ابن مسلمة في الفاسد المختلف فيه: إنه يمضي. انتهى. والدليل على هذه القاعدة أي فساد المنهي عنه الحديث الصحيح (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد

(1)

) أي مردود عليه.

إلا بدليل؛ يعني أن محل فساد المنهي عنه إنما هو حيث لم يدل دليل على صحته، وأما إن دل دليل على صحته فإنه يكون صحيحا ويكون مخصصا لهذه القاعدة كالنجش والمصراة، وكلام المص هنا في المعاملات كما هو سياقه، قال الشارح في الكبير: وأحرى في العبادات. وقد مر قول المص: وعدم نهي، وأتى بهذا ليرتب عليه قوله: إلا بدليل، والله سبحانه أعلم. وقوله: إلا لدليل، يشمل المتصل والمنفصل، والمتصل هو الذي لا يستقل بل لابد أن يسنده إلى كلام قبله كالاستثناء والبدل، والمنفصل هو الذي يستقل. قاله الرهوني. وقال الخرشي: وفسد منهي عنه لذاته أو لوصفه أو لأمر خارج عنه كالنهي عن صوم يوم العيد لأن فيه إعواضا عن ضيافة الله

(1)

البيهقي، ج 10 ص 119، 251. البخاري، كتاب الصلح، رقم الحديث 2637. ومسلم، كتاب الأوصية، رقم الحديث 1718 ولفظهما من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.

ص: 261

تعالى؛ وهذا خارج عنه لازم له، بخلاف المنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة فإنه لوصف خارج عن الصلاة وهو الانتفاع بالدار، وهو غير لازم لأنه قد لا ينتفع بها. انتهى. كحيوان بلحم جنسه، روى مالك في مراسيل ابن المسيب عن زيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع اللحم بالحيوان

(1)

) فقوله: كحيوان بلحم جنسه، مثال للمنهي عنه؛ ومراسيل ابن المسيب يحتج بها لأنها فتشت فوجدت متصلة وغالب من يرويها له صهره أبو هريرة رضي الله عنه، لكن في الحطاب قال ابن عرفة: قال أبو عمر: لا أعلمه يتصل بوجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد هذا. وقال ابن عبد السلام: عن ابن المسيب: من ميسِر الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين. قال أبو الزناد: قلت لابن المسيب: أرأيت رجلا اشترى شارفا بعشرة شياه؟ فقال: إن كان اشتراها لينحرها فلا خير فيه. قال أبو الزناد: وكان من أدركت ينهون عن بيع اللحم بالحيوان. قال: وكان ذلك يكتب في عهود العمال في زمان أبان بن عثمان، والحديث عام في كل لحم بحيوان، لكنه عند مالك ليس محمولا على عمومه، بل مخصوص عنده رضي الله عنه ببيع اللحم بنوعه من الحيوان؛ لأن بيع اللحم بالحيوان بيع معلوم بمجهول من جنسه فهو من المزابنة، وهي إنما تمنع في الجنس الواحد، ولهذا قال المص: كحيوان بلحم جنسه؛ وأما لحم الطير بالغنم ولحم الغنم بالطير أو الحوت فجائز، وكذا الحيوان الذي لا يباح أكله كالخيل والحمير فإنه يباع باللحم، وروي عن أشهب جواز بيع اللحم بالحيوان؛ قال ابن عرفة: والمعروف عنه كقول مالك. انتهى. وفي المسلم الثالث من المدونة: ومحل المنهي عن اللحم بالحيوان إنما ذلك من صنف واحد لوضع التفاضل فيه والمزابنة، فذوات الأربع الأنعام والوحش كلها صنف واحد لا يجوز التفاضل في لحومها، ولا حي منها بمذبوح، ولحم الحوت كله صغيره وكبيره صنف لا يحل التفاضل فيه، ويجوز لحم الطير بحي من الأنعام والوحش، والحوت بالطير كله حيا نقدا أو إلى أجل، وما كان من الطير والوحش والأنعام لا يحيى وشأنه الذبح فلا خير فيه بالحوت ولا باللحم من غير صنفه إلا يدا بيد، وكل شيء من

(1)

الموطأ، ج 2 ص 415.

ص: 262

اللحم يجوز فيه التفاضل فجائز فيه الحي بالمذبوح، ثم قال: ولا بأس بلحم الأنعام بالخيل وسائر الدواب نقدا أو مؤجلا لأنها لا توكل لحومها، وأما بالهر والثعلب والضبع فمكروه لاختلاف الصحابة في أكلها، ومالك يكره أكلها من غير تحريم، ولا بأس بالجراد بالطير وليس هو بلحم، وتجوز واحدة من الجراد باثنين من الحوت يدا بيد إذ ليس الجراد من الطير ولا من دواب الماء. انتهى كلام الحطاب. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: ومثل للفاسد بقوله: كحيوان من ذوات الأربع بيع بلحم جنسه منها لأنه معلوم بمجهول وهو معنى الزابنة، وكذا بمكروه الأكل على ما للقرافي من حمل ما في المدونة من كراهة بيع مكروهه بمباحه على التحريم، وأما من حملها على بابها كأبي الحسن كما مر فالمراد بجنسه هنا مباح الأكل خاصة، وقوله: كحيوان بلحم جنسه. خص القاضيان منع بيع الحيوان بلحم جنسه بالحيوان الذي لا يراد إلا للذبح. قاله الشيخ أبو علي وغيره. وقال في الذخيرة: أكثر الشافعية على أن المنهي لا يدل على الفساد، وفرق بعض الشافعية فقال بعض: بالفساد في العبادات لا في المعاملات، وفرق الحنفي والشافعي أيضا بين أن يكون المنهي لوصف خارج كالبيع عند نداء الجمعة وبين أن يكون لنفس العقد كبيع الخمر، فالأول لا يقتضي الفساد بخلاف الثاني، ولأصحابنا مثل ذلك في كثير من الفروع.

إن لم يطبخ يعني أن محل منع بيع اللحم بالحيوان إنما هو إذا لم يطبخ اللحم، وأما إن طبخ فإنه يجوز بيعه به، وقيد المغيلي وجَدُّ علي الأجهوري الطبخ بأن يكون بأبزار، وقد جزم أبو علي بهذا التقييد فقال: وإذا فهمت هذا علمت أنه لابد من شرط كون الطبخ بأبزار، وإنما لم يقيده في المتن بما ذكر لأنه لما قدم أن الطبخ لا يعتبر إلا إذا كان بأبزار صار غير ذلك كلا طبخٍ لأنه معدوم شرعا والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا، وبذلك تعلم ما وقع للفيشي وعلي الأجهوري ومن تبعهما. انتهى. وقال المواق: كره أشهب الكبش بلحم مطبوخ لأجل وأجازه ابن القاسم وهو أحب إلينا. انتهى المراد منه. وفيه ما يفيد التقييد المذكور.

فرع: قال الشيخ أبو الحسن: يؤخذ منه يعني من كلامٍ ذكره قبل هذا أن من باع حيوانا للذبح بدراهم إلى أجل له أن يقتضي من ثمنه طعاما كما يجوز بيعه به ابتداء، وهذا إذا كان يراد

ص: 263

تبقيته، وأما إن كان لا منفعة فيه إلا اللحم فلا يجوز. انتهى. قال عبد الباقي: وشمل قوله: كحيوان؛ ما يراد للقنية وفيه منفعة كثيرة كالإبل وما لا تطول حياته وما لا منفعة فيه إلا اللحم أو قَلَّتْ، وهذا في بيع حيوان بلحم جنسه. انتهى. والآتية للمص في بيع حيوان بحيوان، وقال أبو علي: وهذا التفصيل لمالك، وأبو حنيفة وأبو يوسف يجيزان بالإطلاق، والشافعي والليث يمنعان بالإطلاق كما في القباب وغيره.

أو بما لا تطول حياته؛ يعني أنه لا يجوز بيع الحيوان مطلقا بحيوان من جنسه لا تطول حياته، فلا يباع الحيوان الذي يراد لغير الذبح بالحيوان من جنسه لا تطول حياته، ولا الحيوان الذي لا تطول حياته، بالحيوان من جنسه لا تطول حياته، ولا الحيوان الذي لا منفعة فيه بالحيوان من جنسه لا تطول حياته، ولا الحيوان الذي قلت منفعته بالحيوان من جنسه لا تطول حياته، ومثال ما لا تطول حياته طير الماء والشارف. الباجي إذا كان الحي لا يقتنى فحكمه حكم اللحم مثل طير الماء الذي لا يدجن ولا يتخذ فلا يجوز بيعه بدجاج، هذا مذهب ابن القاسم. نقله المواق.

أو لا منفعة فيه إلا اللحم؛ يعني أنه لا يجوز بيع الحيوان بحيوان من جنسه لا منفعة فيه إلا اللحم، وفيه الأربع المتقدمة، وقد تقدمت منهن واحدة، وهي: بيع ما لا تطول حياته بما لا منفعة فيه إلا اللحم، ومثلوا لما لا منفعة فيه إلا اللحم بخصي المعز الذي لا يقتنى لشره. أو قلت؛ يعني أنه لا يجوز بيع الحيوان بحيوان من جنسه قلت منفعته، وفيه الأربعُ المذكورة وقد مرت منها اثنتان، وهما: ما لا تطول حياته بما قلت منفعته، وما لا منفعة فيه إلا اللحم بما قلت منفعته.

فلا يجوزان بطعام لأجل؛ يعني أن ما لا تطول حياته وما لا منفعة فيه إلا اللحم أو قلت لا يجوز بيع ذلك بطعام لأجل لأن هذه الثلاثة في حكم اللحم، واللحم طعام والطعام لا يباع بطعام لأجل، وإنما ثنى المص الضمير والله أعلم بجعله ما لا منفعة فيه إلا اللحم أو قلت في حكم الشيء الواحد. والله سبحانه أعلم. قال عبد الباقي مفسرا للمص: فلا يجوزان: ما لا تطول حياته وما لا منفعة فيه إلا اللحم أو قلت، فجعل هذه مع ما قبلها شيئا واحدا لأجل ضمير التثنية بطعام

ص: 264

لأجل لأنه طعام بطعام نسيئة في الجنسين، ولا يؤخذ منها كراء أرض ولا قضاء عن دراهم اكتريت بها الأرض، ولا يؤخذ في ثمنها طعام. انظر الحطاب. ومفهوم قول المص ما لا منفعة فيه إلا اللحم أو قلت، أنه لو كانت فيه منفعة غير اللحم وليست قليلة كما إذا كان لها صوف ولبن لم تكن كاللحم وهو كذلك، ولو علم أن البائع كان يريد ذبح ما ذكر في بدله بحيوان آخر وهو كذلك، قال في المدونة: ومن أراد ذبح عناق كريمة أو حمام أو دجاج فأبدلها بكبش وهو يعلم أنه أراد ذبح ذلك فذلك جائز. انتهى. انظر الحطاب. وقال بناني: لو كثرت المنفعة جاز ذلك ولو قصد ذبحه، صرح بذلك في المدونة. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: ما كثرت منفعته يجوز بيعه بطعام لأجل وإن قصد مشتريه به اللحم لأجل صلاحيته في نفسه لدوام الانتفاع به، وما أراده مشتريه من ذبحه لا يمنع من ذلك. انتهى. ومثل المص لما قلت منفعته بقوله:

كخصي ضأن، إلا أن يقتنى لصوفه، وكذا خصي معز اقتني لشعره كما يفيده التبصرة، وفي المواق ما ظاهره خلافه، واعلم أن صور بيع اللحم بالحيوان وبيع الحيوان بعضه ببعض أربع عشرة صورة، بيع لحم بحيوان يراد للقنية وفيه منفعة كثيرة وبما لا تطول حياته وبما لا منفعة فيه إلا اللحم وبما قلت منفعته، وبيع حيوان يراد للقنية بمثله أو بالثلاثة بعده، وبيع حيوان لا تطول حياته بمثله أو بالاثنين بعده، وبيع ما لا منفعة فيه إلا اللحم بمثله وبما بعده، وبيع ما قلت منفعته بمثله، والجائز من هذه الأربع عشرة صورة واحدة، وهي: بيع الحيوان الذي يراد للقنية بمثله، ويمنع منها أربع اللحم والتسع الباقية من صور بيع الحيوان بعضه ببعض، وهي: بيع ما فيه منفعة كثيرة بما لا تطول حياته أو ما لا منفعة فيه أو قلت، وبيع ما لا تطول حياته بمثله أو بما لا منفعة فيه إلا اللحم أو بما قلت منفعته، وبيع ما لا منفعة فيه بمثله أو بما قلت، وبيع ما قلت منفعته بمثله. انظر حاشية الشيخ بناني. وقال الشيخ أبو علي: قال اللخمي: بيع الحي بالحي على أربعة أوجه: أن يرادا معا للقنية فيجوز، أو لا يرادا للقنية وتطول حياتهما فلمالك قولان نظرا لعدم منافع الاقتناء، فيكون كاللحم أو نظرا للحياة، وعلى القول بالمنع فهل يجوز لحومهما تحريا؟ قولان أو لا تطول حياتهما معا، مالك يمنع مطلقا وأجاز أشهب التحري، فإن

ص: 265

كان أحدهما للقنية امتنع على قول مالك لأنه في حكم اللحم، ويجوز على القول الآخر، وإن كان أحدهما تطول حياته ولا يراد للقنية والآخر لا تطول حياته امتنع عند مالك لأنه حي بلحم، وعلى أحد قوليه في أن ما تطول حياته كاللحم يختلف فيه بالتحري، ويجوز الجميع عند أشهب لأنه حي عنده فلم يتناوله الحديث. انتهى. وذكره ابن عرفة وأشهب ولم أفهم وجه المنع فيما لا تطول حياتهما مع جواز بيع شاتين مذبوحتين وهوأقي جواز بيع شاتين مذبوحتين في المدونة، نعم اللخمي يمنع بيعهما. انتهى. وعطف منهيا عنه على منهي عنه فقال، وكبيع الغرر؛ يعني أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر

(1)

). ابن عرفة: الأقرب أن بيع الغرر ما شك في حصول أحد عوضيه أو مقصود منه غالبا. انتهى. قوله: في حصول أحد عوضيه، مثل بيع الشارد والجنين، ويدخل فاسد بيع الجزاف. وقوله: أو مقصود منه غالبا، احترز به من الغرر البعيد كدخول الحمام مع اختلاف قدر الماء فإنه لم يقع شك في المقصود منه غالبا. انتهى. قاله الرهوني؛ يعني أن الماء الذي يغتسل به الداخل للحمام يختلف قدره ولا يمنع ذلك شراءه. والله سبحانه أعلم. ومثل لبيع الغرر بقوله: كبيعها بقيمتها؛ يعني أنهما إذا عقدا البيع في سلعة من غيرتعيين لثمنها بل عقدا البيع فيها على ما تساوي فإن هذا البيع لا يصح لجهلى الثمن. قال عبد الباقي مفسرا للمص: كبيعها بقيمتها عند أهل المعرفة مع جهل كل أو أحدهما بالثمن ففاسد لأنه بيع مجهول. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن من عقد البيع في سلعة من غير ذكر ثمن معين بل على ما تساوي من القيمة عند أهل المعرفة فإنه لا يصح. انتهى. وقال أبو علي: معناه أن يقول له: أبيعك بما تساوي من القيمة عند أهل المعرفة لأنه بيع مجهول. انتهى. أو على حكمه؛ يعني أن من أفراد بيع الغرر أن يبيع الشيء على حكمه أي حكم أحد المتعاقدين من بائع أو مشتر للجهل بالثمن إذ لا يدرى ما يحكم به الحاكم، واعلم أن بيع الغرر على ثلاثة

(1)

مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث 1511.

ص: 266

أقسام: ممتنع إجماعا كالطير في الهواء والسمد في الماء، وجائز إجماعا كأساس الدار المبيعة وحشو الجبة المغيبة، ونقصان المشهور وكمالها في الإجارة، وفي البيع لأجل، وفي السلم، واختلاف الاستعمال في الماء في دخول الحمام؛ ومختلف في إلحاقه بالأول أو بالثاني كبيعها بقيمتها أو على حكمه.

أو حكم غيره؛ يعني أنه إذا باع الشيء على حكم غير المتعاقدين من أجنبي فإن البيع يفسد لأنه من أفراد بيع الغرر. أو رضاه؛ يعني أنه إذا وقع البيع على رضى من ذكر من بائع أو مشتر أو أجنبي فإن البيع يفسد للجهل بما يرضى به والفرق بين الحكم والرضى أن الحكم هو الواقع من العارف بالقيمة والرضى هو الواقع من الجاهل بالقيمة، وقوله: أو على حكمه لخ، قال الحطاب: قال أبو الحسن اللخمي: إلا أن يقوم دليل على أن القصد بالتحكيم المكارمة فتجوز كالهبة للثواب انتهى. وقبله في الشامل، فقال: إلا لكرامة قريب ونحوه. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: قال ابن القاسم: إذا قال له: هي لك بما شئتها إن أعطاه القيمة جاز ذلك أي لزمه. محمد: وهذا مع الفوات فإن لم يفت رد لأن هذا لا يجوز إلا في هبة الثواب. وَجْهُ قول ابن القاسم أن ظاهر أمره الكارمة وتعليق ذلك باختيار من المبتاع فأشبه هبة الثواب؛ ووجْهُ قول محمد اعتبار بلفظ البيع ولذلك فرق بينه وبين التلفظ بالهبة للثواب، فجعل للفظ تأثيرا في ذلك. والله أعلم. قاله الباجي، بعد أن قال: من الجهالة في الثمن أن يبيعه السلعة بقيمتها أو بما يعطي فيها. انتهى. قال أبو علي: فانظره فإنه جعل كلام ابن القاسم خلافا لقول محمد، ولعل ابن ناجي تبع الباجي في قوله: فجعل للفظ تأثيرا لخ، واللخمي لم يعتبر ذلك. انتهى المراد منه. وقال بناني بعد كلام: والحاصل أن ظاهر المدونة مع ظاهر ابن القاسم متخالفان، لكن ابن المواز أخذ بظاهر كلام المدونة واللخمي وأبو الحسن ردا كلامها لظاهر ابن القاسم فقيداها به، وهو ظاهر الباجي فهما وفاق عند الجميع، وبه يعلم أن اعتماد الأجهوري ومصطفى على ظاهر المدونة غير ظاهر لتقييد اللخمي وأبي الحسن لها. انتهى. وعلى ظاهرها مر عبد الباقي، فقال: إن فات البيع حال المكارمة يمضي بالقيمة ما لم تزد على ما سماه البائع أو تنقص عما سماه المبتاع مطلقا، وفي

ص: 267

حال عدم المكارمة ترد إلا لفوت فبالقيمة مطلقا كحال عدم المكارمة إن لم تحصل تسمية، والخطر والغرر واحد، والغرر يكون في ثلاثة أشياء: في العقد كبيع الحصاة، وفي العقود عليه بالجهل بصفته أو قدره أو عدم القدرة على تسليمه، وفي الأجل كإلى قدوم زيد مثلا. وقال الأبي عن المازري: علة المنع من بيع الغرر أنه من أكل أموال الناس بالباطل، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذه العلة في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها لقوله: (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه

(1)

)؟. انتهى. قاله الشيخ أبو علي. والمراد ببيع الغرر قال المتيطى: ما يكثر فيه الغرر ويغلب عليه حتى يوصف به لأن الشيء إذا كان مترددا بين معينين لا يوصف بأحدهما إلا إذا غلب عليه، والغرر يكون بوجوه: منها الجهل بجنس البيع أو صفته كالثوب المدرج، وبيع الملامسة والمنابذة، وبيع الحصاة والجنين والملاقيح. انتهى. وحبل الحبلة، ونحو الإباق والمزابنة والعربان؛ وبيعتان في بيعة؛ وبيع اللحم في جلده والحنطة في سنبلها أو تبنها، والمريض الذي في حد السياق ولو رقيقا، والثمار قبل بدو صلاحها، والبيع إلى موت فلان، وبيع الغائب البعيد جدا، وتراب الصواغين، والجهل بمقدار الثمن كالجزاف، إلى غير ذلك مما يكثر.

أو توليتك سلعة لم تذكرها أو ثمنها؛ يعني أن من أفراد الغرر ما إذا اشترى شخص سلعة، ثم إن المشتري ولَّى تلك السلعة شخصا آخر بأن قال له: خذها وأدِّ الثمن الذي اشتريتُها به إليَّ، والحال أن المولَّى لم تُذْكر له السلعة أي لم تبين له، أو ذُكِرَتْ له ولم يذكر له ثمنها، فيفسد العقد لما في ذلك من الخطر. وقوله: بإلزام؛ راجع لجميع ما مر من أمثلة بيع الغرر؛ يعني أن ما مر من منع بيعها بقيمتها أو على حكمه أو حكم غير أو رضاه وتوليتك سلعة لم تذكرها أو ثمنها إنما هو حيث كان العقد على الإلزام، وأما إن كان على الخيار فإن ذلك جائز والسكوت في البيع كالإلزام على الراجح، وفي التولية لا يضر وله الخيار لأنها من باب المعروف. انظر الرهوني. واعلم أن المضر إلزامهما أو إلزام أحدهما في بيعها بقيمتها أو حكم غير أو رضاه وأما على حكم

(1)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث؛ 219. الموطأ، ج 2 ص 393.

ص: 268

أحد المتبايعين أو رضاه، فالمضر إلزام غير من له الحكم أو الرضى، وأما في التولية فالمضر إلزام الجاهل بالمعقود عليه، ويتصور ذلك من كل منهما.

وكملامسة الثوب، هذا من بيع الغرر وقد ورد فيه المنهي بخصوصه. مسلم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين الملامسة والمنابذة

(1)

). قال مالك في المدونة: الملامسة شراؤك الثوب لا تنشره ولا تعلم ما فيه، أو تبتاعه ليلا ولا تتأمله، أو ثوبا مدرجا لا ينشر من جرابه. أبو الحسن: قوله: ولا تعلم ما فيه؛ يعني: وتكتفي باللمس. قال ابن عرفة: قال المازري: ولو فعل هذا على أن ينظر إليها ويتأملها فإن رضي أمسك جاز. انتهى. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وكملامسة الثوب الذي يشتريه ولا ينشره ولا يعلم ما فيه، أو بليل ولو مقمرا ولا يتأمله، أو ثوب مدرج لا ينشر من جرابه، بل يكتفى بلمسه في جميع ذلك، فالمفاعلة على غير بابها؛ إذ المراد لمس الثوب؛ ومثل الثوب شراء بهيمة الأنعام بليل ولو مقمرا عند ابن القاسم، وقال أشهب: شراء ما يؤكل لحمه بليل جائز لأن الخبرة باليد تبين الغرض المقصود منه من سمن وهزال، وأما شراء ما ليس من بهيمة الأنعام كالحمير فيجوز في الليل المقمر، وانظر حكم شراء الحوت ونحوه في الليل القمر، والظاهر أنه كبهيمة الأنعام. وانظر أيضا حكم شراء الحبوب بالليل المقمر؛ وفي مختصر البرزلي: إذا كان يصل إلى معرفة الجميع ظاهرا وباطنا بالقمر مثل النهار جاز البيع. قلت: ظاهر الأمهات: لا يجوز بناء على أنه لا تدرك حقيقته فهو خلاف في شهادة. انتهى. انتهى. وعبر في الحديث بالملامسة لمشاكلة المنابذة. قاله أبو علي. وقوله: أي عبد الباقي في الحمير هو تمام مقول أشهب. قاله الرهوني.

أو منابذته؛ يعني أن بيع المنابذة من العقود التي ورد المنهي عنها وهو من أفراد بيع الغرر، وبيع المنابذة أن تبيعه ثوبك بثوبه وتنبذه إليه وينبذه إليك من غير تأمل منكما. وقوله: فيلزم، راجع للملامسة والمنابذة؛ يعني أن محل المنع والفساد في بيع الملامسة أو بيع المنابذة إنما هو إذا وقع العقد المذكور على الإلزام، وأما إن وقع بالخيار فإنه جائز.

(1)

البخاري، كتاب الصوم، رقم الحديث 1993. مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث 1511.

ص: 269

تنبيه: قد مر قول عبد الباقي إن شراء بهيمة الأنعام لا يجوز ولو بليل مقمر؛ قال القلشاني عند قول الرسالة: أو في ليل مظلم؛ قالوا: فيما لا يراد للذبح، ونحوه للشيخ زروق، فإنه قال: إلا ما يراد للذبح فيكتفى فيه بالمس باليد؛ وعبارتهما: قال الرهوني: هي الصواب، وقوله: أو منابذته؛ قال عبد الباقي: هي أن تبيعه ثوبك لخ، قاله في المدونة. ولذا عبر بالفاعلة لأنه هو الذي كان في الجاهلية، ووقع في الخبر المنهي عنه. وإلا فشراء أحدهما ذلك بدراهم مع نبذه كذلك، والمفاعلة في الملامسة غير حقيقية قطعا كما مر، ولكن عبر بها تبركا بلفظ الحديث، وقد مر أن التعبير بها في الحديث لمشاكلة المنابذة.

وكبيع الحصاة؛ يعني أن بيع الحصاة من البيوع الفاسدة وهو من أفراد بيع الغرر، (وقد ورد النهي عنه أي عن بيع الحصاة بخصوصه. فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر

(1)

). واختلف في تفسير هذا الحديث كما أشار إلى ذلك بقوله: وهل هو بيع منتهاها؛ يعني أن هذا الحديث فسر بأن بيع الحصاة هو بيع منتهاها؛ أي يبيع له من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة، كان الرامي البائع أو المشتري أو غيرهما، وهذا ممنوع للجهل لاختلاف قوة الرامي وضعفه إذا وقع بإلزام، فإن وقع بخيار جاز بشرط علم ما يباع حيث اختار الإمضاء وإلا لم يجز، ولا يخفى أن في كلامه حذفَ مضاف أي بيع ذي منتهاها أي صاحب منتهاها أي بين مبدئها وبين منتهاها؛ أي ما بين الرامي وبين منتهاها، لا أن منتهاها هو البيع فقط كما هو ظاهر العبارة؛ إذ لم يفسر أحد الحديث به. قاله عبد الباقي.

أو يلزم بوقوعها؛ يعني أن هذا الحديث فُسِّر أيضا بأنه بيع يلزم بوقوع الحصاة من يد أحد المتبايعين أو غيرهما؛ أي متى سقطت ممن هي معه باختياره لزم البيع، ففاسد لجهل زمن وقوعهات ففيه تأجيل بأجل مجهول، فلو عين لوقوعها أجلا معلوما وكان قدر زمن الخيار وعلم الثمن لم يفسد، فإن جعل لزومه بوقوعها باختياره أو بغيره كسهو أو نعاس فسد البيع مطلقا،

(1)

مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث 1513.

ص: 270

والمعطوف محذوف تقديره بيع أي بيع يلزم بوقوعها، وهو معطوف على بيع المضاف إلى منتهاها. والله سبحانه أعلم.

أو على ما تقع عليه بلا قصد؛ يعني أن هذا الحديث فسر أيضا بأنه بيع يلزم على الشيء الذي تقع عليه الحصاة، بأن يبيع له الثوب مثلا الذي تقع عليه الحصاة بلا قصد منة لشيء معين، للجهل بعين المبيع، قال عبد الباقي: ومفهومه أنه لو كان بقصد جاز إن كان القصد من المشتري، وكذا من البائع بشرط جعل الخيار للمشتري، وهذا كله إذا اختلفت السلع فإن اتفقت جاز، كان الوقوع بقصد أو بغيره. انتهى كلام عبد الباقي. قال الرهوني عن شيخه الجنوي: قول الزرقاني: إن كان القصد من البائع بشرط جعل الخيار للمشتري، ظاهره أنه إذا كان بقصد من المشتري لا يشترط جعل الخيار للبائع، قلت: وكذا لابد أن يكون الخيار للبائع إذا كان القصد من المشتري. انتهى. قال الرهوني: إن كان المبيع من جنس واحد فما قاله الزرقاني هو الظاهر، والمسألة إذ ذاك من نحو قوله في الصداق: كعبد تختاره هي لا هو، وإلا فما قاله شيخنا متعين. انتهى. قال الخرشي: والظاهر أن على بمعنى في؛ أي بيع يلزم فيما تقع عليه الحصاة، وقوله: بلا قصد خاص بهذه ولا يرجع لما قبلها.

أو بعدد ما تقع، قال بناني: أحسن ما يفسر به أن يتفقا على رمي الحصاة ولقطها عددا معلوما كثلاثين مرة، وأن له من الدراهم بقدر ما تسقط من يده، فإن سقطت من يده مرتين كان له درهمان وهكذا، فإن لم تسقط فلا شيء له. قاله بعض. انتهى. وقال الخرشي: بأن يقول البائع للمشتري: ارم بالحصاة فما خرج فلي بعدده دراهم أو دنانير، أو يقول المشتري. للبائع: ارم بالحصاة فما خرج فلك بعدده دراهم أو دنانير، ولا خلاف في فساد هذه الصور، وإنما اختلفوا في أيها مدلول الحديث. قاله الخرشي وغيره. وقال عبد الباقي: والأحسن أن يقول له: ارم بالحصاة فما خرج أي وقع من أجزائها المتفرقة بسبب الرمي فلك بعدده دراهم، وإنما كان هذا أحسن لأن

ص: 271

فيه تبقية لفظ الحصاة على مقتضاه من الوحدة. تفسيرات؛ أي تلك تفسيرات للحديث، وعدل عن تأويلات ليلا يتوهم عودها على المدونة كما هو اصطلاحه.

وكبيع ما في بطون الإبل أو ظهورها أو إلى أن يُنتج النتاج؛ يعني أنه ورد النهي عن بيع ما في بطون الإبل من الأجنة، وعن بيع ما في ظهورها، بأن يقول: أبيعك ما يتكون من ماء فحلي هذا في بطن ناقتي هذه، وعن أن يشتري شيئا وأجل ثمنه إلى أن ينتج النتاج بكسر النون أي إلى أن تلد الأولاد، فالشراء مؤجل بأجل مجهول، وأما لو أجله بمدة حمل امرأة فيعتبر معظمه وهو تسعة أشهر، أو بمدة حمل دابة مأكولة أم لا اعتبر معظمه أيضا، وقوله ينتج بالبناء للمفعول ليس إلَّا. قاله أحمد. وفي المصباح ما يقتضي أنه أكثر فقط. قاله عبد الباقي. وفي الموطإ عن ابن المسيب أنه قال: لا ربا في الحيوان، إنما نهي من الحيوان عن ثلاثة عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة. قال في الموطإ: والمضامين بيع ما في بطون الإبل، والملاقيح ما في ظهور الفحول، وحبل الحبلة بيع الجزور إلى أن ينتج نتاج الناقة. وإلى هذا أشار بقوله:

وهي المضامين والملاقيح وحبل الحبلة؛ فالمضامين هو ما في بطون الإبل، والملاقيح ما في ظهور الإبل، وحبلة الحبلة هو أن يشتري شيئا وأجل ثمنه إلى أن ينتج النتاج. قال الشيخ أبو علي: قول المتن: حبل الحبلة، الحبل كالفرح مصدر حبلت المرأة بكسر الباء كفرحت، والحبلة جمع حابل كظالم وظلمة، وقيل: جمع حابلة، وذكر المازري خلافا في معنى حبل الحبلة، واختصره في الجواهر بقوله: وأما حبل الحبلة ففي الموطإ أنه كان الرجل أي في الجاهلية يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم ينتج الذي في بطنها، وقال ابن حبيب: حبل الحبلة بيع نتاج الناقة ورواه عن مالك، فالتفسير الأول يرجع إلى جهالة الأجل، والثاني يرجع إلى أن المبيع ليس بمملوك ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه، وقال في القاموس: نتج كعني نتاجا وأنتجت، وقد نتجها أهلها وأنتجت الناقة ذهبت على وجهها فولدت حيث لا يعرف موضعها. انتهى. ثم قال أبو علي: فقول المتن: إلى أن ينتج، هو رباعي والنتاج هو الولد أي إلى إنتاج الولد أي إلى أن يحين نتاجه، ثم قال عن ابن الأثير: في حبل الحبلة وجهان: أحدهما أن يبيع إلى أن تحمل الناقة وتضع ثم يحمل هذا البطن الثاني وهذا باطل؛ لأنه بيع إلى أجل مجهول. والثاني: أنه بيع نتاج النتاج

ص: 272

وهو باطل أيضا لأنه معدوم، وهذا البيع كانت الجاهلية تتبايعه فأبطله الشارع. وقال ابن الفاكهاني: وصورة بيع ما في بطون الإبل أن يكون الجمل والناقة لرجل أو الفرس والرمكة لرجل فيقول له آخر: أشتري ما تلده ناقتك مع جملك أو رمكتك مع فرسك، أو يقول: احمل فرسك على رمكة فلان أو جملك على ناقة فلان وأنا أشتري منكما ما تلدان أو العكس، هذا كله حرام للغرر. انتهى.

تنبيه: وقع في شرح عبد الباقي عند قوله: وكبيع ما في بطون الإبل ما نصه: واقتصر على الإبل للتفسير الآتي وتبركا بالخبر وإلا فالحكم عام. انتهى. فورد سؤال وهو أنه لم يكن في الخبر المذكور ذكر للإبل حتى يتبرك بلفظها قال مقيده عفا الله عنه: فالأولى أن يسقط قوله: وتبركا بالخبر، وأما الجواب عنه والله أعلم بما مر في الموطإ من تفسير المذكورات حيث فرضها في الإبل فغير ظاهر وقال المواق: في الموطإ: المضامين ما في بطون إناث الإبل والملاقيح ما في ظهور الجمال، ونقله الصقلي عن مالك مطلقا لا بقيد كونها في الإبل.

وكبيعه بالنفقة عليه حياته؛ يعني أنه يمنع أن يبيع له شيئا بأن ينفق عليه ما حيي. قال الشيخ أبو علي: أي من البيوع المنهي عنها أن يبيع الرجل سلعته بالنفقة عليه مدة حياته؛ لأنه لا يدري ما يعيش من الزمن. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن الشخص لا يجوز له أن يبيع سلعته أو يؤاجرها بالنفقة عليه مدة حياته؛ لأنه لا يدرى ما يعيش من الزمن فهو جهل بالثمن. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله: وكبيعه بالنفقة عليه حياته ما نصه: لم يرد فيه نهي بخصوصه فليس على طريقة [ما قبله]

(1)

، وإنما هو من أفراد الغرر، وإنما ذكره لما فرعه من قوله:

ورجع بقيمة ما أنفق؛ يعني أنه إذا وقع العقد المذكور فإنه يفسخ ويرجع المشتري على المنفق عليه بقيمة ما أنفق عليه إن كان مقوما، ومثله إن كان مثليا كما أشار إلى ذلك بقوله: أَو بمثله من علم؛ يعني أنه يرجع عليه بمثل المثلي حيث كان ما أنفقه من المثلي معلوما، وأما إن جهل فإنه

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 76.

ص: 273

يرجع عليه بقيمته؛ لأن المثلي إذا جهل صار مقوما. والله سبحانه أعلم. ولو سرفا؛ يعني أن المشتري يرجع بما أنفق ولو كانت نفقته سرفا أي كثيرة خارجة عن العادة على ما رجحه ابن يونس، ولهذا قال: على الأرجح، هذا ظاهره وهو شامل لمسألتين، الأولى: أن يعطيه دارا على أن ينفق عليه حياته فيرجع بما أنفق إن كان غير سرف، وكذا إن كان سرفا ولم يفت بأن كان ما أنفقه قائما، فإن لم تكن النفقة قائمة قيل: يرجع بالمتوسط فقط، وقيل: يرجع بجميعها ولو سرفا، وهذا الأخير ظاهر المص أنه رجحه ابن يونس: وقوله: ولو سرفا بالنسبة للمنفق عليه. الثانية: أن يؤاجره بسكنى هذه الدار مدة معلومة كثلاث سنين مثلا بالنفقة عليه حياته فيرجع عليه بما أنفق ولو سرفا على ما رجحه ابن يونس، قال بناني: اعلم أنه لا ذكر ابن يونس بيع الذات ذكر أنه لا يرجع بالسرف الزائد إلا في قيامه، ولا يرجع به في فواته، ثم ذكر مسألة الإيجار، وقال بعدها ما نصه: واختلف إذا أنفق عليه سرفا هل يرجع بالسرف؟، قال بعض أصحابنا: يرجع عليه لأن الزائد على نفقة الوسط كهبة من أجل البيع، فإذا انتقض البيع وجب الرجوع بها، وقال غيره: لا يرجع إلا بنفقة وسط كمن ينفق على يتيم وله مال فإنه يرجع عليه بالوسط، وكذلك هذا. ابن يونس: والأول أقيس وأولى. انتهى. والظاهر من العلة شموله للمسألتين بل هي ظاهرة في مسألة البيع فلا وجه للفرق بينهما، وحينئذ يرجع ولو فات فيها. وما قاله ابن يونس أولا في بيع الذات لم يقله من عند نفسه: إنما نقله عن أبي إسحاق التونسي. وقوله بعد ذكر المسألتين: واختلف إذا أنفق عليه سرفا لخ، هو كلامه من عنده عزاه لنفسه فيفهم منه أنه راجع لأصل المسألة وهو البيع، ولا يخص بمسألة الإجارة كما فعل المواق، ولقد رد أبو الحسن الخلاف الذي عند ابن يونس إلى مسألة المبيع، وكذلك عبد الحق ذكر الخلاف في مسألة المبيع وصحح الرجوع مطلقا. نقله عنه الشيخ أبو علي. انتهى كلام الشيخ محمد بن الحسن. والله سبحانه أعلم. قال مقيده عفا الله عنه: انظر تحرير هذا الشيخ الأجل رضي الله عنه، حيث خفي كلام المص على الفحول كالمواق وعبد الباقي. انتهى. قال عبد الباقي: والصور أربع يرجع بالقيمة في ثلاث وبالمثل في واحدة، فيرجع بقيمة القوم معلوما أو مجهولا، وبقيمة المثلي المجهول، وبالمثل في المثلي إن علم، والرجوع في الأربع مختلف، فالمقوم المعلوم يرجع بقيمته،

ص: 274

والمجهول من مقوم أو مثلي يرجع عليه بقيمة ما يأكل كُلَّ يوم، وفهم من قوله: ورجع لخ، أنه ليس له جنس المبيع مع قيامه في النفقة وهو كذلك، والغلة له على قاعدة البيع الفاسد.

ورد المبيع ذاتا أو منفعة إلا أن يفوت، بهدم أو بناء فيغرم المبتاع قيمته يوم قبضة ويقاصه بما أنفق في المبيع والإجارة، وهذا مفهوم من قوله: ورجع بما أنفق؛ لأن الرجوع لا يكون إلا بعد رد المبيع بعينه إن كان قائما، ومفهوم حياته، أنه لو كان لمدة معلومة جاز، وهو كذلك إن كان على إن مات البائع رجع ما بقي من المدة لوارثه أو لبيت المال، فإن كان على أنه هبة للمشتري لم يجز. وكعسيب الفحل يستأجر على عقوق الأنثى؛ يعني أن من البيوع المنهي عنها عسيب الفحل أي كراؤه للضراب. وكيفية ذلك أن يستأجر على عقوق الأنثى أي حملها.

وعلم مما قررت أن قوله: يستأجر، تفسير للعسيب الذي هو الإجارة، وعدَّى المص يستأجر بعلى لأنه في معنى يجاعل وهو جعل في الحقيقة. قاله أبو علي. لما في البخاري عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن عسيب الفحل

(1)

). وفي مسلم: (عن ضراب الفحل

(2)

). فقوله: يستأجر، جملة تفسيرية، والعسيب بياء وفيه لغة بغير ياء. قاله في التوضيح. نقله أبو علي. وقوله: عقوق، قال الحطاب: الظاهر أنه بالفتح، قال عبد الباقي: فيه نظر لأن المصادر الآتية على فعول بالفتح خمسة، وهي: القبول والوقود والولوع والطهور والوضوء، وما عداهن بالضم كالخروج والدخول، ويجوز النطق بالضم قياسا فيما ورد بالفتح. انتهى. وقال بناني: صوابه إعقاق بلفظ الرباعي، أو عقاق كسحاب وكتاب، وأما عقوق فهو وصف كصبور لا مصدر، لكن ما قال المص ذكره ابن شأس وابن الحاجب وابن عرفة. قاله أبو علي. وأجاب عن المص بأن عقوق بمعنى حائل وهي من إضافة الصفة للموصوف. قال في القاموس: فرس عقوق كصبور حامل وحائل ضد، أو على التفاؤل، الجمع عُقُق بضمتين، وقد عقت تعق عقاقا وعققا محركة وأعقت والعقاق كسحاب وكتاب الحمل بعينه. انتهى. وقال زهير:

(1)

البخاري، كتاب الإجارة، رقم الحديث 2284.

(2)

مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1565.

ص: 275

غزت سِمانا فئابت ضُمَّرا خُدُجًا

من بعد ما جنبوها بُدَّنا عُقُقا

الجوهوي: عسيب الفحل هو الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل، يقال: عسب فحله أي أكراه، وعسيب الفحل أيضا ضرابه، ويقال: ماؤه، والممنوع إجارته حتى تعق ونحو ذلك من المجهول. وأما كراؤه مدة معلومة أو مرات معلومة فإن ذلك جائز. ولهذا قال: وجاز زمان أو مرات؛ يعني أن أهل المذهب استثنوا من منع عسيب الفحل مسألتين، إحداهما: أن يستأجر زمانا معلوما كيوم أو يومين أو أكثر مما هو معلوم. الثانية: أن يستأجر مرات أي ولو في يوم لانتفاء علة الفساد وهي الجهل بالزمن أو المرات، وعبر عنها ابن الحاجب بأكوام، وأتى بأو لأنه لو سماهما معا لم يجز. قاله عبد الباقي وغيره. فإن أعقت انفسخت؛ يعني أنه إذا أعقت الأنثى قبل تمام الزمن أو المرات فإنه تنفسخ الإجارة، وعليه بحساب ما انتفع، وعلامة إعقاقها إعراضها عن الفحل: قال المواق: قال سحنون: من استأجر نزو فحل مرتين فعقت الدابة بإحداهما رجع بنصف الأجرة كصبي استؤجر على رضاعه مدة فمات في نصفها. ابن رشد: وكذا موت الصبي المستأجر على تعليمه والدابة المستأجر على رياضتها. انتهى.

وعلم مما قررت أن قوله: فإن أعقت انفسخت راجع للصورتين، وتستثنى هذه المسألة من قولهم: إن ما تستوفى به المنفعة لا تنفسخ الإجارة بتلفه لمشقة ربها لو كلف أن يأتي بأخرى، وجعل ابن الحاجب الفسخ -وتبعه ابن عبد السلام والش- عائدا على المرات فقط. قال: وأما في الزمان فلا فسخ بعقوقها أوله أو أثناءه، بل إما أن يأتي بأنثى تستوفى بها المنفعة أو يؤدي جميع الأجرة؛ ولم يرتضه ابن عرفة.

وكبيعتين في بيعه؛ يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيعتين في بيعة

(1)

). قال الشيخ أبو علي: قوله: كبيعتين في بيعة، هذا لما في الموطإ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيعتين في بيعة)

(2)

انتهى. وقال المواق: الترمذي وصححه: (نهى رسول الله صلى الله

(1)

الموطأ، ج 2 ص 419. الترمذي، الحديث 1231.

(2)

الموطأ، ج 2 ص 419. الترمذي، الحديث 1231.

ص: 276

عليه وسلم عن بيعتين في بيعة. انتهى. وقال الخرشي: عطف على حيوان بلحم جنسه، والنهي عنه ما في الموطإ، وخَرَّجَه الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة. قال عبد الباقي: وجعلهما بيعتين باعتبار تعدد المثمن في السلعتين والثمن في السلعة الواحدة. انتهى. ومحمل الحديث عند مالك على صورتين: أولاهما أشار لما بقوله:

يبيعها بإلزام بعشرة نقدا أو أكثر لأجل؛ يعني أن إحدى الصورتين هي أن يبيع الشخص سلعته بأحد ثمنين يختلف الغرض فيهما على اللزوم لهما أو لأحدهما، كأن يبيعها على اللزوم إما بعشرة نقدا وإما بأكثر من ذلك مؤجلا كاثني عشر، ويختار بعد ذلك أحد الثمنين، فإن كان ذلك على الخيار لهما معا فلا منع. والثانية أشار لها بقوله: أو سلعتين مختلفتين؛ يعني أن الصورة الثانية هي أن يبيع إحدى سلعتين مختلفتين في الجنسية كثوب ودابة، أو الصنعة كرداء وكساء، أو الرقم بثمن واحد على اللزوم لهما أو لأحدهما، فإن كان على الخيار لهما معا جاز ذلك، قال ابن عرفة في تفسير بيعتين في بيعة. هو بيع لأحد مثمونين يختلف الغرض فيهما أو بأحد ثمنين كذلك لزوما لأحد عاقديه، فإن كان دون لزوم جاز ذلك. قاله مالك في المدونة ورواه محمد. ونص المدونة: قال مالك: هو أن يشتري سلعة بدينار أو شاة، أو يشتريها بعشرة نقدا أو بخمسة عشر لأجل، قد وجبت للمشتري بأحد الثمنين إلزاما. الباجي: سواء كان الإلزام لهما أو لأحدهما وإن كان على غير إلزام جاز. انتهى. نقله المواق. وقال بناني: ووقع للشارح أنه قال: فإن وقع ذلك على خيار لهما أو لأحدهما جاز. قال الحطاب: وهو سهو ظاهر. أنتهى. واستثنى من قوله: أو لسلعتين مختلفتين قوله. إلا بجودة ورداءة؛ يعني أنه إذا كان اختلاف السلعتين إِنما هو بجودة ورداءة وهما متفقتان فيما عدا الجودة والرداءة والثمن وأحد فإنه يجوز بيع إحداهما على اللزوم بثمن واحد؛ لأن الجودة والرداءة ليستا

ص: 277

بجوهر زائد فكأنهما سلعة واحدة، أو لأن الغالب الدخول على الأجود كما في أحمد. قاله عبد الباقي. وقال أبو علي: لما كان قوله: أو سلعتين مختلفتين يوهم عموم الاختلاف كيف ما كان أخرج هذه الصورة من ذلك فإنها جائزة، قال في المدونة: وذلك ممنوع فيما عدا الجودة والرداءة من صنعة أو صفة رقوم، وأما إن اختلفا في الجودة والرداءة فيجوز وإن اختلفت القيمة وليس من بيعتين في بيعة. انتهى. وقال المواق: فيها لمالك: لا بأس بشراء ثوب من ثوبين يختاره بثمن كذا أو خمسين من مائة ثوب في عدل يختارها إن كانت جنسا واحدا ووصف رقاعها وجنوسها وطولها وإن اختلفت القيم، بعد أن تكون كلها مروية أو هروية، فإن اختلفت الأجناس لم يجز، يريد على الإلزام، ولو كان كله على غير الإلزام لجازت وكذلك إن اجتمع حرير وصوف وبقر وغنم لم يجز إلا على ما ذكرنا.

وإن اختلفت قيمتهما. قال عبد الباقي: الواو للحال، أو أراد ثمنهما إذ اختلافهما بالجودة والرداءة يوجب اختلاف قيمتهما قطعا فلا معنى للمبالغة حينئذ، وإنما الذي يتحد مع اختلافهما في الجودة والرداءة تارة ويختلف تارة هو ثمنهما لأن الثمن يتبع الرغبات بخلاف القيمة، والمراد اختلف ثمنهما بحسب الأصل يعني الثمن الذي اشتراها به البائع لا الثمن الذي وقع به البيع الآن لأنهما دخلا على ثمن واحد. قاله بناني. وقال عند قوله: إلا بجودة ورداءة: هذه المسألة هي بيع الاختيار دون الخيار. ابن عرفة: زاد في البيان بعد الإحاطة بمعرفة خيارها وشرارها، وظاهر المص كان الاختيار للبائع أو للمشتري، قال مصطفى: وفيه إجمال تفصيله إن كان الاختيار للمشتري جاز مطلقا، وإن كان للبائع جاز إن كان ما يختاره لنفسه الثلث فأقل، هذا مذهب المدونة؛ وقوله: إلا بجودة ورداءة وإن اختلفت قيمتهما، وكذلك يجوز البيع أيضا إذا قال البائع: بعتك هذا الثوب بعشرة نقدا أو باثني عشر لشهر مثلا، فيقول المشتري: اشتريته بكذا، فإنه لا منع حينئذ، وينبغي أن يجري ذلك في السلعتين المختلفتين، فإذا قال البائع: بعتك إحدى هاتين السلعتين، وقال المشتري: اشتريت هذه السلعة بكذا، فيجوز ذلك. قاله الخرشي. والله سبحانه أعلم. ولو عكس في مثال المص لجاز لعدم التردد غالبا؛ لأن العاقل لا يختار أقل لأجل عن أكثر نقدا.

ص: 278

لا طعام، بالجر عطف على مقدر؛ أي يجوز في غير الطعام لا في طعام يعني أنه إذا اختلفت السلعتان في الجودة والرداءة مع اتفاقهما فيما عداهما فإن ذلك يجوز كما عرفت، لكن محل الجواز المذكور إنما هو في غير الطعام، وأما الطعام فإن ذلك لا يجوز فيه كصبرتي طعام ولو كانتا متفقتين في الجنسية والصفة يبيع إحداهما، ولكن فرض المص هنا في المختلف بالجودة والرداءة، والمنع غير مقصور على ذلك، ويأتي الكلام على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى. والله سبحانه أعلم. قال المواق: من المدونة قال مالك: أما الطعام فلا يجوز أن يشتري منه على أن يختار من صُبَر مُّصَبَّرة أو من نخيل أو شجر مثمرة عددا يسميه اتفق الجنس أو اختلف أو كذا وكذا عذقا من هذه النخلة يختارها، ويدخله التفاضل في بيعه الطعام من صنف واحد مع بيعه قبل قبضه إن كان على الكيل؛ لأنه يدع هذه وقد ملك اختيارها ويأخذ هذه وبينهما فضل في الكيل، ولا يجوز فيه التفاضل، وكذا إن اشترى منه عشرة آصع محمولة بدينار أو تسعة سمراء على الإلزام لم يجز، ويدخله ما ذكرنا، وبيعه قبل قبضه. التونسي: أما إذا باع منه تمر أربع نخلات يختارها فهذا بَيِّنٌ أن لَّا يجوز لأنه يصير فيه التفاضل بين الطعامين يأخذ نخلة ثم ينتقل عنها إلى ثمر غيرها مما هو أقل منها أو أكثر، وكذلك صُبَر الطعام لا يجوز الخيار فيها، وأما لو كان مُدَّانِ من حنطة يأخذ أحدهما قد وجب عليه ولا فضل في صفة أحدهما على الآخر لكان هذا خفيفا إذا لم يتراخ فيه. عياض: منع هذا في كتاب ابن حبيب وأبي الفرج، وضعفوا التعليل ببيع الطعام قبل قبضه، قال فضل: إنما علته أنه طعام بطعام غير متناجز إذ يختار أحدهما ثم يتركه ويأخذ الآخر، فجاء بدل الطعامين غير ناجز. انتهى كلام المواق.

وإن مع غيره؛ يعني أن العقد المذكور يمنع في الطعام مع الطعام أي في بيع أحد الطعامين فقط، بل وإن كان مع الطعام غيره كصبرة وثوب معهما صبرة وثوب آخر على أن يختار المشتري إحدى الصبرتين مع أحد الثوبين فإن ذلك لا يجوز، قال عبد الباقي: وبالغ عليه ليلا يتوهم الجواز وأن الطعام غير منظور إليه، وفرض المص أن الطعام مختلف بجودة ورداءة كما يفيده العطف، فإن اتفق جودة ورداءة وكَيْلًا جاز وهو واضح، بل المشهور الجواز فيما إذا اختلفا جودة

ص: 279

ورداءة واتفقا في ما عدا ذلك، فيحمل قوله: لا طعام على ما إذا اختلفا كيلا واتحد جنسهما، فإن اتفقا في الكيل جاز ولو اختلفا جودة ورداءة، والوزن كالكيل فيما يظهر فعلم أن الأقسام ثلاثة، أحدها: متحد النوع والكيل والصفة فيجوز، ثانيها: مختلف الثلاثة فيمنع قطعا. ثالثها: متحد النوع والكيل مختلف الصفة فيجوز، ووجهه عبد الحق بما نصه: وليس يدخله بيع الطعام قبل قبضه لأنه لو أسلم في محمولة جاز أن يأخذ سمراء مثل الكيل بعد الأجل. انتهى. وقد ضبط ابن عرفة هذا الفصل فقال: وشراؤه الطعام على الاختيار لزوما لا يجوز في غير متماثلين مطلقا، ولا فيهما ربويين جزافا ولا كيلا إن اختلف قدره. انتهى. انظر ابن غازي. انتهى كلام عبد الباقي. قوله: فيحمل قوله: لا طعام على ما إذا اختلفا؛ يعني أو جهل الكيل، وهذا الحمل وإن وافق المشهور بعيد من المص. وقوله: بل المشهور الجواز فيما إذا اختلفا جودة ورداءة لخ، هذا هو الذي نسبه فضل لظاهر المدونة، قال ابن زرقون: قال فضل بن مسلمة: ظاهر المدونة يدل على أنه إن اتفق الكيل والمصنف جاز، ابن عرفة: لم أجد في المدونة ما يدل على ما قاله فضل بحال. انتهى. وقال ابن غازي في تكميلى التقييد: ما قاله فضل يؤخذ من قول المدونة في تعليل المنع لأنه يدع هذه الصبرة وقد ملك اختيارها ويأخذ هذه وبينهما فضل في الكيل، ومن قولها: وكذلك إن اشترى منه عشرة آصع محمولة بدينار أو تسعة سمراء على الإلزام لم يجز؛ إذ مفهومه لو تساويا في الكيل لجاز. قاله أبو إبراهيم الفاسي. وما نسبه فضل لظاهر المدونة هو المشهور وعليه اقتصر ابن جماعة في مسائله والقباب في شرحه. انتهى باختصار. انتهى. قاله بناني. وقال أبو علي بعد جلب نقول: وقد تبين من هذا كله أن الطعام إذا اتحد كيلا وجودة ورداءة ولا يكون ذلك إلا في المصنف الواحد فذلك جائز، وإن اتفقا كيلا واختلفا جودة ورداءة كسمراء ومحمولة فهو محل النزاع، وقد رأيت فيه الاضطراب، وما ذكره ابن غازي من قوله: كلام فضل هو المشهور، قد لا يسلم، وقد رأيت من خالفه، ومذهب المص على المنع لأنه تبع ابن عبد السلام وغيره، ثم قال: وإن شئت قلت: السائل كلها ممنوعة ما عدا صورة الاتحاد من كل وجه مع ما فيه. انتهى.

ص: 280

تنبيه: أفتى بعض شيوخ ابن عرفة بمنع شراء العنب من البائع الذي بعض عنبه أبيض وبعض عنبه أسود، إلا أن يبين المشتري الأخذ من أحدهما، وكذا شراء التين من البائع الذي تينه مختلف، قال: وأفتيت بجواز ذلك. قاله التتائي. ومَثَّل للطعام مع غيره بقوله:

كنخلة مثمرة من نخلات؛ يعني أنه لا يجوز أن يشتري نخلة مثمرة على اللزوم يختارها المشتري من نخلات مثمرات بناء على أن من خُيِّر بين شيئين يعد منتقلا، فإذا اختار واحدة يعد أنه اختار غيرها قبلها وانتقل عنه إلى هذه فيؤدي إلى التفاضل بين الطعامين الربويين؛ لأن المنتقل إليه يحتمل أن يكون أقل من المنتقل عنه أو أكثر أو مساويا، والشك في التماثل كتحقق التفاضل، وإلى بيع الطعام قبل قبضه إن كانا مكيلين أو أحدهما. قاله عبد الباقي. وقال المواق: من المدونة: إن باع منه ثمر أربع نخلات من حائطه على أن يختارها المبتاع لم يجز، ولو ابتاعها بأصولها بغير ثمر جاز كالعروض، وأما الثمرة فلا. انتهى. وعلم مما مر أنه لو كان الطعامان مختلفين في الجنسية لامتنع ذلك بكل حال لأنه من بيعتين في بيعة، كان الطعامان ربويين أو أحدهما أو غير ربويين، وكذا يمتنع ذلك لو كانت النخلة مثمرة من نخلات غير مثمرات لأنه من بيعتين في بيعة، ولما كانت العلة المذكورة موجودة فيمن باع بستانه المثمر واستثنى منه عدد نخلات مثمرة يختارها أشار لجوازها بقوله: إلا البائع يستثني خمسا من جنانه؛ يعني أنه يجوز لمن عنده جنان مثمر أن يبيعه ويستثني منه خمسا يختارها ولابد أن يكون ثمرها قدر ثلث الثمر فأقل، قال عبد الباقي: إلا البائع لجنانه المثمر يستثني خمسا من جنانه المبيع على أن يختارها منه فيجوز، كما أجاب به الإمام بعد أن وقف فيها أربعين ليلة، وأجازه إما لأن المستثنى مبقى وإما لأن البائع يعلم جيد حائطه من رديه فلا يختار ثم ينتقل، ولابد أن يكون ثمر الخمس قدر ثلث الثمر كيلا، ولا يخفى أن المستثنى هنا الثمرة مع الأصول؛ لأن الكلام في الطعام مع غيره، وحينئذ ينتفي التكرار مع قوله سابقا "وصبرة وثمرة واستثناء قدر ثلث" لأن المبيع هناك الثمرة فقط، وقيدنا يختارها منه احترازا عما لو استثناها على وجه اللزوم فيجوز ولو زاد المستثنى على الثلث لأنه بمنزلة ما إذا استثنى جزءا معينا كثلث أو نصف، فإنه يكون شريكا بنسبة العدد

ص: 281

الذي سماه من ثمر نخله، ذكره الطخيخي فيما إذا استثنى ثمر النخل، كما قدمه المص بقوله "وصبغ وثمرة واستثناء قدر ثلث" وكلام المص هنا في استثناء النخل مع ثمرة كما علمت، ولا فرق بينهما ثم إذا هلكت الثمرة في مسألة الطخيخي، فعلى البائع ضمان حصته فقط، وأما في مسألة المص فقال الشارح: ولو هلكت النخل كلها قبل اختيار البائع لكان ضمان المبيع منه أي من البائع ويفسخ. انتهى. ولعل وجه الضمان أنه لم يتعين للمشتري شيء فهو يشبه ما فيه حق توفية، وانظر إذا لم يبق من النخل إلا قدر ما استثنى البائع فهل يكون بينهما على حسب ما لكل، كما لو استثنى لا على وجه الاختيار، أم تكون كلها للبائع المستثني وهو الظاهر، قياسا على ما رجحه بعضهم في هلاك صبرة وثمرة واستثنى قدر ثلث إلا قدر المستثنى من أنه للبائع لا بينهما، وظاهر ابن عرفة استواء القولين. انتهى. انتهى كلام عبد الباقي. وقال بناني: الذي في المدونة أربع نخلات أو خمس هذا قد أجازه مالك وجعله كمن باع غنمه على أن يختار البائع منها أربعة أكباش أو خمسة. انتهى. وزاد ابن الحاجب التقييد باليسارة وفسر في التوضيح اليسير بالثلث. قال مصطفى: ولم يحده به في المدونة ولا ابن عبد السلام ولا ابن عرفة. انتهى. قلت: وهو قصور، ففي المتيطى: وإن لم يعين النخلات وشرط الخيار لنفسه جاز ذلك عند مالك إن كانت الثلث فدون، وإن كان الخيار للمبتاع لم يجز، وفي أبي الحسن ما نصه: قال عبد الحق: إنما قال مالك في البائع لأصل حائطه: يجوز أن يستثني خيار أربع نخلات أو خمس، قال سحنون: قدر الثلث فأقل وإن كان أكثر لم يجز. انتهى. فقد حده بالثلث مثل ما في التوضيح، وظاهر ما ذكر من النقل أن الأربع ليست. بحد، بل المدار على الثلث خلافا لما يقتضيه التوضيح من اعتبار كونها أربعا أو خمسا مع التقييد بكونه الثلث فدون، فإنه لما قال ابن الحاجب: بخلاف البائع يستتني أربع نخلات أو خمسا من حائطه إن كانت يسيرة يختارها لخ، قال في التوضيح: لم يكتف المص بالأربع عن التقييد باليسير لأن الحائط قد تكون نخلاته يسيرة، ومراده باليسير قدر الثلث فأدنى، وقول الزرقاني: احترازا عما لو استثناها على وجه اللزوم لخ؛ يعني بحيث تبقى مبهمة في الحائط فيكون استثناؤها كاستثناء الجزء الشائع. انتهى كلام بناني. وفي المدونة: وكل شيء ابتعته من سائر العروض والماشية عدا الطعام على أن يختار منه عددا يقل أو

ص: 282

يكثر بثمن مسمى فذلك جائز في الجنس الواحد، ويجوز أيضا أن يستثني البائع لنفسه خيار شاة من مائة أو ما يقل عدده، فأما أن يستثني البائع لنفسه خيار أكثر العدد كالتسعين من مائة أو ما يكثر لم يجز. انتهى باختصار. ابن عرفة: والذي يجوز للبائع أن يستثني اختياره الثلث فأقل، فإن كان أكثر من الثلث لم يجزه ابن القاسم وأجازه سحنون، ثم قال: ففي جواز استثناء البائع اختيار أكثر من النصف، وقصره عليه، ثالثها على الثلث فقط، ورابعها على ما دون النصف، لابن حبيب، وسحنون وابن رشد، عن ابن القاسم، واللخمي مع غيره عنه. انتهى.

وكبيع حامل بشرط الحمل؛ يعني أنه لا يجوز بيع حامل بشرط الحمل إن قصد الاستزادة في الثمن لأنه من أفراد بيع الغرر، وأما إن قصد بالشرط التبري من عيب الحمل فلا بأس بذلك، ومفهوم بشرط الحمل: لو باعها على أنها حامل دون شرطه جاز وهو كذلك، نص عليه ابن عبد الحكم، ابن ناجي: وهو متفق عليه. قاله التتائي. وفي تكميل التقييد: فإن نص على شرط الحمل براءة أو رغبة فواضح، وإلا فقال اللخمي: إن كان مشتريها حضريا فشرطه براءة، وإن كان بدويا فليس ببراءة لرغبة أكثرهم في نسل الإماء وهو الظاهر. قاله بناني. وقال المواق: أشهب: من ابتاع بقرة على أنها حامل أو جارية يزيد فيها الحمل فلم يجد بها حملا له ردها. ابن رشد: قال ابن القاسم ورَوَى: لا يجوز بيعها على ذلك وإن كان حملها ظاهرا، وبيعها مفسوخ، وأجازه سحنون إن كان الحمل ظاهرا. ابن رشد: والأظهر قول سحنون. ابن زرقون: إن كانت الجارية رفيعة ينقصها الحمل فباعها على أنها حامل فلا خلاف في جوازه لأن ذلك على معنى التبري. انتهى. واعلم أن الخلاف في بيع الحامل بشرط الحمل إنما هو حيث قصد بذلك استزادة الثمن، والمشهور المنع، وقال ابن أبي حازم: المبيع جائز ولا يرد لفقد الحمل إذا باع الرمكة يظنها عقوقا، ولو باعها على ذلك وهو يعلم أنها غير ذلك لعرفته أن الفحل ينزو عليها كان له الرد لأنه غره وأطمعه، فيتحصل فيها أربعة أقوال أظهرها قول سحنون. قاله الشيخ أبو علي؛ يعني قول ابن القاسم، وقول أشهب: بأن له ردها إن لم يجد بها حملا، وقول سحنون: بالجواز إن كان الحمل ظاهرا، وقول ابن أبي حازم. والله سبحانه أعلم. وقال ابن عبد الحكم: لا خير في بيع

ص: 283

الرجل ويشترط عقاقها، ولو قال: هي عقوق دون شرط فلا بأس به، ومن المدونة قال مالك: ومن باع شاة على أنها حامل لم يجز، وكأنه أخذ بجنينها ثمنا حين باعها بشرط أنها حامل قال في كتاب محمد: إلا أن يقول: هي حامل ولا يشترط ذلك فلا بأس به. وقال أصبغ: لا بأس أن يشترط أنها حامل إذا كان الحمل ظاهرا معروفا يعرفه كل أحد في الغنم والجواري، والشرط فيه وغير الشرط سواء، وقيل لأشهب: من اشترى جارية على أنها حامل فلم تكن حاملا، قال: ذلك يختلف فإن كانت مرتفعة فذلك تبرؤ من حملها ولا شيء له: وإن كانت من اللواتي يزاد في ثمنهن للحمل فله ردها إن لم تكن حاملا، وتحصل مما مر أن مالكا وابن القاسم يمنعان بيع الحامل بشرط مطلقا، وأن أشهب وابن أبي حازم يجيزانه مطلقا، وأن أصبغ وسحنون يجيزانه إذا ظهر الحمل. وقال الحطاب: والحاصل إذا قصد الاستزادة في الثمن لم يجز مطلقا، وإن قصد التبري جاز إن كان ظاهرا إلا أن يعترف بالوطء ولم يدع الاستبراء، وإن كان خفيا جاز في الوخش لا في العلي. والله أعلم. وقال عبد الباقي: وكبيع حامل بشرط الحمل إن قصد استزادة في الثمن بأن يكون مثلها لو كانت غير حامل تباع بأقل مما بيعت به، فإن قصد التبري جاز في الحمل الظاهر في العلي، وكذا الوخش إلا أن يطأها ولم يستبر، وفي الوخش في الخفي إذ قد يزيد ثمنها به دون الرائعة لنقصه من ثمنها كثيرا فيكثر الغرر، فإن لم يصرح بما قصد حمل على الاستزادة في الوخش لأنه يزيد في ثمنها، وكذا الحكم في حيوان غير آدمي لأن النسل يقصد من البهيمة كثيرا، وعلى التبري في الرائعة لنقص ثمنها بالوطء غالبا كما مر. وعلم مما مر في العاقل أنه متى قصد استزادة الثمن امتنع في ثمان صور، وهي علية أو وخش، ظاهرة الحمل أم لا، وطئها وادعى استبراء أم لا، ومتى قصد التبري امتنع أيضا إن وطئ ولم يستبر علية أو وخشا ظاهرته أو خفيته، فإن لم يطأها أو استبرأ جاز التبري في ظاهرته عليا أو وخشا وفي خفيته في الوخش دون العلي. انتهى. وقوله: وطئها وادعى الاستبراء أم لا لخ، قال بناني: اعلم أنه إن اعترف بالوطء ولم يدع الاستبراء لم يجز له البيع مطلقا شرط الحمل أم لا؛ لأن حملها

(1)

يلزمه

(1)

في الأصل حمده والمثبت من بناني ج 5 ص 79.

ص: 284

وتكون به أم ولد، والكلام هنا إنما هو في تفصيل شرط الحمل فيما يجوز بيعه هل يفسد المبيع أم لا، فلو أسقط من هذه الصور دعوى الوطء والاستبراء كان أولى وأوضح. انتهى. لكن يحسن إتيانه بذلك لتتميم الصور. والله سبحانه أعلم. قاله مقيده عفا الله عنه.

فرع: إذا باع الأمة الحامل واستثنى جنينها فإنه بيع فاسد ويرد، فإن وضعت أو فات بحوالة سوق قبل الموضع فعلى المشتري القيمة يوم القبض على أنها حامل، فإن جهل البائع وأخذ الولد باستثنائه رد، فإن فات بيده بمفوت المفاسد فعليه قيمته، وأجبر على جمعهما بملك إما ببيع أحدهما من صاحبه أو ببيعهما جميعا.

فرع: فإن قال البائع: قصدت الاستزادة في الثمن لقصد فسخ المبيع. وقال المشتري: إنما وقع الشرط على وجه التبري فينظر في الثمن فإن دل للبائع لكثرته قُبل قوله، وإن دل للمشتري لعدم كثرته قُبل قوله، وليس هذا من الاختلاف في الصحة والفساد. كذا وقع في مجلس المذاكرة. قاله عبد الباقي. وقال أبو علي بعد جلب كثير من النقول: وقد تبين من هذا كله أن الحمل إنما هو عيب في الرائعة لا غير، بل الرائعة إذا كانت في قطر حملها يزيد في الثمن يكون حملها كحمل البقرة، والمدار في العيب على ما ينقص الثمن. وفي رجز ابن عاصم:

وكل عيب ينقص الأثمانا

من غيرها رُدَّ به ما كانا

قال أبو علي: ولما كان الغرر ثلاثة أقسام: قسم يمتنع إجماعا كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء، وقسم اختلف فيه؛ يعني ما مر من قوله: كبيعها بقيمتها لخ، وقسم يجوز إجماعا كأساس الدار المبيعة وبيع الجبة المغيبة الحشو ودخول الحمام مع اختلاف الاستعمال والشرب من السقاء مع اختلاف ذلك. انتهى. وإلى هذا أشار الشيخ خليل بقوله:

واغتفر غرر يسير للحاجة لم يقصد؛ يعني أن الغرر يغتفر بشرط أن يكون يسيرا وأن يكون غير مقصود لأن الحاجة داعية إلى ذلك. قال عبد الباقي: واغتفر غرر بقيود ثلاثة، أحدها: يسير إجماعا للضرورة كأساس دار فإنها تشترى من غير معرفة عمق أساسها وعرضه، وإجارتها

ص: 285

مشاهرة مع احتمال نقصان الشهر، وكجبة محشوة ولحاف والحشو مغيب، وشرب من سقاء، ودخوك حمام مع اختلاف الشرب والاستعمال، وأما بيع نحو طراخة محشوة فليس من ذلك بل من الغرر الكثير فلا يجوز إلا بالوزن، ويتحرى ظرفه أو يوزن أو يلغى كما تقدم في بيع السمن بظروفه. ثانيها: للحاجة. ثالثها: لم يقصد أي لم تكن العادة قصده، فبقيد اليسارة خرج الكثير كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء فلا يغتفر إجماعا، وبقيد عدم القصد خرج بيع الحيوان بشرط الحمل على ما مر، ولم أرهم تعرضوا لقيد الحاجة أي لما خرج به، وكأنه لبيان الواقع إذ البيع من أصله من الأمور الحاجية. قاله بعض الشارحين. أي فهو تنبيه على العلة التي لأجلها جاز البيع. انتهى. وقال أبو علي: قوله: للحاجة؛ أي إذا دعت الحاجة إلى ذلك أي من شأنه أن تدعو الحاجة إليه، كشراء الجبة بحشوها المغيب، فمن احتاج إلى شراء جبة أبحنا له إدخال الحشو في البيع وإن لم تدع الحاجة في الوقت إلى شرائها بحشوها، بخلاف شراء ثوب وحشو جبة فقط في صفقة، فهذا لا يجوز إذ ليس من شأن شراء الثوب دعاء الحاجة إلى شراء حشو جبة معه، وقد اتفقوا على صحة بيع جبة محشوة بحشوها المجهول، وفساد بيع جملة ثياب قيمتها ضعف قيمة الجبة مع حشو الجبة دونها صفقة واحدة، ولا فرق غير الحاجة للحشو في بيعه مع جبته وعدمها في بيعه مع الأثواب انتهى.

وكمزابنة، هو من أفراد بيع الغرر ورد فيه النهي بخصوصه؛ يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المزابنة وفي خبر الصحيحين: (نهى الرسول عليه السلام عن بيع المزابنة

(1)

) وهي بيع ثمر النخل بالتمر كيلا، وبيع الزبيب بالعنب كيلا وعن كل ثمرة بخرصها، وفي رواية وعن بيع الزرع بالحنطة، وهذا التفسير إن كان منه عليه السلام فلا يعدل عنه، وإن كان من تفسير الراوي فهو صحابي، فلتفسيره مزية على تفسير غيره، وفسره أهل المذهب بما هو أعم، البساطي: ولا شك أن ما فسرها به أهل المذهب ممنوع شرعا إنما النزاع في كونه داخلا في مسمى المزابنة أم لا، فإن كان داخلا فلا إشكال وإلا فثم عمومات تدخل تحتها كالنهي عن الغرر، وإنما

(1)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2171. مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث 1542.

ص: 286

يحتاج إلى هذا في غير الربوي، أما الربوي فلا شك في منعه لعدم العلم بالتساوي الذي هو شرط فيه اتفاقا. قاله الخرشي في كبيره. وأشار إلى تفسير أهل المذهب للمزابنة بقوله:

مجهول بمعلوم؛ يعني أن المزابنة لها صورتان، إحداهما: أن يبيع المجهول بالمعلوم من الجنس الواحد، والثانية: بيع المجهول بالمجهول من الجنس الواحد وإلى ذلك أشار بقوله: أو مجهول، وعلم مما قررت أن قوله: من جنسه، راجع لهما أي المزابنة هي بيع مجهول بمعلوم من جنسه أو بيع مجهول بمجهول من جنسه. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: ثم عطف جزئيا من جزئيات الغرر عليه لورود النهي فيه بخصوصه، فقال: وكمزابنة بالتنوين من الزبن وهو الدفع من قولهم: ناقة زبون إذا دفعت عن حلابها، ومنه الزبانية لدفعهم الكفار في النار، وفسرت في الحديث بأنها بيع ثمر النخل يعني بالمثلثة، بالتمر يعني بالمثناة كيلا، وبيع الزبيب بالعنب كيلا، وفسرها المص تبعا لأهل المذهب بما هو أعم، فقال مبدلا مما قبله أو عطف بيان عليه أو خبر مبتدأ محذوف: مجهول أي بيعه بمعلوم ربوي أو غيره، أو بيع مجهول بمجهول فهو عطف على بمعلوم من جنسه فيهما للغرر بسبب المغالبة، فإن تحققت المغلوبية في أحد الطرفين في غير الربوي فلا منع، وإلى ذلك أشار المص بقوله:

وجاز بيع مجهول بمجهول من جنسه أو بمعلوم من جنسه إن كثر أحدهما، كثرة بينة حالة كون العقد واقعا في غير ربوي؛ أي فيما لا ربا فضل فيه فيشمل كلامه ما يدخله ربا النساء وما لا يدخله ربا أصلا، فيجوز بيع فاكهة بمثلها إذا تبين الفضل لكن بشرط النقد كما يفهم من قوله في المسلم "وأن لا يكونا طعامين". انتهى كلام عبد الباقي. وقال المواق: مسلم: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وهي بيع العنب بالزبيب كيلا. المازري: المزابنة عندنا بيع معلوم بمجهول أو مجهول بمجهول من جنس واحد فيهما. ابن عرفة: يبطل عكسه أي جمعه ببيع الشيء بما يخرج منه حسبما يأتي، ويكون في الربوي وغيره. ومن المدونة: كل شيء يجوز واحد باثنين من صنفه إذا اكتاله أو راطله أو عادَّه فلا يجوز الجزاف فيه بينهما لا منهما ولا من

ص: 287

أحدهما، فلا يكون أحدهما كيلا أو وزنا أو عددا والآخر جزافا لأنه من المزابنة، إلا أن يعطي أحدهما أكثر من الذي يأخذ بشيء كثير فلا بأس به، وإن تقارب ما بينهما وإن كان ترابا لأنه مزابنة. ابن يونس: قوله: لا يجوز الجزاف منهما يريد إلا فيما قل مما يوزن ولم يحضرهما ميزان، فيجوز كما يجوز بيع اللحم باللحم تحريا؛ لأن ذلك بيع بعضه ببعض جزافا فلا فرق. انتهى. ومفهوم قول المص: في غير ربوي، أن الربوي لا يجوز مع كثرة أحدهما، وأما إن اختلف الجنس فلا نزاع في الجواز، ولما قيد المزابنة باتحاد الجنس فمع اختلافه ولو بدخول ناقل لا مزابنة أفاد ذلك عاطفا على فاعل جاز بقوله:

وجاز نحاس بتور؛ يعني أنه يجوز بيع النحاس بالتور وهو إناء من النحاس يشرب فيه وقد يكون أكبر من إناء الشرب، وسواء كانا جزافين أو الجزاف أحدهما، والنحاس مثلث النون، والتور بمثناة فوقية مفتوحة، والجواز إن بيع ما ذكر نقدا وكذا مؤجلا وقدم النحاس حيث لم يمكن عمل المؤجل من المقدم، فإن أمكن منع وإن قدم المصنوع. فقال اللخمي: قال يحيى: لا بأس أن تسلم سيوف في حديد، ومنع ذلك سحنون قائلا: ليس ضرب السيف صنعة تخرجه عن الحديد لأنه يعود حديدا. اللخمي: والأول أحسن، وليس هذا مما يفعله ذو عقل أن يعيد السيف حديدا ولو فعله لعوقب عليه؛ لأن ذلك من الفساد وإضاعة المال. قاله بناني. وقال الرهوني: النحاس مثلث، عن أبي العباس الكواشي: القطر والنار وما سقط من شرار الصفر أو الحديد إذا طرق والطبيعة، وفي الصحاح: والنحاس معروف، والنحاس أيضا دخان لا لهب فيه. قال نابغة جعدة:

يضيء كضوء سراج السليـ

ط لم يجعل الله فيه نحاسا

ويقال: فلان كريم النحاس أي الأصل، وقوله: ونحاس بتور، هو المشهور. لا فلوس؛ يعني أنه يعنع بيع الفلوس بالنحاس. ابن رشد: ولا أعلم خلافا في منع بيع الفلوس بالنحاس للمزابنة، ومن ذلك بيع ما يكسر من الأواني بالفلوس وكذا الفلوس التي بطل التعامل بها بفلوس تجددت لأنها صارت نحاسا فلا يجوز ذلك، ويجوز بيع الأواني التي يطبخ فيها بفلوس لأنهما من

ص: 288

المصنوعات، وقوله: لا فلوس عطف على تور أي لا يباع نحاس بفلوس لعدم انتقال الفلوس بصنعتها بخلاف صنعة الإناء، ومحل المنع حيث جهل عددها سواء علم وزن النحاس أو لا، كثر أحدهما كثرة تنفي المزابنة أم لا، أو علم عددها وجهل وزن النحاس حيث لم يتبين فضل أحد العوضين، وإلا جاز كما إذا علم عدد الفلوس ووزن النحاس، فأقسامها ثلاثة. قاله عبد الباقي. قوله: كثر أحدهما كثرة تنفي المزابنة أم لا، إنما منع هذا مع تبين الفضل لمنع الجزاف في الفلوس على المشهور، كما تقدم عند الزرقاني في قوله: ونقد إن سك لا للمزابنة، لقوله: وجاز إن كثر أحدهما. قاله بناني. وقال عبد الباقي: وذكر المص صورتين يعني قوله: ونحاس بتور، وقوله: لا فلوس، وترك اثنتين إحداهما: بيع فلوس بفلوس فيجوز إن استوى عدد كل فإن الخف منع ولو عرف وزن كل. ثانيهما: بيع تور بفلوس فيجوز إن علم عددها ووزنه وكذا إن جهل وزنه لكن وجدت شروط الجزاف فيجوز، وإن لم يكثر كثرة تنفي المزابنة لنقل الصنعة له، فإن لم توجد شروطه منع كما لو جهل عدد الفلوس ووزن التور. انتهى. وقال بناني: قال في التوضيح: استشكل الأشياخ المنع في الفلوس وقالوا: القياس جوازه لأن الصنعة نقلته كما في التور، والفرق الذي ذكره المص يعني ابن الحاجب لابن بشير، وفيه نظر. انتهى. وأشار إلى قول ابن الحاجب: واستشكله الأئمة، وفرق بقلة الصنعة في الفلوس. انتهى. قلت: كان الشيخ المسناوي وغيره من المحققين يذكر أن هذا إنما هو في الفلوس التي كانت في القديم لأنها كانت قطعا من نحاس من غير كبير صنعة فيها، وأما فلوس وقتنا فصنعتها كثيرة لأنها منقوشة فيجوز بيعها بالنحاس كالأواني. انتهى.

وككالئ بمثله؛ يعني أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ

(1)

) أي المتأخر بالمتأخر، يقال: كلأ الشيء أي تأخر وحقيقته محتوية على ثلاثة أقسام أشار لأولها بقوله: فسخ ما في الذمة في مؤخر؛ يعني أن من بيع الكالئ بالكالئ فسخ ما في الذمة في مؤخر؛ أي فسخ ما في ذمة المدين في شيء مؤخر قبضه عن وقت الفسخ حل الأجل أم لا، وهذا هو أشد الأقسام

(1)

البيهقي، ج 5 ص 290.

ص: 289

الثلاثة لأنه ربا الجاهلية، فلذلك بدأ به، وكان ربا الجاهلية أن يقول رب الدين لمدينه: إما أن تقضيني ديني وإما أن تربي لي فيه، وقوله: فسخ ما في الذمة في مؤخر، قد علمت أنه سواء حل الأجل أم لا، ومحل المنع إذا كان المؤخر من غير جنس الدين أو كان من جنسه حيث كان أكثر، فإن كان مساويا أو أقل جاز، وسواء في ذلك الطعام والنقد وغيرهما، كما لو كان له عليه عشرة دراهم فأخره بها أو حط منها درهما وأخره بالتسعة فذلك جائز، وليس من فسخ ما في الذمة في مؤخر الممنوع بل سلف فقط أو مع حطيطة، ولا محذور فيه. ونظم ذلك بعضهم فقال:

وشرط فسخ الدين أن يفسخ في

جنس مخالف أو أكثر يفي

وفي إطلاق الفسخ على المؤخر من جنسه وهو مثله تجَوُّزٌ لأنه لم يدخل في قوله: فسخ؛ إذ حقيقة الفسخ الانتقال عما في الذمة إلى غيره: فانتقاله إلى مثله ليس بفسخ، وكذا انتقاله لما دونه إذ هو حطيطة. قاله عبد الباقي. وقال: دخل في كلام المص ما إذا أخذ منه في الدين شيئا ثم رده له بشيء مؤخر من غير جنس الدين أو من جنسه وهو أكثر؛ لأن ما خرج من اليد وعاد إليها يعد لغوا، وسيأتي نحوه في بيوع الآجال، وقوله: فسخ أي ولو اتهاما كما لو قضاك في دينك ثم رددته له سلما، وهاتان الصورتان يقعان كثيرا بمصر للتحيل على التأخير بزيادة. انتهى. وقال بناني: قال ابن عرفة: والتهمة على فسخ الدين في الدين معتبرة، في صرفها: إن قبضت من غريمك دينا فلا تعده إليه مكانك سلما في شيء، ولو أسلمت إليه دنانير ثم قضاكها بحدثان ذلك من دين لك عليه بغير شرط لم يجز. انتهى. وقال المواق في الحديث من غير الكتب المشهورة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكالئ بالكالئ. ابن عرفة: تلقي الأئمة هذا الحديث بالقبول يغني عن طلب الإسناد فيه، كما قالوا في لا وصية لوارث، لو معينا بتأخر قبصه؛ يعني أنه لا يجوز فسخ ما في الذمة في مؤخر، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المؤخر في الذمة وبين أن يكون معينا يتأخر قبضه. من المدونة قال مالك: من لك عليه دين حال أو إلى أجل فلا تكتري منه داره

ص: 290

أو أرضه التي رويت أو عبده شهرا أو تستعمله هو به عملا يتأخر، ولا تبتاع به منه ثمرة حاضرة في رؤوس النخل قد أزهت أو أرطبت أو زرعا قد أفرك لاستيخارها، ولو استجذت الثمرة أو استحصد الزرع ولا تأخير لهما جاز، ولا تبتع به منه سلعة بخيار أو أمة تتواضع، أو سلعة غانبة على صفة. ابن يونس: وسواء كانت الدار على صفة أو على رؤية متقدمة، فإنه لا يجوز لأنه لا يقدر على قبضها حينئذ لغيبتها، وأجاز ذلك أشهب لأنها معينة، ألا ترى أنه يجوز شراء ذلك بدين اتفاقا وهو أقيس. وقال اللخمي: لا يجوز أن يفسخ ما حل من دينه أو لم يحل في منافع عبد أو دابة إذا كان ذلك مضمونا، واختلف إذا كان العبد أو الدار أو الدابة معينا، فمنع ذلك مالك وابن القاسم، حل الأجل أو لم يحل، وأجازه أشهب، وروى محمد: لا خير في استعمال رجل بدين عليه قبل حلوله لخوف مرضه أو غيبته فيتأخر لأجل آخر فيصير دينا في دين؛ ثم قال اللخمي: أما إذا حل الأجل فالمنع أصوب لأن ما يتأخر قبضه يؤخذ بأقل من ثمن ما يقبض جميعه بالحضرة، فيدخله تقضي أو تربي، وأما إذا لم يحل الأجل وكان انقضاء هذه ينقضي عند الأجل الأول أو قبله فلا يدخله دين في دين لأنها معينة، ولا تقضي أو تربي لأنه لم يستحق القضاء في ذلك الوقت، فيجوز ها هنا وإن كثر الأجل وكان لا يجاوز الأجل الأول، ولا يدخل ما كره مالك من مرض الرجل لأنه ها هنا إذا مرض انفسخ من الإجارة بقدر ما بقي من ذلك الأمد، وهو في ذلك بخلاف أن يقاطعه على خياطة الأثواب أو ما أشبهها فلا يستأجره في ذلك إلا فيما قل؛ لأن الخياطة في المقاطعة لا تتعلق بوقت، ويدخله ما خشي مالك من أنه إن مرض قضى في وقت آخر، وسلم ابن عرفة هذا كله. ولابن يونس: قيل لمالك: فإذا لم يجز لي أن أكري منه داره بدين لي عليه أو أكري منه عبده فهل أستعمله به عملا؟ قال مالك: أما العمل اليسير والدين لم يحل فجائز، وإن حل فلا يجوز في يسير ولا كثير، ولا تبتع منه بدينك سلعة غائبة أو سلعة بخيار. ومن المدونة: من واجر نفسه أو عبده في الخياطة شهرا لم يجز أن يفسخ ذلك في قصارة أو غيرها؛ لأنه دين بدين إلا أن تكون الإجارة يوما ونحوه فلم يجعل في المدونة اليوم واليومين أجلا. قال: فيجوز فسخ الدين في خدمة معين اليوم ونحوه، ولا إشكال في هذا

ص: 291

على قول أشهب، وقد رشحه ابن يونس؛ فإذا كان لإنسان قِبَل آخر دينٌ فقال له: احرث معي غدا وأقتطع لك من دينك كذا أو اخدم معي غدا فهذا جائز على قول أشهب ورشحه ابن يونس، وهو أيضا يتمشى على قول مالك في اليوم ونحوه: إنه ليس بأجل، وإن كان الدين الأول لم يحل فيكون ذلك جائزا على ما للخمي وسلمه ابن عرفة. ومثل للمعين الذي يتأخر قبضه بقوله:

كغائب، يعنى أنه لا يجوز قضاء الدين بمعين غائب عقارا أو غيره، كان العقار مذراعة أو جزافا. فإن قلتَ: العقار المبيع جزافا يدخل في ضمان المشتري فليس فيه بيع معين يتأخر قبضه، قلتُ: تأخر القبض الحسي هو المعتبر هنا كما يفيده ابن يونس واللخمي معللا المنع بأن ثمنها حاضرةً أكثر منه غائبة، فما بينهما ترك لمكان التأخير؛ أي ففيه سلف جر نفعا، وهذه العلة تجري في أخذ الغائب في الدين ولو غير عقار. فقَوْلُ الش وتبعه الشيخ سالم: إن ما في المدونة من منع أخذ الدار الغائبة في الدين محمول على ما إذا بيعت مذارعة لأن فيها حق توفية فإن بيعت على غير ذلك جاز لأنها كالمقبوضة بنفس العقد لدخولها في ضمان مبتاعها بالعقد. انتهى. مُخالفٌ لما يفيده ابن يونس واللخمي، ويرد عليه أن كلامه يقتضي جواز بيع الدار الغائبة بالصفة غير مذارعة، وقد تقدم أن ذلك لا يجوز على اللزوم. قاله عبد الباقي. قوله عن الشارح والشيخ سالم: إن ما في المدونة من منع أخذ الدار لخ، هذا التأويل هو الذي نقله عياض عن فضل وابن أبي زمنين والأندلسيين وأبي إسحاق التونسي قائلا: إنما لا يجوز أن يأخذ فيها عقارا غائبا إذا أخذه على صفة أو تذريع إذ لا يكون في ضمانه إلا بعد القبض ووجودها على الصفة، فأما إن كان على رؤية ومعرفة ولم يشترها على التذريع فهو قبض ناجز كالنقد وقد برئ منها وهي من المشتري، ونحوه لأشهب عن مالك في العتبية، وما شرح به الزرقاني من الإطلاق هو تأويل ابن يونس واللخمي وابن محرز خطئوا التأويل الأول وقالوا: لأن ما يسقط الضمان ها هنا لا يتنزل منزلة القبض، فلا يجوز له أن يأخذ في دينه عقارا غائبا وإن دخل في ضمانه بالعقد، وقد اقتصر في التوضيح على التأويل الأول وتبعه الشارح والسنهوري، والرَّدُّ عليهم بمخالفة ما لابن يونس ومن معه، كما فعل الزرقاني ومصطفى يَقْتَضِي ترجيحه، ولم يرجحه أبو الحسن ولا ابن غازي في تكميل التقييد، فانظر من رجحه. والله أعلم. قاله بناني. وأتى الرهوني بما لا مزيد عليه مما يدل على أن

ص: 292

الراجح المعروف من المذهب هو ما رجحه عبد الباقي عن ابن يونس واللخمي، ومن جملة ما فيه أن مذهب المدونة المنع في التأخير اليسير، وقوله: ويرد عليه أن كلامه يقتضي لخ، فيه نظر لاحتمال أن يريد البيع بتقدم الرؤية على الصفة، ولأن منع بيع الدار بالصفة جزافا أصله لسماع القرويين. وقاله سحنون. لكن تقدم عن مصطفى أن كلام ابن عرفة وغيره يدل على أنه خلاف المشهور من الجواز مطلقا. انتهى. قاله بناني وقال عن المتيطي: فمن كان له قِبَل رجل دين من بيع أو قرض فلا يجوز أن يأخذ عنه قبل محل أجله ولا بعده سلعة معينة يتأخر قبضها ساعة إلا بقدر ما يلج البيت، فإن كان طعاما فقدر ما يأتي بحمال ومكيال، فإن كان كثيرا وغابت الشمس قبل استيفائه استوفاه من الغد. قال أشهب: ولو تمادى ذلك شهرا لكثرته لم يضره إذا اتصل أخذه، فإن انفصل وطال ذلك فقال ابن المواز: يرد ما أخذ ويرجع إلى دنانيره انتهى.

تنبيهات: الأول: قال أبو علي: قال المص في التوضيح: حقيقة فسخ الدين في الدين هو أن يبيع الدين ممن هو عليه بشيء مؤخر من غير جنسه أو من جنسه وهو أكثر. انتهى. ثم قال: والحاصل لا فرق في الدين بين أن يكون من بيع أو قرض ولا فرق بين الحال والمؤجل، والمفسوخ فيه لا فرق بين أن يكون أزيد من الدين عددا أو صفة، وأما إن كان له عشرة أمداد سمراء ففسخها في عشرة محمولة فكذلك أيضا. انتهى.

الثاني: إذا صيرت الزوجة لزوجها دار سكناها وهي معه في دين له عليها فلا إشكال أن ذلك حوز، واختلف في العكس، ففي اختصار المتيطية لابن هارون: وإذا كان للرجل على زوجته دين جاز أن تصير له دار سكناها لأن الإسكان عليه فقبضه للدار صحيح، بخلاف إذا كانت الدار له وصيرها لها في دين فلا يصح لها فيه قبض إلا أن يخليها الزوج من نفسه ومتاعه، وهي بمثابة ما لو تصدق عليها بدار وكان يسكن معها فإن ذلك لا يجوز إلا أن يخليها من سكناه فيتم لها القبض. قاله أبو عمران الفاسي وغيره من الأندلسيين. وقال أبو بكر وعبد الرحمن بن عتاب وابن القطان وابن مالك: التصيير جائز إذا لم يشترط السكنى في ذلك لأنها لو شاءت أخرجته، واختاره ابن سهل ونص ابن سهل، رءى فيها أن ذلك جائز نافذ وليس في القبض أقوى من

ص: 293

سكناها في الدار. وفهم من كلامه أنه قائل بأنه لا بد من الحوز وأن الخلاف بين من ذكر هل ذلك حوزٌ أم لا؟.

الثالث: قال الشيخ أبو علي: التصيير جائز وهو أن يعطيه ملكا له في دين له عليه ولا يجوز التصيير إلا بمعاينة البينة للقبض كالرهن والصدقة ولا يجوز تقارُّهما على القبض. وقال بعضهم: ذلك جائز كإقرارهما بالمناجزة في الصرف حتى يعرف خلافه. وقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن والشيخ أبو عمران: القول قولهما في التقابض إذ القول قول مدعي الصحة ما لم يتبين خلافه: والتصيير بيع من البيوع إلا أنه يشترط فيه إنجاز القبض للمصيَّر حين الصفقة، فإن تأخر عنها فسد ودخله الدين بالدين، فلا يجوز أن يصير له ملكا في اكتراء الغير، ولا جارية تتواضع، ولا ثمرة يتأخر جذاذها، ولا دارا غائبة، ولا عبدا وأمة وخشا على العهدة، وإذا ثبت هذا فالتصيير يؤخذ من كلام المتن لأنه بيع من البيوع، فقوك المتن: فسخ ما في الذمة في مؤخر، مفهومه إذا كان غير مؤخر فهو جائز، وهذا يعينه هو التصيير الجائز والمتأخر هو الممنوع، وقول بعض الشراح هنا: هذا محل ذكر التصيير يقتضي أن المص لم يُلِمَّ بالتصيير، وكثير من المسائل يذكرها أهل الاختصار بدون تفاريعها لكونها تؤخذ من كلامهم، مع أنه لا شرط في الحقيقة إلا ما ذكر لمن تأمل كلام المتيطي وابن سلمون والتحفة وشرحها ومن تكلم على المسألة. انتهى.

الرابع: قد مر قول أبي عمران الفاسي وغيره من الأندلسيين: إن الزوج إذا صير دار سكناه لزوجته في دين لها عليه فإنه لا يصلح لها فيه قبض إلا أن يخليها من نفسه ومتاعه، فعلى قوله: إذا صير لها في الهر دار سكناه لزمه أن يرتحل عنها حتى تحوزها المرأة بالمعاينة كالصدقة، ثم لها بعد شهر أن تسكن الدار مع زوجها ولا يبطل ذلك قبضها، بخلاف الصدقة والهبة التي يحتاج مع القبض فيها إلى حيازة العام أو العامين على الخلاف في ذلك. انتهى. قاله أبو علي. وما ذكره من التحديد بالشهر هو أكثر ما قيل فيه وبه الفتوى والعمل، وقيل: الحيازة في التصيير عشرة أيام، وقيل: عشرون يوما. قاله الرهوني. وقال أبو عمران بعد كلامه في تصيير الزوج لزوجته دار سكناه في دين لها عليه ما نصه: كما لو صيرها للأجنبي في دين وبقي فيها فإن ذلك لا يصح، وإذا كان للصغير على أبيه أو وصية دين فصير له فيه ملكا جاز إذا كان ذلك

ص: 294

سدادا، ولو استهلك الأب أو الموصي مالا جهل قدره وصير له فيه ملكا جاز وصح القبض على ما تقدم، فإن لم يكن للصبي أب ولا وصي لم يصح التصيير له لتعذر القبض له فيدخله التأخير. انتهى. وقوله: على ما تقدم يشير به والله أعلم إلى أنه لا بد في التصيير من القبض المناجَز، فإن تأخر فسد كدار غائبة أو سلعة على الخيار أو سكنى دار أو جارية تتواضع أو عبد أو أمة على العهدة، هذا هو المشهور من مذهب مالك وابن القاسم، وروى أشهب عن مالك أنه أجاز أن يأخذ عن دينه دارا غائبة أو عبدا بالخيار أو أمة تتواضع أو سكنى دار؛ لأن هذه الأشياء معينة فلا يدخلها الدين بالدين، قال بعض القرويين: وهو أقيس، ألا ترى أنه يجوز له شراء ذلك بالدين. هذا هو الذي مر في كلام أبي علي وعلى أشهب رد المص بلو. ولابن عاصم:

والشرط في التصيير أن يقدَّرا

دين والاِنجاز لما قد صيرا

والعرضَ صيره بلا منازعه

والحيوانَ حيث لا مواضعه

وجائز فيه مزيدُ العين

حيث يقل عنه قدر الدين

والخلف في تصيير ما كسكنى

أو ثمر معين ليجنى

وامتنع التصيير للصبي

إن لم يكن ذا أب او وصي

والأب كالوصي في التصيير

تمخيا بالجهل للمحجور

قد علمت أن التصيير هو إعطاء شخص ملكا له في دين عليه، ومعنى كلامه أنه يشترط في التصيير أن يعرف قدر الدين المصيَّر أي المجعول فيه هذا الشيء المعين بمعنى يقدر دين يعرف قدره؛ لأن التصيير بيع من البيوع، ومن شرط العوضين في المبيع معرفة قدر كل منهما، وأنه يشترط فيه الإنجاز أي القبض لما قد صُيِّر أي جعل في مقابلة الدين، وقوله: والعرض صيره لخ؛ أي يجوز أن تصير العرض أي تعطيه في مقابلة الدين، وكذلك الحيوان بشرط تعجيل القبض، فلا نقضيه

ص: 295

فيه أمة تتواضع، وقوله: وجائز فيه مزيد العين لخ؛ يعني أنه يجوز في التصيير أن تعطيه أي رب الدين عرضا قيمته أكثر من الدين ويزيدك رب الدين أي يدفع لك عينا مثل أن يكون الدين مائة فيصيِّر له عرضا يساوي مائة وعشرين ويزيده رب الدين عشرين، ويشترط أن تكون معجلة ولا يجوز تأخيرها، فضمير فيه للتصيير وضمير عنه للعرض الصير على حذف مضاف؛ أي عن قيمة العرض المصيَّر، وقدر الدين فاعل يقل. قال في المتيطية: وإن كان المصير له زاد في الدار زيادة على الدين جاز ذلك ولم يكن فيه بد من تعجيل القبض، كان الدين معظم الثمن أو يسيرا منه لما يدخله في التأخير من الدين بالدين، وهذه مسألة الناظم لأن معنى قول المتيطي: وإن كان المصير له زاد في الدار إلى آخره أن الذي صيرت له الدار في دينه قاصَّ ربَّها بالدين وزاده لكون قيمتها أكثر من الدين، وكذلك عكس هذه المسألة. انتهى. نقله الشيخ ميارة. وسلم هذا الشيخ أبو علي فإنه قال: قوله: ويشترط أن تكون معجلة ما نصه: إنما عجلت لأنها في مقابلة الدين، فلو أخرت لكان ذلك من فسخ الدين في الدين. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: وهذا غير ظاهر، بل الظاهر الجواز عيَّنَ له مقدارَ مقابل الدين من العرض أم لا؛ لأنه إن لم يعينه فلا مانع من بيعه بالدين مع زيادة، وكذا لو دفع له من العرض نصفه أو ثلثيه مثلا أو غير ذلك من الأجزاء المعلومة، فالذي يظهر أنهما شريكان ولا مانع حينئذ من أن يتأخر عوض الجزء الباقي له حيث رضي ببيعه له. والله سبحانه أعلم. ولنرجع إلى بيان باقي الأبيات، فقوله: والخلف في تصيير ما كسكنى لخ، معناه أنه إذا دفع له عن دينه سكنى دار معينة مثلا أو ثمرة معينة مزهية أو مرطبة مثلا يتأخر جذها، فإنه اختلف في جواز ذلك، والمشهور المنع. وقوله: وامتنع التصيير للصبي لخ؛ يعني لا يدخل في ذلك من تأخير القبض فيؤدي إلى فسخ ما في الذمة في مؤخر وقوله: والأب كالوصي لخ؛ يعني أنه يجوز للأب والوصي أن يصير كل منهما لمن إلى نظره شيئا يكون ذلك المصير في مقابلة ما جهله لتبرأ ذمته من ما للمحجور قِبَله. فقوله: للمحجور متعلق بالتصيير، وتمخيا مفعول لأجله، والتمخِّي التبري. قال الجوهري: تمخيت من الشيء تبرأت منه،

ص: 296

وتحرجت. وباء بالجهل سببية متعلقة بتمخيا. قال المتيطي: وإن كان الدين مجهولا قدره لا يعرفه الأب أو الموصي وإنما استهلك له مالا لم يقف عليه فتمضى منه بأن صير له في ذلك دارا أو ملكا جاز التصيير وصح القبض على ما ذكرناه ما لم يسكن المصيِّر فيه، ويسقط من نص الوثيقة معرفة السداد لأنه لا يعلم قدر المصير فيه الدار وهو صريح في أن الدين محقق، إلا أنه مجهول المقدار فيكون ذلك في معرض الاستثناء مما تقدم من اشتراط معرفة قدر الدين المصيَّر فيه، فإذا تعذرت معرفته كهذا جاز التصيير فيه لبراءة الذمة، وذلك والله أعلم إذا لم يتحقق الدين، وإنما خاف أن يكون في ذمته من مال المحجور شيء وجهله لكونه كان يتصرف فيه بالقبض والدفع فيصيِّر له في ذلك شيئا لبراءة الذمة إلا أن هذا مستحب، والأول واجب. والله أعلم. قاله الشيخ ميارة.

الخامس: قال الرهوني: ما تقدم من أن المشهور أنه يثبت الحوز في التصيير بالاعتراف محله في غير دار السكنى إلى آخر كلامه.

ومواضعة، هذا من أمثلة المعين الذي يتأخر قبله؛ يعني أنه لو أعطاه عن دينه أمة تتواضع فإن ذلك لا يصح لأنه فسخ دينه في شيء لا يتعجل قبضه. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وأمة مواضعة، في حال مواضعتها فسخها في دينه مشتريها وكذا بائعها لكونها في ضمانه ولمنعه كالمشتري من التصرف فيها حين المواضعة، وإذا منع الفسخ في هذه فيمنع فيمن تتواضع قبل دخولها في المواضعة بالأوْلى. انتهى.

ومنافع عين هذا أيضا من أمثلة المعين الذي يتأخر قبضه؛ يعني أنه لو أعطاه عن دينه منافع عين أي ذات معينة كسكنى دار ومنفعة عبد أو دابة شهرا مثلا فإن ذلك لا يجوز، لما فيه من فسخ ما الذمة في مؤخر، ومقابلُ لو في المعين الذي يتأخر قبضه كالمسائل الثلاث من قوله: كغائب ومواضعة ومنافع عين، أشْهَبُ القائل بالجواز في ذلك ورواه عن مالك. وقوله: ومنافع عين، قال بناني عن ابن رشد: هذا إنما يمنعه ابن القاسم في الاختيار ويجوز عنده في الضرورة مثل أن يكون في صحراء ولا يجد كراء ويخشى على نفسه الهلاك، فيجوز أن يأخذ منافع عين

ص: 297

عن دينه. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: أو كان المفسوخ فيه منافع عين يقبضها شيئا فشيئا، فأراد بالعين المعين كركوب دابة وخدمة عبد معينين مدة؛ لأن المنافع وإن كانت معينة في الدابة والعبد فهي كالدين لتأخر أجزانها فيمنع عند ابن القاسم، ورد بلو المقدرة قول أشهب بإجازتها في المعين: قال: لأنها إذا استوت لمعيَّن أشبهت العينات المقبوضة، وصححه المتأخرون لأنها لو كانت كالدين يمنع فسخ الدين فيها لامتنع اكتراؤها بدين، والمذهب جوازه أي وكذا شراؤها به اتفاقا كما في المواق. انتهى. قوله: وكذا شراؤها به اتفاقا لخ، هذا يرجع إلى الغائب والمواضعة كما في المواق. قاله بناني. قال عبد الباقي: وفرق للمشهور بأن اللازم في محل المنع فسخ الدين في الدين وفي محل الجواز ابتداء الدين بالدين وهو أخف، واحترز المص بالعين أي المعين عن المضمونة، فقد اتفق ابن القاسم وأشهب على منع فسخ الدين في منافع مضمونة كركوب دابة غير معينة وسكنى دار كذلك. قاله الش. واعترض بأن الدار لا بد من تعيينها في الكراء ولو اكتريت بالنقد، فكيف يتأتى أن تكون المنافع مضمونة، وظاهر كلام المص أنه لا فرق بين كون الدين حالا أو مؤجلا، وإذا كان مؤجلا فلا فرق بين كون المنافع تستوفى من المعين قبل حلول الأجل أو معه أو بعده بقرب أو بعد، وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم في المدونة، وأجازه أشهب؛ بل في المواق أن في المدونة: من آجر نفسه أو عبده في خياطة شهرا لم يجز أن يفسخ ذلك في قصارة أو غيرها لأنه دين في دين إلا أن تكون الإجارة يوما ونحوه. قال ابن سراج: فلم يجعل في المدونة اليوم واليومين أجلا فيجوز فسخ الدين في خدمة العين اليوم واليومين، ولا إشكال في ذلك على قول أشهب، وقد رشحه أي رجحه ابن يونس، ومنه يستفاد جواز من له عند شخص دين فيقول له: احرث معي اليوم أو تنسج معي اليوم وأعطيك مما عليك من الدين في نظير هذا درهما، وكذا إذا استعمله في زمن كثير على غير شرط أن يقطع له أجرة مما عليه فله أن يقاصه مما ترتب له في ذمته من الأجرة من الدين الذي له عليه على قول أشهب، وبهذا أفتى ابن رشد لكنه مخالف لابن القاسم ولم يكن يخفى على ابن رشد قول ابن القاسم وما خالفه إلا لظهوره أي قول أشهب عنده. انتهى باختصار وبعض إيضاح. قلت: وبهذا يخرج عن حرمة تقليد الضعيف لما رجحه الأشياخ وصححه المتأخرون وأفتى به ابن رشد، ولعل وجه ظهوره أنه ليس في هذه فسخ دين في

ص: 298

دين وإنما فيه المقاصة كما أشار له بقوله: يقاصه، بل الظاهر أن ابن القاسم لا يخالف في هذه حيث لا شرط ولا عرف ولا نوى الاقتطاع أيضا حيث لم يشترطه. انتهى كلام عبد الباقي. قوله: لكنه مخالف لابن القاسم لخ، غير صحيح وليس في المواق ذلك بل تحريف لكلامه لخ، ثم قال بعد تمامه: فهذا يدل على موافقته لابن القاسم لا مخالفته له، وأشار إلى ثاني الأقسام بقوله:

وبيعه بدين الضمير في بيعه يرجع لما في الذمة؛ يعني أن من الكالئ بالكالئ بيع الدين بالدين فيبيع ما في ذمة زيد بدين عليه أو على عمرو، ويتصور ذلك في أربعة؛ كاتبع غريمي وأنا أتبع غريمك، ولا يتصور في أقل من ثلاثة كاتبعني وأنا اتبع غريمك، ولا زيادة في فسخ الدين على اثنين. قال عبد الباقي: وبيعه أي الدين ولو حالا بدين لغير من هو عليه، ولا يمتنع في هذا القسم بيعه بمعين يتأخر قبضه ولا بمنافع عين، ولذا لم يقل: وبيعه بما ذكر، ثم أقل ما يتحقق فيه بيع الدين بالدين ثلاثة، وأشار إلى القسم الثالث من الكالئ بالكالئ بقوله:

وتأخير رأس مال سلم؛ يعني أنه لا يجوز تأخير رأس مال المسلم أكثر من ثلاثة أيام وهو من أحد النقدين لما فيه من ابتداء الدين بالدين وهو أخف من بيع الدين بالدين الذي هو أخف من فسخ الدين في الدين. قاله غير واحد. ورأس المال هو الأصل. فمعنى رأس المال أصل المال الذي ترتب منه فالرأس هو المعجل والمال هو المؤخر، واعلم أن رأس المال إما أن يكون معينا أم لا عينا أم لا، فإن كان عينا فلا يجوز تأخيره أكثر من ثلاثة أيام معينا أم لا، وإن كان غير عين فلا يجوز فيه إلا التعيين، فإن عين فسيذكره المص في باب المسلم. والله سبحانه أعلم. ولما تكلم على منع الكالئ بالكالئ ومنه بيع الدين بالدين، ذكر بيع الدين بالنقد وأنه لا يخلو من هو عليه من أن يكون حيا أو ميتا غائبا أو حاضرا، فقال:

ومنع بيع دين ميت يعني أنه يمنع بيع دين ميت وكذا الحوالة عليه. قال عبد الباقي: إضافة دين إلى ميت بمعنى اللام وهي بمعنى على. وغائب؛ يعني أنه يمنع بيع دين على غائب. قال الشيخ أبو علي: منع بيع دين الميت لا خلاف فيه لأنه غرر إذ قد يكون على الميت أكثر مما خلف فلا يكون للمشتري إلاما نابه في الحصاص وهو مجهول، ومنع بيع ما على الغائب من

ص: 299

الدين هو المشهور إذ لا يعلم أحي هو أم ميت، مقر أو منكر، معسر أو موسر، ومن جهة ما علل به اللخمي أن الغائب قد تكون له بينة بالقضاء أو يجرح شهود الدين، ونقل ابن عرفة عنه المنع ولو كان على أنه إذا أنكر رد الثمن وهو كذلك كما في ابن عرفة وغيره، وأما إذا قال المشتري: أعلم وجوبه لك عليه وإقراره به فإنه يجوز اتفاقا كما في ابن عرفة وغيره، وبحث فيه أبو علي باحتمال عدم بقائه على الإقرار أو بكون الدين عنده بينة بالقضاء. قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الاستشكال لا يدفع الاتفاق على الجواز.

ولو قربت غيبته؛ يعني أنه يمنع بيع ما على الغائب من الدين ولا فرق في ذلك بين بعيد الغيبة وقريبها ولو ثبت ببينة ولو علم ملاؤه، وأما الحوالة عليه فقيل: جائزة: وقيل: غير جائزة، وهما قولان مرجحان، ورد المص بلو القول: بأنه إن كان قريب الغيبة بحيث يعرف حاله وعليه بينة بثبوت الدين يجوز بيعه وهو لابن القاسم. وقاله أصبغ في نوازله. وروي عن مالك. وقيل: إن قريب الغيبة يجوز بيع ما عليه من الدين ولو لم تكن عليه بينة، والمشهور ما ذكره المص من عدم جواز بيع ما على الغائب من الدين وإن كان قريب الغيبة وقامت عليه بينة.

وحاضر إلا أن يقر؛ يعني أنه يمنع بيع ما على الحاضر من الدين ولو كانت عليه بينة إلا أن يقر بالدين الذي عليه. قال الحطاب: قال في المسائل الملقوطة: قال في وثائق الغرناطي: لا يجوز بيع الدين إلا بخمسة شروط: أن لا يكون طعاما، وأن يكون الغريم حاضرا مقرا به، وأن يباع بغير جنسه، وأن لا يقصد بالبيع ضرر المديان، وأن يكون الثمن نقدا. انتهى. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: ومنع بيع دين على حاضر ولو ببينة إلا أن يقر والدين مما يباع قبل قبضه، وبيع بغير جنسه، وليس ذهبا بفضة ولا عكسه، وليس بين مشتريه ومن عليه عداوة، ولا قصد إعناته، فلابد من هذه الخمسة شروط لجواز بيعه زيادة على قوله: يقر، واشترط حضوره ليعلم حاله من فقر أو غنى إذ لابد من علم ذلك لاختلاف مقدار عوضه باختلاف حال الدين من فقر أو غنى، والمبيع لا يصح أن يكون مجهولا. قاله المازري. واشترط أن لا يكون طعاما من بيع ليجوز بيعه قبل قبضه، واشترط بيعه بغير جنسه لأنه إذا بيع بجنسه وكان المبيع غير حال فقد يتغير سوقه عند حلوله بزيادة فمنع بجنسه ولو حالا ولم يتغير سوقه سدا للذريعة لظهور التعليل في بعض

ص: 300

الصور. قاله عبد الباقي. واعترضه بناني بأنه لو اقتضى المنع لكان كل سلف في العروض ممتنعا

(1)

لاحتمال أن يرتفع ثمنة، وليس كذلك إذ الزيادة التي تقتضي منع السلف هي الزيادة الذاتية. انتهى. قال أبو علي: والمسألة في الغرناطي كما نقلوها عنه ولكن لم يعلل بشيء، وكلام ابن يونس شاهد ونص فيما قاله الغرناطي. انتهى. وقوله: لم يعلل بشيء؛ يعني في بيعه بغير جنسه. قال الرهوني: هذا كاف للحطاب وغيره في اعتمادهم هذا الشرط مع أن وجهه ظاهر في أكثر [صور]

(2)

بيع الدين بجنسه، وذلك أن صورة تسع: لأنه إما طعام أو عين أو عرض، وفي كل إما أن يباع بمثله قدرا أو صفة أو بأقل أو بأكثر كذلك، فالصور في الطعام ممتنعة كلها لربا الفضل والنساء، أو لربا النساء فقط، وصور العين كذلك، وكذا صور العرض إن كان المشترى به أقل قدرا أو صفة لأن الشيء في مثله قرض فهو سلف جر نفعا، فإن كان مثله أو أكثر فهو نادر في البيع الذي الكلام فيه؛ إذ ليس من شأن العقلاء دفع عاجل ليأخذ مثله أو أدنى منه مؤجلا، والنادر لا حكم له، مع أن التعليل بالمظنة. انتهى كلام الرهوني. وهو صريح في منع صور بيع الدين بجنسه كلها. والله سبحانه أعلم. وقال أبو علي: هذه الأمور كلها في متن المص، أما مسألة الطعام فهي قول المتن "وجاز البيع قبل القبض إلا مطلق طعام المعاوضة" وأما حضور الغريم وإقراره فكلام المتن فيه، وأما بيعه للعدو فهو قوله في الضمان: كشرائه عنتا فيرد، وأما كون الثمن نقدا فلأنه إن لم يكن نقدا فهو من بيع الكالئ بالكالئ، وأما قوله: بغير جنسه، فيظهر أنه إن كان على إطلاقه غير صحيح؛ لأن المص قال: وبيعه بدين، وكذا كلام ابن عرفة وغير واحد ممن يكثر ذكره، والمدونة وغيرها من الأمهات، وهوأمر مجمع عليه كما في ابن عرفة وغيره، وظاهر كلامهم اتفق الجنس أو اختلف، فإذا كان له بقرة على إنسان من سلم مثلا فأي مانع يمنع من بيعها بشاة نقدا من غيره، والشاة والبقرة جنس باعتبار اللحم، وإن أراد بالجنس المصنف مع الاتحاد في القدر والجودة والرداءة فلا مانع منه أيضا فيما يظهر، كشرائه ثوبا هرويا على إنسان بمثله نقدا

(1)

في الأصل ممتنع والمثبت من بناني ج 5 ص 83.

(2)

ساقطة من الأصل والمثبت من المرهوني ج 5 ص 138.

ص: 301

لخ، وقال الخرشي: والمراد بالحضور أن يكون بالبلد ولا يشترط حضوره في المجلس لأنه يمكن اختبار ما عنده، ومثل الإقرار السكوت.

تتمة: من اشترى دينا أو وهب له أو أحيل عليه وكان فيه رهن أو حميل لم يدخل فيه ذلك الرهن أو الحميل، إلا أن يشترط دخولهما ويحضر الحميل ويقر بالحمالة، وإن لم يرض بالتحمل لمن ملكه، للسلامة من شراء ما فيه خصومة، لكن لرب الرهن أن يطلب وضعه عند أمين، هذا هو المطابق للنقل كما في الحطاب، وأفتى الناصر اللقاني بدخول الرهن من غير شرط غير مستند لنقل، فلا يعول عليه، وأما من ورث دينا برهن أو حميل فإنه يكون له برهنه وحميله وإن لم يشترط ذلك، وللراهن طلب وضعه عند أمين غير الوارث كذا ينبغي. قاله عبد الباقي.

مسألة: إذا باع سلعة على أن يوفيه الثمن من عطائه أي مما يعطى من بيت المال فيحبس العطاء أو بعضه وله مال غيره فيه وفاء بما عليه فهل يلزمه أن يعطيه من غيره أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال ذكرها ابن رشد، ونقلها البرزلي. قاله الحطاب. ثم قال: فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال أحدها: أن البيع لا يجوز إلا بشرط الضمان إن لم يخرج العطاء. الثاني: أنه جائز والحكم يوجب الضمان. الثالث: أنه جائز ولا يوجب الضمان، وهذا في العطاء المأمون، وأما العطاء الذي ليس بمأمون فلا يتعين فيه. ويختلف هل يجوز ذلك بغير شرط الخلف أم لا؟ على قولين. مسألة: إذا كان الدين عروضا وبيع بغير جنسه وهي الصورة الجائزة كما مر فهل يشترط أن يبقى مثل أجل المسلم من أمده أو لا يشترط ذلك؟ وأخذ كل منهما من المدونة. نقله الشيخ ميارة.

وكبيع العربان يعني أن مما نهي عنه بيع العربان، والعربان والعربون بضمهما والعربون محركة وتبدل عينهن همزة. قال المواق: خرج هذا الحديث أبو داوود. قال عبد الحق: وهذا الحديث مع ما في إسناده من الكلام هو عند أبي داوود منقطع. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: ثم عطف على كحيوان قوله: وكبيع العربان، ويقال: أربان بضم أول كل وعربون وأربون بضم أولهما وفتحه يعني مع فتح الراء فيهما، ففيه ست لغات. وهو: أن يشتري سلعة بثمن أو يستأجر شيئا على أن يعطيه؛ أي يعطي المشتري البائع شيئا من الثمن على أنه؛ أي المشتري إن كره المشتري البيع. أي إمضاءه لم يعد إليه. أي إلى المشتري ما دفعه للبائع وإن أحب البيع حاسبه به من

ص: 302

الثمن أو تركه له مجانا؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل. قال عيسى: ويفسخ العقد فإن فات مضى بالقيمة، فإن أعطاه على أنه إن كره البيع أخذه وإن رضيه حاسبه به جاز ويختم عليه إن كان لا يعرف بعينه. قاله المواق. أي ليلا يتردد بين السلفية والثمنية. انتهى كلام عبد الباقي ببعض إيضاح. وقال الباجي: وقال ابن حبيب: العربان أول الشيء وعنفوانه والمنهي عنه من ذلك أن ينعقد عليه البيع، ولذلك أضافه إليه على وجه إن كره المشتري البيع كان ما دفعه إلى البائع للبائع دون عوض، فهذا الذي نهي عنه لأنه من أبين المخاطرة، وأما العربان الذي لم ينه عنه فهو أن يبتاع منه ثوبا أو غيره بالخيار فيدفع إليه بعض الثمن مختوما عليه إن كان مما لا يعرف بعينه على أنه إن رضي البيع كان من الثمن، وإن كره رجع إليه ذلك، فهو مباح لأنه ليس فيه خطر يمنع صحته، وإنما فيه تعيين للثمن أو بعضه، وإذا وقع البيع أو الكراء على ما منع منه من بيع العربان، فقد قال عيسى بن دينار: يفسخ فإن فات كانت فيه القيمة، وقال ابن عرفة: بيع العربان فسره في الموطإ بإعطاء المبتاع البائع أو المكري درهما أو دينارا على إن أخذ المبيع فهو من الثمن وإلا بقي للبائع، وفي القاموس: العربون بالضم وكحلزون وقربان ما عقد به البيع وعربنه أعطاه ذلك. انتهى. قال الشيخ أبو علي بعد كلام: ففسروه بإعطاء كذا، فالتفسير للعربان الذي شمله العقد لا للعقد الذي شمل العربان. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: وعلى اعتبار المعنى الذي في القاموس يكون المراد بالعربون الشيء المعطى. والله سبحانه أعلم. ولو أعطى البائعُ المشتريَ شيئا على أنه أي البائع إن كره البيع لم يعد إليه ما أعطاه للمشتري فالظاهر المنع أيضا للعلة التي في بيع العربان وهي أكل أموال الناس بالباطل. قاله مقيده أيضا عفا الله عنه. وقال الخرشي: ومثل إعطائه للبائع ما لو قال: إن كرهت البيع فهو لفلان غير البائع لوجود العلة.

وكتفريق أم فقط من ولدها؛ يعني أن من المنهي عنه تفريق الأم من ولدها أي والدة النسب لا أم الرضاع، والأصل فيه ما خرجه الترمذي عن أبي أيوب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه

ص: 303

وسلم يقول: (من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة

(1)

). قال: حديث حسن، وأخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وذكره المص في التوضيح بلفظ:(من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبابه يوم القيامة). وأخرجه الطبري

(2)

في الكبير بلفظ (من فرق فليس منا

(3)

) وقال اللخمي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا توله والدة على ولدها

(4)

) وقوله. توله، بضم التاء وفتح الواو واللام المشددة، ويجوز في الهاء الإسكان على أنه نهي والرفع على أنه خبر، معناه النهي ونظائره كثيرة؛ والوَلَه ذهاب العقل والتحير من شدة الحزن. يقال: رجل واله وامرأة والهة وواله بإثبات الهاء وحذفها: ويقال: ولَه بفتح اللام يلِه بكسرها [وولِه بكسر اللام]

(5)

يوله بفتحها لغتان فصيحتان، ومعنى الحديث النهي أن يفرق بين المرأة وولدها فتجعل والهة. قال جميعه في تهذيب الأسماء واللغات. قال ابن القطان عن صاحب الإشراف بعد ذكره هذا الحديث: أجمع أهل العلم على القول بهذا الخبر إذا كان الولد طفلا لم يبلغ سبع سنين، واختلفوا في وقت التفرقة، ولا فرق بين كون الأم مسلمة أو كافرة. قاله في المدونة. وسواء كان الولد من زنى أو من زوج. قاله في العمدة. وقوله: فقط يعني أن المنع من المتفرقة خاص بالأم. قال في المدونة: قال مالك: ويفرق بين الولد الصغير وبين أبيه وجده وجداته لأمه أو لأبيه متى شاء سيده، وإنما ذلك في الأم خاصة. قال في التوضيح: واختار اللخمي منع التفرقة في الأب. قلت: ظاهره أنه اختار من نفسه وليس كذلك، بل نقله عن غيره واختاره، ولم يختلف المذهب في جواز المتفرقة بين من سوى هذين من الأقارب كالأخ والجد والجدة والعم والعمة. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وكتفريق أم أي والدةِ نسب مسلمة أو كافرة غير حربية مجنونة أو عاقلة فقط لا أب أو خالة من ولدها وإن من زنى، وظاهره ولو مجنونا وأمه كذلك، إلا أن يخاف من أحدهما حصول ضرر بالآخر، ولو كان الجنون بأحدهما فقط فيمنع التفرقة في

(1)

الترمذي، كتاب البيوع، رقم الحديث 1283.

(2)

كذا في الأصل والذي في الحطاب ج 6 ص 172 الطبرانى ط دار الرضوان

(3)

مجمع الزوائد، ج 4 ص 107. كنز العمال، رقم الحديث 25025.

(4)

البيهقي، ج 8 ص 4 وفيه "عن ولدها" كنز العمل 14023.

(5)

ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 172 ط دار الرضوان.

ص: 304

العاقلين والمجنونين أو أحدهما، ولعل وجه منعها في جنونها مع عدم تولهها احتمال عود عقلها قبل إثغاره، وفسرنا الأم بالوالدة لتخرج أم الرضاع، واحترزنا بغير حربية عن تفرقة أم حربية من ولدها بأرض حرب غنيمة أو شراء أحدهما بأرضها فيجوز. انتهى. قوله: أو شراء أحدهما بأرضها، معناه أن المسلم إذا قدم دار الحرب جاز له أن يشتري من حربي ملك أما وولدها أحدهما دون الآخر. قاله الرهوني. وهو ظاهر لأنه يجوز سبي أحدهما دون الآخر، فيجوز شراؤه بأرض الحرب. قال عبد الباقي: واعلم أن المتفرقة ممتنعة سواء كانت في الملك أو في الحوز بأن يكونا في ملك وأحدهما في جهة والآخر في جهة أخرى بعيدة، وقوله بعد: وفسخ لخ، خاص بتفرقة الملك. انتهى. وقول عبد الباقي: أي والدة نسب. قال الرهوني: لو استغنى بوالدة عن نسب أو بنسب عن والدة لكان صوابا. وقول بناني: إن النسب من الأب لا من الأم، فالصواب إسقاط قوله: بنسب، فيه نظر ظاهر فإن كتب المالكية مشحونة بما فعله عبد الباقي في هذا المحل وفي غيره، قال ابن ناجي في شرح المدونة: ويريد بالأم إذا كانت من النسب، وأما من الرضاع فلا. قاله التادلي. وهو واضح لأنها ليس لها من الحنان والشفقة ما للأم من النسب.

وإن بقسمة؛ يعني أنه لا يجوز تفريق الأم من ولدها، ولا فرق في ذلك بين التفريق بالقسمة وغيرها كما لو ورث جماعةٌ الولدَ وأمه فلا يجوز لهم أن يقتسموهما بحيث تكون الأم في ملك بعضهم والولد في ملك غير ذلك البعض، وإن اشترطوا عدم المتفرقة في الحوز لافتراقهما في الملك، وقوله: وإن بقسمة، ولو قسمة قرعة، ويجوز أن يواجر أحدهما وأن تزوج الأم وأن يرهن أحدهما ويجعلان في حوز لاجتماعهما في ملك في المسائل الثلاث، والإجارة والنكاح صحيحان، وأما جعل أحدهما صداقا أو أجرة فإن ذلك لا يجوز لافتراقهما في الملك، وفي كلام عبد الباقي والخرشي نظر، وقال المواق: من المدونة: سئل مالك عن أخوين ورثا أمة وولدها صغيرا فأرادا أن يتقاوما الأم وولدها فيأخذ أحدهما الأم والآخر الولد وشرطا أن يفرقا بين الأم وولدها؟ فقال: لا يجوز ذلك لهما وإن كان الأخوان في بيت واحد، وإنما يجوز لهما أن يتقاوما الأم وولدها فيأخذها أحدهما بولدها أو يبيعاهما جميعا.

ص: 305

أو بيع أحدهما لعبد سيد الآخر، عطف على المبالغة يعني أن التفرقة بين الأم وولدها ممنوعة وإن كانت التفرقة ببيع الأم أو الولد لعبد سيد الآخر بأن استقر ملك أحدهما لعبد والآخر لسيد ذلك العبد، ولو كان العبد غير مأذون، وتقييد العبد بالمأذون غير معول عليه، وبالغ على ذلك ليلا يتوهم أن العبد وما ملك لسيده؛ أي لا يجوز لمن ملك أما وولدها أن يبيع الأم لرجل وولدها لعبد ذلك الرجل لاحتمال أن ذلك الرجل يُعتق عبده، وأولى لولد سيد الآخر. قاله عبد الباقي.

ما لم يثغر؛ يعني أن محل منع التفريق بين الأم وولدها إنما هو حيث لم يبلغ الولد سن الإثغار، وأما إن بلغ سن الإثغار فيجوز التفريق بينهما في الملك وفي الحوز ويثغر بفتح أوله وتشديد ثانية وهو بمثناة فوقية أو ثاء مثلثة مفتوحة، ويجوز أيضا ضم أوله وسكون ثانية مع المثلثة فقط أي ينبت بدل رواضعه بعد سقوطها، والظاهر أن المراد نبات كلها لا بعضها ولو المعظم، والظاهر أيضا أنه إذا نبتت كلها جاز التفريق وإن لم ينته نباتها، وأنه يراعى زمن السقوط المعتاد حيث لم تسقط بالفعل، ولابد من كون الإثغار معتادا. فلا يفرق بينهما إذا عجل بالإثغار وأسنان الرواضع ما نبتت مدة الرضاع، وفي المسألة أربعة أقوال: قيل: سبع سنين، وهذا هو قوله: ما لم يثغر معتادا، وقيل: عشر سنين، وقيل: لا يفرق بينهما إلى البلوغ، وقيل: لا يفرق بينهما وإن بلغ الولد. فتللا أربعة أقوال. ذكرها الشيخ أبو علي.

وصدقت المسبية؛ يعني أنه إذا سبيت حربية وصبي وادعت أنه ولدها فإنها تصدق في أنه ولدها فلا يفرق بينهما، وسواء اتحد سابيهما أم لا، وسواء صدقها السابي أم لا، كانا من بلد أم لا، وهذا ما لم تقم قرينة على كذبها، وينبغي حالة الإشكال أن تصدق بيمين، وقال ابن عرفة: وثبتت البنوة المانعة للتفرقة بالبينة أو بإقرار مالكهما أو دعوى الأم مع قرينة صدقها. انتهى. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وصدقت المسبية هي وولدها وقدم بهما بأرض الإسلام في دعواها الأمومة فلا يفرق بينهما اتحد سابيهما أو اختلف صدقها السابي أم لا إلا لقرينة على كذبها، وينبغي حالة الإشكال أن تصدق بيمين إن اتهمت وإلا فبدونه، ولا يختلي بها إذا بلغ. انتهى. ولو أسقط قوله: إن اتهمت كان أولى. قاله بناني.

ص: 306

ولا توارث؛ يعني أن المسبية تصدق في قولها: هذا ولدي، فلا يفرق بينهما لكن لا توارث بينهما، فلا يرثها إن ماتت قبله ولا ترثه إن مات قبلها، ولا يخلو معها إذا بلغ، قال في المدونة: وإذا قالت المسبية: هذا ابني لم يفرق، ثم قال: ولا يتوارثان لاتهام العجم باعتزال أموالهم عن المسلمين. قال عبد الباقي مفسرا للمص: ولا توارث بينهما من الجانبين كما تقتضيه صيغة المفاعلة؛ إذ لا إرث بشك فهي لا ترثه قطعا، ولا يرثها إن كان لها وارث ثابت النسب يأخذ جميع المال، وينبغي أن يجري هنا قوله "وخصه المختار بما إذا لم يطل الإقرار" فإن لم يكن لها وارث على الصفة المذكورة ورثها القربه وإقرارها به ليس استلحاقا لقوله: إنما يستلحق الأب، بل هو كإقرار شخص بأخ، ولو أوصت له مع وجود وارث يحوز جميع المال لصحت وصيتها له بالثلث، لا بأزيد إلا أن يجيزه الوارث، ولا وجه للتوقف في ذلك. قاله بناني. قال عبد الباقي: والأصل في منع التفرقة خبر الترمذي، وقال: حسن صحيح: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبابه يوم القيامة، كذا في الأجهوري، تبعا للشيخ سالم، وفي التتائي أحبته كالشارح في شروحه الثلاثة المصححة وهو الصواب، فهو الذي عزاه المواق والسيوطي والسخاوي للترمذي وهما أدرى بالحديث من الشيخ سالم، إن فرض أن خطه أحبابه وإلا فهو تحريف من النساخ وخبر: ألا لا تُوَلَّهْ والدةٌ بولدها، وتوله بمثناة فوقية مضمومة فواو مفتوحة فلام مفتوحة مشددة فهاء أي لا يفعل بها ما يوجب الوله أي ذهاب العقل بالتفريق.

ما لم ترض قيد في قوله: وكتفريق، كما في قوله: ما لم يثغر؛ يعني أن محل منع تفريق الأم من ولدها إنما هو حيث لم ترض الأم بالتفريق، وأما لو رضيت الأم بالتفريق فإنه يجوز لأنه حق لها على المشهور، وقيل: للولد، واختاره ابن يونس واللخمي وغيرهما. قاله عبد الباقي. قال بناني: صوابه والمازري عوض قوله: واللخمي؛ لأن اللخمي اختار الأول. انظر ابن غازي. وما قاله عبد الباقي هو الذي في التوضيح، لكن ما لابن غازي هو الصواب؛ لأن الذي اختاره اللخمي هو الذي

ص: 307

ذهب عليه المص، وكلامه الذي نقله ابن غازي صريح في ذلك، وقد راجعته في أصل تبصرته فوجدته كذلك فيها، وما اختاره اللخمي واعتمده المص صرح غير واحد بأنه المشهور وبه أفتى ابن زرب. ابن عتاب: وبه الحكم لأنه حق لها فإذا تركته سقط، وذكر ابن ناجي في شرح الرسالة أن الفتوى بخلاف ما درج عليه المص. قاله الرهوني. وقوله: ما لم ترض، هو كالصريح في أن الحق للأم وأنه خاص بالعاقل. ابن ناجي: هي جائزة في الحيوان البهيمي على ظاهر المذهب، وروى عيسى عن ابن القاسم فيها أي وكذا سماع يحيى ابن القاسم كما في أحمد: لا تجوز في البهيمي وأن حد التفرقة أن يستغني عن أمه بالرعي. نقله الغربي والتادلي. ابن الفاكهاني: هو ظاهر الحديث ولم أقف عليه نصا في غير العقلاء. انتهى. وقد وجد ذلك في ابن ناجي وكذا الأقفهسي، قال علي الأجهوري: وإذا فرق بينهما بالبيع فإنه لا يفسخ فليست كالتفرقة بين العاقلة وولدها، فإن قلت في قوله: ما لم يثغر ما لم ترض توالي ظرفين من غير عطف وهو ممتنع، قلت: الظرف الثاني حال والعامل فيه المنع المفهوم من النهي؛ أي ومنع التفريق مدة عدم الإثغار حال كون المنع مدة عدم الرضى. انظر أحمد. قاله عبد الباقي. قال مقيده عفا الله عنه: إنما يعمل في الظرف إذا كان حالا الاستقرار أو نحوه. والله سبحنه أعلم.

وفسخ إن لم يجمعاهما في ملك؛ يعني أن العقد المتضمن لتفرقة الأم وولدها يفسخ. قال المواق: من المدونة قال مالك: إذا كان الولد لرجل والأم لآخر جبرا أن يجمعاهما في ملك أو يبيعاهما معا، ومن باع ولدا دون أمه فسخ البيع إلا أن يجمعاهما في ملك واحد. انتهى. وقال عبد الباقي: وفسخ العقد المتضمن للتفرقة إن لم يجمعاهما في ملك، ومحل الفسخ حيث لم يفت المبيع وإلا لم يفسخ. قاله اللخمي. ومثل فسخ البيع إن لم يجمعاهما في ملك فسخ هبة الثواب ودفع أحدهما صداقا والمخالعة به. انتهى. وما ذكره في هبة الثواب ظاهر وكذا في النكاح إن لم يقع دخول وإلا فهو فوت فيجبران على جمعهما في ملك، وأما فسخ الخلع فإن عنى أن الطلاق يرد ويرد عوضه فليس [بصحيح]

(1)

قطعا؛ لأن الطلاق لا يرتفع بعد وقوعه، وإن عنى أنه يمضي بخلع المثل فغير ظاهر، بل الظاهر أنه يمضي ويجبران على جمعهما في ملك. قاله الرهوني. وقد مر قول اللخمي:

(1)

ساقطة هن الأصل والمثبت من الرهوني ج 5 ص 139.

ص: 308

إنه إذا فات المبيع لم يفسخ البيع. قال الرهوني: قال ابن يونس: قال ابن المواز عن مالك: وإذا باع الولد دون أمه فلم يعلم بذلك حتى كبر الولد لم يرد المبيع. قال ابن عبدوس: وكذلك إن مات الولد أو عتق قبل الفسخ مضى بيعه بالثمن. وكتب شجرة إلى سحنون فيمن باع أختين إحداهما تجوز فيها التفرقة والأخرى صغيرة؟ فقال: إن كانت الكبيرة وجه الصفقة أو اعتدلتا في القيمة أمر في الصغيرة أن تضم إليها الأم ببيع أو هبة، فإن لم يفعل فسخ البيع في الصغيرة بحصتها من الثمن وجاز في الكبيرة، وإن كانت الصغيرة فيها الرغبة وكثرة الثمن أمر المشتري أن يجمع [ببينها]

(1)

وبين الأم ببيع أو هبة، فإن لم يفعل فسخ بيعهما جميعا. انتهى. وقد مر أنه إذا زوجت الأم فلا فسخ ويجبر على جمعهما في حوز وليس للزوج حيث لم يعلم به الامتناع من ذلك، وهذا لا يخالف قوله في النفقات مشبها في الامتناع: كولد صغير لأحدهما إن كان له حاضن لخ، لاختصاصه بالحر. قاله التتائي. ابن حبيب: يضرب بائع التفرقة ومبتاعها ضربا وجيعا. انتهى. أي إن علما حرمتها لا أصل الوَلَدِيَّة فقط، وظاهره ضربهما مع علمهما حرمتها اعتادا ذلك أم لا، ويأتي في بيع الحاضر للبادي قولان في تقييد أدبه بالاعتياد مع العلم، ولعل الفرق أن منع التفرقة أشد ولا أدب مع عذر بجهل، وكذا يأتي نحو ذلك في مسألة التلقي. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي مفسرا للمص: أي وفسخ العقد الذي فيه التفرقة إذا كان عقد معاوضة بدليل ما بعده إن لم يجمعاهما في ملك. ابن حبيب: يضرب بائع التفرقة ومبتاعها إن علما ضربا وجيعا. وقاله مالك وكل أصحابه. انتهى. وقوله: إن لم يجمعاهما قال الخرشي: والجمع يكون ببيع كل ما له منفردا أو ببيع أحدهما من الآخر أو بيعهما معا من شخص واحد، لكن استشكل هذا الأخير بأن فيه جمع الرجلين سلعتين في البيع وقد تقدم منعه، وأجيب عنه بجوابين، أحدهما: أن هذا يندفع بتقويم كل من الأم والولد، ثم يفض الثمن عليهما فتنتفي الجهالة، ثانيهما: أنه أجيز هنا للضرورة الداعية إلى ذلك، وهذا الثاني للقاضي عياض والأول لغير واحد. قال ذلك في التوضيح. انتهى. وقال بناني ما معناه: قال في التوضيح: فإن قلت: يلزم هنا وفيما إذا فرقا بعوض جمع رجلين سلعتيهما في البيع، قيل: يمكن أن يدفع ذلك بأن يقوم كل منهما

(1)

في الأصل: بينهما، والمثبت من الرهونى ج 5 ص 140.

ص: 309

قبل البيع ثم يفض الثمن عليهما أو أجيز للضرورة الداعية إلى ذلك بخلاف الاختيار، والأول لغير واحد، والثاني لعياض. انتهى.

قلت: أصل السؤال غير وارد إذ لا يلزم بيعهما في صفقة واحدة. والله أعلم. انتهى. ورده الرهوني بأن كلام المدونة صريح في أنهما يباعان معا صفقة واحدة. وقال أبو علي مفسرا للمص: أي فإن وقع التفريق بين أم وولدها إما ببيع أو بإجارة أو نكاح أو نحو ذلك فإن العقد يفسخ إن لم يجمعاهما في ملك. المازري: وهو المشهور، وقال ابن المواز: لا يفسخ وعن ابن القاسم إذا لم يعلم بالعقد حتى كبر الولد لم يرد البيع. ابن عبدوس: وكذا إن مات الولد أو عتق. انتهى.

وقوله: وفسخ إن لم يجمعاهما لخ، هو المشهور. قال المتيطي: قاله مالك وابن القاسم في المدونة. وقال محمد: البيع نافذ ويجبران على الجمع في ملك واحد وبه القضاء، قال: فإن لم يعثر على ذلك حتى مضى حد التفرقة مضى البيع. انتهى.

وإذا هَرَّبَ المشتري أحدهما وقال: بعته لبلد بعيد فإنه يكلفه القاضي برده أو يحبسه ويكري من يذهب ويشدد عليه في رده، فإن امتنع من إحضاره ضرب بالسوط إلا إذا أقام البينة على إثغار الولد. انتهى. وقوله: أو بإجارة معناه أن يجعل أجرة كما يفيده قوله: إن لم يجمعاهما في ملك. وهل بغير عوض كذلك أو يكتفي بحوز كالعتق؛ يعني أنه اختلف إذا كانت التفرقة بغير عوض كالهبة والصدقة هل هي كذلك؟ أي كالتفرقة بعوض أي لابد من جمعهما في ملك ببيع أو غيره بجامع التفرقة، وأما الفسخ فلا، فالتشبيه غير تام، أو هي ليست كالتفرقة بعوض بل هي كالعتق فيكتفى باجتماعهما في حوز إذ العتق يكتفى فيه باجتماعهما في حوز اتفاقا. وقوله: تأويلان، مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، والتأويل الثاني لأبي محمد وهو قول لمالك، والأول قول لمالك، وجزم ابن رشد بأن مذهب المدونة ما فهمه منها أبو محمد. قال الرهوني: وقد بحثت على من تأولها على الأول ولم أجده إلا قولا لا تأويلا.

وعلم مما قررت أن التأويلين فيما قبل الكاف إذ هو دليل التأويل الثاني. قال عبد الباقي: وقد علم من المص حكم ما يجب في تفرقتهما بالبيع ومثله هبة الثواب، وما يجب في تفرقتهما بغير هبة ثواب ونحوها، وما يجب في تفريقهما بالعتق، ولم يعلم من كلامه حكم ما يجب إذا وجد

ص: 310

الولد في ملك شخص والأم في ملك آخر، ولم يعلم هل صار إليهما بمعاوضة أو غيرها، والحكم في هذا وجوب جمعهما بملك ولا يكتفى بحوز. انتهى. وقوله: وهل بغير عوض كذلك لخ، الخرشي: فإن امتنعا من الجمع بينهما يجبرهما الحاكم على أن يبيعا لشخص واحد، وأما الفسخ فلا سبيل إليه بحال. انتهى. المواق: ومن المدونة قال مالك: من أعتق ابن أمته الصغير فله بيع أمته ويشترط على المبتاع أن لا يفرق بينه وبين أمه. انتهى.

وجاز بيع نصفهما؛ يعني أنه يجوز بيع نصف الأم وولدها للعتق أو لغيره. قال عبد الباقي: وجاز بيع نصفهما مثلا لواحد أو اثنين اتفق الجزء أو اختلف، وقال المواق: من المدونة: بيع نصفهما معا غير تفرقة، وقال الخرشي: أي وجاز بيع نصفهما أو ثلثهما أو نصف أحدهما وربع الآخر مثلا سواء اشترى ذلك الجزء للعتق أو لغيره، وكذا بيع أحدهما وجزء الآخر.

وأما بيع أحدهما وإبقاء الآخر فلا يجوز إلا للعتق، فقوله: للعتق، راجع للثانية فقط. وظاهر قوله: للعتق، يشمل الناجز والمؤجل. وفي الحطاب ما يفيد أنه في الناجز، فإنه قال: قال ابن بطال في قوله: لا بأس ببيع الأمة دون الولد والولد دون الأمة للعتق، معناه على أنها حرة، وقال بعض الشيوخ: لتعتق. أبو الحسن: معنى قول ابن بطال: إنها حرة من غير إحداث عتق، ومعنى قول غيره على إيجاب العتق. انتهى. قلت: وعلى كلا الوجهين فإنه يجبر على العتق لكن الأول أقوى من الثاني. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه: أي لأن الأول لا يفتقر إلى الحكم بخلاف الثاني. والله سبحانه أعلم. وما مر من قول عبد الباقي: وجاز بيع نصفهما مثلا لواحد أو اثنين، معناه عندي -والله أعلم- أنه باع نصف الأم لواحد ونصف الولد لآخر فإن هذا من قبيل مسألة الرهوني التي حكى فيها قولين، وهي ما إذا انفرد أحدهما بأحدهما واشتركا في الآخر فإنه قال: في المسألة قولان. قال ابن عرفة: وصرح المازري بأن في انفراد أحدهما بأحدهما مع شركتهما في الآخر قولين في كونه تفرقة أم لا، وذكر اللخمي القولين ونسب الجواز لابن القاسم في المدونة، ثم قال: ومنعه سحنون وهو أقيس، ونقله ابن عرفة أيضا وسلمه. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه. فبان من هذا أن قول عبد الباقي: أو اثنين صحيح وأنه هو الراجح لأنه موافق في المعنى لقول ابن

ص: 311

القاسم في المدونة في تلك المسألة. والله سبحانه أعلم. وقال الحطاب: قال اللخمي في تبصرته: إذا عتق أحدهما جاز بيع الآخر ويجمعانهما في حوز، فإن أعتق الولد لم يكن له أن يخرجه عن أمه، وإن باعها شرط على المشتري كونه معها وعندها، وإن سافر بالأم سافر به معها ويكون الكراء على المشتري، ويشترط عليه حين البيع نفقته، ثم قال: وإن أعتق الأم وأخرجها من حوزه ترك الولد في حضانتها إن كان لا خدمة له وإن كان له خدمة كان مبيته عندها ويأوي إليها في نهاره في وقت لا يحتاج السيد فيه لخدمته، وإن باعه شرط على المشتري كونه عندها وللمشتري أن يسافر به وتتبعه الأم حيث كان. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز بيع أحدهما للعتق الناجز، كما يفيده الحطاب وهو قيد في الثانية فقط خلافا للتتاءي، وقال أيضا: وربما أشعر كلامه بأنه إذا أعتق أحدهما لا يجوز له بيع الآخر وهو كذلك إلا في فلس أو ضرورة، وكذا لو دبر أحدهما لم يجز له بيع الباقي بعد المدبر ولا بيع خدمة الآخر. انتهى. وما عزاه لابن القاسم عزاه ابن عرفة -وتبعه في تكميل التقييد- لسحنون، وأن الذي في المدونة أنه إذا أعتق أحدهما يجوز له بيع الآخر ويشترط على مشتري الأم نفقة الولد المعتق ومؤنته وأن لا يفرق بينهما للإثغار. ابن رشد: لا أدري لم أوجبوا على من أعتق صغيرا فباع أمه أن يشترط نفقته على مشتري الأم؟ وما المانع من كونه مع أمه عند المشتري ونفقته على معتقه؟ انتهى. قال بناني: قد يقال: أوجبوا ذلك لكون عدم اشتراط نفقة الصغير مظنة التفريق بينهما. انتهى. قال عبد الباقي: وقوله: ولا بيع خدمة الآخرة كذا بخط التتائي بموحدة فتحتية، ونحوه في الشارح، والذي في المدونة: ولا مع بميم وعين ونصها: وإذا دبر أحدهما لم يجز له بيع الباقي وحده ولا مع خدمة الآخر. انتهى.

والولد مع كتابة أمه، بالجر عطف على نصف؛ يعني أن من كاتب أمة يجوز له أن يبيع ولدها ويبيع كتابتها أي يجوز له بيعهما معا أي الولد وكتابة الأم. قال المواق: قال في المدونة: إن كاتب الأم لم يجز له بيع ولدها إذ هي في ملكه بعد إلا أن يبيع كتابتها مع رقبة الابن من رجل واحد فيجوز ذلك إذا جمع بينهما، والحاصل أنه إذا كاتب أمة فإنه يجوز له أن يبيع كتابتها وولدها معا ويجوز له أن لا يبيع، وأما بيع واحد منهما أي الكتابة والولد فلا يجوز. وقوله: والولد، قال الخرشي: بالجر وبالرفع نائب فاعل فعل محذوف؛ أي وبيع الولد مع بيع كتابة

ص: 312

أمه؛ أي إذا بيعت كتابة الأم وجب بيعه معها والرفع أولى. انتهى. ومعنى المص بالجر هو ما قدمته. والله سبحانه أعلم. وقال الخرشي: والمراد بالجواز الإذن الصادق بالوجوب. انتهى؛ يعني على الجر، وقد مر توجيهي له بما يكون به الجواز على ظاهره. والله تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: وجاز بيع الولد مع بيع كتابة أمه لرجل واحد، وكذا يجوز بيع الأم مع كتابة الولد، قال الشارح: ويشترط عليه أن لا يفرق بينهما إذا عتقت الأم إلى وقت الإثغار. انتهى. ويجري مثله في بيع أحدهما للعتق فإن لم يعمل بالشرط فالظاهر عدم الفسخ ويجبران على الجمع. وقال المواق: قال ابن عرفة: كتابة أحدهما غير تفرقة وكذا التدبير. ولمعاهد التفرقة يعني أن الحربي الذي قدم إلينا بأمان وهو المراد بالعاهد لا يمنع من التفرقة بين الأم وولدها ببيع أو غيره، وكره الاشتراء منه؛ يعني أنه يكره لنا أن نشتري من العاهد شراء التفرقة ويجبر المشتري والبائع على الجمع في ملك مسلم غيرهما أو ملك المشتري، ولا يفسخ البيع لأنه إذا فسخ رجع إلى ملك العاهد، وهذا في الصغير كما هو موضوع المص، والكراهة هنا على التحريم. قاله عبد الباقي وغيره. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: فإن قلت: إذا كان الاشتراء منه يحرم علينا فإن ذلك يناقض كون المعاهد له التفرقة؛ إذ يقال: من يشتري منه مفرقا إذا حرم علينا الاشتراء منه مفرقا، فالجواب: أنا لا نمنعهم من المبيع المذكور بينهم، وقوله: ولمعاهد التفرقة. قال عبد الباقي: فهم منه أن الذمي يمنع من التفرقة وهو كذلك؛ لأنه من التظالم. اللخمي: هذا إن كانت التفرقة في دينهم ممنوعة وإلا ففيه نظر، وبعض أشياخي أطلق القول بمنعهم. انتهى. قال بناني: هذا الكلام ليس للخمي بل للمازري، وبعض أشياخه هو اللخمي، ونص ابن عرفة: اللخمي: أرى إن كانا معا لنصراني ذمي فباع أحدهما من نصراني أن يجبرا على الجمع لأنه من التظالم. المازري: هذا إن كانت التفرقة عندهم ممنوعة لا تجوز، فإن كان ذلك في دينهم سائغا ففيه نظر، وبعض أشياخي أطلق بمنعهم. انتهى.

تنبيهات: الأول: قال المص في التوضيح: واختلف هل النهي يعني عن تفريق الأم من ولدها لحق الولد، وعليه ما في الموازية: إذا رضيت الأم بالتفرقة فليس لها ذلك وهو حق للأم، وعليه ما في

ص: 313

المختصر فإذا رضيت الأم بالتفرقة فلا بأس. واختار ابن يونس واللخمي وغيرهما الأول، ومعنى من الحق للأم لتولهها وموجدتها على ابنها مثلا، ومعنى كونه للولد هو رفق أمه به، والحاصل أن القول بكون الحق للولد قوي غاية ووجهه ظاهر. قاله الشيخ أبو علي.

الثاني: قد مر قول المص: والولد مع كتابة أمه، قال ابن الأثير: اختلفوا في بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب: المنع، والجواز، والفرق إذا اشتري للعتق جاز وإلا منع، فمن أجاز فقد استدل بهذا الحديث أي حديث بريرة مع عائشة وهو معلوم، فإنه ثبت أن بريرة كانت مكاتبة، ومن منع فيحتاج إلى العذر عنه، فمن العذر عنه أنه يجوز بيعه عند العجز عن الأداء، ومن الاعتذار أن تكون عائشة اشترت الكتابة والرقبة، واستدل على ذلك بما في بعض الروايات، فإنه يشعر بذلك؛ ومن فرق فلا إشكال عنده لأنه يقول: إنما أجيز بيعه للعتق؛ وبيع العبد بشرط العتق فيه قولان؛ والصحيح صحة بيعه لهذا الحديث، ومن قال بالمنع في هذا، قيل: يمنع كون عائشة مشترية للرقبة، ويحمله على قضاء الكتابة عن بريرة، وعلى شراء الكتابة خاصة. وعطف منهيا عمة على مثله بقوله:

وكبيع وشرط يناقض المقصود يعني أن من المنهي عنه بيعا وشرطا، فقد روى عبد الحق في أحكامه عن عمرو بن شعيب قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، قال ابن عرفة: لا أعرفه إلا من طريق عبد الحق وحمله أهل المذهب على وجهين، أحدهما: الذي يناقض المقصود من المبيع، ومثل له بقوله: كأن لا يبيع؛ أي باعه شيئا واشترط عليه أن لا يبيعه عموما أو إلا من نفر قليل، وذلك لأن المقصود من البيع أن يملك المشتري الشيء المبيع فيتم له التصرف فيه وهذا مناف لذلك، وأما إن شرط عليه أن لا يبيع من فلان أو من نفر قليل فيجوز. قاله اللخمي. ومثل قوله: أن لا يبيع لا يهب أو لا يخرج به من بلد، أو على أن يتخذها أم ولد أو يعزل عنها أو لا يجيزها البحر، أو على الخيار إلى أمد بعيد، أو على أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن: فكل ذلك من الشرط الناقض، وما ذكر في الأخير لا ينافي جواز الإقالة التي وقع فيها

ص: 314

شرط المبتاع على البائع أنه إن باع من غيره كان أحق بها لأنه يغتفر في الإقالة ما لا يغتفر في غيرها. قاله عبد الباقي. وقوله: لا ينافي جواز الإقالة التي وقع فيها شرط المبتاع لخ، قال الشيخ محمد بن الحسن: قد تقدم صدر البيوع أن المشهور فساد الإقالة بهذا الشرط وأنه لا فرق بينها وبين البيع في الحكم. انتهى. واستثنى من قوله: يناقض المقصود قوله: إلا بتنجيز العتق، الباء للمصاحبة والمعنى أنه نهي عن كل بيع وشرط أي يناقض المقصود إلا بيعا مصحوبا بشرط تنجيز العتق، فإنه يجوز وإن كان مناقضا لمقتضى العقد، ومثل شرط تنجيز العتق شرط الهبة والصدقة عند مالك خلافا للشافعي. قاله في الذخيرة. وكذا الموقف كما في الشيخ سالم. واحترز بالتنجيز من التدبير والعتق لأجل واتخاذ الأمة أم ولد، ولتنجيز العتق وجوه أربعة: الإبهام، والتخيير، وإيجاب العتق، وكونه حرا بنفس الشراء، فأشار إلى الأول بقوله:

ولم يجبر إن أبهم؛ يعني أن من باع رقيقا على شرط العتق إلا أنه أبهم بأن قال: أبيعك بشرط أن تعتقه، ولم يقيد ذلك بإيجاب ولا تخيير فإنه لا يجبر المشتري على العتق إن أبى منه، وقال أشهب وسحنون: يلزم العتق. اللخمي: وهو أحسن، وشرط النقد في هذا يفسده للتردد بين السلفية والثمنية لتخيير المبتاع في العتق فيتم البيع، وفي عدمه فيخير البائع في رد البيع وإمضائه، فإن رد بعد أن فات فعليه القيمة كما في المدونة. قاله عبد الباقي. وأشار إلى الثاني بقوله: كالمخير؛ يعني أنه إذا باع رقيقا بشرط العتق على أن المشتري يخير في العتق فيتم المبيع، وفي عدمه فيخير البائع في رد البيع وإمضائه، فإنه لا يجبر المشتري على العتق بل إن شاء أعتق العبد فيتم البيع، وإن شاء لم يعتقه فيخير البائع في رد البيع وإمضائه، وشرط النقد يفسد البيع في هذه للتردد بين السلفية والثمنية، وأشار إلى الثالث بقوله:

بخلاف الاشتراء على إيجاب العتق؛ يعني أن الاشتراء على إيجاب العتق أي التزامه ليس كالاشتراء على الإبهام والتخيير، فإن هذا يجبر المشتري فيه على العتق، فإن امتنع أعتقه الحاكم، ومثلوه بأن يقول له: أبيعك على شرط أن تعتقه وهو لازم لك لا تتخلف عنه فرضي بذلك. وأشار إلى الرابع بقوله: كأنها حرة بالشراء، تشبيه في وجوب العتق لا في وجوب الجبر

ص: 315

لأنها تتحرر بنفس الشراء، وهذه الأقسام تجري في الهبة والصدقة، فإن باعه على أنه صدقة لفلان أو على أن يتصدق بها عليه والتزم المشتري ذلك جاز العقد والنقد، وإن كان على الخيار جاز العقد دون النقد، واختلف إذا أبهم ولم يقيد بالتزام ولا خيار، فقال ابن القاسم فيمن باع من امرأته خادما بشرط أن تتصدق بها على ولده: ذلك جائز ولا يحكم عليها بالعتق والبائع بالخيار إن شاء أجاز البيع على ذلك وإن شاء رد، وعلى قول أشهب وسحنون يلزمها ذلك من غير خيار. قاله الحطاب. وهذا إذا كانت الصدقة والهبة منجزة أو مؤجلة بأجل قريب كالعتق على ما للمشدالي من أن العتق المؤجل بأجل قريب كالناجز ثم عطف على قوله: يناقض المقصود، قوله:

أو يخل بالثمن؛ هذا هو الوجه الثاني من الوجهين الذين حمل أهل المذهب الحديث عليهما، أعني حديث النهي عن بيع وشرط، ومعنى ذلك أنه إذا باع شيئا وشرط في بيعه شرطا يخل بثمنه بأن يعود بجهل في الثمن إما بزيادة إن كان الشرط من المشتري أو بنقص إن كان من البائع. ومثل لذلك بقوله: كبيع وسلفه، فإذا باعه سلعة بعشرة مثلا وشرط مشتري السلعة على البائع أن يسلفه فإن العشرة في مقابلة السلعة والانتفاع بالسلف، فبعض العشرة مقابل للانتفاع بالسلف وبعضها مقابل للسلعة وهو مجهول، وثمن السلعة في هذا أكثر لا صاحبها من السلف الكائن من جهة البائع، وإذا باعه سلعة بتسعة مثلا وشرط بائعها على المشتري أن يسلفه فانتفاع البائع بسلف المشترِي له يقابله بعض الثمن الذي هو السلعة، وبعضها الآخر المقابل للثمن مجهول، والثمن في هذا أقل لمصاحبة السلف من المشتري. والله سبحانه أعلم. مع أن الانتفاع في المسألتين مجهول. واعلم أن كلا من العوضين يصح أن يكون ثمنا ومثمنا، وقوله: كبيع وسلف أي كاشتراط السلف مع البيع. قال بناني: الصور ثلاث، بيع وسلف بشرط ولو بجريان العرف وهي التي تكلم عليها المص هنا، وبيع وسلف بلا شرط لا صراحة ولا حكما وهي التي أجازوها هنا أيضا، وتهمة بيع وسلف وذلك حيث يتكرر المبيع وهي التي تكلم عليها المص في بيوع الآجال، فما أجازوه هنا غير ما منعوه هناك؛ لأن ما هناك فيه التهمة بالدخول على شرط بيع وسلف، وسيأتي إن شاء الله ما يدل على أن المذهب فيه هو المنع. والله أعلم. انتهى. وقوله: كبيع وسلف: قال الرهوني: جعل المص تبعا لابن شأس وغيره هذا مندرجا تحت النهي عن بيع

ص: 316

وشرط، وكلام الباجي يفيد أن له دليلا خاصا. وكل صحيحٌ؛ قال في المنتقى: روي أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع وسلف

(1)

). ولا نعلم له إسنادا صحيحا، وأشبهها ما رواه أيوب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل بيع وسلف

(2)

)، وأجمع الفقهاء على المنع من ذلك، وتلقي الأئمة له بالقبول والعمل به يدل على صحة معناه، وذلك يقوم له مقام الإسناد. انتهى. قلت: انظره مع ما في أحكام عبد الحق ونصها: الترمذي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل بيع وسلف، قال هذا حديث حسن صحيح. انتهى المراد نقله من كلام الرهوني. وقال عبد الباقي: والظاهر أن المراد بالشرط ولو بحسب ما يفهم من حالهما قياسا على ما يأتي في الثنيا مما يجري به العرف، وسواء كان السلف من البائع أو المشتري كما يأتي في قوله: وفيه إن فات لخ، وصح إن حذف يعني أنه يصح البيع إن حذف شرط السلف قبل الفوات. أو حذف شرط التدبير؛ يعني أن البيع يصح إن حذف شرط التدبير ونحوه مما يناقض المقصود، ولذا في بعض النسخ: كالتدبير، فمعنى كلامه أنه يصح البيع المصاحب للشرط الذي يناقض المقصود أو يخل بالثمن حيث حذف الشرط المذكور. والله سبحانه أعلم. كشرط رهن وحميل وأجل يعني أن البيع يصح مع شرط الرهن أو الحميل أو الأجل، ويصح أن يشتري شيئا بثمن مؤجل بأجل معلوم ويرهن له في ذلك الثمن رهنا ويضمنه له شخص آخر، وهذه الثلاثة من الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافيه، ومحل كلامه إذا كانا أي الرهن والحميل حاضرين أو قريبي الغيبة، فإن بعدت غيبتهما ففي الحميل لا يجوز البيع ويفسد، ولعله في الحميل المعين وفي الرهن يجوز كبيعه وتوقف السلعة حتى يقبض، وقال أشهب: يمنع كالحميل. وفي النوادر: الجواز في الرهن البعيد إذا كان عقارا وقبض المشتري السلعة البيعة. قاله حلولو. قاله عبد الباقي بإدخال شيء فيه من كلام بناني.

(1)

الموطأ، ج 2 ص 416. البيهقي، ج 5 ص 348.

(2)

الترمذى، كتاب البيوع، رقم الحديث 1234.

ص: 317

مسألة: في انتهاء الأجل الجائز، قال الحطاب بعد جلب نقول: فَتَحَصَّلَ من هذا جواز الأجل إلى عشر سنين وما أشبهها وفي جوازه إلى العشرين وكراهته قولان للمدونة مع اختيار أصبغ، ولابن القاسم: وإلى الستين يفسخ وفي الثلاثين توقف ابن القاسم، وقياس أصبغ على الصداق عدم الفسخ والله أعلم. انتهى.

تنبيهات: الأول: ذكر المص شرطين أحدهما: الشرط الذي يفسد البيع إن لم يحذف وهو الشرط الذي يناقض المقصود أو يخل بالثمن. ثانيهما: الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافيه كشرط رهن وحميل وأجل، وبقي عليه ثالث: وهو الشرط الذي يقتضيه العقد كشرط تسليم المبيع والقيام بالعيب، فهذه شروط ثلاثة؛ ويأتي له ما يبطل فيه الشرط ويصح البيع وهو قوله "كمشترط زكاة ما لم يطب وأن لا عهدة" لخ، قال ابن رشد: روي أن عبد الوارث بن سعيد قال: قدمت مكة فوجدت فيها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شُبْرُمَةَ، فقلت لأبي حنيفة: ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شيئا؟ فقال: البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته؟ فقال: البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فسألته؟ فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت، سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال: لا. أدري ما قالا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط. ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا، قالت عائشة رضي الله عنها (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة وأعتقها وإن اشترط أهلها الولاء فإنما الولاء لمن أعتق

(1)

). البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، قال جابر: بعت من النبي صلى الله عليه وسلم ناقة وشرط لي حلابها وظهرها إلى المدينة، البيع جائز والشرط جائز. فعرف مالك الأحاديث كلها فاستعملها في مواضعها وتأولها على وجوهها ولم يمعن غيره النظر ولا أحسن تأويل الأثر. نقله المواق. وقوله: وصح إن حذف أو حذف شرط التدبير؛ أي ونحوه مما

(1)

البخاري، الجامع الصحيح، كتاب العتق، رقم الحديث:2536.

ص: 318

يناقض المقصود، ويستثنى من ذلك أربعة أشياء، أحدها: من ابتاع سلعة بثمن مؤجل على أنه إن مات فالثمن عليه صدقة فيفسخ المبيع ولو أسقط الشرط لأنه غرر. قاله في النوادر. ومثله شرط إن مات لم يطلب البائع ورثته بالثمن. ثانيها: شرط ما لا يجوز من أمد الخيار فيلزم فسخه وإن أسقط لجواز كون إسقاطه أخذا به. ثالثها: من باع أمة وشرط على المبتاع أن لا يطأها وأنه إن فعل فهي حرة أو عليه دينار مثلا فإن هذا يفسخ المبيع ولو أسقط الشرط لأنه يمين. رابعها: شرط الثنيا يفسد البيع ولو أسقط الشرط ويعبر عنها في مصر بالبيع المعاد؛ وحقيقتها أن يقول البائع للمشتري: متى أتيتك بالثمن عاد المبيع إلي فاشتراط ذلك في عقد البيع يفسده ولو حذف، وأما إن تطوع المشتري له بذلك بعد عقد البيع فلا فساد بل يجوز سواء قيد بمدة أو أطلق، بأن قال له: متى أتيت لي بالثمن أعدت لك سلعتك، ولا يجوز للمشتري بيعها لغيره في القيدة بمدة، ويرد بيعه لغير البائع فيها أو بعدها بيوم ويأخذها البائع إن أراد لا بعد زيادة على يوم، وأما في المطلقة بأن لم يضربا لذلك أجلا فللبائع أخذه متى جاءه بالثمن في قرب الزمن وبعده ما لم يفوته المبتاع، فإن فوته فلا سبيل له إليه، فإن قام عليه حين أراد التفويت فله رد البيع، وإن باعه قبل أن يمنعه السلطان نفذ بيعه، وإذا مات التطوع بالثنيا قبل أجل التطوع له بها فقيل: تبطل بناء على أنها هبة وهي تبطل بموت الواهب قبل حوز الموهوب، وهو لأبي الفضل واختاره أبو الحسن وهو المشهور، وقيل: لا تبطل لأنها بيع وهو لأبي إبراهيم الأعرج، وإذا ادعى أحد المتعاقدين أن الثنيا وقعت في العقد وادعى الآخر أنها وقعت على الطوع فالقول للآخر بيمينه لأنه مدع الصحة إلا أن يجري عرف بوقوعها بالعقد، ويكتب في الوثيقة أنها على الطوع كما بمصر، فالقول لمدعي ما جرى به العرف على ما قاله ابن رشد؛ وقال عَصْرِيُّه ابن الحاج: العمل على ما كتب والأول يوافقه ما للحطاب هنا في الثنيا التطوع بها إذا لم يقبض المشتري المبيع فإنه قال: وأما ما يقع في عصرنا هذا وهو مما عمت به البلوى من أن الشخص يشتري البيت مثلا بألف دينار أي شراء ثنيا ويؤجره لبائعه بمائة دينار قبل أن يقبضه المبتاع وقبل أن يخليه البائع من أمتعته، بل يستمر البائع على سكناه إياه إن كان محل سكنه أو على وضع يده عليه وإجارته،

ص: 319

ويأخذ المشتري فيه كل سنة أجرة مسماة يتفقان عليها؛ أي ثم يأخذ المشتري جميع الثمن من البائع ويعيد له ملكه، فهذا لا يجوز بلا خلاف لأن هذا صريح الربا ولا عبرة بما سمياه من العقد لخ، فقد راعى في هذا ما في نفس الأمر ولم يراع الكتب وتقدم، عند قوله "وجهل بمثمون أو ثمن" ما يفيد أن العبرة بما كتب عند ابن رشد وهو خلاف ما مر عنه هنا، والغلة في بيع الثنيا الفاسد للمشتري على الراجح كما في الحطاب؛ وقال أحمد: المشهور أنها للبائع وهو ظاهر من جهة المعنى وهو توافقه مع المشتري على أن يرد له المبيع. انتهى من شرح عبد الباقي بإدخال شيء فيه من كلام بناني.

الثاني: قال بناني قَسَّم ابن رشد في المقدمات الشروط المتعلقة بالبيع على أربعة أقسام، وفي المص إشارة إلى جميعها. ولنذكر طرفا من حكمها فنقول: القسم الأول: شرط ما يقتضيه العقد كتسليم المبيع والقيام بالعيب ورد العوض عند انتقاض المبيع، أو ما لا يقتضيه ولا ينافيه ككونه لا يئول إلى غرر وفساد في الثمن أو الثمن، ولا إلى الإخلال بشرط من الشروط المشترطة في صحة البيع، وفي مصلحة أحد المتبايعين كالأجل والخيار والرهن والحميل وبيع الدار واستثناء سكناها أشهرا معلومة أو سنة، وكبيع الدابة واستثناء ركوبها ثلاثة أيام ونحو ذلك، أو إلى مكان قريب فهذا القسم من الشروط صحيح يقضى به حيث وقع، ولا يقضى به دون شرط إلا ما كان يقتضيه العقد، فإنه يقضى به ولو لم يشترط ويتأكد مع الشرط، وأشار المص إلى هذا القسم بقوله: كشرط رهن وحميل وأجل. القسم الثاني: ما يئول إلى الإخلال بشرط من الشروط المشترطة في صحة البيع كشرط ما يؤدي إلى جهل أو غرر في العقد أو في الثمن أو في المثمن، أو إلى الوقوع في ربا الفضل أو ربا النساء، كشرط مشاورة شخص بعيد أو شرط الخيار إلى مدة مجهولة، أو تأجيل الثمن إلى أجل مجهول، فهذا النوع يوجب فسخ البيع على كل حال، فاتت السلعة أو لم تفت، ولا خيار لأحد المتبايعين في إمضائه، فإن كانت السلعة البيعة قائمة ردت بعينها، وإن فاتت ردت قيمتها بالغة ما بلغت، ويستثنى من هذا النوع مسألة البيع بشرط السلف، فإنه لا يجوز لأنه يؤدي إلى الجهل بالثمن، لكن إنما يفسخ ما دام مشترط السلف متمسكا بشرطه، فإن أسقط شرطه صح البيع، وهذا القسم أشار له المص بالشروط المتقدمة مع قوله بعدها: وفسد منهي عنه إلا بدليل.

ص: 320

القسم الثالث: ما يكون من شروط منافيا لمقتضى عقد البيع لأن فيه تحجيرا على المشتري، مثل أن يبيع السلعة للمشتري على أن لا يبيعها أو لا يهبها، وعلى أن يتخذ الجارية أم ولد، أو على أن لا يخرج بها من البلد، أو على أن لا يعزل عنها، أو على أنه إن باع المشتري السلعة فالبائع أحق بها بالثمن الذي يبيعها به، أو على الخيار إلى أمد بعيد، وما أشبه ذلك مما يقتضي التحجير فالمشهور في هذا النوع أنه يفسخ ما دام البائع متمسكا بشرطه، فإن ترك الشرط صح البيع، هذا إذا كانت قائمة، فإن فاتت كان فيه الأكثر من الثمن والقيمة يوم قبضه.

قال في البيان: ويستثنى من هذا الحكم مسألتان، إحداهما: إذا باع الأمة وشرط على المشتري أن لا يطأها وأنه إن وطئها فهي حرة، أو فعليه كذا وكذا، فهذا يفسخ على كل حال على حكم البيع الفاسد ولا يكون للبائع أن يترك الشرط من أجل أنها يمين لزمت المشتري. الثانية: أن يشترط الخيار إلى أمد بعيد فإن البيع يفسخ فيها على كل حال ولا يمضي إن رضي مشترط الخيار ترك الشرط لأن رضاه بذلك ليس تركا منه للشرط وإنما هو اختيار البيع الفاسد على الخيار الفاسد، وإلى هذا القسم أشار الص بقوله "وكبيع وشرط يناقض المقصود". القسم الرابع: ما يكون فيه الشرط غير صحيح إلا أنه خفيف فلم تقع له حصة من الثمن، فيصح البيع ويبطل الشرط، وإلى هذا القسم بفروعه أشار المص بقوله في فصل التناول "كمشترط زكاة ما لم يطب وأن لا عهدة ولا مواضعة" لخ، هذا تفصيل الإمام مالك رضي الله عنه في بيع الشروط، وذهب أبو حنيفة إلى تحريمه مطلقا لما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع وشرط) وذهب ابن شبرمة إلى الجواز مطلقا، عملا بما في الصحيح: من أن جابرا رضي الله عنه باع من النبي صلى الله عليه وسلم ناقة واشترط حلابها وظهرها إلى المدينة، وذهب ابن أبي ليلى إلى بطلان الشرط مع صحة البيع لحديث عائشة رضي الله عنها (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة وأعتقها وإن اشترط أهلها الولاء فإن الولاء لمن أعتق) فجاز البيع وبطل الشرط. وعرف

ص: 321

مالك رضي الله عنه الأحاديث كلها فاستعملها في مواضعها وتأولها على وجوهها، ولم يمعن غيره النظر، ولا أحسن تأويل الأثر، ونظم ابن غازي هذه الأقوال فقال:

بيع الشروط الحنفي حرمه

وجابر سوغ لابن شبرمة

وفصلت لابن أبي ليلى الأمه

ومالك إلى الثلاث قسمة

وحاصل ما للإمام أن ما كان من الشروط من مقتضيات العقد أو من مصلحاته صح فيه البيع والشرط، وما كان منافيا للعقد أو يؤدي إلى الغرر والجهل بالمبيع فسد فيه البيع والشرط، قال الأبي: وكان ابن عرفة يقول: ما لا يفيد مصلحة في البيع ولا يفسد البيع ولا يزاد في الثمن ولا ينقص منه لأجله، فهو الذي يقول فيه أصحابنا: يصح البيع ويبطل الشرط. انتهى كلام بناني. الثالث: قد مر عن عبد الباقي أنه يستثنى من قوله: أو حذف شرط التدبير أي ونحوه أربعة أشياء قد مر ذكرها، قال بناني: أما المسألة الثانية والثالثة فذكرهما ابن رشد وابن عرفة وغيرهما، وأما المسألة الأولى فذكرها في النوادر وفي العتبية، ففي رسم القبلة من سماع ابن القاسم من جامع البيوع: سمعت مالكا يقول: لا أحب أن يبيعه على إن وجد ثمنا قضاه وإن هلك ولا شيء عنده فلا شيء عليه. قال ابن القاسم: فإن وقع هذا الشرط وفات لزم المشتري قيمتها يوم قبضها. قال ابن رشد: هذا الشرط من الشروط التي يفسد بها البيع لأنه غرر فالحكم فيه الفسخ مع قيام السلعة شاءا أو أبيا، ويصح في فواتها بالقيمة بالغة ما بلغت وهو ظاهر قول ابن القاسم وتفسير لقول مالك. انتهى. فيؤخذ من قوله: لأنه غرر، أن المبيع يفسخ وإن حذف الشرط لتصريح ابن رشد في المقدمات بأن كل شرط يؤدي إلى جهل أو غرر فإنه يوجب فسخ البيع على كل حال، ولا خيار لأحد المتبايعين في إمضائه، فإن فاتت السلعة ردت قيمتها بالغة ما بلغت، وبه تعلم أنه لا وجه لاستثناء هذه المسألة هنا لأنها ليست من قسم الشروط المناقضة، بل من الشروط المؤدية إلى غرر أو جهل، وأما المسألة الرابعة وهي مسألة بيع الثنيا فذكرها الحطاب عن الباجي قائلا: المشهور فيها البطلان مطلقا وإن حذف الشرط، فانظره. فتزاد مسألة خامسة يبطل

ص: 322

فيها البيع أيضا وإن حذف الشرط، وهي مسألة شرط النقد في بيع الخيار. قال ابن الحاجب: ولو أسقط شرط النقد لم يصح بخلاف مسقط السلف، وقيل: مثله، قال في التوضيح: والفرق بينهما على المشهور أن الفساد في اشتراط النقد واقع في الماهية لأنه غرر في الثمن؛ إذ المقبوض لا يدرى هل هو ثمن أم لا؟ ومسألة شرط السلف الفساد فيها خارج عن الماهية، ويأتي فيها ما قلناه في المسألة الأولى. انتهى. وقال الرهوني: إن مسألة الخيار إلى أمد بعيد ليست من مسائل التحجير فلا يصح استثناؤها لأنها من مسائل الغرر.

الرابع: قوله: كبيع وسلف، اعلم أن البيع بشرط السلف مجمع على تحريمه كما قاله الباجي، وقد مر تعليله بأنه يؤدي إلى الجهل في الثمن أو الثمن، والذي علل به كثير من علمائنا المنع أنه يؤدي إلى سلف جر نفعا وعلى هذا فيدعى أن الحكم معلل بعلتين. قاله الشيخ أبو علي. الخامس: قال ابن رشد في مقدماته: ما كان من البيوع محظورا لحق الله تعالى فهو أربعة أقسام: قسم محظور لتعلقه بالمحظور في الشرع، دون أن يطابقه نهي أو يخل فيه بشرط من الشروط المشترطة في صحة البيع، مثل أن يبيع قبل الصلاة في آخر وقتها، بحيث يعلم أنه يفوته جميع الوقت باشتغاله بالبيع، ومثل البيع والشراء في موضع مغصوب وما أشبه ذلك، فهذه البيوع حرام لكنها لا تفسخ باتفاق فاتت أم لا، إلا ما كان علة الحظر فيه باقية ببقاء البيع كشراء النصراني المصحف والمسلم، وشراء الدين على الرجل أراد الإضرار به، فقيل: يفسخ، وقيل: لا، وترتفع العلة ببيع المشترى على المشتري. وقسم هو ما طابقه النهي ولم يخل فيه بشرط من الشروط في صحة البيع مثل البيع في نداء وقت الجمعة، وبيع حاضر لباد، وبيع الرجل على بيع أخيه، وبيع التلقي، وبيع التفرقة، وما أشبه هذا من البيوع فهذه اختلف فيها فمن رأى أن النهي يدل على الفساد فسخها مطلقا، لكن إذا فاتت يرجع كقيمتها

(1)

ورد قيمتها كرد عينها، وقيل فيها غير هذا، وقسم ثالث: وهو ما أخل فيه بشرط فإنه يفسخ على كل حال ولا خيار فيه لأحد المتبايعين، وترد إن كانت قائمة أو قيمتها يوم القبض إن فاتت وذلك كجهل الثمن أو المثمون،

(1)

كذا في الأصل، ولعله: بقيمتها.

ص: 323

ووجود الربا إلى غير ذلك، وقسم رابع: وهو بيوع الشروط مثل أن يبيع الرجل السلعة على أن لا يبيع لخ، ثم قال: وإذا وقع هذا القسم فإنها تفسخ ما دام متمسكا ذو الشرط بشرطه، فإن تركه صحت ففيها الأكثر من الثمن والقيمة، وقيل: فيها عند الفوات مقدار ما نقص من الثمن بسبب الشرط ولا نظر للقيمة كانت أقل أو أكثر، وقيل: هذا القسم يفسخ كغيره كما في القسم الثالث، ومر ما استثناه من هذا القسم الرابع. قاله الشيخ أبو علي. والفرق بين من باع سلعة وخمرا مثلا يفسد البيع ولو أسقط الخمر، وبين البيع والسلف يصح البيع إذا أسقط الشرط، أن البيع والسلف أصلان كل واحد لو انفرد لجاز، والخمر لو انفردت لم تجز، وأن الفساد في مسألة الخمر راجع إلى ماهية البيع لفساد المعقود عليه، وفي البيع والسلف خارج. قول ابن رشد: لا تفسخ باتفاق لخ، انظره مع ما في التتائي من أن من أخر صلاته حتى لم يبق من وقتها الضروري إلا مقدار ما يوقعها فيه فباع في ذلك الوقت، فقال القاضي إسماعيل: يفسخ، وهو اختيار أبي عمران؛ وقال ابن سحنون: لا يفسخ. انتهى. وألحق الغرناطي بالبيع يوم الجمعة البيع وقت الفتنة في حق من طلب منه الخروج.

السادس: قد مر قول المص: كشرط رهن وحميل وأجل، قال الحطاب بعد جلب كلام: فتحصل من هذا جوازه يعني تأجيل البيع إلى عشرة أعوام وما أشبهها، وفي جوازه إلى العشرين وكراهته دون فسخ قولها مع اختيار أصبغ، وقول ابن القاسم: ويفسخ إلى الستين والسبعين، وفي الثلاثين توقف ابن القاسم، وقياس أصبغ عدم الفسخ. أبو الحسن: ظاهر الكتاب في قوله: عشرين سنة وإن كان البائع من أبناء الستين والسبعين. قالوا: معناه إذا كان البائع من أبناء أربعين سنة فأقل، ولو كان من أبناء ستين لم يجز أن يبيع إلى عشرين لأنه لا ينتفع بالثمن، قال الحطاب: وقال المشدالي: وصرح ابن رشد في سماع أصبغ باعتبار صغر البائع وكبره عن التونسي، كما قيده هنا المغربي، وضابطه أن يبيع إلى أجل لا يعيش إليه غالبا. ابن رشد عن التونسي: وعللوا المنع في البيع إلى الأجل البعيد بالغرر. انتهى.

ولو غاب يعني أنه إذا أسقط شرط السلف قبل الفوات فإن البيع يصح ولو غاب المتسلف على السلف غيبة يمكنه الانتفاع به فهو مبالغة في قوله: وصح إن حذف، ولو ذكره عنده كان أولى.

ص: 324

قاله غير واحد. وتؤولت بخلافه يعني أن المدونة تؤولت على خلاف ذلك، وهو أن البيع يفسخ حيث غاب المتسلف على السلف غيبة يمكنه الانتفاع به. قال عبد الباقي: وتأولت بخلافه وهو نقض البيع مع الغيبة على السلف ولو أسقط شرط السلف لتمام الربا بينهما، وهذا ضعيف والراجح الأول. انتهى. قوله: وهذا ضعيف والراجح الأول، نحوه قول التتائي: إن الأول هو المشهور، وقول ابن القاسم: وتأول الأكثر عليه المدونة وهو تبع الشارح وأصله في التوضيح فإنه قال. وصرح ابن عبد السلام بمشهوريته. قال مصطفى: وفيه نظر؛ لأن ابن عبد السلام صرح بمشهورية إسقاط السلف في غير الغيبة، وأما مع الغيبة فذكر الخلاف ولم يصرح بمشهور وإنما نسب الصحة لأصبغ فقط، فإنه لما عزا عدم الصحة لسحنون وابن حبيب ويحيى عن ابن القاسم قال: وخالف أصبغ ورأى أن الغيبة على السلف لا تمنع تخيير المشترط. انتهى. وكذا فعل عياض ثم قال وذهب أكثر الشيوخ إلى أن قول سحنون وفاق للكتاب وبعضهم يجعله خلافا. انتهى. قال مصطفى: فانظر كيف عزا للأكثر خلاف ما عزا له المؤلف ومن تبعه؟ وإذا علمت ما تقدم ظهر لك أن المعتمد عدم الصحة في الغيبة. قاله بناني. وقال الرهوني: وتؤولت بخلافه، على هذا التأويل اقتصر ابن يونس، وهو يشهد لما قاله مصطفى من أنه الراجح.

وفيه إن فات أكثر الثمن والقيمة إن أسلف المشتري يعني أنه إذا فات المبيع وكان المشتري قد أسلف البائع فإن المشتري عليه الأكثر من الثمن والقيمة يدفعه للبائع ولو أسقط الشرط؛ لأن إسقاط الشرط مع الفوات لا يوجب الصحة، مثال ذلك: ما إذا اشتراها بعشرين وأسلف البائع وفاتت السلعة وقيمتها ثلاثون فعلى المشتري القيمة، ولو كانت قيمة السلعة عشرة واشتراها بخمسة عشر لكان على المشتري خمسة عشر؛ لأن المشتري لما أسلف أخذ السلعة بنقص فعومل بنقيض مقصوده، وقوله: والقيمة أي يوم القبض.

وإلا بأن كان السلف هو البائع فالعكس؛ أي فعلى المشتري الأقل من الثمن والقيمة؛ لأنه أي البائع أسلف ليزداد فعومل بنقيض قصده، فيكون له في المثال الأول عشرون وفي الثاني عشرة. والله سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: قال الحطاب: وينبغي أن يقيد هذا أي السلف من البائع

ص: 325

بما إذا لم يغب المشتري على السلف مدة يرى أنها القدر الذي أراد الانتفاع به فيها، فإن وجد ذلك كانت فيه القيمة ما بلغت. انتهى. قوله عن الحطاب: وينبغي أن يقيد لخ، تبع الحطاب في هذا القيد السنهوري والأجهوري ومن بعدهما، وتعقبه مصطفى قائلا: إنه قصور منه إذ هو قول في المسألة مقابل لما درج عليه المص كما في ابن عرفة، وكأنه لم يقف عليه، ونصه: وفي إيجاب الغيبة على السلف لزوم فسخه والقيمة بالغة ما بلغت في فوته وبقاء تصحيحه في إسقاط الشرط، ثالثها: إن غاب عليه مدة أجله أو قدر ما يرى أنه أسلفه إليه، للباجي مع غير واحد عن سحنون مع ابن حبيب. وعن أصبغ، وتفسير ابن رشد قول ابن القاسم. انتهى. فتأمله انتهى. قاله بناني. وتعقب الرهوني كلام مصطفى وصوب ما قاله الحطاب؛ وقال: إنه لا خصوصية للسلف من البائع بذلك التقييد. والله سبحانه أعلم. وقوله: وفيه إن فات، قد علمت أنه في المبيع على شرط السلف، وأما المبيع على شرط يناقض ففيه مع الفوات الأكثر من الثمن والقيمة يوم القبض، وهذا حيث لم يسقط الشرط أو أسقط بعد الفوات، ولو أسقط قبل الفوات صح البيع كما قال المص، وقيل: إن فيه عند الفوات قدر ما نقص من الثمن بسبب الشرط كما مر، ثم إن كلام المص يشعر بأن هذا في المقوم، وأما المثلي فإنما فيه مثله لأنه كعينه فلا كلام لواحد منهما بمثابة ما إذا كان قائما ورد عينه. وكالنجش يعني أن من المنهي عنه بيع النجش. قال أبو علي: أي ومن البياعات المنهي عنها بيع النجش، وقال المواق في الموطإ: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش

(1)

)، وقال عبد الباقي: وكالنجش أي بيعه لأن هذا من جملة البياعات المنهي عنها، والنهي يتعلق بالبائع أيضا حيث علم بنجش الناجش، وإن لم يعلم به تعلق بالناجش فقط. انتهى. والناجش قال مالك: هو الذي يزيد في السلعة ولا يريد شراءها ليغر بذلك غيره فيقتدي به، كذا فسره في الموطإ، ومعناه كما علمت يزيد في السلعة سواء كان قدر ثمنها المعتاد أو أقل أو أكثر، وتفسير المازري هو تفسير مالك، وقَوْلُ عبد الباقي: ليغر، لم تقع في الموطإ ولا في المازري. نقل الرهوني عن أحمد بابا ما يخالفه، فإنه قال: إن ابن يونس نقل عن الموطإ أن

(1)

الموطأ، ج 2 ص 432.

ص: 326

النجش هو أن يزيد في السلعة لا يريد شراءها ليغتر به غيره، ذكره آخر التجارة لأرض الحرب، ونحوه في الواضحة لابن حبيب على ما نقل سيدي أحمد بن سعيد. انتهى. قال الرهوني: قلت: وما نسبه لابن يونس بالمحل المذكور هو كذلك فيه، ونصه: ومن الموطإ قال مالك: نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع النجش وهو أن يزيد الرجل في السلعة وهو لا يريد شراءها ليغتر به غيره. انتهى كلام الرهوني. وفي المواق: قال مالك: وهو يعني النجش أن يزيد الرجل في السلعة وهو لا يريد شراءها ليغتر به غيره. انتهى. وقال ابن العربي: لو بلغ الناجش قيمتها ورفع الغبن عن صاحبها لكان مأجورا ولا خيار للمبتاع، ففي المسألة قولان، قول مالك وقول ابن العربي؛ لأن معنى قول مالك أن يعطيه في سلعة أكثر من ثمنها، المراد بالثمن القدر الذي بلغته في النداء لا القيمة. والله سبحانه أعلم. وقوله: وكالنجش، قال في الصباح: نجش الرجل نجشا من باب قتل إذا زاد في السلعة أكثر من ثمنها وليس قصده أن يشتريها بل يغر غيره فيوقعه فيها، وكذلك في النكاح وغيره، والاسم النجش بفتحتين والفاعل ناجش ونجاش مبالغة، ولا تناجشوا أي لا تفعلوا ذلك. وفي المنتقى: وقال أهل اللغة: إن أصل النجش الإثارة للشيء ولهذا يقال للصائد: ناجش لما كان يثير المصيد فكأن الزائد في السلعة يثير غيره من المشترين للزيادة فيها ويريهم الحرص عليها. انتهى. ومثله للمتيطي والله أعلم. قاله الرهوني: وقال في الصباح: والنجاشي ملك الحبشة مثقل عند الأكثر، واسمه أصحمة. انتهى. وقوله: مثقل أي ياؤه مشددة، وانظره مع ما في القاموس والنجاشي بتشديد الياء وتخفيفها أفصح وتكسر نونه، قوله: أو هوأفصح أصمحة ملك الحبشة

(1)

). انتهى.

فإن علم فللمشتري رده؛ يعني أنه إذا علم البائع بنجش الناجش ولم ينكره ولم يزجره فإن للمشتري أن يرد المبيع مطلقا، لكن إن كان قائما رد ذاته وله أن يتماسك بالمبيع ويترك الثمن للبائع، وإن فات فإن شاء أخذ ثمنه وعليه القيمة؛ أي قيمة المبيع يوم القبض يدفعها للبائع وإن

(1)

لفظ القاموس: والنجاشي بتشديد الياء وبتخفيفها أفصح وتكسر نونها أو هو أفصح أصحمة ملك الحبشة.

ص: 327

شاء أمضى البيع فلا يدفع للبائع القيمة. وقوله: فالقيمة ما لم تكن أقل من الثمن الذي اشتراها به قبل النجش، قال ابن عبد السلام: عليه القيمة ما لم تنقص عن ثمن المبيع قبل زيادة الناجش إن كان هناك مُزايدٌ. ابن عرفة: إن أرادوا الثمن الكائن قبل النجش كان من المشتري فحسن، وإلا فلا إذ لا يلزم أحدا ما التزمه غيره. انتهى. قال الرهوني: قيد ابن عبد السلام لزوم القيمة بما إذا لم تنقص عن الثمن المذكور، فإن نقصت لزمه ذلك الثمن لا القيمة، مثال ذلك أن يعطي فيها عشرة مثلا ثم زاد فيها شخص ليغر غيره، فبيعت لذلك بخمسة عشر مثلا، وفاتت السلعة بيد مشتريها فخير فاختار دفع القيمة، فقومت بثمانية مثلا فإنه يلزمه دفع العشرة مثلا عند ابن عبد السلام: وظاهر كلامه سواء كان هو الذي أعطى العشرة أوَّلًا أو غيره، وسلم كلامه ابن عرفة في الصورة الأولى دون الثانية. قال الرهوني: وفي كلام ابن عرفة نظر؛ لأن التزامه للعشرة قد سقط بإباية البائع من بيع سلعته، ولو سلمنا ذلك تسليما جدليا لا نسلم أنه لم يلتزم العشرة في الصورة الثانية. بل قد التزمها لأن التزام خمسة عشر مثلا التزام لجميع أجزائها التي تركب منها ومنها العشرة، فيسقط عنه ما وقع به النجش لأنه التزمه على أن الغير أعطاه على صفة فتبين خلافها، وبقي ما عداه على الأصل لانتفاء علة السقوط فالحق ما قاله ابن عبد السلام في الصورتين، ووجهه ظاهر دون مين. والله أعلم. انتهى.

وجاز سؤال البعض ليكف عن الزيادة؛ يعني أنه يجوز لحاضر سوم سلعة يريد شراءها أن يسأل بعض الحاضرين للسوم أن يكف عن الزيادة فيها ليشتريها السائل برخص. لا الجميع يعني أنه لا يجوز له أن يسأل جميع الحاضرين أن يكفوا عن الزيادة، وإنما له سؤال البعض، قال الخرشي: وليس له سؤال الجميع أو الأكثر أو الواحد الذي كالجماعة لكونه يُقتدَى به كالجميع، وقال عبد الباقي: لا الجميع ولو حكما فإن وقع وثبت ببينة أو إقرار خير البائع في قيام السلعة بين ردها وعدمه: فإن فاتت فله الأكثر من الثمن والقيمة. انتهى. وإن أمضى البائع البيع فلا يجبر الحاضرون المشتري على الشركة، كما لا يجبرهم هو لأنهم قد سلموا له لما سألهم ورضي هو بالشراء وحده، فلا يجبر واحد منهم على الشركة بحال. قاله بناني. فإن قال: كف عني ولك دينار جاز ولزمه الدينار اشترى أو لم يشترت قال ابن غازي: كان ابن هلال يستشكل قول ابن

ص: 328

رشد في جواز المعاوضة على ترك الزيادة في سلعة المزايدة، ويقول: هو من أكل أموال الناس بالباطل، ولاسيما إذا لم يبعها ربها، وقال العبدوسي: لا إشكال فيه لأنه عوض على ترك وقد ترك. انتهى. ابن رشد: ولو قال: كف عني ولك بعضها على وجه الشركة جاز، وإن كان على وجه العطاء مجانا لم يجز؛ لأنه أعطاه على الكف ما لا يملك، وقوله: لا الجميع، قال المواق: سمع القرينان: القوم الذين يجتمعون في البيع يقولون: لا تزيد علي كذا أو كذا فقال: لا والله ما هذا بحسن. ابن رشد: هذا بين لأن تواطئهم على ذلك إفساد على البائع وإضرار به. انتهى. وكبيع حاضر لعمودي؛ يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحاضر للبادي، قال المواق: البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبع حاضر لباد

(1)

) الباجي: البادي على قسمين أهل عمود وأهل منازل واستيطان، ولا خلاف أن أهل العمود مرادون بالحديث، وقال عبد الباقي: ودليل النهي في مسألة المص خبر مسلم: (لا يبع حاضر لباد)، ولفظ البخاري (لا يبيع) بإثبات التحتية بعد الموحدة. قال السيوطي: وللكشميهني: لا يبع، فالأول من تصرف الرواة أو خبر بمعنى النهي. انتهى. أي لا يكون سمسارا له في سلعته التي قدم بها. هذا هو المراد، لا نهي الحاضر عن البيع للبادي شيئا من السلع التي للحاضر لعموم:{وأحل الله البيع} . ولا يشير عليه ولا يخبره بالسعر، ودليل النهي أيضا ما في الشارح عنه عليه الصلاة والسلام (دع الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض)

(2)

قال الأجهوري: في غفلاتهم، مدرج ليس من الحديث، وكذا في ابن هارون وحلولو ومن حديث مسلم ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض انتهى. وفي قوله: مدرج، مسامحة لقول الألفية:

والمدرج الملحق آخر الخبر

من قول راوٍ مَّا بلا فصل ظهر

(1)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2158. مسلم، المساقاة، رقم الحديث 1520.

(2)

مسلم، رقم الحديث 1522 بدون غفلاتهم.

ص: 329

وفي غفلاتهم ليس آخر الخبر وليس من قول راوٍ أصلا، كما يفيده قول ابن حجر الهيثمي: وقع لبعضهم أنه زاد في غفلاتهم كما هنا ونسبه لمسلم وهو غلط؛ إذ لا وجود لهذه الزيادة في مسلم، بل ولا في كتب الحديث، كما قضى به سبر ما بأيدي الناس. انتهى. قاله عبد الباقي قوله: أي لا يكون له سمسارا لخ، المراد بالسمسار هنا هو المتولي للعقد كالسماسرة الجالسين في الحوانيت، وليس من بيع الحاضر للبادي بيع الدلال اليوم لأن الدلال إنما هو لإشهار السلعة فقط، والعقد عليها إنما هو لربها، وبيع الحاضر إنما هو أن يتولى الحاضر العقد أو يقف مع رب السلعة يزهده في البيع ويعلمه أن السلعة لم تبلغ الثمن ونحو ذلك، والدلال على العكس لأن له رغبة في البيع. قاله الأبي. والسنوسي في شرح مسلم، وهو ظاهر، ولا نقله الحطاب: قال ما نصه: وانظر هذا الذي ذكره مع قوله في الحديث (لا تكن له سمسارا) انتهى. وإذا علمت أن المراد بالسمسار في الحديث هو متولي العقد كالجالس في الحوانيت انتفت المعارضة. قاله مصطفى في أجوبته. قاله بناني. وقال عبد الباقي: فلا يمنع بيع حاضر لعمودي سلع عمودي، وقوله: وكبيع حاضر لعمودي، قد علم من تقريره أنه يمنع بيع الحاضر للحاضر سلع عمودي سواء كانت لها ثمن عنده أو لا، نالها بثمن أم لا، كان البادي يعرف الثمن بالحاضرة أم لا، وقيد عبد الباقي ذلك بأن تكون لا ثمن لها، وقيده أيضا بأن يجهل العمودي السعر، أما التقييد بجهل العمودي السعر فقال فيه الرهوني: قول عبد الباقي: إنه لا يمنع بيع حاضر لحاضر سلع عمودي يعرف سعرها بحاضرة غير صحيح؛ لأن كلام ابن رشد الذي في المواق وكلام الباجي الذي نقله بناني كل منهما صريح في رده. انتهى. وأما التقييد بكونها لا ثمن لها عنده فقال بناني: قول عبد الباقي: ولا ثمن لها عنده لخ، هذا القيد ذكره الأبي في شرح مسلم عن أبي عمر بن عبد البر واعتمده السنهوري والأجهوري، ولم يذكره ابن عرفة ولا ابن عبد السلام، ولا المص في التوضيح، ولا الشارح في شروحه الثلاثة ولا شامله، ولا صاحب الجواهر، ولا غيرهم ممن وقفت عليه، وإطباقهم على تركه دليل على عدم اعتماده، ويدل على ذلك ذكرهم الخلاف في بيع البادي للبادي. قاله مصطفى. قلت: كلام الباجي في المنتقى ظاهر في عدم اعتبار الشرط المذكور، ونصه:

ص: 330

الأصل في النهي عن ذلك الحديث، ومن جهة المعنى أنهم لا يعرفون الأسعار، فيوشك إذا تناولوا البيع لأنفسهم استرخص ما يبيعون لأن ما يبيعون أكثره لا رأس مال لهم فيه لأنهم لم يشتروه، وإنما صار لهم بالاستغلال فكان الرفق بمن يشتريه أولى، مع أن أهل الحواضر أكثر أهل الإسلام، وهي مواضع الأئمة فيلزم الاحتياط لها والرفق بمن يسكنها. انتهى.

فقوله: أكثره لا رأس مال لهم فيه، ظاهر في عدم اعتبار الشرط المذكور، بل هو صريح في الإطلاق. وقال الباجي أيضا بعدما تقدم: ينقسم الأمر إلى ثلاثة أقسام: البدوي لا يباع له سواء عرف السعر أو لم يعرفه، والقروي إن كان يعرف الأسعار فلا بأس أن يباع له وإن كان لا يعرفها لم يبع له. انتهى. وهو أيضا صريح في عدم اشتراط جهل البدوي بالسعر، ومثله في نقل المواق عن ابن رشد. والله سبحانه أعلم. وقال المواق: قال مالك: أهل العمود لا يباع لهم ولا يشار عليهم. ابن رشد: لم يختلف أهل العلم أن النهي عن أن يبيع حاضر لباد إنما هو لإرادة نفع الحاضرة ليصيبوا من أهل البادية.

قال مالك: ولم يرد بالنهي أهل القرى الذين يعرفون الأثمان والأسواق، ولا بأس به وأرجو أن يكون خفيفا، وأما أهل القرى الذين يشبهون أهل البادية فلا يباع لهم ولا يشار عليهم، وإن كانوا أيام الربيع في القرى ومن بعد ذلك في الصحراء على الميلين من القرية وهم عالمون بالسعر فلا يباع لهم، فجعلهم ثلاثة أقسام: البدوي لا يباع له عرف السر أو لم يعرفه، والقروي إن عرف الأسعار فلا بأس أن يباع له، وإن لم يعرفها لم يبع له. انتهى باقتصار. والله سبحانه الموفق. ولو بإرساله له؛ يعني أنه يمنع بيع الحاضر سلع العمودي للحاضر، ولا فرق في ذلك بين أن يبعث بها العمودي إلى الحاضر ليبيعها للحاضر وبين أن لا يبعث بها إليه. قال المواق: قال الباجي عن ابن حبيب: لا يبعث البدوي إلى الحضري بمتاع ليبيعه له. ابن يونس: ورواه أبو محمد. أبو عمر: ورواه أبو قرة. انتهى. وقال أبو علي: أي ومن البياعات المنهي عنها بيع الحاضر للبادي، وليس ذلك خاصا بما إذا توجه العمودي بمتاعه إلى الحضري، بل ينزل منزلة

ص: 331

ذلك ما إذا وجه العمودي متاعه مع رسوله إلى الحضري ليبيعه له، والضمير في إرساله للعمودي، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، والضمير في له للحاضر، وقوله: ولو بإرساله له، قال الخرشي: حكاه الباجي عن مالك وابن القاسم وهو المعروف، ويفسخ إن وقع، وعن الأبهري جواز البيع في هذه الصورة لأنها أمانة اضطر إليها. انتهى.

وهل لقروي؛ يعني أنه اختلف هل النهي مخصوص بالعمودي لا يتعداه لأهل القرى التي لا يفارقها أهلها أو متناول للعمودي وللقروي في ذلك قولان لمالك، قال عبد الباقي: محلهما حيث جهل القروي السعر وإلا جاز قطعا، وخرج بالقروي المدني فيجوز بيعه له على أحد قولين والآخر كالقروي وهما متساويان أيضا، ولم يذكرهما المص إما لأنه لا يلزمه ذكر كل مسألة فيها قولان، وإما لأنه ظهر له ترجيح الجواز. انتهى. وقال أبو علي: وهل لقرويٍّ قولان؛ يعني وهل ينهى الحاضر عن البيع للقروي كما ينهى عن المبيع للعمودي؟ فيه قولان. ابن رشد: واختلف في أهل الأمصار والقرى الصغار هل يتناولهم النهي أم لا؟ على ثلاثة أقوال، فلمالك في الموازية: أنه يتناولهم، وروى عنه أبو قرة أنه لا يتناولهم، وعنه أنه يتناول أهل القرى الصغار دون الأمصار. انتهى. وسمع ابن القاسم: يكره للحضري يسأله البدوي عن السعر أن يخبره به. ابن رشد: لما فيه من الإضرار بأهل الحاضرة في قطع المرفق ولا اختلاف فيه فيما أعلم في مذهب مالك. انتهى. وقال ابن يونس: قال ابن المواز: قال مالك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يبع حاضر لباد: هم الأعراب أهل العمود ومن كان من أهل القرى الذين يُسَمَّوْنَ أهل البادية لا يباع لهم ولا يشار عليهم. قال في الواضحة: ولم يرد بذلك أهل القرى الذين يعرفون الأثمان والأسواق. ابن المواز: قيل لمالك: فإن كانوا أيام الربيع في القرى ومن بعد ذلك في الصحراء على الميلين من القرية وهم عالمون بالسعر؟ قال: لا يباع لهم. قال أصبغ: وهو بيع حرام. وقيل: إن البادي كل طارئ على بلد وإن كان من أهل الحضر، وهذا هو الذي مر من منع بيع الحضري للمدني سلع العمودي. والله سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: وانظر حكم المشترك بين حاضر وباد هل يقسم

ص: 332

حيث يمكن قسمة ويجري كل على حكمه أو يصبر الحاضر حتى يبيع البادي حصته أم كيف الحال.

وفسخ؛ يعني أن بيع الحاضر للبادي يفسخ إن لم يفت بمفوت البيع الفاسد وإلا مضى بالثمن، وقيل بالقيمة. قاله التتائي. قاله عبد الباقي. وقال المواق عن الباجي: روى ابن حبيب: إن وقع بيع الحاضر فسخ. ابن رشد: اختلف في ذلك قول ابن القاسم. وقوله: وفسخ، رد به ما ذكره أبو عمر في كافيه، فإنه قال: والذي أراه إمضاء البيع وأن لا يفسخ إلى آخر كلامه.

وأدب يعني أنه إذا وقع بيع الحاضر للبادي فإنه يفسخ البيع كما عرفت ويؤدب كل من الحاضر والمالك والمشتري حيث علم، ولا أدب على الجاهل منهم، وقوله: وأدب وهل إن اعتاده؟ قولان، والقول بالأدب مطلقا هو الظاهر لقوله فيما يأتي: وعزر الإمام لمعصية الله تعالى، أو لحق آدمي. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وأدب كل من الحاضر والمالك والمشتري إن لم يعذر بجهل؟ وهل وإن لم يعتده وهو ظاهر قوله: وعزر الإمام لمعصية الله أو لحق آدمي، أو إن اعتاده وإلا زجر قولان. انتهى. وقال المواق عن ابن عرفة في وجوب تأديب فاعله إن لم يعذر بجهل مطلقا أو إن اعتاده قولان، الأول قول ابن القاسم، والثاني لابن وهب قائلا: يزجر. وجاز الشراء له، هذا مفهوم قوله: وكبيع حاضر لعمودي فهو باق على عمومه، وهذا خاص بالنقد إذ هو الشراء عرفا عند الفقهاء؛ يعني أنه يجوز للحضري أن يشتري من الحضري للبادي بالنقد. قال بناني: وهذا هو الظاهر من كلام الأئمة. انتهى. وقال المواق عن الباجي: أما الشراء للبدوي، فقال مالك: لا بأس به بخلاف البيع. وقال ابن حبيب: لا يشتري له، ورواه أبو عمر عن مالك. وقاله ابن الماجشون. وكتلقي السلع؛ يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن تلقي السلع

(1)

). قال الحطاب: قال ابن رشد في رسم حلف من سماع ابن القاسم: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي السلع)

(2)

حتى يهبط بها إلى السوق، فلا يجوز للرجل أن يخرج من الحاضرة إلى

(1)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2165. مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث 1517.

(2)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2165. مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث 1517.

ص: 333

الجلائب التي تساق إليها فيشتري منها ضحايا، ولا ما يوكل ولا للتجارة. انتهى. وقال المواق عن البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الركبان

(1)

)، وفي مسلم: (لا تلقوا الجُلَّبَ

(2)

). أبو عمر: ووهب مالك أن هذا رفق بأهل الأسواق، وقال الشافعي: إنما هذا رفق بصاحب السلعة، وقد ورد بهذا خبر صحيح يجب العمل به خرجه أبو داوود (نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صاحب السلعة بالخيار إذا وردت السوق

(3)

). وقال أبو علي: أي ومن المنهي عنه تلقي الركبان للبيع، واختلف هل هذا على التحريم؟ وهو ظاهر المذهب أو على الكراهة وإليه نحا ابن الجهم، واختلف في الحد المنهي عنه فقيل: الميل، وقيل: الفرسخان، وقيل: اليومان، وقال الباجي: يمنع قرب أو بعد. وقال عبد الباقي: وكتلقي السلع أي مع صاحبها قبل هبوطه البلد لخبر البخاري عن [ابن]

(4)

عمر (كنا نتلقى الركبان نشتري منهم الطعام فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم

(5)

فالطعام خصوص فرض والنهي عام كما يدل عليه خبر مسلم: لا تلقوا الجلب، ونسب المص التلقي للسلع كما في الخبر الأول، والجلب كما في الثاني لأن المقصود من تلقيهم تلقيها. انتهى. قال مقيده عفا الله عنه. يقال على هذا: إنه عبر بتلقي السلع للحديث الأول الذي في الحطاب. قال عبد الباقي بعد قوله: لأن المقصود من تلقيهم تلقيها، وأيضا عدل عن لفظه ليبين الوجهين الذين ذكرهما بقوله:

أو صاحبهما، يعني أنه يمنع تلقي صاحب السلع قبل هبوطه ليشتري منه ما وصل قبله أو يصل بعده قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: والمعنى أنه نهى عن تلقي السلع الواردة لبلد مع صاحبها قبل وصول سوقها، أو البلد إن لم يكن لها سوق، أو تلقي صاحبها بعد أن وصلت السلعة ولم يصل صاحبها فتلقاه رجل فاشترى منه قبل وصوله. انتهى. وقال المواق: الباجي: لو وصلت

(1)

البخاري، باب النهى عن تلقى الركبان.

(2)

مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث 1519.

(3)

أبو داود، أبواب الاجارة، رقم الحديث 3437.

(4)

في الأصل أبي والمثبت من عبد الباقي ج 3 ص 92.

(5)

البخاري، كتات البيوع، رقم الحديث 2166.

ص: 334

السلعة السوق ولم يصل بائعها فتلقاه رجل واشتراها منه فلم أو فيه نصا وهو عندي من التلقي الممنوع. انتهى.

كأخذها في البلد بصفة؛ يعني أنه لو ورد خبر السلعة فاشتراها شخص على الصفة فهو من التلقي. قال عبد الباقي: كأخذها في البلد أي شرائها من صاحبها المقيم أو الذي قدم قبل وصول السلع له أو لسوقها إن كان لها سوق بصفة فيمنع ولو لقوته، فإن لم يكن لها سوق جاز -ولو قبل مرورها على بيته- شراؤها ولو للتجارة بعد هبوطها البلد، وهو من أهل البلد في جميع ذلك، ولا يخرج لها في ذلك كله. وقوله: كتلقي السلع، قال عبد الباقي: واختلف هل النهي عن التلقي تعبد أو معقول المعنى؟ وعليه فهل الحق لأهل البلد؟ وهو لمالك أو للجالب وهو للشافعي، أو لهما وهو لابن العربي، وقي حد التلقي المنهي عنه الذي إذا زيد عليه في البعد لا يتناوله النهي ثلاثة أقوال: ميل، وفرسخان، ويومان، وللباجي رابع وهو منع التلقي قرب أو بعد، وهذا ظاهر المص؛ هذا كله فيمن منزلة في البلد. انتهى.

ولا يفسخ يعني أن هذا الشراء المذكور من قوله: كتلقي السلع، إلى ما هنا، لا يفسخ بل البيع فيه صحيح وإن كان منهيا عنه، قال الحطاب: هذا هو المشهور، وقيل: يفسخ، وفي الشامل: وينهى عن ذلك فإن عاد أدب، وفيه أيضا: وعلى الإمضاء فهل يختص بها أو يعرضها على طالبها فيشاركه فيها من شاء منهم وشهر؟ روايتان. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: ولا يفسخ البيع بل صحيح وحينئذ فيضمن المشتري المبيع بالعقد، وهل يختص بها وشهره المازري؟ أو يعرضها على طالبيها [فيشاركه]

(1)

، فيها من شاء منهم وشهره عياض، روايتان. ولم يذكر المص في هذه أنه يودب، ولابن المواز روى ابن القاسم عن مالك: ينهى عنه، فإذا عاد أدب وهو يقتضي أنه لا أدب عليه في فعل ذلك ابتداء ولو عالما بحرمته، وهو يخالف قول المص فيما يأتي "وعزر الإمام لمعصية الله أو لحق آدمي" وأشعر قوله: تلقي السلع أن الخروج للبساتين لشراء ثمر الحوائط ونحوها التي يلحق أربابها الضرر بتفريق بيعها ليس من التلقي سواء الطعام وغيره وهو

(1)

في الأصل فيشاركها والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 92.

ص: 335

كذلك، فقد روى ابن القاسم عن مالك: لا بأس به، وقال أشهب: وكذا شراء الطعام وغيره من السفن بالساحل إلا أن يأتي من ذلك ضرر وفساد بكاحتكار. قال المواق: الذي يظهر الجواز في تلقي كراء الدواب والخدم من غير الموقف المعتاد. انتهى. وكلام المواق هو قوله بعد جلب نقل عن ابن رشد وأبي عمر: كل ذلك يرشح أن يذهب إنسان إلى دار آخر يكتري منه دابته أو خادمه. انتهى المراد منه. وانظر شراء الخبز من الفرن وتلقي جمال السقائين من البحر، وعلى ما لابن سراج ليس هذا من التلقي إذ الماء لا سوق له. انتهى. ويأتي ما لابن سراج في القولة الآتية أي قول المص: وجاز لمن لخ، وقال المواق: روى محمد: ما أرسي بالساحل من السفن فلا بأس بأن يشتري منهم الطعام وغيره فيبيعه، إلا أن يقصد الضرر فلا يصلح لأنه من باب الاحتكار. الباجي: لأنه منتهى سفر الوارد.

(وجاز لمن على كستة أميال أخذ محتاج إليه) يعني أنه يجوز لمن منزلة أو قريته على كستة أميال ونحوها من البعد من البلد المجلوب لها السلعة أن يأخذ ما يحتاج إليه لقوته لا للتجارة، بل في المواق: واعتمده الأجهوري أن له الأخذ للتجارة ولو لما له سوق حيث كان على مسافة زائدة على ما يمنع تلقي البلدي منه، فإن كان خارج البلد لكنه فيما يمنع التلقي منه أخذ مما له سوق لقوته لا للتجارة، ومما لا سوق له ولو للتجارة. قاله عبد الباقي. ومفهوم قوله: على كستة أن من كان على دون ستة ليس حكمه كذلك وهو كذلك، وحكمه أنه لا يجوز له الشراء المذكور، وأما من على أكثر من كستة إلى يومين فكذلك بلا نزاع، وهذا الثاني يفهم من إدخال الكاف على ستة، وأما من كان على أكثر من يومين فجائز له الشراء ولو للتجارة، وما ذكره المص لا يخالف ما مر في حد التلقي المنهي عنه. قيل: ميل، وقيل: فرسخان، وقيل: يومان، وقيل: يمنع التلقي قرب أو بعد وهو ظاهر كلام المؤلف؛ لأن هذا أي كلام المؤلف في الذي منزلة أو قريته خارج عن البلد التي تجلب إليها السلع ومرت به السلعة، وأخذ منها ما يحتاج إليه لقوته فقط، وهذه الأقوال فيمن يخرج من البلد التي تجلب إليها للتلقي. قاله الخرشي عن الأجهوري. والفرق بين من بالبلد ومن هو خارج عنه المشقة التي تلحق من هو خارج عنه في ذهابه لسوق المدينة ولا كذلك من هو بالمدينة. نقله أبو علي. ولابن سراج: أنه يمنع الأخذ مطلقا لمن منزلة بالبلد وللسلعة سوق قبل

ص: 336

هبوطها لسوقها، ويجوز مطلقا لمن منزلة بالبلد ولا سوق لها إذا وصلت للبلد ولا يخرج لها في الحالتين، ويجوز لمن منزلة خارج البلد وللسلعة سوق أن يأخذ لقوته لا للتجارة، وأما إن لم يكن لها سوق فيأخذ لقوته وللتجارة. انتهى. لكن يقيد تفصيله فيمن منزلة خارج البلد بما إذا كان على مسافة يمنع التلقي منها، وإلا فيجوز له الأخذ ولو للتجارة. قال الشبراخيتي بعد هذا: ولا شك في مخالفة هذا لكلام المص لأن قوله: وجاز لمن على كستة أميال لخ، إن حمل على سلعة لها سوق لم يصح لأنه يجوز الشراء لحاجته قرب المحل أو بعد، وإن حمل على سلعة لا سوق لها جاز قرب مكانه أو بعد، سواء كان الشراء لحاجته أو للتجارة. انتهى. قاله بناني. وقال المواق: بقي من البيوع المنهي عنها بيع الرجل على بيع أخيه وهل يفسخ البيع ويؤدب فاعله، قال ابن عرفة: المذهب قَصْرُ هذا المنهي على بيع المساومة لا المزايدة. انتهى. قال الرهوني: وقد ذكر الخلاف في الفسخ الباجي في المنتقى والمتيطي وابن عرفة وغير واحد، وذكر ابن عرفة الخلاف في التأديب هل يؤدب مطلقا أو يقيد؟ ونصه: ففي فسخه ثالثها ما لم يفت لسماع سحنون ورواية ابن حبيب وأبي عمر، وعلى الثاني روى ابن حبيب يعرضها على الأول بالثمن زادت أو نقصت، وسمع سحنون ابن القاسم يؤدب فأطلقه ابن رشد، وقال الباجي: لعله يريد من تكرر ذلك منه بعد الزجر، وعلى العرض روى ابن حبيب: إن أنفق [فيما زادت]

(1)

به غرمه الأول مع الثمن، وإن نقصت لم يحط من الثمن، وقوله: وعلى العرض روى ابن حبيب أي عن مالك ومن لقي من أصحابه كما في المنتقى، وكلام أبي عمر يفيد أن الراجح عدم الفسخ، وظاهر كلام المتقدمين والمتأخرين أنه يحرم السوم بعد المراكنة ولو كانت السلعة لم تبلغ قيمتها أو كان مشتريها كسبه حراما

(2)

)، وخالف في ذلك ابن عرفة، فقال: إنه إذا كان كسب الأول حراما يجوز السوم على سومه، وقال أيضا: إنه إذا لم يبلغ السائم الأول قيمة السلعة جاز السوم على سومه قياسا على جواز ما مر عن ابن العربي في مسألة النجش. انتهى. ومن البيوع المنهي عنها البيع

(1)

في الرهونى ج 5 ص 145: فيها ما زادت لخ.

(2)

في المرهوني ج 5 ص 146: حرام.

ص: 337

عند نداء الجمعة. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسعير لما سئل عنه، وقال: إن الله هو القابض والباسط والمغلي والمرخص وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة ظلمته إياها في عرض ولا مال. وقال ابن رشد: الجلاب لا يسعر عليه اتفاقا وإن كان تسعير لغيره فلا يكون إلا إذا كان الإمام عدلا ورءاه مصلحة بعد جمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء.

وإنما ينتقل ضمن الفاسد بالقبض؛ يعني أن المبيع بيعا فاسدا ضمانه من بائعه ولا ينتقل عنه ضمانه حتى يقبضه المشتري، فإذا قبضه المشتري تعلق ضمانه به. قال عبد الباقي: وإنما ينتقل ضمان المبيع على البت بيعا فاسدا إلى المشتري بالقبض المستمر نقد المشتري الثمن أم لا، كان المبيع يدخل في ضمان المشتري في البيع الصحيح بالعقد أو بالقبض، وما يأتي للمص من قوله: إلا المحبوسة للثمن لخ، المسائل الخمس في البيع الصحيح، وكلام المص في المبيع الذي لم ينه عن بيعه، وأما الميتة والزبل فلا ضمان فيهما على المشتري ولو قبضهما، بل ولو أتلفهما إذ لا قيمة لهما شرعا، ويرجع على البائع بالثمن إن كان قبضه، والكلب المأذون في اتخاذه إذا قبضه المشتري وتلف بغير صنعه كسماوي فإن ضمانه من بائعه على المشهور، وقيل: من المشتري، وسواء هلك قبل نقد الثمن أو بعده، فيرجع بثمنه على البائع. فإن قتله المشتري ضمن قيمته، كإتلافه جلد الميتة. وقولي: على البت، احترازا عن المبيع فاسدا على الخيار فضمانه من بائعه بعد قبض المشتري له لأنه منحل؛ وقولي: المستمر، احتراز عن الأمة البيعة فاسدا المواضعة إذا قبضها المشتري قبل حيضها ولم يقبضها بعد وضعها عند أمينة وبعد حيضها فإن ضمانها من البائع: لأن قبض المشتري لها سابق على المواضعة ليس مستمرا، واحتراز أيضا عن قبض المشتري للسلعة في المفاسد ثم ردها للبائع على وجه الأمانة أو غيرها، كما لو استثنى ركوب دابة وأخذها بعد قبض المشتري لها فاسدا ثم هلكت فالضمان من البائع.

تنبيهات: الأول: قال عبد الباقي: يفهم من قوله: وإنما ينتقل ضمان المفاسد بالقبض، أن من اشترى عبدا آبقا وحصله بجعل فهو على البائع لأنه لا يدخل في ضمان المشتري إلا بالقبض،

ص: 338

فإن فات أسقط الجعل من قيمته. الثاني: قال بناني: لا يتوقف القبض على الحصاد أو جذ الثمرة إن كان المبيع يستحق الحصاد أو الجذ حين البيع، فإن بيع قبل استحقاقهما توقف القبض على حصول الحصاد أو الجذ، ففي ابن يونس ما نصه: في سماع سحنون قال ابن القاسم في الرجل يشتري الزرع بعد ما طاب ويبس بثمن فاسد فتصيبه عاهة فيتلف: فإن ضمانه من مشتريه لأنه قابض له وإن لم يحصده، بخلاف أن لو اشتراه قبل بدو صلاحه على أن يتركه فيصاب بعد ما يبس فمصيبة هذا من بائعه؛ لأنه لم يكن قبض ما اشترى حتى يحصده. انتهى. قوله: لا يتوقف القبض على الحصاد لخ، ما ذكره في هذا التنبيه نحوه في المواق، وقد أتى الزرقاني بهذا بعينه فقها مسلما عند قول المص: وإلا الثمار للجائحة، وسلمه التاودي وبناني هناك وفي ذلك كله نظر، لتصريح ابن عرفة وغيره بأن سماع سحنون هذا خلاف الشهور؛ قال: وإنما يتصور هذا على قول أشهب القائل: إن التمكين كالقبض، وصرح القلشاني أيضا في شرح الرسالة بأن سماع سحنون خلاف المشهور، ونحوه لابن ناجي في شرح المدونة، وما ذكره المص من قوله "وإنما ينتقل ضمان المفاسد بالقبض" هو المشهور، قال ابن عرفة في ضمان المبتاع المبيع فاسدا، ولا توفية فيه بقبض ثمنه كتمكين البائع من قبضه أو بقبضه ثالثها لا يضمنه بحال إن قامت بينة بتلفه بغير سببه، ورابعها: هذا إذا كان متفقا على حرمته. خامسها: يضمنها بالعقد إن كان جزافا ولو كان بأرض بائعه، لأشهب، والمشهور، وسماع أبي زيد، وقول سحنون، وسماعه. انتهى. وقال ابن ناجي في شرح المدونة عند قولها: وكل بيع فاسد فضمان ما يحدث بالسلعة في سوق أو بدن من البائع حتى يقبضها المبتاع. انتهى. ظاهره كان المبيع جزافا أم لا مكنه من القبض أو نقده الثمن أم لا وهو كذلك، وأحد الأقوال الخمسة، وقيل: يضمن المشتري إما بالتمكين أو بدفع الثمن، وقيل: لا يضمنه بحال، أو إن قبضه إن قامت بينة بتلفه من غير سببه. قاله ابن القاسم في سماع أبي زيد. وقيل: مثله إن كان متفقا على حرمته. قاله سحنون، حكاه المازري؛ وقيل: يضمنه بالعقد إن كان جزافا، وإن كان بأرض بائعه، رواه سحنون عن ابن القاسم.

ص: 339

الثالث: البيع الفاسد لا ينقل الملك، فقد قال ابن ناجي في شرح المدونة في كتاب الهبة عند قوله: ومن باع عبده بيعا فاسدا ثم وهبه لرجل قبل تغيره في سوق أو بدن جازت الهبة: المازري: يؤخذ من قولها بعد: إن البيع بينكما مفسوخ أن البيع الفاسد لا ينقل الملك، وفي العتق الأول خلافه، فمن قال لعبد: إن ابتعتك فأنت حر فاشتراه شراء فاسدا فقبضه المشتري، أنه يعتق عليه. انتهى.

الرابع: قال في البيوع الفاسدة: ومن اشترى أمة بيعا فاسدا فولدت عنده ثم مات الولد فذلك فوت وليس له ردها كانت من المرتفعات أم لا لأن القيمة قد وجبت.

الخامس: قال ابن سهل: والبيوع الفاسدة حكم الجاهل فيها حكم العامد في جميع الوجوه.

السادس: البيع الفاسد المجمع على فساده لا يحتاج فسخه إلى الحاكم، واختلف في المختلف فيه على ثلاثة أقوال: هل المعتبر في فسخه فسخ السلطان؟ وهو قول محمد، أو تراضيهما بالفسخ كفسخ السلطان وهو قول أشهب، وظاهر كلام اللخمي في مسألة بيع الثنيا، حكى القولين في المقدمات وغيرها. وحكى ابن عرفة ثالثا وهو الفسخ بمجرد إشهادهما على الفسخ، وعلى القول: إنه يفتقر الفسخ إلى الحاكم لو حَكَّم المتبايعان رجلا فحكم بالفسخ لحل ذلك محل حكم القاضي، ولو غاب أحدهما فإنه يرفع للحاكم ويفسخه، فإن لم يجد حكما ينظر له في ذلك إما لأنه غير مأمون أو غير معتن بذلك فإنه يولي النظر في ذلك لعدول المسلمين.

السابع: قوله: بالقبض، قال أبو علي: ومن المعلوم أن قبض الوكيل كقبض موكله، كما قال ابن رشد وغيره، ولا فرق بين ما يغاب عليه، وما لا يغاب عليه، وقال سحنون: يضمنه ضمان الرهان، وفي المدونة: من باع عبده بيعا فاسدا ثم وهبه لرجل قبل تغيره في سوق أو بدن جازت الهبة، وذكر عنها ابن عرفة ما نصه: من ابتاع جارية بيعا فاسدا فأعتقها قبل أن يقبضها أو كاتبها أو دبرها أو تصدق بها فذلك فوت إن كان له مال. انتهى. وقال أبو علي بعد جلب نقول: وقد تبين من هذا أن عتق المشتري وهبته ماضيان قبل الفوات، وظاهرها قبض ذلك المشتري أو لم يقبضه كما رأيت، وكذا يمضيان من البائع قبل الفوات، وظاهرها خرج عن يده أم لا وقد رأيته أيضا. انتهى.

ص: 340

الثامن: قال اللخمي: اختلف إن كانت السلعة بيد أمين البائع فأقرها المشتري ولم يقبضها هل تبقى على ضمان البائع أو يضمنها المشتري، وكذا لو كانت قبل المبيع عند المشتري ثم اشتراها شراء فاسدا اختلف هل يضمنها المشتري أو تبقى في ضمان البائع لأن الحكم رد ذلك الرضى وهي باقية على حكم الأمانة إلا أن يحدث المشتري فيها حدثا فيضمن قيمتها يوم أحدثه. انتهى. قول اللخمي: وكذا لو كانت قبل البيع إلى آخره هي من قواعد المذهب تَبَدُّلُ النية مع بقاء اليد وفيه خلاف. قاله الشيخ أبو علي. وقال: قال المقري في قواعده: اختلف المالكية في رد البيع الفاسد هل هو نقض له من الأصل أو من حين الرد؟ وعليه فطرة العبد يمضي عليه يوم الفطر عند المشتري وفروعه كثيرة. انتهى. والمذهب أنها على المشتري.

ورد يعني أن المبيع بيعا فاسدا إذا قبضه المشتري فإنه يرد لربه وجوبا إن كان قائما، وفي المعيار: سئل أبو العباس عن المتبايعين إذا عثرا على فساد وهما بالمجلس والسلعة قائمة هل يجوز تراضيهما على فسخ البيع بغير حكم حاكم أو لا يجوز؟ فأجاب: إن تراضيا على الفسخ أجزأهما. انتهى. فظاهره أن التراضي كاف مطلقا وفي كل بيع وهو قول نقله الحطاب في أن التراضي منهما بالفسخ كحكم الحاكم. انتهى. قاله أبو علي. وهذا القول ذكره الحطاب في المختلف في فساده وقد مر ذكره، وأما المجمع على فساده فقد مر أنه لا يحتاج فسخه إلى الحاكم.

ولا غلة يعني أن المشتري إذا رد المبيع بيعا فاسدا إلى بائعه فإنه لا يرد معه غلة المبيع. قال الحطاب: قال في المسائل الملقوطة: كل من ملك بوجه شبهة فلا يطالب بالخراج. انتهى. وقال المواق في المدونة: وكذا في البيع الفاسد ترد المبيع ولا شيء عليك في غلة. انتهى. وقال الخرشي: والمعنى أن الغلة للمشتري إلى حين الحكم برد المبيع لكونه في ضمانه إلى ذلك الوقت لأن الخراج بالضمان ولو علم بالفساد، والواو في قوله: ولا غلة، واو الحال أي ورد البيع والحال أنه لا غلة تصحبه. وقال عبد الباقي: ولا غلة على المشتري أي لا يردها حين رد المبيع بل يفوز بها، ولا يرجع على البائع بالنفقة لأن من له الغلة عليه النفقة، فإن أنفق على ما لا غلة له رجع بما

ص: 341

أنفق، فإن أنفق على ما له غلة لا تفي بالنفقة رجع بزائد النفقة، وقد يرجع بالنفقة مع كون الغلة له وذلك فيما إذا أحدث في المبيع فاسدا ما له عين قائمة كبناء وصبغ فيرجع بذلك مع كون الغلة له كسكناه ولبسه، فالأقسام ثلاثة. انتهى؛ يعني أن صور النفقة ثلاثة ما له عين قائمة وما لا غلة له وما له غلة تفي بالنفقة أو لا تفي بها، وقال عبد الباقي أيضا: وظاهر قوله: ولا غلة ولو كان المشتري عالما بالفساد ووجوب الرد، وفي التتائي تبعا لشيخه السنهوري كما في أحمد التقييد بما قبل علمه بوجوب الرد. قال أحمد: وهو مخالف لظاهر كلام المص. نعم القيد في الاستحقاق، ففي الحطاب: أنه إذا استحقت الأرض بحبس فالغلة للمستحق منه حيث لم يعلم بالحبس فإن علم رجع عليه بالغلة إلا إن كان المستحق لها هو المحبس عليه، وهو كبير أي رشيد عالم بالحبس فلا رجوع له بالغلة مع علم المستحق منه بالحبس، فإذا أخذ المحبس عليه الحبس ممن هو بيده بشراء رجع على بائعه بثمنه، فإن أعدم استوفى من غلة الحبس، فإن مات المحبس عليه قبل استيفائه ضاع عليه باقي ثمنه، ويرجع الحبس إلى مستحقه بعده. انتهى. قوله: وهو مخالف لظاهر كلام لخ، ومخالف أيضا لإطلاق المدونة وابن الحاجب وابن عبد السلام وابن عرفة والتوضيح. قال مصطفى: والإطلاق هو الطابق للخراج بالضمان إذ علمه بوجوب الرد لا يخرجه عن ضمانه. انتهى. وقوله: ممن هو بيده بشراء لخ؛ يعني بشراء من المحبس عليه، يدل على أن المحبس عليه هو البائع. عبارة الأجهوري ونصها: وإذا أخذ المحبس عليه الحبس ممن هو في يده وقد كان اشتراه فمن أخذه منه فإنه يرجع عليه بثمنه.

فإن فات مضى لمختلف فيه بالثمن؛ يعني أن المبيع بيعا فاسدا إذا قبضه المشتري وفات بيده فإن ذلك المبيع يمضي بالثمن الذي أخذ به؛ أي يملك المشتري المبيع ويملك البائع الثمن، ولا يرد واحد منهما على صاحبه شيئا. قال الخرشي: أي فإن فات المبيع بيعا فاسدا كله أو أكثره بمفوت مما يأتي مضى بالثمن إن كان مختلفا فيه بين الناس ولو كان خارج المذهب. وقال عبد الباقي: فإن فات المبيع فاسدا بيد المشتري مضى المختلف فيه بين العلماء ولو خارج المذهب بالثمن، مثال المختلف فيه أن يسلم في ثمر حائط بعينه وقد أزهى ويشترط أخذه تمرا فيفوت بالقبض. قاله الأجهوري. ولا يضر اتفاق المذهب على منع هذا لما علمت أن المراد المختلف فيه،

ص: 342

ولو خارج المذهب، وكاجتماع البيع والصرف، وكمضي بيع حب أفرك قبل يبسه بقبضه، وكقوله في فصل العينة: بخلاف اشترها لي باثني عشر لأجل وآخذها بعشرة نقدا فتلزم بالمسمى أي الاثني عشر لأجلها ولا تعجل العشرة، إلى أن قال: وإن لم يقل: لي، فهل لا يرد البيع إذا فات أو يفسخ الثاني مطلقا إلا أن يفوت فالقيمة؟ قولان. انتهى. والغرض منه وإن لم يقل: لي لخ، لكن لا يخفى أن القول الثاني مخالف لقول المص هنا؛ فإن فات مضى المختلف فيه بالثمن، كما أنه يخالفه أيضا قوله في بيوع الآجال: وصح أول من بيوع الآجال فقط إلا أن يفوت الثاني فيفسخان فلم يمض بالفوات بالثمن، مع أنه مختلف فيه وذكر المواق هناك أن ما ذكره المص من الفسخ هو المشهور، وأن القول بالإمضاء بالثمن ضعيف، والجواب أن قوله هنا: مضى المختلف فيه بالثمن، أكثري لا كلي، ومن أمثلة المختلف فيه أيضا جمع الرجلين سلعتيهما في البيع. انتهى كلام عبد الباقي. وقوله: في الحائط المزهي إنه يفوت بالقبض لخ، نحوه في التوضيح عن ابن القاسم، وكأنه المشهور في خصوص هذا الفرع، وفي بيع حب أفرك ويكون مثالا لمجرد المختلف فيه، وإلا فالذي في كلام المص هو المضي بالفوات لا بالقبض. قاله بناني. والله سبحانه أعلم. وقال المواق: من المدونة: قال مالك: يرد الحرام البين فات أو لم يفت. ابن يونس: معناه يرد بيعه فإن كان قائما رد عين المبيع وإن فات رد قيمته ورجع بثمنه. قال مالك: وما كان مما كرهه الناس رد إلا أن يفوت فيترك. وقال ابن رشد: البيوع المكروهة هي التي اختلف أهل العلم في إجازتها، والحكم فيها أن تفسخ إذا كانت قائمة فإن فاتت لم ترد مراعاة للاختلاف فيها، وقال عياض: لا ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يحمل الناس على اجتهاده ومذهبه، وإنما يغير ما اجتمع على إنكاره وقال القرافي وعز الدين بن عبد السلام: من أتى شيئا مختلفا فيه يعتقد تحريمه أنكر عليه لانتهاكه الحرمة، وإن اعتقد تحليله لم ينكر عليه إلا أن يكون مدرك المحلل ضعيفا ينقض الحكم بمثله لبطلانه في الشرع. انتهى.

وإلا ضمن قيمته حينئذ؛ يعني أن المشتري إذا قبض المبيع بيعا فاسدا متفقا على فساده -وهو معنى وإلَّا- وفات عنده بمفوت مما يأتي فإنه يضمن للبائع قيمته حينئذ أي حين القبض

ص: 343

ويرجع بثمنه على البائع، وهذا أيضا أكثري إذ قد تكون القيمة يوم البيع كما يأتي في قوله: وفي بيعه قبل قبضه مطلقا تأويلان، من أنه على القول بالفوات تضمن القيمة يوم المبيع. قاله عبد الباقي. وقوله: ضمن قيمته، هذا في المقوم، وإذا فات المبيع بيعا فاسدا ووجب رد القيمة فإنه يقاصه بها من الثمن. نقله الحطاب. وأما المثلي فإنه يضمن مثله. كما قال: وضمن مثل الثاني، إذا بيع بكيل أو وزن أو عدد ولم يجهل ذلك بعد ووجد المثل وإلا ضمن قيمته يوم القضاء عليه بالرد، ومحل القيمة في الجزاف حيث لم تعلم مكيلته بعد فإن علمت وجب رد مثله. قاله عبد الباقي. وقال المواق: كل بيع انعقد فاسدا فضمان السلعة فيه من البائع حتى يقبضها المشتري، وكل ما كان من حرام بين فسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها فإن فاتت بيده رد القيمة فيما له قيمة والمثل فيما له مثل، من مكيل أو موزون طعام أو عروض، وجزاف الطعام كالعروض فيه القيمة، والقيمة فيما ذكر يوم القبض لا يوم البيع، المازري: وأواني الفخار من المقوم. انتهى. وقوله "وإلا ضمن قيمته حينئذ ومثل المثلي" قال ابن عرفة: وأجرة تقويم المبيع إن افتقر إليه على المتبايعين معا لدخولهما في المبيع مدخلا واحدا، وحكى بعضهم أنها على البائع، وقيل: على المبتاع. وقال أبو علي: قال ابن الحاجب: والفوات، قال ابن القاسم في الحرام البين المثلُ في المثلي والقيمةُ في غيره، وما كرهه الناس يمضي بالثمن. التوضيح: فرق ابن القاسم بين أن يكون حراما صريحا ثبت تحريمه بنص أو إجماع وشبه ذلك، وبين أن يكون مدرك تحريمه قياسا أو عموما بعيدا، فالأول تلزم فيه القيمة في القوم والمثل في المثلي، [والثاني يمضي]

(1)

، بالثمن. نص عليه في الجواهر. ابن عبد السلام: لم يرد ابن الحاجب المكروه الذي يقابل المندوب، وإنما أراد ما جرت به عادة المتقدمين من إطلاق المكروه فيمن أسلم في حائط قد أزهى واشترط أخذه تمرا فإنه يفوت بالقبض. انتهى. نقله أبو علي. قال: وهذا صحيح، ومن وقف على كلام الناس علم هذا يقينا، وسر ذلك أن المختلف فيه بين العلماء إنما يكون عند عدم الإجماع على النازلة، أو عند عدم النص الجلي، وإذا لم يوجد هذا مثلا تحير المجتهد فيرجع للعمومات والأقيسة فيظهر له

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من التوضيح ج 5 ص 506.

ص: 344

الحكم الشرعي بحسب اجتهاده، ويغلب على ظنه فلا يجزم بالحكم، فيقول أكره هذا، فعلى هذا الأصل قيل فيها بياعات مثلا مكروهة، فهو لا يقدر أن يتجاسر على التصريح بالتحريم تورعا، وما أكثر هذا عند مالك. قاله الشيخ أبو علي. وقوله: وإلا ضمن قيمته، قال القاضي في معونته بعد أن ذكر أن الفوت يوجب القيمة: واختلف عن مالك هل هذا حكم جميع المبيعات أو حكم نوع منها؟ فعنه في ذلك روايتان، إحداهما: أنه حكم جميعها وهي رواية ابن نافع، والأخرى أنه حكم ما اتفق على فساده وتحريمه كالربا، وفي المعونة: لا خلاف في البيع أنه يمتنع عند نداء الجمعة، وقال ابن عطية عند قوله تعالى:{وذروا البيع} أجمع الناس على امتناع البيع هنا وقال ابن العربي عند قوله تعالى: {إذا نودي للصلوة} إلى قوله تعالى: {وذروا البيع} هذا مجمع على العمل به بلا خلاف في تحريم البيع، واختلف العلماء إذا وقع، ففي المدونة: يفسخ، وقال المغيرة: يفسخ ما لم يفت. وقاله ابن القاسم في الواضحة وأشهب. وقال في المجموعة: البيع ماض، وقال ابن الماجشون: يفسخ بيع من جرت عادته به. وقال الشافعي: يفسخ بكل حال. وقال أبو حنيفة: يفسخ في تفصيل قريب مما للمالكية، وقد بينا وجه ذلك في الفقه وحققنا أن الصحيح هو فسخه بكل حال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من عمل عملا ليس على أمرنا فهو رَدٌّ. قاله أبو علي. وبين مفوتات البيع الفاسد بقوله:

بتغير سوق غير مثلي وعقار؛ يعني أن الفوات الذي يوجب مضي البيع المختلف في فساده ولزوم قيمة المبيع بيعا فاسدا للمشتري في المقوم ومثله في المثلي هو تغير السوق بأن كان يباع بعشرة مثلا فصار يباع بأكثر منها أو أقل عند الناس، وهذا في غير المثلي والعقار، وأما المثلي والعقار فلا تفيتهما حوالة الأسواق، وهذا الذي مشى عليه المص هو المشهور، خلافا لابن وهب، وعللوا ما مشى عليه المص بأن المثلي الأصل فيه القضاء بمثله، والقيمة فرع، فلا يعدل إليه مع إمكان الأصل، وبأن العقار لا يشترى إلا للقنية فلا يطلب فيه كثرة الثمن ولا قلته بخلاف غيره، وقوله: بتغير متعلق بفَاتَ قاله أبو علي، وقال عبد الباقي: بتغير سوق غير مثلي وغير عقار

ص: 345

كحيوان وعروض، وأما المثلي والعقار فلا يفيتهما حوالة الأسواق على المشهور، وظاهره ولو اختلفت الرغبة فيهما باختلاف الأسواق. وقال المواق: ابن رشد: المنصوص عليه من قول مالك وأصحابه المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها أن المكيل والموزون من الطعام وغيره لا يفيته حوالة الأسواق، والذقي يوجبه النظر أن يفيت ذلك كله حوالة الأسواق كالعروض. انتهى. ومن المدونة قال ابن القاسم: لا يفيت الدور والأرضين حوالة الأسواق أو طول زمان. ابن يونس: لأن الأغلب في الربع إنما يشترى للقنية لا للتجارة ولا سوق له، بخلاف غيره من العروض والحيوان الأغلب فيها أن تشترى لطلب النماء، فكان التأثير في أثمانها مفيتا لها. انتهى. والجزاف تفيته حوالة الأسواق، وكذا الحلي لأنهما من المقومات ولا يفوت الحلي بحوالة الأسواق إذا بيع وزنا، وكذا الجزاف إذا بيع كيلا لا يفوت بحوالة الأسواق.

وبطول زمن حيوان يعني أن الحيوان يفوت بطول الزمن ولو آدميا، والكلام إنما هو في مجرد الطول من غير ضميمة تغير مثلا في بدن أو سوق لأن ذلك فوت وإن لم يحصل طول. اللخمي: اختلف في الطول في الحيوان ففي التدليس منها: من كاتب عبدا اشتراه شراء فاسدا فعجز بعد شهر فَاتَ لأنه طول، وفيها: أي المدونة شهر طول، وفيها: شهران ليسا بطول، وفيها: الثلاثة الأشهر ليست بطول، والحاصل: أن المدونة فيها الشهر يفيت لأنه طول وفيها أن الشهرين والثلاثة ليست بطول، وحمل اللخمي ذلك على الخلاف، فقال: اختلف في الطول في الحيوان، فقيل: يفيت وهو ما في المدونة من أن الشهر مفيت، وقيل: الطول غير مفيت وهو ما في المدونة في موضع آخر أن الثلاثة الأشهر ليست بطول. ولهذا قال:

واختار اللخمي أنه خلاف معنوي، وقال الإمام المازري: ليس ذلك خلافا حقيقيا بل هو خلاف في شهادة؛ أي في مشاهدة أي خلاف لفظي لا معنوي؛ أي أن الإمام مالكا تكلم على الحيوان بحسب ما شاهده وعاينه، فالمحل الذي قال فيه: الشهر فوت في حيوان صغير، والذي قال فيه: الشهران ليسا بفوت في حيوان ليس مظنة للتغير في شهرين، كإبل وبقر. قال عبد الباقي: واعلم أن المحل الذي في المدونة أن الشهرين ليسا بفوت قال فيه: إن الثلاثة ليست بفوت أيضا، فكان ينبغي للمص أن يقول: وشهران أو ثلاثة، أو يقول بعد قوله: شهر، وفيها ثلاثة، ويستفاد

ص: 346

منه الشهران بالأولى إذ ما ذكره يدل على أن الثلاثة فوت باتفاق المحلين وليس كذلك. انتهى. قاله عبد الباقي. وتحقيق ما قال وإيضاحه أن قول الإمام متفق عند المازري؛ يعني أن الإمام مالكا تكلم على الحيوان بحسب ما شاهده وعاينه، فمرة رأى أن بعض الحيوانات يفيته الشهر لصغر ونحوه ومرة رأى أن بعض الحيوانات لا يفيته الشهران ولا الثلاثة لعدم ذلك فيه. قال عبد الباقي: واعلم أن كلام المص كالمدونة في طول ليس فيه تغير ذات ولا سوق، كما يدل عليه كلامه لذكره تغير السوق قبل، وتغير الذات فيما يأتي، وكما يدل عليه اللخمي والمازري، وبهذا يتبين أن اعتراض المازري على اللخمي غير ظاهر؛ لأن في كلام اللخمي ما يدل على أن التغير بالفعل فوت اتفاقا. انتهى. وقال بناني: إن كلام عبد الباقي توفيق لم يقله المازري ولا هو معنى كلامه، وأنَّ ما بين به الخلاف إنما هو معنى الخلاف في حال لا معنى الخلاف في شهادة. قال: والفرق بينهما أن الخلاف في الحال يقال حيث يكون للشيء حالان، فيقول القائل بجوازه باعتبار أحد الحالين وهي الحاضرة في ذهنه حين القول، ويقول الآخر بمنعه باعتبار الحال الأخرى لأنها هي التي حضرت في ذهنه حينئذ، ولو حضر في ذهن كل منهما ما حضر في ذهن الآخر لوافقه، فهذا ليس بخلاف في الحقيقة، وأما الخلاف في شهادة فإنه يقال: حيث يكون القول من كل منهما مرتبا على إحدى الحالين، وهو مع ذلك ينفي الأخرى، ومثلوا لهما بالماء المجعول في الفم اختلف في التطهير به، فإن كان هذا الخلاف من أجل أن الماء قد ينضاف بذلك وقد لا، فمن منع تكلم على حال الإضافة، ومن أجاز تكلم على حال عدمها، وكل يسلم وقوع الحالين فهو خلاف في حال، وإن كان هذا الخلاف من أجل أن القائل بالمنع يرى أنه ينضاف ولابد، ولا يمكن بمجرد العادة عدم إضافته، والقائل بالجواز يرى نقيض هذا فهو خلاف في شهادة، والخلاف في مسألتنا من هذا الثاني؛ لأن من قال: إن الثلاثة وما دونها فوت يرى أنها مظنة للتغير ولابدّ، ومن قال: إنها ليست بفوت يرى أنها ليست مظنة للتغيير ولابد، هذا ما فهمه ابن عرفة. انتهى. وقال أبو علي: قال ابن عرفة: قال اللخمي: اختلف في الطول في الحيوان، ففي التدليس منها: من كاتب عبدا اشتراه شراء فاسدا فعجز بعد شهر فَاتَ لأنه طول، وفي ثالث

ص: 347

سلمها: الثلاثة الأشهر ليست بفوت في العبيد والدواب. المازري: اختلف في مجرد طول الزمان يمر على الحيوان ولم يتغير في ذاته ولا في سوقه هل هو فوت؟ فذكر قولها في الكتابين، ثم قال: اعتقد بعض أشياخي أنه اختلاف قول على الإطلاق وليس كذلك، إنما هو اختلاف في شهادة بعادة لأنه أشار في المدونة إلى المقدار من الزمان الذي لا يمضي إلا وقد تغير الحيوان فتغيره في ذاته أو سوقه معتبر، وإنما الخلاف في قدر الزمان الذي يستدل به على التغير. قلت: في رده على اللخمي تعسف واضح؛ لأن حاصل كلامه أن الخلاف إنما هو في قدر الزمن الذي هو مظنة لتغيره لا في التغير، وهذا هو نفس مقتضى كلام اللخمي لمن تأمل وأنصف. انتهى. قال أبو علي: ما قاله ابن عرفة لا شك فيه، فقد أنصفنا والحمد لله، ويفهم من المص أن العقار والعروض لا يفيتها طول الزمان وهو كذلك، إلا إذا طال جدا. قال ابن بشير: طول الزمان ليس بفوت في العقار إلا أن يطول جدا، وألحق بذلك العروض إلا أن الطول فيها دون الأول. انتهى. والطول جدا هو نحو العشرين سنة كما قاله أصبغ قائلا: فإن هذا لابد أن يدخله التغير.

تنبيه: اعترض المغيلي على اللخمي والمازري ومن تبعهما في المعارضة بين كلامي المدونة بأن قولها: الثلاثة ليست بطول، إنما هو في الإقالة من المسلم فيه إذا كان طعاما ورأس المال حيوان، فإن كانت الإقالة على عين رأس المال ولم يتغير في حاله جاز ذلك، وإلا منع لبيع الطعام قبل قبضه، فقال: فيها في كتاب المسلم الثالث: إن طول زمن الحيوان المدة المذكورة بمجرده ليس بفوت ولا مانع من الإقالة، ولا يلزم أن يقول في البيوع الفاسدة بذلك لأن الإقالة معروف وقد عدوا حوالة الأسواق فيها غير مفيتة مع القطع بأنها مفيتة هنا. انتهى. وهو ظاهر انتهى. والله سبحانه أعلم. (وبنقل عرض ومثلي لبلد بكلفة) يعني أن نقل العروض كالثياب والمثلي كقمح من موضع إلى موضع مفيت إذا كان بكلفة من كراء أو خوف طريق أو مكس، فيرد قيمة العروض ومثل المثلي في محلهما، واحترز بالكلفة من الحيوان الذي ينتقل بنفسه فإن نقله لا يفيته إلا لخوف طريق أو مكس، ولا مفهوم لبلد بل لو نقله من موضع إلى موضع ببلد واحد فالحكم كذلك، فالمدار على قوله: بكلفة، وقوله: بكلفة أي ما شأنه الكلفة، ولو نقله بعبيده ودوابه، وقوله: ومثلي لبلد؛ أي ويضمن مثله بموضع قبضه. اللخمي: لو كان المبيع عروضا مما له حمل

ص: 348

وأجرة لكان نقله فوتا وإن لم تختلف له الأسواق، وإذا لم يكن في نقله كلفة فالظاهر أن رده على البائع ولكن الضمان على المشتري حتى يقبضه البائع. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وبنقل عرض كثياب ومثلي كقمح من بلد العقد لبلد آخر أو من بلد آخر لبلد العقد، وكذا لمحل آخر كما في اللخمي وإن لم يكن لبلد إذا كان ذلك بكلفة في نفس الأمر، وإن لم يكن عليه كلفة كحمله له على دوابه وصحبته عبيدة. قال أحمد: ويضمن مثله بموضع قبضه. انتهى. قوله: ويضمن مثله بموضع قبضه، نحوه للتتائي وتعقبه مصطفى قائلا: من قال بفوات المثلي بالنقل قال: يلزمه قيمته، ومن قال بعدم فواته قال: عليه رده من حيث نقله. انتهى. ورد عليه بناني بما هو ظاهر، فالصَّوَابُ ما للتتاءي وعبد الباقي والخرشي، وهو الجاري على قول المص: ومثل المثلي. قال عبد الباقي: واحترز به أي بما في نقله كلفة عما ليس في نقله كلفة كعبد وحيوان ينتقل بنفسه فليس ذلك بفوت فترد، إلا أن يكون في الطريق خوف لص أو أخذ مكاس فالقيمة. قاله التتائي والشارح الصغير والوسط. وما في الكبير من عطف أخذ مكاس بالواو فهو بمعنى أو كما له في غيره. انتهى.

وبالوطء يعني أن من اشترى أمة شراء فاسدا فوطئها فإنها تفوت بذلك. قال المواق: من المدونة قال مالك: الرقيق يفيته العتق والكتابة والتدبير والولادة. ابن المواز: والوطء فقط. انتهى. قوله: فقط؛ يعني أن الوطء يفيت وحده دون الولادة. ابن يونس: إنما كان الوطء للأمة فوتا لأنه لابد فيها من المواضعة لاستبرائها فيطول الأمر في ذلك. انتهى. وقال عبد الباقي: وبالوطء لأمة من المشتري فاسدا بكرا أو ثيبا فيفيت، وعلل باحتمال تعلق القلب بالواطئ فلا ينتفع بها غيره، وباستلزامه المواضعة المستلزمة لطول الزمان، وتقدم أنه فوت. قاله التتائي. وهو يدل على أن الواطئ بالغ وهي مطيقة لا صغير لعدم تعلق قلبها بوطئه غالبا، إلا أن يفتضها فيفوت لأجل تغير ذاتها لا لتعلق قلبها به، وهل يشمل وطء البالغ بدبرها فيفيت لأنه قد قيل به وإن كان ضعيفا جدا أو لا لعدم ظهور التعليل بتعلق القلب. انظره. وأما في الذكر فليس بمفيت قطعا فيما يظهر لأنه لم يُقَل به أصلا، والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا، وفهم من قوله: بالوطء، أن الغيبة عليها

ص: 349

ليست بفوت وهو كذلك، إلا أن يدعي وطأها فيصدق علية أو وخشا، صدَّقه البائع أو كذبه، فيفوت في هذه الأربع، فإن لم يدعه بل ادعى عدمه صدق في الوخش صدقه البائع أو كذبه وترد ولا استبراء، كعلية إن صدقه البائع فترد ولكن تستبرأ، فإن كذبه فاتت.

وبتغير ذات غير مثلي يعني أن من اشترى شيئا شراء فاسدا فإنه يفوت بتغير ذاته، حيث كان غير مثلي كالعقار بذهاب عينه واندراسه، والدور بهدمها أو بنائها، والأرض بغرسها وقلع الغرس منها، وأما المثلي فإنه لا يفيته ذلك لقيام مثله مقامه. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وبتغير ذات غير مثلي وعقار وعرض وحيوان، فيفوت العقار بذهاب عينه واندراسه، والدور بهدمها وبنائها: والأرض بغرسها وقلع الغرس منها، ويفوت العرض بتغير ذاته بنقص وزيادة، وأما المثلي فلا يفيته ذلك لقيام مثله مقامه، ومن تغير الذات تغير الدابة بالسمن أو الهزال، والأمة بالهزال دون سمنها، وهذا مخالف لما يأتي في الإقالة من أن هزال الأمة وسمنها غير مفيت للإقالة. انتهى. وقال عبد الباقي: لكن في ابن الحاجب كالجواهر، وأقره في الذخيرة هو وابن عبد السلام: أن تغير ذاته مفيت فيرد مثله، واعتمده الأجهوري، فقال: الواجب حذف غير مثلي؛ قلت: لكن في التتائي تبع المص اللخمي والمازري وابن بشير وناهيك بالثلاثة. انتهى. قوله: تبع المص اللخمي والمازري لخ، طريقة هؤلاء الشيوخ غير الطريقة التي جرى عليها المص أولا في وإلا ضمن قيمته ومثل المثلي. قال مصطفى: اعتمد المؤلف هنا قوله في توضيحه: الذي للخمي والمازري وابن بشير: أن المثلي لا يفوت لأن المثل يقوم مقامه وهو غير ملتئم مع ما قدمه من قوله: ومثل المثلي، وتلك طريقة ابن شأس وابن الحاجب وتبعهما المؤلف، وأصلها لابن يونس وعزاها لابن القاسم في غير المدونة، فهما طريقتان إحداهما لابن يونس ومن تبعه أن اللازم في الفوت القيمة في المقوم، والمثل في المثلي، إلا إن عدم كثمر حائط في غير إبانه فقيمته، والثانية لابن رشد وابن بشير واللخمي والمازري أن اللازم في الفوات هو القيمة مطلقا في القوم والمثلي، وهذه الطريقة هي التي انتخلها

(1)

ابن عرفة، وعليها يأتي التفريع والخلاف في حوالة الأسواق،

(1)

في البنانى ج 5 ص 95 والرماصي مخطوط: انتحلها.

ص: 350

والنقل، والتغيير هل يفيت المثلي أم لا؟ فمن أوجب فيه المثل وهو المشهور، قال: بعدم الفوات فيه، ومن أوجب فيه القيمة قال: بالفوات. وأما رده متغيرا أو مع أرش النقص كما توهم الأجهوري فلا قائل به. قاله بناني. والحاصل من كلام أبي علي أن قول المص: غير مثلي، لا يصح؛ لأن عدم الفوات بذلك عند اللخمي معناه أنه لا يرد القيمة بل يرد المثل، والمص حكم برد المثل في فوت المثلي، فظاهر كلام المص هنا أن المثلي إذا تغيرت ذاته يرده ونقصه مع أنه لا قائل بذلك، فالصواب لو قال: وبتغير ذات، ويسقط قوله: غير مثلي، وقد جلب أبو علي من النقول على فوت المثلي بتغير الذات ما يقتضي أنه متفق عليه، وصرح بأن الخلاف بين ابن شأس واللخمي ليس حقيقيا، فالأول جعل في فوت المثلي، الرجوع بالمثل والثاني لا يفوت عنده بتغير ذات لرده مثله لا قيمته، والمص تبع اللخمي في عدم فوات المثلي بذلك، وقد علمت معنى عدم الفوات عند اللخمي. والله تعالى أعلم. وهو مخالف لكلام البناني.

وخروج عن يد؛ يعني أن من اشترى شيئا شراء فاسدا وخرج من يده ببيع صحيح أو هبة أو صدقة أو نحو ذلك فإنه يفوت بذلك. قال الخرشي: أي ومما يفيت المبيع خروجه عن يد مبتاعه بهبة أو صدقة أو عتق أو بيع صحيح أو حبس من المشتري عن نفسه، وقيدنا المبيع بالصحيح احترازا من الفاسد فإنه غير مفيت، وقيدنا الحبس بكونه من المشتري عن نفسه احترازا عما إذا أوصى الميت بشراء دار أو بستان، وأن يحبس فاشترى ذلك الموصي شراء فاسدا وحبسه، فالذي يظهر على ما يأتي في الرد بالعيب أنه يفسخ البيع الفاسد، ثم إن بيع البعض وإن قل فيما لا ينقسم كبيع الكل، وأما ما ينقسم فإنَّ بيع أكثره كبيع كله، والأكثرُ ما زاد على النصف، وإلا فيفوت منه ما وقع فيه المبيع، والتولية والشركة لا يحصل بهما فوت، وفي الإقالة نظر. وليس للمشتري شراء فاسدا التصرف في المبيع ويحرم عليه ذلك، وكذا يحرم على من علم بذلك شراؤه منه أو قبول هبته ونحو ذلك. قاله الخرشي. وقال الشيخ أبو علي: إن الإقالة فوت ولا معنى للتوقف في ذلك. وقال: قال ابن الفاكهاني: ما محصلة أن البيع الصحيح يفوت البيع الفاسد، ومعنى ذلك أنه لا يرد لربه لا أنه يمضي البيع الأول على ما هو عليه، فإن هذا لا يقوله مالك ولا

ص: 351

أحد من أصحابه، ولكن معناه ما ذكرناه، ولو كان يمضي على ما ذكر لمضى بالثمن، والمبيع فاسدا قبل فواته يحرم الانتفاع به، والإقدام على بيعه لا يجوز، وشراؤه لمن علم بفساد عقده كذلك حرام إن علم بعدم فواته، ولكن إن وقع تم البيع وصح الملك للبائع والمشتري، وقال القباب: وجميع ما اشتري شراء فاسدا لا يجوز أكله ولا الانتفاع به بوجه من الوجوه ما دام على حاله لم يفت، فإذا دخله شيء من هذه المفيتات كان أكله والانتفاع به جائزا حلالا. انتهى. ولكن كلام ابن رشد يقتضي جواز التصرف في المبيع فاسدا ولو مع العلم انتهى. وقد مر عن الشيخ أبي علي أنه قال بعد جلب نقول: وقد تبين من هذا أن عتق المشتري وهبته ماضيان قبل الفوات، وظاهرها يعني المدونة: قبض ذلك المشتري أو لم يقبضه كما رأيته، وكذا يمضيان من البائع قبل الفوات، وظاهرها خرج عن يده أم لا، وقد رأيته أيضا. انتهى. وقال عبد الباقي: وخروج عن يد ببيع صحيح أو هبة أو صدقة أو حبس من المشتري عن نفسه، فالبيع الفاسد غير مفيت، وقيدنا الحبس بكونه من المشتري عن نفسه احترازا مما إذا أوصى ميت بشراء دار أو بستان وأن يحبس، فاشترى الموصي ذلك شراء فاسدا وحبسه لخ، ما مر عن الخرشي، وقوله: خروج عن يد، قد علمت أن من جملة ذلك البيع الصحيح وهو ظاهر في بيع المشتري للأجنبي فلو باعه المشتري لبائعه فهل ذلك فوت كما لو اشتراه أجنبي أم لا؟ ذكر الفقيه راشد في كتاب الحلال والحرام فيه قولين [لأبي

(1)

إسحاق] وابن رشد. قاله الحطاب. وقال أبو علي: ويفيت الرقيق العتق والكتابة والتدبير والعتق لأجل. انتهى.

وتعلق حق؛ يعني أن المبيع بيعا فاسدا إذا قبضه المشتري وتعلق به حق غيره فإنه يفوت، ومثل لتعلق الحق بقوله: كرهنه؛ يعني المبيع بيعا فاسدا إذا رهنه المشتري فإنه يفوت حيث لم يقدر على فك الرهن لعسر ونحوه. وإجارته، عطف على رهنه؛ يعني أن المبيع بيعا فاسدا إذا قبضه المشتري وآجره فإنه يفوت حيث كانت الإجارة لازمة ولم يتراضيا على الفسخ وإلا فلا تُفِيتُ، ثم الخروج عن اليد وتعلق الحق مفيتان بعد القبض لا قبله في الرهن والإجارة، ويأتي تفصيل في

(1)

في الأصل: لابن، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 188.

ص: 352

الخروج عن اليد في قوله: وفي بيعه قبل قبضه لخ، ودخل بالكاف إخدامه مدة معينة إلا أن يتراضيا على فسخها. انتهى. قاله عبد الباقي.

تنبيه: قال الشيخ أبو علي: حاصل ما نقله الحطاب هنا أن من أكرى داره كراء فاسدا فأكرى المكتري الدار مثلا لغيره كراء صحيحا فذلك غير فوت، والفرق بينه وبين البيع الفاسد أن المبيع في ضمان المشتري فباع ما في ضمانه ولا كذلك المكتري، قاله ابن عرفة. هذا حاصل نقوله، وإن كان نقل عن النوادر أن كراءه الصحيح يفيت كراءه الفاسد، ثم قال: وأما قبض البعض فيظهر أن ما قبض يضمنه المشتري دون ما لم يقبضه، والإخدام المحدود كالإجارة كما في ابن شأس، وهو داخل في كلام المتن، وانظر غير المحدود فإنه يظهر أنه كذلك لأن الإخدام لازم وهو حق للغير، قال عبد الباقي: ولما قدم أن تغير الذات مفيت وشمل الأرض وكان فيها تفصيل وخفاء بيَّنه بقوله:

وأرض ببير؛ يعني أن من اشترى أرضا شراء فاسدا وحفر فيها بيرا فإنها تفوت بذلك البئر إن كان لغير ماشية لا إن كان لماشية.

وعيْن؛ يعني أن من اشترى أرضا شراء فاسدا وأجرى فيها عينا فإنها تفوت بإجراء تلك العين كانت لماشية أو لا، ولا يراعى في البئر والعين عظم المؤنة لأن ذلك شأنهما والواو بمعنى أو وكذا في قوله: وغرس وبناء؛ يعني أن الأرض المبيعة بيعا فاسدا تفوت بالغرس فيها، وكذلك تفوت بالبناء فيها، قال الشيخ أبو علي مفسرا للمص: أي أن الأرض تفوت بحفر بير فيها أو إجراء عين أو غرس شجر أو بناء، واحترز من الزرع فإنه لا يفيتها. قاله ابن القاسم. وعليه كراء المثل إن فسخ في إبان الزراعة، وإن فسخ بعده فلا كراء له.

عظيمي المئونة؛ يعني أن الغرس إنما يفيت الأرض المبيعة بيعا فاسدا بشرط أن يكون عظيم المئونة، وكذلك البناء فإنما يفيت الأرض المبيعة بيعا فاسدا حيث كان عظيم المئونة. قال عبد الباقي عند قوله: عظيمي المئونة، صفة لغرس وبناء فقط ولا يرجع لبير وعين فهو مثنى لا جمع، والهدم والقلع كهما؛ يعني أن الهدم كالبناء فيفيت، وقلع الشجر كالغرس فيفيت، وينبغي

ص: 353

تقييدهما بعظم المئونة أيضا، ثم الغرس أو البناء يفيت الأرض كلها إن وقع بكلها أو معظمها وإن لم يحط بها، ويحمل على أنه عظيم المئونة، وإن لم يكن عظيم المئونة، وإن أحاط بكلها ولم يكن بمعظمها فكذلك إن عظمت مئونته، وإلا لم يفت شيئا، وإن وقع فيما دون الجل أي وهو عظيم المئونة فأشار إليه بقوله:

وفاتت بهما جهة هي الربع فقط؛ يعني أنه إذا باع الأرض بيعا فاسدا وقبضها المشتري وأحدث فيها بناء وغرسا أو أحدهما فإنه تفوت تلك الجهة التي فيها البناء والغرس أو أحدهما فقط دون غيرها من الجهات التي لا بناء فيها ولا غرس، وهذا حيث كانت الجهة المذكورة هي ربع الأرض المبيعة بيعا فاسدا، وكذا لو كانت الجهة المذكورة هي ثلث الأرض المبيعة. قال عبد الباقي: وكذا لو كانت النصف عند أبي الحسن، وظاهرُ ابن عرفة وأحمد أنه كوقوعه بجلها. انتهى. قوله: وكذا النصف عند أبي الحسن، قال بناني: بل وكذا كلام ابن رشد يفيد أن النصف كالربع لأنه قال: وإذا كان الغرس في ناحية منها وجلها لا غرس فيه وجب أن يفوت منها ما غرس ويفسخ البيع في سائرها إذ لا ضرر على البائع في ذلك إذا كان المغروس من الأرض يسيرا، كما لو استحق من يد المشتري في البيع الصحيح لزمه البيع ولم يكن له أن يرده، فأنت تراه أحال القدر الذي يفوت بالغرس دون ما لم يغرس على القدر الذي لو استحق من يد المشتري في البيع الصحيح لزمه الباقي، وقد قال المص:"ورد بعض المبيع بحصته إلا أن يكون الأكثر، " ثم قال "وتلف بعضه واستحقاقه كعيب به" والله أعلم. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: أصبغ: وإذا غرس حول الأرض شجرا حتى أحاط بها وعظمت بذلك المئونة وبقي أكثرها بياضا إنها تفوت جميعها، وإن لم يغرس إلا ناحية منها فاتت تلك الناحية. انتهى. وقال المواق عن ابن رشد: ووجه العمل في ذلك أن ينظر إلى الناحية التي فوتها بالغرس ما هي من جميع الأرض؟ فإن كانت الثلث أو الربع فسخ البيع في الباقي بثلثي الثمن أو ثلاثة أرباعه فسقط عن المبتاع إن كان لم يدفعه ورد إليه إن كان دفعه، وفسخ البيع في الناحية الفائتة بالقيمة يوم القبض، فمن كان منهما له فضل على صاحبه في ذلك رجع به عليه إذ قد تكون قيمة تلك الناحية أقل مما نابها من الثمن أو أكثر.

ص: 354

لا أقل؛ يعني أنه إذا كانت الجهة التي فيها الغرس والبناء أو أحدهما أقل من الربع فإنه لا يفوت شيء منها أي من الأرض المبيعة لا الجهة التي فيها ذلك ولا غيرها، ولو عظمت مئونة ذلك، وكذا غير عظيم المئونة فيما اعتبر فيه عظمها لا يفوت به شيء منها وإن أحاط بها كما مر، ويعتبر كون الجهة الربع أو أقل أو أكثر بالقيمة يوم القبض لا بالمساحة. انتهى. قال أحمد: قوله: أو الربع يريد أو الثلث فيقال: ما قيمة هذه الجهة؟ وما قيمة الجهة الباقية؟ فإن قيل: قيمة الجهة المغروسة مائة، وقيمة الجهة الأخرى مائتان أو ثلاث، فاتت تلك الجهة ورد الباقي وقاص بتلك القيمة من الثمن. انتهى. قال الأجهوري عقبه: فإن قلت: هذا يخالف ما تقدم من أن ما غرسه يمضي بمنابه من قيمة جميعها لا بقيمته مفردا، قلت: إن لنا أمرين أحدهما: التقويم ليعلم قدر قيمة المغروس وقدر قيمة غيره وهذا إنما يكون [بتقويم]

(1)

ما غرس مفردا وتقويم غيره كذلك. الثاني: التقويم ليعلم ما ينوب المغروس من قيمة الجميع وما ينوب غيره منها وهذه إنما تكون بتقويم الجميع وفض القيمة على كل منهما، وحاصل هذا الثاني تقويم الجميع لفض القيمة على قيمة كل منهما مفردا، وكلام أحمد في الأول. انتهى. قلتُ: ففائدة كل من الجهتين مفردة فض قيمة الجميع عليهما ليعلم مناب الجهة المغروسة من الجميع، وذكر الفيشي والسنهوري لذلك وجها آخر، وهو: أن تُقَوَّم الجهة المغروسة مفردة يوم القبض لتعرف القيمة التي يمضي بها البيع فيها إذا فاتت وحدها، ويُقَوَّم الجميع لتعرف نسبة قيمة الجهة المغروسة من قيمة الجميع، هل النصف فأقل إلى الربع فتفوت وحدها أو أكثر فيفوت الجميع؟ انتهى. قاله بناني. وإيضاح ما مر أن الأقسام ثلاثة: قسم تفوت فيه الأرض المبيعة كلها، وقسم لا يفوت فيه شيء منها، وقسم يفوت فيه بعض الأرض، فالأول هو ما إذا وقع ما ذكر من بناء وغرس في جميعها أو جلها عظمت المئونة أم لا، وما إذا أحاط بها ولم يكن بمعظمها وعظمت مئونته لأنه يحمل محلى أنه عظيم المئونة، وهذه خمس صور، والثاني ما إذا لم يكن بكلها ولا بجلها ولم تعظم المئونة نصفا كان أو أقل أحاط بها أم لا، أو كان أقل من الربع وعظمت مئونته، والثالث ما

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من بنانى ج 5 ص 96.

ص: 355

إذا كان ما ذكر بجهة هي الثلث أو الربع أو النصف على ما مر عن أبي الحسن وغيره، وكان ما ذكر عظيم النونة.

وله القيمة قائما. هذا مرتب على قوله: لا أقل، وعلى ما لم يفت مما مر تفصيله، والضمير في: له للمشتري؛ يعني أن المشتري للأرض شراء فاسدا إذا أحدث فيها ما ذكر من بناء أو غرس ولم يفت شيء من الأرض بذلك البناء والغرس إما لأنه في جهة هي أقل من الربع، وإما لأنه لا يقع بكلها ولا بجلها، ولم يكن عظيم المئونة فإن المشتري يرجع بقيمة بنائه وغرسه قائما، ولا يرجع بقيمة البناء منقوضا ولا بقيمة الغرس مقلوعا؛ لأنه فعله بشبهة على التأبيد لشبهه بمن بنى في ساحة فاستحقت. قاله التونسي. وقال أبو علي عن أصبغ: وإن كان إنما غرس يسيرا لا بال له رد جميعها وكان للغارس على البائع قيمة. ابن محرز والمازري: والصواب أن يكون له قيمته قائما لأنه غرسها بشبهة، وإلى هذا أشار بقوله: على المقول. إشارة إلى تصويب المازري. والمصحح. إشارة إلى تصحيح ابن محرز، ومقابله لابن رشد. قال: له قيمة الغرس مقلوعا والبناء منقوضا. والله سبحانه أعلم. وفي بيعه قبل قبضة مطلقا؛ يعني أنه اختلف في البيع بيعا فاسدا إذا باعه مشتريه قبل أن يقبضه هل يفوت بذلك أم لا، والقولان لمالك في الموازية. عياض: اختلفوا في حمل المدونة عليهما، وإليه أشار بقوله: تأويلان وهو مبتدأ وخبره المجرور قبله، ومعنى قوله: مطلقا سواء كان مما تفيته حوالة الأسواق أم لا، ولا يصح تفسير الإطلاق بأنه سواء كان البيع صحيحا أو فاسدا؛ إذ لا يحصل الفوات بالبيع الفاسد اتفاقا. قاله عبد الباقي. وقال عند قوله: تأويلان، أحدهما: أنه فوت، وعليه فإن باعه المشتري قبل قبضه لزمه قيمته لبائعه يوم بيعه أي بيع المشتري له، وهذه تخصص ما تقدم من أنه تضمن القيمة في البيع الفاسد يوم القبض. ثانيهما: أنه ليس بفوت، وعليه فلا يمضي بيع المشتري له ولا تجب عليه قيمته للبائع، بل يرد إلى مالكه الأصلي الذي باعه. والله سبحانه أعلم. وقوله: تأويلان، الأول لابن محرز وجماعة، والثاني لفضل وابن الكاتب، وقوله: وفي بيعه؛ أي في بيع المشتري المبيع فاسدا قبل قبضه؛ أي قبل قبض المشتري له؛ يعني أنه اختلف شراح المدونة في أي القولين الذين في الموازية لمالك تحمل عليه المدونة، فحملها بعضهم على أحد القولين، وتأولها بعضهم على الآخر، وأما لو باعه

ص: 356

البائع بعد أن قبضه المشتري وقبل أن يرد إلى البائع ففيه قولان، أحدهما: أنه يمضي ويكون نقضا للبيع الفاسد من أصله ويرد الثمن للمشتري إن كان قبضه. ثانيهما: أن بيع البائع له قبل أن يرد إليه كالعدم فيكون بمنزلة ما إذا باعه بيعا فاسدا وقبضه المشتري، ولم يحصل من بائعه فيه بيع بعد قبض المشتري له، وضمانه إن حصل فيه ما يوجب الضمان منه؛ أي من المشتري، وتظهر فائدة هذا أيضا فيما إذا حصل فيه مفوت عند المشتري قبل فسخ الفاسد، فإنه يمضي لمشتريه فاسدا ويفسخ البيع الصحيح الواقع من البائع. والله سبحانه أعلم. والخلاف وإن كان موجودا في البائع والمشتري لا يحسن إيراده في بيع البائع على جهة التأويل للمدونة؛ لأن التأويلين إنما هما في بيع المشتري كما في كلام عياض وغيره، وقد نقل الحطاب كلام عياض ولم يتنبه لمحل التأويلين، واستدل على تعميم التأويلين بكلام ابن شأس مع أن ابن الحاجب إنما ذكر الخلاف ولم يتعرض للتأويلين فلذا عمم فتأمله. قاله بناني. ولو باعه أي المبيع فاسدا بائعُه قبل قبض المشتري له وقبل تمكينه منه فإن بيعه ثانيا صحيحا ماض اتفاقا، وأما لو باعه بيعا صحيحا بعد التمكين وقبل القبض ففيه قولان، أحدهما: لابن القاسم وعليه قول المص "وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض." والثاني: لأشهب أنه ينتقل الضمان للمشتري بالتمكين. قاله بناني وغيره. والذي يفهم من الحطاب أنه يتفرع على القولين المذكورين في بيع البائع بعد تمكين المشتري من القبض مضي البيع وعدمه، بل قد يدعى أن كلامه صريح في ذلك. والله سبحانه أعلم.

تنبيهات: الأول: قال الحطاب: والظاهر من القولين فيما إذا باعه مشتريه قبل قبضه من بائعه، الإمضاء قياسا على العتق والتدبير والصدقة، ففي المدونة: عتق المشتري بأنواعه وهبته قبل قبضه فوت إن كان المشتري مليا بالثمن، فإن كان معدما رد عتقه ونقض بيعه ورد لبائعه، وفي كلام ابن يونس المتقدم وكلام أبي إسحاق: أن البيع أوكد من الهبة والصدقة، وفيه ترجيح القول بنفوذ البيع. انتهى. قال الرهوني: وقد صرح بترجيحه ابن مغيث وقبله ابن هشام في المفيد. انتهى المراد منه.

ص: 357

الثاني: قال عبد الباقي: واعلم أنه يمضي عتق كل من المتبايعين فاسدا ولو كان المبيع بيد الآخر فإن أعتقا مضى عتق الأول منهما فإن جهل الأول مضى عتق من هو في يده. انتهى. ولو أعتقاه معا في آن واحد فالظاهر أنه يمضي عتق من هو بيده أيضا. الثالث: علم مما مر أنه لو باعه البائع بعد أن رد إليه فإن بيعه يمضي لأن البيع وقع بعد رجوع الضمان إليه وسقوطه عن المشتري. والله سبحانه أعلم. الرابع: قوله: وفي بيعه قبل قبضه لخ، سبب هذا الخلاف كون البيع الفاسد نقل شبهة الملك أم لا. ابن بشير: وإن كان الفوات بأن أحدث المشتري فيه حدثا من إعتاق أو إعطاء أو بيع فإن كان في يد البائع فهل يمضي ويكون فعل المشتري فوتا؟ قولان، وهما على الخلاف في البيع الفاسد هل ينقل شبهة الملك أم لا؟ ولو كان الأمر بالعكس فأحدث البائع فيه عقدا وهو في يد المشتري ففي مضيه قولان، وهما على الخلاف في نقل شبهة الملك فلا يمضي وعدم النقل فيمضي. انتهى. وقال في الشامل: وفي فوته ببيع صحيح قبل قبضه قولان، ثم قال: ولو باعه بائعه ثانية قبل إقباضه فالقولان. انتهى. وهذا الذي قاله لم أقف عليه لغيره بل ظاهر كلامهم أنه ماض ولا خلاف فيه، قال ابن محرز وغيره: ولم يختلفوا أنه إذا لم يقبض المبيع ولا مكنه منه أنه في ضمان بائعه، واختلفوا إذا مكنه منه ولم يقبضه وانتقد ثمنه. انتهى. وقد يقال: إن مراد صاحب الشامل الصورة المختلف فيها وهي ما إذا باعه مرة ثانية قبل إقباضه وبعد تمكين المشتري منه. فتأمله والله أعلم. قاله الإمام الحطاب.

الخامس: قد مر ترجيح الحطاب القول بنفوذ بيع المشتري قبل القبض وأنه مفوت، قال: وكذلك الظاهر من القولين الذين في العكس وهو ما إذا باعه وهو في يد مشتريه قبل أن يقبضه برده إليه الإمضاء أيضا، وقوله: وفي بيعه قبل قبضه، هو شامل لهبة الثواب ولو آجر البائع المبيع بيعا فاسدا أو رهنه قبل قبض المشتري له فالظاهر نفوذ ذلك إن كان المبيع بيد البائع ولا إشكال فيه، وأما إن كان بيد المشتري ولم يقبضه منه برده إليه أنه يدخله الخلاف، وقول ابن بشير: أحدث فيه عقدا، شامل لذلك. والله أعلم. قاله الحطاب. والحاصل أن الصور أربع، إحداها: أن يحدث

ص: 358

فيه المشتري حدثا بعد قبضه من إخراج عن يد وتعلق حق فالفوات. ثانيها: أن يحدث فيه بيعا أو هبة أو صدقة أو عتقا قبل القبض ففيها الخلاف المشار إليه بقوله: وفي بيعه قبل قبضه لخ، والراجح نفوذ ذلك كما علمت. ثالثها: أن يحدث فيه البائع حدثا من ذلك بعد أن قبضه المشتري ففيه الخلاف المتقدم ذكره والراجح الإمضاء كما مر. رابعها: أن يحدث فيه البائع ما ذكر قبل قبض المشتري له فيتفق على نفوذ ذلك إلا أنه إذا مكنه يجري فيه قولان بالنفوذ فيفوت وعدمه فلا يفوت، وقد علمت أن الراجح هو النفوذ بناء على أن التمكين كالقبض أولا، واعلم أن المعتبر من البيع في هذه الصور هو البيع الصحيح وإلا فلا عبرة به، ومحل الكلام في هذه الصور إن لم يقصد بها المشتري الإفاتة ومثله البائع في ذلك، وأما إذا قصد بها الإفاتة فأشار إليه بقوله: لا إن قصد بالبيع الإفاتة؛ يعني أنه إذا قصد المشتري بالبيع أو الهبة أو الصدقة أو غير ذلك إفاتة المبيع فإنه لا يفوت بذلك ويرد فعله، وكذلك البائع وهذا في غير العتق، وأما العتق فماض. قال عبد الباقي: ويفسخ البيع وجوبا كبيع فاسد لم يحصل فيه فوت، كذا يفيده الشارح. قال ابن عرفة: وسمع عيسى ابن القاسم: من باع عبدا أو دارا بيعا حراما فقام بفساد المبيع على المشتري يريد فسخ المبيع ولم يفت ذلك فيفوت المشتري ذلك بتصدق بالدار أو بيعها أو بيع العبد أو بعتقه بعد قيام البائع عليه، لم تجز صدقته ولا بيعه بعد قيامه عليه بفسخه، ويمضي العتق لحرمته. ابن رشد: وهذا صحيح لأنه متعد فيما فعل بعد القيام عليه إنما يجوز له ذلك قبل القيام عليه لأنه أذن له في ذلك حين ملكه المبيعَ بالبيع الفاسد، فإذا باع أو وهب أو تصدق بعد أن قام عليه فله إجازة ذلك وأخذ القيمة يوم القبض لأنه بفعله ذلك رضي بالتزام القيمة، وله رد ذلك وأخذ مبيعه، وليس له أن يجيز البيع ويأخذ الثمن إذ ليس بعداء صرف. عياض: ولا يختلفون أنه لو علم بالفساد ثم باعها قاصدا تفويتها أن بيعه غير ماض، قلت: هذا خلاف قول اللخمي: إن قصد المشتري بالبيع والهبة تفويت البيع

(1)

قبل أن يقوم عليه البائع كان فوتا.

(1)

كذا في الأصل، ولعلها: المبيع.

ص: 359

واختلف إن فعل ذلك بعد أن قام عليه البائع ليرد البيع، قلت: ففي فوته بصحيح بيعه بقصد تفويته، ثالثها: إن كان قبل قيام بائعه بفسخه لظاهرها مع اللخمي على المذهب وعياض مع ابن محرز عنه ونقل اللخمي مع سماع عيسى ابن القاسم.

تنبيهات: الأول: قد مر قول المص وفي بيعه لخ، وقد مر أنه البيع الصحيح وأن الفساد غير مفيت وهذا من قبيل قول الفقهاء: النجاسات لا تزيل أحكام النجاسات. الثاني: قد علمت مما مر أن الراجح تفويت ما يحدثه البائع أو المشتري مما مر ذكره. قال الشيخ أبو علي بعد جلب كثير من النقول: وقد تحصل من هذا كله أن كل عقد عقده البائع في المبيع وهو في يد المشتري ماض بيعا كان أو إجارة أو رهنا أو حبسا أو صدقة أو نوعا من أنواع العتق، ولو كتابة لأن الكتابة بيع أو عتق، وكذا إن كان بيده وهو أحرى، والخلاف فيه ضعيف، وكذا المشتري كل ما فعله مما تقدم فهو ماض: أما إن كان بيده فلا إشكال، وكذا وهو بيد البائع على الراجح.

الثالث: يفهم من كلام ابن رشد المتقدم أن المشتري شراء فاسدا يجوز له التصرف في المبيع قبل القيام عليه، وهو خلاف ما مر من أن فائدة معرفة ما يكون فوتا أن جميع ما اشتري شراء فاسدا لا يجوز أكله والانتفاع به بوجه من الوجوه ما دام على حاله لم يدخله مفيت، فإذا دخله شيء من هذه المفيتات حل أكله والانتفاع به جائز حلال. قاله القباب. وقد مر قول ابن رشد: وأخذ القيمة يوم القبض خلاف ما مر من اعتبارها يوم المبيع قاله الشيخ أبو علي. الرابع: قوله: لا إن قصد بالبيع الإفاتة، قال عبد الباقي: وصدق بيمينه في دعواه قصد الإفاتة أو عدمه حيث لم يقم دليل على كذبه كذا ينبغي.

وارتفع المفيت إن عاد؛ يعني أنه إذا حصل مفيت في البيع الفاسد ووجبت القيمة في المقوم والمثل في المثلي دفع ذلك أم لا، ولم يحكم حاكم بعدم رده، ثم عاد المبيع إلى حالته التي كان عليها قبل الفوات، فإن ذلك المفيت يرتفع بمعنى أنه يكون بمنزلة ما إذا لم يحصل في المبيع مفوت فيرد إلى ربه الأصلي، وإذا كان فواته بخروج عن يد وعاد لمشتريه فلا فرق بين أن يعود إليه باختياره كشرائه أو بغيره كحصوله بإرث، فإن حكم حاكم بعدم رده مضى ولم يرد لربه بعد عوده له، وأشعر قوله: إن عاد أن ما لا يمكن عوده إما حسا كطول زمان حيوان وإما شرعا

ص: 360

كالعتق والتدبير ونحوهما حيث لم يُرَدُّ ذلك شرعا فلا يتأتى ارتفاعه، وما ذكره المص هو قول ابن القاسم. وقال أشهب: لا يرتفع لعوده من بيع ولا غيره ويجري على هذا الاختلاف العتق أو التدبير يرده الغريم، والعيب يزول بعد حصوله. المازري: وكذلك إذا آجره أو رهنه ثم افتكه فإن ذلك كله يجري على القولين.

إلا بتغير السوق؛ يعني أن المبيع بيعا فاسدا إذا فات بحوالة سوق فيما تفيته حوالة الأسواق، ثم إن السوق عاد إلى حالته التي كان عليها قبل الفوات فإن ذلك المبيع لا يرد، بل يمضي بالثمن أو بالقيمة على ما مر ولا ينظر إلى ما رجع إليه. قال الشيخ أبو علي: قال ابن يونس: ومن المدونة قال ابن القاسم: وإذا تغير سوق السلعة ثم عاد لهيئته فقد وجبت القيمة، وكذلك إن ولدت الأمة ثم مات الولد، وأما إن باعها ثم رجعت إليه بعيب أو شراء أو هبة أو ميراث أو كاتبها ثم عجزت بعد أيام يسيرة فله الرد، إلا [إن تغير]

(1)

سوقها قبل رجوعها إليه فذلك فوت، وإن عاد لهيئته أو يَمْضِيَ للأمة نحو الشهر فلابد أن تتغير في بدنها أو سوقها، وأشهب يفيتها بعقد البيع والكتابة وإن رجعت إليه بقرب ذلك، كحوالة الأسواق؛ وقول أشهب: إن حوالة الأسواق والبيع سواء أقيس. انتهى. ولما أنهى الكلام على البيوع التي نص الشرع على المنع فيها، عقَّبها ببيوع ظاهرها الجواز ويتوصل بها إلى ممنوع، فمنعها أهل المذهب وأجازها غيرهم فقال:

(1)

في ابن يونس ج 8 ص 315: أن يتغير.

ص: 361

‌فصل: في بيوع الآجال،

ومنعت حماية للذريعة بالذال المعجمة أي الوسيلة إلى الشيء، وأصلها عند العرب ما تألفه الناقة الشاردة من الحيوان لتنضبط به، ثم نقلت إلى البيع الجائز المتحيل به على ما لا يجوز، وكذلك غير البيع على الوجه المذكور فهو من مجاز المشابهة، والذرائع ثلاثة: ما أجمِع على إعماله كالمنع من سب الأصنام عند من يعلم أنه يسب الله تعالى لأجل ذلك، وكحفر آبار في طريق المسلمين حيث يعلم وقوعهم فيها، وإلقاء السم في أطعمتهم إذا علم أكلهم منها؛ وما أجمع على إلغائه كالمنع من زرع العنب لأجل الخمر، والتجاور في المساكن خشية الزنى؛ وما اختلف فيه كالنظر للأجنبية، والحديث معها، وبيوع الآجال. ومذهب مالك منعها أي منع بيوع الآجال، والمراد ما اختلف فيه بين العلماء، والنظر للأجنبية أي بغير شهوة، وكذا ما بعده فمالك يجيزه وغيره يمنعه؛ إذ ما بشهوة متفق على منعه. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: ويسميها أهل المذهب بيوع الآجال، قال في التوضيح: وهل كل من البيوع والآجال باق على دلالته أو سلبت دلالة كل واحد وصار المجموع اسما لا ذكره فيه احتمالان والثاني أظهر. انتهى. واعلم بأنه إذا أريد بها مسائل هذا الباب فالاحتمال الثاني متعين، ودليل مالك رضي الله عنه (ما في الموطإ أن بحينة أم ولد لزيد بن أرقم قالت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين إني بعت من زيد بن أرقم عبدا بثمان مائة إلى العطاء واشتريته بست مائة نقدا، فقالت عائشة رضي الله عنها: بيسما شريت وبيس ما اشتريت. أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، قالت: أرأيت إن أخذته برأس مالي؟ قالت عائشة رضي الله عنها: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} . وهذه الصورة محل النزاع بين مالك والشافعي. قال الخرشي: وهذا التغليظ العظيم لا تقوله عائشة إلا عن توقيف لا من طريق قياس، وقول من قال من أصحابنا: لعلها إنما قالت ذلك لوقوع البيع إلى العطاء وهو مجهول ليس بظاهر؛ لأن المنقول عن عائشة جواز البيع إلى العطاء، وضعف بعض الشيوخ هذا الخبر لما فيه من قولها: أبطل جهاده إذ ظاهره إبطال الذنوب للأعمال، وهو خلاف كتاب الله وحديث نبيه عليه الصلاة والسلام، ومذهب أهل السنة. ابن عرفة: بيوع الآجال يطلق مضافا ولقبا، الأول: ما أجِّل ثمنه العين وما أجِّل ثمنه غيرَها سلمٌ، والثاني لقب لتكرر بيع عاقدي الأول ولو

ص: 362

بغير عين قبل انقضائه. انتهى. وأشار بهذا إلى أن بيوع الآجال لها مفهومان، مفهوم إضافي وهو أن يكون البيع أضيف إلى أجل فكل لفظ من البيوع والآجال باق على دلالته، وضد ذلك بيع النقد ومفهوم يسمى بالمضاف والمضاف إليه، فصارا لقبا له أي سلبت دلالة كل واحد، وصار المجموع لقبا لما ذكره. وقوله: لتكرر بيع لخ، أخرج به عدم تكرر البيع، وتكرره من غير عاقدي الأول، والأول صفة للبيع وكان عليه أن يقول: لأجل، عقب قوله: الأول، وهي في بعض نسخ ابن عرفة، وقوله: قبل اقتضائه، أخرج به ما إذا وقع ذلك بعد اقتضاء الأول.

فرع: من باع سلعة بعينها ولم يذكر في ثمنها حلولا ولا تأجيلا فإنه يحمل على الحلول. نقله الحطاب وقال المص رحمه الله تعالى مستأنفا أو عاطفا على قوله: وفسد منهي عنه، ولا يمنع ذلك الفصل "بفصل" كما ذكره السعد في شرح التصريف. قاله عبد الباقي. ومنع للتهمة ما كثر قصده؛ يعني أنه يمنع من بيوع الآجال الظاهرة الصحة لأجل تهمة التوصل إلى باطن ممنوع كلُّ بيع كثر قصده أي قصد باطنه الممنوع، فما واقعة على المبيع الجائز في الظاهر، والضمير في قصده عائد على ما باعتبار حذف مضاف؛ أي كثر قصد باطنه الممنوع وقصده فاعل كثر، وقال الخرشي مفسرا للمص: أي ومنع كل بيع جائز في الظاهر مود إلى ممنوع في الباطن للتهمة أن يكون المتبايعان قصدا بالجائز في الظاهر التوصل إلى ممنوع في الباطن وذلك في كل ما كثر قصده للناس. انتهى. وفي بعض النسخ قصدا بالتنكير والفاعل ضمير عائد على ما، وقصدا تمييز محول عن الفاعل أي ما شأنه أن يقصد كثيرا، وظاهره وإن لم يقصده فاعله، وذكر المواق، عن ابن رشد أنه لا إثم على فاعله فيما بينه وبين الله تعالى، حيث لم يقصد الأمر الممنوع. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب مفسرا للمص أي: ومنع كل بيع جائز في الظاهر مود إلى ممنوع في الباطن، وليس ذلك في كل ما أدى إلى ممنوع، بل إنما يمنع ما أدى إلى ما كثر قصده للناس. انتهى المراد منه.

كبيع وسلف، مثالٌ لما كثر قصد الناس له، فمنع للتهمة؛ يعني أن من الممنوع الذي يكثر القصد إليه ويتحيل إليه بما هو جائز في الظاهر ما يؤدي إلى البيع والسلف، قال الإمام الحطاب: واعلم أنه لا خلاف في المنع من صريح بيع وسلف، وكذلك ما أدى إلى بيع وسلف وهو جائز في الظاهر

ص: 363

لا خلاف في المذهب في منعه، صرح بذلك ابن بشير وتابعوه وغيرهم، مثال ذلك أن يبيع سلعتين بدينارين إلى شهر، ثم يشتري إحداهما بدينار نقدا، وقاعدة إمامنا مالك رضي الله تعالى عنه وأصحابه عد ما خرج من اليد وعاد إليها لغوا، وكأن البائع خرج من يده دينار وسلعة نقدا يأخذ عند الأجل دينارين أحدهما عوض عن السلعة وهو بيع، والثاني عوض عن الدينار المنقود وهو سلف، واعلم أن الصور ثلاث: بيع وسلف بشرط ولو بجريان العرف وهي التي قدم المص ذكرها في المنهيات، وتهمة بيع وسلف حيث يتكرر البيع وهي التي تكلم المص عليها هنا، فالأولى لا خلاف في المنع منها، وكذا الثانية لا خلاف في المذهب في المنع منها، والثالثة بيع وسلف بلا شرط لا صريحا ولا حكما وهي جائزة. والله سبحانه أعلم.

وسلف بمنفعة؛ يعني أن ما أدى إلى سلف بمنفعة للمسلِف بكسر اللام يمنع اتفاقا. مثاله: من باع سلعة إلى أجل بعشرة ثم اشتراها بثمانية نقدا، فإن ثوبه رجع إليه فئال الأمر إلى أنه دفع ثمانية فأخذ عنها عشرة قال الإمام الحطاب: وإنما كان البيع والسلف، والسلف بالمنفعة مما يكثر القصد إليهما لما فيهما من الزيادة، والنفوس مجبولة على حبها، والباء في بمنفعة بمعنى مع، وأتى الشيخ بالكاف في: كبيع وسلف ليدخل ما أدى إلى ممنوع يكثر القصد إليه غير هذين المثالين، كما لو أدى إلى الدين بالدين أو إلى صرف مستأخر أو مبادلة فلا يجوز كما يأتي. قاله الحطاب. قال: ولا فرق بين أن يكون المتبايعان قصدا [للممنوع]

(1)

وتحيلا عليه بالجائز في الظاهر أو لم يقصداه وإنما آل أمرهما إلى ذلك، قال في التوضيح: التهم عليه في هذا الباب كالمدخول عليه لأن الداخل عليه آثم آكل للربا، كما أخبرت عائشة رضي الله عنها، ولا يقال: كان ينبغي أن يكتفي بقوله: سلف بمنفعة عن قوله: بيع وسلف؛ لأن البيع والسلف إنما منع لأدائه إلى السلف بمنفعة؛ لأنا نقول: هو وإن كان مؤديا إليه إلا أنه أبين في بعض الصور لأنه تعليل بالمظنة فكان أضبط. والله أعلم. انتهى.

(1)

في الحطاب ج 5 ص 197 الممنوع.

ص: 364

لا قل يعني أنه لا يمنع البيع الذي قل قصد باطنه الممنوع، والمعطوف بلا محذوف؛ أي ما قل القصد إليه، فلا هنا عطفت مفردا على مفرد قال الحطاب: لما كان مفهوم قوله: كثر قصده، أن ما قل قصده لا يمنع، وكان ذلك مختلفا فيه ومنقسما إلى قسمين، أحدهما أضعف من الآخر، وكان الحكم فيهما واحدا على المشهور، نبه على ذلك بقوله: لا قل؛ أي القصد إليه وهو على قسمين؛ لأنه إما أن يكون القصد إليه بعيدا جدا أو لا يكون بعيدا جدا، فالثاني كالمؤدي إلى ضمان بجعل، مثاله أن يبيع ثوبين بعشرة دراهم إلى شهر، ثم يشتري منه عند الأجل أو قبله ثوبا بالعشرة، فئال أمره إلى أنه دفع له ثوبين ليضمن له أحدهما بالآخر إلى شهر، وحكى ابن بشير وابن شأس في ذلك قولين مشهورين، وحكى ابن الحاجب القولين من غير تشهير، إلا أنه قال في التوضيح: ظاهر المذهب الجواز لبعده، واقتصر في هذا المختصر عليه، ولا خلاف في منع صريح ضمان بجعل؛ لأن الشرع جعل الضمان والقرض والجاه لا تفعل إلا لله بغير عوض، فأخذ العوض عليه سحت قاله في التوضيح. ابن بشير: ينبغي أن الخلاف خلاف في الحال، فمتى ظهر القصد منع ومتى لم يظهر جاز. انتهى. ومثل: للبعيد جدا بقوله:

أو أسلفني وأسلفَكَ؛ يعني أن ما أدى إلى أسلفني وأسلفك لا يمنع؛ لأن القصد إلى ذلك بعيد جدا، مثال ذلك أن يبيع ثوبا بدينارين إلى شهر ثم يشتريه بدينار نقدا ودينار إلى شهرين، فالسلعة قد رجعت إلى صاحبها ودفع الآن دينارا، ويأخذ بعد شهر دينارين أحدهما عوض عما كان أعطاه، والثاني كانه أسلفه له ليرده بعد شهر. انتهى. أي فالدينار النقد يقدر سلفا يأخذ عنه دينارا وأسلفه الآخر الدينار الثاني، ويدفع له عنه الدينار المؤجل بشهرين. والله سبحانه أعلم. وقوله: أسلفني وأسلفك بف تح همزة الأول وضم همزة الثاني لأنه مضارع والأول أمر، والمضارع منصوب بأن مضمرة بعد الواو في جواب الأمر. وقد علمت أن المشهور جواز ما أدى إلى أسلفني وأسلفك، والشاذ لابن الماجشون اعتبار هذا فيمنع ما أدى إليه، ولا خلاف في المنع من أن يسلف إنسان شخصا [ليسلف]

(1)

، واستبعد ابن عبد السلام أن يكون هذا أضعف مما قبله،

(1)

في الحطاب ج 5 ص 198 دار الرضوان: ليسلفه.

ص: 365

قال: لأن العادة طلب المكافأة على السلف بالسلف، أجيب بأن المستبعد إنما هو الدخول على أن يسلفه الآن ليسلفه بعد شهر إذ الناس إنما يقصدون السلف عند الاضطرار. والله أعلم. وأدخل الشيخ الكاف في قوله: كضمان بجعل، ليدخل ما أشبهه في البعد كبيع دنانير بدنانير مؤخرة من جنسها إذا كانت الأولى أكثر؛ لأنه يبعد القصد إلى دفع كثير ليأخذ عنه قليلا، وما أشبه ذلك مما سيأتي. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: ووجه الجواز أن الناس في الغالب لا يقصدون السلف إلا ناجزا لا بعد مدة.

تنبيه: قال عبد الباقي عند قوله: كضمان بجعل ما نصه: كبيع ثوبين بدينار لشهر ثم يشتري منه أحدهما بعد مدة بدينار نقدا فيجوز ولا ينظر لاتهامه أن يكون دفع له ثوبين ليضمن له أحدهما وهو الثوب الذي اشتراه مدة بقائه عنده بالآخر، وإطلاق الضمان على هذا تَجَوُّز؛ لأنه ليس فيه شغل ذمة أخرى بالحق. انتهى المراد منه. قوله: وإطلاق الضمان على هذا لخ، قال بناني: فيه نظر، بل الضمان عند الفقهاء له إطلاقان أخص وهو شغل ذمة لخ، وأعم وهو موجب الغرم مطلقا ومنه قوله: وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض، ومنه ضمان الرهان وغيرها، ومن هذا الإطلاق الضمان هنا فهو حقيقة لا مجاز. انتهى. ولما ذكر رحمه الله موجب فساد بيوع الآجال شرع يذكر الممنوع منها من غير الممنوع على سبيل التفصيل، ولذا أتى بالفاء في قوله: فمن باع، مقوما يرى بعينه قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: فمن باع شيئا لخ، لأجل، ولا تكون المبيعة الأولى إلا إلى أجل إذ لو كانت نقدا لانتفى التهمة فيجوز إلا أن يكون من أهل العينة. ثم اشتراه؛ أي عين ما باع وحده بجنس ثمنه. الذي باعه به وبينه بقوله: من عين، متفق في البيعتين صنفا وصفة. قاله عبد الباقي. أي باع ثوبه مثلا بعين إلى شهر، ثم اشتراه بعين مثلها صنفا وصفة. وطعام، عطف على عين أي باع ثوبه مثلا بطعام ثم اشتراه بطعام من صنفه ولو اختلفت صفته، ويجري مثل ذلك في قوله: وعرض والواو فيهما بمعنى أو، فالبيعة الثانية إما أن تكون تقدا أو للأجل الأول أو أقل منه أو أكثر منه، وهذه أربعة أحوال بالنسبة للأجل، وكل منها له ثلاث حالات؛ لأنه إما بمثل الثمن الأول أو أقل أو أكثر تحصل اثنتا عشرة صورة، قال أحمد: قوله فمن، من شرطية، وقوله: فإما نقدا لخ، تفصيل، والجواب محذوف

ص: 366

تقديره: ففي كل نوع مع مماثله اثنتا عشرة صورة. وقوله: يمنع منها ثلاث، إشارة إلى حكم المسائل أي فتسع منها جائزة، وهي ما لم يتعجل فيه الأقل وثلاث منها ممتنعة، وهي أي الثلاث المتنعة ما أي البيع الذي تعجل فيه الأقل، بأن يبيعه بعشرة لأجل ثم يشتريه بثمانية مثلا نقدا أو لدون الأجل، أو بأكثر لأبعد من الأجل، وعلة منعها تهمة دفع قليل في كثير مؤجل، ووكيل كل من البائع والمبتاع بمنزلته، وشراء فضولي للبائع الأول أو محجوره له كهو؛ لأنه لما أجاز شراء الفضولي والمحجور فكأنه هو المشتري، وسواء علم الوكيل أو الموكل ببيع الآخر أو شرائه أو جهل كل ذلك، وعبد كل غير الأذون له أو الأذون له وهو يتجر للسيد كوكيله، فإن تجر لنفسه جاز شراؤه، وسواء باع السيد لأجنبي ثم اشترى العبد منه، أو باع العبد لأجنبي ثم اشترى السيد منه، وقيل يكره. قاله الأقفهسي. وكره للبائع شراؤه لغيره أو لابنه الصغير كما في المدونة، أو محجوره، ومنع شراؤه لعبده غير المأذون له أو الأذون له وهو يتجر للسيد، لا إن تجر لنفسه. ابن عرفة: ابن القاسم: لو مات مبتاعها إلى أجل قبله جاز للبائع الأول شراؤها من وارثه لحلول الأجل بموته، ولو مات البائع لم يجز لوارثه إلاما جاز له من شرائها، ولو ابتاعه لأجل ثم ابتاعه ثالث بالمجلس بعد القبض ثم ابتاعه الأول منه بعد ذلك في موضع واحد منه. قاله في الشامل. فإن ابتاعه الأول منه بعد القبض بمجلس آخر جاز إلا لتواطؤ على تعدد المجلس، فإن كان قبل القبض منع ولو كان وقع ذلك في مجالس فيما يظهر، فشراء البائع من مشتريه يمنع منه ما تعجل فيه الأقل سواء كان الشراء بمجلس البيع كان قبل قبض المبيع أم لا، وأما شراؤه ممن اشترى من مشتريه فإن كان قبل قبض المبيع فكذلك فيما يظهر، كبعده والشراء بمجلس البيع لا بمجلس آخر، فيجوز إلا أن يعلم قصد التحيل قاله عبد الباقي. وتقدم ما يفيد التعميم من قوله: فمن ابتاع شيئا. قال بناني: يقتضي تعميمه؛ يعني عبد الباقي شمول المقوم والمثلي، وخصه الحطاب بالقوم الذي يعرف بعينه، وقال: إن المثلي سيأتي حكمه في كلام المص. انتهى. ويدل له عبارة ابن بشير وابن شأس وابن الحاجب وابن عرفة، لكن قال المسناوي: فيه بحث لأن الذي يأتي هو الكلام على مثل المثلي، أما اشتراء عينه فينبغي

ص: 367

إدخاله هنا، فقول مصطفى: من عمم كلام المؤلف في المثلي وغيره ورد على الحطاب مخطئ ومقصر. انتهى. فيه نظر والله أعلم. وبحث ابن الحاجب في منع ما إذا اشتراها بأكثر لأبعد من الأجل وإن كان منعها في المدونة بأن ما أدى إليه سلف غير ناجز ويبعد قصد الناس له، وقد تقدم أن ظاهر المذهب الجواز فيما يبعد القصد إليه قاله في التوضيح. انتهى. وقال الرهوني: إن الحق ما قاله مصطفى.

فرع: قال في النوادر: وإذا باع المقارض سلعة بثمن إلى أجل جاز لرب المال شراؤها بأقل منه نقدا. انتهى. نقله الحطاب. قال عبد الباقي: ولما ذكر أحوال تعجيل الثمن كله أو تأجيله كله وكانت أربعة في ثلاثة، ذكر أحوال تعجيل بعضه في كل الصور: وتأجيل البعض الباقي إلى أجل دون الأجل أو مثله أو أبعد، وهذه الثلاثة مضروبة في أحوال قدر الثمن الثلاثة فتكون الصور تسعة، وتسقط صور النقد الثلاث مشبها في المنع فقال: وكذا لو أجل بعضه؛ يعني أنه إذا باعها بعشرة مثلا لأجل أو بطعام مؤجل أو بعرض مؤجل ثم اشتراها بصنف الثمن الأول وبعضه معجل وبعضه مؤجل فإنه ممتنع من ذلك ما تعجل فيه الأقل كله على كل الأكثر أو على بعضه، وذلك صورتان، الأولى: كبيعه سلعة بعشرة لأجل ثم اشتراها بثمانية أربعة نقدا وأربعة لدون الأجل، والمنع لدفع قليل في كثير. الثانية: أن يشتريها في الفرض المذكور باثني عشر خمسة نقدا وسبعة لأبعد من الأجل؛ لأن البائع تعجل الأقل وهو العشرة على بعض الأكثر وهو السبعة التي لأبعد، فالمشتري الأول يدفع بعد شهر عشرة خمسة عوض عن الخمسة الأولى وخمسة يأخذ عنها بعد ذلك سبعة، وتعجل فيه بعضه أي الأقل على كل الأكثر، وذلك صورتان أيضا، فالأولى كبيعه سلعة بعشرة لشهر ثم يشتريها منه بثمانية أربعة نقدا وأربعة للأجل؛ لأنه تقع المقاصة في أربعة عند الشهر، ويأخذ ستة عن الأربعة التي نقدها أولا، فهو سلف بمنفعة. والثانية: أن يشتريها بثمانية أربعة نقدا وأربعة لأبعد من الأجل؛ لأن المشتري الأول يدفع بعد شهر عشرة له ستة في مقابلة الأربعة الأولى، فهو سلف بمنفعة وأربعة يأخذ عنها بعد ذلك مثلها فهذه أربعة، والخمسة الباقية جائزة، وهي ما إذا باع السلعة بعشرة إلى شهر ثم اشتراها بعشرة عجل بعضها وأجل البعض الآخر إلى أجل دون الأجل، أو إلى الأجل أو إلى أبعد، وأن يشتريها باثني عشر بعضها

ص: 368

معجل وبعضها لأجل دون الأجل أو للأجل، ومنع ابن الماجشون من هذه الصور الخمس الجائزة الصورة الثالثة، وهي: ما إذا باع السلعة بعشرة إلى شهر ثم اشتراها بعشرة عجل منها خمسة وأخر الخمسة الأخرى إلى شهرين، بناء على اعتبار أسلفني وأسلفك؛ لأن الثوب رجع إلى صاحبه وآل الأمر إلى أن البائع أسلف المشتري خمسة الآن على أن يعطيه بعد شهر عشرة خمسة قضاء ويسلفه خمسة، والمشهور الجواز بناء على عدم اعتبار أسلفني وأسلفك. والله أعلم. واعلم أن القاعدة فيما مر أنه إن اتفقت الأثمان فلا نبالي بالآجال؛ أي فتجوز الصور الأربعة وهي أن يشتريه بمثل الثمن نقدا أو لدون الأجل أو للأجل أو لأبعد من الأجل، وإن اتفقت الآجال فلا نبالي بالأثمان؛ أي فتجوز ثلاث صور وهي أن يشتريها للأجل بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، فتلك ستة لأن واحدة من هذه الثلاث داخلة في الأربع الأول، وإن اختلفتا معا فانظر إلى اليد السابقة بالدفع، فإن عاد إليها أكثر مما دفعت منع وذلك ثلاث، وإلا جاز وذلك ثلاث أيضا، وهي أن يشتريها بأقل لأبعد من الأجل وبأكثر نقدا أو لدون الأجل، وكذا يقال في صور تأجيل البعض، وتعجيل البعض كما مر بيانه. ولما كان محل الجواز قد يكون ممتنعا لوجود مانع بين ذلك مشبها في المنع فقال: كتساوي الأجلين إن شرطا نفي المقاصة؛ يعني أنه إذا باع سلعة بمائة لشهر مثلا ثم اشتراها بمائة وعشرين مثلا لذلك الشهر، وشرطا في عقد البيع الثاني نفي المقاصة فإن ذلك ممنوع والمنع هنا لأجل ابتداء الدين بالدين، ولو اشترطا المقاصة فالجواز لسقوط المتماثلين ولم يبق غير الزائد في ذمته فقط، وكذا يجوز إن سكتا عنها لأنه يقضى بها عند تساوي الأجلين. قال الحطاب: قد تقدم أنه أتى بالكاف في قوله: كبيع وسلف ليدخل ما أشبهه كالدين بالدين، وأن التهمة على ذلك معتبرة، فلذلك منع ما أصله الجواز وهو ما إذا تساوى الأجلان إذا شرطا نفي المقاصة لما فيه من عمارة الذمتين سواء كان الثمن الثاني مساويا للثمن الأول أو أقل أو أكثر، ومفهوم قوله: إن شرطا نفي المقاصة أنهما لو لم يشترطا نفيها جاز سواء شرطاها أو سكتا عنها، وهو كذلك لوجوب الحكم بها حينئذ ووجوب المقاصة نفى التهمة، وقد صرح بذلك الرجراجي وغيره. انتهى.

ص: 369

تنبيه: قال في الجواهر إذا اشترطا المقاصة جازت الصور كلها؛ يعني الاثنى عشر صورة لارتفاع التهمة وهو ظاهر، ولأجل ذلك أي ولأجل اعتبار هذه التهمة صح البيع وجاز في مسألة ما إذا اشتراها بأكثر من الثمن الأول لأبعد من الأجل الأول إذا شرطاها؛ أي المقاصة للسلامة من دفع قليل في كثير. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: ولذلك أي ولأجل أن للشرط المتعلق بالمقاصة تأثيرا سواء تعلق بثبوتها أو نفيها صح في أكثر لأبعد، وكذا في بقية الصور الممتنعة كما في الحطاب، كشرائه بأقل لدون الأجل واشترطا المقاصة، فاقتصار المص على ما ذكر فرض مسألة كما في أحمد إذا شرطاها، وبما قررنا من قولنا: أو نفيها، علم أنه لا يرد أن المشار له هو شرط نفي المقاصة والصحة مع شرط المقاصة فبين قوله: إذا شرطاها وبين قوله: ولذلك تخالف، وأجيب: أيضا بأن اسم الإشارة عائد على قوله: للدين بالدين. انتهى.

والرداءة والجودة كالقلة والكثرة؛ يعني أن الرداءة من جانب والجودة من جانب آخر معتبرتان كاعتبار القلة والكثرة، فالردي كالقليل والجيد كالكثير، قال بناني: يأتي في هذا ثمان صور، أربع إذا باع بجيد واشترى بردية، وأربع في عكسها فإذا نوعت الثمن الثاني إلى مثل الأول أو أقل أو أكثر كانت أربعا وعشرين، فإن ضربتها في كون الثمن عينا أو عرضا أو طعاما صارت اثنتين وسبعين، وإن لاحظت مسألة ما أجل بعضه كانت ثمان عشرة، فإن ضربتها في ثلاث صور الثمن صارت أربعا وخمسين، فإن ضممتها للصور الأول كانت مائة وستا وعشرين، والمقصود بالتشبيه في كلام المص إنما هو صورتا النقد فقط بأن يشتريها بجيد نقدا مثل أو أكثر، قال المسناوي: وهاتان الصورتان الحق الجواز فيهما كما أفاده المص لأن قصد الناس إلى الصرف أكثر من قصدهم إلى المبادلة، فالتهمة عليه أقوى والمدار على قوة التهمة. انتهى. وقال الرهوني: قول محمد بن الحسن: قال المسناوي: والحق الجواز فيهما. قلت: وكلام الحطاب يفيد أيضا أنه الصواب، وكلام ابن يونس الذي في المواق هنا شاهد لذلك. والله أعلم. انتهى. فالصور كلها ممنوعة ما عدا اثنتين ث وقد صرح ابن الحاجب في بعض نسخه بالمنع في الصور كلها، وفي بعض نسخه مثل ما للمص. واعلم أن الاختلاف بالسكتين كالاختلاف بالجودة والرداءة، والمص أتى

ص: 370

بالمنع فيه ولم يستثن شيئًا، فعلم منه هنالك أن صور التأجيل هنا ممنوعة بالكلية ويؤخذ مما هنا التفصيل فيما يأتي في صور النقد. قاله بناني. والله سبحانه أعلم.

ومنع بذهب وفضة؛ يعني أنه يمنع بيع سلعة بذهب لأجل ثم يشتريها منه بفضة وكذا العكس، فلا يبيعها بفضة ثم يشتريها منه بذهب، فالصور الاثنا عشر في تقديم الذهب ومثلها في تقديم الفضة، وإنما منع ذلك للصرف المؤخر أي الاتهام عليه لأن البيعة الأولى لابد من تأجيلها، فالثانية إن عجلت كلها لزم صرف يتأخر قبضه، وكذا إن أجلت كلها أو بعضها ولو للأجل، ولا يخفى أن الممنوع إنما هو البيع الثاني. إلَّا أن يعجل أكثر من قيمة المتأخر جدا؛ يعني أن محل المنع في بيع السلعة بذهب وشرائها بفضة، وعكس ذلك إنما هو حيث لم يعجل أكثر من قيمة المتأخر جدا، وأما إن كان المعجل أكثر من قيمة المتأخر جدا فإنه يجوز لانتفاء الصرف المؤخر قال عبد الباقي عند قوله: إلَّا أن يعجل أكثر من قيمة المتأخر جدا ما نصه: بأن يكون العجل يزيد على المؤخر بقدر نصف المؤخر، فيجوز لانتفاء تهمة الصرف المؤخر، كبيع ثوب بدينارين لشهر ثم اشتراه بستين درهما نقدا وصرف الدينار عشرون، والمراد بالقيمة ما جعله الإمام قيمة في الدنانير والدراهم، وأما في غيرهما فتعتبر القيمة الجارية بين الناس. قال عبد الباقي: قال أحمد: انظر هل تعجيله أقلّ من قيمة المتأخر جدا كتعجيله أكثر لانتفاء دفع قليل في كثير أو لا؟ وهو الذي ينبغي. انتهى. قال بناني: هذا قصور إذ المنع في هذا مصرح به في المدونة، ونصها: وإن بعته بثلاثين درهما إلى شهر يعني الثوب فلا تبيعه بدينار نقدا فيصير صرفا مؤخرا، ولو ابتعته بعشرين دينارا جاز لبعدكما من التهمة، وإن بعته بعشرين إلى شهر جاز أن تبتاعه بثلاثة دنانير نقدا لبيان فضلها ولا يعجبني بدينارين، وإن ساوياها في الصرف. انتهى. ففي الصورة الأولى عجل دينارا ويأخذ ثلاثين درهما، والدينار أقلّ منها جدا لأنه قدر ثلثها وقد منعه. انتهى. وقال الحطاب: قال في المدونة: وإن بعته بثلاثين درهما إلى شهر جاز أن تبتاعه بثلاثة دنانير نقدا لبيان فضلها ولا يعجبني بدينارين، وإن ساوياها في الصرف. انتهى. ومنع أشهب ذلك مطلقًا مبالغة في الاحتياط للصرف، وقيل: يجوز إذا ساوى المعجل قيمة المؤخر. قال أبو الحسن

ص: 371

الصغير: تحصيل المسألة إن كان النقدان إلى أجل لم يجز قولا واحدا، وكذا إن كان أحدهما نقدا والآخر مؤجل والنقد أقلّ من صرف المؤخر، وإن كان مثله أو أكثر فقولان، قال أشهب: لا يجوز مطلقًا؛ ومذهب ابن القاسم في الكتاب أنه إن كان مثل صرف المؤخر أو أكثر بشيء قليل لم يجز، وإن كان أكثر بشيء كثير جاز. قال: ومفهوم قوله: بعشرين دينارا أنه لو كان بأقل من عشرين لم يبعدا عن التهمة وليس كذلك، بل يبعدان بخمسة عشر وبعشرة. انتهى. قلت: ولو بأقل من ذلك كما يفهم من آخر كلامه في المدونة. قال أبو الحسن: وقوله: لبيان فضلها لأن أربعين درهما صرف دينارين ويبقى دينار، وهذا ما جرت به عادته في الكتاب أن صرف الدينار عشرون درهما.

وبسكتين إلى أجل، عطف على قوله: بذهب يعني أنه يمنع البيع بسكة ثم الشراء بسكة أخرى إلى أجل اتفق الأجلان أو اختلفا، وسواء اتفقا في العدد بالقلة والكثرة أم لا، وقد نبه على المنع فيما تخف فيه التهمة عن عكسه بقوله: كشرائه للأجل الأول، وأولى لدونه وأبعد منه بسكة محمدية؛ أي الشيء الذي باع بسكة يزيدية لاشتغال الذمتين، ولا ينظر لمعدن كلّ، فالمحمدية أجود ولو كان معدنها أردى واليزيدية أردى ولو كان معدنها أجود، ومعنى جودة السكة المحمدية كون رواج ما هي به أكثر من رواج السكة اليزيدية، ويقاس على المحمدية واليزيدية غيرهما كالشريف المحمدي والإبراهيمي في زمننا. قاله عبد الباقي. وقال بناني: قد علم أن الاختلاف بالسكتين كالاختلاف بالجودة والرداءة، وأخذ مما هنا المنع في صور الآجال كلها وهي ثمان عشرة، وأخذ مما تقدم التفصيل في صور النقد وهي ست، وقال الحطاب: قد تقدم الكلام أولا فيما إذا اتفق الثمنان من كلّ وجه، ثم ذكر هنا ما إذا اختلفا في السكة، فذكر أنه إن تأجل الثمنان منع مطلقًا وذلك شامل لثمان عشرة صورة؛ لأن الثمن الثاني إما مؤجل لأجل دون الأجل أو للأجل نفسه أو لأبعد من الأجل، وعلى كلّ حال فإما أن يكون مثل الثمن الأول عددا أو أقلّ أو أكثر: فهذه ثلاث في ثلاث بتسع، ثم لا تخلو السكة الثانية أن تكون أجود من الأولى أو أردي، ثم مثل من ذلك بصورة يتوهم فيها الجواز من جهتين بل من ثلاث، وهي: ما إذا باع السلعة بعشرة دراهم يزيدية ثم اشتراها بعشرة محمدية إلى الأجل نفسه، فيتوهم الجواز من اتفاق

ص: 372

الثمنين في العدد وفي الأجل، ومن كون المحمدية أجود من اليزيدية، وهذا عكس ما فرضه في المدونة، وإنما قصد المص العكس لأنه مختلف فيه، ومفهوم قوله، للأجل، أنه إذا اشتراها نقدا جاز، وفي ذلك ست صور؛ لأنه إما بمثل عدد الثمن الأول أو أكثر أو أقلّ، وعلى كلّ حال فالثمن الأول إما أجود سكة أو بالعكس، وليس على إطلاقه بل ينظر فإن كان الثمن الأول أجود سكة فيمنع، وإن كان الثاني أجود فإن كان أقلّ من الأول فيمتنع أيضًا وإن كان مثل عدد الأول أو أكثر جاز، فالجائز من مسائل النقد الست اثنتان فقط، وهما ما إذا اشتراه بسكة أجود وكان عدد الدراهم الثانية مثل عدد الأولى أو أكثر. انتهى.

وإن اشترى بعرض مخالف ثمنه جازت ثلاث النقد فقط؛ يعني أنه إذا باع ثوبا مثلا بعين أو عرض إنه اشترى عين ثوبه بعرض مخالف لثمنه الأول، بأن يكون الأول عينا والثمن الثاني عرض، أو يكون الثمن الأول عرضا والثمن الثاني عرض مخالف لجنس ذلك المرض، كأن يكون ثمن الثوب الأوَّلُ جملا واشتراه بفرس، فإنه لا يخلو من أن تكون قيمة الفرس أقلّ من الثمن الأول أو قدره أو أكثر، وفي كلّ إما أن يكون الثمن الثاني الذي هو الفرس نقدا أو لدون الأجل أو للأجل أو لأبعد، يجوز منها ثلاث النقد، وهي: أن يكون الفرس نقدا وقيمته أكثر من قيمة الجمل، أوأقلّ، أو مثلها، أو يكون قيمة الفرس قدر الثمن الأول إن كان الثمن الأول عينا أو أقلّ أو أكثر، والتسع الباقية ممنوعة وهي صور الآجال، ومفهوم قوله: برض مخالف أن العرضين لو كانا نوعا واحدا لم يكن الحكم كذلك، وهو كما أفهم كبيعه كتابا بثوب لشهر ثم اشتراه بثوب، فالبيعة الثانية إما نقدا أو لأجل دون الأجل أو مثله أو أبعد منه، وعلى كلّ قيمتهما إما متساوية أو الثاني قيمته أقلّ من قيمة الأول أو أكثر، فهي اثنتا عشرة صورة، يمنع منها ما عجل فيه الأقل اتفاقا، ويجوز منها ما لم يعجل فيه الأكثر اتفاقا، وفي جواز ما عجل فيه الأكثر ومنعه قولان، منشؤهما اعتبار ضمان بجعل وعدم اعتباره حكاهما المازري عن المتأخرين. قاله عبد الباقي. قال بناني: وهذا المفهوم داخل في قول المص فيما تقدم: ثم اشتراه بجنس ثمنه من عين وعرض وطعام الخ، وقوله: وفي جواز ما عجل فيه الأكثر لخ، ليس في هذا إلَّا الجواز، وإنما

ص: 373

محلهما إذا عجل عرضين مثلا ويأخذ عرضا وهما متماثلان. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله: جازت ثلاث النقد فقط، وهي بيع ثوب ببعير قيمته عشرة لشهر ثم يشتريه بفرس قيمته ذلك أو أقلّ أو أكثر نقدا؛ لأن ربا الفضل لا يدخل العروض، والمخالفة مع تساوي القيمة معناها في العرضية، وامتنعت تسعة وهي ما أجل فيه الثمنان وعلة المنع فيها دين بدين؛ لأن ذمة كلّ منهما معمرة لصاحبه بعرض مخالف للعرض الذي عليه. انتهى. وقال بناني عند قوله: وإن اشترى بعض لخ، ما نصه: واعلم أنه يتصور في هذه المسألة مائة وأربع وأربعون صورة؛ لأنه إما أن يبيع بذهب أو فضة ويشتري بعرض أو طعام فهذه أربع، وإما أن يبيع بعرض ويشتري بعرض مخالف أو طعام أو ذهب أو فضة فهذه أربع أخرى، وإما أن يبيع بطعام ويشتري بطعام مخالف أو عرض أو ذهب أو فضة وهذه أربع أخرى، فالمجموع اثنتا عشرة صورة تضرب في اثنتي عشرة صورة التي عند الزرقاني، وهي بأربع وأربعين ومائة منها ست وثلاثون هي صور النقد، فتجوز كلها إلَّا أنه إذا باع بطعام واشترى بطعام مخالف تمنع الصور كلها، فالجائز إذا ثلاث وثلاثون والله تعالى أعلم. ويمتنع الباقي لكن إذا باع بطعام واشترى بطعام مخالف يمنع مطلقًا لما فيه من ربا النساء. انتهى. وقوله: ثمنه بالنصب مفعول مخالف.

والمثلي صفة وقدرا كمثله؛ يعني أن من باع مثليا كإردب قمح مثلا ثم اشترى من المشتري مثله صفة وقدرا فإن ذلك بمنزلة ما إذا اشترى منه عين الإردب الذي باعه له أوَّلًا فتأتي فيه اثنتا عشرة صورة؛ لأن البيعة الثانية إما نقدا أو لدون الأجل أو له أو لأبعد، وعلى كلّ اشترى المماثل بمثل الثمن الأول أو أقلّ أو أكثر، يمنع منها ثلاث، وهي ما تعجل فيه الأقل ولوأجل بعضه ممتنع ما تعجل فيه الأقل أو بعضه، وقوله: كمثله أي كمن اشترى عين ما باع، فقوله: كمثله أي كهو، فهو من مجاز الزيادة على حد قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وكقوله تعالى: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} أي كمن هو في الظلمات. قاله مقيده عفا الله تعالى عنه. والله سبحانه أعلم. وفي الخرشي: أن مثل تأتي بمعنى ذات كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} انتهى. وقال الخرشي مفسرا للمص: يعني أن من باع مثليا من مكيل وموزون ومعدود طعاما أو غير طعام ثم اشترى مثله صفة كمحمولة ثم محمولة وقدرا كإردب ثم إردب فكأنه اشترى عين ما باع، ومن اشترى عين

ص: 374

شيئه فإما نقدا أو للأجل أو لأقل منه أو لأبعد، بمثل الثمن الأول أو أقلّ أو أكثر، فيمنع منها ثلاث، وهي ما عجل فيه الأقل وهي شراؤها ثانيا بأقل نقدا أو لدون الأجل أو بأكثر لأبعد، ويجوز ما عداها، ومحل كون الممنوع ثلاثًا إن وقع الشراء الثاني قبل غيبة المشتري الأول على المثلي، فإن غاب عليه امتنع صورتان أخريان كما أشار إلى ذلك بقوله: فيمنع بأقل لأجله أو لأبعد إن غاب مشتريه به؛ يعني أن المشتري إذا غاب على المثلي ثم اشترى البائع منه مثله فإنه يمتنع أيضًا صورتان زيادة على الثلاث الأول، إحداهما أن يشتري الماثل بعد الغيبة على المثلي الأول بأقل للأجل الأول، الثانية أن يشتريه بعد الغيبة على المثلي الأول بأقل من الثمن الأول لأبعد من الأجل الأول. قوله: به الباء بمعنى على والله سبحانه أعلم. والعلة في منع الصورتين المذكورتين سلف بمنفعة لأنهم يعدون الغيبة على المثلي سلفا، فإذا باعه إردبا بدينارين لشهر ثم اشترى مثله بدينار لذلك الشهر أو لأبعد، فكأن البائع أسلف المشتري إردبا على أن يعطيه دينارا بعد شهر أو أكثر ويقاصه بدينار، فتصير الصور الممتنعة خمسة، وهاتان الصورتان المزيدتان على الثلاث الأول تجريان أيضًا فيما إذا اشترى عين مثْليه بعد غيبة المشتري عليه، فإذا باعه إردب قمح مثلا ثم اشتراه منه بعد الغيبة عليه فإنه يمنع من الصور خمس: هاتان والثلاث الأول، وإن لم يغب عليه فإنما يمتنع الثلاث الأول كما صرح به الشيخ أبو علي وغيره. والله سبحانه أعلم. فبَان أن ما شرح به الحطاب قوله المتقدم: فمن باع لأجل ثم اشتراه بجنس ثمنه، لخ من أن المراد باع ما يعرف بعينه هو الصواب. وهو الحق والله تعالى أعلم. ومفهوم قوله: صفة وقدرا، أنه لو اختلف في الصفة أو القدر لكان الكلام خلاف ذلك وهو كذلك، أما إذا خالفه في الصفة فيصرح بحكمه في قوله: وهل غير صنف طعامه لخ، وأما إذا خالفه في القدر فلا يخلو إما أن يشتري أقلّ مما باعه أو أكثر، فإن اشترى أقلّ مما باعه فهو بمنزلة ما إذا باغ سلعتين إلى أجل ثم اشترى إحداهما، وسيأتي حكمهما في كلام المص وأنه يمتنع فيها خمس صور، وهي ما إذا اشترى إحدى السلعتين لأبعد من الأجل سواء كان بمثل الثمن أو أكثر لأنه سلف بمنفعة، أو أقلّ لأنه بيع وسلف، أو بأقل من الثمن نقدا أو إلى أجل دون الأجل لأنه بيع وسلف، لكن لابد في مسألة

ص: 375

المثلي من زيادة تفصيل، وذلك لأنه إما أن يغيب عليه أو لا، فإن لم يغب عليه فحكمه حكم ما يعرف بعينه، فتمنع الخمس المتقدمة، وأما إن غاب عليه فتمنع صورة أخرى، وهي: أن يشتريه بأقل من الثمن إلى مثل الأجل؛ لأنه بيع وسلف؛ لأن ما رجع للبائع سلف، وإذا حل الأجل قاصَّه المشتري بما في ذمته ثم يعطيه ما بقي ثمنا للمتأخر، واختلف في صورة سابعة، وهي: أن يبتاع منه بمثل الثمن أقلّ من الطعام مقاصة، فإن قول مالك اختَلَف فيها، واضطرب فيها المتأخرون. والله أعلم. وإن اشترى أكثر مما باعه فهو بمنزلة ما إذا باع سلعة إلى أجل ثم اشتراها مع سلعة أخرى، وسيأتي حكم ذلك في كلام المص وأنه يمتنع منها سبع صور، وهي: ما إذا اشترى نقدا أو إلى أجل دون الأجل، بمثل الثمن أو أقلّ: فإنه سلف جر نفعا، أو بأكثر فإنه بيع وسلف، ويمتنع أيضًا لأبعد بأكثر لأنه بيع وسلف، لكن لابد في مسألة المثلي من تفصيل، وهو: إما أن يكون ذلك قبل الغيبة عليه أو بعدها، فإن كان قبل الغيبة عليه فحكمه حكم ما يعرف بعينه، وإن كان بعد الغيبة عليه فتمنع الصور كلها. قاله في التوضيح. لأنه إما سلف جر نفعا، أو البيع والسلف. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: ومفهوم صفة أمران: أن يباينه جنسا كقمح وفول فيجوز مطلقًا، والثاني: أن يباينه نوعا وإليه أشار بقوله:

وهل غير صنف طعامه كقمح وشعير مخالف أو لا يعني أنه اختلف لو اشترى غير صنف طعامه الموافق له في الجنسية كقمح باعه لشخص لأجل، ثم اشترى منه شعيرا أو سلتا هل هو بمنزلة ما إذا اشترى غير ما باع فتجوز الصور كلها، كما حكاه عبد الحق عن بعض شيوخه القرويين، كمن باع ثوبا ثم اشترى جارية؛ ابن يونس: وهو الجاري على قول ابن القاسم؛ أو بمنزلة ما إذا اشترى عين في باع؛ فيمنع منها ثلاث إن لم يغب وخمس إن غاب وهو الجاري على مذهب سحنون ومحمد. وقوله: تردد مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تردد. قال بناني: ويدخل في التردد كما في ابن الحاجب وابن شأس وغيرهما المخالف في الصفة كالسمراء والمحمولة، وهذا الذي قررت به المص قرره به غير واحد. وقال بناني في شرح قوله: أو لا، الظاهر أن من يقول: إنه غير مخالف في الجنس يجعله من قبيل ما اختلفت صفته بالجودة والرداءة. قاله ابن عاشر. قال ابن الحاجب: فإن اختلفا في الجودة والرداءة فهو كالزيادة والنقه. التوضيح: يعني فحكمه

ص: 376

حكم ما إذا اشترى ما باعه مع زيادة في الجودة، وحكمه حكم ما إذا اشترى أقلّ مقدارا مما باعه أولا في الرداءة؛ لأن الجودة زيادة والرداءة نقص. انتهى.

تنبيه: لو أسلم في حنطة سلما فاسدا فسخ العقد بينهما ووجب للمسلم أخذ رأس ماله، ويجوز له أن يأخذ ما شاء عن رأس ماله سوى الصنف الذي أسلم فيه؛ أي لأنه إذا أخذه فقد تم العقد الفاسد، فذهب الفضل وابن أبي زمنين وغيرهما إلى جواز أخذ الشعير عن القمح أو العكس، أو السمراء عن المحمولة أو العكس، وذهب ابن محرز والأبياني إلى منع ذلك. انتهى. قال غير واحد: هو منشأ التردد. والله سبحانه أعلم.

وإن باع مقوما فمثله كغيره يعني أنه لو باع مقوما لأجل كفرس ثم إن البائع اشترى من المشتري فرسا آخر مثل الأول فإنه تجوز الصور كلها؛ لأنه بمنزلة ما إذا اشترى منه بقرة أو جارية أو بعيرا أو ثوبا، كانت البيعة الثانية نقدا أو لدون الأجل أو للأجل أو لأبعد من الأجل، بمثل الثمن الأول أو أقلّ أو أكثر. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وإن باع مقوما كفرس لأجل فمثله يشتريه البائع منه كغيره؛ أي كاشتراء غير ما باع، فتجوز الصور كلها نقدا أو لدون الأجل أو لأبعد أو لمساويه، بمثل ثمن الأول أو أقلّ أو أكثر منه. انتهى. وقال المواق: قال ابن القاسم: إن بعت منه ثوبا بدينارين إلى أجل فلا بأس أن تشتري

(1)

منه قبل الأجل ثوبا في صفته وحسنه، بأقل من الثمن أو أكثر، نقدا أو لأجل؛ لأن الثياب تعرف بأعيانها والطعام لا يعرف بعينه، فمثله كعينه، وإنما على مستهلك الثوب قيمته، بخلاف ما يوزن ويكال. انتهى.

كتغيرها كثيرا؛ يعني أنه إذا باع سلعة مقومة بثمن مؤجل وتغيرت عند المشتري تغيرا كثيرا بزيادة أو نقص، فإنه يجوز لبائعها أن يشتريها بمؤجل أو نقد قل أو كثر أو ساوي، قال المواق: قال ابن المواز: قال ابن القاسم: عن مالك في الدابة أو البعير يبتاعهما بثمن إلى أجل ثم يسافر عليها المبتاع إلى مثل الحج وبعيد السفر، فيأتي وقد أنقصها، ثم يبتاعها منه البائع بأقل من الثمن نقدا، فلا يتهم في هذا أحد، ولا بأس به. انتهى. وقال أبو علي: أي أن تغير السلعة كثيرا

(1)

في الأصل: يشتري، والمثبت من المواق ج 6 ص 283 ط دار الكتب العلمية.

ص: 377

يصيرها كغيرها، فإذا باع دابة بعشرة إلى سنة ثم ركبها إلى مثل الحج وبعيد السفر، ثم أتى بها وقد تغيرت ونقصت فإنه يجوز بتسعة فأقل. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: وأما التغير بالنماء أو بالولادة ونحو ذلك فلم أره صريحا في كلام من تقدم، لكن كلام النكت عام. انتهى. والحاصل أن المسألة فيها الاثنتا عشرة صورة، وأنه تجوز الصور كلها، وقوله: كثيرا، معناه ما يعلم معه أنهما لم يتعمدا فسخ البيع.

وإن اشتري أحد ثوبيه لأبعد مطلقًا أو أقل نقدا امتنع. قد مر حكم ما إذا اشترى جميع ما باع، والكلام الآن فيما إذا اشترى بعضه؛ يعني أن من باع ثوبين لشهر مثلا ثم اشترى أحدهما بثمن مؤجل لأبعد من الأجل الأول. كأن يشتريه لشهرين مثلا فإن ذلك لا يجوز، سواء اشتراه بمثل الثمن الأول أو بأقل منه أو بأكثر منه، أما إذا اشتراه بمثل الثمن فلأن أحد ثوبيه قد رجع إليه وصار كأنه دفع ثوبا للمشتري على أن يسلفه بعد شهر عشرة يردها إليه بعد شهرين، وذلك سلف جر نفعا، وإن اشتراه بأكثر فواضح، وإن اشتراه بأقل ففيه البيع والسلف؛ لأنه إذا اشتراه بخمسة مثلا إلى أبعد من الأجل فالعشرة التي يأخذها في الأجل بعضها ثمن الثوب وبعضها سلف يرده بعد شهر، وقوله: أو أقلّ؛ أي وكذا يمتنع أن يشتري أحد الثوبين بأقل من الثمن الأول نقدا للبيع والسلف؛ لأن أحد ثوبيه رجع إليه وخرج من يده ثوب ودراهم أقلّ من عشرة، يأخذ عن ذلك بعد شهر عشرة، في يقابل الدراهم التي دفعها سلف، والباقي ثمن، وكذا الحكم فيما إذا اشتراه بأقل لدون الأجل، وأطلق المص النقد على الصورتين لاشتراكهما في الحكم والعلة. وقوله: مطلقًا، نصب على المصدر وعامله امتنع.

لا بمثله؛ يعني أنه إذا اشترى أحد ثوبيه الذين باعهما بثمن مؤجل بمثل الثمن الأول نقدا أو لدون الأجل، فإن ذلك ليس بممتنع، بل هو جائز. أو أكثر. أي وكذلك يجوز شراء أحدهما بأكثر من الثمن الأول نقدا أو لدون الأجل، وبقي من صور المسألة الثلاث التي للأجل وسكت عنها لوضوح جوازها. قاله الحطاب. ومحل جوازها كما مر حيث شرطا المقاصة أو سكتا عنها. وامتنع بغير صنف ثمنه؛ يعني أنه يمنع شراء أحد ثوبيه الذين باعهما بثمن مؤجل بغير صنف ذلك الثمن، كأن يبيعهما بذهب إلى أجل ثم يشتري أحدهما بفضة، أو يبيعهما لأجل بفضة ثم

ص: 378

يشتري أحدهما بذهب، أو يبيعهما لأجل بمحمدية ثم يشتري أحدهما بيزيدية، أو يبيعهما بيزيدية لأجل ثم يشتري أحدهما بمحمدية. قال الحطاب مفسرا للمص: مراده بغير المصنف: أن يكون الثمن الأول ذهبا والثاني فضة، أو الأول محمدية والثاني يزيدية، فيئول الأمر إلى أن البائع رجع إليه أحد ثوبيه وخرج من يده ثوب وذهب يأخذ عنهما فضة، أو خرج من يده ثوب ومحمدية يأخذ عنهما يزيدية، وذلك ممتنع مطلقًا أي سواء كان الثمن الثاني أقلّ من الأصل

(1)

أو أكثر أو مساويا، نقدا أو لدون الأجل أو للأجل أو لأبعد من الأجل، واستثنى المص من ذلك ما إذا كان النقد المعجل أكثر من قيمة المؤجل جدا. فقال:

إلَّا أن يكثر المعجل، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وامتنع شراء أحد ثوبيه بغير صنف ثمنه، وما قدمه من قوله: ومنع بذهب وفضة في شرائه كلّ ما باعه، إلَّا أن يكثر المعجل جدا في شراء أحد ثوبيه كثرة بالنسبة لثمن الثوبين فيجوز، كبيعهما بدينارين لشهر صرف كلّ دينار عشرون درهما، ثم يشتري أحدهما بخمسين درهما نقدا، لبعد تهمة الصرف حينئذ بزيادة على جميع الثمن. انظر التتائي. واستظهر الأجهوري الجواز أيضًا إذا كثر العجل جدا بالنسبة للثوب العجل، وشمل كلام المص بيعهما بذهب وشراء أحدهما بفضة وعكسه، وبيعهما بمحمدية وشراء أحدهما بيزيدية وعكسه، فيجري فيه الاستثناء المذكور، وفي الشارح ما يوافقه، ولكن مذهب المدونة المنع مطلقًا للبيع والصرف، وللصرف المؤجل، واشتغال الذمتين في المؤجل، والسلف بزيادة في النقد، ودوران الفضل فيه. انتهى كلام عبد الباقي بإدخال شيء فيه وحذف شيء منه. قوله: ولكن مذهب المدونة المنع مطلقًا لخ، ظاهره أنه صرح بالمنع في المدونة وليس كذلك، والمص عدل عن ظاهرها قصدا لما أشار إليه ابن الحاجب وصرح به ابن عبد السلام وتبعه في التوضيح، فقال عند قول ابن الحاجب: ولو اشترى أحدهما بغير صنف الثمن الأول فقالوا: يمنع مطلقًا، مراده بغير المصنف أن يكون الثمن الأول ذهبا والثاني فضة، أو يكون الأول محمدية والثاني يزيدية، ثم قال: وتبرأ المص من هذا بقوله: فقالوا لاستشكاله؛ لأن القياس على ما تقدم في البيع

(1)

في الحطاب ج 5 ص 208 ط دار الرضوان: الأول.

ص: 379

والصرف أن يجوز إذا كان النقود أكثر من المؤجل جدا لانتفاء التهمة فيه لانتفائها فيما تقدم، ولا فرق بين المسألتين، ولذا صرح اللخمي به هنا.

ولو باعه بعشرة ثم اشتراه مع سلعة نقدا مطلقا أو لأبعد بأكثر؛ يعني أنه إذا باع ثوبا بعشرة مثلا إلى شهر ثم اشتراه مع ثوب آخر نقدا امتنع ذلك مطلقًا، سواء اشتراه بمثل الثمن أو أقلّ أو أكثر، أو اشتراه مع ثوب بأكثر لأبعد، وقوله: نقدا، يريد أو لدون الأجل، وإنما امتنع ذلك للسلف الذي جر نفعا في شرائه بمثل أو أقلّ نقدا أو لدون الأجل، وللبيع والسلف في شرائه بأكثر نقدا أو لدون الأجل أو لأبعد منه، فالصور على سبيل الإجمال أربع لدخول ثلاث تحت لفظ مطلقًا، وعلى سبيل التفصيل سبع لدخول ثلاث تحت ما دون الأجل بتقدير مطلقًا فيه، وقد علمت أحكامها وتعليلها. قاله عبد الباقي.

(ثم اشتراه مع سلعة) يعني أن من باع سلعة بعشرة إلى شهر مثلا ثم اشتراها بخمسة وسلعة نقدا أو لدون الأجل أو لأبعد من الأجل، فإن ذلك ممتنع.

وعلم ما قررت أن قوله: (امتنع) جواب الشرط أعني قوله: ولو باعه. فهو راجع لما بعده أيضًا، وقوله:(أو بخمسة وسلعة) زيادة السلعة في هذه من المشتري بجنس الثمن عكس التي قبلها، وهذا طرف مسألة صورها اثنتا عشرة صورة؛ لأن البيعة الثانية إما بأقل من الثمن الأول كخمسة وسلعة، أو بمثله كعشرة وسلعة الآتية للمص، أو بأكثر وسكت عنها لوضوحها وهي كالتي قبلها، وعلى كلّ حال فإما نقدا أو لدون الأجل أو للأجل أو لأبعد من الأجل. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: أو اشترى ما باعه بعشرة بخمسة وسلعة نقدا أو لدون الأجل أو لأبعد، امتنع للبيع والسلف، فقوله: أو بخمسة عطف على: مع سلعة، فهي عكس التي قبلها؛ لأن زيادة السلعة في الأولى من المشتري الأول، وفي هذه من البائع الأول، ولذا عبر بالباء هنا وبمع في الأولى، وأما للأجل فجائز.

(لا بعشرة وسلعة) يعني أن من باع شيئه بعشرة لأجل ثم اشتراه بعشرة وسلعة، وأولى بأكثر من عشرة وسلعة، نقدا أو لدون الأجل أو للأجل، فإن ذلك يجوز، وأما إن اشتراه بعشرة وسلعة أو بأكثر وسلعة لأبعد من الأجل، فإن ذلك ممتنع لما فيه من سلف جر نفعا.

ص: 380

تنبيه: قال عبد الباقي: يجب تعجيل السلعة الواقعة ثمنا في الصور الجائزة من صور مسألة خمسة وسلعة، وصور مسألة عشرة فأكثر وسلعة، وإلا لزم بيع معين يتأخر قبضه إن كانت معينة، وابتداء دين بدين إن كانت مضمونة؛ إذ ذمة كلّ منهما معمرة للآخر.

وبمثل وأقل لأبعد، هذا من تتمة قوله: ولو باعه بعشرة لخ، وهو مفهوم قوله: بأكثر، وهو معطوف على قوله: لا بعشرة؛ يعني أن من باع ثوبا بعشرة إلى شهر ثم اشتراه مع ثوب آخر مثلا بعشرة، أو ثمانية مثلا لأبعد من الأجل، فإن ذلك جائز، وهاتان صورتان وصور الأجل الثلاث جائزة، وتقدمت سبع ممتنعة، وهي: ما إذا اشتراه مع الثوب بمثل الثمن أو أقلّ أو أكثر، نقدا أو لدون الأجل، أو اشتراه مع الثوب بأكثر من الثمن لأبعد من الأجل، فهي اثنتا عشرة صورة.

ولو اشترى بأقل لأجله ثم رضي بالتعجيل فقولان؛ يعني أنه لو وقع البيع على الوجه الجائز كما لو اشترى بثمانية إلى شهر ما باعه بعشرة إلى شهر ثم رضي بتعجيل الأقل قبل الأجل، فهل يجوز ذلك نظرا لحال العقد أو لا يجوز نظرا للمئال؟ في ذلك قولان، سَوَّى المص بينهما، ورجح ابن يونس المنع، فإنه نسب الجواز لبعض شيوخه، والمنع لبعض أصحابه، وقال عقبه ما نصه: محمد بن يونس: والصواب أنه لا يجوز ذلك كما ذكر صاحبنا، وهو بين فاعلمه. انتهى. وقال عبد الباقي: ثم تكلم على أنه اختلف في ذريعة الذريعة هل هي كالذريعة فيحافظ على سدها أم لا؟ بقوله: ولو اشترى ثانيا بأقل مما باع به أوَّلًا لأجله الذي باع له ثم رضي بالتعجيل فقولان، بالجواز نظرا لحال العقد، والمنع نظرا لما آل إليه الأمر من أن السلعة رجعت لمالكها الأول ويدفع الآن ثمانية يأخذ عنها عند الشهر عشرة. قال ابن وهبان: وينبغي أن يكون هذا هو الراجح لعلته المذكورة. انتهى. وقد علم من ترجيح ابن يونس وابن وهبان القول بالمنع أنه الراجح. والله تعالى أعلم. وقوله: ذريعة الذريعة؛ أي بحسب اتهامهما على أن اتفاقهما على الثمانية للأجل، إنما هو وسيلة إلى الرضى بالتعجيل، والرضى بالتعجيل ذريعة إلى دفع قليل في كثير، وإلى ذلك أشار ابن بشير كما في المواق، فقال: وهذا الذي يعبر عنه أصحابنا بحماية الحماية، وذلك أن التهمة

ص: 381

هاهنا على أن يعقدا على إظهار الشراء إلى الأجل أو إلى أبعد منه ويبطنا تعجيل النقد. انتهى. ومثل ما ذكره المص في جريان القولين [اشتراؤها]

(1)

بأكثر للأجل ثم رضي بالتأخير. قاله الشارح، أو اشترى بأكثر نقدا أو لدون الأجل ثم رضي بالتأخير لأبعد، وأما عكس كلام المص وهو شراؤه بأقل نقدا أو لدون الأجل ثم رضي بالتأخير له، فالظاهر كما هو ظاهر كلامهم أنَّها تبقى على منعها لوقوعها فاسدة ابتداء ولا تنقلب للجواز بالرضا المذكور. انتهى كلام عبد الباقي. وبحث فيه بناني أي في قوله: وأما عكس كلام لخ، ورده الرهوني.

كتمكين بائع متلف ما قيمته أقلّ من الزيادة عند الأجل، تشبيه في القولين وبائع بالتنوين ومتلف صفة ومفعوله: قوله مات ومن الزيادة متعلق بتمكين، وكذا عند، ومعنى كلامه أنه يجري القولان بالمنع والجواز في هذه الصورة، وهي: ما إذا باعه ثوبا بعشر مثلا لشهر وأتلفه البائع وقيمته أقلّ مما باعه به، كأن تكون ثمانية مثلا، فغرم البائع للمشتري قيمة الثوب الذي أتلفه قبل الأجل وهي ثمانية، فإذا حل الأجل فإن المشتري يدفع ثمانية للبائع، وهل يمكن البائع من الاثنين تمام العشرة الزائدين على الثمانية أو لا يمكن البائع إلَّا من ثمانية؛ قال عبد الباقي مفسرا للمص: وشبه في القولين قوله: كتمكين بائع، بالتنوين، متلف صفة، ومفعوله قوله: ما قيمته أقلّ من الثمن الأول كأن تكون ثمانية وغرمها عاجلا للمشتري الأول والثمن الأول عشرة، من الزيادة متعلق بتمكين، وكذا عند الأجل؛ أي هل يمكن البائع عند الأجل من أخذ الدرهمين في الفرض المذكور فيأخذ العشرة بتمامها أو لا؟ فيأخذ ثمانية فقط كالقيمة التي غرمها حين إتلافه قولان، وليس له على الثاني أن يؤخر القيمة ويقول للمشتري: قاصِصْني بها عند الأجل؛ لأن شرطها تساويهما حلولا، والفرض أن الحالّ القيمة فقط. انتهى. قوله: لأن شرطها تساويهما لخ، قال بناني: أي شرط لزومها، فإذا لم يرض بها المشتري لم تلزمه لا ذكر، وإذا تراضيا عليها صح ومكن من الزيادة، ويأتي في باب المقاصة ما يدلُّ على ذلك والله أعلم. انتهى. قوله: كتمكين لخ، ظاهره ثبوت هذا الحكم فيما ينتفع به بعد الإتلاف وفيما لا ينتفع به بعده، وهو واضح في الأول

(1)

في الأصل اشترا والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 104.

ص: 382

كما مثل به الشارح من ذبح المبيع المأكول، لا فيما لا ينتفع به بعده كما لو كانت ثوبا وحرقه بالحاء المهملة، فينبغي أن يتفق على الجواز، لكنهم أجروا الباب على سنن واحد، وأشعر قوله: متلف أنه عمد، فإن تلف منه خطئا مُكِّن من الزيادة قولا واحدا. قال السنهوري: والزائد والمزيد أولى من الزيادة لفظا ومعنى. انتهى. أما لفظا فلأنه أخصر، وأما معنى فلأن الزيادة معنى من المعاني، ولا معنى للتمكين منه، ولما كان المصدر يطلق ويراد به المفعول، قال: أولى. قاله عبد الباقي. والله سبحانه أعلم. وقال الشيخ أبو علي: قال في التوضيح: لا خلاف في تمكين المشتري من القيمة ينتفع بها وهي ثمانية، ثم هل يدفع للبائع عند الأجل العشرة لبعد التهمة؟ وهو قوله في المجموعة، أو إنما يدفع مثل ما أخذه فقط وهو ثمانية؛ إذ قد يتهمان على السلف بزيادة وهو قول ابن القاسم في العتبية، وقول المتن: متلف، أعم مما فرضه في توضيحه بذبح شاة، ولذلك قال ابن عرفة: ولو أفات السلعة بائعها ببيع أو عطية أو استهلاك غرم لمبتاعها الأكثر من ثمنها وقيمتها في فوتها بالبيع وقيمتها في غيره، فإن كان ليس أقلّ من ثمنها الأول غرمه لبائعها، وإلا ففي غرمه إياه أو ما قبض لفوتها، ثالثها إن فات بغير بيع أو به والمشتري الأول من أهل الدِّين والفضل، ورابعها الأول ما لم يكن أحدهما من أهل المعينة فيفسخ البيع؛ للخمي عن المجموعة، وسماع يحيى ابنَ القاسم، واختياره، ونقله عن أصبغ. وقد نقل ابن يونس عن سحنون: أن القياس أن يأخذ القيمة ويغرم العشرة، وربما يظهر أن تمكينه من العشرة هو القوي، وظاهر هذه الأنقال أفاتها البائع عمدا أو خطئا، أفسدها أو ذبحها أو أحرقها، خلافا لمن فصل من غير استناد لنقل، وإن وقع التعبير بالتعدي في بعض الأنقال. انتهى.

وإن أسلم فرسا في عشرة أثواب ثم استرد مثله مع خمسة منع مطلقًا يعني أنه لو أسلم شخص فرسا مثلا في عشرة أثواب مثلا، ثم بعد الغيبة عليه استرد مثله أي فرسا مثله مع زيادة خمسة أثواب من المسلم إليه، فإن ذلك يمنع مطلقًا سواء كانت الأثواب المزيدة معجلة أو مؤجلة لدون الأجل الأول أو لمثله أو لأبعد، للسلف بزيادة، وذلك لأن بائع الفرس آال أمره إلى أنه أسلف المشتريَ فرسا رد المشتري مثله، وزاده خمسة أثواب فهو سلف بمنفعة، والمسلف هنا هو المسلم

ص: 383

وهو بائع قطعا، وأما في المسألة الآتية فهو تارة البائع وتارة المشتري، وإنما لم يجيزوا هذه إذا بقيت الخمسة لأجلها كما في التي بعدها؛ لأنه لما رجع إليه مثل سلعته علم أنهما قصدا السلف بالسلعة المدفوعة وسموه سلما تحيلا، بخلاف ما إذا رجع عينها أو غير جنسها إذ كأنهما اشترطا رد العين أو رد غير الجنس فخرجا عن حقيقة السلف. قاله في التوضيح. ومفهوم قوله: مع خمسة، أنه لو استرد مثله فقط لجاز ذلك حيث كان الفرس نقد وإلا منع لأنه حينئذ فسخ دين في دين، وقوله: مع خمسة أثواب، وكذا لو كان المزيد مع المثل المسترد من غير جنس المسلم فيه فيمنع ذلك أيضًا مطلقًا. والله سبحانه أعلم.

كما لو استرده، تشبيه في المنع يعني أنه لو استرد الفرس نفسه مع زيادة خمسة أثواب فإن ذلك يمنع أيضا، وكذا لو رد مع الأثواب غير الفرس كجمل، ولو رد الفرس بعينه مع جمل جاز إن نقده. قاله عبد الباقي. وفي المدونة: وإن أسلمت إليه فرسا في عشرة أثواب إلى أجل فأعطاك خمسة منها قبل الأجل مع الفرس أو مع سلعة سواه على أن تبرئه من الثياب لم يجز؛ لأنه بيع وسلف ووضيعة على تعجيل حق، قال ابن القاسم: فوجه البيع والسلف أن الذي عليه الحق عجل لك الخمسة الأثواب سلفا منه يقبضها من نفسه إذا حل الأجل، والفرس أو السلعة بيع بالخمسة الباقية، وأما ضع وتعجل بأن يكون الفرس أو السلعة العجلة لا يساوي الخمسة الباقية فيجره للوضيعة، ويدخله: تعجل حقك وأزيدك دخولا ضعيفا، ولو كانت قيمة السلعة العجلة أضعاف قيمة الثياب المؤخرة لم يجز أيضًا؛ إذ لو أسلم ثوبا وسلعة أكثر منه ثمنا في ثوبين من صنفه لم يجز. قال ربيعة: ما لا يجوز أن يسلم بعضه في بعض فلا تأخذه قضاء عنه. انتهى. واستثنى مما بعد الكاف قوله:

إلا أن تبقى الخمسة لأجلها، يعني أنه إذا استرد الفرس بعينه مع زيادة خمسة أثواب، وقلنا: إن ذلك ممنوع، فإنما محل ذلك حيث كانت الخمسة معجلة أو مؤجلة لدون الأجل أو لأبعد من الأجل، وأما إن بقيت الخمسة لأجلها على صفتها المشترطة لا أدنى ولا أجودَ فإن ذلك جائز، قال عبد الباقي بعد قوله: كما لو استرده، ما نصه: واستثنى من المنع في المشبهة وكذا يقال فيما

ص: 384

زدته عليه في المنع، قوله: إلَّا أن تبقى الخمسة لأجلها لخ، وما زاده عليه هو الذي قدمته عنه من قولي: وكذا لو رد مع الأثواب غير الفرس كجمل.

لأن المعجل لما في الذِّمة أو المؤخر مسلف، هذا تعليل للمنع فيما بعد الكاف المستفاد منها، ولا يرجع للمستثنى ولا للمسألة الأولى؛ لأنَّها ليست معللة بذلك بل بالتهمة على السلف بزيادة؛ لأن رد المثل هو الغالب في القرض، ويندر فيه رد العين ورد غير الجنس، ولذا جعلت علة المنع في الثانية البيع والسلف، وبيان تعليل المنع بما ذكره المص أن الخمسة المعجلة سلف من المسلم إليه يقبضها من نفسه عند الأجل، وكذا الخمسة المؤخرة إلى أبعد من الأجل سلف من المسلم يقبضها من المسلم إليه إذ ذاك، والفرس المردودة مبيعة بالخمسة الأثواب التي أبرأه منها كما هو ظاهر، ونحوه في عبارة المواق عن ابن القاسم كما قدمته عنه، وقد قدمت عن الإمام أيضًا التعليل بضع وتعجل، قال بناني: وهو مشكل لأن لازم ضع وتعجل سلف بمنفعة، ومن لازم السلف مطلقًا اتحاد الجنس، وقد صرح بذلك ابن يونس والتونسي وغيرهما، وأخذ الفرس عن خمسة الأثواب قد انتفى فيه اتحاد الجنس فينتفى ملزومه من ضع وتعجل، فلا يصح التعليل به، وقد يقال: لما كان المعجل بعض ما في الذِّمة صار الحكم له. انظر التوضيح.

والحاصل: أن منع الفرس متفق عليه، وكذا كلّ ما أشبهها مما أخذ فيه من جنس الدين ومن غير جنسه، إلَّا أنه رأى في المدونة أن اتحاد الجنس في البعض كاتحاده في الجميع، فعلل المنع بثلاث عِلَلٍ، هي: البيع والسلف، وضع وتعجل، وحط الضمان وأزيدك. وعبد الحق وغيره يرى أن اختلافَ الجنس في البعض كاختلافه في الجميع، فلا يدخل ضع وتعجل، ولا حط الضمان وأزيدك، لاختلال شرطها الذي هو اتحاد الجنس، وإنما المنع لاجتماع البيع والسلف لا غير، وأيضا لو اعتبرت العلتان لمنعت المسألة، ولو بقيت الخمسة لأجلها. والله أعلم. انتهى. وقول المص: مسلف؛ أي يعد مسلفا أي محكوما عليه بحكم السلف.

لطيفةٌ: المشهور منع ضع وتعجل، وحكى اللخمي عن ابن القاسم جوازه. قال التتائي على الرسالة: ووقع لبعض الطلبة أنه ذكر ذلك في مجلس شيخه عن المدونة فأنكر عليه، فقال:

ص: 385

اللخمي حكاه، ولما انقضى المجلس نظر أهل المجلس اللخمي في بيوع الآجال فلم يجدوا فيه ما ذكره الطالب عنه، فلما كان من الغد قالوا له: ما ذكرت عن اللخمي غير صحيح، فانفصل الطالب عنهم في غم شديد، فلما نام من الليل رأى في نومه اللخمي، فقال له: يا سيدي نقلت عند وذكر له القصة وأن الطلبة نظروا في بيوع الآجال فلم يجدوا فيه النقل، فقال: له ذكرته في فصل الخلع، فانتبه الطالب فرحا ونظر الكتاب فوجده كما نقل، فلما أصبح ذكر ذلك لأهل المجلس واشتهرت قضيته. انتهى. نقله عبد الباقي. قوله: وحكى اللخمي عن ابن القاسم جوازه؛ قال في التوضيح: والمعروف منع ضع وتعجل، وحكى بعضهم عن ابن القاسم جوازه. ابن زرقون: أراه عنه وهما. قاله بناني. ولبعضهم:

إن رد مثل فرس فسلف

أورد عينه فبيع يعرف

قابل بلام المثل لام السلف

وعينُ عينه لبيع فاعرف

وإن باع حمارا بعشرة الأجل ثم استرده ودينارا نقدا، هذه المسألة بعينها هي قوله قبله: كما لو استرده لخ، لكن هذه مفروضة فيما إذا كان الثمن عينا، وتلك مفروضة فيما إذا كان الثمن غير عين ة فكان في كلٍّ فائدةٌ، ومعنى كلامه أنه إذا باع شخص حمارا مثلا بعشرة دنانير لأجل كشهر ثم استرده البائع من المشتري بأن تقايلا فيه وزاد عليه المشتري دينارا نقدا فإن ذلك يمنع مطلقًا، كان الدينار من جنس الثمن الذي باع به الحمار أو من غيره؛ لأنه بيع وسلف؛ لأن المشتري ترتب في ذمته عشرة دنانير دفع عنها معجلا الحمار الذي اشتراه ودينارا ليأخذ من نفسه عند حلول الأجل تسعة عوض الحمار وهو بيع، ودينارا عن الدينار السابق وهو سلف. قاله عبد الباقي. قوله: كان الدينار من جنس الثمن الذي باع لخ، قال بناني: بأن يكون ذهبا وباع بفضة وكذا عكسه، ففيه بيع وصرف مؤخر، وأما لو باعه بعشرة أثواب ثم استرده ودينارا نقدا لجاز. انتهى.

ص: 386

أو مؤجلا منع مطلقًا؛ يعني أنه إذا باع حمارا مثلا بعشرة لشهر ثم استرده البائع من المشتري بأن تقايلا فيه، وزاده المشتري مع الحمار دينارا مؤجلا فإن ذلك يمنع أيضًا، كما لو كان نقدا، وقوله: مطلقًا معناه كان الدينار المؤجل مؤجلا للأجل أو دونه أو أبعد منه، واستثنى من المنع قوله: إلَّا في جنس الثمن للأجل؛ يعني أن محل المنع في الدينار المؤجل إنما هو حيث لم يكن من جنس الثمن للأجل، وأما إن تقايلا على تسعة من عشرة وبقي العاشر لأجله على صفته المشترطة بأن يوافقه سكة ووزنا وجوهرية يدفعه عند الأجل لمالك الحمار الأول فإن ذلك جائز. والله سبحانه أعلم. ولو كانت الزيادة فضة لدخله البيع والصرف فيمتنع ولو عجل أكثر من قيمة المتأخر جدا؛ لأن الصرف هنا محقق فلا تنفع كثرة المعجل، بخلاف ما سبق فإن الصرف ليس بمحقق بل اتهما عليه فقط، وكثرة المعجل تنفي التهمة، وهذا في غاية الوضوح، ومثل ذلك ما لو باع الحمار بمحمدية وزاد مع الحمار يزيدية وكذا العكس، فيمنع ذلك للبدل المؤخر، ولو باع الحمار بعشرة أثواب ثم أخذ الحمار ودينارا فينبغي الجواز لأنهما مبيعان بالأثواب، والمراد أخذهما معا عاجلا، وإلا كان فيه فسخ ما في الذمة في مؤخر من غير جنس الدين، وقوله: للأجل، حال؛ فلا يقال: إن المص استثنى شيئين بأداة واحدة وذلك غير سائغ. والله سبحانه أعلم.

وإن زيد غير عين أو بيع بنقد لم يقبض جاز؛ يعني أنه إذا زيد مع الحمار البيع بنقد مؤجل غير العين كفرس وبقرة، فإن ذلك يجوز بشرط أشار إليه بقوله: إن عجل المزيد، مع الحمار المسترد وهو الفرس أو البقرة؛ لأنه باع ما في الذِّمة من العين المؤجلة بحمار وبقرة مثلا أو فرس معجلين ولا مانع من ذلك، بخلاف ما إذا أخر المزيد لحصول فسخ ما في الذِّمة في مؤخر بالنسبة للمزيد، وقوله: أو بيع بنقد بصورة أو وهي مسألة ثانية، وصورتها: أنه باع الحمار بشيء نقد أي حالٍّ وهو ذهب أو فضة لم يقبض حتى وقع التقايل، أو باعه بمؤجل من نقد أو عرض ولم يتقايلا إلَّا بعد حلوله، بأن دفع له عما في ذمته الحمار وزاده شيئًا عينا أو غيرها، فإن ذلك يجوز بشرط أن يعجل المزيد مع الحمار، فإن تأخر منع لأنه إن كان من جنس الثمن فهو تأخير

ص: 387

في بعض الثمن بشرط، وذلك سلف مقارن للبيع، والمبيع هو الحمار المشترى بباقي الثمن، وإن كان من غير جنسه فصرف مؤخر إن كان عينا، وفسخ ما في الذِّمة في مؤخر عينا كان أم لا، واحترز بقوله: لم يقبض، عما إذا قبض، ولو باع الحمار بعرض معين جاز ذلك مطلقًا، عجل المزيد أم لا. ثم هذا كله في زيادة المشتري، وأما في زيادة البائع فهي جائزة على كلّ حال، وكأنه اشترى الحمار بالثمن الذي وجب له على المبتاع وبزيادة شيء آخر، وليس في ذلك فساد إلَّا أن تكون الزيادة من صنف الحمار فيجوز نقدا لا إلى أجل لأن ذلك حمار بحمار وزيادة شيء آخر قاله المواق تبعا للشارح.

تنبيه: إذا كان المزيد عينا وبيع الحمار بعين مخالفة للمزيد فيشترط في جواز ذلك أن تكون الفضة لا تبلغ صرف دينار. والله سبحانه أعلم.

فائدة: قال بناني: هذه المسألة تعرف بمسألة حمار ربيعة، وحاصل وجوهها أربعة وعشرون؛ لأن البيع والفرض أنه بدنانير لا يخلو أن يكون إلى أجل أو نقدا، فإن كان إلى أجل فالمزيد في الإقالة إما ذهب أو ورق أو عرض، وفي كلّ إما نقدا أو لدون الأجل الأول أو للأجل نفسه أو لأبعد منه، فهذه اثنتا عشرة صورة لا يجوز منها إلَّا صورتان وهما أن يكون المزيد ذهبا من صنف الثمن ويؤخر للأجل نفسه أو عرضا معجلا، والصور العشرة كلها ممنوعة للبيع والسلف في الذهب، والصرف المؤخر في الورق، وفسخ الدين في الدين في العروض، وإن كان البيع نقدا فالزيد إما أن يكون نقدا أو مؤجلا، وفي كلّ إما ذهب أو ورق أو عرض، فهذه ست وسواء في جميعها انتقد البائع أو لم ينتقد على تأويل ابن يونس، فهذه اثنتا عشرة صورة أيضا، فصور المزيد النقد وهي ست تجوز كلها، لكن يشترط في الورق أن يكون أقلّ من صرف دينار، وصور المزيد المؤجل وهي ست أيضا، منها ثلاث فيما إذا لم ينتقد البائع وتمتنع كلها للعلل المتقدمة، وثلاث منها فيما إذا انتقد وأجازها ابن أبي زيد، وهو ظاهر تقييد المص كابن الحاجب بقوله: لم يقبض. قال في التوضيح: وخالفه غيره؛ يعني كابن يونس ورأى أن المنع متصور في المسألة وإن نقد؛ لأنه يقدر أنه أي البائع الأول اشترى الحمار بتسعة على أن أسلف قابضها العاشر إلى الأجل. انتهى؛ يعني أن البائع عند الإقالة رد للمشتري العشرة على أن يأخذ منه دينارا مؤخرا فهو بيع وسلف،

ص: 388

فإن كانت الزيادة المأخوذة من المشتري ورقا كان صرفا مؤخرا، نعم إن كانت الزيادة عرضا مؤخرا فلا يظهر وجه المنع؛ لأن غايته أن البائع اشترى بالعشرة الحمار والعرض المؤخر، ونص ابن عرفة: الصقلي: وقع للشيخ التقييد بأنه لم ينقده ولا وجه له. المازري: تابع الشيخ على تقييده بعض الأشياخ وأنكره بعض المتأخرين، وقال: يتصور فيه البيع والسلف وإن نقد؛ لأنه يقدر أنه اشترى الحمار بتسعة من الدنانير التي قبض على أن أسلفه قابضها الدينار العاشر.

قلت: إن كانت الزيادة من المبتاع عينا فواضح منعها ولو بعد النقد، وإن كانت غير عين امتنعت قبل النقد لأنَّها فسخ دين في دين، وجازت بعد النقد. هذا كله في الحمار ونحوه مما يعرف بعينه فإن كان المبيع مما لا يعرف بعينه، كالطعام فحكمه قبل الغيبة عليه حكم ما يعرف بعينه في الصور المذكورة كلها، وأما بعد الغيبة عليه وذلك أن يبيع الرجل وسقا من الطعام فيغيب عليه المشتري ثم يستقيل البائع على أن يزيده شيئًا فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الزيادة إذ ذاك تكون ربح السلف، وكذلك إن استقال المشتري البائع قبل كيل الطعام على أن يزيده المشتري شيئًا لم يجز أيضًا لما في ذلك من بيع الطعام قبل قبضه، هذا كله في الإقالة على أن المزيد من عند المشتري، فإن كان من عند البائع جاز جميع في تقدم إلَّا في صورة واحدة، وهي: أن يكون المزيد مؤجلا وهو من صنف المبيع فيمتنع؛ لأنه سلف بزيادة. هذا ملخص كلام أبي الحسن. قال: وذكر ابن يونس أبياتا في مسألة الأجل فقال:

إذا استَقَالَكَ مبتاعٌ إلى أجَلٍ

وزاد نقدا فخذه ثم لا تسل

حاشا من الذَّهب المرْجَى إلى أجل

إلَّا إلى ذلك الميقات والأجل

مع الرِّقات فلا تزدد فإن لها

حكما من الصرف في التعجيل والأجَل

وزده أنت من الأشياء أجمعها

ما شئت نقدا ومضمونا إلى أجل

ص: 389

ما لم يكن صنف ما استرجعت تدفعه

إلى زمان وَلا بأْس على عَجَل

قوله: نقدا؛ أي شيئًا معجلا، واستثنى من ذلك الذهب النقد مع الرقة أي الفضة، فقوله: مع الرقات راجع للمحاشاة، وقوله: المرجي، عطف بحذف حرف العطف، وهو معطوف على النقد صفة لذهب محذوفة، ثم استثنى من الذهب المؤجل قوله: إلَّا إلى ذلك الميقات والأجل، وهو قول المص: إلَّا في جنس الثمن للأجل، فالزيادة المعجلة جائزة في كلّ شيء ما عدا الذهب والورق، والمؤجلة ممنوعة في كلّ شيء إلَّا في جنس الثمن للأجل، وأفاد منع المزيد المؤجل في كلّ شيء بقوله: نقدا، وإنما أتى بالمرجى من الذهب ليستثنيَ منه قوله: إلَّا إلى ذلك الميقات والأجل. قاله مقيده. والله سبحانه أعلم.

وصح أول من بيوع الآجال فقط؛ يعني أن الأول من بيوع الآجال يَصِحُّ ويلزم فيه الثمن ويفسخ الثاني، وهو قول ابن القاسم وسحنون، واقتصر عليه المص لقول ابن بشير: إنه المشهور كما في نقل المواق وهو خلاف ما صححه ابن يونس، فإنه لما ذكر عن سحنون في المجموعة أنه يصح الأول، قال: وقال غيره: تفسخ البيعتان جميعا إلَّا أن يصح أنهما لم يعملا على المعينة، إنما وجدها تباع فابتاعها بأقل من الثمن، فهذا يفسخ البيع الثاني ويصح الأول. محمد بن يونس: وهذا أصح من قول ابن سحنون. قاله الرهوني. وقال أبو علي: أي إذا باع سلعة بثمن إلى أجل ثم اشتراها بأقل نقدا فإن البيع الأول صحيح دون الثاني وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، وقال ابن الماجشون: تفسخ البيعتان إلَّا أن يصح أنهما لم يتعاملا على المعينة، وإنما صادف السلعة تباع فابتاعها بأقل من الثمن الأول.

إلَّا أن يفوت الثاني فيفسخان؛ يعني أن محل الخلاف المذكور إنما هو حيث لم تفت السلعة الثانية، فإن فاتت بحوالة سوق فأعلى فإنه يفسخ البيعتان معا باتفاقهما. قاله الشارح وغيره. وقال بناني: قال ابن رشد في البيان: واختلف بما تفوت به السلعة، فقيل: إنها تفوت بحوالة الأسواق، وهو مذهب سحنون، والصواب أنَّها لا تفوت إلَّا بالعيوب المفسدة إذ ليس هو [ببيع]

(1)

، فاسد

(1)

في الأصل: بيع، والمثبت من بناني ج 5 ص 107.

ص: 390

لثمن ولا مثمون، وإنما فسخ لأجل أنهما تطرقا به إلى استباحة الربا، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي وغيره من فقهاء المتأخرين. قوله، فيفسخان وحينئذ لا طلب لواحد منهما على الآخر لأن المبيع فاسدا قد رجع لبائعه فضمانه منه، وسقط الثمن عن ذمة المشتري الثاني لفساد شرائه. وقال أبو علي: قال ابن عرفة: ولو فات المبيع ففي فسخهما ومضيهما، ثالثها: الثانية فقط، فإن زاد الثمن على القيمة سقط فضله، ورابعها: إن كان الثمن أكثر وإلا فالثانية فقط لابن رشد لخ. وهل مطلقًا؛ يعني أنه إذا فات البيع الثاني فإن البيعتين تفسخان، واختلف الشيوخ هل تفسخ البيعتان مطلقًا حيث فات البيع الثاني؛ ومعنى قوله: مطلقًا، كانت قيمة السلعة في البيع الثاني قدر الثمن الأول أو أقلّ أو أكثر. أو إنما يفسخان معا إن كانت القيمة التي تلزم البائع يوم قبضه أقل من الثمن الأول، وأما إن كانت مثله أو أكثر فلا يفسخ الأول وإنما يفسخ الثاني، في ذلك خلاف فمحله في فسخ الأول حيث فات البيع بيد المشتري الثاني وهو البائع الأول وكانت القيمة مساوية للثمن الأول أو أكثر، فإن فات بيد المشتري الأول فسخ الثاني فقط ولم يفسخ الأول باتفاق القولين، وإن كانت القيمة أقلّ من الثمن الأول فسخ الأول والثاني باتفاق القولين قاله عبد الباقي. والقول الأول حكاه اللخمي والمازري عن ابن القاسم. قال في التوضيح: وصرح ابن رشد بأنه المشهور؛ والثاني لسحنون، وقال ابن الحاجب: إنه الأصح، وعبر عنه بعضهم بالمشهور. قاله بناني. وقال المواق: قال ابن رشد: إن كانت السلعة قائمة صحت البيعة الأولى وفسخت الثانية على قول ابن القاسم، فإن فاتت فالذي تأول التونسي على ابن القاسم أن البيعتين تفسخان، فلا يكون للبائع على المبتاع إلَّا الثمن الذي دفع إليه، وذهب عبد الحق تأولا على ابن القاسم أنه إن كانت القيمة أقلّ من الثمن فسخت البيعتان ولم يكن للبائع على المبتاع إلَّا الثمن الذي دفع إليه، وإن كانت أكثر من الثمن فسخت البيعة الثانية خاصة [وقضي]

(1)

، عليه بالقيمة، فإذا حل الأجل أخذ الثمن. وقاله سحنون نصا. ولما أنهى الكلام على بيوع الآجال أتبعه بالكلام على بيع المعينة كما جرت بذلك عادة كثير من أهل المذهب فقال:

(1)

في الأصل قضى والمثبت من المواق ج 5 ص 292.

ص: 391

‌فصل: في بيع العينة،

وإنما جرت عادة كثير من المؤلفين بتذييل بيوع الآجال ببيع العينة لمناسبة بينهما في التحيل على دفع قليل في كثير، قال عبد الباقي: فصل في حكم بيع العينة بكسر العين المهملة ثم تحتية ثم نون ومسائله، وعَقَّبَه بما قبله لمناسبة التحيل في كلّ منهما على دفع قليل في كثير، وسميت بذلك لاستعانة البائع بالمشتري على تحصيل مقصده من دفع قليل ليأخذ عنه كثيرا، ولحصول العين وهو النقد لبائعها. ابن عرفة: هي المتحيل به على دفع عين في أكثر منها. انتهى. وقال الخرشي: وأصل عينة عِوْنَةٌ بكسر العين من المعاونة قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، سميت تلك البياعات بذلك لاستعانة البائع بالمشتري على تحصيل غرضه أو لحصول العين وهو النقد لبائعها، والمراد بالبائع هنا الذي طلبت منه السلعة، والمشتري هو الطالب، وتحصيل غرضه هو الربح فيها، وسماه بائعا باعتبار المئال، وإلا فهو الآن لم يبع، وفي كتاب الزهد لأحمد بن حنبل عن ابن عمر: أتى علينا زمان وما يرى أحد منا أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه السلم، ثم قال: سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: إذا الناس تبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم ومما يحسن إيراده هنا ما نقله الشيخ أبو علي عن المتيطي وأصل قول مالك: أن البيعة الأولى إذا كانت إلى أجل والثانية نقدا أو إلى أجل فإنه يتهم فيها كلّ أحد، فينظر إلى ما خرج من اليد وإلى ما يعود إليها، وإن كانت الأولى نقدا والثانية نقدا أو إلى أجل فلا يتهم فيها إلَّا أهل العينة كانا معا أو أحدهما من أهلها. انتهى. ولهذا قال المص فيما تقدم: فمن باع لأجل ولم يذكره هنا، فلله دره في صنعه العجيب، واختصاره الغريب، انتهى. وقال عبد الباقي: وهي أي العينة ثلاثة أقسام: جائز متفق عليه ومختلف فيه، ومكروه، وممنوع، وبدأ بالجائز بصورتيه مشيرا للمختلف فيه بلو، مقتصرا فيه على جوازه فقال: جاز المطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بثمن؛ يعني أن من طلبت منه سلعة ليست عنده فيجوز له أن يشتريها ليبيعها ممن طلبها منه بثمن، وفي نسخة: بمال، وفي نسخة: بنماء، قال الحطاب: وهو أحسن لأنه المقصود

ص: 392

في هذا الفصل، وعلى كلّ فهو متعلق بيبيعَها، لا بقوله: يشتريَها، وسواء باعها المطلوب بنقد كله اتفاقا أو بموجل كله بل، ولو بمؤجل بعضه وعجل الطالب بعضه للمطلوب منه وقد دخلا على أن يبيعها أو بعضها الطالب لحاجهته، وما ذكره من الجواز فيها هو الراجح؛ لأنه ظاهر الكتاب والأمهات، ولذا بالغ عليه ردا على ما في العتبية من كراهة مالك لذلك، فروجع في ذلك غير مرّة، فقال: أنا قلته قاله ربيعة وغيره قبلي أي ابن هرمز، وَوُجِّهَتِ الكراهة بأنه كأنه قال: خذها بعها لحاجتك أو بع منها لحاجتك والباقي لك ببقية الثمن للأجل، والغالب أن ما بقي لا يفي ببقية الثمن الذي اشتراها به الطالب من المطلوب منه، بل الغالب أنَّها إذا بيعت كلها لا يفي ثمنها بما اشتريت به. قاله عبد الباقي. وقال أبو علي: والجائز يعني من بيع العينة هو أن يمر الرجل بغيره من أهل العينة، فيقول له: هل عندك سلعة كذا؟ فيقول: لا، فيذهب من عنده من غير مراوضة ولا وَأْيٍ ولا عادة فيشتريها، ثم يلقاه فيخبره بأنه اشتراها فيبيعها له بما شاء نقدا أو نسيئة، وإليه أشَار بقوله: ولو بموجل بعضه، هو ظاهر الكتاب، ونقل عياض عن العتبية كراهته. انتهى. وقوله: ولو بموجل بعضه، بحث فيه ابن غازي بأن ظاهر المتن جواز هذا لمن طلبت منه السلعة، والناس إنما فرضوه في غير من طلبت منه السلعة، وما نقله ابن غازي عن عياض هو كذلك، ولكن ذكر ما يؤخذ منه ما قاله المؤلف قبل هذا الذي نقله حين مثل للجائز بقوله: كالرجل يقول للرجل: عندك سلعة كذا، فيقول: لا، فينقلب عنه على غير مواعدة فيشتريها التاجر، ثم يلقى صاحبه فيقول: تلك السلعة عندي، فهذا جائز له أن يبيعها منه بما شاء من نقد وكالئ، ونحوه لمطرف عن مالك. انتهى. فقوله: بما شاء، دال على ما قاله المص. انتهى. والحامل أن هنا مسألتين إحداهما: مسألة من طلبت منه سلعة فاشتراها وباعها لمن طلبها منه بثمن مؤجل كله أو معجل بعضه ومؤجل بعضه، وهذه هي التي ذكر المص فيها الجواز. والثانية: أن يشترى شيئًا بثمن بعضه مؤجل وبعضه معجل ليباع، قال ابن حبيب: إذا اشترى طعاما أو غيره على أن ينقد بعض ثمنه ويؤخر بعضه إلى أجل، فإن كان اشتراه ليبيعه كله لحاجته لثمنه فلا خير فيه، وكأنه إذا باعه بعشرة نقدا وعشرة إلى أجل قال له: خذه فبع

ص: 393

منه ما تريد أن تنقده لي وما بقي فهو لك ببقية الثمن إلى الأجل، وإنما يعمل هذا أهل العينة، وهو قول مالك فروجع فيها غير مرّة فقال: أنا قلته قاله ربيعة وغيره قبلي. ابن رشد: هذه بيعة صحيحة في ظاهرها ولا يتهم بالفساد فيها إلَّا من علم ذلك من سيرته وهم أهل العينة، والذي يخشى في ذلك هو أن يكون الذي تراوضا عليه وقصدا إليه أن يبيع منه الطعام على أن يبيع منه بدينار فيدفعه إليه ويكون الباقي بكذا دينارا إلى أجل وذلك غرر؛ إذ لا يدري ما يبقى له من الطعام إذا باع منه بدينار، وقد قال بعض أهل العلم: إنه لو دفع إليه الدينار من ماله لم يكن بذلك بأس، وفي سماع سحنون أن ذلك لا يجوز وإن دفع الدينار من عنده لأنه يخلفه من الطعام، يريد أن التهمة لا ترتفع عنه بذلك، قال ابن غازي ما معناه: أن هذه المسألة غير مفرعة على مسألة المطلوب منه سلعة. انتهى. فعلى المص درك من وجهين: تفريعه المسألة على مسألة المطلوب منه سلعة وليست مفرعة عليها، وأن هذه مقيدة بما اشتُرِيَ ليباع للحاجة وقد أخل بالقيد. قاله بناني. وقال ابن غازي: فإن كان المص قصد بالتفريع المذكور التنبيه على جواز المركبة من الوصفين كغيرها كانت العهدة في جواز المركبة عليه. انتهى. وقد مر عن الشيخ أبي علي ما يفيد الجواب عن المص، وحاصل هذا الحاصل أن المص نص على الجواز مشيرا لمقابله بلو في المطلوب منه سلعة، وابن غازي بحث مع المص في ذلك، وقال: إن المختلف في جوازه في غير المطلوب منه سلعة، وقد علمت جواب الشيخ أبي علي عن المص، وما قاله أبو علي ظاهر. والله سبحانه أعلم. وأشار للقسم الثاني بقوله:

وكره خذ بمائة ما بثمانين؛ يعني أنه يكره أن يقول الرجل لمن سأله سلف ثمانين بمائة: لا يحل لي أن أسلفك ثمانين في مائة، ولكن هذه سلعة قيمتها ثمانون خذها مني بمائة، فقوله: ما، واقعة على سلعة أو السلعة وهي مفعول خذ، قال عبد الباقي: وكره خذ بمائة ما بثمانين، والفاعل لذلك من أهل العينة، وإن كان ظاهر النقل الإطلاق، وأما إن أعطى رب مال لمريد سلف منه بالربا ثمانين يشتري بها سلعة على ملك رب المال ثم يبيعها له بمائة، فالظاهر المنع لاسيما

ص: 394

إن كان من أهل العينة؛ لأنَّها لم تكن عنده، فكأنَّ المقصود بشرائها ولو على وجه [الوكالة]

(1)

صورة إنما [هو]

(2)

)، دفع قليل ليأخذ عنه أكثر، وربما يدلُّ للمنع ما تقدم عن الناصر اللقاني عند قوله: فمن باع لأجل، من مسألة ما إذا اشترى رب دين من مدينه بالدين الذي عليه سلعة ثم باعها له بأكثر لأجل، فإنه يمتنع نظرا لما آل إليه الأمر وهو فسخ ما في الذِّمة في مؤخر. انتهى كلام عبد الباقي. قوله: فالظاهر المنع لخ، قد صرح بالمنع ابن رشد، ونقله الحطاب آخر الفصل. قاله بناني.

أو اشترها ويومئ لتربيحه؛ يعني أنه يكره أن يقول الرجل لبعض أهل العينة: اشتر السلعة الفلانية ويومئ لتربيحه، وكذا فأنا أربحك فيها أو أشتريها منك من غير أن يراوضه على قدر الربح ولا تصريح به، وقال أحمد الزرقاني: اعترض عليه بأن الذي في توضيحه: وأنا أربحك ولا يلزم من الكراهة مع التصريح الكراهة مع الإيماء والتعريض، وبأن ظاهره المنع مع التصريح وقد علمت أنه مكروه، فالاعتراض عليه من وجهين. قال عبد الباقي: ويجاب بأنه أراد بالإيماء ذكر لفظ الربح من غير تسمية قدره، وسماه إيماء لعدم التصريح بقدره فإن عرَّضَ له به ولم يصرح بلفظه ولا بقدره، كاشترها ولك الخير جاز، فإن صرح بقدره كاشترها وأربحك خمسة منع، ولا ينافي ما يأتي للمص من أنه إذا صرح بقدره كره فيما إذا قال: اشترها بعشرة نقدا وآخذها باثني عشر نقدا على أحد قولين فيها، والآخر الجواز؛ لأن ما يأتي وقع التعيين من الآمر فيما يشتري به الأمور والآمر وإن كان نقد فكأنه استأجره على شرائها بالدرهمين الزائدين. انتهى المراد منه. ولم يفسخ يعني أنه إذا وقع ذلك المكروه من شراء الآمر والمأمور المشار إليه بقوله: اشترها ويومئ لتربيحه لخ، فإن ذلك لا يفسخ، وأتى به مع علمه من الكراهة لدفع توهم أن الكراهة على التحريم. قاله عبد الباقي. وقال بناني: الظاهر كما في الحطاب أنه أتى به لرد قول فضل: يجب أن يفسخ شراء الآمر، وقال المواق: أو اشترها ويومئ لتربيحه ولم يفسخ، ابن رشد: المكروه من

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 108.

(2)

في الأصل هي والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 108.

ص: 395

أوجه العينة اشتر سلعة كذا وكذا فأنا أربحك فيها وأشتريها، من غير أن يراوضه على الربح؛ عياض: وروى ابن نافع: ولا أبلغ به الفسخ؛ وسمع يحيى: إن قال: اشتر مني عبد فلان بستين فإني أرجو أن يبيعه مني بخمسين فهو مكروه. ولا يفسخ؛ انتهى. وقال أبو علي: وزاد المص ولم يفسخ لأمور، أحدها: رَدًّا على المخالف. الثاني: أن البيع المختلف فيه يقال فيه: مكروه، وهو يفسخ قبل الفوات. الثالث: أن المكروه قد يعبر به عن المحرم وإن كان متفقا عليه.

تنبيه: قد علم مما مر أن التصريح بالربح من غير ذكر مقدار الربح موجب للكراهة فقط؛ وأشار للقسم الثالث بقوله: بخلاف اشترها بعشرة نقدا وآخذها باثني عشرة لأجل؛ يعني أنه إذا قال الآمر: اشتر السلعة بعشرة نقدا وأنا آخذها باثني عشر لأجل فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه سلف جر نفعا. قال عبد الباقي: وأشار المص في القسم الثالث المذكور إلى ست مسائل، ثلاث منها في قوله: اشتر لي، وثلاث إن لم يقل: لي ومحل المنع فيما ذكره في الست إذا وقع من أهل العينة، وإلا لم يمنع شيء منها إلَّا المسألة المشار لها بقوله: إن نقد المأمور بشرط، وربما يدلُّ له قوله في الشركة: وجاز وانقد عني إن لم يقل: وأبيعها لك.

ولزمت الآمر إن قال: لي، يعني أنه إذا قال الآمر: اشترها لي بعشرة نقدا وآخذها باثني عشر لأجل فإنه تلزم السلعة الآمر بالعشرة نقدا، فليس له أن يمتنع من أخذها حيث قال: لم أرد الشراء، بقولي: آخذها، وضمانها إن تلفت منه. قاله عبد الباقي. وقال أبو علي: ولزمت الآمر إن قال: لي؛ أي إن قال: اشترها لي؛ لأن الشراء له، وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ أكثر منه إلى أجل، فيعطيه العشرة معجلة ويسقط عنه ما أربى. انتهى. وقال الخرشي: وإن قال: لي، فإن السلعة تلزم الآمر بالعشرة ويفسخ البيع الثاني باثني عشر لأجل؛ وسيأتي ما يكون للمأمور. انتهى. وقال الحطاب: يعني إذا قال له: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا آخذها منك باثني عشر لأجل، ولفظ التوضيح. والبيان في موضع: وأنا أشتريها منك، ولفظ المقدمات والبيان في موضع آخر: وأنا أبتاعها منك. قال في المقدمات والبيان: فذلك حرام لا يحل ولا يجوز لأنه رجل ازداد في سلفه، فإن وقع لزمت السلعة الآمر لأن الشراء كان له، وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ منه أكثر منه إلى أجل، فيعطيه العشرة معجلة ويطرح عنه ما أربى. انتهى. واختلف فيما

ص: 396

يكون للمأمور من الجعل على الخلاف الآتي في المسألة الآتية. وفي الفسخ إن لم يقل: لي؛ يعني أنه إذا لم يقل: لي في الفرض المذكور فإن البيع الأول ماض، واختلف في فسخ البيع الثاني وهو آخذها باثني عشر لأجل، وعليه فيرد الآمر السلعة للمأمور إن كان قبضها أي يرد له عينها، إلَّا أن تفوت بيد الآمر بمفوت البيع الفاسد، فالقيمة هي اللازمة للآمر يدفعها للمأمور يوم قبضها الآمر حالة. وإمضائها، عطف على قوله: الفسخ يعني أنه اختلف في فسخ عقدة البيع الثاني وإمضائها بمجرد العقد. ولزومه؛ أي الآمر. الاثنا عشر لأجلها؛ يعني أنه إذا قلنا بإمضاء البيع الثاني فإنه يترتب على ذلك أنه يلزم الآمر الاثنا عشر لأجلها؛ لأن المأمور كان ضامنا لها لو هلكت قبل شراء الثاني، ولو شاء الآمر عندها شراءها كان له ذلك. قولان، مبتدأ وخبره في الفسخ لخ، قال الحطاب: وكان ينبغي للمص أن يقتصر على القول الثاني لأنه قول ابن القاسم وروايته عن مالك، والأول لابن حبيب. واعلم أن ضمان المأمور وكون الخيار له وللآمر في العقد إنما هو قبل وقوع البيع الثاني. والقولين الذين ذكر المص إنما هما بعد وقوع البيع الثاني، فالقول الثاني يقول بلزومه، فلو جعلنا الخيار للآمر لكان له الفسخ ولا قائل به. قاله بناني. والله سبحانه أعلم.

وعلم مما قررت أن قوله: إلَّا أن تفوت، مستثنى من مقدر أي وترد عينها إلَّا أن تفوت، وقوله: وإمضائها، هو في بعض النسخ بالواو ولا إشكال فيها، ونسخة أو هي بمعنى الواو. وقوله: فالقيمة، يخالف ما مر من أن المختلف في فساده يمضي إذا فات بالثمن، والجواب أن ما مر أكثري لا كلي ثم لا جعل له على القولين، قال المص: ويستحب للمأمور أن يتورع ولا يأخذ إلَّا ما نقد. قاله عبد الباقي. وقال الشيخ أبو علي: فإن قلت: من أين يفهم التورع المذكور؟ قلت: لأن الخروج من الخلاف مندوب وهذا أمر معروف كما ذكره الحطاب وغيره. انتهى.

وبخلاف اشترها لي بعشرة نقدا وآخذها باثني عشر نقدا يعني أنه يمنع قول الآمر للمأمور: اشترها لي بعشرة نقدا وأشتريها منك باثني عشر نقدا، والمنع في هذه محله، إن نقد المأمور العشرة بشرط؛ لأنه حينئذ جعل له الدرهمين في نظير سلفه وتوليه الشراء له، فهو إجارة وسلف

ص: 397

بشرط. قاله غير واحد. وهو يفيد أنه إذا حذف الشرط صح كالبيع والسلف، وأن شرط النقد كالنقد بشرط، ويفيده قوله الآتي: وجاز بغيره، خلاف ما هنا من إفادته جواز شرط النقد، فإنه لا ينبغي التعويل عليه؛ ثم إن السلعة في هذه أيضًا لازمة للآمر بالثمن الأول حالا وهو العشرة، مراعاة لقوله: لي، ويفسخ البيع الثاني للآمر إن وقع ومنع مراعاة لعلة السلف والإجارة فروعيت العلتان. قاله عبد الباقي.

وله الأقل من جعل مثله أو الدرهمين فيهما؛ يعني أن السلعة تلزم الآمر لقوله: لي، ويكون للمأمور على الآمر الأقل من جعل مثله والدرهمين، فإذا كان يجاعل على الشراء بدرهم فله درهم، وإذا كان يجاعل عليه بثلاثة دراهم كان له الدرهمان. وقوله: أو الدرهمين، أو بمعنى الواو. وقوله: فيهما: أي في هذه وفي أول قسمي التي قبلها وهو قوله: اشترها لي بعشرة وآخذها باثني عشر لأجل، وأما في قسمها الثاني وهو: إن لم يقل: لي، فلا جعل له كما قدمناه؛ ثم إنه إنما يكون له الأقل حيث اطلع على ذلك قبل انتفاع الآمر بالسلف: فإن لم يعثر عليه حتى انتفع الآمر به بقدر ما يرى أنهما كانا قصداه، فهل لا شيء له لاتهامهما على قصد الربا بسبب انتفاع الآمر؟، أو له أجر مثله بالغا، ما بلغ قولان، وليس ثم قول بأن له الأقل من جعل مثله والدرهمين، ذكر هذا التقييد ابن رشد في الأولى، والظاهر جريانه في الثانية في كلام المص، والظاهر أن ما قارب مدة قصدهما السلف مع الانتفاع كهي. قاله عبد الباقي. قوله: والظاهر جريانه في الثانية، بل في الثانية ذكره ابن رشد، وقد نقل الحطاب كلامه فانظره. قاله محمد بن الحسن. وقوله: وله الأقل من جعل لخ، هو على قول ابن القاسم في منع البيع والسلف، وقال ابن المسيب: لا أجر له. ابن رشد وابن زرقون: وهو الأصح، وإليه أشار بقوله:

والأظهر، أي عند ابن رشد، الأصح؛ أي عند ابن زرقون: لا جعل له فيهما أيضًا ليلا يكون تتميما للفاسد. قاله الشارح. وبقوله: إنه الأصح عند ابن زرقون يسقط تعقب المواق على المص بقوله: لعل الواو في قوله: والأصح أقحمها الناسخ لخ؛ لأن اعتماده على ابن عرفة وهو لم يذكر كلام ابن زرقون. قاله بناني. وقال عبد الباقي: قال الشارح يعني عند قوله: والأظهر والأصح لا جعل له، قال الشارح: وهو قول ابن المسيب واختاره ابن رشد وابن زرقون. انتهى. وهذا يفيد

ص: 398

أن المص يشير لاختيار ابن رشد من الخلاف بالاسم، وإن كان المخالف ليس من أهل المذهب، ومفهوم قوله: إن نقد المأمور بشرط، أنه إن لم ينقد فهل له أيضًا الأقل من جعل مثله والدرهمين، أو له أجر مثله، قولان حكاهما ابن عرفة مصدِّرا بالأول، والسلعة لازمة للآمر أيضًا. وجاز بغيره، هذا مفهوم قوله: بشرط؛ يعني أنه يجوز العقد المذكور من شراء المأمور بعشرة نقدا وأخذ الآمر باثني عشر نقدا حيث لم يشترط النقد، نقد المأمور أم لا وله الدرهمان على كلّ حال. كنقد الآمر؛ يعني أنه يجوز العقد المذكور حيث نقد الآمر بأن يدفع الآمر للمأمور عشرة، يقول له: انقدها وأنا آخذها منك باثني عشر نقدا. وإن لم يقل لي؛ يعني أنه إذا قال: اشترها بعشرة نقدا، ولم يقل: لي وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، ففي الجواز؛ أي جواز شرائه باثني عشر نقدا، والكراهة، وهو الراجح، قولان محلهما حيث كانت البيعتان نقدا، فإن كانت إحداهما لأجل فهي المسألتان قبلها وبعدها، وليس في هذه هنا شرط نقد ولا تطوع به؛ لأنه حيث لم يقل: لي، فالمأمور اشترى لنفسه. قاله التاودي. قال الرهوني: وهو صواب. انتهى. وقال عبد الباقي: ولم يتفق على الكراهة هنا كما اتفق عليها في اشترها ويومئ لتربيحه؛ لأن ما هنا الأخذ بنقد بخلاف ما مر فمؤجل فيقوى جانب السلفية.

وبخلاف اشترها لي باثني عشر لأجل وأشتريها بعشرة نقدا؛ يعني أنه إذا قال الآمر للمأمور: اشترها لي باثني عشر لأجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا فإن ذلك ممنوع؛ لأنه سلف من الآمر بزيادة، ولا تنافي بين قوله: لي، وبين: أشتريها، بالمضارع لاحتمال أن معنى لي لأجلي. قاله عبد الباقي. وقال بناني: قال ابن رشد: لأنه استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير يدفعها إليه، ينتفع بها إلى أجل ثم يردها إليه أي والآمر يدفع الاثني عشر عند الأجل للبائع الأصلي، ونحوه في التوضيح والمواق والحطاب، وما قاله عبد الباقي تبع فيه التتائي والسنهوري، وكأن التتائي ومن تبعه راعوا أن الآمر أسلف عشرة ليدفع عنها المأمور اثني عشر وهو بعيد؛ لأن السلف لم يكن لأجل الزيادة المذكورة، بل لتولية الشراء. انظر مصطفى.

ص: 399

فتلزم بالمسمى؛ يعني أنه في هذه الصورة تلزم السلعة الآمر بالمسمى وهو الاثنا عشر لأجل. ولا تعجل للمأمور العشرة؛ لأنه يؤدي إلى سلف جر نفعا لأن الآمر استأجر المأمور على أن يشتري له السلعة ويسلفه عشرة ينتفع بها مدة الأجل ويقضي عنه اثني عشر. قاله الشارح. قاله عبد الباقي. قال: وهو يفيد أنه إذا عجل العشرة للبائع الأصلي لم يمتنع ذلك. وإن عجلت أخذت؛ يعني أنه إذا عجل الآمر العشرة للمأمور فإنها تؤخذ منه وترد للآمر ولا يفسد العقد؛ لأن تعجيلها عقدة سلف مستقلة وقعت بعد عقد بيع صحيح. قاله عبد الباقي.

وله جعل منه؛ يعني أنه يكون للمأمور على الآمر جعل مثله وإن قال الآمر للمأمور: اشترها باثنى عشر لأجل ولم يقل: لي، وأشتريها منك بعشرة نقدا، فإنه اختلف هل لا يرد البيع الثاني وهو الواقع بعشرة إذا فات، بمفوت البيع الفاسد ورواه سحنون عن ابن القاسم، وعلى هذا القول ليس على الآمر إلا العشرة يدفعها للمأمور معجلة وعلى المأمور الاثنا عشر لأجل يؤديها لبائعه عند الأجل؟ أو يفسخ البيع الثاني مطلقًا فات أم لا. وترد عين السلعة إلا أن تفوت فتقيمه على الآمر يدفعها للمأمور، وهو قول ابن حبيب. وقوله: إلَّا أن تفوت مستثنى من مقدر كما علمت؛ أي وترد عين السلعة إلَّا أن تفوت، ومفهوم قوله: إذا فات، الرد مع عدم الفوات باتفاق القولين. قاله عبد الباقي. وقوله: قولان، مبتدأ حذف خبره؛ أي في ذلك قولان. فتحصل أن القولين متفقان على الفسخ مع القيام ويختلفان عند الفوات، فعلى الأول يمضي البيع الثاني وهو الواقع بعشرة، وعلى الثاني يفسخ ويرد الآمر القيمة للمأمور والبيع الأول ماض مطلقًا.

ولما أنهى الكلام على أركان البيع وشروطه وما يعرض له من صحة وفساد وكان من أسباب فساده الغرر وكان بيع الخيار مستثنى بناء على أنه رخصة، أتبع ذلك بالكلام عليه فقال:

ص: 400

‌فصل: في بيع الخيار،

وهو بيع وقف بَتُّه أوَّلًا على إمضاء يتوقع. قاله ابن عرفة. وقوله: أولا، متعلق بوقف، وخرج به ذو الخيار الحكمي أي خيار النقيصة، فإن بته لم يوقف أولا على إمضاء، فالحد لخيار التروي. قاله عبد الباقي. وقال: قال الشافعي -ونحوه لابن عبد السلام- لولا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاز الخيار أصلا في ثلاث ولا في غيرها؛ أي لأنه غرر، فهو مستثنى من بيع الغرر. انتهى. وقال بناني: قال ابن عرفة: المازري: في كونه رخصة لاستثنائه من الغرر وحجر البيع خلاف، وفي ثبوت الخيار مدة المجلس دون شرطه قولا ابن حبيب والمشهور. انتهى. الوانوغي: تظهر فائدة الخلاف في كون بيع الخيار رخصة أو عزيمة في وجهين، أحدهما: في الدليل الدال على جوازه، فإن قلنا: إنه عزيمة فالدليل الدال على إباحته هو الدليل الدال على إباحة سائر البيوع، وإن قلنا: إنه رخصة فدليله خاص به. والثاني: ما صرح به عياض فيما نقله عن ابن عتاب من أن ما رواه سحنون وأصبغ عن ابن القاسم من منع اشتراط الوضى لفلان مبني على أن الخيار لأحد المتبايعين رخصة مستثناة من الغرر والمخاطرة فلا يتعدى إلى غيرها.

إنما الخيار بشرط؛ يعني أن البيع يكون لازما للمتبايعين فليس لأحدهما الخيار في حل البيع إلَّا أن يشترطا أو أحدهما الخيار؛ يعني أن خيار التروي لا يكون إلَّا بالشرط لا بالمجلس، وقال عبد الباقي: حيث جرت العادة بالتروي عمل بها أيضًا لكونها كالشرط، وخرج بقوله: بشرطٍ، خيارُ المجلس، فإنه غير معمول به عندنا وعند أبي حنيفة، وهو قول الفقهاء السبعة؛ قيل: إلَّا ابن المسيب، وقيل: له قولان، واشتراطه في العقد يفسده لأنه مجهول، فيدخل في قول المص: أو مجهول؛ ولما ذكر في الموطإ حديث خيار المجلس قال عقبه: والعمل عندنا على خلافه؛ أي وعمل المدينة كالتواتر وهو يقدم على خبر الآحاد، وذكره في موطإه ليلا يتوهم أنه لم يبلغه. انتهى. وقال الحطاب: ونسب ابن حبيب الحديث للموطإ لينبه على أنه لا ينبغي أن يقال: مالك لم يبلغه الحديث، بل علمه ورواه، ونبه على أنه إنما ترك العمل به لما هو أرجح عنده.

ص: 401

انتهى. ولما ذكر أبو الحسن الحديث قال: حمل الشافعي الافتراق في الحديث على الافتراق بالأبدان، ومذهب مالك أنه محمول على الافتراق باللفظ. وقال ابن الجلاب: خيار المجلس باطل، ونقل ابن يونس عن أشهب أن الحديث منسوخ، وقال أبو علي: قال ابن يونس: والبيع على الخيار جائز، وهو أن يقول: أشتري منك هذا الشيء وأنا وأنت فيه بالخيار إلى وقت كذا، دليله حديث الموطإ قوله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يفترقا إلَّا بيع الخيار

(1)

)؛ فأخبر أن من البيع ما فيه خيار، وروي: إلَّا أن يكون صفقته صفقة خيار. ولما لم يكن في الحديث المذكور فيه أن البيعين بالخيار ما لم يفترقا حَدٌّ مؤقت من وقت الافتراق ينتهيان إليه مع احتماله الافتراق باللفظ في اللغة لم يجب أن يفرق بين عقد البيع وسائر العقود اللازمة باللفظ دون التفرق إلَّا بالبيان من السنة. وقد قال سبحانه: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} ، وهذا الافتراق بالكلام. والمتساومان يقع عليهما اسم المتبايعين، كما قال عليه السلام: (لا يبع بعضكم على بيع بعض

(2)

)، فسمى المساومة بيعا، فاحتمل أن يكون معنى قوله عليه السلام: المتبايعان بالخيار يعني المتساومين، ودل على أن البيع ينعقد باللفظ قوله عليه السلام: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه

(3)

)؛ لأنه لو كان فيه خيار لغيره لم يبح للمبتاع بيعه، والصرف بيع، ولا خيار فيه لقوله عليه السلام: إلَّا هاء وهاء، ومن المدونة قال مالك رحمه الله: فإذا انعقد البيع فلا خيار لواحد من المتبايعين إلَّا أن يشترطاه. انتهى المراد منه.

تنبيه: مسألة عدم العمل بخيار المجلس إحدى المسائل الثلاث التي حلف عبد الحميد الصائغ بالمشي إلى مكة لا يفتي فيها بقول مالك، الثانية: التدمية البيضاء؛ أي قول الميت: دمي عند فلان، ولم يكن بالميت أثر جرح ونحوه، قال الإمام: إنها لوث، توجب القسامة. الثالثة: جنسية القمح والشعير. ونظمها بعضهم فقال:

(1)

الموطأ، ج 2 ص 424.

(2)

مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث 1515. البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2139.

(3)

الموطأ، ج 1 ص 406، البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2126. مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث 1526.

ص: 402

عبد الحميد خالف الإماما

لدى ثلاث هاكها نظاما

جنسية القمح مع الشعير

تدمية بيضا بلا نكير

ترك خيار مجلس وقد حلف

بالمشي لا يفتي بقول من سلف

ويبحث فيما قاله عبد الحميد الصائغ بأنه إن لم يكن علم بأن عمل أهل المدينة على نفي (خيار المجلس

(1)

) فهو قصور، وإن كان علم به فإن قال بقول مالك: عملها مقدم على خبر الآحاد، فلا وجه لحلفه، وإن لم يقل به لزمه أن يخالف الإمام في كلّ ما قَدَّم فيه عملَها على خبر الآحاد، وإن أنكر أن عملهم في هذه على خلاف الخبر المذكور فهو مكابرة لتصريح مالك بذلك وتلقي الناس له بالقبول، ومثل هذا يتوجه على ابن حبيب القائل بخيار المجلس، وإن كان توجهه على الحالف أقوى. قاله الأجهوري. نقله عبد الباقي. وقال: وقد ينتصر للصائغ لموافقته (حديث الصحيحين) للقطع بصحة ما لهما، كما قال في ألفية العراقي:

واقطع بصحة لما قد أسندا ...................................

قال بناني: القطع بصحته لا ينافي كونه خبر آحاد وأن عمل أهل المدينة مقدم عليه فلا وجه لهذا الانتصار. انتهى. ولما كان أمد الخيار يختلف باختلاف البيع بَيَّنه بقوله

كشهر في دار؛ يعني أنه يجوز بيع دار بالخيار للمتبايعين أو أحدهما، وأمد الخيار فيها شهر وستة أيام، مدخول الكاف؛ قال عبد الباقي: كشهر وستة أيام، كما في المدونة في دار، فهو مثال لمقدر أي ويختلف الخيار باختلاف المبيع كشهر لخ، وفي الموازية والواضحة: الشهران، وجعله ابن الحاجب خلافا، وابن يونس وابن رشد تفسيرا للمذهب، فكان ينبغي للمص التنبيه عليه

(1)

في الأصل خيار أهل المجلس والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 111.

ص: 403

ومثل الدار الأرض والضيعة وبقية أنواع العقار، وما ذكره المص من اختلاف مدة الخيار باختلاف المبيع يشمل ما إذا كان الخيار لاختبار البيع أو للتروي في الثمن، وقيل: قاصر على الأول وإن الثاني ثلاثة أيام مطلقًا، وقيل: غير ذلك. قاله عبد الباقي. وقال بناني: القول الأول هو ظاهر كلام أهل المذهب، والثاني نقله ابن عرفة عن التونسي، والثالث قاله اللخمي، وهو كونه في الثاني بحسب قدر الثمن.

تنبيهات: الأول: الخيار خياران خيار التروي وخيار النقيصة وهو ثبوت الرجوع بالثمن عند ظهور العيب والاستحقاق. الثاني: صرح في التوضيح في باب الإجارة بأن المشهور من المذهب منع الجمع في عقد واحد بين البت والخيار. الثالث: قال في الشامل: كشهر في دار على المشهور، وقيل: وشهرين، وحمل على التفسيرت وقيل: وثلاثة: والربع والأرض كذلك، وعن مالك في الضيعة ستة.

ولا يسكن، قال الحطاب: أي لا ينتقل إليها بأهله ومتاعه وله أن يدخلها بنفسه ويبيت بها. انتهى. وقال عبد الباقي: أي لا يجوز للمشتري أن يسكن الدار المبيعة كثيرا بخيار بشرط أو بغير شرط لاختبار حالها أم لا، ويفسد البيع باشتراطه في هذه الأربعة إن سكن بغير أجر؛ لأنه من بيع العربان، وإلا جاز فيها، فهذه ثمانية، فإن سكن يسيرا لغير اختبارها جاز بشرط وغيره بأجر لأن الخراج للبائع، لا بغير أجر فيها. ولاختبارها جاز بشرط وبغير بأجر وبغير، فهذه ثمانية أيضًا واختبارها وجيرانها يمكن بمبيته ليلا من غير سكنى بأهله، كما ذكره الحطاب عن ابن إسحاق عند قوله: ولبس. قاله عبد الباقي. وحاصل كلامه أنه إن سكن بأجر جاز في الصور الثمانية، وبغيره منع في الكثير، وكذا اليسير إلَّا في صورتين: لاختبار حالها بشرط وبغيره فيجوز، ويفسد البيع بشرط السكنى في الممنوع.

وكجمعها في وقتين؛ يعني أن مدة الخيار في الرقيق هي مثل الجمعة. ابن المواز: وأجاز ابن القاسم الخيار في العبيد إلى العشرة الأيام وهو لا يخالف ما في المدونة، قال مالك: الخيار في الجارية مثل خمسة أيام إلى الجمعة وشبه ذلك لاختبار حالها وعملها؛ ابن حبيب: وكذلك الخيار في العبد. انتهى. فعُلِم من هذا أن الكاف أدخلت ثلاثة أيام، فأمد الخيار في الرقيق عشرة أيام، ولو بيعت

ص: 404

دار برقيق فالظاهر أن الخيار إن قصد به كلّ منهما اعتبر أمد الأبعد منهما، وإن قصد به أحدهما اعتبر أمد المقصود منهما بالخيار، وفي الحطاب: قال ابن عرفة: ابن محرز: لو باع عرضا بعرض اعتبر أمد المقصود منهما بالخيار. والله أعلم. قاله بناني رادا على عبد الباقي.

واستخدمه؛ يعني أن للمشتري أن يستخذم الرقيق المبيع بالخيار بما يحصل به اختبار حاله فقط، ويشترط أيضًا أن تكون الخدمة يسيرة لا ثمن لها، وأن يكون الرقيق من عبيد الخدمة، فإن كان ذا صنعة لم يستعمله إن أمكن معرفتها بدونه وهو عند البائع وإلا استعمله وعليه أجرته وكذا عبد تجارة، ولا يجوز اشترالم شيء من كسبه أو تجره للمشتري. قاله عبد الباقي. وقال: ظاهر المص ولو أنثى؛ قال في الشامل: وحيل بين الأمة والمتبايعين في زمنه، وللمشتري استخدامها دون غيبة عليها. انتهى. وقال المواق عند قوله: واستخدمه: الذي لابن رشد: لا يجوز للمبتاع اشتراط الانتفاع بالبيع أمد الخيار إلَّا قدر ما يقع به الاختبار كاستخدام العبد في الشيء اليسير الذي لا ثمن له. انتهى.

وكثلاثة في دابة وكيوم لركوبها؛ يعني أن أمد الخيار في الدابة التي ليس شأنها أن تركب ثلاثة أيام، وفي التي شأنها أن تركب يوم، أو الثلاثة فيما شأنها أن تركب ولم يشترط اختبارها للركوب بل لمعرفة أكلها ومشيها ونحو ذلك، فإن شرط فيوم واحد فقط لا ثلاثة؛ كذا حل ابن غازي وهو المعتمد كما في أحمد، لا ما للتوضيح والشارح من أن قصد الركوب كاشتراطه، ثم يركب فيه على العادة فقط، فإن شرط الأمرين فثلاثة، فالأقسام ثلاثة. قاله عبد الباقي؛ يعني شرط اختبارها للركوب فقط فأمد الخيار يوم واحد ولغير الركوب ثلاثة وللركوب وغيره ثلاثة أيضًا. والله تعالى أعلم.

وهذا الذي قررت به المص من أن أمد الخيار في الدابة يختلف باختلاف ما يراد منها هو ظاهر المص تبعا لابن عبد السلام؛ قال العلامة الأبي في شرح مسلم: عياض: وهو في الدابة تركب اليوم وشبهه؛ قلت: واختلف هل للمشتري الركوب بعقد الخيار وإن لم يشترطه؛ وهو قول أبي عمران، أو ليس له الركوب حتى يشترطه، وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن. انتهى. وهو الذي

ص: 405

مر عن التوضيح والشارح من أن قصد الركوب كاشتراطه، ثم قال الأبي: والأقرب أنه يختلف باختلاف ما يريده المشتري من اختبارها له، فإن أراد اختبارها في كثرة الأكل وقلته وغلاء ثمنها ورخصه وسع له في الأجل، فيجوز الثلاثة الأيام. انتهى. وقال ابن ناجي في شرح الرسالة: وأما الدابة فإن كان اختبارها بركوبها ففي المدونة: اليوم وشبهه، وإن كان اختبارها [في]

(1)

، كثرة الأكل وقلته وغلاء الثمن ورخصه فيوسع له في الأجل، فتجوز الثلاثة الأيام. قال عياض: كذا في رواية شيوخي وكذا رواه ابن وضاح؛ وبهذا جزم في الشامل أيضًا ونصه: وكثلاثة في دابة إلَّا في ركوب فكيوم. انظر الرهوني. وقال بعد جلب كثير من النقول: فهذه النصوص صريحة في أن الخيار إن كان للاختبار فإنما يجوز منه ما كان إلى مقدار ما يختبر فيه ذلك البيع؛ ونص المدونة وغيرها صريح في أن اختبار الدابة للركوب نحو اليوم، وذلك شاهد لا قاله ابن عبد السلام ومن وافقه، ويرد اعتراض مصطفى ومقلديه، ولا أظن منصفا يقف على هذه النصوص التي جلبناها ويتوقف في صحة ما قلناه. والعلم كله لله. ثم قال:

تنبيه: قول الأبي السابق: هل للمشتري الركوب بعقد الخيار وإن لم يشترطه؛ وهو قول أبي عمران، ظاهره وإن لم يجر العرف بذلك، وتبع في ذلك ابن عبد السلام؛ وقد رد ابن عرفة ذلك بأنه خلاف قول عياض: قول أبي بكر: لا تركب إلَّا بشرط، لقولها: إن شرط، وقول أبي عمران: تركب وإن لم يشترط إن كان الركوب عرفا في اختبارها. انتهى. واعتراض المصطفى الذي أشار إليه هو قوله: إن ما لابن عبد السلام خلاف ما لعبد الحق وابن يونس وعياض وابن شأس من أن اليوم ليس أمدا للخيار وإنما هو للركوب مع بقاء أمد الخيار إلى ثلاثة أيام، وردَّ الرهوني هذا الاعتراض غاية، وقال: إن ما لابن يونس موافق لكلام ابن عبد السلام، وهو الذي يفيده كلام اللخمي، ثم قال: فالحق ما قاله اللخمي ومن وافقه، وهو الذي يشهد له كلام المتقدمين والمتأخرين إلى آخر كلامه. والله سبحانه أعلم. وقال بناني: كون قصد الركوب كاشتراطه هو الذي لأبي عمران وصححه عياض، ومقابله لأبي بكر بن عبد الرحمن، ونص عياض: ذهب أبو

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الرهوني ج 5 ص 157.

ص: 406

بكر بن عبد الرحمن إلى أنَّها لا تركب أيام الخيار إلَّا بشرط، وذهب أبو عمران إلى أنه إن لم يشترط ركوبها فله من ذلك ما يجوز اشتراطه إذا كان العرف عند الناس الاختبار بالركوب، وهو الصحيح. انتهى.

مسألة: قوله: وكجمعة في رقيق واستخدمه، وقوله: وكثلاثة في دابة وكيوم لركوبها؛ اعلم أنه يجري في استعمال المشتري للمبيع بالخيار في هذا وفي غيره الصور الست عشرة المتقدمة في قوله: ولا تسكن، ويأتي ذلك عند قول المص: أو لبس ثوب، إن شاء الله تعالى.

ولا بأس بشرط البريد، قال الحطاب: قوله: وكيوم لركوبها، هذا إذا أراد ركوبها في المدينة، وإن أراد السفر عليها فالبريد والبريدان، كما قال الباجي ونقله ابن غازي. انتهى. وقال عبد الباقي: ولا ذكر ما إذا شرط اختبارها بالركوب يومًا داخل البلد كما دل عليه الحطاب وهو الظاهر أو بالركوب ولم يحدد بمكان كما عليه أحمد، ذكر ما إذا شرطا اختبارها به خارج البلد على ما للحطاب أو مع تحديد بمكان على ما لأحمد، فقال: ولا بأس بشرط البريد ونحوه عند ابن القاسم في ركوبها عوضا عن اليوم، كما حل به السنهوري كما في أحمد. انتهى. وقال: أشهب: ولا بأس بشرط البريدين، وفي كونه؛ أي ما لابن القاسم وأشهب خلافا، فالبريد ذهابا وإيابا والبريدان كذلك، أو البريد ذهابا ومثله إيابا، والبريدان ذهابا ومثلهما إيابا، أو وفاقا، فالبريد ذهابا فقط والبريدان ذهابا وإيابا، فالصور ثلاث: اثنتان بالخلاف، والثالثة التأويل بالوفاق. قاله عبد الباقي. وقال محمد بن الحسن: قال في التنبيهات ما نصه: وقول ابن القاسم: البريد، وقول أشهب: البريدين

(1)

)، حمله بعضهم على البريد في الذهاب والرجوع وكذلك البريدان فيهما، وقال أبو عمران: المراد بريد متصل في الذهاب أو بريدان دون الرجوع، وقد يحتمل موافقة القولين بريد في الذهاب على قول ابن القاسم، وبريدان أحدهما في الذهاب والآخر في الرجوع على قول أشهب؛ وإليه يرجع قول ابن القاسم على هذا إذ لابد من رجوعه ورد الدابة غالبا. انتهى. وبه تعلم أن اللائق باصطلاح المصنف أن يقول. تأويلان. انتهى؛ يعني عوض قوله: تردد، وقال عبد الباقي: حقه تأويلان. ولعله عبر به لأنه يرجع إلى الاختلاف في الحكم عن أبي عمران وعياض،

(1)

في البنانى ج 5 ص 112: البريدان.

ص: 407

وكلاهما من المتأخرين، ودخل في الدابة الطير كالدجاج والإوز. انتهى. وقال الحطاب عند قوله: وكثلاثة في دابة: وكذلك الإبل والبقر والغنم. قاله عبد الحق. انتهى. فعلم أن المراد بالدابة مدلولها اللغوي، وقال الرهوني: قوله: وعياض، يقتضي أن عياضا قاله من عند نفسه وليس كذلك، بل نقله عن غيره. تأمل كلامه الذي عند بناني. انتهى. وقال عبد الباقي: قال شيخنا اللقاني: إن جرى عرف فيها بشيء يعني في الطير كالإوز والدجاج عمل به، وإلا فلا خيار فيها فيما يظهر. انتهى. قال الرهوني: غير صحيح؛ إذ ليس عندنا شيء يتوقف بيعه بالخيار على جري العادة بذلك، وقد مرح في المدونة وغيرها بجواز بيع خضر الفواكه على الخيار، فكيف بالطائر كالدجاج ونحوها. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله: وكيوم لركوبها: قال الوالد: وينبغي أن يكون مثل ركوبها الحرث عليها والطحن والحمل والدرس والسقي. انتهى. ولم يذكر المص مدة الخيار في الفواكه والخضر وهي قدر ما يشاور الناس بقدر الحاجة مما لا يقع فيه تغير ولا فساد كما في توضيحه، والظاهر أن يابسها كلوز ثلاثة أيام. انتهى.

تنبيه: قال ابن بشير: مذهبنا أنه أي الخيار ليس محدودا بزمن مؤقت بل يختلف باختلاف البيع. انتهى. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إنه ثلاثة أيام في جميع الأشياء. والله أعلم.

وكثلاثة في ثوب؛ يعني أن أمد الخيار في الثوب نحو الثلاثة الأيام، وكذا العرض والمثلي، وانظر الخيار في السفن هل يلحق بالدار أو بالرقيق أو بالثوب؟ قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: والمراد بالثوب ما قابل ما مر، فيشمل الكتب ونحوها. انتهى. وكلامه يشمل السفن. والله تعالى أعلم. وقال المواق: أما الثوب فيجوز فيه الخيار اليوم واليومين وشبه ذلك، وما كان أكثر فلا خيار فيه لأنه غرر لا يدري كيف يرجع الثوب إليه. وقال ابن حبيب: يجوز الخيار في الدابة اليومين والثلاثة كالثوب. انتهى.

وصح بعد بت؛ يعني أنه لو وقع البيع بتا فإنه يجوز أن يجعل بعد ذلك على الخيار، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وصح الخيار بعد عقد بت؛ أي يصح فيما وقع فيه البيع على البت أنه يجعل أحدهما لصاحبه أو كلّ منهما للآخر الخيار ويجوز ذلك ابتداء. انتهى. وقال بناني: لو قال: وجاز، لوافق ظاهر المدونة؛ وقال الخرشي: قال: صح، دون: جاز، لأجل مفهوم قوله:

ص: 408

وهل إن نقد لخ، ونحوه لابن عاشر. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: من باع سلعة ثم جعل للمبتاع الخيار بعد تمام البيع، أو جعل المبتاع للبائع الخيار، لزم ذلك إذا كان يجوز في مثله الخيار، وهو بيع مؤتنف بمنزلة بيع المشتري لها بالخيار من غير البائع، وما أصاب السلعة في أيام الخيار فهو من المشتري لأنه صار بائعا. انتهى. وقال التتائي: وصح الخيار ولزم من أحد المتعاقدين لصاحبه بعد أن عقد أولا على البت لزمن يجوز في مثله الخيار، كذا أطلق في المدونة.

وهل محل ما فيها من الصحة والجواز إن نقد المشتري الثمن للبائع؟ وعليه أكثر الشيوخ لأنه إذا لم ينقد فقد فسخ البائع ما له في ذمة المبتاع في معين يتأخر قبضه إن كان الخيار الطاري للبائع، فإن كان للمبتاع فالمنع لمظنة التأخير لاحتمال اختيار المشتري رد المبيع للبائع، أو الصحة والجواز كائنان سواء نقد أم لا وهو ظاهرها؛ اللخمي: لأنه ليس بعقد حقيقة وإنما القصد به تطييب نفس من جعل له الخيار. وقوله:

تأويلان، مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان. قال عبد الباقي: المعتمد منهما الأول، ومحل الثاني إن لم يصرح البائع المجعول له الخيار بأخذها عن الثمن الذي بذمة المشتري حيث لم ينقده ووافقه على ذلك، فإن صرح بأخذها فيه منع قطعا لفسخ ما في الذِّمة في معين يتأخر قبضه وهو ممتنع، حتى ما فيه خيار لرب الدين. انتهى. وقوله: تأويلان، قال بناني: الأول لبعض شيوخ ابن يونس، والثاني للخمي مقيدا له بما ذكره الزرقاني من قوله: ومحل الثاني لخ، وقال الرهوني: قول الزرقاني: المعتمد منهما الأول، صحيح موافق لقوله أولا: إن عليه الأكثر، وهو نحو قول الحطاب: فيظهر من كلامه في التوضيح ترجيح التأويل الأول. انتهى. قلت: وعليه اقتصر ابن يونس. وقال ابن ناجي: إنه الجاري على المشهور، قال: وعزاه عبد الحق لبعض القرويين، والمازري للشيوخ كلهم من البرادعي إلى أبي إسحاق. انتهى. وبذلك تعلم ما في كلام بناني من إيهام تساويهما. انتهى.

ص: 409

وضمنه حينئذ المشتري؛ يعني أن المشتري يضمن المبيع حينئذ أي حين جعل الخيار بعد وقوع البيع بتا؛ لأنه حينئذ بائع ولو جعل البائع الخيار له كما في المدونة. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: أما إن كان المشتري هو الذي جعل الخيار للبائع فالضمان منه أي من المشتري اتفاقا، وأما إن كان البائع هو الذي جعل الخيار للمشتري فقولان، مذهب المدونة أنه من المشتري، وروى المخزومي أنه من البائع، وعزاه ابن عرفة للمغيرة؛ وقال في الشامل: وضمنه حينئذ المشتري ولو جعل البائع الخيار له على الأصح.

وفسد بشرط مشاورة بعيد؛ يعني أن بيع الخيار يفسد بشرط مشاورة شخص بعيد، والمراد بالبعيد من لا يعلم ما عنده إلَّا بعد أمد الخيار، وفي الحطاب: وكذا بشرط خياره ورضاه. قال اللخمي: وإذا كان من شرط خياره أو رضاه أو مشورته غائبا بعيد الغيبة لم يجز البيع، وفهم من المص أنه يجوز ابتداء وقوف بت البيع على مشورة الغير إذا لم يبعد وهو كذلك ولا إشكال في جوازه.

أو مدة زائدة؛ يعني أن بيع الخيار يفسد باشتراط مدة زائدة على أمد الخيار. قال عبد الباقي: بكثرة، فَقوْلُ أحمد: ولو كانت أي الزيادة يومًا واحدا ولا يعارضه ما يأتي من أنه يرد في كالغد لأن هذا في الابتداء ولا يسامح فيه كذا قيل. انتهى. غَيرُ ظاهرٍ. قال الحطاب: وضمانه من بائعه على الراجح، وقيل: من المشتري إن قبضه. انتهى ويفسد بشرط بعيد أمد، ولو أسقط الشرط، قال الحطاب: وأطلق المص الفساد بالمدة الزائدة، وقيده في الشامل بأن تكون زادت كثيرا. قال: وإلا كره؛ اللخمي: الأجل على ثلاثة أوجه: جائز، ومكروه، وممنوع، فإن كانت مدة تدعو الحاجة إليها جاز، وإن زاد يسيرا كره. ولم يفسخ، وإن بعد الأجل كان مفسوخا، وإذا قلنا يفسد بالمدة إذا كثرت فهل ضمان البيع من البائع كما في بيع الخيار الصحيح؟ أو حكم الضمان حكم البيع الفاسد، في ذلك طريقان: الأولى لابن رشد أن الضمان من البائع ولم يحك في ذلك خلافا، والثانية للتونسي وعبد الحق وغيرهما في ذلك قولان، قيل: من البائع ما دام الخيار قائما، وقيل: لذلك حكم البيوع الفاسدة بغير هذا فيكون الضمان من المشتري بالقبض، وصوب التونسي الأول وهو الظاهر، ويكفي اقتصار ابن رشد عليه.

ص: 410

أو مجهولة؛ يعني أن بيع الخيار يفسد باشتراط مدة مجهولة كقولهما: إلى قدوم زيد ولا أمارة عندهما [إلى قدومه

(1)

]، أو إلى أن يولد لفلان ولا حمل عنده، أو إلى أن ينفق سوق السلعة ولا أوان

(2)

يغلب على الظن عرفا أنَّها تنفق فيه، إلى غير ذلك مما يرجع إلى الجهل بالمدة فالبيع ممنوع. انتهى. فعلم منه أن الأجل إذا كان معلوما بالعرف كقدوم الحاج جاز إذا لم يكن زائدا على الأمد المعتبر في تلك السلعة. وفي الذخيرة عن الطرطوشي: إذا شرطا خيار بعيد الغيبة أو أجلا مجهولا فسد [وإن

(3)

] أسقطه، [والظاهر

(4)

] أن حكم الضمان في هذه المسألة حكم الضمان في المسألة السابقة قاله الحطاب. وقوله: وفسد بشرط مشاورة بعيد، قيل: إنه تكرار، فيغني عنه المسألتان بعده؛ لأن المشترط مشاورته إما أن يعلم وقت الاجتماع به لكن بمدة تزيد على أمد الخيار فيرجع لشرط مدة زائدة، أو لا يعلم وقت الاجتماع به فهو راجع لمدة مجهولة. قال الشيخ أحمد بابا: إنما ذكره المص لنص المدونة وغيرها عليه بخصوصه. قاله بناني. وقال عبد الباقي: وفسد بشرط مشاورة بعيد أو مدة زائدة أو مجهولة ويستمر الفساد ولو أسقط الشرط، وجعْلُ التتائي من المدة المجهولة أن يجعل له الخيار إلى أن تلد المرأة ولا حمل بها يَقْتَضِي أنه لو كان بها حمل لا تكون من المدة المجهولة وهذا ظاهر إن علم وقت حصوله، ويحمل على معظم أحواله كتسعة أشهر، ولا يقال: مدة الخيار لا تكون أكثر من كشهر؛ لأنا نقول: يتصور ذلك فيما إذا وقع الخيار بعد ثمانية أشهر من حملها، ثم ينبغي أنَّها إذا مضت التسعة الأشهر ونحوها تمت مدة الخيار في كدار ولا ينتظر به وضعها. انتهى.

تنبيه: قال الشيخ أبو علي: يفهم من قول المتن: مجهولة، أن المدة ذكرت ولكن حددت بشيء مجهول وهو كذلك، وأما إن قالا: تبايعنا على الخيار ولم يذكرا مدة مجهولة ولا معلومة، فقال ابن عرفة: وفيها إن لم يضربا أمدا ضرب بحسب البيع. انتهى. وعلل بأن الإطلاق محمول على

(1)

في الجواهر ج 2 ص 459: على قدومه.

(2)

في الأصل: أو إلى أن، والمثبت من الجواهر ج 2 ص 459. والحطاب ج 5 ص 227 ط دار الرضوان.

(3)

في الأصل: إن، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 228 ط دار الرضوان.

(4)

في الأصل: وظاهر، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 228 ط دار الرضوان.

ص: 411

العرف. انتهى. وقال المواق: ابن رشد: إن لم يضربا للخيار أجلا واشترطاه فلا يفسد البيع ويضرب لهما من الأجل بقدر ما تختبر إليه تلك السلعة؛ لأن الحد في ذلك معروف، فإذا أخلا بذكره فإنهما دخلا على العرف والعادة. انتهى. ثم عطف على مشاورة قولَه:

أو غيبة علة ما لا يعرف بعينه؛ يعني أن من اشترى ما لا يعرف بعينه بخيار كالمكيل والموزون والمعدود وشرط البائع أو المشتري الغيبة عليه فإن ذلك موجب لفساد البيع لتردد البيع بين السلفية والثمنية، أما غيبة المشتري فواضح، وأما غيبة البائع فيقدر أن المشتري التزمه؛ أي الشراء وأسلفه له، فهو بيع إن لم يرُدَّه وسلف إن رده. انظر الخرشي. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: ثم عطف على مشاورة قوله: أو بشرط غيبة من بائع أو مشتر على ما أي مبيع لا يعرف بعينه، من مثلي كقطن وكتان وقمح وزيت ولم يطبع عليه ولم يكن ثمرا في أصوله وإلا لم يفسد ولم يمنع، واعترض الحطاب المص في فساده بالشرط مع عدم الطبع بأن نص اللخمي المنع فقط، وأنه إن وقع مضى ولم يفسخ، وقبله ابن عرفة ولم يحك خلافه. انتهى. قال الرهوني: لم يصرح الحطاب بالاعتراض على المص، بل ذكر في أول كلامه ما يشهد للمص، فإنه قال: هكذا قال سحنون في أول كتاب الخيار من المدونة، ونصه: لما ذكر الخيار في الفواكه والخضر من المدونة فقال: من غير أن يغيب المبتاع على ما لا يعرف من مكيل أو موزون، فيصير تارة سلفا وتارة بيعا، ثم قال: وذلك جائز فيما يعرف بعينه. انتهى. وظاهر ما ذكر من التعليل في المدونة أنه يفسد البيع، ونحوه لابن الحاجب وغيره، فليس ما ذكره اللخمي ونقله عنه ابن عرفة وقبله ولم يحك خلافه حجةً على المص؛ إذ يكفي المص شاهدا ما استشهد له به الحطاب، وكلام أهل المذهب شاهد للمص إلى آخر كلامه. قال عبد الباقي: وقولي: من بائع أو مشتر، موافق لما في الموازية من امتناع غيبة البائع أيضًا عليه، قال: وليُحَزْ عنهما جميعا، وأجاز بعض الشيوخ بقاءها عند البائع لأنَّها عين شيئه. قاله في التوضيح. ثم إنه ليس كالمثلي عرض لم يعرف بعينه فيجوز اشتراط الغيبة عليه خلافا لظاهر إطلاقه، ومفهوم قوله: ما لا يعرف بعينه جواز اشتراط الغيبة على ما يعرف، وعدم الفساد: ويقضى للمشتري بتسليمه إليه إن كان الخيار ليختبر حال المبيع أو ليعيد نظره فيه، فإن كان للتروي في ثمنه أي لينظر غلاءه ورخصه مع علمه بحال المبيع

ص: 412

لم يقض له بأخذه، فإن وقع البيع على الخيار ولم يبين وقوعه لم ذا؟ حمل على غير الاختبار، فإن اتفقا على وقوعه مطلقًا وادعى كلّ قصد

(1)

نقيض قصد الآخر فسخ البيع. قاله الحطاب. قال الشيخ سالم: وانظر هل يفسد العقد باشتراط الغيبة على أمة بخيار أو لا؟ أي أو لا يفسد ولكن ينهى عن الغيبة عليها كما تقدم عن الشامل ما يفيده. انتهى.

أو لبس توب؛ يعني أنه إذا باع ثوبا بالخيار واشترط المشتري لبسه فإن ذلك يفسد البيع، قال الخرشي: أو لبس ثوب عطف على قوله: مشاورة بعيد؛ أي فسد البيع بشرط لبس ثوب لبسا منقصا، قال الحطاب: لا خصوصية للثوب بما ذكر بل حكم الدار والدابة والعبد كذلك.

ورد أجرته؛ يعني أنه إذا وقع البيع على شرط لبس الثوب فإنه يفسخ البيع ويرد أجرة الثوب. قال عبد الباقي: أو بشرط لبس ثوب زمن الخيار لغير قياس عليه، وإذا فسخ رد أجرته للبسه الكثير المنقص، وليس كالبيع الفاسد يرد البيع ولا غلة على المشتري كما قدمه المص؛ لأنه فيما بيع على البت بل في الحطاب: أن الأجرة والغلة للبائع في بيع الخيار الصحيح كالفاسد، ولو كان الخيار للمشتري وأمضى البيع. وقال الحطاب: قال أبو الحسن الصغير: قوله: ولا بشَرْط لبس ثوب؛ يعني اللبس الكثير، وليس مراده أن يقيسه عليه. وفي التوضيح: فإذا فسخ لزمه الكراء لأجل اللبس، ظاهره أنه يلزمه كراء اللبس سواء نقصه أو لم ينقصه، والذي في ابن يونس أنه يلزمه قيمة اللبس إذا نقصه ذلك، وكذلك نقله القرافي.

تنبيه: قال الخرشي هنا: اعلم أن الانتفاع بالمبيع بالخيار إذا كان كثيرا فلا يجوز اشتراطه ولا فعله بغير شرط ولو كان لاختبار حال المبيع كركوب الدابة واستخدام العبد وسكنى الدار، وهذا إذا كان بلا كراء، وأما إن كان بكراء فإنه يجوز اشتراطه وفعله بغير شرط ولو لم يكن لاختبار حال المبيع، وأما إن كان يسيرا فإن كان لغير اختبار حال المبيع فحكمه كما تقدم في الكثير، وإن كان لاختبار حاله فإنه يجوز فعله واشتراطه مجانا، وإذا قلنا بالجواز في الأجر فإنه لا يفعله إلَّا بأجر يتفق عليه مع ربها، وهذا مستفاد من كلام أبي إسحاق واللخمي وكلام ابن غازي، وقد

(1)

في الحطاب، ج 5 ص 229، ط دار الرضوان: قصدا.

ص: 413

أشار إلى ذلك الحطاب في التنبيه الرابع. انتهى كلام الخرشي. وقال الحطاب: وإذا ثبت العوض عن هذه الأشياء سكنى أو غيرها فإنه ينبغي أن يكون العوض معلوما، فإن قبل المشتري بعد انقضاء الأمد كان للبائع الثمن والأجرة، وإن قَبل قبْل الانتفاع به سقطت الأجرة، وإن قبل بعد مضي بعض ذلك الأمد كان له من الأجرة بقدر ما انتفع وسقط ما سواها. والله أعلم. انتهى. وقال المواق: أو لبس ثوب، أشهب: لا يشترط لبس الثوب لأنه لا يختبر باللبس كما تختبر الدابة بالركوب والعبد بالاستخدام. انتهى.

ويلزم بانقضائه؛ يعني أن المبيع بالخيار يلزم من هو بيده من المتبايعين ردا أو إمضاء كان ذا الخيار أو غيره بانقضاء أمد الخيار وانقضاء ما في حكمه، ولهذا قال: ورد المبيع بالخيار بعد انقضاء زمنه المتقدم في كالغد اليوم واليومين لقرب ذلك بعد كشهر، وكجمعة وكثلاثة وكيوم، وظاهره أن القرب ما ذكر ولو كانت مدة الخيار يومًا، لا فيما مدة الخيار فيه دونه كالفواكه، ولا بعد ثلاثة من مدته لأنَّها أقلّ البعد، وعلم مما قررنا أن في المص حذف الواو وما عطفت، فلا تنافي بين أوله وآخره. قاله عبد الباقي؛ يعني بقوله: حذف الواو وما عطفت، قوله: وانقضاء ما في حكمه. وقال الحطاب: قال في المدونة: ولو شرط إن لم يأت المبتاع قبل مغيب الشمس من أيام الخيار لزم البيع لم يجز هذا البيع. ابن القاسم في كتاب محمد: ويفسخ البيع وإن فات الأجل الذي يجب به البيع. ابن يونس عن القابسي: تحمل هذه المسألة على اختلاف قول مالك فيمن باع سلعة وشرط إن لم يأت بالثمن لكذا فلا بيع، قال الحطاب: وإذا كان كذلك فالمشهور في إن لم يأت بالثمن لكذا صحة البيع وسقوط الشرط فيكون كذلك في هذه المسألة، ويكون قوله في المدونة: لم يجز هذا البيع؛ أي ابتداء. فتأمله. والله أعلم. انتهى. وقال عبد الباقي: ومحل المص حيث نص على مدته المتقدمة، فإن وقع البيع بخيار ولم ينص على مدته لزم بانقضائه من غير زيادة كالغد كما في المدونة. انتهى. قال بناني: تبع فيه الأجهوري، وظاهر المدونة كما في المواق الإطلاق، وفي التهذيب: ومن ابتاع شيئًا بالخيار ولم يضربا له أجلا جاز البيع وجعل من الأمد ما ينبغي في تلك السلعة. انتهى. وعزا الشبراخيتي تخصيص الرد في كالغد بما نص فيه على المدة لأبي الحسن ولم أجده فيه. انتهى. وقال الرهوني: قول بناني: وعزاه الشبراخيتي لأبي الحسن

ص: 414

ولم أجده فيه مثله للتاودي، قلت: ولم أجده أيضًا لأبي الحسن، بل فيه ما يدلُّ على خلافه. انتهى. وقولي: من المتبايعين، شامل لأربعة أقسام كما في شرح عبد الباقي عن أحمد عن سند، وهي: إن كان الخيار للبائع وهو في يده دل انقضاؤه على اختياره الرد، وبيد المبتاع دل على الإمضاء، وإن كان الخيار للمبتاع والسلعة بيده دل على اختيار الإمضاء، وبيد البائع فعلى الرد، وحذف المص معمول ويلزم أي من هو بيده اتكالا على ما يأتي من قوله: ولزماه بمضي المدة وهما بيده، وقوله: ورد في كالغد، قال عبد الباقي: مثله الاختبار بالموحدة في الغد فيما يظهر، ويتصور ذلك فيما إذا اشترى أحد ثوبين بالخيار في عينه على أنه فيما يختاره بالخيار ومضت أيام الخيار ثم اختار بالقرب فإن له ذلك. انتهى. قوله: مثله الاختبار بالوحدة صوابه بالمثناة التحتية لقوله الآتي وفي الاختيار لا يلزمه شيء. انتهى.

وبشرط نقد معطوف على قوله: بشرط مشاورة بعيد؛ يعني أن بيع الخيار يفسد بشرط النقد، قال عبد الباقي: وفسد بيع الخيار بشرط نقد لثمنه، وإن لم يحصل بالفعل لتردده بين السلفية والثمنية، وظاهر المص الفساد ولو أسقط الشرط وهو كذلك على المنصوص. انتهى. وقال الحطاب: وإذا تواطئا على النقد عند البيع ولم يشترطاه في عقدة البيع فذلك بمنزلة الشرط وهذا واضح، بل لو فهم ذلك من غير تصريح به فالظاهر أنه كالشرط، فتأمله. ولما شارك هذا الفرع في الفساد بشرط النقد سبعُ مسائل شبهها به فقال:

كغائب؛ يعني أن بيع الغائب يفسد بشرط النقد على التفصيل المتقدم، وعهدة ثلاث؛ يعني أن الرقيق المبيع بعهدة الثلاث يمتنع فيه شرط النقد. قال الشيخ أبو علي: أي وكذا يفسد البيع إذا باع عبدا أو أمة على عهدة الثلاث واشترط انتقاد الثمن وسيأتي بيان عهدة الثلاث ومواضعة؛ يعني أن الأمة المبيعة بالمواضعة لا يجوز فيها شرط النقد. وقوله: مواضعة، صفة لأمة. قال الشيخ أبو علي: يعني أن البيع يفسد إذا باع الأمة المواضعة واشترطا النقد؛ لأن المواضعة هي التي تحت يد أمين أو أمينة إلى أن تخرج من الاستبراء، فقد تخرج حاملا فيكون ما نقده المشتري سلفا وقد تحيض فيكون ثمنا. انتهى. وأرض لم يؤمن ريها؛ يعني أن الأرض المكتراة لزراعة ولم

ص: 415

يؤمن ريها يمتنع فيها شرط النقد. قال الخرشي: يعني أن من آجر أرضا لم يؤمن ريها - بفتح الراء وكسرها - إجارة على البت واشترط في عقد كرائها انتقاد ثمنها فإن عقد الكراء يكون فاسدا لدورانه بين السلفية والثمنية لأنَّها إن رويت كان أجرا وإن لم ترْوَ كان سلفا، ومفهوم لم يؤمن ريها أنَّها إن كانت مأمونة الري كأرض النيل جاز النقد فيها. وقال عبد الباقي: وكشرط نقد في كراء أرض لزراعة لم يؤمن ريها. وقال الحطاب: الري بكسر الراء وفتحها. قال في الصحاح: تقول رويت من الماء أروى ريا وريا وروي مثل رضي. وما ذكره المص نحو قوله في المدونة: وإن اكتريت من رجل أرضه قابلا وفيها زرع له أو لمكتري عامة جاز فإن كانت مأمونة كأرض النيل جاز النقد فيها وإلا لم يجز بشرط. انتهى. وقال الشارح: ظاهر كلام المص أن التطوع بالنقد جائز. ونص الفاكهاني في شرح الرسالة على خلافه. انتهى. ورده مصطفى بأن الفاكهاني لم يذكر هذا في كراء الأرض على بت، إنما ذكره في كراء الأرض بخيار وهو من المسائل التي يمنع فيها النقد مطلقًا، وأما كراؤها على البت فلا يمنع فيه إلَّا شرط النقد. قاله بناني. وقوله: لم يؤمن ريها؛ أي لا يجوز فيها شرط النقد حتى تروى بالفعل ولو اكتراها حين توقع الغيث كما في المدونة.

وجعل يعني أنه لا يجوز شرط النقد في الجعل على تحصيل آبق مثلا، ويجوز النقد فيه تطوعا وقيل: لا يجوز. وإجارة لِحَرْز زرع، يعني أنه إذا آجره لحرز زرع - بفتح الحاء لا بكسرها - أي حفظه فإنه يمنع شرط النقد في ذلك ويفسد العقد. قال الخرشي: يعني أن من آجر شخصا لحرس زرعه أو حصده مدة معلومة بأجرة معلومة فإنه لا يجوز اشتراط انتقاد الكراء ويفسد العقد به؛ لأن الزرع ربما تلف فتفسخ الإجارة إذ لا يمكن فيه الخلف، فهو إن سلم كان إجارة، وإن لم يسلم كان سلفا، وهذا مبني على أنه لا يجب على رب الزرع خلفه إذا تلف، وأما على أنه يجب عليه خلفه إذا تلف وهو المذهب إذ لم يذكره فيما لا يجب فيه الخلف عند قوله: إلَّا صبي تعلم، فيجوز شرط النقد، والمؤلف إنما مشى هنا على ضعيف لأجل جمع النظائر؛ وفي نسخة لجز زرع بالجيم وتشديد الزاي أي حصده والمؤلف مشى على ضعيف على كلا النسختين. انتهى. ونحوه لغير واحد.

ص: 416

وأجير تأخر شهرا؛ يعني أنه إذا آجر أجيرا معينا وتأخر شروعه في العمل شهرا فإنه لا يجوز شرط النقد ويفسد العقد باشتراط ذلك. قال الخرشي: صورتها استأجر أجيرا معينا أو دابة معينة تقبض منفعتها بعد شهر من يوم العقد فإنه لا يجوز اشتراط النقد للأجرة في عقد الكراء فإنه يفسده، وفسرنا الأجير بكونه معينا كالدابة لا يأتي أن الكراء المضمون يتعين فيه تعجيل الأجرة أو الشروع، ومقتضى كلام المؤلف أنه إذا كان تأخير الأجير أو الدابة دون شهر لا يمتنع فيه شرط النقد وليس كذلك؛ إذ لا يجوز شرط النقد إن تأخر فوق نصف شهر، ومن هذا مسألة اجتماع نساء لغزل كتان، فإن تأخر الشروع في غزل واحدة منهن أكثر من نصف شهر منع وإلا جاز؛ أي فإن كان نصف شهر وعينت الأولى ومن يليها جاز، ويجوز أن يقول: خذ حماري اعمل عليه خمسة أيام وتعمل لي عليه خمسة أيام، بخلاف ما لو قال: اعمل عليه شهرا مثلا لي وشهرا لك فلا يجوز، بدأ بالشهر الذي لصاحب الدابة أو بالشهر الذي له، ولا فرق في ذلك بين العاقل كالعبد وغيره كالدابة. والله سبحانه أعلم. ولما ذَكَر ما يمتنع فيه شرط النقد ذَكَرَ أربع مسائل يمتنع فيها النقد بشرط وبغيره، ولا خصوصية للأربع المذكورة بل هي بحسب حفظ ذاكرها، وضابط ذلك كلّ ما يتأخر قبضه بعد أيام الخيار يمنع فيه النقد فقال:

ومنع وإن بلا شرط في مواضعة؛ يعني أن الأمة المبيعة بخيار وهي تتواضع لا يجوز فيها النقد بشرط ولا تطوعا وغائب؛ يعني أن الغائب المبيع بخيار لا يجوز فيه النقد بشرط ولا تطوعا. وكراء ضمن؛ يعني أن الكراء إذا كان بخيار فإنه يمنع فيه شرط النقد والتطوع به. وقوله: ضمن، وكذا لو عين، سلم؛ يعني أن السلم بخيار يمنع فيه شرط النقد والتطوع به.

وعلم مما قررت أن قوله: بخيار، قيد للمنع في المسائل الأربع، وقوله: بخيار صفة للأربع. والله سبحانه أعلم. وإنما امتنع النقد في هذه الأربع مطلقًا لأن اللازم فيه فسخ ما في الذِّمة في مؤخر، بخلاف ما قبله فإن اللازم فيه التردد بين السلف والثمنية، وذلك إنما يؤثر مع الشرط، ولا تدخل عهدة الثلاث هنا حيث كان البيع بتا لأنَّها إنما يمنع فيها النقد بشرط، وأما التطوع به فجائز كما قدمه المص قريبا، ومحل منع النقد في هذه المسائل حيث كان الثمن مما لا يعرف

ص: 417

بعينه وإلا جاز بخلاف ما تقدم. قاله الخرشي؛ يعني أن ما تقدم يمنع فيه النقد بشرط في ما يعرف بعينه وما لا يعرف بعينه كما نص عليه غير واحد.

واستبد بائع أو مشتر على مشورة غيره؛ يعني أن من باع أو اشترى على مشورة غيره المشورة المطلقة يستبد أي يستقل برأيه دون المعلق على مشورته؛ أي يلزم البيع لصاحبه ويحله ولو كره ذلك المعلق على مشورته، وأما المقيدة بأن باع أو اشترى على مشورة فلان على أنه إن أمضى البيع مضى بينهما وإلا فلا، فليس له الاستبداد؛ لأن هذا اللفظ يقتضي توقف البيع على اختيار فلان. قاله الخرشي. ونقله عنه بناني: قال: ومثله في التوضيح عن المازري عن ابن مزين عن ابن نافع، ونقله أيضًا اللخمي وابن رشد وعياض. فَزِيادةُ القيد بقوله: على أن فلانًا لخ، هو الذي أوقفه على اختيار فلان. انتهى. وشمل كلام المص ما لو حصل البيع من المالك والشراء من المشتري على مشورة غيره واتحد من علق كلّ على مشورته أو تعدد فإن كلا يستبد أيضًا. قاله عبد الباقي. فالصور ثلاث: علق البائع فقط، علق المشتري فقط، علقا معا، فلكل الاستبداد في الصور الثلاث. قال المواق: قال ابن رشد: لكل واحد من المتبايعين أن يشترط مشورة غيره ولا خلاف أن لمشترطها تركها؛ قال في المدونة: ولو ابتاع سلعة على أن يستشير فلانًا جاز له أن يخالفه إلى رد أو إجازة ولا يمنعه البائع. انتهى. وقال أبو علي: استبداد البائع في المشورة متفق عليه وكذا المشتري على المشهور، هكذا قال المص في التوضيح. والتحقيق عندهم التسوية بين البائع والمشتري في المشورة. انتهى. والمشورة الشورى وكذلك [الشورة]

(1)

بضم الشين. قاله في الصحاح قاله الحطاب. وقوله: على مشورة غيره؛ أي والثمن والمثمن معلومان، وما تقدم من قوله: أو على حكمه أو حكم غير أو رضاه في الثمن أو المثمن فلا منافاة. انتهى. قاله الخرشي.

لا خياره أو رضاه؛ يعني أن من باع أو اشترى على خيار غيره أو رضاه ليس كمن باع أو اشترى على مشورة غيره، فإن هذا ليس له الاستبداد دون من له الخيار أو الرضي، والفرق بينهما وبين المشورة أن مشترطهما معرض عن نظر نفسه، ومشترط المشورة اشترط ما يقوي نظره؛ وهذا التأويل هو المذهب، والتأويلات الثلاث بعده ضعيفة. قاله الخرشي. وفهم من قولهم: أعرض عن نظر

(1)

في الأصل المشورة والمثبت من الحطاب ج 5 ص 233 ط دار الرضوان.

ص: 418

نفسه، أن من له الخيار أو الرضا له الاستبداد دون البائع والمشتري ويأتي ما هو كالصريح في ذلك. والله تعالى أعلم.

وتؤولت أيضًا على نفيه في مشتر؛ يعني أن المدونة تؤولت أيضًا على أن من اشترى على خيار غير أو رضاه لا يستبد دون من له الخيار أو الرضا، وأما البائع على خيار غير أو رضاه فإنه يستبد. وفهم من قوله: أيضًا، أن المدونة تؤولت على الأول وهو كذلك، قال عبد الباقي: وتؤولت أيضًا على نفيه أي الاستبداد في مشتر في الخيار والرضا، لا في بائع على خيار غير أو رضاه فيستبد لقوة تصرفه بملك السلعة. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: والتحقيق عندهم التسوية بين البائع والمشتري في المشورة والخيار والرضا، والحاصل حيث يكون للمشتري مثلا الاستبداد ألغي الموت وحيث لا يكون اعتُير الموتُ. انتهى؛ يعني موت من له الرضا أو الخيار أو المشورة. والله تعالى أعلم.

وعلى نفيه في الخيار فقط؛ يعني أن المدونة تؤولت أيضًا على أن البائع أو المشتريَ لا يستبد واحد منهما في الخيار، وأما في الرضا فيستبد كلّ منهما. قال عبد الباقي: وعلى نفيه من بائع أو مشتر على خيار غيره بخلاف الرضا فيستبد. ويفرق بينهما على هذا التأويل بأن الرضا لا تعلم حقيقته لتعلقه بالباطن بخلاف الخيار. وقوله: وعلى نفيه في الخيار فقط، قال بناني: قال مصطفى: انظر من تأولها على هذا فإني لم أره لغير المص في التوضيح ومن تبعه، قال بناني: وقد ذكر ابن الحاجب هذا التأويل قولا، فقال بعد ذكر الخلاف في الرضا: فإن كان على خياره فقيل: مثل رضاه، وقيل: لا يستبد.

وعلى أنه كالوكيل فيهما؛ يعني أن المدونة تأولها بعض على أن من اشترط رضاه أو خياره كالوكيل فيهما؛ أي في الخيار والرضا، وإذا كان كالوكيل فلكل واحد من البائع والمشتري ومن له الخيار أو الرضا الاستبداد، وإن بعت يا موكل وباع الوكيل فالمعتبر بيع الأول. قال الشيخ أبو علي عن الشارح: ثم أشار بقوله: وعلى أنه كالوكيل فيهما، إلى أن المدونة تؤولت أيضًا على أن من له الرضا يعني أو الخيار كالوكيل للبائع والمشتري، وإليه نحا جماعة، قالوا: فإن سبق

ص: 419

البائع أو المشتري بالرضا فلهما ذلك، فإن سبق من جعل له ذلك مضى فعله كالوكيل مع موكله، ونحوه في كتاب محمد واختاره ابن محرز. انتهى. وقال عبد الباقي: وعلى أنه أي المجعول له الخيار والرضا كالوكيل فيهما فمن سبق منهما برد أو إمضاء اعتبر فعله، إلَّا أن ينضم لفعل الثاني قبض على ما يفيده التشبيه لقول المص في الوكالة "وإن بعت وباع فالأول إلَّا لقبض" وظاهر تقرير الشارح وجمع خلافه وأن العبرة بالأول مطلقًا، وانظر لو اتحد زمن كلّ أو جُهِل ما الحكم؟ وينبغي أن يجري على حكم ما إذا باع الوكيل والموكل بزمن أو جهل الزمن، ويأتي عن المتيطية أنه إذا جهل أيهما السابق فالجميع بين المشتريين، وكذا إن عقدا بزمن على ما بحثه أحمد وكريم الدين، وعلم من المص أن التأويلات الأربع في الخيار والرضا، وأن المشورة يستبد فيها البائع أو المشتري من غير تأويل. انتهى.

تتمة: لو مات من اشترط خياره أو رضاه فسد البيع، ابن يونس: هذا على القول بعدم الاستبداد، وأما عليه فإن الخيار يرجع إليه. انتهى. وضمير إليه راجع للبائع والمشتري الجاعل كلٌّ الخيارَ أو الرضا للغير، وأفرده لأن العطف بأو. قوله: هذا على القول بعدم الاستبداد؛ أي من كلّ أو من أحدهما فهو شامل لتأويل النفس، وسكت عن جريانه على أنه كالوكيل، والظاهر أنه يجري على موت الوكيل والموكل. قاله عبد الباقي. ثم أشار إلى رافع الخيار بقوله:

ورضي مشترٍ كاتب. قوله: ورضي، فعل ماض وفاعله مشترٍ؛ يعني أن من اشترى رقيقا بخيار فكاتبه فإنه يعد راضيا أي يحكم الشرع عليه بأنه منفذ للبيعَ ومختار لإمضائه، وكذا العتق ولو لأجل والتدبير من باب أولى والإيلاد، وبحث فيه بأنه كيف يتصور بأن أمد الخيار في الرقيق كالجمعة على المشهور ومقابله شهر؟ وأجاب التتائي: بأنه قد يتصور فيما إذا وفى زمن الخيار وردها ولم يطلع على ذلك حتى ظهر حملها وأقر به، ومما يدلُّ على الرضا حلق رأس الوصيف وحجامته كما نقله المواق عن ابن حبيب، ثم إن هذا كله فيما إذا فعله المشتري والخيار له، كما أن قوله بعد: وهو رد من البائع، فيما إذا فعل شيئًا من ذلك والخيار له، فإن فعل أحدهما شيئًا من ذلك والخيار لغيره وكان مما يمكن رده وإمضاؤه كعتق وتزويج، فيمضي ذلك من البائع إن رد المشتري المبيع، فإن أمضاه بطل فعل البائع، ولا يمضي ذلك الفعل من المشتري ولو أمضى البائع

ص: 420

البيع، فإن كان فعل أحدهما مما لا يمكن فيه رد ولا إمضاء، كوطء البيع وغرس الأرض وبنائها وتعريب دابة وتوديجها، فإن فعله المبتاع مع كون الخيار للبائع وأمضى البيع له مضى فعله، وإن رد دفع له قيمته منقوضا بعد سقوط كلفة لم يتولها، وإن فعله البائع مع كون الخيار للمشتري ورضي بالمبيع دفع للبائع قيمته منقوضا؛ وإن وطئ الأمة من لا خيار له فيها واختارها الآخر فهي له مع قيمة الولد، ويلحق الولد بالواطئ ولا تكون أم ولد له ولا حد عليه للشبهة، لأنه إن كان البائعَ فلأنها في ملكه وضمانه، وإن كان المشتريَ فلأن العقد شبهة؛ وإنما لم تكن به أم ولد لأن وطء الشبهة لا تكون به أم ولد إلا في مسائل ليست هذه منها؛ وانظر في باقي ما يدل على الرضا غير ما ذكرنا والظاهر أنه يجري على جناية البائع على المبيع في خيار المشتري وعكسه حيث كان خطئا فيهما؛ وانظر لو اشترط أحدهما أنه إن فعل شيئا مما يدل على الرضى لا يكون رضا، فهل يعمل بشرطه أم لا؟ والظاهر أنه إن تعلق بما لا يجوز كوطئه الأمة ونحوه لم يعمل به وإلا عمل به كغرس وبناء وتعريب دابة. قاله عبد الباقي.

أو زوج يعني أن من اشترى أمة بخيار وزوجها فإن ذلك يعد رضا منه بإمضاء البيع اتفاقا. وكذا لو زوج عبدا على المشهور، وهو قول ابن القاسم، ورد بلو التي للمبالغة قول أشهب: لا يعد تزويجه العبد رضا. قاله التتائي. وقال عبد الباقي: وظاهره؛ يعني المص أن العقد كاف ولو كان فاسدا لا مجمعا عليه فيما يظهر. أو قصد تلذذا يعني أنه إذا فعل فعْلا كتجريدها وأقر على نفسه أنه قصد بذلك الفعل تلذذا فإن ذلك يعد رضا، ظاهره كالمدونة وإن لم يلتذ، فإن جردها للتقليب لا لقصد لذة لم يكن رضا، وظاهره كظاهر المدونة ولو التذ قاله غير واحد. وفي الخرشي: أن قوله: أو قصد تلذذا، بفعل لم يكن موضوعا لقصد التلذذ، بدليل قوله: أو نظر الفرجَ. انتهى. وفيه: قال في المدونة: وإن كان الخيار للمبتاع في الجارية فجردها في أيام الخيار ونظر إليها فليس ذلك رضا، وقد تجرد للتقليب إلا أن يقر أنه فعل ذلك تلذذا فهو رضا. انتهى. ابن يونس: ظاهر المدونة جواز تجريدها للتقليب إذ قد يكون في جسدها عيب. انتهى.

ص: 421

أو رهن؛ يعني أن من اشترى شيئا بخيار ثم رهنه يعد ذلك رضا منه بإمضاء البيع وإن لم يقبضه المرتهن كما هو ظاهره. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: المشهور وهو مذهب المدونة أن المشتري إذا رهن الأمة أو العبد أو غيرهما في أيام الخيار أن ذلك يكون رضا منه. انتهى. أو آجر يعني أن من باع رقيقا أو غيره فئاجره من اشتراه بخيار، يعد إيجاره له رضا منه بإمضاء البيع. أو أسلم للصنعة؛ يعني أن من اشترى رقيقا بخيار ثم أسلمه للصنعة؛ أي دفعه لمن يعلمه صنعة ولو هينة، يعد ذلك منه رضا بإمضاء البيع؛ قال عبد الباقي: أو أسلم للصنعة ولو هينة أو للمكتب. أو تسوق بها؛ يعني أن من اشترى دابة أو غيرها بخيار ثم تسوق بها أي أوقفها في السوق فإن ذلك يعد رضا منه بإمضاء البيع، وظاهر النقل أن إيقافها للسوم رضا وإن لم يتكرر، ولفظ المدونة: أو ساوم بهذه الأشياء للبيع، وتسوق وساوم بمعنى واحد، وما عبر به المص من التسوق هو الذي عبر به ابن يونس واللخمي في خيار التروي. أو جنى إن تعمد يعني أن من اشترى دابة أو غيرها بخيار ثم جنى عليه عمدا، يعد رضا منه بإمضاء البيع. أو نظر الفرج؛ يعني أن من اشترى أمة بخيار، ثم إنه نظر فرجها قصدا، فإن ذلك يعد رضا منه بإمضاء البيع؟ قال عبد الباقي: ونظر قصدا مشترٍ ذكرٌ الفرجَ مِن أمة، كذا للشارح تصويرا وعزوا للمدونة، زاد فيها: لأن الفرج لا يجرد في الشراء، ولا ينظر إليه إلا النساء ومن يحل له الفرج، ونحوه في التوضيح، وهو يقتضي أن نظر الذكر لفرج العبد ونظر الأنثى لفرج العبد لا يدل على الرضا، لعدم حل ذلك حالا ومئالا، وما اقتضاه تعليلها المذكور من حل نظر المرأة لعورة الجارية نَظَّر فيه الناصر اللقاني بأنها لا ترى منها إلا ما يراه الرجل من مثله. انتهى. وقد يقال: معنى قولها: ولا ينظر إليه إلا النساء؛ أي شأنهن أن ينظرن في عيوب الفرج في مسائل أخرى، كما يدل على ذلك ما نقله التتائي هنا عن المعين؛ وقد علم مما ذكر حكم أربع صور مشتر ذكر أو أنثى، والرقيق ذكر أو أنثى. قاله عبد الباقي. فنظر المشتري الذكرِ لفرج الأمة يدل على الرضا، لا لفرج العبد، ونظر المرأة لفرج الأمة أو العبد لا يدل على الرضا. والله أعلم وقد صرح الخرشي بذلك، وقال: قال التتائي: قال في المعين: إذا كان المعيب في أبدان الإماء حيث لا يحل للرجال النظر إليه وكان مما يميزه النساء قُبل فيه شهادة امرأتين عدلتين دون يمين، وإن كان مما لا يميزه إلا الأطباء نظرت إليه امرأتان ووصفتاه

ص: 422

للأطباء وأهل المعرفة بالعيوب؛ وقال سحنون: يبقر الثوب عن العيب وينظر له الرجال إلا أن يكون داخل الفرج تشهد عليه النساء. انتهى. وفيه عن الناصر: أن عيب المرأة يثبت بشهادة امرأتين إن كانت أمة، وإن كانت حرة فإن النساء لا ينظرنها. انتهى.

أو عرب دابة؛ يعني أن من اشترى دابة بخيار وفصدها في أسافلها يعد ذلك رضا منه بإمضاء البيع. قال الخرشي: يعني أن المشتري إذا عرب الدابة بأن فصدها في أسافلها في أيام الخيار فإن ذلك يعد رضا منه بلزوم البيع. أو ودجها؛ يعني أن المشتري إذا فصد الدابة في أيام الخيار في أوداجها فإن ذلك يعد رضا منه بلزوم البيع، ومعنى ودجها فصدها في الأوداج كما قررت، وفي المصباح: وَدَجَ الدابة ودْجا من باب وعد فصدها في ودجها وودَّجها بالتثقيل مبالغة، وكذلك إذا هلبها بأن جز ذنبها في أيام الخيار فإن ذلك يعد رضا منه بلزوم البيع. لا إن جرد جارية؛ يعني أن المشتري إذا جرد الجارية في أيام الخيار فإن ذلك لا يعد رضا منه بلزوم البيع، إلا أن يقصد بذلك التلذذ فيعد رضا منه كما مر، فقوله: لا إن جرد جارية؛ أي في مقام التقليب، وفي مقام الالتذاذ هو رضا.

وهو رد من البائع؛ يعني أن كل ما تقدم أنه رضى من المشتري هو رد من البائع إذا فعله في زمن خياره. إلا الإجارة؛ يعني أن إجارة ما اشتُريَ بخيار تعد رضى من المشتري حيث كان الخيار له، ولا كذلك البائع فإن إجارته لما بيع بخيار لا تعد رضا برد البيع حيث كان الخيار له لأن الغلة له كما يأتي، وهذا ما لم تزد مدتها على مدة الخيار وإلا فرد منه. قاله عبد الباقي. قال: وكالإجارة الإسلام للصنعة، ويجري ما ذكر فيها حيث أسلمه بعمله مدة ولكن هذا من الإجارة. ولا يقبل أنه اختار أو رد بعده؛ يعني أن من له الخيار من بائع أو مشتر لا يقبل منه بعد مضي أمد الخيار وما ألحق به أنه اختار الإمضاء أو رد عقد البيع إلا أن يأتي ببينة تشهد له بذلك، ولو بينة مال، ومعنى هذا أنه لا يقبل من البائع ذي الخيار أنه اختار الإمضاء والمبيع بيده، أو اختار الرد والمبيع بيد المشتري إلا ببينة، فهاتان صورتان، ولا يقبل من المشتري ذي الخيار أنه اختار الرد والمبيع بيده أو اختار الإمضاء والمبيع بيد البائع إلا ببينة، وهاتان صورتان، فهي

ص: 423

أربع صور تحتاج للبينة، فإن أراد البائع ذو الخيار الرد والمبيع بيده، أو الإمضاء والمبيع بيد المشتري، وأراد المشتري ذو الخيار الرد والمبيع بيد البائع، أو الإمضاء والمبيع بيده، لم يحتج إلى بينة، فالمجموع ثمان صور؛ وقد حصلها أبو الحسن هكذا. والله تعالى أعلم. قاله بناني. وقوله: ولا يقبل منه أنه اختار إلخ، هو من تتمة قوله السابق: ويلزم بانقضائه، وهو يشمل من له الخيار من بائع أو مشتر وليس بيده المبيع، ويشمل ما إذا كان الخيار لأحدهما وبيده المبيع، ويدخل في ذلك ما إذا كان الخيار لأحدهما وغاب الآخر ثم قدم بعد انقضاء زمن الخيار فادعى من له الخيار إن كان بائعا أنه أمضى في زمنه، أو مشتريا أنه رد في زمنه، فلا يقبل منه إلا ببينة. انتهى. وحاصل هذا أنه لا فرق في ذلك بين الغائب والحاضر. والله سبحانه أعلم. قوله: ولا يقبل منه أنه اختار إلخ، قال عبد الباقي: وينبغي أن يكون الأجنبي المجعول له الخيار كذلك، ولو أبدل اختار بأمضى لحَسُن، فإن الرد قسم من الاختيار فلا يكون قسيما له.

ولا بيع مشتر؛ يعني أنه لا يدل على رضى المشتري والخيار له بيعه للشيء المشترى، فبيع بصيغة الاسم. قال عبد الباقي مفسرا للمص: ولا يدل على الرضا بيع مشتر في أيام الخيار ما اشتراه به والخيار له ويمنع من البيع ابتداء، كما تدل عليه النسخة بتقديم التحتية على الموحدة بصيغة مضارع مجزوم بلا الناهية، وأيضا هو بيع فضولي. انتهى. قوله: ويمنع البيع ابتداء إلخ، قال بناني: الذي في رواية علي: لا ينبغي أن يبيع حتى يختار، ومقتضاه الكراهة، لكن عبارة المنتخب تفيد المنع، ونصه: ولا يجوز للرجل أن يبيع شيئا اشتراه على أن له الخيار فيه قبل أن يختار. انتهى. وهو ظاهر؛ لأنه تصرف في ملك الغير قبل أن ينتقل ملكه إليه. والله أعلم انتهى.

فإن فعل فهل يصدق أنه أختار بيمين أو لربها نقضه؟ يعني أن المشتري إذا كان له الخيار وباع ما اشتراه بخيار وادعى أنه اختار الإمضاء، فقيل: إنه يصدق بيمين أنه اختار الإمضاء وعليه فيمضي البيع ولا يرد، وقيل: إنه لا يصدق في ذلك ولرب المبيع نقض البيع. وقوله:

قولان، مبتدأ حذف خبره أي في ذلك قولان، والقول الأول حكاه ابن حبيب عن مالك وأصحابه وهو قول ابن القاسم في بعض روايات المدونة والموازية والثاني هو رواية علي بن زياد أن البائع مخير إن شاء نقض بيع المشتري وإن شاء أجازه وأخذ الثمن بربحه، وإذا حملت الرواية التي

ص: 424

كلام المص تابع لها على ما إذا وقع البيع في أيام الخيار ووقع النزاع بعد أيام الخيار فلا إشكال، والكلام ظاهر لا بحث فيه حينئذ، وأما حمله على ما إذا وقع النزاع في أيام الخيار فإنه مشكل؛ لأن بيع المبتاع لا يسقط خياره، فلو نقض البيع لكان له أن يختار أخذ السلعة، فلا فائدة لنقض بيعه؛ وطرح سحنون التخيير في هذا القول، وقال: إنما في رواية علِيٍّ أن الربح للبائع؛ ابن يونس: وهذا هو الصواب؛ لأنه إنما يتهم أن يكون باع قبل أن يختار، فيقول له البائع: بعت سلعتي وما في ضماني فالربح لي. وأما نقض البيع فليس ذلك له لأن بيع المبتاع لا يسقط خياره، فلو نقض البيع لكان له أن يختار، فلا فائدة في نقضه. انتهى. ومثله في المواق فلو قال المص: أو لربها ربحه، لتنزل على هذا. قوله: ولا بيع مشتر، استشكل كيف يكون بيع المشتري لا يعد رضى والتسوق يعد رضا؟ والجواب عن الإشكال المذكور: أن مسألة التسوق السابقة هي لابن القاسم وهو يقول في البيع: إنه يدل على الرضا؛ لأنه يقول بالقول الأول هنا، وبه تعلم أن نسخة ولا يبع بالمضارع المجزوم هي الصواب. انتهى. وحاصل هذا الجواب أن المص مر في التسوق على قول، وفي البيع على قول، وعلى نسخة لا يبع بصيغة الفارع المجزوم بلا الناهية يندفع التعارض في كلام المص. والله تعالى أعلم. وقوله: ولا بيع مشتر؛ أي لا يعد رضًى بيعُ المشتري والخيار له احترازا عن بيعه أي المشتري زمن الخيار ما هو بيده والخيار للبائع فله رده مطلقا، فإن فات بيد المشتري الثاني فعلى المشتري الأول الأكثر من الثمنين والقيمة؛ يعني له الأكثر من الثلاثة، الثمن الأول والثاني والقيمة، وعن بيعه بعد مضي زمنه والخيار للبائع أيضا فليس له عليه إلا الثمن فقط؛ لأن بمضيه وهو بيد المشتري الأول لم يبق للبائع خيار، وهاتان صورتان، ومفهوم قوله: مشتر، أن البائع له بيعها وهي بيد المشتري لغيره زمنه ويكون ردا، لا بعده فإنما له الثمن على المشتري للزوم البيع بانقضاء زمنه، وهاتان صورتان إن كان الخيار للبائع، فإن كان الخيار للمشتري وباع البائع زمنه فللمشتري رده مع القيام والأكثر من فضل القيمة والثمن الثاني على الأول مع الفوات. اللخمي: لو فات بيد المبتاع والخيار للبائع فله الأكثر من الثمنين والقيمة، وعكسه للمبتاع الفسخ أو الأكثر من فضل القيمة والثمن الثاني على

ص: 425

الأول، فإن باع البائع بعد مضي زمنه وهي بيده أي البائع والفرض أن الخيار للمشتري فليس له إلا أخذ ثمنه إن كان قد نقده البائع.

وانتقل لسيد مكاتب عجز؛ يعني أن المكاتب إذا باع أو ابتاع على أن الخيار له وعجز عن أداء الكتابة زمن الخيار قبل اختياره فإنه يرق وينتقل الخيار لسيده. قال عبد الباقي: وانتقل الخيار لسيد مكاتب باع أو ابتاع على أن الخيار له وعجز عن أداء الكتابة زمن خياره قبل اختياره ورق لبقاء حقه. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال مالك: إذا ابتاع المكاتب شيئا بالخيار ثلاثا فعجز في الثلاث فلسيده من الخيار ما كان له. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: إن المكاتب إذا ابتاع أو باع والخيار له ثم عجز زمن الخيار فإن سيده ينتقل له ما كان لمكاتبه من الخيار؛ لأنه بنفس العجز صار محجورا عليه لسيده، كما في ابن بشير وغيره، ولذا إذا كان مأذونا له بقي على ذلك. انتهى.

ولغريم أحاط دينه؛ يعني أن المدين إذا أحاط الدين بماله وفلس فإنه ينتقل الخيار لغريمه فيما باع أو ابتاع على أن الخيار له؛ قال الشيخ أبو علي: يعني أن المديان الذي أحاط الدين بماله إذا باع أو اشترى على خيار له ثم قام عليه الغريم قبل انقضاء مدة الخيار فإن الخيار ينتقل لغريمه لأنه صار محجورا كالمكاتب. انتهى. والحاصل: أنه إذا أحاط الدين بماله ولم يقم عليه الغريم فإن الخيار لا ينتقل عن المديان، فإن قام عليه الغرماء فهو قوله: ولغريم أحاط دينه؛ أي وقام عليه الغريم لأنه بقيام الغرماء عليه يمنع من التصرف المالي والله سبحانه أعلم. فعُلم من هذا أنه ينتقل الخيار للغريم بالقيام المذكور من غير احتياج إلى حكم بخَلع ماله للغريم، ثم إن اختار الغريم الأخذ فإنما له ذلك حيث كان نظرا للمدين وكان الربح له والخسارة على غريمه، وهذا بخلاف ما إذا أدى الغريم الثمن الذي يلزم الفلس في بيع لازم فالربح والخسارة للمفلس وعليه، فإن اختار الغريم الترك فيما إذا كان له الخيار والأخذ أرجح لم يجبر، بخلاف هبة الثواب فيجبر فيها على الثواب إذا كان أرجح، وإن اختلف الأوصياء نظر الحاكم، كتعدد الغريم واختلافه في الرد والإجازة، كما استظهره أحمد انتهى. قوله: وإن اختلف الأوصياء نظر الحاكم إلخ، قال بناني: هذا ليس على إطلاقه، قال ابن عرفة: وفيها: لو اختلف وصيان مشتركان رد

ص: 426

السلطان أحدهما لأصوبهما، والمستقلان أو أحدهما مع كبير كوارثين. انتهى. فيجري فيه القياس والاستحسان. انتهى. قال الرهوني: والاستقلال له صورتان: إحداهما أن يكون كل واحد من الوصيين وصيا على جميع الأولاد مستقلا بأن نص الموصي على أن لكل واحد منهما التصرف. الثانية: أن يكون كل واحد وصيا على جهة فزَيدٌ وصي على اثنين مثلا من الأولاد وعمرو وصي على اثنين آخرين مثلا، والظاهر بل المتعين أن هذه هي مراد ابن عرفة؛ إذ فيها يتأتى ما ذكره، وأما الأولى فلا يتأتى فيها ذلك لأن الآخذ فيها من الوصيين آخذ لجميعهم، والراد راد عن جميعهم، فلا يتصور فيها تبعيض الجميع الذي هو سبب القياس والاستحسان كما في اختلاف الورثة، فالحكم في هذه على مقتضى القواعد أنه إن اتحد زمن فعلهما نظر السلطان، وكذا إن جهل السابق، وإن علم السابق منهما عمل بمقتضى فعله حتى يثبت ما يوجب رده كسائر تصرفاتهما. انتهى.

ولا كلام لوارث؛ يعني أن الميت إذا كان الدين محيطا بماله فإنه ينتقل لغرمائه من الخيار ما كان له قبل موته، فإذا باع أو ابتاع بالخيار ثم مات زمن الخيار فإنه ينتقل الخيار لغرمائه، ولا كلام لورثته في رد أو إمضاء؛ واستثنى من ذلك قوله: إلا أن يأخذ بماله؛ يعني أنه إذا أمضى الغرماء البيع فإنه لا كلام للوارث، وأما إن رد الغرماء البيع فإن للوارث أن يأخذ الشيء المبيع الذي رده الغرماء بماله الخاص به؛ أي يدفع الثمن من عنده للبائع ويأخذ المبيع؛ قال عبد الباقي: ولا كلام لوارث إلا أن يأخذ شيئا بماله بعد رد الغرماء ويؤدي ذلك للغرماء، فإنه يمكن حينئذ من ذلك، وهذا الحل مثله في المدونة. انتهى. قوله: ويؤدي ذلك للغرماء إلخ، صوابه: ويؤدي الثمن للبائع؛ إذ الفرض أنه أخذه بماله فلا يؤدي للغرماء شيئا، ويحتمل أن يكون مراده ويؤدي الربح للغرماء، وهو صواب لقول ابن عرفة: إذا أخذه الوارث بماله فالربح للميت ونقله الحطاب. قاله بناني.

وعلم مما قررت أن قوله: إلا أن يأخذ بماله مقيد برد الغرماء فإن شاءوا الأخذ فلا كلام للوارث، ويعمل بما شاءه الغريم من أخذ عين التركة، لا بما شاءه الوارث من أخذ عينها ودفع ثمنها

ص: 427

للغريم في الفرض المذكور، وهو وجود شيء مشترى بخيار، وإذا مات الديان والدين محيط بماله ولم يكن اشترى شيئا بخيار وليس له عبد جان وأراد الغريم أخذ عين التركة لاستغراق دينه إياها وطلب الوارث أخذها ودفع قيمتها للغريم فهل القول للوارث أو للغريم؟ انتهى. قاله عبد الباقي. قال بناني: مقتضى كلام المدونة في القسمة أن للوارث أخذ التركة إذا دفع جميع الدين لا قيمة التركة فقط. ونصها: لكل واحد من الورثة أن يفتك ما يباع عليه في الدين بأداء ما ينوبه. انتهى. ولوارث؛ يعني أن من ابتاع أو باع بخيار ثم مات زمن الخيار فإن الخيار ينتقل لوارثه حيث لم يكن عليه دين أو عليه دين ولم يكن محيطا، وقوله: ولا كلام لوارث، حيث كان الدين محيطا. والقياس رد الجميع إن رد بعضهم؛ يعني أنه إذا اشترى شخص شيئا بخيار ثم مات زمن الخيار فإن الخيار ينتقل لورثته، فإذا أجاز بعض الورثة البيع ورده بعضهم فإن القياس أي الذي يقتضيه النظر أن يرد جميع المبيع لأنهم بمنزلة موروثهم، وهو لم يكن له أن يبعض، بل إما أن يجيز الجميع أو يرد الجميع، فكذلك هم.

والقياسُ حملُ معلوم على معلوم لمساواته له في علة حكمه عند الحامل وإن خص بالصحيح حذف الأخير. قاله في جمع الجوامع. فالمعلوم الأول الوارث، والثاني الموروث، والحكم هنا عدم التبعيض، والعلة ضرر الشركة. وقوله: والقياس أي عند أشهب، قال المواق: قال أشهب: يورث الخيار عن البائع أو عن المبتاع، ثم ليس للورثة إلا الاجتماع على رد أو إجازة، وكذلك الوصيان، وإن اختلف وارثو الخيار وهم رشداء فشاء بعضهم إمضاء البيع وشاء بعضهم رده فليس لهم إلا أن يجيزوا كلهم أو يردوا كلهم، وهذا هو النظر؛ لأن ميتهم لم يكن له إجازة بعض الصفقة ورد بعضها، فكذلك هم، واستحسن لمن أجاز من ورثة المبتاع أن يأخذ نصاب من لم يجز إن شاء، فإن أبى رددنا الجميع، إلا أن يسلم له البائع أخذ حصته فقط، فلا يكون عليه إلا ذلك. انتهى. وعلم مما مر أن القياس هو الفسخ إن اختلفوا. والله تعالى أعلم.

والاستحسان أخذ المجيز الجميع، قد مر قول أشهب في الاستحسان؛ يعني أن الورثة للمشتري يدخلهم الاستحسان كما يدخلهم القياس إذا اختلفوا، والاستحسان هو أن يأخذ من أجاز منهم البيع جميع المشترى نصيبَه ونصيبَ من أبى، ويدفع الثمن مِن عندِه. قال الشيخ أبو علي: قال

ص: 428

المازري عن أشهب: والاستحسان عندنا أن يمكن من أراد الإجازة من أخذ نصيب من رد ويدفع جميع الثمن للبائع، وإلى هذا أشار المص بقوله "والاستحسان أخذ المجيز الجميع" والاستحسان تقديم مراعاة المصلحة، فإن في أخذ المجيز مصلحة بدفع الثمن جميعه للمشتري مع التزام ذلك عدم التبعيض الحاصل به الضرر، فهو هنا أخذ المجيز من ورثة المشتري الجميع مناب الأب والمجيز إن شاء جبرا على البائع، فإن أبى رد الجميع للبائع.

وهل ورثة البائع كذلك تأويلان؛ يعني أنه اختلف في ورثة البائع هل هم كورثة المشتري؟ فيدخلهم القياس والاستحسان، فينزل المراد منهم منزلة المجيز من ورثة المشتري، والمجيز منهم منزلة المراد من ورثة المشتري، فيقال: القياس إجازة الجميع إن أجاز بعضهم، والاستحسان أخذ المراد الجميع إن رد بعضهم، أو لا يدخلهم إلا القياس فقط، في ذلك تأويلان، الأول لابن أبي زيد في غير المختصر، والثاني لبعض القرويين؛ وفي الخرشي: والقياس عند أشهب وهو نص المدونة، والاستحسان عند أشهب وهو نص الموازية، فالقياس عنده مذهب، والاستحسان عنده مذهب، والقياس هو المذهب في ورثة البائع والمشتري، والاستحسان ضعيف فيهما، فالقياس والاستحسان بمنزلة قولنا: قولان. انتهى. الأجهوري: القياس مركب هنا من أمرين، وهما: إما رد الجميع جبرا إن رد بعضهم، أو إجازة الجميع جبرا إن أجاز بعضهم. انتهى. وهو غير صحيح ولا مساعد له من نقل يوافقه، بل القياس عند أشهب تكليف من أجاز أن يرد ما في يده ليكمل جميع المبيع لبائعه.

وإن جَنَّ نظر السلطان، يعني أنه إذا جن من له الخيار من بائع أو مشتر وعلم أنه لا يفيق أو يفيق بعد طول يضر بالآخر فإنه ينظر له السلطان في الأصلح من رد أو إمضاء، وفي المدونة قال ابن القاسم: ومن جن فأطبق عليه أيام الخيار والخيار له فإن السلطان ينظر في الأخذ أو الرد، أو يوكل بذلك من يرى من ورثته أو غيرهم، وينظر في ماله وينفق على عياله، وهل المفقود كالمجنون أو كالغمى؟ قولان ذكرهما في الشامل؛ وظاهر كلام ابن عرفة ترجيح أنه كالمجنون. قاله الحطاب. وقال الخرشي: أي وإن جن من له الخيار من بائع أو مشتر قبل اختياره وعلم أنه لا

ص: 429

يفيق أو يفيق بعد طول يضر بالآخر الصبر إليه نظر السلطان في الأصلح له من رد أو إمضاء، وأما إن كان يفيق عن قرب فلا ينظر السلطان، وظاهر كلامهم أنه لا يستأنف له أجل.

ونُظِر المغمَى، بالبناء للمجهول أي انتظر؛ يعني أن من له الخيار إذا أغمي عليه في أيام الخيار فإنه تنتظر إفاقته لينظر لنفسه بعد إفاقته على المشهور ولو تأخرت عن أيام الخيار وإن طال فسخ؛ يعني أنه إذا طال إغماؤه بعد مضي زمن الخيار فإنه يفسخ، والطول ما أدى إلى ضرر الآخر، فإن لم يفسخ حتى أفاق بعده استؤنف الأجل. ومن المدونة قال ابن القاسم: من أغمي عليه في أيام الخيار انتظرت إفاقته، ثم هو على خياره إلا أن يطول إغماؤه أياما فينظر السلطان، فإن رأى ضررا فسخ البيع، وليس له أن يمضيه، بخلاف المجنون والصبي، وإنما الإغماء مرض. انتهى. ووقع لعبد الباقي ما نصه: وإن طال إغماؤه بعد مضي زمن الخيار أو في زمنه، كما في الشارح فسخ. انتهى. قال بناني: فيه نظر، بل مقتضى كلام المدونة وغيرها أن الطول إنما يعتبر بعد مضي زمن الخيار لقولها: إلا أن يطول إغماؤه أياما، فينظر السلطان، فإن رأى ضررا فسخ البيع، وليس له أن يمضيه كالمجنون والصبي، وإنما الإغماء مرض. انتهى. ولا يحصل الضرر للبائع إلا بالطول الزائد على أمد الخيار؛ لأن أيام الخيار مدخول عليها بينهما، ويدل لذلك قول اللخمي: وإذا كان الخيار ثلاثة أيام فأفاق بعد يومين كان له الخيار في اليوم الباقي ويومين بعده؛ لأنه إنما اشترى على أن يؤامر نفسه ثلاثا، ولا مضرة على البائع بزيادة يومين. انتهى. نقله أبو الحسن.

والملك للبائع؛ يعني أن الملك لخيار زمن الخيار للبائع. قال عبد الباقي: لأنه أي البيع منحل فالإمضاء نقل لا تقرير، وقيل: للمبتاع، بناء على أنه منعقد والإمضاء تقرير لا نقل، لكن عليه ملك المشتري غير تام، ولذا كان ضمانه من البائع باتفاقهما، كما في التوضيح عن المازري، فثمرة القولين في الغلة فقط. وما يوهب للعبد. ما مبتدأ وخبره قوله الآتي: له؛ يعني أن ما يوهب للعبد المبيع بالخيار في زمن الخيار لمالكه البائع. ومن المدونة: لو جنى على الأمة أجنبي فقطع يدها أو أصابها ذلك من أمر الله تعالى فللمبتاع ردها ولا شيء عليه، أو يأخذها معيبة بجميع

ص: 430

الثمن، والأرش للبائع، وعليه طلب الجاني، وما وهب لها أو تصدق عليها في أيام الخيار فللبائع، وعليه نفقتها في أيام الخيار. نقله المواق.

إلا أن يستثني ماله؛ يعني أن العبد المبيع بخيار إذا استثني؛ أي اشترط المشتري ماله، فإن ما يوهب له زمن الخيار يكون للمشتري؛ قال عبد الباقي: إلا أن يستثني أي يشترط المشتري ماله للعبد مطلقا أو لنفسه هو بما يجوز بيعه به، فيكون ما وهب له زمن الخيار للمشترط للعبد أو لنفسه، كان ماله معلوما أو مجهولا، أكثر من ثمنه أم لا. انظر التتائي في تناول البناء عند قول المص: ومال العبد، وفيه على الرسالة: ونحوه للشادلي: أن مال العبد بالنسبة إلى بيعه كالعدم على المعروف، فيجوز أن يشترى بالعين وإن كان ماله عينا، واختار اللخمي اعتباره وكأنه أقرب لقصد الناس إليه. انتهى. قوله: أو لنفسه بما يجوز بيعه إلخ، هذا التفصيل في بيع العبد تبع فيه التتائي وهو الذي صرح به ابن يونس وابن رشد وأبو الحسن كما يأتي نقله في فصل التناول، وظاهر التوضيح وابن ناجي وغيرهما الجواز مطلقا بحيث لا يراعى الربا بين الثمن ومال العبد، قال ابن ناجي: مال العبد في بيعه معه كالعدم على المعروف فيجوز بالعين إن كان ماله عينا، واختار اللخمي اعتباره وكأنه الأقرب لقصد الناس إليه. انتهى. وينبغي حمل كلام التوضيح وابن ناجي على التفصيل المذكور، وذكر في التوضيح أول البيوع الخلاف في اشتراء المال وحده بعد اشتراء العبد هل يعتبر الربا في شراء المال؟ بناء على أن الملحق بالعقد لا يعد واقعا فيه [وهو قول أشهب، أو لا يعتبر بناء على أنه يعد واقعا فيه]

(1)

وكأنه اشتراهما دفعة واحدة وهو قول مالك وابن القاسم، فانظره قبل بيع الجزاف. انتهى. قوله: وظاهر التوضيح وابن ناجي وغيرهما الجواز مطلقا إلخ، فيه نظر من وجهين،

أحدهما: أن كلام ابن ناجي الذي ذكره هو له في شرح الرسالة، ومحله إذا استثناه للعبد، بدليل عزوه مقابل المعروف للخمي لأن ذلك هو محل اختيار اللخمي، وبدليل كلامه في شرح المدونة

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 122.

ص: 431

[ونصه: قوله]

(1)

: ومن اشترى عبدا واستثنى ماله إلخ، يريد إذا استثناه للعبد لا لنفسه، ولو استثناه لنفسه لم يجز إلا بما يجوز بيعه به لنص ابن رشد بذلك، وعزاه ابن يونس لجماعة البغداديين، وظاهره سواء كان معلوما أو مجهولا، وسواء كان أكثر من ثمنه أم لا؛ لأنه تبع له، واختار اللخمي إن كانا عينين منعه، ورجحه شيخنا أبو مهدي عيسى بن أحمد الغبريني.

ثانيهما: يقتضي أن أهل المذهب أو جلهم يسوون بين استثنائه للعبد والسيد وليس كذلك؛ وساق من النقول ما يدل على أن الخلاف إنما هو حيث اشترط مال العبد للعبد لا للسيد، وفيه عن اللخمي بعد أن ذكر الخلاف: وكل هذا إذا اشتراه بماله، فإن قال: أشتريه وماله لي، لم يجز إلا بعد المعرفة بالمال وقلته وكثرته وجنسه، فإن كان المال عينا أو فيه عين لم يشتر بالعين قولا واحدا؛ لأنه إذا قال: أشتريه وماله فقد اشترى الشيئين جميعا العبد والمال، وصار المال منتزعا، وإن كان في المال أمة لم يجز للعبد أن يصيبها، وإن قال: أشتريه بماله جاز للعبد أن يصيبها.

والغلة يعني أن غلة المبيع بخيار زمن الخيار للبائع، قال عبد الباقي: والغلة الحاصلة أيام الخيار كبيض ولبن له أي للبائع، وقال المواق: ابن عرفة: غلة المبيع مدة الخيار للبائع. الشيخ عن ابن القاسم: واللبن والثمر غلة. انتهى. قال الخرشي: وقول الشارح: أو ثمرة، معناه أن يكون المبيع عقارا فيه نخل وأمد الخيار فيه شهران أو ثلاثة على قول ضعيف، فيتصور فيه طلوع الثمرة. انتهى.

وأرش من جنى أحنبي؛ يعني أنه لو جنى أجنبي على المبيع بخيار زمن الخيار فإن الأرش يكون للبائع.

وعلم مما قررت أن قوله: له؛ أي للبائع خبر عن قوله: وما، كما مر، فيرجع له ولما عطف عليه، وقال عبد الباقي: والغلة وأرش ما جنى أجنبي له أي للبائع ولو كان الخيار لغيره واستثنى المشتري ماله فيهما، ولذا أخرها عن الاستثناء، ولعل الفرق أن الأرش بدل عن فائت منه وهو في ملكه والغلة تنشأ عن التحريك غالبا دون ما يوهب له. بخلاف الولد؛ يعني أن الولد

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من الرهوني ج 5 ص 164.

ص: 432

ليس كالغلة فهو للمشتري لأنه كجزء من المبيع، ومثل الولد الصوف تم أم لا، وأما الثمرة المؤبرة فللبائع إلا لشرط من المشتري. ومن المدونة قال ابن القاسم: إذا ولدت الأمة في أيام الخيار كان ولدها معها في إمضاء البيع أو رده، ولا شيء على المبتاع من نقص الولادة إن ردها.

والضمان منه؛ يعني أن المبيع بخيار ضمانه من البائع. ابن يونس: القضاء أن الضمان في أمد الخيار مما يحدث بالسلعة من البائع إذ هو أقدم ملكا فلا ينتقل الضمان عنه إلا بتمام انتقال ملكه عنها، والضمان منه أي من البائع فيما قبضه المبتاع مما لا يغاب عليه، وفيما يثبت هلاكه مما يغاب عليه وأما إن لم يثبت هلاكه فيما يغاب عليه فالمبتاع يضمنه، ومن المدونة قال مالك: من اشترى عبدا بعبد والخيار لأحدهما أو لهما جميعا وتقابضا فمصيبة كل عبد في الخيار من بائعه؛ لأن البيع لم يتم ولا يتم بينهما حتى يقع الخيار. انتهى. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: والضمان للمبيع بخيار إذا قبضه المشتري وادعى تلفه أو ضياعه في زمن الخيار منه؛ أي من البائع فيما لا يغاب عليه حيث لم يظهر كذب المشتري، وفيما يغاب عليه مع بينة على تلفه كما يأتي، كان الخيار له أو لغيره، كان صحيحا أم لا، وقوله: والضمان منه، قال في التوضيح: الضمان من البائع اتفاقا.

وحلف مشتر: يعني أن من اشترى على الخيار إذا قبض المبيع وهو مما لا يغاب عليه وادعى تلفه بعد قبضه فإنه لا ضمان عليه كما عرفت، لكنه يحلف متهما أم لا، وقيل: إنما يحلف المتهم، وصفة يمين المتهم: لقد ضاع وما فرطت؛ وغير المتهم: ما فرطت خاصة. قاله المواق. نقله عبد الباقي. قوله: وصفة يمينه لقد ضاع إلخ، قال ابن هارون: زاد ابن حبيب: ولقد ذهب قبل أن أختار، ونقله أيضا أبو الحسن، وقال: فإن نكل عن أحدهما غرم.

إلا أن يظهر كذبه؛ يعني أن ما تقدم من أن الضمان من البائع فيما لا يغاب عليه وحلف المشتري، محله حيث لم يظهر كذب المشتري، وأما إن ظهر كذبه فإن الضمان عليه، قال مالك: من اشترى رقيقا أو حيوانا بالخيار فقبض ذلك ثم ادعى اباق الرقيق وانفلات الدابة، أو أن ذلك سرق منه وهو بموضع لا يجهل، لم يكلف ببينة وصدق مع يمينه ولا شيء عليه؛ لأن هذا لا

ص: 433

يغاب عليه إلا أن يأتي بما يدل على كذبه؛ قال مالك: وإن ادعى موتا وهو بموضع لا يخفى سئل عنه أهل ذلك الموضع؛ لأن الموت لا يخفى عليهم، ولا يقبل إلا العدول، فإن تبين كذبه في مسألتهم أو لم يعلم ذلك بالموضع أحد فهو ضامن فإن لم يعرف كذبه صدق مع يمينه. انتهى. وقال عبد الباقي: إلا أن يظهر كذبه كدعواه ضياع أو تلف دابة أول أمس، فتشهد بينة برؤيتها عنده أمس، أو ضياعها بحضرة فلان، فيقول: لا علم عندي بذلك، أو موتها ولم تشاهد فلا تقبل دعواه وعليه الضمان، ولا ضمان على البائع؛ واختلف قول ابن القاسم هل كشف ذلك على القاضي أو على من هي بيده؟ ثم قوله: وحلف مشتر، هذا إن [سلم له]

(1)

البائع ما ادعاه من الزمن فإن ادعى المبتاع هلاكه أيام الخيار وادعى البائع أنه بعدها فإن تصادقا وقت التنازع على انقضاء أيامه فالقول للبائع بيمينه؛ لأن المبتاع يتهم أن يكون أراد نقض البيع، وإن تنازعا أيضا في بقائها فالقول للمشتري بيمينه؛ لأن البائع يريد تضمينه. انتهى. قوله: هذا إن سلم إلخ؛ يعني أن سقوط الضمان عن المشتري فيما لا يغاب عليه مقيد بما إذا لم يقع التنازع بعد انقضاء أمد الخيار هل هلكت في زمن الخيار أو بعده؟ وإلا فالقول للبائع بيمينه أنه هلك بعده، ويضمن المشتري؛ ونص ابن عرفة: محمد عن ابن القاسم: من ابتاع عبدا بخيار له فهلك، فقال: هلك في أمد الخيار، وقال البائع: بعده، صدق لأن المبتاع يطلب نقض البيع فعليه البينة. الشيخ: يعني واتفقا على مضي الأمد، ولو قال المبتاع: لم يَنقَضِ، صدق مع يمينه؛ لأن البائع يريد تضمينه، وقوله: وإن تنازعا أيضا في بقائه إلخ؛ أي بقاء أمد الخيار، فالقول للمشتري أنها باقية وينتفي عنه الضمان بيمينه، وما ذكره في هذه المسودة كله لأبي الحسن. قاله بناني.

تنبيه: قد مر قول المدونة: وإن ادعى موتا وهو بموضع لا يخفى إلخ، وقولها في غير الموت: إن ادعى إباق الرقيق بموضع لا يجهل أي إباق الرقيق وانفلات الدابة لم يكلف المبتاع البينة، والفرق ما أشار إليه في المدونة من أن الموت لا يخفى على أهل الموضع، بخلاف غيره فإن قيام البينة عليه متعذر؛ إذ العبد لا يرصد [لوقت]

(2)

إباقه إلا الخلوة. قاله أبو الحسن. قاله بناني.

(1)

في الأصل: سلم إليه، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 122.

(2)

في الأصل وقت والمثبت من بناني ج 5 ص 122.

ص: 434

فرع: لو اشترى رجلان دابتين من رجل أو رجلين فادعى كل واحد أنها ماتت بموضع كذا واتفقت صفتها أو اختلفت ولم يحفظ واحد منهما صفة ما اشترى، وقال أهل ذلك الموضع: لم يمت عندنا إلا دابة واحدة، فقيل: كل واحد منهما مصدق ولا شيء عليه لأن أحدهما صادق قطعا والآخر لا يضمن بالشك، وقيل: يضمن كل واحد منهما النصف، وصوبه عبد الحق قاله أبو الحسن.

أو يغابَ عليه، بالنصب عطف على يظهر فهو مستثنى؛ يعني أن محل ضمان البائع ما بيع بخيار إنما هو حيث لم يكن المبيع مما يغاب عليه، وأما إن كان مما يغاب عليه فالضمان من المشتري إن لم تقم بينة على هلاكه، وأما إن قامت بينة على هلاكه فالضمان من البائع، وإلى ذلك أشار بقوله:

إلا ببينة يعني أنه إذا كان المبيع بخيار مما يغاب عليه وقامت بينة على أنه هلك أو ضاع من غير سبب المشتري وتفريطه فإنه لا ضمان على المشتري، فالاستثناء راجع لما يغاب عليه قطعا لا ما لا يغاب عليه أيضا إذا ظهر كذبه؛ إذ لا تقبل بينته المعارضة لظهور كذبه، كذا يستفاد من تقرير الشارح وبعض الشراح، وقوله: أو يغاب عليه، ظاهر كلامه أنه لا يمين على المشتري في هذه الحالة، وفي باب الرهن يحلف مع الضمان. انتهى المراد منه. قال الرهوني في قول عبد الباقي: إذ لا تقبل بينته المعارضة لظهور كذبه إلخ، لم يبين هل ظهور كذبه كان بدعواه الموت بموضع كذا فلم يظهر هناك ذلك؟ أو ظهوره بدعواه أنها ماتت أول النهار فشهدت بينة أنها [رأتها]

(1)

عنده آخر النهار، والحكم يختلف، فالوجه الأول الظاهر قبول بينته إذ شهادة أهل الوضع أنهم لم يروا هنالك شيئا شهادة على نفي فلا تعارض بينة، وأما الوجه الثاني فلا يظهر قبول بينته فيه ولما بين المحل الذي يضمن فيه المشتري ذكر ما يضمنه فقال:

وضمن المشتري إن خير البائع الأكثر؛ يعني أن المشتري إذا قبض البيع بخيار وادعى تلفه وكان الخيار للبائع فإنه يضمن الأكثر من الثمن والقيمة، فيما لا يغاب عليه حين نكل عن اليمين أو

(1)

في الأصل رأته والمثبت من الرهوني ج 5 ص 166.

ص: 435

ظهر كذبه، وفيما يغاب عليه ولم تقم بينة على هلاكه، وذلك لأن من حجة البائع أن يقول: أمضيت إن كان الثمن هو الأكثر ورددت إن كانت القيمة هي الأكثر. البساطي: الذي يقتضيه النظر استفساره قبل إلزام المشتري، فإن أمضى البيع فليس له إلا الثمن، وإن رد فله القيمة، ولا يلزم المشتري الأكثر ابتداء.

إلا أن يحلف، هذا الاستثناء خاص بالمسألة الأخيرة وهي ضمان المشتري فيما يغاب عليه ولم تقم بينة على هلاكه إذ لا يمين مع ظهور الكذب. قاله ابن عاشر. قاله بناني. ومعنى كلامه أن المشتري إنما يضمن الأكثر من الثمن والقيمة فيما يغاب عليه حيث لم تقم بينة على هلاكه إذا لم يحلف، وأما إن حلف المشتري أنه تلف أو ضاع بغير سببه فإنه يضمن الثمن دون القيمة إن كانت أكثر، وأما إن كانت أقل أو مساوية فإنه يضمن الثمن دون يمين. كخياره، تشبيه في ضمان الثمن، والضمير للمشتري، ومعنى كلامه: أنه إذا كان الخيار للمشتري وقد قبض السلعة وادعى تلفها وهي مما يغاب عليه فإنه لا يضمن إلا الثمن لأنه يعد راضيا. قاله الشارح. وقال عبد الباقي: وشبه في ضمان الثمن قوله: كخياره أي المشتري أي تلف ما فيه الخيار له، فيضمن الثمن ولو كانت القيمة أقل وادعى الرد وحلف على ذلك عند ابن القاسم؛ لأنه يعد راضيا؛ وقال أشهب: تلزمه القيمة إذا كانت أقل. انتهى. قوله: وحلف على ذلك عند ابن القاسم إلخ، قال الرهوني: غير صحيح لأن المنصوص لابن القاسم خلافه كما في المواق ومثله لابن عرفة. انتهى. وقال المواق: قال اللخمي: من اشترى ثوبا على خيار وبان به ثم ادعى ضياعه لم يصدق، وسواء كان الخيار للبائع أو للمشتري؛ قال ابن القاسم: ويغرم الثمن إن كان الخيار للمشتري بغير يمين ودع القيمة حينئذ تكون أقل من الثمن فإنه لا يغرم إلا الثمن. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: كلام عبد الباقي في غاية الصحة؛ لأن قوله: وحلف على ذلك، عطف على المبالغة، أي لا يضمن إلا الثمن ولو كانت القيمة أقل، ولو ادعى الرد وحلف عليه، وحينئذ فلا يحلف لأن حلفه وعدمه سواء. وما قاله الرهوني غير ظاهر. والله سبحانه أعلم. وقوله: وقال أشهب: تلزمه القيمة إلخ؛ يعني إذا حلف، قال ابن عرفة: قال أشهب: إن كان الخيار للمبتاع غرم الأقل منهما: فإن كان الثمن فبدون يمين وإن كانت القيمة فبعد يمينه. انتهى. وقال عبد الباقي:

ص: 436

وانظر لو كان الخيار لهما قال بناني: الظاهر أن يغلب جانب البائع، كما جزم به هو عند قول المص الآتي: وإن تلفت ضمن الأكثر. انتهى؛ يعني أن المص ذكر حكم ما إذا كان الخيار للبائع بقوله: وضمن المشتري إن خير البائع الأكثر، وذكر حكم ما إذا كان الخيار للمشتري بقوله: كخياره، وسكت عما إذا كان الخيار لهما معا وهو الذي ذكره الشيخ بناني.

وكغيبة بائع والخيار لغيره؛ يعني أن البائع إذا غاب على المبيع والخيار فيه لغيره وادعى هلاكه فإنه يضمن للمشتري الثمن ويصير كمن أتلف سلعة وقفت على ثمن. قاله الشيخ أبو علي. وقال الخرشي: يعني أن البائع إذا غاب على المبيع وادعى تلفه والخيار للمشتري أو لأجنبي فإنه يضمن الثمن خاصة، سواء كان المبيع مما يغاب عليه أم لا؛ لأنه بمثابة من أتلف سلعة وقفت على ثمن. انتهى. وقال بناني: وكغيبة بائع؛ أي فيضمن الثمن فقط بعد حلفه لقد ضاع وما فرطت، كما في المواق عن اللخمي، ولما قدم جناية الأجنبي بقوله: وأرش ما جنى أجنبي له، ذكر جناية البائع والمشتري زمن الخيار على المبيع، وهي: ست عشرة صورة؛ لأن الجناية إما من البائع والخيار له أو لغيره، وهي إما عمدا أو خطئا، وفي كل من هذه الأربع إما أن تتلف أو لا، فهذه ثمانية وإما من المشتري، وفيها الصور المذكورة وبدأ بحكم جناية البائع، فقال:

وإن جنى بانع والخيار له عمدا فرد؛ يعني أن البائع إذا جنى على المبيع زمن الخيار عمدا والخيار للبائع ولم يتلف المبيع فإن ذلك يدل على أنه رد البيع، وقد قدم المص هذا بقوله: وهو رد من البائع، بعد قوله في خيار المشتري: أو جنى إن تعمد، واغتفر جمعا للنظائر.

تنبيه: من المعلوم أن نفقة المبيع بالخيار زمن الخيار على البائع. وخطأ فللمشتري خيار العيب، يعني أن المبيع بالخيار إذا جنى عليه البائع زمن الخيار خطئا ولم يتلف المبيع والخيار له وأجاز البيع لما له فيه من خيار التروي فإن المشتري له خيار العيب؛ أي الخيار الذي يثبت لمن اشترى شيئا ووجده معيبا، فإن شاء تمسك به معيبا ولا شيء له، وإن شاء رد المبيع وأخذ ثمنه، وأما إن لم يجز البائع البيع بل رده فلا شيء للمشتري. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وخطئا فللمشتري إن أجاز البائع البيع لما له فيه من خيار التروي خيارُ العيب، إن شاء تمسك ولا شيء له أو رد

ص: 437

وأخذ ثمنه، وهذا إن أمضى البائع البيع كما علمت، فإن رده فلا خيار للمشتري، وإنما لم تكن جنايته خطئا ردا كجنايته عمدا لأن الخطأ مناف لقصد الفسخ قاله الشارح.

وإن تلفت انفسخ فيهما؛ يعني أنه لو جنى البائع على المبيع بالخيار وأتلف المبيع فإن البيع يفسخ، كانت لجناية عمدا أو خطئا؛ وقوله: فيهما؛ أي في العمد والخطأ.

وإن خير غيره وتعمد فللمشتري الرد أو أخذ أرش الجناية، لما فرغ من جنايات البائع حيث كان الخيار له وهي أربع، شرع يذكر الأربع الأخَر من جناياته حيث كان الخيار لغيره؛ يعني أن البائع إذا جنى على المبيع بالخيار زمنه ولم يتلفه وكانت جنايته عمدا والخيار للمشتري فإن المشتري يخير بين رد المبيع وأخذ ثمنه، والتمسك به وأخذ أرش الجناية؛ قال الشيخ أبو علي: أي فإن كانت الجناية عمدا إلا أن الخيار للمشتري وهو مراده بغيره والجناية لم تتلف المبيع فالمشتري مخير إن شاء رد وإن شاء دفع الثمن وأخذ المبيع وأرش الجناية. انتهى. وقال المواق: قال ابن شاس: إن كان الخيار للمشتري فجنى البائع عمدا، فإن لم يتلف المبيع كان للمشتري أن يُغَرِّمَ البائع قيمة الجناية ويأخذه معيبا ويدفع الثمن أو يرده، وقال عبد الباقي: وإن خير غيره أي غير البائع وهو المشتري، ولو قال: وإن خير مشتر لكان أخصر، لكن كان يبرز ضميرَ وتعمَّدَ البائع الجناية ولم يتلف فللمشتري الرد للبيع أي نقضه وأخذ ثمنه، أو أخذ أرش الجناية وإمضاء البيع، وعدل عن أن يقول: أو أخذ قيمة العيب؛ لأنه إذا أوضحه وبرئ على غير شين فله أخذ أرش الموضحة وهو نصف عشر القيمة مع أنه ليس ثم عيب، كذا أشار له الشارح؛ وسيأتي أن الموضحة إن كان فيها شيء مسمى كموضحة برأس فيأخذه وإن برئت على غير شين، وإن لم يكن فيها شيء مسمى كموضحة بلحي أسفل، فإن برئت على غير شين فلا شيء فيها، وعلى شين فعلى ما يراه القاضي؛ واستُشكل أخذ المشتري أرش الجناية مع أن البائع جنى على سلعته إذ بيع الخيار منحل؟ وأجيبَ: بأنه لما كان الخيار للمشتري ويحتمل أن يمضي فكأن البائع عدا على ما للغير فيه حق. انظر التتائي. وفي أحمد: إنما كان له الأرش لاتهام البائع على قصد الرد بخلاف ما إذا جنى أجنبي، وبهذا ظهر الفرق بين المسألتين، والجامع بينهما أن الملك للبائع والجناية على ما هو في ملكه.

ص: 438

فإن تلفت ضمن الأكثر؛ يعني لو جنى البائع على المبيع بالخيار عمدا وأتلفه والخيار للمشتري فإن البائع يضمن للمشتري الأكثر من الثمن والقيمة؛ إذ من حجة المشتري أن يقول: أمضيت، إن كانت القيمة أكثر ورددت إن كان الثمن هو الأكثر، وهذا إذا كان الخيار للمشتري أو لأجنبي ورضي بما يفعله المشتري، وإلا فإن رد؛ فلا كلام للمشتري، وإن أجاز ضمن القيمة، كما في حاشية الشيخ بناني، والفرق بين قوله: ضمن الأكثر، وبين قوله فيما مر: وكغيبة بائع من ضمانه الثمن أن قوله: وكغيبة بائع والخيار لغيره لم يعلم كون المبيع تلف عمدا وهنا علم تعمده، فما تقدم هو قوله هنا: وإن تلفت انفسخ،

وإن أخطأ فله أخذه ناقصا أو رده؛ يعني أنه لو خير المشتري وجنى البائع على المبيع خطئا ولم يتلفه فإن للمشتري أن يمضي البيع ويأخذ المبيع ناقصا ويدفع الثمن للبائع، وأن يرد البيع ويأخذ ثمنه إن كان دفعه. وإن تلفت انفسخ؛ يعني أنه لو خير المشتري وجنى البائع وأتلف المبيع فإن البيع يفسخ وللمشتري الثمن، كما مر في قوله: وكغيبة بائع والخيار لغيره، إلا أن الأولى ادعى فيها التلف ولم يحقق أو حقق ولم يثبت جناية البائع عليه، وهذه تحققت الجناية عليه من البائع والله سبحانه أعلم. وهنا تم الكلام على صور جناية البائع الثمانية، وشرع في صور جناية المشتري الثمان، فقال: وإن جنى مشتر والخيار له وأتلفها عمدا فهو رضى؛ يعني أنه لو جنى المشتري على المبيع والخيار له عمدا سواء أتلف المبيع أو لم يتلفه فإن ذلك يعد رضى منه بإمضاء البيع فللبائع الثمن، فقوله: وأتلفها، عطف على محذوف تقديره: ولم يتلفها، ولا شك أن هذه النسخة أنسب لأن العمد بقسميه دليل على الرضى، كما تقدم في قوله: أو جنى إن تعمد، ولا يحسن التعبير بالضمان في جانب العمد، وإنما يقال: يعد رضى، وإن كان المؤدى واحدا. قاله ابن عاشر. قاله بناني. والنسخة المشهورة: وإن جنى مشتر والخيار له ولم يتلفها عمدا فهو رضى، فيكون تكلم على جناية المشتري عمدا ولم يتلف المبيع، ويأتي ما إذا أتلفها في قوله: وإن أتلفها ضمن الثمن.

ص: 439

وخطئا فله رده وما نقص؛ يعني أنه لو جنى المشتري خطئا والخيار له ولم يتلف المبيع فله أن يفسخ البيع ويرد للبائع شيئه وما نقصه بجنايته عليه، وله أن يمضي البيع ويأخذ المبيع معيبا ولا شيء له، ويدفع جميع الثمن للبائع. قال عبد الباقي: وخطئا فله رده وما نقص؛ لأن الخطأ والعمد في أموال الناس سواء، وله التمسك به معيبا ولا شيء له لأنه تبين أنه جنى على ملكه ويغرم الثمن للبائع، قال المص: والقياس أن يغرم للبائع الأرش إذا تماسك لأنه في ضمانه ووجِّه الأولُ ببنائه على ضعيف وهو أن الملك للمشتري زمن الخيار ولم يعد خطؤه رضا كجنايته عمدا لأن الخطأ لا يقصد بفعله التمسك كما لا يقصد به البائع الفسخ.

وإن أتلفها ضمن الثمن يعني أن المشتري إذا خير وجنى على المبيع عمدا أو خطئا وأتلفه بجنايته فإنه يضمن الثمن للبائع، وهذا على نسخة: ولم يتلفها، وأما على نسخة: وأتلفها، فيكون هذا قاصرا على جناية الخطأ. والله سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: وهو؛ أي قوله: وإن أتلفها ضمن الثمن، مكرر مع قوله: كخياره، اغتفر لجمع النظائر. انتهى. ويقال فيه: ما قدمته عند قوله: وإن تلفت انفسخ. ولما فرغ من صور جنايات المشتري الأربع حيث كان الخيار له ذكر الأربع الباقية فيما إذا كان الخيار لغيره بقوله:

وإن خير عمره وجنى عمدا وخطئا فله أخذ الجناية أو الثمن؛ يعني أنه لو خير البائع أو أجنبي وجنى المشتري على البيع عمدا أو خطئا ولم يتلفه فإن للبائع رد البيع وأخذ شيئه وأرش جنايته، وله إمضاء البيع وأخذ الثمن، وهذا الذي قررت به المص هو ظاهره كابن الحاجب وابن شأس، وبه صرح الشارح والتتائي ومن وافقهما، والذي يفيده نقل الحطاب عن ابن عرفة أن محل التخيير المذكور للبائع حيث كانت الجناية عمدا، فإن كانت خطئا فالخيار للمبتاع في دفع الثمن وأخذ المبيع، وفي ترك المبيع مع دفع أرش الجناية في الحالتين. قاله عبد الباقي. قوله: فإن كانت خطئا فالخيار للمبتاع إلخ؛ يعني إذا اختار البائع الإمضاء، وأما إذا أراد الرد وطلب أخذ الأرش فلا كلام للمشتري، هذا الذي يفيده كلام ابن عرفة. انظره في الحطاب. وتأمله. انظر الرهوني.

ص: 440

وإن تلفت ضمن الأكثر؛ يعني أنه لو خير البائع وجنى المشتري عمدا أو خطئا وأتلف المبيع فإن المشتري يضمن للبائع الأكثر من الثمن والقيمة يوم التلف، فإن كان الخيار لأجنبي فإن رضيَ بما يفعله البائع فكذلك، وإلا فإن رد فللبائع القيمة، وإن أمضى فله الثمن، فإن كان الخيار لهما غلب البائع في هذه وفي غيرها.

وإن اشترى أحد ثوبين وقبضهما ليختار فادعي ضياعهما ضمن واحدا بالثمن؛ يعني أن من اشترى أحد ثوبين لا بعينه وقبضهما ليختار واحدا منهما؛ أي ليعين واحدا منهما ثم هو فيما يختار بالخيار، فادعى ضياعهما ضمن واحدا منهما بالثمن الذي وقع عليه العقد، وهو في الآخر أمين، هذا إن لم تقم بينة على التلف كما مر في قوله: أو يغاب عليه إلا ببينة، فالمسألة جارية على التفصيل السابق، وإنما أجمل هنا اتكالا على قرب العهد. انظر الحطاب. قاله بناني. وقولي: وهو فيما يختار بالخيار. قاله عبد الباقي، تحرز عما إذا كان الخيار للبائع فإن المشتري يضمن له واحدا بالأكثر من الثمن أو القيمة إلا أن يحلف فيضمن الثمن خاصة، ويجري مثل هذا في قوله: أو ضياع واحد، قال الشيخ أبو علي: قوله: وإن اشترى أحد ثوبين، هو خيار واختيار، خيار في عقدة البيع واختيار لأحد الثوبين؛ وقوله: وقبضهما ليختار؛ أي وقبضهما معا ليختار واحدا منهما إن شاء أخذه وإن شاء ردهما معا، وظاهر كلام المتن كان الخيار للبائع أو للمشتري، لأنه إذا كان الخيار للمشتري فهو قادر على القبول والرد، وله القبول في قيامه وتلفه، كانت قيمته أقل من الثمن أو أكثر، وكذلك إن كان الخيار للبائع؛ لأن البائع سلم له على أن عوضه النَمن الذي اتفقا عليه فإن كانت القيمة أكثر من الثمن حلف المشتري على الضياع ودفع الثمن.

ولو سأل في إقباضهما يعني أن المشتري في الفرض المذكور لا يضمن من الثوبين إلا واحدا، فيضمنه بالثمن كما عرفت، ولا فرق في ذلك بين أن يسئل المشتري البائع أن يقبضه الثوبين أي يسلمهما له فيقيضَهما وأن لا يسأله ذلك، وهذا قول ابن القاسم وهو المشهور، وقيل: إن سأل في إقباضهما ضمنهما معا لكن أحدهما بالقيمة والآخر بالثمن. قاله بناني. أو ضياع واحد ضمن نصفه؛ يعني أنه إذا اشترى أحد ثوبين وقبضهما ليختار، ثم هو فيما يختار بالخيار فادعى ضياع واحد

ص: 441

منهما، فإنه يضمن نصفه بنصف الثمن، لعدم العلم بكون الضائع المبيع أو غيره، فأخذ بالنصف عملا بالاحتمالين فلا ضرر ولا ضرار.

وله اختيار الباقي؛ يعني أنه يضمن نصف التالف كما عرفت، وله أن يختار الباقي وله أن لا يختار شيئا، قال عبد الباقي: وله بعد ادعاء ضياع واحد مع بقاء زمن الخيار اختيار جميع الباق، وله أن لا يختار شيئا، وليس له اختيار نصف الباقي على المشهور لأن ذلك ضرر على البائع. وقال محمد: إنما له اختيار نصف الباقي وهو القياس؛ لأن المبيع ثوب واحد، وإذا اختار جميع الباقي لزم كون المبيع ثوبا ونصفا وهو خلاف الفرض، وأجيب بأنه أمر جرت إليه الأحكام، فإن قال: كنت اخترت هذا الباقي ثم ضاع الآخر مني لم يصدق كما في المدونة، ويضمن نصف التالف، فإن قال: كنت اخترت هذا التالف ضمنه بتمامه. قاله عبد الباقي. والذي يفيده ما في الحطاب عن الرجراجي وابن يونس وهو الظاهر أنه ليس له اختيار الباقي بل يلزمه رده وثمن التالف. قاله بناني. وقال عبد الباقي: وأشعر ذكره ثوبين وتعبيره بادعى أن المبيع مما يغاب عليه ولم تقم على هلاكه بينة، فإن قامت لم يضمن، أو كان مما لا يغاب عليه كقبضه عبدين ليختار واحدا وهو فيما يختاره بالخيار فادعى ضياعهما فلا ضمان عليه فيهما، أو ضياع واحد فقط فلا ضمان عليه فيه، ويخير في أخذ جميع الباقي ورده؛ وقوله: وإن اشترى أحد ثوبين، قال عبد الباقي: من شخص واحد، احترازا عن اشترائه بالخيار ثوبين من رجلين في عقد فاختلطا عنده أيامه، فإن البيع يلزمه مع بقائهما بالثمن، بعد حلف كل من البائعين أن ثوبه ليس واحدا منهما وقسم ثمنهما بينهما، وليس له رد واحد منهما إن لم يرفه هو أو غيره وإلا حلف ورده، فإن ادعى ضياعهما أو ضياع واحد ضمن على قاعدة ضمان ما ضاع أيام الخيار إلا ببينة، وشبه في مطلق الضمان قوله:

كسائل دينارا فيعطى ثلاثة ليختار فزعم تلف اثنين فيكون شريكا؛ يعني أن من سأل من شخص دينارا قرضا أو قضاء عن دين فأعطى ذلك الشخص للسائل ثلاثة دنانير ليختار أحدها ويرد له الاثنين الباقيين، فزعم السائل أنه تلف منها اثنان أو قامت له بينة بذلك، فلا مفهوم للزعم الذي هو قول لا دليل عليه، فإن المسائل يضمن؛ ومعنى ضمانه أنه يكون شريكا فيما تلف وفيما

ص: 442

بقي، ومعنى هذا أن له ثلث الدينار الباقي وللمعطي ثلثاه وللسائل ثلث من كل واحد من التالفين فله ثلثا دينار، فإذا كان ذلك عن قضاء فلا شيء للسائل غير ثلث الدينار الباقي، وثلثاه للمعطي، فهو بينهما، وضاع عليه ثلثا ديناره الذي كان في ذمة المعطي، وإذا كان قرضا فله ثلث الدينار الباقي ويدفع للمعطي عند القضاء دينارا كاملا، ثلثه عن ثلث الدينار الباقي وثلثاه عن الثلثين المترتبين في ذمته من كل واحد من الدينارين. قال عبد الباقي: ويحلف المتهم على الضياع ليبرأ من ضمان الثلثين، فإن لم يحلف ضمنهما؛ وقال الرهوني: قال أبو علي: ما ذكر من تقييد الحلف بالمتهم هو كذلك في أبي الحسن ولا أراه يصح، بل يحلف المتهم وغيره؛ وقوله: فيعطى ثلاثة ليختار، هذا إن قبضها على أن له أحدها من حين القبض غير معين، وأما إن قبضها ليريها أو ليزنها على أنه إن وجد فيها طيبا وازنا أخذه وإلا رد جميعها فلا شيء؛ لأنها أمانة، فإن قبضها لتكون رهنا عنده حتى يقضى منها أو من غيرها ضمن جميعها إلا أن يثبت الضياع، واعلم أن الإنسان مصدق في كيفية خروج ماله من يده.

وإن كان ليختارهما فكلاهما مبيع، هذا من تتميم أقسام الثوبين؛ يعني أنه إذا اشترى الثوبين معا على أن له فيهما خيار التروي وقبضهما ليختارهما أو يردهما فكلاهما مبيع بيعة خيار، فيضمنهما إن لم تقم بينة على هلاكهما لأنهما مما يغاب عليه، وإن ادعى ضياع أحدهما فقط لزمه بحصتة من الثمن، كما في المدونة، ولو كان الهالك منهما وجه الصفقة لوجب أن يلزماه جميعا، حكاه ابن يونس عن بعض فقهاء القرويين، وقواه الرهوني، ورَدَّ رَدَّ ابن محرز له حيث قال: إنه غلط وإن له رد الباقي.

ولزماه بمضي المدة وهما بيده؛ يعني أنه إذا مضى أمد الخيار وما ألحق به وهما أي الثوبان، بيده أي المشتري فإنه يلزمه الثوبان وذكر هذا وإن استفيد من قوله: ويلزم بانقضائه ورد في كالغد، لتتميم أحكام مسألة الثوبين، واحترز به عما إذا كانا بيد البائع فلا يلزم المشتري شيء منهما لأنه ليس هنا إلا بيع خيار فقط، ثم ذكر الاختيار المنفرد عن الخيار بقوله:

ص: 443

وإن اشترى ما يغاب عليه كثوب أو غيره كعبد يختاره من ثوبين أو عبدين، وهو فيما يختاره باللزوم لأحدهما؛ أي اشترى واحدا منهما يختاره وهو فيه على اللزوم، ومضت أيام الاختيار أو ضاعا أو أحدهما، فإنه يلزمه أي المشتري النصف من كل منهما، كانا بيد البائع أو بيد المبتاع، قامت بينة على الضياع أم لا، وأما لو لم تمض أيام الاختيار وهعا باقيان لكان له أن يختار أحدهما، قال بناني: والظاهر أن أيام الاختيار كأمد الخيار السابق.

وفي الاختيار لا يلزمه شيء؛ يعني أنه إذا اشترى أحد ثوبين وقبضهما ليختار منهما واحدا ثم هو فيما يختار بالخيار فمضت المدة ولم يختر واحدا، فإن المشتري لا يلزمه شيء والبيع مردود؛ إذ لم يقع البيع على معين فيلزمه ولا على إيجاب أحدهما فيكون شريكا، ولا يعارض هذا قوله فيما مر: ويلزم بانقضائه؛ لأنه فيما إذا كان المبيع معينا، وما هنا واحد لا بعينه يختاره من متعدد، ومن باب أولى في عدم لزوم شيء له لو كان بيد البائع؛ ومحصَّلُ المص من مسألة الثوبين ثلاثة أقسام، في كل قسم ثلاث صور، بقاؤهما وادعى ضياعهما أو واحدٍ. القسم الأول: ما فيه خيار واختيار، وأشار له بقوله: وإن اشترى أحد ثوبين، إلى قوله: وله اختيار الباقي، وأشار إلى حكم بقائهما مع مضي أيام الخيار والاختيار بقوله: وفي الاختيار لا يلزمه شيء. القسم الثاني: ما فيه خيار فقط، وأشار له بقوله: وإن كان ليختارهما فكلاهما مبيع، إلى قوله: بيده. والقسم الثالث: ما فيه اختيار فقط، وأشار له بقوله: وفي اللزوم لأحدهما يلزمه النصف من كل؛ أي سواء ضاعا أو أحدهما أو بقيا حتى مضت أيام الاختيار، وصرح بالثلاثة في القسم الأول، وصرح في الثاني بمضي المدة وهما بيده، وذكر فيما مر حكم ضياعهما أو ضياع واحد بقوله: وحلف مشتر بخيار إلا أن يظهر كذبه أو يغاب عليه إلا ببينة، وقد علمت شمول الثالث للثلاث، فإن قوله: وفي اللزوم لأحدهما، شامل لما إذا ضاعا أو أحدهما بقيت المدة أو انقضت، ولا إذا بقيا وانقضت المدة. وبالله تعالى التوفيق.

ولما أنهى الكلام على خيار التروي، أتبعه بالكلام على خيار النقيصة. فقال: ورد بعدم مشروط فيه غرض، مبتدأ والمجرور قبله خبر؛ يعني أن من اشترى شيئا واشترط فيه شرطا لغرض سواء كان فيه مالية ككون الأمة طباخة، أو لم يكن فيه مالية كثيب لأجل يمين عليه أن لا يملك

ص: 444

بكرا، أو لأنه لا يستطيع افتضاض الأبكار، ثم لم يجد المبتاع في ذلك الشيء ما اشترطه، فإن له أن يرد البيع لعدم ما اشترطه فيه، وله أن يتماسك به، ويصدق في دعواه أن عليه يمينا، ولا يصدق في غيره إلا ببينة، كما إذا شرط أنها نصرانية ليزوجها لغلامه النصراني الثابت نصرانيته فوجدها مسلمة، فله ردها؛ قال عبد الباقي مفسرا للمص: ورد المبيع المفهوم من السياق؛ أي ثبت الخيار في رده بعدم وجود وصف مشروط ذلك الوصف للمبتاع وله فيه غرض، كان فيه مالية ككونها طباخة فلا توجد كذلك، أو لا مالية فيه كثيب؛ أي شرط في أمة أنها ثيب ليمين عليه أن لا يطأ بكرا.

فيجدها بكرا ويصدق في دعواه أن عليه يمينا، ولا يصدق في غيره إلا ببينة أو بوجه، كما إذا اشترط أنها نصرانية ليزوجها لغلامه النصراني الثابتة نصرانيته فوجدها مسلمة، كما في التتائي والحطاب، والفرق أن اليمين مظنة الخفاء ولا كذلك غيرها، وفي تمثيل ابن غازي والتتائي بحلفه أن لا يملك بكرا نظر لحنثه بمجرد الشراء البت الذي الكلام فيه هنا ولو فاسدا، ولو على أن الرد نقض للبيع، مراعاة للقول بأنه ابتداء بيع، لوقوع الحنث بأدنى سبب فلا يمكن من الرد. انتهى. قوله: وفي تمثيل ابن غازي والتتائي بحلفه أن لا يملك بكرا نظر إلخ، قال بناني: تعبير ابن غازي والتتائي بأن لا يملك، هو الموافق لعبارة ابن عرفة وأصله في البيان عن أبي الأصبغ بن سهل ونصه: قال القاضي أبو الأصبغ: كتب إلي بمسائل من فاس: منها رجل ابتاع جارية وشرط أنها ثيب فألفاها بكرا فأراد ردها، هل له ذلك؟ فأفتيت إن كان شرط أنها ثيب لوجه يذكره معروفٍ، من يمين عليه أن لا يملك بكرا، أو لأنه لا يستطيع افتضاض الأبكار، وشبه ذلك من العذر الظاهر المعروف، فله ردها، وإلا فلا رد له كما في الواضحة. انتهى. قال مصطفى: فقَوْلُ الأجهوري: في التمثيل به نظر لأنه بمجرد الشراء يحنث، كمن حلف ألا يشتري فاشترى شراء فاسدا غير ظاهر وقياسه غير صواب. انتهى. وهو ظاهر لأن من حلف ألا يشتري فاشترى فاسدا قد وجدت منه حقيقة الشراء فلذا يحنث، وفيما هنا حلف أن لا يملك بكرا فاشترى بشرط الثيوبة، فحيث انتفى الشرط لم يلزمه الشراء، فلم يقع ملك يحنث به؛ فتأمل. وهذا يرد ما

ص: 445

اختاره بعضهم من الحنث مع الرد جمعا بين ما هو المنصوص من الرد وبين ما للأجهوري من الحنث، ويرد أيضا بأن المبتاع إنما يثبت له الخيار من أجل خشية الحنث منها فإذا حنث وانحلت اليمين فلا موجب للخيار تأمل.

تنبيه: قول ابن سهل: لوجه يذكره معروف من يمين عليه إلخ، يدل على أنه لا يصدق فيما ادعاه من اليمين، كما لا يصدق فيما ادعاه من غيرها، وأنه لابد من ثبوت ذلك. وهو خلاف ما ذكره الحطاب وتبعه الزرقاني وغيره من تصديقه في اليمين. فتأمله. انتهى كلام بناني. وقوله: فيجدها بكرا، قال عبد الباقي: وإذا كان شرط الثيوبة معمولا به فأولى شرط البكارة، فإن ادعى المشتري أنه وجدها ثيبا والبائع أنه باعها بكرا نظرها النساء، فإن قطعن بشيء عمل به ولا يمين على من قطعن له، وإن لم يقطعن ورأين أثرا قريبا حلف البائع أنه باعها بكرا لا أن المبتاع أزالها: إذ قد تزول بوثبة إلا أن يتحقق إزالة المشتري لها فيحلف على ذلك، وإن لم يرَيْنَ أثرا قريبا حلف المبتاع وردها، فإن نكل لزمته بعد حلف البائع؛ وروى أشهب: كل شيء يباع من جنسين متساويين في البلد فالبيع يقع على أفضلهما، فإن وجد الأدنى كان له أن يرد، وإن وجد الأفضل لم يكن له أن يرد، إلا أن يكون اشترط الأدنى لوجه، كمن اشترى عبدا على أنه نصراني ووجده مسلما فأراد رده؛ لأنه قال: أردت أن أزوجه أمة لي نصرانية، أو ليمين على أن لا يشتري مسلما، وهذا هو الصحيح، كمن اشترى أمة على أنها من جنس فوجدها من جنس أرفع منه كان له أن يردها إذا كان لاشتراطه وجه، وقيل: ليس له الرد وإن كان لاشتراطه وجه، وقيل: له الرد وإن لم يكن لاشتراطه وجه.

وإن بمناداة؛ يعني أنه لو حصل الشرط بمناداة ولم يجد ما نودي به فإن له أن يرد. وإيضاح هذا أن له أن يرد إذا لم يجد ما اشترطه حيث كان فيه غرض، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشرط حقيقة وبين أن يكون حكما. قال الحطاب عند قوله: وإن بمناداة، يشير إلى ما في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الرد بالعيوب، وسئل عن الذي يبيع الميراث فيبيع الجارية فيصاح عليها ويقول الذي يصيح: إنها تزعم أنها عذراء ولا يكون ذلك شرطا منهم، وإنما يقولون: إنها تزعم؟ قال: أرى ذلك له؛ أي له أن يردها، قيل له: فإنهم يزعمون أنهم لم يشترطوا وإنما قلنا

ص: 446

بأمر زعمته، قال: أرى أن يردها إلا أن يكونوا لم يقولوا شيئا، فأما أن يقولوا: مثل هذا، ثم يشتري المشتري وهو يظن ذلك فأرى له أن يردها، وكذا لو قال: إنها تنصب القدور وتخبز، ويقولون: إنها تزعم ولا يشترطون ذلك، فإذا هي ليست كذلك، فإني أرى له أن يردها إلَّا أن لَّا يُخْبروا بشيء فلا أرى عليهم شيئا. قال محمد بن رشد: مثل هذا في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب النكاح وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه، سواء قال في الجارية: أبيعها منك على أنها عذراء أو على أنها رقامة أو خبازة أو وصفها بذلك، فقال: أبيعها منك وهي عذراء أو رقامة أو صناعة، أو أبيعها منك وهي تزعم أنها عذراء أو رقامة أو خبازة، ذلك كله كالشرط. لأنه إن لم يكذبها ولا تبرأ منه فقد أوهم أنها صادقة بما زعمت، فكأنه قد باع على ذلك وشرطه للمبتاع، وإنما يفرق الشرط من الوصف في النكاح. انتهى. وقال عبد الباقي: وإن حصل الشرط بمناداة عليها أنها طباخة مثلا فترد بعدمه، ولا يكون ذلك من تلفيق السمسار، وإذا شرط سمن بقر فوجده سمن غنم فلا رد لأنه أجود كما في السماع، ولكن قال ابن رشد: سمن البقر أجود أي وكذا عندنا بمصر، وإن وجد أدنى مما شرطه فله الرد، وإن أشكل هل ما شرطه أفضل أو ما وجده؟ فله الرد؛ لأن الأصل إعمال الشرط، وقوله: فيجدها بكرا، وأولى لو اشترط أنها بكر كما مر، وهو لازم في العلي والوخش، وهذا هو المعروف من المذهب؛ وذكر عن ابن عرفة أن شرط البكارة في وخش الرقيق لغو.

لا إن انتفى، بالإفراد أي الغرض، ويلزم منه انتفاء المالية، ومعنى هذا أن المشتري إذا شرط شرطا لا غرض فيه ثم وجد الشيء المشترى على خلاف ذلك فليس له أن يرد. قال عبد الباقي: لا إن انتفى الغرض ويلزم منه انتفاء المالية فيلغى الشرط، كعبد للحراثة ويشترط أنه غير كاتب فيوجد مع ذلك كاتبا فهو من أفراد ما إذا وجد على ما اشترط.

وبما العادة السلامة منه؛ يعني إذا اشترط شيئا فوجد المبيع على خلاف ما شرط فإن له الرد إن كان الشرط فيه غرض، وكذا له الرد إن وجد في المبيع شيئا جرت العادة بالسلامة منه ولم يشترط السلامة منه، قال الإمام الحطاب عند قوله: ورد بعدم مشروط فيه غرض، ما نصه: هذا شروع

ص: 447

منه رحمه الله في الكلام على خيار النقيصة، وهو ما ثبت بسبب نقص يخالف ما التزمه البائع شرطا أو عرفا في زمن ضمانه، والتقرير الفعلي داخل في الشرط. انتهى؛ يعني: كتلطيخ ثوب عبد بمداد. والله تعالى أعلم. وقال ابن عرفة: هو لقب لتمكن المبتاع من رد مبيعه على بائعه لنقصه عن حالة بيع عليها غير قلة كَمِّيَّة قبل ضمانه مبتاعُه، فيدخل حادث النقص في الغائب والمواضعة. وقبل الاستيفاء وبتِّ الخيار، لا الرد لاستحقاق الأكثر. انتهى. قوله: لنقصه، أخرج به ما إذا أقاله البائع من المبيع فإن له رده على بائعه. وقوله: عن حالة بيع عليها، أخرج به النقص عن غير الحالة المذكورة. قوله: غير قلة كمية، أخرج به صورة استحقاق الجل من يد المشتري. وقوله: قبل ضمانه متعلق بنقصه ومبتاعه فاعل بالمصدر، ولم يقل: قبل بيعه، ليدخل في ذلك حادث النقص في الغائب والمواضعة وما شابه ذلك، ولابن عاصم رحمه الله تعالى:

وكل عيب ينقص الأثمانا

في غيرها رُدَّ به ما كانا

قال ابنه: أي كل عيب ينقص من ثمن المبيع؛ أي مبيع كان من غير الأصول، فإنه يرد به. قاله أبو علي. وقال الحطاب. عند قوله: وبما العادة السلامة منه: هذا هو القسم الثاني من قسمي خيار النقيصة، وهو ما كان لسبب وجود نقص عرفي جرت العادة بالسلامة منه، معطوف على قوله: بعدم مشروط؛ أي ورد بوجود ما العادة السلامة منه مما يؤثر في نقص الثمن أو المبيع أو نقص التصرف أو خوف في العاقبة، فالذي يؤثر في نقص الثمن كما لو وجده آبقا أو سارقا، والذي يؤثر في نقص البيع دون الثمن كالخصاء في العبد، والذي يؤثر في نقص التصرف كالعسر والخنث، والذي يؤثر خوف العاقبة كجذام أحد الأبوين.

تنبيهات: الأول: قال في مفيد الحكام: روى أشهب عن مالك رحمه الله تعالى في الصبي يأبق من الكتب ثم يباع كبيرا فللمبتاع رده بذلك وهو عادة. انتهى. وقال اللخمي: الصغير إذا بيع وقد أبق في صغره عيب، وكذلك السرقة يرد بذلك لأنه باق على تلك العادة، إلا أن تكون [من

ص: 448

الصغير]

(1)

بحيث لو اختبر ذلك منه فلا ينقص ثمنه، ومن أبق وهو صغير أو سرق وكبر وانتقل عن تلك الحال أرى أنه يرجع في ذلك إلى أهل المعرفة، فإن كان ذلك في قومه يجتنب أو يحط من الثمن رد وإلا فلا. الثاني: قال أبو علي: قال أبو الحسن: عيوب الرقيق ستة، عيوب الأبدان وهو ما يشين البدن، وعيوبُ أديان كالكفر، وعيوبُ الأنساب ككونه ولد زنى، وعيوب الأخلاق ككونه شارب خمر، وعيوبُ العلائق ككونه ذا زوجة، وعيوب الذمم ككونه مديونا، وهي كلها توجب الرد. الثالث: قال القرافي: إذا كان الشيء عيبا في الثياب في العادة رددنا به البيع، فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبا لم يرد به، وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه، لا اختلاف فيه، والحاصل: أن الدار على ما تقدم مع مراعاة الأمر العرفي والشرطي. قال في المنتقى: أما ما يثبت بالشرط فهو على ثلاثة أضرب، أحدها: أن يشترط المبتاع نطقا. الثاني: أن يصف به البائع المبيع. الثالث: أن يكون ذلك عادة المبيع. وقوله:

كعور مثال لما العادة السلامة منه؛ يعني أن من اشترى حيوانا فوجده أعور؛ أي ذاهب ضوء إحدى العينين؛ أي إحدى عينيه لا تبصر، فله رده بذلك؛ قال عبد الباقي: كعور وأولى عمًى والمبيع غائب أو المبتاع لا يبصر، حيث كان ذلك ظاهرا، فإن كان خفيا رد ولو مع حضور المبيع وإبصار المشتري، على ما يأتي في قوله: ولم يحلف مشتر ادعيت رؤيته إلخ، وذهاب بعض نور العين كذهاب كله حيث كانت العادة السلامة منه، وأدخلت الكاف الإباق والسرقة ولو في الصغير، فإنه منقص للثمن وإن لم ينقص المبيع؛ وقال الحطاب: كعور فأحرى العمى، قال في الشامل: كعمى وعور؛ وقال ابن عرفة: الباجي: عيب الرد ما نقص من الثمن كالعور وبياض العين والصمم والخرس. انتهى. وقال الخرشي: قوله: كعور، والبيع غائب وقت العقد عليه أو

(1)

لفظ اللخمي في التبصرة ج 9 ص 4393: وإباق الصغير إذا بيع في صغره عيب، وكذلك سرقته يرد بذلك لأنه باق على تلك العادة إلا أن يكون من الصغير بحيث لو اجتنب ذلك منه فلا ينتقص من ثمنه.

ص: 449

حاضر وهو يخفى ككونه مسلوب البصر مع قيام الحدقة، ثم إن ذهاب بعض نور العين كذهاب كله حيث كانت العادة السلامة منه. انتهى.

وقطع؛ يعني أن القطع في المبيع مما يوجب الرد، قال الخرشي: ولو أنملة. قال المواق: وفيها: والقطع ولو في أصبع. انتهى. وقال عبد الباقي: ولو لأنملة كوجود الرقيق بأصبع زائدة لها إحساس، وتعيب المبيع بوجودها وإلا لم يرد به؛ كذا يظهر. وخصاء؛ يعني، أن الخصاء عيب. الجلاب: والخصاء والجب. وقال الخرشي: أي وكذلك إذا وجده خصيا فإنه عيب، وإن كان يزيد في ثمنه لأنه منفعة غير شرعية، كزيادة ثمن الجارية الغنية فإنه إن وجدها مغنية يردها، وقال في الجلاب: الخصاء والجب والإفضاء عيب يوجب الرد، وأما العنة والاعتراض فالظاهر لا رد بهما، وقوله: وخصاء بالمد، ظاهره أنه عيب مطلقا وهو ظاهر إلا في فحول البقر المعدة للعمل فإن الخصاء ليس عيبا فيها؛ لأن العادة جارية أن لا يستعمل في ذلك إلا الخصي، وقال عبد الباقي: وخصاء بالمد، وإن زاد في ثمن رقيق بمصر ونحوها؛ لأن ذلك منفعة غير شرعية، ثم كلام المص في غير فحل غنم أو بقر معد لعمل، فإن الخصاء ليس عيبا فيه.

واستحاضة؛ يعني أن من اشترى أمة فوجدها مستحاضة له ردها، قال الخرشي: يعني أن من اشترى أمة فوجدها مستحاضة فهو عيب ترد به ولو في الوخش كما في الموازية، وهو ظاهر المدونة؛ إذا ثبتت عند البائع لا إن اتصلت بدم الاستبراء؛ إذ بحيضها ضمنها المبتاع، وقال في الموازية: والاستحاضة التي ترد بها شهران، نقله في التوضيح. وقال المواق: ومن المدونة قال مالك: إن اشترى جارية مستحاضة ولم يعلم فذلك عيب ترد منه؛ وروى محمد: وسواء في ذلك الفارهة والوخش. انتهى. وقال عبد الباقي: واستحاضة في وخش أو علي إن حاضت عند البائع، لا إن حاضت حيضة الاستبراء ثم استمرت مستحاضة فمن المبتاع، ولا رد له. قاله في الشامل. أي لأنه ليس بقديم إلا بشهادة عادة للمشتري كما يأتي؛ وفي التوضيح: حد الاستحاضة التي ترد بها بأن كانت عند البائع شهران؛ وتبعه الشارح. انتهى. قال بناني: الحق ما في التوضيح، ونحوه في الحطاب عن ابن عرفة عن ابن المواز. انتهى. والذي في الحطاب هو قوله: قال ابن عرفة: الباجي روى محمد: الاستحاضة التي هي عيب شهران. انتهى. وقال الحطاب:

ص: 450

واستحاضة في العلي والوخش، قال في التوضيح: وهو ظاهر المذهب، وهو الصواب. انتهى. وقال في الشامل: وقيد إن ثبتت عند البائع، فأما إن حاضت حيضة استبراء ثم استمرت فهي من المبتاع ولا رد. انتهى. قال بناني: محل هذا إذا قبضها في نقاء من الحيض، أما إن قبضها في أول الدم ثم تمادى بها استحاضة فإن له أن يرد. نقله ابن عرفة عن اللخمي. قلت: وهو يخالف ما في الموازية. انتهى.

ورفع حيضة استبراء؛ يعني أن من اشترى أمة وارتفعت حيضة استبرائها أي تأخرت عن العادة فذلك عيب فله أن يردها، وظاهره وخشا أو عليا، وهو الذي أفتى به ابن عتاب، فقد أفتى بأنه عيب حتى في الوخش التي لا مواضعة فيها، واحتج بأن للمبتاع أن يقول: لا أصبر على ارتفاع حيضها، كما أن الحمل فيها عيب إن كانت وخشا، وإليه ذهب ابن العطار، وقد رأيت لأصبغ عن ابن القاسم ما قاله ابن عتاب. قاله بناني. وقال عبد الباقي: ورفع أي تأخر حيضة استبراء عن وقت مجيئها زمنا لا يتأخر لمثله فيمن تتواضع علية أو وخشا، وأما من لا تتواضع فإن تأخرها بعد الشراء عيب حادث عند المشتري لدخولها في ملكه بمجرد العقد، ولا رد له بالحادث إلا أن تشهد له عادة بقدمه كما يأتي. انتهى. قوله: فيمن تتواضع، قال بناني: بهذا قيده ابن سهل في نوازله، ونصه: الذي في المدونة أن ارتفاع الحيض إنما هو عيب في المرتفعة التي فيها المواضعة لا في الوخش التي لا مواضعة فيها، وكذلك في المقرب والمحتضر. انتهى.

تنبيه: من يأتيها بعد كل ثلاثة أشهر مرة فلمبتاعها ردها بذلك؛ لأنه يقول: إذا بعتها لا أقبض ثمنها إلا بعد ثلاثة أشهر وهو ضرر، وهذا واضح فيمن تتواضع، وينبغي أن الشهرين كذلك، وله ردها برتقها وإفضائها، وظاهره ولو كانت وخشا، وأما عنة الذكر واعتراضه فلا رد بذلك فيما يظهر. انتهى. قوله: وهذا واضح فيمن تتواضع، قال بناني: بل هو واضح مطلقا على فتوى ابن عتاب، وقوله: وينبغي أن الشهرين كذلك؛ قال بناني: التوضيح: قال في المدونة: وإن تأخر حيضها، قال في الأمهات: شهرين أو ثلاثة فذلك عيب.

ص: 451

وعَسَر؛ يعني أن من اشترى رقيقا فوجده أعسر، له أن يرده. قال عبد الباقي: وله الرد بعسر بفتحتين وهو البطش باليسرى دون اليمنى، في ذكر أو أنثى علي أو وخش.

وزنى؛ يعني أن من اشترى رقيقا فوجده قد زنى فإن ذلك عيب فله أن يرده؛ قال الخرشي: يعني أن الزنى في الرقيق طوعا أو كرها عيب، سواء كان من علي الرقيق أو دنيه. انتهى. وقال عبد الباقي: وزنى يشمل الغصب واللواط فاعلا لا مفعولا، وإن كان عيبا أيضا يذكره بعد في قوله: وتخنث عبد. انتهى. وقوله: إن كان فاعلا إلخ، راجع لما قبله يليه وهو اللواط فقط. قاله بناني. وقال أبو علي: وفي الموازية في الأمة توطأ غصبا: إن ذلك عيب؛ ونقله ابن عرفة وسلمه ولم يذكر مقابله، وكذا في ابن يونس أيضا وهذا داخل في المتن؛ وقال المواق: من المدونة: من اشترى أمة فألفاها قد زنت عند البائع فليس بواجب على المبتاع أن يحدها، إلا أن ذلك عيب فيرد به في الوخش والعلية، ابن القاسم: وهو عيب في العبد أيضا. انتهى. مفهومه أنه لو زنت عنده لوجب عليه، ابن محرز: وإنما لم يجب عليه لأنها لم تكن أمته حين زنت، وإنما جاء الحديث: (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها

(1)

). وجاء: (إذا زنت أمة أحدكم فاجلدوها فإن زنت فاجلدوها فإن زنت فبيعوها ولو بضفير

(2)

). ويظهر من الأمر أنه على الندب إذ لا يختلف أنه لا يجب عليه بيعها، وفي كتاب الرجم: لا بأس أن يقيم الرجل على مملوكه حد الزنى، وإنما قال: لا بأس؛ لأنه يتوهم أنه ليس له أن يحدها وإنما ذلك إلى الإمام.

وشرب؛ يعني أن الشرب أي شرب المسكر عيب يوجب الخيار في الرد وعدمه، قال المواق: روى محمد: شرب المسكر وأخذ الأمة أو العبد في شربه ولو لم تظهر بهما رائحته عيب. انتهى. وقال الخرشي: وكذلك أي مما يرد به شرب الخمر وأكل نحو افيون وحشيش.

وبخر؛ يعني أن البخر عيب يرد به، قال الشيخ أبو علي: المتيطى: وسواء كان في الفم أو في الفرج؛ وقال ابن يونس: ومن المدونة: ابن وهب عن مالك: والبخر في الفم عيب؛ وقال في الواضحة: في الجارية والعبد كانا رفيعين أو وضيعين. وقال أبو الحسن: وكذا البخر في المحل

(1)

أبو داود، رقم الحديث 4470.

(2)

البخاري، رقم الحديث 2154 - 2556 - 2555. الموطأ، ج 2 ص 518.

ص: 452

المقصود في الرائعة عيب، وليس بعيب في غير الرائعة. وقال عبد الباقي: وبخر بفم ولو لذكر، كما في الحطاب لتأذي سيده بكلامه، أو فرج في وخش أو علي، وقال ابن بشير: الصنان عيب أي إذا كان يخالف العادة، وزاد أيضا: البخر في الأنف عيب.

وزعر يعني أن الزعر عيب، قال الشيخ أبو علي: إذا اشترى أمة فوجدها زعراء العانة لا شعر لها أو عليها شعر قليل فإن له ردها، قال في الموازية: وكذلك الشعر في غير العانة إذا لم ينبت فهو عيب؛ محمد: يريد مالك في ساقها وجسدها. ابن حبيب: وهو مما تبقى عاقبته من الداء السوء. الجوهري: الزعر قلة الشعر. ونقله في التوضيح، وعلى هذا فيكون الشعر إذا لم ينبت أصلا من باب أحرى، وهو صحيح لأن الشعر [يشد]

(1)

الفرج كما في ابن يونس عن سحنون، والذكر والأنثى سواء. المتيطى: من علل بالخوف من العاقبة رد به حتى الذكر، ومن علل باسترخاء الفرج فترد به الأنثى فقط. انتهى. وقال عبد الباقي: وزعر؛ أي عدم نبات شعر عانته ولو لذكر، خلاف ما يوهمه أحمد من قصره على الأنثى لدلالته على المرض لا لدواء لانتفاء العلة، وألحق بذلك عدم نباته في غير العانة مما هو دليل المرض عادة. قاله البساطي. انتهى. وقال الخرشي: وزعر؛ يعني أن الزعر عيب وهو قلة الشعر في الذكر والأنثى ولو في الحاجبين، وهو إذا كان لغير دواء وإلا فليس بعيب. انتهى.

وزيادة سن؛ يعني أن زيادة سن عيب، قال عبد الباقي: وزيادة سن على الأسنان أو طول إحداها، لذكر أو أنثى، علي أو وخش، بعقدم الفم أم لا، حيث علت الزائدة على الأسنان، أما بموضع من الحنك لا يضر بالأسنان. فلا. انتهى ونحوه في الخرشي، وقال: وظاهر قوله: وزيادة سن، يشمل الزيادة في طولها. انتهى. فعلم منهما أن ذلك على ثلاثة أقسام، أحدها: سن زائدة على عدد الأسنان المعتادة ولم تعل على الأسنان بل كانت مستوية معها ولم يحصل بها ضرر فلا رد بها. الثاني: سن زائدة على عدد الأسنان وهي أعلى منهن فله الرد بها الثالث: سن لم تزد على عدد الأسنان المعتادة لكنها زادت عليهن في الطول فله الرد بها، وأحرى ما اجتمع فيه

(1)

في الأصل يسد والمثبت من ابن يونس ج 9 ص 60.

ص: 453

الوصفان. قاله مقيده عفا الله عنه. وقال أبو علي: أي أن الأمة أو العبد إذا وجدت له سن زائدة فإنها عيب يرد به. ابن حبيب: وسواء كانا رفيعين أو وخشين. انتهى. وقال ابن يونس: ابن حبيب: والسن الزائدة عيب في العلي والوخش من ذكر أو أنثى. انتهى. وقال المتيطى: وأما السن الزائدة فقال ابن حبيب: هي عيب في الكل. انتهى. وطول السن إن نقص من الثمن فكذلك وإلا فلا والغالب أنه ينقص.

وظَفَر؛ يعني أن الظفر بالتحريك عيب. قال عبد الباقي: وظفر بالتحريك لحم نابت في شفر العين وكذا الشعرة فيها وإن لم تمنع البصر، وحلف مشتر أنه لم يره. انتهى. الرهوني: هو مخالف لما في الحطاب عن ابن عرفة من أنه لا يحلف، وكذلك وجدته في ابن عرفة فإنه قال: وسمع عيسى رواية ابن القاسم: والشعر في العين لا يحلف المبتاع أنه لم يره. انتهى. وقال أبو علي: وفي الجوهري الظفر عبارة عن جلدة تنبت على بياض العين من جهة الأنف أي سواد العين.

وعجر؛ يعني أن العجر عيب يرد به، فسره في التوضيح بكبر البطن، وابن عرفة بالعقدة على ظهر الكف أو غيره من الجسد، والشارح بما ينعقد في العصب والعروق. قاله عبد الباقي. وبجر، يعني أن البجر عيب يرد به، والعجر والبجر إما بضم أولهما وفتح ثانيهما جمع عجرة وبجرة بضم أولهما وسكون ثانيهما، وإما بتحريكهما مصدرين، الجوهري: العجرة بالضم العقدة في الخشب أو في عروق الإنسان، وفي مختصر العين، الأبجر العظيم البجرة وهي السرة. قاله بناني. وقال عبد الباقي: البجر ما ينعقد في ظاهر البطن. وقال المواق: ابن حبيب: من العيوب العجرة وهي العقدة على ظهر الكف أو غيره من الجسد، والبجرة وهي نفخ كالعجرة إلا أن البجرة لينة من نفخ ليس بزائد. الصحاح: العجرة بالضم العقدة في الخشب أو في عروق الجسد، والبجر بالتحريك خروج السرة ونتوءها وغلظ أصلها. وقولهم: أفضيت إليك بعجري وبجري أي بأمري كله. انتهى.

ووالدين؛ يعني أن وجود الوالدين أو أحدهما عيب يرد به، قال في التوضيح: أحد الوالدين عيب وأحرى اجتماعهما. أو ولد؛ يعني أن وجود ولد للرقيق المشترى عيب يرد به، قال الشيخ أبو علي: أي أن المشتري إذا وجد للعبد أو الأمة والدَيْن أو ولدا فإن له الرد بذلك؛ لأن قوة الألفة لهم

ص: 454

والتحنن إليهم تبعث على الإباق نحوهم وإيثارهم بما في يده من القوت وغيره. انتهى. وقال عبد الباقي: ووجود أحد والدين دنية وأولى وجودهما جميعا، ولعل المراد بوجودهما ظهورهما ببلد شراء الرقيق ذكرا أو أنثى، لا مجيئهما من بلدهما بعد، وكذا يقال في قوله: وولد وإن سفل للحنان والشفقة، وكذا له الرد إن وجد للأمة زوجا حرا أو عبدا، وللعبد زوجة حرة أو أمة، قال ابن الحاجب: وسيفيده المص بقوله: وفي زواله بموت الزوجة، وقوله: وولدين أو ولد، ولا رد بغير هؤلاء من الأقارب، ولهذا قال:

لا جد ولا أخ؛ أي فلا يكون وجود واحد منهما عيبا يثبت الرد، وكذا الأعمام وبنوهم وبنو الإخوة، ولو مات الولد أو الوالد قبل الرد فلا رد له. قاله مالك. وقال المواق: والولد الصغير والكبير والأب والأم عيب يرد به الرقيق؛ لأنه يميل إلى كل واحد منهم ويصرف إليه فضل كسبه وبعض قوته، وأما الأخ والأخت وسانر القرابة فلا؛ لأن الضرر بهم أقل. ابن يونس: قال بعض أصحابنا: الجدة عيب لأنه يأوي إليها. انتهى. وقال ابن ناجي في شرح المدونة: المشهور أن وجود الجدة ليس بعيب، وقال عبد الباقي: لا جد من قبل أبيه أو أمه فلا يرد به، ولا أخ شقيق أو لأب أو لأم، وأعاد لا ليلا يتوهم عطفه على المثبت كما في الذي بعده، وذكر ما فيه الرد مما ليس نقص المبيع لكن يخشى عاقبة حصوله بالمبيع بقوله:

وجذام أب؛ يعني أنه إذا اشترى رقيقا فظهر أن بأبيه أو بأمه، أو بأحد من جدوده من قبل الأب أو الأم، أو بواحدة من جداته من قبل الأب أو الأم، جذاما فإنه يثبت له الرد بذلك؛ قال عبد الباقي: وجذام أبٍ وإن علا، وكذا أم وإن علت لأن المني حامل منهما؛ لأنه يعدي ولو إلى أربعين جدا، فالمراد جذام أصل، ومثل الجذام البرص الشديد وسائر ما تقطع العادة بانتقاله للفرع لا البرص الخفيف. انتهى. وقال الحطاب: وجذام أب، يريد أو أم أو أحد من الأجداد والجدات. نقله في التوضيح: وقال أبو علي: وإذا حدث الجذام بالأصل بعد بيع الفرع فالظاهر من الضابط المتقدم هو الرد، للخوف من أن يكون أصله قديما وتأخر ظهوره، وهذا ينقص من الثمن قطعا؛ لأن الجذام بلاء عظيم تنفر منه النفوس غاية، فمجرد الخوف ولو قل يكفي، وكذا

ص: 455

برص الأصل يدور على نقص الثمن وعدمه، وكل ما هو من هذا القبيل ولا ينبغي التوقف في هذا، وقال المواق: الباجي: إن كان في آباء الرقيق مجذوم أو مجذومة فهو عيب وخشا كان أو رائعا. رواه ابن حبيب عن مالك؛ لأنه يتقى سريانه. قال سيدي ابن سراج رحمه الله: وروي أنه ليس بعيب لحديث: لا عدوى، قال: ولا وجه للتعلق بهذا الحديث. انتهى. قال محيي الدين النووي: جمهور العلماء أن حديث: (لا عدوى)، وحديث: (لا يورد ممرض على مصح

(1)

)، حديثان صحيحان يجب الجمع بينهما، فحديث لا عدوى ناف لزعم الجاهلية أن العاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله، وحديث (لا يورد ممرض على مصح) أرشد به إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله تعالى وإرادته، قال: وهذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء ويتعين المصير إليه. الطرطوشي: من اكتوى أو رقى معتمدا على ما أجرى الله عادته وسنته عندها فهو معتمد على خالقه الله سبحانه، إنما يقدح في التوكل أن يَرَى البرء من قبل الاكتواء والرقى خاصة، وفي الحديث في الطاعون: (لا تقدموا عليه ولا تخرجوا فرارا منه

(2)

). انتهى. فيجوز الخروج بغير ذلك الوجه من حاجة تنزل به، ويجوز لمن استوخم أرضا أن يخرج منها إلى بلد يوافق جسمه، ويأثم من شرب سما أو ترك الأكل حتى مات، بخلاف من ترك الدواء.

وجنونه بطبع؛ يعني أن جنون الأصل ذكرا أو أنثى يرد به؛ لأنه يخشى سريانه للولد، وهذا إذا كان طبعا أي جبلة كوسواس أو صرع. لا بمس جن؛ يعني أن الجنون في أحد آباء الرقيق أو إحدى أمهاته إنما يرد به الرقيق حيث كان بطبع، لا إن كان بمس جن فلا يرد به الفرع لعدم سريانه له، قال عبد الباقي: إلا أن تجزم أهل المعرفة بسريانه. انتهى. وقال بناني: ذكر الزرقاني وغيره أن الطبع هو الجبلة، قالوا: وهو يكون وسواسا وصرعا، ومس الجان يكون بالصرع، وكأنه عندهم هو العارض أحيانا. قلت: والواضح من هذا أن الجنون بالطبع هو ما يكون من السكان في الإنسان، فمتى خلقه الله تعالى خلق سكانه معه فصار صرعهم ووسوستهم له

(1)

مسلم، السلام، رقم الحديث 2221. البخاري. الطب، رقم الحديث 5771.

(2)

الموطأ، ج 1 ص 562.

ص: 456

بالطبع؛ أي في أصل الخلقة، ومس الجان هو الصرع العارض من الجني الأجنبي الذي لا يسكن في المصروع، بل يرض له أحيانا. انتهى. من خط شيخنا ابن مبارك.

وسقوط سنين يعني أن سقوط سنين عيب في الرقيق وإن لم يكونا من الأضراس، قال المواق: الباجي: نقص الضرس الواحدة عيب في الرائعة حيث كان، وليس عيبا في غير الرائعة إلا أن يكون في مقدم الفم، أو ينقص ضرسان حيث كانا في الذكر والأنثى فإنه عيب، ثم قال: وهذه المعاني يعني العور وقطع الأصبع والبخر ونقص الضرس ونحو ذلك تعتبر بنقص الثمن، فما نقصه فهو عيب، وما لم ينقصه فلا حكم فيه للرد. انتهى. وقال عبد الباقي: وسقوط سنين وإن لم يكونا من الأضراس.

وفي الرائعة الواحدة؛ يعني أن الرائعة سقوط السن الواحدة فيها عيب ترد به ولو في غير مقدم، كوخش أو ذكر من مقدم فقط، وهذا تفصيل في مفهوم الرائعة فلا يعترض به، قاله عبد الباقي. وحاصل هذا: أن الرائعة ترد بسقوط سن واحدة، وغيرُها من ذكر أو أنثى إنما يرد بسقوط سنين مطلقا، كواحدة من المقدم فقط لا من المؤخر. والله سبحانه أعلم.

تنبيه: قال الرجراجي: ومن العيوب القَبَل في العينين أو في إحداهما، أن تميل إحدى الحدقتين إلى الأخرى، والميل في الخدين يكون أحدهما مائلا عن الآخر إلى جهة أخرى، والصور أن يميل العنق عن الجسد إلى أحد الشقين والجسد معتدل، والزور في المنكب أن يميل بكله إلى أحد الشقين، والصدر أن يكون في وسط الصدر إشراف كالحدبة، والفزر في الظهر أو بين كتفيه أن يكون هناك إشراف كالحدبة، والسعلة نفخ فاحش يتفاحش أمره.

تنبيه آخر: عدل المص عن قول ابن الحاجب: وسقوط ضرسين والواحد في العلي، لتعقبه بوجهين، أحدهما: تخصيص الأضراس، ثانيهما: عمومه في العبد والأمة، وهو خاص بالرائعة. قاله غير واحد. وقال الشيخ أبو علي: وفي الواضحة: والسن الناقصة عيب في الرائعة في مقدم الفم أو في مؤخره، وليست في الدنية ولا في العبد عيبا إلا في مقدم الفم، وما زاد على سن واحد فعيب في العلي والوخش من ذكر وأنثى في مقدم الفم ومؤخره. انتهى. ثم قال بعد جلب نقول:

ص: 457

وإذا ثبت هذا فقول المتن: وسقوط سنين هو على عمومه كما ذكر الناس، ولا فرق بين ضرس وغيره، وظاهر كلامهم كما رأيته أن السن تطلق على الضرس.

وشيب بها فقط؛ يعني أن له الرد بسبب وجود شيب بالرائعة الشابة، والظاهر أن المراد بالشابة الرائعة التي لا يشيب مثلها. وقوله: ولو قل؛ أي أنه لا فرق بين قليل الشيب وكثيرة في الرائعة، ورد بلو قول أشهب: إنه لا ترد الرائعة بقليل الشيب، ومفهوم قوله: فقط، أن الشيب ليس عيبا في غير الرائعة سواء كان قليلا أم لا ما لم ينقص الثمن، قال فيها: ولا ترد به غير الرائعة إلا أن يكون ذلك عيبا ينقص من ثمنها. انتهى. ويجري مثله في الذكر. قاله الخرشي. وقال المواق: من المدونة قال مالك: وترد الرائعة بالشيب؛ قال ابن القاسم: ولا ترد به غير الرائعة إلا أن يكون ذلك عيبا يضع من ثمنها. ابن المواز: وهذا في الشابة. وقال أشهب: لا ترد به إلا أن يكون كثيرا. انتهى. وقال عبد الباقي: وشيب بها أي بالرائعة الشابة التي لا يشيب مثلها فقط، لا بوخش وذكَرٍ مطلقا إلا أن يكثر جدا بحيث يقل ثمن كل واحد منهما وإن قل شيب الرائعة، خلافا لأشهب.

وجعودته؛ يعني أنه لو اشترى رقيقا فوجد في رأسه جعودة أي تجعيدا أي تكسيرا من لف على عود ونحوه في علي أو وخش فإن له الرد بذلك، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وجعودته؛ أي كونه غير مرجل أي مرسل بأن يكون فيه تكسيرات من لفه على عود ونحوه في رائعة أو وخش، لا من أصل الخلقة لأنه مما يمتدح به. انتهى. اللخمي: إن جُعِّد شعرها فكان ذلك مما يزيد في ثمنها رد به. أبو الحسن: التجعيد أن يكون شعرها أسبط فيفتل على عود؛ لأن الأجعد أحسن من الأسبط، وعليه فكان على المص لو قال: وتجعيده. قاله بناني.

وصهوبته؛ يعني أنه يرد بصهوبة الرأس، قال عبد الباقي: وصهوبته أي كونه يضرب إلى الحمرة في رائعة فقط، إن لم ينظره المشتري عند البيع، ولم تكن من قوم عادتهن ذلك فلا رد، ولا في وخش لعدم سلامتها منه عادة، ولعدم إرادتها للتمتع غالبا بل للخدمة، فزَعْمٌ أن ظاهر المص الإطلاق ممنوعٌ، وسنده ذكره ذلك في جزءيات الضابط الذي قدمه. انتهى. وقال المواق: من المدونة: من اشترى جارية فوجد شعرها قد سُوِّد أو جُعِّد فإن ذلك يرد به، والصهوبة الشقرة في

ص: 458

شعر الرأس، والأصهب من الإبل الذي يخالط بياضه حمرة. انتهى. وفي أبي الحسن: قال عياض: مفهوم المدونة أن الصهباء لو سُوِّد شعرُها لكان له القيام؛ لأن هذا غش وتدليس؛ قال أبو محمد: ابن حبيب: وذلك في الرائعة وليس هو في غيرها عيبا، ثم قال: قال ابن القاسم: ولا أرى أن يردها إلا أن تكون رائعة، أو يكون ذلك عيبا يضع من ثمنها. قاله بناني. وقال الخرشي: وصهوبته أي كونه يضرب إلى الحمرة، وشهولته ضربه إلى البياض؛ لأن النفس غالبا لا تحب من هذه صفته.

وكونه ولد زنى؛ يعني أنه إذا اشترى رقيقا فوجده ولد زنى فإن له الرد بذلك؛ قال ابن حبيب عن مالك: هو أي كون الرقيق ولد زنى عيب في الوخش والرائعة، ولهذا قال: ولو وخشا؛ أي وله الرد بكون الرقيق ولد زنى، ولا فرق في ذلك بين كونه عليا وكونه وخشا، وأشار بلو لخلاف ابن المواز، قال المواق: ابن المواز عن مالك: إذا وجد الغلام أو الجارية أولاد زنى فهو عيب في العلي ولا يرد بذلك في الوخش، إلا أن يكتمه البائع ذلك وهو عالم به فيرد بذلك في الوخش أيضا. انتهى. وقال عبد الباقي: وكونه أي المبيع ولد زنى ولو وخشا لكراهة النفوس لذلك عادة، ويتصور ذلك في بيع ولد من جارية مسلم، وفي مجلوب ثبت كونه ليس ابن أبيه في زعمهم. انتهى. وقال الخرشي: وكونه ولد زنى ولو وخشا أي لأنه مما تكرهه النفوس عادة؛ والضمير في كونه للمبيع. والوخش الخسيس من وخَشْتُ الشيء أخِشُه وخشا إذا خلطته فكأن الوخش هو الذي لا يعرف لخساسته؛ إذ هو من أخلاط الرقيق. انتهى. وقال التتائي: وله الرد في رقيق اطلع على كونه ولد زنى ذكرا أو أنثى ولو وخشا؛ وأشار بلو للخلاف فيه. انتهى. وقال الحطاب: والوخش الخسيس والدني؛ وعلم مما مر أن قول الحطاب عند قوله: ولو وخشا؛ الظاهر رجوعه للثالث. انتهى. فيه نظر؛ أي لأنه قد مر عن ابن القاسم أن الصهوبة إنما هي عيب في الرائعة لا في الوخش. والله سبحانه أعلم. وقوله: وكونه ولد زنى، هو أمر ظاهر، قال أبو علي: فإن اقتناء ولد الزنى تأنف النفوس منه سيما أهل الخير، سيما والخلاف فيه وفيمن حج بثمنة، وقد نص ابن رشد أن الحج به خلاف المستحب، نقله عن مالك. انتهى.

ص: 459

وبول في فرش؛ يعني أن من اشترى رقيقا فوجده يبول في الفراش له الرد بذلك، ومحل كونه له الرد بذلك إنما هو إذا صدر منه ذلك في وقت؛ أي زمن ينكر فيه بول الصغير في نومه غالبا، قال أبو علي مفسرا للمص: أي أن المبتاع إذا وجد الأمة تبول في الفراش في الوقت الذي إذا بلغه الصغير لا يبول فيه غالبا فإن له ردها، وحكم العبد كذلك، ابن حبيب: وسواء بيعت في ذلك الوقت أو بعد ما كبرت، وعلى البائع أن يبين وإن انقطع؛ إذ لا يؤمن عوده، وليس للمبتاع ردها حتى يثبت أنها كانت تبول عند البائع، فيردها لأنه مما يحدث في ليلة فأكثر، ولهذا قال:

إن ثبت عند البائع؛ أي إنما للمشتري الرد إذا ثبت بالبينة أنها كانت تبول عند البائع وإلا يثبت حصول ذلك عند البائع. حلف البائع أنه ما علم بحصول ذلك عنده ولا رد، ومحل حلف البائع ان أقِرَّت أي وضعت الأمة المبيعة عند غيره. أي غير المشتري وبالت عنده؛ أي ولا يحلف البائع بدعوى المشتري حتى توضع بيد امرأة أو رجل فيذكران ذلك، ومثل الأمة العبد، ولهذا قال عبد الباقي: إن أقرت الذات المبيعة عند غيره أي غير المشتري وبالت عنده، والمراد أنها بالت عند غير المشتري، فيصْدُق بالبائع إذا أخبر بأنها بالت عنده مع إنكاره بولها قبل بيعه إياها، فتجب عليه اليمين، وذلك أحرى من وجوبها عليه بإخبار غيره كما قاله الرهوني وهو ظاهر. ويقبل قول من أخبر ببولها من أمين وضعت عنده من امرأة أو رجل ذي زوجة، فيقبل خبر المرأة أو الزوج عن زوجته، ولو أقرت عند أمين ولم تبل لم يحلف البائع، وقال أحمد: قوله: إن أقرت، مثل ذلك ما إذا أقام بينة على البول عنده.

تنبيه: قال بناني: يَرِد هنا أنهم أطلقوا لزوم اليمين ويأتي أن البائع إنما يحلف على نفي المقدم إن رجحت العادة، قوله: أو شكت، والله أعلم. انتهى. قال الرهوني: وجه هذا الإشكال أن حدوث بول الكبير وإن كان ممكنا الغالب عدمه، قال المتيطى: قيل لمالك: أفترى البول مما يحدث؟ قال: لا، ويسئل عنه أصحاب الرقيق فهم أعرف بهذا. انتهى. فإيجابهم اليمين على البائع مع كون ما ادعاه نادرا [مخالف]

(1)

لما قرروه فيما يأتي، والجاري على ما يأتي أن تكون

(1)

في الأصل مخالفا والمثبت من الرهوني ج 5 ص 169.

ص: 460

اليمين على المشتري لشهادة العادة له مع عدم قطعها؛ قلت: يجاب عن هذا بأن الغالب إنما هو على تسليم أن البول وقع من العبد أو الأمة من غير قصد، ونحن لا نسلم ذلك، بل نقول: يحتمل أنه كذلك ويحتمل أن يكون فعله قصدا لكراهة المشتري ورغبة في البائع؛ إذ [كثيرا]

(1)

ما يقع نحو ذلك منه، فحصل الشك بسبب ذلك، فلا إشكال ولا معارضة. انتهى. والله سبحانه أعلم. وقال المواق: من المدونة: بول الجارية في الفراش عيب. ابن حبيب: وكذا الغلام إن فارقا حد الصغر جدا. اللخمي: ولو كان وخشا، ونحوه للباجي. قال: ولا يرد بالبول في الفراش إلا ببينة تشهد أنها كانت تبول عند البائع، ولا يحلف بدعوى المبتاع حتى توضع على يد امرأة أو رجل له امرأة، فيقبل قول المرأة أو الرجل عن زوجته في ذلك، ويجب اليمين على البائع، وليس بمعنى الشهادة، ولو جاء المشتري بقوم ينظرون مرقدها بالغداة مبلولا فلابد من رجلين لأن هذا بمعنى الشهادة ثم حينئذ يحلف البائع. انتهى.

وتخنث عبد؛ يعني أن العبد يرد بالتخنث أي التأنث وفحولة أمة؛ يعني أن الأمة ترد بالفحولة أي تشبهها بالذكر. إن كانت الأمة قد اشتهرت بالفحولة، هذا ظاهر المدونة، وقال عبد الباقي: وتخنث عبد وفحولة أمة إن اشتهرت تلك الصفة من كل منهما، والأظهر أن يقول: اشتهرا بألف التثنية كما في نقل المواق والشارح، ليلا يتوهم عوده للأمة فقط. انتهى. قال بناني: هو كذلك في نقل المواق عن الواضحة، لكنه خلاف ظاهر المدونة كما نقله المواق أيضا عنها، قال في التوضيح: أبو عمران: وإنما خص بهذا القيد الأمة ولم يجعل العبد مشاركا لها فيه لأن التخنث في العبد يضعف عن العمل وينقص نشاطه، والتذكير في الأمة لا يمنع جميع الخصال التي في النساء ولا ينقصها ذلك، فإن اشتهرت بذلك كان عيبا لأنها ملعونة في الحديث، وجعل في الواضحة الاشتهار عائدا على العبد والأمة، عياض: ورأيت بعض مختصري المدونة اختصرها على ذلك. انتهى. فتبين بهذا أن الإفراد في الاشتهار كما في المؤلف هو الموافق لظاهر المدونة، ونحوه لابن

(1)

في الأصل كثير والمثبت من الرهوني ج 5 ص 169.

ص: 461

الحاجب. انتهى كلام بناني. وقال الرهوني: هو وإن كان ظاهر المدونة لكن ما قاله الزرقاني من أن الأظهر أن يقول المص: اشتهرا، بالتثنية هو الصواب؛ لأن المص ذكر التأويلين، وسيأتي أن الأول منهما حمل المدونة على الوفاق لما في الواضحة وكلام الواضحة، صريح في أنه شرط فيهما، فقول المدونة: إن اشتهرت، عند صاحب التأويل الأول غير مقصود بل العبد مثلها، ولذلك اختصرها بعضهم إن اشتهرا كما نقله بناني نفسه عن عياض. فتأمله. انتهى.

وهل هو الفعل أو التشبه؛ يعني أن شارحي المدونة اختلفوا في فهم المدونة، هل المراد بالأمرين المذكورين من تخنث العبد وفحولة الأمة الفعل بأن يؤتى الذكر، وتفعل الأنثى فعل شرار النساء أي المساحقة، وهي المضاربة بالفروج؟ أو المراد بهما التشبه بأن يتكسر العبد في معاطفه ويؤنث كلامه كالنساء، وتغلظ الأمة كلامها كالرجل. وقوله: تأويلان. مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، الأول: تأويل عبد الحق. والثاني: لابن أبي زيد، سببهما أنه في المدونة عبر بتخنث العبد وتذكير الأمة، وفي الواضحة صرح بأنهما يردان بالفعل دون التشبه، فجعله عبد الحق تفسيرا لها، وجعله ابن أبي زيد خلافا، واحتج له أبو عمران بأنه لو رأى الفعل لكان عيبا ولو مرة واحدة ولا يحتاج إلى قيد اشتهار في الأمة؛ نقله في التوضيح. انتهى. وقال الرهوني: قول بناني: الأول تأويل عبد الحق إلخ، موافق لما في التوضيح، ونصه: وجعل عبد الحق الواضحة مفسرة للمدونة، ونحوه لابن ناجي وذلك كله مخالف لما في ابن عرفة، فإنه قال: الشيخ: هذا أي ما في الواضحة خلاف المدونة، ونقله عبد الحق، وقال عن بعض شيوخه: ليس خلافها إنما شرط فيها الشهرة لأنها نسبة بغير بينة. قلت: فيلزم في العبد، قال في تهذيبه: قول الشيخ أصوب. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا الله عنه: الظاهر ما قاله الجماعة؛ لأن قول عبد الحق: قول الشيخ أصوب، يحتمل أن المراد بالشيخ بعض شيوخه الذي نقل عنه الوفاق ولا يتعين كونه ابن أبي زيد؛ إذ الكلام لعبد الحق لا لابن عرفة، وهذا لا يتضح إلا بنظر ما في التهذيب وأنا لم انظره. والله تعالى أعلم.

تنبيهات: الأول: قال ابن ناجي في تأويل أبي محمد وأبي عمران بالخلاف: إنما شرط الشهرة في الأمة دون العبد لأنها ملعونة في الحديث. قال الرهوني: لم يتضح لي معناه والمتبادر منه أن

ص: 462

لعن المرأة التشبهة بالرجال في الحديث متوقف على الشهرة، فإن كان هذا مرادهما فانظر ما الحديث الذي أشار إليه؟ والذي وقفت عليه من الأحاديث في ذلك حديث ابن عباس مرفوعا: لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء. وأخرجه الإمام أحمد والبخاري وأبو داوود والترمذي وابن ماجه، وحديثه أيضا مرفوع لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء أخرجه أبو داوود والترمذي وأخرجه البخاري، فكل من الرجل والمرأة ملعون للتشبة، من غير تقييد بالشهرة فيهما. فتأمله انتهى. الثاني: قول بناني: واحتج أبو عمران بأنه لو [رأى]

(1)

الفعل لكان عيبا ولو مرة واحدة، ولا يحتاج لقيد الاشتهار، قال ابن يونس عن أبي عمران: وما ذكره ابن حبيب غلط بيِّنٌ ولو كان كما قال ما شرط الشهرة بذلك؛ لأنها إذا فعلته مرة واحدة فهو عيب، وسلمه ابن يونس وغيره، وقد علمت جوابه من نقل ابن عرفة السابق، وهو قوله: إنما شرط الشهرة فيها لأنها نسبة بغير بينة، قلت: فيلزم في العبد. انتهى. الثالث: قال المناوي في شرحه الصغير (لعن الله المخنثين من الرجال)

(2)

من خنث يخنث إذا لان وتكسر تشبها بالنساء، فإن كان خلقيا فلا لوم عليه، والمترجلات من النساء أي المتشبهات بالرجال، فلا يجوز لرجل تشبه بامرأة في نحو لباس وهيئة ولا عكسه، لما فيه من تغيير خلق الله، فبيَّن معنى التخنث ولم يتعرض لضبط خنث، وفي المصباح ما نصه: خنِثَ خَنَثا فهو خنيث، مثل تعب إذا كان فيه لين وتكسير ويتعدى بالتضعيف، فيقال: خنَّث غيره إذا جعله خنيثا واسم الفاعل مخنث بالكسر واسم المفعول بالفتح والخناث والخناثة بالكسر وخنَّث الرجل كلامه بالتثقيل إذا شبهه بكلام النساء لينا ورخامة، فالرجل مخنث بالكسر. انتهى.

وقلف ذكر أو أنثى مولد أو طويل الإقامة؛ يعني أن الرقيق إذا كان مولدا ببلد الإسلام أو طويل الإقامة بين المسلمين واطلع المشتري على ترك ختان الذكر وخفاض الأنثى، فإنه يكون عيبا حيث

(1)

في الأصل أراد والمثبت من بناني ج 5 ص 130.

(2)

أبو داود، كتاب البيوع، رقم الحديث 3492.

ص: 463

فات وقته منهما بحيث يخشى مرضه بسببه إن فعله بهما، وإلا فليس بعيب. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي مفسرا لكلام المص: ورد بالاطلاع على قلف -بفتح القاف واللام- ذكر أي ترك ختانه، وعلى ترك خفاض الأنثى مسلمين رائعين أو وخشين، على المعتمد في الأنثى من ثلاثة أقوال، مولد كل منهما ببلد الإسلام، وفي ملك مسلم أو طويل الإقامة بها بين المسلمين وفي ملكهم، كما في ابن عرفة، وفات وقته منهما بأن بلغا طورا يخشى مرضهما إن ختنا؛ وفهم مما قررنا أنه ترك ثلاثة قيود: كونهما مسلمين، وفوات وقت الفعل، وكونهما ولدا في ملك مسلم أو طويلي الإقامة في ملك مسلم، فمتى انتفت أو بعضها لم يكن عيبا فلا رد به، بل وجوده عيب في المجلوب خاصة، كما أشار إليه بقوله: وختن مجلوبهما؛ يعني أن الأمة أو العبد المجلوبين إذا وجدا مختونين فإن ذلك يكون عيبا فيهما، والمجلوب هو الذي يجاء به حديثا من بلد الكفار، ويشمل ذلك من جيء به كافرا من بلد الكفار، ومن أسلم ببلد الحرب وطالت إقامته به، كما في الخرشي، وإنما كان ختن المجلوب عيبا لأنه يخاف أن يكون أبق إليهم من المسلمين، فإن قلت: كيف يسلم بدار الحرب ويسترق مع قول المص: وعبد الحربي يسلم حر إن فر أو بقي حتى غنم؟ قلتُ: إذا أسلم وأسلم سيده قبل أن يغنم كان رقا له. قاله غير واحد. وقال المواق: قال في كتاب محمد وابن حبيب: إن اشترى نصرانيا فوجده مختونا فليس بعيب، قال ابن حبيب: وكذلك النصرانية يجدها مخفوضة. قال: وذلك إذا كانا من رقيق المسلمين أو من رقيق العجم الذين عندهم، وأما المجلوبون فهو عيب. انتهى. وقال أبو علي: قال ابن المواز: قال مالك: وليس على من اشترى جارية للبيع أن يخفضها إلا أن يريد حبسها. انتهى. وقال عبد الباقي: إنما يطلق الخفاض [على الأنثى]

(1)

، وأما الختان فعلى الذكر، وكذا على الأنثى على قلة، كما في المصباح، وقد ذكر المتبولي في شرح حديث اخفضي ما نصه: روى أحمد وأبو داوود عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خاتنة تختن فقال: إذا ختنتي فلا تنهكي. انتهى.

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 130.

ص: 464

كبيع بعهدة ما اشتراه ببراءة، تشبيه في قوله: ورد بعدم مشروط فيه غرض، والمراد بالعهدة عدم البراءة أو براءة لا تمنع الرد، كتبرئة في رقيق من عيب يعلم به أو لا يعلم به حيث لم تطل إقامته، ومعنى كلامه: أن من اشترى عبدا أو أمة على البراءة من العيوب ثم باعه بالعهدة المذكورة فإن للمشتري الرد بذلك؛ لأنه يقول: لو علمت أنك ابتعته بالبراءة لم أشتره منك إذ قد أجد به عيبا وتفلس أو تكون عديما فلا يكون لي رجوع على بائعك، ثم إن قوله: كبيع، بغير تنوين لأنه مضاف إلى ما أي كبيع ما اشتراه ببراءة بعهدة، والفصل بين المضاف المشبه للفعل والمضاف إليه بالجار والمجرور جائز في السعة، قال ابن مالك:

فصل مضافٍ شبه فعلٍ ما نصب

مفعولا أو ظرفا أجِز ولم يُعَب

قاله الخرشي. وقال المواق: سمع أشهب من ابتاع عبدا بالبراءة أو بيع ميراث فلا يبعه بيع الإسلام وعهدته حتى يبين أنه ابتاع بالبراءة، ولو أخذه بذلك بعد العقد، يريد فسخ البيع لم يفسخ إنما عليه أن يبين، ثم للمبتاع رده إن شاء، وكذلك في كتاب محمد بن يونس: وذلك كعيب كتمه لأنه يقول: لو علمت أنك ابتعته بالبراءة لم اشتره منك؛ إذ قد أصيب به عيبا وتفلس أنت أو تكون عديما فلا يكون لي رجوع على بائعك. قال بعض أصحابنا: يجب على هذا أن لو باع عبدا قد وهب له أن يكون للمشتري متكلَّم في ذلك؛ إذ لو ظهر له عيب لم يكن له تكلم للواهب، وانظر عكس هذا إذا باع بالبراءة وقد اشترى ببيع الإسلام وعهدته، فَرَوَى عن مالك: أنه بيع فاسد يفسخ، وروَى غيره: أنه يكره. انتهى. وفي المتيطي: أن المشتري يخير في الرد وعدمه. قاله الخرشي. وقوله: ما اشتراه ببراءة. قال عبد الباقي: أو وهب له أو ورثه أو اشتراه من ميراث.

تنبيه: قال ابن يونس: قال بعض فقهائنا: لو ابتاع أختين ولم يعلم أنهما أختان فهو عيب يرد به؛ لأنه إذا وطئ إحداهما لم تحل له الأخرى حتى يحرم فرج الأولى، وقيل: هذا خفيف إذ

ص: 465

بقي له فيها أكثر المنافع سوى الوطء، والأول أبين. انتهى. وكذا باقي محرمتي الجمع. ثم تكلم على العيوب الخاصة بالدواب ولذا عطفه مكررا بكاف التشبيه، فقال:

وكرهص؛ يعني أن الرهص عيب ترد به الدواب. قال عبد الباقي: وكرهص وقرة تصيب باطن الحافر من إصابة حجر محرك الهاء من باب فرح، وحكي سكونها. انتهى. وفي القاموس: رهص الفرس كعني وفرح فهو رهيص ومرهوص أصابته الرهصة، وهي وقرة تصيب باطن حافره، وأرهصه الله، وخف رهيص أصابه الحجر. انتهى. وقال المواق: الباجي: ما كان من عيوب الدواب حادثا كالرهص والدبر فإنه يرد به. انتهى.

وعثر؛ يعني أن العثر في الدواب عيب يرد به، قال عبد الباقي: عثر كضرب ونصر وعلم وكرم عثرا وعثارا [وتعثر كبا]

(1)

قاله في القاموس. وهذا إن ثبت عند البائع، أو قال أهل النظر: إنه لا يحدث بعد بيعها، أو كان بقوائمها أو غيرها أثره، وإلا فإن أمكن حدوثه حلف البائع ما علمه عنده، فإن نكل حلف المبتاع ورد إن كانت دعواه دعوى تحقيق، وإلا رد بمجرد نكول البائع. انتهى. وقال المواق: الباجي: ما ينقص البيع ولا ينقص جسده كالإباق في الرقيق والزنى في الأمة والحرن في الفرس والنفار المفرط في الدابة وقلة الأكل المفرط فيها فذلك عيب، وأما عثار الدابة فعن ابن كنانة: إن علم أن ذلك كان عند بائعها ردت، وإن لم يعلم وكان عثارها قريبا من بيعها حلف البائع ما علم بذلك، وإن ظهر ذلك بعد زمان يحدث العثر في مثله فلا يمين عليه، وهذه العيوب كلها إذا ثبت أنها كانت في ملك البائع، فإن لم يثبت ذلك ودعا إلى يمين البائع أنه لم يكن عنده، ففي المدونة لمالك في مسألة الإباق: أنه لا يمين عليه؛ لأن ذلك داعية إلى أن يحلفه كل يوم مرات. انتهى.

تنبيه: قال بناني: وجدت بخط ابن غازي ما نصه: قيل: العمل اليوم أن من اشترى فرسا فأقام عنده شهرا لم يمكن من رده بعيب قديم، فانظر هل يصح هذا؟ انتهى. قلت: وقد استمر هذا العمل ففي نظم العمليات:

(1)

في الأصل وتعثرا كما والمثبت من القاموس مادة عثر.

ص: 466

وبعد شهر الدواب بالخصوص

بالعيب لا ترد فافهم النصوص

انتهى كلام بناني. وقال الشيخ سيدي أحمد بن عبد العزيز الهلالي: وليحذر المفتي من أمور جرى بها العمل في بعض البلدان ولم يظهر لها مستند، منها: ما جرى به عمل فاس من عدم رد الدابة بالعيب إذا قام به المشتري بعد شهر، ولا نعرف لذلك مستندا إلا فتوى صدرت من سيدي عبد الله العبدوسي، فجعلوها قاعدة مطردة، واستثنى منها معاصر شيوخنا سيدي الحسن بن رحال الذباب، فإنه ترد به الدابة ولو بعد أكثر من شهر؛ لأنه لا يظهر إلا بعد طول، والصواب ركوب جادة المذهب، وترك تلك الفتوى خاصة بالنازلة التي وقعت فيها، وأمانة السيد أبي محمد العبدوسي لا تنكر، وليست تقتضي أن يترك المذهب كله وتلغى نصوص جميع أئمة المذهب لفتواه التي لا يظهر لها مستند، ولعله راعى شيئا لا يوجد عند من يريد تعدية فتواه. انتهى. والله سبحانه أعلم.

وحُرْن؛ يعني أن الحرن عيب ترد به الدواب، قال في القاموس: حرنت الدابة كنصر وكرم حرانا بالكسر والضم فهي حَرُون، وهي التي إذا اشتد جريها وقفت، خاص بذوات الحافر. انتهى. قال مقيده: ولا يتوهم من هذا تخصيص الرد بذات الحافر، بل هو عام في جميع الحيوان؛ وفي المصباح: وحرنت الدابة حُرُونا من باب قعَد وحِرَانا بالكسر فهي حَرُون وزان رسول وحُرْن وزان قُرْب لغة. الجوهري: حرن الفرس يحرن ويحرن حرونا وحرنا بالضم. انتهى. ومنه يعلم ضبط كلام المص، وأنه لا يجوز بفتح الحاء كما هو الجاري على الألسنة. والله تعالى أعلم. وقال عبد الباقي عند قوله: وحرن، وهو ما لا ينقاد وإذا اشتد به الجري وقف، ودخل بالكاف ما شابه الثلاثة كدبر وتقويس ذراعين وقلة أكل ونفور مفرطين.

وعدم حمل معتاد؛ يعني أن من اشترى حيوانا فوجده لا يحمل ما يحمل أمثاله له الرد بذلك، قال في المسائل الملقوطة: قال في وثائق ابن فتحون: من ابتاع دابة أو ناقة وحمل عليها حمل مثلها ولم تنهض به ولا يقعدها عنه عجف ظاهر فله الرد بذلك عند مالك. قاله الحطاب. وقال

ص: 467

الخرشي: وعدم حمل معتاد؛ أي لا تحمل حمل مثلها وهي مما تراد للحمل. الباجي: فإن كان له عرف وعادة مثل أن يشتري ناقة [تحمل]

(1)

على مثلها، فلما أن جاء يحمل عليها لم تنهض، فلمالك في الموازية: له الرد، يريد إلا أن يكون عذر مانع من عجف أو مرض. لا ضبط؛ يعني أنه لا رد بالضبط، والأضبط هو الذي يعمل بكلتا يديه، والأنثى ضبطاء، قال عبد الباقي: لا رد في ضبط وهو عمله بكلتا يديه؛ لأنه غير عيب، ويسمى أعسر يسر؛ أي يتيسر له العمل باليمنى مثل اليسرى، كما قاله العدوي. وكان عمر رضي الله عنه كذلك، وهذا حيث لم ينقص قوة اليمين عن قوتها المعتادة لو كان العمل بها وحدها أقوى وإن ساوت اليسار الآن، وإلا فعيب، وماضيه بوزن علم. انتهى. وقال المواق: قال ابن القاسم: إن انتفع بيديه جميعا فلا أرى أن يرد؛ قال ابن رشد: إلا أن تنقص يمناه عن يمنى من لا يعمل بيسراه فيكون عيبا. قاله ابن حبيب. وقوله: صحيح، مفسر لقول ابن القاسم.

وثيوبة؛ يعني أنه لا رد بالثيوبة، قال عبد الباقي: ولا رد بالاطلاع على ثيوبة فيمن يفتض مثلها ولو رائعة وتحمل على أنها قد وطئت. انتهى.

إلا فيمن لا يفتض مثلها، قد علمت أن الثيوبة ليست بعيب وإنما ذلك حيث كانت يفتض مثلها، وأما إن كانت لا يفتض مثلها لصغرها فعيب في رائعة مطلقا، كوخش إن اشترط أنها غير مفتضة ذكره في توضيحه متعقبا به إطلاق ابن الحاجب، ثم تبعه هنا.

وعدم فحش ضيق قبل؛ يعني أن من اشترى جارية لا يردها بضيق قبلها ضيقا غير متفاحش، فإن تفاحش ضيقه فعيب بجارية وطء فيما يظهر؛ لأنه كالنقص في الخلقة، وكذا السعة المتفاحشة، واختلاط مسلكي البول والوطء، لجري العادة بالسلامة منه، فإن تنازعا في تفاحشه نظرها النساء، وفي بعض النسخ: وعدم صغر بدل ضيق. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: وعدم فحش صغر قبل؛ أي ولا يرد الأمة بالاطلاع على عدم فحش صغر قبل وإن تفاحش فيصير

(1)

كذا في الأصل والخرشي الكبير مخطوط.

ص: 468

كالنقص، وفي بعض النسخ ضيق. انتهى. وقال المواق: ابن المواز: قال مالك في الصغيرة القبل: ليس ذلك بعيب إلا أن يتفاحش فيصير كالنقص. انتهى.

وكونها زلاء، عطف على ضيق يعني أنه لا يرد الأمة بالزلل غير المتفاحش، وأما الزلل المتفاحش فعيب يوجب الرد، والزلاء هي قليلة لحم الأليتين، وتسمى الرسحاء براء فسين فحاء مهملات. قاله عبد الباقي. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: من اشترى جارية فوجدها رسحاء وهي الزلاء التي لا عجيزة لها فليس بعيب. وقاله مالك. ابن حبيب: هو عيب إلا أنه لا يخفى على المبتاع فلا يرد به، وهو قول حسن، وإن كان مالك لم يوجب في المعيب الظاهر إلا اليمين. قال بعض شيوخنا: ولو كانت غائبة فاشتراها على صفة فوجدها زلاء كان له الرد بذلك على ما ذكره ابن حبيب. انتهى.

وكي لم ينقص؛ يعني أنه لا رد بكي لم ينقص خلقة ولا ثمنا ولا جمالا، وأما لو نقص الخلقة أو الثمن أو الجمال فهو عيب، وهذا هو الظاهر. قاله بناني. وقال المواق عند قوله: وكي لم ينقص، قال مالك: وقد يكون المعيب الخفيف بالعبد والجارية مثل الكي الخفيف مما لا ينقص الثمن وليس بفاحش فلا يرد به، وإن كان عند النخاسين عيبا. قال ابن القاسم في العتبية وغيرها: إلا أن يخالف الكي لون الجسد فيرد به، أو يكون متفاحشا في منظره، أو يكون كثيرا متفرقا وإن لم يخالف اللون فليرد به، أو يكون في موضع يستقبح مثل الفرج وما والاه، أو في الوجه فإنه يرد به. انتهى. وقال أبو علي: وكي لم ينقص له وكذلك الكي الذي لا يحط من الثمن لا يكون عيبا، وهذا هو التحقيق لأن غيره يرجع إليه، قال أبو الحسن عند قولها: ولا يرد بالكي الخفيف، وشبهه الذي لم ينقص الثمن ولا يتفاحش، وإن كان عثد النخاسين عيبا أو يقال: معنى قوله: وإن كان عند النخاسين عيبا، معناه: وليس بعيب عند غيرهم، نقله أبو علي، وحذفت المعطوف عليه قوله: أو يقال، عمدا للاقتصار على المقصود منه؛ وقال الخوشي: وكي لم ينقص أي ليس بعيب، وهذا عام في أفراد الحيوان كلها ولا يخص الإنسان. انتهى المراد منه. وقال أبو علي: الخيلان بالوجه والجسد إن نقصت من الثمن عيب وإلا فلا. انتهى. وقال بعد جلب كثير من

ص: 469

النقول: وإذا ثبت هذا فلا فرق بين ذكر وضده ورفيع وضده؛ إذ المدار على نقص الثمن. انتهى. وقال الحطاب: وكي لم ينقص، قال في الشامل: لا كي خف ولم ينقص الثمن، وقيل: إلا أن يخالف لون الجسد، أو يكون متفاحشا في منظره، أو كثيرا متفرقا، أو في الفرج وما والاه، وفي الوجه، وقيل: من البربر فلا رد، بخلاف الروم. انتهى. قوله: النخاسين جمع نخاس، قال في القاموس: النخاس بياع الدواب والرقيق. انتهى.

وعلم مما قررت أن قوله: وكي، عطف على قوله: لا ضبط، لا رد باطلاعه على تهمة سبقت له عند البائع بسرقة حبس فيها. أي بسببها، وأولى إن لم يحبس ثم ظهرت براءته منها، بثبوت أن غيره سرق ما اتهم به، نقله ابن عرفة عن ابن يونس، ونقله الشارح بلفظ، مثل أن يثبت أن غيره سرق ما اتهم به؛ والأول يقتضي حصر ظهور البراءة فيما ذكر، لإسقاطه لفظ مثل، وأن المسروق منه إن قال: وجدت متاعي عند شخص آخر على وجه السرقة أو غيرها، أو وجدته عندي لم يسرق، فإن براءة العبد من العيب لا تحصل بذلك، مع أن الظاهر أن المسروق منه لا يتهم في إقراره المذكور؛ وأشعر كلام المص بأن العبد لو كان متهما في نفسه أو مشهورا بالعداء فعيب يرد به، وهذا غير ما تقدم من قولي: وأولى إن لم يحبس. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: ولا رد باطلاعه على تهمة سبقت له عند البائع بسرقة حبس فيها ثم ظهرت براءته منها بأن ثبت أن غيره سرق ذلك الذي اتهمه به، أو يقول: وجدت متاعي عند شخص آخر على وجه السرقة، أو على غيرها، أو عندي ولم يسرق، ولا مفهوم لسرقة. انتهى. وقال أبو علي عند قوله: وتهمة بسرقة إلخ، هذه مسألة المدونة، قال فيها: وإذا اتهم عبد بسرقة فحبس فيها ثم ألفي بريئا لم يكن ذلك عيبا وقد ينزل ذلك بالحر فلا يجرحه. انتهى. وقول الخرشي: ولا مفهوم لسرقة، هو للفيشي ودليله قول ابن يونس: قال أشهب: في الجارية والعبد يشربان المسكر ويؤخذان في شربه وإن لم يوجد في فمهما من رائحته شيء فهو عيب يردان به لأن الخمر لم تظهر البراءة منها هنا كما في السرقة.

تنبيه: في نقل أبي علي: اتفقوا أن الحمل عيب في الرائعة. التونسي: وهو في ذات زوج أو معتدة أو ظاهرة الزنى لغو. وما لا يطلع عليه إلا بتغير؛ يعني أن من اشترى شيئا فوجد به عيبا وذلك

ص: 470

العيب لا يطلع عليه إلا بعد تغير ذات المبيع ليس له أن يرده، وهذا عام في الحيوان وغيره، قال الخرشي: يعني أن ما لا يطلع على وجوده إلا بعد تغير في ذات المبيع فإنه لا يكون عيبا على المشهور، سواء كان حيوانا أو غيره كخضرة بطن الشاة وكسوس الخشب فإنه لا يطلع عليه إلا بعد شقه، وفساد باطن الجوز هندي وغيره، والتين ومر قثاء وبطيخ وجده غير مستو، قال المصنف: وينبغي العمل بشرط السلامة من ذلك. انتهى. أي في جميع ما ذكر؛ لأنه شرط فيه غرض ومالية والعادة كالشرط، وما مشى عليه المص هو المشهور، وقيل: يرد به، ثالثها: إن كان قليلا يمكن اختباره بالحضرة كقثاءين أو جوزتين دون كسر رد لاما كثر، إلا أن يكون كله فاسدا أوأكثره، وإن كان العيب يستتر في كثير فلا رد. انتهى. وقال أبو علي عن أشهب: إن أمكن معرفة مره بإدخال عود رقيق، فله الرد في اليسير كالقثاء والاثنين ولا ترد الأحمال؛ محمد: إلا أن يكون أكثره مرا، وإذا لم يكن له الرد فيما ذكر فإنه لا قيمة للمشتري في نقص هذه الأشياء بعد تغيرها، مالك: لأنه أمر دخلا عليه. قاله التتائي. وقال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: كل ما بيع من غير الحيوان وفي باطنه عيب من أصل الخلقة يجهله المتبايعان ولا يعلم بعيبه إلا بعد الشق أو الكسر مثل الخشب وشبهها يشق فيجد المبتاع في داخلها عيبا باطنا فهو لازم للمشتري، ولا شيء على البائع من رد ولا قيمة عيب، وكذلك قال مالك في الرانج بفتح الراء والنون والجيم وهو الجوز الهندي، والجوز يوجد داخلُه فاسدا، والقثاء يوجد مرا، فلا يرد وهو من المبتاع، وسمع أشهب: الشاة يجدها عجفاء أو جوفها أخضر ليس له ردها، وعن يحيى بن عمر فيمن اشترت رمادا وقال لها البائع: هو جيد، فقالت: بيضت به الغزل فلم يخرج جيدا، فإن بقي منه شيء بيض به غزل فإن خرج جيدا فلا شيء على البائع وإلا رجعت عليه بالثمن؛ البرزلي: هذا مثل ما تقدم في الزريعة إذا زعم المشتري أنها لا تنبت يؤخذ بعضها ويختبر، والجبن اليابس يوجد فاسدا أفتى ابن لبابة بأنه يرد لأنه مما عملته الأيدي، وليس كالخشبة والبيض وما أشبه ذلك، وكذا قال أيضا: في الحديد إذا اشتراه ولا يعلم أنه كان لينا أوأحرش فيدخل العمل فيخرج أحرش متقطعا، فإنه يجب الرد وهو عيب. انتهى. وقول المدونة: من غير الحيوان،

ص: 471

الوانوغي: زاده أبو سعيد، واستظهر هو أي الوانوغي أنه مفهوم موافقة، وقال ابن شَأْس: الفَرْعُ الثاني في حكم العيوب التي لا يمكن أن يطلع عليها إلا بعد تغير هيئة المبيع كخشبة تشق فيوجد باطنها مسوسا مثلا، وكذا الجوز والتين وشبه ذلك، وكذلك جلود اشتريت فلم يمكن الاطلاع على ما فيها من عيب إلا بعد دباغها، فما كان من هذا الجنس فلا يثبت للمشتري به خيار ولا رد به في الرواية المشهورة، قال فيها: لأنه أمر ثابت يدخل عليه البائع والمشتري، وفي كتاب محمد: إن وجد بطن شاة اشتراها أخضر يظن أن ذلك من ضربة، أو قيل: أنها سمينة، فاشتراها فوجدها عجفاء فلا كلام له، قال ابن رشد: معنى قوله: سمينة، أنه قول غير البائع، وأما لو قاله البائع لكان له الرد بما بين الصحة والداء، وقال أبو الحسن: قال ابن رشد: من قال لصاحب غنم: بعني شاة سمينة أضحي بها، ففعل فذبحها فوجدها عجفاء رجع بجميع الثمن، وإن قال: بعني هذه أضحي بها، وكان في أيام الأضحى يجدها عجفاء فلا يرجع بشيء إلا أن يقر البائع بعجفها. انتهى؛ يعني والله أعلم أن البائع يعلم بعجفها حين المبيع، وفي كلام بعضهم أن الحيوان يخالف غيره لأن ذلك في الحيوان يظهر على سطح البدن، الشيخ: وقد يخفى أيضا إذا كان بالقرب، وقال مالك: في العتبية كل ما يباع فكان البائع والمبتاع في معرفته سواء لا يظن أن البائع عرف في سلعته ما لم يعرف المبتاع فإن المبتاع لما اشترى ضامن ليس إلى رده سبيل، وقال أبو علي بعد جلب كثير من النقول: وقد ظهر من هذا كله أن كل ما يمكن الاطلاع عليه من البائع أو المشتري أو منهما فيرد به وإلا فلا. انتهى.

ورد البيض؛ هذا مفهوم قوله: إلا بتغير؛ يعني أنه يرد البيض لفساده لأنه قد يظهر قبل كسره، فإن كسره المبتاع فلا شيء عليه، وإذا رد رجع المبتاع بجميع ثمنه إن لم يجز أكله لنتنه، سواء كسره المبتاع أم لا، دلس بائعه أم لا، أو جاز أكله مع عيبه كالمحروق إذا دلس بائعه، سواء كسره المبتاع أم لا، فإن لم يدلس رجع المبتاع بما بين قيمته سالما ومعيبا حيث كسره، فإن كانت قيمته صحيحا عشرة ومعيبا ثمانية رجع بنسبة ذلك من الثمن، وهو الخمس في المثال المذكور، فإن لم يكسره رده لأنه عيب، فتأمل هذه الصور الثمانية الحسان، وما ذكر من أنه يقوم يوم البيع واضح في غير ما فيه حق توفية لدخوله بالعقد في ضمان المشتري، وأما ما فيه حق توفية

ص: 472

فيوم القبض، ابن القاسم: هذا أي رد البيض إن كسره بحضرة البيع، فإن كان بعد أيام لم يرد لأنه لا يُدرَى أفسَد عند البائع أو المبتاع. وقاله مالك. انتهى. وقال الأجهوري: ظاهر الشارح أن كسره من المخرج عن المقصود أي لأنه يقصد للصبغ وللترقيد ولأكله، فإذا كسر فات الأولان وبقي الثالث. انتهى. وفي القاموس والمرقد بالضم دواء يرقد شاربه. انتهى.

وعيب قل بدار؛ يعني أنه إذا اشترى دارا فوجد فيها عيبا قليلا كسقوط شرافة فإنه لا رد له ولا أرش له، واعلم أن المذهب وجوب اقتضاء العيب الرد ولو قل، سوى الدار لأن عَيْبَها يُصْلَحُ ويزول بحيث لا يبقى منه شيء بخلاف غيرها وهذه العلة صححها ابن محرز بعد رده ما عللت به من العلل غير هذه، فقد قيل: إنها لا تنفك عن عيب فلو ردت باليسير لأضرت بالبائع، وعلل عبد الحق الدور بأنها تشترى للقنية بخلاف غيرها، وقيل: غير ذلك؛ قال ابن غازي:

وَاعْتَرَضَ ابنُ مُحْرِزٍ جُلَّ العِلَلْ

وَصَحَّحَ الإْصْلاحَ يُذْهِبُ الْخَلَلْ

وقسم ابن أبي زيد وعبد الحق عن بعض شيوخه عيب الدار ثلاثة أقسام: يسير جدا لا رد به ولا أرش، ومتوسط فيه الأرش، وكثير ترد به، فقول المص: وعيب قل بدار، شامل للقسمين الأولين، فسقوط شرافة ونحوه هو من العيب القليل الذي لا ترد به ولا أرش فيه، وأما العيب القليل الذي لا ترد به وفيه الأرش فأشار إليه بقوله:

وفي قدره تردد؛ يعني أنه اختلف في قدر القليل الذي لا ترد به الدار وفيه الأرش، فقيل: مرجعه للعادة، وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما دون الثلث والثلث كثير، وقال ابن عتاب: ما دون الربع، وقيل: ما نقص عن العشرة من المائة، وهذا الذي قررت به المص قرره به غير واحد؛ وقال بناني: الذي استظهره ابن غازي والحطاب هو حمل القليل في كلام المص على المتوسط فقط، بدليل قوله: ورجع بقيمته، بإضافة قيمة إلى ضمير العيب كما هو في أكثر النسخ، ويؤخذ من المص عدم الرد باليسير الذي لا ينقص الثمن من باب أحرى وهو ظاهر؛ إذ قد يقال: إن الذي

ص: 473

لا ينقص الثمن ليس بعيب، وهو أحسن من تكلف الزرقاني. انتهى. ومعنى قوله: ورجع بقيمته، أن المشتري لا يرد الدار ولكن يرجع بقيمة العيب المذكور.

كصدع جدار لم يخف عليها منه؛ مثال للقليل الذي لا ترد به الدار وفيه الأرش؛ يعني أنه إذا اشترى دارا فوجد جدارا من جدرانها فيه صدع لم يخف على الدار منه؛ أي من الصدع السقوط، سواء خيف على الجدار الهدم أم لا، ومثل الدار بقية العقار كما يفيده ابن عاصم لتعبيره بالأصول، ويفيده أيضا ابن رشد وابن الحاجب والمتيطي، وعلم مما مر عن المص وغيره أنَّ قولَ عبد الباقي: وبقيد الجميع كالمص بما لم يبلغ بالنقص المذكور والصدع إلى نقص الثمن. انتهى. غيرُ صحيح، وبجعلِ التردد في القليل الذي فيه الأرش يعلم منه التردد في الكثير، لكونه ما زاد على المتوسط على كل الأقوال. قاله عبد الباقي. وفي بعض النسخ: بحذف الضمير في قيمة، وإضافته إلى كصدع، وأشعر قوله: ورجع بقيمته، أنه لا خيار له وهو كذلك، وحكى في نوازل ابن الحاج قولا أن له ردها.

إلا أن يكون واجهتها؛ يعني أنه إذا كان الجدار الذي به الصدع واجهة الدار فإن ذلك عيب يرد به، وواجهة الدار الحائط الذي يلي المحجة، قال المواق: قال عياض: لو كان الحائط الذي يلي المحجة ولا يمكن سكنى الدار حتى يبنى، أو الذي يتعلق به بناء الدار لوجب به الرد دون إشكال. انتهى. قال الشيخ أبو علي: فإن قلت: قوله: إلا أن يكون واجهتها، هل يقيد بأن ينقص كثيرا أم لا؟ قلت: هو مظنة للنقص كثيرا كما يفهم من كلام عياض؛ وأبو الحسن وابن عرفة والمص في توضيحه لم يقيدوا ذلك، والحق الرجوع في ذلك لقلة نقص الثمن وكثرته. انتهى. وقال عبد الباقي: إلا أن يكون واجهتها ونقص الثلث أو الربع على الاختلاف في حد الكثير الذي ترد به.

أو بقطع منفعة يعني أن العيب المذكور إذا كان شاملا فإن الدار ترد به وذلك إذا قطع منفعة من منافعها، قال المواق: قال اللخمي: إن كان عيبا شاملا رد به وإن قل ما ينوبه مثل أن يستحق ساحة الدار أو مطمرها.

ص: 474

وكملح بيرها بمحل الحلاوة، أو تهويرها، أو غور مائها، أو نقص قواعدها، أو فساد مطمر مرحاض الدار أو لا مرحاض لها، أو كونه على بابها أو دهليزها، أو بها بق أو نمل، وكثرة البق في السرير والدار عيب، وكذلك كثرة القمل في الثوب عيب، ولابد من هذا القيد أي قيد الكثرة، وأطلق ابن عاصم في البق فقال:

والبقُّ عيب من عيوب الدور

ويوجب الردَّ على المشهور

وتعقبه ولده في الشرح بأنه لابد من قيد الكثرة وأصلحه بقوله:

وكثرة البق تعيب الدورا

وتوجب الرد لأهل الشورى

قال عبد الباقي: وفي الحطاب ما يفيد تقييد النمل في الدار بالكثرة، وزيد كون مرحاضها بقرب الحيطان أو البيوت، أو تحتها أي الدار الشقوق المخوفة، وجريان ماء غيرها عليها، أو شؤمُها أو سوء جيرانها. انتهى.

وعلم مما قررت أن قوله: كملح، مثال كما في شرح عبد الباقي لا تشبيه. والله سبحانه أعلم. وفي الحطاب: الشؤم في الدار غير محقق لأنها قد تكون كذلك على قوم دون قوم، أو يحدث فيها، وقوله في الحديث (دعوها فإنها ذميمة

(1)

) في قوم حصل لهم فهي عين، وكذلك قوله: في الشؤم في الدار والمرأة والفرس على رواية إثباته كله قد يكون وقد لا يكون، لكن إن وقع جاز التعلق به ولا ينكر ويستثنى من لا طيرة في الإسلام. انتهى.

تنبيهان: الأول: قال الحطاب: تقدم أن البق عيب في السرير ومثله القمل في الثوب، قال في المسائل الملقوطة عن الطرر عن ابن عبد الغفور: حكي عن جماعة من أصحابنا أن كثرة القمل في الثياب عيب، فِرَاءً كانت أو صوفا أو كتانا. انتهى. الثاني: في نوازل المعاوضات من المعيار:

(1)

الموطأ، ص 609.

ص: 475

سئل ابن مالك عن الدار يثبت فيها مبتاعها عيبا قديما يجب ردها به، وحيزت وأعذر إلى بائعها فادعى مدفعا، هل يلزمه ضمان بالمال؟ فأجاب: عليه حميل بالمال وتعتقل الدار. وأجاب ابن عتاب بمثله في الحميل، قال: ولا تعتقل الدار ولا يخرج منها القائم لأنه هو الطالب وله ترك الطلب، ورجع إليه ابن مالك، وأفتى ابن القطان بأنها تعقل. انتهى. قال الرهوني: ما أفتى به ابن عتاب ورجع إليه ابن مالك هو الحق، لا ما أفتى به ابن القطان؛ لأن ضمان الدار من المشتري والخراج بالضمان، ولما كان شرط [الرد]

(1)

، بالعيب ثبوته في زمن ضمان البائع ذكر هذه المسألة لتفرعها على ذلك، فقال:

وإن قالت: أنا مستولدة لم تحرم لكنه عيب؛ يعني أن من اشترى أمة أو عبدا وقالت: أنا مستولدة أي أم ولد لبائعي أو قالت: أنا حرة، أو قال العبد ذلك وثبت أنهما قالا ذلك قبل عقد المبيع أو بعده وقبل دخولهما في ضمان المشتري، فإن للمشتري أن يطأ الأمة ويستخدمها ويستخدم العبد ولا يحرم عليه ذلك، ولكن ذلك عيب، فله أن يردهما. قال الخرشي: أي وإن قالت الأمة للمشتري: أنا أم ولد لبائعي، لم تحرم على المشتري بذلك، وكذا قول العبد: أنا حر، لا يوجب للمشتري الرد لاتهامهما على إرادة الرجوع للبائع، لكن إن صدر منهما ذلك في ضمان البائع من عهدة أو مواضعة يكون عيبا يوجب الرد، وإن لم يصدر منهما ذلك إلا بعد خروجهما من ضمان البائع فلا رد له، وقال عبد الباقي: وإن قالت أمة لمشتريها: أنا مستولدة لبائعي، وأولى حرة، وكذا الذكر، وثبت أنها كانت قالت هي أو الذكر ذلك قبل عقد البيع أو بعده وقبل الدخول في ضمان المشتري، بل في عهدة ثلاث أو استبراء؛ يعني مواضعة، بمعنى أن المشتري اطلع على أنها ادعت على البائع بذلك، لم تحرم بذلك القول على المشتري، لاتهامها على الرجوع للبائع، لكنه عيب له الرد وله الرضا به. انتهى. وقال الحطاب: يعني أن من اشترى أمة ثم اطلع على أنها كانت ادعت على بائعها أنه استولدها، وثبت ذلك ببينة، لم يحرم على المشتري استدامة ملكها بهذه الدعوى، ولكنه عيب يجب له الرد به على البائع إن

(1)

في الأصل الضمان والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 133.

ص: 476

أحب إن رضي به بيَّن؛ يعني أن ذلك يوجب له الرد حيث صدر منها أو من العبد في ضمان البائع، فإن رضي المشتري بذلك العيب فإنه يجب عليه أن يبين عند البيع قولهما ذلك، كما أنه يجب عليه أي المشتري أن يبين ذلك عند البيع حيث صدر منهما ذلك في ضمانه أي المشتري، وفي هذه الحالة قد مر أنه لا يثبت للمشتري الرد في ذلك، وقوله: إن رضي به بين، لا يشمل إلا قولهما ذلك قبل الدخول في ضمان المشتري، مع أنه يجب عليه أن يبين إذا باع ولم يصدر منهما ذلك إلا في ضمان المشتري، فلو قال: ولغى قوله: أنا حر ونحوه وله رده إن قاله في ضمان بائعه وبين إن باعه مطلقا، لوفى بالمسألة. البرزلي: دعوى الزوجية من الأمة هو بمنزلة دعوى الإيلاد. انتهى. وكذا إذا ظهر رسم حبس فيما اشترى ولم يثبت كما في المعيار، فلو وجد على نحو كتاب: هذا حبس ولم يثبت أنه حبس فإنه يرد؛ لأن أهل الورع لا يشترونه، وقول المص: إن رضي به بيَّن، وكذا لو صالح عنه. قال الحطاب: فإن رضي به أو صالح عنه ثم إنه أراد أن يبيع تلك الأمة لزمه أن يبين، كما يلزمه ذلك في جميع العيوب، وقال غير واحد من شيوخ الأندلسيين: إذا أقام العبد أو الأمة شاهدا بالحرية لم يحكم لهما بها وقضي للمبتاع بالرجوع بالثمن على بائعهما لأن ذلك عيب، ونقله ابن عرفة عن ابن عات، ونقله صاحب الشامل، ومن اشترى عبدا فوجد عليه دين فلمشتريه الخيار في الرد والإمضاء، والدين باق، ومن العيوب إذا وجد صوت العبد يفزع الأطفال وخرج عن أصوات الناس، وكذا الأمة السوالة والجوالة والمشاية، فكل ما ظهر من ذلك واشتهر فهو عيب يرد به، ولا يرد بالخفيف، ذكره أبو علي، وذكر كثيرا من العيوب، منها الحموضة في اللبن، ومنها كون مرحاض الدار على بابها، ثم قال: والرجوع في ذلك إلى القانون المعلوم، فإن كان العيب ينقص من الثمن وقع به الرد وإلا فلا، والصحيح في سوء الجار الرد، وفي المفيد: والعيوب التي توجب الرد الجنون والجذام والبرص والفالج والشلل والعمى والصمم والجب والرتق والإفضاء وبياض الشعر والخيلان في الوجه والشيب والحول، وكأن بياض الشعر عنده خلاف الشيب، وفي المعيار: إذا اشترى ثوبا لبسه نصراني ولم يعلم رد به، وكذا الثوب يبيض بالكبريت، وكون العبد خنثى، وقال الشيخ أبو علي بعد جلب كثير من

ص: 477

النقول في العيوب وذكر أنواع كثيرة منها: وحاصله ما نقص من الثمن عيب وإلا فلا، وفي المدونة قال ابن القاسم: ما كان عيبا عند الناس فهو عيب يرد به إذا كان ذلك ينقص من الثمن؛ وقال ابن رشد: وبالجملة فأصل المذهب أن كل ما ينقص من الثمن فهو عيب. انتهى.

تنبيه: قوله: وإن قالت: أنا مستولدة لخ، قال عبد الباقي: ظاهره عدم الحرمة ولو قامت قرينة على صدقها، وكذا في دعوى الحرية، كدعوى إغارة عدو على بلدها وسبيها مع حريتهم، وشهرة الإغارة المذكورة، وتصديق البائع لها على شرائه لها من تلك الناحية، وفي ذلك خلاف، فقيل: الأمر كذلك ولا تحرم وعليها إثبات الحرية، وقيل: على من اشتراها من الناحية إثبات الرقية، وذكر الشارح أن العبد إذا سرق في عهدة الثلاث رد بذلك وإن أقر بسرقة وكانت سرقته لا توجب القطع لم يرد؛ لأنه يتهم على إرادة الرجوع لسيده. انتهى. فإن كانت توجبه قُطِع وكان عيبا، فإن رجع عن إقراره قبل القطع لم يرد لأنه عيب زال. انتهى. قوله: كدعوى إغارة عدو لخ، قال بناني: هذا الأمر كثير في أرِقَّاء السودان، ذكر شيخنا أبو العباس بن مبارك عن بعض الثقات ممن يجاور السودان قال: من المتواتر عندهم أن ما يجلب من ناحيتهم من الأرقاء جلهم أحرار يغار عليهم في بلادهم، وقد ألف الشيخ سيدي أحمد بابا السوداني تأليفا صغيرا فيهم، بيَّن فيه بلاد المسلمين من بلاد الكفار. انتهى. وقوله: فإن كانت توجبه قطع لخ، قال الرهوني: الظاهر أن هذا غير مراد للشارح، وأنه لا يتوقف الرد على القطع بالفعل، كما يوهمه كلامه بل مجرد الإقرار كاف في الرد، والفرق بين الصورتين أن إقراره بسرقة توجب القطع تنفي عنه التهمة التي علل بها الشارح أو تضعفها، فتأمله. انتهى.

ولما أنهى الكلام على العيوب الذاتية شرع في الكلام على ما هو كالذاتي، وهو التقرير الفعلي، فقال:(وتصرية الحيوان كالشرط) يعني أن التغرير الفعلي كالشرط، والتغرير الفعلي هو أن يفعل البائع في المبيع فعلا يظن به المشتري كمالا فلا يوجد، فكأن المشتري اشترط ذلك الكمال الذي لم يوجد فله الرد، وقد مر له: ورد بعدم مشروط فيه غرض؛ فإذا صرى ناقة أو شاة أو بقرة أو أمة

ص: 478

أو حمارة؛ أي ترك حلب ما ذكر ليعظم ضرعها ويحسن حلبها فباعها، فإن ذلك بمنزلة ما إذا شُرِط باللفظ أن لبنها كثير فتوجد بخلاف ذلك لكونها مصراة، فله الرد بذلك؛ قال عبد الباقي: وتصرية الحيوان شاة أو بقرة أو حمارة أو أمة لرضاع؛ أي ترك حلبها ليعظم ضرعها ويحسن حلبها ثم تباع، كالشرط باللفظ فله الرد بذلك لأنه غرور فعلي، بخلاف القولي، كمن قال لشخص: بع سلعتك من فلان أو عامله فإنه ثقة ملي وهو يعلم خلاف ذلك، أو قال صيرفي نقد دراهم بغير أجرٍ: طيبةٌ، وهو يعلم خلاف ذلك، أوأعار شخصا إناء مخروقا وهو يعلم به، وقال: إنه صحيح فتلفَّ ما وضع فيه بسبب الخرق، فلا ضمان في جميع ذلك على المشهور مع الأدب، ويخرج الصيرفي من السوق إن تكرر ذلك منه، وهذا إن لم ينضم للغرور القولي عقد فيما يمكن فيه ذلك، كصيرفي نقد بأجر، وكإجارة إناء فيه خرق يعرفه الموجر فتلف بسببه ما وضعه فيه المستأجر فالضمان، ويفرق بأن الناقد بغير أجرة والمعير فعلا معروفا، بخلاف الموجر. قاله الأجهوري. انتهى. قوله: أو حمارة أو أمة، قال بناني: قال ابن عرفة: المازري: لو كانت التصرية في غير الأنعام كالحمر والآدميات فللمبتاع مقال، فإن زيادة لبنها يزيد في ثمنها لتغذية ولدها. قاله الشافعية. ويجب تسليمه. انتهى؛ قال عبد الباقي: وانظر هل البيع كالإجارة لظلم البائع فهو أحق بالحمل عليه فيجتمع عليه رد السلعة وغربم ثمنها وما أتلفه أم لا؟ انتهى.

كتلطيخ ثوب عبد بمداد، تشبيه في الحكم يعني أن تلطيخ ثوب العبد بمداد كالشرط في أنه كاتب، فإذا لم يوجد كاتبا فلمشتريه الرد، قال عبد الباقي: ثم شبه في الحكم قوله: كتلطيخ ثوب عبد بمداد، أو بيده دواة أو قلم إن فعله السيد أو أمر به، فإن فعله العبد فلا لاحتمال كراهة بقائه في ملك المشتري، وقبل قول البائع إن نازعه المشتري في أنه فعله السيد أو أمر به.

تنبيهات: الأول: قال في المدخل: وينبغي له أن يتحفظ من هذه البدعة التي يفعلها كثير ممن ينسب إلى العلم في تفصيل ثيابهم من طول الكم والاتساع والكبر الخارج عن عادة الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن إضاعة المال

(1)

)، ولا يخفى على ذي بصيرة أن كم بعض من

(1)

البخاري، كتاب الرقاق، رقم الحديث 6473.

ص: 479

ينسب إلى العلم اليوم فيه إضاعة المال؛ لأنه قد يفصل من ذلك الكم ثوبا لغيره، وقد روى مالك في موطئه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من ذلك ففي النار، ولا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا

(1)

). فهذا نص صريح منه عليه السلام أنه لا يجوز للإنسان أن يزيد في ثوبه ما ليس له به حاجة؛ إذ إنما تحت الكعبين ليس للإنسان به حاجة فمنعه منه، وأباح ذلك للنساء فلها أن تجر مرطها خلفها شبرا أو ذراعا للحاجة الداعية إلى ذلك وهي الستر والإبلاغ؛ فما يفعلونه من صفة الاتساع والكبر في الثياب فليس بمشروع إذ ذاك ليس به حاجة فيمنع، ألا ترى إلى ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين لبس ثوبا فوجد كمه يزيد على أطراف أصابعه، فطلب شيئا يقطعه به فلم يجد، فأخذ حجرا وألقى كمه عليه وأخذ حجرا آخر فجعل يرضه به حتى قطع ما فضل عن أصابعه، ثم تركله كذلك حتى خرجت الخيوط منه وتدلت، فقيل له في خياطته فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل بثوب كذا ولم يخطه بعد حتى تقطع الثوب.

الثاني: قال ابن القاسم: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطع كم رجل إلى قدر أصابع كفيه، ثم أعطاه فضل ذلك، وقال له: خذ هذا واجعله في حاجتك، قال ابن رشد رحمه الله: إنما فعل عمر رضي الله عنه هذا لأنه رأى أن الزيادة في طول الكمين على قدر الأصابع مما لا يحتاج إليه فرءاه من السرف.

الثالث: قد نقل الإمام الحافظ أبو طالب المكي رحمه الله تعالى في كتابه قال: ومما أحدثوه من البدع لبس الثياب الكثيرة الأثمان، قال: وقد كان السلف رضي الله عنهم ثوب أحدهم من سبعة دراهم إلى عشرة دراهم وكانوا لا يجاوزون هذا الثمن إلا نادرا. انتهى من المدخل وأشار إلى تتميم مسألة المصراة بقوله:

فيرده بصاع من غالب القوت؛ يعني أن المشتري لما وقعت فيه التصرية له أن يرده وله أن يتماسك به، وإذا رده فإنه يرد معه صاعا من غالب القوت، قال عبد الباقي: فيرده أي ما وقعت

(1)

الموطا، ص 574.

ص: 480

فيه التصرية، وهذا عام في الأنعام وغيرها، وقولُه: بصاع؛ أي معه خاصٌّ في الأنعام، وأتى بقوله: فيرده، وإن استفيد من قوله: كالشرط، ليرتب عليه ما بعده، وظاهره صاع واحد ولو تكرر حلبها حيث لا يدل على الرضا، ونحوه لابن محرز وهو ظاهر قوله: وتعدد بتعددها؛ قال أحمد: ومثل الصاع الأرطال ويرد الصاع من غالب القوت بمحل المشتري عوضا عن اللبن الذي حلبه ولو كثر، إن اختلف قوت محله كحنطة وتمر وأرز وشعير وذرة ودخن، وهذا مذهب المدونة؛ الباجي: وهو المذهب، وقيل: يتعين رد التمر لقول مالك في المدونة في خبر: (لا تُصَرُّوا الإبل والغنم فمن اشتراها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلُبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر

(1)

). وهذا حديث متبع ليس لأحد فيه رأي، ولذا قدمه ابن شأس وابن الحاجب وأجيب للمشهور بأنه اقتصار على غالب قوت المدينة إذ ذاك، وتصروا بضم أوله وفتح ثانية، والإبل مفعوله. قاله التتائي. وما اقتصر عليه من الضبط رواية المتقنين كما للأبي عن عياض، من صرَّى رباعيا كزكَّى لقوله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} ، ولقول المص فيما يأتي: مصراة من صرر فأبدلت الراء الأخيرة ياء كتظنيت في تظننت، أو من صرَّى المالَ أي جمعه. قاله بناني. ورواية غير المتقنين بفتح أوله وضم ثانية ونصب الإبل على المفعولية، وبها صدر النووي من صر ثلاثيا، ويقال فيه: مصرورة، ولم يسمع؛ وروي أيضا لا تصر الإبل ببناء تصر للمجهول ورفع الإبل على النيابة عن الفاعل وهو من صر ثلاثيا أيضا، وانظر لو كان غالب قوتهم اللبن والظاهر رد صاع منه من غير لبنها، قال التتائي: وعلى المذهب إن لم يكن في القوت غالب فقال البساطي: مما شاء من القوت، وقال بعض مشايخي: من الوسط أي وسط المستوى. انتهى كلام عبد الباقي.

تنبيهات: الأول: قال ابن شأس: التغرير الفعلي هو أن يفعل البائع في المبيع فعلا يظن به المشتري كمالا فلا يوجد. انتهى. وقال ابن عبد السلام: التغرير الفعلي أن يفعل البائع في المبيع فعلا يستر عيبه فيظهر في صورة السالم من العيب، وقد يكون لا عيب فيه فيفعل فيه فعلا يظهر به أنه من أعالي جنسه، انتهى. ومن التغرير الفعلي ما يصنع بالثوب القديم فيكون في الظاهر

(1)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2148.

ص: 481

جديدا. الثاني: قال الإمام الحطاب: والتصرية قال في التوضيح: التصرية جمع اللبن في الضرع يوما أو يومين حتى يعظم ثديها ليوهم مشتريها أنها تحلب كل يوم مثل ذلك.

الثالث: لو اشترى مصراة وسافر قبل حلابها فحلبها أهله زمانا فقدم فعلم بتصريتها فله ردها، ويرد صاعا فقط، وغيره خراج بالضمان. نقله ابن عرفة عن ابن محرز. وقال الشارح: وقوله: من غالب القوت، هو المشهور، وقيل: إنما يرد معها صاعا من تمر، والصحيح هو المشهور لحديث أبي هريرة؛ إذ لم يذكر التمر فيه بخصوصه، وأخرج منه السمراء لأنها ليست بطعام أهل الحجاز، وإنما تجلب من الشام، وهو تنبيه على هذا المعنى، وأيضا لو كلف التمر في كل مكان لزم أن يرد المشتري مع الشاة ما يساوي نصف قيمتها، فلا يتعين التمر إلا في البلاد التي هو غالب قوتهم فيها، فإن لم تكن كذلك تعين الصاع من غالب قوتهم، وهذا مذهب المدونة، وحملوا ذكر التمر في الحديث الآخر على أنه غالب قوت أهل المدينة. انتهى. قوله: ولو كلف التمر لخ، قد نصوا على أنه يتعين رد صاع من غالب القوت ولو كان يساوي قيمة المصراة، فانظره؛ وقال التتائي: قدر الصاع متعين فلا يزاد عليه لكثرة اللبن ولا ينقص عنه لقلته، ولو ساوى قيمة الشاة أو زاد. انتهى. وفي المسألة ثلاثة أقوال: المشهور، وقيل: يرد صاعا من تمر، ابن الحاجب: فإن ردها رد معها صاعا من تمر ولو غلا، وقيل: من غالب القوت. انتهى. والقول الثالث قيل: يرد مكيلة اللبن تمرا أو قيمته. وفي مسلم: صاعا من طعام.

وحرم رد لبن؛ يعنى أنه يحرم على المشتري أن يرد اللبن الذي حلبه من المصراة بدلا من صاع من غالب القوت ولو بتراضيهما، غاب عليه أم لا لأن فيه بيع الطعام قبل قبضه، وذلك لأنه لما رد المصراة على البائع وجب له على المشتري صاع بر مثلا عوضا عما حلبه من شاته، باعه باللبن الذي أخذه، فتوالى عقدتا بيع لم يتخللهما قبض، ثم هذا التعليل يفيد حرمة أخذ غير اللبن أيضا عنه أي عن الصاع، بل ربما يقال: إنه أولى، فلا يعترض عليه في اقتصاره على اللبن، وأيضا اقتصر عليه لأنه كما في أحمد يتوهم أن رده هو الأصل؛ لأنه عين شيء البائع، فنص على

ص: 482

حرمته، ويفيد أنه لو رد الحيوان بعيب التصرية قبل أخذه اللبن فلا صاع عليه، وأنه لو رده مع الصاع فلا حرمة، ويحرم رد غير غالب القوت مع وجود الغالب. قاله عبد الباقي. وقال بناني: فيرده بصاع من غالب القوت، دليله حديث:(لا تصروا الإبل والغنم لخ) وقال أشهب: لا نأخذ به لأنه قد جاء ما هو أثبت منه وهو (الخراج بالضمان)، ابن يونس: وحديث الخراج بالضمان عام، والخاص يقضى به على العام. ابن عرفة: وإذا رد للتصرية ففي لغو لبنها ورد صاع بدله سماع القرينين والمشهور، بناء على نسخ حديث المصراة بحديث (الخراجُ بالضمان)، وتخصيصه به. الباجي: لأن حديث المصراة أصح، قلت: ضعف حديث الخراج غير واحد. انتهى. وكذا ذكر ابن حجر أن حديث المصراة أصح وأثبت.

لا إن علمها مصراة؛ يعني أن المشتري إذا علم أنها مصراة فليس له ردها، قال بناني: اللخمي إن اشتراها وهو عالم أنها مصراة لم يكن له رد، إلا أن يجدها قليلة الدر دون المعتاد من مثلها وقوله: مصراة، مفعول ثان لعلم، وقال الشارح مفسرا للمص: يريد أن الرد بعيب التصرية مشروط بأن لا يكون المشتري قد علم بأن الشاة مثلا مصراة حين البيع، فإن علم بذلك فلا رد له إلا أن يجدها قليلة اللبن دون المعتاد من مثلها. انتهى. وقول بناني عن اللخمي: وقول الشارح: إلا أن يجدها قليلة اللبن، قال الرهوني: ظاهره أن له الرد بذلك وحده وإن لم تتوفر الشروط الآتية في قوله: إلا إن قصد اللبن لخ، والظاهر أنه لابد منها وإلا لم يكن له رد. انتهى. وقال أبو علي: قوله: إلا أن يجدها قليلة اللبن لخ، هذا ليس بقيد يحتاج إليه لأنه يدخل في قول المتن: وبما العادة السلامة منه، والقيد في اللخمي وابن عرفة والمص في التوضيح وغيرهم، وهو صحيح لاشك فيه. انتهى.

أو لم تصر وظن كثرة اللبن؛ يعني أن المشتري لا يكون له الرد حيث ظن كثرة اللبن لكبر ضرعها أي المشتراة والحال أنها لم تصر. وقوله: إلا إن قصد اللبن واشتريت وقت حلابها وكتمه، مستثنى من قوله: أو لم تصر، من غير نظر إلى قوله: وظن كثرة اللبن، ومعنى كلامه أن من باع حلوبا غير مصراة في إبان الحلاب وهو زمن الربيع، أو وقت الولادة أو قربها وهو يعلم ما تحلبه

ص: 483

وكتمه عن المبتاع، والمبتاع إنما رغبته في اللبن، فإن للمبتاع أن يردها وله أن يرضاه، كصبرة يعلم البائع كيلها دون المبتاع وإن لم يكن علم ذلك فلا رد للمبتاع، ولو باعها في غير إبان لبنها ثم حلبها المبتاع حين الإبان فلم يرضها فلا رد له، كان البائع يعلم حلابها أم لا، فعلم أنها إذا لم تصر له الرد بثلاثة قيود، أن يقصد المشتري اللبن، وأن يشتريها وقت حلابها، وأن يكتم البائع مقدار ما تحلب عن المشتري، وذلك يتضمن أن البائع يعلم مقدار ما تحلب، فإذا اختل قيد منها لم يكن للمشتري الرد. قال بناني: قال مصطفى: ظاهره يعني المص والله تعالى أعلم أن الشروط في فرض المسألة، وهو ظن كثرة اللبن، وعليه شرحه من وقفت عليه من الشراح، وقيد السنهوري وتبعه الأجهوري ذلك بكونها تحلب حلاب مثلها، وإلا فله الرد وإن لم تتوفر الشروط، وليس كذلك، لا في الفرض ولا في القيد؛ لأن مسألة الشروط ليست مقيدة بكثرة اللبن، وإنما هي مسألة مستقلة في كلام أهل المذهب، وغير مقيدة أيضا بكونها تحلب حلاب مثلها؛ ففيها: ومن باع شاة حلوبا غير مصراة في إبان الحلاب ولم يذكر ما تحلبه فإن كانت الرغبة فيها إنما هي اللبن والبائع يعلم ما تحلب وكتمه، فللمبتاع أن يردها أو يرضاها، كصبرة يعلم البائع كيلها دون المبتاع، وإن لم يكن علم ذلك فلا رد للمبتاع، وكذلك ما تتوفر فيه للبن من بقر أو إبل أو غنم، ولو باعها في غير إبان لبنها ثم حلبها المبتاع حين الإبان فلم يرضها فلا رد له، كان البائع يعلم حلابها أم لا. انتهى. وفي الجواهر: ولو ظن غزارة اللبن لكبر الضرع فكان ذلك لحما لم يثبت له الخيار، وكذلك لو اشترى شاة غير مصراة فوجد حلابها قليلا فلا رد له، إلا أن يعلم البائع مقدار حلابها فباعها له في إبان الحلاب ولم يعلمه بما يعلم منها فله [الخيار]

(1)

؛ لأن البائع صار كبائع طعام يعلم كيله دون المشتري فله رده، ولو كان في غير إبان لبنها فلا رد له، ولو علم البائع منها ما لم يعلمه المشتري. انتهى. وقد ظهر لك أن مسألة الشروط مسألة مستقلة، وأن كلامهم فيها مطلق غير مقيد بكونها تحلب حلاب مثلها، ولم أر من قيد بذلك غيرمن تقدم. انتهى كلام مصطفى. انتهى كلام بناني.

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من الجواهر ج 2 ص 476.

ص: 484

تنبيهات: الأول: الحلاب في كلام المص بمعنى اللبن المحلوب، وإطلاق الحلاب على ذلك صحيح، ذكره أبو الفضل في المشارق، وابن الأثير في النهاية، ومنه الحديث (فإن رضي حلابها أمسكها) والحلاب اللبن الذي يحلب، والحلاب أيضا والمحلب الذي يحلب فيه اللبن، وفي القاموس: الحلب ويحرك استخراج ما في الضرع من اللبن، كالحلاب بالكسر، والاحتلاب والمحلب والمحلاب بالكسر إناء يحلب فيه. انتهى. انظر الرهوني. الثاني: قال ابن هشام في المفيد: من اشترى شعيرا وشرط أنه يريده للزراعة فوجده لم ينبت والبائع عالم رجع بجميع الثمن، وكذلك إن كان البائع شاكا أهو ينبت أم لا؟ رجع بجميع الثمن، وإن كان مما ينبت فدخله فساد رجع بقيمة العيب، وكذلك إذا لم يشترط المشتري أنه للزراعة إلا أنه في وقت إبان الزراعة وباعه بأثمان ما يراد للزراعة فهو كالشرط، وإن كان على غير ذلك لم يرجع به. انتهى. نقله أبو علي. الثالث: وقع في كلام عبد الباقي عند قول المص: وكتمه ما نصه: أي قلة اللبن عما ظنه المشتري، قال الرهوني: صوابه عن حلب مثلها، ومع ذلك ففيه نظر يعلمه من تأمل كلام المدونة الذي في المواق وغيره. انتهى. يشير إلى ما قدمته عن مصطفى في كلام المدونة. والله سبحانه أعلم.

ولا بغير عيب التصرية، المنفي هنا رد الصاع، وفيما قبله رد المصراة؛ يعني أنه إذا رد المصراة بغير عيب التصرية فإنه أي المشتري لا يرد الصاع، وإيضاح هذا أنه لا يرد الصاع إن رد المصراة بغير عيب التصرية؛ لأنها لما ردت بغير عيب التصرية صارت كأنها غير مصراة، فلا يرد لحلابها شيئا. وقاله ابن المواز. واختاره التونسي. ولهذا قال: على الأحسن، وقال أشهب: يرد الصاع لأنه يصدق عليه أنه رد مصراة، وعبارة ابن عرفة: ولو ردها بغير عيب التصرية لرضاه بها ففي رد الصاع معها وسقوطه قولان، وقال بناني عن ابن عرفة: ولو رد غير المصراة، قال ابن زرقون: ففي رد صاع معها كالمصراة وردها دون شيء قولا أبي الفرج وغيره، ولم يحك ابن محرز غير الأول، والصقلي غير الثاني، كأنه المذهب. انتهى. وقال المواق: يحيى بن عمر: اللبن في

ص: 485

غير المصراة للمبتاع بالضمان فلا يرد معها شيئا إن ردها. أبو الفرج: يرد معها صاعا كالمصراة. ابن عرفة: لم يحك ابن محرز غير الأول والصقلي غير الثاني كأنه المذهب.

وتعدد بتعددها؛ يعني أن الصاع يتعدد بتعدد المصراة، قال الشارح: فاعل تعدد ضمير يعود على الصاع، والضمير المؤنث عائد على المصراة، ومعنى كلامه أن المصراة إذا تعددت بأن كانت اثنتين فأكثر، ثم ردها بعيب التصرية، فإنه يرد لكل شاة منها صاعا، وهو قول ابن كنانة، واختاره اللخمي وابن يونس، ولهذا قال: على المختار والأرجح، وقال الأكثر: يكتفي بصاع واحد لجميعها لأن غاية ما يفيده المتعدد كثرة اللبن وهو غير منظور إليه، بدليل اتحاد الصاع في الشاة وغيرها، وهذا إذا كان ذلك بعقد واحد، فإن كان بعقود تعدد الصاع بتعدد المصراة اتفاقا، وفي الحديث: لا تصر الإبل والغنم فمن ابتاعها - وهو يحتمل وهو الأظهر أن معناه ابتاع الإبل والغنم، وذلك يصدق على الواحد والمتعدد - فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر وعلى هذا فالأرجح مذهب الأكثر أن في المتعدد صاعا واحدا. والله سبحانه أعلم.

وإن حلبت المصراة بالبناء للمفعول أي استخرج ما في ضرعها من اللبن وحلب من باب قتل. ثالثة؛ أي في يوم ثالث، فحلْبُها في يوم واحد ثلاث مرات لا يكون رضى بل بمنزلة حلبة واحدة. فإن حصل الاختبار؛ أي عرف مقدار لبنها بالحلبة الثانية فهو أي حلبها ثالثة رضا بالمصراة، فليس له ردها، وفي الموازية: له أي للمشتري ذلك؛ أي ردها بعد حلبها ثالثة مع حلفه أنه ما رضِيَ بها، وفي كونه أي ما في الموازية خلافا لما مر عن المدونة من كون حلبها ثالثة رضا إن حصل الاختبار بالحلبة الثانية، فيكون ما في الموازية باقيا على عمومه من أن حلبها ثالثة لا يعد رضا، حصل الاختبار بالثانية أم لا، وما في الموازية هو لمالك، وما في المدونة لابن القاسم من رأيه، أو وفاقا وعليه فقول الإمام في الموازية: لا يعد رضى حلبها ثالثة. إنما هو حيث لم يحصل للمشتري الاختبار بحلبها ثانية، وأما لو حصل الاختبار بحَلْيها ثانيةً فحلْبُها ثالثةً يعد رضا عند الإمام، فيوافق كلامه الذي في الموازية ما لابن القاسم في المدونة. والله سبحانه أعلم.

ص: 486

تأويلان، مبتدأ وخبره المجرور قبله، وخلافا خبر الكون، والتأويل الأول للخمي والمازري وابن زرقون، والثاني لابن يونس؛ وإذا تأملت كلام المص والمدونة وما فيها من التفصيل وجدتها لا تقبل التأويلين، لتصريحها بالتفصيل، وتبين لك أن التأويلين في كلام الموازية لا في كلام المدونة على خلاف اصطلاحه فيها. قاله ابن عاشر. وقال الشارح: واختار اللخمي ما في الموازية عن مالك لما رواه البخاري ومسلم وصححه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام

(1)

). أما إذا حلبها رابعة فقال ابن رشد: لا خلاف أنه رِضًى. انتهى. وقولي: وإن حلبت ثالثة في يوم ثالث، تبعت فيه عبد الباقي، قال بناني: تبع فيه عبد الباقي الأجهوري، وتعقبه مصطفى قائلا: إنه غير ظاهر لمخالفته لكلام أهل المذهب، وساق كلام الأئمة، قال بعض أشياخنا: وعليه أي على أن المراد حلبها ثلاث مرات ولو في أقل من ثلاثة أيام فلابد من الحلب المعتاد كبكرة وعشية مثلا. انتهى. ولما ذكر خيار النقيصة ذكر المانع منه، فقال:

ومنع منه بيعُ حاكم؛ يعني أن الحاكم إذا باع رقيقا لمدين أو مغنم أو غائب أو نحوها من أموال الناس ثم ظهر به عيب فإنه ليس للمشتري أن يرده، فليس العيب كالاستحقاق، فإن ما باعه الحاكم إذا استحق من يد مشتريه رجع المشتري بالثمن. قال عبد الباقي: ومنع منه أي من الرد بالعيب - لا الاستحقاق انظر أحمد - بيعُ حاكم رقيقا لمدين ومغنم وغائب ونحوهما من أموال الناس. انتهى. ويفهم منه أن ما يبيعه أمين بيت المال ليضعه ببيت المال ليس حكمه كذلك. انتهى.

وواوث؛ يعني أن الوارث إذا باع رقيقا لقضاء دين أو تنفيذ وصية ثم ظهر به عيب فإنه لا يرد بذلك العيب، وفي كونه لقسمة كذلك قولان.

وعلم مما قررت أن قوله: رقيقا، مفعول بَيْع، فهو قيد في بيع الحاكم والوارث، واحترز بقوله: فقط، من غير الرقيق فإن بيع الحاكم له أو الوارث لا يمنع من الرد بالعيب؛ قال الشارح: والمعنى أن بيع الحاكم وبيع الوارث يمنع من خيار المشتري لأنه بيع براءة وإن لم يشترطاها،

(1)

الترمذي، كتاب البيوع، رقم الحديث 1252.

ص: 487

وقاله في المدونة، وهذا في الرقيق فقط، واحترز بذلك من غير الرقيق فإنه لا يمنع الرد على المشهور.

بيَّن أنه إرثٌ؛ يعني أن بيع الوارث إنما يكون بيع براءة إذا بين أن هذا المبيع إرث، فإن لم يبين ذلك فلا يكون بيعه بيع براءة، وكذا الحاكم فلا يكون بيعه بيع براءة إلا أن يبين أنه حاكم، فحذفه من الأول لدلالة هذا عليه، قال بناني بعد كلام ما نصه: وبه يتبين أن قول المص: بين أنه إرث، مراده به ما يشمل حقيقة البيان وحصول العلم للمشتري من غيرهما؛ إذ المراد حصول العلم وعليه المدار، كما صرح به في التنبيهات، وأن هذا المقيد محذوف من الأول لدلالة الثاني عليه، وأنه لا فرق بين الحاكم وغيره، وهذا هو الذي حمل عليه التتائي والمواق المص وهو الصواب، ورَد الأجهوري ذلك غير ظاهر. انتهى. ونحوه للرهوني فإنه قال بعد كلام طويل: وبهذا كله تعلم صحة ما قلناه من رجحان ما عليه المواق ومن وافقه. انتهى. ولو أراد المص ما قاله الأجهوري لقال: وخير مشتر لم يعلم، ويكون خاصا بالوارث؛ ويبقى قوله: ومنع منه بيع حاكم على إطلاقه، وعلم مما مر أن علم المشتري أنه وارث أو حاكم كاف في كون بيعهما بيع براءة، ويأتي للمص ما يفيده. والله سبحانه أعلم.

تنبيهات: الأول: قال الحطاب: بيع الحاكم والوارث هو بيع البراءة، قال ابن عبد السلام: ومعنى البراءة التزام المشتري للبائع في عقدة البيع أن لا يطالبه بشيء من سبب عيوب البيع التي يعلم بها، كانت قديمة أو مشكوكا فيها.

الثاني: قال عبد الباقي في توطئة قول المص: ومنع منه بيع لخ، ما نصه: ولما ذكر خيار النقيصة ذكر موانعه، وهي ضربان ما يَمنع مطلقا وهو أربعة: سيذكرها، وهي البراءة من العيب، وفوات المقصود من المبيع حسا أو حكما، وما يدل على الرضا، وزوال العيب قبل القيام به، ومانعٌ مقيَّدٌ وهو اثنان أولهما: قوله: ومنع منه لخ، قال بناني: هذا غير صواب، بل المانع المقيد كما في الجواهر هو المقيد بوجه دون وجه، وهو تغير المبيع عند المشتري، فإنه يمنع الرد إن كثر وأخرج عن المقصود، لا إن قل أو توسط، وأما بيع الحاكم والوارث وتبرؤ غير مما لم يعلم، فهما عند ابن

ص: 488

شأس ومن تبعه نوعان من شرط البراءة الذي هو أحد أقسام المانع المطلق، وليسا هما المراد بالمانع المقيد. انظر المواق.

الثالث: قوله: ومنع منه بيع حاكم ووارث رقيقا، قال المتيطي: وكذا الوصي إذا باع لمن يلي عليه لنفقته وغيرها وبيَّن ذلك فلا تباعة عليه ويرجع المشتري في الثمن إن كان قائما، فإن أنفقه على الأيتام لم يكن عليه شيء. انتهى. وهو عام في الرقيق وغيره. قاله بناني. وقال عبد الباقي: ثم إنه إنما يكون بيع الحاكم والوارث بشرطه مانعا من الرد حيث لم يعلم كل بالعيب ويكتمه، فإن علما أو علمه المدين وإن لم يعلم به الحاكم لم يكن بيع براءة، كما يفيده نقل المواق؛ لأن كتم ذلك تدليس. انتهى. وقد علمت أن بيع الحاكم بيع براءة مطلقا، ولو كان المبيع عبدا مسلما بيع على مالكه الكافر، خلاف ما قاله عبد الباقي. والله تعالى أعلم.

وخير مشتر ظنَّه غيرَهما؛ يعني أن من اشترى رقيقا من الحاكم أو الوارث والحال أنه ظن البائع له غير حاكم أو وارث، ثم علم بذلك بعد عقد البيع، فإنه يخير في التماسك بلا عهدة، وفي الرد وإن لم يطلع على عيب، قال عبد الباقي: وخير مشتر في الرد والتماسك بلا عهدة على البائع وإن لم يطلع على عيب ظنه؛ أي ظن المشتري كون البائع غيرهما؛ أي غير الحاكم والوارث، وأولى إن اعتقده غيرهما ثم تبين أنه وارث أو حاكم، وتنفعه دعوى جهله، خلافا لقول ابن حبيب: ليس له إن جهل؛ لأن الجهل في الأحكام لا يمنع من توجه الحكم. ابن عبد السلام: وهو الأقرب، انتهى. وقال بناني: صوابه يعني المص: وخير مشتر جهلهما، ليشمل ما إذا ظنه غيرهما أو لم يظن شيئا.

وتبرؤ غيرهما فيه مما لم يعلم، جعله عبد الباقي من المانع المقيد، وقد مر رد بناني له، ومعنى كلامه أنه يمنع من الرد بالعيب تبرؤ غير الحاكم والوارث في الرقيق فقط، من عيب قديم لم يعلمه البائع، بشرط أشار له المص بقوله:

إن طالت إقامته؛ يعني أن غير الحاكم والوارث إنما تمنع براءته من عيب الرقيق بشرط أن تطول إقامته عند البائع، بحيث يغلب على الظن أنه لو كان به عيب لظهر. قاله عبد الباقي. وقال

ص: 489

بناني: حد بعضهم الطول بستة أشهر، وذكره الجنان، فعلم من هذا أنه تنفعه البراءة بثلاثة شروط: أن يكون البراءة في الرقيق، وأن لا يعلم البائع بعيب في الرقيق، وأن تطول إقامة الرقيق عنده، فإن باعه بفور شرائه وشرط البراءة فلا تنفعه البراءة على المشهور، وكذا لا تنفع البراءة في غير الرقيق، وكذا لا تنفع البراءة من عيب علمه البائع، والبراءة التزام المشتري عدم المطالبة بعيب قديم أو مشكوك فيه، وقد علمت أنها لا تنفع في غير الرقيق، فشرط البراءة فيه باطل والعقد صحيح كشرط أن لا عهدة، والفرق أن الرقيق قد يكره بعض السادات ويرغب في بعض فيظهر من العيوب ما ليس فيه، ويكتم ما فيه تحيلا على انتقال الملك، فلمالكه عذر في البراءة، بخلاف غيره فإنه يمكن اختبار حاله، فليس لمالكه عذر في البراءة. انظر التوضيح. قاله أحمد. قاله عبد الباقي. وقال بناني: التوضيح: قالا أي الباجي والمازري: وكذلك لا يجوز التبري في عقد القرض لأنه إذا أسلفه عبدا وتبرأ من عيوبه دخله سلف جر نفعا. انتهى. وأما رد القرض فلا وجه لمنع البراءة فيه إلا إذا وقع الرد قبل أجله، لتهمة ضع وتعجل، وتقدم منع التصديق في معجل قبل أجله. ابن عرفة: ولا يرد في بيع البراءة بما ظهر من عيب قديم إلا ببينة أن البائع كان عالما به، فإن لم تكن بينة وجب حلفه ما كان عالما به، وإن لم يدع المبتاع علمه على رواية ابن حبيب، ونقله عن أصحاب مالك. المتيطي: وهو المشهور، وفي كون حلفه على البت في الظاهر والعلم في الخفي، أو على العلم مطلقا قولا ابن العطار وابن الفخار، متعقبا قوله بأنه إنما يُرَدُّ في البراءة بما علم، وحكى ابن رشد الاتفاق على الثاني. انتهى باختصار. انتهى كلام بناني. وما ذكره المص في البراءة من قوله: ومنع منه بيع حاكم، إلى قوله: إن طالت إقامته، هو المشهور، فبيع الوصي على اليتيم لحاجة الإنفاق كبيع الأب على ابنه، فليس بيع براءة كما أفاده المص، وقيل: بيع السلطان بيع براءة دون الوارث، وقيل: ذلك يختص بالرقيق والحيوان، وقيل: يختص بالتافه من الثياب والحيوان، وقيل: يعم الرقيق والحيوان وكل شيء، وقيل: يختص بما طالت إقامته عند البائع واختبره، وقيل: لا تفيد مطلقا وحكاه القاضي عبد الوهاب، ومال إليه بعض الشيوخ لأن ذلك يجلب غررا في عقدة البيع، قال: وقياس هذا أن يفسخ البيع لكنهم لم يقولوه، وقيل: لا يختلف في بيع السلطان وأهل المواريث، وقيل: تكون في الرقيق

ص: 490

وغيره من الحيوان والعروض في بيع الطوع دون بيع السلطان والمواريث. انظر الشارح الكبير. وقوله: وتبرؤ غيرهما فيه لخ، قال المواق: من المدونة قال مالك: لا تنفع البراءة مما لم يعلم به البائع في شيء من السلع والحيوان إلا في الرقيق وحدها، فمن باع وليدة أو عبدا وشرط البراءة فقد برئ مما لا يعلم به، إلا من الحمل في الرائعة لأنها تتواضع، ولا يبرأ مما علم. انتهى. ولما كان الواجب على كل من علم من أمر سلعته شيئا يكرهه المبتاع، أو كان يبخس في الثمن أن يبينه أشار إلى ذلك بقوله:

وإذا علمه؛ أي وإذا علمه أي العيب البائع حاكما أو غيره كان المبيع رقيقا أو غيره، بَيَّن أي البائع أنه أي العيب متلبس به؛ أي المبيع، وإيضاح هذا أنه يجب على البائع أن يبين العيب الذي بمبيعه فيخبره به، ووصفه؛ أي وإذا أخبره به فإنه يصفه له وصفا شافيا كاشفا عن حقيقته إن كان مما يخفى كالإباق والسرقة؛ لأنه قد يغتفر في موضع دون آخر، أوأراه أي العيب له، أي للمشتري أي يبَصِّرُه العيبَ الذي بالمبيع إن كان العيب مما يرى، كالقطع والشلل والعور، وعلم مما قررت أن قوله: ووصفه، ليس تفسيرا لقوله: بين. قاله أحمد. قاله عبد الباقي.

ولم يجمله؛ أي وإذا وصف البائع العيب للمشتري فإنه لا يجمله في نفسه أو مع غيره، بل يذكره مفصَّلا أي مبينا، وَوَحْدَه فإن أجمله مع غيره من غير جنسه، كقوله: زان سارق، وهو سارق فقط، لم يَكْفِ لأنه ربما علم المشتري سلامته من الأول، فظن أن ذكر الثاني معه كالأول، فإن أجمله في نفسه مع تفاوته في أفراده كقوله: سارق، فلا ينفعه ذلك في كثير السرقة ولا في يسيرها، كما قاله البساطي، والنقل يوافقه. قاله عبد الباقي. قال بناني: كلام المدونة والنوادر كالصريح فيما قاله البساطي كما في نقل المواق والحطاب، وصرح أبو الحسن بذلك، ولو أتى بلفظ يشمل العيوب كلها كأبيعك عظما في قفة فإنه لا ينتفع في هذا بشيء فله الرد، المواق: من المدونة قال ابن القاسم: من باع بعيرا فتبرأ من دبرته فإن كانت دبرة [منغلة]

(1)

مفسدة لم يبرأ، وإن أراه

(1)

في الأصل منقلة والمثبت من التهذيب ج 3 ص 304.

ص: 491

إياها حتى يذكر ما فيها من [نغل]

(1)

وغيره، وبذلك قال مالك فيمن تبرأ في عبد من إباق، والمبتاع يظن أنه إباق ليلة أو مثل العوالي فيوجد قد أبق إلى مصر أو الشام، ابن المواز: أو أبق مرارا، ابن القاسم: وكذا إن تبرأ من سرقة العبد فظن أنه إنما سرق في البيت الرغيف، فإذا به عاد يثقب بيوت الناس، فلا يبرأ حتى يبين أمره. انتهى. وفي القاموس: النقلة كمحدثة التي ينقل منها فراش العظم وهي قشور تكون على العظم. انتهى. ومن المدونة: لو تبرأ البائع من كي بالأمة فوجد المكي بالظهر أو بالفخذين، فقال المبتاع: ظننته ببطنها فلا رد له إلا أن يكون متفاحشا فيرد، وفي المدونة قال ابن وهب عن مالك: من باع عبدا أو دابة أو غير ذلك وكثَّرَ في براءته ذكر أسماء العيوب فلا يبرأ إلا من عيب يريه إياه ويوقفه عليه، وإلا فله الرد إن شاء، ومنع عمر بن عبد العزيز أن يذكر في البراءة عيوبا ليست في المبيع إرادة التلفيق.

فرع: قال الشارح: إذا باع المعيب ولم يبين قدر العيب الذي به فروى ابن القاسم عن مالك: البيع ثابت، فإن ظهر على الفاحش من ذلك فله الرد، وقال أشهب: يفسخ البيع. قاله في الدبرة والكي والقروح والجراحات. ابن المواز: وقول ابن القاسم أحب إلي لأن أشهب وافق في مسألة الإباق أن البيع ثابت وله الرد. انتهى.

وزواله، عطف على فاعل منع وهو بيع حاكم؛ يعني أن زوال العيب أي ذهابه مما يمنع الرد، سواء زال بعد قيام المشتري به وقبل الحكم، أو زال قبل قيامه، قال الإمام الحطاب: قوله: وزواله، ظاهره سواء زال قبل أن يقوم بالعيب أو بعد القيام به وقبل الحكم، وهو كذلك عند ابن القاسم خلافا لأشهب، قال اللخمي: من اشترى عبدا أو أمة بهما عيب فذهب قبل أن يقوم به لم يكن له الرد، واختلف إذا علم به ثم ذهب فيريد أن يرده به، قال ابن القاسم: لا رد له، وقال أشهب: له أن يرد، والأول أصوب. انتهى.

إلا محتمل العود؛ يعني أن زوال العيب إنما يمنع من الرد حيث كان على وجه يؤمن عوده عادة، فإذا كان محتمل العود فإن المشتري ثابت له الخيار بين الرد والتمسك، كما كان ثابتا له

(1)

في الأصل نقل والمثبت من التهذيب ج 3 ص 304.

ص: 492

قبل زواله، ومثال المحتمل للعود البول في الفرش في وقت ينكر، وسلس البول، والسعال المفرط، والاستحاضة، ونزول دم من قبل ذكر، وبياض العين، ونزول ماء منها مستمر، وبرص وجذام، حيث قال أهل الطب: إنه يعود، فإن زواله ولو قبل البيع لا يمنع الرد، ولو وقع الشراء حال زواله وعلم المشتري حينئذ سلامته لقول ابن حبيب: على البائع أن يبين حصول البول في الفراش وإن انقطع؛ لأن عودته لا تؤمن. انتهى. وهذا بخلاف الحمى إذا زالت. انتهى. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: تكلم المص على حكم المسألة بعد الوقوع، وكذلك ابن الحاجب ولم يتكلما على حكم المسألة ابتداء، وهي ما إذا زال العيب هل يجب على البائع أن يبينه أم لا؟ قال ابن القاسم: وإذا انقطع البول عن الجارية فلا يبيعها حتى يبين لأنه لا تؤمن عودته، وكذلك الجنون فإن لم يبين فهو عيب ترد به. وقال أشهب في البول: فإذا انقطع انقطاعا بينا مضى له السنون الكثيرة فما له أن يبين، وأما إن انقطع ولا يؤمن فلا وللمشتري الرد. انتهى. والظاهر أن هذين القولين متفقان. والله سبحانه أعلم. وقد مر أن وجود زوج للرقيق عيب وذلك يفيده قول المص:

وفي زواله؛ أي عيب التزويج بموت الزوجة أو الزوج وطلاقها؛ يعني أنه اختلف في زوال عيب التزويج بزوال التزويج، فقيل: يزول عيب تزويج العبد بموت زوجته، ويزول أيضا بطلاقها، وكذلك يزول عيب تزويج الأمة بموت زوجها أو طلاقه، والواو بمعنى أو، وكالطلاق الفسخ بغير طلاق. وهو المتأول؛ يعني أن هذا القول هو الذي تأول فضل المدونة عليه. والأحسن، أشار به - والله سبحانه أعلم - إلى أن هذا القول اختاره التونسي. أو بالموت فقط؛ أي وقيل: إن عيب التزويج لا يزول بالطلاق وإنما يزول في العبد بموت زوجته، وفي الأمة بموت زوجها، وهذا القول لابن حبيب وأشهب، قال ابن رشد: وهو أعدل الأقوال، وإلى ذلك أشار بقوله: وهو الأظهر أو لا أي وقيل: إنه لا يزول عيب التزويج بموت الزوج في الأمة، ولا بموت الزوجة في العبد، ولا بالطلاق، وهذا القول رواه ابن القاسم وأشهب عن مالك، قال المواق: قال ابن يونس: روى ابن القاسم وأشهب عن مالك: أن كل عيب يذهب قبل القيام فلا رد به، إلا الزوج للأمة والزوجة للعبد، تنحل العصمة بينهما فله الرد بعد ذلك.

ص: 493

أقوال، مبتدأ وخبره قوله: في زواله، وجعل عبد الباقي الأقوال الثلاثة في الزوجة المدخول بها، فإنه قال: وفي زواله أي عيب التزويج بموت الزوجة المدخول بها والزوج الذي دخل بها؛ إذ الأقوال الثلاثة فيه أيضا، فلو حذف التاء كان أحسن، وكان يقول: أو طلاقه مصدرا مضافا للفاعل أو للمفعول بدل وطلاقها، الواو بمعنى أو، وكالطلاق الفسخ بغيره، وهو المتأول عند فضل على المدونة والأحسن، أو يزول بالموت من أحدهما وهو الأظهر، لكن موتها الذي فرض المص مطلق علية أو وخشا، وموته إنما يزول به عيب الوخش دون الرائعة. انتهى. أي على هذا القول أو لا يزول بموت ولا طلاق لاعتياد كل بالزوجية؛ البساطي: لا ينبغي أن يعدل عن هذا لأن من اعتاده من ذكر أو أنثى لا يصبر عنه غالبا. انتهى. وهي في التزوج بإذن السيد من غير تسلط العبد عليه مع الوطء، لا بغير إذنه أو بإذنه مع تسلط عليه، فعيب ولو لم يطأ، ولا بإذنه من غير تسلط ولم يطأ فغير عيب، وأشعر جعلها في التزويج أن من وهب لعبده أمة ووطئها ثم انتزعها منه فلا يلزمه بيان ذلك عند بيعه له، وبه صرح التونسي، وبحث فيه ابن عبد السلام بجريان علة تعلق القلب فيه. قاله عبد الباقي. قال الرهوني: فرق ابن رشد بينهما بأن للزوجة حقا بخلاف الأمة، ويفرق بينهما أيضا بأن تعلق قلب الزوجة بزوجها أقوى بكثير للمودة التي جعل الله بينهما والرحمة المصرح بهما في كتاب الله العزيز، وباجتماع هذين الأمرين يسقط بحث ابن عبد السلام. فتأمله. انتهى. والله سبحانه أعلم.

وما يدل على الرضا، عطف على فاعل منع؛ يعني أنه يمنع من الرد بالعيب كل ما يدل على أن المشتري رضي بعيب المشترى، من قول كرضيت، أو فعل كاستعمال ما ينقصه الاستعمال، أو سكوت، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، قال الشارح: وأطلق في قوله: ما يدل، ليشمل القول الدال على الرضى بالعيب، والسكوت عن القيام بالعيب من غير مانع من القيام به، إلا أن السكوت لا يدل على الرضى دلالة ظاهرة، إلا إذا طال الزمان، ونحوه في المدونة، وأما الفعل فإنه أقوى في الدلالة من السكوت. انتهى. وقوله: وما يدل على الرضى؛ أي بالعيب، فعلم منه أن المانع من الرد مما ذكر إنما هو بعد الاطلاع على العيب. والله سبحانه أعلم. وقال المواق: وما يدل على الرضا، ابن شأس: ظهور ما يدل على الرضا بالعيب من قول أو فعل أو سكوت مانع من

ص: 494

الرد. ابن يونس: قال ابن القاسم: في الحاضر يركب الدابة ركوب احتباس لها بعد أن علم بالعيب فإنها تلزمه وذلك رضى، وإن ركبها ليردها وشبه ذلك فلا شيء عليه. قال في كتاب الخيار: لو تسوق أو ساوم بالثوب أو لبسه بعد اطلاعه على العيب فذلك رضا منه بالعيب. انتهى. وقرر عبد الباقي المص بغير ما قررته به، فإنه قال: ومنع من الرد بالعيب برقيق أو غيره ما يدل على الرضى بعد الاطلاع عليه، مما تقدم نظيره في خيار التروي من قوله: ورضي مشتر كاتب أو زوج لخ، إلا الإجارة والإسلام للصنعة لأن الغلة للمشتري، كما أنهما لا يدلان على الرد من البائع هناك للعلة المذكورة. انتهى. ونازع بناني في استثناء هاتين، أعني الإجارة والإسلام للصنعة، وردَّه الرهوني. والله سبحانه أعلم.

إلا ما لا ينقص، الاستثناء منقطع على كلا التقريرين؛ لأن ما لا ينقص لا يدل على الرضا، ولو دل على الرضا لمنع من الرد، ومعناه أي معنى المص لكن ما لا ينقص لا يدل على الرضا، ومثل له بقوله: كسكنى الدار؛ أي سكنى المدار لا يدل على الرضا سواء سكنها بنفسه أو أسكنها، قال عبد الباقي: أدخلت الكاف القراءة في المصحف، والمطالعة في الكتب، واغتلال الحائط زمن الخصام لخ؛ وقال بناني: والحاصل من كلام الزرقاني وغيره أن الاستعمال إما أن يكون قبل الاطلاع على العيب أو بعده، وقبل زمن الخصام أو في زمن الخصام، أما الأول فلا يعد رضا مطلقا، وأما الثاني فهو رضا مطلقا، وأما الثالث فيفصل فيه بين ما ينقص كالركوب فهو رضا، وبين ما لا ينقص كسكنى الدار فلا. انتهى. وقال ابن حبيب: إن له غلة الأمة والعبد والدابة زمن الخصومة. اللخمي: وهو حسن لأن الخراج بالضمان، فعليه النفقة فلا يلزم بالإنفاق ويمنع من الانتفاع ومن الخراج، وقد اقتصر في المفيد على ما لابن حبيب، وجعله من رواية عن الإمام وقبله ولم يحك فيه خلافا، بل ذكر من كلام غيره ما يؤيده، فانظره. والله تعالى أعلم.

وحلف إن سكت بلا عذر في كاليوم؛ يعني أن المشتري إذا اطلع على العيب وسكت يوما ونحوه عن القيام به من غير عذر فإنه يحلف ما سكت رضى به، ومفهوم قوله: بلا عذر، أنه لو سكت لعذر لكان له القيام به، وإن سكت أكثر من اليوم ونحوه فلا رد له، وإن كان سكوته أقل من

ص: 495

اليوم رَدَّ بلا يمين، قال في المدونة: فإن سكت لعذر كخوف على نفسه ونحوه فإن ذلك لا يبطل خياره، وإن سكت أكثر من ذلك فلا خيار له. قاله الشارح. وقال الخرشي: اعلم أن سكوته لعذر لا يمنع الرد مطلقا، ولغيره فيه تفصيل، فإن كان أقل من اليوم رد بلا يمين، وإن كان كاليوم حلف، وإن كان أكثر من كاليوم فلا رد له، وقوله: وسكت بلا عذر في كاليوم، انظر ما أدخلته الكاف، ولما قدم أن تصرف المشتري اختيارا يمنع الرد أخرج منه مسألتين، فقال:

لا كمسافر اضطر لها؛ يعني أن المبتاع إذا اطلع على عيب بالدابة وهو في سفر فاضطر لركوبها أو الحمل عليها فتمادى على ذلك فإنه لا يبطل خياره بذلك؛ لأن فعل المضطر لا يدل على الرضا إذ هو كالمكره، وإلى هذا ذهب ابن القاسم ورواه عن مالك في العتبية، وبه أخذ أصبغ وابن حبيب، قال في العتبية: وليس عليه شيء في ركوبها. قاله الشارح في الكبير. وقال المواق عن ابن القاسم: ولا عليه أن يكري غيرها ويسوقها وليركب، فإن وصلت بحالها ردها، وإن عجفت ردها وما نقصها، أو يحبسها ويأخذ قيمة العيب. انتهى. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: لا يدل على الرضا في عيب دابة اطلع عليه بسفر ونحوه ركوب كمسافر ومكره اضطر لها في الركوب، بل ولغير اضطرار على المعتمد لعذره بالسفر حيث لا يمكن ردها، ففي الشامل: وعُذِر مسافر ولا يلزمه ردها إلا فيما قرب وخفت مئونته، ويستحب له أن يشهد أن ذلك ليس رضى منه. انتهى. والرقيق كالدابة وليس عليه كراء في ركوبها أي الدابة، واستعماله أي الرقيق. انتهى. قوله: بل ولو لغير اضطرار على المعتمد لخ، قال بناني: صحيح؛ إذ هو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في العتبية، وبه أخذ أصبغ وابن حبيب، قال ابن رشد في البيان: وابن نافع يقول: إنه لا يركبها ولا يحمل عليها إلا أن لا يجد من ركوبها والحمل عليها بُدًّا في السفر أو الغزو، فليشهد على ذلك ويركبها، أو يحمل عليها إلى الموضع الذي لا يجوز له أن يركبها فيه. انتهى. ونقله في التوضيح أيضا، وهذا الثاني هو ظاهر المص لكن يجب حمله على الأول لأنه الراجح. انتهى. وقال الرهوني: إن ما قاله المص من الاضطرار هو الراجح. انتهى. وعلم من كلام عبد الباقي أن الكاف في قوله: كمسافر، أدخلت المكره، وبه صرح الخرشي، فقال: وأدخلت الكاف المكره.

ص: 496

أو تعذر قوْدها لحاضر؛ يعني أن الحاضر إذا اطلع على العيب في الدابة فإنه ينزل عنها ولا يركبها إلا إذا تعذر قودها لمكانه، إما من جهة الدابة ككونها لا تنقاد، أو من جهته لكونه من ذوي الهيئات الذين يزري بهم قودها؛ قاله الشارح. وقال عبد الباقي: أو تعذر قودها بسكون الواو لعسرها، أو من جهته ككونه من ذوي الهيئات، لحاضر ركبها لغير الرد، بل لمحله مثلا بعد اطلاعه على عيبها، وأما ركوب الرد ولو اختيارا فلا يمنعه. انتهى. وقوله: لحاضر، اللام بمعنى على، وقوله: ركبها لغير الرد بل لمحله لخ، نحوه في التوضيح فانظره. قاله بناني. وقال المواق عند قوله: أو تعذر قودها لحاضر، ما نصه: ابن شأس: على المشهور ينزل عن الدابة إن كان راكبا إلا أن يتعذر عليه القوْد فيعذر في الركوب إلى مصادفة الخصم أو القاضي على الخلاف في ذلك. انتهى. وقال التتائي: وأما وطء الأمة ولبس الثوب فَرِضًا اتفاقا. انتهى.

فإن غاب بائعه أشهد؛ يعني أن المشتري إذا اطلع على العيب والبائع غائب فإنه يشهد شاهدين على عدم الرضا بالعيب، ويرد عليه إن أمكن مثل أن يكون قريب الغيبة أو له وكيل حاضر، فإن لم يكن فهو قوله: فإن عجز أعلم القاضي؛ يعني أن المشتري إذا عجز عن الرد لبعد الغيبة وعدم الوكيل فإنه يعلم القاضي بعجزه أي رفع الأمر إليه، قال عبد الباقي: وما ذكره من قوله: أشهد إلى آخره، ضعيف والمعتمد كما في ابن عرفة أنهما غير شرط في الرد فله انتظاره عند بعد غيبته، وعند عدم وكيل له حتى يحضر، فيرد عليه المبيع المعيب إن كان قائما، ويرجع بأرشه إن هلك، وإن لم يشهد ولا أعلم الحاكم لثقل الخصومة عند القضاة، وهذا تعليل ابن القاسم، وهو إنما يظهر في قوله: فإن عجز أعلم القاضي دون ما قبله، وللبائع إذا قدم تحليف المشتري على عدم الرضا بالعيب، وإن لم يقل: أخبرني مخبر برضاك به، فيستثنى من قوله الآتي: ولا الرضا به، مسألة الغائب هذه. انتهى. وقوله: فإن عجز أعلم القاضي، هذا إذا أراد القيام في غيبة البائع، فإن لم يرده فلا حرج، والحاصل أن المص أتى بالإشهاد وإعلام القاضي، فأما الإشهاد فليس بمسلم، وأما إعلام القاضي فلابد منه إن أراد القيام بالعيب في غيبة البائع. قاله بناني كالمتعقب به قول عبد الباقي: وما ذكره من قوله لخ. والله سبحانه أعلم.

ص: 497

فتلوم في بعيد الغيبة إن رجي قدومه؛ يعني أن المشتري إذا اطلع على العيب وعجز عن الرد فإنه يعلم القاضي بعجزه عن الرد؛ أي يرفع الأمر إليه في ذلك، فإذا علم بذلك فإن القاضي يتلوم له في البائع البعيد الغيبة حيث كان يرجى قدومه، ومعنى يتلوم له ينتظر بالرد مدة موكولة إلى اجتهاده لعله أي البائع يقدم، ومفهوم قوله: إن رجي قدومه، أنه لو لم يرج قدومه لا يتلوم له، بل يحكم عليه بالرد عاجلا. قال عبد الباقي مفسرا للمص: فتلوم يسيرا في بعيد الغيبة كالعشرة الأيام مع الأمن واليومين مع الخوف إن رجي قدومه لا إن لم يرج قدومه فلا يتلوم له، وأما قريب الغيبة كيومين مع الأمن فهو في حكم الحاضر فيكتب إليه ليحضر، فإن أبى حكم عليه بالرد كالحاضر. انتهى. ونسخة عبد الباقي: أوان، قال وهو ظرف زمان مضاف إلى رجي. انتهى. وهو جواب عن قول الش: الأولى حذف أو، من قوله: أو إن رجي قدومه. انتهى. وكلام المص في معلوم الموضع، وأما إن جهل موضعه فهو قوله:

كإن لم يعلم موضعه؛ يعني أن المشتري إذا اطلع على عيب في المبيع في غيبة بائعه وهو مجهول الموضع فإن الحكم في ذلك كالحكم في بعيد الغيبة فيتلوم له؛ أي لمن لم يعلم موضعه حيث رجي قدومه، لا إن لم يرج قدومه وهو قول ابن القرطبي، ابن سهل: وهو أصوب، ولهذا قال: على الأصح، ومقابله لابن القطان: لا يقضى عليه. انتهى. قال الحطاب عند قوله: كإن لم يعلم موضعّه على الأصح، الأصح قول ابن مالك القرطبي، والمصحح له ابن سهل. انتهى. والقرطبي نسبة إلى قرطبة.

وفيها أيضا نفي التلوم؛ يعني أن ما تقدم من التلوم لبعيد الغيبة وقع في المدونة في موضع، ووقع في موضع آخر من المدونة: أنه لا يتلوم لبعيد الغيبة، قال في كتاب التجارة لأرض الحرب فيمن أسلم عبده النصراني والسيد غائب: إن كان قريبا نظر السلطان فيه وكتب في ذلك، وإن كان بعيدا بيع عليه ولم ينتظر؛ لأن مالكا قال في النصرانية تسلم وزوجها غائب: إن كان قريبا نظر الحاكم في ذلك خوفا أن يكون قد أسلم قبلها، وإن كان بعيدا أو كان لم يدخل بها تزوجت مكانها ولم ينتظر قدومه ولا عدة عليها، فأسقط في هاتين المسألتين التلوم في بعيد الغيبة، فأنت

ص: 498

ترى المدونة في كتاب التجارة صرحت بعدم الانتظار مرتين، وهو عدم التلوم، فقول المص: وفيها أيضا نفي التلوم، معناه على ظاهره أي وفيها التصريح بأنه لا يتلوم له وهو ظاهر.

وفي حمله على الخلاف تأويلان؛ يعني أن شارحي المدونة اختلفوا في الموضعين هل هما خلاف فكل من المحلين باق على عمومه؟ أو وفاق، وعليه فالموضع الذي فيه التلوم حيث رجي قدوم الغائب، والموضع الذي فيه نفي التلوم هو ما إذا لم يرج قدومه؛ والله سبحانه أعلم.

وهذا الذي قررت به المص هو الذي قرره به الشيخ محمد بن الحسن، وقرره عبد الباقي بأن معناه: وفيها أيضا نفي ذكر التلوم، قال: لأن الذي فيها في الموضع الآخر السكوت عن التلوم لا نفيه، فعلى الوفاق يحمل المحل المسكوت فيه عن التلوم على ما إذا لم يرج قدوم البائع، أو على ما إذا خيف على المبيع الهلاك أو الضياع فيباع، ويحمل المحل الذي فيه التلوم على ما إذا طمع في قدومه، ولم يخف على المبيع ذلك، وعلى الخلاف الأمر ظاهر، قال بناني: وقول عبد الباقي: لأن الذي فيها في الموضع الآخر السكوت لخ، نحوه لابن غازي، ولهذا قدر في المص مضافا أي نفي ذكر التلوم، وأصله للمتيطي، ونصه: وفي التجارة لأرض الحرب منها: إن بعدت غيبته قضي عليه ولم يذكر تلوما. انتهى. ونقله المواق وابن غازي، ونقله أيضا ابن عرفة وأقره، ونحو ما للمتيطي لأبي الحسن، ورده بعض الشيوخ بأن كتاب التجارة لأرض الحرب مصرح فيه بنفي التلوم لا مسكوت عنه كما ذكروه، ويتبين ذلك بكلام ابن سهل في أحكامه، فإنه بعد أن ذكر قول المدونة في كتاب العيوب: وأما البعيد فيتلوم له إن كان يطمع بقدومه، فإن لم يأت قضي عليه، قال ما نصه: قال في هذه المسألة: إنه يتلوم للغائب إن كان بعيد الغيبة، وقال في كتاب التجارة لأرض الحرب: فيمن أسلم عبده النصراني، إلى آخر ما مر.

تنبيه: قال الرهوني: قد يقال: لا معارضة بين هاتين المسألتين؛ يعني المسألتين المتقدمتين، مسألة العبد يسلم وسيده الكافر غائب ومسألة الزوجة تسلم وزوجها الكافر غائب، ومسألة العيب، ولا يلزم الإمام ولا ابن القاسم رضي الله عنهما ما ألزموهما من التناقض لظهور الفارق من وجوه، أحدها: أن الرد بالعيب حق آدمي، وبيع السلم المملوك للكافر، وفسخ نكاح المسلمة

ص: 499

تحت الكافر، كل منهما حق لله؛ والثاني آكد ولذلك يقدم على الأول عند التعارض. ثانيها: أن احتمال إسلام الكافر الذي أسلم عبده أو زوجته نادر، واحتمال تبري البائع من هذا العيب بخصوصه ليس كذلك، وعلى احتمال أن لا يكون تبرأ منه فيحتمل أن يكون هذا المشتري علم بذلك العيب حين الشراء. ثالثها: أنه قد يدعي البائع إذا قدم أن يكون وقع من المشتري ما يمنعه من الرد كالركوب مثلا وذلك مفقود في المسألتين. رابعها: أن في التلوم للغائب وانتظاره في مسألة العيب فائدة، وهي أن قدومه عند الأجل إن وقع أو عدم وقوعه لا يتحتم القضاء عليه بالرد لاحتمال زوال العيب زمان التلوم، أو رضى المشتري به إذ ذاك، وكلاهما مانع من الحكم عليه بالرد بخلاف المسألتين. فتأمله بإنصاف. والله أعلم انتهى.

ثم بعد مضي زمن التلوم قضى القاضي للمبتاع على الغائب بالرد عليه إن أثبت المشتري عند القاضي عهدة؛ أي أنه المشتري على حقه في العيب، وأن البائع لم يتبرأ له من الرد بالعيب القديم في الرقيق وغيره، وقبلت الشهادة وإن كانت بالنفي لأنه نفي محصور أي متعلق بمعين، وليس المراد هنا عهدة الثلاث أو السنة، واعلم أن عهدة الإسلام وهي درك المبيع من الاستحقاق والبراءة منها لا تنفع على المعتمد، فإذا استحق رد ولا يعمل بتبرية منه ويسقط الشرط ويصح البيع كما مر، فلا يحتاج المشتري حينئذ إلى إثبات شرائه عليها، وتفسير بعضهم لعهدة الإسلام بدرك المبيع من العيب والاستحقاق متعقب بأن المعتمد اختصاصها بالثاني. مؤرخة، صفة عهدة ليعلم من تأريخها قدم العيب أو حدوثه، وإسناد التأريخ لها مجاز؛ إذ المؤرخ حقيقة زمن البيع. قاله عبد الباقي. فمعنى التأريخ تبيين وقت البيع. والله سبحانه أعلم.

وصحةَ الشراء عطف على عهدة؛ أي قضى إن أثبت عهدة أي عدم براءة من العيب وصحة الشراء أي يثبت أن الشراء، صحيح خوف دعوى البائع إذا حضر فساده فيكلفه اليمين بالصحة، وإنما يلزمه إثبات هذين الأمرين إن لم بحلف عليها؛ أي العهدة وصحة الشراء، فإن حلف عليهما لم يحتج لإثباتهما، قال بناني عند قوله: إن أثبت، ما نصه: هذا شرط في قوله: ثم قضى، وفي قوله قبله: فتلوم في بعيد الغيبة لخ؛ لأن التلوم إنما يكون بعد إثبات الموجبات، قال أبو الحسن: يثبت الحكم في هذه المسألة بتسعة شروط، وثلاثة أيمان. أحدها: أن يثبت أنه

ص: 500

ابتاع. الثاني: مقدار الثمن. الثالث: أنه نقده. الرابع: أمد التبايع. الخامس: ثبوت العيب. السادس: أنه ينقص من الثمن. السابع: أن العيب أقدم من أمد التبايع. الثامن: ثبوت الغيبة. التاسع: كونها غيبة بعيدة أو بحيث لا يعلم. وأما ثلاثةُ أيمان: فإنه يحلف أنه ابتاع بيعا صحيحا، وأنه لم يتبرأ له من العيب ولا بينه له ولا أراه إياه فرضيه، والثالث أنه ما رضي بالعيب حين علم به وله أن يجمعها. انتهى. وانظر التوضيح والحطاب. قال عبد الباقي: وأما الحلف على عدم اطلاعه على العيب بعد البيع وعدم الرضا به فلابد منه، ولا تكفي فيه البينة إذ لا يعلم إلا من جهته، وقد يخبر بخلاف ما في ضميره. انتهى. وقال عبد الباقي: زاد الموثقون: ويحلف أيضا أنه لم يتبرأ له من المعيب ولا اطلع عليه بعد البيع ورضيه، ولا استخدم الرقيق بعد الاطلاع. انتهى. وإن أراد أخذ الثمن فلابد من إثبات أن الثمن كذا، وأنه نقده، إلا أن يكون قد مضى من المدة ما لو أنكر البائع القبض كان القول قوله أي المشتري مع يمينه أنه دفعه إليه كعام أو عامين، وقوله: وصحة الشراء، قال بناني: قال ابن عرفة: وفيها قلت: إن كان ذلك في بيع فاسد؟ قال: لم أسمعه، وأرى إن أقام البينة أنه ابتاع بيعا حراما ونقد ثمنه ولم يفت بحوالة سوق حكم فيه كالصحيح، وإن فات جعله القاضي عليه بقيمته ويترادان الفضل متى التقيا. انتهى. وأشار إلى المانع الرابع من الموانع المانعة للرد بالعيب بقوله:

وفوته حسا؛ يعني أن مما يمنع الرد بالعيب فوت المبيع حسا لتلف عمدا أو خطئا أو غصب منه، أو حكما ككتابة وتدبير، وعتق وصدقة وهبة لغير ثواب، قبل اطلاعه على العيب، وإذا فات الرد بفوات المبيع تعين الأرش، فيدفعه البائع للمشتري، ويأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، والأرش للواهب والمتصدق لا للمعطى إذ لم يخرج عن ملك المعطي بالكسر إلا المعيب فالأرش لم يتناوله عقد العطية. قاله التتائي والحطاب.

وعلم مما قررت أن قوله: ككتابة، تمثيل لشيء لم يذكره وأنه ترك تمثيل ما ذكره لظهوره، ويحتمل أنه تشبيه بما قبله، والأول أولى لدخول نحو ما ذكر بخلاف كاف التشبيه فلا تدخل شيئا، وظاهره الفوات بها ولو عجز المكاتب قبل أخذ الأرش أو بعده أو مرض العبد مرضا فات

ص: 501

به المقصود ثم زال، لكن في الشامل ما يفيد أن له الرد إن فات قبل أخذ الأرش. انتهى؛ يعني: وزال المفيت، قال عبد الباقي: ونصه يعني الشامل: ولو أخذ الأرش لمرض العبد عنده أو كتابته ثم صح أو عجز فات. انتهى. أي لأن أخذ الأرش يدل على الرضى بالعيب، فزوال المفوت بعده لا يوجب ردا إذ لا رد بعد الرضا بالعيب، بخلاف زواله قبل أخذ الأرش فإنه زوال قبل حصول ما يدل على الرضا بالعيب فله الرد. انتهى. وكذا يفوت المعيب بحبس المشتري عن نفسه، بخلاف ما إذا أوصى أحد بشراء شيء ليحبس عنه ففعل ذلك. قاله عبد الباقي. وقال بناني عند قوله: وفوته حسا لخ، بين أن فوته بذهاب عينه وخروجه من يد المشتري بلا عوض هو محل الأرش، وأما خروجه من يده بعوض فلا أرش فيه، وسيقول فيه: فإن باعه لأجنبي لخ.

فرع: إذا لم يقم المشتري بالعيب حتى قدم البائع فأنكر أن تكون السلعة له والبيعَ من أصله، أو كان المقوم عليه حاضرا وأنكر ذلك، ففي أجوبة ابن رشد: أن أبا الفضل عياضا سأله عنها، والسؤال رجل قام على آخر بعيب في سلعة فأنكر المدعى عليه وأنه ما باعها منه هل يقدم إثبات العيب قبل اليمين على إنكار المبيع مخافة أن لا يكون بها عيب فتذهب يمين الرجل باطلة أو تقدم اليمين على إنكار البائع؟ جوابه: الذي أراه في هذا أن من حق القائم بالعيب أن يحلف المقوم عليه على إنكار البيع قبل أن يثبت العيب حتى تقرر له العهدة على البائع، ألا ترى أن له أن يحلفه على إنكار البيع وإن لم يدع أن بالسلعة عيبا؟ فإن حلف أنه ما باع منه السلعة لزمه إثبات البيع إن كانت له بينة لم يعلم بها وإثبات العيب، وإن نكل عن اليمين حلف هو واستحق العهدة عليه ولزمه أن يثبت العيب. وبالله التوفيق لا شريك له.

فرع آخر: قال الشيخ أبو علي: قال ابن عرفة: ولو كانت الهبة لمن له اعتصارها منه ففي كونها فوتا أم لا، قولا ابن حبيب وابن الكاتب. انتهى. وإذا فات المبيع المعيب ووجب للمبتاع الأرش فإنه (يقوم) يوم ضمنه المشتري مقوما أو مثليا (سالما) بمائة مثلا (ومعيبا) بثمانين ويأخذ المشتري (من الثمن النسبة) أي نسبة نقص قيمته معيبا إلى قيمته سليما وهي الخُمُس في المثال المذكور فيرجع على البائع بخمس الثمن قل أو كثر. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وقال عبد الباقي: والمعتبر في القيمة يوم دخل المبيع في ضمان المشتري لا يوم القبض كما يؤخذ من قول المص: يوم

ص: 502

ضمنه المشتري، وصرح بذلك في التوضيح، وقاله في المدونة، وقال المواق: ابن يونس عن ابن القاسم: تفسير الرجوع بقيمة العيب أن ينظر إلى قيمة الجارية صحيحة يوم اشتراها على أن لا عيب بها، فيقال: مائة دينار وقيمتها حينئذ على أن بها العيب فيقال: ثمانون دينارا فقد نقصها العيب الخُمُسَ، فيوضع عن المشتري ما بين القيمتين وهو خمس الثمن كان الثمن أكثر من القيمة أو أدنى، فإن كان الثمن خمسين حط عنه عشرة لأنه باع منه خمسة أجزاء فدفع إليه أربعة وبقي عنده جزء فوجب أن يرجع بثمنه فصح له في الأربعة الأجزاء أربعون. انتهى.

ووُقِف في رهنه وإجارته لخلاصه؛ يعني أن المشتري إذا رهن الشيء المشترى أو آجره ثم بعد ذلك اطلع على عيب فيه، فإنه يوقف أي يمهل في رهنه وإجارته أي يترك على حالته من رهنية وإجارة إلى أن يخلص من الرهنية والإجارة فيرده المشتري حينئذ إلى البائع، فالمراد بالوقف الإمهال، فلا يقضى برد ولا إلزام، واللام في لخلاصه للغاية، ومعنى الخلاص زوال الرهنية والإجارة عنه. والله سبحانه أعلم قال عبد الباقي مفسرا للمص: ولو تعلق بالمبيع حق من رهن المشتري له أو إجارته قبل علمه بالعيب وقف في رهنه وإجارته ونحوهما كإخدامه وعاريته لخلاصه، ولم يكن الفعل المذكور مانعا من الرد بل رد بعد خلاصه إن لم يتغير، وظاهر المص أن له الرد وإن لم يشهد حين علم بعيبه بعد رهنه مثلا أنه ما رضي بالعيب وهو كذلك، وظاهره أيضا أن له الرد بشرطه ولو قام به على البائع حين تعلق الرهن ونحوه به وحكم عليه بأنه لا أرش حينئذ وهو كذلك، فإن حكم عليه بأنه لا رد له رجع لمذهب الحاكم سواء كان مذهبه لا رد له ما دام في الرهن فقط، أو لا رد له مطلقا. انظر الحطاب. انتهى. وقال بناني عند قوله: ووقف في رهنه وإجارته لخلاصه، ما نصه: هذا مقيد بما إذا عجز حين اطلع على العيب عن استخلاصه من الرهن أو الإجارة كما في التوضيح، ابن عرفة: ونصه: وإن علم عيبه بعد رهنه وإجارته ففي وجوب كونه كفوته إن عجز عن استخلاصه وبقائه على حكم رده لاستخلاصه، ثالثها: إن بعد كالأشهر والسنة فالأول، وإن قرب كالشهر ونحوه فالثاني، لأشهب وابن القاسم فيها وغير واحد عن ابن حبيب. انتهى. وقال الحطاب: حكم الرهن والبيع الصحيح وهبة

ص: 503

الثواب سواء في أنه لا رجوع للمشتري بشيء حتى تعود له السلعة على مذهب ابن القاسم في المدونة، قال في الأم: والرهن والبيع الصحيح والإجارة إذا أصاب العيب بعد ما رهن أو آجر فلا أراه فوتا، ومتى رجع إليه بافتكاك الرهن أو انقضاء أجل الإجارة فأرى له أن يردها إن كانت بحالها، وإن دخلها عيب مفسد ردها وما نقص العيب الذي حدث بها. انتهى. وهذا مفهوم قول المص: إن لم يتغير، وقال عبد الباقي: فإن تغير جرى فيه ما يأتي من التغير القليل والمتوسط والمخرج عن المقصود. انتهى. وقال الشارح عند قوله: ووقف في رهنه لخ، هكذا قال ابن القاسم في المدونة، وقال أشهب: إن افتكها حين علم بالعيب فله الرد والأرجح بما بين الصحة والداء، وظاهر قول ابن القاسم وأشهب كانت المدة قريبة أو بعيدة، وقال ابن حبيب: إذا كان الأجل قريبا كالشهر ونحوه فليؤخر إلى انقضائه وهو على أمره، وإن كان بعيدا كالأشهر والسنة فهو كالفوات يرجع بقيمة العيب إلا أن يفتكها معجلا فليردها؛ أبو محمد وابن يونس: وهو خلاف قول ابن القاسم وأشهب. انتهى.

تنبيه: قد مر أن قوله: فيقوم سالما ومعيبا لخ، في القوم والمثلي، قال الشيخ أبو علي: قال ابن يونس: قال مالك: وإن ابتعت حنطة كانت مبلولة فجفت أو عسلا أو لبنا مغشوشا فلم تعلم بذلك حتى أكلت ذلك فلك الرجوع بما بين الصحة والداء؛ إذ لا يوجد مثله لغشه، ولو وجدت مثله في غشه حتى يحاط بعلم ذلك لرددت مثله وأخذت جميع الثمن؛ وقال سحنون: لا يرد مثله وإن وجد مثله ويرجع بقيمة العيب.

كعوده له بعيب، تشبيه في قوله: ورد إن لم يتغير، ومعنى كلامه أن المشتري إذا باع الشيء المعيب قبل اطلاعه على العيب ثم عاد له بذلك العيب أو بعيب حدث عنده زمن العهدة حيث اشترى بها فله رده على البائع، وعوده لتفليس أو فساد كذلك، قال عبد الباقي: كعوده له بعد خروجه عن ملكه غير عالم بالعيب بعيب كان هو القديم فقط أو حدث عند المشتري زمن العهدة حيث اشترى بها، فله رده على البائع وعوده لتفليس أو فساد كذلك. انتهى. وقال الشارح، يعني فإن كان المشتري قد أخرج المبيع من يده ببيع أو نحوه ثم عاد إليه بأن رد عليه بعيب فإنه أيضا يرده على بائعه. انتهى. وقوله: كعوده تشبيه تام أي فيرد إن لم يتغير، فإن تغير

ص: 504

جرى على الأقسام الثلاثة الآتية في كلام المص، وقوله: كعوده له، سواء عاد له قبل الاطلاع على العيب أو بعده، لكن لابد أن يكون باعه قبل الاطلاع على العيب. قاله الخرشي. وقوله: كعوده له بعيب، قال الشيخ أبو علي: إنما نكر لفظ عيب ليشمل إذا رد بعيب كان عند البائع الأول أو حدث عند البائع الثاني، أما الأول فلا إشكال، وأما الثاني فكذلك، لكن يخير في المتوسط في قبض أرش القديم ورد العبد ودفع قيمة الحادث عنده على ما يأتي. انتهى.

أو بملك مستأنف؛ يعني أنه إذا عاد إلى المشتري الشيء المعيب بملك مستأنف فإن له أن يرده علىْ بائعه بشرط أن يكون قد خرج عن ملكه قبل علمه بعيبه، ومثل للملك المستأنف بقوله: كبيع؛ أي باعه شخص للمشتري بعد أن خرج عن ملكه غير عالم بالعيب فله رده ولو اشتراه المشتري عالما بعيبه؛ لأنه يقول: اشتريته لأرده على بائعه. أوهبة؛ يعني أن المشتري للمعيب إذا خرج عن ملكه ثم عاد إليه بهبة فإن له أن يرده على بائعه، وهذا حيث خرج عن ملكه غير عالم بالعيب وإلا فلا. أو إرث؛ يعني أن المعيب إذا عاد إلى المشتري له بإرث فإن له أن يرده على بائعه، وهذا حيث خرج من يد المشتري غير عالم بالعيب وإلا فلا، وقوله: كبيع أي فله رده على بائعه الأول لا الثاني، وهذا مذهب ابن القاسم في المدونة، وقال أشهب: إن عاد إليه ببيع خير بين أن يرده على بائعه الأول كما قال ابن القاسم، وبين أن يرده على بائعه الثاني، وإنما يرد المشتري على البائع الثاني حيث اشتراه منه غير عالم بالعيب، لا إن علمه فلا يرد إلا على البائع الأول، ثم على قول أشهب إن رد المشتري على البائع الثاني أخذ منه الثمن، ثم يخير البائع الثاني بين أن يتماسك به أو يرده على المشترى الأول، فإن رده عليه فله أن يرده على البائع الأول. أنظر الشارح. وعلم من المص أن الأقسام ثلاثة: عوده له ولم يخرج عن ملكه، وذكره بقوله: ووقف في رهنه وإجارته لخلاصه؛ وعوده له بعد خروجه عن ملكة بملك غير مستأنف، كعوده له بعيب؛ وعوده له بملك مستأنف كبيع أو هبة أو إرث والعود بملك مستأنف على ثلاثة أنواع: عود بمعاوضة كبيع أو هبة ثواب؛ وعود بلا عوض كهبة اختيارا فيهما، وعود جبري كالإرث. فعلم أن له الرد إن عاد إلي من غير فرق بين أن يكون عاد إليه جبرا أو

ص: 505

اختيارا، وأشعر قوله: كعوده له بعوده كله فإن عاد له بعضه فإن كان المبيع مما لا ينقسم خير البائع في قبول ذلك البعض برد ما ينوبه من الثمن ورد منابه من قيمة العيب، فلو عاد إليه النصف مثلا خير البائع بين دفع نصف الثمن وأخذ النصف، وبين دفع قيمة نصف العيب فيتماسك المشتري بالنصف، وإن كان مما ينقسم كثوب من ثياب فله رده على بائعه كما يأتي في قوله: ورد بعض المبيع بحصته، وإذا باع المشتري البعض قبل الاطلاع على العيب وأبقى البعض فقال ابن عرفة: وفيها من اطلع على عيب بعبد بعد بيعه نصفه خير بائعه في قبول نصفه برد نصف ثمنه ورد نصف قيمة عيبه، ومثله في سماع عيسى فحكمها حكم الأولى. والله سبحانه أعلم.

فإن باعه لأجنبي مطلقا؛ يعني أن المشتري للمعيب إذا باعه لأجنبي أي غير البائع ولم يرده له فإنه لا رجوع له على البائع سواء باعه للأجنبي بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، ولو رده الأجنبي للمشتري، فإن كان المشتري قد باعه له قبل الاطلاع على العيب فله رده على البائع كما مر، وإن باعه له بعد اطلاعه على العيب فلا رجوع له على البائع؛ أي لا يرده عليه. قال عبد الباقي: فإن باعه المشتري لأجنبي أي غير البائع ولو ابنه أو أباه سقط حقه من القيام بالعيب، فلا رد له مطلقا أي باعه بمثل الثمن الأول أو أقل أو أكثر، بعد اطلاعه على العيب أو قبله: ما دام لم يعد إليه، وإلا رد في الأخير دون ما قبله، وسواء كان البائع مدلسا أم لا. انتهى؛ يعني أن معنى قوله: مطلقا، سواء باعه بمثل الثمن الأول أو أقل أو أكثر، وسواء دلس البائع أم لا، وقال بناني عند قوله: مطلقا، أما إذا باعه بمثل أو أكثر فواضح، وبأقل فلا رجوع أيضا؛ ابن القاسم: لأنه إن باعه بعد الاطلاع فقد رضي، وقبله فالنقص لحوالة الأسواق لا للعيب، وقال ابن المواز: إلا أن يكون النقص من العيب، كما لو باعه هو أو وكيله ظانا حدوث العيب فيرجع على بائعه بالأقل مما نقصه من الثمن أو قيمته، وجعل ابن يونس وابن رشد وعياض قول ابن المواز تقييدا لقول ابن القاسم، فكان على المص أن لو نبه على ذلك. انتهى. وعزاه الرهوني لابن القاسم في الموازية.

ص: 506

أو له بمثل ثمنه، ضمير له يرجع للبائع؛ يعني أن المشتري إذا باع المعيب لبائعه الأول بمثل الثمن فإنه لا رجوع له على بائعه الذي اشتراه الآن، سواء باعه بعد اطلاعه على العيب أم لا، دلس أم لا، غير أن للمشتري الثاني وهو البائع الأول رده عليه إذا باعه بعد اطلاعه على العيب لأنه بمنزلة ما حدث عنده. أو بأكثر إن دلس؛ يعني أن المشتري للمعيب إذا باع الشيء المعيب لبائعه بأكثر من الثمن قبل الاطلاع على العيب وكان البائع مدلسا فإنه لا رجوع للبائع الأول الذي هو المشتري الثاني على البائع الثاني الذي هو المشتري الأول بما أخذه من الزيادة، وليس له رد المبيع عليه لظلمه بتدليسه.

وعلم مما قررت أن قوله: فلا رجوع، جواب عن المسائل الثلاث، ولقد أحسن المص في حذف متعلق فلا رجوع لاختلافه في المسائل المذكورة. قاله عبد الباقي. والله سبحانه أعلم.

وإلا؛ أي وإن لم يكن البائع الأول مدلسا والحال أنه اشتراه بأكثر من الثمن الأول، رد أي البائع المبيع على المشتري الأول، ثم رد المشتري عليه؛ أي على البائع الأول إن لم يرض المشتري بالتمسك به؛ وقولي: قبل الاطلاع على العيب، تحرز عما إذا باعه له بأكثر بعد اطلاعه على المعيب، فالظاهر أن البائع الأول مخير بين أن يرد وأن يتماسك، وإذا رد فليس للبائع الثاني أن يرد عليه لأنه باع بعد علمه بالعيب فقد رضي به. قاله بناني.

وبأقل كمل؛ يعني أنه إذا باع الشيء المعيب المشترى قبل اطلاعه على العيب للبائع الأول بأقل من الثمن الأول فإنه يكمل البائع الأول للمشتري الأول الثمن الأول، دلس أم لا، فإن باعه بعد اطلاعه على العيب لم يكمل له، دلس أم لا، ابن عبد السلام: في تكميله له إذا لم يكن مدلسا نظر لإمكان كون النقص من حوالة الأسواق كما هي حجة ابن القاسم إذا باعه بأقل لأجنبي. انتهى. ونحوه في التوضيح، وقد يفرق بين المحلين بأن ما هنا لا ضرر على البائع فيه لرجوع سلعته ليده، بخلاف ما هناك فضرره أشد. قاله المسناوي. قاله بناني. وقال عبد الباقي: قال أحمد: لو قال المص: وبأقل كفاه. السنهوري: إنما كرر له لوجود الفاصل الذي ربما أثار تشويشا على الفهم. انتهى. فإن قيل: لِمَ لَمْ يكن الحكم هنا أنه يرد ثم يرد عليه أي حيث لم يكن مدلسا

ص: 507

كما في بيعه بأكثر؟ فالجواب: أن الرد من المشتري الثاني لأجل العيب إنما يكون باختياره، ومن شأنه أن يختار الرد إن اشترى بأكثر والتمسك إن اشترى بأقل، فلذا عبر في الأولى بالرد وفي الثانية بتكميل الثمن. قاله بناني. وأشار إلى مفهوم قوله: إن لم يتغير، بقوله:

وتغير المبيع، وهذا التغير عام فيما وقف في رهنه وإجارته لخلاصه وفي غيره؛ يعني أن المشترى المعيب إذا تغير عند المشتري في زمن ضمانه فإن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكثر، وإما أن يتوسط، وإما أن يقل، فأما إن توسط بين الكثير المخرج عن المقصود وبين القليل الذي هو كالعدم فله؛ أي للمشتري التمسك بالمعيب وأخذ أرش العيب القديم، له رده أي المبيع ودفع أرش العيب الحادث عنده، ومحل التخيير إن لم يقبله البائع بالحادث بغير أرش، فيخير بين أن يتماسك ولا شيء له أو يرد ولا شيء عليه، كما يأتي في قوله: إلا أن يقبله بالحادث، وإنما كان الخيار له دون البائع لأنه هو المالك لذلك، ويستثنى من هذا التخيير حدوث سمن الدابة المعيبة بقديم فإنه إن تماسك أخذ أرش القديم، وإن رد فلا شيء عليه على المعتمد، خلافا لما يأتي من عده له في المتوسط، وأشعر كلامه أن التخيير المذكور قبل التقويم وهو كذلك على ظاهر المذدونة، بخلاف الاستحقاق فيجب فيه التقويم قبل التخيير ليلا يؤدي البداءة به إلى التمسك بثمن مجهول، واغتفر ذلك في العيب لما عليه من الضرر بالغرم إن رد. قاله الحطاب. وأجرة المقوم على المتبايعين في باب الفساد والظاهر أن هنا كذلك. قاله عبد الباقي. قوله: ومحل التخيير إن لم يقبله بالحادث لخ، قال بناني: ومحله أيضا في غير المدلس، فإن كان البائع مدلسا وحدث عند المشتري عيب في المبيع ففيه تفصيل يأتي في قوله: إلا أن يهلك بعيب التدليس لخ، وقوله: إن التخيير المذكور قبل التقويم هذا ظاهر المدونة، وفي المتيطي: قال بعض القرويين: إنما يخير المبتاع بعد التقويم والمعرفة بقيمة العيب القديم وما نقصه العيب الحادث، وأما قبل ذلك فلا يجوزة لأن المبتاع يدخل على أمر مجهول لا يعرف مقداره. انتهى. قال الرهوني: قال أبو علي: ما قاله بعض القرويين مخالف لظاهر المدونة وغيرها من نصوص المذهب والله أعلم. انتهى. وقوله أي عبد الباقي: بخلاف الاستحقاق، قال بناني: هذا غير صحيح ولم يقله الحطاب.

ص: 508

تنبيهان: الأول: لو حدث عند المشتري الموضحة أو منقلة أو جائفة ثم برئت على غير شين فلا شيء عليه ولو أخذ لها أرشا، ولا يرد ما أخذ إن رد العبد، وأما إن برئت على شين فإن رد العبد، رد معه ما شانه، نقله في المنتقى وصاحب الشامل. الثاني: سئل ابن لبابة عن الرجل يبتاع جلودا فيُدخِلها الماء فيظهر على عيب فيها كان عند البائع دلس له به أو لم يدلس، هل إدخالها الماء فوت أم لا؟ فأجاب: ليس إدخالها الماء فوتا ولا عيبا فله القيام بالعيب والرد به. انتهى.

وقوما بتقويم المبيع؛ يعني أن كيفية التوصل لما مر من الرد ودفع الحادث أن يقوم العيبان القديم والحادث مع تقويم المبيع صحيحا، ومعنى التقويم للعيبين أن ينظر فيهما ليعلم قدر نقصهما، قال عياض: تقوم ثلاث تقويمات إن أراد الرد سالما وبالقديم وبالعيبين معا وهو الصواب. انتهى. فقوم سالما بعشرة وبالقديم ثمانية وبالحادث ستة، فنقصه القديم الخمس، وكذا الحادث، فإن تمسك رجع بخمس الثمن، قل أو كثر، وإن رد أعطى خمس الثمن قل أو كثر، فإذا كان الثمن في المثال المذكور عشرين، فإن تمسك أخذ أربعة، وإن رد أعطى أربعة، وهكذا؛ وبهذا ظهر بتقويمه صحيحا فائدة، وأما إن أراد التمسكَ فإنه يقوم تقويمتين صحيحا، وبالقديم فقط، ليعلم النقص بينهما، حتى يرجع به أو يسقط بنسبته من الثمن ويصير الثمن ما عداه، وقد مر أنه يقوم ثلاث تقويمات إن أراد المشتري الرد، وأنه هو الصواب، خلافا لقول ابن أخي هشام: إنه لا يحتاج فيها إلا إلى قيمتين قيمتها أولا بالعيب القديم وآخرا بالحادث عند المشتري، قال عياض: وفيه ظلم على المشتري؛ يعني أنه على هذا إذا رد قدر ما بين القيمتين من الثمن، رد في المثال المذكور مثل ربع الثمن، وإنما العدل أن يرد خمس الثعن كما في المدونة. قاله ابن غازي في تكميل التقييد. انتهى.

يوم ضمنه المشتري، متعلق بقوما؛ يعني أن المعتبر في التقويمات الثلاث أو التقويمتين يوم ضمن المشتري الشيء المعيب لا يوم العقد ولا يوم الحكم، ولا كما قال ابن المعذل: القديم يوم ضمان المشتري، والحادث يوم الحكم. قاله التتائي. ولا الحادث يوم حدوثه وإن كان هو المناسب لو

ص: 509

قيل به؛ لأنه قبل ذلك صحيح، ثم إن تقويمه سالما وبالقديم في الوقت المذكور يجري في البيع الصحيح والفاسد، وأما تقويمه بالحادث فلا يجري في الفاسد أي المتفق على فساده؛ لأن حصول المتوسط فيه عند المشتري مفوت لرد المبيع فاسدا، فيمضي بالقيمة يوم القبض ولا يقوم صحيحا ولا بالحادث، وأما المختلف في فساده فإنه كالصحيح.

تتمة: إذا فسخ البيع قبل الفوات وكان المشتري قد نقد الثمن ولم يوجد ما يرد منه الثمن بيع المعيب ودفع منه الثمن، فإن فضلت فضلة وقفت على يد أمين حتى يقدم صاحبها، وإن مضى بالفوات ولزمت فيه القيمة وكان فيه فضل لم يوقف، واستشكل ذلك وأجيب بأجوبة أحسنها عندي ما لابن أبي زمنين وابن يونس، فإنه أي ابن يونس قال: انظر لِمَ لَمْ يوقف الفضل في فوات العبد كما وقف إذا لم يفت وباعه؟ فالجواب عن ذلك: أنه إذا لم يفت في البيع الفاسد فإن العبد يباع للمشتري ليقضي من ثمنه، ثم النظر للحاكم في الفضلة في أن يوقفها بيد من أحب المبتاع أو غيره لأنه مال قاض، وفي فوات العبد لم يُبَع فيبقى من ثمنه فضل، وإنما لزم المبتاع قيمته فإن كان فيها فضل فهو كدين للغائب على المبتاع، وليس للحاكم تقاضي دين الغائب إلا أن يكون مفقودا، ونحو هذا لابن أبي زمنين. قاله الرهوني. وقال المواق عند قوله: يوم ضمنه المشتري: نحو هذا عبارة ابن الحاجب، المازري: ويعتبر التقويم وقت ضمان ذات المواضعة والغائب والفاسد اتفاقا واختلافا. انتهى. واعلم أن تغير المبيع عند المشتري على ضربين: نقص وزيادة، والنقص ضربان: نقص من جهة القيمة، ونقص من جهة البدن، فالنقص من جهة القيمة ضربان لحوالة الأسواق فلا عبرة به، ولتغير حال المبيع كحدوث إباقه عند المبتاع هو كحوالة الأسواق، ويأتي الكلام في تزويج الرقيق عند المشتري، وأما النقص من جهة البدن فإن كان يسيرا كذهاب الظفر والأنملة في وخش الرقيق فكذلك هو لغو، كما سيذكره المص بقوله: إلا أن يقل فكالعدم، وإن كان كثيرا كالعور والشلل وقطع الإصبع من الوخش والأنملة من الرائعة فإن ذلك معتبر، يوجب الخيار للمشتري في الرد، ودفع قيمة ما حدث عنده، والتمسك وأخذ قيمة القديم، واختلف في هزال الرقيق والدواب وسمنها، فروى ابن حبيب: أن ذلك في الرقيق لغو سمنا كان أو هزالا، وكذلك سمن الدواب، بخلاف هزال الدواب فهو معتبر، وابن القاسم يعتبر

ص: 510

السمن والهزال في الدواب ويلغيها في الرقيق، واختار ابن حبيب اعتبار ذلك كله، ورواه عمن يرضاه وهي الرواية عن ابن كنانة؛ وصلاح البدن بغير السمن البين لغو بلا خلاف، وأما إن كان النقص من غير جنس المبيع كذهاب مال العبد المشترط ماله أو صوف الغنم يذهب قبل جزه أو ثمر يتلف قبل الجذ فهو لغو، فإما أن يرد العبد ولا غرم عليه أو يرضى به ولا شيء له. قاله أبو علي: وأما الزيادة فأشار إليها بقوله:

وله أي للمشتري إن لم يحدث عنده عيب بل زاد بكصبغ ولو بإلقاء الريح الثوب في الصبغ وخياطة وكمد، وكل ما أضاف له من ماله مما لا ينفصل عنه، أو بفساد أن يتماسك ويأخذ أرش القديم، أو يرد المبيع للبائع ويشترك معه فيه بما زاد بصبغه على قيمته غير مصبوغ معيبا، كما في المواق؛ لأنه خرج من يد البائع كذلك، وإيضاح هذا أن المشتري للمعيب إذا زاد عنده بما أضاف إليه من ماله كصبغ وخياطة ونحوهما من غير حدوث نقص عنده فإنه أي المشتري يخير بين أن يتمسد بالمعيب ويأخذ أرش العيب القديم، وبين أن يرد ويكون شريكا في المبيع المعيب بما زاد فيه بصبغه مثلا على قيمته غير مصبوغ، فإن كانت قيمته مصبوغا خمسة عشر، وقيمته معيبا غير مصبوغ عشرة، فإنه إن رد يكون شريكا بالثلث دلس فيه البائع أم لا. قاله غير واحد. فإن أراد التمسك قوم سالما ومعيبا، فيقوم سالما بعشرين مثلا، ومعيبا بخمسة عشر، فيرجع بربع الثمن قل أو كثر. والله سبحانه أعلم. والصِّبغ بكسر الصاد ما يصبغ به وهو المراد هنا عن عبد الباقي، واختار ابن عاشر ضبطه بالفتح مصدرا، قال عبد الباقي: ومفهوم إن زاد شيئان، أحدهما: أنه لو لم يزد بالصبغ ولم ينقص بالصبغ فهو بمثابة ما لو لم يحدث عنده شيء فله رده علئ البائع مدلسا أم لا، وله التمسك وأخذ أرش المعيب. قاله في المدونة. قاله الشيخ سالم. وثانيهما: نقصه، يأتي في قوله: وفرق بين مدلس وغيره إن نقص، فإن دلس البائع فله رده عليه من غير أرش، وإن لم يدلس فله حكم العيب الحادث. انتهى. وفُرِق بين الصبغ مع إلعيب بقيده بالزيادة وبينه مع الاستحقاق حيث جعل شريكا بقيمة الصبغ رد أم لا، بأنه فيه أخذ من يده

ص: 511

قهرا وقد لا يزيده الصبغ فيذهب عمله باطلا، بخلاف العيب فإن خيرته تنفي ضرره. انتهى. من شرح عبد الباقي.

تنبيه: قال بناني قال ابن عرفة: قال أبو عمران: الشركة بالصبغ في خمس مسائل: مسألة العيب، ومن ألقت الريح ثوبه في قصرية صباغ الشركة فيهما بما زاد، ومسألة الاستحقاق، ومن فلس بعد صبغه ثوبا اشتراه فأخَذه بائعه أشركه فيهما بقيمة الصبغ، ومسألة كتاب القراض من المدونة في العامل يصبغ ثياب القراض بمال نفسه يكون شريكا بما أدى. ولا شركة بالصبغ في ثلاث: من صبغ ما غُصِب لربه أخذه مجانا أو قيمته، ومن دفع ثوبا لمن اشتراه منه فبان أنه غيره بعد صبغه يعني المشتري له إن لم يدفع بائعه قيمة صبغه غرم له قابضه قيمته أبيض، والقصار يخطئ كذلك. انتهى. صوابه: والصباغ يخطي كذلك، قال في التوضيح: وقالوا فيمن دفع ثوبا إلى صباغ فأخطأ وصبغه غير ما أمره به واعترف الصباغ بذلك: أن له أن يعطيه قيمته ويأخذ ثوبه، أو يضمنه قيمته كالغاصب. انتهى. قاله الرهوني. قوله: من صبغ ما غصب لربه لخ، مخالف لما ذكره آخرا عن التوضيح، وما في التوضيح هو المشهور وهو مذهب المدونة، وهو الذي درج عليه المص في باب الغصب. انتهى. وقال عبد الباقي: قال أصبغ: في عامل القراض يصبغ الثوب من عنده فإن أعطاه رب المال ما صبغه به وإلا كان شريكا به وإن لم يزد. انتهى. أي لأن له حصة في السلعة وهو مأذون له في تنمية المال، فكأنه صبغه بإذن ربه. انتهى.

يوم البيع؛ متعلق بالكون أو الاستقرار خبر مبتدأ محذوف؛ أي والتقويم يوم البيع. قاله عبد الباقي. والظاهر أن المراد بيوم البيع يوم ضمان المشتري كما أشار له بعض، قال الشارح: ومعنى قوله: بما زاد؛ أي الصبغ أن يقوم بالصبغ ثم بغير الصبغ، فإن قيل: قيمته بلا صبغ عشرون وبالصبغ خمسة وعشرون، فقد علمت أن الذي زاده الصبغ الخمس، فيكون شريكا في الثوب بذلك، واختلف الأشياخ هل تعتبر هذه القيمة يوم البيع كما يعتبر النقص وهو اختيار ابن يونس وإليه أشار بقوله: على الأظهر؛ أي فصواب قوله: على الأظهر: على الأرجح، أو لا تعتبر هذه القيمة إلا يوم الحكم؟ وإليه ذهب ابن المواز والقابسي. انتهى. ومشى المص على الأول لقول ابن يونس: إنه هو الصواب، قال عبد الباقي: قال ابن غازي: وقد رأيت في نسخة شيخنا القوري

ص: 512

مصلحا "ويشترك بما زاد يوم البيع على الأرجح والحكم على الأظهر" انتهى. كذا في نسخة صحيحة من ابن غازي بعضها بخط التتائي، وتكلم المص على الزيادة بإضافة مال، وعلى الزيادة في عين المبيع، كسمن الدابة وكبر الصغير فيما يأتي، وبقي من أقسامها الزيادة بحوالة سوق وهي غير معتبرة، كما لا يعتبر ذهاب الثمرة ومال العبد فيرد، ولا شيء عليه فيما ذهب إذا وقع الشراء قبل طيب الثمرة كان قبل الإبار أو بعده. قاله الحطاب. قاله عبد الباقي. وهذا العزو صحيح، فإن في الحطاب عن ابن رشد: أنه لا خلاف أن النقصان من غير عين المبيع مثل أن يشتري النخلة بثمرتها قبل الإبار أو بعده والعبد بماله فيذهب مال العبد بتلف أو ثمرة النخلة بجائحة لا يعتبر، وهو بالاختيار بين أن يرد ولا شيء عليه أو يمسك ولا شيء له. انتهى. قال عبد الباقي: ولو تعلم العبد صنعة فزادت قيمته فكذلك؛ أي فهو غير معتبر، وأما الزيادة المضافة للمبيع من غير جنسه كحدوث مال العبد وثمر لكنخل فلا خلاف أن ذلك لا يسقط خياره، لكنه يخير بين رد العبد بماله والنخل بثمره ما لم يطب ويرجع بالسقي والعلاج، أو يتمسك ولا شيء له في الوجهين. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: وأما الزيادة فإن كانت في القيمة دون العين كالزيادة في النفاق والمعرفة والفصاحة فذلك لغو، وإن كانت في الجسم فإن كانت نماء كالسمن كالدابة المهزولة تسمن ففي ذلك روايتان: اعتباره إذا كان سمنا بينا، ولغوه؛ وإن كانت الزيادة بمعنى يضاف للمبيع فإن نما خارجا عنه فعلى وجهين، إما من جنسه كالولد، أو من غير جنسه كالثمرة والصوف واللبن وغلة العبيد والرباع، فروي عن ابن كنانة: أن من اشترى شاة حاملا فوضعت، وأكل المشتري سمنها ثم وجد عيبا قديما فله أن يمسك ويأخذ أرش القديم، أو يردها ونقص من ثمنها يوم الشراء؛ لأنها كانت ترجى، وروى ابن القاسم: أنه يردها وقيمة الولد، والأظهر تخريج الولادة على السمن، وأما الثمرة وما ذكر معها فلغو، وإن كانت الزيادة صنعة ثابتة في المبيع كالصبغ والخياطة والقصارة والرقم في الثوب مما لا يمكن فصله من المبيع إلا بفساد فذلك معتبر. انتهى. نقله أبو علي عن الباجي، وقال الحطاب: الزيادة على خمسة أوجه، زيادةٌ بحوالة الأسواق؛ وزيادةٌ في حال المبيع مثل أن يكون عبدا فيتعلم الصنعة ويتجر فتزيد قيمته

ص: 513

لذلك، وكلاهما لا يعتبر ولا يوجب للمبتاع خيارا؛ وزيادةٌ في عين المبيع بنماء حادث فيه كالدابة تسمن والصغير يكبر، أو بشيء من جنسه مضاف إليه كالولد ففيه خلاف يأتي عند قول المص: كعجف دابة وسمنها؛ وزيادةٌ مضافة للمبيع من غير جنسه مثل أن يشتري العبد ولا مال له فيفيد عنده مالا بهبة أو صدقة أو كسب من تجارة ما لم يكن ذلك من خراجه، أو يشتري النخلة ولا ثمرة [فتثمر]

(1)

عنده، فهذا لا اختلاف أن ذلك لا يسقط خياره، فيخير بين أن يدفع العبد وماله والنخلة وثمرتها ما لم تطب، ويرجع بالسقي والعلاج على مذهب ابن القاسم، أو يمسك ولا شيء له في الوجهين، وقوله: ما لم تطب؛ أي ما لم تُزْهِ، كما سيأتي في كلام ابن غازي عند قول المص: ولم ترد كشفعة وزيادة أحدثها المشتري في المبيع من صنعة مضافة إليه كالصبغ والخياطة والكمد وما أشبهه مما لا ينفصل عنه إلا بفساد، فلا اختلاف أن ذلك يوجب له الخيار بين أن يتمسك ويرجع بقيمة العيب، أو يرد ويكون شريكا؛ وهذا الوجه الخامس هو الذي تكلم عليه المص هنا، وأما الوجهان الأولان فلم يتكلم عليهما، وكذا الرابع، وأما الثالث فسيأتي الكلام عليه عند قوله: كعجف دابة؛ وأما كيفية التقويم فقد تكلم عليها ابن غازي، وحاصله: أنه إذا حدثت زيادة عند المشتري ولم يحدث عنده عيب فإنه يخير، فإن اختار التمسك فيقوم المبيع تقويمتين، يقوم سالما ثم معيبا، ويأخذ من الثمن بنسبة ذلك، وإن اختار الرد قوم تقويمتين أيضا، فيقوم بالعيب القديم غير مصبوغ، ثم يقوم مصبوغا، فما زادت قيمته مصبوغا على قيمته غير مصبوغ نسب إلى قيمته مصبوغا، وكان المشتري شريكا في الثوب بنسبته، كما إذا قوم غير مصبوغ بثمانين، ومصبوغا بتسعين، فتنسب العشرة الزائدة إلى التسعين، فتكون تُسْعا فيكون المشتري شريكا في الثوب بالتسع، وأما إذا حدث عند المشتري عيب وزيادة وإليه أشار بقوله:

وجبر به الحادث؛ يعني أن المشتري للمعيب إذا زاد فيه شيئا كالصبغ والخياطة والقصارة وحدث فيه عنده عيب فإنه يجبر العيب الحادث عنده بما زاده في المبيع، فإن ساواه فإن تماسك فله أخذ أرش العيب، وإن رد فلا شيء عليه، فإذا تمسك به فلا يقوم إلا تقويمتين، سالما

(1)

في الأصل فتتم والمثبت من الحطاب ج 5 ص 265.

ص: 514

وبالعيب القديم، وإن نقص غرم تمام قيمته معيبا إن رده، فإن تماسك أخذ أرش العيب القديم، وإن زاد كان شريكا بالزائد، فلو كانت قيمته سالما مائة، وبالقديم تسعين، وبالحادث ثمانين، وبالزيادة تسعين، لساوى الزيادة النقص، فإن زاد فلا غرم، وإن كان خمسة وثمانين غرم مع الرد نصف عشر الثمن، وخمسة وتسعين شارك بمثل ذلك، وهذه التقويمات الأربع إنما هي مع الرد كما عرفت، فإن تمسك لم يزد على القيمتين الأوليين؛ واعلم أن مسألة المص ثمانية أقسام، أولها وثانيها: أن يحدث عنده نقص فقط فيقوم تقويمتين إن أراد التمسك، وإن أراد الرد قوم ثلاث تقويمات كما مر. ثالثها ورابعها: أن يحدث عنده نقص وزيادة لا تجبره وأراد التمسك، قوم تقويمتين، فإن أراد الرد قوم أربع تقويمات. خامسها وسادسها: أن يحدث عنده نقص وزيادة تجبره، فإن أراد الرد قوم أربع تقويمات، وإن أراد التمسك قوم تقويمتين. سابعها وثامنها: حدوث زيادة فقط عنده فيقوم تقويمتين أراد التمسك أو الرد.

وفرق بين مدلس وغيره إن نقص، هذه مسائل ست يفرق فيها بين المدلس وغيره إحداها: هذه وهي أن المشتري إذا تصوف في المبيع المعيب بكصبغ فحدث بسببه نقص في المبيع فإنه يفرق في ذلك بين المدلس وغيره، فإذا صبغه مثلا صبغا لا يصبغ به مثله، فإن كان البائع مدلسا ورده فلا أرش له؛ أي للبائع على المشتري للنقص، وإن تماسك أخذ أرش العيب القديم، وإن كان غير مدلس، فإن رد أعطى أرش العيب الحادث، وإن تماسك أخذ أرش العيب القديم، فقوله: إن نقص فاعله ضمير يعود على قوله: كصبغ، ومدخول الكاف ما شابه الصبغ مما هو من صناعته كخياطة، أو فاعله ضمير يعود على المشتري ومتعلقة محذوف؛ أي نقص المشتري المعيب بسبب كصبغ، كما لبناني، ولا يشمل كلامه القطع كما في الرهوني لما سيأتي، وفي شرح عبد الباقي: وقيد المص بثلاثة قيود: أن يكون النقص معتادا وإلا فات المبيع ولو دلس البائع، وللمشتري حينئذ أرش القديم. الثاني: أن يكون النقص لا عن انتفاع المشتري، فإن نشأ عنه كلبس ثوب لبسا ينقصه رد معه قيمة اللبس ولو دلس البائع؛ لأن المشتري صان به ماله. الثالث: أنه خاص

ص: 515

بالثياب لكثرة التدليس بها دون العقار والحيوان لندوره بهما، فيرد المشتري أرش الحادث عنده إن رد للبائع ولو دلس. انتهى.

وبما قررته لا يكون المصنف مقيدا. وبالله تعالى التوفيق. والمدلس من يعلم العيب حين البيع ويكتمه، فمن نسيه حينه ولم يذكره للمبتاع حتى قام عليه فليس بمدلس، فإن ذكره بعد البيع وقبل قيام المبتاع ولم يذكره له فتردد الحطاب في كونه مدلسا أم لا، أو يقال: إن تَذكَّره والمبيع في ضمانه ولم يذكره للمشتري فمدلس وإلا فلا.

كهلاكه من التدليس، تشبيه في أنه يفرق بين المدلس وغيره، وهذه هي المسألة الثانية من المسائل الست، ومعنى كلامه أن المشتري للمعيب إذا هلك عنده الشيء المشترى بسبب العيب الذي اشتراه وهو به، فإنه يفرق بين أن يكون البائع دلس وأن لا يدلس، فإن دلس فإنه لا يرجع على المشتري بشيء، فإن كان أخذ الثمن رده إليه، وإن لم يأخذه فلا شيء له، وإن لم يدلس فإنه يتعين الأرش، فيكون من أفراد قوله: وفوته حسا ككتابة وتدبير لخ، وفي المص حذف الواو مع ما عطفت بدليل تشبيهه بما يفرق فيه بين المدلس وغيره، والتقدير كهلاكه من التدليس وغيره، فإذا أبق المبيع المعيب من المشتري فهلك في إباقه من سبب الإباق، أو سرق فقطعت يده فمات، فإن دلس البائع فلا شيء على المشتري، ويرجع على البائع بجميعه إن أخذه، ولا يدفع له منه شيئا إن لم يكن أخذه؛ وما هلك بسماوي زمن عيب التدليس فهو بمثابة ما هلك بعيب التدليس، كما يأتي للمص.

وأخذه منه بأكثر، هذه المسألة الثالثة يعني أنه إذا باع الرجل سلعة وبها عيب ثم اشتراها من المشتري بأكثر من الثمن الذي باعها به فإن كان البائع مدلسا لم يكن له رجوع على المشتري، وإن لم يكن مدلسا فإنه يرد على المشتري ثم يرد المشتري عليه، كما قدمه بقوله: أو بأكثر إن دلس وإلا رد ثم رد عليه، فأعادها لجمع النظائر.

وتبرؤ مما لم يعلم، هذه رابعة المسائل، وفي الكلام حذف الواو مع ما عطفت كما في الخرشي، يعني أنه إذا تبرأ البائع من عيب لم يعلمه فإنه يكون غير مدلس فتنفعه البراءة، وإن تبرأ مما علم فيكون مدلسا فلا تنفعه البراءة، وكلام المؤلف خاص بالرقيق إذ هو الذي تنفع فيه البراءة كما

ص: 516

مر، والمدلس هو العالم بالعيب ويكتمه، فإذا لم يعلم بالعيب وتبرأ منه نفعه ذلك، وإذا علمه وكتمه لم ينفعه سواء كان فيهما شأنه التدليس أم لا.

ورد سمسار جعلا، هذه خامسة الست؛ يعني أنه يفرق بين المدلس وغيره في رد السمسار للجعل الذي أخذه من البائع، فإن كان البائع للمعيب غير مدلس ورد عليه المبيع فإن السمسار يرد له الجعل دلس السمسار أم لا، ابن يونس: إذا رد بحكم حاكم أما إن قبله البائع متبرعا لم يرد كالإقالة، والاستحقاقُ في رد الجعل للبائع كالعيب يفرق بين المدلس وغيره، فإن دلس البائع لم يرد السمسار الجعل، رد المبيع أم لا، بل يفوز به إن لم يكن عالما بالعيب، قال عبد الباقي: فإن علمه فكذلك عند ابن يونس، إلا أن يتفق مع البائع على التدليس فله جعل مثله رد المبيع أم لا، وعند القابسي له جعل مثله في علمه إن لم يرد المبيع، فإن رد فلا شيء له، ولم يفصل بين اتفاقه مع البائع وعدمه، وله تحليف البائع أنه لم يدلس. وجعلي موضوع المص أخذ الجعل من البائع تحرز عن أخذه من المشتري، فإنه يرجع به إذا رد على البائع، ثم البائع إن كان غير مدلس يرجع به على السمسار، وإلا فلا؛ وأما ما دفعه المشتري حلاوة للسمسار على تحصيل المبيع فلا يرجع به إلا أن يعلم السمسار عيبا بالمبيع، هذا والمأخوذ من المدونة: أن جعل السمسار على البائع عند عدم الشرط والعرف. انتهى. قوله: فإن علم فكذلك لخ، نحوه يوهمه في التوضيح، واعترض بأنه لا خلاف بين القابسي وابن يونس أنه لا شيء له إذا رد المبيع مع علم السمسار بالتدليس، إنما خلافهما إذا تم البيع خاصة، فابن يونس يقول: له الجعل المسمى إن لم يتفق مع البائع على التدليس وإلا فجعل مثله؛ والقابسي يقول: له جعل مثله في علمه مطلقا اتفق مع البائع أم لا، أما إن رد البيع فلا خلاف بينهما أنه لا شيء له في علمه، كما يفيده ابن عبد السلام وابن عرفة انظر مصطفى. قاله بناني.

ومبيع لمحله، هذه هي المسألة السادسة، ومبيع معطوف على سمسار، والجار والمجرور متعلق برد، والمراد بمحله موضع قبضه من المدلس؛ يعني أن على البائع المدلس رد المبيع الذي نقله المشتري إلى محل قبضه؛ أي إلى المحل الذي قبضه فيه المشتري ونقله عنه إلى محل آخر،

ص: 517

وعليه أيضا أجرة نقل المشتري له إلى بيته، ولا يرجع عليه بأجرة حمله إذا سافر به. قاله ابن رشد. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وعلى بائع مدلس رد مبيع نقله المشتري لموضعه ثم اطلع على عيب فيه قديم لمحله؛ أي موضع قبضه من البائع المدلس إن رد على البائع المدلس بعيب، وعليه أيضا أجرة نقل المشتري له إلى بيته، ولا يرجع عليه بأجرة حمله إذا سافر به إلا أن يعلم أن المشتري ينقله إلى بلد فكنقله إلى داره، ولو كان المبيع مكيلا أو موزونا فنقله لبلد ثم اطلع على عيب به كان للمشتري حبسه، وغرم مثله في بلد الشراء وتسليمه ويجبر البائع على أخذه إن دلس وإلا لم يجبر على أخذه. قاله بعض الشراح. وقوله:

إن رد بعيب، راجع للمسائل الست وهو تصريح بما علم التزاما. قاله الخرشي. وإلا يكن البائع مدلسا رد أي كان على المشتري رده إن قرب الموضع الذي نقله له، والقريب ما لا كلفة في نقله له، وإلا بأن بعد فات الرد ورجع المشتري بأرش العيب. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: يفوت إلا أن يكون المبيع عبدا أو دابة لا يتكلف في رجوعه كراء والطريق مأمونة. انتهى. وقال الخرشي: أي وإن لم يكن البائع مدلسا فإن على المشتري رده إن نقله لموضع قريب، فإن بعد المكان الذي نقله إليه فات ووجب للمشتري الرجوع بأرش العيب، وقوله: لمحله، في نسخة بالباء وهي بمعنى إلى كقوله تعالى:{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} أي إلي.

وعلم مما قررت أن قوله: وإلا، راجع لمقدر أي على البائع رده إن كان مدلسا وإن لم يكن مدلسا، فعلى المشتري الرد، ومثل للعيب المتوسط الحادث عند المشتري مع وجود عيب قديم عند البائع بقوله:

كعجف أي هزال دابة، قال الشارح: فإذا ابتاع دابة فعجفت عنده واطلع على عيب فيها قديم فإنه أي المشتري يخير بين ردها ودفع قيمة الحادث والتماسك بها وأخذ أرش العيب القديم، أصبغ: لم يختلف قول مالك أن عجف الدابة مما يخير فيه المشتري، وكذا نص عليه ابن المواز وابن يونس وغيرهما، وجعله في الجواهر من القسم المفيت، قال: وهو المشهور. وسمنها؛ يعني أن سمن الدابة من العيب المتوسط؛ يعني سمنا بينا، وأما السمن غير البين فلغو بلا خلاف، كما مر عن الشيخ أبي علي، وقال عبد الباقي: وسمنها بينا لا ما صلحت به فليس بعيب، وجعلُه

ص: 518

السمن من المتوسط ضعيفٌ، والمعتمد أنه إن رد بالقديم لا يلزمه أرش السمن، وإن تماسك أخذ أرش القديم، وعلى هذا فليس السمن من المتوسط ولا من المفيت، وأجيبَ بأنه لعل من عده من المتوسط أراد في مطلق التخيير، أوأنه حدث بسببه عيب متوسط فهو المنظور إليه حينئذ، لا سببه وهو السمن؛ ومفهوم دابة أن الهزال والسمن في غيرها كعبد وأمة ليس بعيب وهو كذلك، إلا أن يحدث عن ذلك عيب متوسط. انتهى. وقال الشارح: وأما سمن الدابة عند المشتري فقال مالك: أراه ليس بفوات كالرقيق وهو مخير بين أن يرد ولا شيء عليه أو يتمسك ويرجع بقيمة العيب. وقاله ابن القاسم إذا سمنت سمانة بينة.

وعمى وشلل؛ يعني أن العمى والشلل من العيب المتوسط، فيخير المشتري فيهما بين التماسك وأخذ أرش العيب القديم، والرد ودفع ما ينوب العمى والشلل من الثمن؛ قال الشارح: واختلف في العمى والشلل فقال في المدونة: يخير المشتري بين أن يرد المبيع وما نقص عنده، أو يتمسك به ويرجع بحصة العيب القديم من الثمن، فجعله من القسم المتوسط، وجعله ابن مسلمة من القسم المفيت، وصرح المازري بمشهورية ما في المدونة، واستظهر بعضهم قول ابن مسلمة؛ لأن العمى والشلل يبطلان المنفعة المقصودة.

وتزويج أمة؛ يعني أن من باع أمة معيبة وتزوجت عند المشتري ثم اطلع على عيبها فإنه يخير بين أن يردها ويدفع ما ينوب عيب التزويج من الثمن، ويتماسك بها ويأخذ أرش العيب القديم من الثمن؛ لأن التزويج للأمة من المتوسط، وهذا هو المشهور، وقال بعض المتأخرين: إن التزويج للأمة من العيوب اليسيرة التي لا تؤثر في المبيع نقصا، ونقله المازري، وعليه فيردها ولا شيء عليه أو يتمسك ويرجع بأرش العيب. انظر الشارح. وقال عبد الباقي: وتزويج أمة لا عبد، ولا يخفى عليك الفرق؛ قاله المص؛ أي فإن تزويج الأمة فيه تفويت منفعة الوطء على البائع، بخلاف تزويج العبد فلا تفويت. قاله الناصر اللقاني؛ ولكن نقل الرجراجي وغيره: أن مثل كتوج الأمة تزوج العبد، وترَجِّي أحمد له قصور، وقُيَّد تزويج الأمة بما إذا كان ينقص من ثمنها وبقيت على الزوجية، وإلا جرى فيها الأقوال السابقة في شرائها فتوجد متزوجة، كما

ص: 519

للرجراجي، ودخل بالكاف ما كان من عيوب الأخلاق، كزنى وشرب خمر وسرقة وإباق حدث عند المشتري ثم اطلع على قديم، فمن المتوسط كما شهره الرجراجي، خلافا لجعل ابن حبيب له من القليل. انتهى.

وجبر بالولد؛ يعني أن العيب الحادث عند المشتري للمعيب عيبا قديما يجبر بالولد وإن لم يكن عيب تزويج؛ أي الولد الحاصل عند المشتري بحيث يصير بمنزلة ما لم يحدث فيه عنده عيب، فإن رد فلا غرم، وإن تماسك فلا شيء له، وهذا إذا كانت قيمته تجبر النقص؛ أي تساويه عند الأكثر وهو الصحيح وظاهر المدونة فإن نقصت رد مع الولد ما بقي، فإن زادت فليس على البائع الزيادة إن رد عليه المبيع، ولا يشارك به المشتري، والفرق بينه وبين الصبغ أنه من سببه بخلاف الولد. انتهى. وقال بناني: قال ابن غازي: قال أبو إسحاق وابن محرز والمازري: وصفة التقويم أن يقال: قيمتها سالمة مائة، وبالعيب القديم ثمانون، ثم إن كانت قيمتها به وبعيب النكاح وزيادة الولد ثمانين فقد جبر الولد عيب النكاح، فللمشتري أن يحبسها ولا شيء له، أو يردها ويأخذ جميع ثمنه، وإن كانت قيمتها بما ذكر سبعين خير في إمساكها مع رجوعه بالعيب القديم وهو خُمُس الثمن، وردها مع ما نقص عنده وهو العُشُر. انتهى. وهو معنى ما عند ابن يونس. انتهى كلام التكميل. وذكر ابن عرفة عن سماع ابن القاسم: من ابتاع جارية فزوجها فولدت ثم وجد بها عيبا قديما له ردها بولدها وحبسها ولا شيء له، وقاله ابن القاسم: وقوله: [وجبر به الولد]

(1)

، قد علمت أن المراد أن الولد يجبر العيب الحادث عند المشتري، والمراد بالولد الولد الحادث عند المشتري، ولا فرق في هذا بين الأمة وغيرها من الحيوان.

إلا أن يقبله بالحادث، مستثنى من قوله: فله أخذ القديم ورده ودفع الحادث؛ يعني أن ما تقدم من أن المشتري مخير في العيب المتوسط بين أن يتماسك ويأخذ أرش العيب القديم، وأن يرد ويرجع بالثمن ويدفع مناب العيب الحادث من الثمن، محله حيث لم يقبل البائع شيئه بالعيب الحادث، وأما إن قبله بالعيب الحادث فإن العيب الحادث يكون كالعدم، فيخير المشتري

(1)

كذا في الأصل، والنص: وجبر بالولد.

ص: 520

حينئذ بين الرد ولا شيء عليه والتماسك ولا شيء له. وقوله: أو يقل، عطف على يقبله، فهو في حيز الاستثناء، قاله مقيده. وهو منقطع؛ ومعناه أنه إذا قل العيب الحادث عند المشتري بحيث لا يؤثر نقصا كما في الأمثلة الآتية، كما قاله عبد الباقي، فإنه يكون كالعدم، فيخير المشتري بين التماسك ولا شيء له والرد ولا شيء عليه. واللَّه سبحانه أعلم. قال بناني: قال في التوضيح: واختلف في اليسير فقيل: ما أثر نقصا يسيرا في الثمن، وقيل: ما لم يؤثر فيه نقصا أصلا، وإليه ذهب الأبهري. انتهى. وقال عبد الباقي: إلا أن يقبله البائع بالعيب الحادث أو يقل العيب جدا بحيث لا يؤثر نقصا كما في الأمثلة الآتية.

فكالعدم، في المسألتين، فلا خيار للمشتري في التماسك وأخذ الأرش، بل إنما له التماسك ولا شيء له أو الرد ولا شيء عليه، لأنه إنما كان له التماسك وأخذ القديم لخسارته لأجل العيب الحادث، فحيث أسقط عنه البائع حكم العيب الحادث انتفت العلة، وإنما كان له الرد بالقديم ولو قل بخلاف الحادث، لأن البائع قد يتوقع تدليسه بخلاف المشتري، وهذا استحسان؛ والقياس التسوية. قاله في شرح الشامل. ومثل للقليل بقوله:

كوعْك، بسكون العين وهو أمراض يعارض بعضها بعضا فيخف ألمها، قاله البساطي، وهو أحسن من تفسيره بأنه مغث الحمى أي ما ليس بشديدها لتكرره مع قوله: وخفيف حمى، وأدخلت الكاف نحو الموضحة إذا برئ ذلك على غير شين، فإن برئ على شين فيرد مع العبد ما شانه كما في الحطاب، وقد مر ذلك بأوفى من هذا. ورمد، يعني أن الرمد عند المشتري من الحادث القليل وكذا الصداع بضم أوله كما أشار إليه بقوله: وصداع، وهو وجع الرأس. وذهاب ظفر، يعني أن ذهاب الظفر إذا حدث عند المشتري من التغير القليل ولو من رائعة، وأما ذهاب الأنملة فمتوسط في الرائعة، وذهاب الأصبع من المتوسط مطلقا، وانظر هل المراد الظفر الواحد أو ولو أكثر؟ والظاهر أن ما زاد على واحد متوسط في رائعة فقط؛ وانظر ذهاب أكثر من أنملة. قاله عبد الباقي. وخفيف حمى، يعني أن خفيف الحمى إذا حدث عند المشتري فهو من التغير القليل فهو كالعدم، فيخير المشتري بين أن يرد ولا شيء عليه أو يتماسك ولا شيء له. ووطء ثيب، يعني أن

ص: 521

المشتري إذا اطلع على عيب قديم في الأمة بعد ما وطئها وهي ثيب فإن ذلك كالعدم، فهو مخير بين أن يرد ولا شيء عليه للبائع وبين أن يتماسك ولا شيء له، وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأصحابه، وروى ابن وهب وابن نافع وأصبغ: أن ذلك مفيت. قاله الشارح.

وقطع معتاد، يعني أن المشتري للمعيب إذا اطلع على عيبه بعد قطعه قطعا معتادا فإن ذلك كالعدم، فيرد ولا شيء عليه أو يتماسك ولا شيء له، قال عبد الباقي: ممثلا للقطع المعتاد كقطع الشقة نصفين دلس البائع أم لا، وكجعلها قميصا أو قباء إن دلس، وإلا فمتوسط، ومفهوم قوله: معتاد، فوته بغير المعتاد كما يأتي، وقد مر أن التغير الحادث عند المشتري إما متوسط وإما قليل، وقد مر الكلام عليهما، وإما كثير مخرج عن المقصود وإليه أشار بقوله:

والمخْرِجُ عن المقصود مفيتُ، يعني أن التغير الحادث عند المشتري المخرج للسلعة عن منافعها المقصودة منها مفيت للرد، دلس البائع أم لا. فالأرش، أي وإذا فات الرد فإنه يتعين أخذ الأرش، أي قيمة العيب القديم، فيقوم سالما ومعيبا بالقديم، ويأخذ المشتري من الثمن النسبة، كما مر في قوله: وفوته حسا، وهذا أعم مما سبق، أو ما سبق فيما خرج من يده وما هنا فيما بقي وحدث فيه تغير مفيت، وظاهر المص تعين الأرش، وهو ظاهر عند التنازع، وأما عند التراضي فعلى ما تراضيا عليه، وظاهره أيضا تعين الأرش ولو رضي البائع بقبوله بالحادث الذي لا يذهب عينه ويرد جميع الثمن، وظاهره أيضا ولو حدث عند المشتري جابر للحادث عنده وهو ظاهر كلام غيره أيضا.

ككبر صغيرٍ. هذا مثال للتغير الكثير المفيت، يعني أن كبر الصغير الذي اشتُري معيبا مفيت لرده فيقوم سالما ومعيبا، وسيأخذ المشتري من الثمن النسبة، وقوله: ككبر صغير، هذا مذهب المدونة، وقيل: متوسط، وهو لمالك في الموازية، ويدخل في ذلك أي التغير المفيت ما إذا فات بهدم أو بناء، وقال في مختصر المتيطية: ونفقة عشرة دنانير فوت إذا كان الثمن يسيرا، فإن كان كثيرا فليس بفوت إلا أن ينفق النفقة الكثيرة؛ قال: وأما يسير الهدم فيرد معه ما نقص. انتهى. قاله الحطاب. وقال: ككبر صغير عاقلا أو غيره ولو إبلا كما هو ظاهره، ويدل له تعليل الشارح بأن

ص: 522

الصغير جنس والكبير جنس، خلافا لمن قال: الكبر في الإبل لا يفيت الرد، وتقدير موصوف المخرج المار متعين، وليس تقدير العيب صحيحا لأن كبر الصغير ليس بعيب.

وهرم، يعني أن هرم الكبير من التغير المفيت للرد بأن يضعف عن المنافع المقصودة منه ولم يمكنه الإتيان بها، هذا الذي صححه الباجي، وقال عبد الوهاب: إذا هرم هرما لا منفعة فيه فإنه فوت؛ ومن المدونة قال مالك: من ابتاع صغيرا فكبر عنده أو كبيرا فهرم عنده فذلك فوت يوجب له الرجوع بقيمة العيب من الثمن ولا خيار لأحدهما. انتهى.

واقتضاض بكر، يعني أن اقتضاض بكر الحادث عند المشتري من التغير المخرج عن المقصود، فتقوم سالمة ومعيبة بالقديم، ويأخذ المشتري من الثمن النسبة، قال عبد الباقي: واقتضاض بالقاف والفاء كما في القاموس، واقتصر الصحاح على الأول، بكر علية أو وخش، وما ذكره المص ضعيف حكاه في الشامل بقيل، والمنصوص وهو قول مالك: أنه من المتوسط كما في الشارح وابن غازي، وقيده الباجي بالعلية، وارتضى الحطاب ما للشارح وابن غازي. انتهى. وقال التتائي: واقتضاض بكر، قاله ابن راشد في كتابه المُذهب في تحرير المذهب، حيث قال: المشهور أنه مفيت، وتبعه المص وتعقبه الشارح، وتبعه البساطي بأنه من المتوسط، ومثله لابن شأس، وقال ابن عرفة: المنصوص أنه من المتوسط وعن مالك: أنه من المتوسط، وقيده الباجي بالعلي، وأما الوخش فلا ينقصها.

وقطع غير معتاد، يعني أن القطع الذي ليس بمعتاد مفيت للرد، كجعل الشقة برانس أو قلاعا للمراكب، أو ثوب الوشي أي الحرير تبابين، قاله التتائي. وهو بالتخفيف بوزن فعاليل جمع تبان مثقل قال ابن حجر على البخاري: تبان بضم المثناة الفوقية وتشديد الموحدة، وهو على هيئة السراويل ليس له رجلان يتخذ من جلد. انتهى. أي غالبا، وفي القسطلاني بعد الضبط المذكور: أنه سروال صغير يستر العورة المغلظة فقط. انتهى. وفي الكرماني: أنه نحو شبر، ولا فرق في القطع المذكور بين كون البائع مدلسا أم لا، وأما قطع الشقة نصفين فمعتاد دلس البائع أم لا، وقمصا ونحوها قليل بالنسبة للبائع المدلس متوسط لغيره كما مر، فلها ثلاثة أحوال. قاله

ص: 523

عبد الباقي. وقال أبو علي عند قوله: وقطع معتاد بعد كلام كثير: وحاصله أن نقص البيع إن كان بأمر سماوي أو بفعل المشتري فهو من المتوسط إذا كان في الحيوان والدور وإن دلس البائع، والنقص ليس من عيب التدليس، وأما نقص الثياب بالتقطيع والصبغ ومثلها الجلود تقطع فإما أن يكون القطع غير معتاد فهو فوت ومخرج عن المقصود مطلقا، دلس البائع أم لا، ويتعين أرش القديم. انتهى.

إلا أن يهلك بعيب التدليس، مستثنى من قوله: فالأرش، يعني أن ما مر من قوله: فالأرش، محله فيما إذا لم يهلك المشترى بعيب التدليس، وأما إن هلك بالعيب الذي دلس به البائع فإن المشتري يرجع بجميع ثمنه ولا يترك منه للبائع شيئا، فإذا دلس البائع بحرابة عبد بأن علم بها وقت البيع وكتمها عن المشتري فحارب فقتل فإن المشتري يرجع بجميع ثمنه. أو يهلك بسماوي زمنه. يعني أنه لا فرق بين موت المبيع بعيب التدليس وموته بسماوي زمنه، أي زمن العيب الذي دلس به البائع. كموته. أي المعيب في إباقه. هذا مثال السماوي، يعني أنه لو مات المعيب الذي دلس البائع بعيبه في زمن العيب، كما لو أبق فمات في زمن الإباق المدلس به بلا سبب الإباق، بل بأمر سماوي أي من اللَّه تعالى بلا واسطة، بأن مات حتف أنفه، فإن المشتري يرجع بجميع ثمنه، بل بالإباق يضمنه البائع المدلس. وقول عبد الباقي ممثلا للسماوي عند قول المص: كموته في إباقه: بأن اقتحم نهرا أو تردى أو دخل جحرا فنهشته حية فمات، فيه نظرٌ، بل هو من الهلاك بعيب التدليس كما في الرهوني، وكذا الحكم لو غاب فلم يدر أمات أم لا؟ كما قال ابن رشد، ومثال ما هلك بعيب التدليس أن يدلس بالجنون فاختنق فمات، أو بحمل فماتت من النفاس، فيرجع المشتري بجميع الثمن لا بالأرش فقط، واحترز بقوله: زمنه، عما لو مات بسماوي في غير حال تلبسه بعيب التدليس فلا يرجع بثمنه بل بأرش القديم فقط، والظاهر أن القول للمشتري أنه هلك بسماوي حال تلبسه بعيب التدليس، لا قول البائع: إن هلاكه قبل إباقه، ومثل الإباق السرقة حيث قطع فمات، فإن لم يمت رده ولا شيء عليه، فإن لم يدلس البائع رده وما نقصه القطع، وإن لم يقطع خير المبتاع بين أن يسلمه للمسروق منه ويرجع بالأرش أو يفديه ويرده على البائع إن لم يدلس، فإن دلس رده بجميع الثمن، وكانت معاملة المسروق

ص: 524

منه في تلك الجناية مع البائع يفتدي منه أو يسلمه، هذا إن سرق من غير المبتاع، فإن سرق من المبتاع ولم يدلس البائع ورده المبتاع فهو في ذمته، وإن دلس فإن سرق من موضع أذن له فيه ففي ذمته أيضا، ومن غيره ففي رقبته. قاله الحطاب. قاله عبد الباقي. وقوله: إلا أن يهلك بعيب التدليس مكرر مع قوله: كهلاكه من التدليس؛ ذكره هناك جمعا للنظائر، ومحله هنا. واللَّه سبحانه أعلم.

‌تنبيه:

قال الحطاب: قال ابن يونس: قال ابن المواز: قال ابن القاسم عن مالك: وإذا دلس بالإباق فأبق العبد فقام المبتاع بذلك فقال البائع: لم يأبق منك ولكن غيبته أو بعته، لم يقبل قول البائع ولم يكن على المشتري أكثر من يمينه ما غيب ولا باع ولقد أبق منه ثم يأخذ ثمنه، وليس عليه أن يقيم بينة أنه أبق منه. انتهى. وقال الحطاب قبل هذا: وإذا أبق العبد يعني المدلَّسَ في إباقه ضمنه البائع عرف هلاكه أم لا، وهو بيِّن في الأمهات، وقوله: إلا أن يهلك بعيب التدليس لخ، قال الحطاب عن مالك رضي اللَّه تعالى عنه: هذا بعد أن يقيم المبتاع البينة أن العيب قديم وأن البائع باع بعد علمه به، ولا شيء على المبتاع فيما حدث من سبب عيب التدليس. انتهى. وبهذا يتضح لك ما استظهره عبد الباقي من قوله: والظاهر أن القول للمشتري أنه هلك بسماوي حال تلبسه بعيب التدليس، لا قول البائع: أن هلاكه قبل إباقه. انتهى. بل لو جزم بذلك لكان ظاهرا، وقال الشيخ أبو علي: إذا قطعت يد العبد بسبب عيب التدليس كما لو دلس بالسرقة فسرق فقطعت يده فلا إشكال في كونه إذا رد أنه لا يرد لنقص اليد، وهل له أن يتمسك بالعبد مقطوعا ويأخذ أرش القديم بلا خلاف أو يجري على القطع المعتاد في الثياب إذا دلس بائعها؟ لم أر في ذلك نصا صريحا. انتهى. وقوله: أو بسماوي زمنه، هو المشهور، ابن حبيب: وبه قال جميع الأصحاب، وقال ابن دينار: يرجع بالأرش خاصة بخلاف ما إذا هلك بسبب الإباق، كما لو اقتحم نهرا فمات، أو تردى فمات، أو دخل إلى موضع فنهشته حية فمات، قاله الشارح؛ ولما ذكر هلاكه عند المشتري بعيب التدليس ذكر ما إذا هلك عند غير المشتري منه بذلك، فقال:

ص: 525

وإن باعه، أي الشيء المعيب المشتري، قبل اطلاعه على العيب؛ وهلك عند المشتري منه بعيبه، أي التدليس، أي هلك بالعيب الذي دلس به البائع الأول، رجع المشتري الثاني على البائع الأول المدلس إن لم يمكن رجوعه على بائعه، أي الشيء المعيب الذي دلس فيه البائع الأول، وقوله: على بائعه، المراد به المشتري الأول، وقوله: إن لم يمكن لخ، بأن أعدم المشتري الأول أو غاب غيبة بعيدة ولا مال له. بجميع الثمن، متعلق برجع، وإيضاح كلامه: أن المشتري من المدلس إذا باع الشيء المعيب قبل الاطلاع على العيب، وهلك عند المشتري الثاني بسبب ذلك العيب، فإن المشتري الثاني يرجع على المدلس حيث لم يمكنه الرجوع على المشتري الأول بجميع الثمن الذي أخذه المدلس من المشتري الأول.

فإن كان الثمن الذي أخذه المدلس قدر الثمن الذي خرج من يد المشتري الثاني فالأمر واضح، وإن زاد الثمن الذي أخذه المدلس وهو الثمن الأول على الثمن الثاني أي الثمن الذي خرج من يد المشتري الثاني فللمشتري الثاني منه قدر ثمنه، وأما الزائد على قدر ثمنه فهو للبائع الثاني الذي هو المشتري الأول، وقوله: بجميع الثمن، هو نص المازري وابن شأس، واستبعده المص من جهة أنه ليس بوكيل للثاني على الزيادة، وقد يبرئه منها؛ قال: ومن حجة المدلس أن يقول للثالث: معاملتي لم تكن معك ولولا الثمن الذي خرج من يدك لم يكن لك مقال، فلا يكون لك غيره؛ وفي كتاب محمد عن مالك من رواية أصبغ: وقاله سحنون وغيره فإن كان الثمن الذي أخذه من المدلس مثل ما خرج من يده فلا كلام، وإن كان أكثر منه أخذ الثالث منه مقدار ثمنه، وأخذ الثاني بقيته. قاله الشارح. وقال المواق: التونسي: إذا كان الأول دلس بالإباق ثم باعه المشتري ولم يعلم فأبق عند الآخر فذهب، فقال ابن القاسم: يؤخذ الثمن كله من الأول فيدفع للآخر ثمنه، فإن فضل كان للمشتري الأول. انتهى. ومفهوم قوله: إن لم يمكن رجوعه على بائعه أنه إن أمكن رجوعه عليه لم يرجع على المدلس بشيء، وإنما يرجع بالأرش ابتداء فقط على بائعه ثم يرجع على المدلس بالأقل من الأرش وكمال الثمن الأول. قاله أحمد. وقال الطخيخي وتبعه بعض الشراح: يرجع على المدلس بجميع الثمن. وهذا الثاني هو قول ابن القاسم في سماع أصبغ، وهو الذي صرح به ابن عبد السلام، والأول نقله في البيان عن ابن المواز. قوله: بالأقل من الأرش

ص: 526

وكمال الثمن الأول، مثالُ ما يكون فيه الأرش أقل: ما لو باعه المدلس باثني عشر وباعه المشتري الأول بعشرة، والعيب الذي هلك بسببه ينقصه الخمس، وأمكن رجوع المشتري الثاني على المشتري الأول، فيأخذ المشتري الثاني من المشتري الأول اثنين، يبقى بيده أي المشتري الأول ثمانية، وقد خرج من يده اثنا عشر، فكمال ثمنه الأول أربعة، فيرجع على المدلس باثنين وهي الأرش، لأنه أقل من أربعةٍ كَمالِ الثمن الأول؛ ومثالُ ما يكون فيه كمال الثمن الأول أقل: ما لو باعه المدلس بعشرة وباعه المشتري الأول باثني عشر، وهلك المبيع بعيب التدليس بيد المشتري الثاني، والعيب ينقصه الربع، فيرجع المشتري الثاني على بائعه الذي لم يدلس وهو المشتري الأول، بربع ثمنه وهو ثلاثة ربع اثني عشر أقل منها كمال ثمنه الذي خرج من يده وهو عشرة، وقد بقي بيده تسعة، فكمال عشرته واحد وهو أقل من الأرش، لأن الأرش ثلاثة، فيرجع بواحد، لأن من حجة المدلس أن يقول: إن كان الأرش أقل لم ينقص عليك بتدليسي سوى ما دفعته من الأرش، وإن كان الثمن أقل فلا رجوع لك عليَّ إذا هلك بيدك إلا ما دفعته لي؛ ووجه قول ابن القاسم ظاهر، لأن من حجته أي المشتري الأول أن يقول للمدلس: يد المشتري كيدي وهو لو هلك بيدي رجعت عليك بجميع الثمن، فإذا أخذه منه كمل منه للثالث بقية رأس ماله. واعلم أن أقسام ما إذا لم يمكن رجوعه على المشتري الأول ثلاثة، أحدها: أن يساوي الثمن الأول الثاني وسكت عنه لوضوحه. الثاني: أن يزيد الثمن الأول على الثاني، وهو قوله: فإن زاد فللثاني. الثالث: أشار إليه بقوله:

وإن نقص الثمن الأول الذي أخذه المدلس عن ثمن المشتري الثاني الذي دفع للمشتري الأول، فهل يكمله أي الثمن الذي دفعه المدلس للمشتري الثاني البائع الثاني الذي هو المشتري الأول له، أي للمشتري الثاني لأنه قبض منه الزائد فيرجع عليه به؟ أو لا يكمله لأنه رضي باتباع الأول فلا رجوع له على الثاني؛ وإيضاح كلام المص أنه اختلف إذا كان الثمن الذي أخذه الثالث من المدلس أقل مما خرج من يده، فحكى المازري وابن شأس: أن الثاني يكمله له؛ وحكى ابن يونس: أنه ليس له غيره، ولا يرجع بتمامه على بائعه أي المشتري الثاني الذي لم يدلس إلا أن

ص: 527

يكون الثمن الأول أقل من قيمة العيب من الثمن فيرجع على بائعه بتمامه. قاله الشارح. وقال عبد الباقي: وقيد الثاني في توضيحه بأن لا يكون الثمن الأول أقل من قيمة العيب من الثمن الثاني، فإن كان أقل رجع على بائعه بتمام قيمة عيبه، كما لو باعه الثاني بمائة، وكان قد اشتراه بعشرة، والعيب ينقصه الخُمُسَ وخُمُسُ المائة عشرون، فيكمل الثاني للثالث أرش العيب بعشرة. وقوله: قولان، مبتدأ حذف خبره، أي في ذلك قولان. قال عبد الباقي: فإن قيل على القول الثاني: إنما رضي لضرورة أنه لم يمكنه الرجوع على الثاني، فالجواب: أنه كان يمكنه أن يصبر حتى يحضر الثاني، فلما لم يصبر لم يكن له رجوع عليه. قاله أحمد. انتهى.

‌تنبيهان:

الأول: قال الشيخ أبو علي: قول المتن يشمل قول اللخمي: إن ذهب يسرق فسقط من موضع فهلك في ذهابه أو في رجوعه كان من بائعه. انتهى. وقوله: إلا أن يهلك بسماوي لخ، مثله إذا أبق ولم تظهر حياته ولا موته ويطلب الآبقَ بائعُه لا مشتريه، كما في ابن رشد وأبي الحسن وغيرهما، ولابد من مراعاة قوله: وما يدل على الرضا، في مسألة هلاكه بعيب التدليس وغيرها، فمن باع أمة حاملا ودلس بحملها فماتت من الحمل على أربعة أقسام أحدها: أن تموت قبل علمه بالحمل. الثاني: أن يعلم ويبادر في الطلب فلم يصل إليه أو إلى السلطان حتى ماتت، ففي هذين الوجهين هي من البائع ولا يمين على المبتاع. الثالث: أن يمضي بعد علمه ما يعد فيه راضيا، ففي هذا الوجه هي من المبتاع، وهو الذي قال فيه أشهب: لا يرجع بشيء. الرابع: أن يمضي بعد علمه وقت في مثله ترد ولكنه لا يعد فيه راضيا لقربه، فهنا هي من البائع، ويستظهر على المبتاع باليمين، وهنا ذكر أبو الحسن أن المشيخة السبعة يقولون: يرجع بجميع الثمن في التدليس بالحمل إن ماتت من النفاس، وبه تعلم أن ما يدل على الرضى لا فرق فيه بين تدليس وغيره. الثاني: قد مر اعتراض المص على المازري في رجوع المشتري ممن اشترى من المدلس بجميع الثمن على المدلس حيث لم يمكنه الرجوع على المشتري من المدلس، وهو أي الاعتراض المذكور مبني على أن المازري يقول: إن الثالث إذا اشترى بثمانين وكان الأول المدلس باع بمائة مثلا، فإن الثالث يأخذ من الأول المائة كلها؛ ولم يصرح بذلك المازري، وإنما قال: رجع الثالث على الأول بجميع الثمن، إلا أن يزيد على ما دفع الثالث للثاني فيكون له، أو ينقص عنه

ص: 528

فيكمله الثاني. انتهى. فليس في كلامه ما يوجب هذا الإلزام الذي ألزموه، وقد نبه على هذا أبو علي ونصه: والباء في بجميع بمعنى في، أي رجع في جميعه، وبه يسقط اعتراض المص على المازري وابن شأس، فذكر ما قدمناه عن المازري، وقال عقبه: وهذا لا صراحة فيه أنه يرجع بجميع الثمن دائما بدليل الاستثناء، وذلك صحيح لا غبار عليه، وأنه إنما يرجع بجميعه إن تساوى مع ثمنه. قاله الرهوني. ثم قال: فتحصَّل من هذا: أن ما عند المص هو قول ابن القاسم، وأنه المشهور والراجح، وأنه لا إشكال فيه، بل وجهه بيِّن واضح. واللَّه أعلم. انتهى.

ولم يحلف مشتر ادعيت رؤيته إلا بدعوى الإراءة، قال الشارح: يعني أن من اشترى سلعة ثم اطلع فيها على عيب قديم فأراد ردها، فقال البائع: أنت قد رأيت العيب فاحلف أنك لم تره، لم يلزمه ذلك، إلا أن يدعي البائع أنه أراه إياه، فإنه يحلف حينئذ. انتهى ببعض إيضاح. وقال المواق: من المدونة قال مالك: لو قال البائع: احلف أنك لم تر العيب حين اشتريت، لم يلزمه يمين إلا أن يكون للبائع بينة أنه قد رءاه فيلزمه العيب، أو يدعي أنه أراه إياه فليحلفه وإلا فلا. انتهى. وقال عبد الباقي: ولم يحلف بضم أوله وتشديد ثالثه مفتوحا كثانيه، وبفتح أوله وسكون الحاء وكسر اللام، أي لم يقض الشرع بتحليف مشتر ادعيت رؤيته للعيب عند البيع، بل يرد من غير حلف، إلا أن يحقق عليه البائع رؤيته بدعوى الإراءة. انتهى المراد منه. وقال الخرشي: قوله: إلا بدعوى الإراءة، هذا في العيب الخفي والظاهر الذي يخفى عند التقليب على من لم يتأمل ولا يخفى غالبا على من تأمل، ككونه أعمى وهو قائم العينين، أما الظاهر الذي لا يخفى غالبا على من اختبر المبيع تقليبا ككون العبد مقعدا أو مطموس العينين فلا قيام له به؛ وفرق هنا بين تحقق الدعوى وعدم تحققها، فالحلف حيث حقق لا إن لم يحقق. انتهى المراد منه. وقال بناني عن ابن عرفة: العيب الظاهر الذي لا يخفى غالبا على كل من اختبر البيع تقليبا ككون العبد مقعدا أو مطموس العينين لا قيام به اتفاقا، وما يخفى عند التقليب على من لم يتأمل ولا يخفى غالبا على من تأمل ككونه أعمى وهو قائم العينين يقام به اتفاقا. انتهى. وقوله: إلا بدعوى الإراءة، اعلم أنه يحلف في ثلاث مسائل: يحلف في دعوى الإراءة، وحيث كان العيب

ص: 529

ظاهرا لا يخفى ولو على من لم يتأمل، وحيث كان خفيا وأشهد على نفسه أنه قلب وعاين ورضي، ولا يكون إشهاده على نفسه بما ذكر في الخفي مانعا من الرد مع اليمين، أي له ذلك كما قال ابن أبي زمنين، فإن لم يحلف فلا رد له في الثلاثة. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وتقدم عن البناني: أن الظاهر الذي لا يخفى على من اختبر المبيع تقليبا لا قيام به. وتحصَّل مما مر أن محل قوله: ولم يحلف، في الخفي حيث لم يشهد على نفسه أنه قلب وعاين ورضي، وفي الظاهر الذي يبدو للمتأمل إن لم يشهد أنه قلب وعاين. ولا الرضى به إلا بدعوى مخبر، يعني أن المشتري لا تلزمه اليمين إذا ادعى عليه البائع الرضى بالعيب حين اطلع عليه إلا أن يحقق البائع عليه الدعوى، بأن يقول: أخبرني مخبر أنك رضيت به، أو تسوقت بالسلعة بعد اطلاعك على عيبها، فحينئذ يحلف المشتري أنه ما رضي بالعيب، بعد أن يحلف البائع لقد أخبرني مخبر أنك رضيت به، كما قال ابن أبي زمنين، زاد عن بعض شيوخه: ويزيد البائع في يمينه: لقد أخبرني مخبر صدق أنك رضيت به، ولو قال البائع: أخبرني فلان سقطت عن البائع اليمين، ولو كان المخبر مسخوطا. وقوله: بعد أن يحلف البائع فلو نكل البائع فلا يمين له على المشتري، فلو حلف البائع ثم نكل المشتري لحلف البائع. لأن هذه يمين غير الأولى. قاله الخرشي في كبيره. وقال عبد الباقي: ولا يحلف إن ادعي عليه الرضى به حين اطلع عليه، وكلا الصورتين الدعوى بعد العقد، لكن الأولى ادعى أنه رءاه حين العقد، وهذه ادعى أنه رآه بعده ولكن رضي به، فلا يقال: أحدهما يغني عن الآخر إلا إن حقق عليه ذلك بدعوى مخبر، أي بدعوى البائع أن مخبرا ولم يسمه أخبره برضا المشتري بالعيب حين اطلاعه عليه فيحلف، كما في المدونة وهو المعتمد، وقال ابن أبي زمنين: يحلف البائع قبل المشتري ثم يحلف أنه ما رضي ويرد، فإن سماه وكان أهلا للشهادة وصدق البائع في أن المشتري أخبره بالرضى حلف البائع ولا رد للمشتري، فإن كذب البائع أو رد اليمين على المشتري حلف على عدم الرضى ورد، وإن كان المخبر مسخوطا حلف المشتري فقط أيضا ورد. انتهى. قوله: فإن سماه وكان أهلا لخ، يعني أن المخبر يسئل فإن صدق البائع وكان أهلا للشهادة وقام بها البائع حلف معه البائع لأنه شاهد وسقط الرد عليه، وإن كان مسخوطا أو أهلا ولم يقم البائع بشهادته حلف المشتري أنه ما رضي

ص: 530

وَرَد، وإنما وجبت عليه وإن كان الخبر مسخوطا لأن تصديقه مما يرجح دعوى البائع في الجملة، فإن كذب المخبر البائع فالظاهر أنه لا يمين على المشتري أنه ما رضي، سواء كان المخبر عدلا أو مسخوطا، هذا هو الذي نقل عن الشيخ المسناوي، خلاف ما ذكره عبد الباقي من اليمين؛ فتأمله. ثم هذا التفصيل كله خلاف ما عزاه ابن عرفة للمدونة والواضحة، ونصه: قلت: ففي حلفه أي المشتري بقول البائع: أخبرت برضاك بالعيب مطلقا، ثالثها: إن عين المخبر ولو كان مسخوطا أو حلف أن مخبرا أخبره بذلك، ورابعها: هذا بزيادة مخبر صدق، وخامسها: لا يحلف إلا بتعيين مخبر مستور، الأول للمدونة مع الواضحة، والثاني لأشهب، والثالث لابن أبي زمنين مع ابن القاسم، والرابع لبعض الشيوخ، والخامس للخمي. انتهى. فالتفصيل المذكور لابن أبي زمنين مع ابن القاسم وهو مقابل لمذهب المدونة كما رأيت. انتهى.

ولا بائع أنه لم يأبق لإباقه بالقُرْب، يعني أن من اشترى عبدا فأبق بقرب البيع فقال للبائع: أخشى أنه لم يأبق بقرب البيع إلا وقد كان أبق عندك، فاحلف أنه لم يأبق عندك فإنه لا يمين على البائع أنه لم يأبق عنده، وهو محمول على السلامة حتى تقوم بينة أنه أبق عند البائع. انتهى من الخرشي بإيضاح. وفي الشارح عن اللخمي: إن قال: يمكن أن يكون سرق عندك أو أبق، ولم يحصل ذلك عند المشتري، أو قال: أخبرت أنه سرق عندك أو أبق، أو يقول: سرق عندي أو أبق فاحلِفْ أنه لم يكن مثل ذلك عندك، أو يعلم أنه سرق عند المشتري أو أبق، فيقول: احْلِفْ أنه لم يكن مثل ذلك عندك، أو يقول: علمت أنه أحدث مثل ذلك عندك فعليه اليمين في هذا القسم، لأنه اجتمع فيه الوجهان ثبوت السرقة والإباق، ودعوى العلم أنه فعل مثل ذلك عند البائع، ولا يمين في القسم الأول، ولا خلاف في هذين واختلف فيما سوى ذلك. انتهى. وقال عبد الباقي: ومن ابتاع عبدا فأبق عنده لا يحلف بائع أنه -بفتح الهمزة وكسرها- لم يأبق بفتح الموحدة وكسرها، عنده أي البائع لإباقه عند المشتري بالقرب، لأنه لو مكن من تحليف البائع لأحلفه كل يوم على ما شاء من عيب يسميه أنه لم يبعه وهو به. قاله في المدونة. وظاهرها سواء اتهمه بأنه أبق عنده أو حقق عليه الدعوى بأن قال: إن مخبر صدق أخبرني بإباقه عندك؛

ص: 531

وهو ظاهر ما لأبي الحسن؛ وقال اللخمي، وصححه في الشامل: يحلف البائع في هذه الثانية، وينبغي جري تعيينه هنا وعدمه كالتي تقدمت قريبا، والآبق يطلقه الفقهاء على من هرب لسبب أو غيره، وأشار إلى حكم ما إذا أقر البائع ببعض العيب وكتم بعضه، بقوله:

وهل يفرق بين أكثر العيب فيرجع بالزائد، يعني أن المشتري للمعيب إذا أقر له البائع ببعض العيب وكتم عنه بعضه، وهلك المعيب بسبب العيب، أو بسماوي زمنه، فإنه اختلف في حكم ذلك: فقيل: إذا بين أكثر العيب يرجع المشتري على البائع بالزائد الذي كتمه البائع أي بأرشه، وأما إن بين الأقل وكتم الأكثر فإنه يرجع بجميع الثمن، لأنه لما بين الأقل فكأنه لم يبين شيئا، إذ الأقل تبع. ولهذا قال:

وأقله بالجميع أي إذا بين الأقل رجع بالجميع، أي جميع الثمن، مثال ذلك: ما لو قال له: يأبق خمسة عشر يوما وكان أبق عشرين يوما، فيقال: ما قيمته على أنه يأبق خمسة عشر؟ فإن قيل: عشرة، قيل: وما قيمته على أنه يأبق خمسة أيام زيادة على الخمسة عشر فإن قيل: ثمانية: رجع بخمس الثمن قل أو كثر، وإذا كان يأبق عشرين يوما، وقال له: يأبق خمسة أيام، يرجع بجميع الثمن؛ وعلى هذا القول لا فرق بين هلاك العبد فيما بَيَّنَ وفيما لم يبينه، والمسافة كالزمن على هذا القول؛ قال عبد الباقي: وانظر إذا بين النصف على هذا القول ما الحكم؟ وينبغي الرجوع بالزائد. انتهى. واستظهره غير واحد؛ وقال الشيخ أبو علي: والأولى أن صاحب هذا القول لم يتكلم على النصف فيرجع فيه للقولين المقابلين. انتهى. قال مقيده: وما قاله حسن جدا.

أو بالزائد مطلقا، يعني أنه قيل: إن الحكم ليس كذلك، بل الحكم أنه يرجع بالزائد مطلقا بَيَّن الأكثر أو الأقل أو النصف، هلك فيما بيَّنه أو في غيره، وطريق معرفة ذلك أن يقوم بالعيب الذي بيَّنه له، فيقال: قيمته عشرة مثلا، ويقال: قيمته باعتبار ما بينه وما كتمه ستة مثلا، فيرجح بمناب الزائد على ما بينه من الثمن وهو خُمُسان في المثال المذكور. أو بيَّن هلاكه فيما بينه أو لا، يعني أنه قيل: إن الحكم في هذه المسألة غير ما مر من القولين، وإنما الحكم فيها أن ينظر إلى الزمن الذي هلك فيه العبد، فإن هلك في الزمن الذي بين أنه يأبقه فإنه يرجع بالأرش أي بالزائد

ص: 532

أي بمناب الزائد على ما بينه من الثمن، وإن هلك في الزمن الزائد على ما بينه فإنه يرجع بجميع الثمن، فلو كان يأبق عشرين وقال: يأبق عشرة مثلا، وهلك قبل انقضاء العشرة من إباقه فإنه يرجع بما نقصه الزائد، وهو العشرة التي كتمها، فإن نقصه ذلك النصف رجع بنصف الثمن قل أو كثر، وإن هلك في الزائد على العشرة أي هلك بعد أن انقضت العشرة فإنه يرجع بجميع الثمن، فقوله: أو لا أي أو لا يهلك فيما بيَّنه، بل هلك فيما لم يبينه. وقوله:

أقوال، مبتدأ حذف خبره أي في ذلك أقوال، أما القول الأول والثاني فلم يعزهما ابن يونس، وأما القول الثالث فهو لأبي بكر بن عبد الرحمن. قال عبد الباقي: وانظر لو ادعى البائع أنه هلك فيما بينه وادعى المبتاع أنه هلك فيما لم يبينه، والظاهر العمل بقول المشتري. وقوله: أو لا، أو بمعنى الواو، لأن البينية لا تكون إلا بين شيئين، لأن العطف على هلاكه. واعلم أن الأقوال الثلاثة فيما إذا بين البعض وكتم البعض، فبعضها نظر للأقل والأكثر، وبعضها نظرٌ لهلاكه فيما بين وفيما لم يبينه، وبعضها لم ينظر إلى شيء من ذلك بل جعل الحكم فيما إذا بين البعض وكتم البعض كالحكم فيما إذا لم يعلم بالعيب.

ورد بعض المبيع بحصته، يعني أن المشتري إذا اطلع على عيب قديم في بعض المبيع المقوم المعين المتعدد وليس وجه الصفة فإنه يجوز له أن يرد البعض المعيب، وإذا رده فإنه يرجع بحصته أي بحظه أي بمنابه من الثمن الذي خرج من يده، والباء في بحصته باء العوض، أي يرد البعض المعيب ويأخذ عوضه مقابله من الثمن. واللَّه سبحانه أعلم. وقوله: ورد بعض المبيع، أي فليس له رد الجميع إلا برضا البائع، كما أن البائع ليس له أن يقول: إما أن تأخذ الجميع أو ترد الجميع. قاله ابن يونس. قال ابن عرفة: وهو ظاهر المدونة. نقله بناني. وقوله: ورد بعض المبيع بحصته، أي وله التماسك بالجميع؛ قال عبد الباقي مفسرا للمص: وإن اطلع المشتري بعد البيع على عيب ببعض مبيع رد بعض المبيع المعين المتعدد غير المثلي إذا بيع صفقة واحدة، لأن الشائع والمثلي سيأتيان بحصته من الثمن، ولزمه التمسك بالباقي، فإذا ابتاع عشرة أثواب بعشرة، ثم اطلع على العيب بواحد منها، فإنها تقوم كلها على سبيل الانفراد. انتهى. فإذا

ص: 533

قومت وساوت عشرة فإنها تقوم ثانيا دون المعيب، فإن ساوت ثمانية فحصة المعيب خمس الثمن فيرجع به. قاله بناني. وقال الخرشي مفسرا للمص: يعني أن المشتري إذا اطلع على عيب في بعض المبيع المقوم المعين وليس المعيب وجه الصفقة جاز أن يرده بما ينوبه بعد تقويم السلع منفردة وضم بعضها إلى بعض، فإن كان النصف فأقل فإنه يرده بحصته من الثمن، كما إذا اشترى عشرة أثواب بمائة وقيمة كل ثوب عشرة والمبيع ثوب واحدٌ أو اثنان إلى خمسة، فيجب التماسك بالخمسة السليمة بنصف الثمن، ويرد المعيب بحصته: فإن كان ثوبا رجع بعشر الثمن وهو عشرة، أو ثوبين رجع بخُمُسه وهو عشرون، أو خمسة أثواب رجع بنصف الثمن وهو خمسون، فإن كان المعيب وجه الصفقة بأن كان ينوبه أكثر من النصف فيتعين رد الجميع، ولا يجوز التمسك بالأقل كما يأتي. انتهى. وهذا الرجوع بنفس ما ينوب المعيب من الثمن إنما هو حيث كان الثمن عينا أو مثليا، فإن كان سلعة فهو قوله:

ورجع بالقيمة إن كان الثمن سلعة. صورتها: أن يبيع عشرة أثواب معينة بدار مثلا تساوي مائة يوم البيع، وقيمة كل ثوب عشرة، فوجد عيبا قديما بواحد منها أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، فيرجع بقيمة عشرها إن كان المعيب واحدا وهو عشرة، أو خمسها وهو عشرون إن كان العيب باثنين: أو بثلاثين إن كان المعيب ثلاثة، أو أربعين إن كان المعيب أربعة أثواب، أو خمسين إن كان المعيب خمسة؛ ولا يرجع بما يقابل ذلك من الدار فيكون شريكا لضرر الشركة، فلو كان المعيب منها ستة نقضت الصفقة كلها كما يأتي، وقوله: ورجع بالقيمة لخ، هو قول ابن القاسم في المدونة وهو المشهور، ومقابله لأشهب: يرجع شريكا في الدار، فإن كان العيب بثوب واحد في هذا المثال فيكون له من الدار عشرها على هذا القول المقابل للمشهور، وباثنين فله خمسها، وعلى هذا فقس. وقال عبد الباقي عن التتائي: كستة كتب بدار ثم اطلع على عيب بأحدها ورد، فإنه يرجع بنسبته من قيمة الدار لا بجُزْءٍ من الدار على الأصح، خلافا لأشهب، والتقويم يوم البيع لا يوم الحكم.

إلا أن يكون الأكثر، مستثنى من قوله: ورد بعض المبيع لخ، يعني أن ما تقدم من رد المعيب بحصته من نفس الثمن إن كان الثمن عينا والرجوع بالقيمة إن كان الثمن سلعة، محله حيث كان

ص: 534

المعيب النصف فأقل، وأما إن كان المعيب أكثر من النصف ولو بيسير فليس له إلا رد الجميع أو التمسك بالجميع صحيحا ومعيبا في الوجهين. قاله أبو علي. وله التمسك بالسليم فقط بجميع الثمن كما قاله غير واحد. وليس للمشتري التمسك بالسليم ورد المعيب مع الرجوع ولو تراضيا على ذلك لما فيه من الجهل. قال غير واحد: ومحل منع التمسك بالأقل حيث كان المبيع كله قائما، أما إن كان هلك ووجد الباقي معيبا فإن كان الثمن عينا أو عرضا قد فات فإنه يرد المعيب بحصته، ويتماسك بالسليم بحصته، كان المعيب وجه الصفقة أو دونه. قال عبد الحق في النكت: اعلم أنه إذا اشترى عبدين فهلك أحدهما وألفى الآخر معيبا يرد المعيب ويرجع بما يخصه، كان المعيب وجه الصفقة أم لا إذا كان الثمن عينا أو عرضا قد فات، فإن كان عرضا لم يفت فهاهنا يفترق وجه الصفقة من غيره، فإن كان المعيب وجه الصفقة رده وقيمة الهالك ورجع في عين عرضه، وإن كان المعيب ليس بوجه الصفقة رجع بحصته من قيمة العرض لا في عينه لضرر الشركة، هذا مذهب ابن القاسم؛ وإنما لم يفترق وجه الصفقة من غيره إذا كان الثمن عينا لأنه إذا كلف أن يرد قيمة الهالك إذا كان العيب بوجه الصفقة رد قيمة ذلك عينا ورجع في عين، فلا فائدة في ذلك، فأما إذا كان عرضا يعني لم يفت فكلف غرم قيمة التالف غرم ثمنا ورجع في عرض فهذا مفترق، وإذا كان عرضا قد فات صار كالعين لأنه يرجع إلى قيمة وهي ثمن. انتهى. ونقل ابن عرفة في ذلك خلافا، وعزا هذا لعبد الحق عن المذهب، وللخمي عن ابن القاسم، ثم نقل قولا ثانيا: بأنه يرد القيمة ويأخذ الثمن مطلقا، وعزاه لنقل المازري، وقولا ثالثا: بأنه يرد القيمة إن لم تكن أكثر من منابه من الثمن وعزاه للخمي. واللَّه أعلم. قاله الحطاب. وقال بناني: وإذا رُدَّ أعْلى المبيع وفات أدناه وعِوَضُه عَينٌ أو غير مثلي قد فات ففي مضي الأدنى بما نابه من الثمن ورد قيمته لأخذ كل الثمن مطلقا، ثالثها: إن لم تكن أكثر من منابه من الثمن. انتهى المراد منه. وقال الحطاب: قال في المدونة: فإن اختلفا في قيمة الهالك من العبدين وصفاه وقومت تلك الصفقة، فإن اختلفا في الصفة فالقول قول البائع مع يمينه انتقد أو لم ينتقد، وبه أخذ محمد. انتهى وقال أبو علي: فإن اختلفا في قيمة الهالك فقال المبتاع: قيمته الثلث، وقال البائع:

ص: 535

الثلثان، قيل لهما: صِفَا الميت، فإن تصادقا في صفته دعي لتقويم تلك الصفة أهل المعرفة فقوموها، فإن اختلفا في الصفة كان القول قول البائع إن انتقد مع يمينه لأنه غارم الآن، وإن لم ينتقد فالقول قول المبتاع مع يمينه لأنه غارم. ابن المواز: وقال أشهب وأصبغ: القول قول البائع انتقد أو لم ينتقد، وبه أخذ محمد انتهى.

أو أحد مزدوجين، عطف على قوله: الأكثر، يعني أن بعض المبيع إذا ظهر به عيب وكان أحد مزدوجين فإنه أي المشتري إما أن يردهما جميعا أو يتمسك بهما جميعا بجميع الثمن، ولا فرق بين أن يكون المعيب وجه الصفقة وأن لا يكون وجهها، قال الخرشي: والمراد بهما أي بالمزدوجين ما لا يستغنى بأحدهما عن الآخر حقيقة كالخفين والنعلين والمصراعين، أو حكما كالقرطين والسوارين، لأنه لا يستغنى بأحدهما عن الآخر عادة، أي أنه إذا كان المعيب أحد مزدوجين فليس له رد المعيب بحصته من الثمن والتماسك بالسليم ولو تراضيا على ذلك، لما في ذلك من الفساد الذي منع منه الشرع. انتهى. وقاله عبدُ الباقي وأصلُه للأجهوري، قال بناني عن مصطفى: وهو غير صحيح، والذي فيه عند التراضي الجواز حسبما ذكروه في باب القسمة إذ لا فساد فيه. انتهى. وهو ظاهر، وسيأتي للزرقاني نفسه في باب القسمة عند قول المص: أو فيه فساد لخ، التصريح بجواز القسمة مراضاة في كخفين قال: لإمكان شراء كل واحد من الشريكين فردة أخرى يكمل بها الانتفاع. انتهى. وقال ابن رشد: كل ما هو زوجان لا ينتفع بأحدهما دون صاحبه كالخفين والنعلين والسوارين والقرطين فوجود العيب بأحدهما كوجوده بهما جميعا. انتهى. قال أبو الحسن: وعلى هذا من استهلك خفا من خفين أو نعلا من نعلين أو ما أشبهه مما لا يفترق يلزمه قيمتهما جميعا، واختلف الشيوخ فيمن استهلك سفرا من ديوان من سفرين يرد السالم وما نقص، وصورة ذلك أن يقال: ما قيمة الديوان كاملا؟ فإذا قيل: عشرون، قيل: ما قيمة السالم؟ فإن قيل: خمسة، رد السالم وخمسة عشر دينارا، وظاهر كلام عبد الوهاب في شرح الرسالة عند ذكر النعلين أنه يضمن قيمة الجميع، وانظر من استهلك عجلا كانت أمه تحلب به، قال الشيوخ: عليه قيمة العجل وما نقص من قيمة الأم، الشيخ: وهذا مثل قول أصبغ فيمن ملخ من شجرة رجل فرعا على وجه الدلالة فغرسه فتشجر: أن عليه قيمة الفرع يوم ملخه وما

ص: 536

نقص الملخ من الشجرة. انتهى. وقال في التوضيح لما ذكر مسألة المزدوجين: ولهذا كان الصحيح فيمن استهلك أحد المزدوجين وجوب قيمتهما، واختلف فيمن استهلك سفرا من ديوان من سفرين، فقال بعضهم: يرد السالم وما نقص، وظاهر كلام عبد الوهاب في شرح الرسالة أنه يغرم الجميع. انتهى. قلت: والظاهر في مسألة الديوان أنه إذا وجد عيبا في أحد السفرين أنه يرد الجميع. واللَّه أعلم. قاله الحطاب. وقال: قال في المدونة: ومن ابتاع خفين أو نعلين أو مصراعين أو شبه ذلك مما لا يفترق فأصاب بأحدهما عيبا بعد ما قبضهما أو قبلُ، فإما ردهما أو قبلهما جميعا، وأما ما ليس بأخ لصاحبه أو كانت نعالا فرادى فله رد المعيب على ما ذكرنا في اشتراء الجملة، قال ابن يونس: إن لم يكن وجه الصفقة فليس له إلا رد الجميع أو حبسه ولا شيء له انتهى. قولها: أو مصراعين، هما بابان ينضمان جميعا، وفي المصباح: المصراع من الباب الشطر وهما مصراعان، وقال ابن حجر: المصراع الباب، ولا يقال: مصراع إلا إذا كان ذا دفتين، والدفة بالفتح الجنب من كل شيء، انظر الرهوني. وقال أبو علي: وسئل ابن لب عمن عقر عجلا وانقطع عن البقرة اللبن؟ فأجاب: ليس عليه إلا قيمة العجل لأنه لا يدرى من أي شيء انقطع، فإن علم وتبين أنه انقطع بسبب العجل فعليه قيمة ما حرمه من الانتفاع بلبنها مع قيمة العجل. قاله في المعيار. وفيه: أن البقرة التي ظهر بعجلها عيب فإن كان في أول اللبن وفي معظمه فله رد البقرة، وإن ظهر على عيب بعد عسر اللبن أو في آخره نظر، فإن كان العجل وجه الصفقة فللمبتاع رد العجل والبقرة، وإلا فله الخيار فيه وحده ولا خيار له في البقرة انتهى.

أو أما وولدها عطف على خبر إلا أن يكون يعني أن المعيب إذا كان واحدا من الأم وولدها فإنه يرد الجميع أو يتماسك بالجميع بجميع الثمن، ولا يجوز أن يتماسك بالسليم ويرد المعيب ولو لم يكن وجه الصفقة ولو رضي الآخر، هذا إذا لم يبلغ الولد سن التفرقة، وإلا فأجْرِه على ما مر. قال ابن يونس: حكم الأم تباع مع ولدها فيوجد بأحدهما عيب حكم ما لا يفترق. انتهى. يعني المزدوجين، وقال أبو الحسن: حكم الأم تباع مع ولدها الذي لم يبلغ حد التفرقة فيوجد بأحدهما عيب حكم ما لا يفترق. انتهى. وقوله: وولدها، الواو بمعنى أو، وبقاؤها على بابها فاسد، إذ

ص: 537

تقديره حينئذ: أو يكون البعض أما وولدها، وليس مرادا، وإنما معناه إذا اشترى أمة وولدها ثم اطلع على عيب بأحدهما فيتعين ردهما معا لأن الشارع منع من التفرقة بينهما إلى الإثغار، وهذا ما لم ترض الأم حيث كان المعيب غير وجه الصفقة، ولما كان الاستحقاق أصلا والعيب فرعا أتى به مصرحا بحكمه مفرعا عليه ما بعده، فقال:

ولا يجوز التمسك بأقل استحق أكثره، يعني أن من اشترى ثيابا مثلا فاستحق أكثرها فإنه لا يجوز له أن يتمسك بالأقل الباقي بل تنتقض الصفقة كلها، قال غير واحد: لأنه لما استحق الأكثر انتقضت الصفقة، فتمسُّكُ المشتري بالباقي كإنشاء عقدة بثمن مجهول، إذ لا يعلم ما ينوب الباقي من الثمن إلا بعد تقويم أجزاء المبيع على الانفراد ونسبة كل جزء من تلك الأجزاء إلى مجموع قيمة الصفقة. واعترض الرهوني هذا بأن فيه دورا، قال: لأنه إذا عللت حرمة التمسك بما ذكر يعني من الجهل وجب أن يكون انتقاض البيع سابقا عليها لوجوب تقدم العلة على المعلول، فيقال: وما علة انتقاض البيع أولا؟ فإن قيل: مجرد الاستحقاق انتقض ذلك باستحقاق الأقل والنصف، وإن قيل: استحقاق الجل لجهالة صارت العلة معلولا وذلك دور فتأمله بإنصاف. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: يظهر أنه لا دور لأن البيع انتقض باستحقاق الجل لأن الجل يحكم له بحكم الكل غير ما مرة، كقوله في الجنائز: ولا دون الجل، ولا ينتقض ذلك باستحقاق ما دون الأكثر لأن ذلك ليس في حكم الأكثر، فاستحقاق الأكثر هنا كاستحقاق الكل وإذا حكمنا بانتقاض البيع لاستحقاق الجل، وأجزنا له التمسك بالباقي بمنابه من الثمن فما ينوبه من الثمن مجهول حينئذ، فهو كاشتراء صبرة فقدت فيها شروط بيع الجزاف على أن صاحبها المشتري لها يكيلها بعد أن اشتراها. وحاصلُ ما فرق به الرهوني كثرة الغرر في الجل وقلته فيما دونه. واللَّه سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وإذا اشترى متعددا كثياب مثلا فاستحق أكثرها وبقي أقلها فإنه لا يجوز للمشتري التمسك بأقل استحق أكثره أي المبيع أو تعيب أكثره أو تلف أكثره يعني في ضمان البائع، وهذا في المعين كما مر، وأما الموصوف فلا ينقض البيع ويرجع بالمثل إن استحق أكثره أو تعيب أو تلف، وأما المتحد فإذا استحق بعضه فيأتي في قوله "أو استحق شائع وإن قل" قال عبد الباقي: ولما ذكر أن المبيع إذا استحق

ص: 538

أكثره تنفسخ العقدة من أصلها أتى بفائدة ذلك، ولو أتى بالفاء كان أولى لأن كلامه يوهم الاستيناف أو العطف فقال:

وإن كان درهمان وسلعة تساوي عشرة بثوب فاستحقت السلعة وفات الثوب فله قيمة الثوب بكماله ورد الدرهمين، صورتها أن يشتري شخص بدرهمين وسلعةٍ تساوي عشرة دراهم ثوبا، فلما قبض بائع الثوب الدرهمين والسلعة استحقها شخص من يده وأخذها، فإن العقدة تنفسخ لاستحقاق أكثرها وهي خمسة أسداسها، وحينئذ فيجب على بائع الثوب أن يرد الدرهمين على من أخذهما من عنده ويرجع في ثوبه الذي خرج من يده إن كان باقيا، فإن فات بحوالة سوق فأعلى فإنه يرجع بقيمته، ولا يجوز للمشتري التماسك بالدرهمين فيما يقابلهما من سدس الثوب، واسم كان ضمير الشأن، والجملة مبتدأ وخبره، أي وإن كان هو أي الشأن درهمان وسلعة بيعا بثوب. وفي بعض النسخ: درهمين بالنصب فكان ناقصة واسمها ضمير يعود على المبيع أو المشترى، وسلعة بالرفع على الأول وبالنصب على الثاني، وبثوب يتعلق ببيعا أو اشتريا. واللَّه سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: درهمان اسم كان، وسلعة عطف عليه أو مفعول معه، وخبر كان محذوف دل عليه متعلقه، أي بيعا بثوب. انتهى. وقال الحطاب: يعني أنه لما استحقت السلعة فقد استحق الأكثر فيرد الدرهمين ويأخذ ثوبه إن كان قائما وقيمته إن كان فائتا على المشهور وعلى قول ابن حبيب إنما يرجع بخمسة أسداس الثوب إن كان باقيا، وبقيمتها إن فات، فلو كانت قيمة الثوب خمسة عشر قاصه بدرهمين منها ورد له ثلاثة عشر على المشهور، وعلى مقابله يرد له خمسة أسداس القيمة، وذلك [اثنا]

(1)

عشر درهما ونصف، ولو كانت قيمته تسعة قاصه بدرهمين ورد سبعة على المشهور، وعلى مقابله يرد سبعة ونصفا، وإن كانت قيمته اثني عشر رجع بعشرة اتفاقا، ويقاص بالدرهمين ويملكها على مقابله بغير مقاصة. قاله في التوضيح. انتهى. قول عبد الباقي في توطئته: ولما ذكر أن المبيع إذا استحق أكثره لخ، قال بناني: نحوه للتتاءي، قال مصطفى: وهذا التفريع مبني على أن الفسخ مطلق فات العرض أم لا، مع أن المعتمد لا فسخ

(1)

فى الأصل اثنى والمثبت من الحطاب ج 5 ص 282.

ص: 539

مع الفوات، وقد أطبق من وقفت عليه من الشراح على تقييد حرمة التمسك بالأقل بعدم الفوات في العيب والاستحقاق ولم ينبهوا على هذا، ولما ذكر ابن عرفة مسألة الدرهمين هذه عن ابن الحاجب، قال: ونفس هذه المسألة لا أعرفها لغيره، وما ذكره من القولين فيها تقدما في العيوب فيمن ردَّ أعْلى المعيب وفات أدناه لأن المردود كالمستحق وفوات الأدنى كالدرهمين. انتهى. وقد تقدم قريبا نقل كلامه الذي أشار إليه، وفيه ترجيح عدم الفسخ مع الفوات، لكن قوله: لا أعرفه لغيره، اعترضه المواق بأن ابن يونس قد ذكرها. انظر كلامه فيه. قلت: والعذر لابن عرفة أن ابن يونس لم يذكرها في كتاب الاستحقاق الذي هو مظنتها وإنما ذكرها في أوائل كتاب الجعل والإجارة من ديوانه، وقوله: فله قيمته، لا إشكال فيه، لأن ضمير له يعود لمن استحقت منه السلعة واللام للاستحقاق، والظاهر ضبط قوله: ورد الدرهمين، بالفعل الماضي، والدرهمين مفعول، والفعل يفيد وجوب الرد. انتهى. قوله: وفيه ترجيح عدم الفسخ مع الفوات، ما قاله ظاهر ولكن في الحطاب عند قوله بعد: وصوف تم، ما يفيد أن المشهور هو الفسخ مع الفوات. انتهى المراد منه.

ورَدُّ أحد المشتريين، مقتضى كلام عبد الباقي أو صريحه أن رد مصدر فاعل جاز محذوفة، ونحوه للتتاءي، والمعنى أن المشتري إذا كان متعددا كان البائع متعددا أو متحدا ثم اطلع على عيب بالمبيع في صفقة واحدة فأراد أحد المشتريين أن يرد نصيبه وأبى غيره من الرد فالمشهور أن له أن يرد، وله أن يتماسك ولو أبى البائع وقال: لا أقبل إلا جميعه، وإلى هذا رجع مالك بناء على تعدد العقد بتعدد متعلقه واختاره ابن القاسم، وكان ملك يقول أوَّلًا: إنما لهما الرد معا، أو التماسك معا، والقولان فيها، وكلام المؤلف إذا لم يكونا شريكين في التجارة أي متفاوضين، وأما المتفاوضان إذا اشتريا معيبا في صفقة واحدة وأراد أحدهما الرد فلصاحبه منعه منه ويقبل الجميع، كما قال في الشركة: ويقبل المعيب وإن أبى الآخر. قاله الخرشي وغيره بإيضاح. وقال عبد الباقي: وجاز رد أحد المشتريين نصيبه من مبيع متحد أو متعدد اشترياه صفقة واحدة واطلعا فيه على عيب، فلأحدهما أن يرد ولو أبى البائع وقال: لا أقبل إلا جميعه، وهو المشهور بناء على تقدير تعدد العقد الواحد بتعدد متعلقه لخ. وقال المواق: من المدونة قال مالك: وإذا ابتاع رجلان

ص: 540

عبدا في صفقة فوجدا به عيبا فلمن شاء منهما أن يرد أو يحبس دون الآخر شاء ذلك البائع أو أبى. انتهى المراد منه.

وعلى أحد البائعين، يعني أن المشتري كان متحدا أو متعددا يجوز له أن يرد البعض من المعيب على أحد البائعين، قال الخرشي مفسرا لكلام المص: يعني أن المشتري إذا كان متحدا أو متعددا والبائع متعدد ثم اطلع المشتري على عيب بالسلعة فإنه يجوز له أن يرد على أحد البائعين نصيبه من المبيع دون الآخر. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز رد مشتر متحد أو متعدد من بائعين مثلا على أحد البائعين نصيبه من المبيع المعيب ولا يرد الجميع، إلا أن يكون البائعان شريكي تجارة بدليل قوله في الشركة: وكل وكيل فيرد على حاضر لم يتول. انتهى. وقال المواق: المازري: لمن ابتاع عبدا من رجلين شركة بينهما أن يرد نصيب أحدهما عليه بالعيب دون الآخر وتعد صفقتهما صفقتين. انتهى. وقال أبو علي: قال في المنتخب: قال سحنون: قلت لابن القاسم: فلو أني بعت من رجلين ثوبا فباع أحدهما حصته من صاحبه ثم ظهر على عيب كان عنده؟ قال: أرى أن الذي باع حصته قد خرج ما كان في يده من السلعة فلا يرجع عليك، وأما الذي لم يبع فله أن يرد حصته التي في يديه عليك بنصف الثمن. زاد أبو الحسن: ويبقى في يديه نصف الثوب وفي يديك نصفه، وهذا فرع يدخل في كلام المتن: ورد أحد المشتريين. ولما أنهى الكلام على العيب الثابت وجوده وقدمه ذكر تنازع البائع والمشتري في وجوده وقدمه، فقال: والقول للبائع في العيب، يعني أنه إذا تنازع البائع والمشتري في وجود العيب في المبيع وعدمه، فقال المشتري: به عيب، وقال البائع: لا عيب به، فالقول في ذلك قول البائع ولا يمين عليه. قاله الخرشي. وقال المواق: والقول للبائع، كان ينبغي أن يقول بلا يمين، قال ابن يونس: جعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القول قول المدعى عليه. قال ابن القاسم: من اشترى أمة فطعن فيها بعيب ولم يعلم أن بها عيبا إلا بقوله، فقال للبائع: احلف أنه لم يكن بها يوم بعتها مني عيب، فلا يجب بذلك يمين على البائع لا على البت ولا على العلم. انتهى. وقوله: في

ص: 541

العيب، على حذف مضاف أي نفي العيب الخفي كالزنى والسرقة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: والقول للبائع في نفي العيب الخفي كالزنى ونحوه. انتهى.

أو قدمه، يعني أن البيعين إذا اتفقا على وجود العيب بالمبيع واختلفا في قدمه وحدوثه، فقال المشتري: عيبه قديم عند البائع، وقال البائع: بل حدث عيبه عندك، فإن القول قول البائع فيصدق في أنه حدث عند المشتري فلا رد. قال عبد الباقي: ومحل كون القول للبائع في نفي قدمه ما لم يكن فيه قديم غير المتنازع فيه أو به قديم رضي به المبتاع، فإن كان به قديم لم يطلع عليه المبتاع أو لم يرض به وقطع بقدمه فالقول للمشتري بيمين في التنازع في حدوثه أيضا أنه قديم. انتهى. قال الرهوني: حاصل كلامه أن الصور أربع يكون القول للبائع في اثنتين منها وللمشتري في اثنتين منها، لأنه إذا كان التنازع في حدوثه قطع إصبع مثلا فإنه إما أن لا يكون به عيب آخر، أو يكون به عيب آخر كسقوط سنين مثلا لكن علم به المشتري ورضيه، أو يكون به عيب آخر ولم يطلع عليه حتى وقع النزاع والبائع يسلم قدمه، أو يكون اطلع عليه المشتري قبل النزاع في قطع الإصبع ولكن لم يوجد منه ما يدل على الرضى به، فالوجهان الأولان القول فيهما قول البائع، والأخيران القول فيهما قول المشتري، وما قاله على هذا صحيح، يوافق كلام التوضيح، وبه يسقط بحث التاودي وبناني معه، ولا خفاء أن نزاع المشتري في قدم قطع الإصبع في مثالنا بعد علمه بذهاب سنين لا يعد وحده رِضًى بذهابهما. فتأمله بإنصاف. انتهى كلام الرهوني. وكلام التوضيح الذي أشار إليه هو في حاشية الشيخ بناني، ونصه: ونصه: واعلم أنه إنما يكون القول قول البائع في العيب المشكوك فيه إذا لم يصاحبه عيب قديم، وأما إن صاحبه قديم فالقول قول المشتري، [إنه]

(1)

ما حدث عنده مع يمينه، لأن البائع قد وجب عليه الرد بالعيب القديم فصار مدعيا على المبتاع في الحادث، وبه أخذ ابن القاسم واستحسنه. انتهى. ومثله في ابن عرفة عن ابن رشد قائلا: لأن المبتاع قد وجب له الرد بالقديم وأخذ جميع الثمن، والبائع يريد نقصه من الثمن بقوله: حدث عندك، فهو مدع. ابن عرفة: سبقه بهذا التوجيه الباجي. انتهى. قال

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 151 والتوضيح ج 5 ص 482.

ص: 542

مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: فعلم من هذا فائدة حلف المشتري على قدم المتنازع فيه مع أن الرد ثابت له بالقديم الذي لا نزاع في قدمه، فحلف ليلا يلزمه الأرش بتقدير حدوثه.

إلا بشهادة عادة للمشتري مستثنى من قوله: أو قدمه فقط، فلو قال: كقدمه إلا بشهادة عادة للمشتري لكان أظهر، ومعنى كلامه أن البائع والمشتري إذا تنازعا في قدم العيب وحدوثه مع اتفاقهما على وجود العيب بالمبيع فإن القول للبائع في نفي قدمه حيث لم تشهد العادة بقدمه، وأما إن شهدت العادة بقدمه فالقول للمشتري أنه قديم، لكن إن قطعت بصدقه فلا يمين عليه، وإن ظنت فالقول له أي للمشتري بيمين كما قال:

وحلف من لم يقطع بصدقه، من بائع أو مشتر، والمراد بشهادة العادة قول أهل المعرفة بقدم العيب وحدوثه، أي ينظر أهل المعرفة في هذا العيب، هل هو حادث أو قديم؟ بحسب التجربة، وحاصل ما أشار إليه المص من قوله "أو قدمه إلا بشهادة عادة للمشتري وحلف من لم يقطع بصدقه" أن الصور خمس: شهادة أهل المعرفة بقدمه وقطعوا به، فالقول له أي للمشتري بلا يمين. ثانيها: أن يظنوا أنه قديم، فالقول له أي للمشتري أيضا لكن بيمين. الثالثة: أن يقطع أهل المعرفة بحدوث العيب، فالقول للبائع بلا يمين. الرابعة: أن يظنوا أنه حادث، فالقول للبائع بيمين. الخامسة: أن يشكوا فلا يترجح عندهم أي أهل المعرفة قدم ولا حدوث، فالقول للبائع أيضا بيمين. فتصديق البائع في الصور الثلاث مستفاد من قوله: أو قدمه، وحلفه وعدمه مستفاد من قوله: وحلف من لم يقطع بصدقه، منطوقا ومفهوما، وتصديق المشتري مستفاد من قوله: إلا بشهادة عادة للمشتري، وحلفه وعدمه مستفاد من قوله: وحلف من لم يقطع بصدقه. واللَّه سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: ومعنى شهادة العادة أن يستدل بها، يعني العادة أهل المعرفة على القدم أو الحدوث، وإذا عمل بقولهم الذي استندوا فيه لدلالة العادة فأولى ما مستندهم فيه المعاينة ونحوها. انتهى. قال مقيده عفا اللَّه عنه: قوله: فأولى ما مستندهم لخ، تنبيه منه على أن المص شامل لما ذكر ولا إذا عاينت البينة العيب عند البائع ونحو المعاينة. واللَّه سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: ومحل قوله: إلا بشهادة عادة لخ، في عيب يخفى عند التقليب على من

ص: 543

لم يتأمل ويظهر لمن تأمل غالبا، ككون العبد أعمى وهو قائم العينين؛ وأما الظاهر الذي لا يخفى على من اختبر المبيع تقليبا ككونه مقعدا أو مطموس العينين، فلا قيام به فلا ينفع المشتري شهادة العادة بقدمه ولو قطعت بذلك، لأنه يحمل على أنه علمه ورضيه. انتهى. فإن اختلف أهل المعرفة عمل بقول الأعرف، فإن استويا في المعرفة حكم بقول الأعدل، فإن تكافئا في العدالة سقطت لأنه تكاذب، فإن لم يكن أعرف فكالشك كما لو لم يوجد أحد، كذا يظهر. قاله عبد الباقي بإدخال شيء فيه من كلام بناني. واللَّه سبحانه أعلم. وقال بناني عن ابن عرفة: ولو اختلف أهل البصر في العيب فقال بعضهم: يوجب الرد. وقال بعضهم: لا يوجبه. فللمتيطي عن الموازية وابن مزين وغيرهما: تسقطان، لأنه تكاذب. قال بعض الموثقين: إن تكافأتا في العدالة، وإلا حكم بالأعدل، قلت: الجاري على قول الغير فيها أن تُقَدَّم بينة الرد لأنها زادت، لقولها: الأصل السلامة، ثم وجدت لابن سهل أن ابن القطان أفتى بذلك، وقال: هو معنى المدونة والعتبية. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال مالك: إن كان العيب مما يمكن حدوثه عند أحدهما فإن كان ظاهرا لا يخفى مثله حلف البائع على البت أنه باعه وما هو به، وإن كان مما يخفى مثله ويرى أنه لم يعلمه حلف البائع على العلم، وعلى المبتاع البينة أن العيب كان قديما عند البائع. ومن المدونة قال ابن القاسم: لو قام بعيب ظاهر لا يحدث مثله عند المشتري وجب له الرد ولا يمين عليه أصلا، ولا مقال للبائع لأن المبتاع قد ثبت صدقه، وسواء كان العيب ظاهرا أو خفيا. الباجي: إن شهدوا أن هذا العيب مما يحدث عند المبتاع وتيقنوا ذلك فلا رجوع للمبتاع بشيء، وإن شكوا في ذلك، فقال ابن القاسم: يحلف البائع في العيب الظاهر على البت وفي الخفي على العلم.

وقبل للتعذر غير عدول وإن مشركين، يعني أنه إذا تنازع المتبايعان في العيب في المبيع فإنه يقبل في معرفته غير العدول عند تعذر العدول، ويقبل غير العدول عند تعذر العدول وإن كان غير العدول مشركين، وليس المراد به خصوص من يجعل مع اللَّه إلها آخر، بل المراد به كل كافر، ويقبل قول من ذكر في معرفة العيب وفي قدمه، قال عبد الباقي: وقبل في معرفة العيب المتنازع فيه وفي أنه قديم أو حادث للتعذر غير عدول إن كان غير العدول مسلمين عارفين بقدمه أو

ص: 544

حدوثه، بل وإن كانوا مشركين، لأنه خبر لا شهادة، وكذا يُكتفى بالواحد على المشهور بشرط سلامته من جرحة الكذب، وإلا لم يقبل اتفاقا، كما قال ابن عرفة؛ ومفهوم للتعذر عدم قبول غير العدل المسلم مع عدم التعذر، وهو كذلك عند الباجي والمازري، وكلام ابن شأس يقتضي أن الترتيب بينهما على وجه الكمال فقط، وفي الاكتفاء بشهادة امرأتين على ما بداخل جسد الجارية غير الفرج والبقر عنه ونظر الرجال له قولان، وما بفرجها فامرأتان، وما تقدم من الاكتفاء بواحد مقيد بما إذا وجهه قاض ليقف على عيب عبد حي حاضر، فإن أوقف المشتري عليه بنفسه أو غاب العبد أو مات فلابد من اثنين اتفاقا. انتهى. قوله: وهو كذلك عند الباجي، ما نسبه للباجي من موافقته للمازري مثله في التوضيح وهو الصواب، وقوله: فإن أوقف المشتري لخ، فيه أمور، أحدها: أن قوله: أو غاب العبد، حقه أن يزيد بعده مثلا أو يقول بدل العبد: المعيب، لأن ذلك ليس مقصورا على العبد. ثانيها: قوله: اثنين، ظاهره وإن لم يكونا عدلين وليس كذلك. ثالثها: أن قوله: أو مات، يقتضي أن موضوعه أن ذلك مع توجيه القاضي لأنه عطفه بأو على قوله: فإن أوقف المشتري عليه بنفسه، وما ذكره من الاتفاق على هذا غير صحيح، بل المشهور قبول واحد موجه من القاضي للوقوف على ميت كما صرح به المتيطي وابن سلمون وصاحب المجالس، ولا شك أن توجيه القاضي للميت إنما يتأتى إذا كان لم يتغير ولم يدفن، وقال المتيطي في نهايته: ويشهد بالعيوب أهل المعرفة بها عدولا كانوا أو غيرهم، ويقبل في ذلك أهل الكتاب إن لم يوجد سواهم، والواحد منهم أو من المسلمين كاف، والاثنان أولى؛ وطريق ذلك العلم لا الشهادة، هذا هو المشهور من المذهب المعمول به، وقال محمد: لا يرد من العيوب إلا ما اجتمع عليه عدلان من أهل البصر والمعرفة، وقال ابن الماجشون: إن كان العبد المعيب حيا حاضرا فيجزئ قول واحد من أهل المعرفة، وإن كان ميتا أو غائبا فلا يثبت إلا باثنين عدلين، وقال بعض أهل العلم: هذا كله إن كان القاضي أرسلهم ليقفوا عليه، وأما إن كان المبتاع أوقفهم عليه من ذات نفسه فلا يثبت باتفاق من أصحاب مالك إلا بعدلين من أهل المعرفة. انتهى. قال مقيده عفا اللَّه عنه: فتحصَّل من هذا أن في المسألة ثلاثة أقوال: المشهور أن الواحد كاف. ثانيها: لابد

ص: 545

من عدلين وهو لمحمد. ثالثها: لابن الماجشون إن كان العيب حيا حاضرا فيجزئ قول واحد من أهل المعرفة، وإن كان ميتا أو غائبا فلا يثبت إلا باثنين عدلين. وقال بعض أهل العلم: إن محل هذا الخلاف إنما هو حيث أرسلهم القاضي ليقفوا عليه، وأما إن كان المبتاع أوقفهم عليه من ذات نفسه فلا يثبت إلا بعدلين اتفاقا.

‌تنبيهات:

الأول: قال الحطاب: من اشترى ثوبا أو حنطة أو غير ذلك ثم رده بعيب فينكر ربه أن يكون هو [متاعه]

(1)

فنقل في المسائل الملقوطة عن مختصر الواضحة: أن القول قول البائع مع يمينه، وإن نكل فالقول قول المشتري مع يمينه إنها التي اشتراها منه ما غير فيها ولا بدل. انتهى. وقال أبو علي: قال ابن عرفة: وفيها مع غيرها: إنكارُ البائع ما رد عليه بعيب أنه مبيعه مقبول بيمينه. ابن سهل: أما إن قال: أشك في كونه المبيع رد عليه. الثاني: قال أبو علي بعد جلب كثير من النقول: وإذا ثبت هذا كله فحاصله على التحقيق هو أن المشتري للشيء الحاضر إذا غلب على الظن أنه اطلع على العيب فلا كلام وإلا فله الرد، ولا فرق في سبب ظننا أنه رضا بما ذكر، إما من جهة كون العيب ظاهرا ظهورا بينا لا يخفى على من نظر المبيع وقلبه، وإما من جهة بصيرة المشتري بالعيوب، أو من طول المدة التي فيها المعيب، ويراعى تدين المشتري وخيانته: وتبلده وفطانته، وتقليبه تقليبا تاما وغير تام، ووقت دون وقت، فإن بعض الأوقات تظهر فيها العيوب ظهورا تاما وتخفى في بعض الأوقات وغير ذلك، كقوة الضوء وضعفه، وقلة البصر وضعفه، وتسيير الدابة وعدمه، والحمل عليها وعدمه، وهي أمور كثيرة، ومعيارها غلبة الظن أنه اطلع على العيب، وإذا قلنا: لا يلزمه المبيع، فيحلف إن أمكن اطلاعه على العيب حين قلبه واستعمله وإلا فلا يمين، وعليه يحمل قول المتن: ولم يحلف مشتر ادعيت رؤيته لخ، انتهى.

الثالث: قال الشيخ أبو علي: مسألة: فإن اختلف أهل البصر بالعيب فقال بعضهم: العيب قديم، وقال بعضهم: العيب حادث، أو قال بعضهم: يجب به الرد، وقال الآخر: لا يجب،

(1)

في الأصل مبتاعه والمثبت من الحطاب ج 5 ص 283 ط دار الرضوان.

ص: 546

ففي المدونة وكتاب ابن المواز: ذلك تكاذب ولا يحكم بالرد. قال بعضهم: وذلك إذا تكافأتا في العدالة وإلا حكم بالأعدل. الرابع: قال المتيطي في نهايته: لو ادعى المبتاع في العيب الخفي أنه كان عند البائع وشهد بذلك شاهد واحد، ففي كتاب محمد وقاله ابن القاسم وابن نافع والمخزومي في المدنية: أنه يحلف المبتاع مع شهادة شاهد على العيب ويرد العبد، وقال ابن كنانة في المدنية: لا يحلف، قال بعض الشيوخ: والصواب ما في كتاب محمد، غير أنه لابد للحالف من أن يصل بيمينه أنه لم يعلم بهذا العيب إلا حين قيامه به. انتهى. قال الرهوني: وهو مشكل مع ما تقدم عن المتيطي نفسه وغيره من عزوه لابن المواز أنه لابد في ثبوت العيب من عدلين، والجواب عن ذلك أن ما تقدم في إثبات كونه عيبا بقول أهل المعرفة، وما هنا العيب ثابت، والشاهد إنما شهد في أنه قديم عاينه بالمعيب قبل بيعه، ومن تأمل كلامي المتيطي معا بان له ذلك. واللَّه سبحانه أعلم.

ويمينه بعته وفي ذي التوفية وأقبضته وما هو به. قال الشيخ أبو علي: يعني إذا فرعنا على أن القول قول البائع في العيب إذا لم تشهد العادة للمبتاع فلابد من حلفه أي البائع على ذلك، وصفة يمينه: لقد بعته إياه وليس هو أي العيب الذي عينه المشتري به، أي بالشيء المبيع إذا لم يكن فيه حق توفية، وإلا زاد وأقبضته إياه وما هو أي العيب المذكور به، ثم نبه على أن العيب تارة يكون ظاهرا كالعور والعرج، وتارة يكون خفيا كالزنى والسرقة، فإنه يحلف في الظاهر على البت كما قال:

بتا، أي يحلف على البت في العيب الظاهر، ويحلف على نفي العلم في العيب الخفي، هذا هو مذهب المدونة، وهو قول ابن القاسم، وهو المشهور، وقال ابن نافع: يحلف على البت فيهما، ولأشهب قول ثالث: أنه يحلف على نفي العلم فيهما. قوله: ويمينه بعته لخ، فإن لم يحلف البائع ونكل عن اليمين حلف المشتري على نفي العلم في الظاهر والخفي، وهذا القول رواه عيسى عن ابن القاسم، وروى يحيى: أنه كالبائع يحلف على البت في الظاهر وعلى نفي العلم في الخفي، واختاره ابن حبيب، لأن الأصل في اليمين أن تنقلب على ما توجهت، وذهب ابن نافع

ص: 547

وابن أبي حازم إلى إنه يحلف على البت فيهما، قاله الشارح، وقال عبد الباقي: ويمينهُ أي البائع حال قبول قوله في عدمه أو حدوثه مع توجهها عليه صفتُه في غير ذي التوفية وهو ما يدخل في ضمان المشتري بمجرد العقد: واللَّه لقد بعته وما هو به، ويزيد في ذي التوفية مكيلٍ أو موزونٍ أو معدود أو غائب أو مواضعة أو ثمار على رءوس شجر أو ذي عهدة أو خيار: وأقبضتُه وما هو به، أي بالمبيع، لأنه إنما يدخل في ضمان المشتري بقبضه بتا في العيب الظاهر كالعمى والعور والعرج وضعف البصر، وعلى نفي العلم في العيب الخفي كالزنى والسرقة. انتهى بحذف واقتصار. ويتصور منها للبائع في نفي العيب فيما إذا قام للمشتري شاهد على العيب ونكل عن اليمين وتوجهت على البائع، فيحمل على نفي العلم في العيب الخفي. انتهى. كون البائع يحلف على العلم في هذه الصورة إذا كان العيب خفيا هو قول أصبغ، وقال ابن المواز: إنه يحلف على البت؛ واعترض أبو محمد قول أصبغ، وقبل المتيطي اعتراضَه وسلمه ابن يونس. واللَّه سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: واستشكل قول المص: وما هو به، فإنه ليس نقيض دعوى المشتري، ورد بأنه نقيض دعوى المشتري لأن فيه نفي عين العيب المدعى، فكلام المص سالم من الاعتراض، وإنما الاعتراض على قول ابن الحاجب: وما به من عيب، لأن البائع لا يلزمه أن يحلف إلا على ما ادعاه المشتري من العيب المخصوص. قال عبد الباقي: وسكت عن يمين المبتاع إذا توجهت عليه كما مر، وفيها ثلاثة أقوال: قيل: يحلف على العلم فيهما، أي على نفي العلم فيهما، لأن التدليس يكون من جهة البائع دون المشتري. وقيل: كالبائع. وقيل: على البت فيهما. انتهى. قوله: وقيل: كالبائع، هو القول الراجح المعمول به. قاله الرهوني. قوله في المبتاع: على نفي العلم فيهما، الظاهر أن معناه لا أعلم أن العيب طرأ له عندي، بدليل قول مالك: إنه يحلف في الظاهر على البت ما حدث عنده. واللَّه أعلم.

‌مسألة:

قال الحطاب: فإن قال المشتري: ظننته -يعني العيب- حادثا فلذلك سكتُّ، فقال في الواضحة: إذا حلف على عدم العلم ولا سكت رضًى ولا استعمل بعد العلم فله القيام به. قال أبو محمد: لأن هذا يقر بعلم العيب وإنما جهل قدمه فعليه اليمين. انتهى. وقال في المقدمات: العيوب على قسمين: قسم يمكن التدليس به، وعيب لا يمكن التدليس به؛ فأما ما لم يمكن

ص: 548

التدليس به فلا يجب الرد به في القيام ولا الرجوع به في الفوات، وهو على وجهين أحدهما: ما استوى فيه البائع والمبتاع في الجهل بمعرفته، وهو ما كان في أصل الحالة باتفاق أو لم يكن في أصلها على اختلاف، والثاني: ما استوى البائع والمبتاع في المعرفة به، وذلك ما كان من العيوب ظاهرا لا يخفى قاله الحطاب.

والغلة له للفسخ، قال الخرشي: يعني أن الغلة في البيع الصحيح اللازم هي للمشتري إلى يوم فسخ البيع بسبب العيب، لأن المبيع في ضمانه، والخراج بالضمان، والفسخ يحصل برضا البائع بالقبض، وبالثبوت وإن لم يحكم به، كما أشار له بقوله بعد: ودخلت في ضمان البائع إن رضي بالقبض أو ثبت عند حاكم وإن لم يحكم، وأما البيع غير اللازم كبيع الفضولي فإنه لا غلة فيه للمشتري مع علمه، لأنه حينئذ كالغاصب، إلا أن يجيز المالك البيع فإن الغلة حينئذ تكون للمشتري، والدليل على أن الضمير في له للمشتري مع أن البائع قد تقدم تصريحه بقوله:

ولم تُرَدَّ، أي لا يرد المشتري الغلة للبائع، لأن نفي الرد إنما هو من جهة من قبضها وهو المشتري، وحينئذ فله فائدة زائدة على ما قاله الشارح من أنه ذكره ليرتب عليه ما بعده. انتهى. واللام في قوله: له، للملك؛ وفي قوله: للفسخ، للغاية بمعنى إلى. وقوله: والغلة له للفسخ، قال عبد الباقي: الغلة التي لا يكون استيفاؤها دليلا على الرضى. انتهى. قال بناني: تقدم أنها يعني الغلة التي لا يكون استيفاؤها دليلا على الرضى هي التي استغلها قبل الاطلاع مطلقا، والتي لا تنقص المبيع، واستغلها زمن الخصام. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال مالك: من ابتاع دارا أو عبيدا فاغتلهم ثم ردهم بعيب كان ما اغتل منهم له بضمانه. ابن يونس: ولا خلاف في هذا. انتهى. وقوله: والغلة له للفسخ، قال عبد الباقي: دخل في كلامه الثمرة غير المؤبرة حين الشراء إن جذها ولو قبل زهوها أو أزهت قبل الرد بالعيب، وإذا جذها قبل طيبها كان من المتوسط عند المشتري. انتهى.

بخلاف الولد راجع لقوله: ولم ترد، يعني أن من اشترى شيئا من إناث الحيوان سواء كان مما يعقل أو لا، ثم رد ذلك بعيب فإنه يرد معها ولدها سواء اشتراها حاملا أو حملت عنده، لأن

ص: 549

الولد ليس بغلة على المشهور، خلافا للسيوري، قال في المدونة: وإذا ولدت الأمة عندك ثم رددتها بعيب رددت ولدها معها وإلا فلا شيء لك، وكذلك ما ولدت البقر والغنم والإبل، ولا شيء عليك في الولادة إلا أن ينقصها ذلك فترد ما نقصها؛ قال ابن يونس: يريد وإن كان في الولد ما يجبر به النقص جبره على قول ابن القاسم، كما قال في الأمة تلد ثم يردها بعيب.

وثمرة أبرت، يعني أن من اشترى نخلا وفيها ثمرة موبرة واشترطها المشتري ثم إنه اطلع على عيب قديم في النخل فإنه إذا أراد أن يرد النخل لعيبه رد معه الثمرة، قال عبد الباقي: وثمرة أبرت حين الشراء واشترطها مع الأصل إذ لا تدخل في عقد البيع إلا بشرط كما يأتي، فإذا رد الأصول بعيب رد معها الثمرة. انتهى. وقال الحطاب: أي وكذلك من اشترى نخلا مؤبرا واشترط الثمرة له ثم جذ الثمرة ثم اطلع على عيب فإنه يرد الثمرة لأن لها حصة من الثمن، ولو لم يشترطها المشتري لكانت للبائع، وقال أشهب: إنها غلة. واتفق ابن القاسم وأشهب على عدم رد اللبن وإن كان في الضرع يوم البيع وذلك خفيف. وقاله في المدونة. وقوله: وثمرة أبرت، قد علمت أنه قول ابن القاسم، وعليه فيرد الثمرة إن كانت قائمة، فإن فاتت رد مكيلتها إن علمت والقيمة إن لم تعلم أو الثمن إن كان باعها. قاله في المقدمات.

وصوف تم، يعني أن من اشترى غنما عليها صوف تام، ثم إنه جز الصوف، ثم اطلع على عيب قديم فإنه يرده، فإن فات رد مثله. قاله في المدونة. قال ابن يونس: وإن لم يعلم وزنه رد الغنم بحصتها من الثمن. وفي كتاب محمد عن المدونة: رد قيمته، والأشبه ما قدمنا. انتهى. قاله الحطاب. وقال: الجاري على المشهور ما في كتاب محمد. اللخمي: وإذا وجد العيب بعد أن عاد الصوف ردها ولا شيء عليه للصوف الأول، لأن هذا كالأول وهو أبين من جبر العيب بالولد، لأن الولد ليس بغلة وليس له حبسه، فكان جبره بما له حبسه أولى. انتهى. وقال في المقدمات: فيما إذا اشترى النخل بالثمرة المؤبرة ثم وجد العيب قبل طيبها فإنه يردها بثمرتها عند الجميع ويرجع بالسقي والعلاج عند ابن القاسم وأشهب، وأما إن لم يطلع على العيب إلا بعد طيبها فإنه يردها على مذهب ابن القاسم، ويرجع بالسقي والعلاج. وقال أشهب: إذا جذت الثمرة فهي غلة. وقوله: وثمرة أبرت وأحرى ما بعد التأبير، ومفهوم قوله: أبرت، أنها لو لم تكن يوم الشراء

ص: 550

مؤبرة بأن لم توجد يوم الشراء بل حدثت بعده أو وجدت يومه ولكنها لم تؤبر، فإن اطلع على العيب قبل طيبها أي إزهائها ردها مع الأصول ويرجع بالسقي والعلاج عند ابن القاسم وأشهب، وأما إن كانت قد طابت أي أزهت فهي للمشتري، ولو جذت قبل الطيب لكانت للمشتري سواء جذها قبل التأبير أو بعده، لكن يكون ذلك من الحادث عند المشتري، فيخير بين أن يرده وما نقصه ويمسكه ويرجع بقيمة العيب، والمذهب أنه لو هلكت الثمرة المؤبرة يوم الشراء عند المشتري بأمر من اللَّه لم يضمنها المشتري. قاله ابن القاسم. وعُورض هذا بأنه قال أي ابن القاسم: إن المؤبرة ترد، لأن قوله بردها يدل على أن لها حصة من الثمن، واعتذر عن ذلك بأنه لم يضمنها المشتري لكونها غير مقبوضة له، ولهذا منع أن يشتري النخل المؤبرة بطعام لكون الثمرة يتأخر قبضها، وقال بعض المتأخرين: إنه يضمن الثمرة إذا اشتراها بعد الزهو وإن كانت بأمر من اللَّه. قاله المازري. انتهى. وقد علمت أن المشهور الأول وهو منصوص عليه في المدونة. انظر الحطاب. ومفْهومُ قوله: وصوف تم، أنه لو اشتراها وليس عليها صوف أو عليها صوف غير تام ثم حصل الصوف عنده أو تم أنه لا يرده، وهو كذلك إذا جزه قبل الاطلاع على العيب. قاله اللخمي. وفي المقدمات: وإن لم يجزه فهو تبع للغنم، ولا يرجع المبتاع بشيء من نفقته عليها بخلاف النخل. انتهى. انظر الحطاب. وقال عبد الباقي: وصوف تم وقت الشراء وإن لم يشترطه المشتري لدخوله بغير شرط فليس شيء منها غلة فيرد للبائع مع رد المعيب، ولو طابت الثمرة أو جذت، فترد إن كانت قائمة ومكيلتها إن علمت وفاتت ببيع أو أكل أو سماوي، لضمانه لها بعد جذها على الأصح كما في الشامل، لأنها مستغلة، ولا يضمنها قبل الجذ لأنها تابعة، فإن لم يعلم المكيلة في جميع ذلك رد قيمتها إن لم يبعها، وثمنها إن باعها وعلم قدره وإلا رد قيمتها، وله على كل حال أجرة سقيه وعلاجه ما لم يجاوز قيمة الثمرة أو ثمنها فليس له إلا قيمتها أو ثمنها، وإذا جز الصوف رد وزنه إن علم وإلا رد الغنم بحصتها من الثمن، والفرق بين الصوف والثمرة فيما إذا جزا وجهلا أنه لو قيل برد الأصول بحصتها من الثمن كما قيل بذلك في الصوف لأدى إلى بيع الثمرة مفردة قبل بدو صلاحها، وهو لا يجوز إلا بشروط منتفية هنا، وأخذ القيمة ليس ببيع،

ص: 551

بخلاف رد الغنم بحصتها من الثمن، وظاهر قوله: وثمرة أبرت، ردها ولو لم يرد أصولها حتى ظهرت فيها أخرى وأبرت، وهو كذلك كما في الرهوني.

كشفعة، تشبيه في قوله: ولم ترد، يعني أن من باع شقصا له من عقار يكون غلة ذلك الشقص لمشتريه فإذا أخذ منه بالشفعة فليس عليه أن يرد للشفيع الغلة، وقد علمت أن الثمرة المؤبرة من الغلة فيردها المشتري للشفيع، وأما الولد والصوف فلا يتصوران في الشفعة لاختصاصها بالعقار. واستحقاق، عطف على شفعة، يعني أن الغلة للمستحق منه فالغلة له إلى أن يحكم للمستحق بالشيء المستحق، وقد علمت أن الثمرة المؤبرة ليست من الغلة. وتفليس، يعني أن من اشترى شيئا ثم إن المشتري فلس قبل أخذ البائع للثمن فإن البائع أحق بشيئه إذا اختار أخذه على ما يأتي، وغلته لمشتريه فلا يرد ما أخذه من الغلة قبل التفليس، وقد علمت أن الثمرة المؤبرة ليست من الغلة.

وفساد، يعني أن المشتري شراء فاسدا تكون له الغلة، فإذا رد البيع لفساده فإن المشتري لا يرد الغلة، وقد علمت أن الثمرة المؤبرة حين الشراء ليست من الغلة. قال المواق: ابن رشد: إن طرأ على المبتاع للنخل مستحق أو شفيع أو فلس فإن جذ الثمرة كانت الغلة له إن كان المبتاع النخل قبل أن يكون فيها ثمرة، وإن كان ابتياعه لها وفيها ثمرة لم تكن له غلة وحاسبه بها الشفيع، فأخذ النخل بما ينوبها من الثمن، وحاسبه بها البائع في الاستحقاق، فلم يرجع عليه إلا بما ينوب الأصول، وحاسبه بها الغريم في التفليس فأخذ النخل بما ينوبها من الثمن، وحاص الغرماء بما ينوب الثمرة. انتهى كلام المواق. وقوله: وفيها ثمرة، أي لم تؤبر كما في شرح أبي علي. قال الحطاب: الولد في الاستحقاق حكمه حكم الرد بالعيب يأخذه المستحق للأمهات معها، وكذلك في التفليس فإن للبائع أن يأخذ الولد مع الأمهات كما صرح به في كتاب التفليس من المدونة، وأما في البيع الفاسد فإن الولد يفيته ويوجب الرجوع بالقيمة. قال في المدونة في كتاب التدليس بالعيوب: وأما الولد فيفيت البيع الفاسد ويوجب القيمة، وأما الثمرة فحكمها في البيع الفاسد كحكم الرد بالعيب كما صرح به في المقدمات، وأما في الشفعة والاستحقاق والتفليس فقال في كتاب الشفعة من المدونة قال مالك: وإذا ابتاع النخل والثمر مؤبرة أو مزهية فاشترطها ثم استحق رجل

ص: 552

نصفها واستشفع فله نصف النخل ونصف الثمرة باستحقاقه، وعليه للمبتاع في ذلك قيمة ما سقى وعالج، ويرجع المبتاع بنصف الثمن على البائع، فإن شاء المستحق أخذ الشفعة في النصف الباقي فذلك له، ويكون له أخذ الثمرة بالشفعة مع الأصل ما لم يجذ أو تيبس، ويغرم قيمة العلاج أيضا، وإن قام بعد اليبس أو الجذاذ فلا شفعة له في الثمرة كما لو بيعت حينئذ، ويأخذ الأصل بحصته من الثمن. وقال الشيخ أبو علي عن ابن رشد: ولو اشترى النخل وبها ثمر مؤبر فطرأ مستحق أو شفيع قبل الطيب فهما أحق بها بعد أن يوديا العلاج، فإن طرأ بعد الطيب أو بعد الجذاذ وهي قائمة أو فائتة ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: أنهما يأخذانها ويرجع بالعلاج. الثاني: أنها تكون غلة للمبتاع وهو قول أشهب. الثالث: أنها تمضي بما ينوبها من الثمن. وإذا قلنا: إنها تمضي بما ينوبها من الثمن، أو إنها غلة للمبتاع، فهل بالطيب؟ وهو قول ابن القاسم في كتاب العيوب، أو باليبس وهو قوله في المدونة، أو بالجذاذ وهو لأشهب في كتاب العيوب. وأما في التفليس فالمنصوص لهم قول واحد: أنه أحق بها ما لم تجذ، فإن جذت كان أحق بالأصول بما ينوبها من الثمن. انتهى. قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: تحصَّل مما مر أن المص جعل الثمرة على قسمين: مؤبرة حين الشراء، وغير مؤبرة، فالمؤبرة في المسائل الخمس للآخذ، وغير المؤبرة يمسكها المأخوذ منه وهو المشتري في المسائل الخمس، أعني العيب والاستحقاق والشفعة والتفليس والفساد. قال الشيخ محمد بن الحسن: اعلم أن الغلة للمشتري في المسائل الخمس، لكن إن كانت غير ثمرة أو ثمرة غير مؤبرة يوم الشراء وجذها المشتري فظاهر، يعني: ولو قبل الطيب، وإن لم يجذها ففي العيوب والفساد يستحقها بمجرد الزهو، وفي الشفعة والاستحقاق باليبس، وفي التفليس بالجذاذ وهو القطع، وإلى هذا أشار ابن غازي بقوله:

والجذ في الثمار فيما انتقيا

يضبطه تجذ عفز شسيا

ص: 553

قال: التاء في تجذ للتفليس، والجيم وحدها أو مع الذال للجذ، والعين والفاء في عفز للعيب والفساد، والزاي للزهو، والسين والشين في شسيا للشفعة والاستحقاق، والياء لليبس. انتهى.

وقال غيره:

الفائزون بغلة هم خمسة

لا يطلبون بها على الإطلاق

من رد في عيب وبيع فاسد

أو شفعة فلس مع استحقاق

فالأولان بزهوها فازا بها

والجذ في فلس ويبس الباقي

وللتتاءي رحمه اللَّه تعالى:

وللمشتري الغلات إن رد ما اشترى

بعيب أو البطلان في بيعه ظهر

كذا عند تفليس وأخذ بشفعة

ورد للاستحقاق قد تمت الصور

قال عبد الباقي: ثم إن المشتري فاسدا لا يرد الغلة ولو علم بالفساد إلا في الوقف على غير معين، فإن المشتري إذا علم بالوقفية يرد الغلة. انتهى. قوله: إلا في الوقف على غير معين، قال الرهوني: وكذا الوقف على معين على ما رجحه ابن الناظم وغيره.

ودخلت في ضمان البائع إن رضي بالقبض، يعني أن المشتري إذا رد السلعة المبيعة على البائع فإنها تدخل في ضمانه أي البائع إن رضي بالقبض وإن لم يقبضها. قاله الشارح وغيره. وعلم من هذا أن قوله: بالقبض متعلق برضي. أو ثبت عند حاكم وإن لم يحكم، يعني أن العيب الموجب للرد إذا ثبت عند الحاكم فإن المعيب يدخل في ضمان البائع وإن لم يحكم الحاكم بالرد. قال عبد الباقي: ودخلت سلعة ردت بالعيب في ضمان البائع بأحد أمرين، أشار لأولهما بقوله: إن رضي بالقبض لها من المبتاع ولو لم يقبضها ولا مضى زمن يمكن قبضها فيه. قاله التتائي. فبالقبض متعلق برضي، لا بدخلت؛ ولثانيهما بقوله: أو ثبت العيب الموجب للرد عند حاكم وإن لم يحكم به وكان الرد على حاضر، وإلا فلابد من القضاء بالرد، كما مر عند قوله: ثم قضى إن أثبت عهدة لخ؛ وظاهر قوله: إن رضي بالقبض، أنه لو وافقه على أن العيب قديم ولم يرض بقبضها أنها لا تدخل في ضمانه، لأنه قد يدعي عليه أنه تبرأ له من ذلك العيب، وهذا الذي مر عليه

ص: 554

المص أي انتقال الضمان للبائع بأحد الأمرين المذكورين، هو الذي يأتي على مذهب الإمام مالك في الموطإ وقول ابن القاسم في شهادات المدونة. ابن رشد: وظاهر المدونة أنها في ضمان المبتاع حتى يحكم له بالرد أو يرضى البائع بالقبض. وقال أصبغ: إذا أشهد المشتري بالعيب وأنه غير راض به فإنها تدخل في ضمان البائع وإن لم يرض بقبضها، وقيل: لا تدخل في ضمانه وإن رضي حتى يمضي من المدة ما يمكنه القبض فيه، وقيل: لا تدخل في ضمان البائع إلا بالقبض. فتلك خمسة أقوال. انظر الشارح وقال الشيخ أبو علي بعد جلب كثير من النقول: فتحصَّل من هذا أن الحكم بالرد هو الراجح في انتقال الضمان للبائع وكذلك الرضى بالقبض.

ولم يرد بغلط إن سمي باسمه، يعني أنه لو غلط البيعان أو أحدهما في اسم المبيع الخاص، أي جهل اسمه الخاص به، وجهل حقيقته مع معرفته لشخصه فإنه لا يرد البيع بذلك حيث سمي باسمه العام الذي يطلق عليه على وجه العموم مع العلم بالمعقود عليه. قال عبد الباقي مفسرا للمص: ولم يرد المبيع بغلط فيه، أي جهل اسم المبيع الخاص وجهل حقيقته المتضمن ذلك لجهل قيمته مع معرفته بشخصه، ففي إطلاق الغلط عليه تجوز إن سمي باسمه العام الذي يطلق عليه على وجه العموم مع العلم بالمعقود عليه بشخصه، فلا ينافي ما مر من شرط علم المعقود عليه، كأن يبيع أو يشتري حجرا معينا برخص، ثم تبين أنه ياقوت مثلا، لأنه يسمى حجرا فيفوز به المشتري، ولا كلام للبائع، وأولى إن لم يسمه أصلا، ولا فرق بين حصول الغلط المذكور من المتبايعين أو أحدهما مع علم الآخر كما يفيده نقل الحطاب؛ ومفهومُ المص أنه لو سماه بغير اسمه كأبيعك هذه الياقوتة فتوجد حجرا أو قزديرا، أو أبيعك هذه الزجاجة فتوجد ياقوتا، ولم يعلم بها البائع إلا بعد البيع فلا يلزم المشتري شراء في الأولى لأن البائع إما مدلس إن كتمه، وإما بائع إن ظهر بمبيعه عيب إن لم يكتمه، ولا يلزم البائع بيع في الثانية؛ والفرق أن التسمية بغير اسمه مظنة الجهل، فكان له الرد بل كان القياس أن لا يصح؛ وأما التسمية باسمه فمظنة معرفته، فلم تقبل دعواه خلافها إذ هو خلاف الغالب. قاله الشيخ علي السنهوري. قال التتائي: وظاهر المص كان مرابحة أو مساومة، ولابن رشد: الاتفاق على القيام به في المرابحة دون

ص: 555

المساومة. انتهى. وهذا الذي ذكره ابن رشد هو الظاهر لدخولهما في المرابحة على مراعاة الثمن الأول، فإذا غلط البائع فيه لزم أنه خلاف ما عقدا عليه فيجب القيام. قاله بناني. وقال عبد الباقي: والفرق بين حقيقة هذا البيع وحقيقة بيع الغبن أن المبيع معلوم الحقيقة والاسم الخاص والجهل متعلق بالقيمة وهنا ليس كذلك، ومحل المص إذا كان البائع غير وكيل وإلا رد بالغلط بلا نزاع. انتهى.

‌تنبيه:

قال عبد الباقي: الغلط بالنقص في الثمن ليس مما هنا، ففي سماع أشهب: من قال: أخرج لي ثوبا مرويا بدينار فأخرج له ثوبا أعطاه إياه ثم وجده من أثواب أربعة دنانير وصدق بشهادة أو رقم: هذا يحلف ويأخذ ثوبه. انتهى. ابن رشد: ليس في الروايات بيان أن البيع وقع مساومة أو مرابحة. انتهى. فالظاهر أنه يجري في المساومة كما يجري في المرابحة، وكذا له الرد لو ظن القرط ذهبا فإذا هو نحاس مموه بذهب، أي له الرد في المساومة والمرابحة. واللَّه سبحانه أعلم. وقوله: ولم يرد بغلط لخ، قال الشارح: هذا هو المشهور، وقيل: يرد بالغلط، والغلط أن يبيع شيئا ثم يظهر خلافه، كما لو باع حجرا بالثمن البخس فإذا هو ياقوت.

ولا بغبن، يعني أن من باع شيئا عينا أو غيرها مقوما أو مثليا بغبن فيه بأن باعه بأقل مما يباع به ولو جدا فإنه لا رد له. ولهذا قال:

ولو خالف العادة، أي خرج عن المعتاد بأن يزيد على الثلث، وقيل: الثلث. قال الشيخ أبو علي: أي وكذلك لا يرد بغبن ولو خالف العادة، وسواء كان المغبون بائعا أو مبتاعا وهو المشهور، ونحوه لعبد الباقي. ونصه بعد أن قال: والمشهور عدم الرد ولا يرد المبيع بغبن ولو خالف العادة أي خرج عن المعتاد، وقيل: بأن يزيد على الثلث، وقيل: الثلث. ورد المص بلو قول ابن القصار، ابن رشد: وليس ذلك بصحيح، لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:[لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق اللَّه بعضهم من بعض]

(1)

. قال المتيطي: قال بعض البغداديين: إن زاد المشتري في المبيع على [قيمته]

(2)

الثلث فأكثر فسخ البيع، وكذلك إن باع بنقصان الثلث من قيمته

(1)

مسند أحمد، ج 2 ص 512.

(2)

في الأصل قيمة والمثبت من بناني ج 5 ص 153.

ص: 556

فأعلى. قاله القاضي أبو محمد وغيره. قال: والأصل في هذا أن ينظر إلى مدعي الجهل فإن كان معروفا بذلك اجتهد الحاكم. انتهى. وبهذا أفتى المازري وابن عرفة وابن لب، ونظمه في التحفة فقال:

ومن بغبن في مبيع قاما

فشرطه أن لا يجوز العاما

وأن يكون جاهلا بما صنع

والغبن بالثلث فما زاد وقع

وعند ذا يفسخ بالأحكام

وليس للعارف من قيام

قلت: والعمل به مستمر عندنا. واللَّه أعلم. قاله البناني.

وهل لا رد بغبن إلا أن يستسلم البائع أو المشتري، والاستسلام هو أن يخبره بجهله، فهو عطف تفسير، كبعني كما تبيع الناس أو اشتر مني كما تشتري منهم، أو يستأمنه، عطف على يُخبرَه فهو تفسير ثان للاستسلام، كأن يقول له: جعلتك أمينا في هذه المعاملة فلا تخني، فيقول: قيمتها كذا، والأمر بخلافه، فله الرد أو لا رد بالغبن مطلقا سواء استسلم له وأخبره بجهله أو لا؛ قال في التوضيح: وهو مشهور المذهب؛ في ذلك تردد، وقولي: أو يستأمنه عطف على يخبره فهو لخ، اعلم أن مؤدَّى التفسيرين واحد، قال عبد الباقي: وهل إلا أن يستسلم البائع شيئا لنفسه أو المشتري لها ويخبره بجهله، عطف تفسير كبعني أو اشتر مني كما تبيع الناس أو تشتري منهم، فإني لا أعلم القيمة أو يستأمنه تنويع لعطف التفسير لا قسيم له، أي أن الاستسلام أن يخبره بجهله أو يستأمنه، فيقول البائع له: قيمته كذا، والأمر بخلافه، فله الرد حينئذ باتفاق، وهو تنويع ظاهري، وإلا فمؤداهما واحد ولا يرد مطلقا، والمعتمد الأول فلو قال: ولو خالف العادة إلا المسترسل لطابقه. انتهى. يعني بقوله: المسترسل المستسلم. واللَّه سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: وقولي: لنفسه ولها احتراز عن بيع الوكيل أو الوصي أو كرائهما بما لا يتغابن بمثله فيرد ويرجع على المشتري أو على البائع إن فات بما حابى به. نقله المواق، ونقل أيضا أن المبيع إذا كان أمة وأولدها المبتاع المحجور أن ذلك فوت، ويرجع المحجور على

ص: 557

الوصي. انتهى. ولا تنافي بين الكلامين، إذ كلاهما غريم، ولكن الرجوع على الوصي مشروط بتعذر الرجوع على المشتري، أو على البائع في مسألة البيع، ويستفاد من هذا أنه إذا آجر الناظر بدون أجرة المثل يرجع عليه إن تعذر الرجوع على المستأجر، ويأتي نحوه في باب الإجارة عند قوله: وكراء وكيل بمحاباة، وأما إذا آجر بأجرة المثل فصحيحة، ولا تنفسخ بزيادة على أجرة المثل. انتهى كلام عبد الباقي. وقوله: أولدها المبتاع المحجور: صوابه إسقاط لفظ: المحجور، ونص المواق: وفي نوازل ابن سهل: أن المبيع إن كان أمة فأولدها المشتري أن ذلك فوت ويرجع المحجور على الوصي، وهل يقيد الغبن في بيع الوكيل والوصي بالثلث كالغبن في بيع نفسه وهو ظاهر قول أبي عمر؟ أو لا يتقيد به بل ما نقص عن القيمة نقصا بينا وإن لم يكن الثلث؛ قال ابن عرفة: وهو الصواب؛ وهو مقتضى الروايات في المدونة، وما قررت به المص قرره به غير واحد وهو ظاهر المص، إلا أنه منتقد بقول ابن رشد: والقيام بالغبن في بيع الاسترسال والاستيمان واجب بإجماع، نقله المواق؛ ومثله قول المتيطي: القيام بالغبن في البيع والشراء إذا كان على وجه الاسترسال والاستيمان واجب بإجماع، لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: غبن المسترسل ظلم. انتهى.

ورد في عهدة الثلاث بكل حادث، هذا شروع منه رحمه اللَّه تعالى في ذكر العهدتين، عهدة الثلاث، وعهدة السنة، وبدأ بالأولى وهما خاصتان بالرقيق، ومعنى كلام المص أن من اشترى رقيقا بعهدة الثلاث فإنه يرد بكل ما حدث فيه من العيب في ثلاثة أيام، ولا يحسب اليوم الذي عقد فيه البيع على المشهور، نقله المص وابن عرفة وصاحب الشامل وغيرهم. قوله: عقد فيه البيع، أي وقع فيه البيع بعد انصداع الفجر، وقال المواق: الباجي: معنى العهدة تعلق المبيع بضمان البائع. وقال ابن شأس: العهدتان صغرى في الزمان كبرى في الضمان، وكبرى في الزمان صغرى في الضمان. فالأولى عهدة الثلاث من جميع الأدواء مما يطرأ على الرقيق من نقص في بدن أو فوات عين في مدة ثلاثة أيام، وكأن هذه المدة مضافة إلى ملك البائع، وكذا تكون النفقة

ص: 558

والكسوة عليه إلا أن الغلة ليست له. انتهى. قوله: إلا أن الغلة ليست له، سيأتي خلافه، والنفقة والأرش كالموهوب له لخ. وقال الش: العهدة خاصة بالرقيق، والمراد بها كون الرقيق المبيع خاصة في ضمان البائع بعد العقد وهي على ضربين، طويلة الزمان قليلة الضمان، وهي عهدة السنة، وستأتي، وعهدة الثلاثة الضمان فيها على البائع من كل شيء، وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[عهدة الرقيق ثلاثة أيام]

(1)

. وأمر بعهدة الثلاثة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقضى بها ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، وعهدة الثلاثة والسنة أمر قائم بالمدينة، وكان أبان وهشام بن إسماعيل يذكران ذلك إذا خطبا، وقاله الزهري: وعن الحسن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [عهدة الرقيق ثلاثة]

(2)

. انتهى. وقال عبد الباقي: ورد الرقيق خاصة في عهدة الثلاث بكل عيب حادث بدينه أو خلقه أو بدنه، ولو موتا أو غرقا أو حرقا أو سقوطا من عال أو قتل نفسه. قاله الحطاب. ويستثنى من الكلية ذهاب ماله المشترط إذا ذهب زمن العهدة فلا يرد به. ابن رشد: لأنه لا حظ له في ماله. انتهى. أي لا شيء له منه، فهو غير منظور إليه، وهو يفيد أن محل ذلك إن اشترط للعبد ولو كان جل الصفقة، وأما للمشتري فله رده بذهابه. انتهى. قوله: لأنه لا حظ له في ماله لخ، كلامه يوهم أن موضوع كلام ابن رشد في ذهاب مال العبد المشترط وليس كذلك، بل إنما قاله ابن رشد في غير المشترط كما في الحطاب، ونصه: قال ابن عرفة في سماع يحيى عن ابن القاسم: لا يرد العبد بذهاب ماله في الثلاث، قال ابن رشد: لأنه لا حظ له مما له ولو تلف في العهدة وبقي ماله انتقض بيعه، وليس لمبتاعه حبس ماله بثمنه. انتهى. قاله البناني. ونحوه للتاودي، فإنه لما نقل كلام الحطاب قال: وهذا ظاهر إذا لم يشترط مال العبد، وإلا كان للمشتري الرد مطلقا، وتفريق الأجهوري ومن تبعه بين أن يشترطه المشتري لنفسه أو العبد غير ظاهر، لأنه يزيد في الثمن وينتفع به وله نزعه منه على كل حال. انتهى. قال الرهوني: وما قالاه غير صحيح، بل

(1)

أبو داود، رقم الحديث 3506.

(2)

ابن ماجه، رقم الحديث 2244.

ص: 559

الصحيح ما قاله الزرقاني، ثم جلب الرهوني من النقول ما يدل لصحة ما قال، ثم قال: صدور مثل هذا من التاودي والبناني من العجب، وقول عبد الباقي: وأما للمشتري فله رده بذهابه، ربما يفهم من تعليل ابن رشد، وهو قوله: لأنه لا حظ له في ماله، والظاهر أنه لا رد له لأنه كسلعة مستقلة فلا وجه لثبوت الكلام له.

إلا أن يبيع ببراءة، يعني أن محل الرد بكل حادث في عهدة الثلاث إنما هو حيث باع مالك الرقيق رقيقه بغير براءة، وأما إن باعه بالبراءة من عيب معين قديم بشرطه المتقدم في قوله: وتبرؤ غيرهما فيه مما لم يعلم إن طالت إقامته فلا يرد بحادث في زمنها مثل ذلك، فإذا تبرأ له من إباقه وقد باعه بالعهدة فأبق في زمنها ولم يتحقق هلاكه بل سلم فلا رد له بالإباق، لأنه تبرأ منه فتنفعه البراءة فيه، أما إن تحقق هلاكه زمنها فضمانه من البائع، لأنه إنما تبرأ له من الإباق فقط لا منه ومما يترتب عليه، ثم كلام المص: إن اشترطت أو اعتيدت، كما يأتي للمص، وهو ظاهر المدونة أو حمل الناس السلطان عليها، وخص الشمس اللقاني قوله: إلا أن يبيع لخ، بالمعتادة فقط، قائلا: أما المبيع بالعهدة المشترطة أو المحمول عليها من السلطان فيرد فيها بالحادث دون القديم الذي بيع بالبراءة منه، فالأقسام ثلاثة يرد بالقديم والحادث إن لم يبع البائع ببراءة من قديم، وإلا سقط حكمها مطلقا إن جرى بالبيع بها عرف، فإن اشترط البيع بها أو حمل السلطان عليها رد بالحادث دون القديم على تقرير الشمس اللقاني، ولا رد على ما يأتي للمص وهو ظاهر المدونة. قاله عبد الباقي. وقال أبو علي: قال ابن عرفة: ولا فرق بين ما يحدث فيها في الأبدان أو الأديان أو الأخلاق إلا أن يتبرأ البائع من شيء من ذلك أنه فعله قبل البيع فيبرأ منه وإن حدث في العهدة. انتهى. وقال ابن يونس: قال ابن نافع عن مالك: وإن بيع بالبراءة من الإباق فأبق في الثلاثة فهو من البائع. انتهى. وقال بناني عند قول المص: إلا أن يبيع ببراءة، قال الشيخ أحمد بابا: يحتمل أن يكون الاستثناء متصلا فيكون المعنى إلا أن يبيع ببراءة من عيب معين كالإباق والسرقة ونحو ذلك، فلا رد له إذا حدث مثله في زمن العهدة ويرد فيما عداه؛ وبهذا قرره التتائي، يعني قوله: إلا أن يبيع ببراءة، أي تبرأ له من شيء فعله قبل البيع فيبرأ منه وإن حدث مثله في العهدة. قاله ابن رشد. انتهى. ويحتمل أن يكون منقطعا فيكون معناه أنه

ص: 560

يرد في عهدة الثلاث بكل حادث إلا أن يشترط البائع سقوطها وقت العقد بالتبري من جميع العيوب، لأنه إذا تبرأ من جميع العيوب لم تكن ثم عهدة، وبهذا قرره بعضهم وهو الموافق للمدونة. وقول عبد الباقي: ثم كلام المص إن لخ، إنما يصح هذا على الاحتمال الأول وهو بيعه على البراءة من عيب معين، أما على الاحتمال الثاني فلا يظهر إلا في المعتادة كما ذكره عن اللقاني. انتهى. وقال الرهوني: والاحتمال الثاني يؤدي إلى مناقضة لقول المص: وأن لا عهدة، فيكون المص هنا رجح خلاف ما رجحه فيما يأتي، ولا وجه لحمله على ما يوجب التناقض مع إمكان حمله على غير ذلك. فتأمله. انتهى.

ودخلت في الاستبراء، يعني أن عهدة الثلاث تدخل في الاستبراء أي المواضعة أي زمنها، وهذا إن تأخر الحيض ثلاثة فأكثر وإلا انتظرته، وإيضاح هذا أنه ينتظر الأقصى من الحيضة ومن الثلاثة الأيام، فلا تخرج الأمة المواضعة من ضمان البائع لها بعهدة الثلاث إلا بالأقصى من الحيض وانتهاء اليوم الثالث، فإن رأت الدم في اليوم الأول انتُظِرت اليوم الثاني والثالث، وإن تأخر الحيض عن الثلاثة انتظرت الحيض، وأما الاستبراء بغير مواضعة فتدخل بمجرد العقد في ضمان المشتري، فتستقل العهدة بنفسها ولا تدخل مع شيء، فإن اجتمعت مع خيار كانت بعده واستأنف سنة بعد عهدة ثلاث، وكذا بعد خيار ومواضعة، ودخل استبراء في عهدة سنة، فالأقسام خمسة علمت مع أحكامها. قاله عبد الباقي. وقال: وحيث علم انتظارها أقصى المواضعة وعهدة الثلاث وأنها في ضمان البائع حتى تحيض، علم أنه ليس له وطؤها قبل الحيض وبعد الثلاث بأن طهرت منه، فإن انقطع عقب مجيئه وبقي من الثلاثة شيء فالظاهر أنه لا يحل له وطؤها قبل تمامها ودخولها في ملكه بعد الحيض، كما يأتي في غير ما فيه عهدة، وما هنا فيه عهدة، وهي في زمانها ملك للبائع، انتهى. قال بناني: فيه نظر بل ظاهر كلامهم أنها في زمن العهدة في ملك المشتري لخ، وناقشه الرهوني، وقوى ما لعبد الباقي بأن النفقة على البائع وله الأرش والموهوب للعبد زمن العهدة، وباعتراض ابن عرفة لقول ابن شأس: إن الغلة للمشتري، ونحوه لابن الحاجب، بأنه لا نص للمتقدمين في الغلة، والجاري على القواعد أنها للبائع لأن

ص: 561

الخراج بالضمان، واعترضه المص في التوضيح قائلا: المنصوص هنا أن ذلك للبائع، وصرح في المنتقى بأن الغلة هنا للبائع. قال أي الرهوني: ونصوص أهل المذهب مصرحة بأن الضمان منه والنفقة عليه، وما وهب للعبد وأرش جنايته له، وعدم حلية وطء الأمة للمشتري وهذه ثمرات الملك، فكيف يكون الملك للمشتري وثمراته كلها منتفية عنه ليس له منها شيء؟ انتهى. وما قاله عبد الباقي والرهوني ظاهر. واللَّه سبحانه أعلم. وقال الحطاب عن ابن رشد: ولا تدخل عهدة الثلاث والمواضعة في السنة، إنما تكون عهدة السنة بعد مضي الثلاث والاستبراء. قاله في سماع أشهب. وحصّل ابن رشد في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب العتق في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يدخل شيء من ذلك في شيء فيبدأ بالاستبراء ثم بالثلاث ثم بالسنة، وهو قول المشايخ السبعة. والثاني: أنها تتداخل. الثالث: أن الاستبراء وعهدة الثلاث يتداخلان فيكون المبدأ من يوم البيع وعهدة السنة بعد تمامهما؛ وهو قول مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب: قال: والفرق بين عهدة الثلاث والسنة أن عهدة الثلاث والاستبراء يتفقان في الضمان من كل وجه، بخلاف عهدة السنة، وعهدة الثلاث والسنة في بيع الخيار بعد انبرامه. قاله في سماع ابن القاسم. ونقله ابن عرفة. انتهى.

والنفقة والأرش كالموهوب له، خبر عن المبتدإ، أعني قوله: والنفقة، واللام بمعنى على بالنسبة للنفقة وعلى بابها للملك بالنسبة لما بعدها. قاله عبد الباقي. ونائب الموهوب ضمير يعود على أل، ومعنى كلام المص أن النفقة على الرقيق أي طعامه وسقيه وكسوته على البائع زمن العهدة، والمراد بالكسوة ما يقيه من الحر والبرد لا ما يستر عورته فقط، وإذا جنى أحد على الرقيق زمن العهدة فإن أرشها للبائع، وكذا ما وهب للعبد زمن العهدة هو للبائع. قال المواق: روى محمد: النفقة في عهدة الثلاث على البائع. المتيطي: وكذا في المواضعة وبيع الرقيق بخيار، لأن ذلك في ضمانه. ومن المدونة: ما جُنِي على العبد في الثلاث فمن البائع والأرش له، وما وهب للعبد في الثلاث من مال أو تصدق به عليه فللبائع. انتهى. وفي العتبية: أن ما ربحه العبد في الثلاث أو أوصي له به في الثلاث يكون للبائع إذا لم يستثن المشتري ماله. وقوله:

ص: 562

إلا المستثنى ماله، مستثنى مما بعد الكاف فقط، وهو حكمة إتيانه بها، ومعنى كلام المص: أن ما وهب للعبد أو تصدق به عليه أو أوصِيَ له به زمن العهدة إنما يكون للبائع حيث لم يستثن المشتري ماله، وأما لو استثنى المشتري مال العبد أي اشترطه فإن ما ناله العبد مما هو ماله زمن العهدة يكون للمشتري، فقوله: إلا المستثنى ماله، أي إلا العبد المشترط ماله، أي اشترطه المشتري لنفسه أو للعبد، فما يوهب له زمنها وكذا زمن المواضعة يكون للمشتري، وأما أرش الجناية زمنها فإنه للبائع ولو استثنى المشتري ماله، وأما النفقة فعلى البائع مطلقا، وله أي للبائع الغلة زمنها مطلقا، وتقدم أول الفصل: والغلة وأرش ما جنى أجنبي له، أي للبائع ولو استثنى المشتري ماله. وقال المواق: ابن حبيب: إذا نَما مالُ العبد في الثلاث بربح أو هبة أو وصية فإن كان المبتاع قد شرط ماله فذلك للمبتاع، وإن لم يشترط ماله فذلك للبائع. ابن يونس: ورواه عيسى عن ابن القاسم.

وفي عهدة السنة بجذام وبرص وجنون، يعني أن البيع إذا وقع في الرقيق على عهدة السنة فإنه لا يرد فيها إلا بأحد هذه الأدواء أي الأمراض الثلاثة أعاذنا اللَّه منها، وهي الجذام وهو داء يأكل اللحم، أعاذنا اللَّه منه، والبرص والجنون، نسئل اللَّه العافية، فلو أصاب الرقيق ذلك في السنة ثم ذهب قبل انقضائها لم يرد إلا أن يقول أهل المعرفة بعودته، وليس له الرد بحدوث بهق وحمرة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ورد في عهدة السنة بجذام وبرص وجنون بالرقيق المبيع، وهو فساد التخيل واختلاطه سواء كان بطبع أو مس جن.

لا بكضربة، يعني أن الجنون الحادث الذي يرد به الرقيق في عهدة السنة هو ما كان بطبع أو بمس جن، وأما إن حدث بسبب ضربة أو طربة أو خوف فإنه لا يرد به خلافا لابن وهب الذي يراه موجبا للرد، وإنما كان له الرد بما كان من طبع أو بمس جن دون ما كان بكضربة لعدم إمكان المعالجة في الأولين، بخلاف ما بعد الكاف فإنه تمكن معالجته. واللَّه سبحانه أعلم. قاله غير واحد. وقال التتائي: لو زال الجنون فله الرد إذ لا تؤمن عودته، وإن زال الجذام والبرص فلا رد له إلا أن يقول أهل المعرفة: لا تؤمن عودته، قال في الشامل: واعلم أن من اشترى عبدا

ص: 563

وبه جنون ولو من كضربة فإنه يرده به، وهذا مستفاد من قوله: وبما العادة السلامة منه، وإن لم تكن فيه عهدة. قاله الخرشي. وقال بناني: ابن شأس: إنما اختصت عهدة السنة بهذه الثلاثة لأن هذه الأدواء يتقدم أسبابها ويظهر منها ما يظهر في فصل من فصول السنة دون فصل، بحسب ما أجرى اللَّه فيه من العادة باختصاص تأثير ذلك السبب بذلك الفصل. انتهى.

إن شرطا أو اعتيدا، يعني أن عهدة الثلاث وعهدة السنة لا يعمل بهما إلا إن اشترط العمل بهما عند العقد ولو بحمل السلطان الناس عليهما، وكذلك يعمل بهما، إذا جرت العادة بهما، فإن انتفى الشرط والعادة لم يعمل بهما، ولو قال المشتري: أشتري على عهدة الإسلام لاختصاصها بدرك المبيع من الاستحقاق فقط دون العيب كما مر. وجَرَّد الفعلين من علامة التأنيث نظرا إلى أن العهدة في معنى الإلزام، أي إن شرط الإلزامان أو اعتيدا. قاله الشيخ عبد الباقي. وقال الشيخ أبو علي: قال في الذخيرة: خالفنا الأيمة في هاتين العهدتين لانعقاد الإجماع أن العيب الحادث بعد انعقاد البيع والقبض لا يوجب خيارا في غير صورة النزاع، فكذلك فيها، ولأن الأصل عدم ضمان الإنسان فيما يحدث في ملك غيره وقال ابن حنبل: لم يصح في العهدة حديث لنا ما في أبي داوود قال عليه السلام [العهدة في الرقيق ثلاثة]

(1)

. ولأن القول بالتزام العهدتين عمل أهل المدينة ينقله الخلف عن السلف. انتهى.

‌تنبيهات:

الأول: قال ابن عرفة: ولو ظهر في السنة ما شك أهل المعرفة في كونه جذاما كخفة الحاجبين، ورفع المبتاع أمره للقاضي ففي الرد به قولان. الثاني: قال الحطاب: [لابد]

(2)

في اشتراط العهدتين من التصريح بهما، ولا يكفي قوله: أشتري على عهدة الإسلام، فإن المراد بذلك إنما هو ضمان الدرك في العيب والاستحقاق.

وللمشترى إسقاطهما، يعني أن العقد إذا وقع على العهدتين بشرط أو عادة فإن للمشتري أن يسقطهما عن البائع لأن ذلك حق له، فله إسقاطه بأن يترك القيام بما يحدث زمنهما، ولا يقال: هو إسقاط للشيء قبل وجوبه، لأنا نقول: سبب وجوبه جرى وهو زمن العهدة، قوله:

(1)

أبو داود، رقم الحديث 3506.

(2)

ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 299 ط دار الرضوان.

ص: 564

وللمشتري، قال الحطاب: وإذا شرط البائع إسقاطهما فحكى في التوضيح هنا عن ابن رشد: أن ذلك له، وحكى بعد هذا: أنه لا يوفى له بالشرط، وعليه اقتصر في المختصر؛ يعني قوله: وأن لا عهدة، وقال أبو علي: عن ابن عرفة: ولو شرط إسقاط العهدة حيث العادة بثبوتها ففي سقوطها ولزومها، ثالثها: يبطلان مطلقا، ورابعها: إن شرط نقد الثمن؛ والقول الثاني هو مذهب المدونة. تنبيهان: الأول: قال بناني عند قول المص: إن شرطا أو اعتيدا ما نصه: هذه رواية المصريين أنه لا يقضى بالعهدة في الرقيق إلا بشرط أو عادة أو حمل السلطان الناس عليها، وروى المدنيون: أنه يقضى بها في كل بلد وإن لم يكن شرط ولا عادة، وفي البيان قول ثالث لابن القاسم في الموازية: لا يحكم بينهم بها وإن اشترطوها، وعلى رواية المدنيين يجب حمل الناس عليها، وعلى رواية المصريين فروى ابن القاسم يستحب حمل الناس عليها، وروى أشهب: لا يحمل أهل الآفاق عليها. الثاني: قال التتائي: لو أسقط حقه في أثناء عهدة الثلاث ثم اطلع على عيب حادث قبل الإسقاط قال ابن عبد السلام: حكمه حكم من اطلع على عيب قديم له الرد به ولا يكون بإسقاط حقه في باقي العهدة مسقطا لما مضى منها. انتهى. ونحوه للشارح.

والمحتمل بعدهما منه، يعني أن العهدتين إذا انقضى زمنهما ثم وجد بالمبيع عيب وأشكل هل طرأ في زمن العهدتين أو بعدهما فإنه يكون منه أي من المشتري فلا رد له، فقوله: بعدهما، متعلق بمحذوف أي العيب المحتمل حدوثه زمن العهدتين وتأخره عنهما المطلع عليه بعد انقضاء زمنهما من المشتري، إلا أن تقطع عادة بحدوثه زمنهما فمن البائع دون يمين، وكذا لو ظنت العادة أنه حدث زمنهما فهو من البائع أيضا، إلا أنه لابد من يمين المشتري في هذه الثانية، فإن قطعت بأنه بعدهما فمن المشتري بدون يمين على البائع، كإن ظنت أو شكت ولو في موت فمن المشتري لأن الأصل السلامة والعيب طارئ عليه مع يمين البائع على قياس ما مر. قال عبد الباقي: وبما قررنا علم أَن الظرف متعلق بمقدر، لا بالمحتمل لإيهامه أن تنازعهما في انقضاء مدة العهدتين وعدمه وليس بمراد، إذ الأصل حينئذ بقاؤهما، وذكر المص عشرين مسألة لا عهدة فيها لا ثلاثا ولا سنة على المشهور، فقال:

ص: 565

لا في منكح به. عطف على مقدر، أي ورد في عهدة الثلاث والسنة في غير رقيق منكح به إلى آخر ما يأتي، لا في منكح به إلى آخر ما يأتي، ومعنى كلامه أن الرقيق المنكح به أي المجعول صداقا لا عهدة فيه حيث جرى بها عرف، فإن اشترطت عمل بها فيه وفيما بعده، قال عبد الباقي: لا في رقيق منكح به دفعه زوج صداق زوجة، لأن طريقه المكارمة إن جرى بها عرف البلد، فإن اشترطت عمل بها فيه وفيما بعده، لأنه شرط فيه غرض أو مالية أو هما، كما يفيده كلام أحمد عن ابن محرز.

أو مخالع به، يعني أن الزوجة إذا اختلعت من زوجها برقيق فإنه لا عهدة فيه لأن طريقه المناجزة. قاله عبد الباقي. قال بناني: في هذا التعليل نظر وإن كان أصله لابن رشد، لأن المخالع به يكون حالا، ويكون مؤجلا كما تقدم في الخلع، والظاهر التعليل بجواز الغرر فيه، فلذا سامحوا فيه بسقوط العهدة. انتهى. وقال التاودي مفسرا قوله: لأن طريقه المناجزة: أي لأنه لا وجب أن تملك الزوجة عوضها ملكا لا رجوع فيه وجب أن يملك الزوج عوضه كذلك. واللَّه سبحانه أعلم. وقال الحطاب: أما المنكح به فلا عهدة فيه في مذهب ابن القاسم لأن طريقه المكارمة، ويجوز فيه من الغرر والجهل ما لا يجوز في البيوع، وقد سماه اللَّه نحلة، والنحلة ما لم يتعوض عليه؛ وقال أشهب: فيه العهدة قياسا على البيع. قال مالك: أشبه شيء بالبيوع النكاح وأما المخالع به فلم يذكر ابن رشد فيه خلافا، بل قال: وأما المخالع به فإنما لم تكن فيه عهدة لأن طريقه المناجزة، لأن المرأة لما كانت تملك نفسها بالخلع ملكا تاما ناجزا لا يتعقبه رد ولا فسخ وجب أن يملك الزوج العوض ملكا ناجزا. انتهى.

أو مصالح به في دم عمد، يعني أن الرقيق المصالح به في دم عمد فيه قصاص، سواء كان الصلح على إنكار أو على إقرار لا عهدة فيه، وكذا المأخوذ عن عمد لا قصاص فيه، وفيه مال، أو عن خطإ فيه مال سواء أخذ عن إنكار أو إقرار فلا عهدة في الجميع، واللَّه سبحانه أعلم. لأنه إن أخذ عن إنكار فكالهبة، وإن أخذ عن إقرار كان مأخوذا عن دين، وقد وقع في كلام ابن رشد أن المصالح به على الإقرار فيه العهدة، لكن محل كلامه إذا كان على الإقرار بمعين لا بما في الذمة، هذا الذي يدل عليه كلامه في نوازل سحنون. انتهى المراد منه.

ص: 566

أو مسلم فيه، يعني أن الرقيق المسلم فيه لا عهدة فيه، فإذا أسلم دينارا في رقيق فأخذ الرقيق فإنه لا عهدة فيه للمسلم على المسلم إليه، خلافا لابن حبيب القائل: فيه العهدة، لأنه مشترى، ووجه قول ابن القاسم: بعدم العهدة، أنه ليس مشترى بعينه، وإنما هو في الذمة بصفة فأشبه القرض. أو به، يعني أن الرقيق الذي جعل رأس مال السلم وهو المسلم به لا عهدة فيه، وقال عبد الباقي: أو مسلم فيه أو به لأن السلم لما أرخص فيه طلب فيه التخفيف فيما يدفع فيه أو يوخذ عنه. أو قرض، يعني أن العبد المقترَض بفتح الراء لا عهدة فيه. قال الحطاب: وأما العبد المقترض فقال: يعني ابن رشد -واللَّه سبحانه أعلم- لا اختلاف أنه لا عهدة فيه إذ ليس بمبيع، والعهدة إنما جاءت فيما اشتري من الرقيق. انتهى. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: أو قرض أي لا عهدة في الرقيق المدفوع قرضا، فإذا أقرض رقيقا ثم حدث به عيب يرد به في العهدة أن لو كانت فإنه يلزمه أن يرد غيره، إلا أن يرضى المقرض برده لأنه حسن اقتضاء فهو معروف، والمأخوذ عن قضاء القرض كذلك، أي لا عهدة فيه، ويشمله قوله فيما يأتي: أو مأخوذ عن دين. أو على صفة، يعني أن الرقيق الغائب المبيع على صفة لا عهدة فيه لعدم المشاحَّة فيه بخلاف المرءي والمبيع على رؤية متقدمة ففيهما العهدة. أو مقاطَعٍ به مُكاتَبٌ، يعني أن الشخص إذا كاتب عبده على مال يؤديه له فقاطعه على رقيق أي دفعه المكاتب له عوضا عما في ذمته، فإنه لا عهدة في ذلك الرقيق المقاطع به لتشوف الشارع للحرية، وفي كلام عبد الباقي شيء. واللَّه سبحانه أعلم.

أو مبيع على كمفلس، يعني أن الرقيق الذي يبيعه القاضي على المفلس لأجل أرباب الديون أو على سفيه أو غائب لا عهدة فيه، لأن بيعه بيع براءة كما لا يرد عليه في القديم ولا يقيد بعلم المشتري. قاله الخرشي وعبد الباقي. وقال بناني: ويقيد بعلم المشتري أن البائع حاكم كما قيد به فيما مر، واللَّه سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: ودخل بالكاف مبيع على سفيه أو غائب لدَيْنٍ أو غيره كنفقة زوجة. انتهى. أو مشترى للعتق. يعني أن الرقيق المشترى للعتق لا عهدة فيه، سواء

ص: 567

كان على إيجاب العتق، أو على الإبهام، أو على التخيير، أو على أنه حر بنفس الشراء لتشوف الشارع للحرية ولأنه يتساهل في ثمنه.

أو مأخوذ عن دين، يعني أن الرقيق المأخوذ عن دين لا عهدة فيه ثبت ببينة أو إقرار للحث على حسن الاقتضاء، ولأجل وجوب المناجزة ليلا يكون فيه دين بدين أخذه على وجه الصلح، أو على وجه البيع، ولو كان عن إنكار فقد مر أنه لا عهدة فيه. أو رد بعيب، يعني أن العبد المعيب إذا رد لعيبه فإنه لا عهدة فيه للبائع على الراجح، لأن الرد بالعيب حل بيع لا بيع ثان، والإقالة كذلك عند سحنون في أحد قوليه، والثاني مع ابن حبيب وأصبغ لا تسقط العهدة، ومحلهما إن انتقد وإلا سقطت اتفاقا، لأنه كالمأخوذ عن دين قاله ابن عرفة. قاله عبد الباقي. أو ورث، يعني أن الورثة إذا اقتسموا التركة وخص بعضهم رقيق فلا عهدة فيه، وكذا لو بيع الرقيق الموروث لأجنبي فلا عهدة، وظاهره علم المشتري أنه إرث أم لا، وتقدم في العيب القديم أن بيع الوارث بيع براءة إن بين أنه إرث، وهذا بالنسبة لما يحدث فلا يساويه في حكمه. قاله الخرشي وعبد الباقي. وقد مر بحث بناني معهما عند قول المص: أو مبيع على كمفلس.

أو وُهِبَ، يعني أن الرقيق الموهوب للثواب لا عهدة فيه للموهوب على الواهب لأنه فعل معروفا فلا يكلف معروفا آخر. قاله ابن غازي. فأحرى لغير ثواب. قاله عبد الباقي. وقال التاودي: لم يقله ابن غازي ولا معروف للواهب، والذي في الجلاب عن ابن حبيب في توجيهها: أنها بيع على المكارمة فأشبه النكاح. قال مقيده: وما قاله عبد الباقي من أنها معروف ظاهر. أو اشتراها زوجها، يعني أن المتزوج لأمة إذا اشتراها فإنه لا عهدة للزوج المشتري على بائعها له لما بينهما من المودة المقتضية لعدم ردها بما يحدث فيها في ثلاث أو سنة، وله ردها بقديم، وهذا التعليل يقتضي أن شراءها له كذلك والمعتمد خلافه، كما يفيده تخصيص المصنف، فلها على بائعه العهدة لحصول المباعدة بينهما بفسخ النكاح، ولأن المودة الدائمة توجد في شرائه لها دون شرائها له إذ قد يكون شراؤها له لرفع تحكمه عليها وكونها في عصمته. قاله عبد الباقي.

أو موصى ببيعه من زيد، يعني أن الرقيق الموصى بأن يباع لزيد مثلا إذا اشتراه زيد فإنه لا عهدة فيه لزيد، وهذا ظاهر حيث اشتراه عالما بالوصية، وإلا فكيف يُضَرُّ المشتري لتنفيذ غرض الموصي

ص: 568

فيحمل على ذلك انظر أحمد. أو ممن أحب، يعني أن الرقيق الموصى ببيعه لمن أحب وأحب شخصا فاشتراه ذلك الشخص فإنه لا عهدة فيه ليلا يفوت غرض الميت. أو بشرائه للعتق، يعني أنه إذا أوصى شخص بشراء رقيق عينه الموصي بالكسر للعتق بأن قال: اشتروا بلالا مثلا وأعتقوه، فاشتري لذلك فإنه لا عهدة فيه على بائعه، وهذا إذا كان الموصى به معينا كما عرفت، وإلا ففيه العهدة لأنه إذا رد بعيب حادث يشترى غيره فلم يفت غرض الميت.

أو مكاتب به، يعني أن العبد المكاتب به أي الذي وقعت به الكتابة ابتداء لا عهدة فيه.

وعلم مما قررت أن قوله: أو مقاطع به مكاتب غير هذا، لأن ذلك أخذ عما في ذمة المكاتب، وهذا أي قوله: ومكاتب به وقعت به الكتابة ابتداء. أو المبيع فاسدا، يعني أن الرقيق المبيع فاسدا لا عهدة فيه على من رده لبائعه بفسخ البيع. قال عبد الباقي: ونص عليه لدفع توهم أن رده بيع مؤتنف يكون به على المشتري العهدة، بل لو فات وأخذ قيمته فلا عهدة عليه. انتهى. يعني لا عهدة فيه على المشتري حيث أخذ عن القيمة عبدا لأن القيمة قد تخلدت في ذمة المشتري فأشبه المأخوذ عن دين. قاله مقيده. فإن فات بالثمن وأخذ به عبدا ففيه العهدة. قاله عبد الباقي. وفيه أيضا نظر لأنه إذا أخذه عن الثمن كان مأخوذا عن دين فلا عهدة فيه. واللَّه أعلم. قاله مقيده.

وسقطتا بكعتق فيهما، يعني أن العهدتين تسقطان بالعتق الناجز والكتابة والتدبير، أي يسقطان بالحاصل مما ذكر فيهما أي في زمنهما، قال عبد الباقي: وسقطتا أي العهدتان بكعتق ناجز وكتابة وتدبير من مشتر حدث منه ذلك فيهما أي في زمنهما، فلا قيام له بما اطلع عليه بعد العتق ونحوه من عيب حدث قبل انقضاء مدتهما، وهو أحد أقوال ابن القاسم، واقتصر عليه هنا مع قوله هو وسحنون وأصبغ: بالرجوع بقيمة العيب. اللخمي: وهو أحسن على أنه اشتهر على ألسنة الشيوخ: متى وجد قول ابن القاسم وسحنون لا يعدل عنه. قال التتائي: وقال المواق: اللخمي: إذا أعتق المشتري العبد أو أولد الأمة في السنة ثم ظهر بها جنون أو جذام أو برص فقال ابن القاسم في كتاب محمد: لا يرجع بشيء، رأى أن ذلك رضى بإسقاط العهدة، وقال أيضا:

ص: 569

يرجع، واختلف أيضا إذا استحق في عهدة الثلاث، فذهب ابن القاسم إلى أن ذلك قاطع للعهدة فإن أصابه أمر لم يرد به لم يكن له شيء ثم انتقل يتكلم على ضمان ما فيه حق توفية، ومتى ينتهي، فقال:

وضمن البائع مكيلا لقبضه بكيل، يعني أن البائع لشيء مكيل يستمر ضمانه له إلى أن يقبضه المشتري بسبب كيله، فالباء للسببية؛ وقوله: بكيل، متعلق بقبضه، أو الباء بمعنى بعد، أي يستمر ضمان البائع للمكيل إلى أن يقبضه المشتري بعد كيله.

وعلم مما قررت أن اللام في قوله: لقبضه، للغاية والغاية أقصى الشيء؛ وقوله: لقبضه، متعلق بضمن، أي يضمنه إلى أن يقبضه المشتري قبضا كائنا بعد الكيل قاله بناني. وقال عبد الباقي: وضمن البائع مبيعا مكيلا، وغاية ضمانه لقبضه مبتاعه بكيل فيما يكال، والباء ظرفية أو للمعية متعلق بمكيلا أو بقبضه، وأراد بالكيل فعله لا آلته بدليل قوله:

كموزون، يعني أن البائع للموزون يضمن المبيع الموزون إلى أن يقبضه المشتري بعد وزنه ومعدود، يعني أن البائع يضمن المبيع المعدود إلى أن يقبضه المشتري له بعد عده؛ قال عبد الباقي: كموزون ومعدود فيما يوزن ويعد، والمراد أن كل ما كيل أو وزن أو عد من المعقود عليه ولو البعض فضمانه من مبتاعه، وليس المراد أن ذلك يتوقف على كمال كيله أو وزنه أو عده، ولا أن فعل بعض ذلك كاف في الجميع، بل كل ما علم بمعياره ضمنه المشتري إذ هو قبض شرعي، وإن لم يحصل قبض حسي إلا قربة السقاء إذا تلف فيها الماء بعد عقد البيع عليها وقبل القبض الحسي فمن البائع لكونه على البلاغ، كما رواه عيسى عن ابن القاسم. انتهى. وقال أصبغ: من المشتري، كما لابن رشد، ودخل في قولي: كل ما علم بمعياره، صورتان، إحداهما: وزنه وحده ثم تفريقه في جرار المشتري فضمانه منه أي من المشتري إذا تلف بعد حصوله في الوعاء كما في ابن عرفة. ثانيتهما: وزنه وحده أيضا دون جرار البائع ثم فَرَّغ فيها ليذهب بها ليفرغها ببيت المشتري فتلفت من البائع فضمانها من المشتري أيضا، لا يقال: الخطأ كالعمد في أموال الناس، لأنا نقول: البائع حملها على وجه الوكالة من المشتري، فحيث لم يتعمد تلفها لم يضمن، ومثل ذلك لو وزن بزقاق البائع كما في سماع عيسى على ما في التتائي في زقاق زيت أي لمعرفة قدر الزقاق غالبا، بل لو

ص: 570

وزن بجراره بعد عقد البيع فذهب بها البائع ليفرغها للمشتري ثم يوزن فارغ الجرار ليسقط من الوزن الأصلي كما عندنا بمصر فتلفت من البائع فضمانها من المشتري، كما في الأجهوري عن سماع عيسى في مشتري سمن بوزنه بجراره فله أي للمشتري بعد وزنه في جراره أي جرار البائع بيعه قبل وزن الجرار، إذ لو تلفت كانت مصيبته منه أي من المشتري إذ لم يبق إلا وزن الجرار، وذلك يمكن بعد تلف السمن. انتهى. وظاهره ولو تلف من البائع بغير تفريط. انتهى كلام الأجهوري. أي لأنه كوكيل عن المشتري، وقوله: بغير تفريط، حال من البائع أي حال كون البائع تلفت منه بغير تفريطه فإن فرط ضمن.

‌تنبيه:

قال الرهوني: ظاهر كلام المص أن الضمان من البائع ولو وقع التراخي من المشتري وهو ظاهر كلام غيره أيضا، وفي نوازل المعاوضات: وسئل بعض الشيوخ عمن ابتاع طعاما بعينه وتأخر قبضه بغير شرط، فأجاب: بأن البيع لازم لمن أباه، وهي في العتبية عن سحنون، وإن حدث بالطعام عيب بسبب التأخير فهو من المشتري وسلمه مؤلف المعيار.

والأجرة عليه، يعني أن أجرة الكيل والوزن والعد عليه، أي على البائع للمكيل والموزون والمعدود، لأن التوفية واجبة عليه ولا تحصل إلا بذلك، وأجرة الثمن إن كان مكيلا أو موزونا أو معدودا على المشتري لأنه بائعه، إلا لشرط أو عرف في المسألتين، كذا ينبغي، قاله عبد الباقي. وقال المواق: سمع ابن القاسم: الصواب والذي يقع في قلبي أن أجرة الكيالين على البائع، وقد قال إخوة يوسف:{فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} . ابن رشد: هذا المعلوم من قوله الذي عليه أصحابه واستدلاله بالآية صحيح [على القول]

(1)

أن شرع من قبلنا لازم لنا. ابن العربي: لا خلاف أن شرع من قبلنا شرع لنا في المسائل الخلافيات. انتهى. ونحوه لأبي علي، وفيه عن ابن المواز: قال مالك: صفة الوزن أن يعتدل لسان الميزان؛ وإن سأله المشتري أن يميله لم أره من باب المسألة، وفي العتبية: في الكيل يصب ويمسك المكيال على رأسه حتى إذا امتلأ أرسل يده، وإنما لم يجعل سؤال إمالة الميزان من ناحية المسألة لأن ذلك مما مضى عليه فعل الناس، إذ هو من التسامح في

(1)

في الأصل على أن القول والمثبت من المواق ج 6 ص 411 ط دار الكتب العلمية والبيان ج 7 ص 293.

ص: 571

البيع الذي ندب إليه الشارع أهل البيع (رحم اللَّه من باع سمحا)

(1)

الحديث، ثم ذكر ما حاصله أن من اشترى سلعة وهو مغتبط بها فيذكر لصاحبها ويطلبه أن يضع له شيئا من ثمنها، قال: لا بأس بذلك، كطلب أن يعيره دابة وليس من المسألة ما زال هذا أمر الناس إذا لم يكن إلحاح ولا تضرع ولا تبكى ولا كره، وأما قول المغتبط: إن لم تضع لي خاصتك فحرام، والأولى هو الترك مطلقا، وإنما كره مع إلحاح لأنه يشبه ما لم تطب به النفس والثمن في حكم المثمون.

بخلاف الإقالة، يعني أن أجرة الكيل والوزن والعد في الإقالة مخالف ما مر فليست على المقيل بالكسر وإنما هي على المقال بالفتح. والتولية. يعني أن أجرة الكيل والوزن والعد ليست على الولي بالكسر وإنما هي على المولى بالفتح، فمن اشترى طعاما وقبضه ثم ولاه لأحد أي تعاقد معه على أن يؤدي عنه الثمن ويأخذ الطعام المذكور فإن أجرة الكيل أو الوزن عليه أي على الموَلَّى بالفتح. قال الخرشي: ومعنى التولية عندهم أن يولي ما اشتراه بما اشتراه قبل قبضه، والتولية هنا إنما هي بعد القبض، ففي إطلاق التولية على ذلك تسامح. انتهى.

والشركة، يعني أن أجرة الكيل أو الوزن أو العد على المشرك بالفتح وليست على المشرك بالكسر، فمن اشترى طعاما وقبضه ثم أشرك شخصا في نصفه أي تعاقد معه على أن يأخذ نصف الطعام ويؤدي نصف الثمن فإن أجرة الكيل والوزن والعد عليه أي على المولَّى بالفتح. قال عبد الباقي: والأولى أن يقال: بخلاف الإقالة إلخ، أي فالأجرة على سائل الإقالة والتولية والشركة لا على المسئول لأنه فعل معروفا. انتهى. يعني أن الأجرة في الكيل والوزن والعد إنما هي على من سأل الإقالة أو التولية أو الشركة، فإن سأل الإقالة المقيل بالكسر كانت الأجرة عليه، وإن سألها المقال بالفتح كانت الأجرة عليه، وكذا لو سأل التولية الولي بالكسر كانت الأجرة عليه، ولو سألها الولى بالفتح كانت الأجرة عليه، ولو سأل الشركة المشرك بالكسر كانت أجرة الكيل أو الوزن أو العد عليه، ولو سألها المشرك بالفتح كانت أجرة ما ذكر عليه، هذا هو الفقه في هذه المسألة. واللَّه

(1)

البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث 2076.

ص: 572

سبحانه أعلم. وقوله: بخلاف الإقالة إلخ، وقيل: إن الأجرة على المقيل والولي والمشرك بالكسر فيهن، قال ابن يونس: والأول أبين، وإلى ذلك أشار بقوله:

على الأرجح، ولما كان القرض أصلا لهذه الثلاثة في أن الأجرة على المقترض بالكسر وهي مقيسة عليه بجامع المعروف قال: فكالقرض، أي فهي كالقرض، أي هي على المولى بالفتح والمشرك بالفتح والمقال بالفتح، لأن المقيل بالكسر والولي بالكسر والمشرك بالكسر فعلوا معروفا فشابهوا المقرض بالكسر، لأن كلا منهم فعل معروفا، وقد علمت أن الأجرة في الثلاثة الأول على المسائل كائنا من كان. واللَّه تعالى أعلم. قال عبد الباقي: والعهدة في الإقالة بعد وقوعها على البائع، فمن اقترض إردب قمح مثلا فأجرة كيله على المقترض، وإذا رده فأجرة كيله عليه بلا نزاع، ومحل التوهم الأول. انتهى.

واستمر بمعياره، يعني أنه يستمر ضمان البائع للموزون والمكيل والمعدود ما دام في معياره إلى أن يقبضه المشتري. قال عبد الباقي: واستمر ضمان ما فيه حق توفية بمعياره على البائع حتى يقبضه المشتري أو أجيره أو وكيله من البائع أو أجيره، ويدخل في قبضه له ما إذا ناوله البائع للمشتري مملوا أي معلوم القدر ليفرغه فسقط منه بعد مسكه قبل تفريغه، فإنه من المشتري باتفاق، حكاه ابن عرفة عن ابن رشد، وناقشه في الاتفاق. قاله التتائي. وهو وإن نوقش في الاتفاق فأقل أحواله أن يكون هو المشهور ولا يعارض هذا قوله:

ولو تولاه المشتري، لأن معناه تولى كيله أو وزنه أو عده نيابة عن البائع، وأما إذا اكتاله أو وزنه أو عده البائع وناوله للمبتاع فقد تم القبض بأخذه وليس نائبا عن البائع حينئذ، وأتى بقوله: واستمر إلخ، مع استفادته من قوله: وضمن بائع إلخ، لأجل قوله: ولو تولاه المشتري. انتهى المراد منه. وقال الشارح مفسرا للمص: والمعنى أن ضمان ما فيه حق توفية من البائع حتى يصير في غرائر المبتاع، ولو كان هو المتولي لكيله أو وزنه أو عده، فلو كاله المشتري فسقط المكيال من يده فهلك ما فيه قبل وصوله إلى غرائره ونحو ذلك فمصيبته من بائعه، رواه يحيى عن ابن القاسم، وأشهب عن مالك، وقال سحنون في نوازله: مصيبته من المبتاع، وسواء كان المكيال للبائع أو

ص: 573

للمبتاع إلا أن يكون المكيال هو الذي يتصرف به المبتاع إلى منزله ليس له غيره فيكون ضمان ما فيه إذا هلك من المشتري ولو استعاره من البائع، رواه ابن جعفر عن ابن وهب، وقيل: ينتقل الضمان عن البائع بمجرد العد والوزن، وقيل: إن تولاه المبتاع فالضمان وإلا فمن البائع. انظر الشارح.

‌تنبيهات:

الأول: قال الشيخ محمد بن الحسن هنا ما نصه: اعلم أن الصور أربع، الأولى: أن يتولى البائع الوزن مثلا ثم يأخذ الموزون ليفرغه في ظرف المشتري فيسقط من يده فالمصيبة من البائع اتفاقا. الثانية: مثلها ويتولى المشتري التفريغ أي يأخذه من الميزان ليفرغه في ظرفه فيسقط من يده فالمصيبة من المشتري اتفاقا، حكاه ابن رشد فيهما، ونازعه فيه ابن عرفة بالنسبة للأولى، فقال: قلت: قوله: في هلاكه بيد البائع أنه منه اتفاقا خلاف حاصل قول المازري واللخمي: في كونه من بائعه أو مبتاعه، ثالثها: إن ولي مبتاعه كيله فمنه. انتهى. وزعم التتائي والزرقاني أن ابن عرفة نازع في الثانية وليس كذلك. الثالثة: أن يتولى المشتري التفريغ والوزن فيسقط من يده فقال ابن القاسم ومالك: المصيبة من البائع لأن المشتري وكيل عن البائع ولم يقبض لنفسه حتى يصل إلى ظرفه، وقال سحنون: المصيبة منه لأنه قابض لنفسه ولم يجر هذا الخلاف في الثانية، لأن البائع لما تولى الوزن بنفسه دل على أن قبض المشتري منه ليفرغ قبض لنفسه. الرابعة: أن لا يحضر ظرف المشتري ويريد حمل الموزون في ظرف البائع، فالضمان من المشتري بمجرد الفراغ من الوزن، لأنه قابض لنفسه في ظرف البائع، ويجوز له قبل بلوغه إلى داره بيعه لأنه قد وجد القبض حقيقة، فليس فيه بيع الطعام قبل قبضه، فعليك بهذا التحرير، فإنه زبدة الفقه. وقرره بعض شيوخنا. انتهى كلام بناني. قال الرهوني: مراده أنه وزن في ظرفه وأراد المشتري أن يذهب بها ثم توزن ويسقط وزنها من الجملة كما ذكره ابن رشد وأقره ابن عرفة، ولا يدخل في كلامه ما إذا أفرغت ظروف البائع ووزن ما فيها فرد في ظروف البائع لطلب المشتري فيفصل في ذلك التفصيل المعلوم فيها. انتهى المراد منه. واللَّه سبحانه أعلم. يعني أن المشتري لا يضمن في هذه بمجرد الفراغ من الوزن بل يفصل في ذلك، فإن ناوله البائع للمشتري ليفرغه فيها ضمنه بأخذه

ص: 574

له كما مر، وإن كان البائع هو المتولي للتفريغ في الظروف فقد مر أن الضمان من البائع حتى يفرغه. قاله مقيده عفا اللَّه عنه. واللَّه تعالى أعلم.

الثاني: قال الشيخ أبو علي: قال ابن جماعة: إذا انكسرت الخابية عند تفريغ الماء فضمانها من السَّقَّاء. انتهى. وكتب عليه القبابُ: اعلم أن ما أفسده الأجير المأذون له في الخدمة على ثلاثة أقسام: ما سقط من يده فتلف، وما وطئه فتلف بوطئه، وما أتلفه بسقوط شيء من يده عليه، فإنه يضمن في القسم الأخير، ويضمن في الأول، وفي القسم الثاني قولان، والذي في المدونة عدم الضمان في الوطء وإن اختار اللخمي مقابلها، وسئل الطليطلي عن المدخر للزيت والعسل والرب وما أشبه ذلك يسوق الدلال إلى السلعة ويعقدها على التجار ثم يتولى حمل ذلك على عنقه فتسقط منه قلة في بعض الطريق فتنكسر؟ قال: لا شيء على الدلال ولا على البائع والمصيبة في ذلك من المبتاع وحده. انتهى.

الثالث: قال الشيخ أبو علي: قال البرزلي: أجرة التقويم في بيع فاسد أو استحقاق أو شبهه على البائع لأنه الآخذ للثمن ولا يدريه فعليه تقديره قلت: ظاهر المدونة أنه عليهما معا، وقال البرزلي عن أبي حفص العطار إذا باع سلعة لها حمل فحملها ثم تقايلا فإن سأل البائع الإقالة فالحمل عليه، وإن كان المشتري هو المسائل في الإقالة فالحمل عليه. انتهى. ولا قدم في البيع الفاسد أن الضمان فيه لا ينتقل إلا بالقبض بيَّن القبضَ ما هو؟ فقال:

وقبض العقار بالتخلية، يعني أن قبض العقار أي الأرض وما اتصل بها من شجر وبناء الذي يوجب نقل الضمان عن البائع للمشتري هو التخلية بين المشتري والمبيع وتمكينه من التصرف فيه بتسليم الفاتح إن وجدت وإلا اكتفي بالتخلية وإن لم يخل البائع متاعه، وفائدة ذلك انتقال ضمان الدار مثلا للمبتاع، ولو انهدمت قبل أن يخلي البائع متاعه إلا في دار السكنى فلا ينتقل لضمان المشتري إلا بإخلائها، ولو مكنه من التصرف في غير دار السكنى ومنعه الفاتح فظاهر كلام الشارح أن ذلك ليس بقبض.

ص: 575

وغيره بالعرف، يعني أن قبض غير العقار من مكيل وموزون ومعدود وغير ذلك يكون بالعرف، كتسليم مقود الدابة واحتياز الثوب وشبه ذلك. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وقبض غيره بالعرف بين الناس كاحتياز الثوب وتسليم مقود الدابة، وعلم من التوطئة أن بيان كيفية القبض لا يظهر لها فائدة في البيع الصحيح إذا كان المبيع حاضرا لدخوله في ضمان المشتري بالعقد، وإنما تظهر له فائدة في الفاسد، وفي كل ما يحتاج لحوز كالهبة والوقف والغائب وغير ذلك. واللَّه سبحانه أعلم. واعلم أن معنى قول الموثقين: وأنزله منزلته مكنه من القبض وحوزه إياه.

وضُمِن بالعقد، بالبناء للمفعول، يعني أن المشتري يضمن ما اشتراه وليس فيه حق توفية ولا عهدة ثلاث بالعقد الصحيح اللازم من الجانبين، وفائدة ضمانه أنه إذا هلك يكون من المشتري ويملكه بمجرد العقد، وفائدة ملكه له أن له منعه بعد العقد من البائع ولو طلب الثوب المبيع مثلا ليلبسه لبيته ثم يدفعه للمشتري فإن اخْتُلِسَه بالبناء للمفعول البائع المذكور فتلف فمصيبته من المشتري، فإن استعاره البائع فتلف فمنه إلا ببينة فمن المشتري، وقولي: الصحيح، احتراز من الفاسد فضمانه إنما ينتقل عن البائع بالقبض كما مر، وقولي: ولا عهدة ثلاث، تحرز عما هي فيه فإنما يضمن المشتري بعد تمامها كما مر، وقولي: اللازم من الجانبين، تحرز عن العقد مع فضولي أو عبد أو سفيه أو صغير بغير إذن الولي، أو بخيار فإنما يضمن بعد إجازة المالك والسيد والولي ومضي الخيار. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وقوله: ولو طلب الثوب المبيع إلخ، الظاهر أنه مبالغة؛ وقوله: فإن اختلسه، مستأنف ووقع الاختلاس بنفس تمام العقد أو سكت المشتري عن طلبه بالدفع له فلا يَرِدُ عليه ما أورده بناني. واللَّه سبحانه أعلم. قاله مقيده عفا اللَّه عنه. وقوله: وضمن بالعقد أي وله الغلة بالعقد لأن الخراج بالضمان.

‌فائدة:

قال الشارح: قال سحنون: لا ينتقل الملك في الحرام البين لوجه ويفسخ مطلقا إلا أن يفوت فتجب فيه القيمة إن كان مقوما والمثل إن كان مثليا، وهو قول ابن نافع: والمراد بالحرام البين ما ثبت تحريمه بنص كتاب أو سنة أو إجماع أو شبه ذلك، وقد حكى اللخمي فيما إذا كان مختلفا فيه أربعة أقوال: قيل: يعضي بالقبض، وقيل: بالفوات فيمضي بالثمن. وقيل: بالقيمة كسائر البياعات الفاسدة. والذي ذهب إليه ابن القاسم أن الحرام المبين يلزم فيه القيمة في

ص: 576

القوم والمثل في المثلي، وأن غيره يمضي بالثمن. انتهى. وقال الشيخ أبو علي بعد كلام: فحاصله أن المشتري إذا علم بأن من باعه مولَّى عليه لا يجوز بيعه فهو كالغاصب، وإلا فهو كبيع الفضولي ذي الشبهة، ويأتي ذلك في محله عن المدونة وغيره. انتهى. واستثنى خمس مسائل من قوله: وضمن بالعقد فقال: إلا المحبوسة للثمن أو الإشهاد فكالرهن، هاتان مسألتان من الخمس. الأولى منهما: أن يبيع الشخص سلعة ثم يحبسها حتى يقبض ثمنها، فالمشهور من قول ابن القاسم أنها تضمن أي يضمنها البائع كضمان الرهن، فيفرق في ذلك بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه، فإن كانت مما يغاب عليه ضمنها البائع ولو ببينة، وإن كانت مما لا يغاب عليه ضمنها المشتري. قاله الشارح. قال عبد الباقي: إلا السلعة البيعة المحبوسة عند البائع للثمن أي لإتيان المشتري بثمنها الحال. الثانية: أن يبيع شخص سلعة ثم يحبسها ليشهد على تسليمها للمبتاع أو على أن ثمنها حال في ذمته ولم يقبضه أو مؤجل فضمانها كالرهن، فإن كانت مما يغاب عليه ضمنها البائع إلا ببينة، وإن كانت مما لا يغاب عليه ضمنها المشتري. قال عبد الباقي: ما ذكره في الثانية مسلم، وأما الأولى فعلى المشهور من قولي ابن القاسم، وأما قوله الآخر وهو رأي جميع أصحاب مالك: أن ضمانها من البائع، ولا يلزم من كونه مشهور قول ابن القاسم أن يكون هو المشهور في المذهب. انتهى. قال بناني: تفريقه بين المسألتين غير ظاهر، بل ما جرى في إحداهما يجري في الأخرى لقول ابن بشير: في معنى احتباسه للثمن احتباسه حتى يشهد، وقوله: ولا يلزم من كونه مشهور إلخ، قال التتائي عقب المتن: عند ابن القاسم وهو المشهور، وقال ابن عبد السلام: المشهور أن المحبوسة للثمن تضمن ضمان الرهان، وقال ابن يونس في كتاب الأكرية ما نصه: ومن المدونة قال ابن القاسم: وكذلك في المبيع يحبسه البائع للثمن فهو منه إلا أن تقوم بينة بهلاكه فيكون كالحيوان أي ضمانه من المبتاع والبيع تام. انتهى. فعزاه للمدونة مقتصرا عليه، وقال القرافي: وكذلك في المبيع يحبسه البائع للثمن. فيه قولان، المذهب أنه كالرهن، فهو من المبتاع لأنه في حكم المقبوض، ولأنه المتنع من قبضه بتأخير الثمن، وقيل: هو من البائع مطلقا فليس كالرهن، والقولان لمالك، وما جعله المذهب قال صاحب المفيد:

ص: 577

هو الأظهر، وبه القضاء. فانظره. وقال بعد كلام: فيدل عزوه وتعليله على ترجيح قول ابن القاسم، فتأمله. ثم قال: فهذا كله يشهد لا قاله ابن عبد السلام واعتمده المص. واللَّه أعلم. انتهى كلام بناني. وقال الرهوني بعد جلب كثير من النقول: فتحصَّل مما قدمناه ومما عند بناني أن ما اعتمده المص هو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وأنه الذي رجع إليه مالك وقال فيه ابن رشد: إنه مشهور قول ابن القاسم، وابن عبد السلام والمص: إنه المشهور من المذهب، والقرافي: إنه المذهب، وبه أخذ أصبغ وابن حبيب، وبه العمل كما في المفيد، وكفى بهذا مرجحا. وما رجحه الأجهوري ومصطفى والزرقاني قوي أيضا، لأنه قول ابن القاسم في سماع سحنون، وإليه ذهب سحنون، ونقل ابن عرفة عن ابن رشد: قال سحنون في نوازله: إنه قول جميع أصحاب مالك غير ابن القاسم، ولكن لا يقوى قوة الآخر، ولذلك سلم المواق وابن غازي والحطاب والتتائي وأبو علي كلام المص. واللَّه أعلم. وقول بناني: قال صاحب المفيد: هو الأظهر وبه القضاء، فيه نظر، لأن الذي رجحه في المفيد وقال فيه: هو أقيس وأليق بالأصول، هو غير ما قال: إن به الحكم. انتهى. وقد نقل قبل هذا عن المفيد أن سعيد بن المسيب وربيعة والليث قد روي عنهم أنهم قالوا: إذا لم يدفع البائع المبيع إلى المشتري حتى يأتي بثمنه فالمصيبة من البائع، وبه قال مالك وابن وهب وابن الماجشون، وقال سليمان بن يسار: المصيبة فيه من المشتري، وإلى هذا رجع مالك رحمه الله، وبه قال ابن القاسم، وبه الحكم، غير أن قول سعيد ومن قال بقوله أقيس وأليق بالأصول إلى آخر كلامه، ومفهوم قول المص: المحبوسة للثمن، أن المشتري لو تركها عنه على غير قصد الحبس فكالوديعة. قاله عبد الباقي. وقال ما نصه: وتقدم أنه لا فرق في الحبس للإشهاد على الثمن بين كونه حالا أو مؤجلا، وأنه إنما له حبسها لقبض الثمن الحالِّ لا المؤجل فليس له حبسها إلى أجله، فإن تلفت ضمنها مطلقا، يعني ضمان العداء، وهل ما حل بعد تأجيله كالحالِّ أصالة أو كالمؤجل فليس له حبسها لقبضه لأنه رضي بتسليمها دون قبض؟ خلاف، وقوله: فكالرهن، أي من حيث إنه يفرق فيه بين ما يغاب عليه فيضمنه البائع في دعواه تلفه إلا ببينة، وبين غيره فلا ضمان عليه في دعوى تلفه إلا أن يظهر كذبه، فالتشبيه من هذه الحيثية فقط إذ لو وطئها البائع لم يحد لشبهة ملكه، وعليه للمشتري قيمة

ص: 578

ولد نشأ عن وطئه، وأما لو وطئها المشتري فحله ظاهر بخلاف وطء المرتهن فيحد، كما يأتي للمصنف حيث قال: وحد مرتهن وطئ إلا بإذن، وقوله: إلا المحبوسة للثمن أو الإشهاد فكالرهن، يعني في البيع الصحيح، وأما الفاسد فمن البائع، لأنه لا ينتقل ضمان الفاسد إلا بالقبض كما مر، وقيل: من المبتاع، وقيل: كالصحيح في التفصيل المذكور في المص هنا، حكى الثلاثة ابن عمر على الرسالة، ثم ظاهر كلامهم أنه لا خيار للمشتري في هذه المسألة، فلا تدخل في قوله: وخير المشتري إن غيب، يعني مسألة المص هذه إلا المحبوسة للثمن أو الإشهاد. واللَّه سبحانه أعلم. وأشار إلى الثالثة بقوله:

وإلا الغائب فبالقبض، يعني أنه إذا اشترى شيئا غائبا على صفة أو رؤية متقدمة فإنه لا ينتقل ضمانه عن بائعه إلى مشتريه إلا بالقبض، وهذا في غير العقار، وأما هو فإنه يدخل في ضمان المشتري بالعقد الصحيح، وهذا حيث لا شرط، فإن اشترط ضمان الغائب غير العقار على المشتري كان منه، وإن اشترط ضمان العقار الغائب على البائع كان منه كما مر، قال عبد الباقي: وإلا البيع الغائب على صفة أو رؤية متقدمة فبالقبض، أي فإنما ينتقل ضمانه للمشتري بالقبض في فاسد مطلقا كصحيح غير عقار إلا لشرط ضمانه على المبتاع كعقار بيع مذارعة أو جزافا وتنازع مع المشتري في أن العقد أدركه سالما، لا إن توافقا على السلامة فمن المشتري بالعقد. انتهى. وأشار إلى الرابعة بقوله:

وإلا المواضعة فبخروجها من الحيضة، يعني أن الأمة المواضعة لا تزال في ضمان بائعها إلى أن تطهر من الحيض فيضمنها المبتاع بعد الطهر لا بأول الدم، وقال الخرشي: يعني أن من اشترى أمة من علي الرقيق أو وخشه وأقر البائع بوطئها فإن فيها المواضعة، وضمانها من البائع إلى أن ترى الدم، فتدخل حينئذ في ضمان المشتري، قال الباجي: وبأول الدم تخرج من ضمان البائع ويتقرر عليها ملك المشتري ويجوز له الاستمتاع بها بغير وطء، وحينئذ فمن بمعنى إلى، أي بخروجها من الطهر إليها، فبمجرد رؤية الدم تخرج من ضمان البائع، وظاهر المتن القول الضعيف. انتهى كلام الخرشي. يعني القول: بأنها لا تخرج من ضمان البائع إلا بطهرها من

ص: 579

الحيض. وقال عبد الباقي: وإلا المواضعة فبخروجها من الطهر الذي بيعت فيه إلى الحيضة يضمنها المبتاع، أو من بمعنى إلى إذ لا يشترط طهرها منها على المعتمد، خلافا لظاهر المص والتوضيح والشارح. انظر الحطاب. والمبيعة فاسدا كذلك مع قبض بعد رؤية دم أو معها، فقد افترق الصحيح والفاسد في هذا كما مر افتراقهما في المحبوسة. انتهى. قال الرهوني: لا مفهوم له، وكذا إذا قبضها قبل ذلك لتتواضع تحت يده فتلفت بعد رؤية الدم خلاف ما يوهمه كلامه. وقال أبو علي: وإلا المواضعة فبخروجها من الحيضة، أي فلا تزال في ضمان البائع حتى تخرج من الحيضة، فحينئذ يضمنها المبتاع. انتهى. وقال بعد جلب كثير من النقول: وإذا ثبت هذا فكلام ابن الحاجب والمص صحيح وأن الأمة لا تدخل في ضمان المشتري بأول الرؤية للدم، وهذا قول ابن وهب ورواية أشهب وابن حبيب وابن المواز، ومختار سحنون، وظاهر قول ابن القاسم في موضع من المدونة، وفي هذا كفاية في الدليل كما في المتن وابن الحاجب، ثم قال: فقول المتن: فبخروجها من الحيضة، يصح حملها على الخروج من الحيضة برمتها، وعلى معظمها الذي أقمناه مقام الحيضة برمتها، فافهم؛ ولا يتبين لك ما ذكرناه إلا إذا نظرت ما كتبناه عند قول المتن: فتحل بأول الحيضة الثالثة، ونقلنا هناك: أن أكثر الشيوخ على أنه لابد من كمال الحيضة. انتهى. وقال أيضا بعد جلب كثير من النقول: وقد تبين من هذا كله أن ما به الخروج من العدة به تتم المواضعة. انتهى. وقال الرهوني: قد اقتصر أبو علي على ما للمص وابن عبد السلام وابن الحاجب وأطال في ذلك، فانظره يظهر لك أن مقابل المعتمد في كلام الزرقاني موجود، بل يظهر لك قوته. واللَّه أعلم. وقال الحطاب: صرح في المدونة في كتاب الاستبراء بأنها تخرج من ضمان البائع بدخولها في أول دمها، ونقل الباجي ذلك على أنه المذهب، وقال ابن يونس: قال بعض فقهائنا القرويين: فأول دخولها في الدم صارت إلى ضمان المشتري عند ابن القاسم، وحل له أن يقبل ويتلذذ، وخالف ابن وهب وقال: حتى تستمر الحيضة لإمكان انقطاع الدم. انتهى. والنفقة على البائع في مدة المواضعة، وأما الأمة المستبرأة غير المواضعة فإن ضمانها على المشتري. وأشار إلى الخامسة بقوله:

ص: 580

وإلا الثمار للجائحة، اللام للتعليل وليست بمعنى إلى، ومعنى كلامه أن الثمار يضمنها بائعها لأجل الجائحة، أي لكثرتها فيها، والضمان ينتهي في حق بائع الثمار ببلوغها حدا تأمن معه من الجائحة، فإذا بلغت ذلك صار ضمانها من مبتاعها، وإنما كانت كذلك دون غيرها لكثرة الجوائح فيها: وقال الخرشي: يعني أن من اشترى ثمارا بدا صلاحها فإن ضمانها من بائعها إلى أن تأمن الجائحة، وذلك إذا تناهت في الطيب المشار إليه بقوله: وإن تناهت الثمرة فلا جائحة، فحيننذ ينتقل ضمانها لمشتريها، فاللام بمعنى إلى، وفي الكلام حذف مضاف أي إلى أمن الجائحة، وأما ما يحصل فيها من غير الجائحة فضمانه من المبتاع. وقال عبد الباقي: وإلا الثمار المبيعة بيعا صحيحا، وذلك بعد بدو صلاحها على رءوس الشجر فيضمنها بائعها للجائحة، أي إلى وقت أمن الجائحة، أي الأمن منها، وهو تناهيها كما سيقول "وإن تناهت الثمرة فلا جائحة"، وبما قررنا علم أن اللام بمعنى إلى، وأنه في الكلام حذف مضاف أو مضافين. انتهى. وما ذكراه من أن اللام للانتهاء بمعنى إلى فيه نظر؛ لأنه يوجب الاعتراض على المص، لأنه إنما يضمن في الثمار ما هو من الجوائح، وأما ما يحصل فيها من غير الجائحة كغصب إنسان معين لها فمن المبتاع، قال عبد الباقي: وضمانها، يعني الثمار في الفاسد من البائع ما دامت في رءوس الشجر حتى يجذها المشتري إن كان الفساد لشرائها قبل طيبها، فإن اشتريت بعده فضمانها من المبتاع بمجرد العقد لتمكنه من أخذها، فنزل منزلة القبض فيلغز بها، فيقال: لنا فاسد يضمن بالعقد. انتهى. وللتاودي رحمه الله على طريق اللغز:

لنا فاسد بالعقد يضمن ناجزا

وإن لم يكن قبض أجب أيها الحبر

فأجابه بعض النجباء من الطلبة:

جوابك فرد العصر ما بيع فاسدا

من الثمر بعد الطيب دام لك الفخر

ص: 581

قال الرهوني: وهذا مبني على أن ضمانه من المبتاع بمجرد العقد، وبه جزم المواق في تاجه، والتاودي في طالعه، وبناني في فتحه، وقد قدمنا عند قول المص: وإنما ينتقل ضمان الفاسد بالقبض، أن المشهور خلافه، ولذلك ذيلت ما تقدم فقلت:

ولكن ذا قول ضعيف فلا تحد

عن المذهب المشهور يعل لك القدر

ولا تغترر بالتاج مع طالع ولا

بفتح وطالع ما تنآى بك العمر

واللَّه الموفق. انتهى.

وبدئ المشتري للتنازع، يعني أنه إذا تنازع البائع والمشتري في التسليم أولا بأن قال البائع: لا أسلم لك مبيعي إلا بعد أن تدفع لي ثمنه، وقال المشتري: لا أدفع لك الثمن إلا بعد تسليم المبيع لي، فإن هذا المشتري يدفع الثمن للبائع أي يجبر على ذلك؛ قال الخرشي: أي وإذا تنازع البائع والمشتري في التسليم أولا بدئ المشتري، هذا في بيع عرض بنقد، قال ابن رشد: من حق البائع أن لا يدفع ما باع حتى يقبض ثمنه لأن ذلك في يده كالرهن بالثمن، فمن حقه أن لا يدفع إليه ما باعه منه ولا يزنه له ولا يكيله له إن كان موزونا أو مكيلا حتى يقبض ثمنه، وهذا أمر متفق عليه في المذهب، مختلف فيه في غيره انتهى. وأما في غير ذلك فلا تبدئة بل يوكل القاضي في المراطلة من يأخذ بعلاقة الميزان ثم يأخذ كل منهما ما للآخر، وفي الصرف يوكل من يقبض لهما، ويفسد العقد بالتراخي في النقود، وأما في بيع عرض بعرض فيوكل أيضا، ولا يفسد العقد بالتراخي. قاله سند. وفي المفيد: لو زعم المشتري أنه وجد عيبا بالسلعة وامتنع من دفع الثمن حتى يحاكمه في المعيب فله ذلك فيما ينقضي من ساعته لا فيما يتطاول؛ وفي النوادر: اختلاف الناس في الدراهم والدنانير بالجودة والرداءة عيب لا يلزم المشتري أخذها إلا باجتماع الناس على جودتها. انتهى. ولو قلب إنسان شيئا يراه فتلف من يده فإن ناوله له ربه أو أخذه بإذنه فلا ضمان عليه، سواء في ذلك أقداح الخشب والزجاج، والقوس يرمى به فينكسر، والسيف يهزه فينكسر، والدابة يركبها فتموت منه، إلا أن يفعل في هذه كلها فعلا غير معروف فيضمن، وإن

ص: 582

أخذه بغير إذنه ثم ساومه ثم تركه فينكسر أو يسقط من يده فينكسر، فقال أصبغ: لا ضمان؛ وروى عيسى: يضمن؛ وإن أخذه بغير إذنه وعلمه ضمنه على كل حال، وهذا في ما لا يعرف إلا بالتناول كالأمور المتقدمة، وأما نحو اللبن والدهن يختبر بالشم والخل بالذوق فإذا أخذه بيده فسقط منه ضمنه. انتهى كلام الخرشي. وقال عبد الباقي: وبدئ المشتري بالجبر على دفع الثمن النقد للتنازع أي عنده مع بائع العرض والمثلي، لأنه في يده كالرهن في الثمن، فكلامه في بيع عرض أو مثلي بنقد وإلا لم يجبر واحد منهما على التبدئة، ثم إن كانا نقدين مراطلة أو صرفا قيل لهما: إن تراخى قبضكما انتقض الصرف والراطلة، وإن كانا مثليين غير ما ذكر تركا حتى يصطلحا، فإن ترافعا في شيء من ذلك كله لقاض وكل من يمسك ميزان المراطلة ومن يأخذ عينهما في الصرف ليدفع لكل مناجزة، وفي المثليين كذلك، لكن لا يضر التأخير.

والتلف وقت ضمان البائع بسماوي يَفسخُ، التلف مبتدأ وخبره يفسخ بالبناء للفاعل، والمفعول محذوف للعلم به، أي يفسخ العقد، ومعنى كلام المص أن تلف المبيع وقت ضمان البائع بسماوي أي بأمر من اللَّه لا صنع لآدمي فيه يفسخ المبيع، فيمسك المشتري ثمنه إن لم يدفعه، ويرجع به على البائع إن دفعه، وقوله: وقت ضمان البائع يشمل ما فيه حق توفية والثمار المشتراة بعد بدو الصلاح والمواضعة والغائب؛ قال الشيخ أبو علي عن الشارح: إنه يشمل المحبوسة للثمن أو الإشهاد، ثم قال: مع أن المحبوسة للثمن ضمانها ضمان الرهان، فإذا قامت بينة على تلفها وهي مما يغاب عليه فضمان ذلك من المبتاع، فليتنبه لهذا وأمثاله وإن كان ظاهرا. انتهى. فهو نقد على الشارح وصدق في ذلك، وقال عبد الباقي: والتلف للمبيع بعقد صحيح منبرم وقت ضمان البائع بأن يكون مما فيه حق توفية أو ثمار قبل أمن جائحتها، أو مواضعة، أو غائبا بسماوي أي بأمر من اللَّه تعالى، يعني لا صنع لآدمي فيه، وثبت أو تصادقا عليه، يفسخ العقد، فلا يلزم البائع الإتيان بغير العين العقود عليه، بخلاف تلف المسلم فيه عند إحضاره وقبل قبض المشتري له، فيلزم مثله لوقوع العقد على ما في الذمة، لا على معين، وبخلاف المحبوسة للثمن أو للإشهاد لتقدم حكمهما في كلامه، فلا يدخلان هنا، وبخلاف بيع الخيار لتقدم حكمه، وسيذكر

ص: 583

إتلاف المشتري والأجنبي إلخ، وبخلاف دعواه التلف بسماوي من غير ثبوته ولا تصادقهما عليه، فأشار له بقوله: وخير المشتري إن غيب أو عيب، ونحوه للخرشي، ولقد صدقا في عدم دخول المحبوسة للثمن أو الإشهاد هنا، لأن موضوع المص هنا أن التلف ثبت ببينة أو بتصادق المتبايعين عليه؛ وقد مر أن المحبوسة لذلك إذا ثبت تلفها يكون الضمان من المبتاع فلا يفسخ البيع، وقد مر عن عبد الباقي في مسألة المحبوسة للثمن أو الإشهاد أن ظاهر كلامهم أنه لا خيار للمشتري، فلا تدخل في قوله: وخير المشتري إن غيب. انتهى. قال مقيد هذا الشرح: فهو صريح أو كالصريح في أن المشتري يرجع على البائع بقيمة ما يغاب عليه عند دعوى البائع تلفه، وفي أنه يدفع للبائع الثمن. واللَّه سبحانه أعلم. ثم رأيت للشيخ محمد بن الحسن عند قوله: وخير المشتري إن غيب، ما نصه: لا تدخل أيضا هنا المحبوسة للثمن على ما درج عليه المص أنها كالرهن إذ لا تخيير للمشتري فيها، وإنما له القيمة بالغة ما بلغت، كما تقدم، لأن الضمان منه فلا موجب للتخيير. انتهى. وعلى المقابل المتقدم عند قوله: إلا المحبوسة إلخ، تدخل هنا أعني قوله: والتلف وقت ضمان إلخ، وتدخل أيضا في قوله: وخير المشتري إن غيب؛ نقله عن مصطفى وقال بناني: فيه نظر، بل صرح ابن رشد في سماع سحنون من جامع البيوع أن تخيير المشتري بين الفسخ والقيمة يجري أيضا على قول ابن القاسم: إن ضمانها كالرهن، وعليه فتدخل المحبوسة للثمن هنا في قوله: وخير المشتري إن غيب. انتهى المراد منه. وهو مخالف لما مر عن عبد الباقي. واللَّه سبحانه أعلم. وقوله:

وخير المشتري إن غيب، يعني أن البائع إذا غيب السلعة وقت ضمان البائع أي أخفاها وادعى هلاكها ولم يصدقه المشتري فإن البائع يحلف على ما ادعى ويفسخ البيع، فإن نكل البائع عن اليمين فإن المشتري يخير بين الفسخ لعدم تمكنه من قبض المبيع وبين تمسكه وطلب البائع بمثله أو قيمته، قال عبد الباقي: وخير المشتري بتا إن غيب -بغين معجمة- البائع المبيع أي أخفاه وادعى هلاكه ولم يصدقه المشتري ونكل البائع عن اليمين، يخير المشتري بين الفسخ لعدم تمكنه من قبض المبيع، وبين تمسكه وطلبه للبائع بمثله أو قيمته، إلا أن يحلف فليس إلا الفسخ. انتهى المراد منه.

ص: 584

أو عيب، بالبناء للمجهول، يعني أنه إذا تعيب المبيع بسماوي وقت ضمان البائع فإن المشتري يخير بين أن يفسخ المبيع وأن يتمسك بالمبيع معيبا بجميع الثمن؛ وفي الجواهر: وحيث قلنا: إن الضمان من البائع فتلف المبيع انفسخ العقد، وإتلاف البائع والأجنبي لا يفسخ العقد بل يوجب القيمة، وإذا تعيب المبيع بئافة سماوية وكان ضمانه من البائع فللمبتاع الخيار، فإن أجاز فبكل الثمن ولا أرش له.

أو استحق شائع وإن قل، يعني أن المبيع إذا استحق منه جزء شائع فإن المشتري يخير بين أن يتمسك بالمبيع ويرجع بمناب الجزء المستحق من الثمن، وأن يرد المبيع ويرجع بجميع ثمنه، ولا فرق في ذلك بين أن يستحق منه قليل أو كثير حيث لم ينقسم المبيع ولم يتخذ للغلة، والحاصلُ أن صور استحقاق الجزء الشائع ثمانية، وهي: أن يكثر المستحق فيثبت الخيار للمشتري بين التمسك ويرجع حيتنذ بمناب المستحق، والرد ويرجع بجميع الثمن، كان المبيع منقسما أم لا، متخذا للغلة أم لا، وإيضاح ذلك أن يكون منقسما اتخذ للغلة أم لا، أو غير منقسم اتخذ للغلة أم لا، وكذلك يثبت الخيار المذكور للمشتري أيضا حيث قل المستحق وكان المبيع غير منقسم ولم يتخذ للغلة، وبقيت ثلاث لا خيار للمشتري فيها، بل يلزمه التمسك والرجوع بمناب المستحق، وهي: أن يقل المستحق وكان المبيع منقسما اتخذ للغلة أم لا، أو كان غير منقسم ولكن اتخذ للغلة، والكثير الذي يوجب استحقاقه التخيير مختلف، ففي الدار الواحدة والمثلي الثلث من الكثير، وفيما تعدد من الدور ما زاد على النصف، كالحيوان والعروض، والنصف في الأرض كثير، وقال الرهوني بعد كلام: فتحصَّل من هذا أن الدار الواحدة الثلث فيها كثير، والأرض النصف فيها كثير، وما عدا ذلك لا خيار فيه للمشتري إلا باستحقاق الجل. انتهى. وفي الزاهي: ما استحق من الأرض كالدار، وقيل: ليس كالدار، وبالأول أقول، وقال الشيخ أبو علي: قال ابن عرفة: والأقل في الطعام وغيره مكيلا أو موزونا في كونه كالعروض أو ما دون الثلث والثلث كثير، ثالثها: في غير الطعام. انتهى. وقال عبد الباقي: إن الكثير في المثلي الثلث، وقال الشيخ أبو علي: ومذهب ابن القاسم وروايته أن استحقاق ثلث الطعام والكيل والموزون من العروض يوجب

ص: 585

للمشتري رد الجميع، بخلاف العبيد والعروض، وسوى أشهب بين العبيد والعروض والطعام في ذلك لا يرد المبتاع الباقي إلا أن يستحق الأكثر من النصف. انتهى. ومفهومُ قوله: شائع، أنه لو استحق معين لوجب التمسك والرجوع بمناب المستحق من الثمن ما لم يكن المستحق الجل أي أكثر من النصف فتفسخ العقدة كلها ويحرم التمسك بالباقي، كما يأتي وكما مر في قوله: ولا يجوز التمسك بأقل استحق أكثره.

وتلف بعضه واستحقاقه كعيب به، يعني أن تلف البعض المعين من المبيع المتعدد وقت ضمان البائع واستحقاق البعض المعين من المبيع المتعدد كالعيب بالبعض المعين من المبيع المتعدد، فإن كان التالف أو المستحق النصف فأقل وجب التمسك والرجوع بمناب التالف أو المستحق، وإن كان التالف أو المستحق أكثر من النصف نقضت الصفقة كلها، كما قال: وحر التمسك بالأقل، يعني أنه إذا كان البعض التالف وقت ضمان البائع أو المستحق هو الأكثر فإنه حرم التمسك بالأقل مع الرجوع بمناب المستحق، لأنه كإنشاء عقدة بثمن مجهول، بل يتعين إما أن يفسخ البيع ويرجع بجميع ثمنه، أو يتمسك بالباقي بجميع الثمن. قال عبد الباقي: ولم أقيد البعض التالف بالعين كما فعل التتائي، لأن البعض التالف لا يكون إلا معينا، وقوله: وحرم التمسك بالأقل تكرار بالنسبة للاستحقاق مع قوله المار: ولا يجوز التمسك بأقل استحق أكثره، ويستغنى عنه أيضا بقوله: كعيب به، ويجاب بأنه أتى به ليرتب عليه قوله:

إلا المثلي، يعني أن المثلي إذا استحق أكثره أو تعيب أو تلف لا يحرم التمسك بباقيه الأقل بل يخير، والتخيير مختلف، ففي الاستحقاق والتلف يخير بين الفسخ والتمسك بالباقي بحصته من الثمن، وفي التعييب يخير بين الفسخ فيرد الجميع وبين التمسك بجميع المبيع لا بالسليم فقط بما ينوبه من الثمن، لأن من حجة البائع أن يقول: أبيعه بجهل بعضه بعضا، كما يفيده قول المص: وليس للمشتري التزامه بجميعه مطلقا. قاله عبد الباقي. وقوله: إلا المثلي يعني أنه لا يحرم التمسك فيه بالأقل والرجوع بمناب الأكثر مستحقا أو تالفا أو معيبا حيث رضي البيعان بذلك بخلاف المقوم إذا استحق أكثره أو تلف أو تعيب فإنه لا يجوز التمسك بالأقل ولو رضي البيعان بذلك، وبه يندفع بحث بناني أن هذا التخيير في المعيب المثلي ثابت في المعيب المقوم، فيتحد

ص: 586

حكم المستثنى والمستثنى منه بالنسبة للعيب، فالصواب رجوع الاستثناء للتلف والاستحقاق فقط. انتهى. وقوله: وحرم التمسك بالأقل، هو المشهور، ومقابل المشهور جواز التمسك بالأقل، وهو مذهب ابن حبيب. قاله الشارح. واعلم أن الإجارة كالبيع في التفصيل السابق كما في المدونة، قال عبد الباقي: ولما قسم ابن رشد المعيب الموجود في الطعام المثلي وما في معناه من مكيل كحناء وكتان وعصفر وموزون ومعدود، بيع المكيل كيلا أو جزافا، خمسة أقسام استوفاها المص باختصار، وأشار لأولها بقوله:

ولا كلام لواجد في قليل لا ينفك، يعني أن من اشترى مثليا من طعام وغيره فوجد فيه عيبا قليلا لا ينفك عنه في العادة فإنه لا خيار له في رد البيع ولا أرش له في مقابلة ذلك، وقوله: قليل، صفة لعيب؛ ومثل للقليل الذي لا ينفك عنه بقوله: كقاع، القاع المستوي من الأرض، والجمع أقْوُع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها، والقيعة وهي أيضا من ذوات الواو؛ يعني أنه إذا وجد الطعام مخالفا أسفله لأعلاه بما لا ينفك عنه في العادة كقيعان الأهراء فإنه لا كلام له، وقال عبد الباقي: ولا كلام لواجد في قليل وهو ما لا يزيد على المعتاد لا ينفك عنه، بأن تقول أهل المعرفة: إنه من غير أمر طارئ عليه، كقاع لبيت طعام أو أندر به بلل يسير فلا يحط عنه شيء من الثمن ولثانيها بقوله:

وإن انفك المعيب القليل عنه ولا خطب له كابتلال بعضه بعطر أو ندى أو له خطب كالربع، وهُوَ ثالثُها، والمراد به ما دون الثلث، فللبائع التزام الربع المعيب بحصته من الثمن، وإلزام المشتري السالم بما ينوبه من الثمن. انتهى. وإيضاح هذا أن المعيب إن انفك عن الطعام ونحوه بحسب العادة وكان لا خطب له أو له خطب والمعيب منه ما دون الثلث فإن لبائع الطعام أن يلتزم الربع المعيب بأن يأخذه ويدفع حصته أي مقابله من الثمن للمشتري ويلزم للمشتري السالم بما ينوبه من الثمن، أي يمسك بقية الثمن التي تقابل السالم ويجبر المشتري على قبول السالم، وأشار للرابع والخامس بقوله:

ص: 587

لا أكثر، من الربع بالمعنى المتقدم بأن يكون ثلثا فما فوقه، فليس للبائع إلزام المشتري السالم بحصته ويلتزم المعيب لنفسه ويدفع ما ينوبه من الثمن للمشتري.

وليس للمشتري التزامه أي السالم بحصته، أي ليس للمشتري أن يمسك السالم لنفسه ويدفع ما ينوبه من الثمن للبائع ويرد المعيب للبائع ويأخذ منابه من الثمن مطلقا، أي ليس للمشتري ذلك مطلقا كان المعيب الربع أي ما دون الثلث وله خطب أو كان لا خطب له، أو كان الثلث أو فوقه، أي ليس له ذلك في الأقسام الأربعة، وإنما لم يكن للمشتري ذلك لأن من حجة البائع أن يقول: أبيعه يحمل بعضه بعضا، نعم له التزام السالم والعيب بجميع الثمن، وكذا التزام السالم بجميع الثمن، ورد المعيب فيما يظهر، وفي بعض التقارير منع ذلك للحوق العرة للبائع، وفيه شيء؛ وقوله: لواجد بالجيم. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وقال المواق: ابن رشد: الخلاف الموجود في الطعام وما في معناه من المكيل والموزون من العروض إذا وجد في أسفله ما هو مخالف لأوله ينقسم على خمسة أقسام، أحدها: أن يكون يسيرا وهو مما لا ينفك عنه الطعام كالكائن في قيعان الأهراء والبيوت، فهو لازم للمشتري. الثاني: ما ينفك عنه الطعام إلا أنه يسير لا خطب له، فهذا إن أراد البائع أن يمسك المعيب ويلزم المشتري السالم بما ينوبه من الثمن فله ذلك اتفاقا، وإن أراد المشتري أن يلتزم السالم ويرد المعيب بحصته من الثمن لم يكن له ذلك على ما في المدونة: أن البائع إنما باع على أن حمل بعضه بعضا. الثالث: أن يكون مثل الخمس والربع، فإن أراد البائع أن يمسك المعيب ويلزم المشتري السالم بما ينوبه من الثمن فله ذلك اتفاقا، إذ لا خلاف أن استحقاق ربع الطعام لا يوجب للمبتاع رد الباقي، وإن أراد المشتري أن يلتزم ويرد المعيب بحصته من الثمن لم يكن له ذلك اتفاقا، ومضمنه أن الفتوى في القسم الثاني والثالث واحدة. ثم قال: القِسْم الرابع: أن يكون مثل النصف والثلث، فإن أراد البائع أن يمسك المعيب ويلزم المشتري السالم بحصته من الثمن لم يكن له ذلك على رواية ابن القاسم ومذهبه، ولم يكن للمبتاع أن يأخذ السالم ويرد المعيب. القسم الخامس: أن يكون أكثر من النصف، فإن أراد البائع أن يمسك المعيب ويلزم المشتري السالم بحصته من الثمن لم يكن له ذلك اتفاقا، ولم يكن للمبتاع أن يأخذ السالم ويرد المعيب أيضا باتفاق. انتهى. وقد تضمن هذا أيضا أن الفتوى في القسم الرابع

ص: 588

والخامس واحدة. انتهى. وقال محمد بن الحسن بناني: أشار المص إلى الأقسام الخمسة التي ذكرها ابن رشد في المعيب الموجود في المثلي طعاما كان أو غيره، وقد نقل كلامه ابن غازي وغيره، قال في تكميل التقييد بعد نقل كلام ابن رشد: وإذا اقتصرنا على المشهور في أقسام ابن رشد رجعت الخمسة إلى ثلاثة لاستواء حكم الثاني والثالث وحكم الرابع والخامس، وقد جمعت هذه الثلاثة في ثلاثة أبيات من الرجز تقريبا للحفظ فقلت:

عن ابن رشد الرضى المرضي

ألغ معيب العرف في المثلي

وشقصن للشار لا للمشتري

في الربع فالدون على المشتهر

والثلث والنصف امنعن كالجل

تشقيصها إلا بوفق الكل

وإذا كان المبيع مقوما متعددا كعشرة شياه بمائة وسموا لكل شاة عشرة واستحق منها بعضها أو ظهر معيبا وليس وجه الصفقة ووجب التمسك بباقي الصفقة بما يخصه من الثمن رجع في ذلك للقيمة، بأن يقوم المعيب أو المستحق وبقية أجزاء الصفقة وتنسب قيمة المستحق أو المعيب إلى مجموع القيمة، ويرجع بتلك النسبة من الثمن، فإذا قوم مجموع الغنم بمائة وعشرين وقوم البعض المستحق أو المعيب بعشرين، كانت نسبة العشرين إلى قيمة المجموع السدس، فيرجع عليه بسدس الثمن، وهكذا إن كانت قيمة المجموع مثل الثمن أو أقل.

لا للتسمية، يعني أن الرجوع في ذلك إنما هو للقيمة كما مر تقريره، ولا يرجع في ذلك للتسمية، فلا يقال في المثال المذكور: إذا استحق أو تعيب منها اثنتان أنه يرجع بعشرين خمس الثمن، وقال الشيخ أبو علي مفسرا للمص: أي أن العقد إذا وقع على عدد من الثياب ونحوها وسميا لكل ثوب جزءا من الثمن ثم استحق ثوب منها مثلا أو أكثر فإنه يرجع فيه إلى القيمة حينئذ لا إلى التسمية، لأنه قد يكون أحدها أجود أو أردى. انتهى. وقال عبد الباقي: لا للتسمية التي سموها عند العقد لكل سلعة

ص: 589

لجواز اختلاف الأفراد بالجودة والرداءة، لأنه لما اشتراها مجتمعة فقد يسمى لبعضها عشرة وهي تساوي أقل ويغتفر ذلك الزائد لكون غيره يساوي أكثر مما يسمى له.

وصح ولو سكتا، يعني أن المبيع يصح حيث شرطا الرجوع للقيمة، وكذلك يصح المبيع إذا سكتا عند العقد عن بيان الرجوع للقيمة أو للتسمية، وإذا قلنا بالصحة فإنه يرجع للقيمة، هذا قول ابن القاسم ورواه عن مالك: التسمية لغو والبيع صحيح. وقاله سحنون وأصبغ. وروى ابن القاسم: أن التسمية مراعاةٌ والبيع فاسدٌ. قاله الشيخ أبو علي. وعلى رواية ابن القاسم هذه رد المص بلو.

لا إن شرطا الرجوع لها، يعني أنهما إذا شرطا الرجوع للتسمية وهي مخالفة للقيمة فإنه لا خلاف أن المبيع يفسد. نقله في التوضيح عن البيان. قاله الشيخ أبو علي. وقال عقبه عن غيره: إن الفساد لا يتقيد بذلك، وقال عبد الباقي: لا إن شرطا الرجوع لها فلا يصح المبيع إن اختلفت مع القيمة وإلا صح فهذه المسألة من تتمة قوله: ورد بعض المبيع إلخ، واللَّه سبحانه أعلم.

وإتلاف المشتري قبض، يعني أن المشتري إذا أتلف السلعة التي اشتراها يريد وهي في ضمان البائع فإن إتلافه يتنزل منزلة القبض فيلزمه الثمن، ابن عبد السلام: ولا خلاف في ذلك. قال بعض أهل العلم: وسواء كان ذلك بعد علمه بأنه المبيع أو قبل كان بتسلط من البائع له على ذلك أم لا. قاله الشارح. وقال عبد الباقي: وإتلاف المشتري المبيع على البت وقت ضمان البائع قبض لما أتلفه مقوما أو مثليا فيلزمه ثمنه سواء كان في كل المبيع أو بعضه. قال عبد الباقي: وليس له في إتلافه أكثره التمسك بما بقي بحصته من الثمن إلى آخر كلامه. قال بناني: لا معنى لهذا الكلام، لأنه إنما أتلف ما في ملكه. انتهى.

والبائع والأجنبي يوجب الغرم، يعني أن إتلاف البائع للمبيع على البت وهو في ضمان البائع أو المبتاع يوجب الغرم عليه للمشتري ولا يفسخ المبيع، وكذلك إتلاف أجنبي المبيع وقت ضمان البائع أو المشتري يوجب الغرم لمن الضمان منه من بائع أو مشتر. قاله. الباقي. وقال أبو علي: أي وإتلاف البائع والأجنبي المبيع قبل قبضه يوجب عليه غرم القيمة أو مثلها، لأن الملك قد تم فيه للمشتري، وسواء كان يومئذ في ضمان البائع أو المبتاع. وقال بناني: قيد الخرشي تبعا للتتاءي غرم البائع بأن يختار المشتري الإمضاء، أي وله اختيار الفسخ ولا سلف لهما في تخيير

ص: 590

المشتري، بل كلام المدونة صريح في خلافه، ففيها في كتاب الاستحقاق ما نصه: ومن ابتاع من رجل طعاما بعينه ففارقه قبل أن يكتاله فتعدى البائع على الطعام فعليه أن يأتي بطعام مثله، ولا خيار للمبتاع في أخذ دنانيره، ولو هلك الطعام بأمر من اللَّه تعالى انتقض المبيع، وليس للبائع أن يعطي طعاما مثله ولا ذلك عليه. انتهى.

وكذلك إتلافه، قال عبد الباقي: أي إتلاف من ذكر، وأراد إتلاف بعضه بمعنى تعييبه لتضمنه إتلاف بعضه، ولو قال: تعييبه لكان أصرح، فليس مكررا مع ما قبله لأنه في إتلاف جميع المبيع، وهذا في بعضه، فتعييب المشتري قبض له. انتهى. وقال بناني: وكذلك إتلافه، ابن عاشر: الذي في ابن الحاجب: وكذلك تعييبه، وكذا في نسخة ابن مرزوق، ثم قال: والظاهر أن قوله: وكذلك إتلافه تصحيف، صوابه ما في ابن الحاجب: وكذلك تعييبه، فقال في التوضيح: أي تعييب المبيع كإتلافه، فيفصل فيه بين المشتري والبائع والأجنبي، كما تقدم انتهى. يعني أن تعييب البائع والأجنبي يوجب الأرش، وتعييب المشتري قبض له. وقال الرهوني عن الجواهر: وحيث قلنا: إن الضمان من البائع فتلف المبيع انفسخ العقد، وإتلاف البائع والأجنبي لا يفسخ العقد، بل يوجب القيمة، وإذا تعيب المبيع بئافة سماوية وكان ضمانه من البائع فللمبتاع الخيار، فإن أجاز فبكل الثمن ولا أرش له، ولو كان التعييب بجناية جان لكان له مطالبته بالأرش، كان البائع أو أجنبيا، وقد صرح الأيمة بأن إتلاف البائع والأجنبي يوجب الغرم من غير تخيير للمشتري، فكيف ينتفي التخيير في إتلاف الكل ويثبت في التعييب الذي غايته أنه إتلاف للبعض؟ إن هذا لعجب. انتهى. وعلم من هذا أنه لا فرق بين كون إتلاف أو تعييب من ذكر عمدا أو خطئا. واللَّه سبحانه أعلم. وهو ما نقله بناني عن الرماصي، فإنه قال: ظاهر كلامهم الغرم بلا تخيير. قال الرهوني: صدق في أن ذلك ظاهر كلامهم، وكلام الجواهر كاد أن يكون نصا في ذلك. انتهى المراد منه.

وإن أهلك بائع صبرة على الكيل فالمثل تحريا ليوفيه، يعني أن البائع إذا أهلك الصبرة التي باعها على الكيل ككل صاع بدينار مثلا، أو أفاتها ببيع أو غيره، وكان ذلك قبل معرفة كيلها،

ص: 591

فإنه يلزمه أن يأتي بصبرة مثلها على التحري، أي يتحرى قدرها بأن يقال: هذا قدرها فيما نرى، ليوفي للمشتري ما اشتراه منه، وليس للمشتري الخيار في أن يرد المبيع، أو يتمسك به ويأخذ القيمة، لأنه إذا أخذ مثل صبرته التي اشتراها لم يظلم، وإلى ذلك أشار بقوله: ولا خيار لك، أي لا خيار لك يا مشتري في رد البيع والتماسك وأخذ القيمة، وقوله: وإن أهلك بائع، أي عمدا أو خطئا، لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء، قال الشيخ سالم: وإن أهلك بائع صبرة من مثلي طعام أو غيره بيعت على الكيل، ككل إردب بكذا قبل أن يكال تعديا أو خطئا، أو أفاتها بالبيع وذهبت عينها، فالمثل تحريا إلخ، وقال عبد الباقي: وإن أهلك بائع صبرة من مثلي طعام أو غيره كحناء وكتان وعصفر، بيعت على الكيل أو الوزن أو العد، بأن قال للمشتري: أبيعك هذه الصبرة كل صاع أو كل إردب بكذا، وكان إهلاكه لها قبل معرفة كيلها، فالمثل لازم له تحريا لا فيها من الصيعان أو الأرادب، ليوفيه للمشتري، ولا خيار لك يا مشتري في رد البيع والتماسك وأخذ القيمة ولو مع رضى البائع، لأنه يودي لبيع الطعام قبل قبضه، لأنه لا وجب له المثل باعه قبل أن يقبضه، يعني بما يأخذ من القيمة، وأما لو وقع المبيع على آصع معلوم عددها من صبرة ثم أهلكها فإنه يلزمه عدد تلك الآصع، وعلم مما قررنا أنه لا مفهوم لقوله: على الكيل، ولو هلكت بأمر سماوي لكانت من البائع وانتقض المبيع كما قدمه بقوله: والتلف وقت ضمان البائع بسماوي إلخ، فإن جهل كون الهلاك من سماوي أو متلف، فقال ابن القاسم: لا يصدق وعليه أن يوفي ما باع، وإن أهلكها المشتري وعُرِفَت مكيلتها غرم الثمن، فإن جهلت لزمه الثمن تحريا. انتهى. ببعض إيضاح.

‌تنبيهان:

الأول: قال الخرشي: قال الجوهري: الصبرة واحدة صبر الطعام، يقال: اشتريت الشيء صبرة أي بلا كيل ولا وزن، قال الأزهري: سميت بذلك لإفراغ بعضها على بعض، وقال في الذخيرة: الصبرة من الحبس لأنها حبست عن الكيل. انتهى. الثاني: قال الرهوني: أتلف وأهلك وجنى وقتل، كلها تستعمل في الخطإ. انتهى. يعني وفي العمد، كما يفيده كلامه. واللَّه سبحانه أعلم. ولو أهلك البائع الصبرة بعد صرفة كيلها للزمه مثلها.

ص: 592

أو أجنبي فالقيمة إن جهلت المكيلة، يعني أنه لو أتلف الصبرة البيعة على الكيل أجنبي وهو غير البائع والمشتري فإنه تلزمه قيمتها يوم التلف حيث جهلت المكيلة، ولا يلزمه المثل إذ الجزاف مقوم، وسواء أتلفها الأجنبي عمدا أو خطئا، والفرق بين الأجنبي والبائع أنا لو غرمنا الأجنبي المثل لكان مزابنة، لأنها بيع مجهول بمعلوم من جنسه، والغالب على البائع علمه مكيلة ما باعه، فإن عرفت فمثلها. قاله عبد الباقي بزيادة. ثم إذا غرم القيمة للبائع اشترى البائع بها أو ببعضها ما يوفي قدر تحري ما فيها من الصيعان، فإن فضل شيء من القيمة لحصول رخص فإن الفاضل من القيمة عن قدر تحري ما فيها يكون للبائع، إذ لا ظلم على المشتري إذا أخذ مثل ما اشترى، ولأنه لما كان على البائع التَّوَى كان له النما، وإن لم يفضل شيء فإن اشترى بها قدر تحري ما فيها فالأمر واضح، وإن نقص ما اشترى بالقيمة عن قدر تحري ما فيها من الصيعان لحصول غلاء فكالاستحقاق، قال عبد الباقي مفسرا لقوله: فكالاستحقاق، فإن كثر النقص، أي كان الثلث فما فوقه، فللمشتري الفسخ والتماسك بما يخص ذلك من الثمن، وإن نقص ذلك عن الثلث سقط عنه حصته من الثمن، وفهم من قوله: اشترى البائع، أنه هو الذي يتولى الشراء وهو كذلك. ابن أبي زمنين: وهو الذي يدل عليه لفظ الكتاب، وقيل: المشتري، وقيل: الحاكم، لأنه اللزم لذلك أو نائبه، فإن أعدم الأجنبي أو فقد فعلى البائع المثل، فإن أعدم أيضا اتبع أولهما يسارا. انتهى. وفهم من المص أنه لو أتلفها المشتري لكان ذلك قبضا كما مر في قوله: وإتلاف المشتري قبض، وحينئذ فاللازم للمشتري الثمن تحريا إن لم يعلم كيلها؛ وقول ابن الحاجب: إتلاف المشتري الطعام المجهول كيله يوجب القيمة لا المثل وقبول ابن عبد السلام نقله وَهَمٌ. قاله ابن عرفة. فلو عرف كيلها للزم المشتري الثمن كما مر، ولما كان المذهب جواز تصرف المشتري في المبيع بكل وجه من وجوه التصرفات نبه على تصرفه بالعوض، فغيره أحرى بقوله:

ص: 593

وجاز البيع قبل القبض، قال الخرشي: يعني أنه يجوز بيع كل شيء قبل قبضه لخبر: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه. فمفهومه أن غير الطعام يجوز بيعه قبل قبضه، فيخص به عموم خبر زيد بن ثابت:(نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث يبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم)

(1)

. ثم استثنى ما ورد الحديث بمنعه بقوله: إلا مطلق طعام المعاوضة، يعني أن مطلق الطعام ربويا كان أو غيره كالفواكه المأخوذة بمعاوضة يحرم بيعه قبل أن يستوفيه، وإنما قدرنا كل شيء بدليل الاستثناء، لأنه من معيار العموم. انتهى كلام الخرشي. وقال الحطاب: يعني أن من ملك شيئا بوجه من الوجوه يجوز له أن يبيعه قبل أن يقبضه إلا مطلق الطعام، أي سواء كان ربويا أو غير ربوي المأخوذ بمعاوضة. وفي المدونة: وما ابتعت من الطعام بعينه أو بغير عينه كيلا أو وزنا فلا تواعد فيه أحدا قبل قبضه، وقبض الوكيل كقبض موكله، فيجوز له المبيع به. وقال عبد الباقي: وجاز لمشتر وموهوب شيئا المبيع قبل القبض له من بائعه وواهبه إلا مطلق طعام المعاوضة في مقابلة شيء، وأراد بمطلقه ربويا كقمح وشعير، وغيره كتفاح ورمان وكل فاكهة، فيمنع بيعه قبل قبضه، وضابط منع بيع الطعام قبل قبضه أن يتوالى فيه عقدتا بيع لم يتخللهما قبض. انتهى. وقال بناني عند قوله: إلا مطلق طعام المعاوضة ما نصه: ورد النهي عن ذلك في الموطأ والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله. قال في التوضيح: والصحيح عند أهل المذهب أن منع بيع الطعام قبل قبضه متعبد به، وقيل: معقول المعنى لأن أهل العينة كانوا يتوصلون إلى الفساد ببيعه قبل قبضه، فنهي عن ذلك سدا للذريعة، وقيل: لكون الشارع له غرض في ظهوره، فلو أجيز لباعه أهل الأموال بعضهم من بعض من غير ظهور، بخلاف ما إذا منع من ذلك، فإنه ينتفع به الكيال والحمال ويظهر للفقراء، وتقْوَى به قلوب الناس، سيما في زمن مسغبة أو شدة.

(1)

أبو داود، رقم الحديث 3499.

ص: 594

‌تنبيه:

قال ابن عرفة: والمواعدة على الطعام قبل قبضه كالمواعدة على النكاح في العِدَّة، والتعريض في بيع الطعام قبل قبضه كالتعريض في نكاح المعتدة. ولو كرزق قاض، يعني أن رزق القاضي من جملة طعام المعاوضة فلا يحل بيعه قبل قبضه خلافا لمن قال بجوازه، لأنه عن فعل غير محصور فأشبه العطية، والمراد برزق القاضي خصوص الطعام لا مطلق ما ينتفع به، ودخل بالكاف من هو قائم بمصالح المسلمين، كأيمة المساجد والمؤذنين، وأصحاب السوق أي مشايخه، والقسام والكتاب والجند، ممن جعل لهم ذلك في بيت المال، وكذا العلماء إن جعل لهم ذلك في مقابلة تعليمهم للناس، لا على وجه الصدقة، ولا من اشترى علوفة بشُون حيث كان من أهل الصدقة، إذ الأصل أن السلطان وضعها للصدقة، وأخذ الثمن من المشتري تَعَدٍّ فيجوز بيع كل قبل قبضه، فإن لم يكن من أهل الصدقة لم يجز له المبيع قبل القبض كما لا يجوز له أصل الشراء، قرره الأجهوري. ودخل بالكاف أيضا طعام جعل صداقا أو خلعا فيمنع بيعه قبل قبضه لا ما أخذ عن مستهلك عمدا أو خطئا فيجوز بيعه قبل قبضه. انتهى. قوله: ولا من اشترى علوفة إلخ، هي خراج من الطعام حبسه السلطان على ذوي صفة يستحقه من يسكنها، ثم يشتري أجنبي رفع اليد عنه ممن فيها بدراهم مثلا فيجوز بيعه قبل قبضه، لأنه في الأصل صدقة. قاله بناني. وقال عبد الباقي: والظاهر أن المثلي إذا بيع بيعا فاسدا وفات فوجب مثله ليس بمنزلة ما أخذ عن متلف كأنه صار بمنزلة ما بيع بيعا صحيحا. انتهى. قال بناني: ديه نظر، بل هو كالمأخوذ عن متلف، لأن لزوم المثل فسخ للفساد لا إمضاء. تأمل. انتهى. وقوله: بشون هو بالشين المعجمة المضمومة وبالنون موضع خزن الطعام، وقال الرهوني: جواز بيع المستهلك من الطعام قبل قبضه الظاهر أنه على قول ابن المواز، لا على ما لعبد الوهاب من أنه لا يأخذ عن المستهلك طعاما إذ المبيع أحرى من ذلك. انتهى. والجواز هو الراجح.

أخذ بكيل، يعني أن منع بيع الطعام قبل قبضه إنما هو حيث كان مأخوذا بكيل أو وزن أو عدد لا جزاف، فيجوز بيعه قبل قبضه على الأصح لدخوله في ضمان المشتري بالعقد، فهو في حكم المقبوض، فليس فيه توالي عقدتي بيع لم يتخللهما قبض، وقوله: أخذ، حال؛ والمعنى أن

ص: 595

الطعام المنهي عن بيعه قبل قبضه هو ما أخذ بكيل أي أو وزن أو عدد، وقال المواق: من استهلك لإنسان مكيلة طعام هل له أن يغَرِّمَه ثمنه؟ قال عبد الوهاب: هو بيع الطعام قبل قبضه، وأجاز ذلك محمد بن المواز، وما وجب من الطعام للمرأة في نفقتها، الصحيح أنه يجوز [أن تأخذ]

(1)

فيه ثمنا، وكذلك ما تنفقه على أولادها.

أو كلبن شاة، عطف على أخذ بكيل، يعني أن مطلق طعام المعاوضة يمنع بيعه قبل قبضه حيث أخذ بكيل أو كان جزافا لا يدخل في ضمان المشتري بالعقد كلبن شاة، قال عبد الباقي: لأنه يشبه الطعام المكيل نظرا إلى كونه في ضمان البائع وهذا هو المشهور وهو قول ابن القاسم، وأجازه أشهب نظرا إلى كونه جزافا. قال عبد الباقي: ومثله شراء ثمر حائط غائب على الصفة جزافا فيمنع بيعه قبل قبضه. انتهى. قال الرهوني: مثله في المواق عن التونسي وهو مبني على جواز بيعها ابتداء، وتقدم عند قوله "وجزاف إن ريء" أن الصواب خلافه. انتهى. قوله: أو كلبن شاة، قال عبد الباقي: وسيأتي في المسلم جواز بيع لبن شاة أو شياه بالمدة إذا علم قدر ما تحلب تحريا، فإنما يجوز إذا كانت معينة وأن تكثر كالعشرة لا ما يفعله الفلاحون ويسمونه الضمان فإنه فاسد، فيرجع مالك البهيمة بمثل اللبن إن علم قدره، وإلا فبقيمته يوم قبضه، ويرجع عليه الآخذ بكلفة البهيمة كما أفتى به الوالد. انتهى. قوله: أو كلبن شاة، قال بناني: حمله التتائي وتبعه الزرقاني والخرشي على الواحدة لقولهم: لبن شاة أو شياه، كما هو ظاهر المص وهو غير صحيح، ولذا قال المواق: لو قال: لبن شياه، لكان أصوب، لأن الحكم بمنع المبيع قبل القبض.

‌فرع:

كون العقد المشترط فيه القبض جائزا، واشتراء لبن شاة جزافا أو شاتين جزافا غير جائز، إنما يجوز في العدد الكثير كالعشرة كما في المدونة، إلا أن يريد بالشاة الجنس، ففيها في كتاب التجارة: ومن اشترى لبن غنم بأعيانها جزافا شهرا أو شهرين أو إلى أجل لا ينقضي اللبن قبله، فإن كانت غنما يسيرة كشاة أو شاتين لم يجز إذ ليست بمأمونة، وذلك جائز فيما كثر من الغنم كالعشرة ونحوها إن كان في الإبان وعرف وجه حلابها، وإن لم يعرف وجهه لم يجز ذلك.

(1)

ساقط من الأصل والمثبت من المواق ج 6 ص 423 ط دار الكتب العلمية.

ص: 596

انتهى. أبو الحسن: فالشروط خمسة: أن يكون إلى أجل، وأن يكون الأجل لا ينقضي اللبن قبله، وأن تكثر الغنم، وأن يعرفا وجه الحلاب، وأن يكون في الإبان. انتهى. وكلها مأخوذة من المدونة. انتهى. ولما كان لابد في جواز بيع الطعام من قبض قوي لا ضعيف فلا يكفي أشار للضعيف بقوله:

ولم يقبض من نفسه قيد في المفهوم، أي وبعد القبض جاز إن لم يقبض من نفسه لنفسه، وأما إن قبض من نفسه لنفسه فإن ذلك قبض ضعيف فلا يجوز بيعه بذلك القبض لأنه كلا قبض، وصورة ذلك أن من كان عنده طعام وديعة أو شبهها فاشتراه من مالكه فإنه لا يجوز له بيعه بالقبض السابق على الشراء، لأن ذلك القبض السابق لم يكن قبضا تاما، بدليل أن رب الطعام لو أراد إزالته من يده ومنعه من التصرف فيه كان له ذلك. انتهى. أي لأنه لم يدخل في ملك المشتري، لأنه لم يشتره إذ ذاك، وإنما اشتراه بعد ذلك، وأما تفسير المص بأن معناه: شخص وكل على شراء طعام فاشتراه فصار بيده فيمنع أن يبيعه لنفسه، ولو أذن له موكله، أو أنه وكل على بيع طعام اشتراه الموكل ولم يقبضه فقبضه الوكيل فيمنع أن يشتريه لنفسه؛ فإن المنع في هاتين الصورتين غير صحيح، بل هما جائزتان مع الإذن، ممنوعتان مع عدمه، كما يأتي في باب الوكالة، لأن يد الوكيل كيد الموكل كما حققه غير واحد وإن كان المص شرح به وبالتفسير الذي صدرت به المص كلام ابن الحاجب الماثل لكلام المص، ولا دليل له في كلام المدونة وهو: وإن أعطاك بعد الأجل عينا أو عرضا فقال لك: اشتر به طعاما وكِلْهُ ثم اقبض حقلث، لم يجز إلا أن يكون رأس مالك ذهبا أو ورقا فيجوز بمعنى الإقالة. انتهى. لوجود علة المنع في مسألة المدونة، وهي بيع الطعام قبل قبضه، أي لأن من له دين الطعام إذا وكله الدين على شرائه وقبضه لنفسه يتهم على عدم الشراء وإمساك الثمن لنفسه، فيكون قد باع به طعام الدين قبل قبضه، فليست علة المنع فيها هي القبض من نفسه، بل اتهامه على بيع ما في ذمة الموكل من الطعام قبل قبضه. انظر حاشية الشيخ بناني. قال الرهوني: هذا صحيح ويشهد له ما قاله عبد الحق من أنه: إذا ثبت أنه اشترى مضى ذلك ونفذ بينهما. انتهى.

ص: 597

إلا كوصي ليتيميه مستثنى من مفهوم: ولم يقبض من نفسه، أي وأما إن قبض من نفسه فإن ذلك لا يجوز إلا أن يَقوَى القبض بأن يكون القابض من نفسه ممن يتولى الطرفين، كالوصي ليتيميه، والوالد لولديه المحجورين، والسيد لعبديه، فإذا باع الولي طعام أحدهما من الآخر وتولى المبيع والشراء عليهما كان له بعد ذلك أن يبيع ذلك الطعام على من اشتراه له قبل قبضه قبضا ثانيا، قال عبد الباقي: إلا أن يكون القابض من نفسه ممن يتولى طرفي العقد كوصي ليتيميه، ووالد لولديه، وسيد لعبديه، ممن قبضه قوي، فإذا باع طعام أحدهما أي من الآخر وتولى المبيع والشراء عليهما، كان له أن يبيع ذلك الطعام على من اشتراه له لأجنبي قبل أن يقبضه قبضا ثانيا، كذا صوره في توضيحه عن ابن عبد السلام.

وجاز بالعقد جزاف، هذا مفهوم قوله: أخذ بكيل، يعني أنه يجوز للمشتري بمجرد العقد بيع طعام اشتري جزافا فيبيعه قبل القبض، والمراد به الجزاف الذي يدخل في ضمان المشتري بالعقد، وأما ما في ضمان البائع فكالمكيل كما أشار إليه بقوله: أو كلبن شاة.

وكصدقة، هذا مفهوم قوله: المعاوضة، يعني أن من تصدق على أحد بطعام أو وهبه له لغير ثواب فإنه يجوز له أن يبيعه قبل أن يقبضه، وأما الهبة للثواب فبيع، وبيع طعام السلف قبل قبضه جائز بلا خلاف. قاله أبو علي. وقال عبد الباقي: وصرح بمفهوم طعام المعاوضة بقوله: وكصدقة بطعام وهبة لغير ثواب، كمثل فعل عمر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ترتيب طعام لهن من بيت المال، فإذا فعل حاكم زمننا مثل ذلك لزوجة عالم مثلا فلها بيعه قبل أن تقبضه كما قال مالك، لعدم توالي عقدتي بيع ليس بينهما قبض. انتهى. وقال المواق: من الواضحة: كل ما ارتزقه القضاة والكتاب والمؤذنون وصاحب السوق من الطعام فلا يبعه حتى يستوفى، فأما ما كان صلة أو عطية يريد أو هبة أو ميراثا. قال مالك في العتبية: أو مثل ما فرض عمر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من الأرزاق من الطعام فلا بأس ببيع هذا كله قبل قبضه. انتهى. وقال محمد بن الحسن عند قوله: وكصدقة، ما نصه: ويقيد الجواز بما إذا لم يكن التصدق اشتراه وتصدق به قبل القبض، وإلا فالمتصدِّق عليه لا يبيعه حتى يقبضه. انظر المواق. قال في الجلاب: من ابتاع طعاما بكيل ثم أقرضه رجلا أو وهبه له أو قضاه رجلا عن قرض كان له عليه فلا يبعه أحد ممن

ص: 598

صار إليه ذلك الطعام حتى يقبضه. انتهى. وقال الشارح: ونبه بكاف التشبيه على أن ما كان بغير معاوضة كالهبة والقرض فإن حكمه كذلك في جواز المبيع فيه قبل القبض كما سبق.

‌تنبيه:

قال الشارح: وقد روي في العتبية عن مالك أن من اشترى نصف ثمرة بعد ما بدا صلاحها ليس له بيعها حتى يستوفيه. قال ابن القاسم: ثم سألناه فأجاز بيعه نظرا إلى أنه جزاف، واختلف عن مالك إذا باع شجرا واستثنى ثمرته هل يجوز له بيع الثمرة قبل قبضها وهو اختيار ابن عبد الحكم والأبهري؟ أو لا يجوز، والأول أظهر، لأن المستثنى مبَقًّى، والثاني مبني على أنه مشترًى. انتهى. وتلخص مما مر أن ما كان من الطعام مأخوذا على المعاوضة لا يجوز بيعه قبل قبضه، وما كان على غير ذلك يجوز بيعه قبل قبضه. قال المواق: من المدونة قال مالك: كل طعام ابتعته بعينه أو مضمونا على كيل أو وزن أو عدد مما يدخر أو لا يدخر فلا يجوز أن تبيعه من بائعك أو غيره حتى تستوفيه، إلا أن تقيل منه أو تشرك فيه أو توليه، وكذلك كل طعام أو شراب عدا الماء، قال مالك: وكل ما اكتريت به أو صالحت عن دم عمدا وخالعت به من طعام بعينه أو مضمون على كيل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه. ابن عرفة: والمشهور أن الطعام غير الربوي كالربوي. انتهى. وللشيخ أبي علي:

وكل عقد من عقود العوض

كالبيع والنكاح فافهم ما ارتضي

فوصله بمثله حرام

لعلة يعلمها الأعلام

إن لم يكن بينهما قبض علم

والحمد للَّه على ما قد فهم

وبيع ما على مكاتب منه: أي من المكاتب، يعني أنه إذا كان على العبد المكاتب طعام لسيده المكاتب له فإنه يجوز للسيد أن يبيع لعبده المكاتب الطعام الذي عليه قبل قبضه، بأن يأخذ عن الطعام عرضا مثلا أو عينا، قال عبد الباقي: وبيع ما أي طعام على مكاتب منه أي من المكاتب

ص: 599

بعرض أو عين قبل قبضه منه في نجوم الكتابة، لأنه يغتفر بين السيد وعبده ما لا يغتفر بين غيرهما، هذا هو الذي يفسر به المص، وأما قول عبد الباقي: ويحتمل أن يريد أن العبد إذا اشترى طعاما من غيره ولم يقبضه فإنه يجوز لسيده أن يكاتبه عليه ويقبضه ممن اشتراه العبد منه، فقال الرهوني: هذا الاحتمال لا يقبله لفظ المص إذ لا يقال فيما اشتراه المكاتب: إنه عليه فتأمله. انتهى. وقال بناني: هذا احتمال بعيد من كلام المص. انتهى. فالمص تابع للمدونة. قال المواق: من المدونة قال مالك: إن كاتبت عبدك بطعام موصوف إلى أجل جاز أن تبيعه من المكاتب خاصة قبل الأجل بعرض أو عين وإن لم تتعجله، ولا تبع ذلك الطعام من أجنبي حتى تقبضه. انتهى. وقال عبد الباقي بعد الاحتمال الذي رده الرهوني واستبعده محمد بن الحسن: وانظر هل للسيد في هذه أن يبيعه ثانيا للمكاتب قبل قبضه من بائعه وهو ظاهر التعليل وإن توالى في هذه ثلاث عقد لم يتخللها قبض أم لا؟ انتهى. قال الرهوني: قوله: وانظر هل للسيد في هذه أن يبيعه ثانيا، إلى قوله: وهو ظاهر إلخ، فيه نظر، لأن التعليل السابق وهو قوله: لأنه يغتفر بين السيد وعبده، لا يطرد في كل صورة، بل ذلك حيث يرجى حصول العتق به أو يؤدي إلى التخفيف على المكاتب، ويدل على هذا قول المص: وهل إن عجل العتق، والظاهر في هذه الصورة المنع بلا توقف، وقد نص في المدونة وغيرها على حرمة الربا بين السيد وعبده، ونحو ذلك مما يؤدي إلى حرمة العقد إلا ما يرجع لما ذكرناه. فتأمله. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: وبيع ما على مكاتب منه، أي يجوز للسيد أن يبيع للمكاتب نفسه ما عليه من الكتابة قبل قبضها، يريد وإن لم يأت الأجل، وقاله في المدونة. قال فيها: ولا يجوز بيع ذلك لأجنبي حتى يقبضه. قال ابن حبيب: إلا أن يكون تافها يسيرا. قاله مالك في المدونة. انتهى.

وهل إن عجل العتق، يعني أنه اختلف في جواز بيع ما على المكاتب من الطعام من المكاتب نفسه هل محله إن عجل العتق بأن يبيعه جميع ما عليه وإلا فلا يجوز؟ أو يجوز ذلك مطلقا عجل العتق أم لا، في ذلك تأويلان، قال الرهوني: لم يترض أحد ممن وقفنا عليه من شارح أو محش لعزوهما، وعزا ابن ناجي الأول لظاهر اختصار ابن يونس وأجمل، ونحوه لأبي الحسن، وقال أبو علي: إن كلام المص في الكتابة ربما يدل على ترجيح الإطلاق فانظره. واللَّه أعلم.

ص: 600

انتهى. وقال المواق: سحنون: لا يجوز أن تبيع من المكاتب نجما مما عليه من الطعام لأنه بيع الطعام قبل قبضه، وإنما يجوز أن تبيعه جميع ما عليه، فيعتق بذلك. ابن يونس: وقيل: يجوز ذلك وإن لم يتعجل حقه. انتهى. إن عجل العتق بأن باعه السيد جميع الكتابة، وينبغي أن يكون مثل ذلك ما إذا باعه بعض النجوم وأبقى النجوم الباقية لأجلها وعجل عتقه. انتهى.

وإقراضه، الضمير يرجع لطعام المعاوضة، والمعنى أن طعام المعاوضة يجوز إقراضه قبل قبضه، فإذا اشتريت من إنسان إردب حنطة مثلا فإنه يجوز لك أن تقرضه لشخص قبل قبضه، إذ ليس في ذلك توالي عقدتي بيع لم يتخللهما قبض، فلم يوجد بيع الطعام قبل قبضه. قاله الخرشي. وقال المواق: ابن بشير: يجوز قرض ما بيع قبل قبضه، وعبارة اللخمي: يجوز لمن له سلم أن يقرضه قبل قبضه. قاله في المدونة. وإذا قبضه وكيله فله أن يبيعه منه أو من غيره، لأن ما قبضه الوكيل دخل في ضمان الموكل، بخلاف ما قبضه التسلف فلم يدخل بعد في ضمان السلف، فإن باعه فهو بيع طعام سلم قبل قبضه. انتهى. وقال بناني: قال في المدونة: وإن ابتعت طعاما فلم تقبضه حتى أسلفته رجلا فقبضه التسلف فلا يعجبني أن تبيعه منه قبل قبضه. انتهى. أو وفاؤه عن قرض، يعني أن طعام المعاوضة يجوز وفاؤه قبل قبضه عن قرض، مثاله: لو كان عليك لرجل إردب قمح عن قرض ثم اشتريت إردبا من القمح فإنه يجوز لك قبل أن تقبضه أن تقضي به ذلك الرجل وفاء عن إردب قمحه القرض الذي عليك، وأما لو كان الإردب الذي عليك من بيع فليس لك أن توفيه بالإردب الذي اشتريته ما لم تقبضه.

وبيعه لمقترض، الجار والمجرور يتعلق بجاز المدلول عليه بالعطف، يعني أنه يجوز لمن اقترض إردب قمح مثلا أن يبيعه قبل قبضه، وسواء باعه لأجنبي أو للمقرض، واعلم أن القرض يملك بالقول وإن لم يقبض، ومحل الجواز إذا اقترضه ممن لم يشتره، أو ممن اشتراه والحال أن المشتري قبضه، وأما إن اقترضه من المشتري له قبل قبض المشتري له فإنه لا يجوز للمقترض حينئذ بيعه.

ص: 601

تنبيه: قال عبد الباقي وبيعه لمقترض أي جاز لمقترض طعام غير المعاوضة بيعه قبل قبضه، وأما طعام المعاوضة فليس لقرضه بيعه قبل قبضه وله ذلك بعده. انتهى. يعني أن من ابتاع طعاما فلم يقبضه حتى أسلفه لرجل فقبضه الرجل التسلف له فإنه لا يجوز للمسلف بالكسر أن يبيع ما له قبل المتسلف من عوض ما دفعه له حتى يقبضه السلف، أي لا يجوز له أن يبيعه للمتسلف ولا الغريم حتى يقبضه، فإن قبضه هو أو وكيله جاز بيعه للمتسلف وغيره، وقد مر إيضاح ذلك قريبا، فكلام عبد الباقي صحيح بلا شك؛ واعلم أنه يجوز للمقرض أن يبيع للمقترض ما عليه من القرض ولغيره قبل أن يقبضه وقد مر ذلك.

‌مسألة:

قد مر أن قول المص: وبيعه لمقترض، شامل لبيع المقترض للمقرض ولغيره، فإذا باعه للمقرض بطعام فإن ذلك يمنع مطلقا، سواء باعه بطعام حال أو مؤجل، لأن القرض يستلزم الأجل في القرض فيدخله ربا النساء مطلقا. ابن عرفة: ظاهر ابن عبد السلام جواز بيعه ممن أقرضه مطلقا وليس كذلك، لأنه إذا دفع فيه القرض لمن أقرضه ثمنا فإنما هو ثمن على ما يقبضه بعد ذلك، وما خرج من اليد وعاد إليها كأنه لم يخرج، فعلى هذا لو استقرضه قفيز قمح لم يجز له بيعه بزيت ونحوه، لأنه طعام بطعام، ولا بدراهم إلا أن يكون القرض إلى مثل أجل السلم قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال المواق: وبيعه لمقترض، هذا إن كان المبيع من غير المقرض، وأما إن باعه أي المقترض من المقرض، فقال ابن عرفة: الثمن الذي يعطى المقرض إنما هو ثمن على ما يقبض من المقترض فيُراعَى أجل السلم والطعام بالطعام. انتهى. قوله فيُراعَى أجل السلم، أي فإذا أخذ المقترض من القرض دينارا مثلا فما خرج من يد المقرض بالكسر وعاد إليه يعد لغوا، فكأن المقرض أسلم للمقترض دينارا يأخذ عنه بعد ذلك من المقترض طعاما، فيشترط في القرض حينئذ أن لا ينقص عن أجل المسلم.

وإقالة من الجميع، يعني أن الإقالة في الطعام قبل قبضه تجوز إذا كان التقايُل من جميع المبيع، ابن عرفة: الإقالة ترك المبيع لبائعه بثمنه وأكثر استعمالها قبل قبض المبيع وهي رخصة وعزيمة، الأولى فيما يمتنع بيعه قبل قبضه، وشرطها عدم تغير الثمن بما تختلف به الأغراض غالبا. فيها: لا تجوز بغير الثمن، ولا عليه وأخذ غيره عنه، ولا به مع زيادة عليه، ولا مع

ص: 602

تأخيره ولو ساعة، ولو برهن أو حميل أو حوالة. قاله بناني. وقال عبد الباقي: وإقالة من الجميع قبل قبضه بأن يرده لربه على الثمن وصفة العقد، لأنها حل بيع، ويشترط كونها بمثل الثمن الأول لا بزيادة أو نقص، فيمنع في الجميع لأنها حينئد بيع مؤتنف، وإذا كان في سلم وجب فيه تعجيل رأس المال ليلا يؤدي إلى فسخ دين في دين، بخلاف تأخير رأس مال السلم في غير الإقالة، فيجوز ثلاثا، كما سيذكر المص ولو بالشرط، لأن اللازم فيه ابتداء دين بدين وهو أخف من فسخ دين في دين الذي هو لازم هنا، وسواء فيما ذكر المص كان رأس المال عينا أو عرضا، غاب عليه المسلم أو البائع أم لا، ومفهوم من الجميع المنع من الإقالة من البعض وأخذ البعض بعد الأجل أو قبله، كما في أحمد عن المدونة، بعد غيبة البائع على ثمنه مثليا بأن لا يعرف بعينه طعاما أو غيره، لأنه بيع وسلف مع ما في الطعام من بيعه قبل قبضه ولو أحضر المثلي عند الإقالة، لأن الغيبة عليه تعد سلفا، فإن لم يغب عليه أو كان مما يرى بعينه كعرض جازت من البعض، ففي المفهوم تفصيل. انتهى. وقال المواق: قال ابن القاسم: وإن أسلمت إلى رجل ثيابا في طعام فأقلته من نصف الطعام قبل الأجل أو بعده على أن يرد عليك نصف ثيابك التي دفعت إليه بعينها وقد حال سوقها أم لا فلا بأس بذلك، بخلاف أن يكون رأس المال دراهم أو ما لا يعرف بعينه. انتهى. وقال الخرشي: وإقالة من الجميع، أي من جميع الطعام المشترى قبل قبضه، بأن يتركه المشتري لبائعه بثمنه لأنها حل بيع لا بيع، ومفهوم قوله: من الجميع، لو وقعت في البعض جازت إن كان رأس المال عرضا يرى بعينه غاب عليه أم لا، انتهى المراد منه. وبالغ على جواز الإقالة في الطعام قبل قبضه بقوله:

وإن تغير سوق شيئك، يعني أنه تجوز الإقالة من جميع الطعام المبيع قبل قبضه على ثمن الطعام أي ما دفعته فيه بنفسه وإن كان هذا الثمن قد تغير سوقه، قال المواق: من المدونة: أجاز مالك لمن أسلم دابة في طعام أن يقيل منه بعد شهرين ويأخذها، والدواب تحول أسواقها في شهرين فلا يفيت الإقالةَ حوالةُ سوق رأس المال إلا أن يحول رأس المال في عينه بنماء أو نقصان بيِّنٍ عور أو عيب، فلا يجوز حينئذ أن يُقيله من الطعام كله ولا من بعضة، والنماء بمنزلة الصغير يكبر،

ص: 603

وذهاب بياض العين، وزوال الصمم به؛ فهذه تفيت الإقالة. انتهى. وقال عبد الباقي: وبالغ على جوازها في الإقالة من جميعه بقوله: وإن تغير سوق شيئك يا مشتري المدفوع ثمنا ولو دابة في الطعام المقال فيه قبل قبضه بغلاء أو رخص، لأن الدار على عينها وهي باقية، وعدل عن ثمنك إلى شيئك، ليلا يتوهم أن المراد بالثمن العين الذهب والفضة إذ هي الغالب فيه.

لا يدنه، يعني أن تغير بدن الشيء المدفوع في الطعام ليس كتغير سوقه، فإذا أسلمت إليه دابة في طعام فسمنت الدابة أو هزلت، أي طرأ لها ما ذكر بعد المبيع فإنه لا تجوز الإقالة على رأس المال حينئذ قبل قبض الطعام المسلم فيه، لأنها حينئذ بيع مؤتنف ففيه بيع الطعام قبل قبضه، وإلى هذا أشار المص بقوله:

كسمن دابة وهزالها، قال عبد الباقي: لا إن تغير بدنه كسمن دابة وهزالها، فلا تجوز الإقالة لأنها حينئذ بيع مؤتنف لتغير رأس المال فيلزم بيع الطعام قبل قبضه. بخلاف الأمة، يعني أن تغير الأمة بسمن أو هزال لا يفيت الإقالة المذكورة، فإذا جُعِلَت رأسَ المال في الطعام ثم بعد ذلك تغيرت بسمن أو هزال فإنه تجوز الإقالة عليها في ذلك الطعام قبل قبضه؛ قال المواق: من المدونة: لو كان رأس المال جارية فتغيرت في بدنها بهزال أو سمن لم تفت الإقالة، ولو كانت دابة كان السمن والهزال مفيتا للإقالة، لأن الدواب تشترى لشحمها، والرقيق ليسوا كذلك، وقال يحيى: ذلك في الأمة والدابة سواء ولا يجوز؛ ابن يونس: وهو الصواب. انتهى. وقال عبد الباقي: بخلاف تغير الأمة بسمن أو هزال فلا يفيت الإقالة، والعبد أولى. وقال ابن عرفة: الأظهر أن ما يراد من الرقيق للخدمة كالدابة. وقال يحيى: الرقيق والدواب سواء. ابن يونس: وهو الصواب. قاله التتائي؛ وظاهره كانت أمة وطء أم لا، وقولنا: بسمن أو هزال، مثله في المدونة، ويفهم من ذلك أن الأمة لو تغيرت بعور أو قطع عضو لكان ذلك مفيتا وهو ظاهر. قاله أحمد. وولادة الأمة تمنع الإقالة في طعام السلم لتغيرها بزيادة الولد، فإن مات وزال تغير نفاسها جازت. انتهى.

(ومثل مثليك) عطف على بدنه؛ قاله أبو علي. يعني أنه لا تجوز الإقالة في الطعام قبل قبضه إلا على نفس الثمن الذي دفعته فيه، فلو دفعت إليه موزونا أو مكيلا أو معدودا في طعام على الكيل،

ص: 604

فلا يجوز أن تتقايلا فيه قبل قبضه إلا على عين ما دفعته له، فلا يجوز أن تتقايلا على مثله، قال المواق: من المدونة: لو كان رأس المال عرضا يكال أو يوزن أو يعد، أو طعاما أسلمته في عرض فأقالك، لم يكن لك إلا ذلك بعينه، لأن ذلك يباع لعينه والدراهم لا تباع لعينها، فإن أسلمت إليه دراهم في طعام أو غيره ثم أقالك بعد التفرق ودراهمك في يده، فإن أراد أن يعطيك غيرها مثلها فله ذلك، وإن كرهت اشترطت استرجاعها بعينها أم لا، ابن يونس: لأنه لما قبضها صارت في ذمته، فإذا أعطاك مثلها لم يظلمك، يريد وكذلك في البيع الناجز. ابن يونس: رُويَ أن ابن القاسم رجع عن هذا وهو أحسن. قوله: أو طعاما أسلمته في عرض إلخ، يأتي معناه قريبا إن شاء اللَّه عند قوله: فله دفع مثلها وإن كانت بيده.

إلا العين، يعني أن العين ليست كغيرها من المثليات، فإنه تجوز الإقالة على مثلها في الطعام المكيل قبل قبضه، واعلم أنه لا فرق بين السلم وغيره في هذا، فلا تجوز الإقالة على مثل المثلي في الطعام قبل قبضه، كانت العقدة سلما أم لا، إلا المعين فتجوز الإقالة على مثلها في السلم وغيره.

فله دفع مثلها وإن كانت بيده، يعني أنهما إذا تقايلا في سلم أو في بيع النقد كان المبيع طعاما أو غيره والحال أن الثمن المدفوع دراهم أو دنانير، فإنه يجوز لمن دفعت له العين أن يمسكها ويدفع مثلها لمن خرجت من يده وإن كانت الدراهم أو الدنانير قائمة بيد من دفعت له، ومن المدونة: وكل ما ابتعته مما يكال أو يوزن من طعام أو عرض فقبضته فأتلفته فجائز أن تقيل منه، وترد مثله بعد علم البائع بهلاكه وبعد أن يكون المثل حاضرا عندك وتدفعه إليه بموضع قبضته وإن حالت الأسواق، وكذلك لو اغتصبته وأتلفته فإنما عليك مثله لا قيمته وإن حال سوقه، وتدفعه إليه بموضع غصبته منه. ابن يونس: وهذا إذا كان الموضع الذي نقله إليه قريبا، وأما إن كان الموضع بعيدا صارت إقالة على تأخير فلا يجوز ذلك. انتهى. وكلام المص فيما إذا أسلم المثلي في طعام، وأما لو أسلم المثلي في غير الطعام فتجوز الإقالة على مثل المثلي. قاله عبد الباقي. وقال: وذكر التتائي أن من أسلم طعاما في عرض لا تجوز الإقالة على مثله، وإنما تجوز على عينه. قال بناني: ومثله في المواق عن المدونة وهو مشكل، إذ لا وجه لمنع الإقالة على المثل في

ص: 605

طعام أسلم في عَرض؛ وأجاب أبو الحسن بأن معنى ما في المدونة بالنظر إلى المسلم في غير الطعام أنه لا يمضي على البائع إلا برضاه، لا أن معناه لا يجوز. فانظره. انتهى.

والإقالة بيع، يعني أن الإقالة بيع من البيوع يشترط فيها ما يشترط فيه، ويمنع فيها ما يمنع فيه، فلا تصح عند أذان الجمعة، ولا إن أبق العبد المبيع، ويراعَى فيها ما يراعَى في المبيع، فلو وقعت وقت نداء الجمعة فسخت، وظاهر المص في فصل الجمعة حتى في المستثنيات الثلاثة الآتية، ولو حدث بالمبيع عيب وقت ضمان المشتري ولم يعلم به البائع إلا بعد الإقالة فله الرد به، وفي المواق: من المدونة: الإقالة عند مالك بيع حادث في كل شيء. انتهى المراد منه. وقال في المدونة: وإن صارفت رجلا ثم لقيته بعد ذلك فأقلته ودفعت إليه دنانيره وفارقته قبل أن تقبض دراهمك لم يجز، والإقالة هاهنا بيع حادث، وقيل: إن الإقالة فسخ فيه، فينبني على الخلاف لو باع ثمرا بعد زهوه ثم يقيل منه بعد يبسه فإن كانت حَلًّا جاز، لا إن كانت بيعا، لما فيه من اقتضاء الطعام عن ثمن الطعام، فلو فلس المشتري لجاز أخذ اليابس اتفاقا. قاله أبو علي.

إلا في الطعام، يعني أن الإقالة بيع فيما عدا هذه المستثنيات، وهي: الطعام قبل قبضه، فإذا اشتريت طعاما على الكيل أو أسلمت فيه فإنه يجوز لك أن تتقايل فيه مع البائع قبل قبضك له، وليس في ذلك بيع الطعام قبل قبضه للحديث:(من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شركة وتولية وإقالة)

(1)

. فالإقالة في الطعام قبل قبضه حَلٌّ للبيع. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: إلا في الطعام قبل قبضه فليس لها حكمه إن وقعت بمثل الثمن الأول فيه، فإن وقعت بزيادة أو نقص عنه فبيع مؤنتف. انتهى.

والشفعة، يعني أن الإقالة في الشفعة ليست بيعا ولا حل بيع بل هي باطلة شرعا، فهي كالمعدوم حسا، والشفعة مرتبة على المبيع الأول، والعهدة فيها على المشتري الأول. والمرابحة، يعني أن الإقالة ليست بيعا في المرابحة. قال عبد الباقي: فإذا اشترى شيئا بعشرة مثلا وباعه مرابحة بخمسة عشر، ثم تقايلا على الثمن الثاني فلا يبيع به مرابحة إلا مع بيان الإقالة، لأنها غير

(1)

أبو داود، كتاب البيوع، رقم الحديث 3492.

ص: 606

بيع، وإنما يبيعه مرابحة على عشرة مع بيان أنه وقعت فيه إقالة لكراهة النفوس لما رُدَّ، كما بحثه أحمد عند قول المص: وإقالة مشتريه، ويأتي أن المعتمد عدم بيانه إذا باع على عشرة مرابحة. انتهى. وقال بناني: ابن عرفة: الإقالة في المرابحة بيع، وإنما وجب التبيين من أجل أن المبتاع قد يكره ذلك. انتهى.

وتولية، بالرفع عطف على قوله: وإقالة من الجميع، يعني أنه تجوز التولية في الطعام قبل قبضه، وصورة ذلك أن تشتري طعاما على الكيل ثم تجعله لغيرك ويدفع لك مثل ما اشتريته به، فإن ذلك جائز قبل قبض المولي بالكسر للطعام، قال المواق: ابن عرفة: التولية تصيير مشتر ما اشتراه لغير بائعه بثمنه، وهي في الطعام غير جزاف قبل كيله رخصة للحديث، وشرطها كون الثمن عينا. ابن حبيب: فما ثمنه إجارة أو كراء لا تجوز توليته. وشركة، بالرفع يعني أنه تجوز الشركة في الطعام قبل قبضه، وهي تولية لبعض المبيع بمنابه من الثمن. قال المواق: ابن عرفة: الشركة هنا جعل مشتر قدرا لغير بائعه باختياره مما اشتراه لنفسه بمنابه من ثمنه، هو في الطعام غير جزاف قبل كيله أو وزنه رخصة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ابن يونس: قال مالك: أجمع أهل العلم أنه لا بأس بالشركة والتولية والإقالة في الطعام قبل أن يستوفى إذا انتقد الثمن لمن يشركه أو يوليه أو يقيله. انتهى. وقال عبد الباقي: ووجه جواز الإقالة والشركة والتولية في الطعام قبل قبضه أنها أشبهت القرض، ولخبر أبي داوود وغيره: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه

(1)

إلا ما كان من شركة وتولية وإقالة). وذكر المص لجواز الشركة شرطين أحدهما قوله: إن لم يكن على أن ينقد عنك، يعني أن الشركة المذكورة إنما تجوز إن لم تدخلا على شرط أن ينقد المشرك بالفتح عنك يا مشرك بالكسر حصتك من الثمن، فإن كان ذلك على أن ينقد عنك حصتك من الثمن فإنها لا تجوز، لما في ذلك من بيع وسلف، فتفسخ الشركة إلا أن يسقط الشرط فتصح، وهذا التعليل يجري في الطعام وغيره، ورجَعْتُ هذا الشرط للشركة فقط تبعا للمواق والحطاب والشارح وأحمد، لأنه هو الذي يظهر فيه التعليل بالبيع والسلف، لأن ما يدفعه المولَّى

(1)

أبو داود، كتاب البيوع، رقم الحديث 3492.

ص: 607

بالفتح لا يرجع به لأنه إنما يدفعه عن نفسه فليس فيه سلف. وقال بناني عند قوله: إن لم يكن على أن ينقد عنك ما نصه: هذا يتعين رجوعه للشركة فقط كما في الحطاب والمواق، وهو الذي في المدونة وابن عرفة وغير واحد، وما في التتائي من رجوعه للتولية أيضا لا يساعده نقل، وما وجهه به الزرقاني غير صحيح. انتهى. وقال المواق: من المدونة قال مالك: كل ما اشتريت من جميع الطعام والعروض فلا يجوز عند مالك أن تشرك فيه رجلا قبل قبضك له أو بعد على أن ينقد عنك، لأنه بيع وسلف منه لك. انتهى. وأشار للشرط الثاني وهو شرط في التولية أيضا بقوله:

واستوى عقداهما فيهما، يعني أن التولية والشركة إنما تجوزان في الطعام قبل قبضه بشرط أن يستوي عقداهما، أي عقد كل من المولي والمشرك بالكسر والفتح فيهما، أي في التولية والشركة، أي يستوي العقدان في قدر الثمن وحلوله وتأجيله، وفي الرهن والحميل، قال المواق: من المدونة قال مالك: ومن اشترى طعاما بثمن نقدا ونقد ثمنه ولم يكتله حتى أقال منه أو أشرك فيه أو ولاه رجلا على أن الثمن إلى أجل لم يصلح لأنه يصير بيعا مؤتنفا، وإنما رخص في ذلك إذا انتقد ممن ذكرنا قبل التفرق مثل ما نقد فيحلوا في الطعام محله، لأن ذلك من المعروف، فإذا أحيل عن موضع رخصته لم يصلح. قال: ومن اشترى طعاما كيلا بثمن إلى أجل فلم يكتله حتى ولاه رجلا أو أشركه فإن كان لا ينتقد إلا إلى الأجل فجائز، وإن تعجله قبل أجله لم يجز، ولو أشركه أو ولاه بعد أن اكتاله وقبضه وشرط تعجيل الثمن جاز، لأنه بيع مؤتنف؛ وبقي شرط في جواز التولية والشركة في الطعام الكيل قبل قبضه، وهو كون الثمن عينا، فإذا لم يكن الثمن عينا فلا تجوزان قبل القبض. وقال الشيخ أبو علي: إن كون الثمن عينا يفهم من قول المص: واستوى عقداهما فيهما، إذ لا تتحقق المساواة في الثمن إلا مع كونه عينا، فكلام المص في غاية الإتقان. واللَّه سبحانه أعلم. انتهى. وإنما اشترط كون الثمن عينا لأنهما رخصة، فيقتصر فيها على ما ورد، وفي كلام بناني هنا نظر.

وإلا يستوي العقدان في التولية والشركة بأن اختلفا بوجه من وجوه الاختلاف فبيع كغيره، أي فإن اختلف العقدان في الثمن أو غيره فهما حينئذ بيع كغيره من سائر البيوع فيعتبر فيه شروطه وانتفاء موانعه كعدم القبض، وتبطل الرخصة، فتمنع التولية والشركة، قال المواق: قال ابن

ص: 608

الحاجب: إن لم يستو عقد الإقالة والتولية والشركة في المقدار والأجل وغيرهما فبيع كغيره، وهذه هي عبارة الموطأ. انتهى. وإن ابتعت ما ليس فيه حق توفية فلم تقبضه حتى أشركت فيه، ثم هلك قبل قبض المشرك ضمن المشرَك بفتح الراء ورفع الكاف الشيء المشترى بفتح الراء المعين، وهو الحصة التي حصلت له بالشركة فقط، فيرجع المشرِك بالكسر عليه بنصف الثمن مع عدم قبضه المثمن.

ولو طعاما، أي جزافا، لأن المشرك بالكسر فعل معروفا، ولا يرجع بجميع الثمن. قال بعض مشايخ التتائي: هذا مكرر مع قوله: وضمن بالعقد وضمن المشرك والمولى بالفتح طعاما كلته، يا مولي أو مشرك بالكسر، وصدَّقَك الذي أشركته أو وليته ثم تلف. قاله عبد الباقي. وقال بناني: جعل الزرقاني وغيره الخطاب للمولي والمشرك بالكسر، وجعل الصدق هو المولى والمشرك بالفتح وفيه نظر، لأن المشتري إذا ولى أو أشرك بعد أن اكتاله ضمنه المولى والمشرك بالفتح من غير شرط التصديق، كما في المدونة، ونصها: وإن ابتعت طعاما فاكتلته ثم أشركت فيه رجلا فلم تقاسمه حتى هلك الطعام فضعانه منكما، وترجع عليه بنصف الثمن. انتهى. وليس فيه شرط التصديق؛ وفي المدونة: وإن ابتعت طعاما فاكتلته ثم أشركت فيه رجلا أو وليته على تصديقك في كيله جاز، وله أو عليه المتعارف من زيادة الكيل ونقصه، وإن كثر ذلك رجع عليك بحصة النقصان من الثمن ورد كثير الزيادة، وهذا إنما يقتضي شرط التصديق في الزيادة والنقص، لا في التلف. فتأمله.

وإن أشركه حمل إن أطلق على النصف، يعني أن من اشترى شيئا فأشرك فيه شخصا وأطلق في ذلك بأن قال: أشركتك فيه ولم يقيد بنصف ولا بغيره فإنه يحمل على النصف، هكذا في كثير من النسخ العتق بإن من دون واو. قاله أبو علي. وفي بعض النسخ بالواو وهي للحال، أي إن أشركه والحال أنه أطلق أي لم يقيد بجزء فإنه يحمل على النصف فإن قيد بجزء فإنه يكون شريكا بذلك الجزء الذي قيد به نصفا أو ثلثا أو غيرهما. وقال عبد الباقي: حمل والحال أنه أطلق على النصف لأنه الجزء الذي لا ترجيح فيه لأحد الجانبين فإن قيد بقدر فهو على ما دخلا

ص: 609

عليه، ولا يصح جعل إن للمبالغة. وقال بناني: والصواب ما في بعض النسخ: حمل إن أطلق، بدون واو.

وإن سأل ثالث شركتهما فله الثلث، يعني أنه إذا سألهما ثالث الشركة فأشركاه فإن له الثلث حيث اتفق نصيبهما بأن كان لكل منهما النصف كما هو الموضوع، والحال أنه سألهما بمجلس بلفظ إفراد أو تثنية، أو بمجلسين بلفظ تثنية، فله الثلث فيما أشركاه فيه في هذه الصور الثلاث، لا بمجلسين بلفظ إفراد فله نصف ما لكل، كإن اختلف نصيبهما وسألهما بمجلس، أو مجلسين بلفظ إفراد أو تثنية، فالصور ثمان، له الثلث في ثلاث، ونصف ما لكل في خمس، ففي الأولى منها يكون لكل منهما الربع، وفي الأربع الباقية إذا كانا بالثلث والثلثين لكان له نصف الثلث ونصف الثلثين، فيكون له النصف، وللأول السدس، وللآخر الثلث. قاله سند. قاله عبد الباقي. وقال المواق: من المدونة قال مالك: إذا ابتاع رجلان عبدا فسألهما رجل أن يشركاه فيه ففعلا فالعبد بينهم أثلاثا. اللخمي: لأنهما أرادا أن يكون فيه كأحدهما فجعلا له الثلث لأن ذلك القصد عنده، ولو كان المشتري واحدا كان له النصف على قوله. ابن يونس: لو كان أنصباء الأولين مختلفين لكان للمشرك نصف نصيب كل واحد.

وإن وليت ما اشتريت بما اشتريت جاز، يعني أنك إذا اشتريت شيئا ولم تذكره ثم وليته شخصا بمثل الثمن الذي اشتريته به ولم تذكر الثمن أيضا فإن ذلك جائز بشرط أشار إليه بقوله: إن لم تلزمه، أي إنما يجوز ذلك إن لم تلزمه المبيع، وله أي المولَّى بالفتح الخيار، إذا رءاه وعلم الثمن عينا كان أو طعاما أو عرضا أو حيوانا، كما في المدونة: وإذا اختاره وعلم الثمن ولو مقوما فعليه مثله حاضرا عنده. ابن يونس: ليلا يدخله بيع ما ليس عندك، ومفهوم الشرط إن دخل على إلزام لم يجز للجهل فيفسد العقد، سواء كان الجهل من جانب أو جانبين، ونفي اللزوم مع الجهالة لا يفسد مع أي جانب منهما؛ قال الخرشي: ولو كان بلفظ المبيع فسد في صورتي الإلزام والسكوت. انتهى. فإن قلت: تقدم أن شرط التولية أن يكون الثمن عينا، قلت: ذلك في التولية في الطعام قبل قبضه، وأما فيه بعده أو في غيره مطلقا فتجوز وإن كان الثمن غير عين. قال عبد الباقي: وظاهر قوله: جاز إن لم تلزمه، ولو كانت السلعة في البلد، وهذا بخلاف بيع الغائب،

ص: 610

والفرق بينهما أن التولية رخصة يتسامح فيها بخلاف البيع. انتهى. قال محمد بن الحسن: فيه نظر، لأن بيع الغائب ولو كان في البلد يجوز بغير إلزام كما هنا، وإنما يمتنع في البلد إذا كان بيعه بإلزام، فلا فرق بينهما، وبجواز بيع الغائب في البلد بالخيار إذا رآه، صرح [به]

(1)

في المدونة ونقله ابن غازي هنا والمواق. انتهى. قوله: فلا فرق بينهما، بل بينهما فرق في صورة السكوت، وإنما يستويان في التصريح بالخيار والإلزام. قاله الرهوني. وقال المواق: من المدونة قال مالك: وإن اشتريت سلعة ثم وليتها لرجل ولم تسمها له ولا ثمنها أو سميت له أحدهما فإن كنت قد ألزمتها إياه إلزاما لم يجز لأنه مخاطرة وقمار، وإن كان على غير الإلزام جاز، وله الخيار إذا رآها وعلم الثمن، وإن بعته عبدا في بيتك بمائة دينار ولم تصفه ولا رآه قبل ذلك ولم تجعله بالخيار إذا نظر إليه فالبيع فاسد، ولو كان بالخيار جاز. انتهى.

وإن رضي المولَّى بالفتح بأنه، أي المبيع الذي ولاه له مبتاعه عبد، مثلا ولم يعلم بثمنه، ثم علم بالثمن فلما علم بالثمن كَره البيع لغلو الثمن مثلا، أو رضي بالثمن ولم يعلم بالمثمن، ثم علم به فكره، فالمراد رضي بأحد العوضين ثم علم بالآخر فكره فذلك له، أي يمكن من فسخ العقد عن نفسه، لأنه من ناحية المعروف يلزم المولِّي بالكسر ولا يلزم المولَّى بالفتح إلا أن يرضى، وجعل الشارح ضمير أنه، للثمن أي أخبر المولي بالكسر المولى بالفتح بأن الثمن عبد فرضي، ثم علم بأن الثمن غيره فكره فذلك له، ويحتمله كلام المص وهو ظاهر. قاله التتائي. وما في الأجهوري من العزو للشارح تحريف، فإن الذي فيه كما في التتائي. قاله عبد الباقي.

والأضيق صرف، يعني أن الأضيق في الأبواب التي تعتبر فيها المناجزة الصرف لما مر من حرمة تأخيره ولو قريبا أو غلبة. ثم إقالة طعام، يعني أنه يلي الصرف في الضيق إقالة الطعام من سلم، أي تأخير الثمن فيها، لأنهم اغتفروا فيه أن يذهب إلى بيته أو ما قرب ليأتي به، بخلاف الصرف، وعلة منع التأخير في الإقالة المذكورة لتأديته لفسخ دين في دين، ولم يكن في مرتبته الآتية لتَقَوِّيهِ هنا بانضمام علة بيع الطعام قبل قبضه، فارتفعت مرتبته في الأضيقية، فإن قيل:

(1)

ساقطة من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 171.

ص: 611

الإقالة في الطعام ليست بيعا، فكيف يكون فيه بيع الطعام قبل قبضه؟ فالجواب: أن هذه الإقالة لما قارنها التأخير عدت بيعا. قاله أحمد باختصار. ثم تولية وشركة فيه، يعني أنه يلي ما تقدم في الأضيقية التولية والشركة في طعام المسلم المولى فيه أو المشرك قبل قبضه، أي تأخير الثمن في التولية والشركة في طعام السلم، فيغتفر في تأخير الثمن فيهما ما قارب اليوم فهما أوسع مما قبلهما، وعلة منع التأخير فيما ذكر أنه يؤدي لبيع دين بدين مع بيع الطعام قبل قبضه، ولذلك كان أعلى رتبة مما بعده وما قبله. قاله عبد الباقي. قال بناني: أي أنه أعلى مما قبل بيع الدين فيما يأتي وما بعده.

ثم إقالة عروض وفسخ الدين في الدين. يعني أنه يلي ما تقدم في الأضيقية تأخير الثمن في إقالة عروض مسلم فيها، لأن ذلك يؤدي إلى فسخ دين في دين، فهي من أفراد فسخ الدين في الدين فلذلك عطف بالواو، وقوله: وفسخ الدين في الدين، أي يمنع تأخير الثمن فيما إذا دخلا على فسخ الدين في الدين، كما إذا تقايل معه في العروض المسلم فيها، وقد نقد له ثمنها، وكما إذا كان عليه دين ففسخه فيما يتأخر قبضه إلا ما كان يسيرا بقدر ما يأتي بمن يحمله، فإن كان طعاما كثيرا جاز أيضا مع اتصال العمل ولو شهرا. قاله أشهب. قال: وهذا إذا كان ما يأخذه منه حاضرا أو في حكمه كمنزله أو حانوته، لا ما كان غائبا فيمنع؛ وقال المواق: ويجوز في فسخ الدين في الدين أن يأتي بدوابه أو بما يحمل فيه ما يأخذه، وإن دخل عليه الليل ترك بقية الكيل ليوم آخر. قاله عبد الباقي. وقال المواق: اللخمي: إن كان رأس المال شيئا معينا عبدا أو ثوبا فأقاله على أن لا يقبضه إلا إلى يوم أو يومين لم يجز ذلك في الطعام، ويختلف في العروض، فيمنع على قول ابن القاسم ويدخل عنده فيه فسخ الدين في الدين، ويجوز على قول أشهب.

ثم بيع الدين، يعني أنه يلي ما تقدم بيع الدين، كبيع عرض من سلم لغير من هو عليه، فإنه أوسع مما قبله، لجواز تأخير ثمنه اليوم واليومين. ثم ابتداؤه، يعني أن ابتداء الدين وهو تأخير رأس مال السلم أوسع مما قبله، لاغتفار التأخير فيه بشرط ثلاثة أيام، وقال عبد الباقي: وبقي من العقود التي تطلب فيها المناجزة بيع المعين الذي يتأخر قبضه، ففي المدونة: يمنع السلم في سلعة معينة يتأخر قبضها أجلا بعيدا خشية هلاكها قبله، ويجوز اليومان لقربهما. انتهى. قاله

ص: 612

أحمد. قاله عبد الباقي. قال مقيده عفا اللَّه عنه: صريح ما مر من التقرير أن معنى الأضيقية مراعاة الأمد من طول أو قصر. وقال بناني: الترتيب هنا إنما هو بين الصرف وابتداء الدين بالدين، فشددوا في الصرف وخففوا في الآخر، وأما ما بينهما من المسائل فلا ترتيب بينهما من هذه الحيثية، وإنما هو من جهة قوة الخلاف وضعفه. انظر الحطاب. انتهى. وقال الإمام الحطاب بعد جلب كلام: فعلم من هذا أن الإقالة من الطعام ومن العروض والتولية وبيع الدين سواء، لأنه صرح به، والشركة حكمها حكم التولية بلا إشكال، وفسخ الدين في الدين هو أشد من بيع الدين، فيكون حكم الجميع واحدا على مذهب المدونة، فتأمله. انتهى. وقال الشيخ أبو علي: ولا اعتراض على المص أصلا وإن كان إنما يفهم من كلام الحطاب الاعتراض عليه، لأن كلام المص في الأضيقية فقط، وقد تقدمت في كلام الناس منصوصةً على حسب المتن، وقد رأيت ذلك كله بعينك، ومجرد الأضيقية تظهر ثمرته بعد الوقوع والنزول من رعي الخلاف هل ينقض العقد إذا وقع بعض تأخير أو لا ينقض؟ وإذا فات فهل يمضي بالثمن أو بالقيمة؟ وكذا تظهر ثمرته في غير هذا. انتهى.

انتهى الجزء الرابع من لوامع الدرر في هتك أستار المختصر، للعبد الفقير إلى مولاه الغني به عمن سواه، محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد بن عمر المجلسي العلوي الفاطمي الحسني الإدريسي، فالحمد للَّه أولا وأخرا وظاهرا وباطنا، اللَّهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، عدد معلوماتك، وأضعاف ذلك وأضعاف أضعاف ذلك، عدد ذلك، وسلم تسليما كذلك.

اللَّه عظَّم قدرَ جاه محمد

وأناله فضلا عليه عظيما

في محكم التنزيل قال لخلقه

صلوا عليه وسلموا تسليما.

ص: 613