الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم اللَّه الرحمن الرحيم وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
واعلم أن البيع ينقسم إلى:
مساومة ومزايدة واسترسال ومرابحة، فَالأوَّلُ وهو بيع المساومة جائز بلا خلاف وهو بيع لم يتوقف ثمنُ مبيعه المعلوم قدره على اعتبار ثمن في بيع قبله إن التزم مشتريه ثمنه لا على قبول زيادة عليه، فقوله: لم يتوقف إلخ أخرج به بيع المرابحة، وقوله: إن التزم إلخ أخرج به بيع المزايدة، وقوله: ثمن أخرج به بيع الاسترسال وهو بيع الاستيمان.
وَالثَّانِي وهو بيع المزايدة تعريض السلعة للسوم لمن يزيد. قاله الخرشي. وقال أبو علي: عرض السلعة في السوق لمن يزيد فيها نقله عن عياض، وفسره المتيطى بقوله: هو أن يطلق الرجل السلعة في النداء فمن أعطى فيها شيئا لزمه وهو جائز عند كافة العلماء وكرهه بعضهم ورءاه من بيع السوم على أخيه وهذا عند كافتهم إنما يكره عند التراكن.
وَأمَّا الثَّالِثُ وهو بيع الاستيمان وهو بيع يتوقف على صرف قدر ثمنه لصرف علم أحدهما.
وَأَمَّا الرابع وهو بيع المرابحة أشار إليه بقوله:
فصل:
وجاز مرابحة يعني أن بيع المرابحة جائز، قال الشارح: بيع المرابحة هو أن يبيع السلعة بالثمن الذي اشتراها به وزيادة ربح معلوم يتفقان عليه، واعترض بأنه غير جامع لخروج ما بيع بوضيعة، وأجاب بأنه تعريف باعتبار الغالب، وإطلاق المرابحة على الوضيعة مجرد اصطلاح في التسمية أو أنه ربح للمشتري كما أن الزيادة ربح للبائع، وقال أبو علي: وأما الوضيعة فليست فردا من أفراد المرابحة وإنما هي ضد المرابحة وذكرت معها في ترجمة لما بينهما من التنافي إذ بضدها تتبين الأشياء، ولذلك قال المص:"والوضيعة كذلك"، وكذا بيعها بمقدار ثمنها الأول فلا يصدق عليه أنه وضيعة.
وعرف ابن عرفة بيع المرابحة بقوله: بيع مرتب ثمنه على ثمن مبيع تقدمه غير لازم مساواته له، فخرج بالأول بيع المساومة والمزايدة والاستيمان، وبالثاني الإقالة والتولية والشفعة والرد بالعيب على كونه بيعا لكن المشهور أنه ليس ببيع، وقوله:"وجاز" الواو للاستيناف، "ومرابحة" فاعل جاز أو حال أي، وجاز المبيع حال كونه مرابحة والفاعلة هنا من جانب واحد كسافر وعافاه اللَّه، وظاهر المص الجواز ولو افتقر إلى فكرة حسابية وهو المذهب كما في ابن عرفة
خلافا لتقييد المازري الجواز [بما لم]
(1)
يفتقر إدراك أجزاء جملة الربح إلى فكرة تشق على المتبايعين أو على أحدهما حتى يغلب الغلط وإلا منع، ومال عليٌّ الاجهوري لترجيح ما للمازري. والأحب خلافه يعني أن الأحب خلاف بيع المرابحة من بيع المساومة فقط، أي أن الأحب إنما هو بيع المساومة لا المرابحة والمزايدة والاستيمان لكراهة بعض العلماء لبيع المزايدة لأن فيه نوعا من السوم على سوم الأخ قبل الركون وإشحانا للقلوب، ولأن بيع الاستيمان ليس فيه معرفة المشتري
(2)
أو البائع.
ولو على مقوم يعني أن بيع المرابحة جائز ولو كان ثمن السلعة المبيعة عرضا مقوما كما لو اشترى ثوبا بحيوان معين مثلا فإنه يجوز أن يبيع مرابحة بمثل ذلك الحيوان ويزيده عليه زيادة معلومة، هذا مذهب ابن القاسم ومنعه أشهب ورد عليه المص بلو، فإنه قال: تمنع المرابحة على حيوان أو عرض موصوف ليس عند المشتري للنهي عن بيع ما ليس عندك، ومقتضى مبالغة المص أن المثلي لا نزاع فيه مع أن أشهب خالف فيه أيضا، فلعل المص أراد بالقوم ما قابل المعين فيشمل المثلي إذ الخلاف فيه أيضا، فلو أبدل مقوما بعرض لكان أظهر، قاله عبد الباقي. وقال بناني: تخصيص المص الخلاف بالمقوم تبع فيه ابن الحاجب واعترضه في التوضيح قائلا: هُوَ وَهَمٌ؛ لأن أشهب نص في المدونة على المنع في الجميع بل ولو لم ينص عليه لكان لازما له لأن المسلم الحال ممتنِعٌ في المنوع
(3)
والمثلي أي غير العين.
وعلم مما قررت أن قول المص: "مقوم" معناه مقوم معين وباعه مرابحة على مثل ذلك المقوم لا على قيمته، وهو وإن أدى إلى بيع مقوم مضمون على غير وجه السلم لكن عقد المرابحة أدى إليه، ولذا قال ابن يونس: لأنهما لم يقصدا.
وهل مطلقا أو إن كان عند المشتري يعني أن الشيوخ اختلفوا في قول ابن القاسم هل هو مخالف لقول أشهب فيكون قول ابن القاسم بالجواز مطلقا كان القوم بمعنى العرض عند المشتري أم لا بناء على حمل كلام ابن القاسم على ظاهره، وإلى هذا ذهب اللخمي وأومأ إليه ابن يونس، أو هو
(1)
كذا في الأصل وعبد الباقي.
(2)
في عبد الباقي ج 5 ص 172 معرفة المشتري الثمن.
(3)
كذا في بعض النسخ ولعله المقوم وخط المؤلف غير مقروء.
موافق له فيحمل قول ابن القاسم بالجواز على ما إذا كان المقوم عند المشتري في ملكه وإن لم يكن عنده لم يجز فيتفق مع أشهب وإليه ذهب القابسي.
وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان محلهما في مضمون ليس عند المشتري ولكن يقدرعلى تحصيله، فإن لم يقدر منع باتفاقهما كما يتفقان على المنع معين ليس في ملك المشتري لقوة الغرر، وأما مضمون أو معين في ملكه فيتفقان على جواز المبيع عليهما مرابحة فتأمل تلك الصور الخمس.
وحسب ربح ماله عين قائمة اعلم أن وجوه المرابحة خمسة لا تخلو من أحدها سيأتي ذكرها وكلامه هنا مرتب على الثالثة، ومعنى كلام المص أنه إذا وقع المبيع على المرابحة من غير بيان ما يربح له وما لا يربح له بأن وقع على ربح العشرة أحد عشر مثلا، فإنه يحسب ثمن السلعة وربحه ويحسب عليه أيضا من مؤنتها وكلفتها ربح ماله عين قائمة يوثر زيادة في المبيع، ومعنى قائمة مشاهدة بحاسة البصر.
ومثل لذلك بقوله: كصبغ أي أجرة عمله فالمراد أثر عمله إن استأجر عليه كان ممن يتولاه بنفسه أم لا فيحسب ربحه كأصله زيادة على ثمن السلعة، فإن عمله بنفسه أو عمل له بغير أجر حسب أصل الثمن فقط مع ربحه ولم يحسب عوض العمل، وكذا لا يحسب ربحه لأنه إذا لم يحسب الأصل فكيف يحسب الفرع؟ قاله عبد الباقي. قال: وقولي أثر عمله يخرج ما يصبغ وكذا ما يخاط به فإنه لا يحسب هو ولا ربحه إن كان من عند البائع، فإن اشتراه حسب هو وربحه كما في أحمد وكذا يقال في قوله: وطرز يعني أن الطرز كالصبغ فهو مما له عين قائمة فيحسب ربحه كأصله إلى آخر ما مر في الصبغ.
وقصر القصر تبييض الثياب والقصار كشداد ومحدث محور الثياب أي مبيضها وحرفته القصارة، يعني أن القصر مما له عين قائمة فيحسب ربحه كأصله إلى آخر ما مر في الصبغ، وخياطة يقال فيها كل ما قيل فيما قبلها، وفتل لحرير وغزل ويقال فيه كل ما قيل فيما قبله. وكمد بسكون الميم هو دق القصار الثوب للتحسين ويقال فيه ما قيل فيما قبله، وتطرية جعل الثوب في الطراوة ليلين وتذهب خشونته ويقال فيه ما قيل فيما قبله.
وقال الرهوني عن ابن عاشر: التطرية سقي الغزل بالحريرة أو بالنشا لتنضم وبرته، وقال عبد الباقي: ويقيد كلامه يعني المص بما إذا وقع بيع المرابحة مبهما، فإن اشترطا شيئا أو جرى به عرف عمل به. انتهى. وفي النكت وابن يونس: واعلم أنه لو كان هو يتولى الطرز والصبغ ونحو ذلك لم يجز أن يحسبه ويحسبَ الربح. انتهى. قوله: ويحسب الربح فهمه الشارح والتتائي على أنه مرفوع مستأنف مثبت وليس كذلك، بل هو منصوب معطوف على مدخول النفي. انتهى المراد منه.
وأصل ما زاد في الثمن هذا مفهوم قوله: "ما له عين قائمة" يعني أنه إذا وقع البيع على المرابحة من غير بيان ما يربح له وما لا يربح له بأن وقع على ربح العشرة أحد عشر، فإنه يحسب أصل ما زاد على الثمن مما ليس له عين قائمة دون ربحه حيث استأجر عليه وكان مما لا يتولاه بنفسه، ومثل لذلك بقوله: كحمولة بفتح الحاء الإبل التي تحمل الأحمال وشد وطي، فإذا اشتراها بعشرة مثلا واستأجر في حملها بخمسة أو استأجر على شدها أو طيها فإنه يحسب ما خرج من يده على ذلك وسمي ما ذكر أصلا باعتبار ربحه، وقيد اللخمي الحمولة بأن تزيد في الثمن كأن تنقل من بلد أرخص إلى بلد أغلى لرغبة المشتري في ذلك إذا علم به، قال: ولو كان سعر البلدين سواء لم تحسب، ولو كان سعرها في البلد الذي وصلت إليه أرخص لم يبع حتى يبين وإن أسقط الكراء لأن المرابحة كانت لما وقع من شراء الرقاب، واستحسنه المازري إذا حمل المتاع عالما بأنه لا ربح له، وساق في الشامل تقييد اللخمي بصيغة التمريض لكنه ظاهر كلام المص إلا أن يكون مراده بما زاد ما من شأنه أن يزيد كما هو ظاهر إطلاق ابن يونس وابن رشد وغير واحد لكنه لا يخالف اللخمي في وجوب بيان ذلك لاتفاقهم عليه. قاله عبد الباقي. قوله: وقيد اللخمي الحمولة لخ، ابن عرفة: ويرد تقييد اللخمي بكون سعر البلد المنقول إليه أغلى بأن النقل للتجر مظنة لذلك ولا يبطل اعتبار المظنة بفوت الحكمة على المعروف. انتهى.
والحاصل أن اللخمي يعتبر حصول الزيادة بالفعل ومقتضى إطلاق غيره مع بحث ابن عرفة أنه يكفي كونه ذلك مظنة للزيادة وهو المذهب. قاله الشبراخيتي.
اعتيد أجرتهما يعي إنما يحسب أصل الطي والشد إذا اعتيد أن يؤاجَر عليهما وقد مر عند قوله: "وأصل ما زاد في الثمن" ما نصه: حيث استأجر عليه وكان مما لا يتولاه بنفسه. قاله عبد الباقي. قال بناني: مثله في المواق عن ابن رشد، فلو قال المص: اعتيد أجرتها بالإفراد ليرجع
للحمولة كان أولى. انتهى. وكراء بيت لسلعة أي وكذلك يحسب كراء بيت لسلعة أي لتجعل فيه لا إن اكتراه لنفسه وللسلعة فلا يحسب للبيت حينئذ أجرة ولا ربح لأن فيه توظيفا، قال التتائي: إلا أن يبين له ذلك ويرضى كما في الجلاب، وإلا يكن له عين قائمة ولا أَثَّرَ زيادة في البيع أو لم تزد الحمولة في الثمن بل ساوت أو نقصت على تقييد اللخمي أو لم تكن أجرة الشد والطي معتادين أو لم يكن كراء البيت للسلعة خاصة لم يحسب أصله ولا ربحه، فهذا راجع لجميع ما سبق.
قال التتائي: ومَثَّل لما لا عين له قائمة ولا أثَّر زيادة في المبيع بقوله: كسمسار لم يعتد يعني أن السمسار الذي لم يعتد أي لم يعتد في تلك السلعة أن تشترى بسمسار فإنه لا يحسب ما أخذه السمسار ولا ربحه، والمراد بالسمسار الذي يجلس كما يفعله سماسرة الاسكندرية، وليس المراد به متوليَ البيع فإن أجرة هذا على البائع وهي من الثمن بلا شك، وجعل الأجهوري قوله:"كسمسار لم يعتد" تشبيها، وقال عبد الباقي: كسمسار لم يعتد لم يحسب أصله ولا ربحه، فإن اعتيد أن لا يشترى المتاع إلا بواسطة كان من الجلاس أم لا حسب أجرته فقط. انتهى المراد منه.
فَائِدَةٌ:
السمسار من يدور بالسلعة ويطوف بها على التجار والدلال الذي يعرفهم بمواضع السلع، وكره ابن القاسم الدلالة في النكاح وأجازها ابن الماجشون وأصبغ. قاله الدرعي. والجلاس من نصب نفسه في حانوت لشراء الأمتعة. قاله المواق. وقد مر عند قول المص: "وكبيع حاضر لعمودي في الحديث (لا تكن له سمسارا)
(1)
أن المراد بالسمسار في الحديث هو متولي البيع كالسماسرة الجالسين في الحوانيت، وأنه ليس من بيع الحاضر للبادي بيع الدلال اليوم؛ لأن الدلال إنما هو لإشهار السلعة فقط والعقد عليها إنما هو لربها. انتهى المراد منه.
وَلنَرْجِعْ إلى بيان كلام المص فأقول: قال الشيخ أبو علي: قال في المقدمات: بيع المرابحة على وجهين أن يبايعه على أن يربحه الدرهم درهما أو العشرة أحد عشر أو أقل أو أكثر مما يتفقان عليه فهذا ما كان في السلعة المبيعة مما له عين قائمة كالصبغ والكمد والفتل، فهو بمنزلة الثمن يحسب ويحسب ربحه وما ليس له عين قائمة، فإن كان لا يختص بالمتاع فلا يحسب في الثمن
(1)
صحيح البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث، 2158، صحيح مسلم، كتاب البيوع، رقم الحديث، 1521.
ولا يحسب له ربح ككراء ركوبه وكراء بيت وإن خزن فيه المتاع لأن العادة جارية بأن يحوز الرجل متاعه في بيت سكناه، وإن كان هذا الذي لا عين له قائمة مما يختص بالمتاع وهو مما يتولاه أي التاجر بنفسه ولا يستأجر عليه غالبا كشراء المتاع وطيه وشده وما أشبهه فاستأجر عليه فلا يحسب في رأس المال؛ لأنه أراح نفسه بذلك ولا يحسب ربحه، وإن كان مما لا يتولاه بنفسه كحمل المتاع وَنفقة الرقيق وما أشبه ذلك فيحسب في أصل الثمن لا ربحه. انتهى المراد منه.
وقال المواق عن ابن رشد: ما كان في السلعة البيعة مما ليس له عين قائمة وكان مما يختص بالمتاع ومما يستنيب التاجر عليه غالبا ولا يتولاه بنفسه كحمل المتاع ونفقة الرقيق فإنه يحسب في أصل الثمن ولا يحسب له ربح لأنه ليس له عين قائمة فيها، فيحسب كراء الحمولة والنفقة على الرقيق والحيوان ولا يحسب له ربح إلا أن يربح عليه. انتهى. وقال في المنتقى: المسألة على ثلاثة أقسام: ما لا يحسب له أصل ولا ربح وما يحسب فيه الأصل دون ربحه وذلك فيما ليس له عين قائمة لأنه ضربان: ضرب خارج عن المتاع وإنما يتخذ لغيره ككراء بيت وكراء ركوبه فلا يحسب ولا يحسب ربحه، وما جرت به العادة من نحو الطي يفعله بنفسه فلا يحسب ولو استأجر عليه وأحرى ربحه، وأما ما جرت العادة بعدم فعله من نحو الطي فيحسب دون ربحه، وهذا كله فيما ليس له عين قائمة وإلا فيحسب وربحه وكراء البيت للمتاع فقط يحسب أصله دون ربحه والسمسار المعتاد كذلك وكراء البيت له ولو مع المتاع فلا يحسب هو ولا ربحه، والسمسار إن لم يكن معتادا فلا تحسب أجرته ولا ربحها. انتهى.
وللشيخ أبي علي رحمه اللَّه تعالى:
وما كصبغ عندهم يعتبر
…
كثمن من غير فرق يذكر
إن لم يكن فعله من اشترى
…
بنفسه ففعله لغو جرى
وزائد في ثمن كالشدِّ
…
يحسب أصله بلا تعدِّ
لربحه إن لم يكن عرف جرى
…
بفعله من مشتر بلا مرا
كذا كراء البيت للمبيع
…
وحمله لبلد رفيع
ومثل ذا نفقة لكرقيق
…
إن لم تقم غلته بما يليق
سمسرة معتادة كذاكا
…
على صحيح القول خذ هُداكا
وغير ما يزيد في الأثمان
…
مثل ركوب مشتر يعاني
فأصله وربحه قد انتفى
…
إن لم يكن شرط لدى من عرفا
وقولنا: ففعله لغو لخ بخلاف ما اشتري به الصبغ فإنه يحسب وربحه، وقوله: وحمله لبلد هو مخفوض معطوف على بيت ليكون مدخولا لكراء؛ لأن المشتري إذا حمله على دوابه فلا حساب أصلا كما رأيت. انتهى. وقوله: وحمله لبلد كذا وجدته فزدت فيه رفيع للوزن أي لأن البلد الذي يحمل عليه شأنه أن يزيد في الثمن وإن لم يزد. انتهى.
ولما ذكر عياض أن وجوه المرابحة لا تخلو من خمسة أوجه: أَحَدُهَا أن يبين جميع ما لزمه مما يحسب أو لا يحسب مفصلا ومجملا ويشترط ضرب الربح على الجميع، الثَّانِي أن يفسر ذلك أيضا مما يحسب ويربح عليه وما لا يربح له وما لا يحسب جملة ويشترط ضرب الربح على ما يربح خاصة، الثَّالِث أن يفسر المؤنة بأن يقول لزمها في الحمل كذا وفي الصبغ كذا وفي القصر كذا والشد والطي كذا وباع على المرابحة للعشرة أحد عشر ولم يفصل ما يوضع عليه الربح من غيره وهذه هي المرتب عليها قوله قبل:"وحسب ربح ماله عين قائمة" لخ، الرَّابعُ أن يبهم ذلك كله ويجمعه جملة فيقول قامت علي بكذا أو ثمنها كذا وباع مرابحة للعشرة درهم، الخَامِسُ أن يبهم النفقة فيها بعد تسميتها فيقول قامت بشدها وطيها وحملها وصبغها بمائة أو يفسرها فيقول عشرة منها في مؤنتها ولا يفسر المئونة. صرح المؤلف بذلك على اختصار مشيرا إلى الأول بقوله:
إن بيّن الجميع شرط في قوله: "وجاز مرابحة" أي يجوز بيع المرابحة بشرط أن يبين الجميع أي جميع ما لزم السلعة مما يحسب وما لا يحسب مفصلا ومجملا، ويشترط ضرب الربح على الجميع فالسمسار المعتاد يحسب أصله لا ربحه والذي لم يعتد لا يحسب له أصل ولا ربح، فيصح ضرب الربح على ذلك والعرف كالشرط.
وأشار للثاني بقوله: أو فسر المؤنة فقال هي بمائة يعني أن بيع المرابحة إنما يجوز إن بين الجميع ويشترط ضرب الربح على الجميع كما رأيت، أو يبين الجميع لكن اشترط ضرب الربح على ما يربح دون ما لا يربح بأن يفسر المؤنة أي يذكر ما لزم فيها فيقول هي بمائة أي جميع ما
غرمت فيها مائة، وَبيَّن بعد أن أجمل فقال: أصلها أي ثمنها كذا أي ثمانون مثلا وحملها كذا كعشرة وصبغها خمسة وقصارتها ثلاث وشدها واحد وطيها واحد، ولم يبين ما له ربح من غيره ولا ما لا يحسب وإنما اشترط ضرب الربح على ما يربح له خاصة فيفض الربح على ما يحسب ويسقط ما لا يحسب.
وعلم مما قررت أن الفرق بين المسألتين إنما هو ضرب الربح على الجميع في الأولى واختصاصه بما يربح عليه في الثانية، وفي كلا المسألتين قد بين الجميع مفصلا سواء بينه ابتداء أو لا. انظر الخرشي. واللَّه سبحانه أعلم.
وأشار إلى الوجه الثالث بقوله: أو على المرابحة وَبَيَّنَ يعني أنه إذا باع على المرابحة وبين الكُلَف والمؤنة كما في الذي قبله ولكنه باع على قدر من الربح كربح العشرة أحَدَ عَشَرَ وَلَمْ يُفَصِّلَا ما يوضع عليه الربح مما لا يوضع عليه فإن ذلك جائز، وهذا هو القسم المرتب عليه قوله قبل:"وحسب ربح ماله عين قائمة".
وعلم مما قررت أن الفرق بين هذا والذين قبله أنه في هذا لم يبينا ما يوضع عليه الربح من غيره، بخلاف القسمين السابقين فإنه في الأول اشترط ضرب الربح على الجميع، وفي الثاني اشترط ضرب الربح على ما يربح دون ما لا يربح، وأما الثالث فلم يشترط فيه ضرب الربح على ما ذكر، بل قال: أبيعك على ربح العشرة أحد عشر مثلا ولم يبينا حين البيع ما يوضع عليه الربح من غيره، ثم إنه يصح في قوله:"كربح العشرة" تنوين ربح وإضافته إلى العشرة وعلى التنوين يصح في العشرة الجر على أنها بدل من ربح والنصب على أنها مفعول لفعل محذوف أي ربح يصير العشرة أحد عشر والرفع على أنها مبتدأ خبره أحد عشر، والجملة مفسرة أو خبر لمبتدإ محذوف أي وهو العشرة أي والربح المشترط العشرة أحد عشر وهو أولى. قاله الشيخ عبد الباقي.
وزيد عشر الأصل هذا بيان لربح العشرة أحد عشر، يعني أنه إذا قال أبيعك بربح العشرة أحد عشر فمعناه أن يزاد عشر الأصل فقط، والمراد بالأصل الثمن الذي اشتريت به السلعة، فإذا كان الثمن مائة فالزيادة عشرة، وإذا كان الثمن مائة وعشرين فالزيادة اثنا عشر وهكذا، وليس معناه أن يزاد على العشرة أحد عشر حتى يصير إذا كان الثمن عشرة أحد وعشرون وإذا كان الثمن
عشرين فيصير الثاني اثنين وأربعين فذلك غير مراد، ولذا بين المص المراد بقوله:"وزيد عشر الأصل". قاله غير واحد. وقوله: "وزيد عشر الأصل" هو فيما إذا قال بعتك بربح العشرة أحد عشر، وأما إذا قال: بعتك بربح العشرة اثني عشر فإنه يزاد خمس الأصل. قاله المواق.
والوضيعة كذلك تشبيه في قوله: "وزيد عشر الأصل" وإن كان الأول يؤخذ وفي المشبه يترك والوضيعة الحطيطة، يعني أنه إذا قال: بعتك بوضيعة العشرة أحد عشر فإنه تجزّأ العشرة أحد عشر وينقص منها واحد، فيحط من الثمن جزء من أحد عشر جزءا، ويتوهم من التشبيه أن يسقط عشر الأصل ابتداء وليس بمراد كما عرفت، وإن قال بوضيعةٍ العشرة عشرون وضع نصف الأصل وثلاثون وضع ثلثا الثمن، فضابطها إذا زادت على الثمن أن يجزأ الأصل أجزاء بعدد الوضيعة وتنسب ما زاده عدد الوضيعة على عدد الأصل ابتداء إلى أجزاء الأصل التي جعل عددها بعدد الوضيعة وبتلك النسبة يحط عن المشتري، فإذا قال بوضيعة العشرة ثلاثون فتجزأ العشرة ثلاثين جزءا بعدد أجزاء الوضيعة وتنسب أجزاء ما زاد على الأصل ابتداء وهو عشرون في الفرض المذكور للثلاثين، وبتلك النسبة يحط عن المشتري من الثمن فيحط عنه في هذا الفرض ثلثا الثمن كما مر وضابطها إن كانت تساوي الأصل أو تنقص عنه أن تضمها له، وتنسب قدر الوضيعة لا اجتمع ويحط من الثمن بتلك النسبة كبيعه بوضيعة العشرة عشرة فتزيدها على الأصل فيصير عشرين وتنسب الوضيعة للمجتمع فيكون نصفا فتسقط نصف الثمن، وإذا باع بوضيعة العشرة خمسة فتضم الخمسة للعشرة وتنسب الخمسة للمجموع تكون ثلثا فالوضيعة من العشرة ثلثها. قاله عبد الباقي.
ثم عطف على قوله: "إن بين الجميع" قوله: لا أبهم هذا هو القسم الرابع، والمعنى أنه إذا أبهم أي أجمل الأصل مع المؤنة من غير ذكر شيء منها، ومثل لذلك بقوله: كقامت بكذا أو ثمنها كذا وباع بربح العشرة أحد عشر فإن هذا لا يجوز، وعطف على الرابع الممنوع الخَامِسَ وهو ممنوع أيضا بقوله: أو قامت بشدها وطيها بكذا ولم يفصل يعني أنه إذا قال قامت بشدها وطيها بمائة مثلا ولم يفصل أي لم يبين ما ينوب كلا من ذلك فإن ذلك لا يجوز أيضا، والأصل فيما لا يجوز الفساد لكن لا يفسد البيع على ما مشى عليه المص، لأن التأويلين إنما يجريان على أن البيع صحيح.
وأشار إلى التأويلين المذكورين بقوله: وهل هو كذب أو غش تأويلان يعني أن الشيوخ اختلفوا في الحكم إذا أبهم كما في هاتين الصورتين فقيل إن ذلك كذب فيجري على حكم الكذب الآتي في قول المص: "وإن كذب لزم المشتري إن حطه وربحه" لخ وهو تأويل عبد الحق وابن لبابة وقاله سحنون وابن عبدوس ومال إليه أبو عمران، وعلى تأويل الغش فالحكم هنا أنه يسقط عنه ما يجب إسقاطه ورأس المال ما بقي فَاتَتِ السلعة أو لم تفت ولا ينظر إلى القيمة. هكذا في التوضيح والمواق عن عياض. قال: وهو تأويل أبي عمران على الكتاب وإليه نحا التونسي والباجي وابن محرز وأنكره ابن لبابة. قاله بناني. وقال عبد الباقي: إنه على التأويل الثاني أي الغش لا يلزمه البيع، يعني أنه مع القيام يخير المشتري على هذا التأويل ومع الفوات يلزمه بعد إسقاط ما يجب إسقاطه وما قال من عدم اللزوم مع القيام هو الظاهر من المدونة إذ قالت: وإن ضرب الربح على الحمولة ولم يبين ذلك وقد فات المتاع بتغير سوق أو بدن حسب ذلك في الثمن ولم يحسب له ربح، وإن لم يفت رد البيع إلا أن يتراضيا على ما يجوز. انتهى. فظاهرها الخيار مع عدم الفوات. فتأمل ذلك. ويمكن أن يكون هو المراد بهذا التأويل. واللَّه أعلم. قاله بناني أيضا.
والقول بالفساد في المسألتين صرح به ابن رشد وعياض ونقله عن أبي إسحاق وغيره كما في المواق، وقال: إنه ظاهر المدونة لكن لا يحمل المص عليه كما مر لما علمت أن التأويلين إنما يجريان على أن البيع صحيح، ولما ذكر المص في التوضيح كلام ابن رشد قال بعده: ونص ابن بشير على أن البيع لا يفسد لعدم التبيين، ولما ذكر ابن عرفة التأويلين قال بعدهما ما نصه: ابن رشد: الصواب فسخ البيع لجهل المشتري بالثمن. انتهى. فجعل قول ابن رشد مخالفا للتأويلين، قال مصطفى: وبهذا تعلم أن قول الأجهوري: يتحتم الفسخ على أنه غش واعتراضه على المص غير ظاهر ولا سلف له في ذلك، والمص تابع لأصحاب التأويلين في التعبير هنا بالكذب والغش فإصلاح كلامه على خلاف ذلك إفساد له ولكلام الأيمة وذلك مصرح به في كلام عياض وأبي الحسن، وقول عبد الباقي: فهذه المسألة خرجت عن مسائل الباب لخ هذا الكلام إنما نقله أبو الحسن عن ابن رشد، وقد علمت أنه يقول هنا بالفساد لا بما قاله أصحاب التأويلين. قاله بناني.
ولما قدم وجوب بيان البائع ما في سلعته من العيوب بقوله: "وإذا علمه بين أنه به أو أراه له ولم يجمله" أَشَارَ إلى ذلك ثانيا بطريق العموم سواء كان عيبا تقضي العادة بالسلامة منه أم لا بقوله:
وَوَجبَ تبيين ما يكره يعني أنه يجب على كل بائع مرابحة أو غيرها تبيين ما يكره من أمر سلعته أي ما يكره المبتاع وتقل به رغبته في الشراء وهذا ليس خاصا بالمرابحة، فما قامت قرينة أن المبتاع لا يكرهه وإن كرهه غيره لا يجب بيانه، وقوله:"ووجب تبيين ما يكره" فإن لم يبين فإن كان عدم بيانه من الغش جرى على حكم الغش وإن كان من الكذب جرى على حكم الكذب. قاله غير واحد. وقال عبد الباقي: ووجب على بائع مرابحة وغيرها تبيين ما يكره في ذات البيع أو وصفه لو اطلع عليه المشتري ولو مع شك البائع في كراهته أو قلة رغبته فيه، فإن لم يبين فغش أو كذب فإن تحقق عدم كراهته ولو كرهه غيره لم يجب على البائع بيانه. انتهى.
وقال بناني: اعلم أن مسائل باب المرابحة ثلاثة أقسام: غش وكذب وواسطة، فَالغِشُّ فيه ست مسائل وكلها في المتن: طول الزمن وكونها بلدية أو من التركة والصوف الذي لم يتم واللبس عند المص وإرث البعض، وَالْكَذِبُ فيه ست أيضا، تجاوز الزائف والركوب واللبس وهبة اعتيدت والصوف التام والثمرة المؤبرة. والواسطة فيه ست، ثلاث لا ترجع لغش ولا لكذب وهي ما نقده وعقده ولا أبهم، والأجل وما هو متردد بينهما على خلاف الإقالة والتوظيف والولادة. قاله بعض شيوخنا. انتهى.
كما نقده وعقده مطلقا يعني أنه يجب على البائع مرابحة أن يبين ما نقده وما عقد عليه حيث اختلف ما نقده مع ما عقد عليه، كما لو عقد على ذهب فنقد فضة أو بالعكس أو عقد على نقد فنقد عرضا مقوما أو مثليا أو عقد على عرض مقوم فنقد مثليا أو بالعكس أو عقد على مثلي فنقد جنسا آخر من المثلي فيجب بيان ذلك مطلقا في بيع المرابحة، ومعنى مطلقا باع مرابحة على ما نقد أو على ما عقد عليه. انتهى. والإطلاق هو ظاهر المدونة. ابن عرفة: عياض: من نقد غير ما به عقد في لزوم بيانه في بيعه بالأول أو الثاني وقصره على بيعه بالأول قولان لظاهرها مع الواضحة، ونص الموازية: وعليه تأول فضل المدونة والواضحة. قاله بناني.
فَتَحَصَّلَ من هذا أنه إن باع مرابحة على ما عقد وجب بيانه، وإن باع على ما نقد فهل يجب البيان أم لا؟ قولان، وقال عبد الباقي: كما نقده وعقده مطلقا فإن لم يبين فغش كما يفيده ابن القاسم. قاله بعض الشراح. أي فعليه إذا فاتت الأقل من الثمن والقيمة، وفي الحطاب: الأقل مما نقد وعقد وله مع قيامها التمسك بما نقد كما هو الظاهر، وقولي: حيث اختلف مع ما نقد ظاهر
إذ لا يجب البيان حيث اتفق أي نقد ذهبا معقودا عليه. قاله عبد الباقي. قوله وفي الحطاب: الأقل مما نقد وعقد لخ هذا هو الذي في المدونة، لكن قال أبو الحسن ما نصه: ابن رشد: لم يحكم ابن القاسم في هذه المسألة بحكم الكذب ولا بحكم الغش، والصواب على أصله في مسألة الكذب أن يقال هنا: ينظر إلى ما نقده فإن كانت قيمته مثل ما عقد عليه أو أكثر فلا كلام للمشتري؛ لأن الذي ابتاع به خير له، وإن كانت أقل وأبى البائع أن يضرب له الربح على ما نقده رد إلى قيمة سلعته ما لم تزد على ما أخذها به وما لم تنقص عن قيمة ما نقده البائع فلا ينقص هذا على أصله في مسألة الكذب، وأما على ما في الكتاب ففيه إشكال على أصولهم. انتهى باختصار. وقوله: وله مع قيامها التمسك لخ أي وله الرد كما في المدونة.
والأجل وإن بيع على النقد يعني أن الشخص إذا اشترى سلعة إلى أجل ثم أراد أن يبيع فإنه يجب عليه أن يبين ذلك الأجل لأن له حصة من الثمن، وكذلك إذا اشتراها على النقد ثم تراضيا على التأجيل وأراد أن يبيعها مرابحة فإنه يجب عليه أن يبين ذلك للمشتري. وقال المواق: قال مالك: من اشترى سلعة بثمن إلى أجل فليبين ذلك في المرابحة، فإن باعها بالنقد ولم يبين فالبيع مردود، قال في كتاب محمد: وليس للمشتري حبسها إن لم تفت. ابن يونس: وهذا ظاهر المدونة ولا وجه لهذا، وقال أبو محمد عن ابن حبيب: إنما يرد المشتري إن شاء ذلك، ومن المدونة قال ابن القاسم: من ابتاع سلعة بدراهم نقدا ثم أخر بالثمن فلا يبع مرابحة حتى يبين ذلك كمن نقد غير ما عقد به البيع. انتهى.
وقال عبد الباقي: ووجب على بائع مرابحة بيان الأجل وإن بيع على النقد، فإن لم يبين وفات فعلى المشتري الأقل من الثمن والقيمة نقدا من غير ربح لا مؤجلا إلى الأول ولو تراضيا عليه لأن فيه سلفا جر نفعا؛ يعني إذا قبلها المشتري وهو أكثر إلى الأجل وإن كان قائما رد مطلقا على ظاهر المدونة لفساده واستبعد أو إن أراد المبتاع كما هو مقتضى القواعد لأنه حق آدمي وإن شاء تمسك ونقده ولا يجوز تأخيره أيضا إلى الأجل، قال الرجراجي: لأنه سلف من البائع أي الثاني مرابحة ليتمسك بعقده أي وقد انتفع بما زيد له مرابحة فهو سلف جر نفعا. انتهى. وأما إن فات فليس له ذلك أيضا لأنه فسخ دين في دين إن كان الثمن من غير جنس القيمة أو صرف مستأخر، وإن كان من جنسها والغالب أنه أكثر منها فهو السلف بزيادة.
وطول زمان يعني أنه إذا اشترى سلعة وطال مكثها عنده فإنه يجب عليه إذا أراد أن يبيعها مرابحة أن يبين طول زمانها عنده، قال مالك: إذا تقادم مكث السلعة فلا يبيعها مرابحة حتى يبين في أي زمان اشتراها. قاله المواق. وقوله: "وطول زمان" سواء حال سوقها عنده أم لا، بارت عنده أم لا. وللخمي: إن تغير سوقها أو تغيرت في نفسها أو بارت بَيَّنَ وإلا فلا، وشمل المص العقار ربعا أو غيره، ولأبي الحسن: تغير سوق الربع لا يوجب بيانه بخلاف طول زمانه. انتهى. فإن لم يبين فغش وكما يجب ذلك في المرابحة يجب في المساومة، وينبغي أن مثلهما المزايدة والاستيمان. قاله عبد الباقي. وقال بناني: ابن عرفة: الصقلي عن ابن حبيب: إن طال مكثها فليبين وإن لم يحُل سوقها، فإن لم يفعل وفات رد إلى القيمة. انتهى.
ولابن رشد: إن طال مكث المبيع عنده فلا يبع مرابحة ولا مساومة حتى يبين وإن لم يحل أسواقه، لأن التجار في الطارئ أرغب وأحرص لأنه إذا طال مكثه حال عن حاله وتغير وقد يتشاءمون بها. ابن رشد: إن باع مرابحة أو مساومة بعد الطول ولم يبين فهي مسألة غش يخير المبتاع في القيام ويغرم الأقل من الثمن والقيمة في الفوات. انتهى. وقول عبد الباقي: وينبغي أن مثلهما المزايدة قصور، ففي ابن عرفة: من الدلسة إدخال بعض أهل السوق ما بحانوته للنداء عليه كوارد على السوق. انتهى.
وتجاوز الزائف وهبة اعتيدت يعني أن من اشترى سلعة فتجاوز البائع عنه في الثمن عن درهم زائف مثلا أو حط عنه من الثمن شيئا لأجل البيع أو وهبه شيئا من الثمن وأراد هذا البائع أن يبيع ذلك مرابحة، فإنه يجب عليه أن يبين للمشتري ما تجاوز عنه البائع من الردي أو ما حط عنه لأجل البيع حيث كانت الحطيطة معتادة بين الناس، فإن لم تعتد أو وهب له جميع الثمن قبل الافتراق أو بعده لم يجب البيان، وقول المدونة: إن كان نقدها وافترقا ليس بشرط والمراد بتجاوز الزائف الرضا به وليس المراد به تركه وترك بدله، لأن هذا يدخل في الهبة، والمراد بالاعتياد أن تشبه حطيطة الناس ثم إن قيد الاعتياد معتبر في تجاوز الزائف أيضا وهو ظاهر كلام الشامل ولكنه خلاف ظاهر كلام المؤلف وخلاف ظاهر كلام ابن عرفة والمدونة، فإن لم يبين الهبة فله حكم الكذب وإن لم يبين تجاوز الزائف فله حكم الغش. قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: وإذا اشترى بثمن زائف كله أو بعضه ورضي به البائع ثم أراد المشتري أن يبيع مرابحة وجب عليه بيان تجاوز الزائف وقدره معتادا كما للعلمي وظاهر الشامل، ولكن ظاهر المص وابن عرفة والمدونة اعتيد أم لا، فإن لم يبين فغش. انتهى. قال بناني: التحقيق أنه من باب الكذب كما يفيده نقل أبي الحسن وابن عرفة عن سحنون وابن محرز وابن يونس وأبي بكر بن عبد الرحمن، وهو ظاهر لأن الزائف أنقص. انتهى. وقال عبد الباقي: ووجب بيان هبة وهبت له من الثمن اعتيدت بأن تشبه حطيطة الناس، فإن كانت قائمة وحط ما وهب له من الثمن دون ربحه فهل يلزمه وهو لسحنون أو إلا إن حطه وربحه وهو لأصبغ؟ خلاف، فإن فاتت لزمه إن حطه فقط من غير خلاف ودخل في المعتاد ترك الزائف له وترك بدله، فإن لم يبين فكذب فإن لم تعتد لكثرتها لم يجب بيانها، وكذا لو حط عنه جميع الثمن وباع مرابحة على جميعه كما في المدونة، قال أحمد: لا يقال تجاوز الزائف داخل في الهبة لأنا نقول: الهبة هنا غير حقيقية.
تَتِمَّةٌ:
الهبة المعتادة يلزم من شَرَّك أن يحط عن شريكه حصته من ذلك ولا يلزم مثله في التولية، لكن إذا لم يحط ذلك عن المولَّى بالفتح كان للمولَّى بالفتح الخيار بين التمسك والرد كما في المدونة. قاله عبد الباقي بمصاحبة شيء من كلام بناني. ووجب في بيع المرابحة وغيرها ليلا يكون مدلسا بيان أنها ليست بلدية إذا كانت تلتبس ببلدية يرغب فيها أكثر. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: هذا من التدليس بالعيوب وليس هو خاصا ببيع المرابحة، فيجب على البائع أن يبين للمشتري أن السلعة ليست بلدية إن كانت الرغبة في السلع البلدية أكثر، أو أنها بلدية إن قلت الرغبة فيها، أو من التركة هذا من التدليس بالعيوب أيضا فليس هو خاصا ببيع المرابحة؛ يعني أنه يجب في المرابحة وغيرها بيان أن هذه السلعة من التركة إن كانت الرغبة في غير سلع التركة أكثر، وكذا يجب عليه بيان أن هذه السلعة ليست من التركة إن كانت الرغبة في سلع التركة أكثر، فإن لم يبين فغش في المسألتين، فقوله:"أو من التركة" يحتمل أنه عطف على خبر أن، ويحتمل أنه عطف على خبر ليس.
وولادتها يعني أنه إذا اشترى أمة أو أنثى غيرها فولدت عنده فأراد أن يبيعها مرابحة، فإنه يجب عليه أن يبين أنها ولدت عنده، قال عبد الباقي: ووجب بيان ولادتها عنده أمة أو غيرها
من حيوان أو نحل بحاء مهملة ولو ابتاع الحيوان حاملا أو قرب وضعه على الأصح فيهما كما في الشامل. وبالغ بقوله: وإن باع ولدها معها أي يجب عليه بيان أنها ولدت عنده، وإن كان باعها مع ولدها لأن بيعه معها لا يقتضي ولادتها عنده مع أنه المراد. قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: وإن توالدت الغنم لم يبع مرابحة حتى يبين وإن باعها بأولادها؛ لأن حوالة الأسواق فوت فهذا أشد من ذلك، ولو ولدت الأمة عنده لم يبع الأم مرابحة ويحبس الولد إلا أن يبين ويكون الولد في حد التفرقة. انتهى. وكذا يجب بيان تزويج الأمة ولو طلقت ولم تلد، وانظر في موت الزوج. وأشعر كلامه بأن وطء السيد لا يجب بيانه إلا أن تكون بكرا واقتضها وقيده في الشامل كالمدونة بالرائعة، فإن لم يبينه فكذب يلزم المشتري إن حط عنه ما ينوب الاقتضاض وربحه، وعلل في المقدمات مسألة المص بأن الولادة عنده عيب وطول إقامتها إلى أن ولدت عنده غش وخديعة، وفي نقصها التزويج والولادة من قيمتها كذب في الثمن وقد لا توجد كلها إذ قد تلد بإثر شرائها، فإن باع ولم يبين وكانت قائمة فله القيام بأي هذه العلل الثلاث شاء، فلو أسقط عنه البائع ما ينوب الكذب وربحه له القيام بالعيب والغش. قاله عبد الباقي.
وقال بناني عن ابن رشد: وإن اجتمع العيب والغش والكذب مثل شرائه جارية ولا ولد لها فيزوجها وتلد عنده أولادا ثم يبيعها بكل الثمن دون ولد معها ولم يبين أن لها ولدا، فولدها عيب وطول إقامتها إلى أن ولدت غش وما نقص التزويج والولد من قيمتها كذب، فإن لم تفت فليس للمشتري إلا الرد ولا شيء عليه أو حبسها ولا شيء له، وليس للبائع أن يلزمه إياها بحط شيء من الثمن لأجل العيب والغش وإن فاتت ببيع فلا طلب له بالعيب وطلبه بحكم الغش أنفع له من طلب حكم الكذب، فيغرم الأقل من قيمتها أو المسمى، وإن فاتت بحوالة سوق أو نقص يسير فله الرد بالعيب أو الرضا به ويقوم بحكم الغش فيغرم الأقل من قيمتها أو المسمى لأنه أحسن له من حكم الكذب، وإن فاتت بعيب مفسد خير في ثلاثة أوجه أن يردها وما نقصها العيب عنده، أو يتمسك ويرجع بقيمة العيب ومنابه من الربح، أو يرضى بالعيب ويقوم بحكم الغش فيغرم الأقل من قيمته أو المسمى لأنه أحسن له من حكم الكذب، فإن لم يرد والولد صغير لم يبلغ حد التفرقة جبرا على الجمع بينهما في ملك واحد أو يرد البيع، وإن فاتت بفوت عينها
أو ما يقوم مقامه خير في الرجوع بقيمة العيب ومنابه من الربح والرضا بالعيب وطلب حكم الغش. انتهى.
قوله: أنفع له من حكم الكذب يعني لأنه في الغش عليه الأقل من الثمن والقيمة، وفي الكذب عليه الأكثر من الثمن الصحيح وربحه والقيمة ما لم تزد على الكذب وربحه، وإن اشترى شجرة مؤبرة وجذها أو غنما تم صوفها وأراد بيع أصل كل مرابحة وجب عليه بيان جذ ثمرة أبرت يوم الشراء، وبيان صوف تم يوم الشراء لأن لكل من الثمرة والصوف حصة من الثمن، وضَمَّن جذ معنى أخذ لجريانه في المعطوف لأنه فيه بالزاي. قاله عبد الباقي. ومفهوم المص أن الثمرة غير المؤبرة والصوف الذي لم يتم إن أخذهما لا يجب بيان أخذهما، وذلك حيث لم يطل الزمان، وأما إن طال الزمان فلا بد من بيان طول الزمان لقول المص:"وطول زمان" وفي المواق: وأما إن جز صوف الغنم فليبينه كان عليها يوم الشراء أو لا؛ لأنه إن كان يومئذ تاما فقد صار له حظ من الثمن فهو نقصان من الغنم، وإن لم يكن تاما فلم ينبت إلا بعد مدة تتغير فيها الأسواق. انتهى. وهذا كلام المدونة وتعليلها يدل على أنه إن بين طول الزمان لا يحتاج لبيان جز غير التام، فإن لم يبين في مسألتي المص، ففي المؤبرة والتام كذب وفي غير التام غش.
وإقالة مشتريه يعني أنه يجب في المرابحة بيان الإقالة إذا باع بالثمن الذي وقعت عليه الإقالة للمشتري، فإذا اشترى سلعة بعشرة فباعها بخمسة عشر وتقايلا عليها فأراد أن يبيع مرابحة على الخمسة عشر فلا بد من بيان الإقالة، وأما إذا باع مرابحة بالعشرة فلا يجب عليه بيان الإقالة على المعتمد فإن لم يبين فكذب، وعلى مقابل المعتمد فيما إذا باع على العشرة فإن لم يبين فغش. وفي المواق: من المدونة: من ابتاع سلعة بعشرين دينارا ثم باعها بثلاثين دينارا ثم أقال منها لم يبع مرابحة إلا على عشرين، لأن البيع لم يتم بينهما حين استقاله. ابن يونس عن بعضهم: إنما لم يجعل الإقالة هاهنا بيعا حادثا لأنه أقاله بحضرة البيع ولو تناقدا وافترقا وتباعد ذلك ثم تقايلا فهذا بيع مبتدأ وإن سموه إقالة، وله أن يبيع على الثمن الآخر. انتهى.
إلا بزيادة أو نقص يعني أن الإقالة إذا وقعت بزيد أو نقص فإنه لا يجب بيانها إذا باع مرابحة، فإذا اشترى سلعة بعشرة ثم باعها باثني عشر ثم تقايلا على ثلاثة عشر فإنه يجوز أن يبيع مرابحة على ثلاثة عشر من غير بيان وكذا لو تقايلا على أحد عشر فإنه يجوز أن يبيع مرابحة
على أحد عشر من غير بيان. قاله الخرشي في كبيره. وقاله غير واحد. وقال عبد الباقي: إلا أن تكون الإقالة بزيادة أو نقص فلا يجب بيانها، ومثلهما إذا وقعت بَعْدَ بُعْدٍ، ومفهوم إقالة أن شراءه لها بمثل الثمن أو أقل أو أكثر لا يجب معه البيان وهو كذلك على أحد قولين والآخر أنه كالإقالة مساواة ونقصا وزيادة. انتهى. وأصله لابن الحاجب. التوضيح: المحققون من الشيوخ يرون أن لا فرق بين هذا والإقالة، لأنه إن كان بمثل الثمن فهو إقالة، وإن كان بأقل أو أكثر فالمشهور الجواز. قاله بناني.
والركوب يعني أنه يجب في المرابحة بيان الركوب النقص فإن لم يبين فكذب، واللبس يعني أنه يجب في بيع المرابحة بيان اللبس المنقص، فإن لم يبين فهو كذب فإذا اشترى دابة بعشرة فركبها ركوبا منقصا فإنه إذا باعها على المرابحة فلابد أن يبين ذلك الركوب المنقص، وتقييد الركوب بالمنقص مأخوذ من المدونة، وإذا اشترى ثوبا بعشرة فلبسه لبسا منقصا فأراد أن يبيعه على المرابحة فإنه يجب عليه بيان ذلك.
والتوظيف يعني أنه لو اشترى سلعا متعددة في صفقة واحدة وأراد بيع بعضها مرابحة يجب عليه أن يبين ذلك حيث كان الموظف عليه الثمن مختلفا، بل ولو كان الموظف عليه متفقا في الصفة كثوبين جنسا وصفة ثم يبيع أحدهما مرابحة لأنه قد يخطئ في توظيفه ويزيد في بعضها لرغبة فيه، ورد المص بلو قول ابن نافع بالجواز لأنه من عادة التجار مدخول عليه عندهم، فالتوظيف أن يجعل لكلّ سلعة حظا من الثمن، كأن يبيع أحد ثوبين مثلا اشتُرِيَا صفقةً واحدة فلا يبيع أحدهما مرابحة إلا ببيان أنه اشتراهما معا. وقوله:"ولو متفقا" هذا في المقوم، وأما المثلي فلا يجب بيان بعضه عند بيعه مرابحة على التوظيف حيث اتفقت أجزاؤه، فإن لم يبين في مسألة المص فهل كذب أو غش؟ خلاف، وظاهر المواق ترجيح الثاني، وينبغي أنه غش في المتفق لإيهام شرائه كذلك وكذب في المختلف لاحتمال خطائه.
إلا من سلم يعني أنه يجب بيان التوظيف ولو متفقا كما عرفت، ومحل ذلك إذا لم يكن الموظف عليه من سلم بأن كان في بيع النقد، وأما إن كان الموظف عليه متفقا من سلم فإنه لا يجب بيان التوظيف حينئذ؛ لأن آحاده حين العقد غير مقصودة بعينها، وإنما المقصود الصفة لكون البيع في الذمة، ولذلك إذا استحق ثوب منه رجع بمثله لا بالقيمة بخلاف المعينة في غير السلم، وسواء
كان التوظيف فيه بعد القبض للمسلم فيه أو قبله نظرا لوقوعه حين العقد على آحاد غير مقصودة، قال الشارح: قيد في المدونة جواز التوظيف في السلم بأن لا يكون أخذ أدنى مما في ذمة المسلم إليه، وقيده اللخمي أيضا بأن لا يكون أحدهما أي الثوبين أجود مما في الذمة، فإن كان أزيد أي بالجودة وظف الزائد عليه وعلى ثوب المرابحة؛ لأن الزيادة كهبة لأجل البيع فيجب توظيفها، وقوله: وقيد اللخمي لا ينافي فرض أن التوظيف الذي لا يجب بيانه إنما هو حيث اتفقت الصفة لأن العقد على المتفق ثم أخذ أجود مما في الذمة كما هو كلامه. قاله عبد الباقي.
فرع:
لو اشترى اثنان (عروضا)
(1)
ثم اقتسماها فلا يبيع أحدهما مرابحة حتى يبين إن لم يكن من سلم واتفقت الصفة لا غلة ربع، يعني أنه إذا اشترى ربعا واغتله، فإنه إذا أراد بيعه مرابحة لا يجب عليه بيان اغتلاله ومثل الربع غيره من أنواع العقار، فلو عبر المص بعقار لشموله للأرض وفي اتصل بها من بناء أو شجر لكان أولى، ومثله غلة حيوان كلبن وسمن إلا ثمرا مؤبرا وصوفا تم. كتكميل شرائه يعني أنه إذا اشترى بعض سلعة بخمسة مثلا، ثم اشترى باقيها بزيادة فإنه لا يجب عليه البيان إذا باع مرابحة أي لا يجب عليه أن يبين أنه اشترى بعضها ثم اشترى البعض الآخر، وقيده اللخمي بما إذا لم تكن الزيادة لضرر الشركة بل لحوالة سوق ونحوه وإلَّا بَيَّنَ، وأتى بالكاف ليلا يتوهم أنه من جملة المعاطيف الأول. قاله عبد الباقي. وقال المواق: قال ابن يونس: قال ابن حبيب لِمَن أخذ سلعة في المقاواة بينه وبين شريكه بيعُها مرابحة بتلك المقاواة وإن لم يبين إذا صح ذلك، قال ابن أبي زيد: يريد ويحمل على الثمن نصف الزيادة فقط وهو ما أخذ الشريك.
لا إن ورث بعضه يعني أنه إذا ملك شيئا بعضه بإرث وبعضه بشراء وأراد بيع البعض المشتري مرابحة فإنه يجب عليه أن يبين أن البعض الآخر موروث وإذا بين وقع البيع على ما ابتاع، فإذا باع ولم يبين دخل في ذلك ما ابتاع وغيره، فإن فات البيع والحال أنه لم يبين فالمبيع وهو النصف نصفه مشترى فيمضي بنصف الثمن ونصف الربح ونصفه الآخر موروث فيمضي بالأقل من القيمة وما يقع عليه من الثمن والربح لسريان الموروث في أجزاء ما اشترى، قال بناني: وهذه المسألة على حكم الغش في النصف الموروث لأنه مع قيام المبيع يخير المشتري ومع الفوات يلزمه
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 180.
في النصف الموروث الأقل من الثمن والقيمة وهذا هو حكم الغش، واختلف الشيوخ هل محل وجوب البيان إن تقدم الإرث على الشراء لأنه يزيد في ثمن النصف المشترى ليكمل له ما ورث نصفه مثلا، أو وجوب البيان مطلقا تقدم الإرث أو تأخر لترقبه الإرث وهو المعتمد؟ في ذلك تأويلان، فإن لم يبين وكانت السلعة قائمة فللمشتري رد الجميع والتمسك به بما وقع العقد عليه، وإن فاتت مضى النصف المشترى بنصف الثمن ونصف الربح والنصف الموروث بالأقل من قيمته وما يقع عليه من الثمن والربح.
وعلم مما قررت أن البيع مرابحة إنما هو النصف المشترى؛ لأن البعض الموروث لا يباع مرابحة إذ لا ثمن له. قاله الخرشي. وقال بناني. موضوع المسألة في المدونة إنما هو إذا باع النصف المشترى فقط مرابحة وفيه وقع التأويلان للقابسي وأبي بكر بن عبد الرحمن، وبه شرح الحطاب وغيره. انظر المواق. انتهى. فتأويل الإطلاق لأبي بكر بن عبد الرحمن والأول للقابسي. واللَّه سبحانه أعلم.
قال الخرشي: وَلما قدم أن غلط البائع في بيع المساومة لا قيام به، أشار إلى غلط المرابحة بقوله: وإن غلط البائع مرابحة على نفسه فَأَخْبَرَ بنقص عما اشتراه به وصدق بالبناء للمجهول أي صدقه المشتري في غلطه أو أثبت غلطه ببينة أو ظهر من رقم الثوب ما يدل على صدقه في الغلط وحلف في ذلك لا مع الأولين، رد المشتري المبيع وأخذ ثمنه أو دفع ما تبين أنه ثمن وربحه؛ أي يخير بين رد البيع ودفع الثمن الصحيح وربحه هذا مع قيام المبيع، وإن فات بنماء أو نقص لا بحوالة سوق خير مشتريه بين دفع الصحيح وربحه ودفع قيمنه في المقوم ومثله في المثلي يوم بيعه؛ لأن العقد صحيح لا يوم قبضه كما في الموطإ، وعلى ما فيه درج ابن الحاجب ما لم تنقص قيمته عن الغلط وربحه.
وحاصل ما قال المص في مسألة الغلط هذه أنه إذا ثبت ما قال أو صدقه المشتري أو قامت قرينة على صدقه فإن المشتري يخير بين أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه، وبين أن يدفع الثمن الصحيح وربحه، ويحلف في قيام القرينة على صدقه لا مع البينة أو التصديق، وأما إن فات المبيع بنماء أو نقص لا بحوالة سوق فإن المشتري يخير بين دفع الصحيح وربحه، وبين أن يدفع قيمة المبيع إن كان مقوما ومثله إن كان مثليا أي قيمته يوم البيع ما لم تنقص القيمة عن الغلط وربحه فلا
ينقص عن الغلط وربحه. واللَّه سبحانه أعلم. وقوله: "بنقص" متعلق بمقدر وهو أَخْبَرَ كما قررت، وقوله:"ما لم تنقص عن الغلط وربحه" قال مصطفى: أي وما لم تزد على الصحيح وربحه كما في المدونة، فكان عليه أن يبينه لكن تبع عبارة ابن الحاجب، قال بناني: لا يحتاج لهذه الزيادة لأنه حيث خير المشتري فمعلوم أنه لا يختار إلا الأقل.
وإن كذب لزم المشتري إن حطه وربحه يعني أن البائع إذا كذب في بيع المرابحة -والكذب هو الإخبار بخلاف الواقع كما لو قال إنه اشتراها بخمسين وإن كان يساويها الآن وكان قد اشتراها بأربعين- فإن المشتري يلزمه المبيع إن حط عنه البائع الزائد المكذوب به وربحه، فإن لم يحط ذلك لم يلزم المبيع المشتري بل يخير بين الرد والتماسك.
بخلاف الغش يعني أن الغش في المرابحة ليس كالكذب، فإن المشتري لا يلزمه المبيع بحال بل يخير بين التماسك والرد، وليس للبائع أن يحط عنه بعض الثمن ويلزمه إياها والغش أن يوهم وجود مفقود مقصود أي وجوده في البيع أو يكتم فقد موجود مقصود فقده منه. انتهى. قال بناني: صوابه أو يكتم وجود موجود مقصود فقده؛ لأن المكتوم هو وجود ما يكون المقصود فقده، مثل أن يكتم طول إقامته عنده ويظهر جدته، زاد ابن عرفة بعد قوله مقصود: فقده منه لا تنقص قيمته لهما. انتهى. وضمير لهما للمفقود والموجود، واحترز به من العيب وذلك أنهم فرقوا في باب المرابحة بين الغش والعيب، فما كان يكره ولا تنقص القيمة له يسمى غشا كطول إقامة السلعة وكونها غير بلدية أو من التركة وما تنقص القيمة له يسمى عيبا كالعيوب المتقدمة، والمراد بكون القيمة لا تنقص للغش باعتبار ذات البيع فقط بقطع النظر عن ذلك، بخلاف العيب فإن ذات البيع ناقصة غالبا، فافهم. قاله مصطفى. وهذا الذي قدمته في الكذب والغش هو مع قيام السلعة.
وإن فات المبيع بنماء أو نقص أو حوالة سوق ففي الغش يلزم المشتري أقل الثمن الذي بيعت به، والقيمة يوم قبضها ولا يضرب ربح على ذلك الأقل، وفي الكذب خير البائع بين أخذ الثمن الصحيح وربحه أو بمعنى الواو أي وبين أخذ قيمتها أي السلعة ما لم تزد القيمة على الكذب وربحه فيغرم المشتري الكذب وربحه فقط؛ لأن البائع قد رضي بذلك. واقتصر الحطاب على أن القيمة في الكذب يوم القبض ومقتضى المواق ترجيحه، وقال التتائي: وهل القيمة يوم البيع أو يوم
القبض روايتان: الأولى رواية علي والثانية رواية ابن القاسم، وعلى رواية ابن القاسم يحتاج للفرق بينهما وبين مسألة الغلط بالنقص.
واعلم أن جعل ضمير خير للمشتري غير ظاهر من ثلاثة أوجه: أحَدُهَا أن القول بأن التخيير للمبتاع خلاف المشهور، الثَّانِي لو كان التخيير له لم يكن لقول المص:"ما لم تزد" لخ معنى صحيح، الثَّالِثُ أنه يؤدي إلى أن المص ترك قيدا لا بد منه وهو أن محل قوله:"أو قيمتها ما لم تزد" لخ على هذا وما لم تنقص عن الغلط وربحه. قاله عبد الباقي. وقال عند قوله "بخلاف الغش" كرقمه عليه أكثر من ثمنه وكتم طول إقامتها عنده. انتهى. وقال عبد الباقي: وإن كذب البائع في دعواه بزيادة ولم يقل وإن غلط بزيادة على نمط ما قبله؛ لأن الغالب أن ذلك ليس غلطا وإنما هو محض كذب فتضمن لفظه أن الكذب بزيادة، ولأن الغلط يناسبه النقص والكذب يناسبه الزيادة فعبر في كل بما يناسبه وإلا فالكذب والغلط شيء واحد وهو الإخبار بخلاف الواقع. انتهى.
ولَمَّا كان الغاش أعم من المدلس لأن من طال زمان المبيع عنده ولم يبين غاش ولا يقال فيه مدلس، أو باع على غير ما نقد أو عقد ولم يبين غاش عند سحنون وليس بمدلس، أفرد المدلس بحكم يخصه فقال: ومدلس المرابحة كغيرها يعني أن المدلس في بيع المرابحة كالمدلس في غير بيع المرابحة، والتشبيه في أن المشتري بالخيار بين الرد ولا شيء عليه والتمسك ولا شيء له إلا أن يدخله عنده عيب، ويحتمل كغيرها من المسائل المتقدمة في قوله في الخيار، "وفرق بين مدلس وغيره إن نقص"، وتفترق المرابحة من غيرها كما قال ابن يونس فيما لو هلكت السلعة في مسألة الكذب بزيادة في الثمن يريد أو الغش أو ما يتعلق بالمرابحة قبل قبض المشتري فضمانها من البائع؛ لأنه قال فيها: تشبه البيع الفاسد ذكره بعضهم. قاله عبد الباقي وغيره. وقال بناني عند قوله: "ومدلس المرابحة كغيرها" ما نصه: لو قال: وعيب المرابحة كغيرها لكان أشمل. انتهى المراد منه. وَلَمَّا كانت المرابحة فيها زيادة في الثمن تارة ونقص أخرى وفي فصل التناول زيادة في البيع تارة ونقص (آخر)
(1)
، ناسب أن يعقبه به فقال:
(1)
كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 5 ص 181 أخرى.
فصل:
اشتمل هذا الفصل على أشياء المداخلة وبيع الثمار والعرايا والجوائح تناول البناء والشجر الأرض "البناء" فاعل "والشجر" عطف عليه "والأرض" مفعول يعني أن العقد على البناء والشجر يتناول الأرض التي هما بها تناولا عرفيا فيعمل به شرعا لا لغويا، فتكون الأرض والبناء للمشتري كما يكون له الشجر والأرض، وقوله:"الأرض" قال عبد الباقي: أي موضع البناء وموضع الشجر كما في السنهوري والتتائي [والشيخ]
(1)
، فلا يدخل حريمهما فيما يظهر لأنه ليس من ضرورياتهما وإن احتاجا إليه في بعض الأحوال، واستظهر دخوله أحمد. قاله الأجهوري. ويؤيد أحمد قول الذخيرة -كما نقله الوالد- يتناول لفظ الشجر الأغصان والأوراق والعروق واستحقاق البقاء مغروسا. انتهى. والعروق يتسع محلها ببعض الشجر. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن من عقد على بناء أو شجر فإنه يتناول الأرض التي هما فيها لا غيرها إلا أن يشترط أكثر منها حتى يشترط إفراد البناء والشجر عنها، والعقد أعم من أن يكون بيعا أو وصية أو رهنا أو وقفا أو هبة أو غير ذلك. انتهى.
وتناولتهما يعني أن العقد على الأرض يتناول البناء والشجر اللذين هما لها، قال عبد الباقي: أي تناولت الأرض المعقود عليها ما فيها من بناء أو شجر بحكم العرف، وكلام المص في المسألتين يجري في البيع والرهن والوصية كما في ابن عرفة، وينبغي والهبة والصدقة كما بحثه أحمد، وينبغي والحبس إذ هو كالوصية ومحل المص، ومحل ذلك كله حيث لا شرط ولا عرف بخلافه وإلا عمل به، فيصلح رجوع قوله: إلا لشرط لهذا أيضا. انتهى. ونحوه للخرشي، وقال المواق: قال ابن شأس: الأرض يندرج تحتها البناء كما تندرج هي أيضا تحت البناء، ومن المدونة: من ارتهن أرضا ذات نخل لم يسمها أو رهن النخل ولم يذكر الأرض فذلك موجب لكون الأرض والنخل رهنا وكذلك في الوصية والبيع. انتهى. وقال الرهوني: قول عبد الباقي: ومحل المص ومحل ذلك كله لخ صحيح، ثم قال: فكل من يبيع فدانا من الأرض وله بها شجر متفرق يمكن حرث ما بينها أو غرسه والبناء فيه فإنما يشمل البيع الأرض يعني في بلادهم وما قاربها لتقرر العرف بعدم دخول ذلك عندهم في بيع الأرض كما صرح به.
(1)
كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 5 ص 181 والشيخ خضر.
لا الزرع يعني أن الأرض المعقود عليها لا تتناول الزرع وهو الخارج الظاهر على الأرض؛ لأن خروجه بمنزلة تأبير الثمر على المشهور، والفرق بين الزرع والشجر والبناء أنهما كجزء منها بخلاف الزرع، وقيل: إن ابار الزرع إفراكه فيتناول العقد على الأرض الزرع حيث لم يفرك الحب، وقال المواق: وأما الزرع الظاهر فقال المتيطى: إن كان في الأرض زرع ظاهر حين البيع أو كان في الشجر ثمر مؤبر فإن ذلك كله للبائع بمطلق البيع لا يكون للمبتاع إلا بشرط. انتهى.
والبذر عطف على المثبت يعني أن الأرض المعقود عليها تتناول البذر المغيب فيها. المتيطى: وإن كان في هذه الأرض بذر مستَكِنٌّ لم يبرز منها أو في الشجرة ثمر لم يؤبر فإنه كله تبع للمبيع في البيع لا يجوز استثناؤه، كما لا يجوز استثناء الجنين ببطن أمه، وبصل الزعفران نص المشاور أنه كالبذر المستكن فإن نَوَّرَ فالنور للبائع والبصل للمشتري لأنه كالأصول. انتهى. وفي قوله:"لا الزرع والبذر" تشتيت للعطف؛ لأن قوله: "والبذر" معطوف على المثبت. وقوله: ومدفونا معطوف على المنفي أعني قوله: "لا الزرع" يعني أن الأرض المعقود عليها لا تتناول المدفون فيها حجارة أو عمدا أو غير ذلك، فإذا علم أن البائع مالكه وباع الأرض غير عالم به يكون له هو أو موروثه، فإن علمه حين بيعها ولم ينسبه لنفسه فلا قيام له كما في أحمد، وقوله:"مدفونا" يشعر بقصد الدفن فيخرج ما كان من أصل الخلقة كالحجارة المخلوقة في الأرض والبير العادية أي القديمة منسوبة لعاد، فكل قديم يقال فيه ذلك. قاله عبد الباقي وغيره. وقال الخرشي: واحترز بالمدفون مما كان من أصل خلقتها فإنه يتناوله العقد عليها ويكون للمشتري.
كلو جهل يعني أن العقد على الأرض لا يتناول المدفون فيها كما عرفت، فإن علم مالكه كان له كما مر، وإن جهل مالكه فإنه يكون للبائع إن ادعاه وأشبه أن يملكه هو أو موروثه وإلا فلقطة. قاله البناني. وقال المواق ما نصه: المتيطى: لو كان بالدار البيعة صخر أورخام أو عمد أو شبه ذلك لم يعلم به المتبايعان ثم علماه، فمعلوم مذهب ابن القاسم أنه للبائع إن ادعاه وأشبه أنه له بميراث أو غيره. انتهى. يعني مع يمين البائع كما قاله الرهوني. وقوله:"ومدفونا كلو جهل" قال الحطاب: فإن كان المدفون جبا أو بيرا خير المبتاع في نقض البيع والرجوع بقيمة ما استحق من أرضه. انتهى. قال عبد الباقي: وفيه نظر لأن المستحق هنا معين، فإن قل لزم التمسك بالباقي وإن كثر وجب رده وحرم التمسك بالباقي. انتهى. قال بناني: جوابه أن ما قاله
الحطاب هنا عن ابن رشد من الخيار هو الموافق لا قدمه الزرقاني نفسه في باب الخيار عند قول المص: "وتلف بعضه واستحقاقه كعيب به" من أن المبيع إذا كان متحدا واستحق منه بعض معين، فإن كان المستحق النصف فأقل خير المبتاع وإن استحق الأكثر حرم التمسك بالأقل، وأن محل لزوم التمسك بالباقي إن كان النصف فأكثر إنما هو في البيع المتعدد، ولا شك أن ما هنا من قبيل المتحد وأن الجب أو البيرَ من قبيل الأقل. فتأمله تعلم أنه لا معارضة.
الغرناطي: من اشترى حوتا فوجد في بطنه لؤلؤة، فإن كانت مثقوبة فلقطة وإلا فقيل للبائع وهو الصواب وقيل للمشتري، وتقدم في التتائي أنه إن اشترى وزنا فللمشتري وجزافا فللبائع والمثقوبة لقطة. انتهى المراد منه. وإذا كانت لقطة فتُعرَّف سنة على حكم اللقطة الآتية. قال ابن سلمون: وفي نوازل ابن الحاج: من صاد حوتا فباعه فوجد المبتاع في جوفه لؤلؤة، قال: إن كانت مما يصح أنها ملكت مثل أن تكون مثقوبة فهي كاللقطة ويعرفها وليست للبائع ولا للمشتري، وإن لم تكن مثقوبة ففيها الخلاف وذكره. انتهى.
والمراد بالبائع الصائدُ أو وارثه، وإذا تعدد البيع ولم يطلع عليها إلا المشتري الأخير فالقولان جاريان أيضا، لكن هل للصائد أو وارثه أو للمشتري الأخير الذي اطلع عليها؟ انظر الرهوني. وإذا وهب الحوت أو تصدق به فوُجِدَ في بطنه حوتٌ فهل يجري القولان أو يكون للواهب اتفاقا؟ وهذا هو الظاهر، وإذا ذهبنا على القول بأنها للصائد أو وارثه وجهل فهل تكون لقطة أو تجعل في بيت المال والظاهر الثاني؟ قاله الرهوني. وقال: قال ابن غازي: لو قال ولو جهل لكان أجرى على اصطلاحه أي ليشير بلو لرد الخلاف المذهبي، فقد قال ابن سلمون بعد ما قدمناه عنه يعني قوله فيما مر يكون للبائع مع يمينه إن ادعاه وأشبه أن يملكه ما نصه: وقال محمد بن دينار: إن ذلك يكون للمبتاع وهو قول سحنون في نوازله، وقول ابن حبيب في الواضحة. انتهى.
ولا الشجرُ المؤبرَ يعني أن من اشترى نخلا قد أبرت فإن ذلك لا يتناول ثمرها المؤبر كلُّهُ أو أكثره فهو بالرفع عطف على الضمير المستكن في المؤبر المؤكد بكله والتأبير خاص بالنخل وهو كما في الصحاح تعليق طلع الذكر على الأنثى ليلا تسقط ثمرتها وهو اللقاح. الباجي: والتأبير في التين وما لا زهو له أن تبرز جميع الثمر عن موضعها وتتميز عن أصلها، وأما الزرع فإباره أن يظهر على وجه الأرض وسواء اشترى الشجر فقط أو دخل ضمنا بأن اشترى أرضا بها شجر فيه ثمر
مؤبر، وَإيضاح هذا أن من باع شجرا وفيه ثمر قد أبر كله أو أبر أكثره يكون الثمر للبائع، وذلك شامل لما إذا باع أرضا وفيها ثمر مؤبر، وفتوى ابن الفخار وابن عتاب بدخول الثمار في العقد خارجة عن هذا، لأن محل فتواهما إذا كان في الوثيقة لفظ عام يشمل الثمرة مثل اشترى فلان من فلان جميع ما حوته أملاكه فهي عندهما مما اشترطه المبتاع، وأما إذا باع أرضا فيها شجر من غير لفظ فدخلت الشجرة ضمنا فقد صرح في الجلاب بعدم دخول الثمار وهو في المواق، وبهذا بحث ابن عرفة مع المتيطى وأطال فيه، ومثله يرد على المواق وهو ظاهر. قاله بناني.
وقوى الرهوني كلام بناني هذا غاية ورد ما للمتيطى ومن وافقه كابن رشد، وقال بعد جلب كثير من المنقول: فَتَحَصَّلَ أن اعتراض ابن عرفة على المتيطى صحيح متجه وأن من اعترض عليه كائنا من كان لا يلتفت إليه، وقال: إن من تأمل وأنصف ظهر له أن كلام ابن عرفة هو الحق. انتهى. ومفهوم كلام المص أن الثمر غير المؤبر أو المؤبر أقله يتناوله العقد فيكون للمشتري وهو كذلك وإن أبر النصف فسياتي وليس للبائع اشتراط غير المؤبر، كما لا يجوز اشتراط الجنين وقد مر ذلك قريبا، والقول للبائع في التأبير عند العقد إن نازعه المشتري وادعى حدوثه بعده. قاله ابن المواز. وقيل: القول للمبتاع وهو قول إسماعيل.
إلا بشرط يعني أن العقد لا يتناول الشجر المؤبر كما عرفت وذلك حيث لم يشترط المشتري دخوله، وأما إن اشترط المشتري دخوله فإنه يكون له، قال الشارح: يريد أن من باع نخلا وفيها ثمَرٌ مؤبر كله أو أكثره فإنه لا يدخل في عقد البيع ولا يستحقه المشتري إلا إذا اشترطه لنفسه، والأصل في ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:(من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)
(1)
متفق عليه، يقال: أبرت النخل بفتح الباء مخففا ءابره بضم الباء وكسرها أبرا وابارا مخففا فهي مأبورة، وأبَّرتها بتشديد الباء أُؤَبِّرها تأبيرا وإبارا فهي مؤبرة، واختلف في معناه فقيل هو تعليق طلع الذكر على الأنثى ليلا تسقط ثمرتها وهو اللقاح. قاله في الإكمال. وقال ابن حبيب: هو شق الطلع عن التمر. انتهى.
(1)
صحيح البخاري، كتاب البيوع، رقم الحديث، 2203، صحيح مسلم، رقم الحديث، 1543.
وقال عبد الباقي: إلا بشرط من المبتاع لجميع ما أبر ولا يجوز شرط بعضه لأنه قصد لبيع الثمار قبل بدو صلاحها بخلاف شرط بعض المزهي، وكذا لا يجوز شرطها إن ابتاع أصولها بطعام أو شراب أبرت أم لا إلا إن شرط الجذ مكانه. قاله الباجي. قال الأجهوري: وانظر ما وجه منع ابتياعه بطعام لأجل مع أنه قبل بدو صلاحه غير طعام. انتهى. قال عبد الباقي: ولعله اتهامهما على بيع طعام بطعام لأجل. انتهى. وقوله: أو شراب يحمل على غير الماء كخل أو نبيذ أو لبن ويكون من عطف الخاص على العام. انظر حاشية الشيخ بناني. وقال عبد الباقي: وقد يتوقف في منع اشتراط ذلك مع ما يأتي في قوله: "وقبله مع أصله أو ألحق به" وكذا لا يجوز شرط بعض مال العبد وبعض حلية السيف ولا أن تباع الأرض فيها زرع صغير بطعام خلافا لسحنون وعبد الملك، وقولهما هو القياس. قاله عبد الباقي. ويأتي بحث بناني في بعض مال العبد حيث اشترطه السيد لنفسه. واعلم أن قوله في الحديث: إلا أن يشترطه المبتاع يشمل بحسب العموم من باع دارا بما فيها من النخل وفيها الثمر المؤبر. واللَّه أعلم. انظر الرهوني.
كالمنعقد يعني أن من اشترى ما فيه ثمر من غير النخل وهو أي الثمر منعقد فإن العقد لا يتناوله بل يكون للبائع ولو كان غير منعقد لتناوله العقد فيكون للمشتري، وقوله:"كالمنعقد" يعني إلا أن يشترطه المبتاع كما يفيده التشبيه فالانعقاد في غير النخل كالتأبير في النخل، قال عبد الباقي: كالمنعقد من غير (ثمر)
(1)
النخل كخوخ وهو ما برزت فيه الثمرة من موضعها وتميزت عن أصلها، فلا يدخل في شراء أصله إلا بشرط. انتهى. وقوله:"كالمنعقد" وأما غير المنعقد فهو للمشتري كما عرفت ولا يجوز للبائع اشتراطه.
ومال العبد عطف على مدخول الكاف يعني أن العبد الكامل الرق لمالك واحد لا يتناول العقد عليه ماله، فيكون للبائع إلا أن يشترطه المشتري لنفسه أو للعبد فيكون لمن اشْتُرِط له، فإذا اشترطه للعبد فإنه يبقى بيده حتى ينتزعه المشتري، ويجوز حينئذ أي حين اشترطه للعبد ومال العبد دراهم أو دنانير أن يشتريه بالعين نقدا أو إلى أجل، قال في المدونة: ومن اشترى عبدا
(1)
في الأصل ثمن والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 183.
واستثنى ماله وماله دنانير ودراهم ودين وعروض ورقيق بدراهم نقدا أو إلى أجل فذلك جائز. انتهى.
أبو الحسن: قال ابن يونس: لأنه إنما استثناه للعبد لا لنفسه ولو استثناه لنفسه لم يجز، وقاله جماعة من البغداديين. انتهى. ونحوه في القلشاني عن ابن رشد، ونصه: قال ابن رشد: ويجوز لمشتري العبد أن يستثنيَ ماله ولو كان عينا وسماه، والثمن عين ولو كان إلى أجل لأنه للعبد لا للمبتاع وهو بيِّن من قول مالك في الموطإ، ثم قال ابن رشد: ولو اشترط مشتري العبد ماله لنفسه لا للعبد لم يجز أن يشتريه إلا بما يجوز به بيعه وهو لابن رشد في رسم البيوع الثاني من سماع ابن القاسم ويؤخذ منه أنه عند الإبهام يحمل على أنه للعبد ويصح البيع خلاف قول ابن أبي زيد بالفسخ عند الإبهام.
وعلم مما مر أنه إذا اشترطه المشتري لنفسه فيشترط كونه معلوما وبيعه بما يجوز بيعه به، ولا فرق حينئذ بين اشتراط الكل أو البعض وإنما يظهر التقييد به أي بالبعض إذا جعل المال للعبد وفقدت الشروط. واللَّه أعلم. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقولي لمالك واحد وأما إذا كان لمالكين فإن باعه أحد الشريكين من شريكه فلا اختلاف في جواز البيع، استثنى المبتاع ماله أو لم يستثنه؛ لأنه إن لم يستثنه بقي النصف للبائع فكان ذلك مقاسمة له كما قال سحنون، وأما إذا باعه من غير شريكه ولم يستثن المبتاع ماله فقيل إن البيع فاسد وهو قول مالك في هذه الرواية وفي سماع أشهب في كتاب الشركة، وقيل إن البيع يفسخ إلا أن يرضى البائع أن يسلم ماله للمبتاع وهو دليل ما في رسم العارية لخ. نقله بناني.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: يفهم من هذا أنه لو استثناه المشتري في المسألتين لصح ذلك. واللَّه سبحانه أعلم. ولو باعه الشريكان معا فالظاهر أنه للبائع إلا أن يشترط المشتري ماله خلاف ما لعبد الباقي والخرشي، وقد رد بناني ما قالاه. واللَّه سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: ولا يجوز بيع عبدين واستثناء مال أحدهما. انتهى. وقولي: الكامل الرق قاله عبد الباقي، وقال احترازا عن المبعض إذا بيع ما فيه من الرق فإن ماله يبقى بيده ولا ينتزعه مشتر ولا بائع اتحد أو تعدد وينفق منه على نفسه يوم حريته، فإن مات ولو يومها أخذ التمسك بالرق جميع ملكه ولو كان له وارث حي يحوز جميع المال.
فَرْعٌ:
من ابتاع عبدا واستثنى ماله فهلك ثم رد العبد بعيب أو استحق فإنه يرجع بجميع ثمنه ولا يحط لمال العبد شيء. قاله المص. أي إذا هلك المال قبل أن ينتزعه المبتاع وإلا فضمانه منه.
وخلفة القصيل عطف على مدخول الكاف، والقصيل ما يقصل أي يجذ، والخلفة هنا ما يخلف ما جذ أي ينبت في مكان ما قطع، وقال الخرشي: قال الجوهري: الخلفة اختلاف الليل والنهار، ومنه قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} والخلفة نبت ينبت بعد النبات الذي تهشم، وقال في التنبيهات: الخلفة بكسر الخاء ما يخلف من الزرع بعد جذه وكل شيء خلف شيئا فهو خلفته. انتهى. يعني أن من اشترى من الزرع ما يبلغ حد الانتفاع فإنه لا تدخل في ذلك خلفته أي ما يخلفه بعد قطعه إلا بشرط، قال الخرشي: والمعنى أن العقد على القصيل كالقضب والقرط وما أشبه ذلك لا يتناول خلفته ولا يكون للمشتري إلا بالشرط. انتهى.
وقال الشارح: يعني ولا يدخل أيضا خلفة القصيل معه إذا وقع العقد عليه من غير ذكر الخلفة إلا بالشرط. انتهى. وقال التتائي: وخلفة القصيل بالجذ لا تندرج في العقد عليه وليس له غير الجزة الأولى إلا لشرط. انتهى. وقال عبد الباقي: وعطف على المنعقد قوله: "وخلفة القصيل" أي ما يقصل ويجذ وخلفته بكسر الخاء ما يخلف من الزرع بعد حصده، أي إذا عقد على قصيل كقضب وقرط وبريسيم مرءيا فلا يندرج فيه خلفته، وليس للمشتري إلا الجذة الأولى التي وقع العقد عليها إلا بشرط من المشتري فله. انتهى.
واعلم أنه يشترط في جواز شراء القصيل كما يأتي أن يبلغ حد الانتفاع، وأن لا يشترط تركه إلى أن يحبب لأنه يؤدي إلى بيع الحب قبل بدو صلاحه، فلا يجوز بيعه إلا على القطع، وإذا كان هذان الشرطان في جواز شراء أصل الخلفة فلا يحسن جعلهما في جواز اشتراط الخلفة، لأن جواز اشتراط الخلفة؛ فرع عن جواز شراء الأصل، ويشترط في جواز اشتراط الخلفة أن تكون مأمونة كبلد سقي بغير مطر وأن تشترط الخلفة كلها، وأن لا يشترط تركها إلى أن تحبب فلجواز اشتراطها شروط ثلاثة، قال في المدونة: وإذا خرج القصيل من الأرض ولم يبلغ أن يرعى أو يحصد لم يجز شراؤه، ويشترط أن يتركه حتى يبلغ أن يرعى أو يحصد ولا يجوز شراء قصيل أو قرط أو قضب قد بلغ أن يرعى أو يحصد على أن يتركه حتى يحبب أو يقضب أو يتركه شهرا
إلا أن يبتدئ الآن في قصله فيتأخر شهرا وهو دائم فيه، فأما تأخيره لزيادة نبات فلا يجوز. انتهى.
أبو الحسن: قوله لم يجز شراؤه ظاهره شرط أن يتركه حتى يبلغ أن يرعى أم لا؛ لأنه إن لم يشترط ذلك كان في ذلك فساد المال وإن شرط ذلك كان في ذلك الغرر، ومثل اشتراط الخلفة اشتراؤها بعد أن اشترى أصلها فتشترط الشروط المتقدمة كلها، وفي كلام عبد الباقي هنا نظر، وقال المواق من المدونة: يجوز لمن اشترى جزة من القصيل اشتراء خلفته بعد ذلك ولا يجوز ذلك لغيره. ابن يونس: قال بعض أصحابنا: إنما يجوز شراء الخلفة بعد الرأس إذا كان مشتري الرأس لم يجزه حتى اشترى الخلفة، وأما إن جز الرأس ثم أراد شراء الخلفة فهو وغيره سواء لا يجوز له ذلك لأنه غرر منفرد، والأول قد أضافه إلى أصل فاستخف لأنه في حيز التبع. انتهى. وفي الخرشي: والمراد بالقصيل ما يقصل أي يرعى طريا فيدخل البريسيم والقضب والقرط والبقل والعنب وإن كان القصيل نوعا خاصا من العشب.
وإن أبر النصف فلكل حكمه يعني أنه إذا باع الشجر المؤبر نصفه أو المنعقد نصفه فإنه يكون للنصف المؤبر أو المنعقد حكم ذلك، فلا يتناول العقد عليه ثمره المؤبر أو المنعقد ولغيره حكم غير المؤبر والمنعقد، فيكون للمشتري النصف الذي لم يؤبر ثمره أو لم ينعقد، قال الشارح: ذكر المص هنا أن المؤبر إذا كان متساويا مع غيره بأن كانا نصفين أن لكل واحد حكم حصته، فيكون المؤبر للبائع إلا أن يشترطه المبتاع. انتهى. وقال الخرشي: وإن أبر النصف أو انعقد النصف أوما قاربهما فما أبر أو انعقد للبائع إلا لشرط. انتهى. وقال عبد الباقي: وإن أبر أو انعقد النصف أو ما قاربه فلكل حكمه، فما أبر أو انعقد للبائع إلا بشرط ومقابله يعني ما لم يؤبر وما لم ينعقد للمبتاع، وقد مر أن ما لم يؤبر وما لم ينعقد لا يجوز للبائع اشتراطه، كما لا يجوز له اشتراط الجنين وهذا هو المشهور، ومقابله صححه اللخمي واعتمده في الشامل إذ قال: وجاز لبائع شرط ما لم يؤبر على الأصح وشهر. انتهى.
قال الشيخ محمد بن الحسن: لكن تقدم أن المشهور خلافه، وعلم مما مر أن الأقسام ثلاثة: أبر كله أو جله فهو للبائع إلا بشرط، لم يؤبر شيء منه أو لم ينعقد أو أبر الأقل أو انعقد فللمشتري، ولا يجوز للبائع اشتراطه على المشهور، أبر النصف فلكل حكمه، وقوله: "وإن أبر النصف فلكل
حكمه" قال عبد الباقي: وهذا إذا كان المؤبر أو المنعقد في نخلات وأشجار بعينها وغيره في نخلات وأشجار بعينها، وإلا بأن كان شائعا فهل كله للبائع أو للمبتاع أو يخير البائع في تسليم جميع الثمرة وفي فسخ البيع أو البيع مفسوخ؟ أربعة أقوال. قال عبد الباقي: ولابن العطار خامس، قال: وبه القضاء وهو أن البيع لا يجوز إلا برضى أحدهما بتسليم الجميع للآخر. انتهى. قال الرهوني عن التاودي: الأقوال أربعة والقول الخامس هو الثالث بعينه، ثم قال بعد كلام: فما قاله التاودي هو الصواب. انتهى. وفيه بحث. واللَّه سبحانه أعلم.
ولكليهما السقيُ الضمير للبائع والمشتري يعني أن لِبائعِ الأصلِ -وَالثمرةُ له- أن يسقيَ إلى الوقت الذي جرت العادة بجذ الثمرة فيه، كما أن للمبتاع أن يسقي أصله ما لم يضر بالآخر أي للمشتري أن يسقي أصله ما لم يضر السقي بثمر البائع فلا يفعل ما يضر به، وظاهر المص أن للبائع أن يسقي ثمره ما لم يضر بأصل المشتري، قال بناني: لحوق الضرر للمبتاع بعيد لأنه إنما يلحقه بتضرر أصوله وتضرر الأصول بسقي ثمرها بعيد، وإنما يتوقع الضرر بالثمرة. انتهى. وكلام عبد الباقي يشمل صورتين: بيع الثمرة دون الأصل وبيع الأصل دون الثمرة، قال بناني: وموضوع كلامهم هنا إنما هو في بيع الأصل دون الثمرة، فلو اقتصر عليها لكان أولى وعلى أن المص شامل لصورتين يكون المعنى ما لم يضر سقي صاحب الأصل من بائع أو مشتر بثمر الآخر، وما لم يضر سقي صاحب الثمر من بائع أو مشتر بأصل الآخر، وقد علمت أن لحوق الضرر للأصل بسقي الثمر بعيد. واللَّه سبحانه أعلم. قال عبد الباقي: ومفهوم قوله "ما لم يضر بالآخر" المنع إن ضر سقي أحدهما بالآخر، كما إذا كان السقي في وقت ينفع الأصول ويضر بالثمرة وفي وقت آخر بالعكس، بل يتصور في وقت واحد أن السقي إن كثر نفع الأصل وضر ثمره، وإن قل نفع الثمر وضر الأصل. انتهى.
قال المص: ولو تقاوم الضرران فإني لم أر فيه شيئا، وللشافعية فيه أقوال قيل يقدم البائع أي يسقي ولو تلف ما للمبتاع وقيل المبتاع وقيل إذا تساوى الضرران يفسخ إن لم يصطلحا. انتهى. قلت: وقد نص أيمتنا على ما تندرج هذه فيه وهو إذا اجتمع ضرران ارتكب أخفهما، فإن تساويا فإن لم يصطلحا على شيء باع الحاكم عليهما أو على أحدهما بنظره. انتهى. وقال عبد الباقي في تقرير المص: ولكليهما أي البائع والمشتري كما في توضيحه عن شيخه وابن راشد وغيرهما والأصل
لأحدهما والثمرة للآخر أو بينهما، وقوله:"ولكليهما السقي" لخ سيأتي للمص في باب القسمة ما نصه: "وسقى ذو الأصل كبائعه المستثنى ثمرته حتى يسلم"، ونحوه قول المدونة السقي على البائع حتى يسلم الأصول لمشتريها فما في القسمة في مئونة السقي على من يكون الماء وجلبه إن احتاج إلى نفقة، وما هنا في ما وراء ذلك هل يمكن منه مريد السقي أو لا. نقله الرهوني عن التاودي. وأصله لابن عاشر وأحاله على التوضيح، قال الرهوني: وهو واضح. واللَّه سبحانه أعلم. والدار الثابت يعني أن العقد على الدار يتناول الشيء الثابت فيها، قال عبد الباقي: وتناولت الدار المبيعة أو المكتراة الثابت فيها بالفعل حين العقد لا غيره وإن كان شأنه الثبوت، ومثل له بقوله: كباب غير مخلوع ورف غير مخلوع لا مخلوع من باب أورف ولا مهيأ بدار جديدة لها قبل تركيبه كما يفيده ابن عرفة خلافا لما استظهره بعض مشايخ الأجهوري، ولا ما بينقل من دلو وبكرة وصخر وتراب معد لإصلاحها ومنهدم وحجر وخشب وسارية فللبائع والمكري إلا لشرط وللبائع أيضا أزيار ونحوها وحيوان بها، فإن لم يمكن إخراجه من بابها إلا بهدمه لم يقض على المبتاع بهدمه ويكسر ربه جراره ويذبح حيوانه. قاله ابن عبد الحكم.
أبو عمران: الاستحسان هدمه وَيَبْنِيهِ البائع إذا كان لا يبقى به بعد بنائه عيب ينقص الدار وإلا قيل للمبتاع: أعطه قيمة متاعه، فإن أبى قيل للبائع اهْدِمْ وابْن وَأَعْطِ قيمةَ العيب، فإن أبى تركا حتى يصطلحا، وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: إن علم المبتاع حال العقد لزمه إخراجها وإلا فإن كان الهدم يسيرا فعله وأصلح، قال في المعونة: وجواب أبي بكر بن عبد الرحمن أكمل وأبين، وقد رأيته لابن أبي زمنين في ثور أدخل قرنيه بين غصني شجرة ولم يقدر على إخراجه من ذلك إلا بقطع الغصن أنه يقطع ويؤدي رب الثور قيمته. انتهى. وقد تقرر أنه إذا اجتمع الضرران وتساويا فإن لم يصطلحا فعل الحاكم ما يزيل ذلك وعند اختلافهما يرتكب أخفهما. قاله عبد الباقي.
والبكرة الخشبة التي يسقى عليها. وقوله: وللبائع أزيار أي إذا لم تكن مبنية بها. قاله بناني. وقال المواق: ابن شأس: لا يندرج تحت الدار المنقولات وتندرج الثوابت كالأبواب والرفرف
(1)
والسلاليم المثبتة بالمسامير. ابن عرفة: كل ما في الدار البيعة حين العقد مما ينقل من ولو وبكرة
(1)
كذا في الأصل والذي في المواق ج 4 ص 583 ط دار الفكر والرفوق.
وباب وحجر وتراب كان معدا لإصلاح الدار وما انهدم منها فهو لبائعها لا لمبتاعها إلا لشرط، وكذا قال ابن فتوح وغيره. ابن عرفة: ونحوه قولها: ما كان ملقى في الأرض من حجر أو باب أو خشبة أو سارية فالقول قول المكتري فيه. وسئل ابن القاسم عن دار بيعت وفيها نقض لرجل هو فيها بكراء وأبواب في بيوت الدار، فقال المشتري وجب لي كل ما في الدار؟ فقال ابن القاسم: أرى الأبواب والنقض للمكتري. ابن رشد: إن كانت له بينة ولو ادعى النقض المبني في الدار والأبواب غير مركبة لما دخلت في البيع ولكانت للمكتري بيعت الدار أو لم تبع مع يمينه إن ادعاها صاحب الدار. انتهى.
والرف شبه الطاق يجعل عليه طرائف البيت والرفرف من معانيه الروشن وهو المناسب هنا. واللَّه سبحانه أعلم. وفي القاموس: الزير الزر إلى أن قال جمعه أزيار، ومن معاني الزر أنه خشبة من خشب الخباء.
فرعان:
الأول: قال المتيطى: حد المبيع دارا أو أرضا منه كحدها الشرقي شجرة كذا فتدخل الشجرة إن لم يصرح بضده كحدها القبلي دار فلان.
الثاني: إذا وقع من البائع أو في الوثيقة عموم وخصوص فالمنظور إليه العموم وإن تقدم، كبعته جميع أملاكي بقرية كذا وهي الدار والحانوت مثلا وله غيرهما فهو للمبتاع أيضا، وكذا بعته جميع ما أملك من هذه الدار وهو الربع فإذا لَه أكثرُ فإن له الجميع، ولا يكون ذكر الخاص بعد العام مخصصا له لأن الخاص الذي يقيد العام شرطه أن يكون منافيا له والأمر هنا بخلافه. قاله الشيخ عبد الباقي.
ورحى مبنية بفوقانيتها عطف على قوله: "باب"، والمعنى أن العقد على الدار يتناول الرحا المبنية مع التي فوقها، فالمراد بالرحى المبنية السفلى وأطلقها عليها تجوزا وإلا فهي في الحقيقة اسم للعليا والسفلى، وعليه فقوله:"بفوقانيتها" يقال عليه إنه غير محتاج إليه، والجواب أنه قصد به الرد على القول المفصل بين الأعلى والأسفل. قاله أحمد. قاله عبد الباقي. وسلم سمر يعني أن العقد على الدار يتناول الثابت فيها كالسلم المسَمَّر والسلم ما يطلع به.
وفي غيره قولان يعني أن السلم غير المسَمَّر جرى فيه قولان قيل العقد على الدار يتناوله وقيل لا يتناوله إلا بشرط، الأول لابن العطار وابن زرب، والقول بأنه لا يتناوله لابن عات. ابن رشد:
قول ابن العطار إن السلم للمبتاع غير صحيح، واحترز المص بالرحى المبنية من غيرها، فإن العقد على الدار لا يتناولها. قال المواق: سئل ابن عات عمن باع دارا فيها مطاحين لم تذكر في البيع؟ فقال: إن كانت مبنية فهي للمبتاع وكذلك الدرج المبني، وإن كانت غير مبنية فهي للبائع، وقوله:"بفوقانيتها" خلافا لابن العطار القائل إنما يتناول العقد على الدار السفلى فقط، قال عبد الباقي: وإنما جرى في هذا يعني السلم غير المسمر قولان دون الباب الملقى بها المقلوع من محل فيها، لأن ترك إعادته لمحله مظنة عدم الحاجة له بخلاف السلم فإنه مظنة الحاجة وإن لم يسمر.
والعبد ثياب مهنته عطف على البناء والأرض، يعني أن العقد على العبد يتناول ثياب مَهنته بفتح الميم على الأفصح وهي ثياب الخدمة، قال عبد الباقي: وتناول العبد يعني العقد عليه الرقيق ولو أمة ثيابَ مَهنته بفتح الميم على الأفصح وسكون الهاء ثياب الخدمة التي عليه وحدها أو مع ثياب الزينة أو عليه ثياب الزينة فقط فتجب له ثياب مهنته وإن لم تكن عنده كما يفيده نقل المواق، وأما ثياب الزينة فلا تدخل إلا بشرط أو عرف يعني أنه إذا لم تكن عليه إلا ثياب الزينة فإنها تكون للبائع، وعليه أن يكسو العبد ثياب المهنة التي تصلح لمثله، وقيل لا يجب ذلك عليه إذا لم يشترطه المبتاع، فإن اشترطه المبتاع لزم البائع، سمع ابن القاسم: إن بيعت الجارية وعليها حلي وثياب لم يشترطها بائع ولا مبتاع فهي للبائع وما لا تتزين به فهو لها. ابن رشد: إذا كان الثياب والحلي للبائع لزمه أن يكسوها كسوة مثله البذلة، وقيل لا يجب ذلك عليه إن لم يشترطه المبتاع، فإن اشترطه لزمه. انتهى. ونقله المواق وظاهره ترجيح القول الأول وما في الشارح من تقييد لزوم البائع ثيابُ المهنة بما إذا كانت على العبد حال البيع، وأصله لابن شأس وابن الحاجب وأقره المص وابن عبد السلام هو مقتضى القول الثاني، وأنكر مصطفى وجود هذا الخلاف وهو قصور. قاله بناني. وهل يوفى بشرط عدمها يعني أنه اختلف إذا باع العبد أو الجارية واشترط أنه يبيعه على أن لا ثياب مهنة له، هل يُوفىَ له بذلك ويسلمه للمشتري عريانا بلا ثياب مهنة وهذا القول هو الأظهر عند ابن رشد: قال ابن رشد: وهو القياس وبه مضت الفتوى أولا يُوفى له بذلك، فالشرط باطل والبيع صحيح. من المدونة قال مالك: إن اشترط بيع الجارية عريانة أو شرط في العبد ذلك فالبيع جائز والشرط باطل، ويقضى عليه بما يواريها من
الثياب وصحح هذا القول تردد، فالتردد الآتي إنما هو راجع لهذه المسألة، كما أن قوله الآتي:"وصحح" راجع لقوله: "أو لا" وفي بينهما نظائر راجعة لقوله: "أو لا" خارجة عن التردد. واللَّه سبحانه أعلم.
قال عبد الباقي: وشبه في هذا الثاني ست مسائل أَوَّلُها قوله: كمشترط زكاة ما لم يطب يعني أن من اشترى ثمرا لم يبد صلاحه أو زرعا أخضر مع أصله وشرط أن الزكاة على البائع، فإن العقد صحيح والشرط باطل فالزكاة على المشتري، قال الخرشي: واعترض الحطاب كلام المؤلف بأن الذي في المستخرجة وابن يونس وابن رشد وأبي الحسن وصاحب النوادر والطراز فساد البيع ولم يصرح أحد بصحة البيع وبطلان الشرط غير المؤلف في توضيحه. انتهى. ونحوه لعبد الباقي وغيره، ونص عبد الباقي واعترضه الحطاب في التزاماته بأنه لم ير صحة البيع وبطلان الشرط لغير المص في مختصره وتوضيحه، وأن الذي في كلام أهل المذهب فساد البيع أي لأنه يؤدي لجهل الثمن إذ لا يدري في يفضل له منه لو زكى. انتهى.
ثَانِيهَا: قوله: وأن لا عهدة يعني أن العهدتين عهدة الثلاث وعهدة السنة إذا اعتيدتا أو حمل الناسَ السلطانُ عليهما وبيع الرقيق على أن لا عهدة ثلاث أو سنة فيه فإن البيع صحيح والشرط باطل، فللمشتري الرد في عهدة الثلاث بكل حادث وله الرد في عهدة السنة بالجذام والبرص والجنون: والذي اختاره اللخمي أنه يصعح البيع ويوفى بالشرط ولا عهدة عليه، وذكر الحطاب في التزاماته أن الذي. المص قول قوي. قاله بناني. وفسر المص بأن المراد بقوله:"وأن لا عهدة" عهدة الإسلام وهي الرجوع بالثمن عند ظهور العيب والاستحقاق، فيصح البيع ويبطل الشرط فله الرجوع بالثمن. ظهور الاستحقاق وله القيام بالعيب، وهذا الأخير إنما يأتي في غير الرقيق أو في الرقيق الذي لم تطل إقامته عند البائع على ما مر في قوله:"وتبري غيرهما فيه" لخ. واللَّه سبحانه أعلم. وقال الحطاب في التزاماته: وأما إذا أسقط المشتري حقه من القيام بالعيب بعد العقد وقبل ظهور العيب، فقال الشيخ أبو الحسن في كتاب الاستبراء في مسألة إسقاط المواضعة بعد العقد: يقوم من هنا أن من تطوع بعد العقد بأن لا قيام له بعيب يظهر في المبيع أنه يلزمه، سواء كان مما تجوز منه البراءة أم لا، وفي كتاب ابن المواز فرق بين في تجوز منه البراءة وما لا
تجوز منه البراءة، ونحوه في كتاب الصلح من المدونة، قال أبو محمد صالح: الفرق بينهما أن مسألة الاستبراء بغير عوض وما في كتاب الصلح وكتاب ابن المواز بعوض، وَوَجَّهَه الحطاب بأنه إذا أسقطه بعوض فهي معاوضة مجهولة؛ لأن المشتري لا يدري ما يظهر له من العيوب، وأما إذا أسقطه بغير عوض فلا محظور فيه. انتهى. نقله بناني.
ثَالِثُهَا: قوله: وإن لا مواضعة يعني أنه إذا باع الأمة التي حكم الشرع بمواضعتها ودخلا عند البيع على أنها لا تتواضع فإن البيع صحيح والشرط باطل، قال ابن رشد: إن باعها بشرط ترك المواضعة فالبيع جائز والشرط باطل ويحكم بينهما بالمواضعة. انتهى. لأنه حق للَّه تعلى فليس لأحد إسقاطه. قاله غير واحد.
رَابعُهَا: قوله: أو لا جائحة يعني أنه إذا باع ثمرا واشترط البائع على المشتري أنه إذا أجيح لا يوضع عن المشتري شيء من الثمن، فإنه يصح البيع ويبطل الشرط فيوضع من الثمن عن المشتري بحسب ما أجيح على الكيفية الآتية، قال عبد الباقي عند قوله:"أو لا جائحة": ظاهره ولو فيما عادته أن يجاح، وفي أبي الحسن أنه يفسد العقد فيه لزيادة الغرر.
خَامِسُهَا: قوله: أو إن لم يأت بالثمن لكذا فلا بيع يعني أنه إذا وقع البيع بينهما على شرط أنه إن لم يأت بالثمن لكذا أي للوقت الفلاني فلا بيع بينهما، أو أنه إن أتى بالثمن لذلك الوقت فالبيع ثابت بينهما، فإن البيع صحيح ويبطل الشرط، قال في المدونة: ومن اشترى سلعة على أنه إن لم ينقد ثمنها إلى ثلاثة أيام وفي موضع آخر إلى عشرة أيام فلا بيع بينهما، ولا يعجبني أن يعقد على هذا فإن نزل ذلك جاز البيع وبطل الشرط وغرم الثمن الذي اشترى به. انتهى. قال بناني: فدل كلامها على أن البيع انعقد على هذا الشرط لا قبله، وقوله:"أو إن لم يأت بالثمن لكذا" قال عبد الباقي: ويكون الثمن مؤجلا للأجل الذي سمياه، قال بناني: قال عياض: حمل المدونة على هذا أكثرهم، وظاهرها أن المشتري يجبر على نقد الثمن في الحال. انتهى. قال الشيخ أبو الطاهر بن بشير: اختلف فيمن باع سلعة بثمن على أنه إن لم يأت به إلى أجل كذا فلا بيع بينهما على ثلاثة أقوال، أحَدُهَا: أن البيع باطل، الثَّانِي: أن البيع صحيح ويوفى بالشرط، الثَّالِثُ: أن البيع صحيح والشرط باطل، وفي المذهب قول رَابعٌ: أن ذلك جائز فيما لا يسرع إليه
التغير كالرباع وما أشبهها، ومكروه فيما يسرع فيه التغير. انتهى، سَادِسُهَا: قوله أو ما لا غرض فيه ولا مالية يعني أنه إذا باع شيئا واشترط المشتري فيه شرطا لا غرض فيه ولا مالية فإنه يبطل الشرط ويصح البيع كاشتراط كون الأمة نصرانية فتوجد مسلمة، ولم يكن ذلك الشرط لأجل تزويجها بعبده النصراني كما مر فيصح البيع ويبطل الشرط.
وقوله: وصحح راجع لقوله: "أو لا" أي وصحح القول الثاني وقرر المواق أنه الراجح. قاله عبد الباقي. وقوله: تردد فيما قبل التشبيه، وقد مر عند قول المص: كبيع وشرط لخ تقسيم ابن رشد للشروط إلى أربعة أقسام فراجعه إن شئت.
ولما قدم أنه يدخل البذر والثمر غير المؤبر في العقد على أصلهما دون الزرع والمؤبر شرع في الكلام على بيعهما منفردين، فقال: وصح بيع ثمر ونحوه بدا صلاحه يعني أن الثمر ونحوه كالرمان والخوخ والتين والعنب والقمح والشعير والدخن والذرة والفول والخس والكراث وما أشبه ذلك يصح بيعه إذا بدا صلاحه، قال عبد الباقي: وصح بيع ثمر بمثلثة ونحوه كقمح وشعير وفول وخس وكراث بدا صلاحه بيبس حب وقرطم وبانتفاع بكعصفر. انتهى.
وقال المواق: في الموطإ: (نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدوَ صلاحها نهى البائع والمشتري)
(1)
، قال مالك: وبيع الثمار قبل بدو صلاحها من بيع الغرر. انتهى.
إن لم يستتر يعني أن الثمار ونحوها إذا بدا صلاحها فإنه يجوز بيعها حيث لم يستتر الثمر بأكمامه، فإن استتر بها كقلب لوز وجوز وفستق في قشره وكقمح في سنبله وبزر كتان في جرزه لم يصح بيعه جزافا لأنه غير مرءي، ويصح كيلا كما سبق في قوله:"وحنطة في سنبل وتبن إن بكيل" وأما شراء ما ذكر مع قشره فيجوز جزافا ولو كان باقيا في شجره لم يقطع إذا بدا صلاحه. قاله الحطاب. قال عبد الباقي: أي ولم يستتر بورقه فيما له ورق وإلا منع بيعه جزافا، وتقدم أول البيوع مسألة بيع الزرع جزافا. انتهى. قول عبد الباقي: ولم يستتر بورقه فيما له ورق وإلا منع لخ، قال التاودي: فيه أن كل الثمار له ورق فيلزم أن لا يباع شيء منها جزافا في رؤوس
(1)
الموطأ، كتاب البيوع، الحديث 10.
الشجر ومن أكثرها ورقا الجوز، وقد نصوا على جواز بيعه إن لم يستتر بقشره. انتهى. وما قاله ظاهر غاية، وما نقله المواق عن ابن القاسم عند قوله الآتي:"إن بلغت ثلث المكيلة" كاف في بطلان ما قاله الزرقاني. قاله الرهوني.
وقبله مع أصله يعني أنه يجوز بيع ما ذكر من الثمر ونحوه قبل بدو صلاحه إذا بيع مع أصله، كبلح صغير مع نخله وزرع مع أرضه أو بيع أصله من نخل أو أرض ثم بعد ذلك بقرب أو بعد بحيث لم يخرج من يد المشتري ألحق الزرع والثمر به أي بأصله البيع قبله، وأما العكس فممنوع يفسد به البيع أو على قطعه، يعني أنه يجوز بيع ما ذكر منفردا قبل بدو صلاحه إذا بيع على القطع أي على شرط أن يقطع في الحال أو قريبا منه بحيث لا يزيد ولا ينتقل عن طوره إلى طور آخر، فهذه ثلاث مسائل يجوز فيها بيع الثمر ونحوه قبل بدو صلاحه، وإنما يجوز في هذه الأخيرة -أعني بيعه على القطع- بثلاثة شروط أشار لأولها بقوله:
إن نفع يعني أنه إنما يجوز بيعه على القطع إذا بلغ أن ينتفع به، وإلا فلا يجوز لأنه فساد وإضاعة مال وذكر المص شرط الانتفاع هنا مع أنه معلوم للتنبيه عليه.
وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: واضطر له يعني أنه يشترط في جواز ما ذكر على القطع أيضا أن يضطر لبيعه المتبايعان أو أحدهما، والمراد بالاضطرار الاحتياج لا بلوغ الحد الذي ينتفي معه الاختيار وهذا الشرط لا يغني عنه ما قبله؛ لأن ضرورة البيعين أو أحدهما لا تستلزم كون الثمرة منتفعا بها وهو قد صرح بذلك كما قاله الرهوني وهو ظاهر.
وأشار إلى الشرط الثالث بقوله: ولم يقال عليه يعني أنه يشترط في جواز البيع على القطع أيضا أن لا يتمالأ أهل البلد أو أكثرهم عليه أي على البيع قبل بدو صلاح ما ذكر كما في الخرشي، فإن اختل واحد من هذه الشروط الثلاثة لم يصح البيع، وقال عبد الباقي: ولم يتمال أي لم يقع من أهل محله أو أكثرهم التمالؤ عليه أي على قطعه، فاتفاق البائع والمشتري على بيع ذلك من غير وقوع مثل ذلك من أكثر أهل البلد لا يضر في الجواز، فإن تمالأ أكثرهم عليه بالفعل وينبغي أو اعتادوه قبل البيع المذكور منع وإن لم يقطعوا إلا بعده، والمراد بالتمالؤ التوافقُ حقيقة أو في نفس الأمر لا التوافقُ حقيقة فقط.
لا على التبقية يعني أنه لا يجوز بيع ما ذكر من الثمر ونحوه قبل بُدُوِّ صَلَاحِهِ منفردا عن أصله على التبقية، أو الإطلاق أي وكذا لا يجوز بيعه منفردا قبل بدو صلاحه على الإطلاق أي من غير بيان قطعه ولا تبقيته فلا يصح، وضمان الثمر من البائع ما دام في رءوس الشجر فإن جذها المشتري رطبا رد قيمتها وتمرا رده بعينه إن كان باقيا وإلا رد مثله إن علم وإلا رد قيمته. قاله عبد الباقي. قوله: فإن جذها المشتري رطبا رد قيمتها لخ، قال بناني: ما ذكره إنما هو في الشراء على التبقية وأما في الإطلاق فإنه إذا جذها يمضي بالثمن على قاعدة المختلف فيه كما في التتائي وغيره، وقال بناني عند قول المص:"لا على التبقية أو الإطلاق": قيد اللخمي والسيوري المنع هنا بكون الضمان مشترطا من المشتري أو من البائع والبيع على النقد لأنه تارة بيع وتارة سلف، فإن كان الضمان من البائع والبيع بغير نقد جاز. انتهى.
وهذا التقييد خلاف المذهب، قال ابن عرفة فيها مع غيرها: جواز بيع الثمر قبل بدو صلاحه على جذه. اللخمي: شرط ذلك بلوغ الثمر أن ينتفع به واحتيج لبيعه ولم يتمالأ عليه أكثر أهل موضعه وإلا لم يجز لأنه فساد، وعلى بقائه نصوص المذهب فساد بيعه، وقال اللخمي: هذا إن شرطا مصيبته من المشتري أو من البائع والبيع بالنقد، وإن كانت المصيبة من البائع والبيع بغير نقد جاز. وصرح المازري بأن بيع الثمر قبل بدو صلاحه على البقاء لا يجوز إجماعا، ولم يستثن منه شيئا، ثم قال: انفرد بعض أشياخي في بيع الثمر قبل الزهو فذكر ما قاله اللخمي، قال: وقول الأشياخ وظاهر المذهب أنه لا يجوز. قاله الرهوني. وقال بناني: ابن رشد: إذا اشترى الثمرة على الجذ قبل بدو الصلاح ثم اشترى الأصل جاز له أن يبقيها، بخلاف ما إذا اشتراها على التبقية ثم اشترى الأصل فلا بد من فسخ البيع فيها، لأن شراءها كان فاسدا فلا يصلحه شراء الأصل، فإن صار الأصل إليه بميراث من بائع الثمرة لم ينفسخ شراؤها، إذ لا يمكن أن يردها على نفسه، فإن ورثه من غير بائع الثمرة وجب الفسخ فيها، ولو اشترى الثمرة قبل الإبار على البقاء ثم اشترى الأصل فلم يفطن لذلك حتى أزهت أو نمت بغير الزهو فإن البيع ماض وعليه قيمة الثمرة؛ لأنه بشراء الأصل كان قابضا للثمرة وفاتت بما حصل فيها من النماء عنده، ولو اشترى الثمرة قبل الإبار ثم اشترى الأصل قبل الإبار أيضا فسخ البيع فيهما؛ لأنه بمنزلة من
اشترى نخلا قبل الإبار على أن تبقى الثمرة للبائع وهو لا يجوز، فإن اشترى الأصل بعد الإبار فسخ البيع في الثمرة فقط.
وقوله: "لا على التبقية أو الإطلاق" قد علمت أن المنع في التبقية مجمع عليه فلا يصح، وأما الإطلاق فكذلك على المعتمد وهو المذهب عند العراقيين. الباجي: وهو المشهور عن مالك، وتأول ابن أبي زيد المدونة عليه، وظاهر المدونة الصحة في الإطلاق، وأبقاها ابن محرز وعبد الحميد واللخمي وغيرهم على ظاهرها.
وبدوه في بعض حائط كاف في جنسه يعني أن بُدُوَّ الصلاح أي ظهوره في بعض حائط من الثمار ولو نخلة يكفي في جنس ذلك الحائط أي صنفه كنخل كله أو تين كله أو رمان كله في ذلك الحائط وكذا في مجاوره، والمراد بمجاوره ما يتلاحق طيبه بطيبه عادة أو بقول أهل المعرفة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وهو ما يتلاحق طيبه بطيبه عادة قريبا بعضه من بعض، فيكفي في جواز بيع ذلك الجنس على المعتمد. وقال ابن كنانة: وإن لم يقرب بعضه من بعض إن كان لا يفرغ آخر الأول حتى يطيب أول الآخر، وأشعر قوله:"في بعض" أنه لا يشترط عموم الصلاح في الحائط كما قررت.
إن لم تبكر يعني أن بدو الصلاح في بعض الحائط كاف في جواز بيع الحائط حيث لم يكن البعض باكورة، وأما إن كان البعض الذي بدا صلاحه باكورة فإن ذلك لا يكفي في جواز بيع الحائط، قال عبد الباقي: إن لم تبكر النخلة التي بدا صلاحها أي إن لم تكن باكورة أي تسبق بالزمن الطويل الذي لا يحصل معه تتابع الطيب لمرض وهي كافية في نفسها فتباع، وفي مريضة أو أكثر مثلها عادتها لمرضها أن تبكر. وفهم من قوله:"وبدوه في بعض حائط" لخ أن بدوه في بعض حب أو مقثاة لا يكفي في جواز بيع بقيته، والأول ظاهر والثاني يفيد الأقفهسي أنه كالحائط.
والفرق بين الثمار والحب حاجة الناس لأكل (الثمار)
(1)
رطبة للتفكه بها ولأن الغالب تتابع طيبها وليست الحبوب كذلك لأنها للقوت لا للتفكه، والتعليلان المذكوران كل منهما يفيد أن المقثاة
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 188.
كالحائط، فلو قال المص: وبدوه في بعض كحائط كاف لخ لشمل المقثاة، وقوله: كاف في جنسه أخرج به غير الجنس، فلا يباع بلح ببُدوِّ صلاح مشمش مثلا، وأجازه ابن رشد إن كان ما لم يَطبْ تبعا لما طاب، وقال التونسي: لا يجوز إذ لا ضررعلى المبتاع في بقاء ما لم يطب للبائع إذ لا بد من دخوله الحائط لسقيه على كل حال. قاله بناني وغيره.
وقال المواق: من كتاب ابن المواز: إذا أزهى في الحائط نخلة أو دالية بيعَ جميعه بذلك ما لم تكن باكورة، قال مالك: وإذا عجل زهو الحائط جاز بيعه وإذا أزهت الحوائط حوله ولم يُزْهِ هُوَ جاز بيعه، ابن القاسم: وأحب إلي حتى يزهِيَ هُوَ. ابن حبيب: والأول هو القياس لأنه لو ملك ما حواليه جاز بيعه بإزهاء بعضها إلا أن يتفاحش تَبَاعُدُ بعضِها من بعض. انتهى. ابن القاسم: يجوز أن يبيع الحائط فيه صنف واحد من الثمر ببدو صلاحه وإن لم يعم كل الحائط إن كان طيبه متتابعا. ابن رشد: يريد بالصنف الواحد أنه نخل كله أو تين كله ولو اختلفت أجناس ذلك إذا تتابع طيب جميعه قريبا بعضه من بعض. وقال ابن كنانة: وإن لم يقرب بعضه من بعض إن كان لا يفرغ آخر الأول حتى يطيب أول الآخر. ابن رشد: وما استعجل زهوه بسبب مرض في الثمرة وشبهه لم يبع به الحائط اتفاقا. انتهى. قوله: دالية الدوالي: عنب طائفي.
لا بطن ثان بأول يعني أنه لا يجوز بيع بطن ثان بعد وجوده وقبل بدو صلاحه بسبب بدو صلاح بطن أول، ومعنى ذلك كما في أحمد أن من باع بطنا ببُدُوِّ صلاحه ثم بعد انتهاء البطن الأول أراد أن يبيع الثاني بعد وجوده قبل بدو صلاحه ببدو صلاح السابق فإن ذلك لا يكفي. انتهى. قوله: ثم بعد انتهاء البطن الأول بل ولو لم ينقطع حتى يبدو وجود البطن الثاني كما في التتائي: ولعل الفرق بين هذا وبين جواز شراء خلفة القصيل بعد شراء القصيل قبل وجودها أنها إنما تتخلق مما يبقى من القصيل بخلاف البطن الثاني، والفرق بين هذا وبين جواز بيع أصناف ثمر النخل ببدو صلاح صنف آخر منه إذا كان طيبها متقاربا أن البطن الثاني غير موجود حين بيع الأول ولا مرءي بخلاف الصنفين، فإنهما مرءيان حين بيع أولهما طيبا. قاله ابن عرفة. ويفهم منه جواز بيع البطن الثاني بالأول إن وجدا معا كما في بعض الأماكن. قاله عبد الباقي. قوله: ويفهم منه جواز بيع البطن الثاني إن وجدا معا يعني مع كون طيب الثاني قريبا من الأول؛ لأن هذا شرط
في البطن الواحد فأحرى البطنان، ومع ذلك ففيه نظر لأن ما أخذه من كلام ابن عرفة منصوص عليه لكنه ضعيف. قاله الرهوني.
يعني أن المشهور المنع في بيع البطن الثاني ببدو صلاح البطن الأول حيث وجدا معا، وكان طيب الثاني قريبا من الأول، وقال المواق عند قوله:"لا بطن ثان" ما نصه: ابن القاسم: الشجرة تطعم بطنين في السنة بطنا بعد بطن لا يباع البطن الثاني مع الأول بل كل بطن وحده. ابن رشد: ظاهر قوله: لا يجوز وإن كان لا ينقطع الأول حتى يبدو طيب الثاني وهو خلاف ما تقدم من قول مالك. انتهى. وقال الشارح: لا بطن ثان يعني فلا يجوز أن يبيع البطن الثاني ببدو صلاح البطن الأول إذا كانت الشجرة تطعم بطنين في العام الواحد وهذا هو المشهور، وحكى ابن رشد قولا بالجواز بناء على أن البطن الثاني يتبع الأول في الصلاح. انتهى. وقال عبد الباقي: وتمثيل التتائي هنا للبطن الثاني بالجميز يفيد أنه لا يباع بطن من بطونه إلا منفردا وهو يخالف ما يأتي له في "وللمشتري بطون كياسمين" من قوله: "وجميز" فإنه يفيد أن بطونه كلها تباع بصلاح الأول، وأنه لا يجوز شراء بعضها منفردا عن بعض كما يفيد قوله: ولا يجوز بكشهر ويمكن أن يجاب عنه بأنه أراد هنا بالبطن الثاني منه ما يوجد بعد انقضاء جميع ما يطرحه أولا، وأراد فيما يأتي بالبطون التي لا يباع بعضها منفردا، وإنما يباع جميعها بصلاح أولها ما يوجد فيها متتابعا بحيث ينبت الثاني قبل صلاح الأول مقارنا له أو بعده، وكذا الثالث مع الثاني ثم بَيَّنَ بدو الصلاح من بعض الأجناس ليقاس عليه.
فقال: وهو أي بدو الصلاح في النخل الزهو بفتح الزاي وسكون الهاء وبضمهما، وتشديد الواو كاحمراره واصفراره وما في حكمهما كالبلح الخضاري. قاله عبد الباقي وغيره. وقال المواق: الباجي: الإزهاء في ثمر النخل أن تبدو فيها الحمرة والصفرة وهو البلاح وبدو الصلاح، وذلك بعد أن تطلع الثريا مع الفجر في النصف الآخر من شهر مايه الأعجمي. انتهى.
وظهور الحلاوة يعني أن بدو الصلاح في غير النخل ظهور الحلاوة، قال عبد الباقي: وظهور الحلاوة في غيره من الثمار كالمشمش والعنب وليست الواو بمعنى مع فهو من عطف المغاير، والتهيؤ للنضج يعني أن التهيؤ للنضج بأن يميل الثمر إلى النضج أي الطيب من بدو الصلاح، قال
عبد الباقي: والتهيؤ للنضج بأن يكون إذا قطع لا يفسد بل يميل إلى الصلاح كالموز؛ لأن من شأنه أن لا يطيب حتى يدفن في التبن ونحوه. انتهى. ونحوه للخرشي، قال المواق: والتهيؤ للنضج. الباجي: وبدو صلاح التين أن يطيب وتوجد فيه الحلاوة ويظهر السواد في أسوده والبياض في أبيضه، وكذلك العنب الأسود بدو صلاحه أن يَنحُوَ إلى السواد وأن ينحوَ أبيضُه إلى البياض مع النضج، وكذلك الزيتون بدو صلاحه أن ينحو إلى السواد. انتهى.
وبدو الصلاح في ذي النور بانفتاحه النور بفتح النون الزهر على أي نوع كان، والمعنى أن بدو الصلاح في صاحب النور كالورد والياسمين والنسرين وما أشبه ذلك أن تنفتح أكمامه ويظهر نَوره. قاله الباجي. قاله الخرشي وغيره. وقال المواق: المتيطى: يجوز بيع المقاثي والمباطخ إذا بدا صلاح أولِها وإن لم يظهر ما بعده وكله للمشتري إلى تمام إطعامه والورد والياسمين إذا آن قطاف أوله وكله للمشتري إلى آخر إبانه. الباجي: وأما الجزر واللفت والفجل والثوم والبصل فبدو صلاحه إذا استقل ورقه وانتفع به ولم يكن في قلعه فساد وقصب السكر إذا طاب ولم يكن كسره فسادا والورد والياسمين وسائر الأنوار أن تنفتح ويظهر نوره، والقصب والقصيل والقرط إذا بلغ أن يرعى دون فساد. انتهى. وقال عبد الباقي: والبدوُ في ذي النَّور بفتح النّون أي صاحب الورق كالورد والياسمين والنوفر والنسرين بانفتاحه أي انفتاح أكمامه فيظهر ورقه وبدو الصلاح في البقول بإطعامها أي بأن ينتفع بها في الحال.
الباجي: بدو الصلاح في المغيب في الأرض كاللفت والجزر والفجل والبصل إذا استقل ورقه وتم وانتفع به ولم يكن في قلعه فساده انتهى. فقد اعتبر في بدو صلاح البقول قدرا زائدا على ما ذكره المص أي وهو قوله: ولم يكن في قلعه فساد. قاله الأجهوري. وظاهر المواق وغيره أن ذلك معنى إطعامها إلا أن يقال لا يلزم من الإطعام أن لا يكون في قلعه فساد كجزر وفجل صغيرين جدا. انتهى. قال الرهوني: وفيه نظر لأن المراد بطعمها حصول طعمها المعتاد، ويلزم من حصوله انتفاء الفساد، واختلف هل هو أي بدو الصلاح في البطيخ الاصفرار بالفعل لأنه القصد منه، أو التهيؤ للتبطخ بأن يقرب من الاصفرار؟ قولان، الأول لابن حبيب والثاني لأصبغ. قاله الشيخ بهرام.
وقال عبد الباقي: ولم يذكر صلاح البطيخ الأخضر ولعله تلون لبه بالحمرة أو غيرها كما في التتائي.
ولَمَّا ذكر ما له بطون متميزة بقوله: "لا بطن ثان بأول"، وبقوله:"وخلفة القصيل" ذَكَرَ ما لا يتميز بطونه وله آخر أو لا آخر له، وبدأ بالأول فقال: وللمشتري بطون ما يخلف ولا يتميز بعضه من بعض أي يقضى له بذلك ولو لم يشترطه. كياسمين بكسر النون منونا وهو اسم مصروف ولا علمية فيه، لكن يجوز أن يعرب إعراب جمع المذكر السالم. ومقثأة بميم مفتوحة فقاف ساكنة فمثلثة فهمزة مفتوحتين كخيار وقثاء وجُمّيز بضم الجيم وتشديد الميم وسكون المثناة آخره زاي يشبه التين.
ولا يجوز شراء ذلك مؤجلا بكشهر لاختلاف حملها بالقلة والكثرة، وذكر ما لا آخر له بقوله: ووجب ضرب الأجل ولو سنين على المشهور. قاله التتائي. قاله عبد الباقي. إن استمر يخلف كالموز، ومثل ضرب الأجل استثناء بطون معلومة. قاله عبد الباقي. ومعنى ذلك أن يشتريَ المشتري منه بطونا معلومة كخمسة مثلا. انظر الرهوني.
والموز أشجار تكون فيها عناقيد ويكون في العنقود ثمار صفوفا ولونه أخضر، فإذا طاب دخلته صفرة وينفلق له طعم يقرب من طعم سمن وعسل ملتوت ويكون بأرض مصر كثيرا ويكون بسبتة، قال مقيده عفا اللَّه عنه: وعلم مما مر أن الخلفة على ثلاثة أقسام: الأُولَى خلفة القصيل وهو ما ينبت بعد الجذ فلا تجتمع مع الأصل تقدمت في قوله: "وخلفة القصيل". الثَّانِيَةُ خلفة يتميز بعضها من بعض وهي المشار إليها بقول المص: "لا بطن ثان بأول" وهذا البطن الثاني قد يوجد مع البطن الأول في بعض الأماكن فتبطن الشجرة بطنا ثم يخرج بطن آخر بعد انتهاء ذلك البطن أو قبله، وكلاهما من الشجرة أي فموضع البطن الثاني من الشجرة غير موضع البطن الأول. الثَّالِثَةُ ضربان ضرب لا يتميز فيه الآخر من الأول وله آخر وهو المشار إليه بقوله:"وللمشتري بطون كياسمين" الضرب الثاني لا يتميز فيه البطن الثاني من الأول ولا آخر له، وهو المشار إليه بقوله:"ووجب ضرب الأجل إن استمر كالموز".
ومضى بيع حب أفرك قبل يبسه بقبضه يعني أن الحب إذا أفرك وبيع قبل يبسه مع سنبله فإن ذلك لا يجوز ابتداء، ويمضي البيع بالقبض للحب، والمراد بقبض الحب حصاده. قال عبد الباقي: ومضي بيع حب مع سنبله كقمح وشعير وفول أفرك وبيع قبل يبسه ولا يجوز ابتداء
وفيها أكرهه، وأما بيعه مجردا عن سنبله قبل يبسه فلا يجوز جزافا لأنه مغيب وهو مفهوم قوله فيما مر:"إن بكيل" وأما إذا جذ كالفول الأخضر والفريك فإن بيعهما جائز بلا نزاع لأنه حينئذ منتفع به كما في أحمد، ولا يعارض كلام المص هنا ما نص عليه الشيوخ من جواز بيع الزرع القائم اتفاقا؛ لأنه فيما إذا بيع بعد يبسه وهنا قبله ويمضي بقبضه بحصاده في موضوع المص وهو بيعه مع سنبله كما مر، وأما بيعه مجردا عن سنبله قبل يبسه فمضيه بكيله لأنه مما فيه حق توفية.
قال عبد الباقي: وظاهر قوله بقبضه اشتراه على السكوت أو على التبقية وهو قول جمع، ولبعض لا يفوت في الثاني بقبضه بل باليبس. انتهى. وقال محمد بن الحسن: في المدونة: أكرهه فإن وقع وفات فلا أرى أن يفسخ. انتهى. فقال عياض
(1)
: اختلف في تأويل الفوات
(2)
هنا، فذهب أبو محمد إلى أنه القبض وعليه اختصر المدونة ومثله في كتاب ابن حبيب، وذهب غير أبي محمد إلى أن الفوات هنا بالعقد. انتهى. والذي في سماع يحيى عن ابن القاسم أنه إنما يمضي باليبس. قال ابن رشد عقبه: وقد قيل إن العقد فيه فوت وقيل إن القبض فيه فوت وقيل إنه لا يفوت بالقبض حتى يفوت بعده وهو ظاهر ما في السلم الأول من المدونة فهي أربعة أقوال، وهذا إن اشتراه على أن يتركه حتى ييبس أو كان ذلك العرف فيه، وأما إن لم يشترط تركه ولا كان العرف ذلك فالبيع فيه جائز، وإن تركه مشتريه حتى ييبس. انتهى.
وبه تعلم ما في قول الزرقاني وظاهر قوله: "بقبضه اشتراه على السكت" لخ وقد فرض في التوضيح المسألة في الشراء على السكت فانظره مع كلام ابن رشد. انتهى. وقال الرهوني: لا إشكال في مخالفة ما في التوضيح لما نقله بناني عن ابن رشد؛ لأن ما نقله بناني عن ابن رشد صريح في أن محل الخلاف المذكور (إذا)
(3)
اشتراه على أن يترك حتى ييبس أو كان ذلك العرف وإلا فالبيع صحيح، وفي التوضيح جعل محل الخلاف إذا وقع البيع على السكت، ثم نقل الرهوني أن الزرع
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 189.
(2)
ساقط من الأصل والمثبت من البناني ج 5 ص 189.
(3)
ساقط من الأصل والمثبت من الرهوني ج 5 ص 262.
إذا يبس وفيه ما لا خطب له فإنه يجوز بيع جميعه ودَعَّم ذلك بالنقل، ثم قال: وبذلك تعلم (أنه)
(1)
لا معول على ما للجزولي وابن عمر القائلين: إن الحب لا يباع بيبس بعضه بل لا بد من يبس جميعه. انتهى. أي لأن الزرع يباع بيبس البعض الذي هو الجل بحيث يبقى ما لا خطب له. واللَّه تعالى أعلم.
ولما ذكر أن بيع الثمر قبل بدو صلاحه ممنوع وبعد بدو صلاحه جائز بشرط عدم ربا الفضل والنساء وعدم الموانع، ذَكَرَ ما استثني من ذلك وهو بيع العرية فقال: ورخص جوازا لمعر وهو واهب الثمرة وقائم مقامه كوارثه، بل وإن قام مقامه باشتراء بقية الثمرة المعراة فقط دون أصلها وأحرى معه لا غاصب اشتراء ثمرة من المعرَى بالفتح أو وارثه أو مشتر منه شأنها أنها تيبس بالفعل لو تركت، وتدخر كما يدل عليه تعبيره بالمضارع لا أنها حين الشراء يابسة وإلا لم يصلح جعل. قوله: وبدا صلاحها شرطا ولا يُكتَفَى بيبس جنسها كلوز وجوز ونخل غير مصر وعنبه وتين وزيتون لا كموز ورمان وخوخ وتفاح لفقد يبس ذلك لو ترك، ومثله ما لا ييبس مما أصله أن ييبس كعنب مصر. وأفاد بقوله:"كلوز" أنها لا تختص بثمر النخل والعنب وهو المشهور، وقيل تختص بهما. قاله عبد الباقي.
وَإيضَاحُ كلام المص أن من أعرى ثمرة أي وهبها يرخص له في أن يشتريها بقدرها من التمر بالشروط الآتية، ومثل الواهب للثمرة من يقام مقامه في أن له ذلك كالوارث والموهوب ومشتري الأصول مع الثمار أو الأصول فقط، بل وإن قام مقامه باشتراء بقية الثمرة ولا بد من أن تكون هذه الثمرة المعراة أنها تيبس. وقوله:"اشتراء" نائب رخص مع أن الرخص فيه إنما يتعدى له بفي، لكن فعل ذلك تجوزا كما في:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي من قومه والرخصة تتعلق بالمعرى بالفتح أيضا وهي مستثناة من أصل محرمة المزابنة والطعام بالطعام لأجل وبيع الرطب باليابس. وفي المواق عن الموطإ: (نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وأرخص في بيع العرايا بخرصها تمرا ما دون خمسة أوسق أو خمسة أوسق)
(2)
. التتائي: العرية ثمرة نخل أو غيره تيبس
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من الرهوني ج 5 ص 282.
(2)
الموطأ، كتاب البيوع، رقم الحديث 15 والتمهيد موسوعة الموطأ، ج 16، ص 256.
وتدخر يهبها مالكها ثم يشتريها من الموهوب له. انتهى. وفيه أن شراءها من الموهوب له ليس من حقيقتها. قاله ابن عاشر. وعرف ابن عرفة العرية بقوله: ما منح من ثمر ييبس.
وإنما يجوز شراء من ذكر للثمرة المذكورة بشروط أشار إليها بقوله: إن لفظ بالعرية يعني أنه يشترط في جواز الشراء المذكور أن يكون عقد العرية وقع بلفظ العرية لا بالهبة أو الصدقة أو العطية أو نحو ذلك، وهذا هو المشهور اتباعا للفظ الحديث، وخالف ابن حبيب وغيره في هذا الشرط فأجازوا شراءها ولو وقعت بلفظ الهبة ونحوها. قاله الشارح. وبدا صلاحها يعني أنه لا بد أيضا في الجواز من أن تكون الثمرة قد بدا صلاحها حال الشراء لا حال العرية، ونص على هذا الشرط وإن لم يكن خاصا بالعرية ليلا يتوهم عدم اشتراطه لأجل الرخصة لا سيما والباجي قد قال بعدم اشتراطه. قاله عبد الباقي. وكان بخرصها يعني أنه يشترط في الجواز أن يكون الاشتراء المذكور بخرصها بكسر الخاء أي لا بد أن يشتريها بقدر كيلها لا أزيد ولا أنقص، وليس المراد أنها لا تباع إلا بخرصها لا بغيره ولو نقدا؛ إذ يجوز بيعها به وبالعروض، فإن جذها بعد أن اشتراها بخرصها فوجدها أكثر من خرصها رد الزائد وأقل وثبت لم يؤخذ منه إلا قدر ما فيها وإن لم يعلم ذلك إلا من قوله: ضمن الخرص الذي تحملة فيؤديه. وقوله: "وكان بخرصها" لما في الصحيح (أنه عليه الصلاة والسلام أرخص في بيع العرايا بخرصها)، وروي عن مالك جواز شرائها بغير خرصها.
ونوعها يعني أنه يشترط في الجواز أيضا أن يكون هذا الخرص من نوع الثمرة إن برنيا فبرنيٌ وإن صيحانيا فصيحاني وهذا هو مذهب المدونة، وذكر عن الشيخ أبي الحسن ابن القابسي أنه كالطعام القرض فيجوز أن يأخذ عنه عند الأجل خلاف صفته. قاله الش. وقال عبد الباقي: ونوعها ظاهره ولو أجود أو أردى خلافا للخمي يوفى عند الجذاذ يعني أنه يشترط في الجواز أيضا أن يكون هذا الخرص غير مشترط تعجيله، بل يوفيه له عند الجذاذ بمعجمات وبإهمال الدالين مثلث الأول فيهما، قال عبد الباقي: يوفى عند الجذاذ لا على شرط التعجيل فإنه مفسد للعقد وإن لم يعجل، فإن عجل بغير شرطه جاز إن شرط التأجيل أو وقع العقد على السكت، وإلا فلا فإن جذها في الفساد رطبا رد مثلها إن وجد وإلا فقيمتها. قاله عبد الباقي.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: لا يجوز شراء العرية بتمر من غير صنفها إلى الجذاذ ولا برطب أو بسر وإنما يجوز شراؤها بخرصها تمرا من صنفها إلى الجذاذ أو بعين نقدا أو عرض إلى أجل ولا يجوز شراؤها قبل زهوها بعين ولا برض إلا على أن يجذها مكانه، ولا يجوز أيضا بخرصها تمرا جذها أو لم يجذها. قال مالك: ولا تباع بخرصها من برني وهي عجوة.
في الذمة يعني أنه يشترط في الجواز أيضا أن يكون عوض الثمرة وهو الخرص في الذمة أي في ذمة المعري بالكسر اتباعا للرخصة لا في حائط معين. قاله عبد الباقي. وقال المواق من المدونة: لا يجوز بيعها بعجوة من صنفها من حائط آخر معين ولكن بتمر من صنفها مضمون عليه. انتهى. وقال الشارح: الشرط السادس أن يكون العوض في ذمة المعري لا في حائط معين اتباعا للرخصة، فإن نزل ذلك فسخ لأنه بيع فاسد، وفي المبسوط: يبطل شرط التعيين ويبقى في الذمة. انتهى.
وخمسة أوسق فأقل يعني أنه يشترط في الجواز أيضا أن يكون المشترى من العرية خمسة أوسق فأقل، سواء كانت العرية خمسة أوسق أو أكثر، فالمراد أن لا يشتري إلا خمسة أوسق، قال في المدونة: فإن أعرى أكثر من خمسة أوسق فله شراء خمسة أوسق. انتهى. ولا يجوز أخذ زائد مما أعراه عليه أي على القدر المرخص في شرائه وهو الخمسة الأوسق فأقل معه أي مع القدر المذكور بعين أو عرض على الأصح لخروج الرخصة عن موضعها. قاله عبد الباقي.
وَإيضاح هذا أنه إذا أعراه أكثر من خمسة أوسق فاشترى خمسة أوسق أو أقل بالخرص والزائد عليها بالدنانير أو الدراهم فإن ذلك لا يجوز على القول الأصح، ومقابله أن ذلك جائز، قال المواق: قال ابن يونس إذا أعراه أكثر من خمسة أوسق فاشترى خمسة أوسق بالخرص والزائد عليها بالدنانير والدراهم، فقال بعض شيوخ بلدنا: إنه جائز ومنع منه بعضهم، والصواب أنه لا يجوز لأنها رخصة خرجت عن حدها كمساقاة وبيع، وقراض وبيع. انتهى. وقال عبد الباقي: على الأصح لخروج الرخصة عن محلها كما لو أقاله من طعام ابتاعه قبل قبضه وباعه سلعة في عقد واحد لخروج رخصة الإقالة عن موضعها. انتهى.
قال محمد بن الحسن: أي لأن الإقالة لما كانت رخصة منع اجتماعها مع البيع ولذا منع جمع القراض والمساقاة مع البيع. ذكر هذا كله ابن يونس. ونقله ابن غازي وبه تعلم أن قول الخرشي:
وأما لو كان الزائد سلعة فالمشهور الجواز غير صحيح، لأن علة المنع موجودة فيه على أنا لم نر من ذكر ما قاله فضلا عن مشهوريته. واللَّه أعلم. انتهى. وقولي عن عبد الباقي: مما أعراه يعني لو أخذ زائدا على القدر المرخص في شرائه من غير العرية فإن ذلك ليس من محل الخلاف، بل هو ممنوع بلا نزاع.
واستثنى من قوله: "خمسة أوسق فأقل" قوله: إلا لمن أعرى عرايا في حوائط يعني أن محل اشتراط أن يكون المشترى خمسة أوسق فأقل إنما هو في غير من أعرى عرايا على هذه الصفة التي تذكر، وأما إن أعرى عرايا في حائط أو حوائط فإنه يجوز له أن يشتري من كل من العرايا خمسة أي خمسة أوسق، ومحل هذا إن كانت العواري بألفاظ أي عقود وبأوقات مختلفة لا إن كانت بلفظ؛ أي عقد فلا يجوز له أن يشتري إلا خمسة أوسق فقط لأنها كالعرية الواحدة وكذا إن كانت بألفاظ في وقت واحد فهي كالواحدة كما اعتمده ابن عرفة خلافا لأحمد.
وقوله: على الأرجح، قال بناني: صوابه على الأصح لأن الذي رجحه هو ابن الكاتب ونقله ابن يونس وأقره، ولهذا اعترضه ابن غازي، وأجاب التتائي بأنه لما نقله ابن يونس وأقره صحت نسبته إليه. انتهى. وتحقيق المسألة أن الأقوال ثلاثة: الأوَّل جواز الشراء المذكور مطلقا سواء أعرى ذلك في مرة أو مرات وهو للقابسي، الثَّانِي عدم الجواز في الوجهين وهو قول يحيى بن عمر وابن أبي زيد وغيرهما بناء على أن العقد يتعدد بتعدد المعقود عليه أو لا يتعدد وهما تأويلان على المدونة، الثَّالِثُ التفصيل الذي مشى عليه المص وهو لابن الكاتب، قال: إن كان أعرى ذلك لرجل واحد في عقد واحد فهي عرية واحدة ولا يشترى من تلك الحوائط إلا خمسة أوسق فقط، وإن أعراه ذلك في أوقات مختلفة متفرقة فحسن هاهنا أن يشتري من كل خمسة أوسق بخرصها لأنها عرية بعد عرية.
ابن يونس: قال بعض أصحابنا: يؤيد هذا قول مالك فيمن اشترى حوائط فأصابتها جائحة أنه إن كان شراؤه لذلك في صفقات فجائحة كل حائط على حدة، وإن كان في صفقة روعي ثلث الجميع. انتهى. وقوله: إلا لمن أعرى عرايا لخ هذا إذا كان المعرى بالفتح واحدا، وأما إن كان المعرى بالفتح متعددا فإنه لا يشترط تعدد العقود.
واعلم أن شروط الشراء المذكور عَشَرَةٌ: أَنْ يَكُونَ المشتري واهب الثمرة أو من يقوم مقامه فلا يجوز بخرصها لأجنبي، وَالثَّانِي أن تكون الثمرة تيبس، والسبعة التي ذكر المص فتلك تسعة، وذكر أن جواز شراء العرية بالشروط السابقة معلل بإحدى علتين على البدل وهو في الحقيقة شرط عاشر، فقال: لدفع الضرر يعني أنه إنما يجوز الشراء المذكور لأجل دفع الضرر عن المعري بالكسر الحاصل له بدخول المعرى بالفتح للحائط وخروجه واطلاعه على ما لا يُريد اطلاعه عليه حيث كان يحصل له بذلك الضرر. أو للمعروف أي إنما جاز ذلك الشراء لأحد أمرين إما لدفع الضرر أو للمعروف أي للرفق بالمعرى بالفتح لكفايته حراسته لا للتجر، فيمنع بخرصها لا بالعين خلافا للخمي.
وفَرَّعَ على الثانية ثلاث مسائل: الأُولَى قوله فيشتري بعضها يعني أنه يجوز لواهب الثمرة أن يشتري بعضها نصفا أو ثلثا أو غير ذلك إن كانت خمسة فأقل؛ إذ لا يمتنع أن يقوم المعري بالكسر عن المعرى بالفتح ببعض ما يلزم. قاله التتائي. ويمكن تفريعه على الأولى وهو ما إذا كانت العرية متفرقة في حوائط وكان المعري بالكسر ساكنا ببعضها واشترى البعض الذي بمحل سكناه.
الثَّانِيَةُ: قوله: ككل الحائط يعني أنه إذا أعرى جميع الحائط وهو خمسة أوسق فأقل فإنه يجوز للمعري بالكسر شراء جميعه على العلة الثانية أي ليكفي المعرى بالفتح المؤنة لا على العلة الأولى؛ إذ لا ضرر على رب الحائط مع كون جميع الثمرة لغيره؛ لأنه لا يكثر دخول الحائط بأهله. قاله التتائي.
الثَّالِثَةُ: قوله: وبيعه الأصل عطف على مدخول الكاف، يعني أنه يجوز للمعري إذا باع الأصل شراء عريته، قال عبد الحق: يجوز شراء العرية وإن باع أصل حائطه على قول ابن القاسم؛ لأنه يجيز شراءها لوجهين: للرفق ولدفع الضرر وهو صادق بمن باع الأصل دون الثمرة فيعلل بكل من العلتين، وبمن باع الثمرة مع الأصل فيعلل بالمعروف فقط كما نقله ابن يونس، ونصه: إذا باع المعري أصل حائطه وثمرته جاز له شراء العرية لأنه رفق بالمعري وعلى ذلك حمله ابن غازي والمواق قائلا: في كلام المص نقص.
تنبيه:
اعلم أنه اختلف المذهب في العلة في جواز شراء الثمرة، فقال ابن الماجشون: العلة دفع الضرر وذلك أن المعري يدفع عن نفسه دخول المعرى عليه في حائطه واطلاعه على أهله وشبه ذلك، وقيل إن العلة المعروف فيكفيه القيام بأمر ثمرته، وعلل مالك وابن القاسم جواز شرائها بكل من العلتين على سبيل البدلية، ولهذا قال في المدونة: فيجوز شراؤها بخرصها لمعريها لوجهين، إما لدفع الضرر وإما لكفاية المؤنة. ابن عبد السلام: وهذا أقرب الأقاويل.
وجاز لك شراح أصل في حائطك بخرصه إن قصدت المعروف يعني أنه يجوز لمن ملك أصلا في حائط شخص مملوك له أن يبيعه ثمرة الأصل بخرصه مع بقية شروط العرية الممكنة؛ إذ شرط لفظ العرية غير ممكن حيث قصد المشتري المعروف بكفاية المعري بالفتح المؤنة فقط لا إن قصد دفع الضرر بدخوله في حائطه فلا يجوز؛ لأنه من بيع التمر بالرطب لأنه لم يعره شيئا وهذا هو الذي احترز به
(1)
عن قوله: "فقط"، وقوله:"بخرصه" وأما لو كان بعين أو عرض فكسائر البيوع، وقوله:"أصل" أي ثمرة أصل، وقوله:"في حائط" أي مملوك ذلك الأصل لغيرك، وقوله:"وجاز لك" يا ربّ الحائط فلا يجوز لأجنبي قصد المعروف أو دفع الضرر أو التجر ولا لك يا ربَّ الحائط إن قصدت دفع الضرر أو التجر. قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: وجاز لك يا رب الحائط شراء ثمر أصل مملوك ذلك الأصل لغيرك في حائطك بخرصه إن قصدت بشراء الثمر المعروف فقط، لا إن قصدت دفع ضرره فيمنع لأنه بيع تمر برطب إذ لم يُعْرِه شيئا حتى يشتريه بخرصه، ويشترط في الجواز أيضا بقية شروط العرية الممكنة هنا كبدو صلاحه وبخرصه لا غير الممكنة كاللفظ بالعرية. انتهى. وقال الإمام الحطاب: يشير إلى قوله في كتاب (الغرر)
(2)
من المدونة: وإذا ملك رجل أصل نخلة في حائطك فلك شراء ثمرتها منه بالخرص إن أردت بذلك رفقه بكفايتك إياه، وإن كان لدفع ضرر دخوله فلا يعجبني وأراه من بيع التمر بالرطب (وأنه)
(3)
لم يعره شيئا.
(1)
كذا في الأصل ولعلها احترز عنه بقوله.
(2)
كذا في الأصل والذي في الحطاب ج 3 ص 322 ط دار الرضوان: العرايا وهو في التهذيب في كتاب العرايا ج 4 ص 241.
(3)
كذا في الأصل والذي في الحطاب ج 5 ص 322 ط دار الرضوان والتهذيب ج 3 ص 241 لأنه
ويفهم من قول أبي الحسن ومن قوله في المدونة: كالعرية أن الشروط المذكورة في العرية معتبرة، وأنه لو كان له نخلتان أو ثلاثة جاز شراء ثمرها. انتهى. وعلم من كلامهم أنه لا يجوز شراء أكثر من خمسة أوسق. وفي الحطاب: يجوز شراء ثمرها إذا لم تبلغ خمسة أوسق، وقوله في المدونة: فلا يعجبني هذه لفظة كراهة والمراد بها المنع لقوله: وأراه من بيع التمر بالرطب. قاله أبو الحسن.
وبطلت إن مات قبل الحوز يعني أن العرية تبطل إذا مات العري قبل حوز المعرى بالفتح لأنها عطية كسائر العطايا ولا خلاف في هذا في المذهب. قاله الشارح. وقال الخرشي: أي وبطلت العرية إن مات معريها أو حدث له مانع من إحاطة دين أو جنون أو مرض متصلين بموته قبل الحوز لها عن معريها ونحوه لعبد الباقي، واختلف الشيوخ في المراد بالحوز هل هو حوز الأصل بأن يحوزها المعرى بالفتح في حياة المعري وإن لم تطلع فيها الثمرة وهو قول أبي مروان بن مالك، قال: وهو ظاهر ما في كتاب الهبة والصدقة، (أو) لا يكفي حوز الأصول ولا بد معه من أن يطلع ثمرها أي يظهر ثمرها وإن لم يوضع فيه التأبير وهو بفتح الياء وضم اللام، أو بضم الياء وكسر اللام مخففة وأصل هذا لابن حبيب، وعليه تأول ابن القطان المدونة فإنه قال: قول ابن حبيب تفسير لما في المدونة في العرية والهبة والصدقة، وقال أبو مروان بن مالك: ما قاله ابن حبيب خلاف ما في المدونة من أنها تصح للمعرى والموهوبة له بقبض الأصل في حياة المعري وإن لم يطلع فيها الثمرة، وقال أشهب: الحوز بأحد أمرين إما بحوز الأصل وإما بالتأبير.
وَالْحَاصِلُ أن المسألة فيها ثلاثة أقوال: حَوْزُ الأصل كَافٍ. قاله اللخمي. غير معزو كأنه المذهب. الثَّانِي لابن حبيب: حَوْزُ الأصل مع ظهور الثمر وإن لم يؤبر. الثَّالِثُ لأشهب: يكفي أحد أمرين إما حوز الأصل وإما التأبير. وقال ابن عرفة في كونها بحوز أصلها أو به مع ظهور الثمرة: ثالثها بالأول أو بمجرد إبارها للخمي غير معزو كأنه المذهب مع الصقلي عنها وله مع الأندلسيين عن ابن حبيب وله مع الصقلي عن أشهب. انتهى. وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان؛ قال عبد الباقي عند قوله: "تأويلان": ويجري مثل هذا في هبة الثمرة وصدقتها وتحبيسها ورهنها إذ رهن ما لم يبد صلاحه صحيح وإن لم يتخلق.
وزكاتها وسقيها على المعري يعني أن زكاة الثمرة المعراة على المعري بالكسر من ماله لا من العرية ولو وقعت العرية قبل الطيب وإن لم يكن فيها خمسة أوسق كملت من ثمر الحائط وزكاها المعري بالكسر، وكذلك سقي الثمرة المعراة على المعري بالكسر، قال عبد الباقي: وسقيها حتى تنتهي على المعري بالكسر. بخلاف الواهب يعني أن من وهب ثمرة قبل طيبها لا زكاة عليه ولا سقي، وإنما السقي على الموهوب وكذا الزكاة على الموهوب إن كانت الثمرة خمسة أوسق فأكثر، فإن وهب بعد الطيب فعلى الواهب من ماله لأنه وجبت عليه زكاتها قبل الهبة ولا سقي على الموهوب لأنه لا كبير منفعة للموهوب في السقي حينئذ.
فرع:
قال الشيخ أبو الحسن: من وهب صغيرا يرضع قيل رضاعه على الواهب وقيل على الموهوب حكى القولين ابن بشير. قاله الحطاب.
وَلما كان الأصل تعلق الضمان بالمشتري بالعقد وخرج عن ذلك الثمار لكثرة الجوائح فيها أشار إلى حكم ما إذا وقعت فيها الجائحة بقوله: وتوضع جائحة الثمار المراد بالثمار هنا مطلق ما بينبت، يعني أنه إذا اشترى ثمرة فأجيح منها الثلث فأكثر على ما يأتي فإنه توضع تلك الجائحة بمعنى أنه يحط عن المشتري من الثمن بقدر ما أجيح من الثمرة، ويأتي للمص تعريف الجائحة، ومثل للثمار بقوله: كالموز والمقاثي والأصل فيما ذكر المص خبر جابر في الصحيح (أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بوضع الجوائح، وفيه أنه قال: (لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ولم يأخذ أحدكم من مال أخيه بغير حق)
(1)
، والمراد بالمقاثي ما يشمل القثاء والخيار والفقوس والبطيخ والقرع والباذنجان واللفت والبصل والكراث والثوم والجزر والكزبرة ونحو ذلك.
وإن بيعت على الجذ يعني أن الجائحة للثمار توضع وإن بيعت الثمار على الجذ أي القطع، قال عبد الباقي: وإن بيعت على الجذ وأجيحت في مدة تجذ فيها أو بعدها ولم يتمكن من جذها فيها على عادتها أو شرط أن يأخذها شيئا فشيئا في مدة معينة وأجيحت فيها، فقد سأل ابن عبدوس
(1)
صحيح مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث، 1554.
سحنون عن وجه وضعها مع أنه لا سقي على البائع، فقال معناه أن المشتري يأخذ ذلك شيئا بعد شيء على قدر الحاجة ولو دعاه البائع إلى أن يأخذه في يومه لم يكن له ذلك بل يمهل. انتهى. قوله: أو بعدها ولم يتمكن من جذاذها يريد واللَّه أعلم إذا كان ذلك من قبل البائع وإلا ففيه نظر. قاله الرهوني. وفي المدونة: ولو اشتراه على الجذاذ مكانه فأجيح قبل الجذ وضعت فيه الجائحة إن بلغت الثلث كالثمار لا كالبقول، ولو اشترى ما لم يطب من (حرز ولوز)
(1)
وفستق على أن يجذه فأجيح قبل الجذاذ فهو كالثمار توضع فيه الجائحة إن بلغت الثلث، فاستشكل ذلك ابن عبدوس، فأجابه سحنون بقوله: لأن معناه أن المشتري يأخذ ذلك شيئا بعد شيء على قدر الحاجة، ففهم سحنون المدونة على ما ذكر وقبله ابن عبدوس واعتمد ذلك من بعدهما، قاله الرهوني.
وإن من عريته مبالغة بعد مبالغة يعني أن من أعرى لشخص ثمر نخلات من حائطه فإنه يجوز له ولمن قام مقامه أن يشتريها منه، فإذا اشتراها منه بخرصها فأجيحت فإنه يجب وضع الجائحة عنه من الخرص كما يوضع عمن اشترى تمرا بدراهم إن بلغت ثلث المكيلة لأنها بيع ولا تخرجها الرخصة عن ذلك على المشهور، وأما إن اشتراها بغير خرصها فهي كسائر البيوع اتفاقا. قاله الخرشي.
وقال الخرشي: وإن كانت من عريته بأن اشتراها من المعري [أو من]
(2)
نزل منزلته ثم أجيحت فتوضع عن المعري بالكسر المشتري لأنها مبيعة فلها حكم البيع ولا تخرجها الرخصة عن ذلك. انتهى. وقال بناني: وإن من عريته هذا هو المشهور، وقال أشهب: لا قيام له بها لأن العرية مبنية على المعروف ومحل الخلاف إذا [أعاره]
(3)
نخلات ثم اشترى عريته بخرصها، أما إن اشتراها بالثمن فالجائحة من المعرى بالفتح إتفاقا، وأما إن [أعاره]
(4)
أوسقا من حائطه ثم اشتراها
(1)
في الرهوني ج 5 ص 228: جوز وجلوز.
(2)
في الأصل: أمن والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 192.
(3)
كذا في الأصل، ولفظ بناني ج 5 ص 192: أعراه.
(4)
كذا في الأصل ولفظ بناني ج 5 ص 192: أعراه.
منه فلم يبق إلا مقدار تلك الأوسق فلا قيام للمعري بالجائحة اتفاقا، فالمسألة ثلاث صور: طَرَفَانِ وواسطة.
لا مهر يعني أنه لو أصدق زوجته ثمرا على رءوس النخل قد بدا صلاحها فأصابتها جائحة تبلغ الثلث فأكثر، فإنه ليس للزوجة قيام بتلك الجائحة على الزوج، لأن النكاح مبني على المكارمة وهو قول ابن القاسم وليس بيعا محضا، قال الخرشي وعلى هذا لا جائحة في الثمار المخالع بها من باب أولى، لأن المعاوضة في الخلع أضعف من المعاوضة في الصداق، بدليل أنه يجوز فيه الغرر، وأما على أن في المهر جائحة وشُهِّرَ فالظاهر أنه لا جائحة في الخلع. انتهى. وعبارة ابن الحاجب تفيد ترجيح قول ابن القاسم وبه صدر الباجي واللخمي وأقامه ابن ناجي من المدونة، لكن ابن يونس واللخمي وإن شاركا غيرهما في التصدير بقول ابن القاسم اختارا قول ابن الماجشون القائل بأن في المهر الجائحة.
وَالْحَاصِلُ أن ما مشى عليه المص رجح ومقابله لابن الماجشون وقد رجح أيضا واللَّه سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي: وأما لو كان المهر غير ثمر ثم عوضت فيه ثمرا ففيه الجائحة بلا نزاع ولا جائحة في الخلع ولو على القول بثبوتها في المهر.
وقوله: "وتوضع جائحة الثمار" بشروط ثلاثة أشار إلى الأول منها بقوله: إن بلغت ثلث المكيلة يعني أن الجائحة إنما توضع بشرط أن يجاح من النبات الثلث فأكثر مكيلا كان أو موزونا أو معدودا كالبطيخ، فلو قال: إن بلغ ثلث كيل المجاح أو وزنه أو عدده لكان أشمل. ولو من كصيحاني وبرني يعني أنه إذا كان المبيع صنفان من نوع واحد كتمر مثلا منه ما هو صيحاني ومنه ما هو برني فوقعت الجائحة في أحدهما وكانت الجائحة ثلث مجموعهما، فإن تلك الجائحة توضع عن المشتري ولا ينظر لثلث مكيلة المجاح وحده.
وَاعلَم أنه لا خلاف في المذهب أن الجنس الواحد يعتبر جميعه، لكن ابن القاسم يعتبر ثلث المكيلة وأشهب ثلث القيمة، وعليه رد المص بلو، قال المتيطى: قال الباجي في المنتقى: وإن كان المبيع جنسا واحدا وأنواعه مختلفة فأصيب نوع منها فلا خلاف بين أصحابنا أن الاعتبار بثلث جميع المبيع، وهل يعتبر ثلث قيمته أو ثلث الثمرة؟ فروى ابن المواز عن مالك وابن القاسم وعبد
الملك أن الاعتبار بثلث الثمرة، وروى عن أشهب أن الاعتبار بثلث القيمة، وأما إن كان نوعا واحدا فهو على ضربين: أحدهما أن يحبس أوله على آخره كالتمر والعنب فهذا لا خلاف في المذهب أن الاعتبار بثلث الثمرة، وإن كان مما لا يحبس أوله على آخره كالقثاء والبطيخ والخوخ والتفاح والرمان فهاهنا يعتبر ابن القاسم أيضا ثلث الثمرة وأشهب يعتبر ثلث القيمة. انتهى.
وقد علمت به أن خلاف أشهب في صورتين ما لا يحبس أوله على آخره وذو الأنواع، خلاف ما يوهمه المص من قصره على ذي الأنواع، وفي الجواهر: إذا كان المبيع جنسا واحدا مختلف الأنواع فأصيب نوع منه فالاعتبار (يثبت بجميع)
(1)
البيع باتفاق الأصحاب ثم المعتبر في رواية محمد عن مالك وابن القاسم وعبد الملك ثلث الثمرة، وفي روايته عن أشهب ثلث القيمة، ومثله في ابن الحاجب والتوضيح وابن عرفة وغيرهم. قاله الشيخ محمد بن الحسن. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إن كان (في)
(2)
الحائط أصناف من التمر برني وعجوة وشقم وغيره فأجيح أحدها، فإن كان قدر الثلث في الكل من الأصناف وضع من الثمن قدر قيمته من جميعها ناف على ثلث الثمن أو نقص. انتهى. والشقم بالقاف محركة جنس من التمر أو هو البرشوم الواحدة بهاء. قاله في القاموس. وقال في البرشوم: البرشوم ويفتح أبكر النخل بالبصرة.
وأشار إلى الثاني من الشروط الثلاثة بقوله: وبقيت لينتهي طيبها يعني أنه يشترط في وضع الجائحة أيضا أن تكون الثمرة بقيت في الشجر لينتهي طيبها أي ليتكامل طيبها وأما أن تناهت الثمرة فلا جائحة فيها كما يذكره المص، قال عبد الباقي: ومن أيام الطيب حكما أيام الجذاذ المعتادة ثم هذا الشرط في غير ما بيع على الجذ وما في حكمه على ما بيناه إذ ما بيع عليه لا يتأتَّى فيه البقاء لانتهاء الطيب شرعا. انتهى. وقال الحطاب: قال في التوضيح: المسألة على ثلاثة أقسام: أَحَدُهَا أن تكون الثمرة محتاجة إلى بقائها في أصولها ليكمل طيبها ولا خلاف في ثبوت الجائحة في ذلك. الثَّانِي ما لا يحتاج إلى بقائه في أصله لتمام صلاحه لنضارته كالتمر
(1)
في الجواهر ج 2 ص 532 والبناني ج 5 ص 193: بثلث جميع.
(2)
ساقط من الأصل والمثبت من التهذيب ج 3 ص 472.
اليابس والزرع فلا جائحة فيه باتفاق. الثَّالِثُ أن يتناهى طيبها ولكن يحتاج إلى التأخير لبقاء رطوبته كالعنب المشتري بعد بدو صلاحه، وحكى المص -يعني ابن الحاجب- فيه قولين.
الباجي: مقتضى رواية ابن القاسم أنه لا يراعى البقاءُ لحفظ النضارة وإنما يراعى تكامل الصلاح، قال: ويجب أن يجرى هذا المجرى كل ما كان هذا حكمه كالقصيل والقضب والبقول والقرط فلا توضع جائحة في شيء من ذلك، قال: ومقتضى رواية سحنون أن توضع الجائحة من جميعه. انتهى. فَإنْ قِيلَ ما ذكره المص من قوله: "وإن بيعت على الجذ" يخالف قوله: "وإن تناهت الثمرة فلا جائحة"، فَالجَوَابُ أنه يفهم من قول المص:"وإن بيعت على الجذ" أن قول المص: "وإن تناهت الثمرة فلا جائحة" محله حيث جرت العادة بقطعه مرة واحدة، فإن جرت العادة بجذه مرة بعد مرة ففيه الجائحة. انظر الرهوني.
وَأَشَارَ إلى الشرط الثالث بقوله: وأفردت يعني أنه يشترط في وضع الجائحة أيضا أن تفرد الثمرة بالبيع عن أصلها، أو ألحق أصله يعني أنه إذا اشترى الثمرة بعد بدو صلاحها ثم اشترى الأصل بعد ذلك ففيها الجائحة؛ لأن الثمرة حينئذ مقصودة بالشراء، قال المص: أما لو اشتراها أولا قبل بدو صلاحها على القطع ثم اشترى الأصول فله إبقاؤها ولا جائحة. قاله عبد الباقي. وقال المواق: ابن يونس: إذا اشترى ثمرا بعد زهوه ثم اشترى الأصل ففيه الجائحة. انتهى.
لا عكسه يعني أنه إذا اشترى الأصل ثم اشترى الثمرة فإنه لا جائحة في الثمرة أو معه يعني أنه إذا اشترى الأصول مع الثمار في عقد واحد فإنه لا جائحة في الثمار. ونظر ما أصيب من البطون إلى ما بقي في زمنه قال الخرشي: يعني أن الجائحة إذا أصابت شيئا يطعم بطونا كالمقاثي أو بطنا واحدا ولكن لا يحبس أوله على آخره كالعنب أو أصنافا كبرني وصيحاني وغير ذلك مما يختلف أسواقه في أول مجناه ووسطه وآخره وكان الذاهب ثلث المكيلة، فإنه ينسب فيما ذكر قيمة ما أجيح من البطون أو ما في حكمها إلى قيمة ما بقي سالما، وتعتبر قيمة كل من المصاب والسليم في زمنه على ما ذهب إليه جمع من الشيوخ واختاره عبد الحق كالمجاح يوم الجائحة ويُستأنَى بغير المجاح إلى زمنه ولا يستعجل بتقويمه على الظن والتخمين. وقوله: لا يوم البيع
هو مقابل قول المص: "في زمنه" يعني أن قيمة كل من السالم والمجاح إنما تعتبر في زمنه خلافا لابن أبي زمنين القائل: تعتبر قيمة كل من المجاح والسليم يوم البيع.
وقوله: ولا يستعجل هو من تتمة قوله: "في زمنه" يعني أنه لا يستعجل بالسليم بل يستأنَى بتقويمه حتى يجنى، وقوله: على الأصح أي يقوم كل في زمنه فيقوم المجاح يوم الجائحة ولا يستعجل بتقويم السليم، بل يستأنى به حتى يجنى. هذا هو الأصح. إشارة إلى اختيار عبد الحق لهذا القول، قال الخرشي: قال في المدونة: مثل أن يشتري مقثاة بمائة درهم فأجيح منها بطن ثم جنى بطنين فانقطعت، فإن كان المجاح مما لم يجح قدر ثلث النبات بعد معرفة ناحية النبات وضع عنه قدره، وقيل ما قيمة المجاح في زمانه، فإن قيل: ثلاثون والبطن الثاني عشرون والثالث عشرة في زمانيهما لِغلاءِ الأول وإن قل ورخص الثاني وإن كثر فيرجع بنصف الثمن، وكذلك إن كان المجاح تسعة أعشار القيمة يرجع بمثله من الثمن، وإن كان أقل من الثلث في النبات لم يوضع فيه شيء وإن كانت قيمته تسعة أعشار الصفقة. انتهى. قد مر أن الأصناف كالبرني والصيحاني والشقم مثلا يعتبر فيها ثلث الجميع أي ثلث جميع المبيع باتفاق الأصحاب لكن اختلف في الكيفية، فروى ابن المواز عن مالك وابن القاسم وعبد الملك أن المعتبر ثلث الثمرة، وروى عن أشهب أن المعتبر ثلث القيمة أي ثلث قيمة المبيع، وكذا خالف أشهب أيضا فيما لا يحبس أوله على آخره كالبطيخ والخوخ والتفاح والرمان فاعتبر ثلث قيمة المبيع، وابن القاسم اعتبر ثلث المكيلة.
تنبيهان:
الأول: قال عبد الباقي: ثم ما اقتضاه قوله إلى ما بقي من نسبة المجاح للسليم فقط فيه نظر، فإن المعتمد أن يجمع المجاح والسليم وينسب المجاح للسليم والمجاح لا للسليم فقط، وأجاب أحمد بأن فيه حذف عاطف ومعطوف أي إلى ما بقي وما أجيح. انتهى. وقال عبد الباقي: واعلم أنه يرجع بقيمة المصاب قل أو كثر لخ، قال بناني: صوابه قلت أو كثرت بالتأنيث، ومراده أنه إذا بلغ المجاح ثلث الثمرة اعتبر ولو قصر منابه من قيمة عن ثلثه وإلا فلا ولو بلغ منابه منه تسعة أعشاره وعكس أشهب فراعى الثلث بالقيمة.
الثاني: اعلم أن عبارة المدونة ظاهرة فيما أفاده المص، وقد أول الشيوخ المدونة على ثلاث تأويلات: أحَدُهَا أنه يقوم الجميع يوم البَيْع وهو لابن أبي زمنين كما مر، الثَّانِي: أن التقويم يوم الجائحة فيقال ما قيمة التالف يوم الجائحة وما قيمة السالم يوم الجائحة؟ على أن يقبض، وكذا يقال في الثالث؛ إلا أنه يؤخر تقويم ذلك حتى يوجد. قاله الرهوني محصلا به كلام أبي الحسن. وما قررت به المص من حمله على ظاهره هو الذي قواه الرهوني وارتضاه، وقوى غير واحد التأويل الثالث وهو أنه يقوم كل واحد زمن الجائحة بالتالف زمنها، وكذلك السليم فيقوم يوم الجائحة بعد أخذه.
وفي المزهية التابعة للدار تأويلان يعني أن من اكترى دارا أو أرضا فيها نخلة مزهية وهي تبع للدار أي قيمة ثمرتها قدر ثلث الكراء فأقل، فأجيحت تلك النخلة فذهب ثلث مكيلتها فإنه اختلف هل فيها الجائحة لأنها ثمرة مبتاعة فدخل العقد عليها مفردة فهي كغيرها؟ أو لا جائحة فيها ولو ذهب جميعها لأنها تبع والجائحة إنما تكون في ثمرة مقصودة في البيع في ذلك تأويلان على المدونة، فإن لم تكن مزهية فلا جائحة اتفاقا كانت تابعة أم لا، ويفسد الكراء في الثاني دون الأول إذا اشترط إدخالها فيه وضمانها من بائعها. وقوله:"التابعة" مفهومه فيها الجائحة اتفاقا ولا مفهوم للدار. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وفي اعتبار الجائحة الحاصلة في الثمرة المزهية في النخل أو التي طابت في غيره التابعة للدار المكتراة، فإن اشترط الثمرة بعقد الكراء وكانت قيمتها ثلث الأجرة فدون فتوضع نظرا لأنها ثمرة مبتاعة كغيرها وعدم اعتبارها فلا توضع نظرا لتبعيتها وإن لم تدخل إلا بشرط، وَالجائحةُ إنما هي في ثمرة مقصودة بالبيع تأويلان وغير الدار كالفندق حكم الدار، ومفهوم المزهية أن غير المزهية التابعة إذا اشترطها لا يكون حكمها كذلك وهو صحيح إذ لا جائحة فيها بلا نزاع، وإنما يجوز اشتراطها أي غير المزهية التابعة بأربعة شروط: أن تكون تبعا للسكنى في القيمة بأن تكون الثلث فدون وأن يشترط جملتها وأن يكون طيبها قبل انقضاء مدة الكراء وأن يكون قصده باشتراطها دفع الضرر بالتصرف إليها، فإن اختل شرط لم يجز اشتراطها، ومفهوم التابعة أن المشترطة بالكراء مزهية غير تابعة فيها الجائحة بلا نزاع فإنها كعقد مستقل، وأما غير المزهية وغير التابعة فاشتراط المكري لها يفسد
عقد الكراء هذا وصفة التقويم على القول بثبوت الجائحة فيما ذكره المص وفي غيره أن ينظر أولا إلى قيمة الثمرة، وإلى مثل كراء الدار بغير ثمرة يوم الصفقة فيقسم الكراء عليهما، فما قابل الثمرة منه فهو ثمنها، فإن أصابت الجائحة ثلث الثمرة وضع عنه ثلث حصة الثمرة من جميع الثمن الذي نقد في الكراء. قاله ابن يونس. قاله أحمد باختصار.
وعلم من قولي: فإن اشترطت بعقد الكراء أنها مطلقا لا تدخل في عقده إلا بشرط؛ لأن مكتري الدار مثلا إنما دخل على الانتفاع بها والثمرة شيء آخر وليس في كلام المص هنا ولا في قوله في الإجارة: "واغتفر ما في الأرض ما لم يزد على الثلث بالتقويم" ما يدل على ذلك، وأن اشتراط المزهية جائز كانت تبعا أم لا وفيها الجائحة إن كانت غير تبع، فإن كانت تبعا ففي ثبوت الجائحة فيها خلاف كما أفاده المص، وأن اشتراط غير المزهية التابعة جائز بأربعة شروط ولا جائحة فيها وغير المزهية وغير التابعة يفسد العقد باشتراطها.
اللخمي: وإذا دخلت الثمار في العقد لأنها تبع ثم انهدمت الدار بعد سكنى شهر مثلا، فإن كانت الثمرة لم تطب فسخ البيع فيها ورجعت إلى البائع وحط عن المكتري ما ينوبها. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال مالك: من اكترى دارا فيها نخلات يسيرة أقل من الثلث فاشترطها المكتري فأثمرت ثم أجيح ثمرتها فلا جائحة فيها أبرت حين الكراء أو لم تؤبر طابت أو لم تطب؛ لأنها لا حصة لها إذا كانت تبعا كمال العبد، وإن لم تكن تبعا فاشترطها المكتري فإن لم تزه فسدت الصفقة كلها وإن أزهت جازت وفيها الجائحة. اللخمي: ومن اكترى دارا وفيها ثمرة قد طابت فاشترطها، فإن كان جميع الثمرة أقل من الثلث وأصيب جميعها أو ثلثها فأكثر فقيل لا جائحة فيها لأنها تبع وقيل فيها الجائحة وهذا أحسن لأنها مشتراة وليست ملغاة. انتهى.
وأشار المص إلى تفسير الجائحة بقوله: واختلف في حد الجائحة هل هي ما لا يستطاع دفعه لو علم به؟ ومثل لذلك بقوله: كسماوي منسوب للسماء كالبرَد بفتح الراء وسكونها والحر والريح والثلج والمطر والعفن والدود والنار والطير الغالب والقحط والجراد والعفا وهو يبس الثمار مع تغير لونها وجيش، أو هي أعم من ذلك فيشمل ما يستطاع دفعه فهي سماوي وجيش وسارق فهو بالرفع عطف على مقدر أي أو هي سماوي وجيش وسارق كما قررت. وقوله: خلاف مبتدأ حذف
خبره أي في ذلك خلاف، قال بناني: القول الأول لابن نافع وعزاه الباجي لابن القاسم في الموازية، قال في التوضيح: وعليه الأكثر، وأشار ابن عبد السلام إلى أنه المشهور، والقول الثاني لابن القاسم في المدونة وصوبه ابن يونس واستظهره ابن رشد قائلا: لا فرق بين فعل الآدمي وغيره في ذلك لما بقي في الثمرة من حق التوفية. انتهى.
وقال الشارح: يعني وهل الجائحة مقصورة على كل ما لا يستطاع دفعه كالآفات السماوية والجيش الذي لا يمكن دفعه لو علم به وهذا مذهب ابن القاسم عند الباجي، فالسارق غير جائحة على هذا لأنه يستطاع دفعه لو علم به. الباجي: وهذا قوله في الموازية، ونقل الشيخ أبو محمد عن ابن القاسم في المدونة أن السارق جائحة وعلى هذا تكون الجائحة الآفات السماوية والجيش والسارق، وإليه أشار بقوله:"أو وسارق" فأتى بعد أو بالواو المقتضية للتشريك. انتهى. وإنما يكون السارق جائحة إن لم يعرف فإن عرف اتبعه المبتاع بقيمة ما سرق وإن كان معدما ولا يكون جائحة. نقله ابن عرفة. وقال: يلزم مثله في الجيش إذا عرف منه وواحد لأنه يضمن جميعه والأظهر في عُدْمِه أي السارق غيرَ مرجو يسره عن قرب أنه جائحة وهو ظاهر المدونة. انتهى.
وتعييبها كذلك يعني أن تعييب الجائحة للثمرة من غير أن تُذْهِبَ مِنْ عينها شيئا كذلك أي يكون جائحة توضع عن المشتري إن نقص ثلث قيمتها فأكثر، ولا ينظر إلى ثلث مكيلتها هذا هو ظاهر التوضيح وابن عرفة وغيرهما إذا لم ينقص من عينها شيء، فالتشبيه في الوضع إن نقص مطلق الثلث لا ثلث المكيلة، ففي كلام أحمد شيء. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: المشهور أن الثمرة إذا لم تهلك بل تعيبت بغبار وما أشبهه فإن ذلك جائحة بالشروط المتقدمة، لكن في التعييب ينظر إلى ثلث القيمة فتوضع من غير نظر إلى ثلث المكيلة فالتشبيه في مطلق الوضع لا بقيد المكيلة لأن المكيلة هنا قائمة فلا ينظر إليها وهو ظاهر كلام ابن عرفة والتوضيح وغيرهما. انتهى. وقال بناني: قال في التوضيح: فإن لم تهلك الثمار بل تعيبت فقط كالغبار يعيبها والريح يسقطها قبل أن يتناهى طيبها فينقص ثمنها، ففي البيان المشهور أن ذلك جائحة ينظر إلى ما نقص هل الثلث أم لا؟ وقال ابن شعبان: -وهو أحد قولي ابن الماجشون- ليس ذلك جائحة وإنما هو عيب والمبتاع بالخيار بين أن يتمسك أو يرد. انتهى. وعلى القول بأن ذلك عيب فإن ذهب
من الثمرة ثلثها وتعيب الآخر فجائحة يوضع عن المشتري بقدر ما ذهب، ويكون المبتاع بالخيار في الباقي بين أن يتمسك به أو يرده ويرجع بجميع الثمن. قاله الرهوني.
وتوضع من العطش وإن قلت يعني أن الجائحة إذا كانت عطشا فإنها توضع سواء بلغت الثلث أو قلت عن الثلث، قال الخرشي مفسرا للمص: يعني أن الجائحة توضع من العطش سواء كانت قليلة دون الثلث أو أكثر منه وهذا عام في البقول وغيرها؛ لأن سقيها لما كان على ربها أشبهت ما فيه حق توفية، وما وقع في نسخة الشارح من أن سقيها على المبتاع سبق قلم. انتهى. وقال عبد الباقي: وتوضع من العطش وإن قلت عن الثلث لأن سقيها على بائعها فأشبهت ما فيه حق توفية، وظاهر المص ولو قلت جدا. ولابن رشد ما قل إذا كان لا خطب له فلا يوضع له شيء. انتهى.
وقال المواق من المدونة قال ابن القاسم: أما إن هلكت الثمرة من انقطاع ماء السماء أو انقطع عنها عين سقيها فهذا يوضع قليل ما هلك به وكثيره. ولا بأس بشراء شرب يوم أو شهر لسقي أرضه دون شراء أصل العين، فإن غار الماء بنقص قال ابن القاسم: أنا أرى أنه مثل ما أصاب الثمرة من قبل الماء. الصقلي: ولو اشترى قوم ثمار بلدة وانجلى أهلها عنها لفتنة أو لأهل
(1)
حرب كان ذلك جائحة. انتهى.
كالبقول تشبيه في الوضع وإن قلت، لكن لا فرق بين كونها من العطش وغيره، قال مالك: من اشترى شيئا من البقول السلق والجزر والفجل والكراث وشبه ذلك فإنه يوضع قليل ما أجيح منه وكثيره، والزعفران والريحان يعني أن الزعفران والريحان توضع جائحتهما وإن قلت ولا فرق بين كونها من العطش وغيره، قال المواق: قال سحنون: أما الزعفران والريحان والبقل والقرط فإن الجوائح توضع في قليلها وكثيرها ولا يصلح فيها المساقاة. انتهى.
والقرط هو حشيش يشبه البريسيم خلقة وهو عطف على مدخول الكاف فتوضع جائحته وإن قلت، ولا فرق بين كونها من العطش وغيره وكذلك قوله: والقطب بقاف مفتوحة فضاد معجمة
(1)
لفظ المواق ج 4 ص 596 ط دار الفكر لأجل حرب.
ساكنة، وورق التوت هو الذي يباع لأجل دود الحرير أي يعلف به. التونسي: لو مات دود الحرير الذي لا يراد ورق التوت إلا لأكله هل مشتريه كمكترٍ حماما وفندقا خلا بلده فلا يجد من يعمره فيكون له متكلم؟ أو لا يشبهه لأن ورق التوت سلعة تضمن بالعقد كمن اشترى علفا لقافلة تأتيه فعدلت عن محله. ابن يونس: ورق التوت الذي يباع لعلف دود الحرير، قال ابن القاسم: إنه كالبقل يوضع فيه ما قل منه أو كثر.
ومغيب الأصل عطف على مدخول الكاف فتوضع فيه الجائحة قلت أو كثرت من العطش أو غيره، ومثل لِمغيَّبِ الأصل بقوله: كالجزر قال بناني: جعل مغيب الأصل كالبقول ونحوُه قول المدونة: وأما جائحة البقول السلق والبصل والجزر والفجل والكراث وغيرها فيوضع قليل ما أجيح منه وكثيره انتهى. ابن عرفة: جعل الجزر والفجل من البقول وكذا نقل اللخمي وغيره، وقال ابن عبد السلام: اختلف في الأصول المغيبة كاللفت هل هي كالبقول؟ انتهى. قال المتيطى: وأما المقاثي والبطيخ والباذنجان والقرع والفجل والجزر والموز والورد والياسمين والخيرى والعصفر والفول الأخضر والجلبان فحكم ذلك كله حكم الثمار يراعى فيه الثلث، وروى محمد عن أشهب أن المقاثي كالبقول يوضع قليلها وكثيرها وما قدمناه أشهر وبه القضاء. انتهى. فانظره (مع)
(1)
ما تقدم. انتهى.
قال عبد الباقي عند قوله "كالجزر": ولا فرق في هذه بين كونها من العطش أم لا، فلو قال: ومطلقا في كالبقول لخ لأفاد ذلك. انتهى. والفرق بين تقييد وضع جائحة الثمار بالثلث وبين وضعها من البقول وما معها وإن قلت أنه لا يتوصل إلى مقدار الثلث لأنه يجز أولا فأولا فلا يضبط قدر ما يذهب منه، وفي قول المص:"ومغيب الأصل" إشعار بجواز بيعه وهو كذلك بشرط قلع شيء منه ويرى. قاله
(2)
التتائي. مالك: ويحفر على أصله ويختبر كان حوضا أو أحواضا كثيرة وقيل لا يجوز إلا ما قلع وما لم يقلع مجهول. انتهى. ولا يكفي رؤية ما ظهر منه دون قلع خلافا للناصر اللقاني، ويدخل في مغيب الأصل في جواز بيعه مع قلع بعضه ورؤيته جدرة قصب
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 195.
(2)
في عبد الباقي قال تت.
السكر تباع وحدها أو مع انضمام عقد كراء الأرض إليها ولا يجوز اشتراط المكتري على المكري (اشتراط)
(1)
تبقية الجدرة بعد فراغ المدة لعدم تخلق المشترط وقت الشراء، فإن تطوع له بذلك بعد العقد جاز كما يجوز اشتراطها للمكري لأنها مال من أمواله. قاله الأستاذ أبو سعيد بن لب. قاله ابن عاصم. وهي فائدة حسنة تقع عندنا بمصر.
تنبيهان:
الأول: قوله: "ورق التوت" لو مات الدود فهو جائحة في الورق أي فيفسخ عن نفسه الكراء أو البيع، كمن اكترى حماما أو فندقا فخلا البلد ولم يجد من يسكنه.
الثاني: قال ابن عرفة: وفيمن تسلف مالا أو أخذ سلما وقال أؤدي لك من مالي بقرية كذا فحيل بينه وبين ماله ذلك وطلبه المسلم بدينه ثلاثة أقوال: صحة البيع مع القضاء لغريمه من عموم ماله: وبه أفتى ابن عبد الرءوف وابن الشقاق وابن دحون وغيرهم وصحته ولا يلزم القضاء إلا من ماله ذلك، وبه أفتى أبو المطرف عبد الرحمن بن بشير ورجع له الأولون بعد عرضه عليهم. ابن عات: ينبغي أن لا يجوز. انتهى.
ولزم المشتري باقيها يعني أنه يوضع عن المشتري الجائحة وما بقي بعد الجائحة يلزم المشتري وإن قل اتفاقا، "فإن" لدفع التوهم وهذا بخلاف استحقاق الجل فإنه يخير المشتري بين التمسك بالأقل والرجوع بمناب المستحق والرد، ويرجع بجميع الثمن في المثلي كما هنا ويحرم التمسك بالأقل في المقوم والفرق تكرر الجوائح، فالمشتري دخل عليها بخلاف الاستحقاق فلم يدخل عليه لندوره وأيضا العقد وقع في الاستحقاق على غير مملوك للبائع بخلاف الجائحة. قاله التتائي.
وأشار إلى حكم ما إذا تعددت الأجناس المشتراة تقع فيها الجائحة بقوله: وإن أشترى أجناسا فأجيح بعضها وضعت يعني أن من اشترى أجناسا مختلفة مما فيه الجائحة من حائط أو حوائط كنخل ورمان وخوخ وعنب وغير ذلك صفقة واحدة، فأجيح بعض من جنس أو من كل جنس أو جنس وبعض آخر فإن الجائحة توضع بشرطين، الأوَّلُ أشار إليه بقوله: إن بلغت قيمته ثلث الجميع يعني أنه لا بد في وضع الجائحة من أن تكون قيمته أي الجنس الذي وقعت فيه الجائحة
(1)
ليست في عبد الباقي.
ثلثَ قيمة جميع الأجناس التي احتوت عليها الصفقة، كأن تكون قيمة الجميع تسعين وقيمة المصاب ثلاثين، وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: وأجيع منه ثلث مكيلته يعني أنه لا بد أيضا من أن يذهب من ذلك الجنس المجاح ثلث مكيلة نفسه فأكثر، فإن عدم أحد الشرطين فلا وضع عند ابن القاسم ولو أذهبت الجائحة الجنس كله ونسبه ابن يونس لمحمد. قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: وإن اشترى أجناسا من حائط أو حوائط كنخل وعنب وتين ونحوه في صفقة فأجيح بعضها جنسا أو بعضه من حائط فأكثر أو من كل بعضه وضعت بشرطين: الأول إن بلغت قيمته أي قيمة الجنس الذي وقعت فيه الجائحة ثلث قيمة الجميع أي جميع الأجناس التي وقع العقد عليها يعني ما وقعت فيه الجائحة وما لم تقع فيه، كأن تكون قيمة الجميع تسعين وما أجيح ثلاثين فأكثر، والشرط الثاني قوله:"وأجيح منه" أي من الجنس الذي وقعت فيه الجائحة "ثلث مكيلته فأكثر"، فإن فقد أحد الشرطين أو هما فلا جائحة، فالنظر الأول بين القيمتين والثاني بين المكيلتين. انتهى.
وما مشى عليه المص هو لابن القاسم، ولمالك من رواية ابن حبيب أن المعتبر كل جنس على انفراده مما يخصه من الثمن بناء على أن العقد يتعدد بتعدد العقود عليه فيصير كأنه عقد على كل جنس بانفراده، وفي المسألة قول ثالث لأشهب أن المعتبر ثلث الجميع، فإن بلغ ما أجيح ثلث الثمن فأكثر وضع من غير اعتبار بقدر الجائحة من الثمرة.
وإن تناهت الثمرة فلا جانحة هذا مفهوم قوله: "وبقيت لينتهي طيبها" يعني أنه إذا وقع العقد على الثمرة وقد تناهت في الطيب بأن صارت تمرا أو زبيبا مثلا ثم أجيحت فإنه لا جائحة فيها أي لا يوضع عن المشتري في مقابلتها شيء من الثمن؛ لأنها قد تم طيبها فلم يبق إلا القطع ولهذا لو جرت العادة بجذه مرة بعد مرة ففيه الجائحة، كالقصب الحلو ويابس الحب يعني أن القصب الحلو لا جائحة فيه إذ لا يجوز بيعه حتى يطيب ويمكن قطعه، وكذا الجائحة في يابس الحب كقمح وشعير وسمسم وحب فجل سواء بيع بعد يبسه أو قبله على القطع وبقي إلى أن يبس، وأما لو اشتراه على التبقية أو الإطلاق وأصابه ما أتلفه فإنها توضع قلت أو كثرت بعد اليبس أو قبله؛ لأنه بيع فاسد فضمانه من بائعه، فقوله:"كالقصب الحلو" تشبيه لإفادة الحكم لأن القصب ليس
من الثمار وكذا الحب، واحترز بالحلو عن القصب قبل جريان الحلاوة فيه فإن فيه الجائحة، والظاهر أن مجرد جريان الحلاوة فيه وإن لم يتكامل يمنع اعتبار الجائحة فيه بمنزلة ما تناهى طيبه في غيره، فإن قلت كيف يكون فيه الجائحة وهو لا يصح بيعه؟ قلت: بل يصح إذا بيع على شرط الجذ لا على ما إذا بيع بأرضه أو تبعا لها إذ لا جائحة كما مر. وأما القصب الفارسي فهو كالخشب فلا تجري فيه الجائحة قطعا. قال جميعه الخرشي. ونحوه لعبد الباقي.
وقال المواق: من المدونة: لا توضع في القصب الحلو جائحة إذ لا يجوز بيعه حتى يطيب ويمكن قطعه وليس ببطون، وقد قال ابن القاسم: توضع جائحة القصب الحلو وهو أحسن. ابن القاسم: كل ما لا يباع إلا بعد يبسه من الحبوب من قمح وشعير أو حب فجل الزيت فلا جائحة في ذلك وهو بمنزلة ما باعه في الأنادر وما بيع من ثمر نخل وعنب وغيره بعد أن يبس فصار تمرا أو زبيبا فلا جائحة فيه، ولو اشترى ذلك حين الزهو ثم أجيح بعد إمكان جذاذه وتيبيسه فلا جائحة فيه، وكأنك ابتعتها بعد إمكان الجذاذ. قال سحنون: إذا تناهى العنب المشتري وآن قطافه حتى لا يتركه تاركه إلا لسوق يرجوه أو شغل يعرض له فلا جائحة فيه ولا سقي على بائعه، بخلاف النخل السقيُ على البائع حتى ييبس التمر والجائحةُ فإذا يبس سقطت الجائحةُ والسقي عنه، قال ابن حبيب: وكذلك الزيتون إذا بلغ من الطيب المقدار الذي يمكن فيه جميعه كله فلا جائحة فيه. انتهى.
وخير العامل في المساقاة بين سقي الجميع وتركه إن أجيح الثلث فأكثر يعني أن العامل في المساقاة إذا أصاب بعض الثمرة المساقى عليها جائحة، فإن أذهبت أقل من ثلث الثمرة فلا كلام للعامل ويلزمه أن يسقي جميع الثمرة في أجيح وما لم يجح، وإن أذهب الثلث فأكثر فإن العامل يخير بين أن يبقى على عمله ويسقي الجميع في أجيح وما لم يجح وله الجزء الذي دخل عليه وبين أن يفك عن نفسه ويترك المساقاة ولا شيء له فيما عمل لا من نفقة ولا من أجرة علاج ولا غير ذلك، وظاهرها أنه لا فرق بين أن يكون المجاح شائعا أو في ناحية معينة وهو كذلك عند عبد الحق، وقيدها ابن يونس بما قال محمد وهو ما إذا كانت شائعة، وأما إذا كانت في ناحية فلا سقي عليه فيها ويسقي السالم وحده ما لم يكن يسيرا جدا الثلث فدون. قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: وخير العامل في المساقاة إذا أصابت الثمرة جائحة بين سقي الجميع ما أجيح وما لم يجح بالجزء المساقى عليه أو تركه بأن يحل العقد عن نفسه إن أجيح الثلث فأكثر ولم يبلغ الثلثين وكان المجاح مشاعا، فإن كان معينا لزمه سقي ما عداه كما إذا أجيح دون الثلث مطلقا، فإن بلغ المجاح الثلثين فأكثر خير العامل أيضا سواء كان المجاح شائعا أو معينا، فعلم أن للمسألة ثلاثة أوجه: أحَدُهَا: أن يكون المجاح الثلثين فأكثر فيخير العامل كان المجاح شائعا أو معينات الثَّانِي: أن يكون دون الثلث فيلزم العامل سقي الجميع كان المجاح شائعا أو معينا، الثَّالِثُ: أن يجاح الثلث فأكثر ولم يبلغ الثلثين، فإن كان مشاعا خير كما ذكره المص، وإن كان معينا لزمه سقي ما عدا المجاح. انتهى. قوله: الثاني أن يكون دون الثلث لخ، قال بناني: كلام المواق عن المتيطى صريح في أنه لا يلزمه في المعين إلا سقي ما عدا المجاح وإن كان المجاح دون الثلث.
ومستثني كيل من الثمرة تجاح بما يوضع يضع عن مشتريه بقدره صورتها أن يشتري شخص ثمرا بدا صلاحه بخمسة عشر درهما واستثنى البائع منه لنفسه أرادب أو أوسُقًا معلومة الثلث فأقل، كما لو استثنى عشرة أرادب أو أوسقٍ من ثلاثين ثم أصابت الثمرة جائحة، فإن كانت أقل من ثلث الثمرة المبيعة فإنه لا يحط عن المشتري شيء من الثمن ويأخذ البائع جميع مكيلته من السالم، وإن كانت الجائحة الثلث فأكثر فإنه يضع البائع عن المشتري بتلك النسبة من الثمن ويوضع من المكيلة بتلك النسبة، فإن نقصت الثمرة الثلث وضع عن المشتري ثلث الثمن وهو في هذا المثال خمسة دراهم، وإن نقصت النصف وضع عن المشتري نصف الثمن وهو سبعة ونصف، وعلى هذا يوضع من المكيلة بحسب الجائحة فيأخذ البائع في نقص الثمرة الثلثَ ستة أرادب وثلثي إردب أو ستة أوسق وثلثي وسق، وفي نقصها النصف يأخذ البائع خمسة أرادب أو خمسة أوسق هذا هو المشهور بناء على أن المستثنى مشترى، وقيل لا يوضع عن المشتري من القدر المستثنى شيء وإنما يوضع من الثمن لا سواه وهو رواية ابن وهب بناء على أنه مبَقىًّ. قاله الخرشي. وقال: وعلى رواية ابن وهب يوضع عن المشتري ثلث الدراهم فقط وهي خمسة ولا يوضع عنه شيء من القدر المستثنى، وتعتبر الجائحة في القدر المستثنى منه دون المستثنى لأنه
إنما باع من حائطه ما بقي بعد ما استثنى. وَمَفْهُومُ قول المص: "كيل" أنه لو كان جزءا شائعا لم يكن الحكم كذلك وهو كذلك، فيوضع عن المشتري بقدر ما استثنى البائع نصفا كان أو ربعا أو غير ذلك اتفاقا، والظاهر أنه إن استثنى كيلا وجزءًا فيجري كل على حكمه، فإن نسي قدر كل فانظر ما الحكم.
تنبيه:
إذا تنازعا في حصول الجائحة صدق البائع إذ الأصل السلامة حتى يُثبتَ المشتري ما ادعاه، فإن تصادقا عليها واختلفا في قدر ما أذهبته الجائحة هل الثلث أو أقل، فقيل القول للبائع وقيل للمبتاع، وإنما قال المص يَضَع بحذف الواو مع أنها وقعت بين ياء وفتحة وهي لا تحذف حينئذ، كقوله تعالى:{لَا تَوْجَلْ} وإنما تحذف إذا وقعت بين ياء وكسرة لأن الفتحة هنا عارضة إذ الأصل كسر عين المضارع في مثل هذا وإنما فتحت لأجل حرف الحلق. قاله الخرشي وعبد الباقي بزيادة لعبد الباقي. وقال عبد الباقي بعد أن صرح بأن المشهور ما قاله المص ما نصه: فالثمن الذي يبلغ الجائحة ثلثه أمران على المشهور المستثنى والمستثنى منه، وعلى مقابل المشهور هو الباقي بعد المستثنى والثمن على المشهور الدراهم والقدر المستثنى وعلى مقابله الدراهم فقط. انتهى.
وَلما جرى ذكر البائع والمشتري في هذا الفصل ذكر ما إذا اختلفا في جنس الثمن أو نوعه أو قدره أو غير ذلك، فقال:
فصل:
إن اختلف المتبايعان في جنس الثمن أو نوعه حلفا وفسخ يعني أن المتبايعين بالنقد أو بالنسيئة إذا اختلفا في جنس الثمن كبعت بذهب وقال الآخر بطعام، أو اختلفا في نوع الثمن كأن يقول أحدهما بذهب والآخر بفضة فإنهما يحلفان ويفسخ البيع، وكذا الحكم لو نكلا كما يأتي تحقيق ذلك إن شاء اللَّه ويقضى للحالف على الناكل. قاله الشارح. ولو اختلفا في الصفة فقال ابن عرفة: اللخمي: اختلافهما في الجودة كاختلافهما في الكيل يعني في القدر، وإن قال أسلمت إليك في فرس صفته كيت وكيت، وقال الآخر دونها فكاختلافهما في الكيل، فإن قال أحدهما ذكر وقال الآخر أنثى تحالفا ولو اختلفا بذلك في البغال كان اختلافهما في الجودة، لأن الأنثى لا تراد للنسل. وتبعه المازري ثم قال: وفي كون اختلافهما بدعوى أحدهما سمراء والآخر محمولة كاختلافهما في الجودة أو الجنس نقلا المازري مع الصقلي وعبد الحق عن ابن حبيب وفضل. انتهى.
فالأقسام ثلاثة:
طرفان وواسطة، الاختلاف في النوع كالقمح والشعير طرف والاختلاف في الصفة كالجودة طرف والاختلاف في السمراء والمحمولة فيه قولان هل من الأول أو الثاني؟ فهذا يدل على أن الاختلاف في الصفة لا خلاف أنه كالكيل وإنما الخلاف في السمراء والمحمولة وهو ظاهر التوضيح أيضا، لكنه خلاف ما لابن يونس ونصه: قال ابن حبيب: إذا اختلفا في الصفة في جيد ووسط وسمراء أو بيضاء وقد انتقد البائع وتفرقا صدق البائع مع يمينه ولم يجعل ذلك كاختلافهما في جنس: وقال فضل بن مسلمة: إنهما يتحالفان ويتفاسخان وجعل ذلك كاختلافهما في جنسين. انتهى. فجعل خلاف ابن حبيب وفضل في الصفة مطلقا خلاف ما ذكره ابن عرفة، وقول ابن يونس: وقد انتقد البائع لخ هو معنى قول اللخمي الاختلاف في الصفة كالكيل؛ لأنه جعل قبض الثمن مع التفرق فوتا وصدق البائع لأن التنازع في المثمون، وما يأتي من تصديق المشتري في التنازع في الثمن، وفي العتبية إذا قبض البائع الثمن وهو دينار ثم اختلفا في المثمون، فسمع يحيى: البائع مصدق مع يمينه لقبضه الدينار، ابن رشد: وهذا خلاف قول ابن القاسم فيها لأنه لم ير النقد المقبوض فيها فوتا، ثم قال: من جعل قبض السلعة فوتا جعل قبض الدينار فوتا وهو هذا السماع ومن لم ير قبض السلعة فوتا حتى تفوت بحوالة سوق لم ير قبض النقد فوتا إلا أن
يغيب عليه البائع، وقيل إلا أن يطول أمد غيبته عليه والقياس لا فرق إن غاب عليه بين الطول وعدمه. انتهى. وقوله:"حلفا وفسخ" كان البيع قائما أو فائتا لكن مع القيام يرد عين السلعة.
ورَدَّ مع القوات قيمتها يوم بيعها يعني أنهما يتحالفان ويتفاسخان إذا اختلفا في الجنس أو النوع ولو فات المبيع، ولكن يرد المشتري قيمة السلعة للبائع إن كانت مقومة أو مثلها إن كانت مثلية، ويأخذ المشتري الثمن من البائع ويتقاصان في غير الزائد إن كان وتعتبر القيمة يوم البيع لا يوم الفوات ولا يوم الحكم، وقال بعضهم: ينبغي أن يقال يوم ضمنها المشتري، وفي كلام حلولو إشارة له، ولو قال: عوضها بدل قيمتها لكان أحسن ليشمل المقوم والمثلي، وما في التوضيح من أنه يرد قيمتها مطلقا كانت مقومة أو مثلية طريقة. قاله الخرشي.
وفي قدره يعني أن البائع والمشتري إذا اختلفا في قدر الثمن؛ بأن قال البائع مثلا بعتك بثمانية ويقول المشتري بل بأربعة فإنهما يتحالفان ويفسخ العقد إن لم تفت السلعة وظاهره عدم مراعاة الشبه مع قيام المبيع وهو المشهور من المذهب، قال المتيطى: وبه القضاء. وقوله: كمثمونه تشبيه في جميع ما مر، يعني أن البائع والمشتري إذا اختلفا في جنس البيع كقول أحدهما بعير والآخر طعاما أو أحدهما كساء والآخر فرسا أو اختلفا في نوعه، كقول أحدهما بعير والآخر فرسا فإنهما يتحالفان ويفسخ البيع مطلقا، فات البيع
(1)
أم لا، أشبها أو أحدهما أم لا وكذا الحكم لو نكلا كما يأتي، ويقضى للحالف على الناكل. ولو اختلفا في قدر المثمون فقال أحدهما بعيران وقال الآخر بعير واحد فكذلك أي يحلفان ويفسخ البيع مع القيام ولا يراعى الشبه مع القيام ويأتي حكم الفوات، والضمير في "مثمونه" للثمن، قال عبد الباقي: كمثمونه أي اختلفا في قدر مثمون الثمن كبعتك هذه الشاة بدينار فيقول المشتري بل هي وهذا الثوب. قاله التتائي. ولم يجعل ذلك كمنكر العقد أي الذي تركه المص لوضوحه وهو أن القول لمنكره إجماعا أي مع يمينه لاتفاقهما على وقوع العقد هنا في الجملة، ومثل ذلك بعت نصفها مثلا وقال المشتري جميعها، واختار التونسي التحالف والتفاسخ إن ادعى البائع أقل مما قال المبتاع.
(1)
في نسخة غير نسخة المؤلف المبيع.
ابن رشد: ولو ادعى البائع أنه باع أكثر مما قال المبتاع فالقول للمبتاع بلا خلاف. والفرق بين مسألة ابن رشد ومسألة المص أن صورة ابن رشد محلها إذا اختلفا في المثمون والثمن معا، كأن يقول البائع بعتك النصف بخمسين ويقول المبتاع إنما اشتريت الربع من حسابه بخمسة وعشرين: ولذلك أمكن أن يدعِي البائع بيع الأكثر فكأنهما عقدان تنازعا في وجود أحدهما فالقول لمنكره، وأما صورة المص فهي إذا اختلفا في المثمون فقط كقول البائع بعتك النصف بمائة ويقول المشتري اشتريت الجميع بمائة. قاله بناني. وقال الشارح: أما المسألة الأولى وهي الاختلاف في قدر الثمن الذي وقع به البيع مثل أن يقول البائع بعت السلعة بمائة ويقول المشتري إنما اشتريتها بخمسين، ففيها أربع روايات الأولى: وهي التي اقتصر عليها المص وهي المشهور أنهما يحلفان ويفسخ ما لم يفت بيد المشتري فيصدق إن ادعى ما يشبه من الثمن، الثانية: رواية ابن وهب أنهما يتحالفان ويفسخ ما لم يقبض المشتري فيصدق مع يمينه إلا أن يدعيَ ما لا يشبه، الثالثة: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن قبض السلعة ما لم يكن قد بان بها فيصدق لأن البائع ائتمنه، الرابعة: رواية أشهب أنهما يتحالفان ويتفاسخان مطلقا وإن فاتت السلعة لأن القيمة تقوم مقام العين. قال الإمام أبو عبد اللَّه المازري: وهذا المذهب هو الذي كان يفتي به شيخنا.
وأما المسألة الثانية وهي ما إذا اختلفا في قدر المثمون، قال في الجواهر: كقول البائع بعتك هذا الثوب بألف درهم ويقول المبتاع بل هذا الثوب وثوبا آخر بألف، وقد حكى فيها المازري الأقوال الأربعة السابقة. أو قدر أجل يعني أن البائع والمشتري إذا اختلفا في قدر الأجل؛ بأن قال البائع: بعتك لشهر، وقال المشتري: بل لشهرين فإنهما يتحالفان ويفسخ البيع مع القيام ولا يراعى الشبه مع القيام ويأتي حكم الفوات، وقوله:"أو قدر أجل" أي مع اتفاقهما على أصل الأجل، ويأتي حكم اختلافهما في أصله عند قوله:"وإن اختلفا في انتهاء الأجل" لخ.
أو رهن يعني أنهما إذا اختلفا في أصل الرهن أي هل وقع البيع على رهن شيء أم لا؟ أو اختلفا في قدر الرهن فإنهما يتحالفان ويفسخ البيع مع القيام ولا يراعى الشَّبَهُ مع القيام، ويأتي حكم الفوات فإن اختلفا في جنس الرهن أو نوعه فالظاهر أنه يرجع إلى الاختلاف في قدر الثمن. قاله
بناني. أو حميل يعني أنهما إذا اختلفا في أصل الحميل أو في قدره فإنهما يحلفان ويفسخ البيع مع القيام ولا يراعى معه الشبه ويأتي حكم الفوات.
وعلم مما قررت أن قوله: حلفا وفسخ راجع للمسائل الخمس ولم يذكر الخمسة مع مسألة الاختلاف في جنس الثمن أو نوعه، ويجعل جواب السبعة قوله:"حلفا وفسخ" لعموم ذلك في الأولين مع قيام البيع وفواته من غير نظر لدعوى تشبه وفي هذه الخمسة مع بقائه فقط، ولعل الفرق أن الاختلاف في جنس الثمن أو نوعه اختلاف في ذاته فلذا فسخ مطلقا؛ بخلاف الخمس فإنه اختلاف في شيء زائد على الذات، أما في الرهن والحميل والأجل فظاهر، وأما في قدر الثمن والمثمن فلأن اتفاقهما على أصل كل صير الزائد المختلف فيه كالزائد على أصل الذات. قاله عبد الباقي. وقولي: الخمس تبع له وهو فسر قوله: "كمثمونه" بالاختلاف في قدر المثمون.
وأما قوله: إن حكم به أي بالفسخ فقيد في الفسخين جميعا، فهو راجع للسبع عند ابن القاسم وابن عبد الحكم خلافا لسحنون قائلا: ينفسخ بنفدى التحالف من غير توقف على الحكم بالفسخ كاللعان، فإن تراضيا على الفسخ من غير حكم، فقال سند: يثبت الفسخ وكأنهما تقايلا فلا حاجة مع التراضي عليه إلى حكم به ظاهرا وباطنا معمول "فسخ" يعني أنه إذا حكم بالفسخ فإن البيع يفسخ ظاهرا أي فيما بينه وبين الناس وباطنا أي فيما بينه وبين اللَّه. قال عبد الباقي: ولو في حق المظلوم على المعتمد، ونقل العوفي عن سند أنه يفسخ في حق المظلوم ظاهرا فقط حتى لو وجد بينة أو أقر له خصمه بعد الفسخ كان له القيام بذلك، وثمرة ذلك إذا كان المبيع أمة والبائع ظالم فلا يحل له وطؤها على الضعيف وهو كون الفسخ في حق المظلوم ظاهرا فقط وتحل على المشهور، وكذا لا يحل للمبتاع أيضا وطؤها إذا ظفر بها وأمكنه وهو ظاهر كلام الشارح رعيا للمشهور أن الفسخ في حقه باطنا حتى على الضعيف فيما يظهر لكونه أخذ ثمنه الذي دفعه وليس للبائع الظالم إذا فسخ البيع ورد له المبيع أن يبيعه، وإذا حصل فيه ربح فليس له تملكه على الضعيف لا على المشهور.
وقول المص: "ظاهرا وباطنا" يعارض قوله في الصلح: "ولا يحل لظالم"، وقوله في القضاء:"لا أحل حراما". قاله عبد الباقي. وذكر ثلاثة أجوبة عن الشيخ محاسن عصري أحمد وردها بناني
فلذا لم أكتبها، وقال الشيخ محمد بن الحسن بناني عند قول المص "ظاهرا وباطنا" ما نصه: ابن الحاجب: وينفسخ ظاهرا وباطنا على الأصح، قال في التوضيح: ما صححه المص ذكر سند أنه المذهب ورجح الثاني بأن أصل المذهب أن حكم الحاكم لا يحل الحرام. انتهى.
وذكر المازري القولين وزاد ثالثا لبعض الشافعية: إن كان البائع مظلوما فسخ البيع ظاهرا وباطنا ليصح تصرفه في البيع بالوطء وغيره، وإن كان ظالما فسخ ظاهرا فقط لأنه غاصب للمبيع. وفي نوازل القضاء من المعيار ما نصه: وسئل ابن أبي زيد عمن باع جارية من رجل فأنكره المشتري هل يحل له وطؤها؟ فأجاب: إذا لم يجد عليه بينة بالشراء فليحلفه ويبرأ ويعدُّ ذلك منه كتسليمها للبائع بالثمن ويحل له وطؤها إن رضي بقبولها، وإن لم يقبلها فليبعها على هذا التسليم، ويشهد عدلين أنه إنما باعها على ذلك ويقبض ثمنها الذي باعها به أولا ويوقف ما زاد عليه، فمتى أقر المشتري الأول فهو له. ورأيت لسحنون في كتاب ابنه أنها لا تحل للبائع وإنما ذلك إن لم يرض بقبولها. انتهى.
قال الشيخ أبو علي: وبه تفهم ما أشكل، والدَّاءَ الذي أعضل، وأن صاحبَ القول المفصل هو الذي أصاب المفصل. انتهى.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من نار). انتهى.
كتناكلهما يعني أن البيعين إذا نكلا عن اليمين فإن البيع يفسخ ظاهرا وباطنا إن حكم به، ويقضى للحالف على الناكل. قاله الخرشي. وقال المواق: قال ابن القاسم: إن تحالفا ترادا وإن نكلا ترادا لأنهما استويا في الحال كما لو حلفا. انتهى. وصدق مشتر ادعى الأشبه وحلف إن مات راجع لقوله: "صدق" إذ مع القيام لا يراعى شبه كما مر يعني أنه إذا فات المبيع بحوالة سوق فأعلى فإن المشتري يصدق في المسائل الخمس -أعني في قدر الثمن وقدر المثمون والأجل والرهن والحميل- بشرطين، أحدهما أن يدعي المشتري الأشبه، ثَانِيهِمَا أن يحلف على ما ادعى.
قال الخرشي ما نصه: تقدم أن الحكم بالفسخ في المسائل الخمس مقيد بقيام السلعة، وأما مع فواتها بيد المشتري أو البائع فإن المشتري يصدق بيمينه حيث أشبه، أشبه البائع أم لا ويلزم البائع ما قال المشتري، فإن انفرد البائع بالشبه فالقول قوله بيمين ويلزم المشتري ما قال، وإن لم يشبها حلفا وفسخ وردت قيمة السلعة يوم بيعها. انتهى.
وقال عبد الباقي: وصدق مشتر في الفروع الخمسة فقط بشرطين أولهما قوله: "ادعى الأشبه" وليس أفعل للتفضيل فيما يظهر كما قال الوالد، أي لأنه يصدق إذا أَشْبَهَ أَشْبَهَ البائع أم لا، والشرط الثاني قوله:"وحلف إن فات" المبيع كله بيد المبتاع ولو بحوالة سوق، وهل كذا إن فات بيد بائعه قولان، فإن أشبه البائع وحده حلف ومضى بما حلف عليه، فإن لم يشبه واحد تحالفا ومضى بالقيمة في المقوم والمثلي إلا المسلم فسلم وسط كما سيأتي، خلافا لقول ابن غازي: ما للمص في السلم يجري هنا أيضا. انتهى. قال بناني: ما قاله ابن غازي صواب، فإنه لما قال ابن المواز في السلم عن ابن القاسم: فإن ادعيا جميعا ما لا يشبه حملا على سلم الناس يوم أسلم إليه، قال ابن يونس بعده: هو كقول بائع الجارية بعتها بحنطة وقال المبتاع بشعير أنهما يتحالفان إن لم تفت السلعة، فإن فاتت كان على المبتاع قيمتها فحملها على سلم الناس يشبه إلزامه قيمة الجارية. انتهى. وقوله:"إن فات" قال عبد الباقي: فإن فات البعض فلكل حكمه. انتهى.
وقال المواق: قال ابن القاسم: إنما يراعي مالك (الشبه)
(1)
من أشبه قوله من المتداعيين في فوت السلعة بيد المشتري في سوق أو بدن، وأما مع بقاء السلعة في وقت يحكم فيه بالتحالف والتفاسخ فعندي أنه لا يراعى في ذلك قول من أشبه. ابن القاسم: شأن اختلافهما في الكيل إذا تصادقا في النوع المسلم فيه، بمنزلة من ابتاع جارية ففاتت عنده فقال البائع بعتها بمانة دينار وقال المبتاع بخمسين دينارا، قال مالك: المبتاع مصدق مع يمينه إذا أتى بما يشبه أن يكون ثمنا للجارية يوم ابتاعها، فإن تبين كذبه حلف البائع إن ادعى ما يشبه، فإن أتى بما لا يشبه كان على المبتاع قيمتها يوم اشتراها. انتهى.
(1)
ليست في المواق ج 6 ص 470 ط دار الكتب العلمية.
تنبيهات
الأول: قال الخرشي في كبيره عند قوله "إن اختلف المتبايعان": سواء في ذلك بيع النقد والنسيئة والذوات والمنافع، ولولا أن المتناكحين تقدما لأدخلناهما تحت ذلك. انتهى.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: كلامه كالصريح في أن كل متعاوضين الحكم فيهما ما ذكره المص في المتبايعين واللَّه سبحانه أعلم.
الثاني: قال الرهوني من المعيار: سئل أبو صالح عن رجلين تداعيا في سلعة، كل واحد يقول أنا اشتريتها قبل ولي وجبت الصفقة، فقال البائع بعتها من فلان قبل فلان هل تجوز شهادته؟ فأجاب: أما إذا كانت السلعة بيد البائع فالقول قوله أنه باعها من فلان، وأما إذا خرجت من يده فلا قول له والتداعي بينهما بأيمانهما، فإن حلفا أو نكلا كانت بينهما، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر فالقول قول الحالف. انتهى. قوله: بيد البائع فيه تفصيل وهو أن القول قول البائع مع يمينه أن هذا هو الأول ويثبت الشراء، فإن نكل حلف الآخر على ما يدعي من أنه اشتراها قبل أو دونه أو أنه اشتراها ولا يعلم أن صاحبه اشتراها قبله، ورجع على البائع بالأكثر مما زادت القيمة أو الثمن على الثمن الذي أقر به وإن لم يكن في ذلك فضل فإن القول قول البائع دون يمين. وقوله: والتداعي بينهما لخ محله إذا كانت تحت أيديهما معا أو لا يد لأحدهما عليها وإلا فالقول قول (من هو)
(1)
بيده كما في أجوبة ابن رشد، فإنه قال: ينظر فإن كان الذي دفعها إليه هو الذي أقر أنه باعها منه أولا قُبلَ قوله، ولم يكن للآخر عليه يمين إلا أن يكون في قيمة السلعة أو في الثمن الذي أقر أنه باعها به من الذي قبضها فضل عن الثمن الذي ادعى الآخر أنه اشتراها، فإن كان في ذلك فضل لزمته اليمين فإن نكل عنها حلف الآخر ورجع عليه بالفضل على ما ذكرنا، وإذا زعم أن الذي باعها منه أولا هو الذي لم يدفعها له لم يصدق في ذلك وكان له الفضل دون يمين. انتهى. وقول ابن رشد: ولا بينة لأحدهما، فلو كانت لأحدهما بينة عمل عليها ولا يلتفت لقول البائع مطلقا. انتهى.
(1)
في الرهوني ج 5 ص 238: من هي.
الثالث: إذا تداعى السلعة رجلان فادعى كل أنه اشتراها وأقر البائع أنه باعها من أحدهما بعد الآخر ولا يعلم الأول منهما ويدعي كل واحد منهما أنه اشتراها ولا يَعْلَمُ أن صاحبه اشتراها قبله وقد قبضها أحدهما ولا بينة لواحد منهما على دعواه، فالحكم في ذلك أن تكون السلعة للذي قبضها ويرجع الذي لم يقبضها على البائع بالفضل المذكور بعد يمينه أنه الأول وقيل بغير يمين، وقوله: والحكم في ذلك أن تكون السلعة للذي قبضها يعني إذا حلف على ما ادعاه وإنما سكت عنه لوضوحه. قاله الرهوني ناقلا عن ابن رشد. واللَّه سبحانه أعلم.
ومنه تجاهل الثمن قال عبد الباقي: ومنه أي التحالف والتفاسخ تجاهل الثمن من المتبايعين، بل وإن من وارث بعد موتهما أو موت أحدهما أي ادعى كل منهما جهله فيحلف كل أنه لا يدري قدره ويتفاسخان وترد السلعة أو قيمتها يوم البيع إن فاتت ونكولهما كحلفهما، ولا يقضى للحالف على الناكل فيما يظهر ويبدأ المشتري هنا أو وارثه، ويستثنى هذا من قوله: بدئ البائع وحلف كل على تحقيق دعواه فقط ولا يتصور حلفه على نفي دعوى خصمه لقول كل: لا أدري، وظاهر إطلاقه كغيره أنه لا يحتاج الفسخ لحكم، ومفهوم قوله:"تجاهل" أنه لو ادعى أحدهما علم الثمن وجهله الآخر لكن لم يوافقه على ما ادعاه صدق مدعي علمه فيما يشبه. قاله في الذخيرة. أي بيمينه وفات فإن لم يفت صدق بيمينه وإن لم يشبه، فإن نكل فسخ حلف الآخر أو نكل أشبه أم لا وهو ظاهر، وانظر إذا لم يشبه مع الفوات وحلف فهل هو كحلفه حال قيامها أو كنكوله حاله؟ فإن وافقه الجاهل على ما ادعاه عمل بما اتفقا عليه بلا حلف، أشبه قول مدعي العلم أم لا. انتهى.
وَعُلمَ مما مر أن هذه المسألة تخالف هذا الباب في خمس مسائل: تبدئة المشتري باليمين، وعدم القضاء للحالف على الناكل، وعدم مراعاة الشبه، واستواء القيام والفوات، وعدم حلف كل على نفي دعوى خصمه. الخرشي: والمراد بالثمن العوض فيشمل الثمن والمثمن ويبدأ البائع في التجاهل في الجنس أو النوع، وأما التجاهل في الرهن والحميل والأجل فالأمل عدم ذلك ولا يمين على واحد منهما لأنه لا غرامة فيه، وينبغي أن يعمل بالأكثر في التجاهل في قدر الأجل هل هو شهر أو شهران مع اتفاقهما على أصل الأجل.
وبدئ البائع يعني أن البيعين إذا اختلفا في وجه من الوجوه السابقة ما عدا مسألة تجاهل الثمن وقلنا إنهما يتحالفان، فالمشهور أن البائع هو الذي يبدأ باليمين لأنه مطالب بالثمن فيجبر الحاكم البائع على التبدئة بالحلف؛ لأن الأصل استصحاب ملكه والمشتري يدعي إخراجه بغير ما رضيه، وورثة البائع ينزلون منزلته. وقال عبد الباقي: وإن اتفق المتبايعان غير متجاهلي الثمن وغير ورثتهما على قدر المبيع واختلفا في قدر الثمن وطُلِبَ يمين كل بدئ البائع، فإن اتفقا على قدر الثمن واختلفا في قدر البيع بدئ المشتري كما في الشارح عن البيان ونحوه في العتبية وقيل البائع وذكرهما في الشامل من غير ترجيح، وانظر إذا وقع اختلافهما في كل من الثمن والمثمن والظاهر (تبدئة البائع)
(1)
لأنه متفق على تبدئته حيث وقع الاختلاف في قدر الثمن. انتهى. وفي حاشية بناني: وفي الاتفاق على تبدئة البائع باليمين حيث اختلفا في قدر الثمن واتفقا على قدر الثمن نظر، ففي الشامل: وفي تبدئة بائع أو مشتر اختلفا في الثمن فقط قولان وكذا في ابن الحاجب. قاله بناني.
وحلف على نفي دعوى خصمه مع تحقيق دعواه يعني أنهما إذا قلنا يتحالفان في غير مسألة تجاهل الثمن فالمشهور أنه لا بد أن يحلف كل منهما على نفي دعوى خصمه مع تحقيق دعواه، فإذا ادعى البائع مثلا أنه باع بعشرة وقال المشتري بثمانية، فإن البائع يقول ما بعتها بثمانية ولقد بعتها بعشرة والمشتري لم أشترها بعشرة ولقت اشتريتها بثمانية، لأنه لا يلزم من نفى البيع بثمانية أن البيع بعشرة لاحتمال أنه بتسعة، وكذا لا يلزم من نفي الشراء بعشرة أن يكون بثمانية لاحتمال أنه بتسعة وإن شاء أتى بأداة الحصر مقدما للنفي، فيقول البائع ما بعتها إلا بعشرة والمشتري ما اشتريتها إلا بثمانية. قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: وحلف من توجه عليه الحلف منهما على نفي دعوى خصمه مع تحقيق دعواه أي دعوى نفسه، فيقدم النفي على الإثبات عند ابن القاسم. سند: وجوزنا الإثبات هنا قبل نكول الخصم لأنه تبع للنفي، ولذا لو كانت على الإثبات فقط في غير هذا الموضع فإنها إنما تكون
(1)
في الأصل: ثبوته للبائع، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 200.
بعد نكول الخصم. انتهى. قال أحمد: أي يحلف على الشيئين بالتصريح أو بالمفهوم كما إذا أتى بحصر أو نحوه، كقوله: ما بعتها إلا بعشرة أو بعتها بعشرة فقط، وكقول المشتري: ما اشتريتها إلا بثمانية أو بثمانية فقط. انتهى. انتهى. وقال بناني على قول عبد الباقي: فيقدم النفي على الإثبات لخ ما نصه: الذي صدر به المتيطى عكسه وهو تقديم الإيجاب على النفي، ونصه في ترجمة ما جاء في السلم من الفساد: واختلف هل يحلف كل منهما على إثبات دعواه أو على تكذيب دعوى صاحبه؟ وقيل بل يحلف كل منهما يمينا واحدة يجمع فيها بين النفي والإيجاب، واختلف بعد القول بهذا هل يقدم النفي على الإيجاب أو لا؟ والصواب تقديم الإيجاب على النفي كما قيل في اللعان.
وإن اختلفا في انتهاء الأجل فالقول لمنكر التقضي يعني أنهما إذا اتفقا على وقوع الأجل وعلى أنه شهر مثلا ولكن اختلفا في انتهاء الأجل لاختلافهما في مبدئه فإن القول لمنكر التقضي؛ أي انتهاء الأجل أي انقضائه أي القول لمنكر الحلول من بائع أو مشتر، قال عبد الباقي: وَلما قدم حكم ما إذا اتفقا على الأجل واختلفا في قدره ذكر ما إذا اتفقا عليه أي على قدره أيضا واختلفا في مبدئه، فذكر أحدهما ما يقتضي انتهاءه والآخر بقاءه، فقال: وإن اتفقا على الأجل وعلى أنه شهر مثلا واختلفا في انتهاء الأجل لاختلافهما في مبدئه هل هو أول الشهر أو نصفه ولا بينة وفاتت السلعة فالقول لمنكر التقضي، بائع أو مشتر، مكر أو مكتر بيمينه إن أشبه سواء أشبه الآخر أم لا؛ لأن الأصل عدم انقضاء المعاملة، فإن أشبه غيره فقوله بيمينه إن أشبه فإن لم يشبه أيضا حلفا وغرم القيمة، فإن لم تفت السلعة تحالفا وتفاسخا فإن أقام كل بينة على دعواه عمل ببينة البائع لتقدم تأريخها كما في أحمد، وسكت المص عما إذا اختلفا في أصل الأجل، فإن كان مع قيام المبيع تحالفا وتفاسخا إلا لعرف ومع فواته يعمل بالعرف أيضا، فإن لم يكن عرف صدق المبتاع بيمينه إن ادعى أمدا قريبا لا يتهم كما يفيده قوله في الإقرار وقبل أجل مثله في بيع لا قرض، وإن ادعى أمدا بعيدا صدق البائع بيمينه. انتهى. ونحوه للخرشي.
قوله: فإن لم يكن عرف صدق المبتاع لخ هذا التفصيل يدل عليه قول المص: "وقبل أجل مثله في بيع لا قرض". وقول المدونة في كتاب الوكالة: إن ادعى البائع نقده والمبتاع تأجيله صدق إن
ادعى أجلا يقرب لا يتهم فيه وإلا صدق البائع إلا أن يكون لما تُبَاعُ إليه السلعة أمر معروف فالقول لمدعيه، واقتصر الحطاب والتتائي على ما في تضمين الصناع من إطلاق أن القول للبائع. قاله بناني.
وقال الحطاب: واعلم أن الاختلاف في الأجل على ثلاثة أوجه: الأوَّلُ أن يختلفا في أصل الأجل فيدعي البائع الحلول والمشتري التأجيل. الثَّانِي أن يتفقا على التأجيل ويختلفا في قدر الأجل والحكم فيهما مع قيام المبيع سواء وهو أنه مع قيام السلعة يتحالفان ويتفاسخان، وأما إذا فاتت السلعة بحوالة سوق فأعلَى فالقول في المسألة الأولى قول البائع؛ لأن المشتري مدعي الأجل وفي الثانية القول قول المشتري يريد إذا ادعى ما يشبه الوجه الثالث وهو أن يتفقا على التأجيل وعلى قدر الأجل ويتخالفا في حلوله، وهذا الوجه هو قول المص:"وإن اختلفا في انتهاء الأجل فالقول لمنكر التقضي".
وفي قبض الثمن أو السلعة فالأصل بقاؤهما يعني أنه إذا اختلف المتبايعان في قبض الثمن أو في قبض السلعة فالأصل بقاء السلعة عند البائع وبقاء الثمن عند المشتري إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا ما لم يحصل الإشهاد من المشتري بالثمن بدليل ما بعده وما لم يوافق قول أحدهما العرف، فإن وافقه فالقول قول من وافقت دعواه العرف من مبتاع أو بائع بيمينه؛ لأن العرف بمنزلة الشاهد، وإليه الإشارة بقوله: إلا لعرف. قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: وإن اختلفا في قبض أي إقباض الثمن فادعاه المبتاع وأنكره البائع أو في قبض السلعة فادعاه البائع وأنكره المبتاع ولا بينة لواحد ولا إشهادَ مِن المشتري بالثمن بدليل ما يأتي، فالأصل بقاؤهما الثمن عند المبتاع والسلعة عند البائع إلا لعرف بقبض الثمن أو السلعة قبل المفارقة، فالقول لمن وافقه بيمينه لأنه بمنزلة الشاهد. انتهى. وقال الشارح: يعني وإن اختلف المتبايعان في قبض الثمن فادعى المبتاع أنه دفعه وأنكر ذلك البائع أو في السلعة فادعى البائع أنه دفعها وأنكر ذلك المبتاع فالأصل بقاؤهما أي بقاء الثمن في ذمة المبتاع والسلعة في يد البائع ولا يلزم من ذلك إلا ما اتفقا عليه وهو حصول عقدة البيع بغير زائد على ذلك إلا ببينة أو إقرار إلا إذا كانت العادة في مثل تلك السلعة بقبض الثمن فإن المبتاع يصدق في دفعه.
كلحم أو بقل بَانَ به مثال ما وافقت دعوى المشتري فيه العرف، والمعنى أن المشتري إذا قبض اللحم أو البقل وما أشبه ذلك وبان به أي ذهب به عن بائعه ثم اختلفا في قبض الثمن، فقال البائع: ما دفعت إليَّ ثمنه، وقال المشتري: دفعت إليك ثمنه فإن القول قول المشتري لشهادة العرف له؛ لأنه قاض بأن ذلك لا يأخذه المشتري إلا بعد دفع ثمنه، ولا فرق بين القليل والكثير، ولهذا قال: ولو كثر ما ذكر من لحم وبقل. قاله الخرشي. وقوله: "ولو كثر" قال الشارح: هو قول ابن أبي زمنين ونقله عن ابن القاسم وأنكره يحيى، وجعله إذا كثر كسائر السلع القول فيه قول البائع. انتهى. وفي المدونة -بعد أن ذكر أن الأصل بقاء الثمن والسلعة-: إلا في مثل ما يباع على النقد كالصرف وما بيع في الأسواق من اللحم والفواكه والخضر والحنطة ونحو هذا؛ وقد انقلب به المبتاع فالقول قوله إنه دفع الثمن. نقله الشارح.
وقال عبد الباقي: كلحم أو بقل بان أي انفصل به المشتري ولو كثر لموافقة دعواه العرف حين انفصاله به وإلا يبن به سواء اعتيد دفع الثمن قبل أخذ الثمن أم اعتيد قبل وبعد معا، فلا يعمل بقوله: إنه دفع الثمن إن ادعى أي المشتري دفعه أي الثمن بعد الأخذ للسلعة لدعواه ما يخالف العرف في الأولى وانقطاع شهادته له في الثانية لجريانه بالدفع قبل الأخذ وبعده معا. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: أي وإن لم يكن بأن بما ذكر بل وقع الاختلاف بينهما بالحضرة، فقال المشتري: دفعت ثمنه بعد أن أخذت المبيع فإنه لا يصدق لأنه اعترف بعمارة ذمته بقبض المثمن فادعاؤه بعد ذلك دفع الثمن لا يبرئه حتى يثبت الدفع. انتهى.
وإلا يدع دفعه بعد الأخذ بل قبله والعرف الدفع قبل البينونة به (كما هو)
(1)
الموضوع، فهل يقبل دعوى المشتري أنه دفع الثمن للبائع لشهادة العرف له في الأولى ودلالة تسليم البائع له السلعة في الثانية؟ أو يقبل قوله: فيما هو الشان أي العرف أن يقبض ثمنه قبل أخذه وهذا لا يشكل مع موضوع المسألة. قاله أحمد. أي أن الدفع قبل البينونة به أولا يقبل مطلقا جرى عرف بالدفع قبل
(1)
في الأصل: كمو هو، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 201.
الأخذ فقط أو به وبالدفع بعده لأنه مقر بقبض المبيع مدع لدفع ثمنه في ذلك أقوال ثلاثة. قال جميعه عبد الباقي.
وقال الخرشي: أي وإن لم (يبرز به)
(1)
وادعى الدفع قبل الأخذ فهل يقبل قوله سواء كان الشأن الدفع قبل الأخذ أو بعده، وهي رواية ابن القاسم في الموازية أو لا يقبل منه دعوى الدفع قبل الأخذ ولو جرى العرف بالدفع قبله وَهو ظاهر قول مالك في العتبية أو يقبل فيما الشأن فيه الدفع قبل الأخذ لا غيره وهو قول ابن القاسم في الموازية. انتهى. وقال الحطاب: وهذا كله إذا كان المشتري قبض السلعة، قال في التوضيح عن البيان: وأما إن لم يقبض المشتري المثمون فلا خلاف أنه لا يعتبر قوله. انتهى. ومفهوم قوله "كلحم أو بقل" أنه إن كان كدار صدق مشتر في دفع الثمن إن وافقه العرف أو طال الزمن طولا يقتضي العرفُ أنه لا يصبر إليه بتركه القبض.
وإشهاد المشتري بالثمن مقتض لقبض مثمنه يعني أن إشهاد المشتري بالثمن أي بأن الثمن باق في ذمته يقتضي أنه قبض المثمن فلا يقبل منه دعوى عدم قبضه، قال الخرشي: يعني أن المشتري إذا أقر على نفسه بأن ثمن البيع باق في ذمته للبائع فإن ذلك يقتضي أنه قبض المثمن وهو السلعة التي بيعت بذلك الثمن، وحلَّف بائعه إن بادر يعني أن إشهاد المشتري بأن الثمن باق في ذمته يقتضي أنه قبض السلعة كما عرفت، لكنه إذا بادر بإنكار قبض المبيع بعد الإشهاد المذكور كعشرة أيام من وقت الإشهاد فإنه يحلف البائع أنه أقبضه السلعة، فقوله:"وإشهاد" مبتدأ وخبره "مُقتضٍ" وفاعل "حلف" ضمير يعود على المشتري وبائعه مفعول لحلَّف. وقال الشارح: يريد أن المشتري إذا أشهد على نفسه بالثمن في ذمته فذلك مقتض قبض مثمنه وهو السلعة التي بيعت بذلك الثمن الذي أشهد به على نفسه، فإن ادعى بعد ذلك أنه لم يقبض السلعة لم يصدق وكان القول قول البائع على المشهور وهو قول ابن القاسم في العتبية، ومقابل المشهور لابن عبد الحكم أن القول قول المبتاع في عدم قبض السلعة، ومفهوم قوله: إن بادر أنه إذا لم يبادر بإنكار قبض المبيع فلا يمين على البائع، قال أصبغ: ويحلف له البائع إن كان بحداثة البيع
(1)
في الخرشي ج 5 ص 199: بين به.
والإشهاد، فأما أن يكف حتى يحل الأجل وشبهه فلا قول له ولا يمين على البائع. قاله الشارح. وقال المواق: وسمع أصبغ ابن القاسم: وإذا طلب البائع الثمن، فقال المشتري لم أقبض السلعة، وقال البائع قد قبضتها فإن أشهد له بالثمن فقد قبض السلعة وعليه غرم الثمن، ولا يصدق أنه لم يقبضها، قال أصبغ: ويَحْلِف له البائع إن كان بحداثة البيع والإشهاد، فأما إن سكت حتى يحل الأجل وشبهه فلا قول له ولا يمين على البائع. انتهى.
كإشهاد البائع بقبضه قال الخرشي: تشبيه في الحكم وهو أنه يلزم المشتري اليمين للبائع إن بادر، والمعنى أن البائع إذا أشهد بقبض الثمن من المشتري ثم قام يطلبه من المشتري وأنكر أن يكون قد قبضه أو بعضه واعتذر عن إشهاده على نفسه أنه قبضه بأن قال: إنما أشهدت بقبضي للثمن ثقة مني به ولم يوفني جميعه وطلب يمين المشتري على ذلك، وقال المشتري: أوفيتك ولا بينة ولا أحلف، فإن قام البائع على المشتري بالقرب من الإشهاد المذكور فله تحليف المشتري، وإن لم يقم عليه إلا بَعْدَ بُعْدٍ فلا يمين على المشتري لأن البينة رجحت قوله. انتهى.
وَقال عبد الباقي: كإشهاد البائع على نفسه بقبضه للثمن مقتض لقبضه حقيقة فلا يقبل دعواه بعده أنه لم يقبضه، وحلف مشتريا إن بادر إلا أن يقر بقبض بعضه بعد الكتب أو الإشهاد بقبض جميعه فلا يحلفه لترجيح قوله بإقرار البائع بقبض بعضه، وأما إشهاد البائع بإقباض البيع فالظاهر أنه كإشهاد المشتري بإقباض الثمن، فيجري فيه تفصيله وهو أنه إن كان التنازع بعد شهر من وقت الإشهاد حلف البائع، وإن قرب كالجمعة حلف المشتري أنه لم يقبض المبيع. وانظر حكم ما بين الجمعة والشهر؟ ولو أشهد المشتري على نفسه بقبض المثمن ثم ادعى أنه لم يقبضه فالظاهر أن له تحليف البائع إن بادر وإلا لم يحلفه، ولو أشهد بانعقاد البيع لم يكن ذلك مقتضيا لقبض المبيع وإن لزم منه تعمير ذمته بالثمن. انتهى.
قوله: "وأما إشهاد البائع بإقباض المبيع لخ يعني أن إشهاد البائع بدفع المبيع للمشتري ثم قام يطلب منه الثمن بمنزلة إشهاد المشتري بدفع الثمن للبائع ثم قام يطلب المبيع منه، ففي الثانية وهي مسألة إشهاد المشتري بدفع الثمن للبائع إن قام المشتري بعد شهر يطلب المبيع صدق البائع بيمينه أن المشتري قد قبضه، وفي القرب القول للمشتري بيمينه أنه لم يقبض المبيع: وفي الأولى
وهي مسألة ما إذا أشهد البائع بإقباض البيع الحكم كذلك، فالقول للمشتري بعد شهر بيمين أن البائع قد قبض الثمن وللبائع في القرب أنه لم يقبض الثمن. انظر حاشية الشيخ بناني.
وهنا ست صور: إشهاد المشتري بالثمن في ذمته أو بدفعه أو بقبضِ المبيع، وإشهاد البائع بالمبيع في ذمته على وجه السلم أو بدفعه أو بقبض الثمن، فإشهاد المشتري بالثمن في ذمته مقتض لقبض المبيع كما قال المص، وينبغي أن يكون مثله إشهاد البائع أن المبيع باق في ذمته على وجه السلم، فنقول إشهاد البائع بالمبيع في ذمته مقتض لقبض ثمنه، وإشهاد المشتري بدفع الثمن وإشهاد البائع بإقباض المبيع هما المتقدمتان في كلام عبد الباقي المتقدم شرحهما، وإشهاد المشتري بقبض المبيع والبائع بقبض الثمن مقتض لقبض ذلك حقيقة، ولكل تحليف الآخر إن بادر وإلا فلا، فإشهاد البائع بقبض الثمن هي قول المص كإشهاد البائع بقبضه، والظاهر أن إشهاد المشتري بقبض المبيع كذلك. فتأمل تلك الصور الست الحسان.
وذكر الشيخ بناني أن قول المص: "وإشهاد المشتري بالثمن" لم يصح حمله على ما يشمل إشهاده بالثمن في ذمته وإشهاده بدفعه، وعليه فيكون الحكم فيهما واحدا وهو خلاف ما قدمته من اختلاف حكمهما. واللَّه سبحانه أعلم.
وفي البت مدعيه يعني أن البيعين إذا اختلفا في وقوع البيع على البت، فادعى أحدهما أن البيع بيع بت، وادعى الآخر أن البيع على الخيار، فإن القول قول مدعي البت، قال عبد الباقي: وإن اختلفا في وقوع البيع على البت والخيار فالقول قول مدعيه أي البت؛ لأنه الغالب من بياعات الناس، قال الشارح: ولو مع قيام البيع إن لم يجر عرف بالخيار، فإن اتفقا على وقوعه بخيار وادعاه كل فهل يتحالفان ويتفاسخان؟ أو يتحالفان ويكون البيع بتا؟ قولان لابن القاسم. انتهى.
قال الخرشي: وهذا ما لم يجر عرف بكونه لأحدهما بعينه فيعمل به. انتهى. وقال المواق: ابن بشير: إن ادعى أحدهما الخيار والآخر البت فالمشهور أن القول قول مدعي البت؛ لأن الآخر مقر بالبيع مدع ما يرفعه. ابن عرفة: هذا مذهب المدونة. انتهى. وقال الشارح: يعني وإن كان الاختلاف بين المتبايعين في الخيار وعدمه؛ بأن قال أحدهما: وقع البيع بيننا بتا، وقال الآخر:
إنما وقع على الخيار فإن القول قول مدعي البت لأنه الغالب من بياعات الناس وهذا هو المشهور، ومقابله لأشهب أن القول قول مدعي الخيار، لأن الأصل عدم انتقال الملك. ابن بشير: وبه كان يفتي من حقق النظر. انتهى.
كمدعي الصحة يعني أن المتبايعين إذا اختلفا في صحة العقد وفساده، فقال أحدهما: صدر صحيحا، وقال الآخر: صدر فاسدا، فإن القول لمدعي الصحة لأنها الأصل في عقود المسلمين، كقول أحدهما: وقع ضحى يوم الجمعة، ويقول الآخر عند الأذان الثاني. قاله الخرشي. قال: وكلام المؤلف محله مع عدم قيام المبيع وإلا تحالفا وتفاسخا. انتهى. وقال عبد الباقي: كمدعي الصحة والآخر الفساد ولم يختلف بهما الثمن بدليل ما بعده كدعوى أحدهما أنه وقع ضحى يوم الجمعة والآخر بعد الأذان الثاني وفات المبيع. انتهى. قوله: وفات المبيع، قال بناني: هذا القيد لأبي بكر بن عبد الرحمن وحُذَّاقِ أصحابه، قال في المتيطية: وإن ادعى أحدهما في السلم أنهما لم يضربا له أجلا وأن رأس ماله تأخر بشرط شهرا وكذبه الآخر فالقول قول مدعي الحلال منهما مع يمينه، إلا أن تقوم للآخر بينة على ما ادعاه من الفساد فيفسخ السلم ويرد البائع رأس المال، قال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن: إنما يكون القول قول من ادعى الحلال إذا فاتت السلعة، وأما إذا كانت قائمة فإنهما يتحالفان ويتفاسخان، وإلى هذا ذهب حذاق أصحابه، وقال بعض شيوخ القرويين إن القول قول مدعي الصحة، فاتت السلعة أو لم تفت. انتهى.
إن لم يغلب الفساد يعني أن محل كون القول لمدعي الصحة إنما هو إن لم يغلب الفساد في المعاملة، وأما إن غلب الفساد فإن القول قول مدعي الفساد، قال عبد الباقي عند قوله "إن لم يغلب الفساد" ما نصه: فإن غلب الفساد كدعوى أحدهما صحة الصرف والمغارسة والآخر فسادهما: فالقول لمدعي الفساد فيهما لأنه الغالب فيهما، كدعوى الصحة مع القيام فيتحالفان ويتفاسخان. انتهى. وقال المواق: ابن بشير: قال سحنون: إن كان يغلب الفساد فالقول قول مدعيه واستقرأه عبد الحميد من قولها: إن دخلت عليه زوجته اهتداء وهي حائض أو هما صائمان أن القول قولها إنه أصابها؛ لأن الغالب عدم صبره مع هذه الحالة. وقال الشارح: يعني وكذلك يكون القول قول مدعي الصحة دون قول مدعي الفساد وهذا هو المشهور وهو مذهب
المدونة، وقال عبد الحميد: إلا أن يغلب الفساد فالقول قول مدعيه. الشيخ: وينبغي أن يكون تقييدا لا خلافا، ولهذا قال هنا: إن لم يغلب الفساد.
وهل إلا أن يختلف بهما الثمن فكقدره؟ يعني أن الشيوخ اختلفوا في كون المدونة تقيد بما إذا كانت الصحة والفساد لا يختلف بهما الثمن، وأما إن اختلف بالصحة والفساد الثمن فحكم ذلك كالاختلاف في قدر الثمن يتحالفان ويتفاسخان مع قيام المبيع، وصدق مشتر ادعى الأشبه أشبه الآخر أم لا، وحلف إن فات وإن أشبه الآخر وحده صدق وإن لم يشبه حلفا ولزم المبتاع القيمة كذا يفيده التشبيه، وهو ظاهر حيث كان المشْبهُ مدعي الصحة، فإن كان مدعي الفساد فيظهر أنه لا عبرة بشَبَهِهِ ويتحالفان ويتفاسحان. قاله عبد الباقي.
وقوله: تردد مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تردد، قال الشارح في قوله: وهل إلا أن يختلف لخ هو تقييد ابن أبي زيد وغيره للمدونة، والقول المطوىُّ لابن بشير، قال: إن القول لمدعي الصحة مطلقا اختلف الثمن بالصحة والفساد أولا، مثال ما إذا لم يختلف الثمن بهما أن يدعي أحدهما وقوع البيع عند ضحى الجمعة بيعا مستوفي الشروط ومثال ما إذا اختلف الثمن بهما أن يدعي أحدهما بيع عبد والآخر له مع عبد آبق، والتردد في منطوق كمدعي الصحة إن لم يغلب الفساد مع اختلاف الثمن بهما، وأما مفهوم الشرط وهو أن يغلب الفساد فالقول لمدعيه اختلف الثمن بهما أم لا كما هو ظاهر كلامهم.
والمسلم إليه مع فوات العين بالزمن الطويل أو السلعة كالمشتري بالنقد يعني أن المسلم إليه يتنزل مَنزِلَةَ المشتري في باب البيع بالنقد إذا فات رأس المال بيده وفواته إن كان عينا بالزمن الطويل الذي هو مظنة التصرف فيها والانتفاع بها، وإن كان غير عين كان مقوما أو مثليا ففواته بحوالة سوق فأعلى، وإذا نُزِّلَ المسلم إليه منزلة المشتري بالنقد فإنه يقبل قوله إن اختلف مع المسلم في قدر المسلم فيه أو به أو قدر أجل أو رهن أو حميل، بشرط أشار إليه بقوله: إن ادعى مشبها أشبه المسلم أم لا؛ لأنه لما طال زمن العين بيده أو فاتت السلعة بيده عدوا انتفاعه بذلك بمنزلة فوات السلعة المقبوضة في بيع النقد، فإن لم يشبه فالقول للمسلم إن أشبه.
وإن ادعيا ما لا يشبه حلفا وفسخ إن كان الاختلاف في غير قدر المسلم فيه بأن يكون في قدر رأس المال أو الأجل أو الرهن أو الحميل، ويرد ما يجب رده في فوات رأس المال من قيمة أو غيرها، فإن كان الاختلاف في قدر المسلم فيه فإنه يلزم المسلم إليه سلم وسط من سلمات الناس في بلد تلك السلعة وزمانها، فإذا كان بعض الناس يسلم عشرة دنانير مثلا في عشرة أرادب مثلا وبعضهم يسلمها في ثمانية وبعضهم يسلمها في اثني عشر فإنه يلزم الوسط وهو العشرة كذا ينبغي أن يقرر هذا المحل، فيعمم في أول الكلام ويخصص في آخره. قاله الخرشي: وقال عبد الباقي: ولما قدم أن فوات المبيع في غير الاختلاف في الجنس والنوع يترجح به جانب المشتري حيث أشبه لترجيحه بالضمان والغرم، فكان المسلم مشتريا والمسلم إليه بائعا نبه على أن الأمر هنا على العكس في باب بيع النقد، فقال: والمسلم إليه مع فوات رأس المال بيده العين بالزمن الطويل وهو مظنة التصرف فيه والانتفاع به، وقيل طولٌ مَّا وقيل بالغيبة عليه أو فوات السلعة التي جعلت رأس مال مقومة أو مثلية ولو بحوالة سوق كالمشتري في باب بيع النقد، وإذا نُزِّلَ منزلته فيقبل قوله حيث فات رأس المال بيده بما ذكر، وكان الاختلاف في قدر المسلم فيه أو به أو قدر أجل أو رهن أو حميل إن ادعى مشبها أشبه المسلم أم لا، وإن لم يشبه فقول المسلم إن أشبه وإن ادعيا ما لا يشبه والمسألة بحالها من كون الاختلاف مع فوات العين بالزمن الطويل أو السلعة حلفا وفسخ إن اختلفا في قدر رأس مال أو أجل أو رهن أو حميل، ويرد ما يجب رده في فوات رأس المال من قيمة أو غيرها، وإن اختلفا في قدر المسلم فيه فسلم وسط من سلعات الناس في تلك السلعة كان وسطا في القدر أو في الوجود، وظاهره من غير يمين كذا ينبغي أن يقرر هذا المحل، فيعمم في أول الكلام ويخصص قوله:"فسلم وسط" بالاختلاف في قدر المسلم فيه، وأما التنازع في الجنس والنوع فتقدم حكمه أول الفصل، وفرضنا المسألة في فوات رأس المال لأنه متى بقي تحالفا وتفاسخا ولو تنازعا في قدر المسلم فيه. انتهى. قوله: وظاهره من غير يمين، قال الرهوني: لم يبين هل هذا الظاهر هو المعول عليه أو لا بد من اليمين؟ والحق أنه لا بد من اليمين، فإن حلفا أو نكلا فالحكم ما ذكره وإلا قضي للحالف على الناكل وقد نص عليه اللخمي هنا. انتهى. وفي موضعه صدق مدعي موضع عقده يعني أن المسلم والمسلم إليه إذا اختلفا في الموضع الذي يقبض فيه المسلم فيه،
فقال المسلم: اشترطت الوفاء بالفسطاط، وقال المسلم إليه بالاسكندرية فإنه يصدق مدعي موضع العقد منهما بيمينه، وإلا أي وإن لم يدع أحدهما موضع العقد بأن ادعيا غيره فإنه يصدق البائع وهو المسلم إليه إن أشبه سواء أشبه المشتري وهو المسلم أم لا، لأنه غارم فإن أشبه المشتري وحده صدق.
وإن لم يشبه واحد تحالفا وفسخ يعني أنهما إذا اختلفا في موضع القبض وادعى كل واحد منهما موضعا غير موضع العقد فإنهما يتحالفان ويفسخ العقد، وكلام المص كله حيث حصل الاختلاف بعد فوات رأس المال، وهل بطول الزمن أو بقبضه وهو ظاهرها قولان، وأما إن لم يفت رأس المال فإنهما يتحالفان ويتفاسخان مطلقا، والظاهر احتياجه لحكم لأن المواضع كالآجال وتقدم احتياج فسخه عند الاختلاف فيه إلى حكم.
كفسخ ما يقبض بمصر يعني أنهما إذا اشترطا الوفاء بمصر فإن العقد يفسخ لاتساعها، قال في الشامل: إلا أن يكون لهم عرف كالكراء أي إذا أكرى من مكة لمصر ولم يسم موضعا فالكراء صحيح. قاله التتائي. ثم محل كلام المص أيضا إن أريد بها حقيقتها وهي طولا ما بين البحر الملح إلى أسوان أو من اسكندرية أو العريش إلى أسوان، بضم الهمزة وسكون السين مدينة بأعلى الصعيد، وعرضها من أيلة أي العقبة إلى برقة، فإن أريد بمصر المدينة المعينة فقط (جرى)
(1)
فيه قوله: وجاز دخولهما على أن يقبض المسلم فيه بالفسطاط وهي مصر القديمة، وقضِي عليهما بالوفاء بسوقها أي تلك السلعة مع التنازع في محل القضاء من الفسطاط إن كان لها سوق، كما يفهم من قوله:"بسوقها". وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية أي وإن لم يكن للسلعة سوق، فيقضي المسلم إليه المسلم في أي مكان أراد المسلم إليه الوفاء فيه من الفسطاط إلا لعرف خاص، فيعمل به. قال الخرشي: وإلا ففي أي مكان شاء المسلم إليه من الفسطاط قضاه به ويبرأ من عهدته ويلزم المشتري قبوله في ذلك المكان ما لم يكن عرف بالقضاء بمحل خاص، فيعمل به. انتهى. وقال المواق: من المدونة: قال ابن القاسم: لو قال على أن يقبضه بالفسطاط جاز، قال:
(1)
في الأصل جر والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 364
فإن تشاحا في موضع يُقْبضه الطعام فيه من الفسطاط قال مالك: فليقبضه ذلك في أي سوق الطعام، قال ابن القاسم: وكذلك جميع السلع إذا كان لها سوق معروف فاختلفا فليوفه ذلك في سوقها، فإن لم يكن لها سوق فحيث ما أعطاه بالفُسطاط لزم المشتري، وقال سحنون: يوفيه ذلك بداره كان لها سوق أو لم يكن، قال أبو إسحاق: وهذا هو المحكوم به اليوم لأن الناس اعتادوا ذلك، قال ابن المواز: ولا يفسد المسلم إذا لم يذكرا موضع القضاء ويلزمه أن يقضيه بموضع التبايع في تلك السلعة.
وقوله: "وقضِيَ بسوقها" هو أعم من المسلم، فيشمل من أكرى على حمل السلعة. قاله الخرشي. والفسطاط مصر التي بها جامع عمرو بن العاص رضي اللَّه تعالى عنه، سميت بذلك لضربه فسطاطه بها حين كانت براحا، وأرسل يستشير عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سكناها أو في سكنى اسكندرية لأنها دار الملك إذ ذاك، فقال عمر للرسول: أيهما تبلغه راحلتي؟ في أي وقت، شئت فقال له: يا أمير المؤمنين: لا تصل زمن النيل إلى اسكندرية إلا في السفن وتصل إلى المحل الذي هو به أي وقت شئت، فقال له: لا يسكن أميري حيث لا تصل إليه راحلتي، قل له يسكن حيث هو نازل. قاله الخرشي.
تنبيه:
قال ابن سلمون: ويجوز بيع السلعة على أن يدفع الثمن في بلد آخر إذا ضربا لذلك أجلا، فإن كان الشيء عينا فيلزمه القضاء حيث لقيه وإن كان عرضا فإنما يقبضه منه حيث شرطه، فإذا بقي من الأجل بقدر قطع المسافة التي بين البلدين جبر على الخروج معه أو وكيل ينوب عنه في الدفع، وسواء كان العرض مما في حمله مؤنة أو مما لا مؤنة في حمله لا يلزمه دفعه له إلا حيث شرط. انتهى.
وَلَما جَرَى ذِكْرُ السلم فيما مر نَاسَبَ أن يعقبه به، فقال:
باب في السلم
قال القرافي: سمي سلما لتسليم الثمن دون عوضه ولذلك سمي سلفا، ومنه الصحابة سلف صالح لتقدمهم. وحده ابن عرفة بقوله: عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة غير متماثل العوضين فقوله: بغير عين أخرج به بياعات الأجل. وقوله: ولا منفعة أخرج به الكراء المضمون، وقوله: غير متماثل العوضين أخرج به السلف وأورد عليه أنه غير مانع لشموله من نكح بعبد مثلا موصوف في الذمة فإنه نكاح لا سلم. قاله بناني. وحكم السلم الجواز لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، ولخبر:(من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم)
(1)
، (واشترى عليه الصلاة والسلام عبدا بعبدين أسودين)، وباع علي رضي الله عنه جملا بعشرين بعيرا إلى أجل، والإجماع على جوازه في الجملة ومنعه أبو حنيفة في الحيوان واللخمي في الجواري وبعض المتأخرين في الآدمي. المشدَّالي: هو رخصة مستثناة من بيع ما ليس عندك، ولا شك أن السلم بيع من البيوع فيشترط فيه شروط البيع مع شروط أخر خاصة به ولهذا قال:
شرط السلم
قبض رأس المال كله يعني أنه يشترط في صحة عقد السلم أن يقبض رأس المال كله أو يكون في حكم المقبوض، وذلك تأخيره ثلاثا يعني أنه يشترط في رأس مال السلم أن يقبض بالفعل، فإن لم يقبض بالفعل فلا يجوز أن يتأخر أكثر من ثلاثة أيام، فيجوز تأخيره ثلاثة أيام، ولو بشرط يعني أنه يجوز تأخير رأس مال السلم ثلاثة أيام، سواء كان ذلك مشترطا في صلب العقد أو متطوعا به بعده، وهذا حيث كان رأس المال عينا، قال عبد الباقي: شرط عقد السلم وهو البيع على أن يتقدم رأس مال ويتأخر ما يدفع فيه سبعة زيادة على شروط البيع، أولها قبض رأس المال كله ورأس الشيء أصله، ولما كان ما يعجل أصلا للمسلم فيه لأنه لولا هو ما حصل سمي ما يُعجَّل رأسَ مال وحينئذ فالمال المضاف إليه رأس هو المسلم فيه. قاله أحمد: أي المراد ذلك بحسب الأصل، وأما الآن فهو علم على المتقدم كالعلم الإضافي. انتهى.
(1)
التمهيد، ج 17، ص 328.
قال بناني: لا وجه لكونه علما فالصواب أنه باق على معناه الإضافي. انتهى. وقال عبد الباقي: أو تأخيره ثلاثا ولو بشرط إن لم يكن أجل المسلم على أن يقبض المسلم فيه ببلد على مسافة كيومين حين وصوله، فيمنع تأخيره لأنه عين الكالئ بالكالئ، ويجب أن يقبض بالمجلس أو قربه. انتهى.
وقوله: "ولو بشرط" رد المص بلو قول ابن سحنون، واختاره عبد الحق وابن الكاتب وابن عبد البر. قاله بناني. وقوله:"أو تأخيره" الصواب أنه لا إشكال فيه؛ لأن الشرط وقوع أحد شيئين إما القبض أو التأخير ثلاثا فدون، فإن فقدا بأن تأخر أكثر فَقَدْ فُقِدَ الشرط وتكون أو على بابها. قاله بناني. وقوله:"ثلاثا" حذف التاء لأن المعدود محذوف فيجوز تذكير العدد وتأنيثه، ولكن الأصل الإتيان بها عند الحذف كما في المرادي وغيره، قال عبد الباقي ما نصه: وفي تعبير المص بالسلم إشعار بجواز إطلاقه من غير كراهة وهو الصحيح، وروي عن عمر وابنه كراهة تسميته سلما، قال: لأن السلم من أسمائه تعالى، وذكر عياض أن شيخه كان يقول بما قاله عمر وابنه، وإنما يقال سلف وتسليف وسَلَّفته وبذلك عبر في الموطإ وفيه نظر، لأن الذي من أسمائه تعالى السلام لا السلم. انتهى.
وفي الحطاب عن ابن عمر أنه يكره أن تقول أسلم فلان لأن الإسلام للَّه رب العالمين، وقال بناني قال أبو الحسن: وحكى الخطابي عن عمر وفي رواية عن ابن عمر أنه كان يكره أن يسمى السلم سلما ويقول هو الإسلام إلى اللَّه كأنه ضن بالاسم أن يمتهن في غير الطاعة. انتهى. ويرد هذه الرواية ما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أسلم فليسلم في كيل معلوم). انتهى. وقوله: "قبض رأس المال كله" هو المعروف من المذهب لأن الصفقة إذا بطل بعضها بطل كلها. وقاله محمد وابن رشد وغيرهما. وحكى ابن القصار قولا أنه يمضي ما قابل النقد دون ما عداه بناء على أن الصفقة إذا جمعت حلالا وحراما لا يبطل إلا الحرام فقط، ولأشهب ثالث يجوز تأخير اليسير لأنه تبع فيعطى حكم متبوعه، ومنع النصف وأخذ سند مما في كتاب محمد في الكراء المضمون إذا نقد الثلثين وتأخر الثلث جواز تأخير الثلث هنا، ورد هذا القول بأنه إنما أجاز مالك ذلك خوف هروب الجمالين بأموال الناس.
وفي فساده بالزيادة إن لم تكثر جدا تردد يعني أن الشيوخ اختلفوا فيما إذا تأخر رأس مال السلم أكثر من ثلاثة أيام، فقيل إن السلم يفسد بزيادة التأخير على ثلاثة أيام إن لم تكثر جدا بحيث لم تبلغ حلول المسلم فيه. روي ذلك عن مالك. وقيل إنه لا يفسد السلم بالزيادة على ثلاثة أيام، وروي عن مالك أيضا وبه قال ابن وهب قيل وهو الصواب، وقال ابن عبد السلام: هو الأقرب. قاله الشارح.
وقال بناني عند قول المص "في فساده بالزيادة" لخ: فيه أربعة أمور: أحدها: أن ظاهره سواء كانت الزيادة بشرط أم لا مع أن الخلاف حيث كانت بلا شرط وإلا فسد العقد اتفاقا، الثاني: أن قوله إن لم تكثر جدا الصواب إسقاطه لأن ظاهرة أن الزيادة إذا كثرت جدا لا يختلف في الفساد وليس كذلك، بل الخلاف في الزيادة بلا شرط ولو كثرت جدا، قال مصطفى: فإن ابن الحاجب وابن شأس أطلقا الخلاف في الزيادة، وكذا ابن رشد وابن عرفة وغير واحد بل صرحوا بالخلاف في الزيادة الطويلة وما كان منها للأجل. انتهى. وهو كذلك. فأما الفساد بالزيادة مطلقا فهو ما في المدونة في السلم الثاني من الفساد بالتأخير لشهر كما نقله في التوضيح، وأما مقابله فهو ما في سلمها الثالث من أن التأخير أكثر من ثلاثة أيام من غير شرط يجوز ما لم يحل الأجل فلا يجوز. انتهى. ونقله في التوضيح لكن رجع ابن القاسم إلى الجواز ولو حل الأجل فقد علمت بهذا أن الخلاف مطلق سواء حل الأجل أم لا خلافا لظاهر المص. الثالث: ما في المص من تعبيره بالتردد ليس جاريا على اصطلاحه ولذا قال الحطاب: القولان كلاهما لمالك في المدونة، فأشار بالتردد لتردد سحنون في النقل عنه. انتهى. لكن في قوله أشار لتردد سحنون نظر لأنه من المتقدمين. الرابع: كان من حق المص الاقتصار على القول بالفساد لتصريح ابن بشير بأنه المشهور كما في نقل الحطاب عنه. واللَّه أعلم. انتهى.
وقال عبد الباقي: ثم المعتمد من التردد الفساد بالزيادة ولو قلت بغير شرط. انتهى. وقال المواق: ابن رشد: إن كان رأس المال عينا وتأخر فوق الثلاثة بغير شرط، فعلى ما في المدونة أن السلم يفسد بذلك، قال ابن يونس: قال بعض أصحابنا: إن كان رأس المال عينا فتأخر كثيرا أو إلى الأجل فسد البيع لأنه لا يتعين، فأشبه ما في الذمة فضارع الدين بالدين. انتهى.
وجاز بخيار لما يؤخر إليه الباء بمعنى مع واللام بمعنى إلى وما واقعة على الأجل؛ يعني أنه يجوز في عقد السلم أن يكون مصاحبا لخيار للمسلم والمسلم إليه أو لأحدهما إلى ما يؤخر إليه رأس مال السلم أي إلى الزمن الذي يجوز تأخير رأس المال إليه وهو ثلاثة أيام، قال الخرشي: يعني أن الخيار في السلم جائز أي يجوز أن يجعل أحدهما لصاحبه أو لأجنبي الخيار في إمضاء عقد السلم أو رده بشرطين: الأول أن يكون ذلك لثلاثة أيام فأقل وهو الأجل الذي يجوز تأخير رأس المال إليه بالشرط فلا تجوز الزيادة على ذلك سواء كان رأس المال عينا أو غيرها إذ لا يجوز التأخير أزيد من ثلاثة أيام بشرط في عين ولا في غيرها، الثاني أن لا ينقد رأس المال في زمن الخيار بشرط ولا تطوع؛ لأنه لو نقد وتم السلم لكان فسخ دين في دين لإعطاء المسلم إليه سلعة موصوفة لأجل عما ترتب في ذمته وهو حقيقة فسخ الدين في الدين. انتهى.
وإلى هذا الشرط الثاني أشار المص بقوله: إن لم ينقد أي إنما يجوز السلم على الخيار إن لم ينقد كما عرفت، وأما إن نقد فلا، كان النقد مشترطا أو متطوعا به بعد العقد، وقال عبد الباقي: وجاز عقد السلم بخيار لا يؤخر إليه رأس المال وهو ثلاثة أيام لا أزيد، ولو كان رأس المال رقيقا أو دارا على المعتمد لأنه رخصة، ومحل جوازه إن لم ينقد رأس المال في زمن الخيار، فإن نقد رأس المال ولو تطوعا فسد وشرط النقد مفسد ولو أسقط الشرط ومحل فساده بالنقد تطوعا إن كان مما تقبله الذمة كالعين، وأما العين كثوب أو حيوان معين فيجوز نقده تطوعا، فعلم أن شرط النقد مفسد، حصل نقد بالفعل أم لا، كان مما يعرف بعينه أم لا، حذف الشرط أم لا. وأن النقد تطوعا جائز فيما يعرف بعينه وإن لم يسترده، فإن لم يعرف بعينه أفسد إن لم يسترده، فإن استرده ولو بعد مضي زمن الخيار خلافا لبعض الشراح صح كالشرط المناقض للعقد إذا حذف. انتهى.
وفي النكت قال بعض القرويين: وإذا تطوع بالنقد في الخيار في السلم فأخبر بفساد ذلك فرجع فأخذ ما نقد قبل تمام أيام الخيار أو بعده صح السلم؛ لأن عقدة السلم في الأجل صحيحة وإنما فسد بما أخذه
(1)
، فإذا بطل ما (أخذه)
(2)
لم يبطل العقد. انتهى. نقله الرهوني.
وبمنفعة معين يعني أنه يجوز أن يكون رأس مال السلم منفعة معين حيوانا أو غيره كدار وعبد، ولا مفهوم لقوله:"معين" بل يجوز أن يكون رأس المال منافع مضمونة لكن لا بد من الشروع في قبض المنفعة بناء على أن قبض الأوائل كقبض الأواخر، ويجوز ذلك ولو تأخر استيفاء المنفعة عن قبض المسلم فيه، قال ابن عرفة: ولو حل أجل الطعام المسلم فيه قبل استيفاء المنفعة التي هي رأس المال. قاله الحطاب. وقوله: "وبمنفعة معين" اعلم أن منفعة المعين تجري مجرى النقود فيجوز التأخير فيها ثلاثة أيام.
تنبيه: قال الخرشي: وانظر لو تلفت الذات المستوفى منها المنفعة قبل الاستيفاء هل تنفسخ بدليل قوله: "وإلا فسد ما يقابله" أم لا؟ انتهى. وهذا التنظير لا وجه له لأن هذا هو قول المص: "وفسخت بتلف ما يُستوفى منه". واللَّه سبحانه أعلم.
وبجزاف يعني أنه يجوز أن يكون رأس المال جزافا بشروطه المتقدمة، قال في الشامل: وجاز بمنفعة معين وجزاف بشروطه على المعروف. واللَّه سبحانه أعلم. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وجاز السلم حال كون رأسه متلبسا بجزاف ويعتبر فيه شروط بيعه ولو نقدا مسكوكا حيث يجوز بيعه جزافا وذلك في متعامل به وزنا.
وتأخير حيوان بلا شرط يعني أن رأس المال إذا كان حيوانا معينا فإنه يجوز تأخيره بلا شرط أكثر من ثلاثة أيام، واعلم أنه إذا كان رأس المال عروضا لا يجوز أن تكون في الذمة لما في ذلك من السلم الحال، وإنما يجوز ذلك في العين. وقال الخرشي مفسرا للمص: والمعنى أن رأس المال إذا كان حيوانا فإنه يجوز تأخيره بلا شرط من غير كراهة ولو إلى حلول أجل السلم، وأما مع شرط التأخير فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام ويفسد كالعين. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز تأخير
(1)
في الرهوني ج 5 ص 240: ما أحدثاه.
(2)
في الرهوني ج 5 ص 240: ما أحدثاه.
حيوان جعل رأس مال سلم ولو أدى
(1)
إلى حلول الأجل لأنه يعرف بعينه بلا شرط ويمنع به أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنه بيع معين يتأخر قبضه، وقصر أحمد الجواز فيه بشرطٍ على يومين، والظاهر أن الثالث كذلك لأنه أصل الرخصة في رأس المال.
وهل الطعام والعرض كذلك إن كيل وأحضر أو كالعين يعني أن الشيوخ اختلفوا فيما إذا كان رأس المال طعاما أو عرضا هل يكون ذلك كالحيوان فيجوز تأخيره أكثر من ثلاثة أيام بلا شرط؟ أو يكون ذلك كالعين لا يجوز تأخيرها بلا شرط أكثر من ثلاثة أيام؟ ومحل الخلاف إن كيل الطعام وأحضر العرض مجلس العقد، وأما مع عدم الكيل أو الإحضار فما ذكر كالعين اتفاقا في ذلك تأويلان. وظاهر المص أن التأويل الثاني يقول بالمنع مع أنه يقول بالكراهة، فالتشبيه في مطلق النهي، قال الخرشي: يعني أن رأس المال إذ كان طعاما أو عروضا وكيل الطعام وأحضر العرض في مجلس العقد هل يجوز تأخيرهما بلا شرط من غير كراهة كالحيوان؟ لأن الطعام لما كيل والعرض لما أحضر لمجلس العقد انتقل ضمانهما للمسلم إليه وصارا كالحيوان، أما مع عدم الكيل والإحضار فالكراهة اتفاقا أو يكره تأخيرهما ولو مع كيل الطعام وإحضار العرض؛ لأنهما لما كان يغاب عليهما أشبها العين فيؤدي إلى ابتداء الدين بالدين بخلاف الحيوان فإن تأخيره لا يؤدي إلى ذلك، وليس المراد بالتشبية بالعين التحريم كما يوهمه ظاهر التشبيه إلا أن يحمل التشبيه على مطلق النهي. انتهى.
وقال عبد الباقي: وهل الطعام والعرض كذلك يجوز جوازا مستوي الطرفين تأخير كل بلا شرط لا به فيمنع أكثر من ثلاثة أيام إن كيل الطعام وأحضر العرض مجلس العقد لانتقال ضمانهما للمسلم إليه، فإن لم يكل الطعام ولم يحضر العرض وقت العقد لم يجز جوازا مستوِيَ الطرفين لعدم دخوله في ضمان المسلم إليه، فيقوى شبهه بالدين والنقل أنه يكره هنا فقط، أو كالعين لا يجوز تأخيرها عن الثلاثة بلا شرط سواء حصل كيل وإحضار أولا. هذا ظاهر المص. مع أن الحكم الكراهة أيضا فالمراد أنه كالعين في عدم الجواز المستوي الطرفين كما قال أحمد.
(1)
في عبد الباقي ج 5 ص 206: ولو إلى حلول الأجل.
وجاز رد زائف يعني أن رأس المال إذا وجد فيه زائف فإنه يجوز للمسلم إليه أن يرد ذلك الزائف واحدا أو متعددا وجده بقرب أو بعد، وله أن يتمسك به وإذا رد الزائف عجل بدله وجوبا حقيقة أو حكما إذ يغتفر فيه التأخير ثلاثة أيام بشرط كأصله، ثم محل وجوب التعجيل إن قام بالبدل قبل حلول أجل السلم، فإن قام به عند حلوله أو قبله بيومين أو ثلاث جاز تأخيره ما شاء ولو بشرط، وإلا أي وإن لم يعجل البدل حقيقة ولا حكما بأن تأخر أكثر من ثلاثة أيام بشرط أو بغيره فسد ما يقابله أي ما يقابل الزائف فقط لا الجميع أي لا يفسد جميع العقدة، وإنما يفسد ما يقابل الزائف منها فقط.
قال عبد الباقي: وقوله: على الأحسن راجع لقوله: "فسد ما يقابله". انتهى. قال الرهوني فيه نظر، بل هو راجع لهما في المعنى ولا يختلف الحال، وما مشى عليه المص هو الذي ذهب إليه أبو عمران ونحوه في مختصر ابن شعبان، وذهب أبو بكر بن عبد الرحمن إلى أن العقدة تفسد كلها. قاله الشارح. وقال الخرشي مفسرا للمص: يعني أن المسلم إليه إذا وجد في رأس مال السَّلَمِ دراهم زيوفا فإنه يجوز ردها سواء وجد ذلك بالقرب أو بالبعد كما هو ظاهرها، وإذا ردها فإنه يجب على المسلم أن يعجل البدل للمسلم إليه بأن لا يزيد على ثلاثة أيام، فإن تأخر أكثر من ثلاثة أيام فإنه يفسد من السلم ما يقابل الدراهم الزائفة فقط كما عند أبي عمران، واستحسنه ابن محرز وإليه الإشارة بالأحسن إعطاء للتابع حكم نفسه وفسد الجميع عند أبي بكر بن عبد الرحمن والزائف المغشوش، وظاهر المدونة عند أبي عمران أن النحاس والرصاص الخالصين كالمغشوش يجوز في ذلك البدل خلافا لسحنون، وقيد ابن بشير وجوب تعجيل البدل والفساد بتأخيره بما إذا قام بالبدل قبل حلول الأجل بكثير، أما لو قام به عند حلول الأجل أو قد بقيَ منه اليومان والثلاثة فيجوز التأخير ما شاء ولو بشرط. انتهى كلام الخرشي.
وقال عبد الباقي: ثم فساد ما يقابله فقط مقيد بخمسة قيود وهي حيث قام بالبدل وبقي من الأجل أكثر من ثلاثة أيام ولم يطلع عليه إلا بعد تأخير ثلاثة ولم يدخلا عند العقد على تأخير ما يظهر زائفا تأخيرا كثيرا وكان رأس المال عينا، فإن لم يقم بالبدل بأن رضي بالزائف أو سامح من عوضه لم يفسد ما يقابله، وكذا إن قام بالبدل عند حلول الأجل أو قبله بثلاثة أيام أو أقل، فإن
دخلا عند العقد على تأخير بدل ما يظهر زائفا تأخيرا كثيرا فسد السلم كله لأن فيه الكالئ بالكالئ كدخولهما على تأخير بعض رأس المال كثيرا، وكذا إن كان رأسه غير عين واطلع فيه على عيب فينقض السلم كله كما مر يعني في العيب، وإن لم يكن معينا بل وقع على موصوف وجب رد مثل ما ظهر معيبا. انتهى. يعني على مذهب من أجاز الموصوف على الحلول كما في الخرشي. واللَّه سبحانه أعلم. وأما بعد يوم أو يومين بطل تراضيهما وأجبرا على التناجز. وقوله:"وعجل" اعلم أن المعتبر في كون التأخير أكثر من ثلاثة أيام أو أقل من ذلك إنما هو من يوم رد الزائف لا من يوم طلب بدله. قاله الخرشي.
والتصديق فيه أي المسلم فيه، وأما التصديق في رأس المال فقد مر أنه غير جائز، ومعنى كلامه أنه يجوز التصديق في كيل المسلم فيه أو وزنه أو عدده إذا قبض بعد أجله. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وجاز للمسلم التصديق للمسلم إليه فيه أي في شأن المسلم فيه كيلا أو وزنا أو عددا إذا أتى به بعد أجله لا قبله لما قدمه من منعه في معجل قبل أجله. كطعام من بيع يعني أنه يجوز التصديق في طعام مبيع على النقد أي الحلول، قال في المدونة: قال مالك: إن قبضت من رجل طعاما من سلم أو بيع وصدقته في كيله جاز ذلك، ثم إن وجدت نقصا أو زيدا على ما صدقت فيه من بيع أو سلم لك يا مصدق أو عليك الزيد المعروف والنقص المعروف، قال الخرشي: والمعنى أن التصديق في كيل المسلم فيه أو وزنه أو عدده إذا قبض بعد أجله جائز، وكذلك يجوز التصديق فيما ذكر في الطعام المبيع على النقد، ثم إذا وجد المصدق بذلك نقصا أو زيادة على ما صدق فيه من سلم أو بيع يشبه كيل الناس عادة فإنه لا شيء له في النقص ولا شيء عليه في الزيادة. انتهى.
وقال المواق في المدونة: قال مالك: إن قبضت من رجل طعاما من سلم أو بيع وصدقته في كيله جاز ذلك وليس لك رجوع بما تدعي من نقص إن كذَّبك إلا أن تقوم بينة لم تفارقك من حين قبضته حتى وجدت النقص فيه، فإن كان الذي وجدت بمحضرهم نقصا أو زيادة كنقص المكيل أو زيادته فذلك لك أو عليك، وإن زاد على المتعارف رجع البائع بما زاد ورجعت عليه بما نقص إن كان عليه مضمونا، وإن كان بعينه فبحصة النقصان من الثمن. انتهى.
وإلا يكن النقص معروفا بل متفاحشا فإنه لا رجوع لك يا مسلم ويا مشتري طعام النقد إلا بتصديق من المسلم إليه أو البائع على النقص، أو بينة لم تفارقك يا مصدق من حين قبضك حتى وجدت النقص، أو بينة حضرت كيل البائع أو المسلم إليه (وقال إنه)
(1)
على ما قال المصدق وهو المسلم أو المشتري من النقص، فيرجع المصدق بجميع النقص ولا يترك قدر المتعارف كالجائحة، وأما الزيد المتفاحش فيرد كله ولا تأخذ منه المتعارف وترك هذا لوضوحه. قاله عبد الباقي. وقال: وينبغي أن يجري إلا بتصديق أو بينة لخ في دعوى البائع أو المسلم إليه أنه زاد في الكيل غلطا زيادة غير متعارفة. انتهى. وقوله: فيرجع بجميع النقص، فإن كان الطعام مضمونا كما في السلم رجع بمثله. وإن كان معينا كما في البيع رجع بحصة النقص من الثمن، وقوله: كالجائحة أي لأنه إذا كان المجاح دون الثلث لا يوضع عن المشتري شيء وإن أجيح الثلث وضع عن المشتري بقدر جميع ما أجيح. قاله أبو الحسن.
وإذا لم يوجد تصديق ولا بينة حلف البائع أو المسلم إليه وصفة يمينه مختلفة فإن كان قد اكتاله أو قام على كيله فصفتها أن يقول: باللَّه الذي لا إله إلا هو لقد أوفيت ما سميته كما قال المص: لقد أوفى ما سمَّى أو أي وإن لم يكن اكتاله ولا قام على كيله بل بعث به للمسلم إليه من دين له على شخص بكتاب أو رسول، فإنه يحلف لقد باعه على ما كُتِبَ بهِ إلَيْهِ ومحل حلف البائع أو المسلم إليه لقد باعه على ما كتب به إليه إن كان البائع أو المسلم إليه قد أعلم مشترِيَه أي المسلم أو مشتري طعام النقد بأنه كتب إليه أن قدره كذا أي أرسل إليه به.
وعلم مما قررت أن هذا جار في مسألة البيع والسلم، وأن المشتري أو المسلم لا ينازع في البيع والسلم، وإنما النزاع هل بعث له ما كتب به إليه أو بلغه من الباعث له من رسول أم لا؟ أو هل وفاه ما سمّى له أم لا؟ قاله عبد الباقي. وقال بناني: لفظ باع وقع في المدونة وتبعها المص، واعترضه أبو الحسن بأن المبتاع يوافقه على بيعه بما فيه، ولكن يقول لم توفني ذلك فالصواب إبدال هذا اللفظ بدفع ونحوه. انتهى. وإلا بأن لم يحلف لقد أوفى ما سمى في الأولى أو لم يعلم
(1)
في عبد الباقي ج 5 ص 207: قالت إنه.
مشتريه في الثانية حلفت يا مسلم ويا مشتريَ طعام النقد ورجعت في الصورتين، فإن لم تحلف فلا شيء لك في الأولى ولا ترد اليمين على البائع أو المسلم إليه لأنه نكل أولا، والنكول بعد النكول تصديق للناكل الأول وحلف البائع أو المسلم إليه في الثانية وبرئ، فإن نكل غرم.
وتحقيق هذه المسألة أنه يجوز للمسلم تصديق المسلم إليه في المسلم فيه بعد حلوله، ويجوز لمشتري طعام على النقد التصديق فيه، ثم إن وجد المسلم أو المشتري ذلك على ما قيل له فالأمر واضح، وإن وجده ناقصا نقصا متعارفا أو زائدا زيدا متعارفا فلا شيء له في النقص ولا شيء عليه في الزيد، فإن كان النقص متفاحشا فإن أقر البائع أو المسلم إليه بذلك أو قامت به بينة رجع به، وإن لم يقر بذلك ولا قامت به بينة فإنه يحلف البائع أو المسلم إليه لقد أوفى ما سمَّى له، فإن لم يحلف حلف المسلم والمشتري على ما قال من النقص ورجع بما قال وإن نكل فلا شيء له، هذا إن اكتال البائع أو المسلم إليه متاعهما أو قاما على كيله، فإن لم يكن البائع أو المسلم إليه اكتال ذلك ولا قام على كيله بل كتب إليه بذلك أو بُلِّغَه فإنه يحلف على أنه دفع إليه ما كتب به إليه أو بلِّغَه فإن حلف برئ، فإن لم يحلف حلف المشتري والمسلم ورجعا بما ادعياه من النقص، فإن لم يحلف المسلم أو المشتري فلا شيء لهما لأن النكول بعد النكول تصديق للناكل الأول، هذا إن أعلم البائع أو المسلم إليه المسلم أو المشتري طعام النقد بأنه لم يكله ولا قام على كيله وإنما كُتِبَ إليه بذلك أو أعلم به، وأما إن لم يعلمه بذلك فإن المسلم أو المشتري يحلف على ما قال من النقص ويرجع به، فإن لم يحلف حلف البائع أو المسلم إليه على دفع ما كتب به إليه وبرئ، فإن نكل غرم. وأما الزيد المتفاحش فيرد كله ولا يأخذ منه المتعارف، وينبغي أن يجري "إلا بتصديق أو بينة" لخ والمتفاحش ما لا يشبه كيل الناس عادة، والمتعارف ما يشبه كيل الناس عادة. هذا هو تحرير المسألة. وباللَّه تعالى التوفيق.
وإن أسلمت عرضا يغاب عليه كثوب أي عقدت سلما لا أنك دفعت العرض بالفعل، لمنافاته لقوله: فهلك ذلك العرض بيدك يا مسلم فهو أي ضمانه منه أي من المسلم إليه إن أهمل ذلك العرض أي تركه المسلم إليه عند المسلم على سبيل السكت؛ أي لم يبين أنه وديعة ولا غيرها فإنه يحمل على أنه وديعة أو لم يهمل، بل أودع أي تركه المسلم إليه عند المسلم على جهة الإيداع أو
تركه عنده على جهة الانتفاع على وجه خاص، وهو أن يستثني منفعته أو يستأجره وظاهره كان استثناؤها قدر أجل رأس المال أو أكثر. وفي أحمد الظاهر تقييدها بقدرها ليلا يلزم تأخيره أكثر من المدة المغتفرة خصوصا إن قلنا المستثنى مبقى وأما الاستيجار فمطلق، قاله عبد الباقي وغيره.
ومنك إن لم تقم بينة على هلاكه والحال أنه وضع عندك عارية أو للتوثق أي حبسة المسلم حتى يأتي المسلم إليه برهن أو حميل أو حتى يشهد على المسلم إليه بتسليمه إليه، وليس معنى المص أن العرض يتوثق به بأن يجعله عنده في ثمنه رهنا؛ لأن ما بيع نسيئة ليس له حبسه في ثمنه إلا برضى المسلم إليه على أنه رهن في عوضه.
ونقض السلم
يعني أنه ينقض السلم فيما إذا كان الضمان من المسلم وهو قوله "ومنك إن لم تقم بينة ووضع للتوثق". وحلف الواو للحال أي ينقض السلم إذا حلف المسلم على ما ادعاه من التلف، وفي المص: الالتفات من الحضور إلى الغيبة، فلو قال: وحلفت لكان أظهر في إفادة المراد. واللَّه سبحانه أعلم. وإلا يحلف المسلم على ما ادعاه من الهلاك خير الآخر وهو المسلم إليه في نقض السلم وبقائه وأخذ القيمة أي قيمة العرض الذي ادعى المسلم تلفه.
وإن أسلمت حيوانا أو عقارا فالسلم ثابت ويتبع الجاني يعني أن الشخص إذا أسلم حيوانا أو عقارا؛ أي عقد السلم في شيء مما ذكر بأن جعله رأس مال السلم فتلف من المسلم أو أجنبي فإن السلم ثابت ويتبع المسلم إليه الجاني، وقوله:"يتبع" مبني للفاعل وضميره للمسلم إليه، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم إن كان رأس المال حيوانا فقتلها رجل بيدك قبل أن يقبضها المسلم إليه أو كان دورا أو أرضين فعدا عليها رجل فهدم البناء واحتفر الأرض فأفسدها فللمسلم إليه طلب الجاني والسلم ثابت. انتهى. وهذا صريح في رجوع قوله: "ويتبع الجاني" لقوله: "وإن أسلمت حيوانا أو عقارا" لخ، وقال بناني: هو راجع أيضا إلى المسائل الثلاث الأول، أعني قوله: إن أهمل أو أودع أو على الانتفاع، فإن السلم فيها ثابت ويتبع المسلم إليه الجاني إن كان وقول التتائي تبعا للشارح: يتبعه المضمون له من المتبايعين غير صواب.
قال المصطفى: لأن قوله: يتبع الجاني راجع لمسألة العرض وما بعدها، فما بعدها لا شك أن الضمان من المسلم إليه وكذا العرض في الأحوال الثلاثة الأول فهو المتبع للجاني، وأما الحالة
الرابعة وهي وضعه للتوثق فإن علم أن التلف من أجنبي فكذلك الضمان من المسلم إليه أيضا، سواء عرف الأجنبي أو جهل ولا شيء على المسلم، وإن لم يعلم من أتلفه وحلف المسلم فسخ العقد، وكذلك إن نكل واختار المسلم إليه الفسخ وإلا بأن اختار البقاء فإنه يتبع المسلم، فقد علمت أنه لا يتصور الاتباع في الصور كلها إلا من المسلم إليه. وقال ابن عاشر: يتصور -واللَّه أعلم- كون المسلم متبعا حيث يكون رأس المال غائبا غير عقار. انتهى. فانظره. واللَّه أعلم. انتهى كلام بناني.
وقال الحطاب: قال ابن بشير: وإذا ترك رأس المال عند المسلم على جهة الوديعة وكان مما يعرف بعينه فعدا عليه أجنبي وشهد بذلك، فهل تجوز شهادته أو لا؟ للمتأخرين ثلاثة أقوال، أحدها: جواز الشهادة على الإطلاق لأنه إذا كان من أهل الشهادة فهو غير متهم، والثاني: ردها مطلقا إذ في المذهب قول بأنه يحلف المتهم وغيره ولأن الناس يقصدون براءة أنفسهم وإن لم تلزمهم اليمين، وَالثالث: أن الذي عليه السلم إن كان فقيرا لم تجز الشهادة لأنه يتهم أن يشهد له بما يعمر ذمته ليستحق طلبها وإن كان غنيا فلا تهمة فتجوز. والأصل في هذا المعنى أن يقال متى تيقنت التهمة لم تجز الشهادة ومتى لم تبين جازت. انتهى. واعلم أنه متى كان الضمان لرأس المال من المسلم إليه فالسلم ثابت وينظر، فإن علم من أتلفه تبعه المسلم إليه مسلما أو أجنبيا، وإن جهل ممن هلاكه فلا غرم على أحد، وإنما يحلف المسلم إن كان متهما. قاله الحطاب:
وأن لا يكونا طعامين هذا هو الشرط الثاني من شروط السلم وهو مركب من انتفاء ستة أشياء؛ يعني أنه يشترط في صحة عقد السلم أن لا يكون رأس المال والمسلم فيه طعامين ربويين أم لا، متحدي الجنس أم لا، قال المواق: من المدونة: أصل قول مالك أن الطعام بالطعام إلى أجل لا يصلح كانا من صنف واحد أو من صنفين مختلفين كانا أو أحدهما مما يدخر أو لا يدخر، أو مما يكال أو يوزن أو يعد وكذلك جميع التوابل واللحمان والحيتان وجميع الإدام والأشربة غير الماء، إلا أن يقرض رجل طعاما أو إداما في مثله إلى أجل على وجه المعروف فتأخذ مثله في كيل أو وزن وجنس وصفة وجوده، ولا تبتغي بذلك نفع نفسك فيجوز ولا يجوز بمعنى التبايع وإن كان النفع
فيه للآخذ. وقوله: "وأن لا يكونا طعامين" من ذلك سلم نخلة مثمرة في طعام فيمنع عند ابن القاسم خلافا لسحنون. ابن مسلمة: إن أزهى منع وإلا جاز.
ولا نقدين يعني أنه يشترط في صحة عقد السلم أن لا يكون رأس المال والمسلم فيه نقدين، قال المواق: التلقين: لا يجوز ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا أحدهما بالآخر نساء لا على الوجه الذي يجوز نقدا ولا على خلافه، ومن المدونة: لا يجوز سلم الدنانير والدراهم في الفلوس. انتهى. ولا شيئا في أكثر أو أجود يعني أنه يشترط في صحة عقد السلم أن لا يكون رأس المال والسلم فيه شيئين من جنس واحد أحدهما أكثر من الآخر أو أجود، كان الأول هو الأقل أو الأدنى أو بالعكس كما قال: كالعكس لما في تقديم الأقل أو الأدنى من سلف جر نفعا، ولما في العكس من تهمة ضمان بجعل، وإنما اعتبروها هنا وألغوها في بيوع الآجال؛ لأن تعدد العقد هناك أضعفها. قاله غير واحد. وقال المواق: قال ابن عرفة: فيها مع غيرها لا يجوز سلم شيء في أكثر منه ولا أقل منه ولا أدنى في أجود ولا عكسه؛ لأنه سلف جر نفعا وضمان بجعل. انتهى. وقوله: "كالعكس" قال ابن عبد السلام: وإنما تمتنع هذه المسألة عن سد الذرائع فإن المتبايعين لم ينصا على الضمان بالجعل، ثم قال: على أن دفع كثير في قليل ليس من شأن العقلاء غالبا فلذلك تضعف التهمة عليه.
إلا أن تختلف المنفعة مستثنى من المسائل الأربع يعني أن محل المنع في سلم شيء في شيء من جنسه أجود منه أو أكثر كالعكس إنما هو إذا لم تختلف المنفعة: وأما إن اختلفت المنفعة فإنه لا يمنع شيء من ذلك. واعلم أن المسألة على أربعة أوجه؛ لأنه إما أن يختلف الجنس والمنفعة معا ولا إشكال في الجواز، وإما أن يتفقا معا ولا إشكال في المنع إلا أن يسلم الشيء في مثله فيكون قرضا، وإما أن يتحد الجنس وتختلف المنفعة وهو المراد هنا، وإما أن تتحد المنفعة ويختلف الجنس وفيه قولان، فمن منع نظر إلى أن المقصود من الأعيان منافعها، ومن أجاز نظر إلى اختلاف الجنس وهو الراجح كما يأتي في قوله:"ولو تقاربت المنفعة". واللَّه أعلم.
وإذا اختلفت المنفعة وقوِيَ اختلافها فلا يشترط اختلاف العدد، قال بناني: الذي يفيده كلام اللخمي أنه لا يشترط اختلاف العدد إلا مع ضعف اختلاف المنفعة، أما إذا قَوِيَ اختلاف المنفعة
فيجوز السلم ولو اتحد العدد، ونصه: الإبل صنفان صنف يراد للحمل وصنف يراد للركوب لا للحمل وكل صنف منهما صنفان: جيد وحاش، فيجوز أن يسلم ما يراد للحمل فيما يراد للركوب والسير عليه جيد أحدهما في جيد الآخر والجيد في الردي والردي في الردي، اتفق العدد أو اختلف. وأما إذا كانت كلها تراد للحمل أو للركوب فلا يجوز أن يسلم الجيد في الردي ولا الردي في الجيد، ويجوز أن يسلم جيد في حاشيين فأكثر وحاشيان فأكثر في جيد، ولا يجوز أن يسلم واحد في واحد من ذلك تقدم الجيد أو الردي لأنه سلف جر نفعا إن تقدم الردي وضمان بجعل إن تقدم الجيد، وإن اختلف العدد وكانت الكثرة في جهة الردي كانت مبايعة فيكون فضل العدد لمكان الجودة، وكذا فعل علي وابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما، وهذا الشأن أن يقل عدد الجيد ويكثر عدد الردي، فإن استوى العدد كان الفضل من صاحب الجيد خاصة فلم تدخله مبايعة ولو أسلم نصفا جيدا يعني من ثوب مثلا في كامل ردي لجاز ودخله المبايعة؛ لأن كمال هذا في مقابلة جودة الآخر مع نقصه. انتهى.
وتعبير المص بالأعرابية المفيد للتعدد تبع فيه لفظ المدونة، وليس المراد اشتراط ذلك كما توهم بدليل أن المدونة عبرت أيضا بالإفراد، فقالت: كاختلاف الحمار الفاره النجيب بالحمار الأعرابي فيجوز. انتهى. وفي المتيطية: ويجوز أن يسلم حمار يراد للحمل في آخر يراد للركوب والسرج. انتهى. وقال المواق: ابن بشير: إذا اتفق جنس المسلم والمسلم فيه واختلفت منافعهما فالأصل جواز السلم، لكن لا كانت المنافع قد تتباين جدا وقد تتقارب وقد يشكل أمرها كثر الشغب في هذا القسم. انتهى.
ومثل المص لاختلاف المنفعة بقوله: كفاره الحمر في الأعرابية يعني أنه يجوز أن يسلم الحمار الفاره وهو الحاذق بالسير في الحمر الأعرابية التي ليست بفارهة، قال الخرشي: والمعنى أنه يجوز سلم الحمار الفاره وهو جيد السير في الحمارين غير الفارهين فأكثر وبالعكس، لأن اختلاف النافع تُصَيّرُ الجنس الواحد كالجنسين وجمعه الأعرابية المنسوبة للأعراب يدل على أنه لا بد أن يسلم الواحد في المتعدد وهو كذلك، فلا يجوز سلم الواحد في الواحد حيث لم يختلف بالصغر والكبر وإلا جاز. انتهى. ونحوه لعبد الباقي إلا أنه فسر الفاره بسريع السير، قال بناني: قول
عبد الباقي: فلا يسلم فاره واحد في عربي واحد قد علمت أنه خلاف المدونة وغيرها، وقوله: أي سريع السير بهذا فسر المص الفاره، واعترضه مصطفى بأن عبارة المدونة كعبارة المص ومع ذلك قال أبو عمران وعياض: مذهبها أن السير والحمل غير معتبرين لأنه جعل حمر مصر كلها صنفا وبعضها أَسْيَرُ من بعض وأحمل. انتهى. وهو يدل على أن الفراهة غير سرعة السير، ورد ابن عرفة احتجاج أبي عمران بأنه لا يلزم من لغو شدة السير مع سير دونه لغوه مع عدمه، لأن المراد بالسير سرعته لا مطلقه. انتهى. وأجاب في التكميل بأن أبا عمران إنما مراده أن إطلاق المدونة يتناول الأسْيَر والقَطوف وبينهما. انتهى. والقطوف كصبور ضَيّق السير. قاله بناني.
وقال الرهوني: قول محمد بن الحسن بناني عن مصطفى: إن السير والحمل غير معتبرين يقتضي أن مصطفى أطلق في عدم اعتبارهما وليس كذلك إذ مصطفى قيد بالحمر، وما كان من حق بناني أن يترك ذلك لأن المدونة مصرحة بأن النجابة والحمل معتبرة، ومع ذلك فالاعتراض المذكور غير متجه؛ إذ كما تأول أبو عمران المدونة على ما ذكرنا تأولها فضل على ما قال المص، وقد ذكر عياض نفسه ذلك ففي تنبيهاته ما نصه: ومذهب الكتاب أن السير والحمل في الحمر غير معتبر وأنها صنف وإن اختلفت في سيرها، وحكاه ابن حبيب عن ابن القاسم وقاله أبو عمران، قال: لأنه جعل حمر مصركلها صنفا وبعضها أَسْيَرُ من بعض وأحمل.
وتأول فضل على المدونة خلافه وأنكر تأويل ابن حبيب على ابن القاسم وأنكر أبو عمران تأويل فضل، واستدل فضل بقول المدونة: وكره مالك أن تسلم الحمير في البغال لتقارب منافعهما إلا أن تكون من الحمير الأعرابية التي يجوز أن يسلم فيها الحمار الفاره النجيب، وكذلك إذا أسلمت الحمير في البغال والبغال في الحمير فاختلفت كاختلاف الحمار الفاره النجيب بالحمار الأعرابي فجائز. انتهى. فإن قلت هذه مصادرة لأن ذلك مبني على تفسير الفراهة في المدونة بسرعة السير ومصطفى لم يسلم ذلك؟ قلت: إن لم تفسر الفراهة بما ذكر من سرعة السير وكثرة الحمل لم يبق ما تفسر به إلا جمال الصورة وهو غير معتبر قطعا على أن أهل اللغة قد فسروها بما يوافق ما فسرها به المص، ففي المصباح ما نصه: الفاره الحاذق بالشيء، ويقال للبرذون والحمار فاره بَيّن
الفراهة والفراهيَة بالتخفيف وبراذين فُرُه وزان حمر وفَرُه يفرُه من باب قَرُب، وفي لغة من باب قتل وهو النشاط والخفة. انتهى.
وقد جزم المتيطى باعتبار السير في الحمير إذا أسلم بعضها في بعض وأسلمت في البغال على المشهور، ومذهبِ المدونة من أنهما صنف واحد، وفي النهاية قال مالك وابن القاسم في المدونة: هما صنف واحد فلا يسلم عندهما بغل في حمارين ولا حمار في بغلين إلا أن تختلف في السير والنجابة، وقال أصبغ وابن حبيب: هما صنفان فالتفاضل بينهما إلى أجل جائز، قال ابن حبيب: ولا آخذ بقول ابن القاسم في ذلك، ثم قال: والحمير كلها صنف واحد إلا أن تختلف في السير والجري. انتهى.
وقال المواق: ابن عات: الحمر عند ابن القاسم ثلاثة أصناف: صغارها صنف وكبارها صنفان حمر مصر التي للركوب صنف وحمر الأعراب التي للخدمة صنف، قال في المدونة: كره مالك أن تسلم الحمر في البغال لتقارب منافعها إلا أن تكون من الحمر الأعرابية التي يجوز أن يسلم فيها الحمار الفاره النجيب. انتهى. وقال عبد الباقي: ومذهب المدونة وهو المشهور أن البغال والحمير صنف واحد. انتهى.
وتحصل مما مر أنه إذا قويَ الاختلاف في المنفعة كالركوب والحمل جاز سلم الواحد في الواحد وفي المتعدد، وكذا العكس فيجوز أن يسلم واحد يراد للركوب في واحد يراد للحمل وفي أكثر وكذا العكس، وإذا ضعف الاختلاف في المنفعة فلا بد من التعدد.
وسابق الخيل يعني أن السبق في الخيل مما تختلف به المنفعة، قال عبد الباقي: فيجوز سلم واحد من سابق الخيل في أكثر منه وكذا العكس، وقال المواق من المدونة: يسلم كبار الخيل في صغارها ولا تسلم كبارها في كبارها إلا أن يكون فرسا جوادا له سبق فلا بأس أن يسلم في غيره مما ليس مثله في جودة وإن كان في سنه. انتهى.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: ظاهر قوله في غيره أنه يجوز سلمه في واحد أو أكثر. واللَّه سبحانه أعلم. وقال الحطاب: قال ابن عبد السلام: اختلف المذهب هل تختلف الخيل بالصغر والكبر، فحكى
غير واحد: تختلف بذلك، وقال ابن دينار: لا تختلف الصغار من الكبار في جنس من الأجناس. انتهى. والقول الأول عليه مشى المص فيما يأتي قريبا. انتهى.
لا هملاج يعني أن الهملجة في الخيل لا تختلف بها المنفعة، قال عبد الباقي: الهملاج سريع المشي في جنسه إذ لا تصيره سرعة مشيه مغايرا لأبناء جنسه حتى يجوز سلم الواحد منه في غيره مما ليس له تلك السرعة إذ لا يلزم فيها أن يكون سابقا، وتقدير عبد الباقي والتتائي لا برذون هملاج فاسد كما قاله الخرشي وبناني. وقال الحطاب: والهملجة حسن سير الدابة في سرعة ودابة هملاج الذكر والأنثى فيه سواء انتهى.
إلا كبرذون بموحدة مكسورة وذال معجمة: الفرس الذي أبواه أعجميان كما في الدميري، قال التتائي: عريض لا جري فيه ولا سبق بل يراد لما يراد له البغال من الحمل والسير. قاله عبد الباقي. ومعنى كلام المص أن البرذون تعتبر فيه الهملجة، فالهملاج من البرذون يسلم في غيره من البراذين مما ليس فيه هملجة، وقال المواق: ابن حبيب: لا يخرج الخيل بسرعة سيرها عن جنسها وإن تفاوتت به لأن القصود فيها السبق إلا البراذين التي لا جري فيها وعرفت بذلك فتكون جنسا. انتهى. والكاف زائدة أي إلا أن يكون هذا الهملاج برذونا كما في الخرشي، يعني أنها غير مدخلة شيئا.
وقال الشارح: أي وكذلك يسلم السابق من الخيل في غيره مما ليس كذلك، قال في كتاب محمد: وليس الفرس السمين الجميل العربي صنفا حتى يكون [جوادا]
(1)
سابقا، وقال ابن حبيب: ليس السير في الخيل يوجب الاختلاف لأن البتغى منها السبق والجودة إلا البراذين العراض التي لا جري فيها ولا سبق بل تراد لا تراد له البغال من الحمل والسير فلا بأس أن يسلم الهملاج منها في اثنين من خلافه، وجعل اللخمي الجمال مما تختلف به الخيل بشرط أن يقابله العدد. انتهى. وجمل كثير الحمل يعني أن كثرة الحمل في الإبل مما تختلف به المنفعة فيجوز سلم جمل كثير الحمل في غيره مما ليس كذلك. قاله الشارح. وقال المواق من المدونة: سلم كبار الإبل في صغارها
(1)
في الأصل جواد والمثبت من الشارح الوسط ج 4 ص 41.
جائز يريد صغارها التي لا حمل فيها ولا ركوب ولا يسلم كبارها في كبارها إلا ما عرف ففاق في النجابة والحمولة فلا بأس أن يسلم في حواشي الإبل وإن كانت في سنه. انتهى. وقوله: "وجمل" أطلق الجمل هنا على ما يشمل الذكر والأنثى. قاله غير واحد. وقال الخرشي: فكان ينبغي أن يقول وبعير لأنه يطلق على كل وصحح القول باختلاف المنفعة في البعير بكثرة الحمل.
وبسبقه أي الجمل بمعنى البعير ومعنى هذا أنه اختلف فيما تختلف به المنفعة في الإبل، فقيل تختلف بكثرة الحمل وبالسبق أي تختلف بكل منهما وهذا القول صححه ابن عبد السلام، وقيل لا تختلف المنفعة في الإبل بالسبق بل تختلف بكثرة الحمل. واللَّه سبحانه أعلم. وعلم من هذا أن الخلاف إنما هو في السبق لا في كثرة الحمل فلا خلاف في اعتبارها، وهذا كقوله في الحيض:"واستحسن وبغيره".
وبقوة البقرة يعني أن قوة البقرة على العمل تختلف بها المنفعة، قال الشارح: أي وكذلك يعتبر الاختلاف في البقر بالقوة أي على الحرث وغيره. انتهى. وقال المواق من المدونة: تسلم البقرة الفارهة القوية على الحرث في حواشي البقر وإن كانت مثل أسنانها. انتهى. وقال عبد الباقي: وبقوة البقرة على العمل وهو عطف على المعنى أي إلا أن تختلف المنفعة بالفراهة وبقوة. والبقرُ اسمُ جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء ولو مذكرا، فليست التاء فيه للتأنيث بل للوحدة فالبقرة يطلق على الذكر والأنثى، ولهذا قال: ولو أنثى يعني أن قوة البقرة على العمل معتبرة فتختلف بها المنفعة ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، وما ذكره المص في أنثى البقر هو مذهب ابن القاسم، وذهب ابن حبيب إلى أن الإناث إنما يعتبر فيها اللبن لا القوة على العمل. قاله الشارح. وقال المواق: الباجي يعتبر القوة على الحرث في ذكر البقر اتفاقا وهو ظاهر قول ابن القاسم في الإناث، وحكى ابن حبيب أن المقصود منها كثرة اللبن، فعلى هذا يجوز سلم البقرة الكثيرة اللبن وإن كانت قوية على الحرث في ثور قوي على الحرث. انتهى.
وكثرة لبن الشاة يعني أن كثرة اللبن في الغنم تختلف بها المنفعة فيجوز سلم شاة غزيرة اللبن في غيرها مما ليس كذلك. وظاهرها عموم الضأن يعني أن ظاهر المدونة عموم اختلاف المنفعة بكثرة اللبن في الضأن والمعز، وأن ذلك لا يختص بالمعز، قال الشارح مفسرا للمص، يعني وظاهر المدونة
أن الاختلاف بكثرة اللبن عام في الضأن، قال فيها: ولا يسلم صغار الغنم في كبارها ولا ضأنها في معزها لأنها كلها منفعتها اللحم لا الحمولة إلا شاة غزيرة اللبن موصوفة بالكرم فلا بأس أن تسلم في حواشي الغنم، فأنت ترى كيف أطلق ولم يقيد وجعلها كالجنس الواحد واعتبر غزارة اللبن في الشاة منهما وهو مقتضى كلام صاحب الجواهر، وإليه ذهب ابن الماجشون. قاله اللخمي. وحكى ابن حبيب عن مالك وأصحابه وبه قال أنه لا يعتبر في الضأن غزارة اللبن. انتهى. وقال الخرشي: ويجوز سلم شاة من المعز غزيرة اللبن في شاتين من المعز وفي واحدة مما ليس كذلك.
وصحح خلافه قد علمت أن ابن حبيب حكى عن مالك وأصحابه أنه لا يعتبر في الضأن كثرة اللبن، وأنه قال بذلك وهذا القول صححه ابن الحاجب، وإلى تصحيحه أشار المص بقوله:"وصحح خلافه" قال عبد الباقي: وكثرة لبن الشاة لا كثرته من بقر أو جاموس إلا لعرف؛ وقد اقتصر في التبصرة على الاختلاف بكثرة لبن البقرة وعزاه لابن القاسم مقتصرا عليه فيفيد اعتماده، وظاهر الشارح كالتوضيح وابن عرفة خلافه، وينبغي اعتماد ما للخمي في عرف مصر ونحوها مما يراد فيه الجاموس والبقر لكثرة اللبن لا للحرث، ولذا قال ابن عبد السلام: ونحوه للقرافي في قول المدونة: وإن اختلفت المنافع في الحيوان جاز أن يسلم بعضها في بعض، اتفقت أسنانها أو اختلفت. انتهى. هذا هو الفقه الجلي الذي يعتمد عليه المفتي والقاضي. فينظر في كل بلد إلى عرفها ولا يحمل أهل بلد على ما سطر قديما بالنسبة إلى عرفهم مما هو مبني على العرف. انتهى.
وقوله: مما هو مبني على العرف، وأما العرف المخالف لنص الإمام فلا عبرة به. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب عند قول المص:"وبقوة البقرة على العمل ولو أنثى" قال في التوضيح: والجواز على قول ابن القاسم إنما هو إذا كان في معنى المبايعة بأن تسلم البقرة القوية في بقرتين أو أكثر، فسلمُ بقرة قوية في بقرة ليست كذلك نص بعضهم على المنع وهو ظاهر لأنه ضمان بجعل وعكسه سلف بزيادة، ولا ينبغي أن يكون خاصا بالبقرة بل جار في جميع ما تقدم وما يأتي. فتأمله فإنه حسن جدا. واللَّه أعلم. انتهى.
وكصغيرين في كبير وعكسه يعني أنه يجوز سلم صغيرين من أي صنف في كبير من جنسهما، وكذا يجوز عكس ذلك وهو سلم الكبير في صغيرين وصغير في كبير وعكسه يعني أنه يجوز سلم
الصغير من أي صنف في كبير من جنسه وكذا يجوز عكس ذلك، وقوله:"وكصغيرين" لخ وقوله: "وصغير" لخ يعني في غير الغنم والآدمي كما يأتي وصغير في كبير وعكسه هو تأويل للمدونة عليه تأولها ابن محرز وابن لبابة. وقوله: إن لم يؤد إلى المزادنة معناه أن محل الجواز في المتفق عليه أعني مسألة الاجتماع ومحل الجواز في المختلف فيه أعني مسألة الانفراد إنما هو حيث لم يؤد ذلك إلى المزابنة، وأما إن أدى ذلك إلى المزابنة بأن يطول الأجل الضروب إلى أن يصير الصغير كبيرا أو يلد الكبير صغيرا فإن ذلك لا يجوز أي لا يجوز حينئذ سلم صغيرين في كبير ولا عكسه ولا سلم صغير في كبير وعكسه.
قال عبد الباقي: إن لم يؤد إلى المزابنة، فإن أدى إليها منع بأن يطول الأجل المضروب إلى أن يصير الصغير كبيرا أو يلد الكبير صغيرا لأدائه في الأول إلى ضمان بجعل، فكأنه قال: اضمن لي هذا لأجل كذا فإن مات ففي ذمتك وإن سلم عاد إليَّ وكانت منفعته بضمانك وهو باطل، وعلة الثاني الجهالة فكأنه قال: خذ هذا في صغير يخرج منه ولا يدرى أيخرج منه أم لا؟ وهو جهالة ممنوعة. انتهى. وهذا يقتضي أنه يراعَى في سلم الصغيرين في كبير وعكسه أن لا يطول أجل السلم بحيث يصير الصغيران أو أحدهما كالكبير ويلد الكبير صغيرين. انتهى. والمراد بالمزابنة هنا اللغوية وهي المغالبة.
وتؤولت على خلافه راجع لمسألة الانفراد وهي قوله: "وصغير في كبير وعكسه" والراجح التأويل الأول يعني أنه كما تؤولت المدونة على أنه يجوز سلم الصغير في الكبير وعكسه تؤولت أيضا على خلاف ذلك؛ أي أنه لا يجوز سلم الصغير في الكبير ولا عكسه، وقد مر أن التأويل الأول لابن محرز وابن لبابة وهذا الثاني لابن أبي زيد، وأما سلم صغيرين في كبير وعكسه فإنه جائز إن لم يؤد إلى المزابنة ولم تتأول المدونة على خلافه، ومحل الخلاف في مسألة الانفراد إنما هو حيث لم يؤد إلى المزابنة.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: قول المص: "إن لم يؤد إلى المزابنة" بأن يطول الأجل المضروب إلى آخر ما مر يفهم منه أنه لو كان الكبير المقدم ذكرا فإن ذلك جائز ولو طول الأجل؛ لأن الكبير من المعلوم حينئذ أنه لا يلد صغيرا. واللَّه سبحانه أعلم.
كالآدمي والغنم يعني أن الصغير من الآدمي والغنم كالكبير منهما فلا يجوز سلم صغير الآدمي في كبيره ولا العكس ولا يجوز سلم الصغير من الغنم في الكبير منها ولا العكس، قال عبد الباقي: كالآدمي والغنم فلا يسلم صغير كل في كبيره ولا عكسه لاتحاد الجنس، اتحد عدد كل أو اختلف كما يفيده النقل والدليل على استفادة المنع من كلامه عدم العاطف، إذ لو ذكره لتوهم العطف على الجائزات. قاله عبد الباقي. وذهب ابن وهب في مختصر ما ليس في المختصر إلى جواز ذلك في الغنم، وقد أجاز سلم الكبش في خروفين والأول هو المعروف في المذهب وما ذكره المص في الرقيق هو الأصح، وقال الباجي: القياس عندي أن يكون الصغير من الرقيق جنسا مخالفا لكبيره. قاله الشارح.
وقال المواق: الشيخ: العبيد والإماء صنف صغارها وكبارها إلا ذا النفاذ والتجارة، وسمع ابن القاسم جواز سلم العبد الكبير التاجر في الصغير. اللخمي: ويسلم الكبير من الوخش الذي لا يراد إلا للخدمة في صغير يراد للتجر إن كبر أو للصنعة. الباجي في الواضحة: صغير الرقيق وكبيره صنف واحد والقياس عندي أنهما جنسان. ابن محرز: الصغار والكبار يختلفان من سائر الحيوان إلا في الغنم لأن غالب المراد منها اللحم. عياض: لا تفترق الغنم إلا بغزارة اللبن.
وكجذع طويل غليظ في غيره قال الخرشي: يعني أنه يجوز سلم جذع طويل غليظ من الخشب في جذع أو جذوع ليس كذلك لأنه من باب اختلاف المنافع. انتهى. وظاهر المص أنه لابد من اجتماع الوصفين خلافا لابن الحاجب في اكتفائه بأحد الوصفين، فقوله:"في غيره" أي فيما ليس كذلك من الجذوع، وقال عبد الباقي: ثم عطف على كفاره قوله: "وكجذع طويل غليظ" أو غليظ فقط على المعتمد في غيره جذع أو جذوع صغار إما خلقة أو كان لا يحصل الصغار من الكبير إلا بفساد لا يقصد عادة، فإن كان يحصل بغير فساد منع لأن فيه سلم الشيء فيما يخرج منه وهو مزابنة على أن المنحوت لا يسمى جذعا وإنما يسمى جائزة، كما أن الطول وحده لا يكفي خلافا لابن الحاجب كما اعترضه المص كابن عبد السلام، ولا عبرة بتسليم الصفاقسي له والفرق تَيَسُّر قطع الطويل فالمنفعة متقاربة بخلاف الغليظ في رقيقين فإن في نشره كلفة، وظاهر المص أن الخشب كله صنف وهو صريح عطف وكالجنسين عليه، وظاهر كلام ابن أبي زمنين أنه أصناف،
ودرج عليه في الشامل إذ قال: وجاز جذع نخل بجذع أو نصف جذع صنوبر على الأصح لاختلاف الجنس، وقيل الخشب كله صنف ما لم تختلف المنفعة كالألواح للأبواب والجوائز للسقف. انتهى وتعتبر المنفعة بقول أهل المعرفة. انتهى.
قوله: من الكبير إلا بفساد يعني من الطويل الغليظ الذي جعل رأس مال المسلم، فيسلم في الصغار خلقة والصغار المنحوتة بشرط أن لا تنحت منه الصغار إلا بفساد، وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: والخشب لا يسلم منها جذع في جذعين مثله حتى يتبين اختلافهما، كجذع نخل كبير طويل غلظه وطوله كذا في جذوع صغار لا تقاربه فيجوز لأن [هذان]
(1)
نوعان مختلفان. انتهى.
وقال الحطاب بعد جلب الخلاف في كون الجذوع صنفا واحدا أو أصنافا ما نصه: والحَاصِلُ على هذا الراجح يعني القول بأنها أصناف أنه إذا اختلف أصول الخشب جاز سلم بعضه في بعض، وإن لم يختلف فلا يجوز إلا أن تختلف المنفعة كما تقدم. انتهى.
وكسيف قاطع في سيفين دونه يعني أنه يجوز سلم سيف قاطع في سيفين دونه في القطع والجوهرية معا لتباعد ما بينهما حينئذ لا في أحدهما فقط؛ فإن استويا فيهعا منع اتفاقا، وظاهر قوله:"في سيفين" منع سلم قاطع في واحد دونه وهو كذلك كما يفيده المواق عن المدونة عند قوله: "وكصغيرين في كبير وعكسه" ونصه: عياض: ذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز سلم كبير في صغير ولا جيد في ردي حتى يختلف العدد، قال بعضهم: وهو مذهب المدونة. انتهى وبه يسقط قول أحمد، وأما سلم سيف قاطع في سيف دونه في القطع فالظاهر فيه الجواز أيضا. انتهى. وقال المواق من المدونة: لا خير في أن يسلم سيف في سيفين دونه لتقارب المنافع إلا أن يبعد ما بينهما في الجوهر والقطع كتباعده في الرقيق والثياب فيجوز. انتهى.
وَلما أنهى الكلام على سلم بعض الجنس الواحد في بعض شرع في الكلام على سلم أحد الجنسين في الآخر، فقال: وكالجنسين ليس في كلام المص ما يعطف هذا عليه، فلو حذف الواو من هذا
(1)
كذا في الأصل وفى المواق ج 4 ص 619 ط دار الفكر هذين.
واقتصر على الكاف كان أصوب، والمعنى أن الجنسين يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر حيث تباعدت المنفعة، بل ولو تقاربت المنفعة. ومثَّل للمتقارب المنفعة من الجنسين بقوله: كرقيق ثياب القطن ورقيق ثياب الكتان فيسلم رقيق أحدهما في رقيق الآخر لاختلاف الجنس، وقال المواق: ابن بشير: إن اختلف الجنس دون المنفعة فحكى الباجي قولين. انتهى. وعلى القول بالمنع رد المص بلو، وقال الشارح: وهذه المسألة على أربعة أوجه، الأول: أن يتحد الجنس والمنفعة كالرقيق في رقيق من جنسه والغليظ في غليظ من جنسه فلا يجوز سلم بعضها في بعض اتفاقا. الثاني: أن يتعدد الجنس والمنفعة كرقيق الجنس في غليظ الجنس الآخر أو العكس فيجوز ذلك بلا خلاف. الثالث: أن يتحد الجنس وتتعدد المنفعة كرقيق الجنس الواحد في غليظه أو العكس فيجوز قولا واحدا. الرابع: أن يتعدد الجنس وتتحد المنفعة وهي المسألة التي ذكرها المص هنا فحكى ابن يونس الجواز وقاله في السلم الثالث، وروي عن مالك المنع وهو قول أشهب. انتهى.
لا جمل في جملين مثله عجل أحدهما يعني أنه لا يجوز سلم جمل في جملين مثله عجل أحدهما وأجل الآخر لما فيه من سلف جر نفعا، لأن المسلم بالمؤجل سلف والعجل محض زيادة، قال في التوضيح تبعا لابن عبد السلام: هذا هو المشهور لأن المؤخر عوض عن المدفوع فيكون سلفا والمعجل زيادة، ورأى في الشاذ أي القول بالجواز أن المعجل بالمعجل والمؤجل زيادة محضة والقولان لمالك. ابن عبد السلام: وأقربُهما جريا على قواعد المذهب المشهورُ لأن في هذه المسألة تقديرا يمنع وتقديرا يجوز، والأصل في مثله تغليب المنع. انتهى. نقله بناني.
والحاصل أن القول بالمنع هو المشهور وقواه غير واحد، وقوله:"مثله" نعت لجملين لأن مثل يوصف بها المفرد مذكرا أو مؤنثا والتثنية والجمع، قال تعالى حكاية عن فرعون وملائه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} ، وقال تعالى:{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} ، وقال تعالى:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ} ، ومع ذلك يثنى ويجمع قال تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} ، {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ} ، وقال عبد الرحمن بن حسان رضي اللَّه تعالى عنه:
من يفعل الحسنات اللَّه يشكرها
…
والشر بالشر عند اللَّه مثلان
ويقال: هم أمثال، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُم} ، وقوله:"لا جمل في جملين مثله". قال التتائي: لو أدخل الكاف على جمل ليدخل غيره من الحيوان والثياب لكان أشمل. انتهى. وقوله: "لا جمل في جملين مثله عجل أحدهما" وأولى في المنع لو أجلا معا، ومفهوم مثله أنهما لو كانا معا أجود بكثرة حمل أو سبق أو أردى جاز مطلقا أجلا أو أجل أحدهما لتخالفهما، وأما لو كان أحدهما مماثلا والأخر أجود فإن عجل الأجود فقط امتنع العقد فيهما للسلف بزيادة، وإن عجل المماثل فقط جاز لأنه اشترى المماثل مع شيء آخر بجمل مثله. قاله أصبغ. فإن أجلا منع احتياطا فيما يظهر وفهم من قوله:"جملين" أنه لو كان مع أحد الجملين دراهم حيث وقع العقد على جمل في جمل أو كان مع المنفرد دراهم؛ جاز حيث عجل الجملان أو الجمال ولو تأخرت الدراهم فإن أخر الجملان أو أحدهما لم يجز لأن الدراهم إن كانت من صاحب المؤجل فهو سلف بزيادة، وإذا كانت من صاحب المعجل فهو ضمان بجعل.
وكَطَيْر عُلِمَ يعني أن الطير تختلف بالتعليم فيجوز سلم الطير العلم تعليما شرعيا كالبازي والصقر للصيد في واحد أو أكثر من جنسه بلا تعليم؛ وأما من غير جنسه فإن ذلك جائز بلا تعليم لاختلاف الجنس بناء على أن الطيور أجناس وهو نقل ابن رشد، وقال عبد الباقي: وكطير علم صنعة شرعية فيسلم واحد في واحد غير معلم فليس كمسألة سلم الفاره في غيره والبقرة في غيرها المشترط فيهما التعدد كما مر. انتهى. وقد مر الكلام على مسألة الفراهة وقوة البقرة على العمل فراجعه إن شئت.
وقال الحطاب: وقال ابن عرفة: ابن رشد: لا خلاف في المذهب أن ما يقتنى من الطير للأفراخ والبيض كالدجاج والإوز والحمام كل جنس منه صنف على حدته صغيره وكبيره ذكره وأنثاه وإن تفاضل في البيض والفراخ، فإن اختلف الجنسان جاز منه واحد باثنين إلى أجل وما كان منها لا يقتنى لبيض أو فراخ إنما يتخذ للحم فسبيلة سبيل اللحم عند ابن القاسم لا يراعَى حياتها إلا مع اللحم؛ وأشهب يراعيها في كل حال فيجوز على مذهبه سلم بعضها في بعض إذا اختلفت أجناسها. وقال المتيطى عن ابن حبيب: الدجاج والإوز صنف وما لا يقتنى من الوحش كالحجل واليمام هو كاللحم لا يباع بعضه ببعض حيا إلا تحريا يدا بيد، قال ابن عرفة: قلت وظاهر كلام
ابن رشد أن الإوز والدجاج صنفان، وظاهر نقل المتيطى أنهما جنس واحد وهما معا في قطر الأندلس، ونقله الرجراجي. وقال: وأما سائر الطير الوحشي مما لا يقتنى لفراخ ولا بيض مثل الحجل واليمام وشبهها فمجراه مجرى اللحم ولا يباع بعضه ببعض وإن كان حيا إلا تحريا يدا بيد، ولا يجوز بإوز أو دجاج أو حمام لأنه من بيع اللحم بالحيوان. انتهى.
لا بالبيض يعني أن الطير لا يختلف بالبيض فلا يجوز سلم دجاجة بَيُوض في اثنتين ليستا مثلها في كثرة البيض وكذلك الإوز ونحو ذلك خلافا لأصبغ، والذكورة والأنوثة يعني أن المنفعة لا تختلف بالذكورة والأنوثة قي غير الآدمي اتفاقا كما في ابن الحاجب والتوضيح، بل ولو آدميا على الصحيح وهو لمالك فيها وأكثر المتأخرين على الاختلاف بالذكورة والأنوثة في الآدمي لاختلاف خدمة النوعين، فخدمة المذكور خارج البيت والأسفار والحرث وشبهه وخدمة الإناث داخل البيت كالعجن والخَبز والطبخ وشبهه ولاختلاف أغراض الناس. قاله عبد الباقي. وقال: وظاهر كلام المص أن الطير كله صنف واحد، وفي الحطاب عن ابن رشد أن الحمام المقتنى صنف والدجاج صنف والإوز صنف، فيجوز سلم بعضها في بعض وما عدا هذه الثلاثة من سائر الطير صنف واحد مغاير للثلاثة، ثم إنه لا يراعَى حياة هذا الصنف إلا مع اللحم فإذا بيع بصنفه منع وإن بيع بغيره جاز، وأما مع غير اللحم فلا يراعى فيها الحياة بل هي كاللحم فلا يجوز السلم فيها كان من جنسها أم لا. انتهى.
قال بناني: ليس المراد لا يجوز السلم فيها مطلقا، بل المراد لا يجوز سلم الطعام فيها كان من جنسها أم لا؛ لأن كونها لحما اقتضى أنها كالطعام لا يسلم فيه طعام مطلقا، أما سلم غير الطعام فيها فيجوز. انتهى. قوله: وظاهر كلام المص أن الطير كله صنف لخ ليس بظاهره، وإنما مفاد المص أن الطير يخرج عن جنسه بالتعليم وجنسه مبين في كلام ابن رشد وغيره والاستدلال بما في الربويات فيه نظر.
وغزل وطبخ يعني أن الجوارِيَ لا تختلف بالغزل والطبخ، والواو بمعنى أو لأن كلا من الغزل والطبخ صنعة سهلة التناول، ومحل كون الغزل والطبخ لا تختلف بهما المنفعة إنما هو إن لم يبلغ كل منهما النهاية بأن تفوق نظائرها، وليس المراد أنه يباع غزلها بزنته فضة، ومفهوم قوله: "إن
لم يبلغ النهاية" أنها لو بلغت النهاية بأن فاقت النظائر في الغزل أو الطبخ لكان ذلك ناقلا لها عمن ليس كذلك، فيجوز سلم بالغة النهاية في الغزل في غيرها، ويجوز سلم بالغة النهاية في الطبخ في غيرها، ولابد أن يكون ذلك الغزل (البالغة)
(1)
النهاية هو المقصود منها ولمثله تراد. قال عبد الباقي: ويكون ذلك الغزل البالغ النهاية هو المقصود منها ولمثله تراد. قاله الشارح والمواق. وكلام المؤلف مسلم في الغزل. وأما الطبخ فالمعتمد أنه ناقل مطلقا لأنه صنعة معتبرة بلغ النهاية أم لا عند ابن القاسم، ثم أطبقت كلمتهم هنا على تصوير المص بسلم غزَّالة فيمن لا تغزل بالكلية، وكذا طباخة فيمن لا تطبخ، وبقي سلم غزالة بلغت النهاية في غير بالغته، وكذا طباخة بلغت النهاية في أخرى لا تحسنه.
وقوله: "إن لم يبلغ النهاية" معناه في غير بالغته فيشمل ما ذكر. انتهى. وقال المواق: اللخمي: العبيد صنف واحد وتنقلهم الصنعة فيسلم التاجر في الصانع ولا يسلم واحد منهما فيما يراد للخدمة خاصة وهو كإسلام الجيد في الردي، إلا أن يتبين بفراهة أو جمال فتدخله المبايعة، ويجوز أن يسلم التاجر والصانع في عدد تراد منهم الخدمة. قال ابن القاسم: الرقم صنعة وليس الغزل ولا عمل الطيب صنعة والنساء جميعها يغزلن يريد ما لم تبن بذلك، ويكون ذلك المقصود ولمثله تراد. انتهى.
وحساب وكتابة يعني أن الرقيق لا ينتقل بالحساب والكتابة عن جنسه ولو اجتمعا فيه عند ابن القاسم خلافا ليحيى بن سعيد، وينبغي إن لم يبلغ النهاية ولو في أحدهما، وتقدم عن ابن عبد السلام أن ما يحصل به الاختلاف (منوط)
(2)
بالعرف. ابن عرفة: وفيها: لا بأس بسلم عبد تاجر في نوبيين أو غيرهما لا تجر فيهما. عياض: تأملها مع كراهة بيعهم، وذكروا أن لهم عهدا، وفي النوبة لا ينبغي شراؤهم ممن سباهم لأن لهم عهدا من عمرو بن العاص أو عبد اللَّه بن سعد، وأجاب عياض عن قولها لا بأس بسلم عبد تاجر في نوبيين بأن ذلك لعله فيما باعوه من عبيدهم. ابن عرفة: أو لعله لشرط نقضوه. اللخمي: يسلم أحدهما في الآخر إن اختلف تجْرَاهما كبزاز
(1)
كذا في الأصل.
(2)
في الأصل منوطا والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 211.
وعطار أو صنعتاهما كخباز وخياط، ويسلم التاجر في الصانع لا أحدهما فيما يراد للخدمة، ويسلم أحدهما في عدد يراد منه الخدمة. انتهى.
والظاهر أنه إذا كان أحدهما يبني بناء معتبرا والآخر دونه فكجنسين وكذا يقال في الخياطة. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: فلا يسلم حاسب في أكثر منه غير حاسب ولا كاتب كذلك لأنه علم لا صناعة. الباجي: الحرث والحصاد لغو في الرجال ومثل الكتابة والحساب القراءة. وقال المواق: اللخمي: اختلف في الحساب والكتابة، ابن محرز: ألغاهما بعض المذاكرين لأنهما علم فقط لا صناعة وهو منقوض بالتجر فإنه علم وهو معتبر اتفاقا. انتهى.
والشيء في مثله قرض يعني أن دفع الشيء في مثله صفة وقدرا طعاما أو نقدا أو عرضا أو حيوانا قرض؛ أي يجوز سواء وقع بلفظ البيع أو القرض أو السلم أو لم يسموا شيئا في العرض والحيوان، وأما في الطعام والنقد فمحل جوازه حيث وقع بلفظ القرض، فإن وقع بلفظ البيع أو السلم أو لم يسموا شيئا منع لأنه في الطعام بيع طعام بطعام لأجل وفي النقد بدل مستأخر فيعمم في الشيء ويخصص بَعْدُ. قاله عبد الباقي. وقال المواق من المدونة: إن أسلمت جذعا في مثله صفة وجنسا فهو قرض إن ابتغيت به نفع الذي أقرضته، وإن ابتغيت به نفع نفسك رد السَّلَفُ. انتهى. وفي كلام الشارح: وإن أسلمت ثوبا فسطاطيا في ثوب فسطاطي إلى أجل فذلك قرض، إن ابتغيت به نفع الذي أقرضته جاز وإن ابتغيت به نفع نفسك بطل المسلم. بعض الأشياخ: وكذلك إن ابتغي به نفعهما معا.
وأن يؤجل بمعلوم زائد على نصف شهر هذا هو الشرط الثالث من شروط السلم السبعة؛ يعني أنه يشترط في صحة عقد السلم أن يؤجل بأمد أي زمن معلوم زائد على نصف شهر، واحترز بقوله: "أن يؤجل من السلم الحال فإنه لا يجوز لما رواه أبو داوود والترمذي والنسائي عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان)، وفي حديث حكيم بن حزام أنه صلى الله عليه وسلم قال له:(لا تبع ما ليس عندك على أن يكون حالًّا عليك)،
واحترز بالأجل المعلوم من الأجل المجهول فإنه يفسد به السلم للغرر. قال عبد الباقي: وأشار لثالث الشروط بقوله: "وأن يؤجل المسلم فيه بمعلوم للمتعاقدين علما حقيقيا أو حكميا كمن لهم عادة بوقت القبض فلا يحتاج لضرب الأجل. قاله اللخمي. وهو ظاهر لأن العادة عندنا كالشرط، وأن يكون أقله نصف شهر لأنه مظنة اختلاف الأسواق غالبا، وعبر عن ذلك بقوله: "زائد على نصف شهر" لأنه لا يتحقق الخمسة عشر يوما إلا بزيادة عليها ولو يسيرة ولا حد لأكثره إلا ما لا يجوز البيع إليه. انتهى.
وقال الحطاب: ولا حد لأكثره إلا إذا انتهى إلى الغرر لطوله. انتهى. وقال الشارح: وقد اختلف في مقدار الأجل المشترط في ذلك على أقوال أحدها: أنه لابد من مدة تختلف فيها الأسواق عرفا وبهذا القدر اكتفى مالك رحمه اللَّه تعالى من غير أن يحد في ذلك عدة أيام معلومة وهو عين الفقه، وذكر عنه صاحب المعونة رواية أنه يُكتفى بمطلق الأجل، وروى ابن القاسم تحديدَ أقلِّ ذلك بخمسة عشر يوم لأنه مظنة اختلاف الأسواق غالبا، ولمالك في كتاب محمد قول يجوز ذلك إلى يومين، ولابن عبد الحكم قول بجواز السلم إلى يوم. أصبغ: فإن وقع إلى يومين لم يفسخ لأنه ليس بحرام بين واختاره ابن حبيب.
وقال محمد: فسخه أحب إلي وهو ظاهر المدونة عند ابن رشد، وخرج التونسي وغيره منه إجازة السلم الحال لأن اليوم واليومين لا يختلف فيها الأسواقُ. وقال غيره: لا يلزم من قال ذلك أن يجيز السلم الحالَّ، وذكر الباجي أنه اختلف في تخريج المذهب، فمن الأصحاب من حكى رواية يجوز السلم الحال، ومنهم من قال الأجل شرط رواية واحدة وإنما اختلفت الرواية عنه في مقداره. انتهى المراد منه. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: لا يجوز لرجل أن يبيع ما ليس عنده بعين ولا بعرض إلا أن يكون على وجه السلف مضمونا عليه إلى أجل معلوم تَتَغير في مثله الأسواقُ ولم يحد مالك في ذلك حدا، وأرى الخمسة عشر يوم أقل ذلك في البلد الواحد، فأما إن أسلم في بلد على أن يأخذه ببلد آخر فجائز إن كانت مسافته ثلاثة أيام. ابن حبيب: أو يومين لاختلاف سعرهما. انتهى.
ولما كان التأجيل المذكور جائزا بحساب العجم إن علمه المتعاقدان قال: كالنيروز وهو أول يوم من السنة القبطية وفي سابعه ولد عيسى عليه الصلاة والسلام: وأدخلت الكاف المِهرجان بكسر الميم كما في المصباح وهو عيد الفُرس رابع عشري بونة ولادة يحيى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. انتهى. وقال المواق: ابن القاسم: إن كان النيروز والمهرجان وفصح النصارى وصومهم والميلاد يعنون به ميلاد عيسى صلى اللَّه وسلم على نبينا وعليه وقتا معروفا فالبيع إليه جائز، قال: وخروج الحاج أجل معروف إذا تبايعا إليه وفِصح النصارى بكسر الفاء، وقيل بفتحها وسكون الصاد المهملة وبالحاء: فطرهم من صومهم.
تنبيه:
في الخرشي تبعا للتتائي ما نصه: ظاهره يعني قول المص زائد على نصف شهر أن نصف الشهر غير كاف مع أنه كاف، بل وقوع السلم لثلاثة عشر يوما أو اثني عشر يوما أو أحد عشر خلاف الأولى فقط. انتهى. قال الاجهوري: وفيه نظر إذ ليس في قول من الأقوال التي نقلها عن ابن عرفة والشارح ما يوافق قوله خلاف الأولى. انتهى. مصطفى: وهو واضح فإني لم أر من صرح بما ذكره لا في التوضيح ولا ابن عبد السلام ولا في المدونة ولا غير ذلك. انتهى. قاله بناني. والحصاد والدراس يعني أنه يجوز تأجيل السلم بالحَصاد والدراس بفتح أولهما وكسره؛ يعني أن الفعل الذي يفعل في الأيام المعتادة كهي، فيجوز تأجيل المسلم فيه بالحصاد والدراس، قال المواق من المدونة: لا بأس بالبيع إلى الحصاد والجذاذ.
وقدوم الحاج يعني أنه يجوز تأجيل السلم بقدوم الحاج وما تقدم من التقرير يفهم منه أن قوله: "كالنيروز" وما بعده مثال، وقال عبد الباقي عند قوله:"وقدوم الحاج" أي كما يجوز التأجيل بما ذكر فالمجموع تشبيه، وإن كان بعفه من ضرب الأجل بالأيام وليس مثالا لأن التأجيل هنا بعمل واقع في الزمن، وحينئذ فالنيروز عبارة عن اللعب الواقع في أول السنة القبطية؛ وفي باب الشهادات:"ولعب نيروز"، وكلام الجوهري يدل على ما ذكرناه. وانظر إذا كان الأجل الحصاد وما بعده هل لابد من كونه خمسة عشر يوما أم لا؟ نقل اللخمي أنه لا يشترط. قاله أحمد. والمعتمد أنه لابد من خمسة عشر يوما في هذه إلا ما يستثنيه المص، ورد شيخنا اللقاني على أحمد قوله إن التأجيل في النيروز بالعمل أي باللعب إلى آخر كلامه.
واعتبر ميقات معظمه يعني أنه إذا أجل بالحصاد أو الدراس أو قدوم الحاج فإنه يعتبر الوقت الذي يغلب فيه وجود ذلك وإن لم يوجد، فالمراد بالميقات الوقت وبالمعظم الغالب، قال عبد الباقي: واعتبر ميقات معظمه أي ما ذكر من الحصاد والدراس أي الوقت الذي يغلب فيه وجود كل وإن لم يوجد بالفعل، وانظر هل أول كل أو وسطه أو آخره؟ وقد يقال: معظم الوسط وربما يدخل في لفظ المص. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال مالك: إذا حل أجل الحصاد وعظمه وإن لم يكن لهم حصاد في سنتهم فقد بلغ الأجل محله. انتهى. وقال الشارح: والمعتبر ميقات معظمه يريد سواء كان في تلك الأيام حصاد أم لا، وكل ذلك في الحقيقة يرجع إلى التوقيت بالزمان. انتهى. ويجوز التأجيل بالشتاء أو الصيف سواء عرفهما بشدة الحر أو بالبرد أو بالحساب واعتبر ميقات معظمه أيضا، قال الخرشي: ولا يخفى أن معظم كل واحد مما ذكر ليس يوما واحدا بل هو أيام متعددة، وكذا يقال في شدة الحر والبرد.
واعلم أنه لا يجوز التأجيل بالنيروز وما معه إلا إذا علما معا حساب العجم، وإن جهله أحدهما لم يجز.
فرع:
قال في رسم أوله سلف في الحيوان من سماع ابن القاسم من كتاب السلم والآجال: وسئل عن الرجل يبيع كرمه على أن ينقده عشرين دينارا ثم يعطيه ثلث الثمن إذا قطف ثلثه ثم يعطيه البقية إذا قطف الثلثين؟ قال: لا خير فيه وهذا مما لا يعرف متى يقطف الثلث والثلثين، لكن إن شرط عليه إذا قطفه لم أر بذلك بأسا وكأنه جعله مثل الحصاد والجذاذ فيما رأيت، قال ابن رشد: وجه ما ذهب إليه مالك هو أنه إذا سمَّى الثلث والثلثين فقد صرح أنه أراد ثلث ذلك الكرم بعينه وثلثيه وذلك غرر؛ إذ لا يعرف متى يقطف الثلث والثلثين لأنه قد يعجل قطافه وقد يؤخره، وإذا لم يسم جزءا منه وإنما باعه على أن يعطيه ثمنه إذا قطفه كان المعنى عنده أنهم لا يقصدون إلى قطاف ذلك الكرم بعينه، وأنه إنما أراد أن يعطيه الثمن إذا قطفه حين يقطف الناس فجاز البيع عنده، كمن باع إلى الحصاد والجذاذ ولو بين أنه إنما يبيعه منه على أن يعطيه ثمنه إذا قطفه بعينه عجله أو أخره لما جاز البيع. انتهى المراد منه. قاله الحطاب.
وقال بعد جلب نقل: فلم يختلف قول مالك أنه إذا باعه إلى قطافه أن ذلك جائز، ولم يختلف قوله أيضا أنه إذا باعه إلى قطاف نصفه أو ثلثه أنه لا يجوز لأنهما إن أرادا إلى قطاف نصفه أو ثلثه أن لا يتعجل قطاف الناس ولا يتأخر عنه، فالنصف أو الثلث غير مقدر ولا معروف، فربما تنازعا في ذلك وهو لا يعرف إلا بالخرص والتحري، وأجاز أشهب البيع في الوجهين جميعا فهذا تحصيل القول في هذه المسألة. وباللَّه التوفيق. ومراده بالوجهين جميعا ما إذا باعه إلى قطافه أو باعه إلى قطاف نصفه أو ثلثه. انتهى.
إلا أن يقبض ببلد كيومين مستثنى من قوله: "زائد على نصف شهر" يعني أن محل ما مر من قوله: "وأن يوجل بمعلوم زائد على نصف شهر" إنما هو إذا كان على أن يقبض بالبلد الذي وقع فيه البيع؛ وأما إن كان على أن يقبض المسلم فيه ببلد آخر أي غير بلد العقد فإنه لا يشترط نصف شهر بل يكفي أن يكون الأجل ما بين المكانين بشروط خمسة، فإن انخرم واحد منها وجب ضرب الأجل الذي هو نصف شهر. الأولُ: أن يشترط قبضه بمجرد الوصول.
الثاني: أن يكون على مسافة يومين فأكثر.
الثَّالث: أن يشترط في العقد الخروج فورا.
الرابع: أن يعزما على السفر بمجرد الخروج للبر أو للبحر.
الخامس: أن يكون السفر ببر أو بحر بغير ريح.
فأشار إلى الأول بقوله: "إلا أن يقبض" أي يشترط قبضه بمجرد الوصول، وإلى الثاني بقوله:"كيومين"، وإلى الثالث والرابع بقوله: إن خرج حينئذ أي إن خرج عاقد السلم حين العقد بنفسه أو وكيله، وقد كان شرط الخروج على الفور في صلب العقد والخروج يشعر بالعزم، وإلى الخامس بقوله: ببر أو بحر بغير ريح كالمنحدرين يحترز بذلك عما إذا سافر بالريح كالمقلعين فإنه لا يجوز لعدم الانضباط حينئذ، إذ قد يحصل في أقل من يوم فيكون من السلم الحال. قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: واستثنى من قوله: "زائد على نصف شهر" قوله: إلا أن يشترط أن يقبض المسلم فيه ببلد غير بلد العقد على مسافة كيومين أو أكثر ذهابا فقط وإن لم يلفظ بمسافتهما فلا
يحتاج لنصف شهر لمظنة اختلاف سوق البلدين وإن لم يختلفا بالفعل ولا يكفي دون اليومين ولو اختلف السوق بالفعل، خلافا للجزولي. وحينئذ فلابد من تأجيله بنصف شهر، ثم جواز ما مسافته كيومين مقيد بأربعة شروط أحَدُهَا: قبض رأس المال بمجلس العقد أو قربه كما قال الباجي كما مر أول الباب. ثَانِيهَا: اشتراط الخروج ولا يفهم هذا من المص. ثَالِثُهَا: أن يخرج بالفعل كما أشار له بقوله: إن خرج العاقد المسلم إليه، وكذا المسلم إذ الشرط أن يقبض ببلد كيومين حينئذ أي حين العقد بنفسهما أو بوكيلهما أو لكل وكيل في بلد كيومين فرارا من جهالة زمن القبض. رَابعُهَا: أن تكون مسافة كيومين ببر أو بحر بغير ريح كالمنحدرين احترازا من السفر بالريح كالمقلعين فإن ذلك لا يجوز لعدم الانضباط حينئذ؛ إذ قد يحصل في أول يوم فيكون من السلم الحال.
وبما قررنا علم أن قوله: "ببر أو بغير ريح" تعلق "بيومين" لا بخرج فلو قدمه عليه كان أحسن، فإن حصل عائق عن الخروج ورجيَ انكشافه انتظره وإلا خير المسلم إليه في البقاء والفسخ. انتهى. وقال الخرشي: وُجِدَ عندي ما نصه: ولو حصل عذر ومضى الزمن يؤخذ منه في أي مكان ولا عبرة بالعقد الأول. انتهى.
والأشهُرُ بالأهلة يعني أن عقد السلم إذا وقع مؤجلا بالأشهر واحدا أو أكثر فإن ذلك يحسب بالأهلة: فإذا وقع مؤجلا بشهر فإن كان ذلك في أول ليلة منه قبل الفجر فإن الدين يحل بانقضاء ذلك الشهر كان ناقصا أو تاما، فإن وقع البيع بعد انصداع الفجر فلابد من ثلاثين ليلة بأيامها، وكذا الحكم في الشهرين يحسبان بالهلال إن وقع العقد قبل انصداع فجر أول ليلة، فإن وقع بعدد حسب الثاني بالهلال فيكتفَى به ناقصا أو كاملا وتمم الأول من الثالث ثلاثين، وإن وقع بثلاثة فإن كان ذلك في أول الشهر قبل انصداع فجر أول ليلة منه اكتفيَ به وبما بعده من الشهرين، وإن وقع ذلك في أثناء الشهر اكتفي بالثاني والثالث.
وتمم الشهر الأول المنكسر من الشهر الرابع ثلاثين يوما وإن كان تسعة وعشرين، وعلم من كلام المص أنه إذا وقع الأجل بشهرين فأكثر أنه إنما يتمم الأول المنكسر بعد مضي بقية الأشهر ولا يتمم مما يليه، قال عبد الباقي مفسرا للمص: والأشهر في أجل السلم وكذا الشهر والشهران
تحسب بالأهلة إن وقع العقد في أولها، فإن وقع في أثناء شهر من ثلاثة مثلا حسب الثاني والثالث بالهلال وتمم الشهر المنكسر ثلاثين يوما وإن كان تسعة وعشرين، وإنما قال من الرابع لدفع توهم تتميم المنكسر مما يليه لأنه خلاف النقل ولأنه يؤدي لتكرار الكسر في كل ما بقي من الأشهر، وإن وقع بيع السلم بينهما مؤجلا إلى شهر ربيع مثلا حل بأوله أي بأول جزء منه، وهو أول ليلة منه لا برؤيته نهارا قبل الزوال أو بعده. انظر شرح عبد الباقي. وقال الخرشي: يعني أن عقد السلم إذا وقع بينهما مؤجلا إلى شهر ربيع مثلا فإن ذلك جائز، ويحل بأول جزء من ذلك الشهر. انتهى المراد منه.
وفسد عقد السلم إن قال أقضيك فيه أي في ربيع على المقول أي على القول الذي اختاره المازري، قال الشارح: فإن وقع البيع على أن يقضيه في شهر ربيع أو في شهر رمضان مثلا، فقال ابن لبابة: هو أجل مجهول فيفسد البيع حتى يسمى أي وقت من الشهر يقبض فيه، وصحح المازري الفساد لتردده بين أول الشهر ووسطه وآخره، وقال عبد الباقي: وفسد السلم إن قال أقضيك فيه لإجماله على المقول ضعيف والمعتمد قول مالك وابن القاسم لا يفسد ويقضيه وسطه ومثله العام، وإذا قال أقضيك في جل ربيع، فقال ابن نافع: الجل الثلثان أي أو أكثر، وقال المواق: ابن زرقون: إن قال يوفيه في شهر كذا فقال ابن لبابة: هو أجل مجهول، وقال مالك: إنه أجل معلوم، ويكون محل الأجل في وسط الشهر وفي وسط السنة إن قال في سنة كذا. انتهى. وقال بناني عند قول عبد الباقي: والمعتمد قول مالك لخ: هذا هو الذي رجحه ابن رشد في نوازل أصبغ من كتاب النذور: ورجحه أيضا ابن زرب وابن سهل، وعزاه لمالك في المبسوط والعتبية قائلا: يكون محل الأجل في وسط الشهر إذا قال في شهر كذا أو في وسط السنة إذا قال في سنة كذا. انتهى.
لا في اليوم يعني أنه إذا قال أقضيك سلمك في اليوم الفلاني فإن ذلك جائز لخفة الأمر في اليوم ويحل عند طلوع فجره.
وأن يضبط بعادة من كيل أو وزن أو عدد هذا هو الشرط الرابع من شروط السلم السبعة؛ يعني أنه يشترط في عقد السلم أن يكون مضبوطا بعادة بلد العقد من كيل فيما يكال كالحنطة أو وزن
كاللحم والسمن والرطب والبسر في بعض البلاد وفي بعضها بالكيل أو عدد كالرمان والتفاح ببعض البلاد، فقوله:"بعادة" أي عادة محل أهل العقد. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وأن يضبط المسلم فيه بعادته ببلد العقد.
وقيس بخيط نائب قيس ضمير يعود على الرمان، يعني أن الرمانة تقاس بخيط ويضعانه عند أمين. قاله الشارح. وقال عبد الباقي: وقيس بخيط ولو بيع وزنا أي اغتفر قياسه بخيط عند عقد السلم لا أنه يقاس بالفعل؛ إذ هو في الذمة غير موجود حين العقد، فإن ضاع جرى على ما يأتي في الذراع حيث تعذرت معرفته كذا ينبغي.
أو البيض عطف على قوله: "كالرمان" يعني أن البيض يضبط بالعدد ولا يقاس، وفي بعض الشراح: يقاس به قائلا بحذفه من الثاني لدلالة الأول عليه. قاله عبد الباقي.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: لا يسلم في البيض إلا عددا بصفة وهو العرف فيه. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن عقد السلم إذا وقع على ما يعد في العادة كالرمان فإنه لابد أن يقاس بخيط ويضعانه عند أمين، فإن ضاع الخيط جرى على ما يأتي في الذراع حيث تعذر معرفته كذا ينبغي، والظاهر أن اعتبار القياس في الرمان لا يتقيد بأن يكون معدودا بل ولو موزونا لاختلاف الأغراض بالصغر والكبر.
أو بحمل أو جُرزة في كقصيل عطف على من كيل، والمعنى أن المسلم فيه إذا كان مثل القضب والقرط والبقول وما أشبه ذلك فلابد من ضبطه ويكون ضبطه بالأحمال، كأسْلِمُك في ملء هذا الحبل ويوضع تحت يد أمين أو بالجرزة بضم الجيم وسكون الراء بعدها زاي الحزمة من القت ونحوه كما في القاموس، قال عبد الباقي: وعطف على قوله: "من كيل" كما في الشارح قوله: "أو بحمل أو جرزة" بالضم حزمة من القت في كقصيل وبقل وقرط بضم القاف وقضب بفتح القاف وسكون الضاد المعجمة.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: لا بأس بالسلم في القصيل إذا شرط جرزا أو حزما أو أحمالا معروفة، والسلم في ذلك في إبانه والقضب والقرط الأخضر وجعل بعضهم أو بحمل عطفا على بعادة، قال: لأن الحمل والقت ليس له قدر معين في العادة فهو خارج عنها.
لا بفدان يعني أنه لا يصح أن يضبط شيء من ذلك بالفدان، قال في المدونة: ولا يجوز أن يشترط في ذلك فدادين معروفة بصفة طول وعرض ولا يكون السلم في هذا إلا على الأحمال والحزم. ابن يونس: لأنه لو أسلم في القضب فدادين لابد أن يحده فيؤدي ذلك إلى السلم في فدادين معينة.
البَاجِيُّ: وجوز ذلك أشهب أو بتحر يعني أنه يجوز أن يضبط السلم بالتحري، قال عبد الباقي: أو يضبط بتحر مع عدم آلة الوزن لا مع وجودها على المعتمد خلافا لأحمد، وهل معنى التحري أن يقول آخذ منك ما إذا تُحِرِّيَ كان متلبسا بقدر كذا أي آخذ منك قدر كذا تحريا لا تحقيقا، وإلا كان من الضبط بالوزن مثلا؟ أو يأتي به أي بلحم مقدر بعشرة أرطال مثلا ويقع السلم في مثله، ويقول له: أسلمك في كنحوه، فإذا حضر المسلم فيه تحرى له مماثله لا أنه يكال أو يوزن وإلا فسد؟
في ذلك تأويلان الأول لابن أبي زمنين وغير واحد، والثاني لابن زرب، قال أبو الحسن: قال عياض: ذهب ابن أبي زمنين وغير واحد إلى أن معنى التحري هنا أن يقول أسلمك في لحم يكون قدر عشرة أرطال، قال: وكذا الخبز، وقال ابن زرب: إنما معناه أن يعرض عليه قدرا مَّا ويقول آخذ منك قدر هذا كل يوم ويشهد على المثال. قاله بناني. وقوله: "كنحوه" الظاهر أن معنى النحو هنا القدار.
وفسد بمجهول يعني أنه يفسد عقد السلم إن ضبط بمجهول، قال الشارح: يعني أنه إذا وقع التعاقد بين المتبايعين على أن يقضيه المسلم فيه بمكيال مجهول فإن العقد حينئذ يفسخ لفساده، وهذا هو المشهور، وقال أشهب: يكره ذلك في الطعام ابتداء فإن نزل فلا يفسخ عنده، وخفف في المدونة شراء العلف والتبن بمكيال لا يعرفان نسبته من المكيال الجاري بين الناس للضرورة وحيث عدم المكيال، ففي كتاب محمد أن ذلك جائز في اليسير، وعن ابن
(1)
عمران: وفي الكثير أيضا للحاجة.
(1)
كذا في الأصل
وإن نسبه أي المجهول للمعلوم ألغي المجهول واعتبر المعلوم كأسلمك في ملء هذا الوعاء وهو إردب، فالمسلم فيه إردب ولا ينظر للوعاء، ومن المدونة قال ابن القاسم: من أسلم في طعام موصوف إلى أجل معلوم ونقد وشرط قبضه بمكيال عنده أو عند رجل أو بقصعة أو بقدح فالسلم فاسد، وقد قال مالك فيمن اشترى طعاما وشرط قبضه بقدح أو قصعة ليس بمكيال الناس: إن ذلك لا يجوز فكذلك المسلم فيه أو أشد. قاله المواق.
وجاز بذراع رجل معين يعني أنه يجوز أن يضبط المسلم فيه بذراع رجل معين ولابد من رؤية ذراعه لأنه لا يلزم من معرفته معرفة ذراعه، فإن لم يعين الرجل ففي سماع أصبغ: يحملان على ذراع وسط، قال أصبغ: هذا استحسان والقياس الفسخ، فإن خيف غيبة ذي الذراع أخذ قدر ذراعه وجعل بيد عدل إن اتفقا وإلا أخذ كل منهما قيسه عنده، فإن تنازعا في قيسه فكموته ولم يعلم قياس ذراعه ودفن، فإن قرب العقد تحالفا وتفاسخا وعند حلوله القول للمسلم إليه إن أشبه وإلا فالمسلم إن أشبه وإلا حملا على ذراع وسط ولا ينبش عليه، وإن قرب دفنه ليقاس ذراعه. قاله عبد الباقي.
وقال إن محل قوله: "وجاز بذراع رجل معين" حيث لم ينصب الحاكم ذراعا. انتهى. قال بناني: بهذا قيده ابن رشد في رسم البيوع من سماع أصبغ ونقله المواق عنه، وقوله: فإن قرب العقد تحالفا لخ هذا التفصيل نقله ابن عرفة عن ابن يونس. انتهى. وقال المواق في سلمها الثاني: من أسلم في ثياب موصوفة بذراع رجل بعينه إلى أجل جاز إذا أراه الذراع وليؤخذ قياس الذراع عندهما فإذا حل الأجل أخذه بذلك. ابن رشد: هذا إن لم يكن القاضي جعل ذراعا لتبايع الناس فإن نصبه وجب الحكم به ولم يجز اشتراط أجل بعينه كما لا يجوز ترك المكيال المعروف لمكيال مجهول.
كويبة وحفنة يعني أنه يجوز السلم في ويبة وحفنة والواو بمعنى مع، وفي شرط رؤية الحفنة قولان الأول ظاهرها. قاله عبد الباقي. وقال المواق من المدونة: قال مالك: لا بأس ببيع ويبة وحفنة إن أراه الحفنة لأنها تختلف فأرى الذراع بهذه المنزلة. الجوهري: الحفنة ملء الكفين، وفي المدونة: ملء يد واحدة، وفي المحكم: الويبة مكيال معروف. انتهى. وفي القاموس: الويبة اثنان أو أربعة
وعشرون مدا. انتهى. وقال الرهوني: عياض: والويبة عشرون مدا. فهي خمسة آصع. وقال أبو علي ما نصه: والويبة خمسة آصع وهو خلاف ما في القاموس، ونصه: والويبة اثنان أو أربعة وعشرون مدا، فهي على الأول خمسة آصع ونصف وعلى الثاني ستة آصع. انتهى.
وفي الويبات والحفنات قولان يعني أنه لو أسلم في ويبات وحفنات بعدد الويبات أو دونها فإنه في ذلك قولان، فقيل يمنع السلم وقيل لا يمنع بل يصح ويجوز، قال عبد الباقي: محلهما حيث كانت الحفنات بعدد الويبات أو دونها، فإن زادت على عدد الويبات فيظهر الاتفاق على المنع. انتهى. وقال الخرشي: يعني أنه إذا أسلم في ويبات معلومات وشرطا لكل ويبة حفنة، هل يجوز ذلك وهو قول أبي عمران وظاهر الموازية؟ أو يمنع كما هو نقل عياض عن الأكثر وسحنون؟ قولان بناء على تعدد العقد بتعدد المعقود عليه وعدمه. ثم قال عن الأجهوري: مقتضى بناء القولين على تعدد العقد بتعدد المعقود عليه وعدمه يكون محل القولين إذا كانت الحفنات بعدد الويبات أو دونها، وأما لو كانت الحفنات تزيد على عدد الويبات فيظهر من البناء المذكور الاتفاق على المنع لا يقال قد جزم بجواز ويبة وحفنة، لأنا نقول: لما تعددت الحفنات قوي الغرر. وانظر حكم السلم في ويبتين وحفنتين هل هو من موضوع جريان القولين أو هو كويبة وحفنة؟ انتهى.
وقال المواق: ابن يونس: قال بعض شيوخنا: لو اشترى ويبات وشرط لكل ويبة حفنة واحدة لم يجز ذلك. عياض: هذا قول الأكثر وظاهر المدونة الجواز. انتهى. وقال الرهوني: سوى المص بين القولين مع أنه قال في التوضيح ما نصه: وأكثرهم على المنع، ونص سحنون عليه. انتهى.
وأن تبين صفاته التي تختلف بها القيمة في السلم عادة هذا هو الشرط الخامس من شروط السلم يعني أنه يشترط في صحة عقد السلم أن تبين أوصاف المسلم فيه التي تختلف بها قيمته عند التبايعين اختلافا لا يتغابن الناس في مثله عادة أي لا يغتفر الغبن به عند الناس لكثرته، قال عبد الباقي: صوابه الثمن كما اعترض به على ابن الحاجب في تعبيره بقيمة ثم تبعه هنا، وذلك لأن الثمن هو الذي تختلف به الأغراض والرغبات في السلم عادة ببلد السلم، وأما القيمة فتتبع الذوات. انتهى. المازري: الصفة التي تجب الإحاطة بها هي التي يختلف الثمن باختلافها. انتهى. وباختلاف الأغراض عبر ابن عرفة وغير واحد. قاله بناني. وأما الصفات التي لا يختلف
بها الثمن فلا يجب تبيينها، وخص السلم لأنه يغتفر فيه من ترك بعض الأوصاف ما لا يغتفر مثله في بيع النقد ولا ينعكس لأن السلم مستثنى من بيع الغرر، بل ربما كان التعرض للصفات الخاصة في السلم مبطلا له لقوة الغرر. انتهى. نقله التتائي عن ابن عبد السلام. قاله عبد الباقي. وأشعر قوله:"وأن تبين صفاته التي تختلف بها القيمة في السلم عادة" باشتراط علمها لهما ولغيرهما وهو كذلك، وإلا فمتى اختصا بعلمها أدى للنزاع وكانت من النادر والندور يصير به بمنزلة ما لا يمكن وصفه.
ومثل للأوصاف المشترط بيانها بقوله: كالنوع يعني أنه يشترط في المسلم فيه أن يبين نوعه، وقوله:"كالنوع" يحتمل حقيقته كالإنسان والفرس ويحتمل النصف كرومي وحبشي، والجودة والرداءة وبينهما يعني أنه يشترط أن يبين نوع المسلم فيه وجودته ورداءته وتوسطه بين الجودة والرداءة. واعلم أنه لابد من بيان هذه الأمور في المسلم فيه فيبين نوعه وأنه جيد إن كان جيدا ويبين نوعه ورداءته إن كان رديا ونوعه وتوسطه بينهما إن كان متوسطا بين الجودة والرداءة. واللَّه سبحانه أعلم. فهذا يجب في كل مسلم فيه، وأما ما ذكره بعد هذا بواو العطف من الصفات فيختص بما دخلت عليه. قاله عبد الباقي.
واللون في الحيوان والثوب يعني أنه إذا كان المسلم فيه حيوانا أو ثوبا فإنه يجب أن يذكر فيه ما مر ويذكر لونه، قال عبد الباقي: مراده يعني المص أن بيان اللون خاص بهما يعني الحيوان والثوب كما عليه معظم الشراح وبعضهم جعل اللون مما يجب بيانه في كل ما يبين فيه ما قبله وهو ظاهر المص؛ إذ لو كان مراده ما عليه معظم الشراح لقال: وفي الحيوان والثوب اللون أي يزيد فيهما اللون، وشمل الحيوان الرقيقَ كشديد السواد وأحمر وأبيض. انتهى.
وقال المواق: ابن بشير: لا يجوز أن يذكر في السلم من الصفات الخاصة ما يؤدي إلى إعواز الموجود وإنما تذكر صفات يختلف بها ذلك النصف في الغرض والثمن ويعم كثيرا منه عموما، وقد اختلف في السلم على المثال مثل أن يقول له: أسلمك على مثال يريه إياه، فقيل يجوز لأن المقصود منه ذكر الصفات، وقيل يمنع لأن رؤية المثال تفيد المناسبة في الصفات الخاصة، فيؤدي إلى إعواز الوجود، وينبغي أن يكون هذا خلافا في حال إن قصد بالمثال المشابهة في الصفات العامة
جاز لأنه كذكر الصفة، وإن قصد به المشابهة في كل الصفات منع فيذكر في الحيوان النوع والسن والذكورة والأنوثة. انتهى المراد منه. الباجي: لابد من وصف الطعام بجيد أو ردي أو وسط.
والعسل ومرعاه يعني أنه يذكر في العسل ما مر من الصفات، فيذكر نوعه مصريا أو مغربيا أو زنجيا والجودة والرداءة وبينهما وخاثرا أو رقيقا أو صافيا، ويبين فيه زيادة على ذلك مرعاه قرطا أو غيره كما نص عليه المازري في شرح التلقين، وقوله:"ومرعاه" على حذف مضاف أي مرعى نحله. وقوله: "ومرعاه" يصح فيه الرفع والنصب أي يزاد أو يزيد مرعاه والأولى النصب لقول المؤلف فيما يأتي: "وخصيا وراعيا".
وفي الثمر والحوت يعني أنه يبين الأوصاف الخمسة في الثمر بثاء مثلثة والحوت، فيبين الثمر من أي ضرب ويذكر رداءته وجودته وبينهما ويذكر لونه، ويبين الحوت أي نوعه وجودته ورداءته وبينهما ويذكر لونه من كونه أبيض أو غيره، واعترضه صاحب التكملة بأنه لم ير اشتراط اللون في الحوت أي ولا في الطير وإنما هو في الآدمي والخيل والإبل كما في الجواهر، ويزيد فيهما أي في الحوت والثمر. الناحية والقدر ككون الثمر مدنيا أو غيره وكون الحوت من بحر ملح أو عذب وككون الثمر صغيرا أو كبيرا أو متوسطا وكون الحوت أيضا صغيرا أو كبيرا أو متوسطا، قال الخرشي: ثم إن قوله: "وفي الثمر" بالثاء المثلثة أحسن ليعم الرطب واليابس والنخل وغيره كالخوخ والتفاح، ولو قرئ بالمثناة لم يشمل هذه الأمور مع أن الحكم فيها كذلك.
وعلم مما قررت أن المراد بالناحية المكان الذي يؤخذ منه.
وفي البر وجدته ومِلْئَه يعني أنه يبين الأوصاف الخمسة في البر فيذكر نوعه وجودته ورداءته وبينهما وكونه أبيض أو أحمر، ويزيد على ذلك كونه جديدا وكونه ممتلئا أي ويذكر كونه قديما وكونه ضامرا إن اختلف الثمن بهما عائد على الجديد ومقابله والممتلئ ومقابله فيكون مفيدا للضد، وأما إن لم يختلف الثمن بالجدة والقدم فلا يجب بيانهما، كما أنه إذا لم يختلف الثمن بالامتلاء والضمر بالضم وبضمتين لا يجب البيان لكن يستحب ذلك كما قال ابن فتوح، وهذا الذي ذكر المص من قوله:"إن اختلف الثمن بهما" هو التحقيق.
وسمراءَ ومحمولةً ببلدٍ هُمَا به يعني أنه إذا كان المسلم فيه قمحا فإنه يجب عليه أن يبين كونه سمراء وهي قمح الشام وكونه محمولة أي بيضاء وهي قمح مصر، هذا إذا كان البلد به السمراء والمحمولة ينبتان فيه أو يحملان إليه كمكة والمدينة، ولهذا قال: ولو بالحمل ورد بلو على ابن ابن حبيب القائل: إن كانا يحملان إليه لم يفسد السلم بترك بيانه. الباجي: مقتضى الروايات خلافه. انتهى.
بخلاف مصر فالمحمولة والشام فالسمراء يعني أنه إذا أسلم في حنطة بمصر أو بالشام ولم يسم لا محمولة ولا سمراء، فالمشهور أن السلم صحيح فيهما، ويقضى في مصر بالمحمولة لأنها هي التي بها، ويقضى في الشام بالسمراء لأنها هي التي بها وهذا في الزمن المتقدم لا في زمننا الآن فإنهما موجودتان بكل فلا بد من البيان في البلدين. قاله الخرشي. ونحوه لعبد الباقي، وقال بناني بخلاف مصر، فالمحمولة أي لأنها الغالب بها كما أن الغالب في الشام هو السمراء، وقول عبد الباقي: وهذا في الزمن القديم وأما الآن فهما بهما يعني على السواء ولذا وجب البيان. انتهى.
وقال عبد الباقي: وذكر النوع والجودة والرداءة مغن عن ذكر السمراء والمحمولة. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إن أسلم في الحجاز في حنطة حيث يجتمع السمراء والمحمولة ولم يسم جنسا فالسلم فاسد حتى يسمي سمراء أو محمولة، قال ابن يونس: وسواء بلد ينبت فيه الصنفان أو يحملان إليه لا بد في ذلك من ذكر الجنس خلافا لابن حبيب. انتهى.
ونفي الغلث يعني أنه إذا أسلم في قمح وأطلق ولم يبين هل هو نقي أو غلث فإنه يصح السلم ويقضى للمسلم بقمح نقي، فقوله:"بنفي" أي بانتفاء الغلث بفتح اللام أي يقضى له بقمح نقي. قاله الخرشي. وفي بعض النسخ: ونقي أو غلث بكسر اللام. قال عبد الباقي: وبخلاف نقيٍّ أو متوسط في النقاء أو غلث بكسر اللام فيحسن كما في المتيطي ذكر ذلك، فإن لم يذكر شيئا منه لم يفسد ويحمل على الغالب، وإلا فالوسط كما يأتي في قوله:"وحمل في الجيد والردي على الغالب وإلا فالوسط"، وفي نسخة: نقى بالقاف مصدر، وعطف غلث عليه بأو أي وبخلاف نقى أو غلث فلا يشترط بيانه، بل يحسن ذكره، فإن لم يذكر حمل على الغالب وإلا فالوسط.
وفي الحيوان وسنه والذكورة والسمن وضدهما يعني أنه إذا أسلم في الحيوان ناطقا أو غيره فإنه يذكر فيه النوع والجودة والرداءة والتوسط واللون ويزيد بيان سنه، فيقول جذع أو مراهق أو بالغ مثلا أو سنه سنتان أو ثلاث مثلا وذكورته وضدها وهي أنوثته والسمن وضدها وهو الهزال، قال عبد الباقي: ويذكر في الحيوان ناطقا أو غيره ما مر ويزيد سنه في الرقيق مراهق أو بالغ أو يافع وهو ما دون المراهق وفي غيره جذع أو ثني أو غيره، وقد يستغنى عن ذكره بذكر الجودة وضدها لأن ما صغر سنه من مأكول اللحم جيد، وأما غيره فربما يرغب في كبيره ما لا يرغب في صغيره ويزيد فيه الذكورة والسمن وضديهما. انتهى.
قال المواق: لم أجد لفظ السمن، قال بناني: ذكره أبو الحسن عن جامع الطرر، ونقله المواق عن ابن يونس في اللحم، والحيوانُ مثله. انتهى. قوله: أو يافع وهو ما دون المراهق هذا وإن كان مخالفا لما في النهاية من أن اليافع هو المراهق، ولما في القاموس من أنه من راهق العشرين لكنه موافق لكلام المتيطى، قال في المتيطية: ويقال للمولود حين يولد طفل ثم رضيع ثم فطيم ثم قارح ثم جفر، والأنثى جفرة ثم يافع والأنثى يافعة وقد يقال للأنثى فيعاء وهو ابن ثمان سنين إلى عشر وقيل إلى اثنتي عشرة، ثم حَزَوَّر ابن عشرة إلى خمس عشرة وقيل ابن أربع عشرة ثم مراهق ثم محتلم ثم أمرد، فإذا بدا في وجهه نبت قيل بقل وجهه بتشديد القاف، ثم حديث السن ثم كهل ثم أشمط ثم أشيب ثم شيخ ثم هرم، وبعد الفيعاء في النساء كاعب وهي التي كعَّب ثديها بتشديد العين وتخفيفها، ثم ناهد إذا شخص ثديها ثم معصر عند دنو الحيض يقال أعصرت الجارية فهي معصر ثم حائض ثم حديثة السن ثم كهلة. قاله بناني.
وفي اللحم وخصيا وراعيا يعني أنه يذكر في اللحم ما تقدم من النوع والجودة والرداءة وبينهما واللون والسن والذكورة والسمن وضديهما، ويزيد كون المأخوذ منه خصيا وراعيا أي سائما، أو كونه معلوفا لا من كجنب يعني أنه لا يشترطأن يعين كون اللحم يؤخذ من جنب أو من رقبة أو فخذ إلا أن تختلف به الأغراض كعرف مصر، لقوله:"وأن تبين صفاته" لخ ثم إن له أن يقضيه من البطن إن جرت عادة بأن البطن كاللحم كما للخمي وابن الحاجب، وكذا على المعتمد إن لم تجر العادة بشيء لا إن جرت بأنه ليس كاللحم فلا يقضيه مما فيها، والمراد بالبطن ما احتوى
عليه من كرش ومصارين إلا الفؤاد فإنه يباع على حدته وكذا الرأس والأكارع. قاله ابن عبد السلام.
وفي الرقيق والقد والبكارة والثيوبة واللون يعني أنه يذكر في الرقيق ما تقدم ويزيد القد أي القدر من طول وقصر وربعة، أو يقال طوله أربعة أشبار مثلا وذكر ابن الحاجب القد في الخيل والإبل وشبههما ويزيد أيضا البكارة والثيوبة واللون الخاص في الرقيق ككونه شديد السواد أو يميل إلى الحمرة أو الصفرة أو شديد البياض أو كونه مشربا بحمرة. قال عبد الباقي: فليس مكررا مع قوله: "واللون في الحيوان". انتهى. قال بناني: قال ابن غازي في أكثر النسخ: بإسقاط اللون هنا لتقدمه في الحيوان الذي هو أعم من الرقيق، وحينئذ فيحمل اللون المتقدم على الخاص ولا يغني عنه ذكر الجنس. وبهذا أجاب في التوضيح. وأما ذكره هنا فموجب للتكرار قطعا؛ لأنه إن حمل على العام أغنَى عنه ذكر الجنس، وإن حمل على الخاص تكرر مع اللون المتقدم، فإن حمل هذا على الخاص والمتقدم على العام كان المتقدم مستغنى عنه بذكر الجنس. واللَّه أعلم. وبه يظهر ما في كلام الزرقاني. انتهى.
وإنما كان ذكر اللون مستغنى عنه بذكر الجنس لأنه النوبة سود والروم بيض والحبشة سمر، فكل جنس له لون معروف.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: يظهر ما قاله المص من الإتيان باللون هنا فيما إذا كان المسلم فيه عبدا من العبيد التلاد. واللَّه سبحانه أعلم. وقال المواق: ابن شأس: يذكر في الإماء البكارة والثيوبة إن كان الثمن يختف بذلك. ابن عرفة: واضح لاختلاف الأغراض بذلك. انتهى.
تنبيه:
قال عبد الباقي: يقال للآدمي الأبيض أحمر اللون وللأنثى حمراء وتصغر على حميراء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة:(يا حميراء)، ولا يوصف بلفظ البياض لأنه في الآدمي البرص، فإن خلط البياض حمرة فأزهر اللون، فإن خلص بياضه فأمهى، فإن لم يخلص فدُرِّيٌّ شبه بلون الدر ودون ذلك أسمر ودون السمرة آدم والأنثى أدماء. انتهى. ويقال في لونه أدمة. انتهى. وفي قوله: ولا يوصف بلفظ البياض لخ نظر لقول أبي طالب في وصف النبي صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ولقول زهير:
أغر أبيض فياض يفكك عن
…
أيدي العناة وعن أعناقها الربقا
قال وكالدعج يعني أن الإمام المازري قال: إنه يزيد في الرقيق الدعج، وأدخلت الكاف الشهولة والكحل والحور والزرقة، قال عبد الباقي: ويزيد كالدعج وهو شدة سواد المعين مع سعتها، ودخل بالكاف الشهلة وهي ميل سوادها إلى الحمرة والكحلة وهي الحور وهو شدة بياضها وشدة سوادها، والكحل بفتحتين وهو أن يعلوَ جفون العينين سواد كالكحل من غير اكتحال، ونص عليه ابن عرفة عن ابن فتحون وغيره، والزرقة وهي ميل سوادها إلى الخضرة. انتهى. وقال الخرشي: قال في مختصر المتيطى: يقال للعين كلها مقلة وهي التي تجمع البياض والسواد، ويقال للسواد الذي في وسط البياض حدقة وفيها الناظر، فإن كان كبير المعين قيل أعين، وإذا كان مع ذلك شديد بياضها شديد سوادها قيل أحور، فإذا كان الأسود خاصة شديدا قيل أدعج، فإن مال السواد إلى حمرة قيل أشهل، فإن قويت حمرته قيل أسمر، فإن كان مائلا إلى الخضرة قيل أزرق، فإن قويت خضرته قيل أملح، فإن كان البياض مائلا إلى الحمرة فهو أشكل، وإن كان العينان بارزتان قيل جاحظ وعكسه غائر العينين، وإن كثر شعر أجفانه وطال قيل أهدب والهدب شعر الأجفان. انتهى.
وتكلثم الوجه عطف على"كالدعج" فهو من مقول المازري، قال الشارح: يعني أن المازري قال إنه يزاد في ذكر صفات الرقيق كالدعج في العينين، وتكلثم الوجه ونحو ذلك مما يختلف فيه الأغراض وذلك ظاهر. انتهى. وقال المواق: امرأة مكلثمة أي ذات وجنتين والكلثمة اجتماع لحم الوجه. انتهى. وقال عبد الباقي: وتكلثم الوجه هو كثرة لحم الخدين والوجه بلا جهومة أي كلح وهو تكشر في عبوسة، ويصف الأنف بالقنا وهو انخفاض وسطه؛ والشمم وهو ارتفاعه، والفطس وهو عرض أرنبته وتطامن قصبته ولون الشعر وسبوطته وجعودته. انتهى.
وفي الثوب والرقة والصفاقة وضديهما يعني أنه إذا أسلم في ثوب فإنه يذكر ما مر ويزيد الرقة وضدها وهو الغلظ والصفاقة وهي المتانة وضدها وهو الخفة، ويذكر الطول والعرض ظاهره ولا يحتاج مع ذلك إلى ذكر الوزن ونحوه في المدونة، ولو قدم المص هذه الأوصاف عند قوله: والثوب استغنى عن إعادة قوله: والثوب لخ. قاله الخرشي. وقوله: "وفي الثوب الرقة" لخ مسألة مستقلة وليس من مقول المازري. قاله عبد الباقي. وقال المواق: الباجي: يذكر في السلم في الثياب اختلاف أصولها من حرير أو قطن أو كتان ويصف صفاقته أو خفته وجنسه، وليس عليه أن يذكر وزنه انتهى.
وفي الزيت المعصر منه يعني أنه إذا أسلم في زيت فإنه يذكر الجنس الذي يعصر منه الزيت زيتونا أو قرطما أو سمسما أو حب فجل أو بزر كتان، ويذكر كونه شاميا أو مغربيا أو نحوه ولم يقل هنا والمعصر منه كما فعل فيما سبق حتى يفهم منه الاحتياج إلى بيان الأوصاف السابقة، إذ لو فعل ذلك لاقتضى أن بيان المعصر منه قدر زائد على ما سبق وليس كذلك إذ ما سبق مندرج فيه إن أريد ببيانه بيان ما تختلف به الأغراض ومساو له إن أريد ببيانه بيان نوعه وجودته ورداءته وبينهما ولونه.
وبما يعصر يعني أنه إذا أسلم في زيت فإنه يجب أن يبين بأي شيء يعصرهذا الزيت المسلم فيه، هل يعصر بالماء أو بالمعصرة؟ قال المواق: ابن حبيب: من أسلم في زيت فليصفه بزيت الماء أو زيت المعصرة. انتهى. وقال الشارح: ابن حبيب: فيذكر مع الصفة زيت الماء أو زيت المعصرة. قال: وإن كان يجمع في بلد واحد زيت بلدان ذكر في أي بلد يأخذ. انتهى. وقال عبد الباقي: الأحسن في كلمة ما أن تكون استفهامية وإثبات ألفها قليل والمراد طلب جواب هذا الاستفهام، ويحتمل أن تكون غير استفهامية وعليه فالباء زاثدة والعائد محذوف. قاله أحمد. أي والذي يعصر به من معصر أو ماء لاختلاف الثمن بذلك، واعترض ابن غازي قوله:"المعصر" بعدم ورود أعصر رباعيا في اللغة إذ الوارد إما خماسي كاعتصر فاسم مفعوله المعتصر بزيادة تاء، وإما ثلاثي كعصر فاسم مفعوله المعصور، ومن الثلاثي قوله تعالى:{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} قيل معناه يشتغلون أي بعصره، وقيل بمعنى يستخرجون ما فيه كما في القاموس وهو المناسب لما هنا، وقيل معناه ينجون
من الضر الذي كان بهم من البأساء والشدة، وفي الجلالين يعصرون الأعناب وغيرها لخصبه. انتهى. وأما قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} فالمعصرات هي السحاب.
وَحُمِلَ فِي الجَيِّدِ وَالرَّدِيِّ عَلَى الغَالِبِ، يعني أنه إذا أسلم في شيء كثوب مروى جيد مثلا فإنه يعتبر في ذلك ما يغلب إطلاق الجيد عليه عند الناس، فإن غلب إطلاق الجيد على أعلى الجيد لزمه أن يقضيه بأعلى الجيد، وإن كان الغالب إطلاق الجيد على أدنى الجيد لزمه أن يقضيه بأدنى الجيد، وإن غلب إطلاق الجيد على وسط الجيد لزمه أن يقضيه بوسط الجيد، وكذا الحكم لو أسلمه في ردي فإنه يلزمه أن يقضيه بالغالبِ إطلاقُ لفظِ الرديِّ عليه، فإن غلب إطلاق لفظ الردي على أعلى الردي قضي بأعلى الردي وعلى وسطه لزم الوسط، وعلى أردى الردي قضي بأردى الردي وليس معنى الغالب ما يغلب وجوده بالبلد، بل معنى الغالب ما يغلب إطلاق اللفظ عليه من الجيد والردي فما تسمية الناس جيدا أو رديا من ذلك فهو المقضي به هذا هو الذي حققه غير واحد.
وإلا يكن غالب بل تساوت أصناف الجيد والردي في التسمية والإطلاق فالوسط أي يعطى المتوسط من الجيد والردي ولا يقضى بالوسط ابتداء، وفي النكاح يقضى به ابتداء وقد يفرق بالمشاحة في البيع دون النكاح. قاله التتائي. قاله عبد الباقي. ونحوه للخرشي. قال الخرشي: فَقَوْلُ السنهوري: وانظر هل المراد الغالب في الموجود أي الأكثر في الموجود أو الغالب في الإطلاق والتسمية. انتهى. قُصُورٌ. انتهى. وكلام المص يفيد أنه لا يشترط تعيين المراد مما يصدق عليه الْحَيّدِ ولا مما يصدق عليه الردي ولا مما يصدق عليه الوسط وهو كذلك، وقد ذكر ابن القصار أنه لابد أن يقول في غاية الجودة أي أو وسطها وإلا فسد السلم وزيَّفه الباجي بأن الغاية غير محصورة؛ وبأنه لا يلزم ذلك في سائر الأوصاف كالطول والقصر والبياض والسواد. انتهى. قاله الخرشي.
وقال المواق: ابن الحاجب: لو اشترط في الجميع الجودة أو الرداءة جاز وحمل على الغالب وإن لم يكن عرف فالوَسَطُ. الباجي: الصواب عندي أن ما دفعه المسلم إليه مما تقع عليه الصفة لزم قبضه ما لم يكن فيه عيب من غير الخلقة المعتادة.
(وَكَوْنُهُ دَيْنًا) هذا هو الشرط السادس من شروط السلم؛ يعني أنه يشترط في المسلم فيه أن يكون دينا في الذمة أي يشترط أن يكون المسلم فيه لا يشار إليه بعينه، بل يكون موصوفا في ذمة المسلم إليه؛ لأنه إذا كان معينا في غير ملك البائع فالغرر ظاهر، وإن كان في ملكه فبقاؤه على تلك الصفة غير معلوم، ولأنه يلزم منه الضمان بجعل لأن المسلم يزيد في الثمن ليضمن له المسلم إليه، ولأنه إن لم ينقد الثمن اختل شرط السلم وإن نقده كان دائرا بين الثمن إن لم يهلك والسلف إن هلك، فَإِنْ قِيلَ: من البياعات ما يجوز بيعه على أن يقبضه بعد شهر فلم لا أجيز هنا كذلك؟ قِيلَ: هذا إنما هو في المبيع وكلامنا في المسلم، فَإِنْ قِيلَ قد أجاز ابن القاسم كراء الدابة المعينة تقبض بعد شهرين ويلزم عليه جواز السلم في معين إلى أجل، قِيلَ الفرق أن الدابة المعينة ضمانها من المبتاع بالعقد، فإن اشترط تأخيرها كان ضمانها من البائع فيلزم ضمان بجعل، بخلاف منافع العين فإن ضمانها من ربها فلم يشترط إلا ما وجب عليه. انتهى. نقله بناني عن التوضيح. لكن قول التوضيح في الجواب الأول هذا إنما هو في البيع لخ يقال عليه إن المنع في السلم إنما هو لكونه يئول إلى بيع معين يتأخر قبضه، ففي التفريق بينهما نظر. ويُجَابُ واللَّه أعلم بأن مراده أن الضمان في البيع من المشتري فليس فيه ضمان بجعل، بخلاف السلم.
وَحَاصِلُ ما يفيده كلام التوضيح والناصر اللقاني في الفرق بين السلم وبين الصورتين أن محل المنع حيث يكون ضمان المبيع من المشتري أصالة وينقل إلى البائع، وهذا مفقود في الصورتين لكون الضمان في صورة (البيع)
(1)
باقيا من المشتري لم ينتقل، وفي صورة الكراء الضمان من البائع أي المكري أصالة فلم يشترط إلا ما وجب عليه. واللَّه أعلم. قاله بناني.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: إياك أيها الناظر لهذا المحل أن تأخذ منه أنه يجوز بيع معين يتأخر قبضه حيث اشترط الضمان على مشتريه فإنه سيأتي قول المص: "وبيعها واستثناء ركوبها" الثلاث لا جععة وكره المتوسط فإن الضمان من المشتري في المدة الجائزة والمكروهة، ومن
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 271.
البائع في الجمعة لفسادها فهذا يفيد أنه لا تجوز الجمعة ولو اشترطوا الضمان من المبتاع فإنه لا ينتقل عن البائع. واللَّه سبحانه أعلم.
تنبيه:
قد مر أنه يشترط في المسلم فيه أن يكون دينا أي في الذمة فاحتيج إلى بيان معنى الذمة، وعرفها القرافي بقوله: هي معنى شرعي مقدر في الكلف قابل للالتزام واللزوم أي الإلزام. قوله معنى شرعي أي يستفاد من الشرع فهو أمر اعتباري حكم به الشرع وقدر وجوده في المحل، وقوله: قابل لخ الإسناد فيه مجازي أي يقبل المكلف بسببه أن يلزم بأروش الجنايات وأجور الإجارات وأثمان البياعات ونحو ذلك، ويقبل أيضا بسببه الالتزام للأشياء، فإذا التزم شيئا اختيارا من قبل نفسه لزمه. فقوله: واللزوم وهو مصدر ثلاثي لكنه هنا بمعنى مصدر الرباعي كما مر، قال القرافي بعد هذا التعريف: وهذا المعنى جعله الشرع مسببا عن أشياء البلوغ والرشد، فمن بلغ سفيها لا ذمة له وترك الحجر كما في الفلس، فمن اجتمعت له هذه الشروط رتب الشرع عليه هذا المعنى المقدر وهو الذي تقدر فيه الأجناس المسلم فيها مستقرة حتى يصح مقابلتها بالأعواض المقبوضة، وفيه تقدر أثمان المبيعات وصدُقات الأنكحة وسائر الديون، ومن لا يكون هذا المعنى مقدرا في حقه لا ينعقد في حقه سلم ولا ثمن إلى أجل ولا حوالة ولا حمالة ولا شيء من ذلك. انتهى باختصار.
وقال ابن الشاط في حاشية الفروق: الأولى عندي أن يقال إن الذمة قبول الإنسان شرعا للزوم الحقوق دون التزامها، وعلى هذا يكون للصبي ذمة لأنه تلزمه أروش الجنايات وقيم المتلفات، أو يقال [الذمة]
(1)
قبول الإنسان شرعا للزوم الحقوق والتزامها فعلى هذا يكون للصبي ذمة. انتهى. فقوله في الأول دون التزامها أي دون اشتراط قبول الالتزام: أي فليس هو عنده شرطا. والفرق بينه وبين ما للقرافي أن القبول المذكور على ما للقرافي ناشئ عن الذمة ومسبب عنها، وعلى ما لابن الشاط هو عينها واختار ذلك لعدم ارتضائه ما يقتضيه التعريف الأول من التقادير الشرعية.
(1)
في الأصل للذمة والمثبت من بناني ج 5 ص 216.
قال الشيخ المُسناوي: واثبات الذمة للصبي لما ذكره من الدليل صحيح في الجملة لقول ابن عرفة في باب الغصب ما نصه: وفيها من أودعته حنطة فخلطها صبي أجنبي بشعير للمودع ضمن الصبي ذلك في ماله، فإن لم يكن له مال ففي ذمته، ثم قال بعد أن ذكر عن ابن رشد حكم جناية غير المميز من صبي ومجنون ما نصه: الصقلي: والصبي المميز ضامن للمال في ذمته والدماء على حكم الخطإ والكبير المولى عليه في جنايته كالمالك أمر نفسه. انتهى كلام ابن عرفة. ونحوه لابن الحاجب والتوضيح في الدماء، وذلك صريح في إثبات الذمة للصبي أي وصريح فيما قاله ابن الشاط وهو اتفاق في المميز وعلى الراجح في غيره كما قاله ابن عبد السلام والتوضيح، وعليه فلا يشترط في الذمة التمييز فضلا عن التكليف. انظر تأليف العلامة أبي عبد اللَّه المسناوي المسمى: صرف الهمة إلى تحقيق معنى الذمة. انظر حاشية الشيخ محمد بن الحسن.
ونظم ابن عاصم تعريف القرافي فقال:
والشرح للذمة وصف قاما
…
يقبل الالتزام والإلزاما
وعرف ابن عبد السلام الذمة بأنها: أمر تقديري يفرضه الذهن وليس ذاتا ولا صفة لها، قال: فيقدر المبيع وما في معناه من الأثمان كأنه (في)
(1)
وعاء عند من هو مطلوب به، فالذمة هي الأمر التقديري الذي يحوي ذلك المبيع أو عوضه. انتهى. ومن تأمل علم أن ما أورد عليه ابن عرفة غير وارد عليه واللَّه سبحانه أعلم.
ونظم الشيخ ميارة نحو ما لابن عبد السلام، فقال:
والشرح للذمة ظرف قدرا
…
عند المدين فيه ما قد أنظرا
وعرفها ابن عرفة واعترض الرصاع تعريفه، واعتراضه عليه ظاهر بين. واللَّه سبحانه أعلم. وقوله: وكونه دينا، قال الباجي: لا خلاف أن من شرط السلم أن يكون متعلقا بالذمة. قاله المواق.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 217.
ووجوده عند حلوله هذا هو الشرط السابع من شروط السلم؛ يعني أنه يشترط في صحة السلم أن يكون المسلم فيه يغلب وجوده عند حلول أجل المسلم فيه أي يشترط كونه مقدورا على تحصيله عند حلول الأجل، قال عبد الباقي: والشرط السابع وجوده أي المسلم فيه غالبا أي كونه مقدورا على تحصيله عند حلوله أي حلول أجله المعين بينهما. انتهى. وقال الحطاب: قال الشارح: ينبغي أن يكون مراده بالوجود كونه مقدورا على تحصيله عند حلول السلم، قلت: وهو كذلك، وينبغي أن يؤيد بقيد آخر وهو أن المعتبر كونه مقدورا عليه في الغالب، قال ابن الحاجب: الرابع أن يكون مقدورا على تحصيله غالبا وقت حلوله ليلا يكون تارة سلفا وتارة ثمنا. وقوله: غالبا أي فلا يعتبر عدمه نادرا؛ لأن الغالب في الشرع كالمحقق. انتهى. وقوله: "ووجوده عند حلوله" هو آخر شروط السلم السبعة.
وإن انقطع قبله يعني أنه يجوز أن يسلم فيما له إبان بشرط أن يكون حلول المسلم فيه عند الإبان ولا يضر الانقطاع قبل الإبان، لأن وجوده في الإبان غالب وانقطاعه عنده نادر والنادر لا حكم له، وإيضاح كلام المص أنه لا يشترط دوام المسلم فيه من حين السلم إلى حلوله، بل يجوز أن يسلم فيما يوجد عند الحلول وإن كان ينقطع قبل ذلك ويوجد عند الحلول، خلافا لأبي حنيفة الذي يشترط دوام وجوده من حين العقد إلى حين الحلول لاحتمال الموت والفلس ولم يعتبر أصحابنا ذلك لندوره. قاله الشارح.
وقال الحطاب: قال ابن الحاجب: ولا يضره الانقطاع قبله أو بعده، قال في (التوضيح: ولا بعده)
(1)
كالأشياء التي لها إبان، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله في اشتراط وجوده من حين السلم فيه إلى حين حلوله لاحتمال الموت والفلس. قال في التوضيح: ولم يعتبر أصحابنا ذلك لأنه من الأمور النادرة، فلو مات المسلم إليه قبل الإبان وقف قسم التركة إليه. قال ابن رشد: إنما يوقف إن خيف أن يستغرقها ما عليه من السلم، وإن قل وكثرت وقف قدر ما يرى أنه يفي بالسلم وقسم ما سواه، إلا على رواية أشهب أن القسم لا يجوز
(1)
في الحطاب ج 5 ص 355 ط دار الرضوان، والتوضيح ج 6 ص 34: أي قبل حلوله ولا بعده.
وعلى الميت دين وإن كان يسيرا. انتهى. وإن كان عليه ديون ضرب للمسلم إليه بقيمة ذلك الشيء في وقته على ما يعرف في أغلب الأحوال من غلاء أو رخص، ويوقف ما صار له في المحاصة حتى يأتي الإبان فيشترى له ما أسلم فيه، فإن نقص ذلك اتبع ذمة الميت إن طرأ له مال، وإن زاد لم يشتر له إلا قدر حقه وترد البقية إلى من يستحق ذلك من وارث أو مديان، ولو هلك ما وقف له في حال الوقف لكان من المسلم إليه لأنه له نماهْ. فعليه تواهْ.
قال الحطاب: ولم يحكم في هذه المسألة بما قاله ابن القاسم فيما وقف للغرماء من مال المفلس، ولعل ذلك أن مسألة السلم لم يحل الأجل فيها لكون الإبان لم يأت، فلم يتمكن المشتري من حقه بوجه ولو حل الأجل لجرى فيها حكم ما وقف للغرماء. انتهى كلام الحطاب.
لا نسل حيوان عين وقل يعني أنه لا يجوز السلم في نسل حيوان عين وقل للتردد بين السلفية والثمنية. قاله بناني. قال عبد الباقي: وتبع في قيد القلة ابْنَ الحاجب وابْنَ شأس، وتعقبه ابن عرفة بأن ظاهر المدونة المنع مطلقا، وقال المواق من المدونة: لا يجوز السلم في نسل حيوان بعينه. اللخمي: لأنه إن لم يوجد بتلك الصفة كان رأس الماء سلفا ويكون بيعا إن وجد بتلك الصفة، واحترز بقوله:"قل" عما لو كثر. قال ابن شأس: لو كان في نسل أنعام كثيرة لا يتعذر الشراء منها جاز. قاله المواق.
وحائط يعني أنه لا يجوز السلم في ثمر حائط بعينه قال ابن عاشر ومصطفى: لم يقيد في المدونة الحائط بالصغر ولا غيرها ممن وقفت عليه، وظاهر كلامهم أو صريحه أن الحائط قليل وإن كان كثيرا في نفسه وهو مراد المص. قاله بناني. وقال عبد الباقي: ثمر الحائط المذكور لا يتعلق به العقد علي وجه السلم الحقيقي، والعقد المتعلق به إنما هو بيع حقيقة فيجري على حكمه.
وبما قررناه علم أنه لا تنافي بين قوله: "وحائط" أي لا يسلم فيه سلما حقيقيا، وبين قوله: وشرط إن سميَ سلما لا بيعا إزهاؤه وسعة الحائط وكيفية قبضه يعني أن الشخص إذا اشترى ثمر حائط معين، فإن كان بلفظ السلم اشترط فيه جميع الشروط الآتية، وإن كان بلفظ البيع اشترطت أيضا ما عدا كيفية القبض وهذه التفرقة نظرا للفظ، وإلا فهو بيع في الحقيقة لأن الفرض أن الحائط معين فمما يشترط إذا سمي بيعا أو سلما الإزهاء للنهي عن بيع الثمر قبل الزهو والزهو في كل
شيء بحسبه، ومما يشترط فيهما أيضا سعة الحائط بحيث يمكن استيفاء القدر المشترى منه، فهذان الشرطان لابد منهما لفظوا بالبيع أو بالسلم، ومما يشترط فيهما إذا وقع ذلك بلفظ السلم كيفية قبضه متواليا أو مفترقا، وقدر ما يؤخذ كل يوم وهذه الثلاثة هي معنى كيفية قبضه لا أنها شروط ثلاثة، فإن سمي بيعا لم يشترط ذلك وحمل على الحلول، وعبر المص بالإزهاء دون الزهو ردا على الأصمعي في إنكاره الإزهاء قائلا: إنما يقال زها لا أزهى، قال عبد الباقي: وطيب غير النخل كإزهائه وإن كان لا يجري فيه قوله: وأخذه بسرا أو رطبا، ويشترط فيهما أيضا أن يسلم لمالكه أي لمالك الحائط؛ إذ قد لا يجيز المالك البيع فيتعذر التسليم فهو من الغرر.
ويشترط فيهما أيضا شروعه في الأخذ حين العقد بل وإن تأخر الشروع لنصف شهر فقط لا أزيد على المعتمد. واعلم أنه إن لم يبين كيفية القبض ولفظ بالسلم فسد العقد، وفي كلام عبد الباقي نظر. وأخذه بسرا أو رطبا يعني أنه يشترط أيضا فيهما أن يأخذ الثمر بسرا أو رطبا أي انتهاء أخذه وزيد سابع وهو اشتراط أخذه كذلك على المعتمد خلافا لأحمد، فلا يكفي الأخذ من غير شرط ولا هو من غير أخذ لا أخذه تمرا أو شرط ذلك فلا يجوز لبعد ما بينه وبين المشترى حين الإزهاء وقرب البسر أو الرطب منه، ومحل هذا الشرط حيث وقع العقد بمعياره فإن وقع عليه جزافا فله إبقاؤه إلى أن يتتمر؛ لأن الجزاف قد تناوله العقد على ما هو عليه وقد سلمه المبتاع، بدليل أنه لو أراد بيعه لم يمنع ولم يبق على البائع فيه إلا ضمان الجوائح، ولا يشترط في مسألة المص حذه تقديم رأس مال وإن سمي سلما لأنه مجاز، نعم يشترط كون رأسه غير طعام وضبطه بعادته ولمالكه المعطوف محذوف أي وإسلامه، فهذه شروط سبعة ذكر المص منها ستة وهي جارية في التلفظ بالبيع والسلم، إلا كيفية القبض فخاصة بالتلفظ بالسلم كما مر. فإن شرط تتمر الرطب مضى بقبضه يعني أنه إذا كان ثمر الحائط المذكور رطبا وشرط أنه يبقى على الشجر حتى يتتمر فإن ذلك لا يجوز، لكنه يمضي بقبضه ولو قبل تتمره، قال عبد الباقي: فإن شرط تتمر ما وقع عليه العقد من الرطب شرطا صحيحا
(1)
أو التزاما كما لو اشترط في كيفية قبضه أياما يصير
(1)
في عبد الباقي ج 5 ص 218: صريحا.
فيها تمرا مضى بقبضه ولو قبل تتمره ولم يفسخ لأنه ليس من الحرام البين. قاله في المدونة. ومثله إذا يبس قبل الاطلاع عليه، وعلم من المص هنا ومما ذكرنا عن المدونة أن الشروط الخمسة السابقة للصحة والسادس للجواز.
وهل المزهي؟ وهو ما لم يرطب بدليل المقابلة فيشمل البسر كذلك يمضي بقبضه إذا ابتاعه مزهيا أو بسرا أو شرط قبضه تمرا، وعليه الأكثر من الشيوخ وحملوا عليه المدونة أو لا يمضي بالقبض، بل هو كالبيع الفاسد يرد ولو قبض إلا بمُفوّت البيع الفاسد، والفرق أن التمر من الرطب قريب ومن الزهو بعيد، وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، الأول هو الذي عليه الأكثر من الشيوخ وحملوا عليه المدونة وهو في الواضحة، والثاني هو الذي ذهب إليه ابن شبلون وغيره وتأول عليه المدونة، وقال الشارح مفسرا للمص: يعني فإن وقع المبيع من المتبايعين بشرط البقاء إلى تتمر الرطب، يريد وقد وقع العقد عليه حال كونه رطبا، فإن غفل عنه حتى قبضه تمرا قبل أن يطلع على فساده مضى، وهو مراده بقوله:"بقبضه" ولا خلاف فيه، وكذلك يمضي عند ابن القاسم إذا غفل عنه حتى يبس، واختلف إذا وقع العقد عليه وهو مُزْهٍ فاشترط تأخيره إلى التتمر هل يمضي بقبضه؟ -كما في الرطب وإليه ذهب أكثر الأشياخ وحملوا المدونة عليه وفي الواضحة مثل ذلك أنه يفسخ ما لم يقبض- أو يفسخ مطلقا ولا يفوت إلا بما يفوت به البيع الفاسد؟ وإليه ذهب ابن شبلون وغيره وتأول المدونة عليه، وإلى هذا الاختلاف أشار بالتأويلين. انتهى.
وقال أبو محمد: يكره ذلك ابتداء، فإن نزل وفات مضى، ومثله في كتاب محمدٍ، ابنُ يونس وهذا هو الصواب، كقوله في الزرع وقد أفرك وشرط أخذه حبا فقد جعله إذا فات مضى فكذلك هذا، وقال في المدونة: فلو اشترى الثمرة جزافا بعد أن طابت جاز تركها حتى تيبس والسقي على البائع. نقله المواق.
فإن انقطع رجع بحصة ما بقي يعني أنه إذا انقطع ثمر الحائط المعين بجائحة أو بعيب أو أكل أهله بعد قبض بعضه لزمه ما قبضه منه بحصته من الثمن، وانفسخ العقد ورجع المسلم بحصة ما بقي له من الثمن اتفاقا، قال بناني: قال مصطفى: تعبيره بالانقطاع كالمدونة ظاهر في انقطاع إبانه؛ وكذا لو تلف بجائحة والمدار على عدم القبض، وإنما وجب الرجوع لأنه معين والمعين
يفسخ البيع بتلفه، قال ابن عبد السلام: لأن المبيع في هذه المسألة معين فيكون حكمه حكم سائر المعينات وليس من السلم في شيء، ولذا قال في المدونة: إذا قبض بعض سلمه ثم انقطع ثمر ذلك الحائط لزمه ما أخذه بحصته من الثمن ورجع بحصة ما بقي ولا يختلف في هذا كما اختلف في المضمون إذا انقطع إبانه قبل استيفاء السلم، فَقوْلُ الأجهوري ومن تبعه هذا إذا كان الانقطاع بجائحة، وأما بفوات الإبان فسيأتي حكمه وَهَم لأن ما يأتي في المضمون وما في حكمه من القرية المأمونة فتأمله. انتهى.
وقال عبد الباقي عند قوله: "رجع بحصة ما بقي" ما نصه: عاجلا ولا يجوز له البقاء إلى قابل لأنه غير مضمون وليلا يلزم فسخ دين في دين وله أن يأخذ بباقي الثمن شيئا ولو طعاما، وليس فيه (اقتضاء الطعام عن ثمن الطعام طعاما)
(1)
؛ لأن ما يأخذه من طعام ليس ثمنا لطعام بل هو رجوع في شيئه لفسخ المبيع في الانقطاع. انتهى.
قال بناني: قوله رجع بحصة ما بقى له من الثمن اتفاقا عاجلا لخ تبع للتتائي، وظاهره أن تعجيل الرجوع بما بقي واجب وأنه من حق اللَّه تعالى وليس كذلك، وعبارة ابن يونس كما في المواق: ورجع بحصة ما بقي من الثمن معجلا بالقضاء. انتهى. ومعناه أنه إن طلب تعجيله يقضى له به أي وله أن يؤخره لأن ذلك من حقه ولا محذور فيه، وإنما منع من البقاء إلى قابل لأنه كما قال اللخمي: إذا منع أن يسلم فيها في هذا العام إلا بعد بدو صلاحها لأنه غرر كان في الصبر إلى قابل أشد غررا. انتهى. وقوله: وله أن يأخذ بباقي الثمن شيئا أي ولا يؤخر ما يأخذ، قال ابن القاسم: فإن تأخر قبض ما يأخذ بحصة ما بقي لم يجز وكان فسخ الدين في الدين. انتهى. من المواق.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: قد مر أنه إذا انقطع بأكل أهله يرجع بحصة ما بقي كما لو انقطع بسماوي، وتأمله مع قوله:"وإتلاف البائع" لخ فإنه ينفسخ العقد في المسألتين في التلف بسماوي
(1)
عبارة عبد الباقي وليس فيه الاقتضاء عن ثمن الطعام طعاما.
وفي الأولى لا ينفسخ بإتلاف البائع بخلافه هنا، فلم يجعل الثمر في الشجر كغيره. واللَّه تعالى أعلم.
وهل على القيمة وعليه الأكثر يعني أنه إذا قبض بعض الثمن وانقطع ثمر الحائط قبل قبض البعض الآخر فإنه يرجع بحصة ما بقي له من الثمن اتفاقا كما عرفت، فالمذهب كله على الرجوع بحصة ما بقي؛ ولكن اختلف في كيفية الرجوع فقيل إنه يرجع على القيمة فينظر لقيمة كل مما قبض ومما لم يقبض في وقته، ويفض الثمن على ذلك وعليه الأكثر من الأشياخ، ويأتي في كيفية تقويمه ما مر من النظر لقيمة ما قبض في زمنه، وقيمة ما لم يقبض في زمنه ثم ينسب قيمة ما لم يقبض لقيمة ما قبض وما لم يقبض أن لو قبض، وبتلك النسبة يرجع من الثمن مثاله اشتراه بستين دينارا مثلا وقبض منه مكيلة قيمتها ستون وقيمة ما لم يقبض أن لو قبض عشرون، فَتَضُمُّ القيمتين ثم تنسب العشرين إلى الثمانين تكون ربعا فيأخذ من الثمن بتلك النسبة فيرجع بربع الستين. كذا يفيده أحمد. إلا أنه قال: فتنسب قيمة الأخوذ لقيمة الباقي، والصواب فتضم قيمة المأخوذ لقيمة الباقي ثم تنسب قيمة الباقي للمجموع، ومثاله يفيد ذلك. قاله عبد الباقي.
أو على المكيلة يعني أنه قيل إنه لا يرجع على القيمة وإنما يرجع على حسب المكيلة فينظر لا وقع عليه العقد من وسقين مثلا، قبض منهما وسقا وبقي واحد ونسبة الواحد إلى اثنين نصف فيرجع بنصف الثمن. وهكذا. تأويلان الأول للقابسي والثاني لابن مزين، قال عبد الباقي: ومحل التأويلين إذا أسلم على أن يأخذ المسلم فيه شيئا فشيئا وأما إن أسلم على أن يأخذ الجميع في يومين أو يوم واحد فإنه يرجع بحسب المكيلة اتفاقا. انظر أحمد والتتائي. قال الرهوني بعد جلب كثير من النقول ما نصه: وبهذا تعلم أن تعبير المص بتأويلان هو الصواب لا ما صوبة مصطفى وإن سلمه بناني، ثم قال: وما جزم به ابن يونس ومن تبعه من مخالفة ابن مزين للقابسي مخالف للباجي واللخمي، ثم جلب كلامهما.
وحاصل ما قال أن محل كلام القابسي حيث أسلم على أنه يأخذ المسلم فيه شيئا فشيئا، فإن كان على أن يأخذه في يوم أو يومين فإنه يرجع على حسب المكيلة، وأن محل كلام ابن مزين حيث شرطا أخذ الثمن في يوم أو يومين، فإن بعد ما بين أول القبض وآخره رجع على القيمة،
قال: وما فهمه الباجي واللخمي هو ظاهر اللفظ. انتهى. وقال الرهوني عن ابن مزين: وإنما ينظر إلى القيمة في لبن غنم بعينها جزافا أياما معدودة ثم تموت أو بعضها. انتهى. وقال الرهوني أيضا: قول عبد الباقي: فإن لم يكن دفع رأس الماء للمسلم إليه جاز له البقاء لخ غير صحيح؛ لأنه إن أراد البقاء إلى قابل على أن يعطيه من ثمر ذلك الحائط بعينه فمنع ذلك أحروي، وإن أراد أنه يعطيه نحوه على أنه في ذمته فهو سلم حقيقي يمنع إن تأخر رأس المال أكثر من ثلاثة أيام، ويجوز إن توفرت شروط السلم كلها. واللَّه أعلم.
وهل القرية الصغيرة كذلك؟ يعني أنه إذا أسلم في ثمر قرية صغيرة وهي ما لا يوجد فيها المسلم فيه جميع أزمانه التي يوجد فيها من السنة، هل يكون الحكم حينئذ حكم ما إذا أسلم في ثمر حائط معين فيشترط فيها ما يشترط فيه من كل وجه فلا يجوز السلم إلا بعد بدو صلاحها وسعتها وكيفية قبضها، وأن يسلم لمالكها إلى آخر الشروط وهو تأويل عبد الحق وعياض، قال: وهو ظاهرها أوْ هي كهو من كل وجه إلا في وجوب تعجيل النقد فيها بخلاف الحائط فإنه لا يجب تعجيل النقد فيه، بل يجوز تعجيله وتأجيله لأن القرية لما كانت تشتمل على حوائط وجهات يتميز بعضها من بعض لا يدري المسلم من أيها يأخذ سلمه، كان المسلَم فيه مضمونا في الذمة والحائط ليس كذلك أو هي كهو من كل وجه، إلا أنها تخالف أي الحائط فيه أي في وجوب تعجيل النقد فيها وتخالفه أيضا في جواز السلم فيها لمن لا ملك له فيها دون الحائط، قال عبد الباقي: وهل القرية الصغيرة وهي ما ينقطع ثمرها في بعض إبانه من السنة كذلك يشترط في السلم فيها الشروط السابقة في الحائط المعين، أو هي مثله إلا في وجوب تعجيل النقد أي رأس مال السلم حقيقة أو تأخيره ثلاثا ولو بشرط فيها لأن السلم فيها مضمون في الذمة لاشتمالها على حوائط، بخلاف السلم في حائط فلا يجب تعجيل النقد فيه بل يجوز تأخيره أكثر من ثلاثة أيام لأنه بيع معين وتسميته سلما مجاز، وانظر هل جواز التقديم ولو مع الشرط أم لا؟ انتهى. قوله: وانظر هل جواز التقديم لخ كلام مختل إذ الذي في كلام المص تبعا لأصحاب هذا التأويل وجوب التقديم لا جوازه، وبعد حكمنا بوجوبه لا معنى للتوقف في جواز اشتراط تعجيله. فتأمله. قاله الرهوني.
تَأوِيلَاتٌ
قال بناني: الأول لظاهر المدونة والثاني لأبي محمد والثالث لبعض القرويين. انتهى. قال الرهوني: تبع السنهوري في نسبة الثاني لأبي محمد وهو خلاف ما في المواق وأبي علي عن ابن يونس من موافقة أبي محمد لبعض القرويين، فلو أبدل أبا محمد بأبي عمران لسلم من الاعتراض. واللَّه أعلم.
وَلَمَّا أنهى الكلام على انقطاع ثمر الحائط وأنه لا يجوز التأخير فيه لانفساخ العقد لعدم تعلقه بالذمة؛ شَرَعَ يتكلم على انقطاع ما كان في الذمة أو شبهه فَقَالَ: وإن انقطع ماله إبان أو من قرية خير المشتري في الفسخ والإبقاء يعني أنه إذا أسلم في شيء له إبان ثم انقطع قبل قبض بعضه أو أسلم في ثمر قرية مأمونة صغيرة كانت أو كبيرة ثم انقطع قبل قبض بعضه، فإن المشتريَ وهو المسلِم يخير بين فسخ السلم والإبقاء إلى قابل فيأخذ المسلَم فيه إلا أن يغفل عن ذلك حتى أتى العام القابل فلا خيار له. قال بناني: قال مصطفى: الصواب حمل هذا على السلم الحقيقي وهو السلم في الذمة في غير الحائط بعينه وغير قرية، وقوله:"أو من قرية" هي القرية المأمونة صغيرة كانت أو كبيرة وتبقى القرية غير المأمونة مسكوتا عنها أو داخلة تحت حكم التشبيه في قوله: "وهل القرية الصغيرة" لخ فيتحتم في قطع ثمرها الفسخ كما في الحائط المعين ولو كان بالجائحة كما عند اللخمي، وأما الحائط المعين فلا يدخل هنا بحال خلافا للأجهوري، بل يتعين فيه الفسخ اتفاقا. حكاه اللخمي وابن يونس وغيرهما كما في التوضيح. انتهى.
وقوله: "خير المشتري في الفسخ" أي عن نفسه فيرجع بعين شيئه إن كان المسلم فيه طعاما، ولا يجوز أخذ غيره لا يلزم عليه من بيع الطعام قبل قبضه، قال عبد الباقي: وإن كان التأخير بسبب المشتري فينبغي عدم تخييره لظلمه البائع بالتأخير فتخييره أيضا زيادة ظلم. قاله ابن عبد السلام. ومثله فيما يظهر غفلة كل منهما عن الآخر.
وإن قبض البعض وجب التأخير يعني أنه إذا أسلم في شيء له إبان أو في ثمر قرية مأمونة صغيرة كانت أو كبيرة فانقطع المسلم فيه بعد أن قبض بعضه، فإنه يجب التأخير إلى قابل فيأخذما بقي من المسلم فيه، فمن دعا إلى التأخير لقابل أجيب إليه بائعا أو مشتريا. إلا أن يرضيا بالمحاسبة يعني أن محل وجوب التأخير إنما هو حيث لم يتراضيا على المحاسبة، وأما إن
تراضيا على المحاسبة فإن ذلك جائز، ومعنى المحاسبة أن المسلم يرجع بمناب ما لم يقبض من الثمن ويترك مناب ما قبض من الثمن مثلا للمسلم إليه. واللَّه سبحانه أعلم.
قال عبد الباقي: وإن قبض البعض مما أسلم فيه من ثمر قرية صغير مأمونة أو كبيرة ولا تكون إلا مأمونة وانقطع بجائحة أو بعدم طلب المسلِم المسلَم إليه أو بهروب المسلَم إليه حتى خرج إبان المسلم فيه وجب التأخير بالباقي؛ لأن السلم تعلق بذمة المسلم إليه فلا يبطل ببطلان الأجل كالدين إلا أن يرضيا معا بالمحاسبة وتكون على المكيلة لا على القيمة، ويمنع أخذه ببقية رأس ماله عرضا أو غيره؛ لأنه بيع الطعام قبل قبضه. قاله في التوضيح. ومحل رضاهما بالمحاسبة حيث كان انقطاعه من اللَّه أو بهروب أحدهما حتى فات الإبان، فإن كان بسكوت المشتري عن طلب البائع لم يجز تراضيهما على المحاسبة. انتهى. وقوله:"إلا أن يرضيا بالمحاسبة" هو مذهب المدونة فيما له إبان، وَقِيلَ لا يجوز تراضيهما بالمحاسبة وقِيلَ يفسخ لفوت الأجل، وله أن يأخذ على هذا القول عوض بقية الثمن ناجزا: وقِيلَ تجب المحاسبة ما لم يتراضيا على التأخير عكس ما قال المص وهو لأصبغ وضعف، وقِيلَ إن قبض الأكثر جاز التأخير والمحاسبة، وإن قبض أقل المسلم فيه وجبت المحاسبة.
ولو كان رأس المال مقوما يعني أنه إذا فرعنا على القول الذي مشى عليه المص من جواز تراضيهما على المحاسبة، فإنه لا فرق في ذلك بين أن يكون رأس الماء مثليا وأن يكون مقوما كثياب أو حيوان، فإذا تحاسبا على أن يرد المسلم إليه للمسلم شيئا من ذلك بعينه قيمته قدر ما لم يقبض ويتمسك المسلم إليه بما قيمته من ذلك قدر ما قبض، فإن ذلك جائز. انظر الخرشي. وقال عبد الباقي: ولو كان رأس المال مقوما كثياب وحيوان لجواز الإقالة على غير رأس الماء. وأشار بلو لقول سحنون: لا يجوز إلا إذا كان مثليا ليأمنا من خطإ التقويم. انظر التتائي. ثم تعتبر قيمته لقوله فيما تقدم: "ورجع بالقيمة إن كان الثمن سلعة". قاله أحمد. انتهى.
قوله: لجواز الإقالة على غير رأس الماء يعني أن سحنونا منع الإقالة في المقوم لاحتمال قلة الثوب مثلا عما لم يقبض أو كثرته فتكون المحاسبة إقالة على غير رأس المال، وابن القاسم أجاز هذه الإقالة التي فيها احتمال أنها مخالفة لما لم يقبض ولا يقال إن هذا الشارح يجيز الإقالة على
غير رأس الماء: بل مراده ما ذكرت. وقوله لقوله فيما تقدم ورجع بالقيمة؛ يعني أنه تعتبر القيمة هنا كما عرفت لكن هنا يرجع بعين القوم وما مر يرجع بقيمته لا بعينه. قاله مقيده. واللَّه تعالى أعلم. وقال الخرشي: ومنع سحنون المحاسبة حينئذ إلا أن يكون رأس المال مثليا ليأمنا من الخطإ في التقويم؛ فإنهما إذا اتفقا على رد ثوب بعينه عوضا عما لم يقبض احتمل أن يكون المردود مساويا لما بقي من المسلم فيه، فيجوز أو يكون مخالفا بالقلة والكثرة لأنها إقالة في ذلك الشيء على خلاف رأس المال، اللهم إلا أن يرد من الأثواب جزءا شائعا يكون المشتري شريكا به للبائع فيسلما من الخطإ في التقويم فيجوز باتفاقهما. انتهى.
وقال الخرشي أيضا: وجد عندي ما نصه: والمحاسبة على حسب المكيلة، وقوله:"مقوما" أي حيث كان متعددا وأما المتحد فلا تجوز قولا واحدا لأنها إقالة على غير رأس الماء، ومحل القولين أيضا إذا رَدَّ بعض القوم بعد أن قُوِّمَ، وأما لو رد جزءا شائعا لجاز قولا واحدا. انتهى.
وَتَحَصَّلَ مما مر ثلاثة أمور: السَّلَمُ في ثمر حائط معين وهو المشار إليه بقوله: "وشرط إن سمي سلما" إلخ، ومر أنه إن انقطع الثمر قبل قبض بعضه تعين الفسخ وإن قبض البعض رجع بحصة ما بقي اتفاقا على المكيلة إن شرط الأخذ في مدة لا تختلف فيها القيم أو كان الشأن بيعه جملة واحدة وإلا فالأكثر على القيمة، وقيل على المكيلة أيضا وقد مر ذلك وزيادة. الأمرُ الثَّانِي: السلم في قرية صغيرة غير مأمونة وهل هي كالحائط المعين في كل شيء أو هي كهو إلا في وجوب تعجيل النقد فيها بخلافه هو، أو هي كهو إلا في شيئين وجوب تعجيل النقد فيها وجواز السلم فيها لمن لا ملك له فيها. الأمرُ الثَّالِتُ: يشمل شيئين وهو أن يسلم في شيء له ابان سلما حقيقيا أو في ثمر قرية مأمونة صغيرة أو كبيرة والكبيرة لا تكون إلا مأمونة على ما قال عبد الباقي.
والحكم في هذا الأمر الثالث بقسميه أنه إن انقطع المسلم فيه قبل قبض البعض خير المسلم بكسر اللام في الفسخ والإبقاء إلى قابل، ولا يجوز أخذ شيء بدل الطعام المسلم فيه، وإن كان التأخير بسبب المشتري أي المسلِم فينبغي عدم تخييره كما لو غفل كل منهما عن الآخر، وأما لو انقطع المسلم فيه بعد قبض البعض فإنه يجب التأخير إلا أن يرضيا بالمحاسبة حيث كان الانقطاع من اللَّه تعالى أو بهروب أحدهما حتى فات الإبان، فإن كان بسكوت المشتري عن طلب البائع لم
يجز تراضيهما على المحاسبة بل يجب التأخير. وقوله: "إلا أن يرضيا بالمحاسبة" كان رأس المال مقوما، أو مثليا خلافا لسحنون فيما إذا كان رأس المال مقوما فإنه يجب التأخير عنده ولا يجب تراضيهما على المحاسبة إلا أن يتراضيا على جزء شائع من رأس المال المقوم فتجوز المحاسبة حينئذ باتفاقهما. هذا هو تحرير المسألة. واللَّه تعالى أعلم.
ولما أنهى الكلام على شروط السلم شرع فيما يجوز فيه إذا استكملت تلك الشروط وما لا يجوز فيما إذا اختل شيء منها، فقال: وَيَجُوزُ فِيمَا طُبخَ يعني أنه لا يشترط في المسلم فيه أن يكون ذاتا قائمة على حالها، بل يجوز أن يكون مستهلكا كالمطبوخ. قال عبد الباقي: ويجوز عقد السلم فيما طبخ من الأطعمة إن حصرت صفته، وقال الخرشي: والمعنى أنه لا يشترط في المسلم فيه أن يكون ذاتا قائمة بعينها، بل يجوز أن يكون مستهلكا بشرط أن تحصُره الصفة وأن يوجد عند حلوله، وسواء كان لحما أو غيره. قال في الشامل: وفي الرءوس ما في اللحم ويزيد كونها مشوية أو مغمورة، فإن اعتيد وزنها عمل به ويصح في الأكارع كالرءوس ويصح في المطبوخ منهما وفي اللحم إذا كان يعرف تأثير النار بالعادة وكانت الصفة تحصره. انتهى.
وقال عبد الباقي: وفي بعض النسخ بفاء فصيحة وهي الواقعة في جواب شرط مقدر أو العاطفة على مقدر، وهي أنسب لإفادتها أن هذا مفرع على ما ذكر من الشروط السبعة لاستفادته منها. انتهى. وقال الخرشي: هذه الفاء واقعة في جواب شرط مقدر فهي الفاء الفصيحة على أحد القولين في معناها: وقيل عاطفة على مقدر ونسخة الفاء أنسب لأنها تفيد أن هذا مستفاد مما قبله، ثم قال: وهذه إشارة من المؤلف إلى أنه لا يشترط في المسلم فيه أن يكون ذاتا قائمة بعينها، بل يجوز أن يكون مستهلكا إذا كان يوجد عند حلوله. قال في الشامل: ومن أسلم في لبن غنم بعينها أو صوفها وشرط أخذه فيما قرب فهلك المتبايعان أو أحدهما لزِم البيعُ ورثتَه لأنه بيع قد تم. اللخمي: وجاز السلم فيه في إبانه إن شرط أخذه فيه، فإن كانت ألبان غنم ذلك الموضع لا تختلف بالدناءة والجودة جاز وإن لم يختبر اللبن، وإن كانت تختلف بالجودة والدناءة لم يجز إلا بعد اختباره ومعرفة صفته، فإن نقص عن المعتاد حط بقدره، وإن أضر بها الحلاب جملة فلصاحبها الفسخ
كالكثير إذا أخذها الجدب. قال شارحه: أي إذا أسلم في لبنها أو اشتراه جزافا وأجدبت الأرض وأضربها الحلب فله الفسخ. صح من التبصرة.
ثم قال في الشامل: وجاز في جبن غنم بعينها وزبدها وأقطها في إبانه للعلم به وقيل يكره، قال شارحه: السلم في الأقط والجبن والسمن والزبد جائز على الصفة إذا كان مضمونا ولم يكن في غنم معينة، فإن كان من غنم بأعيانها جاز ذلك في الزبد والجبن لأنه تعلم صفته، واختلف في السمن والأقط فأجازه ابن القاسم وكرهه أشهب. انتهى. انتهى كلام الخرشي. وقد مر أنه يجوز السلم في المطبوخ بشرط أن تحصره الصفة فاحتيج إلى بيان حصر الصفة له.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: بأن يعرف تأثير النار فيه بالعادة، ومر أيضا أنه يشترط وجوده عند حلوله، فإذا وصل بالطبخ إلى حالة لا توجد إلا نادرا فإنه لا يجوز السلم فيه. واللَّه سبحانه أعلم.
واللؤلؤ يعني أنه يجوز السلم في اللؤلؤ واحدته لؤلؤة وجمعه لآلئ، وفيه أربع لغات: لؤلؤ ولولو بغير همز ولؤلو بهمز أوله دون ثانيه وبالعكس. واللؤلؤ هو الدر. والعنبر يعني أنه يجوز السلم في العنبر، والعنبر خُرء دابة في البحر. قال في القاموس: العنبر من الطيب روث دابة بحرية. انتهى. والجوهر يعني أنه يجوز السلم في الجوهر، قال عبد الباقي: الجوهر كبار اللؤلؤ كبرا متوسطا لتيسر وجوده غالبا لا خارجا عن المعتاد لعدم تيسر غالبا، فيدخل تحت قوله:"وما لا يوجد" كما في التتائي. انتهى. والزجاج يعني أنه يجوز السلم في الزجاج مثلث الزاي والجص يعني أنه يجوز السلم في الجص وهو الجبس، والزرنيخ يعني أنه يجوز السلم في الزرنيخ، قال مالك: ولا بأس بالسلم في المسك والعنبر واللؤلؤ والجوهر وصنوف الفصوص وجميع العطر إذا شرط من ذلك شيئا معلوما وصفة معلومة، وفي آنية الزجاج إذا كان بصفة معلومة وفي الطوب والجص والنؤرة والزرنيخ والحجارة وشبه ذلك إذا كان موصوفا معروفا مضمونا.
وأحمال الحطب يعني أنه يجوز السلم في الحطب ولابد في ذلك من ضابط كالأحمال كملء هذا الحبل ويصفه من طرفاء أو غيرها، قال الشارح عن مالك: ولا بأس بالسلم في الحطب إذا شرط قناطير أو وزنا أو قدرا معروفا أو صفة معروفة أو أحمالا معلومة. انتهى. وقال عبد الباقي: أي
جعل معياره الحمل وأولى الوزن. انتهى. وقال الخرشي: والمعنى أنه يجوز السلم في أحمال الحطب وزنا أو جزَما كملء هذا الحبل، ويوضع عند أمين ويصفه من طرفاء أو غيره. انتهى. وقوله: قناطير، قال في القاموس: القنطار وزن أربعين أوقية من ذهب أو ألف ومائتا دينار أو ألف ومائتا أوقية أو سبعون ألف دينار أو ثمانون ألف درهم أو مائة رطل من ذهب أو فضة أو ألف دينار أو ملء مسك ثور ذهبا أو فضة. انتهى. وقال بناني في المدونة عن ابن القاسم: يسلم في الحطب وزنا وأحمالا. الباجي: وعندي أن يعمل في كل بلد بعرفه في ذلك.
والأدم يعني أنه يجوز السلم في الأدُم، قال الخرشي: والأدُم جمع أديم الجلد أو المدبوغ أو أحمره. قاله في القاموس. والمراد به هنا المعنى الأول فيشمل المدبوغ وغيره، قال الخرشي: ويجوز السلم في جلود البقر والإبل والغنم إذا اشترط شيئا معلوما. وقوله: "والأدُم" عطف على ما طبخ. وصوف بالوزن يعني أنه يجوز السلم في الصوف إذا جعل معياره الوزن لا بالجِزَزِ يعني أنه لا يجوز أن يسلم في الصوف بعدد الجزَزِ جمع جزة بالكسر فيهما، قال في المدونة: ولا يجوز أن يسلم في أصواف الغنم إلا وزنا لا عدد جزز. انتهى. ومعنى ذلك أنه لا يجوز أن يتعاقد على جِزَّات ثلاث أو أكثر. واللَّه سبحانه أعلم. وأما شراء الصوف لاعلى وجه السلم فيجوز بالجزز تحريا وبالوزن مع رؤية الغنم كما في المدونة والشروع في الجز ولو تأخر تمامه لنصف شهر. قاله عبد الباقي. وقال الشارح عن المدونة: ولا يجوز أن يسلم في أصوافها إلا وزنا، ولا يجوز عدد جزز إلا أن يشتري ذلك عند إبان جزه ولا تأخير لذلك ويرى الغنم فلا بأس بذلك. انتهى. وكلام المدونة في هذا أعني قوله: إلا أن يشتري لخ في المبيع كما يفيده لفظها. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: ولا يجوز السلم في الصوف بالجزَزِ لاختلافها بالصغر والكبر. انتهى.
والسيوف يعني أنه يجوز السلم في نصل السيوف والسكاكين، قال في المدونة: ويجوز السلم في نصول السيوف والسكاكين وفي العروض كلها إذا كانت موصوفة. قاله الشارح. وقال المواق من المدونة: قال مالك: ويجوز السلم في نصول السيوف والسكاكين وفي العروض كلها إذا كانت موصوفة مضمونة ويضرب لها أجلا معلوما وقدم النقد فيها. انتهى. وتور ليكمل، يعني أنه يجوز السلم في تور ليكمل، وصورة ذلك أن يشتري منه تورا لم يكمل ويستأجره على إكماله على صفة
خاصة، فهو من أفراد قوله:"وإن اشترى المعمول منه واستأجره جاز" لخ، وتسمية هذا سلما مجاز، وقال عبد الباقي: وتجوز المعاقدة في تور أي عليه بمثناة فوقية: إناء يشبه الطست بفتح الطاء وكسرها ليكمل على صفة خاصة، وإطلاقُ التور عليه قبل كمالهِ مجازٌ على حد:{أَعْصِرُ خَمْرًا} وهو سلم مجازا مع الاستيجار على باقيه فهو من بيع المعين، ويكون من أفراد قوله "وإن اشترى العمول منه واستأجره جاز إن شرع"، وحيث كان من بيع المعين فيشترط فيه الشروع ولو حكما ليلا يكون معينا يتأخر قبضه ويضمنه مشتريه بالعقد وإنما يضمنه بائعه ضمان الصناع، بخلاف ثوب ليكمل فيمتنع كما سيذكره المص لإمكان الإعادة في التور إذا أتى على خلاف الصفة المشترطة أو المعتادة وعدمها في الثوب إلا أن يكون عنده غزل يعمل منه غير المعقود عليه إذا خرج على غير المطلوب، فلو اشترى جملة الغزل منع كما يمنع إذا اشترى جملة النحاس، فلكل من التور والثوب ثلاثة أقسام يتفقان على المنع إذا اشترى جملة كل وعلى الجواز إذا كان عند كل من البائعين جملة نحاس وغزل على ملكهما غير ما اشتري ويختلفان في قسم وهو المنع في الثوب إذا كان عند رب الغزل دون ما يخرج منه آخر إذا جاء المنسوج على غير الصفة المطلوبة، والجواز في تور حيث كان عند رب النحاس دون ما يعمل منه تور آخر لكن عنده ما يجبر نقص ما يكسر ويعاد. انتهى.
وقال بناني: جعله شراح الزرقاني وغيره تبعا لابن الحاجب والتوضيح من باب البيع والإجارة وهو مغَيِّرٌ لأسلوب المص، ويصح أن تكون من باب السلم لكن على مذهب أشهب المجوز في السلم تعيين العمول منه أو الصانع، وهنا عين المصنوعَ منه لأن الظرف المصنوع معين وهذه يمنعها ابن القاسم، على أنهم اختلفوا هل ما بين ابن القاسم وأشهب وفاق أو خلاف؟ وأنت إذا أمعنت النظر وجدتها لم تتمحض للسلم ولا لبيع
(1)
والإجارة، ولكن أقرب ما يتمشى عليه قول أشهب الذي يجيز تعيين المعمول منه. واللَّه أعلم. قاله بعض شيوخنا.
(1)
في بناني ج 5 ص 220: ولا للبيع.
وقول عبد الباقي: إناء يشبه الطست، الذي في أبي الحسن أن التور هو الإناء المسمى (بالقمقم)
(1)
، وقال عياض: هو البرقال أي الإبريق. انتهى. وفي القاموس: القمقم كهدهد الجرة وآنية معروفة. وقال: والجرة بالضم ويفتح قعبة من حديد مثقوبة الأسفل يجعل فيها بذر الحنطة حتى يبذر في الجريب، وقال: والجريب مكيال قدره أربعة أقفزة جمعه أجربة وجربان والمزرعة. انتهى المراد منه. وفي الخرشي: فإن اشترى جملة النحاس لم يجز إلا أن يبقى من عمله اليسير جدا. انتهى. والشراء من دائم العمل يعني أن الشراء من الصام المعين الدائم العمل كالخباز واللحام وما أشبه ذلك جائز، والمراد بدائم العمل أن يكون الغالب دوامه، وأما انقطاعه اليَوْمَ واليومين لعارض أو ضرورة فلا يضر. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وجاز الشراء من دائم العمل حقيقة وهو من لا يفتر غالبا أو حكما، ككون البائع من أهل حرفة ذلك الشيء ليسره عنده فيشبه تعيين المعقود عليه حكما في الصورتين، فعلم أنه لابد من وجود المبيع عنده أو كونه من أهل حرفته، والشراء إما لجملة يأخذها مفرقة على أيام، أو يعقد معه على أن يشتري منه كل يوم عددا معينا وليس لأحدهما الفسخ في الأولى دون الثانية، وشملهما تمثيله بقوله:"كالخباز" والجزار بنقد وبغيره، لقول سالم بن عبد اللَّه: كنا نبتاع اللحم من الجزارين بالمدينة المنورة بسعر معلوم كل يوم رطلين أو ثلاثة بشرط أن ندفع الثمن من العطاء، قال مالك: ولا أرى به بأسا إذا كان العطاء معروفا أي ومأمونا ولا يضرب فيه أجل لأنه بيع، كما قال: وهو بيع يعني أن هذا الشراء المذكور بيع وليس بسلم فلا يشترط فيه تعجيل رأس المال ولا تأجيل المثمن فيخالف السلم في هذين، وفي فسخ العقد بموت البائع في الصورة الثانية لا الأولى، وفي كيفية الشراء وفي أنه يشترط هنا الشروع في الأخذ ولو حكما كتأخيره خمسة عشر يوما، واستخفوا ذلك للضرورة فليس فيه ابتداء دين بدين. انتهى. قاله عبد الباقي.
وتحقيق قول المص: والشراء من دائم العمل وهو بيع أنه مستثنى من السلم الحال، قال المواق: ومن نوازل البرزلي: يجوز السلم الحال لأرباب الحرف وسواء قدم النقد أو أخره بشرط أن يشرع
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 220.
في الأخذ وأن يكون أصل ذلك عند المسلم إليه، وقال الحطاب: هذه يعني هذه المسألة تسمى بيعة أهل المدينة لاشتهارها بينهم، والمسألة في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، قال في كتاب التجارة: وقد كانوا يتبايعون اللحم بسعر معلوم يأخذ كل يوم شيئا معلوما ويشرع في الأخذ ويتأخر الثمن إلى العطاء لخ، ثم قال: قال في النوادر: ومن أسلم في لحم ضأن يأخذ كل يوم وزنا معلوما فله أن يأخذ في يومه لحم بقر ولا يتعجل منه ذلك اليوم أكثر من شرطه. ومن الواضحة: وإذا شرط أن يأخذ كل يوم من اللحم كذا فأخذ يوما أكثر من الشرط وودى ثمن الزائد، فإن كان ما أخذ مثل صفة شرطه فجائز وإذا كان بخلاف الصفة من سمن اللحم أو عظم الحيتان أو صنف من اللحم غير ماله عليه لم يجز أن يشتري منه زيادة في الوزن، ولو جاءه بمثل الوزن دون الصفة أو خلاف الجنس ويعطيه معه عينا أو عرضا لم يجز، ولو سأل أن يعجل له شرطه ليومين أو ثلاثة جاز ما لم يعطه أدنى صفة أو أعلى فلا يجوز. انتهى.
وقال ابن سلمون: ويجوز شراء مكيلة معلومة من ثمرة معينة قد بدا صلاحها، أو لبن غنم معينة قد در لبنها بثمن يعطيه حالا أو مؤجلا ويأخذ ذلك مياومة أو مجموعا وشرع في أخذها، وكذلك كل شيء حاضر عند البائع وقد رآه المبتاع وليس ذلك من السلم وهو بيع من البيوع، وتكتب في ذلك عقد اشترى فلان من فلان كذا ربعا من ثمر حائط بكذا ويشرع في أخذ ذلك من الآن بكذا وكذا دينارا مؤخرة إلى أجل كذا أو حالة بعد أن رأى الثمرة وعرفا معا قدر ما تبايعاه ووقفا عليه وشهد عليهما بذلك في كذا. انتهى. وقال المواق: وإذا أعطى ثوبه لمن يرقعه وخفه لمن ينعله والرقاع والنعل من عند الخياط والخراز، قال القباب: إن كان الصانع لا يعدم الرقاع أو الجلود فيجوز كما أجاز مالك السلم في اللحم لمن شأنه بيعه وإن لم يضرب أجل السلم. انتهى.
وإن لم يدم فهو سلم يعني أن الشراء ممن لم يدم عمله سلم فيشترط فيه شروط السلم، قال عبد الباقي: وإن لم يدم فهو سلم فلا يعين عامل ولا معمول منه بل يكون في الذمة مع بقية شروط السلم كعقد على ركاب يعمل من حديد وزنه كذا وصفته كذا. انتهى. وقال في التوضيح عن ابن بشير: إذا كان الصانع معينا والمصنوع منه غير معين وهو لا يستديم عمله فقد أعطوه حكم السلم وأجازوه للضرورة، فيشترط فيه أن يبقى المسلم فيه لأجل السلم فأبعد وتقديم رأس المال، فإن
تعذر شيء من المسلم فيه تعلق بالذمة. انتهى. ومقتضى قوله: أجازوه للضرورة أنه له خصوصية عن السلم إذ أجيز للضرورة إلا أن يقال هذه العلة لا خصوصية لها لأن الباب قد أجيز للضرورة. وقوله: فيشترط أن يبقى المسلم فيه لخ أي لابد أن يوجد عند أجل السلم. هذا معناه. قاله الخرشي.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: والظاهر أن ما لابن بشير مخالف للمص وأنه يتمشى على مذهب أشهب الذي يجيز السلم في تعيين الصانع.
كاستصناع سيف أو سرج يعني أنه للشخص أن يشتري سيفا ليعمل له، وكذلك يجوز له أن يشتري سرجا ليعمل له، قال الخرشي: والمعنى أنه يجوز للرجل أن يشتري سيفا أو سرجا ليعمل له بشرط أن لا يعين عامل ولا الشيء المعمول منه، فإن عينهما أو أحدهما فسد كما يأتي. انتهى. وقال عبد الباقي: وشبه بقوله: "سلم" لا مع عدم الدوام فليس مثالا. قوله "كاستصناع سيف أو سرج" ولم يعين عاملا ولا معمولا منه فإن عين فهو قوله: "وفسد" لخ، والفرق بين هذا وما تقدم من والسيوف أن هذا سلم في جملة السيف وما مر في نصل السيف. واللَّه سبحانه أعلم. وفسد السلم بتعيين الشيء المعمول منه السيف والسرج مثلا، والضمير في منه عائد على الموصوف وهو الشيء، فالوصف جرى على غير من هو له. قاله أحمد. وإنما فسد لأنه حينئذ ليس دينا في الذمة. أو العامل يعني أن عقد السلم يفسد بتعيين العامل، وقوله:"أو العامل" قال بناني: هذا ثابت في بعض النسخ وهو المصرح به في المدونة، ونصها: فإن شرط عمل رجل بعينه لم يجز وإن نقده لأنه لا يدري أيسلم ذلك الرجل إلى ذلك الأجل أم لا؟ فذلك غرر. انتهى. وعليه درج ابن رشد. وفي موضع آخر من المدونة: ما يقتضي الجواز إذا عين العامل فقط، لقولها: من استأجر من يبني له دارا على أن الأجر والجص من عند الأجير جاز، وهو قول ابن بشير. انظر المواق.
وإن اشترى المعمول منه واستأجره جاز إن شرع عين عامله أم لا يعني أنه إذا اشترى الشيء المعين المعمول منه من شخص واستأجر المشتري البائع على أن يعمل له منه، فإن ذلك جائز إن شرع البائع في العمل ولو حكما كتأخيره خمسة عشر يوما فأقل، ويجوز ذلك سواء عين العامل أم لا، قال بناني: والفرق بين هذه والتي قبلها كما قاله ابن عبد السلام وغيره أن العقد فيما قبلها
وقع على المصنوع على وجه السلم، ولم يدخل المعمول منه في ملك المشتري وهذه وقع العقد فيها على المبيع المعمول منه وملكه المشتري ثم استأجره بالشرط في العقد على عمله، وهذه الثانية هي مسألة ابن رشد، والتي قبلها هي مسألة المدونة، ففي الأولى أربع صور هي تعيين المعمول منه والعامل وَعدم تعيينهما وتعيين الأول دون الثاني والعكس كلها ممنوعة ما عدا عدم تعيينهما، والثانية صورتان فقط عين العامل أم لا وكلها في كلام المص. انتهى.
قوله وملكه المشتري ثم استأجره لخ هذه عبارة التوضيح وتبعه التتائي، قال مصطفى: وهي مشكلة إذ يقتضي قوله: ثم آجره أن عقد الإجارة مستقل وليس كذلك، والأحسن عبارة ابن عبد السلام فإنه قال: وفارق هذا الوجه الذي قبله من حيث إن البيع وقع في هذا على المعمول منه قبل أن يععل على شرط أن يعمل فيه البائع منفعةً ما للمشتري، فانتقل ملك المعمول منه للمشتري قبل أن تدخله الصنعة، وفي القسم الذي قبله لم ينتقل ملك البائع عن المبيع إلا بعد حصول الصنعة فيه. انتهى. قاله الرهوني. وقال عبد الباقي: ثم هذه المسائل الأربع المشتمل عليها قوله: كاستصناع لخ موضوعها أنه لم يشتر المعمول منه، فإن اشترى المعمول منه فهو قوله:"وإن اشترى المعمول منه واستأجره" على عمله سيفا أو سرجا جاز إن شرع في العمل ولو حكما، كتأخيره ثلاثة أيام عين عامله أم لا، فاشتمل كلامه على صورتين ويجوز تعجيل النقد بشرط على المعتمد ولو تأخر الشروع لنحو ثلاثة أيام حيث عين المعمول منه دون العامل. انتهى.
قوله: كتأخيره ثلاثة أيام لخ هكذا قال ابن رشد، قال مصطفى: وجعل ابن رشد التأخير ثلاثة أيام وهو غير مسلم، إذ الممنوع ما زاد على خمسة عشر يوم في بيع المعين يتأخر قبضه كما في بيوعها الفاسدة في اشتراء الزرع المستحصد بالكيل وشراء زيت زيتون معين ونحو ذلك مما هو كثير في المذهب، ولذا قال السنهوري: وينظر في قول ابن رشد إن كان على أن يؤخر الشروع إلى يومين أو ثلاثة لم يجز تعجيل النقد بشرط مع قولهم: وأجير تأخر شهرا. انتهى. قاله بناني.
وقال عبد الباقي: قولُ أحمد مسألة تجليد الكتب لابد فيها من ضرب أجل السلم وغير ذلك من بقية شروطه غيرُ ظاهر، ففي تهذيب البرادعي: لا بأس أن تؤاجره على بناء دارك والأجر والجص من عنده. انتهى. الوانوغي: قلت لشيخنا ابن عرفة: من هذا مسألة تجليد الكتب
المتداولة بين الطلبة شرقا وغربا وكأنها بعينها فصوبه. انتهى. قال بناني: ما ذكره في التنبيه عن أحمد هو المتعين، وليس في كلام المدونة ما يرد عليه، بل كلام المدونة يشهد له، ونصها: من استأجر من يبني له دارا على أن الآجرَّ والجص من عند الأجير جاز، ثم قال: قلت أرأيت السلم هل يجوز فيه أن لا يضرب له أجلا وهذا لم يضرب لِلآجُرِّ والجص أجل
(1)
؟ قال: لما قال له ابن لي هذه الدار فكأنه وقت له؛ لأن وقت بنيانها عند الناس معروف وإجارة في عمل هذه الدار فلذلك جاز، فهذا صريح في وجوب ضرب الأجل إن لم يكن صروفا، لكن في شرح القباب لبيوع ابن جماعة بعد ذكره فيمن أعطى ثوبه أو نعله لمن يرقعه إنه لا يجوز حتى يريه الرقعة والجلد إن كانا عنده فيكون ذلك بيعا، قال ما نصه: فإن لم يكن ذلك عنده انضاف إلى ذلك بيع ما ليس عندك من غير أجل السلم إلا أن يكون الخراز أو الخياط لا يعدَم الرقاع والجلود فلا يحتاج إلى طول الأجل، ويكفي الوصف التام كما في السلم في اللحم لمن شأنه بيعه، وفي الخبز لمن شأنه بيعه وإن لم يضرب أجل السلم فلا يكتفي بالوصف إلا إذا كان ما يريد أن يعمل منه غير موجود عنده حين العقدة ولا يتعذر عليه غالبا لكونه لا يعدمه ويكثر عنده. انتهى. فيجري هذا التفصيل في البناء وفي مجلد الكتب. واللَّه أعلم. انتهى. وقوله: ولا يتعذر عليه الظاهر أن الواو للحال. واللَّه سبحانه أعلم.
لا فيما لا يمكن وصفه يعني أنه لا يجوز السلم فيما لا يمكن وصفه، قال عبد الباقي: لا يجوز السلم فيما لا يمكن وصفه كعجوة وحناء مخلوطين برمل، وأما بيعهما فيجوز إذا تحري ما فيهما من الرمل لتعيينه. انتهى. ومثل لما لا يوصف بقوله: كتراب المعدن يعني أن تراب المعدن لا يسلم فيها لأنها لا يمكن وصفها، فإن أمكن وصفها أسلِم فيها عرض لا عين ويجوز أن يشترى يدا بيد بمخالفها من عين أو عرض لأنها حجارة معروفة ترى، ولا يرد عليه أن ما يخرج منها مجهول القدر والصفة؛ لأن ما يدفع فيها ليس عوضا عما يخرج منها بل عن اختصاصه بها ورفع يده عنها، وإنما منع بموافقها من المعين وإن كان إسقاطا لاختصاصه نظرا لما فيها في الجملة، أشار له
(1)
في البناني ج 5 ص 221 أجلا.
البرزلي. نقله عبد الباقي. وعلم منه أن اشتراءها بعين تخالفها جوازه مشروط بالمناجزة. واللَّه سبحانه أعلم. والأرض عطف على قوله: "لا فيما لا يمكن وصفه" يعني أنه لا يجوز السلم في الأرض والدارِ أي وكذلك الدار لا يجوز السلم فيها، قال عبد الباقي: ولا يسلم في الأرض والدار لأن وصفهما مما تختلف به الأغراض فيصيرهما من المعين وشرط السلم كونه في الذمة، وبما قررنا علم أنه عطف على ما وليس عطفا على مدخول الكاف لإيهامه أن المنع فيهما لعدم إمكان وصفهما وليس بمراد. انتهى. وقال الخرشي: معطوف كما قال بعض على "ما" من قوله: "لا فيما لا يمكن وصفه لا على تراب المعدن" وكأنه يحاول بذلك عدم ورود ما أورد المؤلف على ابن الحاجب من تمثيله بهما لما لا يمكن وصفه، حيث قال: فإن لم يمكن كتراب المعدن والدور والأرضين لم يجز. قال في توضيحه في التمثيل بهما نظر لأنهما يمكن وصفهما، وإنما امتنع السلم فيهما لأن وصفهما مما تختلف به الأغراض، فيؤدي ذلك إلى تعيين البقعة لأن وصفها معا تختلف به الأغراض.
والجزاف يعني أنه لا يجوز السلم في الجزاف بأن يكون مسلما فيه، وأما كون الجزاف رأس مال السلم فسائغ كما مر، قال عبد الباقي: والجزاف لأن من شروطه رؤيته وبها يصير معينا. انتهى. قوله: "والجزاف" قال بناني: قيل هذا مخالف لما مر في قوله: "أو بتحر" لخ لأن التحري جزاف قطعا، وأجيب بأن ما سبق خاص بمسألة اللحم للضرورة مع أنه فُقِدَ فيها بعض شروط الجزاف، وهو أن يكون مرءيا وما هنا فيما عداه، وما في المواق عن اللخمي يرشد إلى هذا ونصه: اللخمي: لا يسلم في الجزاف لجهل ما يقتضي إلا في اللحم على التحري. انتهى. ونقل في موضع آخر عن المدونة ما يقتضي الجواز مطلقا، والظاهر في الجواب أن الجزاف الممنوع في الذي لا يمكن فيه التحري لكثرته والسابق الجائز في الذي يمكن فيه التحري أفاد هذا المعنى كلام المقدمات. انتهى.
وما لا يوجد يعني أنه لا يجوز السلم فيما لا يوجد، قال عبد الباقي: ويمنع السلم فيما لا يوجد جملة لعدم القدرة على تحصيله كالكبريت الأحمر أو نادرا ككبار اللؤلؤ. قاله التتائي. أي كباره
الخارجة عن العادة كما مر. انتهى. وقال الخرشي: أي ويمنع السلم في الشيء الذي لا يوجد جملة لعدم القدرة على تحصيله كالعنقاء والكبريت الأحمر أو نادرا ككبار اللؤلؤ.
وحديد وإن لم تخرج منه السيوف في سيوف وبالعكس يعني أنه لا يجوز سلم الحديد وإن كان لا تعمل منه السيوف في السيوف، وكذلك لا يجوز سلم السيوف في الحديد سواء كان تخرج منه السيوف أم لا، وهذا هو المشهور وهو مذهب ابن القاسم، وقال سحنون: لا بأس أن يسلم الحديد الذي لا يخرج منه السيوف في سيوف.
وكتان غليظ في رقيقه إن لم يغزلا يعني أنه لا يجوز سلم الكتان الغليظ في الكتان الرقيق إن لم يغزلا أي المسلم والمسلم فيه لإمكان معالجة الغليظ حتى يصير رقيقا، فإن غزلا معا جاز سلم أحدهما في الآخر لأنه يراد أحدهما لغير ما يراد له الآخر كغليظ ثياب كتان في رقيقها. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: وجد عندي ما نصه: وكذا يمتنع عكس كلام المؤلف وهو سلم شعر الكتان الرقيق في غليظه، لكن العلة وهي أن غليظ الكتان قد يعالج لخ لا يتأتى في العكس. انتهى المراد منه. وقوله:"وحديد" بالرفع ويقدر له عامل ويكون من عطف الجمل، والتقدير: ولا يجوز السلم فيما لا يمكن وصفه ولا يسلم حديد لخ. وكذا ما بعده.
وثوب ليكمل يعني أنه لا يجوز السلم في ثوب ليكمل أي لا تجوز المعاقدة في ثوب ليكمل على صفة معينة ولو مع شرط أنه إن لم يأت عليها أبدله بغيره حيث لم يكثر عنده الغزل كما مر الفرق بينه وبين مسألة التور، قال عبد الباقي: ولا يجوز شراء غزل على أن ينسجه. انتهى. وقال الشارح عند قول المص: "وإن اشترى المعمول منه" لخ أصل ابن القاسم وهو المشهور في هذا الجواز بناء على جواز اجتماع البيع والإجارة، ومنع ذلك سحنون إذا كان محل الإجارة في نفس المبيع وعلى المشهور فلابد من كون المبيع معلوم الخروج، فأما إن كان خروجه مختلفا مثل أن يبيعه ثوبا على أن على البائع صبغه أو نسجه، أو خشبة على أن يجعلها أبوابا فهو ممنوع. ابن حارث: بلا خلاف.
ومصنوع قدم لا يعود هين الصنعة كالغزل يعني أنه لا يجوز أن يكون المصنوع الهين الصنعة رأس مال السلم في غير المصنوع من جنسه كما لو أسلم غزلا في كتان؛ لأن صنعته لما كانت هينة صارت
كأنها كالعدم فلم تخرجه عن الكتان الذي هو أصله هذا هو المشهور عند المازري والأشهر عند ابن الحاجب، وقيل يجوز لابن يونس قيل وهو القياس. وقوله:"قدم" صفة "لمصنوع"، وقوله:"لا يعود" يصح أن يكون صفة وأن يكون حالا، وكذا قوله:"هين الصنعة"، ولا مفهوم لقوله:"لا يعود هين" فهين الصنة لا يسلم في أصله ولا يسلم أصله فيه.
بخلاف النسج أي المنسوج يعني أن المنسوج يسلم في غزل من جنس أصله وأولى في كتان لأن صعوبة صنعته صيرته بمنزلة جنس آخر، إلا ثياب الخز مستثنى من قوله:"بخلاف النسج" يعني أن النسج ناقل إلا ثياب الخز فلا تسلم في الخز؛ لأنها تنفنتى وتصير جزافا فالنسج فيها كالغزل في الكتان، فكما لا يسلم الغزل في الكتان لا يسلم ثياب الخز في الخز. وقوله:"بخلاف النسج" مفهوم قوله: "هين الصنعة" فكأنه قال: فإن كان غير هين الصنعة جاز كما في النسج. ومن المدونة قال مالك: لا بأس بثوب كتان في كتان أو توب صوف في صوف؛ لأن الثوب المعجل لا يخرج منه كتان ولا صوف، ونص اللخمي أن سلم الثوب في الغزل جائز، وحكى ابن يونس فيه خلافا. قاله المواق. وقال: قال أبو محمد: إلا ثياب الخز في الخز لأنها تنفش وكذلك تور نحاس في نحاس وكذلك في كتاب محمد. انتهى. والخز ما سداه من صوف أو وبر ولحمته من حرير، وقد يطلقه الفقهاء على ما هو أعم من ذلك. قاله الخرشي وغيره. وقال عبد الباقي: إلا ثياب الخز فلا تسلم في خز. أبو محمد: لأنها تنفش وتصير خزا. سند: هو بعيد إذ يبعد في المنسوج أنه يقصد إلى التعامل على نقض نسجه.
وإن قدم أصله اعتبر الأجل يعني أنه إذا قدم أصل المصنوع الذي ليس بهين الصنعة أي جعل رأس المال كتانا مثلا في ثوب كتان فإنه يعتبر الأجل المضروب، فإن كان يمكن فيه صنع غير المصنوع منع وإلا جاز. ابن عرفة: ودليل اعتبار الأجل قول المدونة: لا خير في شعير نقدا في قصيل لأجل إلا لأجل لا يكون الشعير فيه قصيلا. قاله المواق. وذكر مفهوم قوله: لا يعود بقوله: وإن عاد اعتبر فيهما يعني أن المصنوع إذا كان يمكن عوده فإنه يعتبر الأجل فيهما أي في إسلام المصنوع في أصله وإسلام أصله فيه، فإن وسع الأجل لصيرورة المصنوع كأصله بزوال صنعته منه ولصيرورة أصله كهو بوضع الصنعة فيه لم يجز وإلا جاز لكن المعتمد الإطلاق، فلا يعول على
قوله: "لا يعود"، ولا على مفهومه هنا والمعتمد أن هين الصنعة سواء كان يعود أم لا، لا يسلم في أصله ولا يسلم أصله فيه فهذه أربعة، وأن غير هين الصنعة إن لم يعد أسلم في أصله وإن أسلم أصله فيه اعتبر الأجل، وإن عاد اعتبر الأجل في سلم أصله فيه وسلمه في أصله. فهذه أربعة أيضا. فتلك ثمانية في إسلام المصنوع في الأصل: هين الصنة أم لا يعود أم لا وفي إسلام أصله فيه كذلك، ولم يبق إلا إسلام الأصل في الأصل وقد مر الكلام عليه، وإسلام المصنوع في المصنوع وإليه أشار بقوله:
والمصنوعان يعودان ينظر للمنفعة يعني أن المصنوعين إذا أسلم أحدهما في الآخر فإنه ينظر إلى المنفعة، فإن تقاربت منع وإلا جاز، ولا فرق في ذلك بين أن تكون صنعتهما هينة وألَّا تكون هينة، وسواء أمكن عودهما أم لا، قال عبد الباقي: والمصنوعان من جنس واحد يسلم أحدهما في الآخر هانت صنعتهما أم لا يعودان، أي يمكن عودهما لأصلهما وأولى إن لم يمكن ينظر للمنفعة، فإن تقاربت كإبريق نحاس في مثله منع، وإن تباعدت بأن يقصد من أحدهما غير ما يقصد من الآخر كإبريق في طست أو مسامير في سيف جاز. انتهى.
ولا يجوز سلم زيت في صابون حيث كان أجل السلم يمكن فيه جعل الزيت صابونا وصنعته غير هينة، وأما سلم صابون في زيت فيجوز على المذهب. قاله عبد الباقي. وقال المواق: ابن الحاجب: إن كان مصنوعان يعودان نظرت إلى المنفعة، قال في المدونة: لا خير أن يسلم سيف في سيفين دونه لتقارب المنافع إلا أن يبعد ما بينهما في الجوهر والقطع كتباعده في الرقيق والثياب فيجوز. انتهى. وقوله: "ينظر للمنفعة" أي قبل السلم. قاله الخرشي.
وَلَما تكلم رحمه اللَّه تعالى على حكم السلم ابتداء أخذ رحمه اللَّه تعالى يتكلم على حكمه انتهاء فقال: وجاز قبل زمنه قبول صفته فقط قال الخرشي: يعني أنه يجوز للمسلِم قبولُ موصوفِ صفةِ المسلَم فيه طعاما أو غيره قبل حلول أجله أي وفي محله لا أجود ولا أدنى ولا أكثر ولا أقل؛ لأنه حط الضمان وأزيدك أوضع وتعجل وكلاهما ممنوع في السلم والقرضُ لا يدخله الأول، وللمسلم أن يمتنع من قبول الصفة قبل الأجل؛ لأن الأجل في السلم من حق كل من المتبايعين وهذا ما لم يكن المسلم فيه من النقد وإلا أجبر علي قبوله قبل الأجل، وأما في القرض فيجبر على قبوله قبل أجله
مطلقا أي سواء كان القرض عينا أو طعاما أو حيوانا. انتهى. يعني أو غير ذلك، فقوله:"قبل زمنه" أي وفي المحل يدل عليه ما بعده وعلى هذا التقرير فلا يشكل مع مفهوم قوله: وفي الطعام إن حل لاجتماع عدم الحلول وكونه قبل المحل. قاله الخرشي. وقال بناني: لو قال قبول مثله لخ لكان أنصَّ على المراد أي مثله صفة وقدرا. انتهى.
وقال عبد الباقي: وجاز للمسلم قبل زمانه أي أجل المسلم فيه قبول مساوي صفته، فإن قلت قبول مساوي الصفة هو عين المسلم فيه فلا حاجة لذكر المص لذلك، قلت: لعله لقوله "فقط" ليحترز به عن أدنى أو أجود أو أقل أو أكثر فيمنع لما فيه من ضع وتعجل وحط الضمان وأزيدك إذ كِلَاهمَا يدخل السلم بخلاف القرض لا يدخله إلا الأول، وأشعر قوله:"جاز" أنه لا يجبر على القبول وهو كذلك؛ لأن الأجل فيه من حقهما.
كقبل محله في العرض مطلقا التشبيه في جواز قبول الصفة فقط، والمعنى أن المسلم يجوز له أن يقبل العرض المسلم فيه قبل المحل المشترط فيه القبض أي يجوز له قبول صفته فقط مطلقا حل الأجل أم لا، قال عبد الباقي: ضعيف، والمذهب أنه لابد للجواز من حلول العرض. انتهى. قال الرهوني: هو صحيح، ففي المنتقى: ولو لم يحل الأجل فقد قال ابن القاسم: ليس له أن يأخذ منه مثل ماله ولا أرفع ولا أوضع، وروى ابن عبدوس عن سحنون أن ذلك جائز فوجه القولين، ثم قال: وقول الجمهور على ما تقدم من قول ابن القاسم. انتهى المراد منه.
وفي الطعام إن حل يعني أنه يجوز للمسلم أن يقبل الطعام المسلم فيه إن حل الأجل قبل محله الذي اشترط القبض فيه، فإن لم يحل الأجل لم يجز، قال عبد الباقي: وفي الطعام إن حل لا إن لم يحل فيمنع لأنه عجل ما في الذمة فيكون مسلفا وازداد الانتفاع بإسقاط الضمان وهو سلف جر نفعا، وأيضا فيه بيع الطعام قبل قبضه لأن ما عجله عوض عن الطعام الذي لم يجب عليه الآن؛ وإنما يجب عليه إن حل. انتهى. قوله: وإنما يجب عليه إن حل فيه أنه قد انتفع بإسقاط كراء الحمولة لأنه لا يلزم القبول قبل المحل؛ لأن البلدان بمنزلة الآجال فدخله ضع وتعجل، وحينئذ فلا فرق بين أن يحل أم لا. وقد ذكر المص هذا البحث في التوضيح عن جماعة إلا أن ظاهره أنه
قاصر على الطعام، والصواب أنه يجري في العرض أيضا فإن العلة واحدة. قاله الشيخ المسناوي رحمه اللَّه تعالى.
ثُمَّ إن في مسألتي العرض والطعام قولين: أحدهما لابن القاسم وأصبغ الجواز بشرط الحلول فيهما، والثاني لسحنون واختاره ابن زرقون الجواز قبل محله وإن لم يحل فيهما، والمص فصل بين العرض والطعام، وانظر مستنده في ذلك ولو جرى على ما لابن القاسم لقال: في العرض والطعام إن حل، أو على ما لسحنون لقال: في العرض والطعام مطلقا. انظر المواق.
إِنْ لَمْ يُدْفَعْ كِرَاءٌ راجع لمسألتي العرض والطعام يعني أن محل الجواز في العرض والطعام حيث لم يدفع المسلم إليه الكراء أي كراء الحمل من موضع القبض لمحل القضاء، فإن دفعه منع في الطعام وغيره، قال عبد الباقي: ومحل الجواز في العرض والطعام إن لم يدفع المسلم إليه كراء لحمله من موضع القبض لموضع القضاء، فإن دفعه منع في الطعام وغيره لأن البلدان بمنزلة الأجل فكأنه قضاه قبل أجله، ففيه في الطعام بيعه قبل قبضه والنسيئة لأنه أخذه عن الطعام الذي يجب له في بلد الشرط والتفاضل بين الطعامين، ويزاد في الطعام وغيره سلف جر نفعا إذا كان المأخوذ من جنس رأس المال وبيع وسلف، وحط الضمان وأزيدك إذا كان في موضع الاشتراط أرخص. قاله في توضيحه.
ووجه البيع قبل القبض أنه لما دفع الكراء مع الطعام قوَّى ذلك جانبَ البيع وصار المأخوذ في مقابلة الطعام الذي عليه، فقد باع المسلم الطعام الذي له على المسلم إليه قبل قبضه بهذا المأخوذ، بخلاف ما إذا لم يدفع كراء فإن الطعام المأخوذ هو الذي جِهَةَ المسلم إليه. انتهى.
ولزم بعدهما الضمير المثنى عائد على المحل والأجل، والمعنى أن المسلم إليه إذا دَفَعَ المسلَم فيه للمسلِم بعد الأجل والمحل، فإن المسلِم يجب عليه قبوله، قال عبد الباقي: ولزم المسلم قبول المسلم فيه طعاما أو غيره بعدهما أي بعد حلول الأجل وبعد الوصول لموضع القضاء، ففي البعدية في الثاني تسامح. قاله التتائي. أي لأن استعمال بعد في المكان غير سائغ ففيه تغليب. قاله أحمد. وأجيب بأن تقديره بعد بلوغهما -والبلوغ يستعمل للزمان والمكان- على أن استعمالها في المكان
قليل فقط لا غير سائغ واستعمالها للزمن كثير، ففيه استعمال المشترك في معنييه الكثير والقليل وهو جائز عند الأكثر، فلا تغليب.
وقوله: "ولزم بعدهما" إنما يلزم قبوله إذا أتاه بجميعه، وأما إن أتاه ببعضه فقال ابن عرفة: وفي جبر رب دين حال على قبض بعضه وقبول امتناعه حتى يقبض جميعه والمدين موسر نقلا ابن رشد رواية محمد مع أبي زيد عن ابن القاسم، وقول أصبغ مع سماعه أشهب، ومحمد عن ابن القاسم والأول في المعسر اتفاقا، وهذا الكلام الذي ذكره ابن عرفة في دين القرض وغيره، وليس خاصا بالسلم كما حققه الرهوني. واللَّه سبحانه أعلم. وقال عبد الباقي عن ابن عرفة: قضاؤه يعني المدين بحلوله وصفته وقدره لازم من الجانبين مع يسر المدين. انتهى. ونحوه للمواق وزاد: وزاد خليل بمحله وهو بين.
كقاض إن غاب يعني أن المسلم إذا غاب عن موضع القبض ولا وكيل له وأتى المسلم إليه للقاضي بالدين بعد حلول الأجل والمحل على الصفة المشترطة، فإن القاضي يلزمه قبول المدين، فقوله:"كقاض إن غاب" أي المسلم محله حيث لا وكيل للمسلم لتقديم الوكيل على القاضي.
وجَازَ أجُوَدُ أوْ أرْدَى يعني أنه يجوز بعد الأجل والمحل أن يقضيه بأجود مما عليه أو بأردى منه وهو حسن قضاء في الأول وحسن اقتضاء في الثاني، قال المواق: قال اللخمي: إن أسلم في مئة إردب سمراء فأخذ بعد محل الأجل مئة إردب سمراء أجود أو أدنى جاز، وهو في أجود حسن قضاء وفي أدنى حسن اقتضاء، ويجوز أن يأخذ أجود وأكثر كيلا وأدنى وأقل كيلا ولا يأخذ أجود وأقل كيلا، ولا أدنى وأكثر كيلا وهو ربا، وقال عبد الباقي: وجاز للمسلِم بعد الأجل والمحل قبول أجود مما أسلم فيه وهو حسن قضاء، وعبر بالجواز لأنه لا يلزمه قبوله لأن الجودة هبة ولا يلزمه قبولها خلافا لابن الحاجب كابن شأس، وجاز قبول أردى لأنه حسن اقتفاء. انتهى.
وهذا الذي ذكره من أنه لا يجب قبول الأجود هو الذي حققه غير واحد. انظر الرهوني. وقال بناني عند قول عبد الباقي: وعبر بالجواز لأنه لا يلزمه قبوله لخ ما نصه: بهذا رد عليهما ابن
عبد السلام وابن هارون والتوضيح مستدلا بقول المدونة في الصرف ومن [أقرضته]
(1)
دراهم يزيدية فقضاك محمدية أو قضاك دنانير عُتَّقًا عن هاشمية أو قضاك سمراء عن محمولة أو عن شعير لم تجبر على أخذها حل الأجل أم لا، ثم قال في التوضيح: والمحمدية والعُتَّق والسمراء أفضل. انتهى. وقوله: عتقا الرواية بضم المعين وتشديد التاء جمع عاتق أي قديمة أو هي عُتُق كذلك جمع عتيق، وفي المدونة: من اشترى جارية على جنس فوجدها أجود منه لزمته. انتهى. ولا حجة فيها لابن الحاجب وابن شأس لأنه فيما قبض بالفعل فلا يردها لأنها غير معيبة، وهذا إنما هو فيما لم يقبض. انظر الرهوني.
لا أقل إلا عن مثله ويبرئ مما زاد يعني أنه لا يجوز أن يأخذ أقل مما عليه قدرا من الطعام أو العين على وجه المبايعة والصلح، فإن أخذ الأقل عن مثله وأبرأه مما زاد على ذلك الأقل فإنه لا بأس بذلك، وهذا ظاهر فيما إذا اختلفت الصفة كسمراء عن محمولة، وأما إذا أخذ الأقل وكانت الصفة واحدة فإن ذلك يجوز على المعتمد كما يأتي للمص في قوله:"وعلى بعضه هبة" قال المواق عند قوله "لا أقل إلا عن مثله ويبرئه مما زاد" ما نصه من المدونة: قال مالك: من له عليه مائة إردب سمراء إلى أجل. فلما حل الأجل أخذ منه خمسين محمولة وحط ما بقي، فإن كان ذلك بمعنى الصلح والتبايع لم يجز، وإن كان ذلك اقتضاء من خمسين منها ثم حطه بعد ذلك بغير شرط جاز، قال ابن القاسم: وكذلك في أخذه خمسين سمراء من مائة محمولة وحطه ما بقي. انتهى. وقال بناني: لا أقل ظاهره مطلقا سواء كان أجود أو أردى أو مماثلا، وعليه حمله الزرقاني تبعا لغيره وهو الذي نقله أبو الحسن عن ابن اللباد، وذكر ابن عرفة أن التهمة في الأقل لا تعتبر إلا مع اختلاف الصفة، قال مصطفى: وهو المعتمد. انتهى.
وقال عبد الباقي: وهذا في الطعام والنقد، وأما غيرهما فيجوز سواء كان يبرئ مما زاد أم لا، فيجوز أخذ نصف قنطار نحاس عن قنطار منه م لم يدخلوا على ذلك وإلا فسد العقد. انتهى. وقال الخرشي: قوله: "لا أقل" أي بعد الزمان والمحل كما هو موضوع المسألة، وقوله: "إلا عن
(1)
في الأصل اقترضته والمثبت من بناني ج 5 ص 224 والتهذيب ج 3 ص 117.
مثله" أي قدره ويبرئ مما زاد أي من غير شرط، كأن يقول له: لا أدفع لك الأقَلَّ إلا بشرط أن تبرئني مما زاد ولا وأي ولا عادة بأن تكون عادتُهم أخذ الأقل عن الأكثر. انتهى.
ولا دقيقٌ عن قمح وعكسُه يعني أنه لا يجوز قضاء الدقيق عن القمح ولا قضاء القمح عن الدقيق، بناء على أن الطحن ناقل ففيه بيع الطعام قبل قبضه، وأشار الشارح إلى هذا بقوله لأنهما جنسان. اللخمي: يلزم على هذا أن لا يأخذ شعيرا عن قمح بل هو أولى بالمنع لقوة الخلاف. قاله الخرشي. وقال: وهذا في السلم وأما في القرض فيجوز بتحري ما في الدقيق من القمح، وتحري ما في القمح من الدقيق. انتهى. ونحوه لعبد الباقي. وقال المواق من المدونة: قال مالك: إن أسلمت في حنطة فلا تأخذ عنها دقيق حنطة وإن حل الأجل، ولا بأس به عن قرض بعد محل الأجل. أشهب: كره هذا للخلاف أجازه عبد العزيز متفاضلا فيدخله على هذا بيعه قبل قبضه. اللخمي: فيلزم عليه أنه لا يأخذ شعيرا عن قمح بل هو أولى لقوة الخلاف فيه. انتهى. وقوله: "ولا دقيق" عطف على "أقل".
ولما أنهى الكلام على قضاء المسلم فيه بجنسه شرع في قضائه بغيره فقال: وبغير جنسه يعني أنه يجوز قضاء المسلم فيه قبل الأجل أو بعده بغير جنسه أي المسلم فيه بثلاثة شروط ذكرها المص، وأسقط رابعا وهو تعجيل المأخوذ كان قبل الأجل أو بعده ليلا يلزم فسخ دين في دين.
وأشار لأول الشروط بقوله: إن جاز بيعه قبل قبضه يعني أن محل جواز القضاء بغير جنس المسلم فيه إنما هو حيث كان المسلم فيه يجوز بيعه قبل قبضه كما لو أسلم ثوبا في حيوان، فأخذ عن ذلك الحيوان دراهم فإن ذلك جائز لأن الحيوان يجوز بيعه قبل قبضه.
وأشار للشرط الثاني بقوله: وبيعه بالمسلم فيه مناجزة يعني أنه يشترط أيضا في قضاء المسلم فيه بغير جنسه أن يجوز بيعه أي المأخوذ بالمسلم فيه مناجزة أي يدا بيد، كسلم دراهم في ثوب فأخذ عنه طست نحاس إذ يجوز بيع الطست بالثوب يدا بيد، ولو قال بالمأخوذ ويجعل ضمير بيعه للمسلم فيه لسلم من تفريق مرجع الضمير؛ إذ ضمير جاز بيعه للمسلم فيه وضمير بيعه الثاني للمأخوذ. ذكره صاحب التكملة.
وأشار إلى الشرط الثالث بقوله: وأن يسلم فيه رأس المال يعني أنه يشترط أيضا في قضاء المسلم فيه بغير جنسه أن يكون هذا المأخوذ يجوز أن يسلم فيه رأس مال السلم، كما لو أسلم دراهم في حيوان فأخذ عن ذلك الحيوان ثوبا فإن ذلك جائز؛ إذ يجوز أن تسلم الدراهم في الثوب ولا يرد هذا على القضاء بالجزاف والدار والأرض فإنه جائز؛ لأن المعنى ما يجوز أن يسلم فيه رأس المال بخصوصه والجزاف وما معه يمتنع السلم فيها بالكلية ويجوز بيعها فيجوز القضاء بها.
ثم بين ما احترز عنه بكل واحد من الثلاثة لفا ونشرا مرتبا، فقال في محترز الأول: لا طعامٌ يعني أنه لو أسلم في طعام فلا يأخذ عنه غيره من نقدٍ أو عرضٍ أو طعامٍ غيره كفول أو عدس عن قمح للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه، ولا فرق بين أخذ العوض من بائعه وغيره، وفي محترز الثاني: ولحمٌ بحيوان الباء بمعنى عن، يعني أنه لو أسلم دراهم مثلا في حيوان فإنه لا يجوز له أن يأخذ عن ذلك الحيوان لحما من جنسه حيث لم يطبخ اللحم؛ لأن بيع اللحم بحيوان من جنسه لا يجوز يدا بيد، وهذا الشرط عام أيضا في بيعه لمن هو عليه وغيره، ومثل اللحم عن الحيوان الحيوان الذي لا منفعة فيه إلا اللحم أو قلت عن الحيوان.
وقال في محترز الثالث: وذهب ورأس المال ورق وعكسه يعني أنه لو أسلم دراهم في عرض فإنه لا يجوز أن يأخذ عن ذلك العرض ذهبا؛ لأن الدراهم لا تسلم في الذهب وكذا العكس كما لو أسلم دنانير في عرض فإنه لا يأخذ عن ذلك العرض رِقَةً أي فضة، وقال عبد الباقي في "وذهب ورأس المال ورق وعكسه": أي لا يجوز أن يؤخذ ذهب بدلا عن عرض مسلم فيه ورق، ولا أن يؤخذ ورق بدلا عن عرض مسلم فيه ذهب لما فيه من صرف مؤخر إلا أن يزيد أحدهما زيادة بينة تبعد تهمة الصرف المؤخر، والمنع خاص بما إذا باع المسلم فيه من غريمه، فإن باعه من أجنبي لم يراع رأس المال فيجوز.
ويخرج بقوله: "وأن يسلم فيه رأس المال" أمرٌ ثانٍ وهو أنه لا يوخذ عرض مماثل لرأس المال في الصنفية وهو أجود من رأس المال أو أكثر، ويخرج به أيضا أمر ثالث وهو منع الطعام إذا كان رأس المال طعام في عرض مثلا للتفاضل والنساء، إلا أن يتساوى الطعامان فيجوز ويعد إقالة. قاله التتائي والشارح والتوضيح.
تنبيه:
قال في الجلاب: ومن أسلم في نوع من تمر فلا بأس أن يأخذ نوعا سواه من جنسه ولا يأخذ حنطة ولا شعيرا عوضا عنه، ومن أسلم في نوع من الزبيب فلا بأس أن يأخذ عنه نوعا غيره ولا يجوز أن يأخذ تمرا عن زبيب ولا زبيبا عن تمر. انتهى.
وَلما أنهى الكلام على ما هو عقد واحد شرع في الكلام على ما هو عقدان أو شبههما بقوله: وجاز بعد أجله الزيادة ليزيده طولا يعني أن من أسلم في ثوب على طول معين فلما حل الأجل زاده دراهم على أن أعطاه ثوبا أطول، فإن ذلك جائز إذا تعجل الثوب المأخوذ، قال في السلم الثاني من المدونة: وإن أسلمت إلى رجل في ثوب موصوف فزدته بعد الأجل دراهم على أن يعطيك ثوبا أطول منه من صنفه أو من غير صنفه جاز إذا تعجلت ذلك. انتهى. قال في التوضيح بعد ذكر كلام المدونة هذا أي وأما إن لم يتعجله فلا يجوز؛ لأنه بيع للزيادةِ وسَلَفٌ لتأخير الثوب الأول، وظاهر كلام المص أنه يزيده دراهم على أن يزيده في طول الثوب، وليس بمراد لقوله في المدونة: إذا تعجلت ذلك فإنما يجوز إذا عجل له الثوب المأخوذ. قاله الحطاب.
وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وإن أسلم في ثوب موصوف إلى أجل معلوم جاز بعد حلول أجله الزيادةُ على رأس المال ليزيده المسلَمُ إليه طولا أو عرضا أو صفاقة، وليس المراد طولا يوصل بالطول الأول للزوم ذلك لتأخير قبض المسلم فيه وعدم تعيينه بالوصف، وإنما المراد أن يعطيه ثوبا أطول من صنفه أو من غير صنفه، ومحل الجواز إِنْ عَيَّن الثوب الأطول وعجل قبل التفرق، فإن لم يعين منع لأنه سلم حال وكذا إن لم يعجل لأنه بيع وسلف إن كان من صنف المسلم فيه، وفسخ دين في دين إن كان من غير صنفه، وظاهر المص كالمدونة عجلت الزيادة على رأس المال أم لا وهو المعتمد، خلافا لظاهر ابن الحاجب من اشتراط تعجيلها. انتهى.
وبهذا تعلم أن من دفعت إليه شيئا في دينه أفضل من دينه وتحمل في ذمته ما يقابل ما زاد على الدين وعين لذلك أجلا وبين ما تحمل به في ذمته، فإن ذلك جائز على المعتمد خلاف ما في شرح التحفة للشيخ ميارة وغيره. واللَّه سبحانه أعلم.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: ومفهوم قوله: "بعد أجله" أنه لو لم يحل الأجل لم يجز على مقتضى المص وغيره. واللَّه تعالى أعلم.
كقبله إن عجل دراهمه صورتها أنه أسلم في ثياب أو ثوب مثلا، ثم إن المسلم زاد للمسلم إليه على رأس المال دراهم ليزيد في طول الثياب أو الثوب فإن ذلك جائز بشرط تعجيل الدراهم. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وشبه في الجواز قوله: "كقبله" أي زاد المسلم في رأس المال دراهم قبل الأجل ليزيد المسلم فيه نفسه طولا على طوله، فالزيادة هنا مستعملة في حقيقتها إن عجل دراهمه المزيدة ولو حكما كتأخيرها ثلاثة أيام؛ لأنه سلم وأجلت الزيادة كأجل السلم لأنها صفقة ثانية أو بقي من أجل الأصل نصف شهر فأكثر، وهَذَانِ شرطان للجواز. والثَّالِثُ ما أفاده الموضوع من أن الزيادة في الطول لا أعرض ولا أصفق كما يذكره المص. والرَّابعُ أن لا يتأخر الأول عن أجله ليلا يلزم البيع والسلف. والخَامِسُ أن لا يشترط في أصل العقد أن يزيده بعد مدة دراهم ليزيده طولا. وقوله:"كقبله إن عجل دراهمه" هو قول ابن القاسم خلافا لسحنون القائل بمنع ذلك.
وغزل ينسجه صورتها أنه دفع غزلا لشخص ينسجه له شقة مثلا طولها كذا وعرضها كذا بدراهم مثلا، ثم دفع إليه غزلا ينسجه في طول الشقة أو عرضها وزاده دراهم فإن ذلك جائز، قال الحطاب: وأما قوله: "وغزل ينسجه" فأشار به لما ذكره ابن القاسم في المدونة على جهة الاستدلال لإجازته الزيادة في طول الثوب المسلم فيه قبل الأجل وأن ذلك صفقتان، فإنه قال إثر الكلام المتقدم: كما لو دفعت إليه غزلا ينسجه ثوبا ستة في ثلاثة ثم زدته دراهم، وغزلا على أن يزيدك في طول أو عرض فلا بأس به وهما صفقتان وهذه إجارة والإجارة بيع من البيوع يفسدها ما يفسد البيع. انتهى. فمسألة الغزل الذي ينسجه ليست من مسائل السلم وإنما هي من مسائل الإجارة، ولذا أجاز فيها أن يزيده غزلا ودراهم على أن يزيده في العرض؛ لأنه لا يدخل هنا فسخ الدين في الدين لأنه إنما يزيده من غزله، ولكن الزيادة في العرض إنما تمكن إذا كان قبل أن ينسج له شيئا. واللَّه أعلم. انتهى.
لا أعرض أو أصفق مخرج من قوله: "كقبله إن عجل دراهمه"، وصورة المسألة أنه أسلم دراهم مثلا في ثوب موصوف ثم زاد المسلِمُ المسلَمَ إليه دراهمَ قبل الأجل على أن يعطيه إذا حل الأجل ثوبا أعرض من ذلك الذي فِى الذمة أو أصفق منه أي أمتن، فإن ذلك لا يجوز لما فيه من فسخ الدين في الدين، والفرق بين هذه وقوله:"كقبله إن عجل دراهمه" حيث كان يزيده طولا أنه إذا
زاده دراهم على أن يزيده طولا فكأن الثوب الأول باق على حاله، وزاده تلك الدراهم على أن يزيده أذرعا أُخر فهي صفقة ثانية، وأما إن زاده قبل الأجل على أن يعطيه أعرض أو أصفق فلابد من تبديل ذلك الثوب المسلم فيه أولا بما شرطاه؛ لأن العرض لا يزاد فيه وكذا الصفاقة. انظر الحطاب.
وقال الباجي: إن زاده قبل الأجل دراهم على أن يزيده في الصفاقة والطول، ففي كتاب محمد: لا يجوز لأنه نقله إلى صفة أخرى، وقال ابن زرقون: ولا يجوز أن يزيده في العرض. ابن عرفة: إن أراد مع الزيادة في الصفاقة، فصواب وإن أراد دونها ففيه نظر. انتهى.
ولا يلزم دفعه بغير محله يعني أنه لا يلزم المسلم إليه دفع المسلم فيه بغير محل القبض أي لا يقضى عليه بدفع المسلم فيه بغير المحل الذي يقضى فيه السلمُ، فإن اتفقا على ذلك جاز.
ولو خف حمله يعني أنه لا يلزم المسلم إليه دفع المسلم فيه بغير محله حيث عظم حمله، بل ولو خف حمله، قال المواق: ابن يونس: إن أتى المسلم إليه في غير البلد المشترط فيه القضاء والدين عين فالقول قول من طلب القضاء منهما، فإن كان عرضا له حمل لم يجبر من أباه وإن لم يكن له حمل كالجوهر ففي كونه كالعين قولان، وهما خلاف في حال إن كان الأمن في الطريق فهو كالعين وإلا فكالعرض؛ وينبغي في الخوف أن تكون المعين كالعرض. انتهى. وقال الحطاب: يعني ولا يلزم دفع المسلم فيه بغير محله ولو خف حمله على المسلم إذا طلبه ويريد إلا العين، وعكس هذا إذا طلب المسلم إليه أن يدفع المسلم فيه إلى المسلم وهو كذلك وهذا في غير العين.
ابن الحاجب: ومن أقرض رجلا شيئا إلى أجل فليس له مطالبته قبل الأجل، ولو رده إليه المقرض قبل أجله لزمه قبوله عرضا كان أو عينا إذا رده إليه في المكان الذي اقترضه منه فيه، وإن رده في غير الموضع الذي أخذه فيه لم يلزم ربه قبوله. وفي الجلاب: ومن اقترض قرضا ولم يشترط للقضاء موضعا فإنه يلزم المقرض القضاء في الموضع الذي اقترض فيه، فإن لقيه في غير ذلك الموضع الذي أقرضه فيه فطلبه بالقضاء لم يلزمه ذلك، ويلزمه أن يوكل من يقضيه عنه في البلد الذي اقترضه منه، ولو اصطلحا على القضاء في البلد الذي هما فيه وهو غير البلد الذي تقارضا فيه كان ذلك جائزا إذا كان بعد حلول الأجل، وإن كان قبل حلوله لم يجز. انتهى. وهذا في غير
العين، وأما المعين فله أخذه به حيثما لقيه بعد الأجل. قاله في كتاب الآجال من المدونة. انتهى كلام الحطاب.
وقد مر عن ابن سلمون أنه يَجِبُ على المسلم إليه إذا لقيه المسلم بغير موضع القبض وقد بقي من الأجل بقدر قطع المسافة التي بين البلدين الخُروجُ مَعَه أو وكيل ينوب عنه في الدفع، سواء كان العرض مما في حمله مشقة مؤنة أو مما لا مؤنة في حمله ويجبر على الخروج أو الوكيل.
فصل في القرض
بفتح القاف وبكسرها وأتبعه للسلم للمشاركة بينهما من وجه كما في التتائي، وهي قوله:"ما يسلم فيه" فتوقفت معرفته أو حكمه على معرفته أو حكمه، وفي أحمد عن بعض الشيوخ: ترجمة المص القرض بفصل دون باب لشبهه بالمسلم فيه في الثبوت في الذمة. انتهى. أي فهو شبيه بالسلم في ذلك ولما فيه من دفع معجل في غيره. قاله عبد الباقي. وقال بناني: القرض في اللغة القطع، وسمي هذا قرضا لأنه قطعة من مال القرض، وفي الشرع قال ابن عرفة: دفع متمول في عوض غير مخالف له لا عاجلا تفضلا لا يوجب إمكان عارية لا تحل متعلق بالذمة. انتهى. هذا حد القرض الصحيح.
وقال في الحد الشامل للصحيح والفاسد ما نصه: القرض دفع متمول في عوض غير مخالف له، لا عاجلا فتخرج المبادلة المثلية ويشمل الفاسد، ويخص الصحيح بزيادة تفضلا لخ، ثم قال: ولو قلنا مماثل بدل غير مخالف لم يشمل إلا ما شرط فيه رد المثل لامتناع مماثلة الشيء نفسه. انتهى المراد منه. وفي الخرشي أن قوله: متعلق، صفة لمتمول. انتهى. وهو غير ظاهر. وفي الدسوقي أنه منصوب حال من قوله: في عوض. انتهى. وهو الصواب. وإن كان مجرورا فهو نعت له. قاله جامعه عفا اللَّه عنه.
واعترض أبو علي قوله: دفع متمول لخ بأنه لا يصح، سواء أراد بالدفع إخراجه من يده للمقترض أو تخليته بينه وبينه؛ لأن كلا منهما مفرع عن وجود القرض لأنه يوجد قبلهما ويلزم بالقبول؛ واستدل على ذلك بأدلة واضحة، فالأولى أن يقول: تمليك متمول. نقله الرهوني. قوله: فتخرج المبادلة المثلية يقتضي أن المبادلة قد تكون غير مثلية وهو كذلك، لقول المص: وجازت مبادلة القليل لخ على أن كلامه يشمل المبادلة في غير النقد.
وقال الخرشي: القرض لغة القطع، سمي قرضا لأنه قطعة من مال المقرض، والقرض أيضا الترك ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} . وقال الإمام الواحدي في تفسيره: القرض اسم لكل ما يلتمس منه الجزاء، وقال الكساءي: القرض ما أسلفت من عمل صالح وسيِّءٍ، وقال الأخفش: تقول العرب: لك عندي قرض صدق وقرض سوء، وقال ابن كيسان: القرض أن تعطي شيئا ليرجِعَ إليك مثلَه، أصله في اللغة القطع، ومنه القراض ومعنى أقرضته قطعت له قطعة
يجازي عليها، وأقرض القوم إذا هلكوا لانقطاع أثرهم. وقوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} القرض فيه اسم لا مصدر، ولو كان مصدرا لقال: إقراضا، قال أهل المعاني: هذا يطلق من اللَّه تعالى في الاستدعاء إلى أعمال البر، ولذلك أضاف الإقراض له كأنه قيل من ذا الذي يعمل عملا ليأخذ أضعاف ما تقدم في وقت فقره وحاجته؟ أي من ذا الذي يقدم لنفسه إلى اللَّه ما يجد ثوابه عنده؟.
والقرض الحسن أن يكون حلالا وأن يكون من أكرم وأجود ما يملكه لا من ردي، وأن يكون في حال صحته وعافيته ورجائه الحياة، وأن يضعه في الأحوج الأحق بالدفع إليه وأن يكتمه، وأن لا يتبعه منا ولا أذى، وأن يقصد به وجه خالقه فلا يراءي به، وأن لا يستكثر ما يتصدق به وأن يكون من أحب ماله إليه. والقرض مندوب مرغب فيه شرعا وقد يعرض له ما يصيره واجبا أو حراما أو مكروها، وفي افتقار القرض للفظ مصرح به قولان، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل فأمر أبا رافع أن يعطيه بكرا، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا رباعيا أو خيارا، فقال:(أعطه إياه إن خيار الناس أحسنهم قضاء)، فَإِنْ قيل إن كان النبي صلى الله عليه وسلم اقترض لنفسه فالزكاة محرمة عليه، وإن كان اقترض للمسلمين بطريق الإنابة فكيف يقضي عنهم بأكثر مما عليهم؟ فَالْجَوَابُ كما قال سند: المراد بالصدقة مال الجزية كانت تسمى صدقة من اللَّه على هذه الأمة وهي حلال له.
وقال صاحب الاستذكار: كان ذلك قبل تحريم الصدقة عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام ودرهم القرض بثمانية عشر درهما ودرهم الصدقة بعشرة دراهم. كذا رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على باب الجنة، فقال:(يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة)
(1)
، فقال السائل يسأل وَعِندَهُ والمقترض لا يقترض إلا من حاجة، قال بعض العلماء: حكمة كون القرض ثمانية عشر أن درهم القرض بدرهمين من دراهم الصدقة كما ورد، ودرهم الصدقة بعشرة ودرهم القرض يرد للمقرض بدله وهو درهمان من جملة مبلغ أصله وهو عشرون يتأخر للمقرض ثمانية عشر، وفي هذا
(1)
سنن ابن ماجه، كتاب الصدقات، رقم الحديث، 2431.
مع قوله عليه الصلاة والسلام: (يا جبريل ما بال القرض) دليل على أن القرض أفضل من الصدقة. انتهى.
يجوز قرض ما يسلم فيه فقط يعني أنه يجوز قرض كل شيء يصح أن يسلم فيه من عرض وحيوان وغيرهما، وأراد بالجواز الإذن فلا يرد عليه قول ابن عرفة تعسرا اباحته وقد يعرض له ما يوجبه كتخليص مستهلك بقرضه أو كراهتَهَ كجلد ميتة دبغ على رأي أو حرمته كجارية تحل للمستقرض وقوله فقط، معناه أنه لا يجوز أن يقرض إلا ما يسلم فيه فلا يجوز قرض الجزاف ولا الدار ولا الأرض ولا جلد ميتة مدبوغ ولا جلد أضحية؛ لأن القرض بيع إلا أنه غير مبني على المكايسة، فكيف يقرض ما لا يصح بيعه؟ وقولي: الجزاف يستثنى منه مكيال مجهول يوفيه مثله.
وفي المعيار: سئل سيدي عيسى بن علال عن سلف خليع الأضحية، فأجاب بأنه لا يجوز وهو كالبيع، وقد أورد عبد الباقي على المص أربعة أشياء: جلد الأضحية وجلد ميتة دبغ وقرض بمكيال مجهول على أن يرد مثله وقرض ويبات وحفنات، قائلا: إن هذه يجوز قرضها دون السلم فيها على أحد قولين في الرابع، وأورد خامسا أيضا وهو الطعام حيث كان رأس المال طعاما وذلك لا يرد على المص؛ لأن الراجح في الأولين منع قرضهما كما صرح به أبو علي، وأما الآخَرُ فلأن الطعام مثله يجوز فيه السلم والقرض من حيث ذاته، والاختلاف من حيث الوصف لا يضر. انظر حاشية الشيخ محمد بن الحسن، وحاشية الرهوني.
إلا جارية تحل للمستقرض يعني أن السلم في الجواري جائز، وأما القرض فإنه لا يجوز فيه قرض جارية تحل للمستقرض، قال عبد الباقي: إلا جارية تحل للمستقرض ولم يتعذر وطؤه لها فلا يجوز قرضها لما في ذلك من عارية الفروج، ولذا انتفى المنع إن حرمت عليه أو تعذر وطؤه لها لصغره أو كونه شيخا فانيا أو لكونها في سن من لا توطأ مدة القرض في الثلاثة، أو كان المقترض امرأة فيجوز قرضها. انتهى. وقال بناني: قال في التوضيح: أجاز ابن عبد الحكم في الحمديسية قرضهن إذا اشترط عليه أن لا يرد عينها، وإنما يرد مثلها ثم قال: وعلى هذا -وهو نقل الموثوق بهم- لا تبعد موافقته للمشهور. انتهى. ونحوه لابن عبد السلام. انتهى.
وقوله: "إلا جارية تحل للمستقرض" يستثنى منه ما لو قلت لشخص اشتر لي كذا بجاريتك هذه فاشتراه لك بها فإنه يلزمك رد مثلها وهي سلف، وإنما جاز ذلك لأنها لا تصل ليد مستقرضها، قال الإمام الحطاب عند قوله:"إلا جارية تحل للمستقرض": استُثنِي من ذلك مسألة ذكرها ابن يونس في كتاب الوكالات، ونقلها الشيخ أبو الحسن في شرح قوله في المدونة: ولا بأس أن تأمره يبتاع لك عبد فلان بطعامه هذا أو بثوبه هذا وذلك قرض وعليك المثل فيما قال، قال بعض شيوخنا: أو بجاريته هذه ويكون عليك مثلها، ولا يتأتى فيها عارية الفروج لأنها لا تصل ليد المستقرض. قال أبو الحسن: وربما ألقيت فيقال أين يجوز قرض الجارية من غير المحرم منها؟ فيقال في مثل هذه الصورة أو تقضى عنه في الدين، وقوله:"إلا جارية تحل للمستقرض" يفيد أن للمقترض أن يرد الشيء القرض إن شاء، قال المواق: وكل ما يجوز السلم فيه يجوز قرضه، وهذا في مراعاة رد المثل، وأما مراعاة رد العين فتعرض فيه المحاذرة من عارية الفروج؛ إذ من أحكام القرض أن يرد عينه إن شاء أو مثله. انتهى. وقال بناني عن التوضيح: ومن صحح أن جلد الميتة المدبوغ يصح قرضه ولا يصح أن يسلم فيه، فقوله غير صحيح بكل اعتبار. واللَّه أعلم. انتهى.
وقال قبل هذا عن التوضيح ما نصه: والظاهر أن الكلية التي ذكرها المص مطردة منعكسة، فأعطى كلامه أن كل ما يصح أن يسلم فيه إلا الجواري يصح أن يقرض وكل ما يصح أن يقرض، يصح أن يسلم فيه. انتهى. وإنما لم يقل المص للمقترض مع أنه أخصر نظرا لحرمة القرض، وإنما المستقرض طالب القرض كما تقتضيه السين. واللَّه سبحانه أعلم.
وردت إلا أن تفوت يعني أن الشخص إذا اقترض جارية لا يحل له اقتراضها فإنه يجب ردها إن اطلع على ذلك قبل فواتها، وأما إن لم يطلع على ذلك إلا بعد فواتها بمفوت البيع الفاسد، فالواجب فيها القيمة أي يجب على المقترض دفع قيمتها لقرضها، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وإن وقع أنه استقرض جارية تحل له ردت وجوبا إلا أن تفوت عنده بمفوت البيع الفاسد بكوطء أو حوالة سوق أو غيبة عليها، وإن لم يحل سوقها خوف أن يكون وطئها. قاله التتائي.
وفي الشيخ سالم عن التوضيح ليست فوتا ويؤيده أن المص لم يذكرها في المفوتات، وفي أحمد عن ابن عرفة ثلاثة أقوال لخ، نص ابن عرفة: وفي فوتها بمجرد الغيبة عليها ثالثها إن كانت غيبة يشبه الوطء فيها للصقلي عن بعض الأصحاب، وظاهر نقل اللخمي عن المعونة والمازري بزيادة وظُن بالقابض الوطء. انتهى. وقال المواق: القاضي: من اقترض أمة ردها. ابن يونس: فإن فاتت بالوطء فالأصوب من القولين أن عليه قيمتها لا رد مثلها.
كفاسده أي القرض يعني أن الفاسد من القرض أي من جميع مسائل القرض إذا فات بمفوت البيع الفاسد فإنه تجب فيه القيمة يوم القبض. ابن شأس: أكثر المتأخرين في فساد القرض على رده لحكم البيع الفاسد. قاله المواق. وقال الشارح: وقد اختلف المتأخرون فيما يقضى به في فاسد القرض، فأكثرهم على رده إلى البيوع الفاسدة فيجب المثل فيما له مثل والقيمة في غيره، ورأى أبو القاسم بن محرز أن لا يؤخذ المقترض إلا بما دخل عليه فيغرم المثل ثم يباع للمقرض ويعطى له، فإن كان مساويا للقيمة أو ناقصا عنها فليس له سواه، وإن زاد عليها وقف الزائد، فإن طال وقفه تصدق به عن من هو له واختاره المازري. بعض الأشياخ: وكلام ابن محرز هذا يجري في مسألة الجارية. انتهى.
تنبيه:
إذا أولد المقترض الجارية التي لا يحل له اقتراضها فإنه لا تلزمه قيمة الولد وتكون به أم ولد، ولا حد عليه كما حققه بناني، والفرق بينها وبين ضمان قيمة ولد الغارة والمستحقة شبهة الخلاف هنا فكأنها مملوكة والغارة والمستحقة حملتا وهما في ملك الغير. انتهى. قاله عبد الباقي. وقد مر في قول ابن محرز وقف الزائد، قال الخرشي: فإن قيل ما فائدة وقف الزائد؟ أجيب بأن ابن محرز إنما ذكره فيما فسد لقصد المقرض، ففائدة الوقف حينئذ رجاء انتقال المقترض عن تمسكه بما دخل عليه من حكم المقرض الصحيح لحكم ما قصد المقرض، وفيها إن علم أن المقرض أراد بالقرض نفع نفسه كان فاسدا. انتهى. وهنا قاعدة وهي أن المستثى من أصل إذا فسد رد إلى فاسد أصله لا إلى صحيح نفسه. انظر كبير الخرشي.
وحرم هديته يعني أن المقترض يحرم عليه أن يهدي للمقرض لما فيه من السلف بزيادة، وكذا المدين من بيع فيمنع هديته لرب الدين؛ لأنه يئول إلى السلف بزيادة. قاله التتائي. وهديته
مصدر مضاف لفاعله وكذا ما بعده إلا في ذي الجاه والقاضي، فالمصدر مضاف إلى مفعوله ثم الحرمة ظاهرا وباطنا إن قصد المهدي بهديته تأخيره بالدين، ووجب ردها إن كانت قائمة، فإن فاتت بمفوت البيع رد مثل المثلي وقيمة القوم يوم قبضها وظاهرا فقط إن قصد بها وجه اللَّه كمكافأة لرب الدين، لخبر:(من صنع معكم معروفا فكافئوه فإن لم تكافئوه فادعوا له حتى تظنوا أنكم كافأتموه)
(1)
أو ما هذا معناه ولا يحرم عليه فيما بينه وبين اللَّه ولا على رب الدين القبول حينئذ باطنا أيضا، وإنما يكره لمن يقتدى به الدفعُ أو القبول حيث لم يقصد تأخير الدين ليلا يكون ذريعة لفعل الذي يقتدى به لما لا يجوز، ومثل هدية المديان لرب الدين إطعامه رجاء أن يؤخره، ويحرم على ربه أكله إذا علم ذلك من غرضه.
وقال أبو الحسن: يجوز لرب الدين أكل طعام الغريم إذا جاءه ليقضي دينه ذكره في النوادر، ولعل محل الجواز ما لم يزد في ضيافته ويعلم أن تلك الزيادة لأجل تأخيره الدين. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب عن ابن رشد: إنه يجوز للمدين أن يفعل ذلك إذا صحت نيته فيه، بأن لم يرد بذلك التأخيرَ كما كان يفعله. ابن شهاب: ويكره لرب الدين القبول وإن تحقق صحة نيته إن كان ممن يقتدى به.
إن لم يتقدم مثلها يعني أن محل حرمة هدية المدين مقترضا أو غيره لرب الدين إنما هي حيث لم يتقدم من المدين لرب الدين الهدية قبل الدين، وأما إن تقدم من الدين هدية لرب الدين قبل فإنه لا تمنع هدية الدين لرب الدين حينئذ، قال عبد الباقي: إن لم يتقدم مثلها فإن تقدم مثلها من الهدي للمهدى له صفة وقدرا واعتادها قبل الدين، وعلم أن تلك السابقة (ولو سنين)
(2)
ليست لأجل الدين اللاحق فيجوز.
أو يحدث موجب يعني أنه إذا حدث بين المدين ورب الدين ما يوجب الهدية كمصاهرة أو جوار فإنه لا تحرم حينئذ هدية المديان لرب الدين، قال عبد الباقي: والظاهر التقييد أيضا بأن يعلم أن هديته له بعد الموجب لا لأجل رينه. انتهى. وقال الشارح: يعني أن هدية المديان تحرم على
(1)
سنن أبى داوود، كتاب الزكاة، رقم الحديث، 1672.
(2)
في عبد الباقي ج 5 ص 227: ولو بسنين.
رب الدين فلا يجوز له قبولها، وهذا إذا لم تجر بين المتعاملين هدية، فإن كانت العادة جريان الهبة بينهما من غير معاملة أو لم تكن جارية بينهما لكن حصل بينهما ما يوجب الهدية كالمصاهرة ونحوها فإنها جائزة. انتهى.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: لا ينبغي هدية مديانك إلا من تعودت ذلك منه قبل أن تداينه وتعلم أن هديته إليك ليست لأجل دينك فلا بأس بذلك. ابن شأس عن بعض المتأخرين: إن حدث بينهما من الاتصال ما يعلم به أن الهدية له جازت. انتهى. وقال الخرشي: والمعنى أن الذي عليه الدين يحرم عليه أن يهدي لصاحب الدين هدية ويحرم على صاحب الدين قبولها، وعبارة ابن عرفة: فيها مع غيرها، لمالك لا ينبغي هدية مديانك إلا من تعودت ذلك منه قبل أن تداينه وتعلم أن هديته إليك ليست لأجل دينك فلا بأس بذلك. انتهى. فدل على تكرر الاعتياد وأن يعلم أنها ليست لأجل الدين.
كرب القراض يعني أنه تحرم هدية رب القراض للعامل، فالمصدر القدر بعد الكاف مضاف لفاعله كما مر، وكذا في قوله: وعامله يعني أنه تحرم هدية العامل لرب القراض قبل شغل العامل في المال اتفاقا، بل ولو بعد شغل المال وهذا القول رجحه ابن يونس، وقيل إذا شغل المالَ العاملُ جازت هدية العامل لرب المال، وإلى ترجيح ابن يونس للأول أشار بقوله: على الأرجح قال المواق من المدونة قال عطاء: إن قارضت رجلا مالا أو أسلفته إياه فلا تقبل منه هدية إلا أن يكون من خاصة أهلك لا يهدي لك من أجل ما يظن فَخُذْ منه، وقال ابن بشير: أما هدية العامل لرب المال فإن لم يشغل المال منعت اتفاقا، قال ابن يونس: لأن لرب المال أخذه منه فيتهم أنه إنما أهدى إليه ليبقى المال بيده، وإن شغله جاز قبول هديته إذ لا يقدر رب المال على أخذه منه، وقيل لا يجوز قبول هديته وإن شغل المال لأنه يتهم إذا نض أن يبقى في يده. ابن يونس: وبهذا أقول. انتهى.
وقال عبد الباقي: كرب القراض وعامله تشبيه تام، فيحرم هدية كل منهما للآخر إن لم يتقدم مثلها أو يحدث موجب، وبالغ على قوله:"وعامله" فقط ولو بعد شغل المال على الأرجح نظرا
(1)
للمئال أي يمنع هدية العامل بعد شغل المال لربه نظرا لما بعد نضوض المال ليعمل به ثانيا، وقيل يجوز نظرا للحال بالحاء المهملة لعدم القدرة على فسخه بعد الشغل. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن هدية رب القراض للعامل حرام ليلا يقصد بذلك أن يستديم العمل فيصير سلفا جر نفعا، وكذلك تحرم هدية العامل لرب القراض وسواء شغل المال أو لم يشغله، أما قبل شغله للمال فلا خلاف لأن لرب المال أخذه منه فيتهم أنه إنما أهدى إليه ليبقى المال بيده، وأما بعد الشغل فعلى المشهور، وقيل يجوز وهما مبنيان على اعتبار الحال فيجوز لعدم قدرة رب المال على انتزاعه منه حينئذ، والمئال وهو أن يرتقب من رب المال بعد نضوض هذا المال أن يعامله ثانيا لأجل هديته له.
وذي الجاه يعني أنه تحرم الهدية لذي الجاه إن لم يتقدم مثلها أو يحدث موجب. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: يعني أنه لا يجوز لذي الجاه أخذ مال على جاهه. انتهى. وقال بناني: قال أبو علي في شرحه: التحقيق أنه لا يمنع الأخذ على الجاه إلا إذا كان الإنسان يمنع غيره بجاهه من أمر يجب على ذي الجاه دفعه عنه، بأن يكون من غير مشي ولا حركة، وأنَّ قول المص:"وذي الجاه" مقيد بهذا أي من حيث جاهه فقط، كما إذا احترم زيد مثلا بذي جاه ومنع من أجل احترامه فهذا لا يحل له الأخذ من زيد، وكذا قَوْلُ ابن عرفة تجوز المسألة للضرورة إذا كان يحمي بسلاحه، فإن كان يحمي بجاهه فلا لأنها ثمن الجاه. انتهى. يَجِب أن يقيد بما ذكر، وَبيانه أن ثمن الجاه إنما حرم لأنه من باب الأخذ على الواجب، ولا يجب على الإنسان أن يذهب مع كل أحد. انتهى.
وفي المعيار سُئِلَ أبو عبد اللَّه القوري عن ثمن الجاه فأجاب بما نصه: اختلف علماؤنا في حكم ثمن الجاه، فمن قائل بالتحريم بإطلاق ومن قائل بالكراهة بإطلاق ومن مفصل فيه، وأنه إن كان
(1)
في الأصل: نظر، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 227.
ذو الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر فأخذ مثل أجر نفقته فذلك جائز وإلا حرم. انتهى. قال أبو علي: وهذا التفصيل هو الحق. وفي المعيار أيضا: سئل أبو عبد اللَّه العبدوسي عمن يجوز الناس من المواضع المخوفة ويأخذ منهم على ذلك فأجاب: ذلك جائز بشروطٍ، أن يكون له جاه قوي بحيث لا يتجاسر عليه عادة، وأن يكون سيره مَعَهُمْ بقصد تجويزهم فقط لا لحاجة له، وأن يدخل معهم على أجرة معلومة أو يدخل على المسامحة بحيث يرضى بما يدفعون له. انتهى.
وفي المعيار أيضا: سئل بعضهم عن رجل حبسه السلطان أو غيره ظلما فَبَذَلَ مالًا لمن يتكلم في خلاصه بجاهه أو غيره، هل يجوز؟ فأجاب: نعم يجوز، صرح به جماعة منهم (القاضي الحسين)
(1)
ونقله عن القفال. انتهى. وفي الحطاب على المناسك فيمن توجه عليه وعلى جماعة مظلمة بقدر معين يوزعونه بينهم، وكان إذا احتمى شخص من دفع ما عليه يتحقق أنها تؤخذ من باقيهم ثلاثة أقوال: عدم الجواز لابن المنير أي وهو قول سحنون كما في المواق، والجواز للداودي والثالث وهو اختيار الشيخين أنه لا ينبغي، فإن جعل المظالم على كل واحد شيئا معينا يأخذه أو على كل جمل أو حمل من غير نظر لغيره، وتحقق أنه إذا احتمى منه شخص لا يجعل حصته على غيره فيجوز الاحتماء منه قطعا. قاله عبد الباقي.
وقال عبد الباقي: فإن جهل هل يجعلها على غيره أو لا ففي القسم الأول المنع؛ لأن الأصل فيما يدفعه عن نفسه أخذه من غيره وفي الثاني الجواز. انتهى. قوله: ففي القسم الأول المنع ظاهره اتفاقا وفيه نظر، لأن من يقول بالجواز مع تحقق جعلها على الغير أو أن ذلك لا ينبغي يقول به في الجهل بالأحرى، وصوابه أن يقول ففي القسم الأول الثلاثة الأقوال هكذا استظهر التاودي، فإن وجد نص بذلك فلا إشكال وإلا فلا يلزم القائل بالمنع في القطع أن يقول به مع الجهل. فتأمله. واللَّه أعلم. انتهى. قاله الرهوني. ولقد صدق في أن القائل بالمنع مع القطع لا يلزمه أن يقول به مع الجهل بل ظاهر كلامه الجواز حينئذ. واللَّه سبحانه أعلم.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 227.
والقاضي يعني أنه تحرم الهدية للقاضي، قال عبد الباقي: والقاضي تحرم الهدية له ويأتي في القضاء أن في جواز الهدية التي اعتادها قبل الولاية قولين، قُلْتُ ولعل الفرق شدة حرمة الرشوة إذ لم يقل بها أحد بخلاف ما قبله، فإن الشافعي يجوز الأخذ على الجاه ومحل الحرمة على الدافع للقاضي إن أمكنه خلاص حقه أو دفع مظلمة عنه بدون الرشوة؛ فإن لم يمكنه خلاص حقه أو دفع مظلمة ضنه بدون ذلك فالحرمة على القاضي فقط. انتهى. وقال المواق في طرر ابن عات: جواز إعطاء الرشوة إذا خاف الظلم وكان محقا، قال سيدي ابن سراج رحمه الله: فهي على هذا جائزة للدافع حرام على الآخذ. انتهى.
ومبايعته مسامحة يعني أنه تحرم مبايعة من ذكر من المدين وذي الجاه والقاضي مسامحة أي بدون ثمن المثل، قال عبد الباقي: ومبايعته أي من تحرم هديته من المدين وذي الجاه والقاضي تحرم مبايعته مسامحة أي بغير ثمن المثل، فإن وقع رد إلا أن يفوت بمفوت البيع الفاسد ففيه القيمة في المقوم والمثل في المثلي، وأما مبايعة رب الدين للمدين من غير مسامحة فقيل تجوز وقيل تكره، وأما مبايعة رب الدين للمدين مسامحة فتكره فقط خشية أن يحمله ذلك على أن يزيده المدين في الثمن ليؤخره أو ليعملا على فسخ الدين في الدين. انتهى. وقال التتائي: والظاهر أن الحرمة يعني حرمة الهدية متعلقة بالآخذ والمعطي في المسائل الأربع رب المال وعامله وذي الجاه والقاضي. انتهى. وقوله: "مبايعته مسامحة" فإن وقعت ردت إلا أن تفوت، فالقيمة في القوم والمثل في المثلي. نقله الخرشي.
وجر منفعة مصدر مضاف لمنفعة مرفوع معطوف بالواو على هديته كما في بعض النسخ هذا هو الصواب؛ يعني أنه يحرم القرض الذي يجر المنفعة إلى المقرض بكسر الراء. ابن يونس: من أبواب الربا ما جر من السلف نفعا، قال في المدونة: ما علم فيه قصد جر فسخ لا ما ادعاه المقرض. وسمع ابن القاسم: من أسلف شاة مسلوخة جاز وعلى أن يقضيه كل يوم قدرا معروفا لا أحبه. قاله المواق. وقال الخرشي: ولا يجوز سلم شاة مسلوخة لتأخذ كل يوم كذا وكذا، ومثله من يدفع قدرا معينا من الدقيق لخباز في قدر معين من الخبز على أن يأخذ منه كل يوم قدرا معينا، وكذلك
لا يجوز بيع الدقيق له بقدر معين من الدراهم على أن يعطيه بها قدرا معينا من الخبز لأنه اقتضاء طعام عن ثمن الطعام. انتهى.
كشرط عفن بسالم هذا مثال للسلف الذي جر منفعة، والمعنى أنه لا يجوز أن يقرضه عفنا ويشترط عليه أن يقضيه بسالم. قال عبد الباقي: ومثل للمنوع بقوله: كشرط قضاء عفن بسالم والعادة العامة أو الخاصة كالشرط. انتهى. وقال الخرشي: والمعنى أنه إذا أسلم طعاما عفنا بشرط أن يأخذ عنه طعاما سالما فإنه لا يجوز. انتهى. ولو قال: معيب بدل عفن لكان أحسن ليشمل أنواع العيب كلها والمنع في هذه وما بعدها مع الشرط، ويجوز قضاء ما ذكر مع عدم الشرط، والباء في قوله:"بسالم" متعلقة بقضاء مضاف لعفن وهي باء الآلة. واللَّه سبحانه أعلم. وفي المدونة: فإن ابتغيت بالقرض نفع الذي أقرضته جاز، وإن ابتغيت به نفع نفسك بطل. بعض الأشياخ يريد: وكذلك يبطل إذا ابتغى به نفعهما معا. واللَّه أعلم. وقوله: "كشرط عفن بسالم" قد علمت أن المراد شرط معيب بسالم كما لو أسلف سائسا أي مسوسا أو مبلولا أو رطبا أو قديما ليأخذ سالما أو جديدا أو يابسا.
أو دقيق أو كعك ببلد يعني أنه يمنع أن يسلف دقيقا ببلد بشرط أن يأخذ مثله في بلد آخر ولو للحاج لما فيه من تخفيف مؤنة حمله، وكذلك يمتنع أن يسلف كعكا ببلد بشرط أن يأخذ بدله ببلد آخر فقوله:"ببلد" أي ليأخذ بدله ببلد آخر، وهذا يرشد له قوله:"وجر منفعة". قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وشرط دفع دقيق أو كعك ببلد هُما به ليوفيه ببلد آخر، ولو لكحاج لما فيه من تخفيف مؤنة ومفهومه الجواز مع عدم الشرط وهو كذلك، خلافا لما في الحمديسية من جواز ذلك ولو مع الشرط للحاج ونحوه، ثم إن هذا داخل في قوله:"أو عين عظم حملها" انتهى. وقال المواق من الواضحة: لا يجوز سلف الطعام السائس ولا العفن ولا القديم ليأخذ جديدا إلا إن نزلت بالناس حاجة فسألوا رب الطعام المذكور؛ إذ المنفعة لهم دونه يريد أن الطعام المذكور لو باعه حينئذ باعه بثمن غال، وفي الغالب أن الطعام الذي يودون يكون وقت الأداء أرخص وإن كان غير ساش ولا معفون. ومن المدونة: ولا يجوز قرض كعك أو سويق على أن يوفيه ببلد آخر ولْيُسْلِفه ولا يشترط، قال أبو عمر: لا يشترط إلا القضاء. انتهى.
أو خبز فرن بملة يعني أنه يحرم أن يسلفه خبز فرن بشرط أن يأخذ عنه خبز ملة لما فيه من سلف جر نفعا: والفرن بالضم الخبز. قال عبد الباقي: أو شرط خبز فرن بملة بفتح الميم رماد حار يخبز به، أو حفرة يجعل بها رماد حار يخبز به وعليهما ففيه حذف مضاف أي بخبز ملة، وقيل هي اسم لنفس خبز الرماد الحار، وعليه فلا تقدير ولعل خبز الملة هو المعبر عنه في مصر بخبز الحصا وهو أحسن من خبز الفرن، وأما خبز فرن بمثله أو خبز ملة بمثله فجائز مع تحري ما فيهما من الدقيق، فلا يكفي وزن الخبزين من غير تحري دقيقهما، وذكر اللخمي اعتبار وزنهما وتحري دقيقهما إن كانا من جنس واحد ربوي؛ فإن كانا من جنسين أو من جنس واحد غير ربوي اعتبر وزنهما فقط عنده. انتهى.
وقال الخرشي: يعني ومما هو ممنوع أن يعطي خبز فرن بشرط أن يأخذ عنه خبز ملة لأنه سلف يجر منفعة. وقوله: "كشرط عفن" لخ اعلم أن العادة كالشرط كما مر، قال الأقفهسي: كلام المؤلف أي صاحب الرسالة يشمل العامة والخاصة. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إن أقرضته خبزا لفرنٍ فلا تشترط عليه خبز تنور أو ملة، ويجوز إن قضاك بغير شرط تحريا كأخذ السمراء من المحمولة أو دينار دمشقي من كوفي بهذا المعنى. انتهى. وفي الذخيرة عن بعض الأشياخ أن خبز التنور والملة جنس واحد. انتهى.
أو عين عظم حملها يعني أنه لا يجوز سلف عين أي ذات عظم حملها نقدا أو حبا أو عسلا أو غير ذلك، بشرط أن يأخذ بدلها ببلد آخر لانتفاع المقرض بسقوط الحمل عنه في الطريق. فهذه أمثلة لما جر منفعة للمقرض ولو قَلَّتْ. وكذا لهما أو لأجنبي بخلاف ما إذا تمحضت المنفعة للمقترض فيجوز، وقوله:"أو عين عظم حملها" عطف على "عفن".
كسفتجة مثال للعين التي عظم حملها والسفتجة لغة أعجمية بفتح السين وسكون الفاء وفتح التاء المثناة فوق وبالجيم، ويجمع على سفاتج ويجمع أيضا على سَفتَجات بفتح السين والتاء جمع سلامة، والمراد بها الكتاب الذي يرسله المقترض إلى وكيله ليدفع لحامله ببلد آخر نظير ما تسلفه؛ لأن المسلف انتفع بحرز ماله من آفات الطريق. قاله الخرشي وغيره.
إلا أن يعم الخوف يعني أن محل الحرمة في مسألة السفتجة إنما هو حيث لم يعم الخوف، وأما إن عم الخوف أي غلب في جميع طرق المحل الذي يسير به المقترض غلبة يغلب بها على الظن الهلاك أو قطع الطريق فيجوز أي يؤذن؛ إذ هو مندوب كما في الشارح وحلولو تقديما لمصلحة حفظ النفس أو المال على مضرة سلف جر نفعا، فإن شك في الهلاك أو في قطع الطريق أو غلب لما في جميع طرقه بل في بعضه ولو كان غيره أبعد أو غلب في جميعه لكن بالنسبة لغيره لا له فإنها لا تجوز. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وقال المواق عن ابن عرفة في جواز قرض العين على قضائها ببلد آخر لخوف الطريق أربعة أقوال: جوز ذلك ابن عبد الحكم، ومذهب المدونة المنع، الباجي: وهو المشهور، وقال اللخمي قال عبد الوهاب: إن كانت المنفعة في السفاتج للمعطي لما يخاف من غرر الطريق لم يجز، قال اللخمي: يريد إذا لم يكن الهلاك وقطع الطريق غالبا فإن كان ذلك الغالب جازت ضرورة، وأجيزت صيانة للأموال كقول مالك في الكراء المضمون: يؤخر أكثر النقد. وقال: قد اقتطع الأكرياء أموال الناس وهذا هو الدين بالدين، فأجازه ليلا تهلك أموال الناس. انتهى.
وقال الشارح: ومما يمتنع أيضا دفع عين عظم حملها ليأخذ مثلها في بلد آخر، ومثل لذلك بالسفتجة وهي كتاب صاحب المال لوكيله في بلد آخر ليدفع إلى حامله مقدار ما تسلف منه ليدفع بذلك غرر الطريق ومؤنة الحمل، وهذا هو المشهور وهو مذهب المدونة، وقيده عبد الوهاب واللخمي بما إذا لم يكن قطع الطريق غالبا، فإن غلب استحب ذلك صيانة للأموال. وإلى هذا التقييد أشار بقوله:"إلا أن يعم الخوف"، واستدل القاضي واللخمي على ما قدماه بقول مالك في الكراء المضمون مقابل المشهور لمحمد بن عبد الحكم بالجواز، وحكى ابن الجلاب عن مالك الكراهة، فإن لم تحمل الكراهة على المنع كان قولا ثالثا، وكذا يكون قول عبد الوهاب واللخمي رابعا إن لم يجعل تقييدا. انتهى.
وكعين كرهت إقامتها صورتها أن يكون الشخص عنده ذات من نقد أو قمح أو غيرهما، وتكره إقامتها عنده خوف تلفها بسوس أو عدو أو غير ذلك، فإنه لما يجوز أن يسلفها ليأخذ غيرها لأنه سلف جر نفعا؛ لأنه إنما قصد نفع نفسه حينئذ، ومحل المنع مع الشرط أو العرف لا إن فقدا.
انظر الخرشي. وقال عبد الباقي: وكعين أي ذات قمح أو فول أو غيرهما كرهت إقامتها عند مالكها خوف تلفها بسوس أو عفن، فيحرم سلفها ليأخذ بدلها لأنه سلف جر نفعا، ومحل المنع مع الشرط أو العرف كما مر لا إن فقدا. انتهى. وقد فسروا المعين في هذه وفي التي قبلها بالذات، فما أدخلت الكاف في هذه.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: تُدْخِلُ ما إذا قصد المقرض نفع نفسه أو مع غيره فيما لم تكره إقامته عنده. واللَّه سبحانه أعلم. فإنهم نصوا على المنع فيه.
إلا أن يقوم دليل على أن القصد نفع المقترض فقط يعني أن محل المنع فيما مر من قوله: "كشرط عفن بسالم" إلى هنا إنما هو حيث لم يقم دليل على أن القصد نفع المقترض فقط؛ بأن قصد المقرض نفع نفسه فقط أو نفع نفسه مع غيره أو نفع أجنبي أو لم يقم دليل على شيء، وأما إن قام دليل على أن القصد نفع المقترض فقط فإن المقرض يجوز في الجميع أي في جميع المسائل الخمس السابقة. قال عبد الباقي: إلا أن يقوم دليل أي قرينة على أن القصد نفع المقترض فقط فيجوز في الجميع أي جميع المسائل الخمس السابقة، كما إذا كان المسوس أو القديم الذي خاف أن يسوس إذا باعه أتى ثمنه بأضعاف ما يأتي له بدل المقرض لمسغبة أو غلاء قبل نبات ما يحصل. ومفهومه المنع إن قصد المقرض نفع نفسه مع نفع المقترض أو نفع المقرض فقط أو نفع أجنبي كما أفتى به ابن ناجي وشيخه. انمهى. وقال المواق: ابن عرفة في الموازية: قرض طعام أو حيوان أو غيره ببلد علي أن يوفيه ببلد آخر لما يجوز. اللخمي: إلا أن يقوم دليل كون المنفعة للمستقرض وحده. انتهى.
قال عبد الباقي: وشبه في المستثنى المتصل الجائز أو مثل له فقال: كفدانٍ مُستحصِد بكسر الصاد المهملة اسم فاعل من استحصد وهو لازم أي طلب الحصد بأن حان أوان حصده، خفت مؤنته أي الفدان عليه أي على المقرض من حصده ودرسه وذروه ليسارته في جانب زرعه، فأخذه المقترض حال كونه يحصُده بكسر الصاد وضمها ويدرسة ويذروه وينتفع به، ولم يقصد المقرض نفع نفسه بفعل المقترض كما في المواق عن المدونة، والتشبيه يفيده فلم يُخِلَّ به المص كما ظنه بعضهم قائلا: لأنه لا يلزم من خفته عليه عدم قصد نفع نفسه، ويرد المقترض مكيلته على المقرض والتبن
للمقرض بكسر الراء، فإن هلك الفدَّان قبل حصد المقترض له لم يضمنه بل من ربه لأنه مما فيه حق توفية كما هو الظاهر. انتهى كلام عبد الباقي. وقال الخرشي: والمعنى أن من أتى إلى رجل له زرع آن حصاده فاقترض منه فدانا من ذلك الزرع أو فدانين وقد خفت مؤنة ما ذكر على المقرض من حصد ودرس ونحوهما بالنسبة لزرعه، فأخذ المقترض ذلك ليحصده ويدرسه ويذريه وينتفع به ويرد مثل مكيلته فإن ذلك جائز إذا كان على وجه المنفعة للمقترض فقط، لا إن قصد نفع نفسه أو هو مع المقترض فلا يجوز، ولو خفت مؤنته، وقصد نفع الأجنبي كقصد نفع نفسه كما يفيده كلام المدونة، ونحوه لابن ناجي أي بلغ الحصاد فهو من باب تسمية الشيء بما يقرب منه.
وقوله: "خفت مؤنته عليه" أي على المقرض أي خفت مؤنة ما أقرضه عليه من حصد ودرس وتذرية بالنسبة لزرعه، بل ولو لم يكن له زرع إلا هذا الذي أقرضه. وفهم من قوله:"ويرد مكيلته" أن المقرض هو المكيلة، وقول المؤلف:"إلا أن يقوم دليل" لخ قال الخرشي: لما يخالف ما تقدم عند قوله: "والشيء في مثله قرض" من أن المقرض إذا قال قصدت نفع نفسي فإن أثبت ذلك عمل به، وكذا إن صدقه المقترض في ذلك وإلا فالقول قول المقترض إذ ما هنا فيما الظاهر فيه نفع المقرض، وما تقدم فيما الظاهر فيه نفع المقترض لأنه يدفع شيئا ويأخذ مثله بعد مدة. انتهى. وقال المواق من المدونة: إن أقرضك فدانا من زرع مستحصد تحصده وتدرسه لحاجتك وترد عليه مثل كيل ما فيه، فإن فعل ذلك رفقا ونفعا لك دونه جاز إذا كان ليس فيما كفيته منه كبير مؤنة لقلته في كثرة زرعه، ولو اغتزى بذلك نفع نفسه بكفايتك مؤنته لم يجز. انتهى.
ومُلِك يعني أن المقرض يملك بالقول ويلزم به ويصير مالًا من أموال المقترض ويقضى له به، قال المواق: ابن شأس: حكم المقرض التمليك وإن لم يتصرف فيه، في المدونة: من استعار عينا أو فلوسا فهو سلف مضمون لا عارية. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن المقرض يملكه المقترض بمجرد عقد القرض وإن لم يقبضه ويصير مالا من أمواله ويقضى له به.
ولم يلزم رده إلا بشرط أو عادة يعني أن المقترض إذا قبض القرض فإنه لما يلزمه رده أي رد نفسه أو رد عوضه للمقرضِ بكسر الراء إلا بعد مضي الأجل المشترط أو المعتاد، فإذا مضى الأجل
المشترط أو مضى الأجل المعتاد حيث لم يشترطوا للقرض أجلا فإنه يلزم المقترض حينئذ رد العوض أو المقرض نفسه. واللَّه سبحانه أعلم. قال الخرشي: وإذا قبض المقترض المقرض فإنه لا يلزمه رده لربه إلا إذا انتفع به عادة أمثاله مع عدم الشرط أو العادة، فإن مضى الأجل المشترط أو المعتاد فيلزمه رده عند انقضائه. انتهى.
فإن أراد المقترض رده قبل أجله لزم المقرِضَ قبولُه لأن الأجل حق لمن هو عليه قاله غير واحد، وقال المواق: ابن شأس: لو أراد الرجوع في قرضه منع إلا بعد مضي مدة الانتفاع بالشرط أو بالعادة. ابن عرفة: إن لم يكن أحدهما جرى على العارية وفيها خلاف، وبقي عليه أنه لم يذكر أن له أن يرد عين القرض والمنصوص أن له ذلك إذا لم يتغير، قالوا: لهذا قال ابن القاسم: لا خير أن يسلفه ويشترط عليه أن يرد مثله، قال: وأحب إلي أن يسلفه ولا يشترط. انتهى. قال سند: منع ابن القاسم أن يقول الرجل للرجل أقرضك هذه الحنطة على أن تعطيني مثلها، وإن كان القرض يقتضي إعطاء المثل لإظهار صورة المكايسة. وقال أشهب: إن قصد بالمثل عدم الزيادة لم يكره وكذا إن لم يقصد شيئا، فإن قصد المكايسة كره ولا يفسد العقد لعدم النفع للمقرض. انتهى. قاله الشبراخيتي.
وقال قبل هذا: قال ابن ناجي في قول الرسالة إلا أن يقرضه شيئا في مثله صفة وقدرا: يؤخذ منه جواز اشتراط ما يوجبه الحكم. وقد اختلف في فساد القرض بذلك على ثلاثة أقوال ثالثها: المنع في الطعام؛ فإن وقع فسخ. وقال الخرشي: ويجوز للمقترض أن يرد مثل الذي اقترضه وله أن يرد. عين الذي اقترضه إن كان غير مثلي ما لم يتغير بزيد أو نقص. انتهى. وقال عبد الباقي: وهذا إذا لم يتغير أو تغير بزيادة لما بنقص فيخير. انتهى.
وما قررت به المص من شموله لرد نفس المقرض أو لعوضه هو الظاهر، وصنيع المواق يفيد أن المراد رد عوضه كصنيع الخرشي، ومقتضى عبد الباقي أن معنى المص رد المقرض نفسه وأوضح منه ما للمواق والخرشي، وجمعت أنا بين التقريرين. واللَّه تعالى أعلم. وقال الخرشي: وملك أي بالقول ولو لم يقبضه المقترض خلافا للشارح لأن كل معروف يلزم بالقول كالهبة والصدقة والعارية والوقف، قوله:"ولم يلزم رده" أي على الفور. وقوله: "إلا بشرط" أي إلا أن يمضي الأجل
المشترط أو العادة، والاستثناء في قوة الشرط، فكأنه قال: ولم يلزم رده إن كان هناك شرط أو عادة إلا بعد مضيهما، ومقصوده بهذا الردُّ على من قال إنه على الحلول.
تنبيه:
إذا اختلفا في القرض، فقال المقرض: وقع على الحلول: وقال المقترض: وقع على التأجيل، ففي المدونة: القول للمقرض روى بكسر الراء وفتحها وهما قولان لابن أبي زيد مع القابسي وابن أخي هشام، والمذهب هو القول الأول.
تَتمَّةٌ:
انفرد مالك بجواز ضرب الأجل في المقرض (لخبر الصحيح أن رجلا فيمن قبلكم تسلف من رجل ألف دينار لأجل، فلما حل الأجل طلب مركبا يخرج إليه فيه فلم يجده، فأخذ قرطاسا وكتب إليه فيه ونقر خشبة فجعل فيها القرطاس والألف ورمى بها في البحر، وقال: اللهم إنه قد قال حين دفعها إلي: أشهد لي فقلت كفى باللَّه شهيدا، وقال ايتني بكفيل: فقلت كفى باللَّه كفيلا، اللهم أنت الكفيل بإبلاغها، فخرج صاحب الألف إلى ساحل البحر ليحتطب فرفع له البحرُ العودَ فأخذه، فلما فلقه أخذ المال والقرطاس، ثم إن ذلك الرجل وجد مركبا فأخذ المال وركب وحمله إليه، فلما عرضت عليه قال له: قد أدى اللَّه أمانتَك.
قوله: ثم إن ذلك الرجل أي المقترض. انظر الخرشي. وقوله: "إلا بشرط أو عادة" قال عبد الباقي: فيتبع الشرط ويرجع للعادة، فإذا انتفيا كان كالعارية المنتفي فيها شرط الأجل والعادة، وللخمي قولان في المدونة: فقيل له رده ولو بالقرب وقيل يلزمه أن يبقيه له القدر الذي يرى أنه أعاره لمثله، واختاره أبو الحسن. وليس من العمل بالعادة إذ قد تزيد عليه العادة بفرض وجودها، قال التتائي بعد لفظ المص: هذا إذا اتفقا على الإطلاق، وأما إن كان تأجيل فيلزم إليه، فإن اختلفا فقال المقرض على الحلول والمقترض على التأجيل، ففي المدونة: القول للمقرض روي بكسر الراء وفتحها وهما قولان، وفي الشارح ما يفيد أن المذهب الأول، وأما لو اختلفا في الحلول وبقاء الأجل، فقال المقرض: حل والمقترض: بقي منه شهر مثلا أو اختلفا ابتداء في مدة تأجيله، فقال المقرض: لشهر والمقترض: لشهرين فالظاهر أن القول للمقترض لترجيح جانبه باتفاقهما على وجود أصل التأجيل بالأَوْلَى مما إذا اختلفا، هل على الحلول أو التأجيل من أن القول للمقرض
على رواية فتح الراء؟ وفي المص جواز اشتراط الأجل في القرض. ابن العربي: وبه انفرد مالك دون سائر العلماء ويجوز التأخير من غير شرط إجماعا. انتهى.
كأخذه بغير محله يعني أنه لما يلزم المقرض بكسر الراء أخذ القرض بغير محل قبضه لما فيه من زيادة الكلفة عليه، فإن خرب محله أو انجلى عنه أهله فأقرب موضع عمارة له كما استظهره ابن عرفة. قاله عبد الباقي. إلا العين يعني أن دين القرض إذا كان عينا فإنه يلزم المقرض إذا دفعه له المقترض بغير محله أن يأخذه لخفة حملها، وينبغي إلا لخوف أو احتياج إلى كبير حمل، وأن مثل العين الجواهر النفيسة وإن كانت في الباب السابق كالعروض. قاله عبد الباقي. وقاله الخرشي.
يعني أن المقرض لا يلزم أخذه بغير محله، بمعنى أن المقترض إذا دفعه للمقرض في غير محل القرض وأبى من أخذه فإنه لما يلزمه قبوله لما فيه من زيادة الكلفة، فإن رضي بأخذه جاز إلا أن يكون الشيء المقرض عينا فيلزم مقرضها أخذها بغير محلها؛ إذ لا كلفة في حملها. انتهى. وقوله:"كأخذه بغير محله" وكذا لما يلزم المقترض دفعه للمقرض بغير محله، وقوله: إلا العين أي فيلزم أخذها في غير محلها، وينبغي أن يكون الدفع كذلك أي فيلزمه دفعها في غير المحل. نقله الخرشي. وقال المواق في الطرر لابن عات من كتاب الاستغناء: قال المشاور: من أقرض رجلا في بلد وَجَلَا أهلُه عنه من فتنة وقعت أو جوع فأراد أن يأخذه به من غير ذلك البلد نظر، فإن أيس من الرجوع إليه إلا بعد الزمن الطويل فله أخذه بقيمة الطعام في موضع السلف، وإن رجي الرجوع فيما قرب لم يقض عليه حتى يرجع وإن كان من سلم فهو بالخيار بين أن يصبر حتى يأخذ في موضعه أو يأخذ رأس المال إن أيس من دخول الموضع، وليس له قيمته لأنه يصير بيع الطعام قبل قبضه. ابن سراج: من استقرض شيئا على أن يرده ببلد آخر جاز بثلاثة شروط: أَنْ يكون دنانير أو دراهم، وَأَنْ يضربا لذلك أجلا، وَأنْ لَّا يقصد المسلف منفعة نفسه لعذر في الطريق ونحوه، وإن كان عرضا يتكلف حمله فلا يجوز قرضه على أن يرده ببلد آخر، وإن كان مما يخف حمله فهذا يجوز وإن لم يضربا أجلا وشرط أخذه ببلد آخر فهو مكروه، ويجوز إن وقع ويأخذه حيث وجده من البلدان إذا تم الأجل، وأما السفاتج ففيها قولان.
قال الخرشِي: قال بعض: وهذا الفصل بَيَّضَ له المؤلف وألفه العلامة الشيخ تاج الدين بهرام ثم شرحه رحمه الله، وعبارة الشارح: واعلم أن عادة الأشياخ في الغالب أن يذيلوا هذا الباب بذكر المقاصة والشيخ رحمه الله لم يتعرض لذلك، فأردت أن أذكر شيئا من ذلك إن شاء اللَّه تتميما لغرض الناظر، وأذكر شرح ذلك قاصدا بذلك وجه اللَّه تعالى وأسأله التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل. انتهى. قَالَ الشَّارِحُ:
فصل:
أو المص -وللشارح ما بعد لفظة "فصل" إلى باب الرهن- تجوز المقاصة في ديني العين مطلقا إن اتحدا صفة وقدرا حلا أو أحدهما أم لا يعني أن المقاصة تجوز في الدينين الذين هما من العين إن اتحدا أي اتفقا في القدر والوزن أو العدد والصفة وهي تستلزم اتحاد النوع، وسواء حل الدينان أو أحدهما وسواء كانا من بيع أو قرض أو منهما، وهذا الأخير هو معنى قوله:"مطلقا"، قال عبد الباقي: تجوز المقاصة جوازا أعم من الوجوب لا قسيمه لوجوبها على المشهور والقضاء بها إن حل الدينان أو اتفقا أجلا أو اختلفا وطلبها من حل دينه لا من لم يحل دينه؛ إذ للذي حل دينه امتناعه منها وأخذه لينتفع به حتى يحل دين الآخر فيقضيه له. انتهى. قوله: لوجوبها على المشهور لخ هذا يقتضي أن العدول عنها لا يجوز ولو تراضيا على تركها وليس كذلك؛ بل المراد أنه يقضى بها لمن طلبها منهما إذ هي فيما ذكر حق لكل منهما. ابن عرفة: ولابن رشد في رسم العشور من سماع عيسى من النذور: مشهور المذهب وجوب الحكم بالمقاصة، وروى زياد لا يحكم بها وعبارة التوضيح: اختلف هل يجب أن يعمل على قول من دعا منهما إليها وهو المشهور؟ أو القول قول من دعا منهما إلى عدمها؟ رواه زياد عن مالك. انتهى. ومثله عبارة الشارح وهي مستثناة من بيع الدين بالدين للمعروف، ولا يرد ما مر أن بيع الدين بالدين إنما يتصور في ثلاثة فأكثر؛ لأنه مقيد بما إذا كان يقبض من غير نفسه وما هنا وقعت [بين اثنين]
(1)
؛ لأن كلا منهما كأنه يقبض من نفسه والإضافة في ديني المعين بيانية. قاله عبد الباقي.
وقال مصطفى: الظاهر أنها تقييدية كخاتم حديد أي دين من العين؛ إذ الدين ليس نفس العين. انتهى. قال الرهوني: وهو ظاهر.
والمقاصة هي أن يترك كل منهما ماله على صاحبه في مقابلة ما عليه. واللَّه سبحانه أعلم. وقوله: "حلا أو أحدهما أم لا" هذا هو مذهب ابن القاسم، وقال ابن نافع: إذا حل أحدهما جازت كما إذا حلا، وأما إن لم يحل واحد منهما امتنعت المقاصة كان الأجل متفقا أم لا، وروى أشهب عن مالك المنع مع اختلاف الأجل لدخول المكايسة والوقف مع اتفاقه. انتهى المراد منه. وقد مر
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 230.
تفسير قوله: "مطلقا" بأنه سواء كان الدينان من بيع أو قرض أو منهما، وكذا الحكم لو كانا من إتلاف أو هبة أو نكاح أو أحدهما.
وإن اختلفا صفة مع اتحاد النوع أو اختلافه فكذلك إن حلا يعني أنه إذا اختلف دينا العين في الصفة أي في الجودة والرداءة والنوع متحد، كمحمدية ويزيدية أو مختلف كذهب وفضة فكذلك؛ أي فإن المقاصة تجوز بشرط أن يحل الدينان معا إذ هي مع اتحاد النوع مبادلة ومع اختلافه صرف ما في الذمة، وقد حل الدين في المسألتين. وإلا بأن لم يحلا أو حل أحدهما دون الآخر فلا تجوز المقاصة؛ إذ هي مع اتحاد النوع بدل مستأخر ومع اختلافه صرف مستأخر. قال في التوضيح: ينبغي أن يقيد بما إذا لم تبعد التهمة، فإن بعدت جاز كما تقدم في بيوع الآجال من قوله: إلا أن يعجل أكثر من قيمة المتأخر جدا. انتهى. وتقدم أن الكثرة جدا زيادة المعجل على المؤخر بقدر نصف المؤخر، ثم ما قدمه المص من الجواز إن حلا شامل لما إذا كانا من بيع أو قرض أو منهما. قاله عبد الباقي. وقال بناني: لو قال المص عوض ذلك وإن اختلفا صفة أو نوعا فكذلك كان أخصر.
وقول المص: "وإلا فلا" يرد عليه ثلاث صور وهي إذا اختلفا صفة فقط وحل الأجود سواء كانا من بيع أو قرض أو منهما فهي جائزة كما أفاده جدول ابن غازي، والجواز فيها ظاهر لما تقدم في قوله:"وجاز قضاء قرض بمساو وأفضل صفة" لخ، ويعني قبل الأجل وبعده، ثم قال:"وثمن المبيع من المعين كذلك" تأمل. انتهى. وتفسير الصفة في قوله: "وإن اختلفا صفة" بالجودة والرداءة متعين دون تفسيرها بالسكة كما في أحمد لوُرود شيء حينئذ على منطوق المص وشيء على مفهومه، فيرِدُ على منطوقه أنه يقتضي أنهما متى اختلفا صفة بمعنى سكة واتحدا جودة ورداءة لا تجوز إلا إن حلا وليس كذلك، إذ حيث اتحدا جودة ورداءة وقدرا جازت مطلقا حلا أو أحدهما أم لا، وعلى مفهومه اقتضاؤه أنهما متى اتفقا صفة بمعنى سكة تجوز المقاصة، وإن اختلفا نوعا ولم يحلا وليس كذلك.
كإن اختلفا زنة من بيع هذا مفهوم قوله: اتحدا قدرا والمعنى أن الدينين إذا اختلفا زنة أو عددا، فإن كانا من بيع منعت المقاصة. قاله الشارح. وظاهره حلا أو أحدهما أم لا، ولكن المعتمد أنه
تجوز المقاصة حيث حلا معا وإلا فلا، وما مشى عليه الشارح مثله لابن شأس والمعتمد ما لابن بشير، فإنه قال: وإن اختلفا في القدار أوْ في الصفة فلا تجوز المقاصة إلا أن يحل الأجلان. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله: "كإن اختلفا زنة" فتجوز إن حلا وإلا فلا، نعم إن كانت الحالة هي الوازنة جازت المقاصة ومثل زيادة الزنة زيادة العدد، قال عبد الباقي: ومفهوم من بيع أنهما إن كانا من قرض منعت حلا أم لا، ومن قرض وبيع منعت إن لم يحلا أو حل أحدهما، فإن حلا فإن كان الأكثر هو الذي من بيع منعت لأنه قضاء بزيادة عن قرض، وإن كان من قرض جازت لأنه قضاء عن بيع بزيادة وهو جائز. هذه طريقة ابن بشير. ابن عرفة: وهي الأسعد بالمذهب. انتهى. قوله: ومن قرض وبيع منعت إن لم يحلا أو حل أحدهما يستثنى منه إذا حل المقرض وحده وهو الأكثر، فتجوز لأن فيه قضاءَ البيع بأكثر قبل الأجل وهو جائز، وبهذا صرح في التوضيح. قاله بناني.
والطعامان من قرض كذلك يعني أن الدينين إذا كانا طعامين، فإما أن يكونا من بيع أو قرض أو منهما، فإن كانا من قرض فالحكم فيهما أنهما كذلك أي فتجوز فيهما المقاصة إن اتفقا صفة وقدرا، كإردب قمح وإردب قمح أو هما من شعير متفقين صفة، سواء حلا أو أحدهما أم لا، كإن اختلفا صفة مع اتحاد النوع كسمراء ومحمولة أو اختلافه كقمح وفول فتجوز إن حلا وإلا فلا، كإن اختلفا قدرا فتمنع لأنها زيادة عدد في قرض. انتهى. قوله: كإن اختلفا صفة لخ ظاهر كلامه أنها لا تجوز في اختلاف الصفة مع اتحاد النوع، ولو كان الحَالُّ هو الأجود وفيه نظر لأن قضاء المقرض قبل الأجل بأجود صفة جائزٌ وكذا فيما ذكره في اختلاف النوع.
ومنعا من بيع ولو متفقين يعني أنه تمنع المقاصة في الدينين إذا كانا طعامين من بيع حلا أو أحدهما أم لا، اتفقا أم لا، قال عبد الباقي: ومنعا أي الطعامان مقاصة أي منعت المقاصة في الطعامين من بيع. انتهى. ولو متفقين جنسا أو كيلا أو قدرا وصفة أو اتفقا في الجميع لعلل ثلاث بيع الطعام قبل قبضه وهي عامة، وطعام بطعام ودين بدين نسيئة وهاتان في غير الحالَّين، وما ذكره المص في المتفقين مذهب ابن القاسم، وذهب أشهب إلى الجواز في المتفقين في القدر والصفة والأجل.
ومن قرض وبيع تجوز إن اتفقا وحلا يعني أن الدينين إذا كانا طعامين أحدهما من قرض والآخر من بيع، فإن المقاصة تجوز فيهما بشرطين أن يتفقا في الصفة والقدر وأن يحلا معا، فإن لم يتفقا منعت ثم ذكر مفهوم قوله وحلا بقوله: لا إن لم يحلا أو أحدهما يعني أنها لا تجوز في الطعامين من قرض وبيع حيث لم يَحِلَّا الدَّيْنَانِ أو حل أحدهما، قال عبد الباقي: ومن قرض وبيع تجوز بشرطين أولهما قوله: "إن اتفقا جنسا وصفة"، ثانيهما قوله:"وحلا" لأن المشتري كأنه اقتضى من نفسه طعام القرض الذي عليه ولا تهمة فيه لاتفاق الطعامين، ولم ينظر هنا إلى بيع الطعام قبل قبضه بالنسبة لطعام البيع تغليبا لجانب المقرض لأنه معروف، وانضم لذلك كون المقاصة معروفا أيضا ولم يذكر مفهوم الشرط الأول. قاله أحمد.
وينبغي فيه المنع لأن القصد حينئذ البيع. انتهى. والمتن يشعر به لأنه مفهوم شرط وذكر مفهوم الثاني لما فيه من الخلاف، بقوله:"لا إن لم يحلا" معا أو حل أحدهما دون الآخر فإنها ممتنعة عند ابن القاسم لاختلاف الأغراض باختلاف الأجل فيصح تقدير بيع الطعام قبل قبضه، ولأن المعجل لما في الذمة يعد مسلفا وأجازها أشهب تغليبا للمعروف. قاله التتائي. وقوله: باختلاف الأجل يقتضي جوازها إذا اتفق الأجل مع اختلاف الصفة، وأنه إذا حلا تجوز مع اختلاف الصفة وليس كذلك فيهما، ولا يخفى أن قول المص أو أحدهما زيادة إيضاح لدخوله في قوله:"إن لم يحلا" إذ يصدق بما إذا كانا مؤجلين أو أحدهما. انتهى. قول الزرقاني: وينبغي المنع لأن القصد حينئذ البيع لخ على هذا جرى ابن غازي في جدوله. قاله بناني. وقوله: ولأن المعجل لما في الذمة يعد مسلفا هذه لا تقتضي منعا؛ لأن السلف هنا لا مانع منه تأمل. وقوله: يقتضي جوازها إذا اتفق لخ كلام التتاني لا يقتضي شيئا من هذين، نعم يقتضي الجواز إذا اتفق الأجلان ولم يحلا وليس كذلك. قاله بناني أيضا.
وَلما أنهى الكلام على ديني المعين وديني الطعام أتبعه بالكلام على ديني العرض فقال: وتجوز في العرضين مطلقا يعني أن الدينين إذا كانا من عرض والمراد به ما عدا العين والطعام، فإن المقاصة حينئذ تجوز مطلقا اتفق الأجلان أو اختلفا، كانا من بيع أو قرض أو منهما، هذا إن اتحدا جنسا وصفة كثوبين هرويين أو مرويين أو كساءين اتحدا جنسا وصفة، وأراد بالجنس النوع لأن العرض
كله جنس واحد ودخل فيه الحيوان والعقار إن قلنا بدخول المقاصة في غير الدين؛ إذ العقار لا يتعلق بالذمة ولا يدخل في قوله مطلقا اتفقا قدرا أم لا؛ إذ يدخلهما حيث اختلفا قدرا وكانا مؤجلين أو أحدهما ضع وتعجل وحط الضمان وأزيدَك، في بعض الأحوال ويدخلهما أيضا ولو حالين قضاء قرض بأكثر حيث كانا أو أحدهما من قرض. انتهى. قاله عبد الباقي. ومحل المنع فيما إذا كانا حالين وأحدهما من قرض إذا كان الذي من بيع هو الأكثر وفيه تظهر العلة المذكورة. فتأمله. قاله الرهوني.
كأن اختلفا جنسا واتفقا أجلا يعني أنه تجوز المقاصة في ديني العرض حيث اختلفا في الجنسية واتفقا في الأجل، قال عبد الباقي: كإن اختلفا جنسا ككساء وثوب واتفقا أجلا فتجوز لبعد قصد المكايسة والمغالبة مع اتفاق الأجل كما تبعد مع تساويهما صفة، وإن اختلفا أجلا مع اختلاف الجنس منعت إن لم سط، أو لم يحل أحدهما، وإنما منعت المقاصة حيث لم يحلا أو لم يحل أحدهما لما فيه من فسخ ما في الذمة في مؤخر، وأما إن حلا معا وهو مفهوم المص فإنها تجوز، وما ذكره المص من عدم الجواز فيما إذا حل أحدهما في الموازية، وقال ابن محرز: وهو الصحيح عندي ولكن مذهب المدونة الجواز فيما إذا حل أحدهما فقط، ففي المدونة: وإن كان لك عليه عرض وله عليك عرض هما مختلفا الجنس والصفة، فإن كان أجلهما مختلفا لم يجز أن يتقاصا حتى يحلا أو يحل أحدهما، ولو اتفق أجلهما ولم يحل جاز التقاصُّ.
وإن اتحدا جنسا والصفة متفقة أو مختلفة جازت إن اتفق الأجل قد مر له أنه إذا كان الدينان عرضين وصفتهما متفقة فإن المقاصة تجوز فيهما مطلقا، اتفق الأجلان أو اختلفا، فالصواب إسقاط قوله:"متفقة" لإيهامه أنه إذا اتحد الجنس واتفقت الصفة فإن الحكم في ذلك كحكم ما إذا اتحد الجنس واختلفت الصفة وليس كذلك، يعني أنه إذا اتحد الجنس واختلفت الصفة فإن المقاصة تجوز إن اتفق الأجل أي الأجلان، قال عبد الباقي: وإن اتحدا أي العرضان جنسا كثوبي قطن مثلا والصفة متفقة أو يجب حذف متفقة ولفظ أو لأن ذكرها يقتضي أنه لابد من اتفاق الأجل حيث اتفقت الصفة، وهو خلاف قوله قبل:"وتجوز في العرضين مطلقا إن اتحدا جنسا وصفة" فكأن يقول هنا والصفة مختلفة أي جودة ورداءة جازت المقاصة بينهما إن اتفق الأجل لبعد
التهمة معه؛ كانا من بيع أو قرض أو أحدهما وأحرى إن حلا. وإلا بأن اختلف الأجل مع اختلاف الصفة فلا تجوز المقاصة مطلقا، سواء كان الدينان من بيع أو قرض أو أحدهما من بيع والآخر من قرض.
واعلم أنه تمنع المقاصة في الدينين إن أدت إلى ضع وتعجل وحط الضمان وأزيدك، فإن كان دينا البيع من عرض واختلف الأجل، فإن كان الحال أو الأقرب حلولا أكثر أو أجود منع للعلة الثانية وهي حط الضمان وأزيدك، وإن كان أدنى أو أقل منع للعلة الأولى وهي ضع وتعجل، وإن كانا من قرض والحال أو الأقرب حلولا أدنى أو أقل منع لضع وتعجل، وإن كان أجود جاز إذ لا يدخل في المقرض حط الضمان وأزيدك؛ لأنه يلزم قبوله بخلاف السلم وإن كان أكثر عددا منع لأنه زيادة في المقرض، وإن كان أحدهما من قرض والآخر من بيع جرى على القسمين السابقين، وَاعلم أن كلا من ضع وتعجل وحط الضمان وأزيدك خاص بالجنس الواحد، وأن الأول يدخل في ديني القرض والبيع والثاني خاص بدين البيع إذا كان غير عين، وأما المعين فالحق فيها لمن عليه الدين. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.
وقال الشارح: فإن كان الدينان مختلفي السبب أحدهما من بيع والآخر من قرض، فإن كان ما حل منهما أو ما هو أقرب حلولا هو القرض لم تجز المقاصة على حالة، سواء كان أجود أو أدنى وإن كان الحال أو الأقرب حلولا من بيع وهو أجود جازت المقاصة، وإن كان أدنى منع لأن فيه ضع وتعجل، والضابط لهذا أن ما حل أو كان أقرب حلولا كالمقبوض عن الآخر المتأخر حلوله فيعتبر هل توقع في أحد هذين الممنوعين فيمنع؟ أم لا توقع في واحد منهما فيجوز؟ انتهى.
تنبيه:
قال الشيخ بناني: اعْلَمْ أن المص قسم الدينين إلى ثلاثة أقسام: لأنهما إما أن يكونا عينا أو عرضا أو طعاما، وكل منها إما من بيع أو قرض أو أحدهما من بيع والآخر من قرض، فهذه تسع صور وفي كل منها إما أن يتفق الدينان في النوع والصفة والقدر، وإما أن يختلفا في النوع أو في الصفة أو في القدر، فهذه أربع صور في تسع بست وثلاثين تضرب في ثلاثة أحوال الأجل، إما أن يحلا معا أو يحل أحدهما فقط أو لا يحل واحد. فهذه مائة صورة وثمان صور.
ونظم ذلك الشيخ سيدي محمد ميارة فقال:
دين المقاصة لعين ينقسم
…
ولطعام ولعرض قد علم
وكلها من قرض أو بيع ورد
…
أو من كليهما فذي تسع تعد
في كلها يحصل الاتفاق في
…
جنس وقدر صفة فلتقتف
أو كلها مختلف فهي إذن
…
أربع حالات بتسع فاضربن
يخرج ست مع ثلاثين نعم
…
تضرب في أحوال آجال تؤم
حلا معا أو واحد أولا معا
…
جملتها حق كما قيل اسمعا
تكميل تقييد ابن غازي اختصرا
…
أحكامها في جدول فلينظرا
وهذه صورة جدول ابن غازي:
طعامان قرض
متفقان جنسا وصفة وقدرا جائزة مطلقا على المشهور
مختلفان صفة جائزة إن حلا أو حل الأجود وإلا دخله ضع وتعجل
مختلفان قدرا جائزة بقدر العدد قاله ابن القصار وعبد الحق
جنسان جائزة إن حلا على مذهب ابن القاسم
عينان من قرض
متفقان جائزة مطلقا على المشهور
مختلفان صفة جائزة إن حلا أو حل الأجود وإلا فضع وتعجل
مختلفان قدرا جائزة بقدر العدد
جنسان جائزة إن حلا
عرضان من قرض
متفقان جائزة مطلقا على مذهب المدونة
مختلفان صفة جائزة إن حلا أو حل الأجود وإلا فضع وتعجل
مختلفان قدرا منع لضع وتعجل أو رد أكثر عددا في القرض
جنسان جائزة إن حلا
طعامان من بيع
متفقان بيع الطعام قبل قبضه
مختلفان صفة بيع الطعام قبل قبضه
مختلفان قدرا بيع الطعام يتأخر قبضه
جنسان بيع الطعام يتأخر قبضه
عينان من بيع
متفقان جائزة مطلقا على مذهب المدونة
مختلفان صفة جائزة إن حلا أو حل الأجود وإلا فضع وتعجل
مختلفان قدرا جائزة بقدر العدد
جنسان جائزة إن حلا
عرضان من بيع
متفقان كالذي فوقه
مختلفان صفة جائزة إن حلا أو اتفق الأجل وإلا فضع أو حط الضمان وأزيدك
مختلفان قدرا كاختلاف الصفة قبيله
جنسان جائزة إن حلا اتفاقا وإلا فخلاف
طعامان أحدهما من بيع والآخر من قرض
متفقان جائزة إن حلا على مذهب المدونة
مختلفان صفة لا يجوز
مختلفان قدرا لا يجوز
جنسان لا يجوز
عينان أحدهما من بيع والآخر من قرض
متفقان جائزة مطلقا على المشهور
مختلفان صفة جائزة إن حلا أو حل الأجود وإلا فضع وتعجل
مختلفان قدرا جائزة ما لم يرجع للمقرض أكثر
جنسان جائزة إن حلا
عرضان أحدهما من بيع والآخر من قرض
متفقان جائزة مطلقا على المشهور
مختلفان صفة إن حل الأدنى فضع وتعجل وإن حل الأفضل من بيع جاز أو من قرض فحط الضمان
مختلفان قدرا إن حل الأقل فضع وتعجل وإن حل الأكثر من قرض فحط الضمان أو من بيع فهو رد أكثر
جنسان تجوز إن حلا أو أحدهما أو اتفقا أجلا
وهذا كله إذا كان الدينان عينين أو طعامين أو عرضين، فإن اختلف الدينان قال ابن بشير: كعروض في ذمة وعين في ذمة أخرى أو عروض وطعام أو عين وطعام جازت المقاصة على الإطلاق، حل الدينان أم لم يحلا، اتفقت آجالهما أو اختلفت. انتهى. قاله الحطاب. لكن يشكل على هذا إن كان الطعام من بيع فإن فيه بيع الطعام قبل قبضه، والصور الثلاث إما من بيع أو قرض أو منهما فهي تسع صور تضرب في أحوال الأجل الثلاث بسبع وعشرين. انتهى.
ولما أنهى الكلام على الدين من بيع أو من قرض وما يتعلق بهما من مقاصة شرع في الكلام على ما يتسبب عنهما من رهن، ونحوه فقال:
(باب: ذكر فيه الرهن وَحَدُّهُ وما يتعلق بذلك وهو لغة اللزوم والحبس)
(بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه وحده صلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما)، ولما كان الرهن يتسبب عن الدين من قرض تارة ومن بيع أخرى وأنهى الكلام على الدينين وما يتعلق بهما من مقاصة، شرع في الكلام على ما يتسبب عنهما من رهن ونحوه فقال:
باب: ذكر فيه الرهن وحدَّه وما يتعلق بذلك
قال الخرشي: وهو لغة اللزوم والحبس فكل ملزوم مرهون؛ قال اللَّه تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي مرهونة محبوسة، والراهن دافعه والمرتهِن بالكسر آخذه، ويقال له مرتهَن بالفتح لأنه وضع عنده الرهن ويطلق أيضا على الراهن لأنه يسأله. انتهى. وقال الشارح: قال الجوهري والنووي: يقال رهنته الشيء وارتهنته ويجمع الرهن على رهان ورهون. الأخفش: ورُهُن قبيحة لأنه لما يجمع فَعْل على فُعُل إلا شاذا، وقد يكون رهن جمعا لرهان أي فيكون جمع الجمع والأصل في جوازه قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، وقوله عليه الصلاة والسلام:(الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه)
(1)
أي له غلته وعليه ضمانه. انتهى المراد منه.
وقال الرهوني: قال في المقدمات: مذهب مالك رضي الله عنه وجلِّ أهل العلم إجازة الرهن في السفر والحضر؛ لأن اللَّه تبارك وتعالى نص على جوازه في السفر بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، وأجازته السنة في الحضر على ما ثبت في الآثار الصحاح، ثم قال: ولا أعلم أحدا من أهل العلم منع من الرهن في الحضر وأجازه في السفر لظاهر الآية غير مجاهد، ولا تعلق له بظاهرها. انتهى.
وعرف المؤلف الرهن بقوله: الرهن بذل من له البيع ما يباع "الرهن" مبتدأ "وبذل" خبره وهو مصدر أضيف إلى فاعله "وما" مفعوله، ومعنى كلامه أن الرهن هو بذل أي إعطاء من له البيع أي من فيه أهلية البيع ما أي شيئا أو الشيء الذي يصح بيعه، بأن يكون طاهرا معلوما منتفعا به غير منهي عن بيعه، احترازا من غير المميز ومن النجس فلا يصح رهنه ومن المجهول ومن غير المنتفع به ومن المنهي عن بيعه فلا يصح رهنها، ويستثنى من قوله:"ما يباع" ما فيه غرر، ولهذا قال: أو غررا يعني أنه يصح رهن ما فيه غرر والتنوين للنوعية أي غرر غير قوي. وقوله:
(1)
التمهيد، موسوعة شروح الموطأ ج 18، ص 185، وسنن الدارقطني، ج 3، ص 33.
"أو غررا" ضطف علي وهو على حذف مضاف أي أو ذا غرر، قال مصطفى: تعريف المص بقوله: "بذل" تبع فيه ابن الحاجب.
وقال ابن شأس: إنه احتباس المعين وثيقة بالحق وفيما قالوه نظر؛ لأن الرهن عند الفقهاء ليس هو نفس الإعطاء أو الاحتباس لما يكادون يُطْلِقُونَه على ذلك أصلا، بل هو عندهم إما العقد أو الشيء المرهون هذا مسماه في الاصطلاح، فمن الأول قول المازري وغيره: عقد الرهن لازم بالقول وقولهم يصح رهن كذا ولا يصح رهن كذا واشتراطهم الصيغة فيه أو جعلها ركنا من أركانه، وفي كلام ابن شأس وابن الحاجب ما ينافي ما قالاه، قال ابن شأس: وأما حكم القبض فليس شرطا في انعقاد الرهن وصحته ولا لزومه، بل ينعقد ويصعح ويلزم ثم يطلب المرتهن الإقباض.
وقال ابن الحاجب: يصح الرهن قبل القبض ولا يتم إلا به. انتهى. فأنت ترى القبض والإقباض متأخرين عن الرهن والمتأخر عن الشيء ليس عينه ضرورة، ولاسيما على القول إنه لابد له من لفظ صريح وهو مذهب ابن القاسم، ومن الثاني قولهم: وإن جنى الرهن وغلة الرهن وغير ذلك ولذا حده الوانوغي بقوله: عقد لازم لما ينقل الملك قصد به التوثق في الحقوق بعد أن قال: لا خفاء في إشكال تعريف شيخنا بأنه مال قبض توثقا به في دين لأنه لا يشمل من الرهن إلا ما هو مقبوض، ولا خلاف في المذهب أن القبض ليس من حقيقة الرهن. انتهى. نقله البناني.
وقوله: في دين قال عبد الباقي: إشارة إلى أن الرهن لا يكون في معين وإنما يصح أن يكون في دين والدين لا يتقرر في المعينات، وسيذكره المص بقوله:"لا في معين أو منفعته". انتهى. قال البناني: ولا يرد عليه أخذ الرهن في العارية لأنه ليس في ذاتها بل في قيمتها إن هلكت كما يأتي. انتهى. وقوله: "من له البيع" علم منه أنه يصح من الصبي المميز والسفيه والمحجور، ويتوقف لزومه على رضى ولي كل، ثم إذا تلف ما رهنه الصبي المميز والسفيه قبل رضى ولي كل ضمنه المرتهن ضمان عداء حيث علم بعدم اللزوم لرهن كل لا ضمانَ رهان ورهن السكران كبيعه. قاله عبد الباقي.
وقوله: "من له البيع" ظاهره صحة رهن المريض إذا كان مدينا وهو كذلك. في الوثائق المجموعة أنه يجوز بيع المريض ورهنه، ومذهب ابن القاسم أنه يجوز بيعه ولا يجوز رهنه، قال عبد الباقي: وهو محمول على ما إذا أحاط الدين بماله، وفي حاشية البناني أن ما في الوثائق المجموعة من الجواز محله الرهن في معاملة جديدة ومحل المنع رهنه في دين سابق. انتهى.
ودخل في قوله: "ما يباع" رهن الدين فيجوز من الدين وغيره. قال في التوضيح: ويشترط في صحة الرهن من المدين أن يكون أجل الدين الرهن مثل أجل الدين الذي فيه الرهن أو أبعد لما أقرب؛ لأن بقاءه بعد محله كالسلف فصار أي الرهن في البيع بيعا وسلفا، إلا أن يجعل بيد أمين إلى محل أجل الدين الذي هو رهن فيه. انتهى.
وعلم منه أن رهن الدين الحال في الدين المؤجل لا يصح لأنه يؤدي إلى بقاء الحال إلى أجل المؤجل، فيكون بيعا وسلفا كما علل به في المؤجل، وقوله: ويشترط في صحة لخ فرضه أن الدين من بيع فإن كان من قرض لم يعتبر في صحة رهنه من الدين هذا الشرط على ظاهر التوضيح، لكن يأتي في المقرض أسلفني وأسلفك إذا كان أجل الدين الرهن أقرب أو حَالًّا. انظر البناني والرهوني. وإذا رهنه عند غير المدين اشترط قبضه بالإشهاد في حوزه أو دفع الوثيقة والجمع بينهما شرط كمال، ولا يشترط إقرار المدين ولا كونه ممن تأخذه الأحكام، فليس كبيع الدين في هذين لأنه لما يلزم من عدم أخذ الحق من هذا المدين ضياع حق المرتهن قطعا لرجوعه به على الراهن، والظاهر صحة رهن مكتوب وقف موقوف عليه لاشتماله على استحقاق المنافع وهي مما تباع، ووثيقة الوظيفة علي القول بصحة النزول عن الوظائف بعوض ورهن المغصوب من غاصبه، ويسقط عنه حينئذ ضمانه ضمان العداء ويضمنه ضمان الرهن. ويقتضي كلام التوضيح أن حوزه غيرُ كاف وعليه فلو حصل مانع للراهن قبل حوز الرهن يكون المرتهن أسوة الغرماء، وهو ظاهر على القول بأنه إنما يكتفى بالتحويز، وأما على أنه يكفي الحوز في الرهن فاستمراره بيد الغاصب بعد الرهن كاف.
ولو اشترط في العقد مبالغة في قوله: "أو غررا" يعني أنه يجوز رهن ما فيه غرر ولو كان ما فيه غرر اشترطت رهنيَّته في عقد البيع، قال الشارح: يجوز له رهن عبده الآبق وبعيره الشارد من غير خلاف إذا لم يقارن ذلك عقدةَ البيع، واختلف إذا اشترط ذلك في عقدةِ البيع على قولين بالجواز وعدمه. ابن رشد: والمشهور الجواز. وَمنشأ الخلاف هل الرهن له حصة من الثمن أو لا حصة له من ذلك وهو ظاهر المذهب، قال في البيان: والقولان قائمان من المدونة، وإذا بنينا على مقابل المشهور فهل يفسد البيع باشتراطه أم لا؟ على قولين، قال المازري: وهما جاريان على
الخلاف في الشروط الفاسدة المقارنة للبيع. انتهى. وثيقةً بحق قوله: "وثيقة" حال من "ما" وما عطف عليها، والمصدر مأول باسم المفعول أي حال كونه متوثَّقًا به كما في الخرشي. وقوله:"بحق" إما متعلق ببذل والباء للظرفية بمعنى في، أو متعلق بوثيقة والباء للسببية. قاله عبد الباقي وغيره. ومعنى كلامه أن الرهن هو إعطاء من له البيع ما يباع أو ذا غرر في حق حال كون هذا الشيء المعطى متوثقا به في حق ترتب على الباذل أو يترتب عليه، واحترز بذلك عما بذله لا على سبيل التوثق بل على سبيل التملك مثلا كالبيع والهبة والصدقة والمعار والمستأجر ونحو ذلك. انظر الشارح.
وقال عبد الباقي: ويكون الرهن عند المرتهن وثيقة بحق موجود أو سيوجد بدليل قوله الآتي: "وارتهن إن أقرض" ولازم أو آئل له ولذا صح في الجعل ولم يصح في كتابة من أجنبي فيحبسه فيما يصح فيه إلى أن يستوفي حقه منه أو من منافعه. انتهى. وقوله: "وثيقة" قال في القاموس: الوثيق المحكم ووَثُقَ ككرم صار وثيقا
(1)
والموثق كمجلِس العهد جمعه مواثيق ومياثيق والوَثاق ويكسر ما يشد به وأوثقه فيه شده ووثقه توثيقا أحكمه. انتهى المراد منه.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: فتحقيق قوله: "وثيقة" أنك أثبت حقك بما أخذت فيه من الرهن فلا يفوتك بفلس الراهن أو موته أو غيبته. واللَّه تعالى أعلم.
كَوَلِيٍّ مثال لقوله: "من له البيع" يعني أن الولي أبا كان أو وصيا أو غيرهما يجوز رهنه لمال محجوره لمصلحة
(2)
ككسوته أو طعامه لا لمصلحة الولي، قال عبد الباقي: والظاهر أن الولي محمول على النظر ولو في رهن ربع فليس كالبيع لتحقق الإخراج فيه دون الرهن. انتهى. ونحوه للخرشي، وقال المواق وغيره، قال ابن القاسم في المدونة: وللوصي أن يرهن من مال اليتيم رهنا فيما يبتاع له من كسوة وطعام كما يتسلفه لليتيم حتى يبيع له بعض متاعه وذلك لازم لليتيم.
(1)
في القاموس: والميثاق والموثق لخ.
(2)
في عبد الباقي ج 5 ص 234: لمصلحته.
ومكاتب هذا مثال ثان لمن له البيع يعني أن العبد المكاتب يجوز له أن يرهن في حق عليه ويصح ذلك منه لأن له البيع، قال الحطاب: قيده في المدونة بما إذا أصاب وجه الرهن ونحوه للشارح، قال: وإنما قيدنا ذلك بما إذا أصاب وجه الرهن احترازا مما إذا رهن كثيرا في قليل. انتهى.
ومأذون يعني أن العبد المأذون يجوز منه الرهن كالمكاتب وإن لم يأذن لهما سيدهما في الرهن، قال عبد الباقي: ومكاتب لأنه أحرز نفسه وماله ومأذون له في تجارة وإن لم يأذن سيدهما في الرهن؛ لأن الإذن في التجارة إذن في توابعها والكتابة إذن في الرهن بخلاف ضمانهما فلابد من إذنه لهما فيه لحصول اشتغالهما فيه عن مصلحة السيد دون الرهن، وقُيِّدَ كلامه بما إذا أصابا وجه الرهن لا إن رهنا كثيرا في قليل؛ لأن فيه حبس مالهما عن الانتفاع به وليلا يدعي عليهما المرتهن بقدر قيمة الرهن فيكون كالشاهد له، ومثل ذلك ما إذا ارتهنا قليلا في كثير. انتهى. ونحوه للش قول عبد الباقي لحصول اشتغالهما لخ. قال البناني: الصواب في الفرق بين الرهن والضمان أن الرهن معاوضة والضمان تبرع وهما مأذون لهما في المعاملات دون التبرعات. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: وإذا رهن المكاتب أو ارتهن جاز إن أصاب وجه الرهن لأنه جائز البيع والشراء، وكذلك العبد المأذون له في التجارة. انتهى.
وآبق عطف على قوله كولي والمصدر في الثلاثة قبله مضاف إلى فاعله. وفي هذا الأخير مضاف إلى مفعوله والمعنى أنه يصح لسيد العبد الآبق أن يرهنه في حق عليه لصحة رهن الغرر فهو راجع لقوله: "أو غررا" وكذلك يصح رهن البعير الشارد ليسارة الغرر في ذلك، ولهذا لما يصح رهن الجنين كما سيذكره لقوة الغرر فيه، قال عبد الباقي: ثم إن المرتهن يختص بالآبق وبالبعير الشارد إن حصله وقبضه قبل حصول مانع للراهن وإلا فإسوة الغرماء كما إذا قبضه قبل المانع ثم أبق ثانيا فحصل المانع، وأما إن رهنه عبدا حاضرا عنده وقبضه المرتهن ثم أبق منه فحصل المانع ثم عاد اختص به، ولا يكون أسوة الغرماء فيما يظهر. قاله عبد الباقي.
وقال: ومثل الآبق الغائب فيصح رهنه ويختص به أيضا إن قبضه هو أو وكيله قبل المانع كما في هبته، قال الحطاب: والظاهر أن الإشهاد في رهن الغائب كاف في قبضه كما في رهن الدين. انتهى. ومثله الآبق ولفظ الغائب يشمله. قاله علي الأجهوري. ومعناه الكفاية في صحة رهن
الآبق، وأما الاختصاص به فلابد من قبضه بالفعل كما مر، وأما الغائب فبَحْثُ الحطاب فيه مسلم. انتهى. قوله: كما إذا قبضه قبل المانع ثم أبق ثانيا لخ أي فيكون أسوة الغرماء، وهذا فيه نظر إذ لا وجه لتفريقه عما بعده وهو قوله: وأما إن رهن لخ، ولأن ما ذكره في هذه من أنه أسوة الغرماء لا يصح إلا في صورة خاصة وهي ما إذا أبق منه ورجع إلى سيده الراهن وعلم المرتهن بذلك وسكت لتفريطه كما يفيده ابن عرفة، وهذا في كلتا الصورتين وهما: عقده عليه آبقا أو حاضرا فهرب منه بعد تحصيله في الأولى، وأما إذا لم يرجع إلى سيده الراهن بل أبق ولم يرجع إليه أو رجع إليه ولم يعلم بذلك المرتهن فإنه يختص به فيهما، وإنما يكون أسوة الغرماء إذا رجع إليه وعلم به في كلتيهما. واللَّه أعلم. انظر المواق عند قوله الآتي:"وغصبا فله أخذه مطلقا". قاله البناني. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله قال الحطاب والظاهر أن الإشهاد في رهن الغائب كاف في قبضه كما في رهن الدين لخ، ليست هذه عبارة الحطاب بل فَهِمَ ذلك منها السنهوريُّ وعلي الأجهوري فتبعهما عبد الباقي، وعبارة الحطاب هي ما نصه:
تنبيه:
سئلت عن رهن الدار الغائبة والشيء الغائب فأجبت أنه يصح ويشترط في اختصاص المرتهن به أن يقبضه هو أو وكيله قبل موت الراهن أو فلسه وهو كالآبق والشارد بل أحرى بالجواز، فإذا مات الراهن أو فلس قبل قبض المرتهن أو وكيله بطل الرهن ولو جد فيه؛ لأن المص سيقول:"وبموت راهنه أو فلسه قبل حوزه ولو جد فيه"، وأيضا فقد نص في المدونة أن من وهب دارا غائبة ومات قبل أن يحوزها الموهوب له بطلت الهبة، ولو لم يفرط مع أن المشهور في الهبة أنه إذا جد في طلبها لا تبطل، وقد فرق بينهما هنا في التوضيح بأن الرهن لما كان باقيا على ملك راهنه لم يكتف بالجد، بخلاف الموهوب فإنه خرج عن ملك واهبه. واللَّه أعلم.
وذكر في التوضيح وغيره أن رهن الدين يصح ولو على غائب ويكفي في حوزه الإشهاد، والظاهر هنا الصحة. انتهى منه بلفظه. فَفَهِمَ منه من ذكرنا أن قوله والظاهر أي من غير توقف على حوز، وبحث في ذلك التاودي واختار أن مراده بقوله: والظاهر الصحة أي الانعقاد فيوافق ما قطع به في أول جوابه، وبحث في قياس الغائب على الدين قائلا ما نصه: إن الدين لا يمكن
حوزه بالقبض وهو دين، فاكتفي فيه بالإشهاد والغائب يمكن حوزه بقبض المرتهن أو وكيله فلا يلزم أن يكتفى فيه بالإشهاد. انتهى.
قلت: وحمله على ما ذكره متعين لأن كلامه أولا وآخرا صريح في أن مراده بالصحة الانعقاد كما يظهر ذلك بأدنى تأمل، ولأن حمله على ما فهموه منه يؤدي إلى صريح التناقض في كلامه وتَهَافُتِ جوابه؛ ولأنه ذكر في الدين أمرين الصحة والاكتفاء بالحوز، ثم قال: والظاهر هنا الصحة فلو أراد ما فهموه مه قال مثلا والظاهر هنا أنه كذلك، فعدوله عن هذه العبارة أو ما يفيد معناها دليلٌ واضح على ما ذكرناه، واستدلاله بكلام المدونة في هبة الدار الغائبة من أعظم الأدلة على ذلك؛ لأن الرهن والهبة إنما يفترقان إذا جد في الحوز في الحاضر. وأما الغائب فتبطل فيه الهبة أيضا مع الجد في الحوز على مذهب المدونة والموازية والعتبية، وهو الراجح كما يأتي في الهبة عند قوله:"أو جد فيه" فكيف يعقل مع ذلك أن يقال بعدم بطلان رهنه؟ وفائدة الصحة التي استظهر الحطاب تظهر فيما إذا امتنع الراهن من تمكين المرتهن من ذلك قبل حصول المانع، فتأمله بإنصاف. قاله الرهوني.
تنبيه:
ظاهر كلام الحطاب أن ما ذكره في مسألة الدين لا نزاع فيه وأنه لا فرق بين أن يكون عليه رسم أو لا وليس كذلك، ففي النتقى ما نصه: فإن كان دين له ذكر حق فحيازته أن يدفع إليه ذكر الحق ويشهد له به عند حوزه، ويكون أحق به من الغرماء في الموت والفلس. قاله مالك في الموازية. ثم قال: قال ابن القاسم في المجموعة: إن لم يكن فيه ذكر حق فأشهد فلا بأس بذلك ونحوه عن مالك، وقال ابن القاسم أيضا: إذا لم يكن فيه ذكر حق لم يجز إلا أن يجمع بينهما، وإذا كان فيه ذكر حق جاز ذلك وهو ظاهر قول مالك في الموازية. انتهى.
ونقله ابن عرفة مختصرا وزاد عقبه ما نصه: اللخمي: حوز ماله ذكر حق بأخذه ويجمع بين المرتهن والغريم ويقدم إليه بحضرة بينة أن لا يُقبضه إياه حتى يقضي حقه، فإن فعل غرمه ثانية لإتلافه على المرتهن وإن كان الغريم غائبا ولا عليه ذكر حق أجزأ فيه الإشهاد وفيه اختلاف. ابن عات: وقيل لا يكون رهنا حتى يجمع بينهما ويقر الذي عليه الدين بذلك ويتفقا، ومتى لم يتفقا لم يكن رهنا ففي الحوز بمجرد الإشهاد فيما لا ذكر حق له أو لابد من الجمع بين المرتهن
والمدين، ثالثها: إن كان غائبا، ورابعها بشرط حضور المدين وإقراره لنقل الباجي ونقل اللخمي وابن عات. قاله الرهوني.
فَرْعَانِ:
الأوَّلُ:
لا إشكال أنه ليس للراهن قبض دينه بعد رهنه ولا للعدين دفعه إليه بعد علمه، وقد تقدم في نقل ابن عرفة عن اللخمي أن المرتهن يتقدم للمدين أن لا يدفعه للراهن، فإن دفعه إليه بعد التقدم إليه غرمه للمرتهن، فظاهره أنه إذا لم يتقدم إليه في ذلك أنه لا غرم عليه، والظاهر أنه يغرم إذا علم وإن لم يتقدم إليه لوجود العلة التي علل بها مع التقدم، وهي قوله: لإتلافه على المرتهن. فتأمله. واللَّه أعلم.
الثَّانِي:
إذا كان الدين مؤجلا ولم يحل أجله فلا إشكال أنه لا سبيل للمرتهن إلى قبضه، وإلا فيؤخذ حكم ذلك مما ذكره ابن رشد في شرح مسألة من رهن إجارة مدبره من رسم الرهون من سماع عيسى من كتاب الرهون الثاني، ونصه: وأما رهن إجارته إذا كان مؤاجرا فلا إشكال في جواز ذلك، والحيازة تصح في ذلك بإشهاد المرتهن على الراهن بحضرة المستأجر، فإذا حلت الإجارة عليه قبضها المرتهن وطبع عليها عنده ليلا ينتفع بها أو جعلت على يد عدل. انتهى. نقله الرهوني. و"كتابة" عطف على "ولي" وهو راجع لقوله:"ما يباع" فهو مثال له؛ يعني أن الكتابة يجوز رهنها لأنها مما يباع، وكذلك يجوز رهن المكاتب.
وإذا رهنت الكتابة أو المكاتب، استُوفِي للمرتهن حقه في القسمين منها أي من الكتابة حيث أدى المكاتب الكتابة، أو من ثمن رقبته أي المكاتب إن عجز عن أداء كتابته كلا أو بعضا، فإن فلس السيد أو مات قبل الاستيفاء لم يلزم المرتهن الصبر لقبض النجوم شيئا فشيئا، بل تباع الكتابة ويأخذ ثمنها ناجزا، فقوله:"أو رقبته" عطف على ضمير الجر من غير إعادة الجار كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} على قراءة الجر، وقولي: يجوز رهن المكاتب ظاهر كما صرح به غير واحد؛ لأن رهنه ينصرف لرهن الكتابة.
وخدمة مدبر يعني أنه يجوز رهن خدمة المدبر كلها أو بعضها مدة معلومة، سواء كان ذلك في العقد أو بعده ويستوفي المرتهن دينه منها والمرهون في الحقيقة الأجرة المتجمدة عن الخدمة، قال الحطاب مفسرا للمص: أي وجاز رهن خدمة المدبر سواء رهن منها مدة معلومة يجوز بيعها أو
رهن جميع خدمته، أما إن رهن منها مدة معلومة فإن ذلك جائز في عقد البيع وبعده، وأما إن رهن الجميع فيجوز بعد العقد ويختلف فيه إذا كان في العقد على الخلاف في رهن الغرر في عقدة البيع والمشهور الجواز: واحترز بالخدمة من الرقبة.
وإن رق جزء فمنه يعني أنه إذا رهن المدبر فعتق بعضه بموت سيده ورق بعضه فإنه يستوفى للمرتهن دينه من ذلك الجزء الذي رق، وكذا لو رق كله وتركه لوضوحه، وفهم منه أنه لو عتق كله لم يبع منه شيء، واستُشكل تصوُّرُ ذلك وأجيب بأنه يُتَصَوَّرُ في المدبر الذي أسلم سيده خدمته بعد أن حيز في قسم الغنيمة كما حدثني به أحمد باب الصِّدِّيقيُّ عن الأمين بن المختار بن موسى اليعقوبي عن الأمين العتروسي عن عبد الدائم بن اخطير عن القاضي العلوي عن الشيخ علي الأجهوري.
وَرهن الرقبة على وجهين: الأول أن يرتهن رقبته على أنه إن مات الراهن ولا مال له بيع له المدبر، فإن كان هذا الشرط في أصل العقد فإنه يجري على الخلاف في رهن الغرر لأنه لا يدري متى يموت السيد، وإن لم يكن في أصل العقد جاز بلا خلاف. والثاني أن يرتهن الرقبة على أن تباع له قبل موت السيد فهذا لا يجوز كما قال المص: لا رقبته يعني أنه لا يجوز رهن رقبة المدبر على أن يباع حياة السيد في دين متأخر عن التدبير لا في متقدم عنه، ولا على أن تباع بعد موت السيد مطلقا فيصح رهن رقبته في هذه الأقسام الثلاثة لبطلان التدبير فيها، قال علي الأجهوري:
ويبطل التدبير دين سبقا
…
إن سيد حيا وإلا مطلقا
قاله عبد الباقي. وقوله: ولا على أن تباع بعد موت السيد لخ ظاهره أن هذا جائز، ولو وقع في صلب العقد أي عقد البيع والسلف وهو المشهور كما مر قريبا. انظر الرهوني. واللَّه تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: وانظر إذا رهنه وأطلق والظاهر صحته وحمله على الثاني، فإن رهنه على أن تباع رقبته متى وجب الحق فالظاهر المنع كالأول. انتهى. وهذه الصورة التي استظهر عبد الباقي فيها الصحة ليست هي محل القولين الآتيين بل هي غيره. انظر الرهوني وفيه التصريح بأنه لا
وجه لهذا التوقف، وجلب من النقل ما يفيد الصحة فيما إذا أطلق. واللَّه تعالى أعلم. وقوله:"وخدمة مدبر" لا مفهوم للمدبر مثله خدمة المخدم والمعتق لأجل فيجوز رهن خدمة من ذكر، وإنما خص المدبر لأجل ما بعده وإذا رهن مدبرا على أنه قن فثبت أنه مدبر فهل ينتقل الرهن لخدمته فتباع له وقتا بعد وقت؟ أو يبطل الرهن ويبقى دينه بلا رهن؟ في ذلك قولان ذكرهما اللخمي والمازري. وأما لو رهن رقبة المدبر على أنه مدبر فإنه يبطل الرهن ولا يتعلق بالخدمة من غير خلاف كما يفيده المواق. قاله الخرشي وغيره. وينبغي جري هذا التفصيل في المعتق لأجل، وفي ولد أم الولد الحادث بعد الإيلاد، وحمل الشارح كلام المؤلف على ظاهره فجعل صورة المسألة أنه رهنه على أنه مدبر فهو عنده من تتمة قوله:"لا رقبته" وهو موافق لما في الحطاب عن اللخمي. قاله غير واحد.
وقوله: "قولان" اعلم أن الراجح من القولين أنه لا ينتقل لخدمته. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وينبغي جري القولين في المعتق لأجل وفي ولد أم الولد الحادث بعد الإيلاد. انتهى. وقال الرهوني عن التوضيح: اللخمي والمازري: وأما إن رهن رقبته لتباع الآن فلا يجوز، واختلف هل يعود الرهن في الخدمة وتباع له وقتا بعد وقت حسبما يجوز بيعها؟ كمن ارتهن دارا فثبت أنها محبسة على راهنها: فقيل لا يعود حقه إلى المنفعة لأنه إنما رهنه الرقبة، وَقيل الرهن يتعلق بمنفعتها وكرائها فإن المنفعة كجزء منها يجوز رهنه وبيعه، فلا يبطل ببطلان ما أخذ منه.
فرع:
قال الرهوني: قال ابن عرفة ما نصه: الشيخ عن ابن حبيب: قال أصبغ: من رهن مدبره فحل أجله كان المرتهن أحق بإجارته من الغرماء. انتهى. وقال الرهوني: ونص المدونة على اختصار ابن يونس: ولا بأس برهن المدبرة في قول مالك لأن ذلك لا ينقصها من عتقها إن مات سيدها. وفي كتاب التدبير منها ما نصه: ولا بأس أن يرهن المدبر ويكون المرتهن بعد موت سيده أحق به من الغرماء، فإن لم يَدَعْ سيده غيره بيع للمرتهن في دينه لأنه قد حازه ولو لم يقبضه بيع لجميع الغرماء. انتهى منها بلفظها.
تنبيه:
قد مر تَقْرِيرِي للمص تبعا لغيري وتقرير الشارح له على ظاهره، وكلام المواق الذي أشرت إليه هو قوله: وانظر هذه العبارة وعبارة غيره لو رهنه عبدا فظهر أنه مدبر فذلك كمن ارتهن دارا
ثم ثبت أنها حبس عليه، فقيل لا شيء له من غلتها فإنه إنما رهنه الرقبة وقيل يكون له ما يصح للراهن ملكه منها وهي المنافع التي حُبّسَت عليه. انتهى. ثم بعد حين اطلعت على كلام اللخمي ولا شك أنه هو الذي اختصر خليل. انتهى المراد منه. ويكفي هذا شاهدا للمص. واللَّه تعالى أعلم.
كظهور حبس دار يعني أن مسألة المدبر هذه كمسألة ما لو رهن دارا هي وقف عليه ثم ظهرت وقفيتها، فإنه اختلف في ذلك على قولين، فقيل لا يبطل الرهن بل ينتقل لمنفعة الدار، وقيل يبطل ولا يكون له شيء من غلتها، فإن ظهر أنها حبس على غير راهنها أو انتقل الحق لغيره بموته أو بانقضاء مدة معينة شرطها الواقف له فلا ينتقل الرهن لمنافعها قطعا. قاله غير واحد.
وما لم يبد صلاحه يعني أنه يجوز رهن ثمر أو زرع خلق ولم يبد صلاحه على المشهور؛ لأن الغرر في هذا الباب جائز على ما مر، قال عبد الباقي: وصح رهن ما أي ثمر أو زرع تخلق ولم يبد صلاحه لما علمت من جواز الغرر في الرهن، وأما إن لم يتخلق فلا يصح رهنه كرهن الجنين هذا هو ظاهر قوله:"لم يبد صلاحه" كظاهر المدونة، وقال ابن عرفة: ظاهر الروايات جواز رهن ما لم يخلق. انتهى.
تنبيه:
قال عبد الباقي عند قول المص "وهل ينتقل لخدمته؟ قولان" ما نصه: وينبغي جريهما في المعتق لأجل وفي ولد أم الولد الحادث بعد الإيلاد، وفي المكاتب على القول بأنه لا يصح رهنه. انتهى. قوله: وفي المكاتب على القول بأنه لا يصح رهنه، قال البناني: يعني هل ينتقل لكتابته أم لا؟ وليس المراد ينتقل لخدمته لأن سيده لا يملك خدمته، وكلامه يقتضي وجود الخلاف في رهن المكاتب، والذي لابن عرفة ما نصه: ولا أعرف في رهن المكاتب نصا، ومقتضى اتفاق المذهب على صحة بيع كتابته ومنع بيع رقبته صحة رهنه مصروفًا تعلقه بكتابته ورقبته إن عجز وفساده إن تعلق ببيع رقبته دون عجزه، وعلى الأول قال ابن الحاجب: يجوز رهن المكاتب ويستوفى من كتابته أو ثمنه إن عجز. انتهى.
وانتظر ليباع قد علمت أنه يصح رهن ما لم يبد صلاحه، فإذا رهنه ثمرا أو زرعا لم يبد صلاحه فإنه ينتظر إلى أن يجوز بيعه وذلك عند بدو صلاحه، على ما مر، فاللام في قوله:"ليباع"
للغاية، ومعنى ليباع إلى أن يجوز بيعه كما قررت، ونائب "انتظر" ضمير يعود على ما على حذف مضاف أي بيع، ومعنى انتظر أخر. البناني: قال ابن عرفة في كتاب الصلح منها: وقد جوز أهل العلم ارتهان غلة الدار أو الغلام وثمرة النخل التي لم يبد صلاحها، ولم يجيزوا ارتهان الأجنة. قال المازري: ورهن ثمرة لم تخلق كالجنين. ابن عرفة: ظاهر الروايات خلاف ذلك، وقال ابن حارث: اتفق ابن القاسم وابن الماجشون على ارتهان الثمرة التي لم تظهر واختلفا في ارتهان ما في البطن، فأجازه ابن الماجشون كالثمرة ومنعه ابن القاسم، وقال المازري في موضع آخر: يجوز إفراد ثمر النخل بالرهن وإن لم يظهر، وقد أجازوا ارتهانه سنين وهو لم يظهر في الثانية. انتهى. وقال الخرشي: عبد الحق: وسقي الزرع الرهون على ربه فإذا فلس ربه لم يكن للمرتهن تحاص بالسقي الذي وجب عليه؛ لأن السقي شيء غير مقبوض فلا حصاص له. انتهى. وقال الخرشي أيضا وإذا رهن الثمرة أو الزرع فقط دون الأمل فيجبر الراهن على تسليم الأصل ليتمكن من الحوز، وأما السقي والعلاج فعلى الراهن ويصير كأنه وكيله في ذلك. وقوله:"ليباع" ولا يؤخر لينتهي طيبها ويقدم بالسقي والعلاج إذا بيعت ويقدر محاصا بما بقي، ولكن لا يزاحم أرباب الديون بالمحاصة بها لو هلكت، وإنما يقدم بذلك في ثمنها على دينه لأن الراهن لا يجبر على السقي. انتهى.
وحاص مرتهنه في الموت والفلس الضمير في مرتهنه يرجع للشيء المرتهن الذي لم يبد صلاحه، والمعنى أن الراهن إذا مات أو فلس قبل بدو صلاح الرهن فإن المرتهن يحاص الغرماء في الموت والفلس بجميع دينه، لما علمت أن الدين يتعلق بالذمة لا بعين الرهن، وقد يهلك ذلك قبل بدو الصلاح فيظلم المرتهن. قاله الخرشي. وقال الحطاب: وإنما انتظر بدو الصلاح لأن بيعها قبل ذلك لا يجوز، وهذا إن لم يكن له مال غيرها، أما إن كان فإنه يؤخذ منه لأن حق رب الدين في ذمة المديان. انتهى.
واعلم أن في كلام الشيخ حذفا تقديره، فإن حل أجل الدين أو مات الراهن ولا مال له انتظر ليباع وحاص مرتهنه لخ. انظر الحطاب.
فإذا صلحت بيعت يعني أن مرتهن ما لم يبد صلاحه إذا حاص بدينه في الموت والفلس قبل بدو صلاح رهنه -إذ لا يباع حتى يبدو صلاحه كما عرفت- فإنه إذا بدا صلاح رهنه يباع ويختص بثمنه. فإن وفى ثمنها بجميع دينه رَدَّ المرتهن على الغرماء ما أخذ معهم بالمحاصة وإلا يف ثمن الثمرة المرهونة بجميع الدين، بل وفى ببعضه قدر المرتهن محاصا بما بقي من دينه بعد اختصاصه بثمن الثمرة، مثاله لو فلس وعليه لشخص مائة ولآخرَ مثلها ولمرتهن ما لم يبد صلاحه كذلك ومال المفلس مائة وخمسون، فأخذ كل واحد خمسين ثم بدا صلاح الثمرة، فإن بيعت بقدر دينه رد ما أخذ وهو الخمسون يقتسمها غيره، وإن بيعت بخمسين قدر محاصا بالخمسين الباقية لا بمائة فليس له إلا ثلاثون؛ إذ هي ثلاثة أخماس ماله بنسبة التركة وهي مائة وخمسون للدين وهو مائتان وخمسون ثلاثة أخماسه، ويرد على صاحبيه عشرين بقية الخمسين لكل منهما عشرة فيصير بيد كل منهما ستون وبيده ثلاثون غير ثمن الثمرة. قاله عبد الباقي وغيره. وهذا المثال لشيخ الإسلام الدميري تاج الدين بهرام.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: من فلس أو مات وقد ارتهن منه رجل زرعا لم يبد صلاحه وهو مما لا يباع حين الحصاص، فإن المرتهن يحاص الغرماء بجميع دينه الآن ويترك الزرع، فإذا حل بيعه بيع فإن كان ثمنه مثل دينه أو أزيد منه قبض منه دينه ورد زيادته إن كانت مع ما كان قبض في الحصاص فكان بين الغرماء، وإن كان ثمنه أقل من دينه نظر إلى ما كان يبقى له من دينه بعد مبلغ ثمن الزرع، فعلمت أن بمثله كان يجب له الحصاص أوَّلًا، فما وقع له على ذلك فيحسبه مما كان أخذ أولا ويرد ما بقي فيتحاص فيه الغرماء. انتهى.
قال عبد الباقي: وأخرج من أمثلة من يَرهن بفتح أوله ومن يُرهن بضم أوله، فأشار للأول وهو محتزر قوله:"من له البيع" بقوله: لا كأحد الوصيين يعني أن أحد الوصيين ليس له أن يرهن شيئا من مال اليتيم إلا بإذن صاحبه له في ذلك؛ لأن له نصف النيابة وإذا اختلفا نظر الحاكم في ذلك وكذا في البيع والنكاح، ومحل المنع في كلامه إن لم يكن كل منهما مطلق التصرف، فإن نص الموصي على استقلال كل منهما بالرهن فله ذلك بغير إذن الآخر. المواق من المدونة: لا يدفع أحد
الوصيين رهنا من متاع اليتيم إلا بإذن صاحبه، وإن اختلفا نظر الإمام في ذلك وكذلك البيع والنكاح. انتهى.
وقال عبد الباقي: والظاهر أن إيصاءهما مترتبين كشرط استقلال كل قياسا على ما يأتي في ترتب الوكيلين في التوكيل. انتهى. قوله: والظاهر أن إيصاءهما مترتبين لخ غير صحيح لمخالفته المنصوص. انظر ما يأتي عند قوله في الوصية: "ولاثنين حمل على التعاون". انتهى. قاله الرهوني. وقولي: فإن نص الموصي لخ تبعا لعبد الباقي، قال فيه البناني: ابن عاشر: هذا النوع من الإيصاء لا أعرفه، ولعل المراد أن كل واحد من الوصيين مطلق التصرف من قبل الآخر. انتهى. قال الرهوني: قول البناني: ابن عاشر: هذا النوع من الإيصاء لا أعرفه هذا عجب من الشيخ ابن عاشر رحمه الله، فإن المسألة جلية حتى إنها مصرح بها في متن ابن الحاجب، وأعجب من ذلك تسليم البناني له مع أنه قد اعترضه غير واحد ممن قبله، فقد قال أبو علي: هذا من ابن عاشر في غاية القصور. انتهى. وقال جسوس: وتوقُّفُ ابن عاشر في هذا قصورٌ. انتهى. وانظر ما يأتي عند النص الذي قدمناه آنفا والكمال للَّه تعالى. انتهى. وقوله: "لا كأحد الوصيين" دخل بالكاف كل من توقف تصرفه على تصرف غيره كأحد الناظرين والمقدمين.
وأشار للثاني وهو محترز ما يباع بقوله: وجلد ميتة يعني أن جلد الميتة لا يجوز رهنه أما إن لم يدبغ فالمنع متفق عليه، وأما إن دبغ فالمنع هو المشهور، وإنما منع رهن جلد الميتة لنجاسة ذاته وعلى قول ابن وهب الذي يرى طهارته بعد الدبغ يجوز رهنه بعد أن دبغ، وكذا لا يجوز رهن جلد الأضحية لشرفه ويجري في رهن الكلاب ما جرى في بيعها. المواق من المدونة: لا يجوز رهن جلود الميتة ولا بيعها ولو دبغت، قال مالك: ولا بأس برهن جلود السباع المذكاة وبيعها، دبغت أم لا. انتهى. الخرشي: ومثل جلد الميتة أم ولد الحر بخلاف أم ولد المكاتب. انتهى.
وكجنين يعني أن الجنين لا يجوز رهنه لقوة الغرر فيه، وكذا ما شابهه كالثمرة التي لم تخلق والزرع الذي لم يظهر على وجه الأرض وهذا هو مدخول الكاف. قاله الخرشي. وقال: وقوله كجنين أي إذا كان في صلب عقد البيع، فإن كان بعده أو في قرض جاز. قاله حلولو. ويجوز رهن غلة الدار والعبد لخفة الغرر فيها بخلاف الأجنة. انتهى. وقال المواق من المدونة: جوز أهل العلم
ارتهان الغلات ولم يجوزوا ارتهان الأجنة. انتهى. وقال عبد الباقي: "وكجنين" لا يصح رهنه لقوة الغرر فيه، وكذا ما أشبهه كثمرة لم تخلق وزرع لم يظهر على وجه الأرض ومر عن ابن عرفة خلافه، ومحل المنع في كلام المص إن كان ما ذكر وقع في صلب عقد بيع لا بعده ولا في قرض فيجوز. قاله اللخمي.
ودخل سمك في ماء وطير في هواء ولؤلؤ لم يوصف إذا لم يقع الرهن على عينه. انتهى. قوله لا بعده ولا في قرض فيجوز لخ، قال ابن رشد في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ: وأما ارتهان ما في بطون الإناث فلا يجوز على ما في كتاب الصلح من المدونة، وأجاز ذلك أحمد بن ميسر، وهذا الاختلاف إنما هو إذا كان الارتهان في أصل البيع، وأما ارتهان ذلك بعد عقد البيع فلا اختلاف في جوازه، ونحوه نقل ابن عرفة عن اللخمي أن الجنين يجوز رهنه في عقد القرض وبعد عقد البيع، واختلف في جوازه فيه. انتهى. نقله البناني. واللَّه تعالى أعلم.
وخمر يعني أنه لا يصح رهن الخمر لمسلم عند مسلم أو ذمي، بل وإن كانت الخمر ملكا لذمي ورهنها عند مسلم فالصور ثلاث: الخمر ملك لمسلم فلا يصح أن ترهن لمسلم أو ذمي، ملك لذمي ورهنها عند مسلم فلا يصح أيضا. فهذه ثلاث. وفهم من المص أن رهنها لذمي وهي ملك لذمي ليس كذلك فلا نتعرض لهم إلا أن يترافعا إلينا كما يأتي.
إلا أن تتخلل مستثنى من مقدر والقدر هنا حكمان: حكم خمر المسلم أنها تراق، وحكم خمر الذمي أن ترد له والمرتهن أسوة الغرماء في ثمنها، فاستثنى من الحكمين معا قوله:"إلا أن تتخلل" بمثناتين فوقيتين: أي فإن تخللت فالمرتهن أحق بها، كان المرتهن مسلما أو ذميا والراهن مسلم، أو كان الراهن ذميا والمرتهن مسلم. واللَّه تعالى أعلم. المواق، أشهب: إن قبض مرتهن الخمر ثم فلس راهنه فلا رهن له فيه، قال سحنون: إلا أن تتخلل فيكون أحق بها. انتهى. وقال الخرشي: ومثل الخمر السم وما أشبهه لأنه ما فائدة الرهن إلا بيعه عند العجز عن الوفاء، وهذا لا يجوز بيعه كما قاله اللخمي.
وإن تخمر أهراقه بحاكم فاعل تخمر ضمير يعود على العصير كما يدل عليه قوله: "تخمر" يعني أنه إذا تخمر العصير المرهون وهو لمسلم رهنه عند مسلم أو ذمي فإنه يهراق على المالك المسلم
بحاكم أي يهريقه المرتهن بحاكم؛ مالكي إن وجد عندهم من يحكم بعدم إراقتها وبتخليلها، قياسا على قوله في الوصية:"ورفع لحاكم" أي مالكي إن كان حاكم حنفي، وظاهر المص وجوب الرفع والإراقة وأنه ليس له الرفع لمن لا يراها وتكسر الآنية الفخار أيضا، فإن لم يكن حاكم يرى الإبقاء أراق من غير رفع للأمن من التعقب ونبه بقوله:"تخمر" على إراقة خمر المسلم المرهون ابتداء بالأولى لكن بحاكم أيضا، وقولي: المرهون لمسلم لإخراج المرهون لذمي عند مسلم فلا تراق ويردها له ويبقى دينه بلا رهن، فإن أسلم أريقت. قاله عبد الباقي.
وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: من ارتهن عصيرا فصار خمرا فليرفعها إلى الإمام لتهراق بأمره فإن مالكا قال: إذا وجد الوصي في التركة خمرا فلا يهرقها إلا بأمر السلطان خوفا من أن يتعقب بأمر من يأتي يطلبه فيها، قيل إنما أمره برفعها إلى الإمام خوفا أن يكون يرى تخليلها. وصح مشاع يعني أنه يصح رهن الجزء المشاع أي الشائع من نصف أو ثلث أو ربع ونحو ذلك، والمشاع اسم مفعول من أشاع رباعيا، قال الخرشي: نبه بهذا على جواز رهن الجزء المشاع خلافا للحنفية القائلين بعدم صحة رهن المشاع، قوله:"وصح مشاع" -كما في وقفه وهبته- من ربع وحيوان وعرض وعقار وسواء كان الباقي للراهن أو لغيره على المشهور والمشاع من الشياع وهو الاختلاط وعدم التمييز أي شائع غير متميز. انتهى كلام الخرشي.
وحيز بجميعه الباء للسببية أو بمعنى مع أي يحاز الجزء الشائع بسبب حوز جميع الشيء المرهون منه الجزء الشائع، أو حيز الجزء المشاع المرهون مع حوز جميعه أي جميع الشيء ما رهن وما لم يرهن إن بقي فيه للراهن فاعل بقي ضمير يعود على ما يفهم من بقي أي بقية. قاله الخرشي. أي إنما يحاز جميع الشيء حيث بقي للراهن فيه بعد الجزء المرهون بقية، فيشترط في صحة الحوز حوز الجميع ما رهن وما لم يرهن، وأما إن لم تبق له فيه بقية فإنه يُكتفى بحوز الجزء، فإذا رهن له ثلث هذا الشيء مثلا والباقي له كله أو له جزء منه فإنه لابد من حوز جميع ما للراهن، فإن لم تبق للراهن فيه بقية فإنه يُكتفى بحوز الجزء. واللَّه تعالى أعلم.
قال عبد الباقي: وحيز الجزء المشاع بجميعه أي مع حوز أو بسبب حوز جميع المرهون منه الجزء إن بقي فيه للراهن بقية ليلا تجول يد الراهن في الرهن فيبطل، فإن كانت لغير الراهن
اكتفي بحوز الجزء وينزل المرتهن منزلة الراهن، والشرط في المص يقتضي أنه إذا كان للراهن النصف ورهن الربع أنه لابد من حوز الجميع إذ بقي فيه للراهن بقية وليس كذلك، فلابد من تقييد كلامه. قاله أحمد. أي بما بقي في ملك الراهن لا ملكه وملك شريكه أيضا، فلو قال: وحيز ملكه به لسلم من الإيهام المذكور، وأخذ من الخلاف في هذه المسألة الخلاف في غاصب حصة أحد الشريكين في عبد أو دابة، والصحيح أنه ما غصب عليهما لا على من قُصِدَ بالغصب فقط. قاله ابن ناجي. انتهى.
قوله: وأخذ من الخلاف في هذه المسألة لخ يعني الخلاف المذكور في كلام ابن ناجي لا في كلامه هو إذ لم يذكره، وقد ذكر ابن عرفة الخلاف الذي أجمله الزرقاني، ونصه: وفي حوز المشاع ممَّا باقيه لراهنه طرق اللخمي والباجي وعياض. اللخمي: إن كان دارا أو عبدا في كون حوزه بانفراد المرتهن به أو يكفي كون يده فيه مع راهنه كشريك قولان، ونحوه للمازري، الباجي ما ينقل حوزه بانفراد المرتهن به أو عدل وما لا يزال كالربع في كونه كذلك، أو يكفي كون يده معه كشريك قولا أشهب والموازية. ثم قال عن عياض: مذهب الكتاب ومشهور المذهب أن حوزه إنما هو بحوز جميعه وقيل يجوز بحلوله في الجزء المشاع محل صاحبه وكانت يده عليه مع يده، وقيل إنما يصح ذلك فيما لا ينقل كالربع. انتهى.
قلت: ظاهر كلامهم أن هذا الخلاف منصوص، وظاهر كلام ابن رشد أن الخلاف مخرج فقط. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: ولا يجوز لأحد شريكي دابة بيع حصته منها وتسليمها بغير إذن شريكه الحاضر أو إطلاع الحاكم إن غاب كما في المدونة وغيرها كما قال ابن عرفة: ومعناه كما فهمه علي الأجهوري لا يتصرف في حصة شريكه، فإن خالف وفعل وتلفت، فقال في الذخيرة كما في التتائي: لا أعرف فيها نصا، ومقتضى القواعد ضمان حصة الشريك. انتهى. قوله: ولا يجوز لأحد شريكي دابة إلى قوله، كما قال ابن عرفة ما عزاه لابن عرفة لم أجده فيه بعد البحث عنه إلا عن أشهب ومذهب ابن القاسم خلافه، ونص ابن عرفة: ورهن المشاع فيما باقيه لغير الراهن ربعا أو منقسما لا يفتقر لإذن شريكه، وإن كان غيره ففي كونه كذلك ووقفه عليه قولا ابن القاسم وأشهب، قائلا: لأن رهنه يمنعه من بيعه ناجزا، وصوب الباجي قول ابن
القاسم لا يفتقر لإذن الشريك لأن ذلك لا يمنعه من بيع حظه أو دعائه لبيع جميعه، فإن باعه بغير جنس الدين كان الثمن رهنا، وإن كان بجنسه قضي به الدين. انتهى. قاله البناني.
قال الرهوني: لعل الزرقاني أخذ ذلك من قول ابن عرفة أواخر الشركة: وفيها مع غيرها منع أحد الشريكين بمجرد الملك في شيء تصرفه فيه دون إذن شريكه للُزُومية التصرف في ملك الغير بغير إذن. انتهى. لكن كلامه
(1)
بظاهره شامل لتصرفه فيه ببيع حصته لكن الظاهر قصره على ما إذا كان بيعه لحصته يؤدي للعلة التي علل بها
(2)
المنع؛ كأن يذهب به إلى السوق ونحوه من كل مكان لم يأذن له شريكه في الذهاب به إليه، ويحمل ما ذكره البناني عنه هنا من الجواز على مذهب ابن القاسم على ما إذا كان بيعه لحصته سالما من تلك العلة فتأمله. واللَّه أعلم. انتهى.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: لا بأس برهن جزء مشاع غير مقسوم من ربع أو حيوان أو عرض، وقبضُه إن كان بين الراهن وغيره أن يحوز المرتهن حصة الراهن ويكريه ويليه مع من له فيه شرك كربه، ولا بأس أن يضعاه على يد الشريك والحوز في ارتهان نصف ما يملك الراهن من عبد أو دابة أو ثوب قبضُ جميعه. انتهى. ولا يستأذن شريكه يعني أنه يجوز لمن له جزء مشاع في حيوان أو غيره منقسما أم لا أن يرهن حصته أو بعضها من غير أن يستأذن شريكه؛ لأن الشريك يتصرف مع المرتهن ولا يمنعه رهن الشريك من ذلك؛ لأن الرهن لم يتعلق بحصته. وقوله:"ولا يستأذن شريكه" أي وجوبا فلا ينافي الاستحباب، ففي التوضيح: ينبغي أن يستأذنه أيضا على قول ابن القاسم، وقوله:"ولا يستأذن شريكه" هو المشهور وهو قول ابن القاسم، وقال أشهب: يفتقر لإذن الشريك فيما لا ينقسم. واللَّه تعالى أعلم.
وله أن يقسم يعني أنه يجوز للشريك الذي لم يرهن حصته أن يقسم لكن إنما يقسم مع الراهن، ففي المدونة: إن كان الرهن مما ينقسم من طعام ونحوه فرهن حصته منه جاز ذلك إذا حازه المرتهن، فإن شاء الشريك البيع قاسمه فيه الراهن والرهن كما هو بيد المرتهن لا يخرجه من يده،
(1)
في الرهوني ج 5 ص 267: لأن كلامه.
(2)
في الأصل: به، والمثبت من الرهوني ج 5 ص 267.
فإن غاب الراهن أقام الإمام من يقسم له ثم تبقى حصة الراهن في الوجهين رهنا ويطبع على كل ما لا يعرف بعينه. انتهى. وقوله: وله أن يقسم أي من دون إذن المرتهن.
ويبيع بالنصب عطف على يقسم؛ يعني أنه يجوز للشريك الذي لم يرهن حصته أن يبيع منابه من غير إذن شريكه الراهن ومن غير إذن المرتهن، وأما الراهن فلا يجوز له بيع الجزء المرهون من دون إذن المرتهن. ويسلم يعني أن الشريك الذي لم يرهن حصته إذا باعها يجوز له أن يسلم للمشتري ما باعه له، فإن نقصت حصته ببيعها مفردة جبر الراهن على البيع معه وكان ثمن حصتة رهنا إن بيع بغير جنس الدين وإلا قضي الدين منه إن لم يأت الراهن برهن كالأول.
قوله: "ويسلم" اعلم أن الشريك الذي لم يرهن إذا باع نصيبة وسلم الجميع للمشتري بغير إذن شريكه فمقتضى القواعد أنه يضمن لأن أخف أحواله أن يكون كالمودع في الأمانة والمودع إذا وضع يد الأجنبي ضمن لتعديه، فإن قيل يلزم عدم صحة البيع لعدم قدرته على التسليم فالجواب أن الشريك الراهن إن كان حاضرا سلم المبيع له، وتقع الحكومة بينه وبين المشتري أو غائبا رفع أمره إلى الحاكم يأذن له في البيع ممن شاء ووضع مال الغائب تحت يده. انظر الخرشي.
وله استيجار جزء غيره الضمير في "له" يرجع للراهن كالضمير في غيره والغير هو الشريك الذي لم يرهن، يعني أنه يجوز للشريك الذي رهن حصته أن يستاجر جزء الشريك الذي لم يرهن ولكن لا يتولاه الراهن بل يقبضه أي الجزء المستأجر أي أجرته. المرتهن فاعل يقبضه له أي للشريك الراهن، وإيضاح هذا أن تقول: للشريك الراهن أن يستأجر جزء الشريك الذي لم يرهن، وإذا استأجره فإن المرتهن هو الذي يقبض ذلك الجزء له بمعنى أنه يؤاجره المرتهن لشخص آخر ويأخذ منه الأجرة ويدفعها للشريك الراهن.
وعلم مما قررت أنه لا يتولى الراهن العقد على الجزء الذي استأجره أي لا يؤاجره، وإنما يؤاجره له المرتهن لأن ذلك في معنى الجولان فيبطل حوز المرتهن: المواق من المدونة: من رهن حصته من دار ثم اكترى حصة شريكه وسكن بطل الحوز إن لم يقم المرتهن بقبض حصة الراهن من الدار ويقاسمه؛ لأنه لما سكن الدار وهي غير مقسومة صار المرتهن غير حائز ولا يمنع الشريك أن يكري نصيبه من الراهن ولكن تقسم الدار فيحوز المرتهن رهنه ويكري الشريك نصيبه ممن شاء. انتهى.
ولو رهن أحد شريكين حصته من أجنبي وأمنا أي الراهن والمرتهن الأجنبي شريكا أي جعلا الشريك الذي لم يرهن أمينا لهما بأن وضعا الحصة المرهونة تحت يده، فرهن الشريك الأمين حصته للمرتهن أو لغيره، وأمنا أي الأمين والمرتهن الراهن الأول أي جعلاه أمينا لهما على هذه الحصة الثانية وهي شائعة، بطل حوزهما للحصتين معا لجولان يد الراهن الأول على ما رهنه بسبب أنه أمين على حصة شريكه الراهن الثاني وهي شائعة، فيلزم منه أن حصته تحت يده والثاني يده جائلة أولا على حصة شريكه بالاستيمان الأول، ولو جعلا حصة الثاني على يد أجنبي بطل رهن الثاني فقط لحوزه لحصة الأول، وقوله:"بطل حوزهما" أي ولا تفسد العقدة فإذا قام كل من المرتهنين يطلب حوز الرهن قبل المانع قضي له به. واللَّه تعالى أعلم. المواق: ابن المواز: من ارتهن نصف دار فجعله على يدي شريك الراهن ثم ارتهن مصابة الشريك بعد ذلك فجعلها على يدي الراهن الأول، فإنه يبطل رهن جميع الدار لأنها قد رجعت على حالها بيد كل واحد مصابته.
والمستأجر يعني أنه يجوز رهن الشيء المستأجر بفتح الجيم للمستأجر أو لغيره، فإذا استأجر زيد دارا لعمرو فإنه يجوز لعمرو أن يرهنها لزيد أو لغيره، والمساقى يعني أنه يجوز رهن الشيء المساقى للشخص المساقي أو لغيره، فإذا ساقى زيد عمرا فإنه يجوز لزيد أن يرهن الحائط المساقى عند عمرو أو غيره.
وحوزهما الأول كاف يعني أن حوز المكتري للدار المستأجرة كاف أي يكون ذلك حوزا للمرتهن، سواء كان المرتهن هو المكتري أو غيره، وكذلك حوز العامل للحائط المساقى كاف في حوز المرتهن له كان المرتهن هو المساقي أو غيره، وقوله:"الأول" أي الحوز الحاصل بالاستيجار والمساقاة، فلا يحتاج لحوز ثان للمرتهن، وجعلت المص شاملا لصورتين تبعا لنقل المواق، فإنه قال: الجلاب: من آجر داره من رجل ثم رهنها منه فلا بأس بذلك، وكذلك لو آجرها من رجل ثم رهنها من غيره فلا بأس بذلك، وكذلك من ساقى حائطه من رجل ثم رهنه من غيره فلا بأس، وينبغي للمرتهن أن يستخلف مع العامل في الحائط غيره.
وعبارة ابن عرفة: من ساقى حائطه ثم رهنه فليجعل المرتهن مع المساقى رجلا أو يجعلانه على يدي عدل، قال مالك: جعله على يدي المساقى أو أجير له يبطل رهنه، ونقل ابن يونس أن مذهب ابن القاسم أنه يجوز للرجل أن يرتهن ما هو في يديه بإجارة أو سقاء ويكون ذلك حوزا للمرتهن، مثل الذي يخدم ثم يتصدق به على آخر بعد ذلك فيكون حوز المخدم حوزا للمتصدق عليه. انتهى. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وصح رهن الشيء أو الشخص المستأجَر بفتح الجيم على الأول وكسرها على الثاني، والمراد على الأول رهنه للمستأجِر بالكسر قبل انقضاء مدة الإجارة ورهن الحائط المساقى عند عامله، بدليل قوله:"وحوزهما الأول" بالإجارة والمساقاة "كاف" عن حوز ثان للرهن. وأشعر قوله: "الأول" بأنه رهنه عندهما، فإن رهنه عند غيرهما جعل معهما رجل أو يجعلانه عند رجل يرضيانه ولا يكتفى بأمانتهما (لأنهما)
(1)
لأنفسهما، وقول التتائي: كلامه يشمل الصورتين فيه شيء مع قول المص الأول فإنه مشعر بما قررناه. انتهى كلام عبد الباقي.
قوله: في قول التتائي كلامه يشمل الصورتين فيه شيء لخ فيه نظر، بل كلام التتائي ممكن في كلام المص لوجود الخلاف في الصورة الثانية مع قبول كلام المص لما قاله لخ. وقال عبد الباقي: ومن رهن بعيرا مكترى لغير المكتري فحوزه علفه والقيام به وهو عند المكتري، وإن ارتهن للمكتري فكذلك ولا يضر وجود المكري معه كما يقع في الحج وعلفه عليه، لكن إنما يتولاه المكتري ليلا تجول يد المكري الراهن لو علفه، ومثل المستأجر والمساقى المودع والمعار في أن حوزهما الأول كاف عن حوز ثان حال الرهن عندهما. انتهى.
والمثلي يعني أنه يصح رهن المثلي حيث كان المثلي غير عين، بل ولو كان عينا حال كون المثلي بيده أي المرتهن وإنما يجوز رهن المثلي إن طبع عليه أي المثلي طبعا لا يقدر على فكه غالبا، وإذا زال علم زواله حماية للذرائع لاحتمال أن يكونا قصدا به السلف وسمياه رهنا واشتراط السلف في المداينة ممنوع والتطوع به هدية مديان، وأما الطبع الذي لا يقدر على فكه أصلا فغير
(1)
كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 5 ص 238 لأنها.
مطلوب، والذي يقدر عليه كل أحد ولا يعلم زواله كلا طبع وما قررناه من أن الطبع شرط لجواز رهنه بجعله شرطا ليجوز مقدرا هو المعتمد كما لأبي الحسن، ويفيده كلام جمع خلافا لمن جعله شرطا لصحته ولمن جعله شرطا لاختصاص المرتهن، فعلى ما قلنا إذا حصل مانع قبل الطبع اختص المرتهن به على المعتمد. واحترز بقوله:"بيده" عما لو كان بيد أمين فلا يشترط الطبع عليه. قال جميعه عبد الباقي.
وقوله اختص به على المعتمد قواه البناني، وقوله:"طبع عليه" بأن يجعل عليه شيء لا يقدر على إزالته غالبا وإذا زال علم زواله، ومعنى طبع عليه ختم عليه بأن يجعل عليه خاتم وطبع عليه جعل عليه طابع أي خاتم. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيه:
قضية كلام المص أن المثلي لا يجوز رهنه إلا إن طبع عليه حيث كان غير عين اتفاقا، وكذا إن كان عينا لا عند مقابل لو فيجوز رهن العين وإن لم يطبع عليها وذلك فيه شيء، قال البناني: صواب المص لو قال: والمثلي إن طبع عليه ولو غير عين وتكون المبالغة على مفهوم الشرط؛ لأن الخلاف إنما هو في غير العين إذا لم يطبع عليه، فابن القاسم في المدونة يقول بعدم صحته خلافا لأشهب واتفقا على أن العين لا يجوز رهنها إلا بالطبع عليها هذه طريقة المازري وابن الحاجب، وأما ابن يونس والباجي وابن شأس فلم يذكروا عن أشهب إلا أن طبع العين مستحب كما في التوضيح، فعلى هذا الطريق لا وجه للإغياء؛ إذ لا فرق عنده بين العين وغيره في عدم اشتراط الطبع، ومذهب المدونة -وهو المشهور- أن جميع المثليات لا ترهن إلا مطبوعا عليها. قاله الحطاب.
والحاصل أن المثلي غير العين فيه خلاف بين ابن القاسم وأشهب، قال ابن القاسم بوجوب الطبع وأشهب بعدم وجوبه، فإن كان عينا وجب عند ابن القاسم وفي وجوبه وندبه عند أشهب طريقتان. انتهى. وقوله:"والمثلي"، قال عبد الباقي: وليس منه هنا الحلي لعدم احتياجه لطبع عليه كما قال الحطاب. انتهى.
وفضله يعني أنه إذا رهن رهنا يساوي مائة مثلا في خمسين يصح له رهن فضلته وهي الخمسون الباقية عند غير المرتهن الأول، وقوله:"فضلته" أي باعتبار القيمة وليس معنى المص أنه رهن
بعضه المنفصل كجزء من كتاب ذي أجزاء، ثم رهن الباقي بعد ذلك لأن هذا لا يتوقف على قوله: إن علم الأول ورضي يغني عن قوله: "علم"؛ يعني أنه يشترط في رهن الفضلة المذكورة أي في صحة حوزها أن يعلم المرتهن الأول بارتهان الثاني لها ويرضى بذلك ليكون حائزا للمرتهن الثاني. فتحصل من هذا أن معنى المص أنه يشترط في صحة حوز الفضلة عِلْمُ الأولِ وَرِضاهُ؛ لأن محل هذا عند موت الراهن أو قيام الغرماء عليه، فإن لم يحصل ذلك صح الرهن.
ومحل قوله: "إن علم الأول ورضي" إذا كان الرهن بيد المرتهن، وأما لو كان موضوعا على يد أمين فإنه يشترط علم المرتهن الأول دون رضاه، ويشترط أيضا علم الأمين ورضاه ليصير حائزا للثاني، ولا يقال لم لا يشترط رضى المرتهن الأول ومن حقه أن يقول أنا لم أرض إلا برهنه كله في ديني؛ لأنا نقول حيث كان الثاني لا يستحق منه في دينه شيئا إلا بعد أن يستوفي الأول جميع دينه، فإن فضل شيء كان للثاني وإلا فلا شيء له كما يأتي لم يكن له كلام؛ لأن دينه مضمون فيه يأخذه كاملا وإن تحولت الأسواق. قاله البناني.
وقال الرهوني عند قول المص "إن علم الأول ورضي": محل هذا إذا مات الراهن أو قام عليه الغرماء وإلا فلا كلام في أن الفضلة تكون للثاني كما قال أبو الوليد بن رشد، ففي رسم الأقضية الثاني من سماع القرينين من كتاب الرهون ما نصه: وسئل عن رجل ابتاع من رجل بيعا بدنانير إلى ستة أشهر ورهنه بذلك رهنا فقبضه وحازه ثم ابتاع بعد ذلك بأيام من رجل آخر بيعا بدنانير إلى أجل شهر ورهنه فضل ذلك الرهن الذي رهنه الأول، وقال: فلان مبدأ عليك في الرهن ثم ما فضل لك رهن بحقك فحل أجل المرتهن الآخِر قبل الأول المبدأ عليه في الرهن، فقال مالك: ألم يعلم المرتهن الآخر أن حق الغريم الأول إلى ستة أشهر، فقيل له، لم يعلم، فقال أرى أن يباع ويعطى حقه من ثمنه، قيل له إذا بيع هذا العبد المرهون أيعطى الذي لم يحل حقه جميع حقه ثم يعطى هذا ما فضل؟ أو يوضع له حقه حتى يحل الأجل ويعطى للمرتهن الآخر ما فضل من حقه؟ فقال: بل يعطى صاحب الحق الذي لم يحل حقَّه كلَّه أحب إلي، ثم يعطى هذا ما فضل. قال القاضي رضي الله عنه: لم يذكر في هذه الرواية أن المرتهن الأول علم بما فعل الراهن من رهن فضلة الذي بيده لغيره. وقال إن فضلة الرهن تكون له. واعترض ذلك ابن دحون، فقال: إن ذلك
من قول خارج عن الأصول كيف يصلح أن يكون له فضلة الرهن ولم يقبضها له المرتهن الأول، ولا يلزم عندي هذا الاعتراض لأن المسألة محتملة للتأويل، وقد اختلف فيمن رهن رجلا رهنا فقبضه وحازه ثم رهن فضلته من آخر، فقيل إن الفضلة تكون رَهنا وإن لم يعلم المرتهن الأول بذلك وهو قول أشهب في الواضحة وغيرها وقول ابن القاسم في المبسوط، وقيل: إنها لا تكون له رهنا إلا أن يعلم بذلك المرتهن الأول وهو قول أصبغ من رواية
(1)
، وقيل: إنها لا تكون له رهنا إلا أن يعلم بذلك المرتهن الأول ويرضى به وهو المشهور المعلوم من قول مالك في المدونة وغيرها.
ثم قال: وفائدة هذا الاختلاف إنما هي إذا قام الغرماء على الراهن، هل يكون المرتهن الثاني أحق بالفضلة من الغرماء أم لا؟ وأما إذا قام المرتهن الأول والثاني على الراهن ولم يكن له غرماء أو قبل قيام الغرماء فلا كلام في أن فضلة الرهن تكون له إذ لا ينازعه فيها أحد، فيحتمل أن يكون إنما تكلم في هذه المسألة على أن المرتهن الثاني قام يريد قبض فضلة الرهن في حقه الذي قد حل ولم يحل حق المرتهن ولا غرماء على الراهن، فلا يلزم من هذا التأويل اعتراض ابن دحون على المسألة، ثم قال: ولو علم الثاني بأجل المرتهن الأول لم يبع الرهن حتى يحل أجله لأنه على ذلك دخل. انتهى.
ولا يضمنها الأول الضمير في يضمنها للفضلة يعني أن الفضلة التي رهنت عند أجنبي وهي بيد المرتهن الأول إذا تلفت وهي مما يغاب عليه ولم تقم بينة على تلفها، فإنه لا يضمنها المرتهن الأول لأنه أمين فيما زاد على قدر دينه، وإنما يضمن مبلغ دينه إن حضر الثوب الرهن وقت ارتهان الثاني أو له بينة ببقائه حينئذ وإلا ضمن جميعه، ومثل كلام المص إذا سلم الرهن للثاني فلا يضمن حصة الأول، فإن رهنت الفضلة عند الأول أيضا ضمن جميعه. قال الحطاب عن ابن سلمون: وإنما يجوز رهن الفضلة عند الأول إذا ساوى أجل الدين الثاني الأول لا إن زاد عنه أو نقص. انتهى.
(1)
في الرهوني ج 5 ص 268: من رأيه.
قال الرهوني: والظاهر أن يحمل ما في الحطاب من المنع عن ابن سلمون على ما إذا دخلا على أنه يباع الرهن عند حلول الأول وما فضل من ثمنه يدفع إذ ذاك في الثاني، وما بقي منه لم تف به الفضلة يبقى لأجله، ومثل الدخول على ذلك جري العادة به، ووجه المنع على هذا الجهالة في الأجل إذ يحتمل أن تبقى الفضلة بجميعه فيحل كله أو لا يفضل شيء أصلا بحوالة سوق فيبقى كله إلى أجله أو يفي بالبعض فقط فيبقى غيره، ثم ذلك البعض يحتمل أن يكون الأكثر أو الأقل أو المساوي، أما إذا دخلا على أنه إذا كانت فضلة تبقى بيد المرتهن رهنا بعد الطبع عليها أو توضع تحت يد أمين إلى حلول الأجل فلا وجه للمنع وكذا إن جرت العادة بذلك، وإنما يبقى النظر عند السكوت ولا عادة هل يحمل على الأول فيمنع للعلة المذكورة أو على الثاني فيجوز وهو الظاهر؛ لأن التصريح بالأجل يستلزم ذلك فتأمله بإنصاف. انتهى كلام الرهوني. واللَّه تعالى أعلم. كترك الحصة المستحقة تشبيه في عدم الضمان؛ يعني أن الرهن إذا كان مما يغاب عليه واستحق بعضه فترك المستحق ذلك البعض عند المرتهن فتلف ولم تقم بينة على هلاكه، فإن المرتهن لا يضمن تلك الحصة المستحقة لأنه فيها أمين، وإنما يضمن البعض الذي لم يستحق. ومن المدونة: من ارتهن دابة أو دارا أو ثوبا فاستحق نصف ذلك من يد المرتهن فباقيه رهن بجميع الحق، فإن شاء المستحق البيع قيل للراهن والمرتهن بيعا معه إن كان مما لا ينقسم، وقيل للمرتهن لا تسلم رهنك ولكن يباع وهو بيده، وتصير حصة الراهن من الثمن رهنا بيد المرتهن مطبوعا عليه بجميع حقه، فلو ترك المستحق حصته بيد المرتهن وهو ثوب فضاع لم يضمن المرتهن إلا نصف قيمته للراهن.
أو رهنِ نِصْفِهِ رهن بالجر عطف على ترك وهو مصدر مضاف إلى مفعوله، يعني أنه إذا ارتهن نصف ثوب فقبض جميعه فهلك عنده لم يضمن إلا نصف قيمته وهو في النصف الآخر مؤتمن قاله ابن القاسم في المدونة. نقله المواق وغيره. ومعطى بالتنوين اسم مفعول وهو مرفوع عطف على "الأول" أو مجرور عطفا على "ترك" ونائبه ضمير مستتر، ومفعوله قوله: دينارا. وعلق بالوصف قوله: ليستوفيَ نصفه قرضا أو دضاء ويرد نصفه، ومعنى كلامه أن من أخذ دينارا من شخص ليستوفيَ نصفه مقرضا أو مقضيا به فتلف فإنه يضمن نصفه فقط وهو في النصف الآخر أمين،
فالمعنى لا يضمنه كله وإنما يضمن نصفه فقط، ولا يمين عليه إلا إن اتهم كما في المدونة، وأما إن قال: اصرفه وخذ نصفه فضاع قبل صرفه فضمانه من ربه لأنه وكيل عنه حتى يصرفه، وعلى ربه قضاء حق المأمور حيث كان له عليه (دين)
(1)
، فإن ضاع بعد صرفه فمنهما.
أبو الحسن: فإن أعطاه له ليكون رهنا عنده حتى يوفيه حقه منه أو من غيره ضمن جميعه ضمان الرهان. ومن المدونة: قال مالك فيمن يسئل رجلا نصف دينار فأعطاه دينارا ليستوفي منه نصفه ويرد ما بقي، فزعم أنه ضاع؟ إن النصف من المقتضي والنصف الآخر هو فيه مؤتمن وعليه اليمين إن كان متهما وإلا لم يحلف. انتهى.
ثُمَّ عاد لتتميم المسألة -أعني قوله: "وفضلته" لخ- بعد أن شبه بها ثلاثة أشياء، فقال: فإن حل أجل التاني أولا قسم إن أمكن يعني أنه إذا رهن رهنا في دين، والرهن يساوي أكثر مما رهن فيه ثم رهن فضلة ذلك الرهن في دين آخر من رجل آخر وحل أجل الدين الثاني قبل حلول الأول والمدين ملي غير مفلس، فإنه يقسم الرهن بينهما ويعتبر عدد الأول فيعطى من الرهن مقدار ما يوفيه ويمسكه حتى يحل حقه فيباع له وما فضل يكون في دين الثاني يباع له إلا أن يكون الباقي أكثر من الثاني فلا يدفع له الآن إلا مقداره وتكون بقية الرهن كلها للدين الأقل، وهذا إذا كان فيه وفاء الأول وزيادة بأن كان فيه وفاء لهما أو للأول وبعض الثاني كما هو الموضوع، فإن لم يف إلا بالأول لتغير السوق لم يكن للثاني شيء، وَإلا يمكن قسمه أو أمكن بنقص بيع الرهن الآن وقضيا أي الدينان من ثمنه ويُقضى الدين الأول كله أوَّلًا لسبقيته ثم ما بقي للثاني.
وأشعر قوله: "وقضيا" بأن فيه فضلا عن الأول وهو كذلك، فإن لم يكن فيه فضل لم يبع حتى يحل أجل الأول. قاله ابن القاسم. وظاهره البيع الآن يعجل ولا يوقف ولو أتى للأول برهن كالأول وهو كذلك، ومفهوم قوله:"أولا" أنه إذا حل أجل الأول أولا فإنه أيضا يقسم إن أمكن وإلا بيع ويعجل للأول حقه وهل يعجل للثاني ما يزيد عن دين الأول، وعليه اقتصر التتائي أو يطبع عليه ويبقى رهنا حتى يحل أجله قولان في شرح الجلاب، وإن حلا معا بيع وأعطي للأول
(1)
في الأصل: دينا، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 239.
حقه وللثاني ما بقي ولا يقسم ولو أمكن قسمه خلافا للتتائي إذ القسم ربما أدى إلى نقص في الثمن كما في أحمد. قاله عبد الباقي.
وقوله: "وإلا بيع وقضيا" قال الرهوني: ظاهر المص أنه يباع ولو علم الثاني بأجل الأول وهو ظاهر إطلاق ابن الجلاب وابن الحاجب وشروحه، ولم يقيده الزرقاني ولا غيره ممن وقفت عليه بشيء، مع أنه قد تقدم في كلام ابن رشد التصريح بتقييده بما إذا لم يعلم الثاني بأجل الأول وإلا فلا يباع حتى يحل أجل الأول، ولم يحك فيه خلافا فيجب اعتماده ووجهه ظاهر غاية وإن أغفلوه. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
وَلما شمل قوله في حد الرهن ما يباع ما كان مملوكا لراهنه وما ليس مملوكا له كالمستعار للرهن، بين الحكم فيه بقوله عاطفا على "مشاع": والمستعار له يعني أنه إذا استعار شيئا ليرهنه فرهنه فإن رهنه ذلك صحيح، قال الإمام مالك: من استعار سلعة ليرهنها جاز ذلك ويُقضَى للمرتهن ببيعها إن لم يؤد الفرع
(1)
ما عليه. قال عبد الباقي: والمستعار أي صح رهن المستعار له أي للرهن، فإذا أدى الراهن ما عليه رجع لصاحبه وإن لم يؤد لعسره أو لغيبته بيع في الدين. ورجع صاحبه وهو المعير على المستعير بقيمته أي بقيمة المستعار، والفاضل عن وفاء الدين على هذا القول ملك للمستعير لأنها بيعت على ملك الراهن المستعير، وتعتبر قيمته يوم الاستعارة كما في ابن عبد السلام، وفي بعض الشراح يوم قبض العارية، لكن الشارح لم يذكر ذلك إلا في فرع يتعلق بالتلف وفي الشارح، وتبعه البساطي يوم الرهن.
أو بما أدى من ثمنه إشارة إلى الخلاف: يعني أنه اختلف في الذي يرجع به المعير على المستعير، فقيل يرجع عليه بقيمة المستعار الذي بيع للدين كما تقدم، وقيل يرجع بما أدى في دينه أي أعطى من ثمن المستعار والفاضلُ على هذا القول من ثمن الرهن باق على ملك ربه؛ لأنه إنما أسلفه ما فيه وفاء دينه، ولذا عبر بما أدى من ثمنه ولم يقل أو بثمنه.
(1)
في الخرشي ج 5 ص 242: الغريم.
نقلت عليهما يعني أن المدونة نقلت على هذين القولين، ففي رواية يحيى بن عمر: يتبعه بقيمتها، وفي بعض الروايات بما أدى وهو قول أشهب، وكما رويت المدونة على هذين القولين اختصرت عليهما اختصرها البرادعي على الأول وابن أبي زيد على الثاني، وقوله:"أدى" بصيغة المبني للمفعول، والنائب ضمير يعود على "ما"، أو بصيغة المبني للفاعل والفاعل ضمير يعود على المستعير أي بما أعطى المستعير من ثمن السلعة في الدين.
مسألة:
قال في رسم البيوع من سماع أصبغ من كتاب الرهون ما نصه: وقال في امرأة أخذ لها زوجها حليا فرهنه ثم أعلمها بذلك وقال لها أنا أفكه، قال: فحسبته قال فسكتت حتى مات الزوج ثم طلبته، قال تحلف باللَّه ما رضيت ولا كان سكوتها تركا لذلك وتأخذه حيث وجدته، ويتبع المرتهن مال الميت، قال أصبغ: وذلك إذا عرف أن الشيء شيئها أو ثبت عليه ببينة. قال القاضي رضي الله عنه في بعض الكتب في هذه المسألة مكان فحسبته: فخشيته، فعلى رواية من روى فحسبته تأتي هذه الرواية خلافا لما تقدم في رسم إن خرجت من سماع عيسى؛ لأنه لم يوجب لها هنالك الرجوع إذا طال الأمر بعد علمها، وأما على رواية من روى فَخَشِيَتْهُ فليست مخالفة لها لأنها تعذر بالخوف على نفسها من زوجها، ويكون لها أن تأخذ حقها بعد يمينها أنه لم يكن سكوتها حتى مات زوجها إلا لخوفها إياه على نفسها، وإن لم يعرف ما ادعته من مخالفتها إياه فذلك على ما يعلم من حالها معه في الشدة والسطوة، فإن جهل ذلك فالقول قولها، والمختار من القولين على رواية المعارضة أن ذلك يبطل قيامها. نقله الرهوني.
وضمن إن خالف يعني أن المستعير للرهن يضمن إذا خالف، كما لو استعاره ليرهنه في دراهم فتعدى ورهنه في طعام فيضمنه ضمان العداء، فمعنى ضمن صار متعلقا بضمانه إذا تلف، سواء كان الرهن مما يغاب عليه أم لا، قامت بينة على هلاكه أم لا. هذا قول ابن القاسم. وقال أشهب: ترهن السلعة في قدر الدراهم من قيمة الطعام، واختلف هل قول الشيخين خلاف وهو الأقوى فيضمن المستعير مطلقا عند ابن القاسم.
وإلى تأويل الخلاف أشار بقوله: وهل مطلقا أي وهل قول ابن القاسم يضمن إن خالف باق على إطلاقه وهذا التأويل لابن أبي زيد، وقال ابن يونس: لما ذكر قول ابن القاسم إنما يضمن إذا أقر
له المستعير بذلك وخالفهما المرتهن ولم يشأ المعير أن يحلف، فإذا حلف فيكون رهنا فيما أقر به من الدراهم، فإذا لم يحلف كان له تضمين المستعير لتعديه، ثم لما ذكر قول أشهب قال: يريد إذا حلف له المعير أو أقر له المرتهن بذلك، ثم قال: فيتفق القولان.
وإلى تأويل ابن يونس بالوفاق أشار بقوله: أو قول ابن القاسم ليس على إطلاقه بل محله إذا أقر المستعير بالتعدي لمعيره الموافق له على التعدي، وخالف المرتهن في التعدي بأن قال: أذنت للراهن أن يرهنه فيما رهنه فيه من طعام أو غيره، فلم يتعد ولم يحلف المعير على التعدي الذي أقر له به المستعير والقول قول المرتهن فهذا هو محل ضمان المستعير لقيمة السلعة باتفاق الشيخين، وعليه فلو حلف المعير على ما ادعى أو أقر المرتهن بالتعدي فلا ضمان على المستعير وكانت السلعة رهنا فيما أقر به المعير، ولا يقبل دعوى المرتهن حينئذ في ذلك تأويلان، واعترض قوله:"إذا أقر المستعير لمعيره" بأنه لا مدخل له في التوفيق إذ هو موضوع المسألة.
وقال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: وجه القول بالتوفيق أن المرتهن لما خالف في التعدي كانت السلعة رهنا في الطعام كله، بخلاف ما لو أقر بالتعدي فإنها لا تكون رهنا إلا في عدد الدراهم من قيمة الطعام، وكذا يقال فيما إذا حلف المعير ولم يحلف.
وبطل بشرط مناف يعني أن الرهن بمعنى العقد يبطل بكل شرط يناقض مقتضى العقد والباء في قوله: "بشرط" للسببية أي بسبب اشتراط مناف لحكمه، ومثل لذلك بقوله: كأن يشترط راهنه أن لَّا يقبض أصلا أو أن يقبض مدة، ثم يرجع له بأن يشترط أجلا معينا وبعده لا يكون رهنا أو لا يكون الولد رهنا، مع أمه، أو أن لا يبيع إذا احتيج لبيعه. وأما شرط أن يقبض بعد مدة كسنة ثانية دون الأولى فيعمل به لأنه يبيعه عند حلول أجله وهو بيده، وإن فلس في السنة الأولى دخل معه الغرماء وفي السنة الثانية كان أحق به. وقوله:"وبطل بشرط مناف" ظاهره البطلان ولو حذف الشرط، وقوله:"كأن لا يقبض" هو مناف لمقتضى عقد الرهن إذ الرهن حكم الشرع بأنه يقبض فيباع للمرتهن ليقضى به دينه، ويختص به دون غيره من الغرماء وذلك ينافيه اشتراط أن لا يقبض. وَدَخَلَ بالكاف أيضا غَلَق الرهن بفتح الغين واللام وماضيه بكسر اللام، وهو فعل لازم وهو أن يرهنه رهنا في دين على أنه إن لم يأت بالدين في وقت حلوله فالرهن بذلك الدين، فإن
كان مشترطا في العقد فسد البيع والقرض ويصير القرض حالًّا، ويبقى الرهن بيد المرتهن حتى يأخذ سلفه، ويرد البيع إلا لفوات بحوالة سوق فأعلى فيكون رهنا في قيمة المبيع حالة، وأما إن وقع بعد عقد البيع أو السلف فيبطل الرهن دونهما ويبقى الدين بلا رهن، أي لأنه لم يخرج به من يده شيئا.
ابن يونس: قال مالك: ومن لك عليه دين إلى أجل من بيع أو قرض فرهنك به رهنا على أنه إن لم يفتكه منك إلى الأجل فالرهن لك بدينك لم يجز وينقض هذا الرهن ولا ينتظر به الأجل، قال أبو محمد: يريد ويصير السلف حالا، قال: ولك أن تحبس الرهن حتى تأخذ حقك وأنت أحق به من الغرماء. ابن يونس: وهذا إذا كان الرهن في أصل البيع والسلف، وإذا كان الأمر كذلك فسد البيع والسلف لأنه لا يدري ما يصح له في ثمن سلعته هل الثمن أو الرهن؟ وكذلك في السلف هل يرجع إليه ما أسلف أو الرهن؟ ثم قال: ولو كان هذا الرهن بعد أن صح البيع أو السلف لم يفسخ إلا الرهن وحده ويأخذه ربه ويبقى البيع والسلف بلا رهن إلى أجله، ولا يكون المرتهن أحق بهذا الرهن في فلس ولا موت.
ابن يونس: وأما إن حل الأجل ولم يدفع إليه سلفه أو ثمنه فإنه يصير حينئذ كأنه باعه الرهن بيعا فاسدا فيفسخ ما لم يفت ويكون أحق به من الغرماء، وتستوي هذه والتي رهن فيها في عقد البيع أي يكون الرهن إن لم يفت أو قيمته إن فات رهنا في الدين الذي حل أجله ثمنا أو سلفا. نقله البناني. وفال الرهوني: قال في المنتقى ما نصه: غلق الرهن معناه أنه لا يفك، فمعنى الترجمة أنه لا يجوز أن يعقد الرهن على وجه يئول إلى المنع من فكه، وأنشدوا لزهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له
…
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلِقا
انتهى. وهنا أمران ينبغي التنبه لهما: الأوَّلُ: ذكر الحطاب أنه إذا كان الدين حالا سواء كان من قرض أو بيع ثم أخره به لأجل على رهن وشرط عليه أنه إن لم يأت به للأجل فالرهنُ له فإنه يبطل التأجيل ويكون أحق بالرهن في الموت والفلس، وإن كان الدين مؤجلا فأخذ منه قبل الأجل
رهنا أو حميلا على أن يؤخره لأبعد من الأجل فلا يكون الرهن رهنا ولا يكون أحق به في موت ولا فلس إلا أن يدخل الأجل الثاني فيكون أحق به كسلف قبض فيه رهنا.
الثاني: إذا رهنه رهنا في دين على أنه إن لم يات بالثمن لكذا فالرهن له بذلك فهو أحق به من الغرماء حتى يأخذ حقه، فإن فات الرهن بيد البائع بما يفوت به المبيع الفاسد فعليه قيمته يوم حل الأجل؛ لأنه بيع فاسد وقع يوم حل الأجل وقبل ذلك لم يكن مبيعا، ويضمن قبل حلول الأجل ضمان الرهان فيفرق فيه بين ما يغاب عليه وغيره، وأما بعد الأجل فيضمن ضمان المبيع فاسدا سواء كان الرهن بيد المرتهن أو بيد أمين؛ لأن يد الأمين كيده. انتهى.
وحاصل مستئلتي غَلَقَ الرهن أنه بعد حلول الأجل لا تفترقان فيضمن المرتهن فيهما الرهن كان مما يغاب عليه أم لا، ويكون رهنا في الدين أو قيمةِ المبيع، فإن فات الرهن بما يفوت به المبيع الفاسد أمسكه المرتهن وتكون قيمته رهنا فيما ذكر وقبل حلول الأجل يبقى في مسألة التطوع الدين بلا رهن والعقد صحيح، وفي مسألة الشرط يفسد العقد ويبقى الرهن رهنا في المبيع أو قيمته وفي دين القرض حالا. واللَّه تعالى أعلم.
وقال الحطاب عند قول المص: "وبطل بشرط مناف" وليس منه مسألة غَلَقِ الرهن إنما هي من باب الرهن الفاسد والمرتهن أحق به من الغرماء حتى يقبض حقه. واللَّه أعلم. قال في الصحاح: غَلِقَ الرهن غَلَقًا إذا استحقه المرتهن وذلك إذا لم يُفْتَكَّ في الوقت المشروط، وفي الحديث:(لا يغلق الرهن) وفي الموطإ مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يغلق الرهن)
(1)
. مالك: تفسير ذلك فيما نرى -واللَّه أعلم- أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء وفي الرهن فضل عما رُهِنَ به، فيقول الراهن للمرتهن إن جئتك إلى أجل فيسميه له وإلا فالرهن لك بما فيه فهذا لا يصح ولا يحل وهذا الذي نهى عنه، وإن جاء صاحبه بالذي رُهِنَ به بعد الأجل فهو له وأرى هذا الشرط مفسوخا. قال الباجي: غَلَقُ الرَّهْنِ معناه أنه لا يفك يقال: غَلِقَ الرَّهْنُ إذا لم يفك. ومعنى الترجمة أنه لا يجوز أن يعقد الرهن على وجه يئول إلى
(1)
الموطأ، كتاب الأقضية رقم الحديث 13.
المنع من فكه، وقوله صلى الله عليه وسلم:(لا يغلق الرهن) معناه واللَّه أعلم أن لا يمنع من فكه، وذلك نهي عن عقد يتضمن ذلك وعن استدامته إن عقد على وجه يتضمنه. انتهى.
وباشتراطه في بيع فاسد ظن فيه اللزوم قال الخرشي مفسرا للمص ما نصه: يعني أن المبيع الفاسد إذا اشترط فيه رهن فدفعه المشتري ظانا أنه يلزمه وأولى إن لم يظنه فإنه يكون الرهن فاسدا ويسترده الراهن، كمن ظن أن عليه دينا فدفعه لصاحبه ثم تبين أنه لا دين عليه فإنه يسترده ممن أخذه. هكذا قال في الجواهر. وقال الأجهوري في شرحه: ولا مفهوم للبيع إذ القرض الفاسد كذلك، ولو قال في معاملة فاسدة ظن فيها اللزوم لكان أحسن. انتهى. وقال عبد الباقي: وباشتراطه أي الرهن وأولى وقوعه من غير شرط لأنه يتوهم في المشترط العمل بالشرط في بيع فاسد أو قرض فاسد ظن المشتري، وكذا المقترض فيه اللزوم أي لزوم الوفاء بشرط الرهن فدفعه للبائع لا لزوم البيع، وأولى إن لم يظنه فيرد لربه الراهن، كمن ظن أن عليه دينا فدفعه لصاحبه ثم تبين أنه لا دين عليه فإنه يسترده ممن أخذه. ومفهوم قوله:"ظن" أنه لو علم أنه لا يلزمه وفات المبيع كان رهنا في قيمته، والفَرْقُ أنه معذور حالة الظن إذ هو مجوز لأن يكون رهنا في القيمة، بخلاف حالة العلم. انتهى.
قوله: وأولى إن لم يظنه تأمله مع قوله بعد، ومفهوم قوله ظن أنه لو علم لخ، وقوله أو وقوعه من غير شرط يأتي الكلام فيه إن شاء اللَّه. واللَّه تعالى أعلم. ثم قال عبد الباقي: وظاهر المص كابن شأس بطلان الرهن ولو فات المبيع، ولا يكون مع فواته رهنا في عوضه من قيمة أو مثل، ووجهه أن الرهن مبني على البيع الفاسد والمبني على الفاسد فاسد وهو مسلم عند قيام المبيع، فيجب تقييد كلام المص به، وأما عند فواته فإن المذهب كما في نقل المواق أنه يكون رهنا فيما لزم من ثمن في المختلف فيه وقيمة في المتفق على فساده، وظاهر المذهب كان مشترطا أم لا، ظن فيه اللزوم أم لا. وفي نقل ابن غازي أن المتطوع به لا يكون رهنا مع الفوات. انتهى.
قوله: وظاهر المذهب كان مشترطا أم لا لخ قال البناني: غير صحيح، وقد علمت من كلام ابن يونس المتقدم أن حكم المتطوع به بعد العقد مخالف لحكم المشترط فافهم. انتهى. لكن كلام ابن يونس المتقدم فيما إذا كان البيع أو القرض صحيحا والرهن فاسد. واللَّه تعالى أعلم. ثم قال عبد
الباقي: واعلم أن المعاملة والرهن إما صحيحان وحكمهما ظاهر اشترط الرهن أو تطوع به أو فاسدان أو المعاملة صحيحة والرهن فاسد أو عكسه، وفي كل من هذه الثلاث اشترط الرهن أو تطوع به، ففي الأولين من هذه الثلاثة لا يكون رهنا في شيء منهما إن تطوع به، فإن اشترط كان رهنا في الثمن والسلف حصل فوت أم لا في الثانية كالأولى إن حصل فوت فرهن فيما لزم من قيمة أو مثل، فإن لم يحصل فوت رد المبيع وأما الثالثة فيكون رهنا في عوض المبيع أو القرض مع الفوات كان مشترطا أم لا. انتهى.
قوله: أو المعاملة صحيحة والرهن فاسد هذا القسم إنما يتصور في التطوع بالرهن، وأما إن كان مشترطا والرهن فاسد فإن المعاملة تصير فاسدة كما تقدم في كلام ابن يونس. انتهى.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: كلام البناني هذا صريح في أن قوله: "وبطل بشرط مناف كأن لا يقبض" يفسد به عقد المبيع أو القرض إن وقع في صلب العقد. واللَّه تعالى أعلم. وكلام غير واحد يقتضي أن الباطل إنما هو الرهن فقط، ففي الحطاب من الشرط المنافي ما ذكره في أواخر كتاب الرهون من المدونة ونصه: ومن رهن رهنا على إن مضت سنة خرج من الرهن فلا أعرف هذا من رهون الناس ولا يكون هذا رهنا. ابن يونس: قال ابن المواز: فإن مات الراهن أو فلس دخل فيه الغرماء. انتهى. وليس منه مسألة غلق الرهن كما سيأتي عند قول المص: وباشتراطه في بيع فاسد ظن فيه اللزوم إنما هي من باب الرهن الفاسد، والمرتهن أحق به من الغرماء حتى يقبض حقه. واللَّه أعلم. انتهى.
وذلك أيضا هو مقتضى المص حيث قال: "وبطل بشرط مناف". وقال الرجراجي: إذا كانت المعاملة صحيحة والرهن فاسد مثل أن يقع البيع والسلف على وجه الصحة واللزوم إلى أجل، ثم يرهنه به رهنا على أنه إن مضت السنة خرج من الرهن، فهل يكون أحق بالرهن من الغرماء وهو ظاهر المدونة؟ والثاني أنه لا يكون أحق به من الغرماء وهو قول ابن حبيب والأول أصح؟ انتهى. نقله الحطاب. وهو يقتضي بحسب المفهوم أنه إذا وقع في العقد فسد العقد كما يقوله البناني، ومقتضى ما للبناني أن محل قوله: وبطل بشرط مناف محله في الرهن المتطوع به وإلا كان من أفراد قوله: "وباشتراطه في بيع فاسد" لخ. فتأمله. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيه:
قال الحطاب: إذا قلنا إن الرهن يبطل في المبيع الفاسد، فتارة يفسخ مع قيام السلعة قبل فواتها فهذا ظاهر، وتارة يفسخ بالقيمة بعد فوات السلعة، وحينئذ إما أن تكون القيمة مساوية للثمن أو أقل أو أكثر مع التساوي الأمر ظاهر، وإن كانت أقل فهل يكون الرهن جميعه رهنا بها وهو مذهب المدونة وهو المشهور؟ وإن كانت القيمة أكثر كان الرهن رهنا في قدر الثمن منها، مثاله من أسلم دينارا في ثلاثين درهما وأخذ رهنا ثم فسخ ذلك، فإن كان الدينار والدراهم سواء كان أحق بالرهن حتى يعود إليه ديناره، وإن كانت قيمة الدينار أربعين فلا يكون رهنا إلا في قدر الثمن وهو ثلاثة أرباع من الدينار. واختلف إذا كانت قيمة الدينار عشرين هل يكون أحق بجميعه أو بثلثيه ويسقط من الرهن ما ينوب العشرة الزائدة.
وحلف المخطئ الراهن أنه ظن لزوم الدية ورجع يعني أن من جنى جناية خطأ تحملها العاقلة بأن بلغت ثلث دية المجني عليه أو ثلث دية الجاني وظن أن الدية تلزمه بانفراده، فأعطى بها رهنا ثم تبين له أن جميعها لا يلزمه فإنه يحلف أنه ظن أن الدية تلزمه بانفراده، ويرجع فيما زاد على ما يلزمه كواحد من العاقلة وفاعل رجع ضمير الجاني كما قررت، وعليه فلا يكون ما زاد على حصته رهنا. بهذا قرره أحمد. ويحتمل أن يكون ضمير الرهن أي رجع من حصة العاقلة إلى جهته فيكون جميعه رهنا في حصة الجاني كما لبعض الشراح، ومفهوم "ظن" أنه لو رهن في دية الخطإ مع علمه لزومها للعاقلة فإنه يصح. قاله غير واحد. وقال المواق من المدونة: يجوز الرهن في دم الخطإ إن علم الراهن أن الدية على العاقلة، ولو ظن أن ذلك يلزمه وحده لم يجز وله رد الرهن وكذا الكفالة فيه. انتهى. ونحوه للشارح إلى قوله:"وله رد الرهن" وزاد ما نصه: أبو الحسن الصغير: بعد أن يحلف لقد ظن أن ذلك يلزمه.
أو في قرض مع دين قديم عطف على قوله: "في بيع" فهو مما يبطل فيه الرهن، وصورة المسألة أن يكون لشخص دين على شخص برهن أو بغيره من بيع أو قرض ثم يدفع رب الدين قرضا إلى المدين، ويطلب منه أن يرهن له رهنا في دينه القديم والجديد فيفعل، فإن الرهن يبطل بالنسبة إلى الدين القديم لأنه سلف جر نفعا وهو التوثق بالرهن في الدين القديم، ويصح بالنسبة إلى الجديد وهو دين القرض.
ولهذا قال: وصح الرهن في الدين الجديد وهو دين القرض ويكون كله رهنا فيه. ومعنى "صح" أنه يختص به الجديد حيث لم يطلع عليه إلا عند الموت أو قيام الغرماء وقبل ذلك رد واللَّه تعالى أعلم، قال الخرشي في نقله: تجوز في إطلاق الصحة أي واختص المرتهن به إذا حصل مانع وإلا رد. انتهى. وقال عبد الباقي: وعطف على "في بيع" قوله: أو رهن رهنا في قرض جديد مع دين قديم به رهن أم لا بطل في القديم لأنه سلف جر نفعا، وهو توثقه بالدين القديم وصح وصار كله في الجديد، وفائدته أنه إذا لم يطلع على ذلك حتى قام الغرماء على الراهن أو عند موته كان المرتهن أحق به في الجديد فقط، ويحاص بالقديم كان من بيع أو قرض، فمعنى قوله:"وصح في الجديد" أنه يختص به المرتهن إذا حصل للراهن مانع لا الصحة المقابلة للفساد لأنه فاسد، ولذا يجب رده حيث كان قائما فقد تجوز في إطلاق الصحة على الاختصاص. انتهى. قوله: فمعنى قوله "وصح في الجديد" أنه يختص به لخ هذا هو الصواب. وبه يندفع قول الحطاب: كلام المص نص في صحة الرهن ولم أر ذلك لغيره. قاله البناني.
وقال المواق: ابن الحاجب: لو رهنه رهنا في قرض جديد مع القديم فسد ولم يكن رهنا إلا في الجديد. ومن المدونة: ومن أقرضته مائة درهم وأخذت بها رهنا قيمته مائة درهم ثم استقرضك مائة أخرى ففعلت على أن يرهنك بالمائتين رهنا آخر قيمته مائتا درهم لم يجز؛ لأنك انتفعت بزيادة توثق في المائة الأولى فهي سلف جر منفعة، وكذلك إن كانت المائة الأولى بغير رهن، فإن نزل ذلك وقامت الغرماء على المسلف في فلس أو موت فالرهن الثاني رهن بالدين الآخر خاصة. انتهى.
وقوله: "أو في قرض مع دين قديم" قال عبد الباقي: ثم محل بطلانه في القديم حيث كان المدين معسرا به أو كان الدين القديم مؤجلا حين الرهن للقرض الجديد، فإن أيسر حينه وهو حال صح الرهن فيه أيضا. ومفهوم قوله:"في قرض" أنه لو كان في بيع جديد لصح في البيع القديم والجديد وهو كذلك، بل يجوز ابتداء لانتفاء علة المنع المتقدمة فيما إذا كان الدين الطارئ قرضا، وما تقدم من أنه عطف على في بيع أي وبطل في اشتراطه في قرض يقتضي عدم البطلان مع انتفاء الشرط فيصح فيهما. قاله أحمد. انتهى.
قوله: حيث كان المدين معسرا لخ نص الحطاب: قيد ابن المواز المسألة بما إذا كان الدين مؤجلا، قال: وأما إن كان حالا أو حل أجله لصح ذلك إن كان الغريم مليا؛ لأن رب الدين قد ملك أخذه لأنه كابتداء سلف، قال ابن المواز: وكذا عندي لو كان عديما وكان الرهن له ولم يكن عليه دين محيط لأنه حينئذ كالملي. انتهى. وأكثرهم على أنه تقييد. انتهى كلام الحطاب.
وقوله: لو كان في بيع جديد لصح في الجديد والقديم بحث فيه البناني وأتى بما يدل على عدم الجواز، ورده الرهوني بما حاصله أن التحريم ضعيف وأن الجواز هو المشهور. واللَّه تعالى أعلم. وقوله:"وصح في الجديد" اختصاص الجديد به كله في المدونة، وحكي بطلان نصفه وبقاء نصفه رهنا في القرض والأول هو الجاري على قوله: وإذا قضي بعض الدين أو سقط فجميع الرهن فيما بقي. قاله الخرشي.
وقوله: "أو في قرض مع دين قديم" لخ قد علمت أن العلة هي السلف بمنفعة، قال عبد الباقي ما نصه: ابن ناجي: قلت لشيخنا يقوم من هذه العلة أي السلف الذي جر نفعا لو أقرضه قرضا ولم يشهد ثم أقرضه قرضا آخر على أن يكتب له وثيقة بهما أنه لا يجوز، لاحتمال أنه لو لم يسلفه لجحده فلم يرتضه، وذكر أن شيخه أفتى بالجواز حين وقعت بتونس وفتوى شيخه عندي ضعيفة. انتهى. وعلم منه أن الخلاف بينهما في الجواز وعدمه لا في البطلان وعدمه فالإشهاد صحيح في القديم والجديد على كليهما. انتهى كلام عبد الباقي.
وبموت راهنه يعني أن الرهن لا يتم إلا بالحوز قبل المانع، لقوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، ولهذا إذا مات الراهن قبل أن يحاز الرهن عنه فإن الرهن يبطل ويكون المرتهن إسوة الغرماء. أو فلسه يعني أن الراهن إذا فلس قبل أن يحاز عنه الرهن فإن الرهن يبطل ويكون المرتهن إسوة الغرماء، وقوله:"أو فلسه" أي ولو بالمعنى الأعم كما في ابن عرفة لا بإحاطة الدين فقط.
وعلم مما قررت أن قوله: قبل حوزه أي قبضه ببينة على الحوز أو التحويز على ما يأتي راجع لمسألتي الموت والفلس، وكذا يبطل الرهن بمرض الراهن أو جنونه المتصلين بالموت أو الفلس. وقوله:"وبموت" عطف على قوله: "بشرط مناف". ولو جد فيه يعني أنه إذا حصل للراهن مانع قبل الحوز فإن الرهن يبطل ولو جد المرتهن في الحوز على المشهور، بخلاف الهبة والصدقة فإن
الجد في حوزهما بمنزلة الحوز. والفَرْقُ أن الرهن لم يخرج عن ملك راهنه بخلاف الهبة والصدقة، لكن يبطلهما الإحاطة قبل الجد بخلاف الرهن كما مر قريبا، والفَرْقُ أنه في مقابلة دين بخلافهما. قاله عبد الباقي.
ومما تفترق فيه الهبة والصدقة من الرهن أن الرهن يفتقر إلى إذن الراهن في الحوز بخلافهما، ومن ذلك أيضا أن الرهن متى رجع إلى ربه باختيار مرتهنه ولو بعد سنين فإنه يبطل بخلافهما بعد العام، ومن ذلك رهن الجزء المشاع والباقي للراهن، فلابد من حوز الجميع كما مر بخلافهما فإنه يصح أن يحوز الموهوب أو المتصدق عليه ذلك الجزء المعطى فقط، ومنه أن الزوج أو الزوجة إذا رهن متاع البيت أو خادمه للآخر فلا يصح حيث بقي يستعملانه بخلافهما ومنه افتقار الرهن إلى معاينة البينة لحوزه أو تحويزه بخلافهما. قاله الخرشي. واللَّه تعالى أعلم. قوله:"ولو جد فيه" قال المواق: اللخمي: اختلف إذا لم يفرط في القبض حتى فلس الراهن أو مات، فقيل يبطل لعدم الحوز وقيل يصح. انتهى.
وبإذنه في وطء يعني أن المرتهن إذا أذن للراهن في وطء الأمة المرهونة فإن الرهن يبطل، وإن لم يطأ الراهن أو إسكان يعني أن من ارتهن دارا وَأذن للراهن أن يُسكن غيرَه أو أذن له أن يسكنها هو يُبْطِلُ إذنُه ذلك الرهنَ وإن لم يُسْكِنْهَا ولا سَكَنَها. أو إجارة يعني أن المرتهن إذا أذن للراهن في أن يؤاجر الذات المرهونة فإن ذلك يبطل الرهن وإن لم يؤاجرها الراهن ولو لم يسكن أي إذا أذن المرتهن للراهن في إسكان البيت المرهون بطل الرهن وإن لم يسْكُنْه الراهن. ولو قال المص: ولو لم يفعل لشمل الأمور الثلاثة على المعتمد على ما يظهر من كلام التوضيح؛ إذ الخلاف ليس خاصا بالسكنى. قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: وبإذنه أي المرتهن للراهن في وطء لأمة مرهونة ووطؤه المخلاة تذهب وتجيء في حوائج المرتهن بغير إذنه كوطئها بإذنه على المشهور، واختار اللخمي أن وطأها كالغصب أو إسكان لدار مرهونة أو إجارة للعين المرهونة التي هي أعم من الدار والحيوان والعرض ولو لم يسكن، قال أحمد: وينبغي أن يكون هنا حذف من الأول لدلالة الثاني ومن الثاني لدلالة الأول. وقوله: "أو إسكان" يريد أو سكنى. وقوله: "ولو لم يسكن" يريد أو يسكن غيره فيبطله إذنه
بسكناه أو سكنى بعضه وكذا في الوطء ولو لم يطأ، فلو قال: ولو لم يفعل لكان أحسن، وإذا بطل الرهن في ذلك كله بقي دينه بلا رهن كذا يفيد التوضيح أنه الراجح، ونحوه في المدونة في محل، ولكن يفهم من أبي الحسن عليها أن المبالغة في محلها لأنه مما لا ينقل، قال الشيخ سالم: وعلى كلام المص أن مجرد الإذن كاف، وعلى كلام غيره من أنه لابد من انضمام شيء له فإنما ذلك كله إذا حصل مانع أي مفوت بكعتق أو حبس أو غيرهما كما يأتي في كلامه. انتهى.
والظاهر أن إذنه في المقدمات غير مبطل وأن إذنه للراهن غير البالغ في وطئه مبطل وإن لم يعتبر وطؤه في غير هذا المحل لجولان يده في أمته الرهن إذ الوطء إنما يكون على هيئة خاصة. انتهى. وقال البناني عن مصطفى: هذه الثلاثة لا تبطل الرهن من أصله بل تبطل الحوز فقط، وللمرتهن قبل الفوت رده للحوز بالقضاء على الراهن، فلو أخر المص هذه الثلاثة بعد قوله:"وعلى الرد" لخ لينسحب عليها قوله: "له أخذه" لخ لتحرر كلامه وطابق النقل كما في المدونة وغيرها. انتهى. قال البناني: قُلْتُ في عزوه ذلك للمدونة نظر، أما مسألة الوطء فسيأتي ما فيها، وأما الإذن في الإسكان والإجارة فعل أو لم يفعل فلم يذكره في المدونة إلا في كتاب حريم البير، وليس فيه إلا أن ذلك يخرج من الرهن، ونصها فيه: لو أذن المرتهن للراهن أن يسكن أو يكري فقد خرجت الدار من الرهن وإن لم يسكن أو يُكْرِ. انتهى.
نعم وقع في المواق عند قول المص: "أو إجارة" ما نصه: ومن المدونة قال ابن القاسم: من ارتهن رهنا فقبضه ثم واجره من الراهن، فقد خرج من الرهن قال ابن القاسم وأشهب: ثم إن قام المرتهن برده قضي له بذلك. انتهى باختصار. فظاهره أن قوله: قال ابن القاسم وأشهب الخ
(1)
من كلام المدونة وليس كذلك، وإنما نقله ابن يونس عن الموازية، فقال بعد قوله: فقد خرج من الرهن، قال ابن المواز: وقال ابن القاسم وأشهب: لخ فاختصره المواق على عادته، ولعل ذلك هو الذي أوهم مصطفى حتى عزا ذلك للمدونة. واللَّه أعلم. ثم قال مصطفى: على أن مسألة الإذن في الوطء تبع فيها ابن الحاجب ولم يذكرها في المدونة إلا مع الحمل، فظاهرها لغو الإذن في الوطء ففيها: ومن
(1)
في الأصل: وإلخ، والمثبت من بناني ج 5 ص 243.
رهن أمته ثم وطئها فأحبلها فإن وطئها بإذن المرتهن أو كانت مخلاة تذهب وتجيء في حوائج المرتهن فهي أم ولد للراهن، ولا رهن للمرتهن فيها. انتهى.
ومثل هذا البحث للشيخ أبي علي بن رحال في شرحه قائلا: إذا أحبلها بطل الرهن من أصله، وأما إذا لم يحبلها فيبطل الحوز فقط وله أخذها منه، أما إذا لم يكن إلا مجرد الإذن دون وطء فالرهن والحوز صحيحان معا، خلاف ما في ابن الحاجب والتوضيح والحطاب إذ لا مستند لهم في ذلك. انتهى بمعناه. ومستندهم في ذلك هو القياس على ما في حريم البير من المدونة في الإذن في الإسكان، وقوله: إذا لم يحبلها يبطل الحوز فقط خلاف ظاهر أبي الحسن، إذ قال على قولها: ثم وطئها فأحبلها وكذا إذا لم يحبلها لأن تصرف الراهن بإذن من المرتهن يبطل الرهن. انتهى. ومثله لابن ناجي في شرحها. انتهى كلام البناني.
وقوله: "وبإذنه في وطء" لخ اعلم أن في المسئة من خارج الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها مثل ما في حريم البير وبه الفتوى، والثاني على ظاهرها أن مجرد الإذن لا يبطل الرهن بل حتى يسكن. قاله أشهب. وقيل إن كان الرهن بيد أمين فالأول وإن كان بيد مرتهنه فالثاني. قاله ابن حارث. فحمله المازري على أنه قول ثالث كما قلناه، وقال ابن رشد: قال ابن حارث: معنى قول ابن القاسم أنه كان الرهن على يد أمين، ومعنى قول أشهب أنه كان على يد المرتهن. انتهى المراد منه. انظر الرهوني.
وتولاه المرتهن بإذنه هو جواب عن سؤال مقدر، وهو كيف يتوصل الراهن إلى استيفاء منافع رهنه مع صحة الرهن؛ يعني أن ما ذكر من الإجارة والإسكان مما يمكن فيه الاستنابة يتولاه المرتهن بإذنه أي الراهن فيؤاجر له، فإن ترك إجارته ففي ضمانه ما فات وعدمه قولان، قال الحطاب: قال في التوضيح: وإذا رهنه وأذن له في الكراء وأن يقبضه من دينه ففرط حتى حل الأجل، فإن كان رب الدين حاضرا وعلم أنه لم يكرها ولم ينكر فلا شيء على المرتهن، وإلا ففي تغريمه كراء المثل قولان لابن الماجشون وأصبغ. انتهى. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: لو أذن
المرتهن للراهن أن يسكن أو يكري لخ، وكذلك لو ارتهن بيرا أو عينا فأذن لربها أن يسقي بها زرعه لخرجت من الرهن. انتهى.
أو في بيع وسلم معطوف على وطء والجملة بعده حالية؛ يعني أن المرتهن إذا أذن للراهن في بيع الرهن بعد أن قبضه المرتهن وسلم المرتهن الرهن للراهن وباعه فإنه يبطل الرهن ويبقى الدين بلا رهن، وإلا يسلم المرتهن الرهن للراهن بأن لم يسلمه أصلا أو سلمه للمشتري، حلف المرتهن أنه إنما أذن له في بيعه لإحيائه الرهن بثمنه أو ليأتي له برهن ثقة بدله لا ليأخذ الراهن ثمنه ويبقى دينه بلا رهن، وإذا حلف المرتهن على ما قال من أنه إنما أذن لإحياء الرهن بالثمن بقي الثمن رهنا إلى الأجل إن لم يرد الراهن أخذ الثمن، ويأت برهن قيمته وصفته أي كونه مما لا يغاب عليه أو يغاب عليه كالأول أي مماثل للأول في قيمته يوم رهن لا يوم بيع، وفي كونه مما يغاب عليه أولا.
وظاهر المص كظاهر المدونة أنه لابد من مماثلة الأول، ولو كان الدين أقل وهو كذلك، قال الشارح: وظاهر كلامه أن مجرد التسليم مع الإذن كاف في الإبطال وإن لم يحصل بيع وهو ظاهر ما تقدم، إلا أني لم أر ذلك إلا بعد انعقاد المبيع فانظره. انتهى. قال عبد الباقي: أي لم أره معتمدا إلا بعد انعقاد المبيع، وأما قبله فقولان نقلهما الصقلي عن أشهب كما في التتائي عن ابن عرفة وظاهره مساواتهما. انتهى.
قال مصطفى: اعتراض الشارح صحيح، وقولُ السنهوري: وتبعه علي الأجهوري أي وعبد الباقي إن ابن عرفة ذكر المسألة فيه نظر؛ إذ لم يتكلم إلا على وقوع المبيع ولا دليل لهما في كلام ابن عرفة. فتأمله. انتهى. قال البناني: إذا تأملت كلام ابن عرفة وجدت فيه الدليل القوي لما ذكره الأجهوري، وأن كلام مصطفى تحامُلٌ وقصورٌ، ونص ابن عرفة: ولو أسلمه لراهنه فباعه بإذنه ففي بطلانه وقبول قوله إنه لإحيائه بثمنه قولها، ونقل الصقلي عن بعض الفقهاء. ولو أسلمه لراهنه ليبيعه ففي قبول قوله إنما فعلته لتعجيل حقي، وسقوطه لأن شرط تعجيله الثمن على الإذن في المبيع سلف جر نفعا نقل الصقلي قولي أشهب انتهى. فهو صريح في المسألتين. انتهى.
الرهوني: تأملناه -يعني كلام ابن عرفة- فوجدنا كلام مصطفى لا تحامُلَ فيه ولا قصورَ، بل هو صحيح ظاهر غاية الظهور؛ لأن كلا من مسألتي ابن عرفة وقع فيها البيع بالفعل وتغايرهما إنما هو باعتبار ما ادعى المرتهن أنه قصده، ففي الأول ادعى أنه قصد إحياء الرهن أي أن يأتي له برهن آخر، وفي الثانية ادعى أنه قصد استعجال الثمن الذي يباع به الرهن وذلك بَيّنٌ من كلام ابن عرفة لمن تأمله وأنصف، ويوضح لك ذلك كلام ابن يونس الذي اختصره معبرا عنه بالصقلي، ونصه: ومن المدونة قال مالك: وإن باعه الراهن بإذن المرتهن إلى آخر نقله. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: "وإلا حلف وبقي" لخ قال الشيخ كريم الدين: انظر إذا نكل المرتهن عن اليمين فهل يصير دينه بلا رهن؟ وهو الظاهر لأن القصد لا يعلم إلا من قبله فهي يمين تهمة. قاله الخرشي. وإذا حلف المرتهن ولم يأت الراهن برهن كالأول، وقلنا إنه يبقى الثمن رهنا، فقال الخرشي: للمرتهن أن يأخذ الثمن في دينه لأنه لا فائدة لهما في الإيقاف إذ لعله يتلف بل يقضى ولو أبى الراهن. تأمل. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.
كفوته بجناية وأخذت قيمته تشبيه تام يعني أن الرهن إذا جنِيَ عليه وأخذت قيمته، فإن المأخوذ يوضع رهنا ويطبع عليه إلا أن يأتي الراهن برهن كالأول، والواو في قوله: وأخذت واو الحال احترازا عما إذا لم يؤخذ له شيء بأن عفي عنه -مثلا- فإن الدين يبقى بلا رهن، وظاهر كلام المؤلف سواء كانت الجناية عمدا أو خطئا. قال عبد الباقي مفسرا للمص: كفوته أي الرهن الحيوان مثلا بجناية عليه من أجنبي عمدا أو خطئا وأخذت قيمته في ذهابه كله بالجناية أو قيمة ما نقصته في ذهاب بعضه أو ما قدر فيه كالجراح الأربعة، فيكون المأخوذ رهنا إن لم يات برهن كالأول فالتشبيه تام مع قطع النظر عن الحلف؛ لأن هذه المسألة ليس فيها إذن من المرتهن فلا يمين عليه، والواو في قوله:"وأخذت" واو الحال واحترز به عما إذا لم تؤخذ قيمته بأن عفي عنه فيبقى الدين بلا رهن كما في ابن عرفة، قال أحمد: ومقتضاه أن للراهن العفو ولو كان معدما. انتهى. ويحتمل أن عفوه بعد الوقوع يمضي، وقولي: في الجناية من أجنبي تحرز عما إذا كانت الجناية من الراهن فينبغي أن يعجل الدين أو قيمته قياسا على ما يأتي للمص فيما
إذا وطئ غصبا من أن ولده حر وعجل الملي الدين أو قيمتها، وسيذكر المص ما لو كان الجاني هو العبد الرهن. انتهى.
قوله: أو ما قدر فيه كالجراح الأربع فيه نظر، بل نص ابن رشد على أنه إن لم تنقص من قيمته بأن برئ على غير شين فما هو مقدر يأخذه الراهن ولا شيء للمرتهن فيها، وإن نقصت من قيمته كان للمرتهن مما أخذ السيد قدر ما نقص من قيمته. انظر المواق. انتهى. قاله البناني.
وقال المواق: سمع عيسى ابن القاسم: أرش جرح العبد الرهن رهن لأن ذلك نقص من رقبته. ابن رشد: هذا كما قال وهو لا خلاف فيه لأن ما يغرم للمجروح ثمن لا نقص منه، بخلاف ما يغرمه الجارح في الجراح التي لها ديات ولا تنقص من قيمته شيئا مثل المأمومة والجائفة فهي للسيد لاحق للمرتهن فيها إلا أن تنقص من قيمته ويكون للمرتهن مما أخذ السيد قدر ما نقص من قيمته. انتهى. ومن المدونة: إذا جنى أجنبي على الرهن بيد المرتهن فهلك ورد القيمة، فإن جاء الراهن برهن ثقة أخذها وإلا كانت تلك القيمة رهنا. انتهى.
وقال الشارح مفسرا للمص: يريد أن الرهن إذا فات بجناية أجنبي عليه فأخذت منه القيمة فإن الراهن يأتي برهن ثقة مكان الأول، ويأخذ تلك القيمة فإن أبى جعلت القيمة رهنا بيد المرتهن ونحوه في المدونة. ابن يونس: ويطبع عليه، وقال محمد: إذا كانت القيمة من جنس حقه وصفته تعجلها إذ لا فائدة في وقفها ولا منفعة للراهن فيه، وإن لم يكن من جنسه بقيت رهنا. محمد: المراد بكونها من جندى حقه أن يوافقها في كونها دنانير أو دراهم، وأشار ابن عبد السلام إلى أنه يمكن أن يحمل قول محمد على الوفاق، ويكون معنى الأول أن القيمة لم تكن من جنس الدين. انتهى.
وبعارية أطلقت يعني أن المرتهن إذا أعار الرهن للراهن عارية مطلقة أي لم يشترط فيها الرد في الأجل، فإن الرهن يبطل ويبقى الدين بلا رهن: وفسر الخرشي العارية المطلقة بقوله: إن لم يقيدها بزمان لأن ذلك يدل على أنه أسقط حقه من الرهن على المشهور، وبعبارة أخرى: أطلقت أي حصل مانع أم لا، وكأنه دخل على رده لربه. وقال السنهوري في شرحه: وبطل الرهن بعارية من المرتهن للراهن أو لغيره بإذنه أطلقت بأن لم تقيد بأجل ولا عمل ولا اشترط ردها ولم
يحصل فوت بشيء مما يأتي على المشهور وهو مذهب المدونة. انتهى المراد منه. وقال الأجهوري في شرحه: العارية المطلقة هي التي لم يشترط فيها الرد في الأجل حقيقة أو حكما، ولم يكن العرف فيها ذلك فما اشترط الرد فيها حقيقة أو حكما في أجل الرهن أو كان العرف كذلك مقيدة، واشتراط الرد حقيقة ظاهر وكذا جري العرف، وأما الحكمي فهو أن يقيده بزمن أو عمل ينقضي قبله فهي مقيدة لاشتراط الرد فيها حكما. انتهى المراد منه.
وقال عبد الباقي: وبطل الرهن بعارية من المرتهن للراهن أو لأجنبي بإذن الراهن كما في الطخيخي عن المازري، وظاهره. وإن لم يكن من ناحيته لأن إذنه كجولان يده فيه؛ لأن العارية تدل على أنه أسقط حقه من الرهن أطلقت أي لم يشترط فيها رد في الأجل حقيقة أو حكما ولم يكن العرف فيها ذلك، والحكمي أن لا تقيد بزمن أو عمل ينقضي قبله قوله من المرتهن للراهن أو لأجنبي لخ ربما يفهم منه أن العارية من المرتهن لوارث الراهن بعد موته لا تضر وهو كذلك، وكذا رجوعه للوارث بإجارة أو بأي وجه كان. قال ابن ناجي: وظاهرُ قوله في الكتاب: ثم أودعه الراهن لخ أنه لو مات الراهن ورجع ذلك إلى ورثته بعارية أو كراء أو غير ذلك فإنه لا يبطل الرهن وهو كذلك. ابن الماجشون: لأن الدين لم ينتقل لذمة الوارث ولو كان ذلك والأب حي لبطل الرهن. انظر الرهوني.
وذكر مفهوم قوله: "أطلقت" بقوله: وإن لم تكن العارية مطلقة بأن أعاره كتابا مثلا على شرط الرد أي أعار المرتهن الرهن للراهن واشترط عليه أن يرده له بأن قيد العارية بزمن كجمعة أو عمل، أو قال له إذا فرغت من حاجتك فرده إلي، فللمرتهن أخذ الرهن الذي هو العارية من الراهن أو اختيارا المعطوف محذوف وهو العامل في قوله:"اختيارا"، والتقدير: أو عاد الرهن لراهنه اختيارا من المرتهن إما بوديعة أو إجارة وانقضت مدتها قبل أجل الدين، فإن للمرتهن أن يأخذ الرهن من الراهن. وقولي: أو إجارة معناد حيث كانت المنفعة للمرتهن.
وعلم مما قررت أن قوله: له أخذه أي للمرتهن أن يأخذ الرهن راجع للمسألتين قبله، وقوله: له أخذه قال عبد الباقي: أو رجع الرهن لراهنه اختيارا من المرتهن أي باختياره إما بوديعة أو بإجارة وانقضت مدتها قبل أجل الدين له أي للمرتهن أخذه أي الرهن بعد حلفه أنه جهل أن
ذلك نقض للرهن وأشبه ما قال ما لم يقم الغرماء. قاله اللخمي. فإن قلت: قوله أن ذلك نقض للرهن لا يوافق ما مر من أن الإجارة لا تبطل الرهن. فالجواب: أن قوله هنا نقض باعتبار ما يطرأ عليه من قيام الغرماء مثلا قبل انقضاء الأجل، فإن قيل كيف تتصور الإجارة والغلات إنما هي للراهن فكيف يستأجر من نفسه، قيل: يحمل على ما إذا كان المرتهن اكتراه من الراهن ثم أكراه لراهنه، أو على ما إذا اشترط المرتهن منفعته حيث كان الرهن في بيع وحُدَّتْ. انتهى.
قوله: أو بإجارة وانقضت مدتها قبل أجل الدين لخ، قال البناني: هذا يقتضي أنه لا يأخذه في الإجارة قبل انقضاء المدة، وأن قوله: بعد حلفه أنه جهل لخ محله في أخذه بعد انقضاء المدة وكلاهما غير صحيح، ففي التوضيح عن اللخمي: وإنما يرجع في الإجارة إذا انقضت مدتها، فإن قام قبل ذلك وقال جهلت أن ذلك نقض لرهني، وأشبه ما قال حلف ورده ما لم يقم الغرماء. انتهى. ونحوه لابن رشد، ففي سماع عيسى: فلا يمين عليه إلا في صورة وهي صورة الإجارة قبل انقضاء المدة. وقوله: فإن قلت قوله إن ذلك نقص لخ مثله في الخرشي وهو غير ظاهر، والصواب لو قالا فإن قلت تقدم لنا أن الإجارة تبطل الرهن وهنا لا تبطله، قلت: ما تقدم محله إذا قام الغرماء على الراهن قبل أن يطلب المرتهن أخذه، وما هنا محله إذا قام المرتهن على الراهن يرد له الرهن قبل قيام الغرماء كما يدل عليه ما تقدم. انتهى.
وقوله: بوديعة صحيح وقد تقدم نص ابن يونس، ونصه: فإن حازه المرتهن على يده أو يد عدل ثم رجع إلى الراهن بإذن المرتهن بإجارة أو مساقاة أو وديعة أو بغير ذلك، فقال ابن القاسم وأشهب في الموازية وغيرها: فقد خرج من الرهن. قاله الرهوني. وقول البناني: وكلاهما غير صحيح لخ أما عدم صحة الثاني منهما وهو حلفه بعد انقضاء مدة الإجارة فواضح، وأما عدم صحة الأول وهو أنه لا يأخذه في الإجارة قبل انقضاء المدة فعدمُ صحته إنما هو باعتبار نسبته للخمي، وإلا فما أفاده كلام الزرقاني هو الذي اعتمده أبو الوليد بن رشد في رسم العتق من سماع عيسى، وحكى ما نقله البناني عن التوضيح بقيل، وأتى بما يدل على أن ما قاله الزرقاني هو المعتمد. واللَّه تعالى أعلم.
وقد صرح عبد الباقي آخر كلامه بما في التوضيح عن اللخمي وقول البناني ونحوه لابن رشد، قال الرهوني: لا يخفى عليك ما فيه بعد وقوفك على كلام ابن رشد. انتهى. ومحل البطلان في رجوعه للراهن بإجارة أو كراء إذا كان ذلك من المرتهن للراهن، وأما لغيره ففيه تفصيل. قال في اختصار المتيطية: وإذا أكرى المرتهن الدار المرهونة بإذن الراهن لرجل ثم اكتراها الراهن من المكتري وسكنها لم يبطل ذلك حيازتها على المرتهن إلا أن يكون ذلك المكتري من سبب الراهن كصديقه الملاطف أو قريبه فإنها ترج من الرهن إذا أكراها المكتري من الراهن للتهمة التي دخلت في الرهن. قاله الرهوني.
وقوله: ومحل البطلان -يعني واللَّه أعلم- حيث حصل المفوت الذي أشار إليه المص بقوله: إلا بفوت بكعتق مستثنى من قوله: "له أخذه" يعني أن المرتهن له أخذ الرهن في مسألتي العارية المقيدة، وعوده لراهنه اختيارا إلا أن يفوت الراهن الرهن بعتق أو كتابة أو إيلاد. أو حبس أو تدبير أو بيع كما في المواق عن ابن القاسم وأشهب.
أو قيام الغرماء يعني أنه إنما يكون للمرتهن أخذه في المسألتين المذكورتين حيث لم يحصل شيء مما ذكرت وأما إن حصل من الراهن ما ذكر من كعتق أو حبس أو تدبير أو قامت الغرماء على الراهن فإنه ليس للمرتهن أخذه حينئذ ويعجل دينه في غير قيام الغرماء وأما في قيامهم فهو إسوة الغرماء، وكذا في موت الراهن. وقوله:"أو تدبير" جعلوا التدبير هنا مفيتا وإن كان غير مانع من ابتداء الرهن؛ لأنه هنا انضم إليه ما هو مبطل للرهن في الجملة وهو عوده للراهن اختيارا فليس بمنزلة التدبير المجرد. واللَّه تعالى أعلم. وغصبا فله أخذه مطلقا عطف على قوله: "اختيارا" يعني أن الرهن إذا عاد لراهنه على غير اختيار من المرتهن، بل عاد له غصبا بأن غصبه الراهن من المرتهن فللمرتهن أن يأخذ الرهن من الراهن مطلقا فات بكعتق ونحوه أم لا، قال عبد الباقي: وانظر كيف يكون له أخذه بعد فوته بكعتق، مع ما ذكره المص وغيره من أن الراهن الموسر إذا أعتق العبد المرهون أو كاتبه فإنه يمضي كما يأتي له من قوله:"ومضى عتق الموسر وكتابته". قاله الحطاب. وقد يفرق بأنه يحمل في أخذه من المرتهن غصبا على قصد إبطال الرهنية فيه، فيعامل بنقيض قصده بخلاف العتق للعبد المرهون وهو بيد مرتهنه، فإنه لم يحصل منه ما يوجب الحمل
على إبطال الرهنية حتى يعامل بنقيض قصده. انتهى. قوله: وقد يفرق بأنه يحمل في أخذه لخ، قال البناني: فيه نظر، والصواب ما أفاده الحطاب من تقييد ما هنا بما يأتي. انتهى. وفي نقل الخرشي عند قوله:"مطلقا" ما نصه: حصل مفوت أم لا، حصل مانع أم لا، ويستثنى منه المعتق والكتابة إذا كان موسرا كما يأتي في قوله:"ومضى عتق الموسر" لخ. انتهى. وهو ما قاله البناني عن الحطاب.
وإن وطئ غصبا هذا مفهوم قوله: "وبإذنه في وطء"، ومعنى كلامه أن الراهن إذا وطئ أمته المرهونة من غير إذن المرتهن بل وطئها غصبا من المرتهن ولم يحبلها فإنها تبقى رهنيتها، فإن أحبلها فولده حر لأنها ملكه.
وعجل الملي الدين أو قيمتها يعني أنه إذا وطئ الراهن الأمة المرهونة غصبا من المرتهن وأحبلها فإنه يعجل الدين للمرتهن حيث كان مليا أي موسرا، أو قيمة الأمة المرهونة فتبقى رهنا أي يعجل الأقل من الأمرين. وإلا يكن الراهن الواطئ للأمة المرهونة مليا بل كان معسرا بقي الرهن الذي هو الأمة هنا على رهنيته للمتأخر من الوضع وحلول الأجل. قال عبد الباقي: فتباع كلها أو بعضها إن حصل به الوفاء، فإن نقصت قيمتها عن دينه اتبع السيد بالباقي، وإنما لم تبع وهي حامل لاحتمال أن يفيد مالا فيؤدي منه.
ابن ناجي: قيل وينبغي أن يشترط رضاع الولد على المبتاع لقولها في التجارة فيمن باع أمة ولها ولد حر شرط نفقته على المشتري ولا يباع ولدها لأنه حر قوله: "أو بعضها". الرهوني: يأتي له ما يرده عند قول المص: "فإن تعذر بيع بعضه بيع كله" لقوله هناك نقلا عن التوضيح. قال أشهب: وإنما يباع بقدر الدين في العتق، وأما في الولادة والتدبير والكتابة فيباع كله ويكون فضل ثمنه لسيده؛ إذ لا يكون بعض أم ولد ولا بعض مكاتب ولا بعض مدبر. انتهى. لكن الصواب في أم الولد ما قاله الزرقاني هنا، لقول ابن ناجي في شرح المدونة بعد ذكره قول أشهب هذا، وقيل يباع منها بقدر الدين ويعتق الباقي. وذكر اللخمي هذا القول أولا، ثم ذكر أن قول أشهب شاذ ضعيف، وقال ابن حارث إثر قول أشهب: وقال يحيى بن عمر: لا يباع منها إلا بقدر الدين. انتهى. وما عزاه ليحيى بن عمر هو نص قول ابن القاسم في رسم حبل الحبلة من سماع عيسى
من كتاب الرهون، فإنه قال فيما إذا أولدها وهي بيد أمين ما نصه: وإن لم يكن لسيد الأمة ولا للأمين مال بيعت الأمة إذا وضعت وقضي حق الغريم إن كان محيطا بقيمتها، أو بيع منها بقدر حق الغريم وأعتق ما بقي.
قال القاضي أبو الوليد بن رشد: يريد إلا أَلَّا يوجد من يبتاع منها بقدر الدين فتباع كلها ويقضى المرتهن من ذلك حقه ويتصدق الراهن بالفضل؛ لأنه ثمن أم ولد، وقيل إنها تباع كلها. انتهى.
وقوله: "وإلا بقي" هذه إحدى المسائل التي تباع فيها أم الولد، وإحدى المسائل التي تباع فيها الأمة وهي حامل بحر ولهم عكسها في مسائل. قاله عبد الباقي. قال البناني: قال ابن غازي: وقد أجاد بعض الأذكياء ممن لقيناه؛ إذ نظم النظائر المذكورة في التوضيح في هذا المحل، فقال رحمه الله:
تباع عند مالك أم الولد
…
للدين في ست مسائل تعد
وهي إن أحبل حال علمه
…
بمانع الوطء وحال عدمه
مفلس موقوفة للغرما
…
أو راهن مرهونة ليغرما
أو ابن مديان إماء التركه
…
أو الشريك أمة للشَّرِكه
أو عامل القراض مما حركه
…
أو سيد جانية مستهلِكَه
في هذه الستة تحمل الأمه
…
حرا ولا يدرأ عنها ملأمَهْ
والعكس جاء في محل فرد
…
وهو حمل حرة بعبد
في العبد يغشى ماله من معتَقه
…
وما درى السيد حتى أعتقه
فالأم حرة وملك السيد
…
يشمل ما في بطنها من ولد
انتهى. ويضاف إلى الستة على الضابط الثاني وهو حمل الأمة بحر كما في الحطاب: المستحقةُ وهي حامل والأمة الغارة وأمة المكاتب إذا مات وفيها وفاء بالكتابة وله ولد، فإنه يبيع أمه ويوفي الكتابة. وصورة المسألة الأخيرة عند ابن غازىِ أن العبد إذا وطئ جارية فحملت وأعتقها ولم يعلم السيد بعتقه لها حتى أعتقه، فإن عتق العبد أمتَه ماض فتكون حرة والولد الذي في بطنها رقيق
لأنه للسيد، قال في الجلاب: ولو أعتقها بعد عتقه لم تعتق حتى تضع حملها. انتهى من التوضيح.
وقوله: والولد الذي في بطنها رقيق حمله بعضهم على ما إذا وضعت الولد قبل عتق السيد العبدَ الذي أعتقها، وأما لو كان في بطنها حين العتق فإنه يتبع أمه، قال سيدي محمد ميارة في طرته على التوضيح وهو تقييد ظاهر قال: ومع ذلك فتسميتها حرة حاملة بعبد إنما هو باعتبار ما آل إليه أمرها بعد الوضع والعتق. انتهى. ونحوه قول الحطاب: فعلم من كلامه في المدونة أنه لا يحكم لها بالحرية حتى تضع فقول المص وغيره -في هذه- حمل حرة بعبد فيه مسامحة، وبه تعلم صحة قول القاضي عبد الوهاب: لا توجد حرة حاملة بعبد، وسقط اعتراض ابن ناجي عليه بما ذكره الشيخ خليل. فتأمله. ومثل هذه المسامحة في أمة المكاتب التي زادها الحطاب. انتهى كلام البناني. وقوله: ويضاف لهذه الستة على الضابط الثاني لخ نحوه للتاودي، ونظمها بقوله:
وزيد فيها أمة المكاتب
…
يموت مع أدائها للواجب
والمستحقة كذا ذات الغرور
…
فاحفظ منحت العلم فزت بالأجور
وقول البناني عن الشيخ ميارة: وهو تقييد ظاهرٌ سلم كلام الشيخ ميارة وهو غير مسلم، فقد نقل الحطاب نص المدونة وقال بعده: وإذا كان هذا الحكم فيما إذا أعتقها العبد بعد عتقه فأحرى أن يكون ذلك حكمها إذا أعتقها في حال رقه؛ لأن عتقها بعد أن عتق أقوى من عتقه قبل أن يعتِقَ. انتهى. وتبعه التاودي وهو ظاهر غاية واللَّه أعلم. قاله الرهوني. وقال الحطاب عند قوله: "وإلا بقي": أي وإن لم يكن الواطن مليا بقي الرهن إلى الأجل ثم بيعت الأمة الرهن بعد الوضع وحلول الأجل، فإن وفى ثمنها بالدين فلا إشكال وإن نقص ثمنها عن الدين اتبع المرتهن السيد. قاله في المدونة. وإن كان فيها فضل بيع منها بقدر الدين، قال في التوضيح: وعتق ما بقي، وذكر أبو الحسن أن في عتق ما بقي وإيقافه بعض أم ولد خلاف، وإن لم يوجد من يبتاع البعض بيعت كلها وقضي المرتهن.
قال في التوضيح: وكان ما بقي للراهن يصنع به ما يشاء، وقال ابن رشد: يتصدق به لأنه ثمن أم ولد، قال: وقد قيل إنها تباع كلها وإن وجد من يبتاع منها بقدر الدين من أجل الضرر الذي عليها في تبعيض المعتق. واللَّه أعلم. ثم قال في مسألة عتق العبد أم ولده ما نصه: وظاهر كلام التوضيح أن الجنين لا يعتق ولو أعتق السيد العبد وأمته حامل، وهو الذي يفهم من كلامه في المدونة في كتاب أمهات الأولاد، فإنه ذكر فيه ما ذكره المص في التوضيح عن ابن الجلاب، ونصه: ولو أعتقها بعد أن عتق لم أعجل لها ذلك وكانت حدود أم ولد حتى تضع
(1)
فيرق الولد للسيد الأعلى وتعتق هي بالعتق الأول فيها بغير إحداث عتق. انتهى. وإذا كان هذا فيما إذا أعتقها العبد إلى قوله: وبهذا تعلم صحة قول القاضي عبد الوهاب لا توجد حرة حاملة بعبد، وسقط اعتراض ابن ناجي لخ.
تنبيه:
وإذا بيعت الأمة المذكورة فلها حضانة ولدها ما لم يسافر بها مبتاعها أو يريد أبو (الوليد)
(2)
السفر به.
وصح بتوكيل مكاتب الراهن في حوزه يعني أن المرتهن إذا وكل مكاتب الراهن على أن يحوز له الرهن فإنه يصح حوزه والباء للسببية أو للاستعانة أو بمعنى مع، وصح بتوكيل مكاتب الراهن لأن المكاتب أحرز نفسه وماله، فليس للسيد على ما في يده سبيل والإضافة في توكيل من إضافة المصدر للمفعول والفاعل المرتهن، قال غير واحد: عود الضمير في صح على الرهن أولى من عوده على الحوز لأنه ثمرته ويترتب عليه، ولا معنى لصحة الرهن إلا صحة حوز من ذكر. انتهى. وعلم منه أنه لا مانع من عوده على الحوز وهو ظاهر، ولكن قوله: ولا معنى لصحة الرهن لخ غير بين، فإن الظاهر أن الضمير عائد على الحوز؛ لأن هذا يقتضي بطلان الرهن قبل المانع في حوز المنفيات بعد. واللَّه سبحانه أعلم.
وكذا أخوه يعني أن المرتهن إذا وكل أخا الراهن على حوز الرهن له فإن ذلك سائغ ويتم الحوز بالقبض. وقوله: "أخوه" يعني وهو غير محجور له. قال الشارح: وأما وضعه -يعني الرهن-
(1)
لفظ التهذيب ج 2 ص 602 والحطاب ج 5 ص 384 دار الرضوان: وكانت حدودها حدود أمة حتى تضع.
(2)
في الحطاب ج 5 ص 384: الولد.
على يد أخي الراهن فقال ابن القاسم في الموازية والعتبية: لا ينبغي ذلك وضعفه، وقال في المجموعة: ذلك رهن تام، قال الباجي: وهو الأصح.
وإلى تصحيح الباجي أشار المص بقوله: على الأصح: وقوله: "وكذا أخوه" وكذا ولده الكبير الرشيد، وقال الشارح: واختلف في ولده الكبير الرشيد البائن عن أبيه، فقال ابن القاسم: لا ينبغي ذلك، وقال سحنون: ذلك جائز. وقاله عبد الملك. لا محجوره يعني أنه لا يصح الرهن فيما إذا وكل المرتهن محجور الراهن في حوزه فلا يصح حوزه له. الشارح: فلا يصح حوز ولده الصغير ولا الكبير الذي تحت نظر أبيه. الباجي: ولا خلاف في ذلك. وقال عبد الباقي: لا توكيل محجوره أخ وولد كبير سفيهين وغيرهما كزوجته. انتهى.
وقال الحطاب: وزوجته مثل محجوره على الأصح. قاله في التوضيح وفي الشامل أيضا، ولعل المص اكتفى بذكر محجوره عنها لدخولها في المحجور لأنها محجورة فيما زاد على الثلث وإن كان لا يطلق عليها في الاصطلاح. انتهى. وقال الشارح: وأما وضعه بيد زوجة الراهن، فقال ابن القاسم في المجموعة وغيرها: لا يجوز ذلك، وقال أصبغ: إن حيز بذلك عن راهنه حتى لا يلي عليه ولا يقضي فيه جاز. انتهى.
ورقيقه يعني أن المرتهن إذا وكل رقيقا للراهن على حوز رهنه فإنه لا يصح الرهن، قال عبد الباقي: ولو مأذونا أو أم ولد أو مدبرا أو معتقا لأجل وإن لم يمرض السيد أو يقرب الأجل كما هو ظاهر إطلاقهم أو مبعضا لأن ماله لسيده إذا مات فأشبه القن، وقال بعض: إن البعض كالمكاتب. وقوله: "محجوره" بالجر عطف على "مكاتب"، وبالرفع عطف على "أخوه" وعطف "رقيقه" على "محجوره" من عطف الخاص على العام. انتهى.
قوله: وإن لم يمرض السيد لخ صوابه وإن مرض السيد أو قرب الأجل. قاله البناني. وقال المواق: ابن شأس: يجوز للمرتهن أن يستنيب غيره في القبض إلا عبد الراهن ومستولدته وولده الصغير؛ لأن يد كل من هؤلاء يد للراهن، ويجوز أن يستنيب مكاتب الراهن دون عبده المأذون. وقال الباجي: لأن حوز العبد من سيده ليس بحوز كان مأذونا أو غير مأذون.
تنبيهات:
الأول: إذا كان الرهن مصحفا أو كتبا وقرأ فيها الراهن عند المرتهن دون أن يخرجها من يده فلا يبطل الرهن بذلك أَذِنَ الراهن فيه أم لا، إلا أن يكون رهنه على ذلك. انتهى من رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الرهن. قاله الحطاب.
الثاني: قال في التوضيح: قال المازري: وأما حوز الْقِّيمِ بأمور الراهن والمتصرف في ماله وشئونه، فقد وقع في الرواية أنه إن حاز جميع الرهن كدارٍ رهنَ الراهنُ جميعها فحازها القائم بشئون الراهن للمرتهن بإذنه فذلك حوز لا يبطل الرهن، وإن كان إنما رهن الراهن نصفها وأبقى النصف الآخر بيد القائم بشئونه فلا يصح لكون الجزء الآخَرِ الذي لم يُرتهَن يحوزه هذا القيِّمُ نيابة عن الراهن وهو غير مميز من الجزء المرتهَن، فكأن يد الراهن على جميع الرهن. انتهى. وقاله ابن الماجشون، وزاد: إلا أن يكون القيم عبدا فلا يجوز يعني إن رهن الجميع لأن حَوز العبد مِن حَوز سيده كان مأذونا له أو لا. انتهى.
الثَّالِثُ: قال في التوضيح: عبد الملك ولو كان ليتيم وليان، فأخذ أحدهما لليتيم دينارا ورهن فيه رهنا ووضع على يد أحدهما فليس بحوز؛ لأن الولاية لهما ولا يحوز المرء على نفسه. قاله الحطاب.
والقول لطالب تحويزه لأمين يعني أن الراهن والمرتهن إذا تنازعا في كيفية وضع الرهن؛ بأن قال المرتهن: يوضع على يد أمين، وقال الراهن: يوضع بيد المرتهن، أو قال الراهن: يوضع على يد أمين، وقال المرتهن: يوضع بيدي فإن القول لمن دعا إلى الأمين راهنا أو مرتهنا، وقد يكره الراهن وضعه بيد المرتهن خوف دعوى ضياعه فيحول بينه وبينه أو تفريطه حتى يضيع، وقد يكره المرتهن حيازة نفسه خوف الضمان إذا تلف، وسواء جرت العادة بوضعه عند المرتهن أم لا، خلافا للخمي في قوله: إن كانت العادة تسليمه ليد المرتهن كان القول لن دعا إليه، ومحل هذا إذا دخلا على المساكتة، وأما إن امتنع المرتهن عند العقد فلا يلزمه قبضه ولو كانت عادة. قاله في شرح التحفة. قاله البناني.
وقال المواق: ابن عرفة: وضع الرهن عند من شرط كونه بيده أو رضيه راهنه ومرتهنه، فإن اختلفا جعله القاضي عند من يرضى، ووضعه عند مرتهنه لا يجب له ولا يجب عليه، الأول
لخوف راهنه إتلافه، والثاني يقول لا أريد أن أضمنه. انتهى. وقال الش: لا إشكال أنه إن كان بينهما شرط عند من يوضع الرهن على يده من مرتهن أو أمين يوفى به، وأما إذا لم يكن بينهما شرط فاختلفا وهو مراد الشيخ بهذا الكلام فإنه يوضع على يد أمين؛ لأن الراهن قد يكره حيازة المرتهن خوف أن يدعي ضياعه فيحول بينه وبين متاعه، أو يفرط حتى يضيع وقد يكره المرتهن حيازته ليكفي نفسه مؤنة الاحتفاظ به وما ينشأ عن تلفه من ضمانه. انتهى.
وفي تعيينه نظر الحاكم يعني أنه إذا اتفق الراهن والمرتهن على وضع الرهن عند أمين ولكن اختلفا في تعيينة، فقال الراهن: عند زيد مثلا، وقال المرتهن: عند عَمْرٍو مثلًا، فإن الحاكم ينظر في الأصلح من الأمينين فيقدمه، فإن استويا خير في دفعه لأحدهما أو لهما ولا يدفعه لغيرهما، ولو كان كل منهما لا يصلح لحصول رضاهما بهما. قال في المعتمد: فلو تغير حال العدل فلكل منهما أن يدعُوَ إلى ثقة ليجعل الرهن عنده احتياطا لهما. انتهى. ويجري فيه قوله: "وفي تعيينه نظر الحاكم". قاله عبد الباقي. وقال المواق: ابن الحاجب: إذا طلب أحدهما أن يكون عند عدل فهو له، فإن اختلفا في عدل فقيل ينظر الحاكم، وقيل: عَدْلُ الراهن. انتهى.
والأول لمحمد بن عبد الحكم، والثاني قولُ اللخمي هو أنظر لنفسه في حفظه ومن يثق به. ابن عبد السلام: إن اتفق الراهن والمرتهن على عدالتهما فالقول الثاني أظهر وإلا فالأول أظهر، والمسألة مفروضة عند الشيوخ فيما هو أعم من كل واحدة من الصورتين. انظر الش.
وإن سلمه دون إذنهما يعني أن الأمين إذا سلم الرهن للمرتهن من دون إذن الراهن، أو سلمه للراهن من دون إذن المرتهن وتلف أو حصل مانع في تسليمه للراهن فإن الحكم مختلف، قال عبد الباقي: وإن سلمه أي سلم الأمين الرهن دون إذنهما بل تعديا وتلف أو حصل مانع في تسليمه للراهن وفي كلامه توزيع يرشد له المعنى، وحذف جواب الشرط إذ التسليم إنما هو دون إذن أحدهما لا دون إذنهما معا كما هو ظاهره، فالمراد على سبيل البدل أي دون إذن الراهن حيث سلمه للمرتهن ودون إذن المرتهن حيث سلمه للراهن، والجواب المحذوف للشرط هو فالحكم مختلف يدل عليه تفصيله بقوله: للمرتهن، وقضية كلام عبد الباقي أن قوله:"للمرتهن" متعلق
بمحذوف أي فإن سلمه الأمين للمرتهن من دون إذن الراهن وتلف عنده أو ضاع ضمن الأمين للراهن قيمته.
قال عبد الباقي: يوم تلفه فإن كانت قدر الدين سقط دينه لهلاكه بيده وبرئ الأمين، وإن زادت ضمن الأمين الزيادة لربه مطلقا أي سواء كان الرهن مما يغاب عليه أم لا؛ لأن الأمين إنما ضمن لتعديه ورجع بها على المرتهن إلا أن تشهد له بينة بتلفه بغير سببه فلا يضمنه، ثم هذا إذا وقع التسليم بعد الأجل أو قبله ولم يعلم الراهن بذلك حتى حل الأجل، وأما إن علم بذلك قبل الأجل فله أن يغَرِّمَ القيمةَ أيهما شاء لأنهما متعديان عليه هذا بدفعه وهذا بأخذه، وتوقف القيمة على يد عدل غيره خيفة تعديه ثانيا، وللراهن أن يأتي برهن كالأول ويأخذ القيمة، ثم إن ابتدأ الراهن بالعدل لم يكن للعدل رجوع على المرتهن لأنه الذي سلطه عليه. وقولي: وتلف عنده احترازا عما إذا كان باقيا وسلمه المرتهن فإنه يؤخذ ويوضع على يد الراهن أو يد أمين. انظر أحمد.
وقوله: على يد الراهن لعل وجهه تعدي المرتهن ولكن فيه أنه يؤدي لبطلانه ولم أره لغيره. انتهى كلام عبد الباقي. وقوله: "ضمن قيمته" قال البناني: أبو الحسن: لا فرق هنا بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه؛ لأن العدل والمرتهن متعديان وهو الذي يظهر من كلام اللخمي. انظر التوضيح. وقول عبد الباقي: ثم إن ابتدأ الراهن بالعدل لم يكن للعدل رجوع على المرتهن لخ هذا نقله ابن عرفة عن اللخمي، ونصه بعد ما تقدم: اللخمي: هذا إن سلمه لمرتهنه بعد حلول أجله أو قبله. وغفل حتى حل الأجل، ولو علم ذلك قبل حلوله فله إغرام قيمته أيهما شاء لتعدي العدل بالدفع والآخذِ بأخذه فتوقف قيمته بيد عدل آخر، وللراهن أخذها بإتيانه برهن آخر، فإن أغرم العدل لم يرجع العدل على المرتهن لأنه سلطه عليه هذا إن ضاع ببينة، ويختلف إن لم تكن بينة هل يغرم المرتهن للعدل قيمته الآن أو تكون قصاصا؟ لأن غرم العدل بالتعدي وغرم المرتهن بالتهمة؛ وقد يكون صادقا، وإن غرم المرتهن بالتعدي أخذت منه القيمة الآن عاجلا. انتهى.
وقوله: يوم التلف جزم بهذا هنا، وقال في قوله: وللراهن ضمنها ما نصه: أي القيمة يوم التلف والجاري على القواعد يوم التعدي، قال التاودي، والظاهر يوم التعدي والتسليم وهو الموافق لبحثه
الآتي مع الحطاب، ونحوه لابن عاشر، ونص ابن عاشر: قوله ضمن قيمته يعني يوم التسليم واللَّه أعلم. انتهى انظر الرهوني.
وللراهن ضمنها يعني أن الأمين إذا سلم الرهن للراهن دون إذن المرتهن وتلف أو قام عليه الغرماء فإنه يضمن القيمة، قال عبد الباقي ما نصه: يوم التلف قاله الحطاب، والجاري على القواعد يوم التعدي. انتهى. أو الثمن أي لا بد للأمين من أحد أمرين، إما أن يسلم قيمة الرهن للمرتهن أو الثمن أي الدين بأن يضمن له الأقل منهما، وإنما ضمن له الأقل من الأمرين لأنه إن كانت القيمة أقل فهو الذي أتلف الرهن وإن كان الدين أقل لم يكن له المطالبة بغيره، وكل ذلك ما لم يعلم المرتهن فيسكت كما قاله ابن يونس، ولو قال المص: أو الدين لشمل القرض فتعبيره به أولى. واللَّه تعالى أعلم.
قال عبد الباقي عند قوله: "وللراهن ضمنها أو الثمن" ما نصه: وينبغي أن يجري فيه ما جرى في تسليم المرتهن من التقييد السابق والتفصيل لجريان العلة فيه وما ذكره من الضمان في القسمين يجري فيما يغاب عليه وفي غيره؛ لأنه ضمان عداء كما مر. انتهى. وفي الخرشي ما نصه: والحاصل أن محل الضمان حيث تلف الرهن وهذا عام، وأما حصول المانع فإنما يقوم مقام التلف في تسليمه للراهن. انتهى.
واندرج صوف تم هذا شروع منه رحمه اللَّه تعالى فيما يكون رهنا بالتبعية من غير نص عليه، يعني أنه إذا رهنه غنما عليها صوف تم فإن ذلك الصوف يكون رهنا مع الغنم لأنه سلعة قصدت بالرهن، وقيل لا يندرج لأنه غلة فإن لم يكن تاما يوم الرهن لم يندرج اتفاقا، وما مر عليه المص لابن القاسم ومقابله لأشهب. انظر الشارح. وقال المواق من المدونة: قال مالك: كراء الدار وإجارة العين كل ذلك للراهن لأنه غلة ولا يكون في الرهن إلا أن يشترطه المرتهن وكذلك صوف الغنم، قال ابن القاسم: إلا صوفا كمل نباته يوم الرهن فإنه يكون رهنا معها. انتهى.
مسألة
قال في المفيد: ومن منتقى الأحكام قال أشهب: من ارتهن أرضا فيها نخل ولم يذكرها في الرهن أنها إن كانت مبذورة في الأرض وإنما تدعى أرضا لا نخلا أو كانت منحازة بناحية منها
وهي تبع للأرض فهي رهن مع الأرض، وإن عادلت الأرض أو قاربت وانحازت منها فلا رهن إلا في الأرض. انتهى. نقله الرهوني.
وجنين يعني أن الجنين الموجود حين الرهن يدخل مع أمه في الرهنية وأحرى ما وُجِدَ بعده، قال في المدونة: ومن رهن أمة حاملا كان ما في بطنها أو ما تلد بعد ذلك رهنا معها وكذلك نتاج الحيوان كله. قاله الخرشي. وقال المواق: ابن يونس: القضاء أن من ارتهن حاملا فما في بطنها وما تلده بعد ذلك رهن معها كالبيع، وكذلك نتاج الحيوان كله وقاله مالك. ابن المواز: ولو شرط أن ما تلد ليس رهنا معها لم يجز. انتهى. ونحوه لعبد الباقي، وزاد ما نصه: ولا يندرج بيض لتكرر ولادته. انتهى.
وفرخ نخل يعني أن من ارتهن نخلا بالخاء المعجمة فأفرخ النخل فإنه يدخل معه في الرهنية فراخه، وكذلك من رهن نحلا بالحاء المهملة فأفرخ فإنه يدخل معه في الرهنية فراخه، وهذا الأخير يغني عنه قول المص:"وجنين" ويقال لفراخ النخل بالخاء المعجمة الفسيل بفاء وسين مهملة فمثناة تحتية فلام، ويقال له ودي أيضا. واللَّه تعالى أعلم.
لا غلة يعني أن غلة الرهن لا تدخل في الرهنية كسمن وما تولد منه وعسل نحل، بل هي للراهن ككراء الدور والعبيد ونحو ذلك إلا أن يشترط المرتهن الإدخال. وثمرة وإن وجدت يعني أن من ارتهن شجرا لا تدخل ثمرته في الرهنية وإن كانت موجودة يوم الرهن، قال عبد الباقي، فلو حل بيعها بإزهائها يوم رهنها فهل تكون كالصوف التام؟ وإليه ذهب بعض القرويين أولا وهو نص ابن القاسم، وقوله:"وإن وجدت" هذا هو المشهور، ومقابله لمالك أنَّ الثمرة تدخل، وقال الشارح: واختلف المتأخرون فيما إذا تناهت الثمرة ويبست هل تدخل قياسا على ما قاله ابن القاسم في الصوف التام وإليه ذهب بعض القرويين أو لا تدخل؟ انتهى.
ومال عبد يعني أن من ارتهن عبدا فإنه لا يندرج ماله في الرهنية، قال عبد الباقي: ولا يندرج مال العبد في رهن العبد إلا بشرط وإلا من جناية عليه. انتهى. وقال المواق من المدونة: لا يكون مال العبد رهنا إلا أن يشترطه المرتهن كالبيع فيدخل في البيع والرهن، كان ماله معلوما أو مجهولا. انتهى. وقوله:"واندرج صوف تم" لخ هذا كله مع عدم الشرط، وأما معه فلا يندرج ما
يندرج ويندرج ما لا يندرج كما في الخرشي، ويعني واللَّه تعالى أعلم في غير جنين الأمة، وأما هو فلا يجوز اشتراط عدم رهنيته معها كما مر عن ابن المواز. واللَّه تعالى أعلم.
وارتهن إن أقرض صورتها أن يقول زيد لعمرٍو مثلا خذ هذا الشيء عندك رهنا على ما اقترضته منك أو على ما يقترضه منك بكر؛ لأنه ليس من شرط الرهن أن يكون الدين سابقا عليه أي وجاز عقد الرهن الآن ولزم في المستقبل إن دفعه له على شرط أن يقرضه، فإذا أقرضه لزم واستمرت رهنيته. أو باع صورتها أن يدفع شخص لآخر شيئا على أنه رهن في دين يستدينه منه هو أو غيره، فإذا أخذ منه سلعة بدين في ذمته يكون ذلك الشيء الذي دفعه له رهنا فيه، أي وجاز عقد الرهن الآن ولزم في المستقبل على أن يبيع به شيئا أو لغيره بدين في ذمته، فإذا حصل ذلك فإنه تستمر رهنية ذلك الشيء الذي دفعه له رهنا. واللَّه تعالى أعلم.
قال عبد الباقي وغيره: وارتهن أي دامت رهنيته إن أقرض أو على إن باع له أو لغيره أي يجوز ويصح، ويلزم عقد رهن يُقبَضُ الآن على أن يقرضه فيما يستقبل، فإذا أقرضه فيه فتستمر رهنيته بقبضه الأول من غير احتياج لاستيناف عقد لتقرره والتزامه قبل خلافا للشافعي. انتهى قوله: أي دامت رهنيته، قال الرهوني: صحيح في نفسه والأظهر أن معناه وجاز إن أقرضه في المستقبل ليفيد أن الإقدام على ذلك جائز كما صرح به في المدونة وغيرها، وليوافق عبارة ابن الحاجب الذي ينسج على منواله غالبا. انتهى.
فرع:
قال في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الرهون: وسألته عن الرجل يسأل الرجل سلفا ويأتيه برهن مما يغاب عليه ليدفعه إليه، فيقول له المسلف ضع رهنك عندي وعد إلي غدا أدفع إليك ما سألتني من السلف، فإذا غدا إليه ليقتضي ما وعد به وجد الرهن قد هلك عند الذي قبضه، أتراه له ضامنا، أو يكون مؤتمنا فيه؟ قال: بل يضمنه وذلك أنه إنما أخذه على حال الاستيثاق ممن أراد أن يسلفه ولم يؤتمن عليه. قال القاضي رضي الله عنه: هذا بيِّن على ما قاله أنه إنما دفعه إليه ليكون عنده رهنا فيما وعده به من السلف، وهو أبين في الضمان من مسألة تضمين الصناع من المدونة في الصانع يفرغ من عمل الثوب فيقول لصاحبه خذه فلا يأتي حتى يضيع أنه ضامن له على حاله. وباللَّه التوفيق. انتهى. نقله الرهوني.
أو يعمل له صادق بصورتين، إحداهما: أن المستأجر يدفع رهنا لعامله في أجرته التي تجب له على مستأجره على تقدير أن يعمل له، فإن ذلك العقد جائز ويستمر ما دفع له على الرهنية.
الثَّانِية: أن يستأجر أجيرا يعمل له عملا وينقد له الأجرة ويخشى أن يعطل فيأخذ منه رهنا على أنه إن عطل استأجر من الرهن من يعمل له ذلك العمل؛ أي وجاز عقد الرهن الآن ولزم في المستقبل إن دفعه له على تقدير أن يعمل له. واللَّه تعالى أعلم. قال عبد الباقي: أو يقبض الرهن على أن يعمل -فهو بالجزم عطفا على الشرط أي على محله لأنه ماض- له عملا بنفسه أو من يقوم مقامه بكراء ونحوه، ليكون العمل متعلقا بالذمة أي أن المستأجر يدفع رهنا لعامله في أجرته التي تجب له على مستأجره على تقدير أن يعمل له، وشمل صورة ثانية وهي أن يستأجر أجيرا ليعمل له عملا وينقد الأجرة ويخشى أن يعطل فيأخذ منه رهنا على أنه إن عطل استأجر من الرهن من يعكمل له ذلك العمل، وهذه صحيحة وإن كانت الأولى هي المنقولة في كلام المتيطى. انتهى.
وإن في جعل أي وارتهن أن يعمل له في إجارة بل وإن كان الرهن في جعل على تحصيل آبق مثلا أي يجوز أن يدفع له رهنا فيما يستحقه العامل في الجعالة بعد العمل أو الشروع فيه والجعل، وإن لم يكن لازما يئول إلى اللزوم لا أنه يأخذ منه رهنا في العمل لأنه ليس لازما ولا آئلا إليه إذ لا يلزم العامل ولو شرع، فقوله:"وإن في جعل" أي في عوض جعل لا في عمل جعل.
والحاصل أن الرهن في عمل الجعل غير صحيح، وأما الرهن في عوض من العامل فيما قبضه من الجعل فرهن صحيح، ومن الجاعل للعامل في عوض عمله صحيح أيضا لا في معين يعني أن الرهن لا يصح في المعين، كأن يشتري منه ثوبا بعينه أو دابة بعينها فلا يصح أن يرهن في ذلك رهنا؛ لأن الرهن لا يكون إلا في دين، وأما إن رهن له رهنا في عوض العين إن استحق أو تعيب أو تلف فإن ذلك سائغ لأنه رهن فيما يتعلق بالذمة، ويصح الرهن في المعار الذي يغاب عليه وفيما لا يغاب عليه حيث يضمنه المعار بالتعدي.
أو منفعته يعني أنه لا يصح الرهن في منفعة المعين، قال عبد الباقي: كاكترائه دابة بعينها ويدفع له رهنا على أنها إن تلفت أو استحقت أو ردت بعيب أتى له بعينها ليستوفي منه العمل لاستحالة ذلك إذ فيه قلب الحقيقة؛ لأن العين إذا تلف أو تعيب أو استحق لا يمكن تحصيل عينه، وأما إن أخذه على الاستيفاء من عوض المعين أو منفعته حيث تلف أو تعيب أو استحق فصحيح. انتهى. وفي المدونة: ويجوز الرهن في العارية التي يغاب عليها لأنها مضمونة. انتهى. نقله المواق.
ابن شأس: من شرط المرهون به أن يكون دينا في الذمة فلا رهن بعين مشار إليها ولا بمنافع معينة، وإنما الرهن بما يتعلق بالذمة وحيث وقع في ألفاظ المذهب إضافته إلى عين مشار إليها، فالمراد به أنه رهن بقيمة العين كما ذكر في العارية. قال في المدونة: ويجوز الرهن بالعارية التي يغاب عليها لأنها مضمونة.
ونجم كتابة من أجنبي يعني أنه لا يجوز لغير المكاتب بفتح التاء أن يرهن لسيد المكاتب شيئا في نجم من الكتابة، والمراد الجنس فيشمل نجما واحدا أو أكثر، ولهذا قال عبد الباقي: ولا يصح رهن في جنس نجم كتابة على عبد فشمل جميع نجومها أيضا إذا صدر ذلك من أجنبي لسيد العبد، أي لا يعطي الأجنبي رهنا بما على الكاتب من النجوم لأنه لا رجوع له به على المكاتب؛ إذ لم يعامله، ولا على السيد لأنه أخذه منه في الكتابة وهو لا يرد ما أخذ منها لعجز المكاتب. قاله ابن عرفة. وانظر هذا مع قوله: وإن أعانه جماعة فإن لم يقصدوا الصدقة رجعوا بالفضلة (وعلى)
(1)
السيد بما قبضه وقد يفرق بأن الرهن في الكتابة منزل منزلتها ومسألة إعانة الجماعة من الصدقة المعلقة على شرط. وقال بعض: أي لا أخذ رهن من أجنبي في نجم كتابة؛ لأن أخذه فيها فرع تحمله بها وهو لا يصح فلا يصح دفعه رهنا فيها، وأما التعليل بكونه إذا عجز يرجع رقيقا فلذا لم تجز فغير صواب لأنه لا يتأتى العجز لأنه يباع كما يباع إذا كان هو الراهن، وقد يقال:
(1)
في الأصل على والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 247.
قد يتأتى العجز مع وجود الرهن إذا لم تكن قيمته توفي ومفهومه صحة أخذ الرهن في نجم أو في الجميع من المكاتب وهو كذلك. انتهى.
وعلم مما قررت أن المراد بالأجنبي غير المكاتب، وفرق المص بين الأجنبي والكاتب فأجاز الرهن من المكاتب ومنعه من غيره كما في المدونة والموازية خلافا لابن الحاجب، قال البناني. واعلم أن ابن الحاجب شرط في المرهون به أن يكون في الذمة لازما أو صائرا إلى اللزوم، ومثله لابن شأس وأخرجا بذلك الكتابة، وتعقبه ابن عبد السلام بأن دين الكتابة لازم على المشهور من منعه من تعجيز نفسه وله مال ظاهر، ولذا جاز الرهن فيها من المكاتب كما في المدونة والموازية خلافا لابن الحاجب وابن شأس في قولهما بمنع الرهن فيها مطلقا.
قال ابن عبد السلام: وإنما لم يصح الرهن فيها من غير المكاتب لأنها تصير حمالة والحمالة لا تصح في الكتابة وهو قد سلم اشتراط اللزوم لكن نازع في إخراج الكتابة واعترض ابن عرفة على جميعهم في اشتراط اللزوم بأنه يلزم عليه القول بامتناع الرهن بكراء مشاهرة والتزامه خروج عن المذهب. انتهى. ولهذا حاد عما قال ابن الحاجب في المرهون به، وقال فيه: هو مال كلي لا يوجب الرهن فيه غرم راهنه مجانا، قال: فقوله لا يوجب يدخل الكتابة من المكاتب لا من غيره؛ لأنه من المكاتب لا يوجب عليه غرما بحال ومن غيره يوجب عليه الغرم مجانا في حال العجز بعد أخذ الرهن فيما رهن فيه أو بعضه ضرورة أنه لا رجوع للراهن على المكاتب لأنه لم يعامله به، ولا على سيده لأنه إنما أخذه في الكتابة وهو لا يرد ما أخذ منها لعجز المكاتب. انتهى باختصار. وقد نقله مصطفى بطوله قلت: اعتراض ابن عرفة بالرهن في كراء المشاهرة غير ظاهر؛ لأنه وإن لم يكن لازما فهو ءائل إلى اللزوم، وادعى مصطفى أن المراد بالآئل إلى اللزوم أن يرهن فيه بعد لزومه لا ابتداء، قال: هذا مراد مشترط اللزوم بظاهر كلام ابن شأس وابن فرحون وفيه نظر؛ لأن قوله: "وارتهن إن أقرض" لخ يدل على أنه يرهن فيه قبل اللزوم أيضا، ومنه الكراء مشاهرة فالظاهر ما لابن عبد السلام. انتهى كلام البناني. واللَّه تعالى أعلم. وقول ابن عرفة: مال كلي يخرج بالكلي المعين.
وجاز شرط منفعته يعني أن غلة الرهن ومنافعه لراهنه لخبر: (له غنمه وعليه غرمه) وليس للمرتهن شيء من ذلك، ويجوز له أن يشترط على الراهن المنفعة لنفسه بشرطين: أحدهما أشار إليه بقوله: "إن عينت" أي حدت مدتها للخروج من الجهالة في الإجارة، وأشار إلى الشرط الثاني بقوله: ببيع يعني أنه إنما يجوز اشتراط المنفعة المعينة حيث كان الرهن واقعا في عقد بيع، لا إن وقع في عقد قرض لأنه في البيع بيع وإجارة وهو جائز، وفي القرض سلف بمنفعة وهو لا يجوز فيمنع شرط المنفعة أو التطوع بها في قرض معينة أم لا كالتطوع بالمعينة في البيع، وهذا مفهوم قوله:"شرط" وكذا يمنع بغير المعينة في البيع بشرط أو غيره وهذا مفهوم الشرط، فاشتمل كلامه على ثمان صور وهي: أن يأخذ المرتهن منفعة الرهن في بيع أو قرض ويعين مدتها فيهما أم لا، وفي كل من هذه الأربعة إما أن تشترط في المعاوضة أو يطاع بها فيمنع في سبع ويجوز في صورة منطوق المص، قوله:"وجاز شرط منفعته" قال عبد الباقي: محل الجواز إذا اشترطت ليأخذها مجانا أو لتحسب من الدين على أن ما بقي منه يعجل له، فإن كان يدفعه من المنفعة أو يدفع فيه شيئا مؤجلا امتنع، وإن كان على أن ما بقي منه يترك للراهن جاز إلا إن كان الشرط في عقد البيع، وأما الممنوعة في البيع فلا فرق في المشترطة بين أن يحسبها من الدين أم لا؛ لأنه لا اشترط أخذها في عقده صارت هي وما سمى من الثمن في مقابلة المبيع ففيه ثمن مجهول، وعلة المنع فيما إذا لم تكن مشترطة في صلب العقد بل أباح له الراهن الانتفاع بها في بيع أو قرض أنه إن كانت بغير عوض فهدية مديان، وإن كانت بعوض جرى على مبايعة المديان. قاله اللخمي.
ولو شرط المرتهن أخذ الغلة من دينه جاز في القرض؛ لأنه يجوز فيه الجهل في الأجل لا في عقد البيع، إذ لا يدري ما يقبض أيقل أم يكثر؟ انتهى قوله: ولو شرط المرتهن أخذ الغلة من دينه جاز في القرض لخ، قال البناني: هذا الفرع ذكره في التوضيح وابن عرفة وهو غير ما تقدم؛ لأن ما تقدم في تمليك المنفعة للمرتهن وهذا في اقتضائه الغلة وهي من جنس الدين في دينه فلا منافاة بينه وبين ما تقدم. انتهى. قوله: "لا قرض" قد مر تعليله بأن فيه سلفا بمنفعة، وعلله عبد الباقي بأن فيه سلفا وإجارة، قال البناني: فيه نظر بل الذي فيه سلف بمنفعة كما في المواق وغيره، نعم إذا كان يحسب المنفعة من الدين يكون فيه سلف وإجارة، لكن ليس هذا موضوع كلامه. انتهى.
قال عبد الباقي: واعلم أن منفعة الرهن الجائز مستأجرة بما وقع في مقابلتها من الدين الذي فيه الرهن -صوابه من المبيع- فيشترط فيها شروط الإجارة الآتية للمص، وهي أن تكون "منفعة تتقوم قدر على تسليمها بلا استيفاء عين قصدا ولا حظر"، مثال استيفاء المعين أن يبيعه عبدا بعشرة ويرهنه شجرا على أن له ثمرها ومنع؛ لأنه كبيعه باثني عشر يقبض منها عشرة إذا حل الأجل واستأجر منه الشجر بالاثنين الباقيين على أن يأخذ ثمرها إلا أن حل بيعه حين الرهن، فيجوز اشتراطه ببيع في ذلك العام فقط كما في الشارح وكبيعه له شيئا، ويأخذ على ثمنه حيوانا رهنا يشترط أخذ لبنه والمحظور كبيع طعام وارتهن بثمنه أرضا شرط منفعتها وغمر ماؤها وندر انكشافه.
قال الحطاب: وانظر إذا اشترط المنفعة في الوجه الممنوع واستعملها ما يلزمه. انتهى. قلت: المنفعة في البيع من جملة الثمن فوقوعها على الوجه الممنوع يفسده ويجري على حكم البيع الفاسد، وإذا وقعت في القرض على الوجه الممنوع رد بدلها لأنها هدية مديان. انتهى. قوله "وغمر ماؤها" لخ قال البناني: حيث جعل أن المبيع طعام فلا حاجة لقوله: غمر ماؤها لحصول المنع بدونه لا فيه من كراء الأرض بالطعام. انتهى. قوله: "وجاز شرط منفعته" ظاهره أنه لا فرق فيما ذكر بين الحيوان وغيره وهو اختيار ابن القاسم، ففي المدونة قال مالك: وإذا اشترط المرتهن منفعة الرهن أجلا مسمى فلا بأس به في الدور والأرضين، وكرهه مالك في الثياب والحيوان إذ لا يدري كيف يرجع إليه، وقال ابن القاسم: لا بأس به في الحيوان والثياب وغيرها لأنها إجارة، وعن مالك كقول ابن القاسم وبه قال أشهب وأصبغ وكراهة مالك في الثياب والحيوان محمولة على المنع، وقد صرح به اللخمي. قاله الشارح.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: قد مر قول عبد الباقي محل الجواز يعني في شرط المنفعة المعينة ببيع إذا اشترطت مجانا أو لتحسب من الدين، وهذا يقتضي بحسب ظاهره أنه إذا باعه سلعة بثمانية في الذمة ورهن له فيها رهنا وآجره له بثلاثة مثلا فإن ذلك لا يجوز، والظاهر جواز هذه الكيفية وأنه إنما احترز بذلك عن قوله بعد، فإن كان يدفعه من المنفعة إلى آخر كلامه. واللَّه تعالى أعلم. وإذا كان الرهن المشترط منفعته مما لا يغاب عليه وهلك عند المرتهن فلا
ضمان عليه، وأما إذا تلف عنده وهو مما يغاب عليه ولم تقم بينة على هلاكه ففي ضمانه أي الرهن المغيب عليه وعدم ضمانه إذا تلف تردد، أي اختلف المتأخرون في ضمان المرتهن له حيث تلف في مدة اشتراط المنفعة، فذهب بعضهم إلى أنه يضمنة لأنه رهن، وذهب بعضهم إلى أنه لا يضمنه كسائر المستأجرات. قال عبد الباقي: وفي ضمانه أي الرهن الذي يغاب عليه المشترط منفعته مجانا لخ، ثم قال: والراجح ضمانه كضمان الرهان، فإن تلف بعد مدة اشتراط المنفعة فكالرهن في الضمان من غير تردد، فإن اشترطت لتحسب من الدين أو تطوع بها بعد العقد يعني لتحسب من الدين فينبغي ترجيح القول بعدم الضمان ضمان الرهان لترجح جانب الإجارة فيه، لكون المنفعة وقعت فيه في مقابلة عوض بالصراحة أو يساوى فيه هذا القول مع مقابله في الترجيح. انتهى.
وقال البناني: التردد ذكره ابن يونس، وقال ابن رشد: الصواب أن يغلب في ذلك حكم الرهن ذكره في التوضيح وابن عرفة. انتهى. وقال الحطاب بعد أن ذكر كلام ابن رشد ما نصه: فحقه أن يقول وضمانه كالرهن على الأظهر. انتهى. وقال المواق: ابن يونس: اختلف فقهاؤنا إذا ضاع الرهن المشترط منفعته وهو مما يغاب عليه، فقيل يضمنه لأنه رهن على حاله وحكم الرهن باق عليه، وقيل لا يضمنه كسائر الأشياء المستأجرة، وقيل ينظر إلى القدر الذي يذهب منه بالإجارة، فإذا كان الثوب مثلا ينقص باستعماله المدة المشترطة الربع فيكون قدر ربعه غير مضمون لأنه مستأجر، وثلاثة أرباعه مضمونة لأنها مرهونة. انتهى.
وأجبر عليه إن شرط ببيع وعين يعني أنه إذا رهنه رهنا معينا اشترط في عقد المبيع فإن الراهن يجبر على أن يدفعه للمرتهن، قال عبد الباقي: وأجبر الراهن عليه أي على دفعه بعينه إن شرط ببيع أي شرط المشتري للبائع في عقد المبيع أن يأتيه برهن وعين الرهن المشترط، وإنما أجبر عليه ولزمه لأن المؤمن عند شرطه ولا مفهوم للبيع بل القرض كذلك. انتهى. وقال المواق من المدونة: إن بعت من رجل سلعة على أن يرهنك عبده ميمونا بحقك ففارقك قبل أن تقبضه لم يبطل الرهن، ولك أخذه منه رهنا ما لم يقم عليه الغرماء، وإلا يكن الرهن المشترط معينا عند عقد المبيع أو القرض، بل وقع على شرط رهن غير معين فرهن ثقة يلزمه الإتيان به وهو ما فيه وفاء للدين
وجرت العادة بارتهانه في ذلك المحل، فإن لم تكن عادة بشيء في ذلك المحل فهو ما فيه وفاء للدين. قال عبد الباقي: ثم إذا هلك الرهن المعين أو استحق قبل قبض المرتهن له خير في فسخ المبيع ورد المبيع إن كان قائما أو قيمته أو مثله إن فات، وفي إمضاء المبيع ويبقى دينه بلا رهن وبعد قبضه فلا مقال له إلا أن يغره الراهن فيخير في الفسخ والبقاء بلا رهن، وكذا يخير في هلاك حميل معين قبل قبض المبيع لا بعده، فالمعتبر في مسألة هلاك الرهن واستحقاقه قبض الرهن وعدم قبضه، وفي مسألة الحميل قبض المبيع وعدم قبضه. انتهى.
ويجري مثل جميع هذا في القرض كذا ينبغي. قاله الخرشي. وقال البناني: القرض مثل المبيع كما يدل عليه كلام ابن عرفة، فإنه لما قال ابن الحاجب: يخير البائع وشبهه في الفسخ في غير المعين، قال ابن عرفة ما نصه: وشبهه يريد كالمسلف على رهن كذلك. انتهى. وقال المواق: الكافي: إن شرط رهنا مطلقا بغير عينه ثم أبى المشتري من دفعه خير البائع في إمضاء البيع بغير رهن وفي فسخه. انتهى. وفي المدونة: إن بعت منه سلعة بثمن إلى أجل على أن تأخذ به رهنا ثقة فلم تجد عنده رهنا فلك نقض البيع وتركه بلا رهن. انتهى.
والحوز بعد مانعه لا يفيد صورتها أن المرتهن ادعى فيما هو محوز بيده أنه حازه قبل حصول المانع الكائن الآن بالراهن، فلا يعمل بقوله: ولا يختص به، فقوله:"الحوز" على حذف مضاف أي ودعوى الحوز، وقوله:"بعد" متعلق بدعوى المقدرة، وقوله:"لا يفيد" خبر عن الحوز وهو في الحقيقة خبر عن المضاف المقدر؛ أي إذا ادعى المرتهن بعد حصول المانع للراهن أن حوزه المشاهد بعد المانع كان قبل حصول المانع فإنه لا تسمع دعواه ولا يختص بالرهن بل هو أسوة الغرماء، ولابد من معاينة البينة للحوز قبل المانع، قال المواق: الباجي: لو مات الراهن أو فلس ووجد الرهن بيد المرتهن أو بيد الأمين الموضوع على يده، فعن عبد الملك: لا ينفعه ذلك حتى تعلم البينة أنه حازه قبل الموت أو الفلس، قال أبو محمد: صوابه لا ينفعه إلا معاينة الحوز. ابن رشد: يجري هذا على الخلاف في الصدقة توجد بيد المتصدق عليه بعد موت المتصدق فيدعي قبضها في صحته، وفي المدونة دليل على القولين جميعا. انتهى.
وقال عبد الباقي: والحوز الموجود أي دعواه بعد مانعه لا يفيد، أي إذا ادعى المرتهن بعد حصول المانع فيما هو محوز بيده أنه حازه قبله فلا يعمل بذلك الحوز فلا يختص به عن الغرماء. ولو شهد الأمين الموضوع عنده أنه حازه قبل المانع لأنه شاهد على فعل نفسه وهو الحوز، فقوله:"والحوز" على حذف مضاف بدليل المبالغة، وبعد متعلق بدعوى المقدرة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وإبقاؤه على ظاهره لا فائدة فيه لأن من المعلوم أن الحوز بعد المانع لا يفيد لما مر من بطلان الرهن قبل قبضه إذا حصل مانع من موت الراهن أو فلسه أو جنونه أو مرضه المتصلين بموته.
والفَرْقُ بين ما ذكره المص في هذه المسألة وبين ما يأتي من اعتبار شهادة الرسول من قوله: "وإن بعثت إليه بمال فقال تصدقت به عليَّ وأنكرت فالرسول شاهد" انتهى. أنَّهُ لم يشهد على فعله الذي هو الحوز بل على أمر صادر من المرسل وهو التصدق. انظر أحمد. وَيستفاد من تعليل المص بما مر أن شهادة القباني بأن وزن ما قبضه فلان كذا لا تقبل لأنها شهادة على فعل نفسه، وأما إن شهد بأن فلانا قبض ما وزنه فإنه يعمل بشهادته لإمكان معرفة وزنه من غيره، وأما إذا شهد بهما فالظاهر أنها تبطل أيضا؛ لأن الشهادة إذا رد بعضها ردت كلها إن كان رد بعضها للتهمة، وأما إن رد بعضها للسنة جاز منها ما أجازته السنة وهذا كله ما لم يكن مقاما من جهة القاضي، وإلا عمل بشهادته كما عندنا بمصر كما استظهره علي الأجهوري آخر باب القسمة، والظاهر أن تابع المقام كهو.
تنبيه:
قوله: "ولو شهد الأمين" نقله الباجي عن ابن الماجشون، وبه قال ابن عتاب، ورد المص بلو قول سحنون شهادة العدل الموضوع على يديه الرهنُ جائزةٌ في الدين والرهن.
وهل تكفي بينة على الحوز قبله وبه عمل أو التحويز يعني أنه لو قامت للمرتهن بينة على أنه حاز الرهن قبل المانع، فإنه اختلف هل يكون المرتهن أحق بالرهن من الغرماء كما قاله الباجي والعَمَلُ على هذا القول قاله ابن عات؟ أو لا يكون المرتهن أحق به بسبب ذلك بل لابد من معاينة البينة للتحويز أي تسليم الراهن الرهن للمرتهن قبل المانع وهذا القول ذكره اللخمي وغيره وهو ظاهر قول محمد؟ انظر الشارح والمواق.
وقال عبد الباقي: والحوز قبل مانعه هل تكفي عليه بينة للمرتهن ولو واحدا، لكن يحلف معه لأنه مال ولو نفته بينة أخرى لتقديم المثبتة وبه عمل أو لا تكفي عليه، ولابد من بينة على التحويز أي معاينتهم أن الراهن سلمه للمرتهن تأويلان. انتهى. وقال المواق: وهل تكفي بينة على الحوز قبله؟ الباجي: عندي لو ثبت أنه وجد بيده قبل الموت أو الفلس ثم فلس أو مات لوجب أن يحكم له بحكم الرهن. ابن عات: العمل أنه إذا وجد بيده وقد حازه قبل الموت أو الفلس كان رهنا، وإن لم تحضر الحيازة لأنه صار مقبوضا وكذلك الصدقة. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: قال أحمد: ظاهر هذا الخلاف أي في المصنف ولو كان الرهن مشترطا في العقد وهو معين، وينبغي أن يكون محل الخلاف في غير هذا الفرع. انتهى. أي ينبغي أن يكفي فيه الحوز فقط لما انضم له من الاشتراط في العقد. انتهى.
وفيها دليلهما يعني أن في المدونة ما يدل على القولين، قال عبد الباقي: لكن ابن رشد لم يذكر أن فيها دليل القولين إلا في مسألة الصدقة، وجعل الأمر في الرهن يجري على ذلك وهو مخالف لظاهر كلام الشيخ. قاله الش. وأيضا كلام ابن رشد فيما إذا (وجدت)
(1)
الصدقةُ بيد المتصدق عليه فادعى حوزها في صحة المتصدق لا في الحوز والتحويز، هذا وفي الشارح نظر فإن التوضيح ذكر في الرهن ما يطابق ماله هنا وكذا الناصر والطخيخي. انتهى.
وقال البناني: ذكر ابن يونس في كتاب الرهن قولين، أعني هل يكتفى بمعاينة الحوز أو التحويز؟ واختار الباجي الحوز وقال في التوضيح: وقول ابن الحاجب بمعاينة أنه حازه يحتمل كلا من القولين، لكن المفهوم من المعاينة أنه لابد من الشهادة على التحويز. انتهى. الحطاب: فما ذكره المص من الاحتمال في لفظ ابن الحاجب يأتي مثله في لفظ المدونة، فعلم من هذا صحة ما أشار إليه المص بقوله:"وفيها دليلهما"، وسقط اعتراض الش وابن غازي. انتهى باختصار. ومثله في حاشية الناصر، وقال ابن رشد في رسم الرهون من سماع عيسى: وَلو تشاهدا على الرهن والهبة دون القبض والحيازة، فألفي الرهن بيد المرتهن أو الهبة بيد الموهوب له بعد الموت أو بعد قيام
(1)
في الأصل: وجد، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 249.
الغرماء فادعيا أنهما قبضا ذلك لم يصدق واحد منهما في ذلك باتفاق إلا أن تكون لهما بينة على ذلك، ولا ينتفع في الرهن بإقامة البينة على أنه قد قبضه وحازه قبل قيام الغرماء إلا أن تشهد البينة أنه قد قبضه وحازه بأمر الراهن وإذنه، والرهن في هذا بخلاف الهبة لأن القبض فيه أوجب لقول اللَّه عز وجل:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، ولأن من أهل العلم من يقول: لا يكون رهنا حتى يكون مقبوضا. انتهى.
وقال ابن عرفة: كان يجري لنا في المذاكرات أن التحويز في حق الرهن شرط لا يكفي الحوز دونه لبقاء ملك الراهن بخلاف الهبة، وفي هبة المدونة أيضا: من وهب لرجل هبة لغير ثواب فقبضها الموهوب له بغير إذن الواهب جاز قبضه إذ يُقْضَى على الواهب بذلك إذا منعه إياها، فظاهر تعليله بالقضاء عليه بذلك يوجب كون الرهن كذلك. انتهى. ونقله ابن غازي. قاله البناني. واللَّه تعلى أعلم.
ومضى بيعه قبل قبضه إن فرط مرتهنه يعني أن المرتهن إذا فرط في طلب الرهن المعين ولم يحزه حتى باعه راهنه، فإن البيع يمضي ولا يجوز ابتداء ولا يلزمه رهن غيره للمرتهن. وقوله:"بيعه قبل قبضه" كل من المصدرين مضاف إلى مفعوله أي يمضي بيع الرهن قبل قبضه أي الرهن، ويصح أن يكونا مضافين للفاعل أي ومضى بيع الراهن للرهن قبل إقباضه أي الراهن للرهن للمرتهن. انظر الخرشي. وقال عبد الباقي: ومضى ولا يجوز ابتداء بيعه أي بيع الراهن للرهن المعين المشترط في صلب عقد البيع أو القرض قبل قبضه أي إقباضه للرهن إن فرط مرتهنه في طلبه له وصار دينه بلا رهن، وإلا أي وإن لم يفرط بل جد في طلبه الرهن المعين، ففي مضي البيع فات أم لا ويكون الثمن رهنا وهو لابن أبي زيد، ورد البيع إن لم يفت ويبقى رهنا فإن فات بيد مشتريه كان الثمن رهنا وهو لابن القصار تأويلان ورد البيع عند ابن القصار ليس بواجب، بل إن شاء رده وإن شاء أجازه، وإذا أجازه بقي دينه بلا رهن لأن خيرته تنفي ضرره، ولابن رشد تأويل ثالث وهو أن المرتهن ليس له رد المبيع في الرهن، وإنما له فسخ البيع المشترط فيه الرهن. قال: لأنه إنما باعه على ذلك الرهن بعينه، فلما فوته كان أحق بسلعته إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كانت فائتة هذا معنى ما في كتاب الرهون من المدونة، ونقله الحطاب وقد أدخله
بعضهم في كلام المص أيضا، فقال ما نصه: تحقيق ما هنا أن للشيوخ في فهم المدونة ثلاث طرق: الأُولَى إذا لم يفرط يمضي البيع ولا مطالبة له برهن، الثَّانِيَةُ يمضي البيع وإن لم يفت والثمن رهن وهي التي تنسب للشيخ ابن أبي زيد، والثَّالِثَةُ التخيير بين الرد والإمضاء إذا لم يفت، فإن فات فالثمن رهن وهي التي تنسب لابن القصار وغيره.
فَالحَاصِلُ أنه إذا لم يفرط ففي المضي والتخيير قولان، وعلى الأول فهل يسقط طلب الرهن أو يكون الثمن رهنا؟ قولان، فقوله:"ومضى بيعه قبل قبضه" أي ولا طلب له برهن اتفاقا حيث فرط، وإن لم يفرط فهل الأمر كذلك أو الأمر إما الإمضاء فقط والثمن رهن؟ وإما التخيير في الرد والإمضاء؟ وهما تأويل ابن أبي زيد وابن القصار لحملهما المدونة على التفريط. فقوله:"وإلا فتأويلان" معناه وإن لم يفرط، ففي الإمضاء على وجه سقوط الرهن وعدم الإمضاء للعقد بهذا الوجه الصادق بثبوت الإمضاء مع رهن الثمن وعدم الإمضاء تأويلان، فليتأمل فإنه موضع زلت فيه أقدام (أفهام)
(1)
. انتهى.
واستحسنه الشيخ المسناوي، ومراده بالطريق الأول تأويل ابن رشد لكن نقص منه تخيير المرتهن في فسخ البيع عن نفسه إن كان الرهن مشترطا في العقد كما تقدم. قاله البناني. قال: واعلم أن تأويل أبي محمد وابن القصار في الرهن المشترط وغيره خلاف تقييد الزرقاني لهما بالمشترط. انتهى. وكلام عبد الباقي الذي أشار إليه هو قوله: وقولي المشترط لخ تحرز عن المتطوع به بعد العقد، فإن بيعه كبيع الهبة قبل القبض، وبعد علم الموهوب فيجري هنا ما فيها من قوله فالثمن للمعطى رويت بفتح الطاء وكسرها، فيقال هنا هل الثمن للراهن ولا يكون رهنا، أو يكون رهنا؟ انتهى. قال البناني: وما ذكره في المتطوع به نقله عياض عن بعض شيوخه وهو لا ينافي الإطلاق في التأويلين. تأمله. انتهى.
قَولُ البناني: واعلم أن تأويل أبي محمد وابن القصار لخ انظر من جزم بهذا غيره، وانظر كيف يصح ذلك مع أن كلام المدونة الذي تأولاه إنما هو في المشترط؟ انظر نصها في المواق والحطاب،
(1)
في بناني ج 5 ص 250: أقدام الأفهام.
وقوله: وما ذكر بعده في المتطوع به نقله عياض عن بعض شيوخه كما في التوضيح، وهو لا ينافي الإطلاق في التأويلين لخ فيه نظر، وسلمه أيضا ابن عرفة وابن ناجي في شرح المدونة، وزاد ما نصه: هو كلام ابن رشد في رسم الرهون من سماع عيسى. انتهى. وهو كذلك وقد نقله الحطاب وقبله وجعله تقييدا كما فعل الزرقاني، وقد جزم ابن عبد السلام بأنه تقييد وعزاه لغير واحد، ونصه: وأشار غير واحد إلى أن الذي ذكره في المدونة فيما كان من الرهن شرطا في أصل العقد، وأما ما تطوع به من الرهن فحكمه في بيعه قبل قبضه حكم بيع الهبة قبل قبضها. انتهى.
وقال عبد الباقي عند قول المص "وإلا فتأويلان" ما نصه: ومحلهما إن دفع البائع السلعة للمشتري، فإن لم يدفعها له فللمرتهن منع الراهن من تسليمه، ولو أتاه برهن لأن البيع وقع على معين إذ هو محل التأويلين أيضا كما مر، وأما إن كان الرهن غير معين فله منع تسليمها أيضا فرط أم لا، لكن حتى يأتيه برهن إذ يلزمه الإتيان ببدله قطعا، إذ لا يتأتى في غير المعين أن يقال مضى بيعه لخ. انتهى. قوله: ومحلهما إن دفع البائع السلعة لخ، قال البناني: عبارة المواق عن ابن يونس وهذا إذا دفع البائع السلعة المشتراة، وأما لو لم يدفعها فباع المشتري الرهن قبل القبض فهاهنا لا يلزمه تسليم. انتهى. ومراده بالبائع المرتهن وبالمشتري الراهن، وعبارة ابن رشد كما في الحطاب وهذا إذا كان المرتهن قد دفع السلعة أو السلف ولو لم يخرج السلعة أو السلف من يده فهو أحق بسلعته وسلفه فرط في القبض أو لم يفرط. انتهى. وبه تعلم ما في كلام الزرقاني. واللَّه أعلم. انتهى. وقال الحطاب: قد علم أن هذه المسألة -يعني مسألة المص هذه- في الرهن المعين، وأما لو باعه على رهن مضمون ثم بعد ذلك سمى له رهنا ثم باعه فلا كلام أنه يلزمه الإتيان ببدله؛ لأنه إنما دخل على رهن مضمون. انتهى المراد منه. واللَّه تعالى أعلم.
وبعده فله رده إن بيع بأقل يعني أن الراهن إذا باع الرهن بعد أن قبضه المرتهن، فإن للمرتهن رد بيعه حيث بيع بأقل من دين المرتهن ولم يكمله له والدين عين أو عرض من قرض، فإن كمل له كان بمنزلة ما بيع بمثله أي فلا رد له. أو دينه عرضا يعني أن الراهن إذا باع الرهن بعد قبض المرتهن له بمثل دين المرتهن أو أكثر وكان دين المرتهن عرضا من بيع، فإن للمرتهن رد بيعه إذ
لا يلزمه قبول العرض قبل أجله ولو بيع بقدر دينه أو أكثر؛ إذ الأجل فيه من حقهما، بخلاف العرض من قرض فإن الأجل فيه من حق المقترض.
وإن أجاز تعجل يعني أنه إذا أجاز المرتهن المبيع الواقع في الرهن لأجل تعجيله حقه في الحالة التي يخير فيها بين الإجازة والرد، وذلك فيما إذا بيع الرهن بأقل من الدين أو بمثل أو أكثر وكان دينه عرضا من بيع، فإنه يتعجل الثمن الذي بيع به الرهن ويأخذه في دينه، فإن وفى فواضح، فإن بقي من دينه شيء اتبع الراهن به، وإذا تعجل في حالة التخيير فأولى في حالة عدم التخيير كما إذا باعه بمثل أو أكثر وليس الدين عرضا من بيع. قال عبد الباقي: ثم تعجيل الثمن الذي بيع به جبرا على الراهن والمرتهن فيما يعجل فيه الدين، وأما ما لا يعجل فيه كعرض من بيع فإنما يعجل إن رضيا بالتعجيل، فإن لم يرض به الراهن فهل يكون الثمن رهنا أو يأتي برهن مثله أو يبقى رهنا ولا يجوز بيعه تردد. انتهى.
قوله: فإن لم يرض به الراهن لخ، قال الرهوني: انظر من ذكر هذا الثالث، وقد ذكر ابن عرفة في ذلك طرقا ولم يذكر هذا الثالث، ويرده من جهة المعنى أنه لا وجه لرد البيع الواقع من الراهن بعد إجازة المرتهن إياه، فبأي وجه يبطل حق المشتري منه وهو لم يتعلق به حق خالق ولا مخلوق؟ ومما يردد من جهة النقل تصريح ابن رشد بأن إجازة المرتهن كإذنه في البيع وسلمه ابن عرفة وغيره.
تنبيهان:
الأول: لو كان الدين عينا فباع الراهن الرهن بعرض لكان المرتهن بالخيار بين أن يرد البيع ويجيزه فيوقف له العرض رهنا إلى حلول الأجل. انتهى. نقله الرهوني.
الثاني: قال الرهوني: ما ذهب عليه المص من أنه إن أجاز تعجل هو نص المدونة في كتاب الرهون، ونصها: وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن لم يجز بيعه، فإن أجازه المرتهن جاز البيع وعجل المرتهن حقه شاء الراهن أو أبى. انتهى منها بلفظها. وجعله ابن رشد معارضا لظاهر ما لها في كتاب التجارة إلى أرض الحرب، فإنه نقل عن أشهب ما نصه: وإن أجاز بيعه بقي دينه إلى أجله ووقف له الثمن رهنا إلى أن يأتي الراهن برهن ثقة يشبه الرهن الذي باع، وزاد متصلا به ما نصه: وذهب سحنون إلى أنه إذا لم يأت برهن يشبه الرهن الذي باع عجل له
الثمن؛ إذ لا فائدة في توقيفه وهو ظاهر ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة في النصراني يرهن عبده بعد أن يسلم لأنه قال فيها: يباع فيقضي الغريم دينه إلا أن يأتي برهن ثقة، وكذلك روى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يعجل الثمن إذا لم يأت برهن خلاف ما في كتاب الرهون من المدونة، وفرق المغربي بأن الراهن هناك تعدى في بيعه، ومسألة التجارة الموجب لبيعه الإسلام. انتهى. وهو فرق ظاهر. انتهى كلام الرهوني باقتصار. واللَّه تعالى أعلم.
ولما تكلم على تصرف الراهن بعوض ذكر تصرفه بغير عوض فقال: وبقي إن دبره يعني أن الراهن إذا دبر عبده الرهن فإنه يبقى على رهنيته أيسر أو أعدم قبضه المرتهن أم لا كما هو ظاهر المدونة، ولكن ظاهر كلام أبي الحسن أن محل كلامها بعد القبض، وقد مر أنه إنما يجوز رهن المدبر ابتداء حيث كان إنما يباع بعد موت سيده ولا مال له يستوفى منه الحق، وأما إن كان على أن يباع إذا حل الحق فهذا ممتنع، بخلاف هذا التدبير الطارئ فإنه لا يمتنع بيعه إذا حل الحق إن لم يدفع سيده الدين لربه.
ومضى عتق الموسر يعني أن الرهن إذا كان رقيقا وأعتقه الراهن قبل قبض الرهن أو بعده، فإنه يمضي عتقه حيث كان الراهن المعتق بكسر التاء موسرا، وكتابته يعني أن الراهن إذا كاتب الرهن الرقيق سواء كانت الكتابة قبل قبض الرهْنِ أو بعده فإن كتابته له تمضي. وعجل يعني أن الراهن الملي إذا أعتق رقيقه الرهن أو كاتبه بعد الرهنية فإن عتقه وكتابته ماضيان كما عرفت، ويعجل الدين كله ولو أكثر من قيمة الرهن إن كان مما يعجل أو رضي المرتهن بتعجيله، ولا يلزم المرتهن قبول رهن لأن فعل الراهن ذلك بالعبد يعد رضى منه بتعجيل الحق إن كان مما يعجل أو لا يعجل، كعرض من بيع حيث رضي المرتهن بتعجيله، وإلا ففي غرم الراهن قيمته وتبقى رهنا وإتيانه برهن مثله وبقائه رهنا بحاله مع عدم جوازه لحق المرتهن تردد. قاله عبد الباقي.
وقال: ومضى عتق الموسر ناجزا أو لأجل بل وجاز ابتداء، وكتابته بعد الرهنية سواء كان ذلك قبل قبض المرتهن له أو بعده. انتهى. قوله: بل وجاز ابتداء فيه نظر، والذي في التوضيح على قول ابن الحاجب، فإن أعتقه أو كاتبه أو دبره قبل القبض أو بعده فكالبيع لخ ما نصه: ولا يريد أنه يجوز ذلك ابتداء فإن ذلك لا يجوز نص عليه في المدونة وغيرها، ونحوه في الحطاب
وظاهر كلام المص أن الحكم كما ذكر سواء كان ذلك قبل الحوز أو بعده، قال في التوضيح: وهو ظاهر المدونة وصَرَّحَ به ابن القاسم في العتبية وهو في سماع عيسى. قاله الحطاب. قاله البناني. وفي الشارح التصريح بما لعبد الباقي فإنه قال: وظاهر قوله "مضى" أن ذلك لا يجوز ابتداء وليس كذلك، ففي المدونة: قال مالك: ومن رهن عبدا وأعتقه أو كاتبه جاز ذلك إن كان مليا وعجل الدين، وقَوْلُ الشيخ في التوضيح: إن ذلك لا يجوز ابتداء وهو منصوص عليه في المدونة ليس بظاهر، والعجب أنه قد حكى كلامه في المدونة بعد أسطر يسيرة كما ذكرناه، ثم قال: وزاد في رواية ابن عتاب أو يكون في ثمن الكتابة إذا بيعت وفاء للدين فتجوز الكتابة، نعم نص صاحب التبصرة على أنه ليس له ذلك إلا أن يعجل الدين. انتهى.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: من رهن عبدا ثم أعتقه، قال ابن القاسم: أو كاتبه جاز ذلك إن كان مليا وعجل الدين. انتهى. وناقش الخرشي في الجواز، فقال: وفهم من قوله: "مضى" أنه لا يجوز ابتداء، ومعنى جاز في قول المدونة المضي بعد الوقوع لا الجواز ابتداء لفرض المسألة بعد الوقوع، ويدل لعدم الجواز ابتداء كلام التبصرة. انتهى. ويدل لعدم الجواز أيضا ما في المواق عن ابن يونس، ونصه: ابن يونس: لما كان الرهن وثيقة للمرتهن لم يجز للراهن أن يحدث فيه ما يبطله، فإن فعل عجل دينه، قال ابن القاسم: أما إن دبره جاز، ثم قال المواق: ابن يونس: وإن كاتبه قبل القبض بقيت كتابته رهنا. انتهى. وظاهر قوله: "مضى" ولو كان الراهن له قد استعاره ليرهنه وأعتقه مالكه المعير وهو كذلك، ويعجل المعتق المعير الدين لربه إن أيسر لإفساده الرهن عليه، إلا أن تكون قيمته أقل من الدين فلا يلزمه غيرها بخلاف الراهن المعتق كما مر، ويرجع المعير على المستعير بعد أجل الدين لا قبله، نص عليه ابن الحاجب فإن كان المعير معسرا بقى بحاله. انتهى. قاله الخرشي.
والمعسر يبقى يعني أن الراهن المعسر إذا أعتق رقيقه الرهن فإن المعتق أو المكاتب يبقى رهنا على حاله مع عدم جواز فعل الدين ابتداء، قال عبد الباقي: والمعسر المعتِقُ أو المكاتِبُ راهنا أو معيرا كما هو ظاهر ابن الحاجب: يبقى رهنه على حاله مع عدم جواز فعل المدين ابتداء، فإن أيسر
قبل الأجل أخذ من الراهن الدين ومن المعير قيمة العبد ونفذ العتق والكتابة، وإلا بيع من كل مقدار ما يوفي الدين إن وجد من يشتري شقصا.
فإن تعذر بيع بعضه في العتق والكتابة بيع كله، والباقي من ثمنه عن الدين للراهن والمستعير ملكا يفعلان به ما شاءا؛ لأن الشرع لما وجب بيعه صير الباقي بعد قضاء الدين ملكا للسيد، وظاهر ما قدمناه بقاؤه مع عتق المعير المعسر ولو كان الراهن المستعير مليا. وانظره. انتهى كلام عبد الباقي. قوله:"وإلا بيع من كل مقدار ما يوفي الدين" لخ، قال البناني: هذا في العتق مسلم، وفي الكتابة غير مسلم ففي التوضيح عند قول ابن الحاجب: فإن تعذر بيع بعضه بعد أجله بيع جميعه لخ ما نصه: قال أشهب: وإنما يباع منه بقدر الدين في العتق، وأما في الولادة والتدبير والكتابة فيباع كله ويكون فضل ثمنه لسيده؛ إذ لا يكون بعض أم ولد ولا بعض مكاتب ولا بعض مدبر. انتهى. وظاهره أنه قيد به كلام ابن الحاجب وأنه المذهب وهو كذلك؛ لأن ابن رشد في سماع عيسى من كتاب الرهون عزاه للمدونة، ونصه: وقال ابن المواز: إذا كاتب الراهن عبده بعد أن رهنه يبقى مكاتبا وفي هذا نظر؛ لأنه قد يعسر سيده يوم حلول الأجل فلا يكون في ثمن الكتابة إذا وفاء بالدين فتبطل الكتابة، وقال في المدونة: إن ذلك بمنزلة العتق إن كان للسيد مال أخذ منه ومضت الكتابة، وإن لم يكن له مال نقضت الكتابة إلا أن تكون قيمة الكتابة مثل الدين فيجوز بيع الكتابة في دينه، وإن لم يكن في قيمة الكتابة وفاء بالدين نقضت كلها لأنه لا يكون بعضه مكاتبا، والذي في المدونة من أن الكتابة في هذا بمنزلة العتق هو الصواب المشهور في المذهب، ولم يختلفوا في العتق أنه إن كان له مال أخذ منه الحق معجلا ومضى العتق، وإن لم يكن له مال وَكَان في العبد فضل بيع منه وقضي الدين وأعتق الفضل، وإن لم يكن فيه فضل لم يبع حتى يحل الأجل لعله أن يكون فيه حينئذ فضل، انتهى كلام البناني.
وقال الرهوني: قول الزرقاني: وإلا بيع من كل لخ سلم محمد بن الحسن البناني كلامه في المعتق، واعترضه في المكاتب واعتراضه في المكاتب متجه، لكن إن حمل كلام الزرقاني على أن المكاتب أدى الكتابة لسيده صح ما قاله وسقط اعتراض البناني. واللَّه أعلم. انتهى.
مسألة:
قال عبد الملك: سئل ابن القاسم -وأنا أسمع- عن رجل كان عنده غلام فرهنه ثم ادعى بعد ارتهانه أنه ابنه ثم مات، قال: يلحق به ويكون ابنه ويتبعه صاحب الحق بماله إن كان له مال، وإن لم يكن مال يتبعه متى ما ظهر له مال أخذ ماله، قال القاضي رضي الله عنه: هذا كما قال وهو صحيح على أصولهم في أن لحوق النسب يرفع التهمة، فهو بخلاف الرجل يكون عنده العبد فيرهنه ثم يقر بعد أن رهنه أنه حر فلا يقبل قوله إلا أن يكون له مال، فإن كان له مال عجل للمرتهن حقه وإن لم يحل. وباللَّه التوفيق. انتهى. وقول المص:"بيع كله" فيه تأثير كل المضافة للضمير بالعامل اللفظي، وتقدم له نظيره في قوله:"شرط الجمعة وقوع كلها" وهو ممتنع، وأجيب هنا بأنها تأكيد لضمير نائب فاعل بيع أي بيع هو كله. قاله عبد الباقي. واللَّه تعالى أعلم.
ومنع العبد من وطء أمته المرهونِ هُوَ معها يعني أن السيد إذا رهن أمة لعبدة ورهن معها سيدها فإن العبد المرهون مع أمته يمنع من وطئها، وكذا لو رهنها وحدها دون سيدها فإنه يمنع من وطئها أيضا، ومنع من وطئها في الوجهين لأن رهنها وحدها أو معه يشبه الانتزاع من السيد لها فلا يمكن العبد من وطئها، فإذا فك الراهن الرهن عادت الأمة للعبد على ما كانت عليه قبل الرهن، وإنما كان ذلك شبه الانتزاع، ولم يكن انتزاعا حقيقيا لأن السيد إذا افتكها من الرهن كان للعبد أن يطأها بالملك السابق، ولو كان انتزاعا حقيقيا لافتقر إلى تمليك ثان كما قاله ابن المواز. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: ومنع العبد مأذونا أم لا من وطء أمته المرهون هو معها بأن نص عليها في الرهن أو اشترط دخول ماله معه، وكذا يشمل الصورتين المذكورتين أن لو قال المرهونة معه وأولى في المنع إذا رهنت وحدها ولاحد عليه في وطئه لها في الصور الثلاث، ويستمر منع وطئه لها في الصور المذكورة إلى انفكاك الرهن، فإذا حصل حل له وطؤها من غير تجديد ملك لأن رهنها وحدها أو معه لا يعد انتزاعا حقيقة على المشهور، وإنما هو تعريض له فيشبه الانتزاع، وقيل انتزاع فلا تحل له إلا بعقد ملك جديد، وأشعر قوله:"أمته" أن له وطء زوجته المملوكة لسيده إذا رهنها كما إذا باعها كما في أحمد، وأشعر قوله:"المرهون" لخ أن للعبد المرهون وحده
وطء أمته غير المرهونة ولو غير مأذون كما في ابن عرفة، خلافا لما توهمه بعض الناس من أن غير المأذون ليس له وطء أمته بملك اليمين. انتهى.
قوله: خلافا لما توهمه بعض الناس لخ ما توهمه هذا البعض به جزم ابن عبد السلام، ونصه: وهذا كله في العبد المأذون له في التجارة، وأما العبد المحجور عليه فليس له وطء أمته إلا بإذن سيده على ما تقدم قبل هذا. انتهى منه بلفظه. وتَعَقَّبَهُ ابن عرفة بقوله قلت: ظاهر الروايات في المدونة وغيرها أن للعبد أن يطأ أمته (بإذن)
(1)
سيده في وطئها، وليس كما زعم وغره في ذلك. واللَّه أعلم. قول الصقلي وغيره في مسألة كتاب النكاح الأول: وللمكاتب والعبد التسري في ماله بغير إذن السيد، قال الصقلي: يريد إن كان مأذونا له في التجارة ولا دليل فيه على وقف وطء غير المأذون أمته على إذن سيده؛ لأن معنى التسري في ماله أن يكون بيده مال فيريد أن يتسرى فيه، وهذا لا يمكنه الوطء بملكه إلا بشرائه الأمة، ومطلق شرائه لا يجوز إلا بإذن سيده، وأما الوطء فيما تقرر في ملكه فلا موجب لافتقاره لإذن سيده، وقد قال أبو إبراهيم في مسألة كتاب النكاح لا حكى قول ابن يونس قال: وقال ابن رشد: وكذلك العبد المحجور، ولابن رشد في المقدمات: مذهب مالك أن للعبد التسري في ماله إذا أذن له سيده ويطأ بملك يمينه، قلت: قيد التسري بإذن السيد دون وطئه. انتهى. وسلمه ابن غازي. واللَّه تعالى أعلم. انظر الرهوني.
وقال عبد الباقي: قال التتائي: ويجوز في المرهون جره صفة لأمته، ويكون حينئذ صفة جرت على غير من هي له، ولذا أبرز ضمير الفاعل إذ القاعدة أن الصفة إذا جرت على غير من هي له أبرز فاعلها حصل لبس أم لا عند البصريين وهو الصحيح، ويجوز رفعه صفة للعبد وعليه فلا يحتاج لإبراز الضمير. انتهى. وقوله: فلا يحتاج لخ أي وإنما يجوز فقط لأمن اللبس وجريانه على من هو له، ومثله زيد هند ضاربته هي فيجوز إسقاط هي، وقد يمتنع الإبراز وذلك في نحو زيد عمرٌو ضاربه فيمتنع هو حيث أريد الإخبار بضاربية عمرٍو لزيد كما في الأشموني. انتهى كلام
(1)
كذا في الأصل والذي في الرهوني ج 5 ص 218 دون إذن وكذا في بعض النسخ.
عبد الباقي. قوله: ويجوز رفعه صفة للعبد لخ، قال البناني: نحوه في التوضيح وفيه الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي. انتهى.
تنبيهان:
الأوَّلُ: قد علمت أن العبد يمنع من وطء أمته المرهون هو معها أو هي وحدها، وأنه إذا وطئها لا حد عليه، فإن ولدت كان ولده رهنا مع أمه.
الثَّانِي: قال في المدونة: ومن رهن أمة وحيزت ثم زوجها لم يجز له تزويجها لأنه عيب إلا أن يرضى المرتهن. ابن عبد الحكم: فإن لم يرض فسخ وإن دخل، فإن لم يعلم بذلك المرتهن حتى اقتضت غرم للسيد صداق المثل يوقف معها كالجناية عليها، فإن نقصها الاقتضاض أكثر مما غرم الزوج من الصداق أخذ الزائد من السيد ووقف مع صداقها رهنا معها. وقال أشهب: يفسخ قبل البناء ويثبت بعده ويحال بينهما في الوطء ما دامت رهنا ولها الأكثر من المسمى وصداق المثل، ولو افتكها السيد قبل البناء لم يفسخ. انتهى المراد منه. قاله الشارح. وقال عبد الباقي: ويجوز للسيد تزويج المرهونة لأجنبي ويعجل للمرتهن دينه كما لو أعتقها، فإن لم يكن للسيد مال فسخ النكاح قبل البناء. انتهى.
وحُدَّ مُرتهِنٌ وَطِئَ يعني أن المرتهن إذا وطئ الأمة المرهونة عنده يحد لأنه أجنبي لا شبهة له فيها بالنسبة إلى الملك، ولو ادعى الجهل وعليه ما نقصها وطؤه بكرا أو ثيبا أكرهها أو طاوعته فيهما. الصقلي: وهو الصواب، ولأشهب: لا شيء عليه إن طاوعته ولو بكرا. قاله التتائي. وفي الحطاب عن ابن القاسم في المدونة: إنما عليه ما نقصها إن طاوعته وهي بكر لا إن طاوعته وهي ثيب، وأما الإكراه فعليه ما نقصها مطلقا بكرا أو ثيبا فهي ثلاثة أقوال. وطوع الصغيرة التي تخدع كالمكرهة. قاله عبد الباقي. وقال البناني: قال في المدونة: فإن اشترى المرتهن هذه الأمة وولدها لم يعتق عليه ولدها لأنه لم يثبت نسبه.
إلا بإذن يعني أن محل حد المرتهن إنما هو حيث لم يأذن له الراهن في وطء الأمة المرهونة، وأما إن أذن له الراهن في وطء الأمة المرهونة فإنه لاحد على المرتهن في وطئها حينئذ مراعاة لقول عطاء: يجوز إعارة الفروج ولكن عليه الأدب وتكون أم ولد بولادتها من الوطء بإذنه وهي إحدى
المسائل التي [تكون]
(1)
فيها الأمة أم ولد بوطء الشبهة فتزاد على قوله في باب أم الولد: أو ولد من وطء شبهة إلا أمة مكاتبه أو ولده، وينبغي أن يخص قوله:"إلا بإذن" بغير الأمة المتزوجة فلا يكون إذن السيد للمرتهن في وطئها شبهة تنفي عنه الحد. انتهى.
وتقوم بلا ولد حملت أم لا يعني أن الأمة المرهونة إذا وطئها المرتهن بإذن السيد فإنه يغرم للراهن قيمتها، وإذا حملت فإنها تقوم مفردة دون الولد لأن حملها من المأذون انعقد على الحرية فلا قيمة له ولا ثمن يدفع للراهن ولحق به، وما في الشارح من أنه غير لاحق به سبق قلم، وأما الموطوءة بغير إذن الراهن فهي وولدها رقيقان. وللأمين بيعه بإذن في عقده يعني أنه يجوز للأمين الموضوع تحت يده الرهن أن يبيع الرهن ليقضي للمرتهن من ثمنه دينه حيث أذن له الراهن في بيع الرهن إذنا صادرا منه في عقد البيع الذي وقع فيه الرهن وكذا بإذن وقع بعد البيع. قال عبد الباقي: وللأمين الموضوع تحت يده الرهن بيعه في دين المرتهن حالة صدور ذلك بإذن من الراهن في بيعه، وصدر ذلك الإذن في عقده أي الدين الذي سببه الرهن وأولى بعده لأنه فيهما محض توكيل سالم عن توهم إكراه فيه، وسواء أذن له في البيع قبل الأجل أو بعده، وسواء كان الدين من بيع أو قرض. انتهى.
قوله: لأنه فيهما محض توكيل لخ، قال البناني: هذا التعليل إنما يصح في الإذن للأمين بعد العقد لا فيه، وما ذكره وقع مثله لابن غازي ونصه: وإنما جاز وإن كان في نفس العقد لأنه محض توكيل سالم عن توهم كون الراهن فيه مكرها كما قال ابن عرفة. انتهى. وفيه نظر، فإن ابن عرفة إنما ذكر ذلك في الإذن بعد العقد، ونصه: قَوْلُ ابن الحاجب يستقل الأمين بالبيع إذا أذن له قبل الأجل أو بعده ما لم يكن في العقد بشرط صَوَابٌ لأنه محض توكيل سالم عن توهم كون الراهن فيه مكرها. انتهى. ولما ذكر ابن عرفة عن ابن رشد أن في الإذن للمرتهن في أصل العقد قولين، قال بعده: وسَوَّى اللخمي بين شرط توكيل المرتهن والعدل وهو نص المدونة. انتهى.
(1)
في الأصل التي فيها والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 252 وبعض النسخ.
إن لم يقل إن لم آت شرط في جواز بيع الأمين بالإذن المذكور، ومعنى كلامه أن الأمين إذا أذن له الراهن في بيع الرهن فإنما يجوز له بيعه إن لم يقل الراهن للأمين إن لم آت بالدين في وقت كذا فبعه، كالمرتهن بعده تشبيه تام يعني أنه يجوز للمرتهن إذا أذن له الراهن في بيع الرهن بعد العقد أن يبيعه، فيقتضي دينه من ثمنه إن لم يقل الراهن للمرتهن إن لم آت بالدين في وقت كذا فبعه، وإلا بأن أذن للأمين أو للمرتهن في العقد أو بعده. وقال في الصور الأربع إن لم آت بالدين في وقت كذا فبعه، أو أذن للمرتهن في العقد وأطلق لم يجز في الصور الخمس بيعُه بغير إذن الحاكم لا يحتاج إليه من ثبوت الغيبة وغيرها، فإن عسر الوصول له فبحضرة عدول.
المازري: وحضورهم من باب الكمال، فإن باع بغير إذن حاكم مع تيسر العدول مضى البيع فيهما أي في الأمين والمرتهن في الصور الخمس، قال عبد الباقي: ومذهب المدونة في الأخيرة وهي مفهوم قوله: "بعده" كراهة الإذن للمرتهن في العقد وقيل بالمنع وقيل بالجواز، ومحل الخلاف فيها إذا لم يكن المبيع تافها ولم يخش فساده ولم يفوض له فيه وإلا جاز بيعه اتفاقا إن أصاب وجه البيع لا إن باع بأقل من قيمته، فللراهن أخذه من مشتريه، فإن تداولته الأملاك أخذ بأي بيع شاء كالاستحقاق. انتهى. قوله: ولم يفوض له اعلم أن التفويض هنا أخص من الإذن الذي هو الموضوع كما هو ظاهر. انظر الرهوني.
ولا يعزل الأمين يعني أن الأمين الموكل على بيع الرهن أو على الحوز دون البيع لا يعزل أي ليس للراهن فقط عزله ولا للمرتهن فقط عزله، فإن اتفقا على عزله فلهما ذلك وحيث لم يتفقا على عزله فإنه لا يعزل ولو إلى أوثق منه. قال عبد الباقي: وليس للأمين عزل نفسه في صورتيه كذا يظهر. انتهى. يعني سواء وكل على البيع أو على الحوز فقط. واللَّه تعالى أعلم.
وليس له إيصاء به يعني أن الأمين الموكل على حوز الرهن فقط أو على بيعه ليس له أن يوصي عند سفره أو موته به أي بالائتمان المفهوم من أمين؛ لأن الحق في ذلك للمتراهنين وهما لم يرضيا إلا بأمانته لا بأمانة غيره، ولو قال: ولا ينفذ الإيصاء به لكان أحسن لأنه لا يلزم من عدم جواز إيصائه به عدم نفوذه، ومثل الأمين القاضي بخلاف الخليفة والوصي وإمام الصلاة المقام من جانب السلطان، وكذا ناظر الوقف له الإيصاء به إن جعله له الواقف وإلا فكالقاضي. انتهى.
وقال البناني: قال ابن غازي في تكميله قاعدة ذكرها ابن محرز في كتاب الأقضية ونصه: لم يختلفوا أنه ليس للقاضي أن يوصي بالقضاء لغيره عند موته: وفرقوا بين القضاء وبين الوصية والإمامة الكبرى، والمعنى الذي تضبط به هذه الأصول على اختلافها أن من ملك حقا على وجه لا يملك معه عزله فله أن يوصي به ويستخلف عليه وذلك كالخليفة والوصي (والمخيرة)
(1)
على مذهب ابن القاسم فيها وإمام الصلاة، وكل من ملك حقا على وجه يملك معه عزله عنه فليس له هو أن يوصي به وذلك كالقاضي والوكيل، وإن كان مفوضا إليه وخليفة القاضي القام للأيتام وما أشبه ذلك. انتهى. وقال المواق من المدونة: إذا مات العدل وبيده رهن فليس له أن يوصي عند موته بوضعه عند غيره وذلك إلى المتراهنين. انتهى.
وباع الحاكم إن امتنع يعني أن الحاكم يبيع الرهن ليقضي من ثمنه دين المرتهن حيث امتنع الراهن من بيع الرهن وهو معسر لا مال له غيره، أو امتنع من وفاء الدين وهو موسر ولا يحبس ولا يضرب ولا يهدد بذلك، وكذا يباع الرهن إذا كان الراهن غائبا مع إثبات الدين والرهن ولو كان غيره أولى بالبيع كما استظهره ابن عرفة قائلا: لتعلق حق المرتهن بعينه وربما كان أيسر بيعا مع أن راهنه كالملتزم بيعه برهنه. وقال الصقلي: ينظر السلطان في (الأحسن)
(2)
بالبيع الرهن أو غيره وفيه نظر، وظاهر ما يأتي عن ابن رشد خلافه. انتهى. وبحث معه الحطاب بأن ما نقله ابن رشد موافق للصقلي، وموته كغيبته ويحلف المرتهن فيهما يمين الاستظهار. قاله عبد الباقي. قوله: وبحث معه الحطاب بأن ما نقله عن ابن رشد لخ نص ما نقله ابن عرفة عن ابن رشد الرهن لا يباع على الراهن إلا إذا ألد في بيعه أو غاب ولم يوجد له ما يقضى منه دينه فيحتاج إلى البحث عن ذلك وعن قرب غيبته من بعدها ولا يفعل ذلك إلا القاضي فأشبه حكمه على الغائب. ابن عرفة: ظاهر حصره ما يتوقف عليه بيع الرهن فيما ذكر أنه لا يتوقف على كونه أولى ما يباع عليه ولا بلوغه قيمته. انتهى.
(1)
في البناني وعبد الباقي ج 5 ص 253: والمجبر.
(2)
كذا في الأصل.
قلت: قول ابن رشد: ولم يوجد له لخ ربما يوافق ما لابن يونس كما ذكره الحطاب. انتهى. قاله البناني. وقال عن ابن رشد: والذي جرى به العمل أن القاضي لا يحكم للمرتهن ببيع الرهن حتى يثبت عنده الدين والرهن وملك الراهن له، وتحليفه مع ذلك أنه ما وهب دينه ولا قبضه ولا أحال به وإنه لباق عليه إلى حين قيامه. نقله الحطاب. وهو أَحَدُ أقوال أربعة، ثَانِيهَا: أنه لا يحتاج إليه مطلقا. ثَالِثُهَا: أن الخلاف إذا أشبه أن يكون الرهن للراهن، وأما إذا لم يشبه كرهن الرجل حليا أو ثوبا لا يلبسه والمرأة سلاحا فلا بد من الإثبات، رَابعُهَا: لا يحتاج إليه إلا في الأصول كالدور وهو فتوى ابن عتاب، وهل يباع الرهن جميعه أو ما يقضي به الدين فقط؟ لم أر فيه نصا. والظاهر الثاني إذا وجد من يشتري البعض من غير نقص وإلا بيع الجميع. قاله ابن سودة التاودي.
تنبيهات:
الأوَّلُ: قال الرهوني بعد جلب أنقال في الجعل على بيع الرهن على من هو ما نصه: فتحصل من هذه الأنقال أن الراهن إن كان هو الطالب للبيع فالجعل عليه بلا خلاف، وإلا فهل كذلك وهو قول أصبغ وعيسى؟ واختاره ابن رشد أو هو على المرتهن وهو قول ابن القاسم؟ والظاهر ما استظهره ابن رشد. انتهى. يشير بذلك إلى قول ابن رشد: قول عيسى بن دينار في هذه المسألة أظهر من قول ابن القاسم؛ لأن الراهن مأمور بالقضاء واجب عليه فِعلُهُ فهو أولى بغرم الأجرة على ما يتوصل به إلى أداء الواجب عنه، ووجه قول ابن القاسم أن الراهن يقول: أنا لا أريد بيع الرهن لأني أرجو أن يتيسر لي الحق دون بيع الرهن، فإن أردت أنت تعجيله فَأَدِّ الجعل على بيعه. وباللَّه التوفيق.
الثَّانِي: لو أبق العبد المرهون وافتقر في الإتيان به لجعل، فإنه اختلف أيضا فيمن عليه الجعل، قيل على الراهن وقيل على المرتهن.
الثَّالِثُ: سئل أشهب عن رجل أتى إلى زمزم فوجد رجلا معه قدح، فقال: ناولني قدحك هذا، قال فإني أخاف عليه، فقال هذا كساءي عندك حتى أعود إليك به، فوضع الكساء وأخذ القدح ثم رجع فلم يجد الرجل، فقال لو أتى إلى السلطان حتى يأمره، إن كان صادقا يبيع القدح ويقبض ثمنه من الثوب، قيل له هو صادق وهذا صحيح ولا يقبضه لنفسه دون السلطان، قال لا
قيل له ويأمره السلطان قال نعم يأمره من غير حكم (على)
(1)
الغائب: ويقول له إن كنت صادقا فافعل، فإن جاء الراهن كان على خصومته.
قال ابن رشد: هذه المسألة وقعت في بعض الروايات وهي صحيحة على أصولهم، فإن باع القدح بأمر السلطان وقضى ثمنه من ثمن كسائه أي من قيمته فقدم صاحب القدح بالكساء وأقر بما قال البائع للقدح بأمر السلطان لم يكن له إلا ما باع به القدح لبيعه إياه بأمر السلطان، ولو باعه بغير أمره لكانت له قيمته، فإن ادعى القدح وأنكر الكساء حلف في الكساء وأخذ قيمة قدحه، وإن أقر بالكساء وادعى القدح وأنكر الرهن فيه حلف على إنكار الرهن ورد الكساء وأخذ قيمة قدحه أيضا، وهذا خلاف ما جرى به العمل من أن القاضي لا يحكم ببيع الرهن حتى يثبت عنده الدين والرهن وملك الراهن له، ويحلفه مع ذلك أنه ما وهب دينه ولا قبضه ولا أحال، وإنه لباق عليه إلى حين قيامه. نقله الحطاب.
الرَّابعُ: ذكر البرزلي في مسائل الأقضية -فيمن أثبت دينا على غائب وبيعت فيه داره ثم قدم الغائب فأثبت أنه قضاه- عن اللخمي في كتاب التحبيس أن البيع نافذ، قال: وذكر ابن فتحون أن المرتهن إذا باع الرهن ثم أثبت أنه قضاه أن البيع منتقض. انتهى. نقله الحطاب.
الخامس: قال الشارح: قال في المدونة: وإذا أمر السلطان رجلا ببيع الرهن ليقضي للمرتهن دينه فباعه ثم ضاع الثمن من يده لم يضمنه المأمور وصدق في ضياعه، فإن اتهم حلف وكان الثمن من الذي له الدين. ابن يونس: كقول مالك في ضياع ما باعه السلطان لغرماء الفلس: إنه من الغرماء. ابن المواز: وروى عنه أشهب أنه من ربه حتى يصل إلى غرمائه. انتهى.
ورجع مرتهنه بنفقته في الذمة قال الخرشي: يعني أن الرهن إذا احتاج إلى نفقة فأنفق المرتهن عليه نفقة فإنه يرجع بها في ذمة الراهن لا في عين الرهن حيوانا أو عقارا، وسواء أذن الراهن له في الإنفاق على الرهن أم لا؛ لأنه قام عنه بواجب، وسواء كان الراهن حاضرا أو غائبا مليا أو معدما، ولو زادت النفقة على قيمة الرهن كما في المدونة والموازية والمجموعة، لا علمت أن نفقة
(1)
ساقط من المطبوع والمثبت من الحطاب ج 5 ص 394 ط دار الرضوان
الرهن ومؤنته على الراهن لأنه مالك له وله غلته ومن له الغلة عليه النفقة كالبيع الفاسد فالنفقة على الرهن كالسلف، وهذا بخلاف النفقة على الضالة فإنه لا يرجع بها في ذمة ربها بل تكون نفقته في رقبتها وهو أولى بها عند قيام الغرماء، وظاهره ولو كان ما أنفق مؤنة تجهيز بعد الموت لقولها: كفن العبد الرهن إذا مات ودفنه على الراهن. انتهى. وظاهر هذا أنه ليس للراهن أن يمنع المرتهن من النفقة على الرهن وهو كذلك لهلاكه حينئذ وخرابه إن كان عقارا. انظر الخرشي.
وقال المواق: ابن يونس: القضاء أن نفقة الرهن ومؤنته على الراهن، قال مالك: وإذا أنفق المرتهن على الرهن بإذن ربه أو بغير إذنه رجع بما أنفق على الراهن، قال ابن القاسم: ولا يكون ما أنفق في الرهن إذا أنفق بأمر ربه لأن ذلك سلف وله حبسه بما أنفق وبما رهنه فيه، إلا أن يقوم الغرماء على الراهن فلا يكون المرتهن أحق منهم بما فضل عن دينه لأجل نفقته أذن له في ذلك أم لا. انتهى.
وعلم مما قررت أن العقار هنا كالحيوان؛ لأنه لما رهنه وهو عالم بافتقاره إلى الإصلاح كأنه أمره بالنفقة فيرجع بها في ذمته، وهذا هو الفرق بين ما هنا وبين قوله:"وإن أنفق مرتهن على كشجر" لخ كما يأتي بيان ذلك إن شاء اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أعلم.
ولو لم يأذن أي يرجع المرتهن بما أنفق على الرهن في ذمة الراهن أذن الراهن للمرتهن في الإنفاق أو لم يأذن، ورد المص بالمبالغة قول أشهب، إن المرتهن إذا أنفق على الرهن بغير إذن الراهن تكون النفقة في عين الرهن يبدأ بها في ثمنه لا في ذمة الراهن، فالمبالغة راجعة لقوله في الذمة.
واعلم أن ما قررت به وقرر به غير واحد المص من شموله للعقار هُوَ الصواب، ففي المتيطى ما نصه: وعلى الراهن نفقة العبد وكسوته ومرمة الدار وإصلاحها وعمل الحائط ولا شيء على المرتهن. انظر الرهوني.
وليس رهنا به اسم ليس ضمير يعود على الرهن والضمير المجرور بالباء عائد على الإنفاق؛ يعني أن المرتهن تكون نفقته على الرهن في ذمة الراهن ولا يكون الرهن رهنا بها ولا يقال هذا مستغنى عنه بقوله: "في الذمة"؛ لأنه يقال كونه رهنا لا ينافي تعلقه بالذمة كسائر الديون، وإنما فائدة كونها في الذمة أنها إذا زادت على الرهن فإنه يتبعه بذلك في ذمته وهذا أعم من كونه رهنا بها
أم لا. انظر البناني. وحاصل هذا أن قوله: "في الذمة" لا ينافي كون الرهن رهنا بالإنفاق، فأتى بقوله:"وليس رهنا به" ليفيد أن هذا الذي في الذمة ليس الرهن رهنا به، ألا ترى أن الدين يكون الرهن رهنا به وهو في الذمة فيتبع المدين بما فضل عن الرهن به كهذا. واللَّه تعالى أعلم.
إلا أن يصرح بأنه رهن بها مستثنى من قوله: "وليس رهنا به يعني أن الرهن لا يكون رهنا بالنفقة المذكورة إلا إذا صرح الراهن للمرتهن بأن الرهن يكون رهنا بها، فيكون الرهن حينئذ رهنا بالنفقة فيبدأ فيه على الغرماء، وقوله: "بها" أي بالنفقة التي أشار لها بقوله: "به" أي بالإنفاق بتذكير الضمير، فقد تفنن في العبارة، والتصريحُ كأن يقول له: أنفق على الرهن وهو بما أنفقت رهن فيكون حينئذ رهنا في الدين والنفقة قطعا، فإذا قال له: أنفق أو أنفق بغير إذنه فهو قوله: "وليس رهنا به"، فيرجع في الذمة في قوله: أنفق اتفاقا، وهاتان صورتان متفق عليهما وهما قوله: أنفق فيرجع في الذمة ولا يكون رهنا به اتفاقا، وقوله: أنفق والرهن بما أنفقت رهن فيكون بالدين وبالنفقة اتفاقا.
وبقيت صورة الخلاف المشار إليها بقوله: وهل وإن قال ونفقتك في الرهن راجع لما قبل الاستثناء؛ يعني أنه اختلف إذا لم يصرح بأن الرهن رهن بالإنفاق هل لا يكون رهنا به وإن أتى بما يقرب من التصريح، كقوله: أنفق ونفقتك في الرهن، أو أنفق على أن نفقتك في الرهن أو يكون رهنا به.
في ذلك تأويلان الأوّلُ: لابن شبلون وابن رشد، والثَّانِي لابن يونس وجماعة.
وعلم مما قررت أن قوله: أنفق ونفقتك في الرهن أو أنفق على أن نفقتك في الرهن سواء، فابن شبلون وابن رشد جعلاهما من قبيل قول الراهن أنفق، وابن يونس وجماعة ألحقوهما بقوله: والرهن بما أنفقت رهن قال البناني ونصه: يعني ابن يونس، قال ابن القاسم: ولا يكون ما أنفق في الرهن إذا أنفق بأمر ربه؛ لأن ذلك سلف، ثم قال: إلا أن يقول له أنفق على أن نفقتك في الرهن، أو أنفق والرهن بما أنفقت رهن فذلك سواء ويكون رهنا بالنفقة، ثم قال: فإن غاب وقال الإمام أنفق ونفقتك في الرهن كان أحق به من الغرماء كالضالة. انتهى على نقل المواق. فعبر مرة بعلى ومرة بالواو لاستوائهما، وكذا ابن رشد. قال في سماع أبي زيد من كتاب المديان ما نصه: قول ابن القاسم في الرهون من المدونة: إن الراهن إذا قال للمرتهن أنفق على الرهن على أن نفقتك
فيه أنه يكون أحق بما فضل من الرهن عن حقه حتى يستوفي نفقته، إلا أن يكون عليه غرماء فلا يكون أحق ببقية الرهن في نفقته منهم، وأشهب يرى أنه يكون أحق من الغرماء ببقية الرهن في نفقته بقوله: أنفق ونفقتك فيه. انتهى.
وعبر ابن عرفة بالواو مثل المص، فقال: وفيها لو قال أنفق والرهن بما أنفقت رهن فهو بها رهن، ولو قال: ونفقتك في الرهن ففي كون فائدته حبسه عن ربه في النفقة لا رهنا بها أو رهنه بها قولا ابن شبلون أخذا بظاهرها، والصقلي مع بعض القرويين مأولا عليه المدونة. انتهى. انتهى كلام البناني. واللَّه تعالى أعلم.
وتحصل مما مر أن الأقسام ثلاثة: مجرد الأمر فقط يرجع في الذمة اتفاقا صرح بالرهنية يكون رهنا بالنفقة اتفاقا ما يقرب من التصريح بالرهنية هو محل التأويلين، وعبارة المواق: ابن يونس: لا فرق بين أن يقول أنفق على أن نفقتك في الرهن، أو أنفق والرهن بما أنفقت رهن أيضا وهذا أبين، وكان ابن شبلون يفرق بين ذلك على ظاهر المدونة وليس بشيء. انتهى. فإن قلت: بم يظهر أن قوله أنفق على أن نفقتك في الرهن؟ أو أنفق ونفقتك في الرهن ليس من التصريح بالرهنية؟ فالجواب أنه لم يصرح في ذلك بالرهنية كما هو ظاهره؛ إذ لم يذكر لفظ رهنية الرهن بالإنفاق. واللَّه تعالى أعلم.
ففي افتقار الرهن للفظ مصرح به تأويلان أتى بالفاء ليشعر بأن هذين التأويلين مفرعان على التأويلين المتقدمين، يعني أنه يأتي على تأويل ابن شبلون وابن رشد أن عقد الرهن يفتقر للفظ مصرح به، ويأتي على تأويل ابن يونس أن الرهن لا يفتقر للفظ مصرح به فهذا لازم كلامهم وإن لم يصرحوا به، قال مصطفى: أي لم يصرحوا بأنهما تأويلان، وإلا فالخلاف في ذلك بين ابن القاسم وأشهب صرح به ابن رشد وابن عرفة وغيرهما. قاله البناني.
وقال عبد الباقي: وفرع على التأويلين قبله وعلى (تعريفه)
(1)
أول الباب الدال بظاهره على عدم افتقاره للفظ، قوله:"ففي افتقار الرهن للفظ مصرح به" دال على تعلق لفظ الرهن بالرهون صريحا
(1)
في الأصل تفريعه والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 654.
بناء على أنه لا بد في النفقة من التصريح بها وعدم افتقاره للفظ مصرح به بناء على القول بعدم اشتراط التصريح بالإنفاق. انتهى. وقال المواق: ابن عرفة: هل يفتقر الرهن للتصريح أم لا؟ الخلاف بين ابن القاسم وأشهب، فلو دفع رجل إلى آخر سلعة ولم يزد على قوله: أمسكها حتى أدفع لك حقك كانت رهنا عند أشهب لا عند ابن القاسم. انتهى. وقوله: "تأويلان" مبتدأ وخبره قوله: "ففي افتقار" لخ. وإضافة افتقار من إضافة المصدر إلى فاعله وللفظ متعلق بافتقار، "ومصرح" بصيغة اسم المفعول صفة "للفظ""وبه" نائب عن الفاعل. واللَّه تعالى أعلم.
وإن أنفق مرتهن على كشجر خيف عليه بدئ بالنفقة يعني أن الرهن إذا كان شجرا أو زرعا وله بير يسقى بها، فتهدمت البير وخيف عليهما التلف بعدم الإنفاق فأنفق المرتهن عليه من عند نفسه فإنه يرجع بما أنفق في عين الزرع والشجر مبدءا بالنفقة على دينه الذي فيه الرهن، ومعنى التبدئة في عين ما ذكر أن ما أنفقه يكون في ثمن الزرع والثمرة ورقاب الشجر، فإن ساوى ما ذكر للنفقة أخذها المرتهن، وإن قصر ذلك عن نفقته لم يتبع الراهن بالزائد وضاع عليه، وكان أسوة الغرماء بدينه، وإن فضل عن نفقته بدئ بها في دينه، وإن فضل شيء كان للراهن.
والفرق بين هذا وبين قوله قبله: "في الذمة" أن نفقة الحيوان لابد منها وكذا العقار لشبهه بالحيوان، فكأن المرتهن دخل على الإنفاق عليهما ولا لم يشترط كون الرهن رهنا بها كان سلفا منه لها بغير رهن، بخلاف هدم البير مثلا فإنه غير مدخول عليه، ولما كان إحياء الزرع والشجر إنما يحصل عن إنفاقه بدئ به على دين الرهن الأصلي. قال عبد الباقي: وإن أنفق مرتهن من ماله أو تداينِهِ على كشجر وزرع رُهِنَا عنده فانهارت بيرهما فأحياهما بإنفاقه بعد إباية الراهن منه كما في المدونة وعدم إذنه فيه للمرتهن وخيف عليه التلف بعدم الإنفاق، بُدئ على دينه الذي فيه الرهن. وقولي: بعد إباية الراهن تحرز عما لو أنفق بإذنه أو بدون علمه فنفقته في ذمة الراهن. انتهى.
وقوله: "بدئ بالنفقة" قال عبد الباقي: ولم تعد نفقته سلفا جر نفعا لشدة ما يلحقه من الضرر بهلاك الرهن بترك الإنفاق عليه. انتهى. قوله: ولم تعد نفقته سلفا لخ، قال الرهوني: قلت ولأنه ليس سلفا حقيقيا بدليل عدم تعلقه بالذمة. انتهى.
تنبيه:
قد علمت الفرق بين قوله: "وإن أنفق مرتهن على كشجر" لخ، وبين قوله:"ورجع مرتهنه بنفقته في الذمة"، وأما ما فرق به ابن عاشر بين المسألتين بقوله: ورجع مرتهنه بنفقته أي التي من شأنها الوجوب على المالك لو لم يكن الملوك رهنا بدليل ما يأتي في قوله: "وإن أنفق مرتهن على كشجر" أي مما تتوقف سلامته على النفقة ولا يلزم مالكه لو لم يكن رهنا نفقته وبعدم اللزوم فارقت هذه قوله: "ورجع مرتهنه بنفقته في الذمة". انتهى. قال مصطفى: وهو الصواب، فقد مر عن الرهوني أن الصواب ما أفاده كلام عبد الباقي من أن العقار كالحيوان لتسوية المتيطي بينهما، وما فرقت به أنا هو الذي فرق به عبد الباقي وارتضاه المسناوي أيضا، وأما ما فرق به عبد الباقي من أن قوله:"ورجع مرتهنه" لخ فيما ليس له أوان يباع فيه فلا يعارض ما يأتي من قوله: "وإن أنفق مرتهن على كشجر" لخ؛ لأنه فيما له أوان يباع فيه فقد قال الرهوني: فيه نظر يعلم من تأمل كلامه فيما يأتي، بل الفرق بينهما ما ذكره البناني عن المسناوي. فتأمله انتهى. واللَّه تعالى أعلم.
المواق ومن المدونة: من ارتهن نخلا ببيرها أو زرعا أخضر ببيره فانهارت البير، فأبى الراهن أن يصلح فأصلحها المرتهن لخوف هلاك الزرع أو النخل فلا رجوع له بما أنفق على الراهن، ولكن يكون له ذلك في الزرع وفي رقاب النخل يبدأ بنفقته فما فضل كان في دينه، فإن فضل بعد ذلك شيء كان لربه. ابن يونس: وينبغي أن يكون أحق بنفقته وبمقدار دينه من الغرماء كافتدائه العبد الرهن إذا جنى، ومن المدونة أيضا: إذا خاف الراهن هلاك الزرع وأبى المرتهن أن ينفق فيه فأخذ مالا من أجنبي فأنفقه فيه، فالأجنبي أحق بنفقته من ثمن الزرع من المرتهن وما فضل كان للمرتهن، فإن لم يفضل منه شيء رجع المرتهن بدينه على الراهن. ابن يونس: وذلك إذا شرط أن نفقته فيه وإلا فلا يكون أحق بذلك؛ لأنه سلف في ذمة الراهن، وذكر في المدونة هنا إذا غرم المرتهن خراجا على الأرض التي هي رهن بيده، فقال ذلك من المرتهن لا يرجع بذلك الخراج على الراهن، إلا إن كان ذلك الخراج حقا. ولهذا قال الشعبي في نوازله: إن أخذ السلطان وديعة ففداها المودع عنده فلا يغرم له صاحبها شيئا. وانظر الاضطراب في هذا فيمن فدى ما بأيدي اللصوص وقد تقدم في الجهاد.
وسئل أبو عمران عن من خرج إلى الحج وقدم صهره على ربعه فلم يف بخراج السلطان فتداين ما أدى في ذلك ثم توفي الموكِّلُ قبل قدومه فقام أرباب الديون لبيع الربع فقال لهم الخراج مقدم؟ فقال: إن كانت الضيعة لو لم يود عنها خراجا ورفع يده عنها لهلكت فحجتة قوية، وأجاب التونسي: هو أحق من الغرماء كمن استنقذ متاعا من أيدي اللصوص هو أحق به وفيه اختلاف. انتهى المراد منه.
وتؤولت على عدم جبر الراهن عليه مطلقا يعني أن المدونة تؤولت على أن الراهن لا يجبر على الإنفاق في هذه المسألة؛ أي مسألة "وإن أنفق مرتهن على كشجر مطلقا" أي سواء كان الرهن مشترطا في عقد المبيع أو القرض أو متطوعا به بعد العقد، وهذا التأويل لأبي الحسن. قاله الشارح. وقال المواق: قال ابن رشد: قولُ ابن القاسم في المدونة: إن المرتهن إذا أنفق في إصلاح البير لا يرجع بشيء من ذلك على الراهن وإنما تكون نفقته على الرهن مبدأة على الدين، فإن لم يف الرهن بها لم يتبعه بالنفقة يَدُلُّ على أن الراهن عنده لا يلزمه إصلاح البير وإن كان له مال. انتهى.
وقال عبد الباقي: وتؤولت المدونة على عدم جبر الراهن عليه أي على الإنفاق في هذه المسألة مطلقا، كان الرهن مشترطا في العقد للبيع أو القرض، أو متطوعا به بعده ويخير المرتهن في إنفاقه للإصلاح فيكون دينا في الذمة وفي تركه. انتهى. قوله: فيكون دينا في الذمة صوابه فلا يكون دينا في الذمة كما هو ظاهر، وقوله:"وتؤولت على عدم" لخ جواب عن سؤال مقدر يتضمنه الكلام السابق، وهو أنه هل يجبر الراهن على الإنفاق على إحياء الرهن إذا كان كشجر أم لا؟ قاله الخرشي.
وعلى التقييد بالتطوع بعد العقد أي تؤولت المدونة أيضا على أن الراهن لا يجبر على النفقة على الرهن المتطوع به بعد عقد البيع أو القرض، وأما المشترط في العقد فيجبر الراهن على الإنفاق عليه، وتحقيق هذا أن تقول: ظاهر المدونة عدم الجبر مطلقا وعلى هذا الظاهر تأولها أبو الحسن، وتأول بعض الشيوخ المدونة على أنها غير باقية على ظاهرها، بل هي مقيدة بما إذا كان الرهن
متطوعا به بعد عقد البيع أو القرض ولو كان مشترطا في العقد لجبر الراهن على الإنفاق وباللَّه تعالى التوفيق.
قوله: "وتؤولت على عدم جبر" لخ قال الخرشي قال في توضيحه: والمنصوص لابن القاسم في المختصر والموازية الجبر إن كان له مال وإن لم يكن له مال نظر، فإن كان بيع بعض الأصل خيرا له بيع ما يصلح به البير، وإن تطوع المرتهن بالنفقة في إصلاحها فإن ريء أن ذلك خير لرب الرهن قيل للمرتهن أنفق وتكون أولى بالنخل حتى تأخذ ما أنفقت، ولا ينظر إلى قيمة الثمر ولا قيمة ما وضع من حجر أو غيره، ولكن يحسب له ما أنفق. انتهى.
وقال عبد الباقي عند قوله: "وعلى التقييد بالتطوع بعد العقد" ما نصه: لا في المشترط عنده فيجبر عليه لتعلق حق المرتهن به، وإن كان الإنسان لا يجبر على إصلاح عقاره وعليه فيكون فيما أنفق وعدوله لما ذَكَر عن قوله تأويلان مفيد لعدم تساويهما وأن أحدهما أرجح ومعلوم أنه الأول. انتهى. قوله: فيما أنفق صوابه فيكون دينا في الذمة كما في الخرشي. قاله البناني.
وضمنه مرتهن يعني أن المرتهن إذا ادعى تلف الرهن أو ضياعه فإنه يضمنه بثلاثة شروط: أَحَدُهَا أشار إليه بقوله: إن كان بيدة أي إنما يضمن المرتهن الرهن إذا كان بيده أي بحوزه، قال عبد الباقي: وحوز كل شيء بحسبه ثَانِيهَا أشار إليه بقوله: مما يغاب عليه ومنه سفينة وقت جريها رهنت وحدها أو مع آلتها، فإن رهنت آلتها وحدها فمما يغاب عليه مطلقا وقت جري السفينة أو راسية، قاله عبد الباقي. ثَالِثُهَا: أشار إليه بقوله: ولم تشهد بينة بكحرقه يعني أن محل ضمان المرتهن للرهن إنما هو حيث لم تشهد البينة بتلفه بحرق أو غيره، وقوله:"وضمنه مرتهن" أي يضمن الرهن إن مثليا فمثله وإن مقوما فقيمته، وهل القيمة يوم الضياع أو يوم الارتهان؟ قولان.
ووفق بعض الشيوخ بين القولين بأن الأول فيما إذا ظهر عنده يوم ادعى التلف، والثاني فيما إذا لم يعلم متى ضاع. قف على المتيطى. قاله البناني. وقال عبد الباقي: واختلف هل يضمن القيمة يوم القبض مطلقا وهو الراجح أو إلا أن يرى عنده فيضمن يوم الرؤية، فإن تكررت فئاخر رؤية، وقال المواق من المدونة: قال مالك: ما قبضه المرتهن من رهن يغاب عليه فضاع فإنه يغرمه إلا أن
تقوم بينة على هلاكه من غير سببه. أبو محمد: من غير سببه بأمر من اللَّه أو بتعدي أجنبي فذلك من الراهن وله طلب المتعدي. انتهى.
ولو شرط البراءة مبالغة في الضمان يعني أنه إذا وجدت الشروط المذكورة فإن المرتهن يضمن الرهن، ولو كان المرتهن قد شرط على الراهن البراءة أي عدم الضمان فلا ينفعه اشتراطها ولا يصدق في دعواه التلف من غير تفريط، قال عبد الباقي مفسرا للمص: ويضمن مع وجود الشروط المذكورة، ولو شرط المرتهن في عقد الرهن البراءة أي عدم ضمانه له لأنه من إسقاط الشيء قبل وجوب ولأنه للتهمة عند ابن القاسم وهي قائمة مع عدم البينة، خلافا لقول أشهب: لا ضمان عليه عند الشرط وهذا إذا كان في أصل البيع أو القرض، فإن كان بعده اعتبر شرطه إذ طوعه بالرهن معروف وإسقاط الضمان معروف ثان، فهو إحسان على إحسان ولذا اتفقا على إعمال الشرط في العارية. قاله اللخمي. والمازري. وحكايتهما اتفاق ابن القاسم وأشهب على إعمال الشرط في العارية إحدى طريقتين حكاهما المص في بابها، بقوله:"وهل وإن شرط نفيه تردد".
وعطف على ما هو داخل في المبالغة على الضمان لاحتمال كذبه قوله: أو علم احتراق محله يعني أنه إذا وجدت الشروط المذكورة فإن المرتهن يضمن الرهن، ولو علم أن المحل المعتاد وضع الرهن فيه احترق ولم يعلم أن الرهن قد وضع في ذلك المحل، بل ادعى المرتهن أنه كان به ولم يثبت قوله: إلا ببقاء بعضه محرقا يعني أن محل ضمان المرتهن للرهن في مسألة ما إذا علم احتراق محله إنما هو حيث لم يبق بعضه أي الرهن محرقا، وأما إن بقي بعضه محرقا فإنه لا ضمان على المرتهن، زاد ابن المواز: وعلم أن النار من غير سببه، واختلف هل هو تفسير للمذهب أو خلاف وهو مقتضى المص؟ قاله عبد الباقي. وزاد ما نصه: قال شيخنا اللقاني صوابه غير محرق؛ إذ البعض المحرق لا يبقى وإنما يبقى البعض الآخر غير المحرق، ويمكن أن يطلق المحرق على ما أذهبته النار بالكلية وعلى ما بقيت آثارها فيه ولم تذهبه بالكلية، فأطلقه المص في قوله بكحرقه على الأول، وفي قوله:"إلا ببقاء بعضه محرقا" على الثاني اتكالا على ظهوره من لفظ بقاء انتهى وقول المص محرقا فرض مسألة أي أو مقطوعا أو مكسورا أو مبلولا، وكأنه خصه لأجل قوله: وأفتى أي أفتى الباجي بعدمه أي الضمان في العلم لاحتراق محله المعتاد وضعه فيه،
وادعى أنه كان به؛ إذ لو ثبت أنه كان به لم يضمن باتفاق الباجي وغيره، ولما كان فتوى الباجي حين احتراق أسواق طرطوشة ورأى المص الحكم عاما في الأسواق وفي علم احتراق المحل الكائن للمرتهن نسب له الفتوى. انتهى كلام عبد الباقي.
وهنا ثلاث صور: عُلِمَ احتراق محله المعتاد وضعه فيه ولم يثبت أنه كان به بل ادعى المرتهن أنه كان به هي صورة الخلاف بين الباجي وغيره فلا يضمن عند الباجي ويضمن عند غيره إلا لأجل بقاء بعضه محرقا فلا يضمن عند الباجي ولا عند غيره، وقيده ابن المواز بما إذا علم أن النار من غير سبب المرتهن. عُلِمَ احتراق المحل وثبت أن الرهن كان فيه فلا يضمن باتفاق الباجي وغيره فتلك ثلاث صور واللَّه تعالى أعلم. قوله:"وأفتى بعدمه في العلم" قال البناني: أفتى بذلك الباجي لما احترق أسواق طرطوشة وبذلك جرى العمل عندنا، ونقل في التوضيح مثل فتواه عن المازري ونصه: وذكر المازري أنه نزل عندهم سنة ست وثمانين وأربع مائة لما فتح الروم زويلة والهدية ونهبوا الأموال وكثرت الخصومات مع المرتهنين والصناع وفي البلد مشايخ من أهل العلم متوافرون، فأفتى جميعهم بتكليف المرتهن والصانع البينةَ أن ما عنده قد أخذه الروم وأفتيت بتصديقهم، قال: وكان القاضي حينئذ يعتمد على فتواي فتوقف لكثرة من خالفني حتى شهد عنده عدلان أن شيخ الجماعة السيوري أفتى بما أفتيت به، ثم قدم علينا كتاب المنتقى فذكر فيه في الاحتراق مثل ما أفتيت وذكر كلام الباجي. انتهى.
وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية؛ أي وإن لم توجد الشروط الثلاثة بأن لم يكن بيد المرتهن بل كان بيد أمين أو تركاه في موضعه كثمار برءوس شجر وكزرع قائم وكرهن سفينة واقفة بالمرسى وإن رهنت آلتها معها، وكأعدال في قاعة فندق وكطعام في دار الراهن مطبوعا عليه أو مفتاحه بيد المرتهن أو كان الرهن بيد المرتهن وهو مما لا يغاب عليه، كدور وعبيد وحيوان أو شهدت بينة بكحرقه، فلا ضمان على المرتهن. قاله عبد الباقي. قوله: أو مفتاحه بيد المرتهن لخ هذه الأمور كلها في التوضيح عن اللخمي، لكن أخل عبد الباقي بقيد في هذه إذ زاد في التوضيح بعد قوله أو مفتاحه بيده ما نصه: فإن علم أنه كان يتكرر له ويفتحه ويشبه أن يكون أخذ ذلك في تكرره ضمنه. انتهى منه بلفظه قاله الرهوني.
تنبيهات:
الأول: قال في الذخيرة في آخر كتاب الرهون من المدونة: يصدق المرتهن في دعوى الإباق إلا أن يأتي بمنكر لأنه أمين في الحيوان. انتهى.
الثاني: إذا سافر المرتهن بالرهن بغير إذن الراهن فالظاهر أنه ضامن. قاله الحطاب. وفيه أن المتعدي على المنافع إذا كان لا يصل إليها إلا بنقل الرقاب يضمن كما قلنا في المتعدي على المنفعة الميلَ ونحوَه فهلك إنه يضمن. انتهى. وقال في النوادر في كتاب الرهون في ترجمة تعدي المرتهن: ومن المجموعة قال سحنون: وإذا تعدى المرتهن فأودع العبد الرهن أو أعاره بغير إذن ربه فإنه يضمنه، هلك بأمر من اللَّه أو من غير ذلك ومن كتاب ابن المواز: من ارتهن عبدا فأودعه غيره فمات فلا ضمان عليه. وفي أحكام ابن سهل أنه إذا سافر المرتهن وترك الرهن في بيته مهملا ولم يودعه أنه ضامن، وكان ينبغي له عند سفره أن يضعه عند أمين فلذلك ضمنه.
الثالث: قال الحطاب بعد جلبه كلاما عن المدونة وكلاما عن ابن يونس ما نصه: علم من كلام المدونة المتقدم وَمن كلام ابن يونس أن للمرتهن أن يستعمل العبد الرهن فيما خف بغير إذن سيده، ومثله في كتاب الوديعة والديات والإجارة في العبد المودع والمستأجر من غير إذن سيده.
الرابع: قال في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب الرهون ما نصه: وسئل عن رجل باع من رجل بيعا وارتهن منه رهنا، وشرط المرتهن على الراهن عند عقدة البيع أنه يجعل الرهن على يدي عدل، ثم زعم المرتهن أن الرهن ضاع عند الذي وضعه على يده وصدقه الذي زعم أنه وضعه على يده وقال الراهن لم تضعه على يدي أحد وإنما هلك عندك وليس للمرتهن بينة على أنه وضعه على يديه إلا قوله وقول الذي زعم أنه وضعه على يديه، قال ابن القاسم: إن كان الذي زعم أنه وضعه على يديه عدلا فلا ضمان عليه ويرجع بجميع حقه على الراهن، قال القاضي رضي الله عنه: مثل هذا حكى ابن حبيب في هذه المسألة بعينها عن ابن القاسم من رواية أصبغ عنه، وحكى عن أصبغ أنه قال: أراه ضامنا وإن أقر له الأمين ولم يبرأ إلا ببينة على دفع ذلك إليه، وإياه اختار ابن حبيب. وقول ابن القاسم عندي أظهر؛ لأنه لما رهنه عنده بشرط أن يجعله عند غيره لم يحصل في ضمانه لكونه كالرسول له فوجب أن يصدق في دفعه إليه إذا أقر بقبضه وادعى تلفه على أحد قولي ابن القاسم في المودع يؤمر بإيداع الوديعة عند غيره فيزعم أنه أودعها
وتلفت عند المودع وهو مذهبه في المدونة خلاف ما في كتاب ابن المواز. وقوله: إن كان الذي زعم أنه وضعه على يديه عدلا فلا ضمان عليه صحيح؛ لأنه إنما أذن له أن يدفعه إلى عدل، فإن وضعه على يدي غير عدل لزمه الضمان وإن قامت البينة على تلفه عنده، فإن ادعى أنه لم يعلم أنه غير عدل وأنه إنما دفعه إليه وهو يظنه عدلا صدق في ذلك إلا أن يكون معلنا بالفسق مشهورا به عند الناس. انتهى. نقله الرهوني.
ونحوه في الحطاب. وفيه أي الحطاب: ولا ضمان على الموضوع على يده كان عدلا أو غير عدل. انتهى. وقال ابن سهل في أول كتاب الحدود في غلام ادعى يهودي أنه مملوكه والغلام يزعم أنه حر وأنه يكره على التهود فوضعه القاضي على يد أمين حتى يكشف عن أمره ويأخذ رأي أهل العلم فيه، فقال الأمين أبق مني الغلام من غير تفريط في الاحتراس، وقال اليهودي إنه كان سبب إباق الغلام أن الأمين خرج به مع نفسه إلى ضيعته وطلب إغرام الأمين قيمة الغلام، وسأَلَ القاضي وفَّقَهُ اللَّه هل يجب على الأمين قيمة الغلام أم لا؟ فأجاب عبد اللَّه بن وليد: توقيف القاضي الغلام لاستبراء أمره حزم من النظر وصواب في الفعل، والذي يطلبه اليهودي من إغرام الأمين باطل لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:(ليس على أمين غرم)، وقال أهل العلم: إلا أن يتعدى، ولو ثبت خروج الأمين بالغلام ثم ثبت رجوعه به وأبق لم يضمن أيضا، وقاله عبيد اللَّه بن يحيى وسعد بن معاذ، وقال مثله ابن لبابة أيضا، وقال: لو أبق من البادية وثبت بالبينة فحينئذ كان يضمن لأنه تعدى بإخراجه عن موضع أمانة، وقال محمد بن غالب: خروج الغلام مع الأمين محترسا عليه لا يوجب ضمانا حتى يثبت بالبينة العادلة أنه خرج به لمنفعة نفسه فيكون متعديا فيضمن، وإن رجع فلا ضمان عليه أصلا في كل حال. وقال يحيى بن عبد العزيز وأيوب بن سليمان مثله. انتهى. فهذا قولنا فيما سألت عنه. قاله ابن وليد. انتهى كلام ابن سهل. انتهى كلام الحطاب.
الخامس: قال في النوادر ومن المجموعة قال سحنون، وإذا باع المرتهن الدين الذي على الراهن فسأله المشتري دفع الرهن إليه فليس له ذلك، فإن فعل ضمن. انتهى. فعلم منه أنه ليس
للمشتري أن يطلب الرهن يريد إلا أن يشترط ذلك ولكن لا يدفع له الرهن إلا بإذن الراهن. فإن دفعه له بغير إذنه ضمن فتأمله. واللَّه أعلم.
السادس: قال في المدونة: وإن ادعيت دينا فأعطاك به رهنا يغاب عليه فضاع عندك ثم تصادقتما على بطلان دعواك أو أنه قضاك ضمنت الرهن؛ لأنك لم تأخذه على الأمانة. انتهى. نقله الحطاب.
السابع: قال صاحب البيان: قال أشهب: إذا اعترف المرتهن ببطلان دعواه التي قضي له بها عليك والرهن حيوان ضمنه لأنه أخذه عدوانا ولو أقيمت عليه بينة ببطلانها لم يضمن؛ لأنه لم يدخل على العدوان، بخلاف الأمة المشتركة يجحد أحدهما نصيب صاحبه فتقوم البينة فإنه يضمن، وعن ابن القاسم لا يضمن. انتهى نقله الحطاب. وتأمل قوله في التنبيه السادس: ثم تصادقتما مع قوله في التنبيه السابع: إذا اعترف المرتهن لخ يظهر لك عدم التعارض بينهما. واللَّه تعلى أعلم.
الثامن: إذا ادعى المرتهن أنه رد الرهن إلى الراهن وقبض دينه وأنكر الراهن الرد فالقول قول الراهن إن كان مما يغاب عليه، قبضه ببينة أو بغير بينة وإن كان مما لا يغاب عليه فالقول قول المرتهن، إلا أن يكون قبضه ببينة. قاله ابن رشد. نقله الحطاب.
التاسع: قد علم من قوله: "وإلا فلا" إن المرتهن مصدق فيما ادعاه من اباق ما لا يغاب عليه أو هلاكه أو دخول عيب عنده من غير تفريط أو رده إلى ربه، فالضمان في ذلك كله من الراهن حيث لم يأت ما يدل على كذبه.
ولو اشترط ثبوته مبالغة في عدم الضمان يعني أنه إذا انتفت الشروط المتقدمة أو بعضها فإنه لا ضمان على المرتهن، ولو كان الراهن قد اشترط عليه عند عقد الرهن ثبوت الضمان عليه ولكن لابد من يمينه أنه تلف بلا سببه متهما أم لا وهذا مذهب المدونة والموازية، وقال مطرف: إن اشترط ذلك لخوف طريق ونحوه وهلكت الدابة بسبب ذلك الخوف فإنه ضامن. اللخمي: ويجري فيها قول آخر أنه ضامن لأن الحيوان مختلف في ضمانه، فيوفى له بالشرط لأن المؤمنين عند شروطهم.
إلا أن يكذبه عدول في دعواه موت دابة مستثنى من قوله: "وإلا فلا" لأنه مشتمل على ما لا يغاب عليه، يعني أن الرهن إذا كان مما لا يغاب عليه وادعى المرتهن تلفه بحضرة عدول عينهم، كما لو قال: ماتت الدابة الرهن بمحضر فلان وفلان فأنكروا ذلك، فإنه يترتب على المرتهن الضمان لظهور كذبه. قال المواق: أشهب: إذا زعم أن الدابة انفلتت منه أو أن العبد كابره بحضرة جماعة من الناس فينكرون ذلك فلا يصدق إلا أن يكون الذين ادعى حضورهم غير عدول فالقول قوله، يريد لأنهم إذا كانوا غير عدول لم يثبت كذبه. قال محمد: وهذا مذهب مالك وأصحابه فيما لا يغاب عليه، وإن ادعى موته ففي المدونة عن مالك أنه يصدق إلا أن يظهر كذبه بدعواه ذلك بموضع لا يعلم ذلك أهله، ولو قالوا: ماتت دابة لا نعلم لمن هي ففي المجموعة إن وصفوها فعرفوا الصفة أو لم يصفوها قُبلَ قوله إنها هي ويحلف.
ابن يونس: قال بعض فقهائنا: إذا ضاع الرهن الذي لا يغاب عليه ولا يعلم هلاكه إلا بقول المرتهن فلابد من يمينه كان متهما أم لا، وكذلك في عارية ما لا يغاب عليه والشيء المستأجر. انتهى. وقال عبد الباقي: إلا أن يكذبه عدول اثنان أو أكثر. وانظر إذا كذبه عدل وامرأتان في دعواه موت دابة معه بسفر أو حضر ولم يعلم به أحد فيضمن. انتهى. قوله: وانظر إذا كذبه عدل وامرأتان لا وجه للتنظير في هذا لقبول العدل والمرأتين في المال وما يئول إليه. قاله البناني. وقال عبد الباقي: ومَفْهُومُ "عدول" لو كذبه غيرهم لم يضمن لتطرق التهمة بكتمهم الشهادة، وَمَفهُومُ يكذبه أنه لو صدقه شهود لتأكد الظن بصدقه عدولا كانوا أو غيرهم، ويكفي في تصديق خبر العدول له أنهم رأوا دابة ميتة ولم يعلموا أنها الرهن، ويحلف أنها الرهن حيث لم يعلموا عينها مع كونها مثل المدعى موتها فيما يظهر لا كفرس في حمار، ولا مفهوم لموت ولا لدابة، فالمراد في دعواه تلف ما لا يضمنه ويكذبانه في ذلك. ومثل تكذيب العدول سكوتهم وعدم تصديقهم له. انتهى.
قوله: ومثل تكذيب العدول سكوتهم لخ يعني إذا كان سكوتهم لوجه وإلا فهو جرحة في حقهم حيث سئلوا وسكتوا. قاله البناني. وقد مر الوقت الذي تعتبر فيه القيمة عند قوله: "وضمنه مرتهن" فراجعه إن شئت، ويأتي وقت القيمة الشاهدة في قدر الدين.
تَتِمَّةٌ:
نقل البزلي عن ابن عرفة أنه إذا رهن الدار وسلم مكتوبها للمرتهن فضاع فإنها تقوم على أنها تباع برسم وبغيره ويغرم ما نقصت قيمتها بلا رسم عن قيمتها برسم. قاله عبد الباقي.
وحلف فيما يغاب عليه يعني أن المرتهن ما يغاب عليه لابد من حلفه مع ضمانه مخافة أن يكون كاذبا في دعوى التلف أو الضياع، وصفة يمينه أن يحلف أنه أي الرهن تلف بلا دلسة أي إخفاء ولا يعلم موضعه.
وعلم مما قررت أنه يجمع بينهما أي بين اللفظين، فيقول باللَّه الذي لا إله إلا هو لقد تلف بلا دلسة مني ولا أعلم موضعه، وإنما حلف مع ضمانه القيمة أو المثل في المثلي للاتهام على تغييبه رغبة فيه، ومقتضى هذا التعليل أنه لو شهدت بتلفه ولم تشهد مع ذلك بتلفه بغير سببه أنه لا يحلف ويضمنه وهو كذلك، كإتيانه ببعضه محرقا ولم يعلم احتراق محله فإنه لا يحلف؛ إذ لا يتهم على أنه غيبه مع ضمانه كشهادتها عليه بتلفه بسببه فيضمنه ولا يحلف، فلا يلزم من نفي الحلف نفي الضمان، وتحقيق هذا الذي أشرت إليه أنه يضمن في ثلاث صور مع عدم الحلف: شهدت بأنه تلف بسببه، شهدت بأنه تلف ولم تشهد بأنه تلف بغير سببه، أتاه ببعضه محرقا ولم يعلم احتراق محله. قال البناني: والذي في المدونة أن الضمان لا ينتفي إلا ببينة تشهد على هلاكه من غير سببه، وقال الرهوني: ونص التوضيح: قال جماعة من متقدمي الشيوخ وهو في العتبية، وعليه حمل بعضهم المدونة وبه أفتى إسحاق بن ابراهيم يحلف لقد ضاع بلا دلسة دلسها فيه ولا أعلم له موضعا ووجه يمينه مع ضمانه تهمته على الرغبة في عينه. انتهى.
والمراد بالدلسة الإخفاء كما قررت، وقال المواق: ابن عرفة: لو ادعى تغييب الرهن يعني الذي يغاب عليه، فقال العتبي: لا يمين عليه إلا أن يدعي الراهن علم ذلك وأنه أخبره بذلك من وثق به، فإن حلف حلف له المرتهن، وقال ابن مزين: يحلف لقد ضاع وما دلس فيه ولا يعلم له موضعا وأنكر قول العتبي وقال: يمين توجب يمينا هذا لا يكون. عياض: على قول ابن مزين حمل بعض الشيوخ ظاهر المدونة. انتهى. وقوله: "وحلف" سواء كان متهما أم لا، ومفهوم قوله: فيما يغاب عليه أحرى؛ لأنه إذا كان يحلف مع الغرم فأولى مع عدمه.
واعلم أن في حلف المرتهن فيما يغاب عليه قولين كما قررت، والذي مر عليه المص لابن مزين وهو في العتبية كما مر وعليه جماعة من متقدمي الشيوخ. وأما ما لا يغاب عليه ففي حلف المرتهن ثلاثة أقوال: أَحَدُهَا الحلف مطلقا، ثَانِيهَا عدمه مطلقا، ثَالِثُهَا يحلف المرتهن دون غيره. وَاعلم أن الرهن فيه شبه بالقرض وبالوديعة، فإنه لم يؤخذ لنفعة ربه فقط كالوديعة ولا لمنفعة الآخذ فقط كالقرض، بل أخذ شبها منهما فضمن ما يغاب عليه دون ما لا يغاب عليه.
تنبيه:
قد مر أن قوله: "وضمنه مرتهن" تعتبر القيمة فيه يوم الارتهان أي يوم دفعه للمرتهن أو يوم الضياع، والقولان لابن القاسم، وقد مر أن الأول هو الراجح، وقد مر الخلاف فيهما هل هما وفاق أو خلاف؟ والذي عليه أكثر الشيوخ أن ذلك خلاف والقولان لابن القاسم. قال الرهوني: ظاهر كلام غير واحد ممن حمل قولي ابن القاسم على الخلاف أن الخلاف مطلق، وقيد ذلك الباجي في المنتقى، فقال بعد ما قدمناه: وهذا إذا لم يقوم الرهن يوم الارتهان، وأما لو قوم الرهن بعشرة دنانير فضاع فتلك القيمة تلزمه إلا أن يكونا قد زادا في قيمته أو نقصا فيرد إلى قيمته إذا علم بذلك، ووجه ذلك أن تقويمهما للرهن عند الارتهان اتفاق منهما على قيمته وإقرار بذلك فيحملان عليه بعد الضياع ويمنعان من إقراره على ذلك قبل الضياع. انتهى منه بلفظه. ونقله ابن عرفة مختصرا وسلمه. واللَّه أعلم. انتهى.
واستمر ضمانه إن قبض الدين يعني أن الرهن إذا كان مما يغاب عليه وقبض المرتهن الدين المرهون فيه فإنه يستمر ضمانه عليه إلى أن يسلمه لربه، وكذا الحكم لو وهب المرتهن الدين للراهن كما قال: أو وهب لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، ونبه على هذا ليلا يتوهم أن الرهن بعد قبض الدين أو هبته يصير كالوديعة، ولو قال المص: واستمر ضمانه إن برئ من الدين ليشمل ما ذكره وغيرَه، كما إذا أخذت المرأة رهنا بصداقها وتبين فساد النكاح وفسخ قبل البناء أو كان في نكاح التفويض الصحيح وطلق الزوج قبل الدخول لكان أحسن، وقال الحطاب عند قوله:"أو وهب": يعني أن من له على شخص دين برهن ثم إن رب الدين وهب الدين للمدين ثم ضاع الرهن فإن المرتهن ضامن له، قال في النوادر: وقاله ابن القاسم وأشهب، قال أشهب:
وترجع أنت فيما وضعته من حقك لأنك لم تضع لتتبع بقيمة الثوب فتقاصه بقيمته، فإن بقي عنك فضل وديته، فإن كان دينك أكثر فلا شيء لك فيه. انتهى.
وهذا الذي ذكره الحطاب هو الذي في المنتقى، ونصه: قال أشهب: يرجع الواهب فيما وضع من حقه فيقاص به في قيمة الرهن، فإن بقي له منه شيء لم يكن له قبضه، وإن بقي عليه من قيمة الثوب شيءٌ أداه، قال: لأنه لم يدع حقه ليتبع بقيمته. انتهى.
فرع:
إذا تلف الرهن ووجبت للراهن قيمته على المرتهن فإنه يكون أحق بالدين الذي في ذمته من غرماء المرتهن حتى يستوفي منه القيمة التي وجبت له. قاله ابن القاسم. نقله الحطاب.
تنبيه:
قال عبد الباقي عند قوله "إن قبض الدين": إنَّ المحل للمبالغة. قال البناني: فيه نظر، بل ليس الوضع للمبالغة خلافا لا زعمه لأنه لا استمرار قبلها، فالأولى نسخة إن قبض دون واو. انتهى. وفي نكاح المدونة: من باع سلعة لرجل فأخذ ثمنها ثم وهبه للمشتري ثم استحقت تلك السلعة أنه لا رجوع له على البائع؛ لأن من حجته أن يقول لم أهبك إلا ثمن سلعة مملوكة لي والآن قد ارتفع ملكي عنها فيرتفع ثمنها. قاله عبد الباقي.
تنبيه ثان:
إذا وهب الراهن الرهن لأجنبي ينزل منزلة الواهب فيضمن له المرتهن ضمان الرهان. ويجري فيه أيضا قوله: إلا أن يحضره مستثنى من قوله: "واستمر ضمانه" يعني أن المرتهن يستمر عليه ضمان الرهن إن قبض الدين أو وهب حيث لم يحضر الرهن للراهن، وأما إن أحضر المرتهن الرهن للراهن فتركه الراهن ولم يذهب به فإنه لا يضمنه المرتهن ويصدق في تلفه أو ضياعه.
أو يدْعُوَهُ لأخذه فيقولَ اتركه عندك يعني أن المرتهن يستمر عليه ضمان الرهن إن قبض الدين أو وهب حيث لم (يدع)
(1)
المرتهن الراهن لأخذ الرهن من غير إحضاره، فيقول الراهن اتركه أي الرهن عندك يا مرتهن، وأما إن دعاه لأخذه فقال اتركه عندك وإن لم يقل وديعة فإنه لا ضمان على المرتهن؛ لأنه صار أمانة.
(1)
في الأصل يدعو.
وعلم مما قررت أن قوله: فيقول اتركه عندك خاص بالثانية، وأما الأولى وهي مسألة الإحضار بعد وفاء الدين فلا فرق بين أن يقول اتركه عندك أولا، ومثل الإحضار شهادة بينة بوجوده عند المرتهن بعد وفاء الدين، ولا مفهوم لقوله:"يدعوه لأخذه" بل حيث قال: بعد قضاء الدين اتركه عندك فإنه يبرأ منه دعاه لأخذه أم لا. وقوله: "اتركه عندك" بصيغة الأمر كما يفيده الخرشي. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "اتركه عندك" وكذلك أبقه أو خله أو أمسكه أو دعه أو نحو ذلك. انظر الخرشي. وقال المواق: اللخمي: الرهن مضمون وإن قضي ما رهن فيه إذا كان غائبا عنهما إلا أن يقول الراهن: اتركه عندك وديعة فيكون ذلك تصديقا أنه كان وقت القضاء موجودا، وإن كان حاضرا بين يديهما فقضي ما رهن فيه، ثم قام الراهن وتركه كان وديعة، ويصدق المرتهن إن قال: ضاع بعد ذلك. انتهى.
وإن جنى الرهن واعترف راهنه لم يصدق إن أعدم يعني أنه إذا ادعى شخص على الراهن أن الرهن جنى على بدنه أو على مال له، واعترف الراهن بذلك فإنه لا يصدق الراهن إن كان معدما حال اعترافه ولو بالبعض واستمر أو طرأ له قبل الأجل، وإنما لم يصدق لأنه يتهم على خلاص الرهن من يد المرتهن، والمراد لم يصدق بالنسبة للمرتهن، وأما بالنسبة للمجني عليه فيصدق لأنه يؤاخذ بإقراره فإن خلص من الرهنية تعلق به حق المجني عليه، فيخير سيده بين إسلامه وفدائه، فإن بيع في الدين تبع المجني عليه الراهن بالأقل من الثمن وأرش الجناية، وكلام المص في رهن تتعلق الجناية به كعبد، وأما إن كان حيوانا لا يعقل فإن الجناية لا تتعلق به أصلا، بل إما هدر وإما أن تتعلق بالغير كالسائق والقائد والراكب، وظاهر كلامه ادعى جناية قبل الرهن أو بعده وهو كذلك؛ إذ الفرض أن الراهن معدم والمرتهن حائزه فيهما كما مر: وإنما يفترقان إذا كان مليا كما قال: وإلا أي وإن لم يكن الراهن معدما بل كان مليا خير بين فدائه وإسلامه مع بقائه رهنا في الحالين كما قال: بقي الرهن على رهنيته ساقطا حق المجني عليه منه، إن فداه الراهن وإلا أي وإن لم يفده الراهن الملي بقي أيضا على رهنيته متعلقا به حق المجني عليه، ولهذا قال:
أسلم بعد الأجل ودفع الدين يعني أنه إذا أسلمه الراهن للمجني عليه فإنه لم يكن له ذلك حتى يحل الأجل، فإذا حل الأجل دفع الدين للمرتهن وأسلم الرقيق للمجنى عليه، فإن أعدم قبل دفعه لم يسلم كإن فلس قبله أيضا فيكون المرتهن أحق به؛ لأن الفرض أن الجناية لم تعرف إلا بإقرار الراهن. قاله عبد الباقي. وقال ما نصه: ومحل قوله: "وإلا بقي" لخ إذا اعترف الراهن الملي أنه جنى بعد الرهن، فإن اعترف بعد الرهن أنه جنى قبله ثم رهنه أو كان اعترف قبل الرهن بجنايته كما في الشارح بقي أيضا رهنا إن فداه، وإن أبى حلف أنه ما رضي بحمل الجناية وأجبر على إسلامه مع تعجيل الحق إن كان مما يعجل، كمن أعتق وأقر أنه لغيره فالعتق لازم ويعجل قيمته للمقر له، وإن كان عرضا من بيع ولم يرض من هو له بتعجيله لغا إقراره على المرتهن، كما لو كان معسرا والدين مما له تعجيله، ويخير المجني عليه بين تغريمه قيمته يوم رهنه لتعديه وبين صبره حتى يحل الأجل ويباع ويتبعه بثمنه، وهذا ما لم يكن الأرش أقل فيغرمه. انتهى.
قوله: عن الشارح: أو كان اعترف قبل الرهن بجنايته لخ، فرع الشارح أصله لابن يونس وما فهمه منه الشارح فهمه منه ابن عرفة وابن ناجي، ونص ابن عرفة: الصقلي: لو أقر بذلك قبل رهنه، فإن رضي بافتدائه بقى رهنا لخ، والمتبادر من كلام التوضيح أن الإقرار وقع بعد أن رهنه، قال الرهوني: والمتعين فهمه على ما أفاده كلام التوضيح، ثم جلب كلام ابن يونس ثم استظهر ما للتوضيح، ثم قال: وأما إذا ثبت بعد رهنه أنه كان أقر قبل رهنه فحكمه حكم ما إذا ثبت أنه جنى قبل رهنه بمعاينة البينة مع علم الراهن بذلك قبل رهنه، ولا وجه للفرق بينهما ولا لتقديم حق المرتهن على حق المجني عليه. فتأمله بإنصاف. واللَّه أعلم. انتهى.
وقال البناني: ابن عرفة: انظر لو أبى الراهن من فدائه أولا ثم أراده حين الأجل ونازعه المجني عليه، والظاهر أنه ليس له ذلك؛ لأنه لو مات كان من المجني عليه. انتهى. وسبق إليه أبو الحسن انتهى. الرهوني: يوهم كلامه أن أبا الحسن ذكر التعليل وليس كذلك، ولذا قال ابن غازي في تكميله بعد أن ذكر كلام ابن عرفة ما نصه: سبق إليه صاحب التقييد إلا أن ابن عرفة زاد التعليل. انتهى منه بلفظه. ويلزم على ما قاله أبو الحسن وابن عرفة وقبلوه أن تكون غلته
مدة بقائه للمجني عليه. وانظر هل يلتزمون مثل هذا أم لا؟ انتهى. وقال المواق: قال ابن القاسم: إن أقر الراهن أن العبد جنى جناية أو استهلك مالا وهو عند المرتهن ولم تقم بذلك بينة، فإن كان الراهن معدما لم يصدق، وإن كان مليا قيل له أتفديه أو تسلمه، فإن فداه بقي رهنا على حاله وإن أسلمه لم يكن له ذلك حتى يحل الأجل، فإذا حل ودى الدين ودفع العبد بجنايته التي أقر بها، وإن فلس قبل الأجل فالمرتهن أحق به من أهل الجناية وليس ذلك كثبوت الجناية ببينة.
وإن ثبتت الجناية الكائنة بعد الرهن بالبينة أو اعترفا أي المتراهنان بها فإن كان المقتول عبدا لسيده لم يقتله إلا أن يعجل الدين. قاله ابن عرفة. وإن كان أجنبيا فقد تعلق بالعبد ثلاثة حقوق، حق للسيد وحق للمرتهن وحق للمجني عليه، فيخير السيد أوَّلًا لأنه المالك بين فدائه وإسلامه، فإن فداه بقي رهنا بحاله وترك هذا لوضوحه. قاله التتائي. وقال أحمد: استغنى عنه بما سبق من التصريح بالفداء إذ الحكم هنا مساو لذلك، ولا يقال تركه لوضوحه لأنا نقول: كان يمكنه أن يتركه فيما سبق لوضوحه أيضا، وَإن لم يفده وأسلمه أي أراد إسلامه للمجني عليه فيخير المرتهن حينئذ لتقدم حقه على المجني عليه بين إسلامه وفدائه، فإن أسلمه مرتهنه أيضا أي كالراهن فللمجني عليه بماله أي يتبع العبد الجانِيَ إذا أسلِم مالُه فيكون هو وماله للمجني عليه رُهِنَ معه أم لا، زاد في المدونة: ويبقى دين المرتهن بحاله أي بلا رهن. ابن يونس: وليس له أن يؤدي الجناية من مال العبد إلا أن يشاء سيده، زاد في النكت: وسواء كان مال العبد مشترطا إدخاله في الرهن أم لا؛ لأن المال إذا قبضه أهل الجناية قد يستحق فيكون على السيد غرم مثله؛ لأن رضاه بدفعه إليهم كدفعه من ماله، وأما إن أراد ذلك الراهن وأبى المرتهن، فإن لم يكن إدخاله مشترطا في الرهن فلا كلام للمرتهن، وإن كان مشترطا إدخاله فيه فإن دعا المرتهن إلى أن يفديه كان ذلك له، وإن أسلم العبد كان ذلك للراهن. قاله التتائي. ونحوه للشارح.
وإن فداه بغير إذنه ففداؤه في رقبته هذا مفهوم قوله: "فإن أسلمه مرتهنه" يعني أنه إذا ثبتت الجناية بالبينة أو اعترف المتراهنان بها وأسلم الراهن الرهن في الجناية وفدا المرتهن الرهن بغير إذن الراهن، فإن ما فداه به يكون في رقبة العبد الجاني فقط دون ماله مبدءا به على الدين؛ لأنه إنما افتكه ليرده إلى ما كان عليه أولا، وهو إنما كان مرهونا بدون ماله، وهذا هو المشهور وهو
مذهب المدونة واختيار ابن القاسم وابن عبد الحكم، ومقابل المشهور أن الفداء يكون في رقبته وماله وهو اختيار ابن المواز وجل أصحاب ابن يونس، قال الشارح: وهو الصواب ووجه هذا القول أنه لو أسلمه كان للمجني عليه بماله، فإذا افتكه المرتهن انبغى أن يكون له ما كان للمجني عليه أولا.
إن لم يرهن بماله يعني أن محل القول بأن الفداء إنما يكون في رقبة العبد دون ماله حيث لم يرهن العبد مع ماله، وأما إن رهن معه ماله فإن الفداء يكون في رقبة العبد وماله باتفاق القولين المذكورين، وأما ذمة الراهن فلا يتعلق بها مطلقا رهن بماله أم لا وينبني على المشهور، ومقابله أنه لو كان مرهونا بخمسين هي الدين وفداه المرتهن بخمسة وعشرين وبيع مع ماله بمائة وكانت رقبته تساوي خمسين اختص المرتهن على المشهور بخمسين قيمة الرقبة خمسة وعشرين نظير ما فداه به وخمسة وعشرين من دينه، وحاص الغرماء في الخمسين التي بيع بها ماله بالخمسة والعشرين الباقية له، وعلى مقابل المشهور يختص بخمسة وسبعين، خمسين قيمة الرقبة وخمسة وعشرين في مقابلة الفداء والباقي للغرماء، ويؤخذ من قوله:"ففداؤه في رقبته" أنه لو لم تف رقبته بالفداء لسقط عن السيد ولم يتبع به؛ لأن من حجته أن يقول للمرتهن أنت كنت قادرا على تسليمه. قاله عبد الباقي.
ولم يبع إلا في الأجل يعني أن هذا الرهن الجاني لا يباع جبرا على الراهن إلا في انتهاء الأجل سواء كان الفداء في الرقبة فقط أو فيها وفي المال؛ لأنه إنما رجع لما كان عليه وهو لا يباع إلا عند الأجل، قال عبد الباقي: فإن فضل من ثمنه فضلة عن الدين والفداء فللراهن؛ إذ تسليمه ليس قاطعا لحقه. انتهى. قال الرهوني: الظاهر أن هذا معارض لما ذكره البناني عن ابن عرفة وأبي الحسن؛ يعني ما مر عند قول المص: "وإلا أسلم بعد الأجل ووفاء الدين"، ونص البناني هناك: ابن عرفة: انظر لو أبى -يعني الراهن- من فدائه أولا وهو ملي ثم أراده حين الأجل ونازعه المجني عليه والظاهر أنه ليس له ذلك. انتهى. المراد منه. واللَّه تعالى أعلم.
وعلم مما قررت أن قوله: "إلا في الأجل" على حذف مضاف أي في انتهاء الأجل.
وبإذنه فليس رهنا به هذا مفهوم قوله: "وإن فداه بغير إذنه" يعني أن المرتهن إذا فدى الرهن الجاني بإذن الراهن، فإن ما فداه به لا يكون الرقيق الجاني رهنا به بل يكون سلفا في ذمة الراهن، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وإن فداه بإذنه فليس رهنا به بل سلف في ذمة الراهن، والظاهر أن له حبسه ما لم تقم الغرماء عليه بالأولى من مسألة النفقة، وما مشى عليه ضعيف والمذهب أنه يكون رهنا به، فلو قال: كبإذنه لمشى عليه. انتهى. وكلام عبد الباقي هذا صحيح، ففي قول الرهوني: إنه فاسد نظر ظاهر. واللَّه تعالى أعلم. وقال البناني: ابن عرفة: لو فداه بإذن ربه، ففي كونه رهنا فيما فداه به مع دينه مطلقا أو إن نص على كونه رهنا بالفداء نقلا الشيخ عن الموازية قول ابن القاسم مع مالك ومحمد مع أشهب. المتيطى: خالف كل من ابن القاسم وأشهب قوله فيمن أمر من يشتري له سلعة ينقد ثمنها عنه، قال ابن القاسم: لا تكون بيد الأمور رهنا فيما دفع، وقال أشهب: هي رهن به. ابن عرفة: ويجاب لابن القاسم بأن الدافع في الجناية مرتهن فانسحب عليه حكم وصفه، ولأشهب بتقدم اختصاص الراهن بمال العبد قبل جنايته فاستصحب وعدم اختصاص الآمر بالسلعة قبل الشراء. انتهى.
وإذا قضى بعض الدين أو سقط فجميع الرهن فيما بقي يعني أنه إذا قضي بعض الدين أو سقط عن الراهن بهبة أو صدقة أو غيرهما كما لو طلقت قبل البناء فإن الرهن جميعه يكون فيما بقي من الدين، قال عبد الباقي: محل كلام المص إن اتحد الراهن والمرتهن، فإن تعدد الراهن كرجلين رهنا دارا لهما في دين فقضى أحدهما حصته من الدين فله أخذ حصته من الدار، فإن تعدد المرتهن واتحد الراهن والرهن وقضى الراهن أحدهما، فقال ابن القاسم: حكمها كالأولى أي له أخذ حصته من الدار، ويبقى الآخر منها رهنا للمرتهن الآخر، واستشكل بجولان يد الراهن مع المرتهن الذي لم يعْطَ دينَه وذلك مبطل للرهن، وأجيب بأنه إنما تكلم على خروج حصة المرتهن الذي استوفى حقه من الراهن، وأما كون بقائها تحت يد الراهن لا يبطل فلم يذكره، والمستفاد مما تقدم أنه مبطل وحينئذ فلا يمكن الراهن من ذلك بل يبيع الحصة أو يجعلها تحت يد أمين أو المرتهن الآخر، وقد تقدم:"وحيز بجميعه إن بقي فيه للراهن". انتهى. كلام عبد الباقي. بإيضاح.
قوله: فإن تعدد المرتهن واتحد الراهن لخ، قال البناني: صورتها قول المدونة: من رهن دارا من رجلين في صفقة واحدة في دين لهما ولا شركة بينهما فقضى أحدهما كل حقه أخذ حصته من الدار. انتهى. وهذه هي محل البحث، والجواب الذي ذكره فيه لعياض كما في التوضيح وغيره. انتهى. وقول المص: فجميع الرهن فيما بقي سواء كان الرهن متحدا أو متعددا.
فرع:
من ادعى دينا وأخذ به رهنا ثم صدَّق على بطلان دعواه أو على أنه قضاه الدين فإنه يضمن الرهن ضمان العداء، فيضمنه ولو كان مما لا يغاب عليه أو تلف ببينة، بخلاف ما لو قامت بينة بقضاء الدين فلا يضمنه إلا ضمان الرهن؛ لأن الأول أقر بتعديه في قبضه، وهذا بخلاف من ادعى نصيبا في أمة فجحده من هي في يده فأثبت دعواه ببينة، فإن من هي في يده ضامن. قاله الحطاب. نقله عبد الباقي. وقد مر هذا واللَّه تعالى أعلم.
كاستحقاق بعضه يعني أن الرهن إذا استحق بعضه فإن الباقي منه رهن في جميع الدين، وهذه عكس ما قبلها إذ ما قبلها جميع الرهن في بعض الدين، وهذه بعض الرهن في جميع الدين. ومن المدونة: من ارتهن دابة أو دارا أو ثوبا فاستحق نصف ذلك من يد المرتهن فباقيه رهن بجميع الحق. انتهى. نقله المواق. وقوله: "كاستحقاق بعضه" تشبيه في الحكم وهو البقاء، وفي هذه بقاء بعض الرهن رهنا في كل الدين، وفي ما قبلها بقاء كل الرهن رهنا في بعض الدين. وقوله:"كاستحقاق بعضه" قال عبد الباقي: ثم إن كان الرهن مما ينقسم قسم وبقيت حصة الراهن رهنا، وإن كان مما لا ينقسم بيع جميعه كغيره من المشتركات التي لا تنقسم إذا طلب أحد الشريكين البيع جبر له الآخر. انظر التتائي.
ومفهوم "بعضه" أن استحقاقه كله مزيل لرهنيته، فإن استحق كله معينا قبل قبضه خير المرتهن بين فسخ البيع قائما أو فانتا، وبين إمضائه فيبقى دينه بلا رهن، كما أنه يبقى بلا رهن إن استحق معينا بعد قبضه إن لم يغُرَّه الراهن وإلا خير كما مر، وإن استحق غير معين بعد القبض فعليه خلفه على الأرجح وقبل القبض لا يتصور فيه ذلك والتلف كالاستحقاق، وانظر إذا وقع ذلك في القرض هل يجري فيه هذا التفصيل أولا لأنه معروف والبيع مبني على المشاحة؟ وانظر إذا غره في مسألة المص في استحقاق بعضه معينا هل يخير كاستحقاق كله إذا غره أوَّلًا أوْ لَا؛ لأن
معه رهنا في الجملة؟ أو يخير في مقابلة ما استحق؟ وأما غير المعين فيأتي ببدل البعض المستحق. انتهى كلام عبد الباقي. قوله: وإن كان مما لا ينقسم بيع جميعه، قال الرهوني: صحيح لكنه سكت عما يفعل بحصة الراهن من الثمن، وقد بينه في التوضيح ونصه: ثم إن بيع بمخالف الدين في الجنس والصفة بقيت حصة الراهن رهنا، وإن بيع بجنسه وصفته فقال ابن القاسم: تبقى أيضا أي بعد الطبع عليها رهنا، وقال أشهب: بل تعجل للمرتهن إذ لا فائدة في وقفها وقد تضيع ولا ينتفع بها الراهن ولا المرتهن، ثم قال: واعلم أن قول أشهب مقيد بما إذا لم يأت برهن آخر. كذا صرح به أشهب في الموازية. انتهى.
قوله: وإن كان مما لا ينقسم بيع لخ. أبو الحسن: جعل الراهن هنا يتولى البيع ولم يجعله يبطل حوز الرهن، وقال في الكراء: ولا يتولى الكراء إلا المرتهن بإذن الراهن ليلا يبطل حوز (الراهن)
(1)
، ولعل الفرق أن البيع أخفُّ إذ ليس فيه إلا الإيجاب والقبول، وأما الكراء ففيه الإيجاب والقبول وقبض الكراء وغير ذلك. انتهى.
قال الرهوني: قلت: ما قاله أبو الحسن فيه نظر ظاهر؛ لأنه يقتضي أن تولي الراهن عقد الكراء لا يوثر إلا إذا انضم إليه شيء آخر من تولِّيه قبض الكراء وغيره، وليس كذلك بل يبطل الرهن بذلك وإن لم يقبض، كما يبطل بالقبض وإن لم يعقد حسبما يعلم من كلامهم فيما مر. انتهى. والظاهر أن المعارضة منتفية من أصلها؛ إذ ليس كلام المدونة صريحا في أن الراهن يتولى ذلك وحده أو مع غيره، فيتعين حمله على أن المراد أجيبا إلى ما طلبا من المبيع ومن يتولى ذلك مسكوت عنه. واللَّه تعالى أعلم.
والقول لمدعي نفي الرهنية صورتها عند غير واحد كالحطاب والش وغيرهما شخص له على آخر دينٌ وتحت يد صاحب الدين شيء للمدين، فادعى أحدهما أن ذلك الشيء رهن في الدين، وقال الآخر: ليس برهن بل وديعة مثلا فالقول لمدعي نفي الرهنية، ويأتي عن البناني أن هذا هو الحق، وقيد اللخمي المسألة بكون العادة لم تجر بتصديق المرتهن، وصورتها عند عبد الباقي:
(1)
في الرهوني ج 5 ص 290: الرهن.
شخص بيده سلعة ادعى أنها رهن عنده في ثمن شيء باعه لمالكها أو أقرضه إياه وادعى مالكها أنها وديعة أو عارية، وأنه لم يشتر ولم يقترض فإن القول يكون لرب السلعة الذي يدعي نفي رهنيتها بيمين، سواء نفى رهنيتها عن أصل الشيء أو عن واحد من متعدد أو عن جزء من متحد، قال عبد الباقي: وإنما كان القول لمدعي نفي الرهنية؛ لأن مدعي الرهنية أثبت للثوب مثلا وصفا زائدا وهو الرهنية فعليه البينة والنافي لذلك متمسك بالأصل، فإن اتفقا على وقوع العقد وقال البائع على رهن والآخر على غيره حلفا وفسخ البيع مع قيام السلعة، فإن فاتت فللمشتري إن أشبه وحلف كما قدمه في اختلاف المتبايعين، فإن اتفقا على وقوع العقد على رهن وبيد المرتهن سلعة ادعى أنها رهن وربها يقول وديعة والرهن أخرى لم يدفعها له فالقول لمدعي الرهنية، فلا تدخل هذه في كلامه هنا كما لا يدخل فيه مدعي الشراء، كمن دفع سلعة لآخر وأخذ الدافع عن الآخر قدرا من الدراهم، ثم قال أحدهما: وقع البيع بذلك وأنكر الآخر. وقال: بل السلعة رهن في الدراهم وهي قرض فإن القول لمدعي الرهنية، لما تقدم أن القول لمنكر العقد إجماعا. انتهى.
وقال البناني: ما صَوَّرَ به عبد الباقي هنا وإن كان الحكم فيه كما ذكر، إلا أنه لا ينبغي تصوير المص به لأن فيه الاختلاف في أصل الدين، ومعلوم أن القول لمنكره وإذا انتفى الدين انتفت الرهنية تبعا له، والحق في التصوير هنا ما صور به الحطاب وهو الذي في المواق عن المدونة، وبه صور الزرقاني في تنازع المتبايعين كلام المص، وهو أنهما تنازعا في سلعة معينة وعند صاحبها دين لمن هي عنده هل هي رهن أو وديعة مع اتفاقهما على ثبوت الدين ومدعي نفي الرهنية هو رب السلعة غالبا، وقد يدعي نفيها من هي بيده ويدعي الإيداع ليسقط الضمان عن نفسه فيما يضمنه المرتهن. واللَّه تعالى أعلم.
وقول عبد الباقي في المسألة الأخيرة: كمن دفع سلعة لآخر وأخذ الدافع من الآخر قدرا من الدراهم لخ ما ذكره في هذه من أن القول لمدعي الرهنية هو الظاهر. انتهى المراد منه. وقوى الرهوني ما قاله عبد الباقي واستظهره البناني. واللَّه تعالى أعلم. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إذا كان بيد المرتهن عبدان وادعى أنهما رهن، وقال الراهن رهنتك أحدهما وأودعتك
الآخر فالقول قول الراهن؛ لأن من ادعى في سلعة بيده أو عبد أن ذلك رهن وقال ربه بل عارية أو وديعة صدق ربه مع يمينه. انتهى. وقال الحطاب هنا: علم مما تقدم أن القول قول مدعي نفي الرهنية مع يمينه، وعلم منه أيضا أنه لا فرق بين كون الشيء المختلف فيه متحدا أو متعددا، وسلم الراهن كون الرهنية في بعضها. انتهى.
وهو كالشاهد في قدر الدين يعني أنه إذا اتفق الراهن والمرتهن على الرهنية واختلفا في قدر الدين الذي به الرهن، فإن الرهن يكون كالشاهد الحقيقي في قدره باعتبار قيمته ولو مثليا، وسواء أنكر الراهن الزاند بالكلية أو أقر به وادعى أن الرهن في دونه. قال عبد الباقي: وهو باعتبار قيمته ولو مثليا وفات في ضمان المرتهن، أو كان قائما كالشاهد للراهن والمرتهن إذا اختلفا في قدر الدين؛ لأن المرتهن أخذه وثيقة بحقه ولا يتوثق إلا بمقدار دينه فأكثر، فإذا أقر الراهن أن الدين مائة دينار مثلا وأن الرهن في خمسين منها وقيمته خمسون فالقول قوله بيمينه، فيدفع الخمسين ويأخذ الرهن وتبقى الخمسون الثانية بلا رهن، لا قول المرتهن إنه رهن في المائة، وكقول الراهن في دينار والمرتهن في اثنين والرهن قائم، فإن كانت قيمته دينارا صدق الراهن أو دينارين صدق المرتهن. انتهى.
وقال البناني: وهو كالشاهد في قدر الدين أي الدين الذي رهن فيه، قال الحطاب: وسواء أنكر الراهن الزائد بالكلية أو أقر به وادعى الرهن في دونه. انتهى. وعلى هذا ينزل المثالان في الزرقاني. انتهى. وقال الحطاب: قال في المدونة: وإن قال المرتهن ارتهنته في مائة، وقال الراهن: المائة لك علي ولم أرهنك إلا بخمسين فالقول قول المرتهن إلى مبلغ قيمة الرهن، فإن لم يساو إلا خمسين فعجل الراهن خمسين قبل الأجل ليأخذ رهنه، وقال المرتهن لا أسلمه حتى آخذ المائة فللراهن أخذه إذا عجل الخمسين قبل أجلها، وتبقى الخمسون بغير رهن كما لو أنكرها لم تلزمه فكذلك لا يلزمه بقاء رهنه في الخمسين. انتهى. وقوله:"كالشاهد" إنما لم يقل وهو شاهد لأنه ليس شاهدا حقيقة، إذ لا نطق له وقد أشرت إلى ذلك في أول الحل. انظر الخرشي. ويأتي توجيه آخر عن ابن عاشر.
لا العكس قال عبد الباقي: بالرفع عطف على المبتدإ أي لا يكون الدين كالشاهد في قدر الرهن، فإن اختلفا في صفته بعد هلاكه فالقول للمرتهن كما يذكره المص قريبا، ولو ادعى صفة دون مقدار الدين لأنه غارم والغارم مصدق، وكذا إن لم يدع هلاكه وأتى برهن يساوي عشر الدين مثلا، وقال: هو الرهن، وقال الراهن: بل رهني غير هذا وهو مساو للدين، فالقول للمرتهن أيضا على المشهور، وإن لم يشبه لأنه مؤتمن بجعله بيده ولم يشهد على عينه، وقيل القول للراهن إن أشبه بناء على أن الدين شاهد في قدر الرهن، ومشى على هذا الضعيف ابن عاصم في رجزه، ولأجل كون الغارم مصدقا أجاب انجن القاسم من سأله عن رجل ادعى على آخر باثني عشر دينارا وثبت عليه ذلك ببينة أو إقراره، ثم أقر المدعي أنه قبض منها تسعة وأقام المطلوب بينة أنه قضاه ثلاثة، فقال الطالب: إنها من التسعة وخالفه المطلوب، فإن القول قول المطلوب إنها من غير التسعة ويبرأ من الاثني عشر. انتهى.
قوله: فالقول للمرتهن أيضا على المشهور لخ، قال البناني: هذا قول أشهب قائلا: وإن لم يساو الرهن إلا درهما واحدا، وقال عيسى: نحوه عن ابن القاسم وبه قال ابن حبيب وابن عبد الحكم. ابن عبد السلام: وهو المشهور وعللَّه القاضي في المعونة بأنه مؤتمن عليه ولم يتوثق منه بإشهاد على عينه، وعللَّه ابن يونس بأنه بمنزلة ما لو قال: لم ترهني شيئا وهو مصدق حينئذ، بمعنى أنه لو أراد الخديعة لقال لم ترهني لتمكنه من ذلك؛ إذ إقراره بالدين لا يستلزم الإقرار بالرهن بخلاف العكس، وهذا العنى كقول المص:"كدعواه رد ما لم يضمن" لأن ما لا يضمنه مصدق في دعوى تلفه فيصدق في دعوى رده بخلاف العكس. واللَّه أعلم. ومقابل هذا القول لأصبغ واختاره ابن رشد. انتهى.
إلى قيمته راجع إلى قوله: "وهو كالشاهد" يعني أن الرهن كالشاهد في قدر الدين إلى قدر قيمته لا فيما وراء قيمته، فإذا قال الراهن الدين عشرة وقال المرتهن الدين عشرون وقيمة الرهن خمسة عشر، فإنه بمنزلة الشاهد أن الدين خمسة عشر.
فرع:
إذا قام للمرتهن شاهد بقدر الدين هل يضم للرهن ويسقط اليمين عن المرتهن أو لا ولابد من اليمين مع الشاهد؟ نقل بعضهم عن المتيطى أنه لا يضم له، وأنه لابد من اليمين لأن الرهن ليس
شاهدا حقيقيا وهو ظاهر. قاله البناني. قوله: نقل بعضهم عن المتيطى لخ، قال الرهوني: ما نقله هذا البعض عن المتيطى به جزم ابن عاشر وساقه فقها مسلما، بل كلامه يدل على أنه متفق عليه لأنه ساقه على وجه الاستدلال، ونصه: وأقول: من جملة ما يتبين به أنه ليس بشاهد بل كالشاهد، أنه لو قام للمرتهن بمبلغ دينه شاهد لم يقم الرهن مقام الشاهد الثاني حتى يكفي عن اليمين. انتهى منه بلفظه. انتهى.
ولو بيد أمين مبالغة في قوله: "وهو كالشاهد" يعني أنه إذا اتفق الراهن والمرتهن على الرهنية واختلفا في قدر الدين، فإن الرهن يكون شاهدا في قدر الدين ولو كان الرهن بيد أمين لأنه حائز للمرتهن، وهذا القول لمحمد، وفي التوضيح أنه صوبه أبو محمد، وإلى تصويب أبي محمد أشار بقوله: على الأصح، وقال أصبغ: لا يكون شاهدا إذا كان بيد أمين، قال أبو محمد: وقول محمد بن المواز أصوب لأنه قد أخذه توثقة لحقه، فلا فرق بين أن يكون تحت يد المرتهن وأن يكون تحت يد الأجنبي. قاله الشارح. ووجه قول أصبغ أن الشاهد يكون من قبل رب الحق، وإذا كان بيد أمين لم يتمحض كونه للمرتهن فلم يعتبر، أي والمرتهن هو رب الحق ويجاب بأن الأمين حائز للمرتهن. واللَّه تعالى أعلم.
ما لم يفت في ضمان الراهن يعني أن الرهن إنما يكون كالشاهد في قدر الدين حيث كان قائما أو فات في ضمان المرتهن بأن كان مما يغاب عليه وهو بيد المرتهن، ولم تقم بينة على هلاكه، فاشتمل منطوق المص على صورتين ومفهومه إن فات في ضمان الراهن، فإن كان مما لا يغاب عليه أو بيد أمين أو قامت على هلاكه بينة وهو مما يغاب عليه بيد المرتهن لم يكن شاهدا في قدر الدين، وإنما كان شاهدا إذا فات في ضمان المرتهن لغرمه قيمته وهي تقوم مقامه، وإذا فات في ضمان الراهن لم يضمن المرتهن قيمته فلم يوجد ما يقوم مقامه فهو كدين بلا رهن فالقول قول المدين فيه، وأجرة القوم على المرتهن فيما يظهر. قاله عبد الباقي. وقوله:"ما لم يفت" ما مصدرية ظرفية معمولة لما فهم من قوله: "كالشاهد" أي يشهد في قدر الدين مدة عدم فواته في ضمان الراهن. قاله الخرشي. واللَّه تعالى أعلم. قال عبد الباقي: ورتب على كونه كالشاهد أحوالا ثلاثة للرهن وهي: إما شهادته للمرتهن أو للراهن أو لا يشهد لواحد منهما؛ لأن الراهن إذا قال
الدين عشرة وقال المرتهن عشرون فقيمته إما عشرة أو عشرون أو خمسة عشر. فأشار إلى الأولى. بقوله: وحلف مرتهنه وأخذه يعني أنه إذا قال المرتهن الدين عشرون، وقال الراهن عشرة وقيمة الرهن عشرون، فإن الرهن حينئذ شهد بما قال المرتهن فيحلف المرتهن وحده على المشهور على ما ادعى من العشرين، ويأخذ الرهن الذي شهد له بشرطٍ أشار إليه بقوله: إن لم يفْتَكَّه أي الراهن الرهن بالعشرين، وأما إن افتكه بأن دفع له العشرين فإنه يأخذ رهنه، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وحلف مرتهنه الذي شهد الرهن بقدر دينه وأخذه في دينه لثبوته حينئذ بشاهد ويمين على المشهور؛ لأن المدعِيَ إذا قام له شاهد وحلف معه لم يحلف المدعى عليه معه، ومقابله لابد من يمين الراهن إذا طلبها المرتهن ليسقط عن نفسه كلفة بيع الرهن في الدين، ولأن المرتهن يخشى من استحقاق الرهن أو ظهور عيب به، وصححه عياض فإن نكل حلف الراهن وعمل بقوله، فإن نكل عمل بقول المرتهن إن لم يفتكه الراهن بما ادعاه المرتهن وشهد له به الرهن، وظاهر قوله أخذه سواء ساوت قيمته ما ادعاد أو زادت وهو كذلك، وإنما أخذه مع زيادة قيمته على دعواه لأن ربه لما لم يفتكه فقد سلمه له فيما ادعاه، فإن استحق من يده في هذه وفي المسألة الثالثة فالظاهر رجوعه على الراهن بقيمته. انتهى. كلام عبد الباقي.
قوله: فإن استحق من يده في هذه لخ فيه نظر، بل إنما يرجع في الاستحقاق بقيمته إذا كانت قدر ما ادعاه أو أقل، وأما إن كانت أكثر مما ادعاه فإنما يرجع بما ادعاه فقط لأنه هو الذي خرج من يده، خلاف ما يوهمه الزرقاني من الرجوع بالقيمة في هذه أيضا تأمله. انتهى.
وأشار إلى الحَالَةِ الثَّانيَة بقوله: فإن زاد حلف الراهن يعني أنه إذا زاد ما ادعاه المرتهن على قيمة الرهن ووافقت قيمته أي الرهن دعوى الراهن، بأن قال الراهن: الدين عشرة مثلا، وقال المرتهن: عشرون وقيمة الرهن عشرة، فإن الراهن يحلف على أن الدين عشرة ويدفع ما أقر به ويأخذ رهنه، فإن نكل حلف المرتهن وعمل بقوله، فإن نكل أيضا عمل بقول الراهن. فبان من هذا ومما قبله أنه يعمل بقول المرتهن الذي شهد له الرهن فيما إذا حلف أو نكلا، ويعمل بقول الراهن إذا نكل المرتهن وحلف هو، وأنه يعمل بقول الراهن الذي شهد له الرهن فيما إذا حلف أو نكلا، فإن نكل وحلف المرتهن عمل بقوله. واللَّه تعالى أعلم.
وأشار إلى الحالة الثَّالِثة بقوله: وإن نقص حلفا وأخذه إن لم يفتكه بقيمته يعني أنه إذا نقص ما ادعاه الراهن عن قيمة الرهن ونقصت القيمة للرهن عن دعوى المرتهن، بأن قال: هو رهن عندي على عشرين، وقال: الراهن على عشرة وقيمة الرهن خمسة عشر فإنهما يحلفان، ويأخذ المرتهن الرهن إن لم يفتكه الراهن بقيمته، فإن افتكه بأن دفع قيمته للمرتهن أخذ رهنه، وكذا الحكم لو نكلا ويقضى للحالف على الناكل، فقوله:"حلفا" أي ويبدأ المرتهن بالحلف، فإذا حلف المرتهن ونكل الراهن لزمه ما ادعاه المرتهن وهو العشرون في المثال المذكور، ولو نكل المرتهن وحلف الراهن لم يلزم الراهن إلا ما حلف عليه وهو في المثال المذكور عشرة. قاله الخرشي. وقوله:"حلفا" أي حلف كل على دعواه. عياض: ولا خلاف في ذلك. قاله الخرشي. وقوله: "وأخذه إن لم يفتكه" أي يفتك الراهن الرهن بقيمته وهي الخمسة عشر في الفرض المذكور هذا قول مالك وابن نافع وابن المواز، ولابن القاسم: ليس له أخذه إلا بما حلف عليه المرتهن. وفي الموطإ: يحلف المرتهن على ما ادعى وهو العشرون، وخيره ابن المواز بين الحلف على ذلك أو على قيمة الرهن وهو الخمسة عشر.
ولعبد الحق عن بعض شيوخه: لا يحلف إلا على قيمته كما لو ادعى بعشرين وأقام شاهدا بخمسة عشر فإنه يحلف على شهادة الشاهد قاله الخرشي. وقد مر عنه أن معنى قوله: "حلفا" أي حلف كل على دعواه وأنه لا خلاف في ذلك وهو يعارض هذا، ويمكن أن يقال: إن قوله ولا خلاف في ذلك راجع لقوله: "حلفا" دون متعلقه ولا معارضة حينئذ. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: "إن لم يفتكه" أي بقيمته فقط، وإنما اعتبر هنا فكه بها فقط لدعوى المرتهن الزيادة على قيمته وأخذه فيما مر بما ادعاه المرتهن، ولو زادت قيمته لشهادة الرهن له ولذا حذفها المص هناك وذكرها أي القيمة هنا. قال عبد الباقي: وقوله: "حلفا" أي ويبدأ المرتهن لأن الرهن كالشاهد إلى قيمته ويحلف على جميع ما ادعاه، وإن أخذ قيمة الرهن فقط، بخلاف من ادعى عشرين وأقام شاهدا على خمسة عشر فإنه يحلف على ما شهد به الشاهد فقط.
والفرق أن المرتهن يدعي أن الرهن في مقابلة جميع ما يدعيه، وكذا يحلف على ما شهد به الشاهد فيما إذا ادعى عشرين وشهد له بأزيد، لكن لا يأخذ إلا ما ادعى به فقط كما يفيده قوله
في الفلس: "وإن نكل حلف كل كهو وأخذ حصته" ثم إذا حلف المرتهن على ما ادعاه ووجد شاهدا بما ادعى وأخذ الزائد عن الرهن، فالظاهر أنه يكتفي بيمينه الأولى ولا يخالف هذا قوله الآتي:"وإن حلف المطلوب ثم أتى بآخر فلا ضم وفي حلفه معه وتحليف المطلوب إن لم يحلف قولان"؛ لأنه حصل في هذه حلف المطلوب لرد شهادة الشاهد. انتهى كلام عبد الباقي.
وإن اختلفا في قيمة تالف تواصفاه ثم قوم يعني أنه إذا اختلف الراهن والمرتهن في قيمة رهن تالف عند المرتهن لتشهد على الدين أو ليغرمها المرتهن حيث توجه عليه الغرم، فإنهما يتواصفان هذا الرهن التالف أي يصفه كل منهما، ثم إن اتفقا على صفة قُوِّمَ من أهل الخبرة وقضي بقولهم، واختلف هل يكفي الواحد بناء على أنه خبر أو لابد من اثنين؟ بناء على أنه شاهد، قيل: وهو المعتمد. وقوله فيما يأتي: "لا مقوم" هو فيما بين الشركاء بإرث أو غيره. قاله عبد الباقي.
فإن اختلفا فالقول للمرتهن يعني أن الراهن والمرتهن إذا لم يتفقا على صفة الرهن التالف بل اختلفا فيها، فإن القول للمرتهن بيمينه ولو ادعى شيئا يسيرا لأنه غارم، وقال أشهب: إلا أن يتبين كذبه لقلة ماذكره جدا. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي أي وإذا اختلفا أي الراهن والمرتهن في الدين أو في صفة الرهن كما قاله الطخيخي. فالقول قول المرتهن، ولو ادعى شيئا يسيرا لخ ما ذكره عبد الباقي، وزاد الخرشي: وهذا الحمل أولى لأنه نص في المدونة عليهما معا. انتهى.
فإن تجاهلا فالرهن بما فيه يعني أنه إذا لم يتفق الراهن والمرتهن على صفة الرهن التالف ولا اختلفا فيها بل تجاهلاه، بأن قال: كل لا أعلم الآن قيمته ولا صفته فالرهن يكون في الدين أي لا يطالب الراهن المرتهن بقيمته ولا يطالبه هو المرتهن بدينه، أي فلا رجوع لأحدهما على الآخر بشيء لأن كلا منهما لا يُدرَى هل يفضل له عند صاحبه شيء أم لا. قال عبد الباقي: وانظر هل لابد من أيمانهما أم لا؟ كتجاهل التبايعين. قال بعض: لم أو فيه نصا، ومَفْهُومُ تجاهلا أنه إن جهله أحدهما وعلمه الآخر يحلف العالم على ما ادعى، فإن نكل فالرهن بما فيه.
ولما ذكر أنه كالشاهد في قدر الدين أي باعتبار قيمته كما مر ذكر وقت اعتبارها بقوله: واعتبرت قيمته يوم الحكم إن بقي يعني أنه إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين فإن الرهن يكون شاهدا بينهما، فأيهما وافقت قيمته ما ادعاه كان شاهدا له، وتعتبر تلك القيمة يوم الحكم
بشهادته حيث كان الرهن باقيا لا يوم الارتهان أي القبض هذا قول ابن القاسم؛ لأن الشاهد إنما تعتبر شهادته يوم الحكم بها، فكذلك الرهن إذا كانت قيمته يوم الارتهان خمسة مثلا ويوم الحكم عشرة، وقال المرتهن: هو على عَشَرَةٍ، وقال الراهن: على خَمْسَةٍ فإن القول قول المرتهن. وقال اللخمي: إن كانت قيمته يوم قبض عشرة ويوم الحكم عشرون كان القول قول المرتهن إنه عشرة.
وأما إن تلف فإنه اختلف هل تعتبر قيمته يوم التلف وهو لابن القاسم؟ أو تعتبر قيمته يوم القبض وهو لابن القاسم أيضا؟ أو تعتبر قيمته يوم الرهن وهو لابن القاسم أيضا؟ في ذلك أقوال: ثلاثة على ما قال المص وكلها لابن القاسم، والحاصل أن بعض الأشياخ ذهب إلى أن القولين الأخيرين خلف وعليه المص هنا، وذهب بعضهم إلى أنهما وفاق وعليه فليس في المسألة إلا قولان.
وإن اختلفا في مقبوض فقال الراهن عن دين الرهن وزع بعد حلفهما يعني أنه إذا كان له عليه عشرون دينارا مثلا فرهن له على عشرة منها رهنا ثم قضاه عشرة من العشرين، فقال الراهن: هذه العشرة عن دين الرهن، وقال المرتهن: بل هي عن العشرة التي لا رهن لها فالحكم في هذه المسألة أنهما يتحالفان وتوزع العشرة أي تقسم بين الدينين على قدرهما، ففي هذا المثال تكون العشرة الباقية نصفها بلا رهن ونصفها برهن ولو كان الدين ثلاثين، ورهنه في عشرين منها رهنا وعشرة منها لا رهن لها فقضاه تسعة واختلفا في ذلك، فإنه يكون منها ستة لدين الرهن وثلاثة للدين الذي لا رهن له وهو عشرة.
وقوله: "وزع" اعلم أن الحكم فيما إذا اختلفا عند القضاء التوزيع كما إذا اختلفا بعد القضاء، إلا أنه لا يمين إذا اختلفا عند القضاء، وجعل عبد الباقي المص شاملا للأمرين، فإنه قال: وإن اختلفا بعد القضاء أو عنده في مغبوض، فقال الراهن: عن دين الرهن، وقال المرتهن: عن الدين الذي ليس برهن، وكلا الدينين ثابث أحدهما برهن والآخر بدونه، وزع المقبوض على قدر الدينين بعد حلفهما إن اختلفا بعد القضاء فيصير الدين الباقي نصفه برهن ونصفه بلا رهن، فإن اختلفا عنده وزع أيضا لكن دون يمينهما فيعمم في قوله:"وزع" ويخص قوله بعد حلفهما باختلافهما بعد القضاء ونكولهما كحلفهما ويقضى للحالف على الناكل.
وظاهر قوله: "وزع" لخ حل الدينان أو أحدهما أو لم يحلا استوى أجلهما أو اختلف تقارب أو تباعد وهو كذلك على المذهب، وتفصيل اللخمي ضعيف وهو أن محل التوزيع إذا حلا أو كانا مؤجلين واتفق أجلهما أو تقارب فإن تباعد فالقول لمن ادعى القريب، وكذا إذا حل أحدهما فالقول لمدعي القضاء عنه. انتهى. قوله: وتفصيل اللخمي ضعيف لخ، قال البناني: فيه نظر فإن ظاهر التوضيح وابن عرفة في نقلهما كلام اللخمي أنه المذهب، ونص التوضيح: وقيد اللخمي ما في المدونة بما إذا حل الدينان أو لم يحلا لخ، ونص ابن عرفة: اللخمي: إن حل أحدهما فقط فالقول قول من ادعى القضاء عنه، وإن لم يحلا وأجلهما واحد أو متقارب قسمت بينهما هذا ظاهر المذهب. انتهى.
وقال الرهوني: قول الزرقاني: وهو كذلك على المذهب وتفصيل اللخمي ضعيف جزم هنا بضعف تقييد اللخمي، وقال عند قوله: كالحمالة ما نصه: وقيد اللخمي الصورتين بما إذا حل أو اتحد أجلهما لخ، فظاهره أن تقييد اللخمي في الحمالة ليس بضعيف ولم أو له سلفا في هذا، بل كلام أهل المذهب يفيد أن الرهن والحمالة سواء، فإن كان التقييد هو المذهب ففيهما وإن كان ضعيفا ففيهما، ولم أو من مرح بما قاله الزرقاني من ضعف تقييد اللخمي إلا قول أبي علي، وحكى في الشامل كلام اللخمي بقيل. انتهى.
وقد ساق الشارح في شرحه كلام اللخمي على وجه يفيد أنه المذهب، وكذلك المص في التوضيح وابن عرفة والتتائي وغيرهم ممن وقفنا عليه، وقد جزم به علي الأجهوري وقرر به كلام المص، ثم أتى الرهوني بعد هذا بما لا مزيد عليه من تقوية ما للخمي، ثم قال بعد أن نقل عن ابن يونس عن ابن المواز ما هو مريح فيما قال اللخمي في الحمالة: فإنه قال: والقيد في الحمالة منصوص للمتقدمين وإن كان مَن بَعدَ اللخمي ممن وقفنا على كلامهم تواطئوا على عزوه للخمي، ففي ابن يونس بعد ذكر كلام المدونة في الحمالة ما نصه: ابن المواز: إنما تصح المسألة في القسمة إذا لم يكن حل من ذلك شيء أو حلا جميعا، وأما إن حل بعض دون بعض فالقول لمن ادعى أنه من الحق الحال، كان الدافعَ أو القابض مع يمينه بلا اختلاف من ابن القاسم وأشهب وعبد الملك.
انتهى. منه بلفظه. فانظر إغفال الحفاظ المحققين هذا النص الصريح وتواطأهم على عزو التقييد للخمي.
نعم انفرد اللخمي بتقييد المؤجلين بأن يبعد ما بين الأجلين وليس ذلك في النقل السابق، بل ظاهر النص الإطلاق فَتحصل أن التقييد غير
(1)
ما انفرد به اللخمي هو المذهب وأنه لا فرق بين المسألتين، وأن كلام الزرقاني ساقط دون مين. واللَّه تعالى أعلم انتهى.
وقال قبل هذا إن مسألتي الرهن والكفالة سواء، فما قيل في إحداهما يقال في الأخرى كما أفاده كلام ابن عرفة وغيره، وصرح بذلك أبو الوليد ابن رشد وقبله العلامة ابن عبد السلام وغيره، فإن ابن عبد السلام نقل كلام المدونة في رهونها (فكفالتها)
(2)
، وقال عقبه ما نصه: قال ابن رشد: الكلام في المسألتين واحد. انتهى. ومثله في التوضيح والقيد في الحمالة منصوص عليه إلى آخر ما مر. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيه:
قال البناني عند قوله "وزع بعد حلفهما" ما نصه: ابن يونس: يتحالفان إن ادعيا البيان. الحطاب: ظاهره أن التحالف إنما هو مع البيان وبه صرح الشيخ أبو الحسن. انتهى. ابن عرفة: ابن رشد: ولو اختلفا عند القضاء أَيُّ الحقَينِ يبدأ به لجرى على هذا الاختلاف إلا أنه لا يمين في شيء من ذلك. انتهى. ثم قال: ابن عرفة: ولو ادعى أحدهما بيان الدفوع عنه والآخر إبهامه، فنقل محمد عن أشهب وعبد الملك أن القول لمدعي الإبهام قائلا: هذا خلاف قول ابن القاسم، الصقلي: على قوله يكون لمدعي البيان ثلاثة أرباع الحق نصفه بالقسم بدعوى الإبهام ويتنازعان في النصف الآخر فيشطر. انتهى.
قوله: على هذا الاختلاف قال ابن عرفة: ولو ادعى من اقتضى ممن عليه دينان أحدهما برهن أو حميل فيما اقتضاه أنه العاري عنهما وكذبه الدافع ولا بينة، ففي قسم المقبوض عليهما بعد حلفهما وقبول قول القابض، ثالثها: قبول قول الدافع لرهونها وكفالتها في حقين أحدهما قرض
(1)
لفظ الرهوني ج 5 ص 234: فتحصل من هذا التقييد أن ما انفرد به اللخمي لخ.
(2)
في الرهوني ج 5 ص 293: وكفالتها.
والآخر كفالة مع سماع ابن القاسم وابن رشد عن الغير في كفالتها مع سماع أبي زيد ابن القاسم وابن كنانة مع رواية محمد بن صدقة.
كالحمالة قال عبد الباقي: يحتمل صورتين: إحداهما مدين بمائتين إحْدَاهُمَا عليه أصالة والأخرى حمالة، ثَانِيَتُهُمَا مدين بمائتين أصالة لكن إحداهما ضمنة فيها شخص والأخرى لا، ففي الصورة الأولى ادعى القابض أن المقبوضة هي التي بحمالة والدافع أنها هي التي بالأصالة، وفي الصورة الثانية ادعى القابض أن المقبوضة هي التي بغير حمالة والدافع أنها هي التي بالحمالة، وزع بينهما بعد حلفهما، وقيد اللخمي الصورتين بما إذا حل الدينان أو اتحد أجلهما أو تقارب، وإن حل أحدهما فالقول لمدعي القضاء عنه، وقيد ابن يونس الصورة الأولى بما إذا أيسر الغريم والكفيل. انتهى. كلام عبد الباقي.
قوله: وقيد ابن يونس الصورة الأولى الخ، قال الرهوني: ما نسبه لابن يونس هو كذلك فيه، لكن قال ابن يونس في آخر كلامه: وجميع هذا التقسيم المذكور إنما يصح على قول مالك الذي أخذ به ابن القاسم أنَّ الكفيل لا يغرم إلا في عدم الغريم، فأما على قوله: إن للطالب أن يأخذ أيهما شاء فالقول قول الطالب في جميع الوجوه. انتهى. منه بلفظه ونقله ابن عرفة مختصرا وقد علمت أن العمل منسحب بالقول الثاني فلا فائدة للتقييد إذا، وما كان ينبغي للزرقاني أن يهمل كلام ابن يونس هذا. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
وقال الخرشي: ومحصل تقييد ابن يونس في الثانية أن محل القسم فيها إذا كان من عليه الدين معسرا حين الدفع موسرا الآن، أما لو كان موسرا فيهما أو موسرا حين الدفع معسرا الآن، فالقول قول الدافع لتوجه الغرم على الدافع الآن ولو كان معسرا فيهما قبل قول الدافع. انتهى المراد منه. واللَّه تعالى أعلم. وقال الخرشي: ومثل ما ذكره المؤلف ما إذا كان عليه دين بيمين على أن يوفيه في شهر كذا، ودين بلا يمين ثم بعد قضاء أحدهما قال هو عن دين اليمين، وقال الآخر هو عن دين غير اليمين، فإنه يقسم بينهما نصفه عن دين اليمين ونصفه عن دين غيرها.
مسألة:
قال الخرشي: ومن قال لرجل أقرضتك كذا وكذا، وقال الرجل بل أودعتنيه وتلف صدق رب المال، وإن قال غصبته مني أو سرقته مني فهو مودع لأنه من معنى التلصص فلا يصدق ولا
يضمن له الرجل شيئا، ومن أخذ من رجل مالا فقال الرجل إنما قضيتك من دينك الذي لك علي أو رددته إليك من القراض الذي لك عندي، وقال الآخر بل أودعته وضاع مني صدق الدافع مع يمينه، قال الشيخ أبو الحسن: وهذا أشبه شيء عندي بمسألة الابن يكون له على أبيه دين فينفق عليه الأب ثم يموت فيقول الابن إنما أنفق علي من ماله تطوعا أي فالقول قوك ورثة الأب. انظر ما في تضمين الصناع.
ونزلت من هذا المعنى مسألة وهي أن رجلا شور ابنته وكان لها عليه دين، فمات الأب وطلبت دينها فقالت الورثة قد شورك به، وقالت إنما شورني من ماله فكان الجواب أن القول قول الورثة. انتهى المراد منه.
وقال في نوازل عيسى: وسئل عن رجل عليه وعلى ابنه لآخر شيء لا يعرف بعينه إذا غيب عليه ودفع الأب ما عليه إلى ابنه ليدفعه إلى الغريم، فقال له: هذا مالك على أبي ثم ادعى الغريم أن ما قبضه قضاء عن الابن، وأنكر ما قال الابن قال القول قول الغريم مع يمينه ولا ينفعه الإتيان ببينة على أمر الأب له بذلك، ولابد أن يأتي ببينة تشهد على أنه قال هذا ما على أبي. انظر الحطاب.
ولما أنهى الكلام على متعلق الرهن وكان من متعلقه الحجر الخاص على الراهن ومنعه التصرف في الرهن إلا بإذن المرتهن، شرع في الكلام على الحجر العام وهو إحاطة الدين والفلس فقال:
باب: في التفليس.
عياض: التفليس العدم، وأصله من الفلوس أي أنه صار صاحب فلوس بعد أن كان صاحب ذهب وفضة، ثم استعمل في كلِّ مَن عدمَ المال، وكذا يقال أفلس الرجل بفتح اللام فهو مفلس، وورد في الخبر الصحيح (نفس المؤمن مرهونة بدينه)
(1)
أي محبوسة عن مقامها الكريم في البرزخ فلا تكون منبسطة فيه مع الأرواح النبسطة فيه ومحبوسة أيضا بمعنى معوقة عن دخول الجنة بمطالبة رب الدين له به حتى يرضيه اللَّه من عنده أو يعوضه بقدر دينه من حسناته إن وجدت ولو في الصوم، (كما في خبر مسلم) وقد سها من استثناه زاعما أنه معنى:(الصومُ لي)
(2)
، فإن لم توجد طرح عليه من سيئاته، وهذا كله إن أثم بتأخيره ولم يخلف وفاء كما للهيثمي على المنهاج والى شكاة، فإن لم يحل أو خلف وفاء لم يحبس بل في الحطاب أنه لا يحبس أيضا إن لم يخلف وفاء لوجوب قضاء دينه على السلطان حيث تداينه في حق واجب. انتهى.
وكذا في مكروه أو مباح كما هو الظاهر وينبغي أو في معصية تاب منها ومات عاجزا عن الوفاء وعلم السلطان بتوبته، لا إن لم يتب منها قبل موته فلا يجب عليه قضاؤه كما يفيده كلام بعضهم وإن اقتضى عموم كلام الذخيرة، كما في التتائي عند قوله: أو كل ما بيده وجوب القضاء أيضا، حيث ذكر أن أحاديث الحبس عن الجنة منسوخة بوجوب القضاء على السلطان. قاله عبد الباقي. قوله: ورد في الخبر الصحيح لخ هذا الحديث صححه عبد الحق بسكوته عليه، وقوله: بقدر دينه من حسناته، قال العارف باللَّه سيدي عبد الرحمن الفاسي: جاء أن الإيمان لا يؤخذ في التباعات بخلاف غيره من سائر الأعمال الصالحات كما أنه لا يؤخذ من المفلس ما هو ضروري له ولعياله من قوت وكسوة معتادة، وكذلك ما هو شرط في الإيمان من محبة اللَّه والرسول والقدر الضروري من ذلك لا يؤخذ في التباعات جزما. انتهى.
(1)
نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه. سنن الترمذي، كتاب الجنائز، رقم الحديث 1078، سنن ابن ماجه، كتاب الصدقات، رقم الحديث 2413.
(2)
صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، رقم الحديث 2581.
وقوله: وكذا في مكروه أو مباح لخ هذا هو الذي يفيده كلام المقدمات، ونقله الحطاب ونصه: ذكر في المقدمات عن النبي صلى الله عليه وسلم آثارا في التشديد في الدين، ثم قال: فيحتمل أن تكون هذه الآثار إنما وردت فيمن تداين في سرف أو فساد غير مباح أو في من تداين وهو يعلم أن ذمته لا تفي بما تداين به؛ لأنه متى فعل ذلك فقد قصد استهلاك أموال الناس، وقد قيل إن هذا كله كان من النبي صلى الله عليه وسلم في الدين قبل فرض الزكاة ونزول آية الفيء والخمس، ثم نقل الحطاب قول الذخيرة: الأحاديث الواردة في الحبس عن الجنة في الدَّيْنِ منسوخة بما جعله اللَّه من قضاء الدَّيْن على السلطان، وكان ذلك قبل أن تفتح الفتوحات، فقول ابن رشد: وقد قيل إن هذا كله لخ يقتضي أن القضاء على السلطان في الجميع على القول بالنسخ وهو ظاهر كلام الذخيرة، لكن يستثنى من ذلك ما لم يكن مشهودا به عليه ومات ولم يوص به فهو المؤاخذ به؛ لأن السلطان لا يقضيه. انتهى. قاله البناني.
فوائد:
الأولى: قال في المقدمات في كتاب المديان قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} ، وقال تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فدل ذلك على جواز التداين وذلك إذا تداين في غير سرف ولا فساد، وهو يرى أن ذمته تفي بالدين، ثم قال: وقد استعاذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الدين فقال: (اللَّهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)
(1)
، وقال عمر بن الخطاب:(إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب)
(2)
. انتهى. وحرب بفتح المراء والحاء. قاله في النهاية. وروى بسكون الراء أي نزاع.
الثانية: قال الأبي: كانت زبيدة بنت أبي جعفر المنصور زوجة الرشيد وأم ولده الأمين كثيرة الصدقة وفعل الجميل من بناء القناطر والتجهيز في سبيل اللَّه تعالى، قال منصور بن عمار: كنت نائما في الحرم فإذا امرأة تعشي متبخترة، فقلت: يا هذي أما تتقين اللَّه في هذا المحل تمشين هذه المشية من أنت؟ قالت: زبيدة، قال: زوجة الرشيد وابنة الخلائف؟ فقالت: تعس الخلائف يا منصور، ولقد وددت أن أكون راعية، فقلت: ولم وكنت تتصدقين وتفعلين الجميل؟ فقالت:
(1)
صحيح البخاري، كتاب الأذان، رقم الحديث 832 وصحيح مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث 589.
(2)
الموطأ، كتاب الوصية، رقم الحديث 8.
اضمحل ذلك كله، رأيت الحبة تطير من ميزاني إلى ميزان صاحبها لولا أن اللَّه تعالى نفعني بخصلتين، قلت: وما هما؟ قالت: ذبح الأمين ولدي في حجري فصبرت فأثابني اللَّه، وكنت مرة أطوف ويدي في يد الرشيد فإذا امرأة تسعى على أيتام لها فنزعت خاتمي من إصبعي وكان من ميراثي من آباءي وكان فيه أربعون ألفا فتصدقت به على أولئك الأيتام فأثابني اللَّه، فلم أو عند اللَّه أنفع من الصبر على موت الأولاد ومن الصدقة على الأيتام.
الثالثة: قال صلى الله عليه وسلم: (من ترك دينا أو ضياعا فعلي وإلي)
(1)
، أي فعلي قضاء دينه وإلي ضياعه أي علي كفاية عياله.
الرابعة: قال في المقدمات: وقد كان الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام بيع المديان فيما عليه من المدين من الاقتداء بالشرائع قبله فيما لم ينزل عليه فيه شيء، وذكر قِصَصًا في ذلك ثم قال: ثم نسخ اللَّه ذلك من حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . قاله الحطاب.
للغريم منع من أحاط الدبن يماله من تبرعه يعني أن الغريم وهو هنا من له المدين له أن يمنع المدين من التبرع أي العطاء بغير عوض حديث أحاط الدين بمال المدين بأن زاد الدين على مال المدين أو ساواه: ويطلق الغريم أيضا على المدين وهو فعيل بمعنى فاعل أي غارم، وقوله:"للغريم" واحدا أو متعددا، وقوله:"أحاط المدين" أي الحال أو المؤجل كما في المدونة، وسواء كان لازما أو آئلا للزوم كضمانه. وقوله:"من تبرعه" قال عبد الباقي: بعتق أو هبة أو صدقة أو حبس أو تحمل بما يحيط، وكذا لا يجوز له هو ذلك بغير إذنهم فلهم رده إذا لم يعلموا بذلك إلا حين قيامهم. قال أحمد عن بعض شيوخه: الظاهر شموله أي التبرع للعارية لما يحصل في المعار من النقص وعدم شموله للقرض. انتهى.
وخرج بتبرعه تصرفه المالي كبيعه وشرائه فلا يمنعه قيامهم وكنفقة نفسه وابنه وأبيه وما جرت العادة به من كسرة لسائل ونفقة عيدين دون سرف في الجميع وأضحية؛ لأنها سنة فليست من
(1)
صحيح مسلم، كتاب الجمعة، رقم الحديث 867.
التبرع. وقول ابن ناجي عن أبي مهدي: يؤخذ من المدونة أن من أحاط الدين بماله لا يمنع من الضحية يُوهِمُ منعه منها مع قيامهم وليس كذلك، وظاهر قوله:"للغريم منع" أن له ذلك بلا حاكم وهو الذي في ابن عرفة وغيره، ورَدُّ صاحب التكملة ذلك -وتبعه الشيخ سالم بقول المازري: اتفق مالك والشافعي على أنه للحاكم فقط. انتهى.- نقلٌ له في غير محله. انتهى.
قوله: أو تحمل بما يحيط، قال البناني: الصواب إسقاط قوله بما يحيط لأن من زاد دينه على ماله أو ساواه يعني تحمله مطلقا، ومن نقص دينه عن ماله يعني تحمله بأكثر مما يفضل من ماله عن دينه. قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل عليه دين محيط بماله أو بعضة فتحمل بحمالة وهو يعلم أنه مستغرق: إنه لا يسعه ذلك فيما بينه وبين اللَّه. قال: والحمالة أيضا عند مالك مفسوخة لا تجوز ورءاها من ناحية الصدقة، قال ابن رشد: قوله في الذي لا يحيط المدين إلا ببعض ماله إن حمالته لا تجوز، معناه إذا كانت حمالته التي تحمل بها لا يحملها ما فضل من ماله عن المدين الذي عليه، وأما إن كان يحملها ما فضل من ماله بعد ما عليه من المدين فهي جائزة في الحكم سائغة ممن فعلها. انتهى.
وهو صريح في منع كل تبرع ينقص ماله عما عليه من المدين. انتهى. وقوله: وخرج بتبرعه تصرفه المالي كبيعه وشرائه لخ فيه نظر، وصوابه فلا تمنعه إحاطة المدين، وأما قيامهم فقد مر عن ابن رشد أنه هو التفليس الأعم وأنه يعنيمن التصرف في المال بالتبرع وبالبيع والشراء ولو بغير محاباة، والذي غر الزرقاني وغيره عبارة ابن عرفة المتقدمة وقد مر ما فيها. انتهى. وسيأتي هذا الذي أشار إليه. وقوله: وعدم شموله للقرض فيه نظر، بل يمنع من القرض أيضا كغيره من التبرعات لما يأتي من التعليل عند قوله: وإعطاء غيره قبل أجله. قاله البناني. قوله: وكذا لا يجوز له هو ذلك لخ أشار به إلى البحث فيما تقتضيه عبارة المص من أن له ذلك إن لم يمنعه الغريم، ولا شك أنه يمتنع ذلك عليه إن كان المدين حالا أو مؤجلا، ولا يرجو حصول مثل ما تبرع به عند حلول المدين من غلة أو نحو ذلك.
وانظر إذا فعل هل يأثم من جهة ويؤجر من جهة نظرا لقاعدة الواحد بالشخص له جهتان وهو الظاهر عندي وهذا فيما إذا كانت الديون لمعينين، وأما مستغرق الذمة بالتباعة لغير معينين فإن
كلام الأبي يفيد أنه لا يثاب، فإنه قال على قوله صلى الله عليه وسلم:(لا يقبل اللَّه صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)
(1)
ما نصه: ومن معنى الغلول الصدقة من المال الحرام، وانظر الحج به. والظاهو الصحة كالصلاة في الدار المغصوبة، وأما النكاح به ففيه أخاف أن يضارع الزنى نعم الصدقة بالمال الحرام أرجح لصرفه عن النفس. قاله الرهوني. واللَّه تعالى أعلم. وقال البناني: اعلم أن لمن أحاط الدين بماله ثلاثة أحوال كما أفاده ابن رشد.
الحالة الأولى: قبل التفليس، قال ابن رشد في المقدمات: فأما قبل التفليس فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله بغير عوض فيما لا يلزمه معا لم تجر العادة بفعله من هبة أو صدقة أو عتق وما أشبه ذلك. انتهى. وقال أيضا في المقدمات: ومن أحاط المدين بماله فلا تجوز له هبة ولا صدقة ولا عتق ولا إقرار بدين لمن يتهم عليه، ويجوز بيعه وابتياعه ما لم يحجر عليه.
الحالة الثانية: تفليس عام وهو قيام الغرماء، قال في المقدمات: وحد التفليس الذي يمنع قبول إقراره هو أن يقوم عليه غرماؤه فيسجنوه أو يقوموا عليه فيستتر عنهم فلا يجدوه، قال محمد: ويحولوا بينه وبين التصرف في ماله بالبيع والشراء والأخذ والإعطاء إلا أن لا يكون لواحد منهم بينة فإقراره جائز لمن أقر له إذا كان ذلك في مجلس واحد أو قريب بعضه من بعض. انتهى. وإليها الإشارة بقوله: وفلس حضر أو غاب لخ.
الحالة الثالثة: تفليس خاص وهو خلع ماله لغرمائه، فإن ابن رشد لا ذكر أن الغريم إذا مكنهم من ماله فاقتسموه ثم تداين فليس للأولين دخول فيما بيده كتفليس السلطان، قال: هذا هو حد التفليس الذي يمنع من دخول من فلسه على من عامله بعد التفليس. انتهى. ذكر ذلك في المقدمات، وذكر الحالتين الأخيرتين أيضا في البيان.
وقال ابن عرفة: التفليس الأخص حكم الحاكم بخلع ما لمدين لغرمائه لعجزه عن قضاء ما لزمه فيخرج بخلع لخ خلع كل ماله باستحقاق عينه مُوجَبُهُ منعُ دخول ذي دين سابق عليه على لاحق بمعاملة بعده، والأعم قيام ذي دين على مدين ليس له ما يفي به. رواه محمد قائلا: يريد
(1)
صحيح مسلم، كتاب الطهارة، رقم الحديث 224. وسنن النسائي، كتاب الطهارة رقم الحديث 139. وسنن الترمذي، كتاب الطهارة، رقم الحديث الأول.
وحالوا بينه وبين ماله والبيع والشراء موجب منع دخول إقرار المدين على متقدم دينه. انتهى. ثم قال: فالأعم قال ابن رشد يمنع إتلاف شيء من ماله لا بعوض فيما لا يلزمه مما لم تجر العادة بفعله كالعتق والهبة. انتهى. وهذا غير صواب لما علمت أن ابن رشد وغيره نص على أن هذه الأشياء يمنعها مجرد الإحاطة لا التفليس الأعم على زعمه أنه قيام الغرماء، بل رتب عليه ابن رشد كما تقدم منع البيع والشراء والإقرار. قاله مصطفى. ومثل ذلك وقع لابن عرفة أن الأخص يمنع البيع والشراء مع أن الأعم يمنع ذلك، ثم بحث مع ابن عرفة في تعبيره بالأعم والأخص بأنه غير مسلم قلت: والظاهر صحة التعبير بهما لترتب أحكام الأعم عليه سواء وجد الأخص أولا فتكون أعمية باعتبار الوجود لا باعتبار الصدق، وأصل الإشكال للوانوغي إذ قال ما حاصله أن تعريف الأعم دأبه الانطباق على تعريف الأخص وليس الأمر هنا كذلك؛ لأن جنس الأخص حكم الحاكم وجنس الأعم قيام الغرماء وهما متباينان، قال الرصاع: ويمكن أن يقال الأعمية والأخصية باعتبار الأحكام لا باعتبار الصدق، ولا شك أن الأول أخص من الثاني أي في كلام ابن عرفة، بمعنى أن الأول إذا ثبت منع من كل ما منعه الثاني دون العكس. انتهى. انتهى كلام البناني.
وقوله: "من تبرعه" قال في المدونة: ولا يجوز عتق ولا صدقة ولا هبة وإن كانت الديون التي عليه إلى أجل بعيد. انتهى. وقوله: "للغريم منع من أحاط الدين بماله" قد علمت أن النقل يشمل الزائد والمساوي وما يحيط بالبعض فقط. وقوله: "للغريم منع من أحاط الدين بماله" أي تحققت إحاطته، فإن ادعى الملاء لم يمنع من تبرعه لكن يكشف السلطان عن حاله، فإن وجد وفاء لم يفلس وإلا فلس. قال عبد الباقي: قال التتائي: وأشعر قوله: "أحاط الدين" أن من أحاطت التبعات بماله لا يحجر عليه، قال أحمد بن نصر الداوودي: من له دين على من اغترقت التبعات ما بيده ولا يعلم منتهى ما عليه لم يجز لأحد أن يقبض منه شيئا من ماله لوجوب الحصاص في ماله، فلا يجوز له أخذ شيء لا يدري هل هو له أم لا؟ انتهى. وما استدل به على أنه لا يحجر عليه لا يدل له. انتهى.
واعلم أنه ليس ثم قول أنه لا يحجر عليه أصلا بل يحجر عليه قطعا، لكن اختلف هل يحجر عليه كالمفلس أو يمنع من التبرع فقط؟ كما قال البناني، فإنه قال: وينبني على القول بأن حكمه حكم المفلس منعه من التصرف مطلقا، وعلى القول بأن حكمه حكم من أحاط الدين بماله منعه من التبرع فقط. انتهى. قال عبد الباقي: ومحل الخلاف حيث لم تعلم أعيان مغصوبة عنده لمعين. انتهى.
وسفره إن حل بغيبته يعني أن من له دين لم يحل له أن يمنع من عليه الدين من سفر يحل فيه الدين وإن لم يحط الدين بمال المدين، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وللغريم منع المدين لا بقيد إحاطة الدين بماله ففيه شبه استخدام أو تجريد من الصفة من سفره إن حل دينه بغيبته أي المدين وأيسر ولم يوكل في قضائه ولم يضمنه موسر، فإن أعسر أو وكل في القضاء من ماله أو ضمنه موسر أو لم يحل بغيبته لم يمنعه من سفره إلا أن يعرف في الأخير بلده، ومنطوق المص فيمن تحقق منه إرادة السفر، وأما إن خشي سفره وتغيبه لحلول الدين وقامت شبهة وإن لم تقو وأنكر ذلك فللغريم تحليفه على عدم إرادته، فإن نكل أو كان لا يقف عند اليمين كلف حميلا بالمال. انتهى.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: ولك منع غريمك من بعيد السفر الذي يحل دينك قبل قدومه ولا يمنع من قريبه الذي يئوب فيه قبل محل الأجل. انتهى. وإذا قلنا له السفر إذا وكل فهل له عزله، قال بعض المحققين: له عزله إلى بدل لا مطلقا، وأصل المذهب أنه إذا تعلق لأحد الغريمين حق بالوكالة أن لا يكون لمن وكله عزله. انظر الشارح. ومن التزم لإنسان أنه إن سافر فله عليه كذا وكذا فإنه يطالب بدفع المال الملتزم به أو بتوكيل وكيل يدفع عنه إذا سافر. انظر الحطاب.
وإعطاء غيره قبل أجله يعني أن من أحاط الدين بماله إذا عجل لأحد الغرماء دينه قبل أجله لغيره من الغرماء أن يمنعه من ذلك، قال عبد الباقي: وللغريم ولو تأجل دينه منعه من إعطاء غيره من الغرماء بعض ما بيده قبل أجله إذ هو سلف فيرجع للتبرع. انتهى. وقال الخرشي: أي
لبعض أرباب الدين منع المدين من إعطاء غيره قبل أجله بعض ما بيده؛ إذ المراد بالغريم الجنس الصادق بالواحد. انتهى.
أو كل ما بيده يعني أن المدين إذا أعطى جميع ما بيده لبعض غرمائه وإن حل دينه لغيره من الغرماء أن يمنعه من ذلك وإن لم يحل دينه، فإن أعطاه فالظاهر رد جميعه. قاله أحمد. وقوله: أو كل يجوز نصبه وجره، كإقراره لمتهم عليه يعني أن المدين إذا أقر لمن يتهم عليه كابنه وأبيه وأخيه وزوجة علم ميله لها أو جهل على التفصيل الآتي في الإقرار، فللغريم المنع ثبت الدين ببينة أو إقرار، أقر في الصحة أو في المرض ومثل ذلك الصديق الملاطف، بخلاف الزوجة التي علم بغضه لها فليس له المنع من إقراره لها. قال الشارح: اللخمي: وإقراره قبل الحجر لمن لا يتهم عليه جائز، واختلف إذا أقر لمن يتهم عليه كالأب والابن والأخ والزوجة، قال: وأن لا يجوز أحسن.
وإلى هذا أشار بقوله: على المختار ابن رَاشِدٍ: ونزلت عندنا بقفصة، وكتب فيها قاضي الجماعة بما اختاره اللخمي من البطلان، وإليه أشار بقوله: والأصح، وقال المواق: ابن يونس: قال ابن ميسر: إقراره ما دام قائم الوجه منبسط اليد في ماله جائز إلا إذا قرب تفليسه وخاف قيام الغرماء فأقر لمن يتهم (عليه)
(1)
، فإني أبطل إقراره وأراه توليجا، وأما إقراره للأجنبي فجائز، انتهى. وقال الرهوني عند قوله:"على المختار والأصح" ما نصه: قلت: صرح المتيطى بأن هذا هو المشهور ونصه على اختصار ابن هارون: واختلف إذا خاف قيام الغرماء فأقر قبل قيام الغرماء لمن يتهم عليه كالأب والابن والأخ والزوجة، فالمشهور أنه لا يجوز إقراره. قاله ابن ميسر. وقيل ذلك جائز. انتهى. وسلم ابن عرفة ذلك ونصه: المتيطى: المشهور أنه لا يجوز إقراره وقاله ابن ميسر. انتهى منه بلفظه.
لا بعضه يعني أنه لا يمنع من أحاط دينه بماله من إعطاء بعض ماله لبعض غرمائه الحال دينه، ورهنه يعني أنه لا يمنع من أحاط الدين بماله من رهن بعض ماله لبعض غرمائه أو
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من المواق ج 6 ص 596 ط دار الكتب العلمية.
لغيرهم، قال عبد الباقي: لا بعضه أي لا يمنعه من إعطاء بعض ما بيده لبعض غرمائه الحال دينه، ويجوز له هو أيضا ذلك إن كان صحيحا لا مريضا ولم يبين حد البعض الذي لا يمنع من إعطائه، وهو أن يبقى بعده ما تمكن العاملة به كما في أحمد أي بوفاء من بقي أو جبر ما أعطى للبعض، وعليه فيلزم بتحريكه كما يرشد له المعنى وهو الظاهر، ولا ينافي قوله الآتي:"ولا يلزم بتكسب" لأنه هنا تصرف في بعضه ولا يمنع من أحاط الدين بماله من رهنه -لبعض غرمائه أو لغيرهم كما في الشارح- بعض ماله في معاملة حادثة مشترط فيها الرهن لمن لا يتهم عليه والراهن صحيح وأصاب وجه الرهن بأن لا يرهن كثيرا في قليل فلا يمنع مع وجود هذه الستة شروط. انتهى.
قوله: إن كان صحيحا لا مريضا، قال ابن عرفة: وفي المديان منها قضاء المريض المغترق دينه ماله بعض غرمائه لا يجوز لأنه تاليج، وقال غيره: هو كالصحيح في تجره. انتهى. وكذا الخلاف في رهنه أيضا كما في الحطاب. وقول الزرقاني: فيلزم بتحريكه ظاهر تأمله، وقوله: في معاملة حادثة مشترط فيها الرهن. لخ. قال البناني: لم أر من ذكر هذه الشروط، وظاهر المدونة وابن عرفة والتوضيح وغيرهم الجواز مطلقا، ويدل لما ذكرناه أن الحطاب بعد أن ذكر الجواز في الصحيح والخلاف في المريض، قال ما نصه: وأما إذا لم يكن عليه دين ثم استحدث في مرضه دينا ببيع أو قرض ورهن فيه رهنا فلا كلام في صحة ذلك. واللَّه أعلم. انتهى.
وأيضا إذا ثبت أن المعاملة حادثة وأنه أصاب فيها وجه الرهن فلا وجه لاشتراط كونه ممن لا يتهم عليه، ولو كان مريضا لجواز معاملة المريض لمن يتهم عليه إذا لم تكن محاباة. واللَّه أعلم. انتهى. قول البناني: ويدل لما ذكرناه أن الحطاب لخ لا دليل له في كلام الحطاب الذي ذكره؛ لأن كلامه فيمن لا دين عليه، وكلام الزرقاني فيمن أحاط الدين بماله نعم بحثه آخرا بقوله وأيضا إذا ثبت أن المعاملة حادثة لخ واضح. قاله الرهوني.
وفي كتابته قولان يعني أنه اختلف على قولين فيمن أحاط الدين بماله، هل له أن يكاتب رقيقه بناء على أن الكتابة كالبيع أو ليس له أن يكاتبه بناء على أنها كالعتق؟ ومحل القولين فيما إذا كاتبه بكتابة المثل لا بأقل فيمنع قطعا ولا بأكثر منها فتجوز قطعا، ثم ظاهره جريهما في كتابة
مثله سواء كان قدر قيمته أو أقل، ولو قيل بمنعها فيما إذا كانت أقل من قيمته وجوازها فيما إذا كانت بأكثر من قيمته نظرا للمعنى لما بعد. قاله عبد الباقي.
وله التزوج يعني أن من أحاط الدين بماله له أن يتزوج، قال ابن رشد: إذا تزوج من يشبهه وأصدقها صداق مثلها، فإن زاد فللغرماء رده أي الزائد وترجع هي عليه بالزائد أي تتبعه به. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وله شراء جارية ووطء ملكه كما في أحمد. انتهى. وقال المواق من المدونة: ما دام قائم الوجه فإقراره بالدين جائز، وله أن يتزوج فيما بيده من ماله ما لم يفلس. انتهى.
وفي تزوجه أربعا يعني أنه وقع التردد من ابن رشد في كون من أحاط الدين بماله له أن يتزوج أربعا من النساء أو ليس له ذلك، وظاهره أن تردد ابن رشد إنما هو في أربع لا في اثنتين ولا في ثلاث وليس بمراد، بل المراد أنه تردد في نكاحه ما زاد على الواحدة هل له ذلك أم لا؟ فلو قال: وفي تزوجه أكثر من واحدة لكان ظاهرا.
وتطوعه بالحج يعني أنه وقع التردد هل لمن أحاط الدين بماله أن يحج حج التطوع أو ليس له ذلك؟ وتردد ابن رشد في حجة الفرض هل له أن يفعلها أم لا؟ الحطاب: العجب من تردد ابن رشد في حج الفريضة: وقد نص في النوادر على أنه لا يحج الفريضة وذكر نصها، ثم قال عن سند: وإن كان عليه دين وبيده مال فالدين أحق بماله من الحج. قاله مالك في الموازية. فإن لم يكن له مال، قال عنه ابن نافع: لا بأس أن يحج، قال سحنون: وأن يغزوَ. انتهى.
قال الحطاب: فقد سقط التردد الذي في كلام المص وابن رشد بوجود النص عن مالك والحمد للَّه. انتهى. وقوله: تردد مبتدأ وخبره "في تزوجه أربعا". قال عبد الباقي عند قوله "تردد" ما نصه: لواحد فقط وهو ابن رشد فهو يشبه ما يأتي في قوله: "وفي بيعءالة الصانع تردد" من أنه لواحد فقط وهو عبد الحميد الصائغ، وظاهره أنه في خصوص تزوجه بثلاث زائدة على واحدة تعفه وأنه غير جار في ثانية وثالثة وهو غير مراد، ثم الذي تجب به الفتوى أن له تزوج واحدة فقط لا حج فريضة. انظر الحطاب. ثم ليس له تزوج بمن لا تشبه نساءه ممن هي أعلى وإنما يتزوج ممن تشبه
نساءه، وأن يصدقها مثل صداقها كما قال ابن رشد، فإن أصدقها أكثر من صداق مثلها فلغرمائه الزائد يرجعون عليها به وكان دينا لها عليه. انتهى.
وقال المواق عند قوله "تردد" ما نصه: مقتضى ما يتقرر أن التردد في حجة الفرض، وأما حج التطوع فيمنع منه، قال ابن رشد: إتلاف المال قبل التفليس بغير عوض لا يجوز إلا فيما جرت العادة به كالكسرة يعطيها للسائل والضحية والنفقة في العيدين من غير سرف، ولا يجوز فيما لم تجر العادة بفعله من الكراء في الحج التطوع. وانظر هل له أن يحج حجة الفريضة أم لا؟ وإن كان يأتي ذلك على الاختلاف هل هو على الفور أو على التراخي؟ وهل له أن يتزوج أربع زوجات وتدبر ذلك؟ انتهى من ابن رشد. انتهى. كلام المواق.
ولما أنهى الكلام على الحالة الأولى وهي إحاطة المدين بمال المدين شرع يتكلم على الحالة الثانية وهي التفليس الأعم، فقال: وفلس بالبناء للفاعل أو للمفعول، يعني أنه يجوز تفليس من أحاط الدين بماله أي للغرماء أن يقوموا عليه فيمنعوه من التصرف المالي، فالمراد بالتفليس هنا التفليس الأعم وهو قيام الغرماء. حضر أو غاب يعني أن الغرماء إذا قاموا على من أحاط الدين بماله وطلبوا الحجر عليه، فإنه يحجر عليه سواء كان حاضرا أو غائبا، قال عبد الباقي: وفلس بالبناء للفاعل أي الحاكم أي جاز للحاكم تفليس من أحاط الدين بماله ويحتمل بالبناء للمفعول أي المدين والفاعل الحاكم، ولابد منه ولو في دين أب على ابن وليس لسيد عبد مأذون له في تجارة تفليسه في معاملة غيره، وإنما ذلك للحاكم كما سيقول:"والحجر عليه كالحر"، ويفلس سواء حضر ولو حكما كمن على ثلاثة أيام إذ يكتب له ويكشف عن حاله، أو غاب على كعشرة أيام أو شهر ذهابا.
هذا ظاهر مقابلته بحضر وعدم تفصيله في الغيبة بين متوسطة وبعيدة وهي طريقة اللخمي وهي أنسب لظاهر المص. انتهى. قوله: حضر ولو حكما أفاد به الجواب عما يقتضيه كلام المص من دخول القريب في الغائب، مع أن حكمه كالحاضر لا يفلس حتى يكشف عن حاله، وقد استوفى في الشامل كلام ابن رشد، فقال: وفلس ذو غيبة بعدت كشهر أو توسطت كعشرة أيام وجهل تقدم يسره لا إن قربت، وكشف عنه كإن علم تقدم يسره على المشهور. انتهى. قاله البناني.
وقال الحطاب: أطلق رحمه الله، والغيبةُ على ثلاثة أقسام: قريبة وحَدَّهَا ابنُ القاسم في العتبية والواضحة بالأيام اليسيرة فلا يفلس بل يكشف عن حاله. ابن رشد: ولا خلاف في ذلك وغيبة متوسطة، وحَدَّها ابن رشد بالعشرة الأيام ونحوها وإن لم يعلم ملاؤه فلس بلا خلاف، وإن علم لم يفلس على المشهور خلافا لأشهب، وغيبة بعيدة، وحَدَّهَا ابن رشد بالشهر ونحوه قال: ولا خلاف في وجوب تفليسه وإن علم ملاؤه وهذه طريقة ابن رشد، وأما اللخمي وابن الحاجب فأطلقوا في الغيبة وحكوا الخلاف فيها مطلقا من غير تقييد بعشرة أيام، كما قال ابن رشد. ونقل في التوضيح كلام ابن رشد جميعه ومشى عليه صاحب الشامل، ونصه: وفلس ذو غيبة إلى آخر ما مر قريبا. انتهى.
وقوله: وفلس حضر أو غاب" قال التتائي: وغيبة ماله كغيبته. انتهى. قال الرهوني: ومعنى قوله وغيبة ماله كغيبته أنه يجري فيها طريقا ابن رشد واللخمي، فعلى طريقة اللخمي لا يفلس مع علم الملاء عند ابن القاسم مطلقا، وعلى طريقة ابن رشد يفصل بين المتوسطة والبعيدة جدا، وقد مر أن المراد بقوله: "وفلس حضر أو غاب" التفليس الأعم وهو قيام الغرماء كما قاله البناني. وقال المواق عند قوله "حضر" ما نصه: ابن يونس: إذا طلب الغرماء الحجر على المفلس فإن الحاكم يحجر عليه، قال مالك: إذا قام رجل واحد بالديان فله تفليسه كقيام الجماعة ويبيع الإمام ما ظهر له من مال فيوزعه بين غرمائه بالحصص، ويحبسه فيما بقي إن تبين لدده واتهم. ابن محرز: إن قام له من حل دينه ومن لم يحل لم يفلس إلا أن يغترق ما حل ما بيده ولم يفضل إلا يسير لا يرجى في حركته له أداء حقوق الآخرين. انتهى. وقال المواق أيضا عند قوله: "أو غاب" لخ ما نصه من المدونة: روى ابن وهب عن مالك من قام بدين على غائب ولعله كثير المداينة لغير من حضر، فأرى أن تباع عروضه لمن حضر ويُقضى، قال ابن القاسم في العتبية وكتاب ابن حبيب في الغائب يقوم به بعض غرمائه وليس فيما حضر من ماله وفاء، فإن كان قريبا كالأيام اليسيرة فليكتب فيه ليكشف ملاؤه من عدمه، وأما في الغيبة البعيدة لا يعرف فيها ملاؤه من عدمه ولا يدري أين هو فهو كالمفلس، ويحل المؤجل من دينه، ومن باع منه سلعة
فوجدها فله أخذها، وأما إن عرف فيها ملاؤه فلا يفلس ويقضى من حل دينه ويبقى المؤجل ولا يأخذ البائع سلعته. انتهى.
إن لم يعلم ملاؤه شرط في تفليس الغائب يعني أن الغائب إنما يفلس حيث لم يعلم ملاؤه حين خروجه، وأما إن علم ملاؤه حين خروجه فإنه لا يفلس، وفي المص ثلاث صور اثنتان في المنطوق وواحدة في المفهوم: جُهِلَ ملاؤه، عُرِفَ عدم ملائه فلس فيهما اتفاقا، عُلِمَ ملاؤه لم يفلس على المشهور، وهو قول ابن القاسم خلافا لأشهب القائل: يفلس وإن علم ملاؤه، وقد علمت أن اللخمي لم يقيد الخلاف بالمتوسطة دون البعيدة، فالخلاف فيهما إن علم ملاؤه. وابن رشد خص الخلاف بين الشيخين بالمتوسطة، وأما البعيدة فيفلس فيها وإن علم ملاؤه بلا خلاف. واللَّه تعالى أعلم. وقد علمت أيضا أن الحاضر والقريب الغيبة كالأيام اليسيرة حكمهما واحد فيفلسان بطلبه لظهور أمرهما، وقوله:"إن لم يعلم ملاؤه" هو بالمد هنا، وأما بالهمز والقصر فالجماعة من الناس وإن لم يكونوا أشرافا، وبالقصر بدون همز الأرض التسعة، ورد المص بقوله:"وفلس" لخ قول عطاء: لا يجوز لأن فيه هتك حرمة المدين وإذلاله، وقد مر أن معنى قوله:"فلس" أنه يجوز تفليسه، وأما وجوبه إذا لم يتوصل الغرماء لديونهم إلا به فهو أمر عارض. والحاصل أنه من أصله جائز ويجب عند تعذر الوصول للحق إلا به. وذكر شروط التفليس بقوله: بطلبه وإن أبى غيره دينا الباء متعلقة بقوله: "فلس" وهي للسببية، والضمير المجرور في بطلبه عائد على الغريم من إضافة المصدر إلى فاعله ودينا مفعول المصدر؛ يعني أن الحاكم يفلس المدين بسبب طلب الغريم أي رب الدين دينه الذي على المفلس وإن أبى غيره من الغرماء عن تفليسه، ومن المدونة قال مالك: إذا أراد واحد من الغرماء تفليس الغريم وحبسه، وقال بعضهم: ندعه حبس لمن أراد حبسه إن تبين لدده. نقله المواق. وقرر المص أيضا على أن الضمير في طلبه عائد على التفليس وهو حينئذ من إضافة المصدر لمفعوله، ويكون قوله:"دينا" مفعولا لأجله على حذف مضاف؛ أي فلس بسبب طلب بعض الغرماء تفليسه لأجل إرادة دين؛ لأن المفعول لأجله إنما يكون مصدرا قلبيا وهذا أصرح بالمراد؛ لأن التفليس إنما يكون بطلب التفليس ولا يلزم مِن طلب الدين طلبُ التفليس. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "وإن أبى غيره" أي وكذا لو سكت وإذا فلس للبعض فللآخرين محاصة القائم؛ لأن تفليسه لواحد تفليس للباقين، قال التتائي: إلا أن يقدم الغرماء من طلب ذلك في المال الموجود أو من أموالهم فلا يفلس. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: وفهم من قوله: "بطلبه" أنه لا يكون للقاضي تفليس المدين إلا بطلب الغريم، وأنه لو أراد المدين تفليس نفسه لم يكن له ذلك، قد اختلفت الشافعية هل له ذلك أم لا؟ قاله في التوضيح. وفهم من إفراد الضمير في "طلبه" وفي "أبى غيره" أنه لو طلب التفليس واحد من الغرماء فأكثر كان له وهو كذلك. قال في أوائل التفليس من المدونة: وإذا قام رجل واحد على المديان فله أن يفلسه كقيام الجماعة. انتهى.
وقال الشارح عند قوله: "وإن أبى غيره" ما نصه: إلا أن يقدمه الغرماء في المال الموجود أو يدفعوا له دينه. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله: "بطلبه وإن أبى غيره" ما نصه: وفهم من هذا الشرط أنه لا يفلس نفسه نعم له طلب الحكم بتقسيط الدين بقدر وسعه بعد ثبوت عسره وحلفه عليه وإن لم يطلبه غريم. انتهى. حل يعني أن الدين الذي يفلس لأجله المدين بطلب رب الدين له لابد أن يكون حالا أصالة أو بانتهاء أجله، فلا يفلس بمؤجل. وقوله:"فلس" ذكر المص لذلك ثلاثة شروط. أحدُهَا قوله: "بطلبه"، ثانِيهَا: قوله "دينا حل"، ثَالِثُهَا: قوله: زاد على ماله الضمير في "زاد" للدين، وفي "ماله" للمدين؛ أي إنما يفلس بشرط أن يكون هذا الدين الحال زائدا على مال المدين.
أو بقي ما لا يفي بالمؤجل أي إنما يفلس بشرط أن يكون هذا الدين الحال زائدا على مال المدين أو يبقى من مال المدين بعد وفاء الحالّ ما لا يفي بما عليه من الدين المؤجل وصورة ذلك أن يكون عليه دين حال ودين مؤجل، وإذا قضى المدين الدين الحال لم يبق ما يفي بالمؤجل أي ما لا يرجى بتحريكه أنه يفي بالمؤجل عليه، فإنه يفلس عند اللخمي. قال عبد الباقي: كمن عليه مائتان إحداهما حالة والأخرى مؤجلة ومعه مائة وخمسون، فالباقي بعد وفاء المائة الحالة لا يفي بالدين المؤجل فيفلس ولو أتى بحميل، وأحرى إن لم يبق للمؤجل شيء.
وقال المازري: إذا كانت الديون مؤجلة لم يفلس بها، قال المواق: فانظر هذا أي ما للمازري مع كلام خليل، أي انظر لم تبع اللخمي دون المازري وبقي عليه شرطان أيضا، أن يتبين لدده، وأن
لا يدفع لطالب التفليس حميلا بماله وإلا لم يفلس، فإن قلت: الغائب لا يتصور فيه تبين اللدد، قلت: هو مظنة اللدد حيث لم يعلم ملاؤه حال سفره. انتهى كلام عبد الباقي. وقال البناني عند قوله: "زاد على ماله": التوضيح: ذكروا هنا صورا، الأُولَى: أن يكون به وفاء دينه الحال والمؤجل فهذا لا يفلس، الثَّانِيَةُ: أن ينقص ما بيده عن الحالِّ فلا إشكال أنه يفلس، الثَّالِثَةُ: أن يكون بيده مقدار الحالِّ فقط فللقرويين في تفليسه قولان، الرَّابعَةُ: أن يكون بيده مقدار دينه الحال ويفضل عن ذلك فضلة إلا أنها لا تفي بالمؤجل الذي عليه، فذكر اللخمي أن المعروف أنه يفلس. وفي الموازية أنه لا يفلس وليس بحَسَنٍ.
وقيد اللخمي ما في الموازية بأن تبقى بيده فضلة يعامله الناس عليها ويتاجره الناس بسببها ويرجى من تنميته لها ما يُقضَى به الديون المؤجلة، وإذا كان المعروف في هذه المسألة أنه يفلس فتفليسه إذا لم يكن بيده إلا مقدار الحالِّ أولى. انتهى. وظاهر ابن عرفة أن تقييد اللخمي هو المذهب ولعله توفيق بين القولين، ومقابلته في هذه الصور الحالَّ بالمؤجل تدل على أن المراد بالحال ما يشمل دين الطالب وغيره، خلاف ما قيد به الزرقاني تبعا للتتائي، ويدل لذلك أيضا قول المص:"أو بقي ما لا يفي بالمؤجل"، ولا دليل له في كلام ابن محرز. فتأمله. ونص ابن عرفة بتقرر التفليس بتوجه طلب في دين المدين، بأزيد مما يملكه المدين فإن كانوا جماعة فواضح فإن طلبه أحدهم دونهم ودينه أقل من مال المدين فكذلك. انتهى. وهو صريح فيما قلناه، وقول الزرقاني: فيفلس ولو أتى بحميل. اعلم أنه إن كان بيده ما يفي بالدين الحال ويبقى ما لا يفي بالمؤجل ولا يرجى بتحريكه وفاء فهذا يفلس كما قاله المص على المعروف من المذهب كما تقدم.
واختلف هل يحل عليه المؤجل، ذكر ابن عرفة فيه أربعة أقوال ونصه في حلول المؤجل بتفليسه، ثَالِثُهَا: إن لم يات بحميل به، وَرَايعُهَا: إن لم يكن عرضا الأول للمعروف، والثاني لقول السيوري فيه وفي الميت، والثالث للخمي، والرابع لسحنون. انتهى. فلم يقل اللخمي في هذا: لا يُفلس إن أتى بحميل، بل قال: لا يحل المؤجل ونصه كما في ابن عرفة. اللخمي: القياس إن أتى المفلس بحميل أن يبقى ما عليه لأجله لأن تعجيله إنما هو خوف أن لا يكون له عند الأجل شيء انتهى وأما قول المازري: لا يفلس فهو فيما إذا كانت الديون كلها مؤجلة. انتهى. وقول
عبد الباقي: وبقي عليه شرطان لخ غير صحيح، فأما الأخير منهما فلا إشكال في عدم صحته وفي نقل البناني ما يرده، وأما الأول فأجيب بأن المواق نقله عن المدونة ولا شاهد فيما للمواق عن المدونة؛ لأن شرط اللدد فيها إنما هو لسجنه لا لتفليسه ولذلك لم يذكره فيها حين ذَكَرَتِ التفليسَ فقط.
قال في أوائل كتاب التفليس منها: وإذا قام رجل واحد على المديان فله أن يفلسه كقيام الجماعة. اهـ. ثم قال في الباب بعده: وإذا أراد واحد من الغرماء تفليس الغريم وحبسه، وقال الباقون: دعه يسعى حبس لمن أراد حبسه إن تبين لدده. انتهى. وكلام ابن يونس أوضح في الدلالة لما قلناه، فإنه قال: قال مالك رحمه الله: فإذا قام رجل واحد بالمديان فله تفليسه، كقيام الجماعة ويبيع الإمام ما ظهر له فيوزعه بين غرمائه بالحصص ويحبسه فيما بقي إن تبين لدده، وقال أيضا: قال ملك: وإذا أراد واحد من الغرماء تفليس الغريم وحبسه، فقال الباقون دعه يسعى حبس لمن أراد حبسه إن تبين لدده. انظر الرهوني. وفيه ما نصه: زاد في المدونة متصلا بما قدمناه عنها من قولها: حبس لمن أراد حبسه إن تبين لدده ما نصه: ثم إن شاء الآخرون محاصة القائم في ماله فذلك لهم، ثم لهم قبض ما نابهم وإيقافه بيده، فإن أقروه بيده لم يكن للقائم أن يأخذ منه شيئا في بقية دينه إلا أن يربح فيه أو يفيد فائدة من غيره فيضرب في الربح أو الفائدة للقائم بما بقي له، وهؤلاء بما بقي لهم بعد الذي أبقوا بيده؛ لأنهم فيما ردوا إليه كمن عامله بعد التفليس فيكون من عامله آخرا أولى بما بيده بقدر ما داينوه ثم يتحاصون مع القائم في الربح أو الفائدة كما وصفنا. انتهى.
تنبيه
قد مر قول البناني: الرَّابعَةُ أن يكون بيده مقدار دينه الحال ويفضل عن ذلك فضلة إلا أنها لا تفي بالمؤجل الذي عليه، فذكر اللخمي أن المعروف أنه يفلس، وفي الموازية أنه لا يفلس وليس بحسن، وقيد اللخمي ما في الموازية بأن تبقى بيده فضلة يعامله الناس عليها ويتاجره الناس بسببها، ثم قال: وظاهر ابن عرفة أن تقييد اللخمي هو المذهب ولعله توفيق بين القولين. انتهى. قوله. وظاهر ابن عرفة أن تقييد اللخمي لخ، قال الرهوني: فيه نظر، ثم قال عن ابن عرفة: وما ذكره اللخمي استثناء ذكره المازري على أنه تأويل لبعض الأشياخ وهو بناء على أحد
قولي الأشياخ في تفليس من بيده قدر ما حل عليه فقط. انتهى. فتسليمه أن ذلك مبني على ما ذكر يدل على أن المذهب خلافه، مع أن اللخمي قد جزم بأن ما في الموازية مقابل، وأن المعروف من المذهب خلافه كما نقله البناني نفسه عن التوضيح، ونحوه للمتيطى ثم قال مفسرا لكلام اللخمي ما نصه: والمعنى أن ما في الموازية مع كونه مقابلا ليس بحسن إلا أن يحمل على ما ذكر فيكون حسنا إذ ذاك مع اعترافه بكونه مقابلا، ثم هذا الذي استثناه اللخمي هو عين ما لابن محرز، وليس بظاهر إلا لو قلنا إنه يجبر على تحريكه والتجر به، وقد علمت ما قاله البناني عند قوله:"لا بعضه أو رهنه" وبذلك كله تعلم ما في تنظير المواق في كلام المص بما لابن محرز. واللَّه تعالى أعلم. انتهى. وكلام المواق الذي أشار إليه هو قوله: تقدم نص ابن محرز لا يفلس إلا أن يغترق ما حل ما بيده ولم يفضل عنه إلا يسير لا يرجى في حركته به أداء حقوق الآخرين فانظره مع هذا. انتهى كلام المواق.
فمنع من تصرف مالي هذا شروع منه رحمه الله فيما يترتب على الحجر من منعه من التصرف المالي، ومعنى كلام المص أن المفلس بالمعنى الأعم يمنع من التصرف المالي كالبيع والشراء والكراء والاكتراء وأحرى التبرع، قال الحطاب مفسرا للمص: يعني بسبب الحكم بتفليسه يمنع من التصرفات المالية، قال في المقدمات: وأما بعد التفليس فلا يجوز له بيع ولا شراء ولا أخذ ولا عطاء. انتهى. وقال الشارح في حل كلام المص لهذه القولة: ولا يبيع بمحاباة. انتهى. فتقييده بالمحاباة ليس بظاهر لأن المذهب منعه من البيع والشراء مطلقا، ودخل في قوله: تصرف مالي النكاح ونص عليه في المدونة. انتهى.
وقال ابن الحاجب وابن شأس: وإذا التمس الغرماء أو بعضهم الحجر على من ينقص ماله عن دينه الحال حجر عليه، وللحجر أحكام منها منع التصرف في المال الموجود، وفي المواق عن ابن رشد: أما بعد التفليس فلا يجوز له في ماله بيع ولا شراء ولا أخذ ولا إعطاء، ولا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيد. انتهى. نقله البناني.
وقال عبد الباقي عند قوله "فمنع من تصرف مالي" ما نصه: كبيع وشراء وكراء واكتراء ولو بغير محاباة، وما في الشارح من التقييد بالمحاباة فيه نظر؛ لأن المحاباة من التبرع وهو يمنع منه
بمجرد الإحاطة كما قدمه المص: ثم إذا وقع منه التصرف المالي لا يبطل خلافا لابن عبد السلام، بل يوقف على نظر الحاكم ردا وإمضاء كما نقله ابن عرفة، أو على نظر الغرماء كما نقله الشارح. انتهى. وقال ابن الحاجب: وفي معاملته ثَالِثُهَا بالنقد لا بالنسيئة ورَابعُهَا بما يبقى لا بما يذهب. انتهى. قال ابن عرفة: من أمعن النظر والبحث علم بالضرورة عدم وجود هذه الأقوال في المذهب، وكل المذهب على وقف تصرفه على نظر الحاكم ردا وإمضاء، وهذا هو الذي نقله اللخمي والمازري وابن رشد وغيرهم من حفاظ المذهب. فاللَّه تعالى أعلم. من أين أتى هذا الرجل بهذه الأقوال. انتهى.
وقول عبد الباقي: أو على نظر الغرماء لخ قال البناني: هذا هو الذي نقله في الجواهرة ووفق الأجهوري بينه وبين ما لابن عرفة بأن الرجوع للحاكم عند عدم اتفاق الغرماء. انتهى. وقوله: فمنع من تصرف مالي يريد في المال الموجود في يده كما قال ابن الحاجب في المال الموجود احترازا مما لم يوجد، فإنه لا يمنع كالتزام عطية شيء إن ملكه إلا أن يملكه ودينهم باق عليه فلهم حينئذ المنع. انظر الحطاب.
لا في ذمته يعني أن المفلس لا يمنع من التصرف في ذمته ويشير بهذا إلى قول ابن الحاجب: "وتصرفُه شارطا أن يقضي من غير ما حجر عليه فيه صحيحٌ"، قال ابن عبد السلام: كما لو اشترى شيئا على أن يدفع ثمنه من غير المال الذي حجر عليه فيه، ولو قيل لا يحتاج إلى ذلك الشرط لأن الحكم يقتضيه لَمَا بعُد. انتهى. انظر الحطاب.
وهذا الذي قررت به المص هو الصواب دون ما قرره به عبد الباقي وإن كان ما قرره به عبد الباقي، صحيحا في نفسه لكن لا يقرر به المص. واللَّه تعالى أعلم.
كخلعه يعني أن المفلس لا يحجر عليه في التصرف غير المالي كما لو خالع رجل مفلس زوجته لأنه تصرف بغير متمول وهو العصمة فكان كالعدم، وهو تشبيه بقوله:"لا في ذمته" أو مثال لمفهوم "مالي"، وأما المرأة المفلسة فلا يصح خلعها لأنه تصرف مالي، بمعنى أن ما خالعت به يرد وتبين، وقد قال في الخلع:"لا من سفيهة وصغيرة ورد المال وبانت"، فالرشيدة المحجور عليها للدين تمنع من خلعها ويرد المال وبانت. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.
قال البناني مصححا لكلام عبد الباقي: ظاهر ابن يونس أو صريحه أن خلع المرأة المفلسة كتزوج الرجل المفلس، ونصه: ومن المدونة وما دام قائم الوجه فإقراره بالدين جائز، وله أن يتزوج فيما بيده من مال ما لم يفلس، وكذلك المرأة تخالع زوجها بمال والدين محيط بها. انتهى. وقوله:"كخلعه" قال عبد الباقي: ظاهره ولو جعل مخالعته لغيره. انتهى. قال الرهوني: مراده واللَّه تعالى أعلم أن يقول: إن أعطيت فلانا كذا طلقتك، وأما إذا خالعها على شيء لنفسه ثم أعطاه لغيره فهو من التبرع قطعا. انظر التاودي. ويشهد له ما يأتي في التي بعدها. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.
وطلاقه يعني أن المفلس لا يحجر عليه في طلاقه، فإذا طلق زوجته نُفِّذَ طلاقه لأنه تصرف غير مالي، قال المواق: قال ابن شأس: تصرف المفلس في غير المال كطلاقه وخلعه واستيفاء القصاص وعفوه واستلحاق النسب ونفيه بلعان وقبول الوصية صحيح. انتهى. وقال عبد الباقي: وطلاقه لا فيه من تخفيف مؤنة عليه والصداق المؤخر منه حال تحاص به الغرماء. انتهى.
وقصاصه يعني أن المفلس لا يمنع من أن يقتص ممن وجب له عليه القصاص لأنه تصرف في غير مال، وعفوه يعني أن المفلس لا يحجر عليه في عفوه بمعنى أن له أن يعفوَ عمن ثبت له عليه قصاص، قال عبد الباقي: وعفوه عن قصاص أو حد بغير شيء أو على مال ولو دفعه لغير الغرماء وهذا في [جرح]
(1)
عمد ليس فيه شيء مقرر، وإلا فله منعه من عفوه. انتهى. قوله: أو على مال ولو دفعه لغير الغرماء ظاهره أنه دفعه لهم بعد أن صالح به لنفسه وليس كذلك، فيجب قصره على أنه قال: إن دفعت لفلان كذا عفوت عنك، ففي كتاب الصلح من المدونة ما نصه: ولو صالح من ذلك أو من جرح عمد يخاف منه موته على مال ثبت الصلح، ثم حط المال بعد ذلك لم يجز ذلك إن أحاط الدين به، فإن لم يكن عليه دين كان ذلك في ثلثه. انتهى. منها بلفظها. ومثله لابن يونس عنها. انتهى. قاله الرهوني. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
في الأصل جراح والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 267.
وعتق أم ولده يعني أن المفلس لا يحجر عليه في عتق أم ولده، فإذا أعتقها نفذ عتقه وهذا في أم ولده التي استولدها قبل الحجر عليه لا بعده فيرد عتقها، وأما قول عبد الباقي: وعتق أم ولده التي استولدها قبل التفليس الأخص ولو بعد الأعم. انتهى. فقد قال عليه الرهوني: انظر من قال هذا، والذي في التوضيح هو ما نصه: وهذا مقيد بأم الولد التي أولدها قبل الحجر، وأما لو أولدها بعده فيرد عتقها لأنها تباع إذا وضعت دون ولدها. انتهى منه بلفظه. ولا شك أن الحجر عليه يحصل بالأعم. انتهى.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه عنه: هذا مبني منه على ما قدمه من أن التفليس الأعم هو إحاطة الدين، وقد مر أن ذلك غير صواب. واللَّه تعالى أعلم. وقال الرهوني: في الخرشي أن لهم رد عتقها إذا أولدها بعد إحاطة الدين وهو غير صحيح كما يؤخذ من كلام التوضيح، وصرح به ابن هشام في المفيد ونصه: وللغرماء أن يردوا عتق من أحاط الدين بماله وصدقته وهبته، إلا أنه إن أحبل أمة من إمائه لم يكن لهم إلى بيعها سبيل. انتهى.
وتبعها مالها إن قل يعني أن المفلس إذا أعتق أم ولده المذكورة فإنه يتبعها مالها إن كان مالها قليلا، وأما إن كان كثيرا فلا يتبعها، وقال الحطاب: قال ابن الحاجب: وفي اتباعها مالها إذا لم يكن يسيرا قولان، قال في التوضيح: يعني إذا فرعنا على المشهور من إمضاء العتق، فإن لم يستثن السيد مالها فلمالك في الموازية: يتبعها لأن السيد باعتبارها غير مفلس، وقال ابن القاسم: لا يتبعها إلا أن يكون يسيرا. انتهى. وقد صدر في الشامل بقول مالك فقال: ويتبعها مالها إن لم يستثنه، وقال ابن القاسم: إن قل. وكان ينبغي للمص أن يمشي على قول مالك لأنه هو المناسب لقوله بعد هذا أنه لا يلزم بانتزاع مال أم ولده. واللَّه أعلم. انتهى كلام الحطاب.
وقال الرهوني: ولعل المص اعتمد قول ابن القاسم لاختيار اللخمي له، لكن في عتق السفيه أم ولده لا في المفلس والمحلان سواء. انتهى المراد منه. وقال الشارح: واختلف في إعتاقه أم ولده، فأمضاه ابن القاسم في المدونة ورده المغيرة في كتاب ابن سحنون، وقال: ليس كطلاقه لزوجته بل هي كرقيقه لانتفاعه بها، ومنشأ الخلاف هل هي كالزوجة إذ ليس له فيها إلا الاستمتاع؟ أو كالأمة لأن فيها شائبة من الرق ولأن للسيد أرش ما جني عليها؟ وهذا فيمن أولدها قبل الحجر. وأما لو
أولدها بعده فإن عتقها يرد لأنها تباع إذا وضعت دون ولدها. انتهى. وقوله: "وتبعها مالها إن قل" إنما لم يكن للغرماء رد عتقها، وكان لهم رد مالها إن كثر لأن الغرماء لا منفعة لهم في ردها بخلاف مالها.
وحل به وبالموت ما أجل يعني أنه يحل بالتفليس وبالموت أي بتفليس المدين الأخص ما كان مؤجلا عليه، وكذا يحل بموت المدين ما كان مؤجلا عليه، قال عبد الباقي: وحل به أي بالفلس الأخص لا قيام الغرماء ولو مع تمكينه إياهم من المبيع والقسم وبالموت للمدين ما أجل عليه من المدين لخراب ذمته فيهما، ولو طلب بعض الغرماء بقاء دينه مؤجلا لم يُجَبْ لذلك، ويستثنى من كلامه أمران: أحَدُهما اشتراط عدم حلوله بما ذكر. ثَانِيهِمَا أن لا يقتل رب الدين المدين عمدا فلا يحل دينه، والشرط الأول عام في الفلس والموت، والثاني خاص بالموت، فالأول مقيد بقيد والثاني بقيدين، وأما موت من له المدين أو فلسه فلا يحل به دينه، وينبغي إلا لشرط حيث كان الشرط بعد عقد البيع، فإن وقع في صلبه فالظاهر فساد البيع لأنه آل أمره إلى البيع بأجل مجهول. انتهى. كلام عبد الباقي.
قوله: فالأول مقيد بقيد والثاني بقيدين، مراده بالأول الفلسُ وبالثاني الموت، والقيد في الأول أن لا يشترط عدم حلوله والقيدان في الثاني هذا وأن لا يقتل رب الدين المدين عمدا، وما جزم به من أن هذا الشرط مؤثر فيه نظر، بل الذي يفيده كلام ابن عرفة أن شرط ذلك في عقد البيع لا يجوز ويفسد به العقد، ولو تطوع به بعد العقد بطل الشرط وصح البيع. وأفتى ابن سراج بأنه لا يفسد البيع بالشرط المذكور، بل يصح البيع ويبطل الشرط، وما قاله عبد الباقي خارج عن القولين فلا يعول عليه. انظر الرهوني. فقد ذكر هذين القولين في مسألة الموت، والظاهر أنه لا فرق بين الموت والفلس في ذلك كما يفهم من كلام الرهوني.
ولو دين كراء يعني أن المكتري إذا فلس أو مات، فإن ما عليه من دين الكراء يحل وهو مأخوذ من قوله في المدونة: فصاحب الدابة أولى بالمتاع من الغرماء، ومن قوله: من اكترى أرضا فزرعها ثم فلس فإن صاحب الأرض يحاص الغرماء بالكراء، وحكى بعضهم عن عبد الوهاب أنه نص
على ذلك في شرح الرسالة، وكذا حكاه عن المبسوط. المازري: ولم أقف على هذا النقل في هذين الكتابين، ولكن عندي أن المسألة كالمنصوص فيها على قولين. انتهى المراد منه. قاله الشارح.
وقال عبد الباقي: ولو كان الدين المؤجل على المكتري المفلس أو الميت دينَ كراء كدار أو دابة أو عبد وجيبة لم تستوف فيها المنفعة، فيحل بفلس المكتري وموته ويأخذ المكري عين شيئه في الفلس، ثم إن لم يستوف شيئا من منفعته فلا شيء له كما هو ظاهر، فإن أخذ الأجر رده وإن لم يرد أخذ عين شيئه في الفلس، بل أراد بقاءه حاص بأجره حالًّا وإن استوفى بعض منفعته حاصَّ بها كما يحاص في الموت، ويأخذ منابه بالحصاص معجلا كما هو مفاد المص حيث بالغ على حلوله، ونحوه في المدونة وهو المشهور كما في شرحها، خلافا لقول ابن رشد: يحاص به ويوقف منابه بالحصاص، فكلما استوفي شيء من المنعفة أخذ المكري ما ينوبه مما وقف، ويخير في فسخ ما بقي في الفلس ولا يحمل قوله:"ولو دين كراء" على ما إذا استوفيت المنفعة المقابلة للكراء، ولا على ما إذا وجب تعجيل الكراء بشرط أو عرف؛ لأنه لا يقال في ذلك حل به وبالموت ما أجل، وتقييدنا الكراء بالوجبية ظاهر ليكون الكراء لازما لا يفسخ عقده بموت أحد المتعاقدين؛ إذ لو كان مشاهرة لم يكن لازما، فلا يتأتى فيه قوله:"وحل به وبالموت ما أجل". انتهى.
قوله: وجبية لم تستوف فيه المنفعة لخ هذا هو محل الخلاف، وما حمله عليه هو ظاهر المذهب وهو ظاهر المدونة أيضا، وصرح به أبو الحسن، ومقابله اختيار ابن رشد في المقدمات والنوازل. انظر التوضيح ومصطفى. وما في الخرشي من تقييد المص بالاستيفاء غير ظاهر، ولا مخالفة بين ما هنا وما يأتي من قوله:"وأخذ المكري دابته وأرضه"؛ لأن المراد به أن له أخذهما من المفلس إن شاء، لا أنه يتعين الفسخ قبل الاستيفاء كما فهمه المواق. قاله البناني.
وقال الخرشي عن الأجهوري: والحاصل أن الكراء المؤجل حيث استوفي ما يقابله من المنفعة فإنه يحل بالموت والفلس قطعا، وإن استُوفِيَ بعض ما يقابله منها أو لم يُستَوفَ منها شيءٌ فهل يحل كراء ما لم يستوف أيضا بالموت والفلس وهو المشهور كما ذكره أبو الحسن، لكن حلوله بالفلس معناه إن أراد المكري المحاصَّة، وأما إن أراد الرجوع في عين شيئه فله ذلك فيرجع في عين شيئه كله إن لم يستوف شيئا من المنفعة، وإن استوفى بعضها حاصَّ بما يقابل ما استوفى منها،
ويخير فيما لم يستوف بين الرجوع فيما بقي من المنفعة والمحاصة فيما ينوب ما بقي من الكراء أو لا يحل، ولكن له المحاصة بجميع الكراء ويوقف ما ينوبه، وكلما استوفي شيء من المنفعة أخذ المكري ما ينوبه مما وقف وهو ما ذكره ابن رشد في المقدمات، وله الرجوع في عين شيئه في الفلس. انتهى.
وعلم مما مر أن المصنف رد بالمبالغة على ابن رشد. واللَّه تعالى أعلم. وقال الحطاب: قال في التوضيح: لو قال بعض الغرماء لا أريد حلول عروضي، وقال المفلس: بل حكم الشرع بحلول ما علي ولا أوخرها فالقول للمفلس، ويجبر المفلَّسُ المستحِقَّ على أخذها. قاله في الموازية والعتبية. واعترضه اللخمي بأن الحلول إنما كان لحق رب السلع، فينبغي أن يكون القول له في التأخير. انتهى. وقال في التوضيح أيضا: ولو قالت الورثة نحن نأتي بحميل ملي ونؤدي عند الأجل ومكِّنونا من قسم التركة كلها لم يكن لهم ذلك. قاله ابن نافع في المبسوط. قاله الحطاب. وقال الشارح: وما ذكره المص في الموت هو المشهور خلافا للسيوري في قوله إن المؤجل لا يحل به وأحرى على قوله: "المفلس". انتهى.
أو قدم الغائب مليا عطف على المبالغ عليه يعني أن الغائب إذا فلس ثم بعد أن فلس قدم مليا فإن ذلك حكم لا ينقض فيحل ما كان مؤجلا عليه وهذا ظاهر قول أصبغ، وقيل: لا يحل ما كان مؤجلا عليه لأنه حكم تبين خطؤه ولا يرد ما قبض من دينه قبل الأجل اتفاقا، قال الخرشي موضحا للمص: فإذا فلس الغائب وحكم الحاكم بحلول ما عليه من المدين المؤجل ثم قدم مليا فإن الحكم لا ينقض ولا يرد لأجله؛ لأن الحاكم حكم وهو مجوز لما ظهر، وبدليل أن من قبض شيئا من دينه قبل أجله لا يرده اتفاقا، فكذا ما بقي، وقيل لا يحل ما بقي لكشف الغيب عن خلاف ما ظنه هو كحكم تبين خطؤه في نفس الأمر واختاره بعض المحققين. انتهى. وقال البناني عند قوله:"أو قدم الغائب مليا" ما نصه: هذا ظاهر قول أصبغ، ومقابله اختيار بعض القرويين قال: لأن الغيب كشف خلاف ما حكم به فصار كحكم تبين خطؤه، قال في التوضيح: قال ابن عبد السلام: والأول أقرب لأن الحاكم حين قضى بالمحاصة كأنه مجوز لما قد ظهر الآن، وأيضا فهو
حكم واحد وقد وقع الاتفاق على أن من قبض شيئا من دينه المؤجل لا يرد ذلك أي إذا قدم مليا فكذلك ما بقي. انتهى. انتهى.
وإن نكل المفلس حلف كلٌّ كهو يعني أنه لو قام للمفلس شاهد بحق ونكل عن الحلف معه، فإن كلا من غرمائه يحلف مع الشاهد المذكور كما يحلف المفلس لو حلف، أي يحلف كل أن جميع ما شهد به الشاهد حق؛ لأن كل واحد ينزل منزلته ولا يحلف كل على منابه فقط، ومن حلف منهم الحلفَ المذكورَ أخذ حصته فقط من المدين بنسبة قسمة الديون كما يأتي. ولو حلف بعضهم ونكل غيره أي غير البعض الحالف فلا يستحق الحالف إلا قدر نصيبه فقط مع حلفه على الجميع. هذا قول ابن القاسم. واختاره ابن أبي زيد.
وإلى اختيار ابن أبي زيد أشار بقوله: على الأصح، وقال محمد بن عبد الحكم: يأخذ جميع حقه، وعلى الأول الذي هو قول ابن القاسم يسقط حق الناكل بعد يمين المطلوب، فإن نكل غرم بقية ما عليه لأن النكول كشاهد ثانٍ واقتسمه جميع الغرماء من نكل ومن حلف، فيأخذ حصة بالحلف وحصة بالحصاص مع الناكلين. قاله عبد الباقي. قوله: واقتسمه جميع الغرماء لخ، قال البناني: هذا هو الظاهر، خلاف قول الخرشي يختص به الناكل. انتهى. قال عبد الباقي: وإذا طلب من نكل من الغرماء العود لليمين ففي تمكينه قولان الأظهر عدمه كما يأتي آخر الشهادات. وشمل قوله: "إن نكل المفلس" ما إذا وجبت يمين عليه في وفاء دين كان عليه لبعض الغرماء أو غيرهم قام له بالوفاء شاهد ونكل عنها فيحلف غرماؤه أيضا على الراجح، وما إذا ردت عليه أو توجهت عليه لمن ادعى عليه حقا ونكل عنها أو لاستظهار، كأن شهدت له بينة على ميت مثلا أو لقسامة في خطإ، ولكن لا يجري قوله: وأخذ حصته ولو نكل غيره في الصورتين الأوليين من هذه الصور، ومثل المفلس الميت، ويبدأ الورثة بالحلف إن كان في الدين فضل عن الغرماء وإلا بدأوا بالحلف على الأرجح، وإذا امتنع الورثة من الحلف في القسم الأول حلف الغرماء وأخذوا دينهم، وللورثة العود للحلف ليأخذوا الفاضل إن اعتقدوا عدم فضل شيء حال نكولهم قبل وعلم صدقهم بقرينة وإلا لم يمكنوا منه، قال التتائي: وإذا كان في الغرماء صغير
فهل يحلف أو وليه أو يوقف لبلوغه؟ أقوال. انتهى. والمذهب الثالث، ومفهوم المفلس أن المدين غير المفلس ليس لغرمائه حلف عند نكوله. انتهى. كلام عبد الباقي.
قوله: وما إذا ردت عليه اليمين أي كما إذا لم يكن له بالوفاء إلا مجرد الدعوى، فتعلقت اليمين بالمدعى عليه فردها على المفلس، وقوله: أو توجهت عليه لخ إنما يحتاج الغرماء إلى الحلف في هذا. واللَّه تعالى أعلم. إذا كانت ديونهم ثابتة بالإقرار لا يأتي بعد وقوله: ولكن لا يجري قوله وأخذ حصته في الصورتين الأوليين لخ، بل يجري في الجميع إلا أنه في دعوى الدين يكون الأخذ حقيقيا وفي دعوى الوفاء يكون حكميا، ومعناه سقطت حصة الحالف ولو نكل غيره، وقوله: أو يوقف لبلوغه يعني بعد حلف المدعى عليه، فإن نكل غرم بنكوله مع الشاهد، والأقوال الثلاثة ذكرها في التوضيح ونصه: فإن كان في الغرماء محجور عليه فهل يحلف المحجور عليه أو وصيه، أو لا يمين على واحد منهما، أو يؤخر إلى رشده، في المذهب؟ ثلاثة أقوال للأندلسيين.
وحكاها في المتيطية في المرأة المولَّى عليها تقوم بكالئها، قال: والمشهور أنها هي التي تحلف، وأفتى ابن عتاب بأن اليمين توقف عنها حتى تخرج من الولاية. انتهى. ذكر ذلك عند قول ابن الحاجب: ويباع بحضرة المفلس بالخيار لخ. وقوله: فهل يحلف المحجور عليه أو وصيه؟ هذا قول واحد وبه تعلم ما في كلام الزرقاني. فتأمله قال جميعه البناني.
فرع:
إذا ادعى الغريم أنه لا مال له، فأقام الطالب بينة على دار أو عرصة أنها ملكه، فقال ابن فرحون في آخر التبصرة في فصل مسائل المديان: مسألة في بيع ملك الغريم وفي المتيطية: وإذا أثبت الطالب مالا للغريم تعينه البينة وقف الغريم على ذلك، فإن أقر بذلك المال أمره الحاكم ببيعه وقضاء دينه، فإن أبى ضيق عليه بالسجن والضرب حتى يبيع ولا يبيعه القاضي كبيعه على المفلس لأن المفلس ضرب على يده ومنع من ماله، فلذلك بيع عليه وهذا بخلافه، وقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن: وإن أنكر الغريم الملك وعجز عن الدفع في شهادة من شهدا
بالملك، فقال بعض الموثقين: عندي أنه يبيعه عليه ولا يضطره إلى بيع ما [ينتقى]
(1)
منه. انتهى نقله الحطاب.
وقبل إقراره بالمجلس أو قربه يعني أن المفلس الأعم أو الأخص يقبل إقراره بدين في ذمته لمن لا يتهم عليه زيادة على ما عليه من الدين، هذا إذا أقر بالمجلس الذي حجر عليه فيه، أو قام عليه غرماؤه فيه، أو بقرب ذلك المجلس بالعرف وهذا إذا كان الدين السابق لإقراره هذا ثابتا بالإقرار، كما قال: إن ثبت دينه بإقرار أي إن ثبت دينه الذي حجر عليه فيه بإقرار، لا إن ثبت عليه ببينة فلا يقبل إقراره لغيرهم لإدخاله به نقصا على من ثبت دينه ببينة. قال عبد الباقي: وهذا حيث كانت الديون الثابتة ببينة تستغرق ما بيده، وأما إن لم تستغرق ما بيده فإن إقراره يفيد بلا نزاع، وكذا لو كانت تستغرق وعلم تقدم معاملته على الأرجح. انتهى.
قوله: وعلم تقدم معاملته على الأرجح غير صحيح، بل المذهب خلافه، وما قاله عبد الباقي قول ابن ميسر، وقوله: وأما إن لم تستغرق ما بيده فغير ظاهر؛ لأنه إن لم تكن عليه ديون فهذا لا يفلس كما تقدم، وإن كان عليه ديون غيرها بإقرار سابق فالظاهر أنه يدخل مع من ثبت دينه بإقرار فقط كما ذكره بعد، سواء استغرقت ديون البينة ما بيده أم لا. فتأمله. ونص ابن يونس: إن كان من له بينة لا يستغرق ماله فيجوز إقراره؛ لأن أهل البينة ليس لهم تفليسه. انتهى منه. فتبين به أن هذا خارج عن الموضوع وهو الإقرار بعد التفليس. واللَّه تعالى أعلم. قاله البناني. وقال ابن عرفة: وإقراره بعد الحجر عليه مقبول على من ليس دينه ببينة إن قارنه أو قاربه، وفي قبوله على من دينه ببينة كذلك ولغوه ثالثها: يقبل لمن علم تقدم تقاض منه. انظر عزوه. انتهى. قاله البناني.
وعزا في التوضيح القول الثالث لمالك في الموازية، فإنه قال: ولمالك في الموازية قول ثالث أن من أقر له المفلس إن كان يعلم منه إليه تعاطٍ ومداينة وخلطة حلف المقر له ودخل في الحصاص مع من له بينة. انتهى. وقول المص: "وقبل إقراره بالمجلس أو قربه إن ثبت دينه بإقرار لا ببينة"، قال
(1)
في الأصل ينتفي والمثبت من تبصرة ابن فرحون ج 2 ص 144 ط دار الكتب العلمية.
عبد الباقي عنده ما نصه: وربما أشعر كلامه بأنه إذا كان بعضه ثابتا بإقرار وبعضه ببينة فلا يعمل بإقراره، وفي كلام ابن عرفة ما يفيد أنه يدخل مع من ثبت دينه بإقرار لا ببينة. انتهى.
وقال المواق: وعبارة المدونة قال مالك: من أقر لرجل قبل التفليس يريد أو وقت القيام عليه بمال فإنه يدخل مع من داينه ببينة، وإن أقر له بعد التفليس فلا يدخل فيما بيده من ماله، ويتحاص في هذا المال أهل دينه دون المقر له، فإن أفاد مالا بعد ذلك دخل فيه هذا المقر له حين التفليس، ومن بقي له من الأولين شيء لأن التهمة إنما كانت في المال الأول. انتهى. وعبارة ابن الحاجب يقبل إقراره في المجلس أو عن قربه ثم لا يقبل إلا ببينة. انتهى.
وهو في ذمته يعني أنه إذا أقر بعد المجلس بطول لمن لا يتهم عليه أو ثبت دينه ببينة، فإن ما أقر به يكون في ذمته فيحاص به فيما يتجدد له بكإرث: لا إن ادَّان فلا يدخل فيه قوله: وهو أي ما لم يقبل إقراره فيه، وقوله:"وهو في ذمته" راجع لفهوم قوله: "بالمجلس أو قربه"، ولقوله: "بلا بينة
(1)
".
وقبل تعيينه القراض والوديعة يعني أنه يقبل تعيين المفلس القراض والوديعة، بمعنى أنه إذا قال هذا المال قراض وهذا وديعة عين ربهما أم لا فإنه يقبل منه ذلك، وإنما يقبل تعيينه القراض والوديعة بشرط أشار له بقوله: إن قامت بينة بأصله أي بأصل ما ذكر من القراض أو الوديعة، بأن تشهد بينة أنه عنده وديعة أو قراض أو أنه أقر قبل التفليس الأعم بأن عنده ذلك عينت ربهما أم لا عند ابن القاسم، قال عبد الباقي: ثم إذا عينه أي عين المفلس المقر له قبل تعيينه إياه من غير يمينه ولو لمن يتهم عليه لشهادة البينة بأصله خلافا لأصبغ، فإن لم يعين صاحبهما ولم يدعهما أحد فينبغي وضعهما ببيت المال على قاعدة المال الذي ضل صاحبه، ومفهوم الشرط بطلانه بالكلية إن لم تقم بينة بأصله ولا يبقى في ذمة المقر، وظاهره ولو ادعاه المقر له، ولعل الفرق بينه وبين المسألة السابقة من قوله وهو في ذمته أن فيها إقرارا في الذمة وهذا لمعين ولم يقبل منه وأعطى ما بيده للغرماء فلم يبق في ذمته. انتهى.
(1)
كذا بخط المؤلف، والذمي:"لا ببينة".
تنبيهات:
الأول: قال عبد الباقي: وقبل تعيينه أي المفلس الصحيح ولو بالمعنى الأعم، ثم قال: واحترزنا بالصحيح عن المريض المفلس فإنه يقبل منه تعيينها لمن لا يتهم عليه وإن لم تقم بينة بأصله. انتهى. قوله: واحترزنا بالصحيح عن المريض لخ، قال البناني: نحوه في الخرشي وهو غير صحيح، قال الشيخ السناوي: وذلك غلط نشأ لهما من عدم فهمهما كلام التوضيح. انتهى. وذلك أنه لما ذكر في التوضيح الخلاف في تعيين المفلس القراض أو الوديعة، قال ما نصه: ابن يونس: ولم يختلف في المريض يقول هذا قراض فلان أو وديعته أنه يقبل إقراره إن لم يتهم عليه، وإن لم يكن على أصل ذلك بينة؛ أي لأن الحجر على المريض أضعف من الحجر على المفلس؛ لأن للمريض أن يشتري ما يحتاجه بخلاف المفلس. انتهى. ومراده المريض غير المفلس كما أفاده توجيهه، لا المريض المفلس كما توهماه فافهم. انتهى.
الثاني: قول عبد الباقي: وظاهره ولو ادعاه المقر له لخ، قال الرهوني: قال التاودي: هذا غير ظاهر، وما ذكره من الفرق غير كاف، وكيف لا يرجع المقر له على المقر في ذمته مع اعترافه بالشيء وقد انتفع به في قضاء دينه وسقوطه بسببه. انتهى منه بلفظه. وهو ظاهر. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
الثالث: قال البناني: مفهوم قول المص: "تعيينه" لخ أنه إن لم يعين بأن قال "لفلان في مالي قراض كذا لم يقبل كما في ابن عرفة آخر القراض، ونصه: الصقلي عن ابن حبيب: ما عينه في المفلس فربه أحق به، وإن لم يعين شيئا فلا يحاص بذلك ربه الغرماء كما لا يصدق في المدين. كذا فسرد أصبغ. ونحوه في التوضيح هناك، وظاهر كلامهما أن ذلك فيما كان من القراض والوديعة بمجرد إقرار المفلس، أعني أقر بذلك ولم يعينه بدليل قولهما كما لا يصدق في الدين، وقد صرح بذلك ابن عرفة في التفليس ونصه: وفي المقدمات لو أقر بمعين كقوله هذا قراض لفلان أو وديعة ففي قبوله ثالثها: إن كان على أصلها بينة صدق في التعيين، ثم قال: ولم يعز ابن شأس الأول إلا لأصبغ، قائلا: لو لم يعين المقر به بطل لأنه إقرار بدين. انتهى.
فقوله: المقر به، وقوله لأنه إقرار بدين صريح في كون القراض والوديعة بالإقرار لا بالبينة أما لو كانا بالبينة فيحاص رب القراض والوديعة الغرماء كما في الموت، ففي العتبية من سماع أبي زيد
بن أبي الغمر عن ابن القاسم من كتاب المديان الثاني ما نصه: وقال في رجل أعطي مالا قراضا فادان ديونا فأفلس: إن المقارِض فيما أعطاه إسوة الغرماء إلا أن يدرك من ماله شيئا بعينه فيكون أحق به، وقول المقارَض إن هذا مال فلان فلا يقبل قوله في ذلك. انتهى. قال ابن رشد في قبول قوله: إن هذا مال فلان خلاف. انتهى. من خط الشيخ ميارة رحمه الله. انتهى كلام البناني.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: تحصل من كلام البناني أنه لا فرق بين التعيين وعدمه، إلا أنه إذا عين يقبل تعيينه إن قامت بينة بأصله، وإذا لم يعين يكون إسوة الغرماء فيما إذا قامت بينة بالأصل، فإن لم تقم بينة بالأصل فلا شيء للمقر له من ماله الموجود في المسألتين. واللَّه تعالى أعلم.
الرابع: قوله: "وقبل تعيينه القراض والوديعة" لخ، قال الشارح: هذا القول هو مذهب ابن القاسم عند ابن شأس، قال: ولم يجزه أشهب إلا ببينة على التعيين ورواه عن مالك، وقال أصبغ: مقيد فيما عين من وديعة أو قرض كانا عينا أو عرضا، كان على أصله بينة أو لم تكن لأنه أقر بأمانة ولم يقر بدين إذا أقر لمن لا يتهم عليه بالتوليج إليه. انتهى.
الخامس: قال عبد الباقي عند قول المص: "وقبل تعيينه القراض والوديعة" ما نصه: كان بالمجلس أو قربه أو مع بعد كما في المواق وابن عرفة وابن يونس والغرياني، خلافا لتقييد الشارح له بالمجلس أو قربه. انتهى.
قوله: أو مع بعد كما في المواق لخ، قال البناني: الذي في التوضيح تقييده بالمجلس أو قربه، وليس في المواق ولا فيما نقل عن ابن يونس تصريح بالإطلاق ولا بالتقييد. انتهى. وقال الحطاب عند قول المص:"وقبل تعيينه القراض والوديعة" إن قامت بينة بأصله" ما نصه هذا إذا كان إقراره بذلك بعد التفليس، قال ابن سلمون: وأما قبل التفليس فجائز لمن لا يتهم بدين أو وديعة أو قراض أو شيء بعينه مع يمين المقر لهم، وقيل بلا يمين. انتهى.
والمختار قبول قول الصانع بلا بينة يعني أنه اختلف إذا فلس شخص من أرباب الصنائع فعين شيئا، أنه لفلان على ثلاثة أقوال: الأوَّلُ لابن القاسم أنه يقبل إقراره لمن أقر له وإن لم تكن لهم بينة، قال اللخمي: وقول ابن القاسم أحسن: ولهذا قال: والمختار قبول قول الصانع بلا بينة،
قال ابن يونس: إنما قبل ابن القاسم قول الصانع؛ لأن الغالب أن ما في أيديهم أمتعة الناس فلا يتهم أن يصرفه عن واحد إلى واحد. الثَّانِي لمالك في العتبية: لا يقبل قوله خشية أن يخص صديقه أو يدفعه لمن يرده إليه. الثَّالِثُ لمحمد: يقبل إذا كان على أصل الدفع بينة أو على إقراره قبل التفليس وإن لم تعرف البينة عينه. انظر الشارح. وقال عبد الباقي: والمختار قبول قول الصانع المفلس في تعيين ما بيده لأربابه، كهذه السلعة لفلان مع يمين المقر له ولو متهما عليه كما هو ظاهر المص وابن يونس، وقيده العجماوي بغير المتهم عليه، وسواء كان بالمجلس أو قربه أو مع بعد بلا بينة بأصله ولابد من هذا وإلا ورد عليه أن قوله:"قبول" لخ يفيد أنه مجرد عن البينة، فلا يحتاج لقوله:"بلا بينة"، وجوابه: ليس المراد بلا بينة على قوله حتى لا يحتاج إليه، بل المراد بلا بينة بأصله كما علمت، ففيه حذف صفة كما في أحمد، وإنما قبل قوله لأن الغالب أن ما في يده أمتعة الناس وليس العرف الإشهاد عند الدفع ولا يعلم إلا من قوله، فلا يتهم أن يقر به لغير ربه. انتهى.
وحجر أيضا إن تجدد مال يعني أن المفلس الذي حكم الحاكم بخلع ماله حصل فيه قسم أم لا، إذا تجدد له مال بعد الحجر عليه، فإن تصرفه فيه ماض لأن الحجر الأول كان في مال مخصوص، فيتصرف في المتجدد إلى أن يحجر عليه، فقوله:"وحجر أيضا" أي يحتاج في رد تصرفه فيما تجدد له من المال بعد الحجر عليه إلى حجر آخر لانفكاك الحجر الأول عنه لكونه في مال مخصوص، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وحجر أيضا على المفلس الذي حكم الحاكم بخلع ماله وإن لم يحصل فيه قسم بين غرمائه، وقول التتائي: الذي أخذ الغرماء ماله، معناه حكم بأخذهم له وإن لم يقسم بالفعل إن تجدد له مال بعد الحجر الأول، سواء كان عن أصل كربح مال تركه بيده بعض من فلسه أو عن معاملة جديدة أولا عن أصل كميراث أو هبة أو صدقة أو وصية أو أرش جناية؛ لأن الحجر الأول كان في مال مخصوص فيتصرف في المتجدد إلى أن يحجر عليه فيه. ابن عرفة: فيما علم أي تجدده، وَما جهل يفتقر لبيان، وَيُرَاعَى في الحجر الثاني أيضا الشروطُ المتقدمة في قوله: بطلبه لخ، ومفهوم الشرط عدم الحجر عليه إن لم يتجدد له
مال وإن طال زمانه. ابن ناجي على المدونة: وبه العمل، وللباجي في سجلاته، يجدد بعد ستة أشهر لانتقال الكسب حينئذ.
ولما كان الحجر على المفلس يخالف حجر السفيه في عدم احتياج فكه إلى حاكم، أشار إلى ذلك بقوله: وانفك الحجر عن المفلس إذا قسم ماله وبقيت من ديونهم بقية، وَكَانَ حلف قبل التفليس أنه لم يكتم شيئا أو بعده وإن كان الطلوبُ حلفَه قبله أو وَافَقُه الغرماء على ذلك من غير حلف.
ولو بلا حكم بالفك ولا يخفى أن تجديد الحجر فيما تجدد يتضمن انفكاك الحجر عليه في غير ما تجدد فذكره لأجل المبالغة، وكان الأنسب أن يقدم قوله:"وانفك ولو بلا حكم" على قوله "وحجر أيضا إن تجدد مال"، ورد بلو قول ابن القصار وتلميذه عبد الوهاب: لا ينفك حجر عن محجور إلا بحكم حاكم لاحتياج الفك إلى الاجتهاد الذي لا يضبطه إلا الحاكم. قاله عبد الباقي.
وقال المواق: ابن شأس: إن لم يبق للمفلس مال واعترف بذلك الغرماء انفك الحجر ولا يحتاج لفك القاضي. ابن عرفة: هذا ظاهر الروايات، قال في المدونة: إن داين الناس بعد التفليس ثم فلس ثانية فمن داينه آخرا أولى من الأولين فظاهر قوله داين الناس ارتفاع الحجر عنه دون حكم حاكم، وكذا قولها: ليس للمفلس أن يتزوج في المال الذي فلس فيه وله أن يتزوج فيما أفاد بعد ذلك. انتهى.
ولو مكنهم الغريم فباعوا واقتسموا ثم داين غيرهم فلا دخول للأولين يعني أن الغريم أي المدين لو مكن الغرماء أي أرباب الديون مما بيده من غير أن يرفعوه إلى الحاكم، فباعوا ماله واقتسموا بحسب ديونهم أو أقتسموا عروضه من غير بيع حيث يسوغ لهم ذلك وبقيت من ديونهم بقية، ثم إنه داين غيرهم أي أخذ من غيرهم مالا بدين في ذمته فَفُلِّسَ ثانيا، فإنه لا دخول للأولين فيما تجدد من مال الآخرين، بل يختص الآخرون بما تجدد من مالهم إلا أن يفضل عن دينهم فضلة فيتحاص فيها الأولون. قال عبد الباقي مفسرا للمص: ولو مكنهم الغريم أي المدين، فأطلقه أول الباب على رب الدين وهنا على المدين لأنه مشترك؛ أي مكنهم مما بيده فباعوا من غير رفع للحاكم واقتسموا بحسب ديونهم، أو اقتسموا عروضه من غير بيع حيث يسوغ لهم ذلك، -وليس بيعهم بيع خيار فيما يظهر؛ لأن فعلهم ليس تفليسا فلا يحل به ما أجل. وفي شرح
الحدود دليل [عليه]
(1)
-، وبقيت لهم بقية ثم داين غيرهم بعد ذلك ففلس ثانيا فلا دخول للأولين في أثمان ما أخذه من الآخرين وفيما تجدد عن ذلك، إلا أن يفضل عن دينهم فضلة فيتحاص الأولون. انتهى. قوله: لأن فعلهم ليس تفليسا فلا يحل به ما أجل لخ فيه نظر، بل سماع أصبغ يدل على أنه تفليس، ونصه: قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول عن مالك في رجل قام عليه غرماؤه ففلسوه فيما بينهم وأخذوا ماله ثم داينه آخرون، إن الآخرين أولى بما في يده بمنزلة تفليس السلطان، ثم قال عن ابن القاسم: وتفليسهم إياه فيما بينهم أبين إذا فعلوا ذلك واجتمعوا فيه وبلغوه، وتبين ذلك تفليسا كالسلطان. ومما يبين ذلك أن يجدوا له الشيء اليسير أو السقط في الحانوت الذي يكشف فيه ويفالس فيأخذون ما وجدوا ويقتسمونه على تفليسه، واليأس من ماله فهو عندي تفليس كالسلطان سواء. ابن رشد: هذا هو حد التفليس الذي يمنع من دخول من فلسه على من عامله بعد التفليس. انتهى. من رسم البيوع من سماع أصبغ من كتاب المديان الثالث. انتهى. قاله البناني.
وقول عبد الباقي: [في أثمان]
(2)
ما أخذه من الآخرين يفيد أنه لا شيء لهم في أثمانها وإن بيعت بربح ويعينه قوله: إلا أن يفضل عن دينهم فضلة، وهذا الذي قاله هو الذي في ابن عبد السلام والتوضيح وغيرهما، قال ابن عبد السلام عند قول ابن الحاجب: ولو مكنهم الغريم من ماله فباعوه واقتسموه ثم تداين فليس للأولين دخول فيه إلا أن يكون فيه فضل كتفليس السلطان، ما نصه: فليس للأولين أن يدخلوا في أثمان ما أخذ من الآخرين، إلا أن يكون فيها فضل فيكون للأولين. انتهى. وهذه هي عبارة التوضيح بعينها. وبهذه العبارة بعينها شرح بهرام كلام المص، ونقل عبارته أبو علي وسلمها، ولذلك سلم التاودي والبناني عبارة الزرقاني، ويشهد لذلك كله قول المدونة: لأن مالكا قال: إذا داين الناس بعد التفليس ثم فلس ثانية فالذين داينوه آخرا أولى من الغرماء الأولين؛ لأنه مال لهم وإن كان المال الذي أفاد بعد التفليس إنما أفاده بإرث أو صلة أو أرش جناية أو نحوه فإن الأولين والآخرين يدخلون فيه، انتهى.
(1)
في الأصل عليهم والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 269.
(2)
في الأصل فيما في أثمان والمثبت من الرهوني ج 5 ص 302.
وألا يعارض ما قدمناه عن المدونة عند قوله: أو بقي مالا يفي بالمؤجل من أن الربح يضرب فيه الأولون والآخرون؛ لأنه في الربح الحاصل في التجارة بالمال الذي كان الآخرون أولى به قبل التجارة به، كما إذا بيع السلع المشتراة فتجر بأثمانها فربح فأثمان السلع للآخرين والربح الناشئ عن ذلك يتحاص فيه الأولون والآخرون. واللَّه تعالى أعلم. قاله الرهوني.
كتفليس الحاكم يعني أن ما تقدم من مسألة التمكين المذكورة هي كتفليس الحاكم؛ أي إذا حكم الحاكم بالمال للغرماء وإن لم يقتسموه ثم داين غيرهم فلا دخول للأولين فيما تجدد من مال الآخرين، إلا أن تفضل فضلة فكذلك مسألة التمكين المذكورة فهي تفليس مثل تفليس السلطان سواءً، لا فرق بينهما. انظر الش وغيره. واللَّه تعالى أعلم.
إلا كإرث صلة وأرش جناية مستثنى من قوله: "فلا دخول للأولين" استثناءً متصلا لا منقطعا، أي فلا دخول للأولين مع الآخرين في شيء من الأشياء للمفلس إلا فيما إذا كان الذي له تجدد لا عن مال كإرث وصلة وأرش جناية عليه أو على وليه ووصية بمال وخلع، فيدخل فيه الأولون والآخرون ومن المدونة بعد كلام ما نصه: إلا أن يكون المال الذي أفاده بعد التفليس إنما أفاده بمورث أو صلة أو أرش جناية ونحوه، فإن الأولين والآخرين يدخلون فيه. نقله المواق. ولما قدم حكما من أحكام الحجر أي الأخص بقوله:"وحل به وبالموت ما أجل" ذكر له حكما ثانيا فقال: وبيع ماله يعني أن الحاكم يبيع مال المفلس إن خالف جنس الدين أو صفته بعد ثبوت دين القائمين والموجودين والإعذار للمفلس، ولكل منهم في دين صاحبه لأن لهم الطعن في بينات بعضهم، وبعد حلف كل أنه لم يقبض شيئا من دينه ولا أسقطه ولا بعضه وأنه باق عليه إلى الآن وتسمية شهود كل. قاله عبد الباقي.
قوله: بعد ثبوت دين القائمين لخ، عبارة التوضيح: واعلم أنه إذا قام الغرماء على المفلس فعلى القاضي أن يكلفهم إثبات ديونهم إلى آخر الشروط الأربعة التي في الزرقاني، ولفظ ابن عرفة: المتيطى وابن فتوح: شرطُ بيع القاضي مال المفلس لقضاء ديونه ثبوتُ الديون، وحلف أربابها على بقائها كيمين بقاء المدين على الميت وثبوت ملك المفلس ما يبيعه عليه. قاله البناني. وقول عبد الباقي: وبعد حلف كل لخ ظاهره أنه يحلف حتى من كان منهم في رسمه شرط تصديقه في
الاقتضاء وهو الصواب، قال في اختصار المتيطية ما نصه: قال ابن العطار: ومن كان من الغرماء في ذكر حقه تصديقه في الاقتضاء انتفع به إن كان مأمونا، وتسقط عنه اليمين بذلك إلا أن يتهِمَ بعض الغرماء بعضا فيحلف جميعهم مطلقا. انتهى.
وقوله: وبعد حلف كل أنه لم يقبض شيئا لخ اعلم أن هذه اليمين يمين قضاء كما يفيده كلام ابن هارون، فلا وجه للتردد في ذلك، ويفيده أيضا ما قاله ابن عرفة عن المتيطى وابن فتوح، وحلف أربابها على بقائها كيمين بقاء المدين على الميت. قاله الرهوني. وانظر آخر كلامه فإنه حسن. واللَّه تعالى أعلم.
بحضرته يعني أن الحاكم إذا أراد أن يبيع مال المفلس فإنه يندب له أن يحضر المفلس للبيع لأنه أقطع لحجته، قال المص: ولا يبعد وجوبه بالخيار متعلق بقوله: "بيع" يعني أن الحاكم إنما يبيعه بالخيار ولا يجوز للحاكم تركه، فإن باع بغيره فلكل من المفلس وغرمائه رده لضررهم بذلك كذا ينبغي. قاله عبد الباقي. ثلاثا يعني أن هذا الخيار الذي يبيع به الحاكم يكون مدتُهُ ثلاثة أيام، وهذا الخيار للحاكم وباع به لاستقصاء وطلب الزيادة، ويكون الخيار ثلاثا في كل سلعة من حيوان وعرض وعقار كما هو ظاهره من شموله للحيوان.
وقال صاحب التكملة: لا يباع بالخيار ثلاثا لسرعة تغيره وافتقاره لمؤنة ولكن لا يباع في يومه، وأما ما يخشى فواته من رطب فاكهة وطري لحم فلا يستأنى به الأيام اليسيرة، وأما يسير الروض كسوط أو دلو وحبل فيباع من حينه. انتهى. نقله أحمد. وسيأتي رد أول كلامه عند قوله:"وعجل بيع الحيوان"، بخلاف خيار التروي فيختلف باختلاف السلع كما قدمه. وانظر هل له المبيع به وعليه فالظاهر أن خيار الثلاث بعده، أو ليس له البيع به؟ وذكر ثلاثا اختصارا لأن المعدود إذا حذف يجوز تذكير العدد وتأنيثه، ثم بيعه بالخيار ثلاثا منحل من جهته لازم من جهة المشتري. قاله عبد الباقي.
وقوله: "بالخيار ثلاثا" اعلم أن هذا ليس خاصا ببيع مال المفلس، بل هو عام في كل بيع يوقعه الحاكم كما صرح به المتيطى وغيره، وكلام المدونة الذي في المواق يفيد ذلك أيضا. انتهى. قاله
الرهوني. وقال المواق: قال في المدونة: ومن شأن بيع السلطان عندنا أن يبيع بالخيار ثلاثة أيام. قال سحنون: يبيع بالخيار لعل زائدا يأتيه. انتهى.
ولو كتبا يعني أن الحاكم يبيع مال المفلس كله ليقضي به دينه، ولا فرق في ذلك بين الكتب وغيرها، قال عبد الباقي: ولو كتبا ظاهره ولو احتاج إليها فليست كئالة الصانع؛ لأن شأن العلم أن يحفظ ويستثنى ما هنا مما يأتي في باب الإجارة من كراهة بيع كتبه؛ لأن ما يأتي في غير ما يجب لغيره فهو أمر اختياري. انتهى. قوله: ويستثنى ما هنا مما يأتي لخ هذا توفيق بين ما هنا وما يأتي، والظاهر من كلام المواق وغيره أن ما يأتي هو مقابل ما هنا، وهو الذي صرح به في التوضيح حيث قال: الخلاف في بيعها من حيث الجملة فكرهه مالك مرة ومنعه أخرى، قال: والمشهور الذي عليه الجمهور جواز المبيع. محمد بن عبد الحكم: قد بيعت كتب ابن وهب بعد موته بثلاث مائة دينار وأصحابنا متوافرون حاضرون فما أنكروا ذلك، وكان أَبي الوَصِيَّ. انظر البناني. وقال الشارح: حكى اللخمي قولين بالكراهة والمنع، وحكى القول بتشهير الجواز. انتهى. وقال عبد الباقي: ومحل الخلاف في الكتب الشرعية كفقه وتفسير وحديث وينبغي وآلته وما عداها لا خلاف في جوازه. انتهى.
أو ثوبي جمعة إن كثرت قيمتهما يعني أن الحاكم يبيع مال المفلس، ولا فرق في ذلك بين ثوبي الجمعة وغيرهما بشرط أن تكثر قيمتهما فيباعان ويشترى له دونهما، فإن لم تكثر قيمتهما تركا له قال عبد الباقي عند قوله:"إن كثرت قيمتهما" ما نصه: يحتمل بالنظر لهما أو لصاحبهما المفلس ويشترف له دونهما، قال التتائي: وانظر ما المراد بهما. انتهى. وفيه قصور، فقد قال ابن عبد البر في شرح حديث الموطإ وهو:(ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته)
(1)
. والمراد بالثوبين قميص ورداء أوجبة ورداء، والمهنة بفتح اليم الخدمة. انتهى. ومن المدونة قال مالك: يبيع الإمام عليه عروضه كلها وداره وخادمه وسرجه وسلاحه وخاتمه وغير ذلك إلا ما لابد منه من ثياب جسده، ويبيع عليه ثوبي جمعته إن كانت لهما قيمة وإن لم تكن
(1)
الموطأ، كتاب الجمعة، رقم الحديث 18.
لهما قيمة فلا. انتهى. وفي نقل الشارح: وإن كان لثياب جمعته قيمة بيعت وإلا تركت. وإلى هذا أشار بقوله: "إن كثرت قيمتهما" وهذا استحسان والقياس المبيع. انتهى.
وفي بيع آلة الصانع تردد يعني أنه وقع التردد من عبد الحميد الصائغ في بيع آلة الصانع المحتاج لها وقلت قيمتها، هل تباع عليه أو لا تباع عليه؟ قال عبد الباقي: وفي بيع آلة الصانع المحتاج لها وهي قليلة القيمة كمرزبة الكماد ومطرقة الحداد وعدم بيعها تردد لشيخ المازري عبد الحميد الصائغ، فكان يتردد في بيع ذلك وهو جار على اصطلاح المص؛ لأن معناه التحير فقوله: وبالتردد لتردد المتأخرين أي بالتحير لتحير جنس المتأخرين فيصدق بالواحد كما هنا. وأما غير المحتاج لها فتباع من غير تردد وكذا لو كثرت قيمتها. انتهى.
وقال المواق: قال أبو حفص: الصانع إذا فُلِّسَ ترك له آلة البناء إن كان بناء، وكذلك جميع الصناع ترك لهم الآلة لأنهم بها [يتعشون]
(1)
لكنهم يجعلونها في الزكاة في مقابلة ديونهم إذا لم يفلسوا. البرزلي: حكم بعض أصحابنا ببيعها، فذكر له فتيا أبي حفص، فقال إنما بعتها لأنه ينتصب بها للناس يغرهم بذمته فأقطع مادته حتى يكون أجيرا تابعا. انتهى.
وأوجر رقيقه يعني أن المفلس يؤجر عليه رقيقه الذي لا يباع عليه في الدين، بأن تكون فيه شاتبة حرية ويكون فيه كثير خدمة كمدبر ومعتق لأجل وولد أم الولد من غيره أي الحادث بعد الإيلاد، وكذا يؤاجر رقيق سيد جعل خدمته للمفلس مدة أو حياة أحدهما لا إن أخدمه لشخص وجعل مرجعه للمفلس. قاله عبد الباقي.
بخلاف مستولدته يعني أن المفلس لا تؤجر أم ولده ولا حظ للغرماء في جبره على ذلك؛ لأنه ليس له فيها إلا الاستمتاع وقليل الخدمة، قال عبد الباقي: بخلاف ما ليس فيه شائبة حرية فيباع لأنه مال من أمواله، وما فيه يسير خدمة نحو مستولدته فلا تؤاجر إذ ليس له فيها غير استمتاعه بها ويسير الخدمة، قال في المقدمات: وإن ادعى في أمة أنها أسقطت منه لم يصدق إلا أن تقوم بينة أو يكون فشا ذلك قبل ادعائه، وإن كان لها ولد قائم فقوله مقبول أنه منه. انتهى. وكذا لا
(1)
كذا في الأصل والذي في المواق ج 5 ص 50 ط دار الفكر يتمعشون.
يؤاجر من لا خدمة له عليه أصلا كمكاتب مثلا وإن كانت كتابته تباع، ولا يَجْبُر مسلمٌ ذو دين ورثةَ مدينٍ ذمي ترك خمرا على بيعه وقضاء دينه بثمنها، فإن باعوها بمال حكم بقضاء دينه منه، فإن كان المدين لذمي وترافعا إلينا حكم بينهم بحكم الإسلام، فإن كان المدين الميت مسلما وترك خمرا وجب على ورثته إراقته بحاكم ولم يقض بثمنه دينه ولو لكافر فيما يظهر. انتهى.
ولا يلزم بتكسب يعني أن المفلس لا يلزم بالتكسب لأجل أن يوفي لغرمائه دينهم ولو كان قادرا على ذلك؛ لأن الدين إنما تعلق بذمته، لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ، وسواء عامله الغرماء على التكسب أم لا، وتفصيل اللخمي ضعيف وهو أنه يجبر الصانع لأنه على ذلك عومل لا التاجر وعلى التاجر تكلم مالك. انتهى. قاله عبد الباقي. وزاد عقب هذا ما نصه: فإن شرط عليه عمل بشرطه لأنه شرط فيه غرض ومالية. انتهى. قوله: فإن شرط عليه عمل لخ، قال البناني: فيه نظر، والظاهر أنه لا يلزمه العمل به لظاهر الآية. انتهى.
وتسلف يعني أنه لا يلزم المفلس أن يتسلف مالا لأجل غرمائه ولا قبول هبة ولا صدقة ولا قبول سلف من غير طلب، قال عبد الباقي: إلا إن أراد أحد أن يسلف رب الدين قدر ماله على المدين ليرجع به على المدين من غير قصد عنته فليس للمفلس مقال كما في التوضيح، ولا يرده ما مر في القرض من منعه حيث حصل نفع لأجنبي ورب الدين هنا أجنبي؛ لأنه لما شرط المقرض الرجوع على المدين فكان الغرض إنما هو له، فليس النفع في هذه الصورة إلا للمقترض بحسب المعنى، وإن كان في الظاهر للطالب بقصد نفع غيره. انتهى. قوله: ولا يرده ما مر في القرض لخ فيه نظر؛ إذ لا نفع هنا للأجنبي -وهو المدين- أصلا؛ لأن الموضوع أنه معدم فتأخيره واجب سواء وقع السلف لرب الدين أو لا، وما مر في القرض المدين فيه غير معدم تأمل، وحينئذ فلا حاجة لجوابه. وقوله: ورب الدين هنا أجنبي صوابه والمدين هنا أجنبي. قاله البناني.
واستشفاع يعني أنه إذا ثبتت له الشفعة فإنه لا يلزم بالاستشفاع أي بالأخذ لحظ شريكه بالشفعة التي فيها فضل، قال المواق: قال ابن المواز: قال مالك: ليس لغرماء المفلس أن يجبروه على اعتصار ما وهب لولده أو نحله ولا على شفعة له فيها فضل، وكذلك شفعة الميت والورثة أولى منهم. انتهى. وقال الخرشي: ولا يلزم المفلس أن يأخذ بالشفعة ولو كان فيها فضلٌ زيادةٌ على
الشراء، ولو مات عن شفعته فالشفعة للورثة لا للغرماء، والظاهر أن للغرماء الأخذ في الموت بعد رد الورثة، وكل ما قيل في المدين من المعاملات يقال في دين الأحباس كالناظر مثلا يحبس وتؤخذ أمواله. انتهى.
وعفو للدية يعني أن المفلس لا يلزم بالعفو عن الجاني لأجل أن يأخذ الدية فاللام للتعليل، ويحتمل أن تكون بمعنى على أي لا يلزم المفلس بالعفو عن قصاص وجب له على أخذ الدية ليوفي بها ما عليه، بل له العفو مجانا بخلاف ما يجب فيه الدية خطئا أو عمدا لا قصاص فيه، كجائفة ومأمومة فيلزم بعدم العفو لأنه مال فيلزمه كما مر، وهذا الاحتمال في المص أي كون اللام بمعنى على هو الذي قرر به عبد الباقي، والأول هو الظاهر كما قال الرهوني، قال: وإن كان ما قاله عبد الباقي صحيحا. واللَّه تعالى أعلم.
وانتزاع مال رقيقه يعني أن المفلس لا يلزم بانتزاع مال رقيقه الذي يؤجر عليه، وإن جاز له انتزاع ماله، قال عبد الباقي: أي ليس لهم أن يلزموه بانتزاعه وإن جاز له هو انتزاعه، فإن انتزعه أخذوه بخلاف حبس شرط محبسه لمحبس عليه بيعَه إن شاء فلهم بيعُه كما روى ابن القاسم عن مالك، وإن أبى هو. انتهى. وقال البناني: ابن عرفة: وفيها وليس لغرماء المفلس جبره على انتزاع مال أم ولده ومدبره. ابن زرقون في سماع ابن القاسم: من حَبَّس حُبُسا وشَرَط للمحبَّس عليه البيع فلغرمائه المبيع عليه، يعني وإن أبى الوقوف عليه وهذا يعارض ما تقدم، ثم قال ابن عرفة: ابن رشد: روى محمد: ليس للغرماء (ذلك)
(1)
وهو الآتي على قولها: لا يجبر المفلس على انتزاع مال أم ولده ولا مدبره. ابن عرفة: مقتضى قوله منافاة ما في السماع لقولها في أم الولد والمدبر، ويرد بحصول متعلق الجبر في السماع لأنه ملكه البيع وعدمِه في أم الولد والمدبر لوقفه على الانتزاع. انتهى.
مسألة:
فإن كان المفلس امرأة فليس للغرماء أن يأخذوا معجل مهرها قبل الدخول ولا بعده بأيام يسيرة، ولا يجوز أن تقضي منه في دينها إلا الشيء اليسير، قال في المدونة: الدينار وقال في
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من بناني ج 5 ص 271.
كتاب ابن المواز: الدينارين والثلاثة، وأما ما تداينت به بعد دخول زوجها فإن مهرها يؤخذ فيه. هذا نص رواية يحيى عن ابن القاسم وفيها نظر. ولم يعط جوابا بينا في كالئها، هل للغرماء أن يبيعوه في دينهم أم لا؟ والأظهر أن ذلك لهم لأنه لا يلزمها أن تتجهز به إليه. انتهى. نقله البناني.
أو ما وهبه لولده يعني أن المفلس لا يجبره الغرماء على أن يعتصر ما وهبه لولده ليوفي به دينهم الذي لهم عليه، قال عبد الباقي: أو ما وهبه لولده الصغير أو الكبير قبل إحاطة الدين بخلاف ما وهبه له بعد الإحاطة فلهم رده، واستعمل المص الانتزاع في حقيقته وهو انتزاع مال رقيقه ومجازه وهو انتزاع ما وهبه لولده؛ لأنه إنما يقال فيه اعتصار هذا بالنسبة لعرف الفقهاء، وأما في اللغة فيقال فيه انتزاع أيضا. انتهى.
وبَيَّنَ كيفية بيع مال المفلس من تعجيل واستيناء بقوله: وعجل بيع الحيوان يعني أن الحيوان الذي للمفلس يعجل بيعه أي لا يستأنى ببيعه كما يستأنى ببيع عقاره وعرضه، فلا ينافي أنه لابد من المناداة عليه أياما يسيرة ثم يباع بالخيار، وإنما عجل بيعه لأنه يسرع إليه التغير ويحتاج إلى مؤنة وفي ذلك نقص لمال الغرماء، وليس المراد أنه يباع من غير تأخير أصلا ولا أنه يباع بلا خيار ثلاثة أيام كما توهم صاحب التكملة؛ لأنه لم يقل به أحد. انتهى. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي: وما قاله صاحب التكملة فاسد لأنه لابد من بيعه بالخيار ثلاثا، وهو لازم للمشتري وضمانه ومؤنته عليه فلا ضرر على المفلس. انتهى.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: تأمل قوله: وضمانه ومؤنته عليه فإن فيه وقفة؛ لأن المبيع بخيار ضمانه من مالكه.
واستؤنِيَ بعقاره كالشهرين يعني أنه يستأنى ببيع عقار المفلس الشهرين، وإذا بيع بعدهها يكون فيه الخيار ثلاثة أيام، قال الشارح: المراد بعقاره الدور والأرضون، والمشهور أنه يستأنى في ذلك الشهر والشهرين للتسوق وروى ذلك مطرف، ونحوه في كتاب محمد، وقال: كالشهرين حتى يدخل الشهر وما زاد عليه، لكن يوهم أن ما قارب الشهرين وإن زاد عليهما يكون حكمه كذلك في الاستيناء وفيه نظر؛ إذ لم يذكروا أنه يستأنى به أكثر من شهرين. انتهى.
وقال عبد الباقي: واستوني بعقاره فينادى عليه كالشهرين، وإذا عقد فيه المبيع يكون الخيار ثلاثة أيام والكاف غير استقصائية كما يفيده ابن عرفة، والظاهر وجوب الاستيناء المذكور وإلا خير المفلس بين إمضاء المبيع ورده، ولا يضمن حيث أمضى، وسكت المص عما لا يستأنى به مما يخشى فساده كطري لحم وفاكهة فلا يستأنى به إلا كساعة، وأما نحو سوط ودلو فيباع عاجلا كما مر. انتهى.
تنبيه:
نقل ابن يونس عن مالك أن الحيوان والعروض يتسوق بهما يسيرا والحيوان أسرع بيعا. انتهى. وسمع ابن القاسم يستأنى بالعروض الشهر والشهرين مثل الدور. انتهى من البناني باقتصار.
وقسم بنسبة الديون يحتمل أن الإضافة على معنى اللام أي يقسم مال المفلس والميت على الغرماء بنسبته للديون، والنسبة الضم فتضم مال المفلس إلى الديون فتعرف قدره من قدرها، هل هذا النصف أو الربع أو الخمس؟ مثلا، فلكل نصف دينه أو ربعه أو خمسه، فإذا كان عليه مثلا ألف درهم وغرماؤه خمسة لكل واحد مائتان وما بيده خمس مائة، فإنك إذا نظرت بين الخمس مائة والألف تجد الخمس مائة على النصف من الألف، فلكل واحد مائة نصف دينه وإذا كان غرماؤه في المثال المذكور أربعة لكل واحد من ثلاثة منهم ثلاث مائة وللرابع مائة فلكل من الثلاثة مائة وخمسون نصف دينه، والرابع خمسون نصف دينه. وإن كان ماله مائتين وخمسين وعليه ألف وغرماؤه خمسة لكل واحد مائتان أخذ كل واحد ربع دينه؛ لأن مال المفلس بالنسبة لا عليه الربع. وهكذا واللَّه تعالى أعلم.
ويحتمل أن المعنى بنسبة الديون أي بنسبة بعض الديون إلى بعض أي ينسب كل دين لمجموع الديون، ويأخذ كل غريم من مال المفلس بتلك النسبة ويتضح ذلك بالمثال، فإذا كان عليه ألف وماله خمس مائة وغرماؤه خمسة لكل مائتان فضم دين أحدهم لمجموع الديون تجد ما لكل واحد منهم بانفراده خمس مجموعها، فلكل واحد منهم من مال المفلس الخمس وهو مائة نصف دينه، وهكذا وبقي طريق ثالث قريب من الأول وهو أن يقسم ماله على مبلغ دينه والخارج يسمى جزء السهم، فكل من له شيء أخذه مضروبا في جزء السهم، فإذا كان الديون ثمان مائة لواحد ثلاث
مائة وللثاني كذلك ولثالث مائتان ومال المفلس مائة فاقسمها على ثمان مائة فالخارج ثمن اثنا عشر ونصف هو جزء السهم، فللأول سبعة وثلاثون ونصف وللثاني مثله وللثالث خمسة وعشرون. وقد علمت أن هذه قريبة من الأولى وغاية الأمر أنه على الأول يأخذ كل واحد من المال بنسبته للديون، وفي هذه يضرب الخارج من قسمة المال على الديون فيما لكل واحد، فإذا قسمت المال على الديون ناب كل مائة ثمن مائة وهو اثنا عشر ونصف، فيضرب لصاحب المائتين الثمن في المائتين يخرج له ثمن المائتين وهو خمسة وعشرون، وكل من صاحبي الثلاث مائة يضرب الثمن في قدر ماله يخرج لهما ثمن الست مائة وهو خمسة وسبعون لكل واحد سبعة وثلاثون ونصف. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيه:
قال عبد الباقي: دخل في كلامه مدين ذمي أو مسلم ارتد وفرا بمالهما لدار الحرب، وأفادا مالا ثم غُنِما فإن كل رب دين أحق بما فرا به؛ لأن ديونهم كانت متعلقة بماله وكان يعدى فيه لهم. قاله أبو الحسن. وما زاد على ما فرا به للغانمين، فإن فرا بدون شيء وأفادا مالا ثم غُنِما فليس لغرمائهما حقٌّ فيما أفاداه وكان للغانمين فقط، فإذا جهل قدر ما فرا به وفي دينهما وما فضل للغانمين. وانظر إذا جهل أصل خروجهما بشيء. انتهى.
بلا بينة حصرهم يعني أن الحاكم يقسم مال المفلس بين الغرماء بلا بينة على حصرهم؛ أي أن لا غريم سواهم وفي ذلك تنبيه على مخالفتهم للورثة، فإن الشيوخ اتفقوا على أن الحاكم لا ينظر إلا بعد إثبات الوفاة وحصر الورثة، والفرق أن الورثة عددهم معلوم عند الجيران والأصدقاء وأهل البلد وغيرهم، والدين يعسر ذلك فيه وكثيرا ما يقصد الناس التخفي به. قاله الشارح وغيره. وعبارة عبد الباقي: بخلاف الورثة فإنه يكلفهم ذلك وموت موروثهم وقعددهم منه لخ.
تنبيهات:
الأول: قال البناني عند قوله "بلا بينة حصرهم" ما نصه: بخلاف الورثة فإنه يكلفهم ذلك، لكن يجب أن تكون شهادة بيّنتهم على نفي المعلم لا على القطع. ابن سلمون: وإذا سقط من العقد لا يعلم له وارث سوى من ذكر بطل، ولا تصح الشهادة في ذلك حتى يقول الشاهد لا نعلم له وارثا سوى المذكور. انتهى.
الثاني: قال عبد الباقي: قوله "بنسبة الديون" أراد اللازمة فتخرج الكتابة فلا يحاص بها السيد لأنها ليست بدين لازم، كأن يكاتب سيدٌ عبده المأذون له في التجارة وقام غرماء ذلك العبد وفلسوه واقتسموا ماله فلا يحاصهم السيد بالكتابة، بل إن وفى عتق وإن عجز رق. انتهى. وقال المواق: عند قوله: "بلا بينة حصرهم" ما نصه: ابن شاس: لا يكلف الغرماء حجة على أن لا غريم سواهم، ويكون المعول على أنه لو كان لظهر. انتهى.
الثالث: قال الخرشي: قوله "بلا بينة حصرهم" حال سواء قرئ قسم بالبناء للمفعول أو بالبناء للفاعل؛ أي وقسم حال كونه متلبسا بلا بينة حصرهم، أو وقسم الحاكم حال كونه غير مكلف ببينة حصرهم. انتهى.
واستؤني به إن عرف بالدين في الموت يعني أن الميت إذا كان عليه ديون وأراد الحاكم أن يقسم بين غرمائه ما وجد بيده فلا يخلو أن يكون معروفا بالدين أولا، فإن لم يكن معروفا بالمداينة قسم ما وجد من غير استيناء بلا خلاف، وإن كان معروفا بالدين فإنه يستأنى بالقسم لاحتمال طرو غريم آخر. وقوله: فقط إشارة إلى مذهب المدونة، قال فيها من رواية ابن وهب: لا يستأنى في المفلس، وروى غيره أنه يستأنى به كما في الموت. اللخمي: وهو أحسن. قاله الشارح.
وفرق على مذهب المدونة بين الموت والفلس بأن ذمة المفلس باقية فلو طرأ غريم لتعلق حقه بذمته والميت لا ذمة له، ولأن المفلس لو كان له غريم لأعلم به. قاله الشارح وغيره. وقال المواق: ابن يونس: ظاهر حديث عمر تعجيل قسم مال المفلس بين غرمائه بعد إشهار ذلك، بقوله:"إنا نقسم ماله بالغداة فمن كان له شيء فليأتنا". وقال ملك: يستأنى بقسم مال الميت المعروف بالدين لاجتماع بقية غرمائه. انتهى.
وقال الشارح قال أصبغ: إذا فلس الغريم أو مات ينادى على باب المسجد في مجتمع الناس: إن فلان بن فلان قد فلس أو مات فمن كان له عليه دين أو له عنده قراض أو وديعة أو بضاعة فليرفع ذلك إلى القاضي. انتهى. وقال عبد الباقي: واستؤني وجوبا فيما يظهر باجتهاد الحاكم به أي بالقسم إن عرف بالدين في الموت لخراب ذمته فقط، لا في المفلس لحاضر أو قريب غيبة كبعيدها إن لم يخش أن يكون عليه دين، وإلا استؤني. قاله ابن رشد ففي مفهوم "فقط" تفصيل.
وقوله: "وإلا استؤني" أي في البعيدة، وأراد بها ما قابل القريبة فشملت المتوسطة كذا يظهر، وظاهره الاستيناء مع الخشية وإن لم يعرف بالدين فليس كالميت في هذا. انتهى.
مسألة
قال الحطاب: وأما بيع الورثة قبل قضاء الدين أو قسمتُهم فقال في الشامل في باب التفليس: ومنع وارث قبل وفاء دين، فإن فعل ولم يقدر الغرماء على أخذه إلا بالفسخ فلهم ذلك، إلا أن يدفعه الوارث من ماله على الأشهر كما لو أسقطوا دينهم. انتهى.
وهذا الذي ذكره إذا كان الورثة عارفين بالدين أو كان الميت مشهورا بالدين، وإلا لم ينقض البيع قال في كتاب المديان من المدونة: وإذا باع الورثة التركة فأكلوا ذلك واستهلكوه ثم طرأت ديون على الميت، فإن كان الميت معروفا بالدين (فباعوه)
(1)
مبادرة لم يجز بيعهم، وللغرماء انتزاع عروضه ممن هي في يده أي من يد المشتري ويتبع المشتري الورثة بالثمن، وإن لم يعرف الميت بالديون وباعوا على ما يبيع الناس اتبع الغرماء الورثة بالثمن، كان فيه وفاء أو لم يكن ولا تباعة على من ذلك المال في يده.
قال (ابن)
(2)
محرز: قال في كتاب ابن المواز: إلا أن يشاء المشترون أن يدفعوا قيمة السلع يوم قبضوها على ما هي به من نماء أو نقص. وقوله: وإن لم يعرف الميت بالدين هذا مفهوم قوله: إن كان الميت يعرف بالدين وباعوا مبادرة، فظاهره لا ينتفي عنهم الغرم إلا بشرطين وليس كذلك؛ لأنه إذا لم يعرف بالدين سواء بادر أم لا لأنه لا فائدة في الاستيناء. وقوله: لا تباعة على من ذلك المال بيده، قال ابن يونس: يريد إذا لم يحابوا وإن كان غرماء اتبعهم دون المشتري.
وقوم مخالف النقد يوم الحصاص يعني أنه إذا كان بعض الدين نقدا وبعضه عرضا أو طعاما: أو كان الدين كله عرضا أو طعاما واختلفت الصفة فيهما، فإن من كان دينه مخالفا للنقد أي العين يقوم يوم تحاص الغرماء في ماله أي اقتسموه. وقوله:"وقوم مخالف النقد" يعني يقوم الدين المخالف للنقد مثليا كان أو مقوما، وما ذكره من أن التقويم يوم الحصاص هو المشهور. وقال سحنون: يقوم المؤجل يوم الفلس على أن يقبض إلى أجله. ابن عبد السلام: وهو ضعيف،
(1)
في الأصل فباعه والمثبت من الحطاب ج 3 ص 415 ط دار الرضوان.
(2)
في الأصل أبو والمثبت من الحطاب ج 5 ص 415 ط دار الرضوان.
وتوضيح هذا أن تقول إذا كان على المفلس أو الميت ديون مختلفة لأحد غرمائه مائة درهم ولأحدهم عرض ولأحدهم طعام مثلا، فإن ما خالف النقد من مقوم ومثلي يقوم يوم قسم المال وهو مراده بيوم الحصاص، فإذا كان قيمة الطعام مائة درهم وقيمة العرض مائة درهم ومال المفلس مائة درهم فإنها تقسم بين الغرماء أثلاثا، فيأخذ صاحب النقد ثلث المائة ثلاثة وثلاثين وثلث درهم ويبقى له ستة وستون وثلثان، وينوب صاحب العرض ثلاثة وثلاثون وثلث وصاحب الطعام مثله.
واشتري له أي لصاحب مخالف النقد وهو في المثال المذكور صاحب الطعام وصاحب العرض اللذان ناب كل واحد منهما ثلث المائة منه أي من جنس دينه وصفته بما يخصه من مال المفلس، أي ما نابه منه في الحصاص وهو ثلثا المائة، فيشترى لصاحب العرض صفة عرضه ولصاحب الطعام صفة طعامه، وهذا مع المشاحة، وأما مع رضى من دينه مخالف للنقد فيجوز له أخذ الثمن إلا لمانع كما يذكره قريبا. واعلم أن عروض المفلس إنما تباع إذا خالفت صفة ما عليه أو بعضها. قاله الخرشي.
ومضى إن رخص أو غلا فاعل "مضى" ضمير يعود على القسم أو التقويم، ومعنى كلامه أنه إذا رخصت الأسواق حتى اشتري لمن دينه مخالف للنقد أكثر مما ناب أصحاب النقد، فإن ذلك ماض فليس لأصحاب النقد رجوع عليه وكذلك يمضي القسم إذا غلا السعر حتى اشتري له أقل مما ناب ذا النقد، كما لو كان لصاحب الطعام في المثال المذكور خمسة أوسق فلم يشتر له الطعام حتى رخص السعر، فاشتري له أكثر من ثلث خمسة أوسق فليس لصاحب النقد ولا غيره رجوع عليه ولو اشتري له جميع دينه فيختص به، فإن زاد عن دينه رد الفاضل وإن نقص اتبع المدين بما بقي، وكذا يقال في صاحب العرض. واللَّه تعالى أعلم. وقوله:"رخص" ككرم ضد غلا.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: كأنه من الرخصة التي هي السهولة أي سهل الشراء لكونك تنال بثمن قليل ما أردت من الكثير وغلا كأنه من الغلو وهو مجاوزة الحد؛ بأن صار لا ينال بالثمن المعتاد وإنما ينال بثمن كثير. واللَّه تعالى أعلم.
فائدة:
قال في القاموس: السعر الذي يقوم عليه الثمن جمعه أسعار وسعّروا تسعيرا اتفقوا على سعر. وقوله: "ومضى" قال الشارح: قال المازري: لو تغير السعر حتى صار يشترى أكثر مما كان
له يوم قسم المال فالزائد بين الغرماء، ويدخل معهم كمال طرأ للمفلس. انتهى. وهو مقابل للمص. وقوله:"وقوم مخالف النقد" قد مر أن ذلك جار فيما إذا كان الدين كله عرضا، واختلفت صفته أو كان كله طعاما، واختلفت صفته، وأما لو اتفقت صفته فلا يقوم حيث وافق مال المفلس ما عليه صفة، كإن اختلفت وسلك في معرفة ما يخص كل واحد نسبة كل دين لجملتها، فإن سلك فيه نسبة ما عنده لما عليه قوم وبيع ما عنده واشتري به صنف ما عليه، ويجوز لبعضهم أو جميعهم أخذ ما عنده إلا لمانع كالاقتضاء كما يأتي. قاله عبد الباقي.
وهل يشتري في شرط جيد أدناه أو وسطه قولان يعني أنه إذا كان على المفلس دين من أي نوع كان وقد اشترط في أصل العقد عليه نوعا جيدا مخالفا للنقد، فإنه اختلف على قولين هل يشترى له بما نابه أدنى الجيد وهو قول محمد بن عبد الحكم؟ أو يشترى له وسط الجيد وهو العدل بين المفلس وصاحب المدين؟ قال عبد الباقي: وهل يُشْتَرَى لمن دينه مخالف النقد بما ينوبه في شرط جيد اشترطه مُسْلمٌ عند عقد السلم ودفع رأس المال لِمسْلَمٍ إليه قد فلس أدْنَاهُ أي أدنى أنواع الجيد رفقا بالمفلس، أو يشترى وسطُه أي الجيد وهو العدل بين المفلس ورب المال؛ إذ الأعلى ظلم بالمفلس والأدنى ظلم بالمسلِم قولان، ولم يحمل على الغالب إن وجد كما قال في السلم: وحمل في الجيد والردي على الغالب وإلا فالوسط لحصول الفلس هنا للمسلم إليه دون ما مر، أو يقيد ما هنا بما إذا لم يكن ثم غالب، ومفهوم قوله:"في شرط جيد" أنه إذا شرط أدنى فهل يُشترى له بما نابه أدنى الأدنى أو وسطه؟ قولان أيضا كما قال بعضهم، وجعلهما أحمد بحثا. انتهى. وجعلت قوله:"وهل يُشترى في شرط جيد أدناه" لخ مرتبطا بقوله: "وقوم مخالف النقد يوم الحصاص" وجعله أحمد غير مرتبط به. واللَّه تعالى أعلم. وقال المواق عند قوله: "وهل يُشترى في شرط جيد" لخ ما نصه: الباجي: يعتبر فيما يُشترى له الصفات التي اشترطها، فإن وصفه بأنه جيد فقال ابن عبد الحكم: يُشترى له أدنى ما تقع عليه تلك الصفة وقيل وسط تلك الصفة. انتهى.
وجاز الثمن يعني أنه يجوز لمن دينه مخالف للنقد أن يأخذ الثمن الذي نابه في الحصاص دون أن يُشترى له به طعام أو عرض مسلم فيه، وجاز له أيضا أخذ غير الثمن من عرض مخالف للعرض
المسلم فيه، كأن يكون رأس المال (عرضا)
(1)
والمسلم فيه عرض آخر فيجوز أن يقضيه عرضا من غير جنسه. قاله عبد الباقي.
إلا لمانع يعني أن محل الجواز في أخذ الثمن إنما هو حيث لم يكن ثم مانع، وأما إن كان ثم مانع كالمانع المتقدم في باب الاقتضاء أي أخذ الدين فإنه لا يجوز أخذ الثمن الذي نابه في الحصاص، ويعني بالاقتضاء قوله في السلم:"وبغير جنسه إن جاز بيعه قبل قبضه وبيعه بالمسلم فيه مناجزة وأن يسلم فيه رأس المال"، فلو كان رأس مال الغريم عرضا أسلمه في عرض آخر كعبد في ثوبين فحصل له في الحصاص قيمة ثوب وبقي له ثوب جاز له أخذ تلك القيمة؛ لأنه آل أمره إلى أنه كأنه دفع عبدا في عين وثوب وذلك جائز، بخلاف ما لو كان رأس المال ذهبا ونابه في الحصاص فضة أو بالعكس فلا يجوز أخذ ما نابه، بل يتعين الشراء له من جنس دينه لأنه يؤدي إلى الصرف المؤخر والبيع والصرف وبيع الطعام قبل قبضه إن كان أسلم في طعام، وأما بيعه بثمن ذهب إلى أجل ثم يعطيه عند حلوله فضة فليس من ذلك لأنه صرف ما في الذمة فيجوز حيث حل أجل الذهب وعجل الفضة. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. وحاشية الشيخ البناني.
ويدخل البيع والسلف حيث يكون المأخوذ ورأس المال من صنف واحد، قال في التوضيح: لو أسلم عشرين درهما في إردبين قمحا أو في ثوبين ونابه في الحصاص عشرة مثلا، فلا يجوز أن يأخذ ذلك لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى ويدخله أيضا البيع والسلف. انتهى. وهو ظاهر لأن العشرة على مثلها من العشرين سلف: والإردب أو الثوب الباقي بذمته عن العشرة الأخرى بيع. قاله البناني. وقال المواق ما نصه: ابن رشد: من لم يكن دينه من صنف مال الغريم ابتيع له ما وجب له من صنف دينه ولم يسلم إليه دنانير، فإن أراد أن يأخذها ولا يُشترى له بها شيء لم يجز ذلك إن كان الذي له طعام من سلم؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى إن كان الذي صار له في المحاصة أقل مما ينوب ذلك الجزء من الطعام أو أكثر، وإن كان مثله سواء
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 273.
دخله البيع والسلف وإن كان الذي له طعام من قرض فذلك جائز بكل حال لا يدخله شيء، وإن كان الذي له عرض من سلم لم يجز، وقد قيل إن التفليس يرفع التهمة يعني فيجوز في التفليس ما لا يجوز في الاقتضاء. ابن عرفة: الحاصل أن في هذا روايتين. انتهى. وقال الشارح بعد كلام: والحاصل أن هذا الفصل يجري على حكم الاقتضاء كما قال، وقيل: يجوز هنا كل مسألة منعت في باب الاقتضاء لأجل التهمة لأن القاضي رفع ذلك. انتهى.
وحاصت الزوجة بما أنفقت يعني أن الزوجة تحاص الغرماء بما أنفقت على نفسها في حال يسر الزوج من عندها أو تسلفت وأنفقت على نفسها أو عليه، تقدم إنفاقها على دين الغرماء أو تأخر لأنها معاوضة مالية، ولو كانت نفقتها المتأخرة بعد تفليسه لأنه يترك له النفقة الواجبة عليه ومنه نفقة الزوجة، ولا تحاص بما أنفقته في عسره لقوله في باب النفقة:"وسقطت بالعسر". قاله عبد الباقي. وقال المواق: ابن عرفة: في ثاني نكاحها تضرب المرأة مع غرماء زوجها بما أنفقته في يسره على نفسها لا على ولده الصغير. انتهى.
وبصداقها يعني أن الزوجة تحاص بجميع صداقها ولو فلس قبل البناء لأنه دين في ذمته حل بفلسه، وإذا حاصت بجميعه ثم طلقها قبل البناء فهل ترد ما زاد على نصف الصداق حيث وجد ذلك، أو ترد ما زاد على تقدير المحاصة بنصفه؟ قولان ثانيهما لابن القاسم والأول لابن دينار. قاله التتائي. وهو يفيد ترجيح الثاني. قاله عبد الباقي. قوله: وترد ما زاد على تقدير المحاصة بنصفه لخ، هذا هو الموافق لقول المص في الرهن:"وإلا قدر محاصا بما بقي"، ومثال ذلك لو كان لرجلين عليه مائتان فحاصت الزوجة معهما بمائة الصداق ومال المفلس مائة وخمسون نسبته من الديون النصف فأخذ كل نصف دينه وهو خمسون، فإذا قدرت بعد الطلاق محاصة بالخمسين نصف الصداق كان لها في الحصة ثلاثون لتبين أن مجموع الديون مائتان وخمسون فقط، ومال المفلس ثلاثة أخماسها وترد عشرين للغريمين الآخرين ليكمل لكل واحد منهما ستون وهي ثلاثة أخماس دينه، ولا دخول لها معهما فيما ردته كما هو ظاهر، وبه تعلم أن قول عبد الباقي أي
وتحاص فيما ردته. وكذا قوله: ردت للغرماء خمسة وعشرين غير صواب، ومثل ذلك في الخرشي.
نعم ذكر في التوضيح في باب الرهن عن يحيى بن عمر أنه إن كان بيد كل غريم في الحصاص نصف حقه فلتحبس هي مما في يدها قدر نصفه وترد ما بقي فتحاص معهم فيه، فعلى قوله ترد من الخمسين خمسة وعشرين، وقد علمت أن الباقي لها من دينها خمسة وعشرين
(1)
ولكل واحد منهما خمسون، فمجموع ذلك مائة وخمسة وعشرون. ونسبة الخمسة والعشرين المردودة إليها الخمس، فيأخذ كل واحد منهما خمس ما بقي من دينه تأخذ هي خمسة وهما عشرة لكل واحد. انتهى. بمعناه. لكن لا يقال على هذا ترد ما زاد على تقدير المحاصة بنصفه، ومن العجب أنه وقع في عبارة ابن رشد في المقدمات مثل عبارة الزرقاني، ونصه: إذا فلس الزوج قبل الدخول فقد كان يجب أن لا تحاص إلا بالنصف على قياس من يقول إنه لا يجب للمرأة بالعقد إلا نصف الصداق لا كله، وهو قول ضعيف لا يعضده نظر، والصحيح أن الصداق يجب جميعه بالعقد إلا أنه يجب وجوبا غير مستقر، ولا يستقر جميعه إلا بالموت أو الدخول فإن حاصت بجميع الصداق ثم طلقها قبل الدخول، فقيل إنها ترد ما زاد على النصف إن صار لها بالمحاصة أكثر من النصف، وقيل إنها تحاص الآن بالنصف فيكون لها نصف ما صار لها بالمحاصة وترد نصفه وهو قول ابن القاسم، والأول قول ابن دينار. انتهى.
فقوله: وترد نصفه لا يلائم قوله: تحاص الآن بالنصف. فتأمله. ومثله له في البيان في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، ونصه: ابن رشد: قال ابن القاسم في رواية عيسى عنه في المدنية: إذا فلس الزوج قبل الدخول فحاصت المرأة الغرماء بجميع صداقها ثم طلقها إنَّها ترد نصف ما صار لها في المحاصة؛ لأنها حاصت بجميع صداقها، وإنما كان لها أن تحاص بنصفه. انتهى. قاله البناني. قوله: لكن لا يقال على هذا ترد ما زاد إلى آخره، أشار بذلك إلى أن القولين لا يختلف
(1)
كذا في الأصل والذي في البناني ج 5 ص 274 خمسة وعشرون.
مثالهما، وقد صرح بذلك ابن يونس فقال بعد ذكره القولين ما نصه قال ابن يونس: وما ذكره ابن القاسم أخصر وأبين، والقولان يرجعان إلى حساب واحد. انتهى. قاله الرهوني.
تنبيه:
ظاهر قوله: وبصداقها كانت في العصمة أو مطلقة وهو كذلك خلافا لابن لبابة، قال في اختصار المتيطية ما نصه: قال محمد بن لبابة فيمن فلس فطلق امرأته فقامت بصداقها: لا تضرب معهم به وهو كدين حدث بعد تفليسه وفيه نظر؛ إذ لا فرق بين كونها زوجة أو مطلقة. انتهى. قاله الرهوني. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "وبصداقها" قال عبد الباقي عنده ما نصه: فإن طلقها قبل البناء والحصاص معا حاصت بنصف صداقها، وإذا نكحها تفويضا وفلس قبل البناء ولم يطلق فالظاهر أنها لا تحاص بشيء لأنه إنما يجب لها صداق المثل بالبناء والفرض أنه لم يدخل، فإن طلق قبل البناء فلا شيء لها. انتهى.
كالموت يعني أن الزوجة تحاص الغرماء بنفقتها وصداقها في موت الزوج، وقال ابن الجلاب: للمرأة أن تحاص غرماء زوجها إذا فلس بصداقها في حياته ولا تحاصهم بصداقها بعد وفاته. نقله الرهوني. وقال: لو قال المص ولو في الموت لكان أحسن لرد الخلاف المذهبي. انتهى. واللَّه تعالى أعلم. لا بنفقة الولد يعني أن المرأة لا تحاص بما أنفقت على ولد زوجها في موت ولا في فلس، قال عبد الباقي: لا تحاص في فلس ولا موت بنفقة الولد لأنها مواساة، لكن ترجع عليه به إن أيسر حال إنفاقها لأنها قامت عنه بواجب، وظاهر المص عدم محاصتها بنفقته ولو حكم بها حاكم، وفي أحمد: هذا ما لم يكن بقضية وأنفق وهو ملي وإلا حاصت. انتهى. لكن ظاهر الشارح أنه مقابل، وكذا لا تحاص بنفقتها على أبويه إلا أن يكون حكم بها حاكم عليه وكان مليا وتسلفت فإنها حينئذ تحاص بها. انتهى. قال البناني: انظر هذا فإني رأيت في المنتقى للباجي أنه حكى هذا التفصيل عن أصبغ بعد أن نقل عن رواية ابن القاسم أنها لا تحاص بنفقة الأبوين مطلقا ووجه كلا من القولين فانظره. ونحوه في التوضيح. انتهى.
وإن ظهر دين يعني أن المفلس أو الميت إذا قسم الغرماء ماله ثم طرأ عليهم غريم، سواء علم الغرماء به أم لا ولم يعلم الورثة بالدين وليس الميت مشهورا بالمداينة بدليل ما يأتي، فإنه يرجع على كل من الغرماء بالحصة التي تنوبه لو كان حاضرا، فلا يأخذ مليا عن معدم ولا حاضرا عن غائب ولا حيا عن ميت، فلو كان مال المفلس عشرة مثلا وله غرماء ثلاثة عليه لكل واحد منهم عشرة أحدهم غائب فاقتسم الحاضران ماله فأخذ كل واحد منهما خمسة على قدر دينه ثم قدم الغائب فإنه يرجع على كل واحد منهما بواحد وثلثين، واحترز بقوله:"ظهر دين" عما لو كان أحد الغرماء حاضرا للقسم ساكتا بلا عذر من القيام بحقه فإنه لا يرجع على أحد بشيء؛ لأن سكوته يعد رضى منه ببقاء ما ينوبه في ذمة المفلس، قال في كتاب السلطان من العتبية من كتاب التفليس: ولو كان الغريم حاضرا عالما بدينه والغرماء يقتسمون لا يرجع عليهم بشيء، وكذا لو رأى الورثة يقتسمون التركة وهو حاضر عالم بلا عذر فلا قيام له بذكر حق، فلو كان له عذر من خوف سلطان ونحوه قام ولو كان ذكره ضائعا، وقال: لم أعلم بالدين إلا حين وجدت الذكر حلف وكان له القيام لخبر: (لا يبطل حق امرئ مسلم ولو قدم)
(1)
.
فلو نكل حلف الورثة ما يعلمون هذا الحق ولا يكلفون أن يحلفوا على رد الشهادة، فإن نكلوا غرموا أو من نكل منهم. انتهى. ولو قال كنت أعلم بالدين ولكن كنت أنتظر الذكر أو البينة لم يعذر بذلك إذا سكت على ما للجزولي وابن عمر، وصوبه ابن ناجي ورجع إليه أبو مهدي بعد ما قال إنه يعذر به. قاله الخرشي. قوله: لم يعذر بذلك نحوه لعبد الباقي، قال الرهوني: جزم هنا وكذلك آخر باب الشهادات عند قوله: "ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع"، وزاد هناك ما نصه: فإن سكت لمانع كدعوى جهله ما يقوم به من بينة أو وثيقة ثم وجد عذر بذلك. انتهى.
وسلم التاودي والبناني ما قاله من أنه لا يعذر في الصورة الأولى واعترضا معا ما قاله في الثانية من أنه يعذر بذلك، مستدلين بما في الحطاب عن الجزولي وابن عمر وتصويب ابن ناجي، وكلام البناني يفيد أن ما في الحطاب عمن ذكر يشمل الصورتين معا؛ لأنه استدل به لصحة ما قاله
(1)
موطأ ابن وهب، كتاب القضاء في البيوع، رقم الحديث 328.
الزرقاني هنا في الأولى، واستدل به فيما يأتي لرد ما قاله الزرقاني في الثانية، واختار شيخنا مثل ما للتاودي والبناني من أنه لا فرق بين المسألتين، لكن اعترض ما ذكراه تبعا للحطاب من أن ذلك ليس بعذر، قائلا: بل الراجح أنه عذر فيهما، قلت: وما اتفقوا عليه -طيَّبَ اللَّه ثراهم- من اعتراض التفريق الذي سلكه الزرقاني واضح، إذ لا وجه للتفريق لأن العلة التي علل بها القول بأنه عذر موجودة في الصورتين، وهي ما ذكره غير واحد من أنه يقول خفت أن أرفع إلى الحاكم فيعجزني ويبطل حقي، والعلة التي علل بها القول بأنه ليس بعذر موجودة فيهما أيضا، وهي أنه لو رفعه إلى الحاكم لاحتمل أن يقر له بالحق فلا يحتاج لإقامة حجة، وإذا استويا في العلة (وجب)
(1)
استواؤهما في الحكم وما اختلفوا فيه من الترجيح فالحقُّ فيه مع شيخنا، والصواب ما قاله من أن الراجح أنه عذر في الصورتين؛ لأنه المنصوص للمتقدمين والذي عليه الحفاظ المحققون من المتأخرين.
ثم قال الرهوني بعد جلب كثير من النقول ما نصه: فتحصل من ذلك كله أن الصورتين سواء وأن الراجح أن ذلك عذر فيهما لأنه المنصوص عليه للمتقدمين، إذ رواه ابن حبيب في واضحته عن مطرف وأصبغ وقبله ولم يحك خلافه أصلا، وقبله فضل في اختصاره للواضحة وأبو محمد في نوادره والمتيطى في نهايته وابن سلمون في ديوانه وابن هارون في اختصاره وابن فرحون في تبصرته ولم يذكروا خلافه عن أحد، ونسبه ابن أبي يحيى في حاشيته على المدونة لرواية عيسى وسلم له ذلك أبو الحسن والقاضي المكناسي، وقال الإمام العبدوسي: لم يزل الشيوخ يستقرءونه من قول ابن القاسم وسلم لهم ذلك هو وغيره من المحققين، وهو الذي أفتى به ابن الحاج في نوازله، واعتمد كلامه ابن سلمون وابن هلال والوانشريسي في غير موضع من معياره والشيخ ميارة وأبو علي وغيرهم، وبه أفتى أبو الحسن في أجوبته وهو الذي جزم به الرعيني وابن يحيى وابن دبوس وأبو عبد اللَّه القيرواني، ونقله ابن فرحون عن أبي الحسن الطخيخي عن أبي الحسن الصغير وسلمه وعليه عول المكناسي في مجالسه، وبه يتبين لك صحة ما قلناه من أن ما قاله شيخنا هو
(1)
في الأصل وجد والمثبت من الرهوني ج 5 ص 305.
الحق والصواب، وأن فيما قاله التاودي والبناني نظرا وإن تبعا في ذلك الحطاب، والعجب من اعتمادهما على ما لابن ناجي والجزولي وابن عمر وغفلتهما عما رأيته من النصوص الصريحة والنقول التي لا يبقى لمن اطلع عليها ومعه قلامة ظفر من الإنصاف ما يقول، بل المص يكفيه من ذلك القليل، مع أن شرحي الجزولي وابن عمر قد قيل فيهما ما قيل، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل، انتهى كلام الرهوني.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: تأمل كلام هذا الصمصامة رئيس الفحول، الذي برز في المعقول والمنقول، واقض العجب من اطلاعه العجاب، الذي يبهر العقول ويحير الألباب، فللَّه دره ما أحسن مقاله، وللَّه صنيعه ما أبهر أنقاله، جمعنا اللَّه وإياه في دار المزيد بتفضل ممن قال جل وعلا:{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} .
وقال عبد الباقي: وأشعر قوله: "ظهر" أنه لو حضر غريم قسم تركة بين ورثة أو غرماء ميت عالما بدينه ساكتا بلا عذر فإنه لا قيام له حيث حصل القسم في الجميع، فإن بقي بلا قسم ما يفي بدينه لم يسقط قيامه بقسم غيره. انتهى. وقال الخرشي: وقد أشار ابن عاصم إلى مسألة ما إذا بقي بلا قسم ما يفي بحقه، وحاصله أنه يأخذ حقه من ذلك بعد اليمين أنه لم يترك حقه بوجه. انتهى.
أو استحق مبيع تقريره بحسب ظاهره أن تقول إذا بيعت سلعة من سلع المفلس فاقتسم الغرماء ثمنها ثم استحقت السلعة من يد مشتريها، فإن المشتري يرجع على الغرماء بما ينوبه من ثمنه حيث حصل البيع بعد الفلس، بل وإن كان البيع قبل فلسه فلا يأخذ حيا عن ميت ولا حاضرا عن غائب ولا مليا عن معدم، ويتضح ذلك بالمثال فلو كان عليه عشرون دينارا مثلا لاثنين ولم يوجد عنده إلا سلعتان فبيعت كل سلعة بعشرة فأخذ كل واحد من غريميه عشرة على قدر دينه، ثم استحقت إحدى السلعتين من يد من اشتراها فيرجع على كل واحد من الغريمين بثلث ما في يده وهو ثلاثة وثلث، فيكون لكل واحد من الثلاثة ستة وثلثان، وفي هذا المثال تحمل السلعتان على أن قيمتهما حين التفليس تنقص عن عشرين، وما قررت به المص تقرير له بحسب ظاهره كما عرفت.
وقال الفيشي: إن الصواب إسقاط وإن أي بأن يقول أو استحق مبيع قبل فلسه؛ أي لأنه إذا بيع بعد الفلس تنقض القسمة، ونحوه في السوداني وهو الصواب كما قاله البناني؛ لأن المعاملة إنما هي بينه وبين الحاكم لا المفلس، ثم قال ما نصه: والحاصل أنه بعد الفلس يرجع بجميع الثمن وقبله بالحصة فقط، فهما قد اختلفا في هذا الحكم واتفقا أنه لا يؤخذ الملي عن المعدم ولا الحاضر عن الغائب. واللَّه تعالى أعلم.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: يجاب عن المص بأن يقال: وإن للحال أي أو استحق مبيع والحال أنه بيع قبل فلسه فهذا هو محل رجوعه بالحصة، واحترز بذلك عما لو بيع بعد الفلس فإنه يرجع بجميع الثمن. واللَّه تعالى أعلم.
وعلم مما قررت أن قوله: رجع بالحصة جواب الشرط فهو راجع للمسألتين أي مسألة ظهر دين ومسألة استحق مبيع واللَّه تعالى أعلم. وقوله: "وإن قبل فلسه" مثل الفلس الموت كما في الخرشي، وفيه أن محل الرجوع بالحصة ما لم يعرف المشتري عين ثمنه وإلا رجع به. كوارث أو موصى له على مثله يعني أن الوارث إذا طرأ على الورثة فإنه يرجع [على]
(1)
كل منهم بما يخصه فلا يأخذ مليا عن معدم ولا حيا عن ميت ولا حاضرا عن غائب، وكذلك الموصى له إذا طرأ على الموصى لهم فإنه يرجع على كل واحد بما ينوبه لو حضر، فلا يأخذ مليا عن معدم ولا حاضرا عن غائب ولا حيا عن ميت، فقوله:"على مثله" أي طرأ وارث على مثله وهو الوارث أو طرأ موصى له على مثله وهو الموصى له، وكلامه هنا مجمل يأتي تفصيله في باب القسمة.
وإن اشتهر ميت بدين يعني أن الميت إذا كان مشهورا بالدين ووهب وارثه أو وصيه المال لغرمائه أو قبض الوارث المال لنفسه، ثم طرأ غريم فإنه يرجع على الوارث أو الوصي المقبض لغيره وعلى الوارث القابض لنفسه، فيأخذ منه جميع حقه لاستعجاله بالقسم. أو علم وارثه يعني أن الميت إذا علم وارثه أو وصيه بأنه مدين وأقبض المال للغرماء أو قبض الوارث لنفسه، فإن الغريم الطارئ يرجع على من ذكر لتعديه في قبضه أو إقباضه.
(1)
ساقطة من الأصل.
وعلم مما قررت أن قوله: وأقبض أي الوارث أو الوصي الغرماء راجع للمسألتين، وكذا قوله: رجع الغريم الطارئ عليه أي على الوارث المقبض لغيره أو القابض لنفسه، فيأخذ الملي عن المعدم والحاضر عن الغائب والحي عن الميت. قوله:"وإن اشتهر ميت بدين" قال مصطفى: المسألة مفروضة في المدونة وغيرها فيمن ترك مالا لا يفي بديونه وهذا محل التفصيل، أما من ترك وفاء وقضى الوصي أو الورثة بعض غرمائه ثم تلف ما بقي فليس للباقين رجوع على من قبض من الغرماء إذا كان فيما بقي وفاء بدين الباقين. قاله في المدونة، وهل للباقين رجوع على الورثة؟ فيه تفصيل ذكره أبو الحسن. فانظره في مصطفى. قاله البناني.
وأخذ ملي عن معدم ما لم يجاوز ما قبضه الصواب أن هذا مقحم هنا كما في المواق وابن غازي، وأن قوله:"ثم رجع على الغريم" يوصل بقوله: "رجع عليه" لأن قوله: "وأخذ ملي" لخ خاص بالوارث القابض لنفسه لا بقيد الشهرة أو العلم، بل مطلقا. قال مصطفى: وهكذا في المدونة وابن شأس وابن الحاجب. قاله البناني. ومعنى كلام المص أن الوارث إذا قبض لنفسه ثم طرأ غريم فإنه يرجع على الورثة بدينه ويأخذ الملي عن العدم والحاضر عن الغائب والحي عن الميت، فإذا جاوز دينه ما قبضه أحد الورثة فإنه لا يرجع عليه إلا بما قبضه فقط، ويرجع ببقية دينه على الورثة الآخرين. فإذا لم يف ما قبضه الورثة بدينه فإنه لا يأخذ من الورثة إلا ما قبضوا فقط لا غير، وقد علمت أن قوله:"وأخذ ملي عن معدم ما لم يجاوز ما قبضه" غير مشروط بالشهرة ولا بالعلم فهو عام غير مقيد بالشهرة والعلم.
ثم رجع على الغريم عطف على قوله: "رجع عليه" وهو من تتمة الكلام على المقبض، يعني أنه إذا غرم الوارث أو الوصي للغريم الطارئ مع العلم والشهرة فإن الوارث يرجع على الغريم الذي قبض منه أولا كذا لمالك في كتاب المديان من المدونة. وفيها أي في المدونة وكان عليه أن يزيد أيضا ليعلم منه أن قوله:"رجع عليه" ثم رجع على الغريم في المدونة. البداءة بالغريم أي وقع في المدونة أيضا عن ابن القاسم ما يخالف بحسب ظاهره ما تقدم لمالك في المدونة، وهو أنه يبدأ الغريم الطارئ بالغريم الذي أقبضه الوارث، فإن وجده عديما رجع على الوارث بما يخصه ثم يرجع الوارث على الغريم الأول. واختلف الشيوخ فيما وقع في المحلين هل هو خلاف؟ أي هل
قول ابن القاسم خلاف لقول مالك؟ فمالك يقول بأن الطارئ يرجع أولا على الوارث أو الوصي ثم يرجع الوارث أو الوصي على الغريم الأول الذي أقبضه ولا تخيير للطارئ وهو للخمي وغيره، واستظهره ابن عبد السلام، أو ما في الموضعين وفاق وهو لابن يونس؟ فمعنى قول مالك إن الطارئ يبدأ بالوارث أو الوصي لا على سبيل التعيين، وكذا قول ابن القاسم: يبدأ بالغريم لا على سبيل التعيين بل كلامهما على التخيير بين الرجوع على الورثة والغرماء.
وقوله: تأويلان مبتدأ وخبره محذوف أي في ذلك تأويلان، قال الشارح: قال مالك: وإن علموا بدينه أو كان الميت موصوفا بالدين رجع الغرماء القادمون على الورثة أو الوصي بحصاصهم، ويرجع الورثة أو الوصي بذلك على الغرماء الذين أُقبضوا أوَّلًا. وقال ابن القاسم في باب آخر: إذا أقبض الورثة من حضر وهم يعلمون بدين القادم فإنه إن وجد الغرماء معدمين رجع على الورثة بما ينوبه من ذلك، ثم يرجع الورثة بما أدوا من ذلك على الأولين، وظاهر كلام ابن القاسم أنه لو وجد الغرماء أملياء لرجع عليهم لا على الورثة. انتهى.
تنبيهان:
الأول: قال عبد الباقي عند قوله "تأويلان" ما نصه: قال المص: وينبغي إذا علم الغرماء بالغريم الطارئ أن يكونوا كالورثة يؤخذ الملي عن العدم أي والحاضر عن الغائب أي لا من كل واحد حصته فقط، وكذا ينبغي في الورثة إذا علموا أن يرجع على كل بمبلغ التركة كلها لا بما قبضه هو، وثاني بحثيه خلاف ظاهر كلامه هنا وأولهما صادق بكل من القولين. انتهى.
الثاني: أجاب الشارح في الكبير عن عدم زيادة أيضا بأنه لما تقررت المدونة في أذهان الطلبة فكان في غنى عن ذكر الإشارة لها هنا بأيضا. انتهى. قاله عبد الباقي.
فإن تلف نصيب غائب عزل فمنه يعني أن الحاكم إذا قسم مال المفلس أو مال الميت بين غرمائه، ثم إنه عزل نصيب شخص غائب فتلف بعد ذلك، فإن مصيبته من الغريم الغائب لا من المدين ولا من القاضي أو نائبه لأنه أمين، ومن المدونة قال ابن القاسم ينبغي للقاضي أن يعزل لمن غاب من غرماء المفلس حصته، ثم إن هلك ما عزل كان ممن عزل له. انتهى. قال عبد الباقي: فإن تلف نصيب غريم غائب عزل أي عزله القاضي أو نائبه عند القسم، فمنه أي الغائب ضمانه لأن القاضي أو نائبه أمين، فإن ظهر غريم لم يرجع على غائب ضاع ما وقف له على الأصح كما في
الشامل. وقال ابن المواز: يرجع عليه بحصته منه واعترضه التونسي بوارث طرأ على وارث هلك ما بيده فلا يضمن له ما هلك، وبمشتر هلك ما بيده ثم استحق فلا يضمنه للمستحق ورجع المستحق بثمن المستحق على من قبضه أو بقيمته على من غصبه.
وفرق ابن يونس بين الوارث والغريم بأن دينه عن معاوضة، فما هلك في يده فهو منه والوارث لم يدفع ثمنا فضمان السماوي كأنه من الميت، قال الناصر: فإن قلت هذا التفريق إن صح بين الغريم والوارث فما جوابه عن المشتري، فإن ما استحق منه عن معاوضة فهو كالغريم؟ قلت: إن المشتري لا ضمان عليه لأن للمستحق من يرجع عليه وهو الغاصب أو قابض الثمن. انتهى. وفهم مما قررنا به المص أنه لو عزله الغرماء أو الورثة فتلف لكان ضمانه من المديان. قاله الشيخ سالم. وهو ظاهر في الأولى. انتهى كلام عبد الباقي. قوله: على الأصح كما في الشامل، قال البناني: ما صححه في الشامل خلاف ما عزاه المازري لمعروف المذهب، والأول هو اختيار التونسي، وعزا الآخر للموازية. انتهى باقتصار.
كعين وقف لغرمائه يعني أن الحاكم إذا وقف مال المفلس أو مال الميت ليقضى منه ديونه فتلف ذلك المال، فالمشهور أنه إن كان ذهبا أو فضة فضمانه من الغرماء الحاضرين لتفريطهم في قسمة العين حيث تلفت لأنها مهيأة للقسم، وهذا القول رواه ابن القاسم عن مالك. قال عبد الباقي مفسرا للمص: كعين وقف من الحاكم لغرمائه ثم تلف فمنهم لتفريطهم في قسمة العين إذ لا كلفة في قسمها إذ هي مهيأة له، فإن قيل الواجب وقفت لأن الفعل رفع ضمير مجازي التأنيث فالجواب: أن قوله: "كعين" صفة لموصوف محذوف أي كمال عين، وحينئذ فضمير وقف عائد على المال. قاله أحمد. انتهى.
لا عرض هذا مفهوم قوله: "كعين" لخ يعني أن الحاكم إذا وقف مال الميت أو مال المفلس ليقضى منه ديونه والمال الموقف عرض فتلف ذلك المال، فإن ضمانه من المدين لا من الغرماء الموقوف لهم، وهذا التفصيل الذي مشى عليه المص هو المشهور كما عرفت، وقيل: إن ضمان ذلك من المفلس عينا كان أو عرضا وهل لا يضمن الغريم العرض الموقوف مطلقا كان مثل دينه أو مخالفا له أو لا يضمنه؟ إلا أن يكون العرض الموقوف متلبسا بك أي صفة دينه أي الغريم فيضمنه حينئذ.
وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، وتأويل الإطلاق للخمي والمازري وغيرهما وهو المذهب، وتأويل التقييد بكون عدم ضمان الغرماء للعرض إنما هو حيث كان مخالفا لصفة دين الغريم لابن رشد وعبد الحق عن بعضهم، قال البناني: والتأويلان، قال مصطفى على كلام ابن القاسم في غير المدونة: وقد اعترض المواق كلام المص قائلا: انظر قوله تأويلان ليسا على المدونة. انتهى. ولعل المواق ذكر ذلك في كبيره. انتهى كلام البناني. فإن قيل: لا يوقف من العرض إلا الموافق، وأما المخالف فيباع فكيف يتأتى الخلاف؟ فالجواب أنه تلف الآن عند إرادة بيعه غدا مثلا بسوقه المعتاد. انظر شرح الشيخ عبد الباقي.
تنبيهان:
الأول: قال الخرشي: كعين لخ أي أوقفها الحاكم للغرماء ولم يقسمها ولكن أوقفها لأجل القسم، بخلاف قوله فيما تقدم:"وإن تلف نصيب غائب" لخ فإنه وقع فيه القسم ووقف ليدفع لمستحقه فإن ضمانه ممن وقف له.
الثاني: قوله: "كعين" أي ولو كان دينه عرضا.
وترك له قوته والنفقة الواجبة عليه لظن يسرته يعني أن الذي يترك للمفلس الأخص قوته والنفقة الواجبة عليه إلى وقت يؤدي الاجتهاد أنه يحصل له في مثله ما يتأتى له منه المعيشة وما ذكره الشيخ هو المشهور، ولمالك من رواية ابن نافع: لا يترك له شيء. اللخمي: وقاله ابن كنانة في كتاب المدنيين، قال: وقال ابن القاسم في العتبية: إذا كان المال يسيرا لا خطب له ترك له نفقة الأيام، وقال محمد: إذا كان الذي يوجد لا خطب له لم يترك له شيء. قاله الشارح. وقال مفسرا للمص: يعني أن المفلس يترك له ما يقتات به وما ينفقه على من وجبت نفقته عليه من زوجاته وولده ورقيقه وأمهات أولاده ومدبريه، قال في الموازية وكتاب ابن حبيب: يترك له ما يعيش به هو وولده وزوجته نحو الشهر، وفي المدونة في الزكاة: يترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام وحملها في البيان على العشرة ونحوها، قال: وليس كما في الموازية وإنما هو على قدر الأحوال والعرف في ذلك المكان. المازري: والتحقيق أن يترك إلى وقت يؤدي الاجتهاد إلى أنه يحصل له في مثله ما يتأتى له منه المعيشة، ولهذا قال هنا: لظن يسرته.
المازري: فإن كان صانعا ينفق على نفسه وأهله من صنعته لم يترك له شيء، ومنهم من يترك له نفقة اليومين والثلاثة خوفا من كسله أو مرضه في غد وما بعده. انتهى. ثم نقل عن اللخمي: ويصح أن لا يترك له شيء وذلك أن يكون ذا صنعة وصنعتُه قائمة، ومتى انتزع من يده راح بقوته وقوت عياله، وقيل يترك للصانع النفقة اليسيرة خوف المرض وليس بالبين؛ لأن المرض نادر ولأنه لا يخشى أن يكون ذلك بفور ما يفلس، ولأن الغالب من المفلس أنه يدخر ويكتم. انتهى. وفي الشارح أيضا: والأصل أن للغرماء أن ينتزعوا جميع مال غرمائهم كما قال ابن كنانة، ويكونون هم وغيرهم في مواساته سواء والترك استحسان. انتهى.
وفي المدونة في باب الزكاة: يترك له ما يعيش به هو وأهله الأيام، قال أبو الحسن: والأهل هنا من تلزمه نفقته كالزوجة والولد الصغير والأبوين الفقيرين؛ لأن الغرماء على ذلك عاملوه وهذا بخلاف المستغرق بالمظالم والتباعات إذا فلس فإنه لا يترك له إلا ما يسد جوعته؛ لأن أهل الأموال لم يعاملوه على ذلك. قاله ابن رشد. انتهى. انتهى. نقله الحطاب.
وقال عبد الباقي: وترك له أي للمفلس الأخص من ماله قوته أي ما يقتات به وهو ما تقوم به بنيته، فإذا كان يقتات بطعام فيه ترفه لا يترك له ذلك. قاله أحمد. وكذا يقال في قوله:"والنفقة الواجبة عليه" لغيره وهو من عطف المغاير لا من عطف العام على الخاص، وأراد واجبة أصالة بزوجية أو قرابة أو رق لا يباع كأم ولد ومدبر فلا تسلط لغرمائه على قدر كفايته؛ لأنهم على ذلك عاملوه لا بالالتزام لسقوطها بالمفلس أو الموت. قال في الشامل: من له صنعة ينفق منها على نفسه وأهله لم يترك له شيء، وقيل إلا نفقة كيومين خوف عطله. انتهى. ونفي إلزامه التكسب كما مر إنما هو لأجل أن يأخذه الغرماء في دينهم وما هنا في قوته كما ذكره قائلا: لأنه إذا أمكنه أن ينفق على نفسه وأهله فإنه يلزم بذلك. انتهى. ولا يرد على قوله: أو قرابة أن نفقتها إنما تجب على الموسر فكيف تجب على المعسر؟ لأنا نقول: التفليس لا يقتضي إعساره بها إذ المفلس الذي تجب نفقة القرابة عليه من له مال يترك منه قوت قريبه. انتهى.
تنبيه
علل غير واحد قوله: "وترك له قوته" لخ بقوله: لأنهم على ذلك عاملوه. انتهى.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: الظاهر أن "على" هنا بمعنى "مع" أي عامله الغرماء وقت معاملتهم له وهو ينفق على نفسه أو على نفسه ومن تجب عليه نفقته. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "لظن يسرته" قال عبد الباقي: متعلق بقوله: "قوته" وإن كان جامدا لجواز تعلق الجار والمجرور به. قاله أحمد أي كقوله:
أسد عليَّ وفي الحروب نعامة
…
. . . . . . . . . .
وهذا بخلاف مستغرق الذمة بالمظالم والتبعات إذا فلس فإنه لا يترك له إلا ما يسد به جوعته هو فقط؛ لأن أهل الأموال لم يعاملوه على ذلك. نقله أبو الحسن عن ابن رشد والغزالي. وفي شرح المناسك للحطاب أنه لا يترك له ما يسد به جوعته، وقيل يترك له ما يترك للمفلس، قال التادلي: وهو ضعيف.
وكسوتهم عطف على قوله: "قوته" يعني أنه يترك للمفلس مع قوته والنفقة
(1)
عليه كسوته وكسوة من تلزمه كسوته، كل مبتدأ حذف خبره أي كل من المفلس ومن تلزمه نفقته يكسى دستا معتادا، فقوله: دستا مفعول الفعل المقدر أي كل من ذكر من المفلس ومن تلزمه نفقته يكسى دستا بدال مهملة مفتوحة وسين مهملة. قال عبد الباقي: والدست من الثياب مقابل ثياب الزينة.
معتادا الظاهر أن معناه أن يكون هذا الدست معتادا، فلا يكون من الأعلى جدا ولا من الأدنى جدا. وقال الشارح: واحترز بقوله "معتادا" من ثياب الزينة فإنها لا تترك له وتباع. قاله الخرشي. وفيه شيء مع تفسير الدست بأنه خلاف ثياب الزينة. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. قال الخرشي: والمشهور ما ذكره المؤلف. وقال ابن كنانة: يترك له ما يواريه فقط، وروى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له شيء. ابن القاسم: وإن كانت له ثياب فيها فضل عن لباس مثله بيعت. اللخمي: يريد ويشتري له دونها. انتهى.
(1)
كذا في الأصل ولعلها والنفقة التي عليه.
قَوْلُهُ: "دستا معتادا" قال الحطاب: يعني بالدست القميص والعمامة والسراويل والكعب وهو المداس ويزاد في الشتاء جبة، هكذا فسر الدست النووي في منهاجه، وزاد بعض شروحه: الدراعة التي تلبس فوق القميص إن كان مما يليق بحاله وتزاد المرأة المقنعة والإزار وغيرهما مما يليق بحالها. انتهى. وقال عبد الباقي عند قوله: "دستا معتادا" ما نصه: وهو قميص وطويلة فوقه وعمامة وسروال ومداس، ويزاد في الشتاء جبة لخوف هلاك أو أذى شديد، وتزاد المرأة مقنعة وإزارا لخ، وقوله: كل مبتدأ والخبر محذوف أي يكسي أو يعطى ودستا مفعول ثان ليعطى أو يكسى وجملة المبتدإ والخبر مستأنفة استينافا بيانيا، فهي جواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال:"وكسوتهم"، قال له قائل: ما يكسون أو يعطون؟ فقال: كل لخ. ولم يسقط لفظ كل ليلا يتوهم أن يكسى الجميع دستا. انتهى. ونحوه للخرشي فإنه قال: وإنما لم يسقط لفظ كل ليلا يتوهم أن يكسى الجميع دستا واحدا، فعين أن المراد يكسى كل واحد دستا معتادا أي على العادة لا على عادة المفلس. انتهى.
وقال المواق عند قوله: "دستا معتادا" ما نصه: قال في الاستغناء: لا يترك عليه إلا ما يواري عورته بين الناس، وتجوز به الصلاة، إلا أن يكون في الشتاء ويخاف عليه الموت فيترك عليه ما يقيه البرد. انتهى. قوله: وتجوز به الصلاة أي من غير كراهة. قاله الخرشي. وزاد عن الأجهوري: والظاهر أن خوف الضرر كخوف الموت، وكذا يترك لمن تجب عليه كسوته. انتهى. وقال الشارح عند قوله "دستا معتادا": وما ذكره المص هو المشهور ووجهه أن الثياب المعتادة جرى العرف باستثنائها، وقال ابن كنانة: يترك له ما يواريه فقط، وروى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له شيء، ورده ابن رشد لقول ابن كنانة قال وقول ابن كنانة: هو القياس. اللخمي: واختلف إن كانت الثياب التي على أهله وولده قد خلقت، هل يجدد لهم ذلك؟ فروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: يترك له ذلك، وقال سحنون: لا، قال في البيان: واتفق على أنه لو كسا الزوجة قبل فلسه كسوة لا فضل فيها عن كسوة مثلها وهو قائم الوجه أنها لا تنزع منها. واللَّه أعلم. انتهى.
ولو ورث أباه بيع يعني أن المفلس الأعم إذا ورث من يعتق عليه كأصوله وفصوله وإخوته فإنه يباع في الدين الذي عليه ليُقضَى من ثمنه، كما لو كان ابن عمه يملك ذلك فعات فورثه فإنه يباع ولا يعتق عليه، ومثل المفلس من أحاط الدين بماله فلس أم لا قوله:"ولو ورث أباه بيع" أي إن استغرقه الدين وإلا بيع منه بقدر الدين وعتق الباقي إن وجد من يشتريه مشقصا وإلا بيع جميعه وملك باقي ثمنه. قاله غير واحد. قال الرهوني: كونه يملك باقي ثمنه صحيح، لكن قال في التوضيح: ولا يبعد أن يقال باستحباب التصدق به. واللَّه تعالى أعلم. انتهى. وقوله: "ولو ورث أباه بيع" إليه ذهب ابن القاسم، وقال ابن المواز: لا يباع بل يعتق، وفرق أشهب بين الموت والفلس فقال مثل قول ابن المواز في الموت لا في الفلس.
لا وهب له يعني أن المفلس إذا وهب له من يعتق عليه فإنه لا يباع لأجل قضاء الدين الذي عليه بل يعتق بشرط أشار إليه بقوله: إن علم واهبه أنه يعتق عليه لأنه إنما وهبه حينئذ لأجل العتق، فلو لم يعلم الواهب أنه يعتق عليه بل علم أنه أبوه مثلا فإنه يباع للغرماء في الدين ولا يعتق عليه، وقد علمت أن هذا فيمن أحاط الدين بماله فلس أم لا، وقوله:"لا وهب له" فلو اشتراه فهو ممنوع من ذلك لكن إن وقع فهو صحيح موقوف على نظر الغرماء، فإن ردوا فظاهر وإن أجازوه بيع، كما نص عليه المص في العتق بقوله:"لا بإرث أو شراء وعليه دين فيباع". وحَمْلُ ما يأتي على خصوص من أحاط الدين بماله ولم يفلس غير ظاهر بل ظاهر عبارة التوضيح أن ما هنا أيضا فيمن أحاط الدين بماله فلس أم لا. انتهى.
وحبس لثبوت عسره يعني أن المفلس بالمعنى الأعم يحبس إلى أن يثبت عسره. قاله الرهوني. والظاهر ما عزاه عبد الباقي لمقتضى الش، فإنه قال: مقتضى الشارح عن ابن رشد أن ضمير حبس للمديان مفلسا أم لا، قال البناني: هذا هو الظاهر لأن من جملة هذا التقسيم كما يأتي ظاهر الملاء ومعلومه لخ، قول عبد الباقي: مقتضى الشارح عن ابن رشد لخ، وقول البناني: هذا هو الظاهر لخ، قال الرهوني: فيه نظر؛ لأن كلام ابن رشد وإن أفاد ذلك فلا يشرح به كلام المص هذا؛ لأنه قال بثبوت عسره سواء قلنا اللام للتعليل أو للغاية، وسَجْنُ من علم ملاؤه ليس معللا ولا مغيا بما ذكره المص فتأمله بإنصاف. انتهى.
تنبيهات:
الأول: قال الرهوني: ذكر الحطاب هنا ما محصله أنه لا يحبس في الحديد إلا من حبس في دم أو من يخشى هروبه، ولم يتعرض للحديد الذي يحبس فيه ما هو، وفي المعيار بعد أن ذكر جوابا لابن ورد
(1)
أن المحبوس بالدم يجعل في رجليه القيد ما نصه: قلت الشائع الذائع من فعل أمراء المغرب -أيدهم اللَّه- جعل السلاسل في أعناق الجُناة في المحلة وحال سوْقِهِمْ للنظر في جرائمهم - بين يدي الأمراء والفقهاء، وهو منكر عظيم يجب تغييره، وقد أشرت بذلك مرة فاحتج علي باتصال العمل مع شهادة العلماء الأكابر الجلة لذلك ولا نكير فأمسكت، فأنت ترى هذا الاحتجاج الركيك الساقط، وقد سئل الفقيه الإمام ابن عرفة عن تفسير قوله تعالى:{إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ} فقيل له على مذهب الإمام مالك القائل بجواز القياس على فعل اللَّه: هل يؤخذ من الآية جواز فعل مثل هذا في العقوبات فقال لا يوخذ منها ذلك لأن هذه عقوبة أخروية وتلك عقوبة دنيوية، فقيل له: إن المشارقة يفعلونه، فقال: أخطئوا غاية الخطإ، ولم يذكر المالكية هذا إلا في اعتقال المحبوس للقتل إنما جعل الحديد في رجليه خيفة أن يهرب، وأما عنقه فلا يجعل فيه شيء، وقد كان بعض القضاة فعله قبل هذا وجهل في ذلك. انتهى. منه بلفظه. انتهى.
الثاني: قال الحطاب: قال في المقنع: ويحبس الأخرس فيما يجب عليه إذا كان يعقل ويكتب ويشتري كالصحيح، ويحبس الأعمى والمقعد ومن لا يدان له ولا رجلان وجميع من به وجع لا يمنعه ذلك من الحبس. انتهى. والظاهر أن معنى قوله: ومن به إلى آخره أن من به مرض فإن ذلك لا يمنع من حبسه. انتهى كلام الحطاب.
الثالث: قال الحطاب: وانظر أجرة الحباس على من؟ لم أر فيها نصا، والظاهر أنها كأجرة أعوان القاضي تكون من بيت المال، فإن لم يكن فتكون على الطالب إن لم يلد المطلوب ويختفي كذا نص عليه ابن فرحون في تبصرته واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
(1)
كذا في الأصل وفي الرهوني ج 5 ص 309 وردان.
الرابع: التفليس لا يتوقف على ثبوت العسر كما هو المستفاد من قول المدونة: ويبيع الإمام ما ظهر من ماله فيتوزعه غرماؤه ويحبس فيما بقي إن تبين لدده أو اتهم. انتهى. خلاف ما يفيده كلام ابن عبد السلام من توقف التفليس على ثبوت العدم. انظر البناني. وعلم من المص أنه متى ثبت عسره أخرج من الحبس، قال ابن رشد: حبس الغريم إنما يكون ما لم يثبت عدمه ويظهر فقره. انتهى.
إن جهل حاله يعني أن المفلس إنما يحبس إن جهل حاله هل ملي أو معدم فيحبس لأن الناس محمولون على الملاء، وهذا مما قدم فيه الغالب وهو التكسب على الأصل وهو الفقر؛ لأن الإنسان يولد فقيرا لا ملك له غالبا، ومفهوم الشرط عدم حبسه إن علم عسره. قاله عبد الباقي. وقال الخرشي عند قوله "وحبس لثبوت عسره إن جهل حاله" ما نصه: ذكرا كان أو أنثى، حرا أو مأذونا له في التجارة هذا إن جهل حاله، أما من علم ملاؤه فيؤمر بدفع الحق الآن طاع أو كره، ومعلوم العدم يجب إنظاره فلو ثبت عسره ولو قبل حبسه لم يحبس، والدليل على جواز حبس المفلس قوله تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} ، فإذا جازت ملازمته ومنعه من التصرف جاز حبسه ولا خلاف في ذلك. هكذا نقل شيخ الإسلام بهرام الدميري.
وقوله: "وحبس لثبوت عسره" الخ علم مما مر أن كلام المص في المفلس، وأن المديان غير المفلس يحبس كما أفاده ابن رشد، فإنه قال: حبس المديان على ثلاثة أوجه تَارَةً يحبس للتلوم لاختبار حاله فيمن جهل حاله، وَتَارَةً لاتهام الغريم أن يكون أخفى مالا وغيَّبه، وتَارَةً لكونه أخذ أموال الناس وقعد عليها، والاختيار في المجهول بقدر ما يتبين أمره ويكشف عن حاله، وذلك مختلف باختلاف الدين قلة وكثرة وتوسطا، فيقل في القليل ويكثر في الكثير ويتوسط في المتوسط ووجه ذلك أنه يسجن على وجه اختبار حاله، فوجب أن يكون على قدر الحق الذي يسجن من أجله. اهـ. نقله الشارح.
وقول المص: إن جهل حاله هو المعروف من المذهب كما قاله اللخمي، قال الشارح: واختلف في المجهول هل يحمل حاله على الملاء من غير نظر إلى السبب الموجب للدين وهو المعروف من
المذهب. قاله اللخمي؟ أو يحمل على العدم حتى يتبين ملاؤه وهو قول مالك في المبسوط؟ لقوله فيه: لا يحبس إلا التاجر أو يحمل على الملاء إن كان الدين عن المعاوضة، وعلى العدم في غير ذلك كنفقة الآباء والأبناء وهو قول ابن القاسم وأشهب، وسواء عندهما كان العوض متمولا أم لا، ووافقهما على هذا القول ابن كنانة وسحنون بشرط أن يكون العوض متمولا، فإن كان مما لا يتمول كالصداق الذي هو عوض عن الذي لا يتمول، وكأرش الجناية فهو محمول عندهما على العدم. نقله الشارح.
ولم يسئل الصبر له بحميل بوجهه يعني أنه إنما يحبس بشرط أن يجهل حاله، وأن لا يسئل هذا الذي جهل حاله الصبر عن حبسه إلى أن يثبت عسره بإعطاء حميل بالوجه، فأما إن سأل الصبر أي تأخير حبسه إلى ثبوت عسره والحال أنه أعطى حميلا بالوجه فإنه لا يحبس وأولى لو أعطى حميلا بالمال. وقوله:"بحميل" الظاهر أن الباء فيه بمعنى مع، وهو حينئذ متعلق بيسئل أو للسببية ويتعلق حينئذ بالصبر أو هو حال. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. وقوله:"له" اللام للغاية وهو متعلق بالصبر، وقوله:"بوجهه" متعلق "بحميل"، والضمير في "يسئل" عائد على "من جهل حاله": وفي "له" عائد على "ثبوت عسره" قال البناني. قال في التوضيح: عياض: لم يبين في المدونة هل الحميل بالوجه أو بالمال؟ والصواب أن يكون بالوجه هكذا نص عليه أبو عمران وأبو إسحاق وغيرهما من القرويين والأندلسيين ولا يقتضي النظر غيره. اهـ.
ونقل بعضهم عن المتيطى أنه يكلف إقامة حميل بالمال إلى أن يثبت العدم، فإن عجز عن حميل المال سجنه على القول المشهور المعمول به لخ، فانظره. اهـ. وقال الرهوني: إنما قيد المص بالوجه لأنه محل التوهم فيؤخذ منه بالأحرى أنه لا يسجن إن أعطى حميلا بالمال وهو محل اتفاق، وقول البناني: ونقل بعضهم عن المتيطى أنه يكلف إقامة حميل بالمال لخ، ما نقله هذا البعض عن المتيطى لم يذكره ابن عرفة أصلا لا عنه ولا عن غيره حتى على أنه شاذ فضلا عن أن يكون مشهورا، وقد اقتصر على الحميل بالوجه فانظره، وعليه أيضا اقتصر ابن سلمون فانظرهما، ولم ينقل أبو علي ذلك عن المتيطى ولا وجدته في اختصار ابن هارون ولا في المعين، وقد اقتصر
ابن يونس على ما اقتصر عليه عياض وغيره وعزاه لابن القاسم ونصه: وإذا أراد أن يعطي حميلا بوجهه إلى أن يثبت فقره فلا يسجن عند ابن القاسم. اهـ. منه بلفظه.
ومقابل قول ابن القاسم لسحنون ففي ابن عرفة ما نصه: ففي المدونة: ويحبس أو يعطي حميلا، فقال التونسي: يريد بالوجه لا بالمال في قول ابن القاسم، ثم قال: قلت لما ذكر اللخمي قول ابن القاسم أنه يقبل منه الحميل، قال: ومنعه سحنون والأول أحسن إلا أن يعرف باللدد فلا يقبل منه، ثم قال: ولما ذكر عياض قولي ابن القاسم وسحنون، قال: وحمل بعضهم قوليهما على الخلاف، ثم قال الرهوني: وهذا كله مما يوجب التوقف في تسليم نقل هذا البعض عن المتيطى وعلى تقدير صحتة، ففيما ذكره من التشهير نظر لأن من ذكرنا من الحفاظ لم يذكروا هذا القول أصلا فضلا عن أن يكون مشهورا، ولم يذكره أيضا صاحب التوضيح ولا غيره ممن وقفنا عليه، فلو أسقط البناني كلام هذا البعض أو نبه على أنه لم يعول عليه لسلم من إيهام أن ما للمص خلاف المشهور والمعمول به. واللَّه الموفق انتهى. واللَّه تعالى أعلم.
وقال الشارح: وحكى اللخمي في قبول الحميل من الغريم الذي حبس حتى يثبت عسره قولين، قال ابن القاسم: يقبل منه ذلك ومنعه سحنون. اللخمي: والأول أحسن إلا أن يكون معروفا باللدد فلا يقبل منه حميل؛ لأن السجن أقرب لاستخراج الحق من أمثاله. انتهى. قول الرهوني: لم يذكره ابن عرفة أصلا لا عنه ولا عن غيره حتى على أنه شاذ يظهر أنه مناقض لما ذكره ابن عرفة بعدُ عن سحنون. واللَّه تعالى أعلم.
فغرم إن لم يأت به يعني أنه إذا فرعنا على القول بقبول الحميل من الغريم فإن الحميل يغرم ما على الغريم من الدين إن لم يأت بمجهول الحال عند انقضاء المدة التي يجب فيها سجنه لو حضر، فإن أتى به برئ.
وعلم مما قررت أن فاعل "غرم" ضمير يعو على الحميل، والضمير في به عائد على المدين الذي جهل حاله. وقوله:"غرم" بكسر الراء. ولو أثبت عدمه يعني أن الحميل يغرم ما على المدين حيث لم يأت به، ولو أثبت هذا الحميل عدم المدين عند ابن رشد بناء على أن يمين المدين أنه لا مال له بعد ثبوت فقره يتوقف عليها ثبوت عدمه وقد تعذرت منه، واقتصر في باب الضمان
على عدم الغرم حيث أثبت عدمه، فقال: لا إن أثبت عدمه أو موته في غيبته أي فلا ضمان على الكفيل بناء على أن اليمين استحسان وهو طريق اللخمي، إلا أن يظن به كتم المال فتكون لازمة له عند اللخمي أيضا، قال عبد الباقي: قال بعض من شرح: والمشهور من القولين ما للخمي. انتهى. وهو مخالف لما تقرر عند أهل المذهب من تقديم ما لابن رشد على ما للخمي. انتهى. قوله: وهو طريق اللخمي لخ قال البناني: قال بعض شيوخنا: ما قاله اللخمي به جرى العمل بفاس. اهـ. وقول عبد الباقي: إلا أن يظن به كتم المال فتكون اليمين لازمة له عند اللخمي أيضا. انتهى. فإن ظن به كتم المال غرم الضامن باتفاق ابن رشد واللخمي. انظر البناني.
أو ظهر ملاؤه إن تفالس عطف على قوله: "جهل" يعني أن المديان يحبس حيث جهل حاله كما عرفت، ويسجن أيضا إن ظهر ملاؤه حيث تفالس أي ادعى الفلس أي الفقر، بأن قال: لا شيء معي يفي بالدين، وظاهر الملاء هو الذي يظن به الملاء بسبب لبسه الثياب الفاخرة وله خدم من غير علم حقيقته، ومحل سجنه حيث لم يسئل الصبر عن سجنه لثبوت عسره بحميل وإلا أجيب، وهل بالوجه كالمجهول وهو لابن القاسم؟ أو بالمال وهو لسحنون؟ قولان، أو الأول في غير الملد والثاني في الملد؟ قاله عبد الباقي. قوله: كالمجهول قد مر أن فيه الأقوال الثلاثة فانظره، وقال الشارح: وأما إن وعد بالقضاء وسأل أن يؤخر اليوم ونحوه أخره القاضي إن أعطى حميلا بالمال، قال سحنون: فإن لم يجد حميلا به سجن، وظاهر كلامه في المقدمات أنه لا يطلب بحميل، ففيها: وإن سأل أن يؤخر ووعد بالقضاء أخره الإمام حسبما يرجو له، ولا يعجل عليه بالتفليس وبيعِ عروضه عليه في الحين، قال: والروايات بذلك مسطورة في العتبية والواضحة وغيرهما من الدواوين. انتهى المراد منه.
وإلى قول سحنون أشار بقوله: وإن وعد بقضاء وسأل تأخير كاليوم أعطى حميلا بالمال، وعلم مما قدمت أن فاعل:"وعد" ضمير يعود على ظاهر الملاء فهو مفهوم قوله: "إن تفالس"، ويصح أن يعود على من ذكر من مجهول الحال وظاهر الملاء، فيكون مفهوم القسمين؛ لأن الأول يفهم منه أنه ادعى العسر والثاني صرح بذلك. وقوله:"وسأل تأخير كاليوم" أدخلت الكاف يوما آخر، قال عبد الباقي عند قوله:"كاليوم" ما نصه: واليومين فقط، وقوله:"أعطى حميلا بالمال" قد
علمت أنه لسحنون، ولمالك يؤجل ثلاثا وأربعا وخمسا، وجعل هذا مقابلا يفيد أن المذهب أنه لا يؤخر.
وإلا أي وإن لم يعط من ذكر حميلا بالمال سجن حتى يأتي بالحميل أو يقضي ما عليه، وقد مر عن الحطاب على من تكون أجرة الحبْس عند قوله:"إن جهل حاله" كمعلوم الملاء تشبيه بقوله سجن؛ يعني أن معلوم الملاء إذا لم يؤد ما عليه فإنه يسجن حتى يؤدي ما عليه، وقوله:"كمعلوم الملاء" مثلوه بمن يأخذ أموال الناس ويقصد بها التجارةَ ثم يدعي ذهابها ولم يظهر ما يصدقه من احتراق منزله أو سرقة ونحوهما، وقوله:"كمعلوم الملاء" قال عبد الباقي: يسجن أبدا ولا يقبل منه حميل، فالتشبيه في مطلق السجن. انتهى. قوله: يسجن أبدا ولا يقبل منه حميل لخ قال البناني: فيه نظر، بل الذي في التوضيح عن ابن رشد ولا ينجيه من السجن والضرب إلا حميل غارم، ومثله في التوضيح عن عياض ونظمه في التحفة بقوله:
وإن أتى بضامن فبالأدا
…
حتى يوَدِّي ما عليه قعدا
انتهى. قوله: ومثله في التوضيح عن عياض، قال الرهوني: الذي فيه هو ما نصه ولا يؤخذ منه حميل إلا أن يلتزم الحميل دفع المال. انتهى.
وأجل لبيع عرضه إن أعطى حميلا بالمال يعني أن المدين غير المفلس إذا طلب أن يؤجل لبيع عرضه ليقضي من ثمنه الغريم فإنه يجاب إلى ذلك بأن يوجل باجتهاد الحاكم مدة يبيع فيها عروضه بشرط أن يعطي حميلا بالمال، وإلا أي وإن لم يعط حميلا بالمال سجن وليس للإمام بيع عرضه كبيعه على المفلس؛ لأن المفلس قد ضرب على يديه ومنع من ماله فيباع عليه عروضه، كما قدمه المص بقوله:"وبيع ماله بحضرته" فلا يحتاج لتأجيل. قوله: "وأجل" قال عبد الباقي: باجتهاد الحاكم المدين غير المفلس علم ملاؤه أو ظهر أو جهل حاله إذا طلب التأجيل لبيع عرضه واستبعد جعل مجهول الحال له عرض يبيعه. انتهى. قوله: "وأجل لبيع عرضه" هو الذي عند كثير من الأشياخ، وقال آخرون: لا يؤجل ويباع عليه العرض لحينه. قاله الشارح.
وفي حلفه على عدم الناض تردد يعني أن المدين مفلسا أم لا إذا لم يعلم عنده ناض وبيع ماله وقبض الثمن فإن الأشياخ اختلفوا هل يجبر على الحلف على عدم الناض؟ أي العين أي يجبر على أنه يحلف أنه ما أخفى ناضا وهو مذهب ابن دحون، أو لا يحلف وهو مذهب أبي علي الحداد؟ أو يحلف التاجر دون غيره وهو مذهب ابن زرب؟ وهذا الخلاف جار على الخلاف في أيمان التهم.
قوله وإن علم بالناض لم يؤخر هو في معلوم الملاء يعني أن معلوم الملاء إذا علم بالناض عنده لم يؤخر أي لم يؤجل ولم يحلف، بل يضرب باجتهاد الحاكم إلى أن يدفع الحق ولو أدى إلى إتلاف نفسه لأنه ملد. وضرب مرة بعد مرة يعني أن معلوم الملاء إذا لم يؤد ما عليه فإنه يضرب المرة بعد المرة باجتهاد الحاكم في التعدد بمجلس أو بمجالس ولو أدى إلى إتلاف نفسه لأنه ملد، وعلم مما مر أن هنا أربعة أقسام: مدين جهل حاله، هل هو ملي أو معدم؟ هو قوله:"وحبس لثبوت عسره" لخ وهو جار في المفلس وغيره أو في المفلس فقط على ما مر. الثاني: من ثبت عسره لا يسجن جار في المفلس وغيره أي حيث كان عسره ببعض المدين. الثالث: ظاهر الملاء يفهم مما مر أنه في غير المفلس، وعلم مما مر أيضا أن قوله:"وإن وعد بقضاء" جار في مجهول الحال وظاهر الملاء. الرابع: معلوم الملاء يفهم مما مر أنه في غير المفلس.
وعلم مما مر أيضا أن قوله: "وأجل لبيع عرضه" إنما هو في غير المفلس وأنه في معلوم الملاء وظاهر الملاء وفي مجهول الحال مع أنه مستبعد، وعلم منه أيضا أن قوله:"وإن علم بالناض" هو في معلوم الملاء، وأن قوله:"وضرب مرة بعد مرة" في معلوم الملاء علم بالناض عنده أم لا، فقوله:"وضرب" عطف على "أجل" لا على علم. وعلم مما مر أن الضمير في قوله: "وفي حلفه على عدم الناض" عائد على المدين مفلسا أم لا. واللَّه تعالى أعلم.
وإن شهد بعسره أي مجهول الحال وظاهر الملاء، ويبدل من قوله:"عسره" قوله: أنه بفتح الهمزة لا يعرف له مال ظاهر ولا باطن حلف كذلك يعني أنه إذا شهدت البينة على عسر هذا المدين وهو مجهول الحال أو ظاهر الملاء بأن تشهد بأنه لا يعرف له مال ظاهر ولا باطن، فإنه لا يطلق حتى يحلف كذلك على ما شهد به البينة، بأن يقول في يمينه لا أعرف لي مالا ظاهرا ولا
باطنا. وزاد في يمينه على ذلك، وإن وجده أي المال ليقضين الدين وأنظر أي أخر إلى أن يكون موسرا، لقوله جل وعز:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} أي يجب أن يؤخر إلى أن يرزقه اللَّه ما يؤدي منه ما عليه من المدين، قال عبد الباقي: وإن شهد بعسره أي مجهول الحال وظاهر الملاء، وصفة الشهادة أن تقول البينة إنه بكسر الهمزة على أنها محكية بقول مقدر، وفتحها لا يعرف له مال ظاهر ولا باطن حلف كذلك أي لا أعرف لي مالا ظاهرا ولا باطنا، والمذهب أنه يحلف على البت وعلى ما للمص إن ترك من اليمين ظاهرا وباطنا لم تعد، بل إذا امتنع منهما لا يجبر عليهما وهذه إحدى المسائل التي يحلف فيها المدعي بعد بينته، كدعوى المرأة على زوجها الغائب بالنفقة والقضاء على الغائب والميت وَضَابطُهُ كل بينة شهدت بظاهر فإنه يستظهر بيمين الطالب؛ أي من شهدت له على باطن الأمر، ويستثنى من هذا إثبات أحد الأبوين فقر نفسه ببينة لتكون نفقته على ابنه، فإنه لا يحلف مع بينته كما قال المص في النفقات "وأثبتا العدم لا بيمين". انتهى.
قوله: من شهدت له تفسير للطالب، وقوله: على باطن الأمر متعلق بيستظهر. قاله مقيده واللَّه تعالى أعلم. وقوله: والمذهب أنه يحلف على البت، قال البناني: ما ذكره أنه المذهب عليه اقتصر ابن عرفة عن ابن رشد، واقتصر عليه في المفيد وذكر الخلاف في التوضيح، ورجح ابن سلمون أنه يحلف على العلم واعترضه أبو علي في شرحه. انتهى.
تنبيهات:
الأول: قوله أنه لا يعرف له مال ظاهر ولا باطن هو شهادة على نفي العلم، قال عبد الباقي: وفهم منه أنهم لو قطعوا بطلت شهادتهم، وإن قالوا فقير عديم لا مال له ظاهر ولا باطن ففي بطلانها قولان. انتهى. قوله: وفهم منه أنهم لو قطعوا لخ نص ابن عرفة عن ابن رشد، فإن قال الشهود إنه فقير عديم لا مال له ظاهرا ولا باطنا ففي بطلانها قولان بناء على حملها على ظاهرها على البت أو على العلم، ولو نصوا على البت والقطع بطلت. انتهى.
الثاني: وقع لعبد الباقي أنه قال عند قول المص هنا: "وأنظر" ما نصه: باجتهاد الحاكم وفيه نظر، بل يؤخر بغير أجل بدليل الآية. قاله البناني. وقال الشارح عند قوله: وأنظر ما نصه إلى ميسرة، وقال الخرشي عند قوله: وأنظر ما نصه: وقوله وأنظر إشارة إلى الاحتجاج بقوله تعالى:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} على أبي حنيفة في قوله: إن صاحب الدين يلازم الغريم، ووجه الدليل أن اللَّه تعالى أوجب إنظاره إلى اليسر، وفهم من قوله كذلك حلفه على العلم لا على البت. قال في توضيحه: وإذا حلف المطلوب قال أبو عمران: على البت، وقال غيره: على العلم إذ قد يكون يملك مالًا من إرث أو هبة ولم يعلم به والمذهب أنه يحلف على البت.
الثالث: قال عبد الباقي: عند قوله: وزاد وإن وجده ليقضين ما نصه: وفائدة هذه الزيادة عدم تحليفه إذا ادُّعِىَ عليه أنه استفاد مالا، وهذا يفيد أن الزيادة من حق الحالف فله تركها إلا أن يقال تجب عليه لنظر الشارع لترك الخصومة وتقليلها ما أمكن. انتهى. وقال الرهوني في قوله: وزاد وإن وجده ليقضين، نسب المص هذه الزيادة لابن رشد في المقدمات، فقال بعد أن نسبها للمقدمات ما نصه: وهذه الصفة ذكرها في المدونة عن الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وذكرها أيضا صاحب الوثائق المجموعة والمتيطي وغيرهما، وبها أفتى ابن العطار وابن لبابة وذكرها ابن سهل عن جماعة كثيرة. انتهى.
وقال الشارح مفسرا لقوله: وزاد وإن وجده ليقضين أي وإن وجد حقه ليقضين له، وهذه التي ذكرها في المقدمات ذكرها في المدونة عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وذكرها أيضا صاحب الوثائق إلى آخر ما مر، وبهذا تعلم أن قول ابن عبد السلام ما نصه: وروي عن أبي بكر وعمر أنهما كانا يزيدان في هذه اليمين، وإن وجد مالا ليقضين ولم ير مالك هذه الزيادة إلى آخر كلامه ليس على ما ينبغي لما رأيت من المنقول. واللَّه تعالى أعلم.
الرابع: قال عبد الباقي: وجعلنا ضمير عسره يعني من قوله: "وإن شهد بعسره" للمجهول وظاهر الملاء لأن معلوم الملاء لا تنفعه إلا البينة الشاهدة بذهاب ما بيده كما مر، ولا يكفي قولها: لا نعرف له مالا ظاهرا ولا باطنا، ومثله من يقر بملائه وقدرته على دفع الحق ولم تقم قرينة تكذب إقراره، وكذا من عليه حق منجم دفع بعضه وادعى العجز عن باقيه ومن طلب بنفقة ولده بعد
طلاق أمه وادعى العجز عنها؛ لأنه كان ينفق عليه وعلى أمه أمس وهو الآن أقدر (لزول)
(1)
نفقة الأم. انتهى.
الخامس: قال الخرشي مفسرا للمص: يعني أن من جهل حاله وظاهر الملاء إذا شهدت البينة عند القاضي بعسره شهادة على نفي العلم لا على البت أنها لا ترف له مالا ظاهرا ولا باطنا، زاد ابن عات: ولا تبدلت حاله بغيرها إلى حين شهادتهم حلف وجوبا على طبق شهادة الشهود أنه لا يَعْرِفُ له مالا ظاهرا ولا باطنا، ويزيد في يمينه وإن وجد المال ليقضين الحق لغرمائه زاد بعضهم وَلَيُوَدِّين عاجلا وإن كان مسافرا عجل الأوبة. ابن الهندي: هذا كله استظهار واليمين المذكورة كافية لأنها على نية المحلوف له. انتهى. وقوله: "بعسره" نائب الفاعل.
السادس: قال المواق: ابن رشد: إذا ثبت عدم الغريم أو انقضى أمد سجنه فلا يطلق حتى يُستَحلف مَالَهُ مَالٌ ظاهر ولا باطن، وإن وجد مالا ليودين إليه حقه وإنما وجب استحلافه لأن البينة إنما تشهد على العلم لا على القطع. المتيطى: ومن لم يكن له مال يؤدي منه فهو في نظرة اللَّه لا يواجر ولا يستعمل؛ لأن المدين إنما تعلق بذمته. ابن المواز: حرا كان أو عبدا مأذونا له في التجارة. قاله مالك وجمهور أهل العلم. انتهى.
وحلَّف الطالبَ إن ادعى عليه علم العدم يعني أن المدين إذا ادعى على الطالب أي رب الدين أنه يعلم أنه عديم فإن له أن يحلفه، فإذا قال له: لا يحل لك سجني لأنك تعلم من باطن أمري من العدم ما لا يعلمه غيرك، فإن له أن يحلف رب الدين أنه لا يعلم أنه عديم، قوله:"وحلف" بالتشديد، وفاعله ضمير يعود على المدين مجهول حال أو ظاهر ملاء أو معلوم ملاء إلا من علم بالناض عنده فإنه لا يحلف الطالب. وقوله:"الطالب" مفعول حلف، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وحلَّف بالتشديد المدينُ المجهولُ الحال أو ظاهر الملاء أو معلومه لا من علم بالناض الطالبَ لحقه وهو رب المدين إن ادعى المدين عليه علم العدم إذ من حجة معلوم الملاء أن يقول علم الناس بملاءي بحسب ما يظهر لهم، وأنت تعلم باطن الأمر وأني معدم، فإن نكل حلف
(1)
كذا في الأصل والذي في عبد الباقي ج 5 ص 279 لزوال.
المطلوب ولم يسجن، فإن لم يحلف سجن ويجوز تخفيف حلف ثلاثيا وفاعله الطالب وعلى الأول مفعوله. انتهى.
وقال المواق: المتيطى: إن زعم المدين علم رب الدين عدمه لزمه اليمين أنه ما علم عدمه، فإن نكل حلف المدين -قاله غير واحد من الفقهاء وبه كان يفتي ابن الفخا- وثَبتَ عُدمُه. ابن عرفة: كان بعض قضاة بلدنا لا يحكم بهذه اليمين وهو حسن فيمن لا يظن به علم حال المدين لبعده عنه. انتهى. وقال الرهوني: قال ابن ناجي في شرح المدونة بعد ذكره ما للمتيطي وغيره ما نصه: وكان العمل بهذا بتونس إلى أيام الشيخ القاضي أبي إسحاق بن عبد الرفيع حكم به فترك الفضلاء حقوقهم هربا من اليمين فحكم بعدمها واستمر العمل عليه بها وبه أقضي. انتهى. انتهى. فوله: "وحلف الطالب" فإن نكل حلف المطلوب كما علمت أي يحلف أنه لا مال له ظاهرا ولا باطنا، بمنزلة من شهدت له البينة صرح به المكناسي في المجالس.
تنبيه:
قال ابنُ عرفة: اللخمي: قد تنزل مسائل لا تقبل فيها البينة بالفقر منها من عليه دين منجم لخ، ومن ادعى العجز عن نفقة ولده لخ إلا أن تقوم بينة أنه نزل به ما نقله إلى العجز. قال محمد بن عبد اللَّه: كَتبُ الموثقين أن المدين ملي بالحق الذي كتب عليه حسنٌ إن ادعى عُدْما لم يصدق وإن قامت له بينة لأنه مكذب لها ويحبس ويؤدب إلا أن تشهد بينة يعطبٍ حل به بعد إقراره، وذكره المتيطى في كتاب النكاح وزاد عن بعض شيوخه القضاة عن بعض القرويين أن البينة بالعدم تنفعه لأنه في إشهاده بالملاء مضطر لولا ذلك ما داينه أحد، والذي عليه العمل وقاله غير واحد من الموثقين كفضل وابن أبي زمنين وغيرهما أنه لا يقبل قوله ولا تنفعه بينة ويسجن أبدا حتى يؤدي دينه. قاله البناني. واللَّه تعالى أعلم.
ومفهوم قوله: "إن ادعى عليه علم العدم" أنه إن لم يدع ذلك عليه لم يحلفه، ولا إشكال في أن صاحب الدين إذا وافق المديان على أنه عديم لا يسجن بل ينظر للآية المتقدمة، وعلم مما مر أن المدين المعلوم بالناض عنده لا يحلف رب الدين بل يضرب مرة بعد مرة. وفي الخرشي ما نصه: وكلام الشارح والتتائي ومن تبعهما يفيد شمول قوله: "وحلف الطالب" لخ للمعلوم الملاء ولو عرف بالناض وهو بعيد في المعلوم بالناض. انتهى واللَّه تعالى أعلم.
وإن سأل تفتيش داره ففيه تردد الضمير في سأل يعود على الطالب وهو رب الدين، يعني أن رب الدين إذا سأل الحاكم أن يفتش له دار المدين مفلسا أم لا عسى أن يجد شيئا من متاعه يبيعه، فإنه اختلف الشيوخ هل يجاب إلى ذلك أم لا؟ أفتى فقهاء طليطلة بأنه يجاب إلى ذلك وأنكره ابن عتاب وابن مالك. ابن سهل: وأنا أراه حسنا فيمن ظاهره الإلداد والمطل، وقال ابن رشد بعد كلام ما نصه: يقوم منه أن للإمام أن يفتش عليه داره، وكذلد قال ابن شعبان إنه يفتش عليه داره وكان الشيوخ المتأخرون يختلفون في ذلك، والأظهر أن تفتش عليه فما ألفي فيها من متاع النساء فادعته زوجته كان لها، وما ألفي فيها من عروض تجارة بيع لغرمائه ولم يصدق إن ادعى أنه ليس له، وأما إن ألفي فيها من الروض التي ليست من تجارته فادعى أنها وديعة عنده أو عارية أو ما أشبه ذلك جرى ذلك على ما قد ذكرته من الاختلاف في غير ما موضع. انتهى. انظر البناني.
وقال الرهوني: قال أبو علي بعد نقله كلام ابن ناجي: وكلام غيره ما نصه: وقد تبين من هذا أن الراجح في المسألة بحسب الظاهر من المنقول المتقدمة التفتيش في الذي يظهر منه الإلداد دون غيره، وكذا من كان ظاهر الملاء انتهى. وهو ظاهر واللَّه تعالى أعلم. انتهى. وقوله:"داره" أي أو حانوته أو نحو ذلك، فلو قال: كداره لكان أشمل، وقوله:"داره" أي المدين ولو معلوم الملاء وظاهره ولو بعد الشهادة على عدم المدين وحلفه على ذلك ففيه التردد لأن الشهادة على نفي العلم لا على البت. وقوله: "داره" أي بخلاف جيبه وكيسه فيفتش ذلك قولا واحدا؛ لأن هذا أمر خفيف والغالب أن ما في ذلك ملكه. انظر الخرشي.
ورجحت بينة الملاء إن بينت يعني أنه لو شهدت بينة بملاء المدين وشهدت بينة أخرى بعدمه فإن بينة الملاء ترجح على بينة العدم أي تقدم عليها أي هي التي يعمل بقولها وتلغى الأخرى، فلا يعمل بقولها بشرط أن تبين سبب الملاء أي بشرط أن تبين ما هو ملي به، بأن تقول له مال باطن أخفاه. قال البناني: قال ابن عرفة: ابن عات: ولو قالت بينة الملاء له مال باطن أخفاه قدمت اتفاقا. أنتهى. هذا معنى قول المص: إن بينت ولم يتنبه له المواق. انتهى. وقال الخرشي: يعني لو شهد له قوم بالملاء وقوم بالعدم، فإن بينة الملاء تقدم إن بينت سبب الملاء أي عينت
المال أي عينت ما هو ملي به، بأن قالت: أخفى مالا سواء بينت بينة العدم أم لا، فإن لم تبين رجحت بينة العدم بينت أم لا على الراجح، وهما لا يفهم من كلام المؤلف لأن مفهوم بينت يصدق بالتساوي. انتهى.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: الظاهر أنه يفهم ذلك منه لأن مفهوم بينت أنها لو لم تبين لرجحت بينة العدم وذلك شامل لا إذا بينت بينة العدم أو لم تبين. واللَّه تعالى أعلم. وقول الخرشي: "إن بينت" أي بينة الملاء سببه قدمت سواء بينت بينة العدم أم لا، قال الخرشي بعده إنه إن بينت بينة الملاء السبب ترجح، قال في الشامل: اتفاقا، وظاهره بينت الأخرى سبب العدم بغرق أو حرق أم لا، إلا أن تشهد بتلف المال الذي بينته بينة الملاء فتقدم؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
ولما ذكر ما يوجب إخراج المجهول وظاهر الملاء وهو البينة ذكر ما يخص إخراج المجهول وهو طول سجنه، فقال: وأخرج المجهول إن طال حبسه يعني أن المدين المجهول الحال هل هو معدم أو ملي يخرج من السجن إذا طال حبسه، والطول يكون بقدر الدين قلة وكثرة، وحال الشخص قوة وضعفا ويخلى سبيله بعد حلفه على نحو ما تقدم في شهادة البينة بعسره، فطول السجن له بمنزلة البينة، واعتبار الدين يفيد أنه لو وجب عليه سجن ثان كما لو خوصم وهو في السجن في حق لغير من سجن له، فإنه يكتب عليه القاضي السجن الثاني ويزيد في سجنه لأجله باجتهاده كما في النص. قاله عبد الباقي.
وقال الشارح: واحترز بالمجهول من الملي فإنه يحبس أبدا حتى يُعطيَ المال، وفي البيان أنه إذا حبسه لتهمة أنه أخفى مالا فلا يخرجه إلا ببينة وإن طال. انتهى. وقال الشارح: قال في المقدمات: ويحبس بقدر ما يثبت أمره ويكشف عن حاله وذلك يختلف باختلاف الدين. انتهى. وفي الشارح: وتحقيق المذهب في الطول وعدمه أنه يحسب اجتهاد الحاكم. انتهى. ويفهم من كلام عبد الباقي وغيره أن ظاهر الملاء لا يخرج من السجن بمجرد طول حبسه بل فيه التصريح بذلك. واللَّه تعالى أعلم. وفي الخرشي: وأما ظاهر الملاء فيخرج إن شهدت بينة بعدمه على ما
تقدم لا بطول سجنه، ومعلوم الملاء لا يخرج حتى يؤدي أو يموت أو تشهد له بينة بذهاب ما بيده، وأما إن شهدت بعدمه فلا يخرج بذلك.
ولما كان جميع ما تقدم من أحكام هذا الباب لا يختص به الرجال ولا النساء بل يشترك الجميع فيه، وكان من ذلك الحبس ذَكَرَ ما يختص بحبسهن بقوله: وحبس النساء عند أمينة يعني أن النساء يحبسن عند أمرأة أمينة ويقبل منهن الكفيل كالرجال، والحاصل أنهن يحبسن بموضع لا وجال فيه، ويكون حبسهن عند أمينة سواء كانت هذه الأمينة وحدها أو مع أمين زوج أو أب أو ابن كما قال: أو ذات أمين.
وعلم مما قررت أنه لابد في المرأة التي تحبس النساء عندها أن تكون أمينة وحدها أو مع أمين، فقوله:"ذات" معطوف على محذوف أي منفردة أو ذات أمين. قال المواق: اللخمي: وحبس النساء بموضع لا رجال فيه والأمين عليهن امرأة مأمونة لا زوج لها أو لها زوج مأمون معروف بالخير. انتهى. وعلم مما ذكرته أن المأمونة إن لم تكن وحدها فلابد أن يكون صاحبها أمينا معروفا بالخير.
والسيد لمكاتبه يعني أن السيد يحبس لمكاتبه لأنه أحرز نفسه وماله والحقوق المتعلقة بالذمة لا يُراعَى فيها الحرية ولا علو المنزلة، بدليل أن المسلم يحبس في دين الكافر. قوله:"والسيد لمكاتبه" كذا في المدونة، فقال ابن عرفة: ابن محرز عن سحنون: هذا إن كان الدين أكثر مما على المكاتب من الكتابة وإن كان مثلها فأقل لم يحبس. قاله بعضهم. لأن للسيد بيع الكتابة بنقد ابن عبد الرحمن: لم يحبس على كل حال إذا لم يبعها لأن الحاكم يضيق عليه ليبيعها ولا يبيعها عليه الحاكم لأنه لا يبيع إلا على مفلس. ابن عرفة: الحق أن البيع على المفلس جبري وعلى المدين اختياري. انتهى. نقله البناني.
وقال عبد الباقي: وحبس السيد في دين عليه لمكاتبه إن لم يحل من نجوم الكتابة ما يفي بالدين، أو يكن في قيمة الكتابة ما يفي بدينه ولا يقاصه السيد جبرا عليه بالكتابة حيث كان دينه حالا على السيد، أو اختلفت قيمتها وقيمة الدين اختلافا لا تجوز معه المقاصة، وكذا يحبس السيد لعبده إذا شهد له شاهد بعتقه ولم يحلف السيد لرد شهادته كما يذكره في باب
الشهادات، وإنما حبس لمكاتبه لأنه أحرز نفسه وماله ولأن الحقوق لا يُراعَى لخ. ومقتضى التعليل حبسه في مال عبده المأذون المدين حيث احتيج لوفاء دينه بماله على سيده، وعكس كلامه وهو حبس المكاتب في دين له عليه غير الكتابة لا في دينها إلا على القول بأنه إنما يعجزه السلطان فله حبسه فيها إن رأى أنه كتم مالًا رغبة في العجز. أبو الحسن: ويحبس القن المأذون له في التجارة. انتهى كلام عبد الباقي. قوله: وكذا يحبس السيد لعبده إذا شهد له لخ يعني أن السيد إذا لم يحلف لرد شهادة الشاهد يحبس، فإن طال دين هذا هو الذي عنى بحبس السيد لعبده في هذه المسألة. واللَّه تعالى أعلم.
وقال الشارح مفسرا للمص: يعني ويحبس السيد أيضا لمكاتبه إذا كان له عليه دين قد حل، زاد في المدونة: إن ألدَّ به. اللخمي: إلا أن يكون قد حل من نجومه ما يوفي بدينه أو يكون في قيمة الكتابة ما يبلغ أن يوفي به دينه. انتهى المراد منه.
والجد يعني أن الجد ذكرا كان أو أُنثى يحبدى لولد الولد، كان الولد ذكرا أو أنثى، وسواء أيضا كان ولد الولد ذكرا أو أنثى؛ لأن حق الجد دون حق الأب. وَمن المدونة: يحيسُ الولدُ غيرَ أبويه من الأجداد والأقارب. انتهى. قوله: "والجد" أي يحبس له وإن كان للجد ما للأب من البر من عدم القطع لو سرق من مال ولد ولده، وعدم الحد لو وطء أمة ولد ولده لكن حظ الجد دون حظ الأب بدليل أنه يغزو من غير إذن الجد، ولقول مالك: يُحَلِّفُ الجدَّ دون الأب، وقولُ عياض: لا يغزو بغير إذت الجد ليس هو المذهب كما صرح به المؤلف في باب الجهاد حيث قال: "لا جد". قاله الخرشي. ولم يذهب أحد إلى أن الجد لا حظ له من البر. قاله الشارح.
والولد لأبيه يعني أن الأب له أن يحبس ولده في دين له عليه، وكذا الأم لها أن تحبس ولدها لا عكسه يعني أن الولد ليس له حبس أحد أبويه في دين له عليه، قال عبد الباقي عند قوله:"لا عكسه" ما نصه: أي لا يحبس الوالد أو الأم نسبا لا رضاعا للولد ولو لدَّا، ولكن يعزرهما الإمام بغير الحبس من حيث اللدد لا من حيث حق الولد، ويستثنى من عدم حبسهما له مسألتان: إحداهما المتقدمة عن المقدمات، ثَانِيَتُهُمَا امتناعه من الإنفاق على الصغير ومن في حكمه. انتهى. يعني بما في المقدمات ما قدمه عنها من أنه إذا كان بيد الأب مال للابن وادعى فساده، وعلى
الابن دين لأجنبي عجز عن قضائه ولم يعلم فساده فلا يقبل قوله ويحبس لامتناعه من دفع مال ولده ليقضى به ما عليه من الدين، فحبسه إنما هو للأجنبي لا للولد. البناني: ابن يونس: ويحبس الأب إذا امتنع من النفقة على ولده الصغير لأنه يضر بهم ويقتلهم. قال ابن عبد الحكم: ويحبس الأب في دين على الابن إن كان له بيد الأب مال. انتهى. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: "لا عكسه" قال الخرشي: ظاهره أنه معطوف على قوله: "والولد لأبيه" فيكون التقدير لا يحبس عكسه. انتهى. والظاهر أنه فاعل فعل مضمر أي لا يجوز عكسه وهو حبس الولد لأبويه. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه.
كاليمين تشبيه في الإثبات والنفي، يعني أن الوالد يحلف الولد ولا يجوز العكس أي لا يجوز تحليف الولد للوالد ولا يمكن من ذلك لأنه عقوق ولا يقضى به إن شح، وما يأتي للمص في باب الحدود من قوله:"وله حد أبيه وفسق" ضعيف.
إلا المنقلبة يعني أن الولد له أن يحلف الوالد إذا كانت اليمين منقلبة من الولد إلى الوالد، كدعواه على ولده بحق فلم يحلف الولد لرد دعوى الأب فردت على الأب فإنه يحلف اتفاقا، ولا يكون ذلك جرحة في حق الولد، قال عبد الباقي: وكقيام شاهد لولد بحق على أبيه ولم يحلف معه فردت على الأب فيحلف لرد شهادة الشاهد، وليس من انقلابها ولا من تحليف الولد لوالده حلفه مع شاهده على ولده بدين لإثبات الحق ولا حلفه مع إثباته العدم بناء على ما في أحمد هنا وإن كان ضعيفا؛ لأنه خلاف ما مشى عليه في النفقات من قوله "وأثبتا العدم لا بيمين"، وعلى ما في المواق يحلف الأب في صورتين غير منقلبة وفي صورتين منقلبة كما مر. انتهى.
قوله: وكقيام شاهد لولد بحق لخ، قال البناني: ما ذكره في هذه من حلف الأب لرد شهادة شاهد الولد غير صواب، وقد صرح ابن رشد بأن مذهب المدونة أن الوالد لا يحلف في شيء مما يدعيه الولد عليه ونصه في رسم صلى من سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية الأول. وقال مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وسحنون: إنه لا يقضى بتحليفه أباه ولا يمكن من ذلك إن دعا إليه، ولا أن يحدد في حد يقع له عليه لأنه من العقوق وهو مذهب مالك في المدونة في اليمين في كتاب المديان وفي الحد في كتاب القذف، وهو أظهر الأقوال لقول اللَّه عز وجل: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا
قَوْلًا كَرِيمًا} الآية، (ولما جاء من أنه ما بر بوالديه من شد النظر إليهما أو إلى أحدهما)، وقد روي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:(لا يمين للولد على والده)
(1)
، ويشهد لصحته قوله عليه الصلاة والسلام:(أنت ومالك لأبيك)
(2)
، وقد روي عن ابن القاسم في كتاب الشهادات أنه يقضي له أن يحلفه في حق يدعيه عليه، وأن يحده في حد يقع له عليه ويكون عاقا بذلك ولا يعذر فيه بجهل، وهو بعيد لأن العقوق من الكبائر فلا ينبغي أن يمكن أحد من ذلك، وهذا فيما يدعيه الولد عليه، وأما إن ادعى الوالد عليه دعوى فنكل عن اليمين وردها عليه أو كان له شاهد على حقه عليه فلا اختلاف في أنه لا يقضى له عليه في الوجهين إلا بعد يمينه، وكذلك إن تعلق بيمينه حق لغير ابنه فإنه يلزمه اليمين باتفاق، كالأب يدعي تلف صداق ابنته والزوج يطلبه بالجهاز، أو كالرجل يدعي على أبي زوجته نحلة انعقد عليها نكاحه وهو ينكر. انتهى بلفظه.
والمتعلق بها حق لغيره يعني أن اليمين إذا تعلق بها حق لغير الولد فإن الوالد يحلفها ولا محذور في ذلك على الولد؛ لأن الوالد إنما حلف لتعلق حق الغير فيما حلف الوالد فيه كدعواه تلف صداق ابنته وطالبه الزوج بجهازها، وكدعوى الزوج عليه أنه نحل ابنته نحلة في عقد نكاحه فيحلف فيهما ليلا يغرم، وكذا إن ادعى أنه أعار ابنته شيئا من جهازها فيحلف قبل السنة كما قدم المص. قوله:"والمتعلق بها حق لغيره" اعلم أن حلف الوالد في هذه متفق عليه. قاله الخرشي. وفي المواق عن ابن رشد: وانظر لو طلب الأب ابنه بالنفقة عليه وأثبت العدم، هل يقضى له بالنفقة عليه دون اليمين والأظهر وجوب حلفه. انتهى.
ولم يفرق بين كالأخوين يعني أنه إذا حبس الأخوان في حق عليهما فإنه لا يفرق بينهما، ودخل بالكاف غيرهما من الغرماء سواء خلا السجن أم لا. المواق: محمد: لا يفرق بين الأب وابنه في السجن ولا بين الإخوة. انتهى. وقال الشارح: يعني أنه لا يفرق بين الأب والابن والإخوة في السجن نص على ذلك سحنون.
(1)
مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الإيمان والنذور، رقم الحديث 14025.
(2)
سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، رقم الحديث 2291.
والزوجين يعني أن الزوجين إذا حبسا لحق عليهما، فإنه لا يفرق بينهما في السجن بشرط أشار إليه بقوله: إن خلا السجن من الرجال فلا يجاب رب الدين إلى التفريق إن طلبه.
وعلم مما قررت أن قوله: "إن خلا" قيد في الثاني فقط، فإن لم يخل السجن من الرجال حبس الرجل مع الرجال والمرأة مع النساء. وقوله:"ولم يفرق" يقرأ بالبناء للمفعول ونائب الفاعل، "بين" لأنها ظرف متصرف على لغة كما قرئ:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} برفع بين فأوقعها متصرفة وبالبناء للفاعل وفاعله عائد على الإمام؛ أي لم يفرق الإمام بين من ذكر أي لم يوجب التفرقة بينهما. قاله عبد الباقي. وقال المواق: ابن المواز: إذا حبس الزوجان في دين عليهما فطلب الغريم أن يفرق بينهما وطلب الزوجان أن يجمتعا فذلك لهما إن كان السجن خاليا وإن كان فيه رجال حبس معهم وحبست المرأة مع النساء. انتهى.
وقال البناني عند قوله: "والزوجين إن خلا" ما نصه: هذا قول ابن المواز، وقول المص بعد هذا:"بخلاف زوجته" هو قول سحنون وجعلهما ابن رشد خلافا واستظهر ما لسحنون ونقل ابن عرفة كلامه وقبله، وجمع المص بينهما لأنهما عنده ليسا بخلاف لعدم تواردهما على محل واحد. انظر الحطاب. وما صنعه المص نحوه للباجي في المنتقى، وَوُجِّهَ ما لابن المواز بأنه لم يقصد بكونها معه إدخال الراحة عليه والرفق به، وإنما قصد بذلك استيفاء الحق من كل منهما والتفريق ليس بمشروع. انتهى. انتهى.
ولا يُمنَع مسلما يعني أن المحبوس في الحقوق لا يمنع ممن يسلم عليه من حيث إنه مسلم، وأما من حيث إنه يعلمه الحيلة في خلاصه ونحو ذلك فيمنع، وقوله:"ولا يمنع مسلما" أي ولو كان زوجة لا تبيت عنده. قوله: "ولا يُمنع" نائب الفاعل ضمير يعود على المحبوس، وقوله:"مسلما" مفعول ثان لقوله: "يمنع" والفاعل: "الحاكم". وخادما يعني أن المحبوس في حق عليه لا يمنع ممن يخدمه، قال عبد الباقي: في مرض شديد لا خفيف ولا في صحة بناء على اعتماد هذا القيد كما نقله في توضيحه عن ابن المواز وتبعه عليه شراحه، وظاهره عدم مراعاة العرف والمقام الظاهر. انتهى. وقال الخرشي: ولا يمنع أيضا ممن يخدمه ويباشره ظاهره ولو صحيحا، والذي لابن المواز: إن اشتد مرضه واحتاج لأمة تباشر منه ما لا يباشر غيرها وتطلع على عورته
فلا بأس بجعلها معه حيث يجوز ذلك وحكاه اللخمي وغيره. قوله: حيث يجوز ذلك أي بأن خلا الموضع. انتهى.
بخلاف زوجته يعني أن الزوج إذا كان محبوسا في حق عليه فإنه يمنع من أن يجتمع بزوجته في السجن، قال عبد الباقي: بخلاف زوجته غير محبوسة معه فتمنع من سلامها عليه حيث دخلت عنده لتبيت وحبس في غير دينها وإلا لم تمنع، والظاهر منع سريته من بياتها عنده لمنافاته لقصد التضييق عليه. انتهى. وقال اللخمي: سحنون: من سجن في دين لامرأته أو غيرها فليس له أن تدخل امرأته عليه لأنه سجن للتضييق عليه، فإذا لم يمنع لذته لم يضيق عليه. ابن يونس: إلا أن تشاء الوصول إليه امرأته إذا سجن في دينها فذلك لها لأنها لو تشاء لم تسجنه فيه. انتهى. وقول عبد الباقي: حيث دخلت عنده لتبيت، قال الرهوني: انظر من قيده بهذا وكأنه أخذه مما في التوضيح عن اللخمي، ونصه: اللخمي عن سحنون: ومن سجن في دين امرأته أو غيرها فأرادت زوجته أن تدخل إليه لتبيت عنده لم تمكن من ذلك. انتهى منه بلفظه. فربما يفهم من قوله: "لتبيت" لخ أنها لا تمنع من الدخول عليه لتقيل معه أو تتفقد حاله، ولكن الذي في نقل الناس عن سحنون هو منعها (في)
(1)
مطلق الدخول، ففي المنتقى ما نصه: ليس له أن تكون معه امرأته ولا أن تدخل عليه لأنه سجن للتضييق عليه، فإذا لم يمنع لم يضيق عليه. قاله سحنون انتهى منه بلفظه.
ونحوه لابن يونس، ونصه: قال سحنون: من سجن في دين امرأته أو غيرها فليس له أن تدخل إليه امرأته. انتهى. ونقل في المنتخب نحو هذا عن سحنون، ثم قال: ففيما قاله الزرقاني نظر، وقول عبد الباقي: وحبس في غير دينها وإلا لم تمنع، قال الرهوني: هذا ذكره ابن يونس من عند نفسه لكن جعله في الشامل خلاف الأصح، وقوى أبو علي تفصيل ابن يونس وضعف ما في الشامل، ورد الرهوني ما لأبي علي وصحح كلام الشامل. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: "بخلاف
(1)
كذا في الأصل والذي في الرهوني ج 5 ص 312 من.
زوجته" قد مر أن المص وفق بين هذا وبين قوله: "والزوجين" لأن موضوع هذه أنه سجن وحده بخلاف السابقة، وابن رشد جعل ذلك خلافا. راجع ما تقدم.
وأخرج لحد يعني أن المحبوس في حق عليه إذا وجب عليه حد فإنه يخرج من السجن ليقام عليه الحد، فإذا أقيم عليه أعيد للسجن. قال الشارح: يعني أن المسجون إذا ترتب عليه حد من الحدود فإنه يخرج له، وظاهره ولو كان حدا يأتي على النفس، لكن الذي نص عليه ابن يونس وغيره أنه يخرج لإقامة حد القذف عليه ثم يعود، والظاهر أنه لا فرق بين حد القذف وغيره من الحدود. انتهى. وقال عبد الباقي: وأخرج لحد قذف ونحوه أو قتل كما قال صاحب التكملة، وحينئذ تؤخذ الديون من ماله إن كان له مال، وإلا ضاعت على أربابها ولا يرد على إخراجه للقتل أنه لا يعود؛ لأنا نقول: قوله الآتي لعوده خاص بقوله: أو ذهاب عقله لعوده اللام للانتهاء، يعني أن المحبوس إذا ذهب عقله فإنه يخرج من السجن إلى أن يعود له عقله فإذا عاد له عقله، أعيد للسجن، وإنما أخرج لعدم شعوره بالضيق الذي هو القصد من السجن. ابن يونس: إذا قذف أحدا أخرج لإقامة الحد عليه ثم يرد، وإذا مرض لم يخرج إلا أن يذهب عقله فيخرج بحميل، فإذا عاد عقله عليه رد. نقله المواق.
وعلم من هذا أنه إذا أخرج لذهاب عقله يخرج بحميل ووقع الحميل في النص مطلقا أي لم يقيد بحميل الوجه ولا بغيره، قال الرهوني: هو وإن كان في النص مطلقا لكن يؤخذ أن الكفيل بالوجه فيها كاف بالأحرى من هذه المسألة. انتهى. يعني قوله: "واستحسن بكفيل بوجهه لمرض أبويه" لخ. قوله: "وأخرج لحد" لخ، وهل يخرج لسماع الدعوى عليه؟ حكى الحطاب عن ابن بطال أنه لا يخرج ويأمره الإمام أن يوكل من يخاصم له ويعذر إليه، فإن أبى أن يوكل قضي عليه إذا شهدت البينة وزكُّوا بعد أن يعذر إليه، فإن حضر خروجُ خصمه إلى سفر أو مرض أو خشي فراقهم شهد على شهادتهم. انتهى. قوله: فإن حضر يعني قبل الإعذار إلى المسجون ثم نقل عنه خلاف هذا وأنه يخرج، فإن ثبت عليه مال آخر كتب القاضي أنه محبوس بذلك أيضا، وإذا حبس رجل في دين فأقر المحبوس أنه قد كان آجر نفسه من رجل آخر لم يخرج من الحبس، فإن قامت عليه بينة فإن أوفى وخرج طولب بذلك بعد الخروج، فإن أراد صاحب الإجارة أن
يفسخ الإجارة فذلك له، وإذا أراد رجل أن ينتقل بامرأته إلى بلد فأقام رجل عليه البينة بدين متقدم عليها، أو أقرت بدين في ذلك الوقت بلا بينة، أو ابتاعت من رجل بيعا لزمها به فأرادوا حبسها وقال الزوج بل أخرج بها وتتبعوها حيث كانت، أو قال: إنما أقرت أو ابتاعت ليلا أخرج بها. فأما ما أقامت البينة به فإنها تحبس فيه ولا تخرج من الحبس ولا يخرجها الزوج إلا بعد دفع الحق، وأما إن أقرت بذلك فإن القاضي ينظر في ذلك، فإن كانت أقرت لأب أو لأحد ممن يتهم أو يرى أنها إنما أرادت أن تعوق الزوج بذلك عن الخروج بها لم يجز ذلك، وينظر القاضي في ذلك على قدر ما يرى حين ينزل ويشاور في ذلك. انتهى كلام الحطاب باختصار واقتصار. واللَّه تعالى أعلم.
واستحسن بكفيل بوجهه لمرض أبويه وولده وأخيه وقريب جدا يعني أن المحبوس إذا اشتد مرض أبويه أو أحدهما أو ولده أو أخيه أو قريب له قريب القرابة، فإنه استحسن أن يخرج ليسلم عليه بشرط أن يعطي حميلا بالوجه وهذا القول المستحسن لابن سحنون، قال الباجي: وهو استحسان والصواب عندي وهو القياس المنع أي منعه من الخروج لذلك.
وعلم مما قررت أن الاستحسان هنا المراد به الاستحسان غير المقابل للقياس لا المقابل له، فيكون المص أشار بكلامه لقول الباجي: المواق: ابن سحنون: وإذا اشتد مرض أبويه أو ولده أو أخيه أو أخته أو من يقرب من قرابته وخيف عليه الموت يخرج فيسلم عليه، ويؤخذ منه كفيل بالوجه ولا يفعل به ذلك في غيرهم من قرابته. وقوله:"جدا" لا مانع من رجوعه للقريب وللمرض معا، واحترز بالقريب جدا من القريب البعيد القرابة فلا يخرج لمرضه ويرجع في ذلك للعرف، قال الشارح: والباء في قوله: "بوجهه" متعلقة "بكفيل"، وفي قوله:"بكفيل" متعلقة بمحذوف دال عليه ما تقدم، والمعنى، واستحسن أن يخرج بكفيل وكذا لمرض.
وقوله: ليسلم أي ليسلم على هؤلاء. انتهى. والباء في قوله: "بكفيل" بمعنى مع كما في شرح عبد الباقي. واللَّه تعالى أعلم. واللام في قوله: "ليسلم" للتعليل متعلقة بالمحذوف، ويحتمل أن تكون للانتهاء. وقوله:"لمرض أبويه" الظاهر أنه يخرج لجنازة أحدهما والآخر حي ولا يخرج لجنازتهما معا كالاعتكاف. واللَّه تعالى أعلم.
لا جمعة يعني أن المحبوس في حق عليه لا يخرج لصلاة الجمعة وكذلك لا يخرج لصلاة عيد ولا لجماعة أي لا يمكن من ذلك، بل لوضوء إن لم يمكن فيه ولا لحجة إسلام، وإن كان قد أحرم بحج أو عمرة أو بنذر أو حنث ثم قيم عليه بالدين حبس وبقي على إحرامه، وإذا وجب عليه الدين يوم نزوله بمكة أو بمنى أو بعرفات استحسن أن يؤخذ منه كفيل حتى يفرغ من الحج ثم يحبس بعد النفر الأول. قاله اللخمي. والنفر الأول هو المتعجل في الرمي وقد مر في فصل الحصر أن من حبس بحق لا يحل إلا بفعل عمرة. قاله عبد الباقي وغيره.
وقال الخرشي: يعني أن المحبوس لا يمكن من الخروج لصلاة الجمعة لأن لها بدلا ولا لصلاة العيد، ولا يمكن من الخروج لحجة الإسلام فلو أحرم بحج أو عمرة، ثم قامت عليه أرباب الديون فإنه يحبس ويستمر على إحرامه، فإن قيل: قوله "وعيد" يقال عليه إذا كان لا يخرج لصلاة الجمعة فالعيد أولى. فَلِمَ أتى به؟ قِيلَ: لأنه قد يقال بإخراجه للعيد لعدم تكراره بخلاف الجمعة. انتهى. وقال الشارح: اللخمي: قال محمد بن عبد الحكم: ولا يخرج المحبوس للجمعة ولا للعيد. انتهى. وقال المواق: ابن سحنون: يمنع المحبوس من الخروج إلى الجمعة والعيد وحجة الإسلام. اهـ. ويحبس الوصي فيما على الأيتام من دين إذا كان لهم في يده مال وكذلك الأب. قاله الشارح.
وعدو يعني أن المحبوس في حق عليه لا يخرج لقتال عدو إلا لخوف قتله أو أسره يعني أن المحبوس لا يخرج لقتال العدو ولا لأن يغير على العدو إلا إذا كان يقتل أو يأسر إذا لم يخرج، فيخرج لأجل ذلك إلى موضع غير الموضع الذي كان محبوسا فيه، قال المواق: ابن يونس: لا يخرج ليغير على العدو إلا إذا خيف عليه الأسر أو القتل بموضعه فيخرج إلى غيره. انتهى. وقال عبد الباقي عند قول المص: "إلا لخوف قتله أو أسره" ما نصه: فيخرج لكن إلى موضع آخر غيره، وكذا خوف قتله أو أسره إن لم يطلق بالكلية، وكذا خوف قتل غيره أو أسره إن لم يطلق فيما يظهر، فلو حذف الضميرين لشمل ذلك. وانظر إذا لم يطلق مع خوف ما ذكر حتى حصل ما خيف منه ماذا يجب على من لم يطلقه، وهل هو رب المال أو الحاكم أو السجان أو كل، وكذا لا
يخرج للدعوى عليه ووكل من يسمع عنه، فإن امتنع تسمع البينة عليه فإذا ثبت عليه يزاد في السجن عليه بالاجتهاد بعد الإعذار إليه. انتهى. وقد مر عن الحطاب أن في هذه قولين.
وللغريم أخذ عين ماله المحوز عنه في المفلس لا الموت هذا من أحكام التفليس الأخص، صورتها أن يبيع سلعة وحازها المشتري وقبل أن يقبض البائع ثمنها فلس مشتريها أو مات والسلعة قائمة فلبائعها وهو المراد بالغريم أن يأخذها وهو أحق بها من الغرماء هذا في المفلس، وأما في الموت فإنه لا يأخذ عين شيئه بل هو أسوة الغرماء، فيتحاص هو وهم في مال الميت، ومفهوم قوله:"المحوز عنه" أنه إن لم يحز عنه فإن لرب السلعة أخذها في الفلس والموت، قال الحطاب: قال في المقدمات: ولا خلاف في مذهبنا أن البائع أحق بما في يده في الموت والفلس، وأنه أحق بما أسلمه فألفاه قائما في الفلس دون الموت، وأنه أسوة الغرماء فيما لم يكن بيده ولا ألفاه قائما عند المبتاع في الموت والفلس. انتهى.
وقال عبد الباقي: وَلِلْغَرِيمِ ومن تنزل منزلته بإرث أو هبة الثمن أو صدقته به أو حوالة لا بشراء أي اشتراء الدين من بائع السلعة فليس له إلا محاصة أرباب الديون أَخْذُ عين ماله الثابت ببينة أو اعتراف المفلس قبل تفليسه المحوز عنه في الفلس الواقع بعد البيع ونحوه وقبل قبض الثمن، فإن وقع قبله بعد قبضه السلعة ليقلبها أو يتروى في أخذها ثم بعد الفلس عقد له البيع فيها فلا يكون أحق به، وإن لم يعلم حين البيع بفلسه لعدم تثبته بأن المشتري مفلس، وإذا لم يكن أحق اتبع بثمنه ذمة المفلس ولا دخول له معهم ولو قبل قسمهم؛ لأنه عامله بعد الحكم بخلع ماله لهم، ويحتمل دخوله معهم قبل قسمهم وكان يقرره الأجهوري، وعلى الأول فإن كان ثمنه حالًّا فله حبس سلعته فيه أو بيعها له ولا دخول للأولين معه في ثمنها لأنها معاملة حادثة، وإلا لم يكن له إلا المطالبة به، وحلول ما على المفلس سابق على هذا فلا يقال حل به لا المحوز عنه في الموت، فلا يأخذه لخراب الذمة فصار بثمنه أسوة الغرماء، بخلاف المفلس فإن الذمة موجودة في الجملة ودين الغرماء متعلق بها، فإن لم يحز عنه فيه يعني في الموت فله أخذه فهو أحق به فيه أيضا، يعني في الموت. انتهى.
قوله: وإلا لم يكن له إلا المطالبة به أي وإن لم يحل لم يكن له إلا المطالبة. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. وقوله: "أو حوالة" لخ قال الرهوني: جزم بأن المحال ينزل منزلة المحيل، ومن اشترى المدين لا ينزل منزلة بائعه، وما قاله في الحوالة هو قول ابن المواز وهو خلاف قول ابن القاسم وأصبغ، قال ابن يونس: وهو ظاهر قول مالك. انتهى منه بلفظه. وكلامه يدل على أن ابن المواز يسوي بين الحوالة والشراء وهو ظاهر معنى، ففيما صنعه الزرقاني نظر إذ اعتمد قول ابن المواز وخالف ابن القاسم وأصبغ، وظاهر قول مالك: وفرق بين الحوالة والشراء، وَابنُ المواز: لا فرق عنده بينهما. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
وقول عبد الباقي: أو اعتراف المفلس قبل تفليسه، قال البناني: يعني أو بعد تفليسه على أحد أقوال، قال في المقدمات: وهو يتعين بأحد وجهين إما ببينة تقوم عليه، وإما بإقرار المفلس به قبل التفليس، واختلف إذا لم يقر به إلا بعد التفليس على ثلاثة أقوال: أحدها أن قوله مقبول قيل مع يمين صاحب السلعة وقيل دون يمين، والثاني: أن قوله غير مقبول ويحلف الغرماء أنهم لا يعلمون أنها سلعته، والثالث: إن كان على الأصل بينة قبل قوله في تعيينها وإلا لم يقبل وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم. انتهى.
تنبيهات
الأول: قال الحطاب: إذا قيم على المفلس فوجد بعض الناس سلعة له فأراد أخذها فخاصمه المفلس في عينها فوقف السلعة ثم مات المفلس، فقال في كتاب الهبات من المدونة: إن ربها أحق بها إن ثبتت ببينة. انتهى.
الثاني: قال الفاكهاني في شرح العمدة في باب الرهن حيث يكون البائع أحق بسلعته: هل يفتقر أخذها إلى حكم حاكم أو يستبد بأخذها؟ لا أعلم لأصنحابنا فيه نصا، وظاهر الحديث يدل على الاستبداد. انتهى. قلت إن سلم له الغرماء أخذها لم يحتج إلى حكم حاكم، وإن لم يسلموا له ذلك فلابد من حكم حاكم وهو ظاهر. واللَّه تعالى أعلم. قاله الحطاب. أيضا.
الثَّالِثُ: قال المواق: ابن شاس: الحكم الرابع يعني من أحكام الحجر الرجوع إلى عين المال، لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(أيما رجل فلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره)، وفي حديث آخر: وإن مات المشتري فصاحب المتاع إسوة الغرماء، وبذلك أخذ مالك
وأهل المدينة أن بائع السلعة أحق بها في المفلس وإن لم يكن للمفلس مال غيرها، قال ابن المواز: بجميع الثمن زادت أو نقصت في سوق أو بدن. انتهى.
الرابع: قال الشارح: وذهب الشافعي إلى أن البائع أحق بذلك في الموت والفلس، والدليل لنا ما في الموطإ عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه عليه السلام قال:(أيما رجل ابتاع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به، فإن مات المشتري فصاحب المتاع إسوة الغرماء)
(1)
. وهو وإن كان مرسلا هنا فقد وصله أبو داوود من طريق إسماعيل ابن عباس
(2)
عن الزبيدي عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وأتى الشارح بما يدل على أن هذا الحديث صحيح وإن عورض بما رواه أبو داوود أيضا عن أبي ذؤيب عن ابن [المعتمر] عن عمر بن خلدة، قال: أتينا إلى أبي هريرة في صاحب لنا أفلس، فقال: لأقضين لكم بقضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه فهو أحق به)
(3)
، قال أبو داوود: من يأخذ بهذا وقال
(4)
في أحد رواته عقب قوله من يأخذ بهذا ما نصه: من هو أي لا يعرفه. انتهى.
ولو مسكوكا مبالغة في أن الغريم له أخذ عين ماله المحوز عنه في المفلس يعني أن الغريم له أخذ عين شيئه المحوز عنه في المفلس، ولو كان شيئه الذي حيز عنه مسكوكا حيث ثبت أن المسكوك عين شيئه ببينة أو طبع عليه كما في الرهن، هذا قول ابن القاسم. قال عبد الباقي: قياسا للثمن على المثمن وبالغ عليه لرد قول أشهب: الأحاديث إنما فيها من وجد سلعته أو متاعه والنقدان لا يطلق عليهما ذلك عرفا. انتهى. قوله عن أشهب: الأحاديث إنما فيها من وجد سلعته أو متاعه لخ، قال الرهوني: انظر هذا الحصر مع ما في الموطإ، ونصه: مالك عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
الموطأ، كتاب البيوع، رقم الحديث 87.
(2)
كذا في الأصل ولفظ أبي داود عياش.
(3)
سنن أبي داود، أبواب الإجارة، رقم الحديث 3519.
(4)
الذي في شرح محمد الزرقاني للموطأ، وقد قال أبو داود عقب روايته من يأخذ بهذا أبو المعتمر من هو يعني أنه لا يعرفه، ج 4 ص 296.
(أيما رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره). انتهى منه بلفظه. ففيه التعبير بالمال وهو يصدق بالسكوك لغة وعرفا، ففي الاحتجاج ما لا يخفى وإن سلموه. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
وقوله: "ولو مسكوكا" يعني الدنانير والدراهم حيث شهدت البينة على عينها بأن لم تفارق من قبضها من حين دفعها إليه إلى حين التفليس، أَوْ كان مطبوعا عليها قاله الخرشي. وقوله:"وللغريم أخذ عين ماله المحوز عنه في المفلس لا الموت" قد علمت أن هذا التفصيل للإمام مالك، وذهب الإمام الشافعي إلى أنه أحق بذلك في الموت والفلس كما مر، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه ليس أحق بذلك في الموت والفلس. وقوله: المحوز هذه النسخة هي الصواب، وأما نسخة المحاز فغير صواب لأنه لا يقال أحاز وإنما يقال حاز. واللَّه تعالى أعلم.
وآبقا يعني أن من اشترى عبدا ثم فلس قبل قبض البائع ثمنه وأبق العبد، فإن للبائع أن يأخذ العبد الآبق بمعنى أنه يطفبه، فإن وجده كان له وإن لم يجده فلا شيء له، ولهذا قال: ولزمه أي الغريم الذي هو رب الدين وهو بائع العبد الآبق إن لم يجده فلا رجوع له على المفلس بشيء، وله أن يترك طلب الآبق ويحاص الغرماء بثمنه، ولا يجوز له أن يقول أطلبه فإن وجدته كان لي وإن لم أجد رجعت إلى الحصاص. هذا قول ابن القاسم. قال المواق: قال ابن القاسم: فيمن باع عبدا فأبق من المشتري ثم فلس فطلب البائع المحاصة بثمنه على أنه إن وجد العبد أخذه ورد ما حاص به، فليس له ذلك إما أن يرضى بطلب العبد ولا شيء له غيره، وإلا فيحاص إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا الثمن إليه ويطلبوا الآبق.
قال أشهب: ولا نقول إن هذا من شراء الآبق. ابن يونس: يريد لأنهم وَدَّوْا عن المفلس ثمنه والعبد للمفلس نمى أو نقص. انتهى. ورد المص بلو قول أصبغ، واختاره ابن حبيب أنه ليس لبائع أخذ الآبق بالثمن، وقال فيه ابن رشد: إنه أظهر الأقوال وأولاها بالصواب وسلمه الحطاب، قال الرهوني: لو كان بيعا لما كان جبرا على المفلس وبخصوص الثمن الأول. انتهى. وقال عبد الباقي: ولو مسكوكا وآبقا عند المشتري حين إرادة ربه أخذه فله الرضى به إن وجد بناء على أن الأخذ من المفلس نقض للبيع، وعلى أنه ابتداء بيع لا يجوز وإذا رضي به لزمه إن لم يجده ولا
يرجع للحصاص خلافا لأشهب. انتهى. قوله بناء على أن الأخذ من المفلس نقض للبيع سبقه الباجي إليه في المنتقى، ووجه الباجي أيضا المقابل المردود بأنه ابتداء بيع كما قال عبد الباقي.
وتحصل مما مر أن هنا ثلاثة أقوال: قول ابن القاسم إنه له أخذ الآبق ويوافقه أشهب على ذلك ويختلفان فيما إذا لم يجد الآبق، فابن القاسم يقول: لا شيء له لأنه يقول إنما له طلب الآبق فقط أو الحِصَاصُ فقط، وأشهب يقول: له طلب الآبق على أنه إن لم يجده رجع للحصاص، وأصبغ يقول: ليس له إلا الحصاص ولا يجوز له غير ذلك. واللَّه تعالى أعلم.
ولأخذ الغريم عين ماله ثلاثةُ شروط أشار لأوَّلِهَا بقوله: إن لم يفده غرماؤه يعني أن الغريم إنما يكون له أخذ عين ماله إن لم يفده الغرماء بثمنه الذي على المفلس، وأما إن دفعوا له الثمن على أن يترك عين ماله فإن ذلك يلزمه حيث دفعوا له الثمن من مال المفلس، بل يلزمه ذلك فلا يأخذ عين ماله، ولو كان الفداء بمالهم أي بمال الغرماء، ومثل هذا ما إذا ضمنوا له الثمن وهم ثقات فليس له حينئذ أخذ عين ماله، وكذا لو أعطوه حميلا بالثمن ثقة. وقوله:"ولو بمالهم" هو مذهب ابن الماجشون وحكاه في الموازية، وزاد فيها: أو يضمنوا له الثمن وهم ثقات أو يعطوه حميلا ثقة، وقال ابن كنانة: ليس لهم ذلك، وَلِثَانِيهَا بقوله: وأمكن يعني أن الغريم إنما يكون له عين شيئه في فلس المدين إذا أمكن الرجوع في عين شيئه، فإن لم يمكن الرجوع في عين شيئه تعينت المحاصة، ولهذا قال: لا بضع أي لا إن لم يمكن الرجوع في عين شيئه فتتعين المحاصة. مثال ذلك ما إذا تزوج رجل امرأة بصداق فطالبته به بعد بنائه بها فوجدته مفلسا، فإنها ليس لها إلا المحاصة بصداقها، وليس لها الرجوع في بضعها لعدم إمكان ذلك شرعا؛ إذ ليس للزوجة أن تفسخ نكاحها لتعذر صداقها بعد البناء، وأما إذا لم يبن بها فلها الفسخ لأن الزوج هو المبتاع للبضع ولم يَحُزْهُ، والكلام الآن إنما هو في المحوز، فإذا طلقت قبل البناء لعسره بالصداق فإنها تحاص بنصف صداقها، وتقدم الكلام على المحاصة بالصداق عند قوله:"وحاصت الزوجة بما أنفقت وبصداقها".
وعصمة يعني أن المرأة إذا اختلعت من زوجها على مال تدفعه له ففلست قبل أن تدفعه له فإنما له المحاصة، ولا رجوع له في عصمتها لتعذر ذلك شرعا فقد بانت منه بالخلع.
وقصاص يعني أن الجاني جناية فيها القصاص إذا صولح بمال يدفعه عن القصاص الذي ترتب عليه، ففلس الجاني قبل أن يدفع المال لأهله فإنه يتعين لمن له القصاص المحاصة، ولا يرجع للقصاص لعدم إمكان الرجوع في القصاص شرعا لفواته بالعفو. قال عبد الباقي: وقصاص صولح فيه بمال ثم فلس الجاني لتعذر الرجوع شرعا في القصاص بعد العفو، قال في توضيحه: وينبغي أن يلحق بذلك صلح الإنكار إذا فلس المنكر، فإن المدعي يحاص بما صولح به ولا يرجع في الدعوى. انتهى. واعترض ابن عرفة هذا الشرط -يعني شرط الإمكان- بأن الكلام في الرجوع في عين ماله لا في عين العوض والعوض في النكاح والخلع والصلح على الإنكار غير مال، أما لو كان المفروض الرجوع للعوض لأمكن ذكرها على أن أهل المذهب لم يذكروا هذه المسائل في هذا الأصل، وإنما ذكرها فيه الغزالي، فتبعه ابن الحاجب وابن شأس. انتهى بالمعنى.
وحاصل الاعتراض أن قوله: أخذ عين ماله يخرج ذلك فلم يدخل حتى يخرجه بقوله: "أمكن"، والاعتراض على ابن الحاجب وابن شأس قوي لقولهما شرط الرجوع بعين المال أن يمكن لخ، وأما المص فيمكن الجواب عنه بأن قوله: ماله بفتح اللام على أنه جار ومجرور، وما اسم موصول أي الذي له فيصح حينئذ جعل أمكن شرطا. انتهى. وَلِثَالِثِهَا بقوله ودم ينتقل يعني أنه يشترط في رجوع الغريم في عين ماله أن يبقى على هيئته ولايرجع فيه إن انتقل عن الحالة التي كان عليها: كإن طحنت الحنطة فإذا اشترى منه حنطة حبا وفلس صاحب الحنطة قبل أن يقبض مشتريها ثمنها فوجد حنطته قد طحنت فإنه لا يكون أحق بالدقيق؛ لأن الحنطة لم تبق على حالها. قال عبد الباقي: هذا هو المشهور بناء على ضعيف وهو أن الطحن ناقل. قال البناني: في هذا البناء نظر لأن النقل هنا عن العين وهو يكون بأدنى شيء، والنقل فيما تقدم عن الجنس ولا يكون إلا بأقوى شيء، فلا يلزم من عدم النقل هناك عدمه هنا ولا عكسه. انتهى. وفي بعض النسخ: كإن طحنت الحنطة وهو مثال للمفهوم، قال المواق: قال أصبغ: من اشترى قمحا فزرعه أو طحنه ثم فلس لم يكن للبائع أخذه. انتهى. قوله: "لا إن طحنت الحنطة" وأولى إن عجنت أو خبزت أو بذرت. قاله الخرشي.
أو خلط بغير مثل يعني أن الغريم إنما له الرجوع في عين ماله حيث لم يخلط بجنس غير جنسه، والحال أنه لم يتيسر تمييغ منه، وأما إن خلط بغير مثله ولم يتيسر تمييزه منه أي عزله عنه كقمح بشعير فإنه ليس له أخذه وإنما له المحاصة، ومن الخلط بغير المثل خلط قمح صحيح بمسوس، وأما إن خلط بمثله فإن ذلك لا يعد فوتا، بل له الرجوع فيه كما لو خلط بغير مثل وتيسر عزله عنه. واللَّه تعالى أعلم. وظاهر المص أن خلطه بغير مثله على وجه لا يفسده مع عدم تيسر عزله مفيت، كما لو اشترى من رجل عسلا ومن آخر خزيرة ثم فلس، وقال ابن المواز: إنهما أحق بذلك من الغرماء ثم وقف عن ذلك. انظر الرهوني.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: بان لك من هذا أن المص باق على عمومه.
أو سمن زبدهُ يعني أن من اشترى زبدا ففلس مشتري الزبد قبل قبض البائع ثمنه فوجد زبده قد سمن أي جعل سمنا أي دهنا فإن البائع ليس له أخذه لانتقاله وإنما له المحاصة، وسمن بضم السين وكسر الميم مشددة.
أو فُصِّل ثوبه يعني أن من اشترى ثوبا فعمله قميصا أو سراويل مثلا فإن ذلك ناقل له في الفلس، فإذا فلس مشتريه قبل قبض البائع ثمنه فوجد البائع ثوبه قد فصِّل فليس له أخذه، وإنما له محاصة الغرماء. وقوله:"أو فصل ثوبه" أي مثلا، وكذا لو اشترى خشبة فعمل المشتري منها بابا فإن البائع لا يكون أحق به في فلس المشتري، وإنما له المحاصة. هذا هو الذي في التوضيح وابن عرفة وغيرهما. خلاف ما في التتائي من أن ذلك ليس بفوت ونسبته للتوضيح. قاله البناني. واللَّه تعالى أعلم.
أو ذبح كبشه يعني أن من اشترى كبشا ففلس قبل أن يقبض بائعه ثمنه ووجد البائع الكبش قد ذبح، فإنه لا يكون أحق به بل يكون إسوة الغرماء. أو تتمر رطبه يعني أن من اشترى رطبا ففلس قبل أن يقبض بائعه ثمنه فوجد البائعُ للرطبِ رطبَه قد تتمر أي صار تمرا، فإن البائع لا يكون أحق بذلك التمر وإنما له المحاصة؛ لأن رطبه لم يبق على حاله، وقد علمت أن من شرط الرجوع في عين ماله أن يبقى الشيء المشترى على حالته لا إن انتقل عنها.
تنبيهات:
الأوَّلُ: فهم من قوله: "ولم ينتقل" أن حوالة الأسواق لا تفيت وهو كذلك.
الثَّانِي: قال عبد الباقي عند قوله: "أو تتمر رطبه": ولا يعارض هذا ما مر من أن المفلس إنما يفوز بجذها لا بيبسها؛ لأن ما مر في غلة مبيع كنخلة وما هنا المبيع ذات الرطب ولا يجوز تراضيهما على أخذه بعد تتمره، وكذا الكبش بعد ذبحه بناء على أن التفليس ابتداء بيع إن كان الكبش مما لا يباع بطعام لأجل، لا إن كان مما يباع به ولا إن بنينا على أن التفليس نقض للبيع من أصله فيجوز تراضيهما على أخذه حينئذ. انتهى. قوله: إن كان الكبش مما لا لخ، بل الظاهر المنع مطلقا لأن في أخذ اللحم اقتفاءه عن ثمن الحيوان بلحم جنسه وهو ممنوع كما تقدم في قوله:"وبغير جنسه إن جاز بيعه قبل قبضه وبيعه بالمسلم فيه مناجزة". قاله البناني.
وقال الرهوني: قول عبد الباقي: ولا يجوز تراضيهما على أخذه بعد تتمره، وكذلك الكبش بعد ذبحه بناء على أن التفليس ابتداء بيع لخ، لا يخفى ما في هذه العبارة، والصواب أن يقول بناء على أن الأخذ من المفلس ابتداء بيع لخ، ثم كلامه يوهم أن الراجح هو الجواز لأن الراجح أنه ليس كابتداء بيع وعلى ذلك بنيت مسألة الآبق السابقة ومسألة الرد بالعيب الآتية، وقد صرح في التوضيح بإجراء ذلك على الخلاف المذكور، ونصه: وأجري على هذا الأصل ما إذا بيع رطبا ثم يبس، فقال مالك: لا يجوز أخذه، وقال أشهب: بجوازه، ونسب الباجي القولين لمالك وذكر علة تفيد المنع حتى على القول بأنه ليس بابتداء بيع ونصه: اختلف قول مالك فيه في العتبية فأجازه مرة ومنعه أخرى لخ، ثم ذكر الخلاف في مسألة ما إذا سمن زبده أو طحن القمح وما أشبه ذلك، ثم قال بعد جلب نقل ما نصه: وكلامه صريح في أنه لا خصوصية لأخذ التمر والكبش خلاف ما يقتضيه كلام الزرقاني والمنع في الجميع هو الراجح. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
الثالث: هل للغريم أخذ عين شيئه في المفلس، ولو باعه ثم أعيد إليه لارتفاع المفيت حينئذ أم لا نقل الخرشي عن أحمد الزرقاني عن بعض شيوخه عن بعض شيوخه أن له أخذ عين شيئه. انظر بقية كلامه.
الرابع: قد مر قول المص: "أو خلط بغير مثل" قال المواق عنده من المدونة: قال ابن وهب عن مالك: من ابتاع زيتا فصبه على زيت آخر له أو دفع إلى صراف دنانير فصبها في كيسه وذلك كله بمحضر بينة ثم فلس المبتاع فالبائع أحق بمقدار زيته ووزن دنانيره، وهو كعين قائمة وليس
خلط المبتاع إياه يمنع البائع من أخذه، قال أصبغ: إلا أن يخلطه بغير نوعه مثل أن يصب زيت الفجل على زيت الزيتون أو القمح النقي على المغلوث أو المسوس حتى يفسده فيكون كما قد فات. الداوودي: من كان له دين على مغترق الذمة لم يجز لأحد أن يقتضي منه شيئا من دينه، وسيأتي في آخر الوديعة أن له أن يأخذ قدر ما يصير له بالمحاصة. انتهى.
كأجير رعي ونحوه تشبيه في عدم الأحقية يعني أن من استأجر أجيرا يرعى له ماشية أو نحو ذلك كأجير الحراسة لزرع مثا، وأجير الخدمة إذا فلس أي المستأجر بكسر الجيم قبل أن يقبض الأجير الأجرة، فإن الأجير لا يكون أحق بالماشية التي استؤجر على رعايتها ولا بالزرع الذي استؤجر على حراسته ولا بالشجر الذي يخدم فيه، فلا يكون أحق بشيء من ذلك حتى يستوفي أجرته، وإنما له أن يحاص الغرماء. قال عبد الباقي: كأجير رعي ونحوه أجير علف أو حراسة وصانع سلعة بحانوته لا يكون كل أحق بما استوجر عليه في فلس مؤجره أو موته قبل استيفاء أجرته، بل يحاص الغرماء وهذا بخلاف من اكترى دابة كراء مضمونا ثم فلس ربها فإن المكتريَ يكون أحق بها من الغرماء كما يأتي مع الفرق عند قول المص:"والمكتري بالمعينة وغيرها إن قبضت"، ثم محل كلام المص في الأجير إذا كان يرد ما استؤجر عليه لبيت ربه عند الليل، فإن بقي بيده فهو أحق والظاهر إذا بات ما يرعاه من نحو غنم عند ربه تارة وعنده أخرى فالحكم للغالب إن كان وإلا فانظره، وانظر أيضا إذا كانت تبيت بمحل مشترك بينهما أو بمنزلهما الساكنين به جميعا. انتهى.
وقال الخرشي عن الأجهوري: ومثل أجير الرعي الصانع الذي تستعمله في حانوتك، فإذا جاء الليل انصرف فلا يكون أحق بما في الحانوت، وليس من استأجره للدرس ببقرة كذلك إذ صاحب البغر أحق بالأندر لأنه كالحائز للأندر. انتهى. وقال قبل هذا: والفرق بين الأجير ومن اكترى دابة أن الأجير لم تتعلق خدمته بالماشية بل بذمة ربها، والمكتري تعلق حقه بعين الدابة. انتهى. الرهوني: ابن الحارث: قال لقمان بن (يوسف)
(1)
: قرأت على عبد الجبار بن خالد كلام ابن
(1)
في الرهوني ج 5 ص 316: يونس.
القاسم أنَّ الراعي إسوة الغرماء، فقال لي ما معناه: إن كان يردها لمبيتها فإن كانت باقية بيده ومنزله فهو كالصانع. انتهى. قال ابن ناجي في شرح المدونة ما نصه: وهو عندي تفسير، وحمله شيخنا أبو مهدي على الخلاف. انتهى. قال أبو علي ما نصه: من أنصف وتأمل ما نقلناه من كلام اللخمي والموازية وغيرهما، علم أن ما قاله ابن ناجي هو المذهب وليس الخبر كالعيانْ، ولا بيان بعد هذا البيانْ. انتهى.
وقال المواق: قال مالك: أما الأجير على رعاية الإبل أو على رحى الماء فهو إسوة الغرماء في الموت والفلس. ابن المواز: وكذلك أجير يبيع لك في حانوتك بزًّا أو غيره، قال في كتاب محمد: ولو استأجر أجيرا يدرس له ببقر الأجير ففلس صاحب الأندر فصاحب البقر أحق بالأندرة لأنه لا ينقلب به صاحبه ولا يحتوي، عليه بخلاف صانع استعملته في حانوتك فإذا كان الليل انصرف هذا لا يكون أحق به في فلس ولا موت. انتهى.
وذي حانوت فيما به يعني أن من اكترى حانوتا فجعل فيه متاعه ثم فلس المكتري قبل قبض رب الحانوت أجرته فإن رب الحانوت لا يكون أحق بما في حانوته بل يكون إسوة الغرماء، فقوله:"فيما" أي بما، وقوله:"به" الباء للظرفية أي فيه أي لا يكون رب الحانوت أحق بما في حانوته. ومن المدونة قال مالك: أرباب الحوانيت والدور إسوة غرماء مكتريها في الموت والفلس، وليس أحق بما فيها من متاع. قاله المواق. وقال عبد الباقي: وذي حانوت تجمد كراؤه على مكتريه حتى فلس أو مات فلا يكون ربه أحق فيما أي بما فيه بل هو إسوة الغرماء، ففي بمعنى الباء متعلقة بمقدر كما ذكرنا. انتهى المراد منه.
وقال الشارح: لما ذكر أن الشيء إذا تغير حاله ليس لربه أخذه ويكون فيه إسوة الغرماء، ذكر أن أجير الرعي كذلك فلا يكون أحق في موت ولا فلس وهو منصوص عليه في المدونة وغيرها، ولا خلاف فيه أعلمه. انتهى المراد منه. وقال البناني: ابن عرفة: فيها مع سماع أبي زيد ابن القاسم. أرباب الدور والحوانيت فيما فيها من أمتعة إسوة الغرماء في الموت والفلس. ابن رشد: اتفاقا. ابن عرفة: هذا خلاف نقل الصقلي. هذا قول الجماعة إلا عبد الملك جعل الدور
والحوانيت كالدواب، ونقله المازري وعبر عنه بابن الماجشون، وذكر الجنان أن العمل جرى بفاس في الرحى بقول عبد الملك، فصاحبها أحق بما فيها من آلة. انتهى.
الرهوني: ترك البناني من كلام ابن عرفة ما يشير إلى تسليم صحة الاتفاق الذي ذكره ابن رشد، فإنه قال: في النفس من هذا النقل شيء لأني طالعت هذه الترجمة من النوادر ولم يذكره الشيخ بحال. انتهى.
وراد لسلعة بعيب يعني أن من اشترى سلعة ثم ردها بعيب ففلس بائع السلعة، قبل أن يأخذ المشتري منه الثمن فوجد المشتري السلعة التي ردها بعيب قائمة بيد بائعها الفلس، فإن المشتري لا يكون أحق بها بل هو إسوة الغرماء بناء على أن الرد بالعيب نقض بيع، وقيل هو أحق بها بناء على أنه ابتداء بيع. هكذا قال في المقدمات. قاله في الحطاب. وتحقيق هذه المسألة أن تقول هي على قسمين: الأوَّلُ أن يكون التفليس بعد الرد وهذا هو الذي قررت به المص ففيه القولان اللذان ذكرت مبناهما، الثَّانِي: أن يكون الرد للسلعة بعد التفليس بأن فُلِّسَ البائع والسلعة بيد المشتري فأراد الرد فقيل المشتري أحق بها فتباع له بالثمن، فإن وفى وإلا حاصَّ بما بقيَ له، وقيل لا يكون أحق بها وعليه فقيل يخير في إمساكها ولا يرجع بقيمة العيب وفي ردها ويحاص بثمنها، وقيل له حبسها ويرجع بقيمة العيب ويحاص إن ردها وهذا الثاني هو الذي قرر به الشارح المص.
الرهوني: ونص المقدمات: إذا رَدَّ السلعة بعيب ففلس البائع قبل أن يرد إليه الثمن فوجد المبتاع السلعة قائمة بيد البائع المفلس، فإنه يكون أحق من الغرماء إن شاء على القول بالرد بالعيب إنه ابتداء بيع، وأما على القول بأنه نقض بيع فلا يكون له إليها سبيل، وإنما يكون أحق بالثمن الذي دفعه إن وجده بعينه في الموت والفلس لانتقاض البيع ووجوب رد عين ماله، وأما إن لم يجده بعينه فهو إسوة الغرماء على القولين جميعا، وقد اختلف على القول بأن الرد بالعيب نقض بيع هل يكون المبتاع أحق بالسلعة حتى يستوفي الثمن إذا فلس البائع قبل أن يردها على قولين؟ وأما على القول بأنه ابتداء بيع فيكون أحق بها قولا واحدا. انتهى.
وإن أخذت عن دبن يعني أن الراد للسلعة بالعيب لا يكون أحق بها إذا فلس بائعها كما عرفت، ولا فرق في ذلك بين أن تكون مأخوذة في مقابلة ثمن قد نقد وبين أن تكون مأخوذة عن دين بأن يترتب لزيد دين في ذمة عمرو فيدفع له فيه سلعة، ثم يطلع زيد على عيب فيها فيردها عليه ثم يفلس عمرو قبل أن يؤدي الدين لزيد، فإن زيدا لا يكون أحق بالسلعة التي ردها على عمرٍو حيث وجدها عنده قائمة، وإنما يكون إسوة الغرماء. ولو قال المص: وإن أخذت بالنقد لكان أبين لأنه الجاري على ما يأتي في الفساد، قال الحطاب: وأما قول المص: "وإن أخذت عن دين" فلا معنى له لأنه لمَّا حكم بأن المراد لا يكون أحق بالسلعة إذا بيعت بالنقد فمن باب أولى إذا أخذت عن دين، فلو قال: وإن أخذت بالنقد لكان أبين لخ. ثم قال الحطاب: إلَّا أن يحمل كلام المص على القول الأول في كلام ابن رشد، وهو أن المراد للسلعة بالعيب يكون أحق بها فتحسن المبالغة حينئذ، ويكون المعنى أن المراد للسلعة بالعيب يكون أحق بها ولو كان أخذها عن دين أي فيكون قوله:"وراد لسلعة" عطفا على قوله: "وللغريم أخذ عين ماله" ورد الرهوني هذه المبالغة، وقال: فيها نظرت قال: وكذا جواب الحطاب وإن سلمه البناني، وأتى الرهوني بما يدل على أنه لا يحسن تمشية المص على هذا الحمل لكون هذا القول مرجوحا. واللَّه تعالى أعلم.
وقال بعد جلب نقول ما نصه: فَتَحَصَّل أن الراجح هو عدم الاختصاص لاقتصار الباجي واللخمي والمازري وابن شاس وابن الحاجب عليه، ولجعله أبو عمر وابن رشد المنصوص عليه لابن القاسم ومقابله تخريجا فقط، ولتصدير ابن يونس به وحكايته الآخر بقيل، فلو كان ذلك المحمل متبادرا من كلام المص لوجب تأويله ورده للراجح فكيف مع بعده منه جدا؟ انتهى.
وهل القرض كذلك صورتها أن يقترض زيد من عمرو مثلا شيئًا ثم يفلس زيد المقترض والشيء المقرض باق، فإن الشيوخ اختلفوا فيه فمنهم من قال: إن المقرض بكسر الراء لا يكون أحق بعين شيئه سواء قبضه المقترض أولا، ولهذا قال: وإن لم يقبضه أي الشيء المقرض بفتح الراء مقترِضه بكسر الراء أي آخذه، فيكون إسوة الغرماء مطلقًا، ومنهم من ذهب إلى أن القرض كالبيع، فإن فلس أو مات قبل قبضه فالمقرض أحق بعين شيئه، وإن قبضه المقترض ثم فلس أو مات فالمقرض أحق به في الفلس دون الموت فيكون إسوة الغرماء، ولهذا قال: أو هو كالبيع. وقوله: خلاف
مبتدأ حذف خبره أي في ذلك خلاف، والقول الأول لابن المواز. المازري: وهو المشهور، والثاني قول ابن القاسم وروايته عن مالك وعامة أصحابه وهو الصحيح، قال البناني عن ابن رشد: مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وعامة أصحاب مالك أن الرجل أحق بالعين والعرض في الفلس، كان من بيع أو قرض خلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أنه أحق بالعين والعرض إذا كانا من بيع وإسوة الغرماء إذا كانا من قرض، والصحيح قول ابن القاسم وروايته عن مالك أنه أحق في الفلس بالعرض والعين كانا من بيع أو قرض، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:(أيما رجل فلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عمم بقوله فأدرك رجل ماله أي لم يخص قرضا ولا بيعا، ووجه ما ذهب إليه ابن المواز قول النبي صلى الله عليه وسلم:(أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا فهو أحق به من غيره). الحديث. لأنه جعل هذا الحديث مخصصا لعموم الحديث الأول ومبينا له في أن المراد به البيع دون القرض، وهو بعيد لأن الخاص لا يحمل على التخصيص للعام إلا إذا كان معارضا له. انتهى.
وأما عكس كلام المص وهو إذا فلس المقرض بعد عقده وقبل قبض المقترض له فيبطل ولا يحاص به غرماء المقرض كما نقله التتائي في صغيره عن ابن بكير في قوله في الرهن: وبطل بشرط مناف، فتنظير علي الأجهوري فيه قصور، فإن فلس المقرض بعد قبض المقترض فليس له ولا لغريمه كلام مع المقترض قبل حلول أجله. قاله عبد الباقي. قوله: فإن فلس القرض بعد قبض المقترض لخ ظاهره ولو كان حين الإقراض قد أحاط الدين بماله، وهو موافق لما تقدم له أول الباب عن الشيخ أحمد ومر ما فيه عند البناني، فيتعين قصر ما قاله هنا على ما إذا وقع ذلك قبل الإحاطة. واللَّه أعلم قاله الرهوني.
وله فك الرهن صورتها أن يشتري زيد من عمرو قطيفة مثلا بثمن لم يقبضه فرهن زيد القطيفة لبكر في شيء له عليه وحازها ثم فلس زيد فعمرٌو بالخيار بين أن يترك القطيفة على رهنيتها ويحاص بثمنها، وبين أن يفك القطيفة أي يدفع لبكر ما رهنت فيه ويأخذ قطيفته، وقد مر قول المص:"وحل به وبالموت ما أجل"، وإذا اختار زيد أخذ القطيفة ففكها بدفع ما رهنت فيه.
حاص الغرماء بفدائه أي بما دفعه في الرهن لا بفداء الجاني يعني أن الغريم إذا وجد سلعته التي حيزت عنه قد جنت فإنه بالخيار بين أن يدعها ويحاص بثمنها، وبين أن يفديها بأرش الجناية فيأخذها ولا يحاص بالفداء الذي دفعه في الجناية بل يضيع عليه. قال المواق: ابن شاس: إذا وجد العبد الذي باعه مرهونا فهو بالخيار بين أن يدعه ويحاص بالثمن أو يفديه ويأخذه بالثمن كله، زاد أو نقص ويحاص بما فداه به، بخلاف ما لو وجده جانيا ففداه وأخذه بالثمن فإنه لا يرجع بشيء مما فداه به، وعزا ابن عرفة مسألة الرهن لسماع ابن القاسم ومسألة الجناية لرواية محمد، وقال ابن يونس: الفرق بين المسألتين أن الرهن من سبب المشتري والجناية لم يتعلق بذمته شيء يلزمه. انتهى.
وقوله: "لا بفداء" الفداء فيه أربع لغات: الفداء بالدمع فتح الفاء وكسرها، وبالقصر مع فتح الفاء وكسرها، وقوله:"لا بفداء الجاني" صادق بصورتين ما إذا أسلمه المشتري في الجناية بعد أن فلس وما إذا لم يسلمه أصلا، وبقيت صورة ثالثة وهي ما إذا أسلمه بعد الجناية وقبل فلسه فليس لربه فداؤه؛ لأن تصرف المشتري حينئذ بالإسلام للمجني عليه لا يرد كبيعه قبله، وأما لو فداه المفلس فإن ربه يأخذه مجانا، وكان الأولى أن يقول: وحاص بفكاكه لأن الرهن ليس مفديا وإنما هو مفكوك، لكنه عبر بالفداء لشاكلة قوله:"لا بفداء الجاني" ليصير الكلام على وتيرة واحدة. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: "وله فك الرهن وحاص بفدائه" عام في كل شيء، وقوله:"لا بفداء الجاني" هو مفروض في الذي تتعلق به الجناية وهو الرقيق.
ونقض المحاصة إن ردت بعيب معطوف على قوله: "فك الرهن" أي وله نقض المحاصة، ومعنى كلامه أن من حاص غرماء المفلس لأجل عدم سلعته ثم ردت على المفلس بعيب، فإن لربها أن ينقض المحاصة ويأخذ سلعته ويرد الحصة التي نابته في الحصاص، وهذا مذهب ابن القاسم في العتبية وهو مذهب اللخمي، ويصح أن يقال ذلك حكم مضى فلا يرد. قاله الشارح. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: ولصاحب السلعة التي حاص الغرماء بثمنها نقض المحاصة إن ردت على المفلس بعيب أو فساد أو تفليس المشتري الثاني، فيأخذ الأول سلعته لأنه إنما حاص لعدم وجدانها ويأخذها بجميع الثمن ولا أرش له، خلافا لقول الشارح: يأخذها ويحاص الغرماء
بأرشها وله أن لا ينقضها ويستمر على المحاصة بثمنها، وليس له نقضها إن ردت على المفلس بهبة أو صدقة أو وصية أو شراء أو إقالة أو إرث، والفرق أن الرد بالعيب نقض للبيع الثاني فكأنها باقية عند المفلس والرد لفلس الثاني أو فساد بيعه ملحقان بالرد بالعيب في المعنى، بخلاف ردها بهبة وما بعدها فإنها ردت للمفلس بملك مستأنف فلا مقال للبائع. انتهى. ونحوه للخرشي. وقوله:"بعيب" يشمل القديم والحادث عند المشتري إذا رضي به البائع بعد الرد به.
وعلم مما مر أن قوله: "بعيب" تنبيه منه على ما إذا ردت عليه بما هو نقض للبيع، وأنه احترز بذلك عما إذا ردت إليه بملك مستأنف كالهبة والإقالة وما في معناهما. واللَّه تعالى أعلم.
وردها والمحاصة بعيب سماوي يعني أن البائع إذا وجد سلعته بيد المفلس فأخذها ثم اطلع على عيب سماوي بها حدث عند المفلس فله رد السلعة والمحاصة بثمنها، فقوله:"بعيب" متعلق بردها، والمعنى له رد السلعة والمحاصة بثمنها بسبب عيب سماوي يريد، وله أن يتمسك بها ولا شيء له بسبب العيب الحادث عند المفلس، نص على هذا ابن الحاجب وشارحه، قال ابن الحاجب: فلو أخذها فوجد عيبا حادثا فله ردها ويحاص أو حبسها ولا شيء له. ابن عبد السلام: يعني فلو وجد البائع سلعته بيد المشتري بعد التفليس فأخذها منه ثم اطلع على عيب حدث عند المشتري فللبائع رد السلعة على المشتري ويحاص بثمنها، وله أن يتمسك ولا شيء له بسبب العيب الحادث عند المشتري، ولعل هذا كالمتفق عليه. انتهى. ونحوه في التوضيح. قاله الحطاب.
وعلم مما قررت أن قوله: "وردها" اسم مرفوع معطوف على فك من قوله: "وله فك الرهن"، أو على نقض من قوله:"ونقض المحاصة إن ردت بعيب" فهو من تعلقات قوله: "المحاصة بعيب سماوي"، وقوله:"وردها والمحاصة بعيب سماوي" قررته على حسب ظاهره، وقال البناني: الظاهر حمله على تركها للغرماء قبل أخذها، وأما حمل الأخذ على الحقيقي كما في الزرقاني فقد اعترضه ابن عاشر بأنه إذا جنى على السلعة المشتري أو الأجنبي وعادت لهيئتها، ثم أخذها ربها فلا وجه لردها. انتهى. وأصله للقاني. انتهى.
وقوله: "وردها والمحاصة بعيب سماوي" ليس مكررا مع قوله: "ونقض المحاصة إن ردت بعيب" لأن قوله: "ونقض المحاصة إن ردت بعيب" وقع فيها من المفلس بيع ثم ردت عليه، وقوله:"وردها والمحاصة" لخ لم يقع فيها بيع. قاله البناني. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: ولمن أخذ سلعته من مفلس فوجد بها عيبا ردها بعد أن أخذها كما مر أو تركها إن اطلع عليه قبل أخذها أي تركها المفلس والمحاصة لغرمائه بجميع ثمنها بعيب أي بسبب عيب سماوي حدث عند المفلس، فمتعلق المحاصة بجميع الثمن وبعيب متعلق بردها والباء سببية. انتهى.
أو من مشتريه يعني أنه لا فرق بين أن يكون هذا العيب من أمر سماوي كما عرفت، وبين أن يكون من المفلس الذي اشترى هذا الشيء، فقوله:"من مشتريه" عطف على سماوي، قال عبد الباقي: أو بسبب عيب من مشتريه الذي هو المفلس عاد لهيئته أم لا. انتهى. فللغريم رده والمحاصة بجميع الثمن، وقد مر بحث ابن عاشر بقوله إذا كانت الجناية من المشتري أو من أجنبي وعاد لهينته فلا وجه لرد الغريم عين ماله. واللَّه تعالى أعلم.
أو من أجنبي يعني أنه لا فرق بين أن يكون العيب من سماوي حدث عند المشتري أو من جناية المشتري عليه أو أجنبي فللغريم ترك السلعة والمحاصة وأخذ السلعة إن لم يكن أخذها، وله الاستمرار على أخذها إن كان قد أخذها وردها والمحاصة، وأشار لقيد في جناية الأجنبي بقوله: لم يأخذ أرشه أي إذا كانت الجناية من أجنبي فالأمر فيها أنها كالجناية من المشتري حيث لم يأخذ المفلس من الأجنبي أرش الجناية. أو أخذه أي المفلس الأرش من الأجنبي، والحال أن البيع عاد لهيئته في المسألتين أي في مسألة ما إذا كانت الجناية من أجنبي ولم يأخذ المفلس منه الأرش، وفي مسألة ما إذا أخذ المفلس من الأجنبي الأرش، وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية أي وإن لم يعد لهيئته في جناية الأجنبي أخذ منه المفلس الأرش أم لا.
فبنسبة نقصه أي فله أن يحاص بنسبة نقصه أي نقص الشيء المعيب ويأخذ الباقي مما ينوبه من الثمن، وصورة ذلك أن يقوم يوم البيع سالما ومعيبا ويحاص بما نقصه العيب من ثمنه كسلعتين فأتت إحداهما عند المشتري، وإن شاء تركه وحاص بجميع الثمن فإذا قوم سالما بمائة ومعيبا بخمسين فإن العيب نقصه النصف، فيحاص بنصف الثمن ويأخذ الباقي منه بما ينوبه من الثمن
وهو النصف وعلى هذا القياسُ، وإن شاء ترك المعيب وحاص بجميع الثمن، والفرقُ بين جناية المشتري وجناية الأجنبي أن جناية المشتري جناية على ما في ملكه فليس فيها تعد، فأشبهت السماوي بخلاف جناية الأجنبي.
وعلم مما قررت أن للغريم في الفروع الأربع التي قبل: وإلا ردها والمحاصة بجميع الثمن وله أخذها بجميع الثمن، قال عبد الباقي: واستُشْكِل قوله: أو أخذه وعاد لهيئته بإنه لا يؤخذ عقل جرح إلا بعد البرء، يعني وإذا برئ على غير شين فلا شيء فيه، وأجيب بأن ذلك يتصور في الجراحات الأربع، فإن فيها ما قرره الشارع برئت على شين أو على غير شين. انتهى.
وعلم مما قررت أنه لو حذف المص قوله: لم يأخذ أرشه أو أخذه لكان أخصر، بأن يقول أو من أجنبي وعاد لهيئته لخ.
ورد بعض ثمن قبض وأخذها يعني أنه إذا وجد الغريم سلعته باقية عند المفلس وكان قد قبض قبل التفليس بعض ثمن سلعته ولو الأكثر وبقي بعضه لم يقبضه، فإنه يخير بين أن يرد البعض الذي قبضه من الثمن ويأخذ سلعته، وبين أن يتركها ويحاص بما بقي من ثمنها، وهذا جار اتحد المبيع أو تعدد. وقوله:"ورد بعض ثمن قبض وأخذها" قال الشارح: مثاله إذا باعها بمائة وقبض من حقه خمسين، فإما أن يتركها ويحاص بالخمسين الباقية له من ثمنهات وإما أن يرد الخمسين ويأخذ سلعته. وقال أحمد وإسحاق وداوود وأهل الظاهر إذا قبض من ثمنها شيئًا لم يكن له أخذها ولا شيء منها، وذكره الغزالي عن مالك ومثله لأبي زيد، وأنكر المازري على الغزالي نسبة ذلك لمالك. انتهى. وقوله:"ورد بعض ثمن قبض وأخذها" قد قدمت أنه جار مطلقًا سواء اتحد البيع أو تعدد قبض الأكثر من الثمن أم لا. قال المواق من ابن يونس: إذا وجد البائع سلعته بيد المفلس وقد قبض بعض ثمنها أو لم يبق له منه إلا درهم لم يأخذها إلا أن يرد جميع ما قبض أو يتركها ويحاصهم بما بقي له. انتهى.
وقد مر مثال ما إذا اتحد المبيع، وأما مثال ما إذا تعدد فكما لو باع زيد سلعتين لعمرٍو بمائة درهم ثم فلس عمرو والحال أن زيدا قد قبض بعض الثمن، فوجد زيد السلعتين باقيتين بيد عمرٍو المفلس، فزيد بالخيار بين أن يحاص بما بقي له من المائة وبين أن يرد جميع ما أخذ من الثمن
ويأخذ سلعتيه. وعلم مما ذكرت أنه لا وجه لتخصيص عبد الباقي قوله: "ورد بعض ثمن قبض وأخذها" بما إذا اتحد المبيع كما لا يخفى. واللَّه تعالى أعلم.
وأخذ بعضه وحاص بالفائت يعني أن من باع سلعتين مثلا ففاتت إحداهما عند المشتري وبقيت عنده الأخرى، ثم فلس المشتري فللبائع أن يأخذ ما وجد منهما فينتقض البيع فيها ويحاص بما ينوب الفائتة من الثمن، كانت الفائتة وجه الصفقة أم لا. وقوله:"وحاص بالفائت" أي بما ينوب الفائت من الثمن، سواء كان هذا الفائت مقوَّما أو مثليا، وتعتبر القيمة يوم البيع. وقوله:"وأخذ بعضه وحاص بالفائت" مثاله ما لو باع عبدين بعشرين واقتضى من ثمنهما عشرة وباع المشتري أحدهما وبقى الآخر عنده وفلس وأراد البائع أخذ العبد الباقي منهما فليس له أخذه إلا أن يرد من العشرة التي اقتضاها خمسة؛ لأن العشرة الأولى كانت مفضوضة عليهما، وهذا إن كانت قيمتهما متساوية وإلا فض العشرة المقتضاة عليهما ورد حصة الباقي، وإن شاء حاص بباقي ثمنه ولا يأخذ ما بقي من البيع، ومحل أخذ بعضه إن لم يفده غرماء المفلس بمالهم، وهل يختصون به عنه إلى مبلغ فدائه أو لا يختصون به بل يحاص فيه؟ لأن ما فدوه به سلف في ذمة المفلس. قولان مرجحان. قاله عبد الباقي.
وقوله: قولان مرجحان، عبارة الحطاب: ولا يكونون أحق بقدر الفداء على الأرجح. قاله في الشامل. وظاهر التوضيح ترجيح الثاني. انتهى. قاله البناني.
وعلم مما قررت أن الضمير في قوله: "وأخذ بعضه" عائد على البيع، وأن المراد بالبعض البعض الباقي، وأن الفائت صفة لمحذوف أي البعض الفائت من البيع.
كبيع أم ولدت يعني أن من اشترى أمة فولدت عنده ثم باعها دون ولدها ثم فلس فقام البائع يطلب الثمن فوجد الولد دون أمه، فإن حكمه في ذلك حكم ما تقدم في السلعتين، فيكون مخيرا بين أن يأخذ الولد بما يصيبه من الثمن ويحاص الغرماء بما أصاب الأم، وذلك بأن يفض الثمن على قيمة الأم يوم بيعها وقيمة الولد إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا له جميع الثمن، وبين أن يترك الولد ويحاص بجميع الثمن. قاله الحطاب وغيره. وهذا هو المشهور. ووقع لابن القاسم عن مالك في سماع عيسى في بعض روايات العتبية أنه يأخذ الولد ويحاص بقيمة الأم، أو يترك الولد
ويحاص بجميع الثمن. قاله الشارح. وقال المواق: اللخمي: ولادة الجارية ليست بفوت، فإن باع الأمة كان للبائع أن يأخذ الولد بما ينوبه من الثمن أن لو كانا جميعا يوم البيع. انتهى.
وقال الخرشي عند قوله "كبيع" لخ: المراد بالبيع ما قابل الموت. انتهى. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وشبه في أخذ البعض والمحاصة بالفائت، قوله:"كبيع أم" عاقلة أو غيرها ولدت؛ أي أن من اشترى أمة أو دابة فولدت عنده كانت حاملا وقت الشراء أم لا، ثم باعها وأبقى ولدها غير عاقلة مطلقا أو عاقلة وأثغر أو رضيت بالتفرقة، ثم فلس فلربها أخذ الولد بما ينوبه من الثمن ويحاص بما ينوب الأم من الثمن، ووجه ذلك فيما إذا اشتراها غير حامل أن الأخذ نقض للبيع فكأنها ولدت في ملك البائع وله تركه والمحاصة بجميع الثمن، وأما إن كان ولدها موجودا معها يوم البيع فهي مما تعدد فيه المعقود عليه فلا فرق فيه بين بيع أحدهما أو موته، وتدخل حينئذ في قوله:"وأخذ بعضه"، وتعتبر قيمة الولد على هيئته الآن بتقدير وجوده يوم البيع لا يوم الحكم خلافا لأحمد. انتهى.
وكيْفِيَّةُ التقويم أن يقال: ما قيمة الأم يوم بيعها للمفلس؟ فإذا قيل أربعون قيل وما قيمة الولد يوم البيع على هيئته الآن، فإذا قيل عشرون حاص بثلثي الثمن قليلا كان أو كثيرا لأنه تنسب العشرون والأربعون إلى مجموع الأربعين والعشرين، فتكون العشرون ثلثا والأربعون ثلثين والظاهر ما ذكر ولو كانت قيمتهما تزيد على الثمن، كما إذا كانت قيمتهما مائة وخمسين والثمن مائة فيفض الثمن على القيمتين فيكون لكل واحد من الثمن الذي هو المائة بنسبة قيمته إلى مجموع المائة والخمسين، فإذا كانت قيمة الولد مائة يكون له ثلثاها فيأخذ الولد بثلثي المائة، ويحاص بمناب الأم الذي هو ثلث المائة ولو كانت قيمة الأم مائة وقيمة الولد خمسين فإنه يأخذ الولد ويدع ثلث المائة وهو ثلاثة وثلاثون وثلث واحد للمفلس، ويحاص بمناب الأم الذي هو ستون وستة وثلثا واحد. واللَّه تعالى أعلم.
وإن مات أحدهما يعني أنه إذا باع أما فولدت عند من اشتراها فماتت هي أو ولدها، فأتى البائع يطلب الثمن فوجد المشتري قد فلس فإنه ليس للبائع إلا أن يأخذ الباقي بجميع الثمن أو يتركه
ويحاص بجميع الثمن. أو باع الولد يعني أن المشتري المذكور إذا لم يبع الأم وإنما باع الولد، فإنه ليس للبائع إلا أن يأخذ الأم بجميع الثمن أو يتركها للمفلس ويحاص بجميع ثمنه.
وعلم مما قررت أن قوله: فلا حصة جواب الشرط فهو راجع للمسألتين أي لا حظ للميت من الثمن في الأولى كان الميت الأم أو الولد، فليس للبائع إلا أخذ الباقي منهما بجميع حقه أو يتركه ويحاص بجميع الثمن، وكذا لا حصة أيضًا للولد حيث كان هو البيع دون أمه، فإنما للبائع أن يأخذ الأم بجميع حقه أو يتركها ويحاص بجميع الثمن.
قال عبد الباقي مفسرا للمص: وإن مات أحدهما أي الأم أو الولد بغير قتل أو باع الولد وأولى هبته أو عتقه لأنه لم يأخذ فيه عوضا ثم فلس، فلا حصة للميت منهما في الأولى ولا للولد البيع، بل إما أخذ الباقي بجميع الثمن أو تركه وحاص بجميع الثمن. وَالفرقُ بين بيع الأم وبين بيع الولد أنه إذا حدث عند المشتري كعيب سماوي فات وتقدم أنه لا يحاص بأرشه، وإذا اشتراها حاملا به كالغلة التي يفوز المفلس بها، وبهذا يجاب عن توقف سحنون في ذلك وعن قول ابن رشد واللخمي القياس في بيعهما وموتهما سواء، فلو وجدهما معا أخذهما لأن الولد ليس بغلة على المشهور فلا يأخذه المشتري. وَالفرقُ بين موت الأم وبيعها أنه أخذ لها ثمنا في البيع، فإن قتل أحدهما وأخذ له عقلا وبقي الآخر فكالبيع في تفصيله، وإن لم يأخذ له عقلا فكالموت. قاله ابن حبيب. وقوله: فكالموت أي فليس له أخذ الوجود إلا بجميع الثمن، ولعل قوله: وإن لم يأخذ له عقلا محمول على ما إذا لم يأخذه لعجزه، وأما إن تركه مع قدرته فهو بمنزلة أخذه. انتهى.
وفي المدونة: قال مالك: من ابتاع أمة فولدت عنده ثم فلس فللبائع أخذ الأمة وولدها، فإن كانت الأم قد ماتت عند المبتاع وبقي الولد فليس للبائع إلا المحاصة بجميع الثمن، أو أخذ الولد بجميع الثمن قال في العتبية والموازية: وكذلك أيضًا إن كان الولد هو الذي مات وبقيت الأم ليس له إلا أخذ الباقي منهما بجميع الثمن أو يترك ويحاص، وفي الموازية أيضًا والعتبية إن كان المشتري قد باع الولد وبقيت الأم أن البائع بالخيار، إن شاء أخذ الأم بجميع الثمن وإن شاء ترك وحاص بثمنها، قال: لأن الأم هي المشتراة بعينها، والولد كالغلة بخلاف إذا باع الأم وبقي الولد فيقسم الثمن كما تقدم. قاله المواق.
وأحذ الثمرة يعني أن من اشترى أصلا ثم فلس فإنه يكون أحق بما فيه من الثمار غير المؤبرة حين الشراء، وإنما يكون أحق بذلك إن جذ الثمرة.
وَالحاصلُ أنه إن أخذ البائع الأصل الذي باع للمفلس فإنه يأخذه بما فيه من الثمر الذي لم يجذ حدث الثمر عند المشتري أو اشتراه وهو به لكنه لم يؤبر، وأما إن جذ فإنه يكون للمفلس، وأما إن اشتراه وبه ثمر مؤبر فإنه يأخذه البائع ولو جذه المشتري كما سترى ذلك قريبا. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وأخذ المفلس الثمرة غير المؤبرة حين شراء أصلها التي جذها أي فاز بها إذا أخذ البائع الشجر، وكذا إن جز الصوف غير التام فإن لم تجذ لم يأخذها ويرجع بسقيه وعلاجه، وظاهره ولو زاد على قيمة الثمرة. انتهى.
وقال الشارح: وهذا الذي ذكره فيما إذا زايلت الثمرة الأصول ولم تكن مؤبرة حين الشراء كما سيذكر، وأما لو لم تنفصل عن أصولها فإن للبائع أخذها مع الأصول على المشهور ولو يبست ما لم تجذ لأنها ما دامت في أصولها كأغصان الشجر، ومقابل المشهور ثلاثة أقوال فقد حكى في البيان فيما إذا اشترى الأصول ولا ثمرة فيها أو فيها ثمرة لم تؤبر أربعة أقوال: أَحَدُهَا أن البائع أحق بالثمرة ما لم تؤبر. الثَّانِي: أن البائع أحق بها ما لم تطب وهو قول ابن القاسم في العتبية. الثَّالِثُ: أنه أحق بها ما لم تيبس. الرَّابعُ: أنه أحق بها ما لم تجذ وهو نص ما في المدونة. انتهى. والغلة يعني أن المفلس يفوز بالغلة حيث أخذ البائع عين شيئه كاللبن حيث حلب، وإلا فللبائع، قال عبد الباقي. هنا ما نصه: وأخذ الغلة كمال العبد الحادث بعد الشراء حيث انتزعه أو لم ينتزعه وفداه الغرماء، وكاللبن إن حلبه وإلا فللبائع وأما غلة الدور فيفوز بها المفلس مطلقًا أخذت أم لا، وكذا غلة الحيوان غير اللبن والصوف. انتهى. قوله: أخذت أم لا، الظاهر أن معنى قوله: أم لا هو ما إذا أكرى هذه الدار أو هذه الدابة ثم فلس قبل قبض الأجرة. قاله مقيده واللَّه تعالى أعلم. وقوله: "والغلة" هو من عطف العام على الخاص، ويحتمل أن يريد بالغلة ما ليس قائم العين، وقوله:"وأخذ الثمرة والغلة" أي بخلاف الولد كما في المدونة: من ابتاع أمة فولدت عنده ثم فلس فللبائع أخذ الأمة وولدها، قال مالك: وكذلك من ابتاع غنما ثم فلس فوجد البائع الغنم قد تناسلت فله أخذ الأمهات والأولاد كالرد بالعيب.
إلا صوفا تم مستثنى من قوله: "والغلة" يعني أن المفلس يأخذ الغلة إن اختار البائع أخذ عين ماله إلا الصوف التام حين الشراء فإنه لا يأخذه المشتري ولو جزه، بل يرده للبائع مع الحيوان. وثمرة مؤبرة مستثنى من قوله:"وأخذ الثمرة" يعني أن المشتري للأصول والحال أن فيها ثمرا مؤبرا قد اشترطه المشتري لا يأخذه المفلس إن اختار البائع أخذ الأصول، بل تكون له الأصول مع ثمرتها المؤبرة.
قَالَ مقيده عفا اللَّه عنه: وظاهر المص أن الثمرة المؤبرة تكون للبائع مطلقًا جذت أم لا، وقال عبد الباقي: إلا صوفا تم يوم الشراء وثمرة مؤبرة يوم شرائه لأصلها ثم فلس المشتري فيأخذ البائع غنمه مع صوفها؛ لأن كلا منهما كسلعة ثانية جز الصوف أم لا، فيأخذه البائع إن كان قائما مع جزه، فإن فات حاص الغرماء بثمنه وكذا الثمرة إن لم يجذها المفلس فيأخذها مع أصلها لأنها حينئذ مقصودة ولها حصة من الثمن، وأما إن جذها عن أصولها فإنه لا يأخذها ولو كانت قائمة بعينها.
المازري: وهو المشهور، ولكن يحاص بما يخصها من الثمن. وَالْفَرْقُ أن الصوف لما كان تاما يوم البيع كان مستقلا بنفسه إذ يجوز بيعه منفردا عن أصله، فلا يفيته على البائع إلا ذهاب عينه لا مجرد جزه، والثمرة المؤبرة يوم البيع لم تكن مستقلة إذ لا يجوز بيعها منفردة عن أصلها، فجذاذها يفيتها على البائع. انتهى. قوله: جز الصوف أم لا لخ، قال البناني: هذا قول ابن القاسم في المدونة، قال ابن رشد: ولغير ابن القاسم وهو أشهب في التفليس من المدونة أن الصوف إذا جزه المشتري غلة ليس للبائع إلا أن يأخذها أي الغنم مجزوزة بجميع الثمن أو يتركها ويحاص الغرماء، وأما إن اشترى الغنم ولا صوف عليه ثم فلس فالصوف تابع للغنم ما لم يجز، فإن جز كان غلة ولا اختلاف في هذا. انتهى.
وقال في الأول على قول ابن القاسم: إن البائع يؤدي ثمن جزازه. انتهى. وقول عبد الباقي: وأما إن جذها عن أصولها فإنه لا يأخذها لخ، قال البناني: محل هذا في الثمرة إذا لم تكن يوم البيع قد طابت وإلا فيأخذها ولو جذها كالصوف كما صرح به ابن رشد، ونصه: وأما إن اشترى الأصول وبها ثمرة قد طابت ثم فلس فالبائع أحق بالنخل والثمرة وإن جذت ما كانت قائمة
كمشتري سلعتين. ولا خلاف في هذا بين ابن القاسم وأشهب. وَالفرْقُ عند أشهَبَ بين هذه المسألة وبين الغنم تشترى وعليها صوف أن الصوف لما كان يدخل في البيع وإن لم يشترط كان في حكم التبع لها كالأصول تشترى بثمرتها قبل الإبار. انتهى المراد منه.
تنبيهات:
الأوَّلُ: قد مر أن في الثمرة التي لم تؤبر حين الشراء أربعة أقوال، وقد علمت المشهور منها، وأما الثمرة المؤبرة حين الشراء ففيها ثلاثة أقوال: المشْهُورُ أنها يأخذها البائع ما لم تجذ فإن جذت حاص بما ينوبها من الثمن وإن كانت قائمة، والثَّانِي يأخذها وإن جذت ما دامت قائمة، والثَّالثُ هي كالغلة إن جذت. انظر الشارح. وقد مر أنها إذا طابت يأخذها البائع وإن جذت باتفاق ابن القاسم وأشهب.
الثَّانِي قال الخرشي: وإنما لم يقل المؤلف في الثمرة المؤبرة إذا اشترطها المشتري كما قال ابن الحاجب أو ثمرة كان اشترطها البائع مأبورة اتكالا على ما تقرر أن المأبورة لا تدخل إلا بالشرط. الثَّالثُ: قوله: "إلا صوفا تم" اعلم أنه إذا فات الصوف التام عند المشتري يكون حكمه حكم ما إذا اشترى سلعتين وفاتت إحداهما عنده وأراد البائع أخذ الباقية منهما، فيجري فيه قوله:"وأخذ بعضه وحاص بالفائت"، ففي ابن يونس ما نصه: ومن العتبية وكتاب محمد وابن حبيب، قال ابن القاسم: وإن اشترى غنما عليها صوف قد تم فجزه وباعه ثم فلس المشتري ولم يكن نقد الثمن، فأراد البائع أن يأخذ ما وجد في حقه فلينظر كم قدر الصوف والرقاب لا إلى ما باعه به، فيأخذ الغنم بحصتها بالصوف ويحاص الغرماء بما وقع للصوف. قال في كتاب ابن حبيب: يقال كم قيمة الغنم يوم وقع البيع بلا صوف؟ وكم قيمتها بصوفها؟ فينظر اسم قيمة الغنم وحدها من تلك القيمة فيأخذ الغنم بذلك الاسم من الثمن الذي باع به، ويحط عن الغريم ذلك الاسم ويحاص الغرماء باسم الصوف بجميع الثمن كسلعتين بيعتا في صفقة ففاتت واحدة وأدرك الأخرى. انظر الرهوني.
وأخذ المكري دابته وأرضه يعني أن من اكترى دابة أو أرضا ثم فلس قبل قبض المكري للكراء، فإن للمكري أن يأخذ دابته وأرضه لأن الغريم له أخذ عين ماله في المفلس لا في الموت فإنما له الحصاص، وقوله:"وأخذ المكري" لخ أي حيث أراد أخذ عين ماله، وأما إن أراد المحاصة
بكرائه فله ذلك. وَالْحَاصِلُ أنه في الموت ليس له إلا المحامة، وفي المفلس يخير بين أخذ عين ماله المكتَرَى وبين المحاصة، وقد علمت أنه يحل بالفلس وبالموت ما أجل ولو دين كراء، قال عبد الباقي مفسرا للمص: وأخذ المكري دابته وأرضه من مكتريهما وجيبة وفلس قبل استيفائه منفعتهما، وقوله:"أخذ" أي له أخذه لقوله: "وللغريم أخذ عين ماله المحوز عنه في الفلس" وإن شاء حاص لحلوله لقوله فيما مر: "ولو دين كراء" وله أخذ الدابة والأرض في الفلس وحاص بباقي الكراء الماضي لا في الموت فلا يأخذهما حتى تنقضي مدة الوجيبة، ولكن يحاص بكرائهما حالا. وبهذا يعلم أنه لا منافاة بين ما هنا وبين ما قدمه في قوله:"ولو دين كراء".
وإِيضَاحُه أن ما هنا في الفلس خاصة مع إرادة أخذ عين شيئه وما مر فيه، وفي الموت مع إرادة المحاصة لا مع إرادة الأخذ في الفلس. قَالَ أحمدُ: قوله: "وأخذ المكري" لخ قدْ يُقالُ هذا معارض لما مر من أن دين الكراء يحل بالموت والفلس؛ لأنه إذا حل كان الحق في المنفعة للغرماء وليس له أخذ ما أكراه، وقد جعل له هنا الأخذ. وَالجوابُ أن الحكم بالحلول يقتضي ثبوت الحق للغرماء وثمرة الحكم بالحلول تظهر فيما إذا أراد أخذ الثمن. انتهى. انتهى.
وقدم في زرعها في الفلس من تتمة قوله: "وأرضه" يعني أن المكتري لأرض إذا زرع فيها ثم فلس قبل قبض المكري للكراء فإن المكرِيَ يقدم في زرع أرضه على غيره من الغرماء حتى يستوفي من ثمنه كراءه. وتَحقيقُ هذه المسألة أن تقول: كلام المص شامل للسنة التي فلس فيها ولا قبلها من الأعوام، فيقدم المكري في الزرع إلى أن يستوفي من ثمنه جميع ما يقابل السنة التي فلس فيها من الكراء وما قبلها من الأعوام أخذ الأرض أم لا، وشامل أيضًا لما بعد السنة التي فلس فيها حيث لم يأخذ أرضه، فإن أخذها لم يكن فيما بعدها شيء لأنه فسخ الكراء فيما بعدها.
وقوله: "وقدم في زرعها" أي سواء جز الزرع أم لا، وقوله:"في الفلس" أي وأما في الموت فهو إسوة الغرماء هذا هو المشهور وهو قول مالك وأصحابه، قال في المدونة في آخر كتاب الدور والأرضين: وإذا فلس المكتري أو مات بعد أن زرع ولم ينقد فربها أحق بالزرع في المفلس وهو في
الموت إسوة الغرماء، ولابن القاسم في كتاب محمد وهو قول أصبغ أنه (أحق)
(1)
بذلك في الموت والفلس؛ أي لأن الزرع إنما نشأ عن الأرض فكانت كالحائزة له وحوزها كحوز صاحبها، فكانت بمنزلة من باع سلعة ثم فلس مشتريها أو مات وهي في يد بائعها، ونظر في الأول إلى أن الزرع لا نشأ عن الأرض فغايته أن يكون كمن باع الطعام فيكون أحق به في الفلس فقط. قاله الشارح.
وقوله: "في زرعها" مثل الزرع الغرس وليس البناء كالزرع والغرس؛ لأن الأرض لا تثمره ولا تنميه، ففي كلام عبد الباقي نظر. انظر الرهوني. قال عبد الباقي: واستشكل تقديمه في زرعها بتأديته إلى كراء الأرض بما تنبته أو بالطعام؛ لأن ما يؤخذ عن الكراء بمنزلة الواقع به ابتداء. انتهى المراد منه. قال البناني: أجاب الشيخ الكسناوي بأن معنى تقديم رب الأرض في زرعها أن زرعها يكون رهنا بيده فيباع ويأخذ من ثمنه الكراء، فلا يلزم كراء الأرض بما يخرج. انتهى. وهو ظاهر. انتهى. وقد أشرت في أول الحل إلى هذا. واللَّه تعالى أعلم.
ثم ساقيه يعني أن المكتري للأرض إذا فلس يقدم المكري على غيره من الغرماء في الزرع كما عرفت، فإذا استوفى من ثمنه فإنه يليه ساقي الزرع المذكور بأجرة معلومة حتى يستوفي أجرته، إذ لولاه ما انتفع بالزرع، وليس المراد بالساقي عامل المساقاة لأنه يأخذ حصته دون رب الأرض وغيره؛ لأنه شريك. انتهى قاله عبد الباقي.
ثم مرتهنه أي الزرع يعني أن المكتري المذكور إذا رهن الزرع فإنه إذا استوفى المكري حقه يليه الساقي للزرع حتى يستوفي أجرته، ثم يليه المرتهن للزرع حتى يستوفي حقه فيقدم على غيره من الغرماء بعد الذين تقدما، ثم إن فضل شيء فللغرماء. قال عبد الباقي: وقدم رب الأرض والساقي على المرتهن لأن الزرع إنما نشأ عن مال هذا وعمل هذا فكانا أخص في الحوز، وصاحب الحوز الأخص مقدم على صاحب الحوز الأعم، كما لو وقعت سمكة في حجر إنسان في مركب فإنه يكون أحق بها من صاحب الركب. انتهى.
(1)
ساقط من الأصل والمثبت من بهرام ج 3 ص 294.
قوله: لأن الزرع إنما نشأ عن عمل هذا لخ، قال البناني: هذا التوجيه ذكره في التوضيح للقول بأن صاحب الأرض مقدم في الموت والفلس، ولذا اعتبر الحوز لأن المقرر أن الشيء الذي لم يخرج عن اليد يقدم من هو في يده في الموت والفلس، أما على المشهور هنا أنه يقدم صاحب الأرض والساقي في الفلس فقط فلا يأتي هذا التوجيه؛ إذ لا يعتبر الحوز وهو ظاهر. فتأمله منصفا قاله مصطفى. انتهى.
تنبيهان:
الأوَّلُ: قال عبد الباقي: وقدم صاحب الأرض بكرائها في زرعها في الفلس للمكتري لعامه ولأعوام قبله ولا بعده حيث لم يأخذ أرضه، وسواء جز الزرع أم لا، ثم قال: وقولي لعامه ولأعوام قبله هو لجمع، وقرره بعضهم بأنه يقدم في السنة المزروعة فقط كما هو ظاهر قوله:"في زرعها" وأما في السنين الماضية فهو فيها إسوة الغرماء، وله أن يفسخ في المستقبلة فصارت المنافع ثلاثة أقسام. انتهى. انتهى. وقوله: حيث لم يأخذ أرضه راجع إلى قوله ولما بعده فقط كما مر ما يفيده. انظر الخرشي.
الثَّاني: هذا الترتيب الذي ذكره المص هو في المفلس كما قال المص، وأما في الموت فصاحب الأرض وساقي الزرع إسوة الغرماء، ويقدم المرتهن عليهما في الموت.
وعلم مما قررت أن نائب قدم ضمير يعود على المكري الذي هو صاحب الأرض، وأن الضمير في ساقيه للزرع وكذا الضمير في مرتهنه.
والصانع أحق ولو بموت بما بيده يعني أن الصانع أحق بما في يده أي بمصنوعه الذي في يده حيث فلس من استصنعه أو مات، فيمسك المصنوع حتى يستوفي أجرته من ثمنه؛ لأن كونه تحت يده صيره كالرهن فهو أحق به فلسا وموتا، ولا يكون شريكا أضاف لصنعته شيئًا أم لا بدليل تفصيله فيما لم يكن بيده، وشمل كلامه جميع مصنوعه وبعضه. قال عبد الباقي: فله حبسه في أجرة ما بيده وما رده لربه إن كان الجميع بعقد واحد ولم يسم لكل قدرا، فإن كان كل واحد بعقد أو اتحد ولكن سمى لكل واحد قدرا لم يحبس واحدا عن أجرة غيره. انتهى. قوله: فإن كان كل واحد بعقد أو اتحد ولكن سمى لكل واحد قدرا لخ، قال الرهوني: جزم فيما إذا اتحد العقد مع التسمية لكل واحد بعدم الحبس، وهو الذي وقع لابن القاسم في سماع أبي زيد لكن قال
ابن رشد في شرحه ما نصه: قوله في الذي فلس بعد أن قبض أحد السوارين من الصانع قبل أن يدفع إليه شيئًا من أجرته إن الصانع يكون أحق بالسوار الذي بيده بأجرته فيه، ويكون إسوة الغرماء بأجرة الذي دفعه صحيح إذا كان استعماله إياهما في صفقتين، وأما إن كان استعماله إياهما في صفقة واحدة فمن حق الصانع أن يمسك الباقي في يده حتى يقبض جميع حقه، كمن ارتهن سوارين أو عبدين بعشرين درهما فدفع أحدهما إلى الراهن ليدفع إليه نصف حقه فلم يفعل حتى فلس أنه أحق بالباقي في يده من السوارين والعبدين من الغرماء حتى يستوفي جميع حقه هذا مما لا إشكال فيه ولا اختلاف. انتهى المراد منه.
وقوى الرهوني ما قاله ابن رشد بأن المنصوص عليه في المدونة وغيرها أن التسمية لمتعدد في عقد واحد ملغاة لا أثر لها كما أشار له المص في العيوب بقوله: "ورجع للقيمة لا للتسمية". انتهى. وقوله: "والصانع أحق" لخ محل هذا إن وقع الفلس بعد العمل، أما إن فلس ربه قبل العمل، فقال في التوضيح: يخير الصانع بين أن يعمل ويحاصَّ وأن يفسخ الإجارة. قاله البناني.
وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية أي وإن لم يكن المصنوع بيد الصانع، بل أسلمه لربه أو لم يَحُزْه من أصله كبناء. فلا يكون الصانع أحق به من الغرماء بل هو إسوتهم فلسا وموتا، بشرط أشار إليه بقوله:
إن لم يضف لصنعته شينا كخياط وصانع وقصار وبناء، واستثنى مما إذا لم يضف لصنعته شيئًا قوله: إلا النسج يعني أن النسج مستثنى عند ابن القاسم من مسألة الصانع الذي لم يضف لصنعته: بل هو ملحق بالصنعة التي أضيف إليها شيء، ولهذا قال: فهو كالمزيد أي النسج كالمضاف المزيد في الصنعة أي حكمه حكم من أضاف لصنعته شيئًا من عنده، كالصباغ يصبغ بصبغهِ والرقاع يرقع برقاعه ونحو ذلك، وبيَّن حكم الزيد بقوله: يشارك الصانع في الفلس فقط بقيمته يوم الحكم ولو نقص المصبوغ بأن يقال: ما قيمة الثوب أبيض وما قيمة الصبغ؟ أي ما يصبغ به كما يأتي بيانه، فإذا كانت قيمة الصبغ خمسة دراهم وقيمة الثوب أبيض عشرة كان لصاحب الصبغ ثلث الثوب وللغرماء ثلثاه. وقولي: في الفلس فقط، احترازا من الموت فإنه أسوة
الغرماء فيه ووجه اختصاص ذلك بالفلس أنه لما كان فيه أخذ عين شيئه ولا يمكنه هنا شارك بقيمته، وأما في الموت فليس له أخذ عين شيئه فلذا كان أسوة الغرماء.
قال عبد الباقي مفسرا للمص ما نصه: وبين حكم المزيد استينافا بيانيا، ولذا جرده من العاطف جواب سؤال تقديره وما حكم المزيد، فقال: يشارك في الفلس فقط كما يفيده الشارح بقيمته يوم الحكم ولو نقص الثوب، قال أحمد: بأن يقال ما قيمة الغزل أي مثلا وما قيمة صنعته؟ ولا يقال ما قيمته مصنوعا لأن الصانع ليس له إلا الصنعة فلا يقوم إلا صنعته ولو قوم بجملته ربما زاد ذلك، فيأخذه زيادة على حقه. انتهى. وما ذكره من أن النسج كالمزيد ضعيف، والمذهب أنه ليس مثله بل كعمل اليد، كما أن المزيد حقيقة في الموت كعمل اليد يحاص فيه، ثم موضوع المص في النسج أنه استأجر المفلس من ينسج له غزلا، وأما من باع غزلا فوجده منسوجا عند المشتري المفلس فإنه يكون شريكا أيضًا قطعا، ولا يكون هو ولا بناء العرصة فوتا على الراجح. انتهى. كلام عبد الباقي.
قوله: ولا يكون هو ولا بناء الرصة فوتا على الراجح، قال الرهوني: ظاهره أنه راجع للنسج والبناء، ولم أر من ذكر مقابل الراجح في مسألة البناء نصا ولا تخريجا مسلما، والنص في الموطإ والمدونة والعتبية أنه ليس بفوت، وعليه اقتصر ابن شأس وابن الحاجب، وكلام ابن عبد السلام وغيره يفيد نفي الخلاف فيها، وخرج اللخمي فيها خلافا ورده المازري، وأما المقابل في نسج الغزل فذكره ابن عبد السلام ونصه المشهور أن يكون البائع والمشتري شريكين في الثوب فالبائع بقيمة الغزل والمشتري بقيمة النسج. وقال بعضهم: يشبه أن يكون النسج تفويتا، وذكرها بعض الشيوخ قولةً لابن القاسم. انتهى المراد منه.
ومر عن عبد الباقي أن قول المص: "إلا النسج فكالمزيد" ضعيف، قال البناني: نص ابن شأس أن النساج كالصباغ والذي عليه ابن رشد في النساج خلافه، ونصه: ابن رشد: إن كان الصانع قد عمل الصنعة ورد المصنوع لصاحبه، فإن لم يكن للصانع فيها إلا عمل يده كالخياط والقصار والنساج فالمشهور أنه إسوة الغرماء. انتهى. وقوله:"يشارك بقيمته" أي يشارك بقيمة ما زاد من
عنده لا بالعمل. ابن عرفة: وعلى سماع عيسى وهو المشهور لا يكون أحق إلا بقيمة ما أخرج وقيمة عمله يكون بها إسوة الغرماء. انتهى. وأصله لابن رشد ومثله في التوضيح. قاله البناني.
تنبيه:
قد مر قول عبد الباقي: وأما من باع غزلا فوجده منسوجا عند المشتري المفلس فإنه يكون شريكا أيضًا قطعا لخ، قال البناني: ظاهر ما في التوضيح والمواق وابن عرفة أن المشتري في هذه شريك، سواء أضاف لصنعته شيئًا من عنده أم لا، بخلاف الصانع. انتهى. وقال المواق: وبقي مسألة -أعني من مسائل النسج- وهي البائع يبيع الغزل فينسجه المبتاع ثوبا ثم يفلس والثوب بيده إن أبى البائع المحاصة كان شريكا بقيمة العمل من قيمة الغزل. انظر ابن يونس. انتهى.
والمكتري بالعينة أي أحق بالعينة يعني أن من اكترى دابة بعينها أو عبدا بعينه مثلا ثم مات المكري أو فلس، سواء كان المكتري لم يقبض ذلك الشيء العين أو قبضه، فإن المكتري أحق بذلك العبد العين وبتلك الدابة المعينة من غيره من الغرماء حتى يتم كراؤه، قال المواق من المدونة: من اكترى دابة بعينها أو عبدا بعينه ثم مات المكري أو فلس ولم يقبض ذلك المكتري فالمكتري أحق بذلك حتى يتم كراؤه، كعبد اشتراه فلم يقبضه حتى فلس بائعه فالمشتري أحق. وقوله:"بالمعينة" مفهومه أنه لو كان الكراء مضمونا ولم يقبضها كان المكتري إسوة الغرماء في الموت والفلس. وأما إن قبضها فهو قوله: وبغيرها إن قبضت يعني أنه لو قبض الدابة المضمونة فهو أولى بها حتى يتم حقه، قال المواق: قال مالك: لو قبض الدابة يعني المضمونة وحمل عليها فهو أولى بها حتى يتم له حقه.
ولو أديرت يعني أنه إذا كانت الدابة المكتراة مضمونة وقبضها المكتري ثم فلس المكري فإن المكتري أحق بتلك الدابة التي قبضها، سواء كان يدير الدواب تحته أي لا يلزمه دابة واحدة بأن يأتيه مرة بدابة وأخرى بدابة أم لا، بأن أتاه بدابة وتركها تحته وهذا هو المشهور، وهو قول مالك في المدونة واختيار ابن حبيب، وقيل لا يكون أحق بها وهو قول أصبغ، وقيل لا يكون أحق بالمضمونة مطلقًا أديرت أم لا.
والحاصلُ أن المكتري أحق بمنافع المعينة مطلقًا قبضت أم لا، وبمنافع المضمونة إن قبضت سواء أبْقى له دابة واحدة أو كان يأتيه بدابة ثم يأتيه بغيرها، وقيل لا يكون أحق بها إن أديرت وقيل
لا يكون أحق بها مطلقا. انظر الشارح. وقال عبد الباقي شارحا لكلام المص: والمكتري دابة رجل انتقد كراءها ثم فلس ربها أو مات أحق بالمعينة عند عقد الكراء أي بمنفعتها قبضت أم لا لقيام تعيينها مقام قبضها حتى يستوفي منها ما نقده في عقده، فإذا استوفى بيعت لدين الغرماء وأحق بغيرها أي المعينة إن قبضت أي كانت مقبوضة بيد المكتري حين التفليس أو الموت فقبضها بعدهما لا يكون به أحق، وقوله:"إن قبضت" شامل لما إذا قبضت وردت لربها وحين التفليس كانت بيد ربها مع أن المكتري ليس أحق بها في هذه الحالة، ولو أديرت أي كان ربها يدير الدواب تحت المكتري. وفرق ابن يونس بينها وبين كون الراعي ليس أحق بالغنم، بأن الراعي لم يتعلق له حق بعين الدواب بل بذمة المكتري ومكتري الدواب تعلق حقه بقبضه واستيلائه عليها بركوب أو حمل. انتهى كلام عبد الباقي. ونحوه للخرشي فجعلا موضوع المص أن المكتري دفع الكراء للمكري، والظاهر أنه لا فرق كما هو ظاهر كلام المدونة وكلام غير واحد. واللَّه تعالى أعلم.
وربها بالمحمول هذه عكس التي قبلها يعني أنه إذا لم يكن المفلس بائع المنافع بل كان المفلس مشتري المنافع فإن بائع المنافع يكون أحق بما حمل على دابته من متاع المكتري الذي هو مشتري المنافع؛ أي يكون المكري أحق من غيره من الغرماء بما حمل على دابته من متاع المكتري حيث فلس المكتري أو مات فيستوفي منه أجرة دابته ومثل الدابة السفينة.
وإن لم يكن معها يعني أن رب الدابة الذي هو المكري أولى بما حمل على دابته من متاع المكتري في فلسه أو موته، سواء أسلم الدابة إلى المكتري أو كان معها ورب المتاع معه أم لا. ما لم يقبضه ربه يعني أن رب الدابة أحق بما عليها ما لم يقبضه المكتري قبض تسليم فربها أحق حال نزول الأحمال في المنهل ونحوه، فإن قبضه قبض تسلُّم فربها إسوة الغرماء في الموت والفلس قام بالقرب أم لا كما هو ظاهر التوضيح وغيره. قاله البناني. وهو ظاهر المص أيضًا. والفرق بين كون هذا أحق في الموت والفلس وبين قوله وقدم في زرعها في الفلس أن المتاع محوز في مسألة الدابة، أما إن كان معها صاحبها فواضح، وأما إن لم يكن معها فهي حاملة له يتحرك بحركتها ويذهب بذهابها والمحوز لا يفترق فيه الفلس والموت، وليس الزرع بالأرض كذلك قاله الرهوني.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: والمكري على حمل متاع من بلد إلى بلد هو أولى به في الموت والفلس، كان قد أسلم دوابه إلى المكتري أو كان معها ورب المتاع معه أم لا وهو كالرهن، ولأنه على دوابه وصل إلى البلد. ابن يونس: وكأنها قابضة للمتاع كقابض الرهن. انتهى. وقوله: "ما لم يقبضه ربه" قال المواق عنده ما نصه: قال في كتاب ابن حبيب، وهذا ما دام المتاع بيده فإذا أسلمه لم يكن أحق به كالصناع إذا أسلموا المتاع أو لم يسلموه الحكم واحد. ابن يونس: جعلوا الدواب بخلاف الدور وكأن ظهور الإبل حائزة لما عليها، وكأن في حملها لذلك من بلد إلى بلد تنمية للمتاع، بخلاف الدور لا تنمية فيها فعلى هذا السفن كالدواب لا كالدور. انتهى.
وقال عبد الباقي: وربها أي الدابة ومثلها السفينة أحق بالمحمول عليها من متاع المكتري في فلسه أو موته يأخذه في أجرة دابته وكذا سفينته، وإن لم يكن ربها معها ما دام المتاع بيده لم يقبضه ربه المكتري الفلس قبض تسلم، فربها أحق حال نزول الأحمال في المنهل ونحوه، فإن قبضه قبض تسلم فربها إسوة الغرماء في الموت والفلس ما لم يقم بالقرب، فإن قام بالقرب فرب الدابة أحق بالأمتعة مع قبض ربها لها. انتهى. المراد منه.
قوله: ما دام المتاع بيده مناف لقول المص: "وإن لم يكن معها" قاله الرهوني. وقوله: ما لم يقم بالقرب لخ، قال البناني: ظاهر التوضيح وغيره أن ربها إسوة الغرماء قام بالقرب أم لا، وأتى بعد هذا بما يدل على رد ما قاله عبد الباقي، وقوله:"وإن لم يكن معها" أشار بإن إلى قول ابن رشدت قال الشارح: أشار إلى أن كون رب الدابة ليس معها لا يؤثر عدم الأحقية، وأشار ابن رشد إلى أنه يخرج في ذلك قولان: أحدهما أنه لا يكون أحق لا في الموت ولا في الفلس، والثاني أنه أحق به في الفلس دون الموت. انتهى. وقال الشارح: قال في المدونة: وأرباب الحوانيت والدور إسوة غرماء مكتريها في الموت والفلس، وليسوا أحق بما فيها من المتاع. وقال عبد الملك في الواضحة: كالدواب فيكون أربابها أحق بما فيها انتهى.
وفي كون المشتري أحق بالسلعة يعني أن من اشترى سلعة شراء يفسخ لأجل فساد البيع وأخذ السلعة ودفع ثمنها للبائع أو أخذها عن دين ففلس البائع قبل أن يردها عليه المبتاع، فإنه اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أَحَدُهَا لسحنون أن المشتري أحق بها حتى يستوفي ثمنه أو
دينه. ثَانِيهَا: أنه لا يكون أحق بها في الأمرين وهو قول ابن المواز، وإليه أشار بقوله: أولا أي لا يكون أحق بها بل هو إسوة الغرماء مطلقًا. ثالِثُهَا: أنه يكون أحق بها فيما إذا اشتراها بثمن قد دفعه، لا إن أخذها عن دين وهو قول ابن الماجشون، وإليه أشار بقوله: أو أحق بها في الثمن النقد المدفوع لربها لا فيما إذا أخذت عن دين، وليس المحترز أخذت بمؤجل؛ إذ ليس للمشتري به شيء يكون أحق بالسلعة.
وقوله: أقوال مبتدأ خبره "في كون" لخ، قال عبد الباقي شارحا للمص: وفي كون المشتري للسلعة أحق بالسلعة التي اشتراها فاسدا ودفع ثمنها للبائع، أو أخذها عن دين له في ذمة بائعها ثم فلس ذلك البائع قبل فسخ البيع حيث يفسخ عقد شراء السلعة أي يستحق الفسخ شرعا لفساد البيع والسلعة قائمة بيد البائع أو المشتري وفات ثمنها، أو كان لا يعرف بعينه أو لا يكون أحق بها بل هو إسوة الغرماء لأنه أخذها عن شيء لم يتم أو يكون أحق بها في الثمن النقد المدفوع لربها لا فيما إذا أخذت عن دين، أقوال أرجحها أولها فكان حقه الاقتصار عليه. انتهى.
وكذا نص على ترجيحه غير واحد، قوله: بيد البائع فيه نظر، ويأتي الكلام عليه. وقال عبد الباقي عند قول المص:"وفي كون المشتري أحق بالسلعة يفسخ لفساد البيع" ما نصه: وكذا يكون أحق بها في الموت على هذا القول إلى أن يستوفي ثمنه. انتهى. قال الرهوني: جزم بهذا والذي في علي الأجهوري هو ما نصه: فرض مسألة المص فيما إذا فلس البائع ووقع الفسخ بعد الفلس، وجعل بعض مشايخي وبعض الشراح قول المص في الموت والفلس، ولكن الأول هو الذي يفيده كلام الشارح وحلولو. انتهى. قلت: المسألة إنما هي مفروضة في كلام الناس في الفلس، ولم أر من ذكر الأقوال في الموت بحال، نعم توجيه الباجي لقول سحنون يفيد ما قاله الزرقاني. انتهى المراد من كلام الرهوني. وقال عبد الباقي عند قول المص:"أقوال" ما نصه: وَمَحلُّهَا إذا لم يطلع على الفساد إلا بعد الفلس، وأما لو اطلع عليه قبله فهو أحق بها باتفاق. انتهى.
يعني أنه اطلع عليه قبله ولكن لم يقع الفسخ إلا بعده، بدليل ما يأتي له بعدُ ومع ذلك فهو غير صحيح؛ لأن في كلام الأيمة أن الفسخ وقع بعد الفلس ولم يشترطوا أن لا يطلعوا على الفساد
قبيله
(1)
، وقد وقع في عبارة الرجراجي ما هو صريح في رد ما قاله، ونصه: وأما من اشترى سلعة شراء فاسدا ففلس البائع بعد أن رد المشتري السلعة فلا سبيل له إليها قولا واحدا، وإنما حقه في عين ثمنه إن وجده فإن فلس بعد أن فسخ البيع وقبل أن يرد المشتري السلعة، فهل يكون أحق بالسلعة حتى يستوفيَ ثمنَه أو لا؟ المذهب على ثلاثة أقوال: أَحَدُها أنه يكون أحق بها وهو قول سحنون وهو ظاهر المدونة في كتاب الرهون في مسألة الرهن الفاسد. انتهى. المحتاج إليه منه.
تنبيه:
علم من كلامهم أن محل الأقوال فيما إذا كانت السلعة بيد المشتري سواء وقع الفسخ أم لا، وأما إذا كانت بيد البائع وقد فسخ البيع فلا شيل للمشتري إليها اتفاقا، فإن كانت بيد البائع ولم يقع فسخ، فإن كان ذلك بعد أن أخذها المشتري فلا سبيل للمشتري إليها قولا واحدا، وإن بقيت بيد البائع بعد المعاقدة فالظاهر أنه لا سبيل للمشتري إليها أيضًا والمستظهر لهذا مقيده عفا اللَّه تعالى عنه خلاف ما يفيده عبد الباقي صريحا من جري الأقوال. واللَّه تعالى أعلم.
وهو أحق بثمنه يعني أن محل الأقوال الثلاثة إنما هو حيث فات الثمن أو لم يفت وهو مما لا يعرف بعينه، وأما إن لم يفت وهو معا يعرف بعينه فالمشتري أحق به بقيت السلعة أو فاتت فهو من تتمة ما قبله.
وقوله: "وهو أحق بثمنه" يعني موتا وَفَلَسًا، قال المواق عند قوله "وهو أحق بثمنه" ما نصه: لما ذكر ابن رشد الثلاثة الأقوال في مسألة من اشترى سلعة شراء فاسدا وفلس البائع، قال ما نصه: ولا خلاف بينهم أنه إن وجد الثمن الذي دفعه بعينه أنه أحق به في الموت والفلس جميعا. انتهى.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: وهو شامل لا إذا طبع عليه، ولما إذا كان يعرف بعينه. واللَّه تعالى أعلم. وبالسلعة إن بيعت بسلعة واستحقت صورتها أن يبيع زيد سلعة لعمرو مثلا بسلعة فاستحقت السلعة التي دفع عمرو، لزيد من يد زيد فوجد زيد سلعته بيد عمرو فإن زيدا أحق بسلعته في موت عمرو أو فلسه قولا واحدا. قال ابن رشد بعد أن ذكر أنه لا خلاف في أن المشتري أحق بثمنه: أعني في مسألة المص وهو أحق بثمنه ما نصه: وكذلك من اشترى سلعة بسلعة
(1)
لفظ الرهوني ج 5 ص 322 أن لا يطلع على الفساد قبله.
فاستحقت السلعة التي قبض كان أحق بالسلعة التي دفع إن وجدها بعينها في الموت والفلس جميعا قولا واحدا. اهـ.
نقله المواق وقال عبد الباقي شارحا للمص: وأحق بالسلعة إن بيعت بسلعة أخرى واستحقت السلعة المأخوذة من الفلس، فقوله: واستحقت حال كما في أحمد من النكرة قبلها وسوغ مجيئها منها وصفها المقدر بأخرى أي ورب السلعة أحق بسلعته في الموت والفلس إن بيعت بسلعة واستحقت من يده، فضمير بيعت للسلعة المبيعة التي بيد الفلس، وضمير استحقت للسلعة المأخوذة عوض التي بيد المفلس وهي سلعة المفلس، وسواء كان البيع صحيحا أو فاسدا كما في النقل؛ لأن البيع وقع بشيء معين وما كان كذلك يفسخ فيه البيع ولا يخالف أخذها هنا في الموت. قوله:"وللغريم أخذ عين ماله المحوز عنه في الفلس لا الموت"؛ لأن البيع وقع على معين فباستحقاقه انفسخ فوجب رجوعه في عين شيئه مطلقا وبعوضه إن فات، بخلاف مسألة المفلس فإن البيع وقع فيها على ثمن لم يتعين كالدنانير، وهذه مسألة من أفراد قوله:"وفي عرض بعرض بما خرج من يده"، وذكرها هنا لبيان أنه يحاص بعوضها إذا لم يكن الرجوع فيها وليس له أخذ جميع عوضها. اهـ كلام عبد الباقي. قوله: وهذه المسألة من أفراد قوله: وفي عرض بعرض.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: هو كالصريح في أنه إذا فاتت السلعة بحوالة سوق فأعلى لا رجوع له في عينها، وإنما له المحاصة بقيمتها. واللَّه تعالى أعلم. وقوله:"وبالسلعة إن بيعت بسلعة واستحقت" قال الشارح بعد أن ذكر ما مر عن ابن رشد ما نصه: قال: وكذلك من تزوج امرأة بسلعة بعينها فدفعها إليها ثم طلقها قبل الدخول، أو الفى النكاح مفسوخا فهو أحق بجميع السلعة إن وجد النكاح مفسوخا، وبنصفها إن طلقها وأدركها بعينها قائمة في الموت والفلس قولا واحدا. اهـ.
وقضي بأخذ المدين الوثيقة أو تقطيعها يعني أن المدين إذا دفع الحق لرب الدين وأراد المدين أخذ الوثيقة المكتوب فيها الدين أو تقطيعها وامتنع رب الدين من ذلك، فإنه يقضى على رب الدين للمدين بأن يأخذ الوثيقة أو تقطع. قال الرهوني: ظاهر المص أنه يخير بين الأمرين وعلى ظاهره قرره الشارح وتبعه الزرقاني، والذي في المواق عن المتيطى الذي به القضاء للذي عليه الدين أخذ
وثيقة الدين من صاحبها ويقضي عليه بتقطيعها، وفي الحطاب عن أبي الحسن: وقال ابن عبد الحكم وأصبغ وابن دينار: يجبر على دفعها وتقطع. وقال أبو علي: المراد هو التقطيع لا الأخذ، فلو حذف المص الأخذ وقال بتقطيع الوثيقة لكان أبين. اهـ.
وقال البناني عند قوله وقضي بأخذ المدين الوثيقةَ" ما نصه: وقيل يكتب على ظهرها وتبقى بيد ربها وعليه العمل كما في الحطاب عن ابن عبد السلام، وهو الذي نقله التتائي عن الخضراوي وهو قول أبي القاسم الجزيري. انتهى. الرهوني: كان من حق البناني أن ينبه على استمرار هذا العمل فإنه مستمر. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي مفسرا للمص: وقضي على رب دين اقتضاه بأخذ المدين الوثيقة مخصوما عليها ليلا يدعي رب الدين سقوطها منه فيقبل كما يذكره قريبا، وقيل لا يقضى عليه بدفعها ولو مخصوما عليها ليلا يخفيها المدين ويدعي أن ما دفعه له سلف. اهـ.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: قوله مخصوما عليها، قال الحطاب: قال في الشامل: صُوِّبَ خصم الوثيقة مع الدفع. انتهى. وهو معنى قول المشدالي وتبطيلها. اهـ. كلام الحطاب. فالظاهر أنه من خصمه إذا غلبه في الخصام، فيكون معناه مجعولا فيها ما يبطل خصامه من ضرب عليها أو غيره، وفي الرهوني عن أبي علي: ولعل المراد بالتبطيل هو ما جرى به العمل بفاس من كتب الإبراء بظهر الوثيقة أو طرتها ثم يأخذ الغريم نسخة من الإبراء المذكور. اهـ. واللَّه تعالى أعلم. وقوله: أو تقطيعها حيث لا سجل فيها وإلا قضي بأخذها مخصوما عليها ليلا يخرج صورتها من السجل، قال صاحب التكملة: ومن الحزم تقطيعها وكتابة براءة بينهما.
لا صداق قضي يعني أن الزوج إذا قضى لزوجته صداقها فإنه لا يقضى عليها بأخذ الوثيقة التي فيها الصداق ولا بتقطيعها، قال المواق: المتيطى: أما الزوجة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها يدفع إليها كالئها فليس عليها أن تدفع كتاب صداقها إلى زوجها ولا إلى ورثته لا فيه من النفعة لها من لحوق نسب وغيره. اهـ. وقال عبد الباقي شارحا للمص: لا صداق أي لا يقضى لزوج ولا لمطلق ولا لورثته إن مات بأخذ وثيقة إذا قضى ما فيها ولا بتقطيعها، بل تبقى مخصوما عليها لأن في بقائها عند الزوجة وأوليائها منفعة بسبب الشروط التي فيها، وكذا في لحوق النسب إذا اختلفا في الولد، وكذا لها نفع في بقائها إذ لا يعلم انقضاء عدتها إلا منه، سواء كانت مدخولا
بها أم لا ومات الزوج، والتعليل المذكور محمول على ما إذا كتب تأريخ الطلاق على ظهر عقد الصداق. اهـ. وقوله: لا صداق قضي هذا هو المشهور المعمول به، وقيل لابد من أخذه وتقطيعه.
ولربها ردها إن ادعى سقوطها يعني أن رب الوثيقة الذي هو رب الدين المكتوب فيها إذا وجدها بيد المدين وادعى المدين أنه أخذها لكونه قضى رب الدين، وأكذبه رب الدين وقال إنها سقطت من عنده، فإن القول لرب الوثيقة فيردها المدين إليه ويقضية دينه، ولابد من حلف رب الدين على بقائه. قال عبد الباقي: ولربها أي الوثيقة ردها من المدين إن وجدت عنده وادعى القضاء إن ادعى ربها سقوطها أو سرقتها أو غصبها منه، وعليه دفع ما فيها إن حلف ربه على بقائه إذ الأصل في كل ما كان بإشهاد بأنه عليه أن لا يبرأ منه إلا بإشهاد بالبراءة منه بدفعه أو بهبته له أو نحو ذلك. اهـ.
وقوله: "ولربها ردها" لخ هذا هو المشهور، وقيل لا ترد إليه وهي شهادة للمديان بالقضاء لأن رب الدين لم يأت بما يشبه من الأغلب، ومن معنى دعوى السقوط دعوى أنه سرقها أو غصبها، ومفهوم المص أنه إذا قال دفعتها للمدين أنها لا ترد إليه ولا يصدق في دعوى عدم القضاء، بدليل مسألة الرهن وهذا هو المفهوم من كلام المتيطى. انظر الرهوني. وقال المواق: إذا دفع الذي عليه الدين لرب الدين دينه ودفع إليه رب الدين عقده الذي كان له عليه ثم جحده الاقتضاء فاستظهر له الغريم بوثيقة الدين لم يكن ذلك له براءة ويؤمر بردها إلى رب الدين إن ادعى أنها سقطت منه وما أشبه ذلك، وأقصى ما عليه اليمين أنه ما اقتضى من دينه شيئًا. اهـ.
ولراهن بيده رهنه بدفع الدين يعني أن الراهن إذا وجد بيده رهنه وادعى أنه دفع الدين للمرتهن ولم يصدقه المرتهن، بل ادعى سقوطه أو سرقته فإنه يقضى للراهن بأنه دفع الدين للمرتهن مع يمين الراهن. قال عبد الباقي: وقضي لراهن مع يمينه وجد بيده رهنه بدفع الدين أي بأنه دفعه للمرتهن ولم يصدقه بل ادعى سقوطه أو إعارته له أو سرقته، ويبرأ منه الراهن يعني يبرأ من الدين إن قام المرتهن بعد طول كعشرة أيام فيما يظهر، فإن قام بالقرب فالقول للمرتهن بلا خلاف كما في الحطاب، والفرق بين الرهن والوثيقة ندور سقوط الرهن بالنسبة لسقوط الوثيقة، إذ الاعتناء بحفظ الرهن أشد من الاعتناء بحفظ الوثيقة. اهـ. قوله: أو إعارته، قال البناني: في
تسويته بين دعوى الإعارة وغيرها نظر بل التفصيل إنما هو في غير الإعارة. انظر الحطاب وغيره. اهـ.
وقال الحطاب عند قوله: "ولراهن بيده رهنه بدفع الدين" هذا إذا أقر المرتهن بدفع الرهن إلى الراهن، قال في المتيطية: ولو لم يقر المرتهن بدفع الرهن إلى الراهن وادعى أنه تلف له وسقط لكان القول قوله قولا واحدا إذا كان قيامه عليه بالقرب. وقال قبله: ولا اختلاف بينهم إذا طال الأمر أن القول قول الراهن. اهـ. وهكذا نقل المسألة ابن فرحون في تبصرته عن المتيطي.
كوثيقة زعم ربها سقوطها تشبيه بما تضمنه قوله: "ولراهن بيده رهنه" لخ وهو لا شيء للمرتهن؛ يعني أنه إذا زعم رب الدين سقوط الوثيقة وادعى المدين القضاء فإن القول للمدين مع يمينه، وهذا ظاهر التشبيه في كلام المص فيكون فقد الوثيقة من يد رب الدين شاهدا للمدين فيحلف معه. وعارضها ابن غازي بقوله قبل ولربها ردها، وفرق بينهما بعض بأنه في الأولى لما وجدت الوثيقة بيد المدين غير مخصوم عليها كذبه العرف وهو أن الدين لا يقضى إلا بكتب القضاء على الوثيقة بخلاف هذه. انتهى انظر البناني.
ولم يشهد شاهدها إلا بها هذا الكلام استيناف، ومعناه أن الشاهد إذا كتب شهادته في الوثيقة فلا يجوز له أن يشهد إلا مع إحضارها، وظاهره حَفِظَ الشَاهِدانِ ما يشهدان به أم لا، قال المتيطى عن الكافي: إذا كتب الشاهد الوثيقة وطولب بها يعني بالشهادة وزعم المشهود عليه أنه قد أدى ذلك الحق لم يشهد الشاهد حتى يؤتى بالكتاب الذي فيه شهادته بخطه؛ لأن الذي عليه أكثر الناس أخذ الوثائق إذا أدوا الديون. انتهى نقله ابن غازي وغيره. قال البناني: قلت: مضمن كلام الكافي أن الشاهد في هذه المسألة لا يشهد، ويفهم منه أن القول للمدين أي في أنه أبى الدين إذ لو كان مؤاخذا بإقراره لم يكن لمنع شهادة الشاهد فائدة لموافقتها للإقرار. انتهى واللَّه تعالى أعلم.
ولما أنهى الكلام على التفليس أَتْبَعَهُ بالحجر تكميلا لبيان أسباب الحجر فقال:
في الحجر وأسبابه حصرها ابن الحاجب تبعا لابن شأس في سبعة ونصه: الحجر أسبابه الصبا والجنون والتبذير والرق والفلس والمرض والنكاح في الزوجة، قال ابن عبد السلام: وتُعقِّب كلام المص هنا من وجهين: أحدهما أنه ترك سببا ثامنًا وهو الردة، والثاني قدم حكم الفلس قبل ذكر سببه، فإنه عند الفلس هنا في الأسباب بعد أن تكلم على أحكام التفليس فيما تقدم. انتهى. وقد اعترض في التوضيح بذلك وزاد تاسعا، ونصه: مفهوم العدد يقتضي الحصر فيها وينتقض عليه بالحجر على الراهن لحق المرتهن وبالحجر على المرتد. انتهى. وسلمه الناصر بسكوته عنه. وقال ابن عرفة بعد ذكره كلام ابن عبد السلام في نصه: قلت يُرَدُّ تعقبه الأول بأنهم ذكروا الحجر على المالك فيما يملكه لا فيما لا يملكه، وحجر المرتد ليس من حجر المالك على ما يملكه؛ لأنه لو مات ما ورث عنه، ولعله في تعقبه تبع القرافي في الذخيرة فإنه قال: أسبابه ثمانية فعد فيها الردة. انتهى.
قال الرهوني: قلت سلم كلام ابن عرفة هذا ابن غازي في تكميله والحطاب وجسوس والتاودي وغير واحد وهو غير مسلَّم، بل الحق ما قاله ابن عبد السلام، وما استدل به ابن عرفة من عدم الإرث لا دليل له فيه لأن مانع الإرث التخالف في الدين بهذا علله غير واحد، ويلزم ابن عرفة أن الكافر بالأصالة إذا لم يكن له ورثة إلا مسلمون أنه ليس بمالك، ثم هو استدل بدليل واحد، ولابن عبد السلام أدلة متعددة كون ماله لسيده المسلم إذا قتل على ردته، فلولا أنه باق على ملكه إلى موته لم يكن لاختصاص سيده به عن سائر المسلمين وَجْهٌ ورجوع ماله إليه إذا راجع الإسلام، فلو زال ملكه عنه بالردة لم يكن لرجوعه إليه بدون سبب وَجْهٌ، وقضاء ما عليه من الديون من ماله وأداء جنايته على عبد أو ذمي من ماله والإنفاق على مدبره وأم ولده من ماله. فتأمله بإنصاف. ثم وجدت أبا علي رد كلام ابن عرفة بنحو هذا وأطال بجلب كلام المعونة والمتيطي والمدونة وابن شأس وابن عرفة نفسِه، ثم قال بعد ذلك ما نصه: ومن ادعى أن الردة مزيلة للملك كابن عرفة فليأت بدليل، وكونه لا يورث ليس بدليل وإلا لزم في كل من لا يورث من كافر أصلا أو غيره، وإن أردت تحقيق هذد المسألة، فانظر كلامنا على إرث المرتد صدر كتاب الردة تجد السحر الحَلَالْ، إن شاء اللَّه تعالى الكبير المتعالْ، انتهى. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
وقال الحطاب: الحجر مصدر حجر يحجر ويحجر بضم الجيم وكسرها وهو لغة حضن الإنسان والمنع والحرام، ومنه قوله تعالى:{وَحَرْثٌ حِجْرٌ} ويثلث في المعاني الثلاثة. قاله في القاموس. وقرئ بهن في الآية، وتقول الكفار يوم القيامة إذا رأوا ملائكة العذاب:{حِجْرًا مَحْجُورًا} أي حراما محرما يظنون أن ذلك ينفعهم كما كانوا يقولونه في الدنيا لمن يخافونه في الشهر الحرام. قاله في الصحاح. وذكر أن الحجر بمعنى الحرام أفصح فيه الكسر من غيره، والحجر مثلث أيضًا ما بين يدي الإنسان من ثوبه، قاله في المحكم وحكاه في القاموس بالكسر فقط. والحجر بالكسر فقط يطلق على العقل كقوله تعالى:{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} وعلى حجر الكعبة المحاذي لها من الجانب الشمالي وكل ما حجرته من حائط فهو حجر، وعلى ديار ثمود بالشام عند وادي القرى قال تعالى:{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} وعلى الأنثى من الخيل وهو في الجميع بمعنى المنع؛ لأن العقل يمنع من الرذائل جميعها والحائط يمنع من الدخول إليه وكذا ديار ثمود والأنثى تمنع صاحبها من العدو، ويطلق أيضًا بالكسر على القرابة وعلى فرج الرجل والمرأة والحجر في الشرع. قال في الذخيرة المنع من التصرف، وقال ابن رشد: المنع من التصرف في المال وفيهما إجمال يجب اجتنابه في الحدود إذ لم يبين هل هو المنع من التصرف بالتبرع أو بالمعاوضة؟ وهل في الكل أو في البعض؟ وقال ابن عرفة: الحجر صفة حكمية توجب لموصوفها منع نفوذ تصرفه في الزائد على قوته أو تبرعه بماله، قال: وبه دخل حجر المريض والزوجة. انتهى.
وقوله: أو تبرعه عطف على تصرفه وبماله بكسر اللام، فإن كان أراد التبرع بكل المال كما قال الرصاع يرد التبرع بأكثر من الثلث، وإن كان الزائد على الثلث فلا قرينة تدل عليه، وإن كان المراد بشيء من ماله ففساده بيِّن. قاله الحطاب. وَأجِيبَ بأن المراد التبرع بكل ماله كما تفيده الإضافة، ولا يخرج منه الزوجة والمريض لأنهما ممنوعان من التبرع بكل المال، وجواز تبرعهما بالثلث فدون شيء آخر يعلم من خارج.
وقال مصطفى: تعريف ابن عرفة لا يطابق معناه لغة ولا اصطلاحا؛ لأنه في اللغة المنع، وفي الشرع المنع من شيء خاص كما قاله ابن رشد وعياض والتوضيح واعترف به ابن عرفة. انتهى.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: ما قاله مصطفى ظاهر لأنه جعل الحجر السفه والصبا ونحوهما وذلك سبب في الحجر والسبب غير المسبب. واللَّه تعالى أعلم.
وقدم المص حجر المجنون لقلة الكلام عليه بالنسبة للصبي فقال: المجنون محجور اللام لانتهاء الغاية، يعني أن المجنون محجور عليه إلى أن يُفيقَ فإذا أفاق زال الحجر لأجل الجنون، وينظر في غيره من الأسباب فإن وجد شيء منها عمل عليه وإلا فرشيد. وقوله:"محجور" أي لأبيه إن كان وجُنَّ قبل بلوغه أو رشده وإلا فالحاكم وإلا فلجماعة المسلمين.
والحاصل أن الجنون الطارئ بعد الرشد يكون للحاكم وإن وجد الأب، وأما الطارئ قبل البلوغ أو بعده مع السفه فهو للأب إن كان وإلا فالحاكم وإلا فجماعة المسلمين. وقوله:"محجور" أي عليه حتى بالنسبة لمهجته، قال عبد الباقي: ولا ولاية للأم من حيث الحجر عليه خلافا لبعض الشراح، وإنما لها الحضانة فقط. وفهم منه أن غير المجنون لا يحجر عليه، ووقع خلاف فيمن يخدع في البيع فقيل يحجر عليه مطلقًا ورجحه القرطبي، وقيل لا إن كان يشترط في بيعه ما يدفع ذلك، وفصل اللخمي فقال: إن كان يخدع باليسير أو بالكثير إلا أنه لا يخفى عليه ذلك ويتبين ذلك الغبن له فلا يحجر عليه ويؤمر بالاشتراط حين البيع ويشهد بذلك، وإن كان لا يتبين له ذلك ويكثر نزول ذلك به أمر بالإمساك عن التجر ولم ينزع ماله منه، فإن لم يمسك عنه نزع منه. انتهى.
وقال المواق: ابن رشد: لا يصح للإنسان أن يتصرف في ماله إلا بأربعة أوصاف وهي: البلوغ والحرية وكمال العقل وبلوغ الرشد، ولا يصح رشد من مجنون لسقوط ميزه وذهاب رأيه. انتهى. وقوله:"محجور" استعمله المص بغير ذكر متعلق كمضروب ونحوه مما فعْلُه متعد مع أن فعله غير متعدة قال في المصباح: حجر عليه من باب قتل منعه التصرف فهو محجور عليه والفقهاء يحذفون الصلة تخفيفا لكثرة الاستعمال ويقولون محجور وهو سائغ. انتهى. وقد مر أنه من باب ضرب وقتل. واللَّه تعالى أعلم.
والصبي لبلوغه يعني أن الصبي محجور عليه بالنسبة لنفسه وماله إلى أن يبلغ فإن بلغ سقط حجر النفس، فله أن يذهب حيث شاء إلا أن يخاف عليه فساد أو هلاك فيمنعه الأب والولي
والناس أجمعون، وما ذكرته من التعميم هو الظاهر. وقال الرهوني: إنما هذا بالنسبة لماله، وأما بالنسبة لنفسه فقد قدمه المص في باب الحضانة إذ قال: وحضانة الذكر للبلوغ. انتهى. وقال عبد الباقي: وأما الصبية فيستمر الحجر عليها بالنسبة لنفسها إلى سقوط حضانتها بالبناء بها لأن الحضانة حق للحاضن. انتهى. وقوله: "لبلوغه" البلوغ هو قوة تحدث للشخص تنقله من حال الطفولية إلى غيرها، وهذا التعريف شامل لبلوغ الصبي والصبية. وقول المازري: قوة تحدث للشخص تنقله من حال الطفولية إلى حال الرجولية لا يشمل بلوغ الصبية. وفي الصحاح: الرجل خلاف المرأة. انتهى.
ويقال: امرأة رجلة إذا تشبهت بالرجال. ويقال كانت عائشة رجلة الرأي وفي الخبر: (لعن اللَّه المترجلات من النساء)
(1)
قال ابن الأثير: أي اللاتي يتشبهن بالرجال في زيهن وهيئتهن فأما في العلم والرأي فمحمود، ويقال امرأة رجلة إذا تشبهت بالرجال في الرأي والمعرفة. انتهى. وقال الرهوني في الصباح في نصه: والرجل الذكر من الأناس جمعه رجال وقد يجمع على رجْلَة وزان تمرةٍ حتى قالوا: لا يوجد جمع على فعلة بفتح إلا رَجْلَة وكمأة جمع كمء وقيل كمأة للواحد مثل نظرة من أسماء الأجناس. قال ابن السراج، جمع رَجُلٌ على رَجْلَة في القلة استغناء عن أرجال. انتهى.
وقال المواق: ابن رشد: لا يصح رشد من صبي لضعف ميزه بوجوه منافعه، قال الخرشي:
وَلما كان البلوغ عبارة (عن قوة)
(2)
تحدث في الشخص يخرج بها من حال الطفولية إلى حال الرجولية، وتلك القوة لا يكاد يعرفها أحد فجعل الشارع لها علامات يستدل بها على حصولها، أشار المؤلف إلى أنها خمس منها مشترك ومختص، وعطفها بأو ليلا يتوهم أن العلامات مجموعُها أُولَاها السِّنُّ وهي مشتركةٌ بين الذكر والأنثى بقوله:
بثمان عشرة الباء للسببية أو للآلة يعني أن البلوغ يحصل بتمام ثمان عشرة سنة هذا في الذكر والأنثى وهذا هو المشهور، وشهر غير المص ست عشرة ولابن وهب خمس عشرة، لحديث ابن
(1)
صحيح البخاري، كتاب اللباس، رقم الحديث 5886.
(2)
ساقط من الأصل والمثبت من الخرشي الصغير ج 5 ص 291.
عمر: (أجازني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة أو خمس عشرة)
(1)
، وقيل بسبع عشرة وقيل تسع عشرة فهذه أقوال خمسة وقد عرفت المشهور منها. قال القرطبي: قال أبو عمر بن عبد البر: هذا فيمن عرف مولده، وأما من جهل مولده أو جحده فالعمل فيه ما روى رافع عن أسلم عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد ألا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسَى. انتهى. وظاهر قوله: وأما من جهل مولده أو جحده أنه يقبل قوله في مقدار سنه وهو بين، وسيأتي في كلام الشيخ زروق عند قول المص:"وصدق إن لم يرب" أنه يصدق في السن إن ادعى ما يشبه حيث يجهل التأريخ. واللَّه تعالى أعلم. انظر الحطاب. وقال عبد الباقي: بثمان عشرة سنة بحذف الياء مع كسر النون وفتحها وبإثباتها ساكنة ومفتوحة أي بتمامها كما هو المتبادر منه وللخمي بالدخول فيها.
ثَانِيَتُهَا أشار إليها بقوله: أو الحلم بضم الحاء واللام وهو الإنزال في النوم وأحرى الإنزال يقظة، يعني أن الحلم من علامات البلوغ في الذكر والأنثى قال اللَّه تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} الآية، قال عبد الباقي مفسرا للمص: أو الحلم أي الإنزال والنوم حيث أمكن منه كما قيد به ابن شأس لقولهم: ماء المرأة ينعكس لداخل الرحم ومثله بالأولى يقظة، والظاهر أن المذي مثله إذ لا يحصل من غير بالغ ونحوه للشافعية. انتهى. قوله: والظاهر أن المذي مثله إذ لا يحصل من غير بالغ.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: هذا غير صحيح لأني شاهدته أي المذي في نفسي وأنا صبي. واللَّه تعالى أعلم. وقال المواق: عن ابن رشد: حد البلوغ كمال العقل وعلامة البلوغ الاحتلام في الرجال والحيض في النساء لخ.
ثالثتُها ورابعتُها أشار إليهما بقوله: أو الحيض أو الجهل يعني أن الحيض من علامات البلوغ في النساء خاصة وكذلك الحمل هو من علامات البلوغ ويختص بالنساء، قال عبد الباقي: وأشار للثالثة والرابعة بقوله: أو الحيض أو الحمل في أنثى أو خنثى ويزول حينئذ إشكاله كما سيذكره
(1)
صحيح البخاري، كتاب الشهادات، رقم الحديث 2664.
المص، ولا يعتبر فيهما كبر النهد أي الثدي. انتهى. وقال المواق: ابن عرفة: وتختص الأنثى بالحمل والحيض. انتهى.
وأشار إلى الخَامِسَة بقوله: أو الإنبات يعني أن الإنبات من علامات البلوغ وإن لم يحصل غيره من العلامات وهو من المشترك بين الذكر والأنثى، قال عبد الباقي: وأشار للخامسة المشتركة وأخرها لقوة الخلاف فيها بقوله: أو الإنبات على فرج الأنثى وعلى أعلى الذكر، والمراد به الخشن لا الزغب، وظاهر المص ولو حصل في زمن لا ينبت فيه عادة. وقوله:"أو الإنبات" أي للعانة كما مر لا الإبط واللحية لأنه يتأخر عن البلوغ. وهذا الذي صدر به المص هو المشهور كما في التوضيح والشامل والتردد ضعيف. انتهى.
وهل إلا في حقه تعالى؟ يعني أنه اختلف في الإنبات هل هو علامة على البلوغ أم لا؟ قال ابن رشد: محل هذا الخلاف فيما بينه وبين الآدميين، قال: وأما فيما بينه وبين اللَّه تعالى من وجوب الصلاة ونحوها فلا خلاف أنه ليس بعلامة. انتهى. أي إذا ترك شيئًا مما يجب على البالغ أو فعل شيئًا مما يحرم على البالغ فلا شيء عليه فيعا بينه وبين اللَّه تعالى وإن كان مما يؤاخذ به في الظاهر إذا اطلع عليه. واللَّه تعالى أعلم. وقال المازري: المشهور أن الإنبات علامة أي مطلقًا في حق اللَّه تعالى وفي حق الآدمي، فالمص أشار لطريقة ابن رشد بشق التردد المذكور، وأشار لطريقة المازري بالشق المطوي وهو كونه علامة مطلقًا على المشهور، فالخلاف على كلامه جارٍ مطلقًا أي في حق اللَّه تعالى وفي حق الآدمي، والخلاف عند ابن رشد إنما هو فيما بينه وبين الآدميين. وأما فيما بينه وبين اللَّه تعالى فليس الإنبات فيه بعلامة.
قال الحطاب بعد أن ذكر عن التوضيح أن المشهور أنه علامة ما نصه: وظاهره مطلقًا ثم قال ولعله يريد مطلق الإنبات، وأما الإنبات الذي تقدم وصفه فلا يوجد إلا في بالغ. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
وقوله: تردد مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تردد، قال الخرشي: ثم إن العلامات ليست منحصرة فيما ذكر المص؛ لأن منها فرق أرنبة المارِنِ وَنَتْنِ الإبط وغلظ الصوت، ومن ذلك أن تأخذ خيطا وتثنيه وتديره برقبته وتجمع طرفيه في أسنانه فإن دخل رأسه منه فقد بلغ وإلا فلا. انتهى.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: وهذه المسائل ليست بمنصوصة وإنما هي بحسب التجربة. انظر الحطاب وغيره. وحينئذ يخف أمرها. واللَّه تعالى أعلم.
البناني عن التوضيح: والمشهور أن الإنبات علامة. قاله المازري وغيره. ودليله حديث بني قريظة حيث قال: (انظروا إلى مؤتزره فمن جرت عليه المواسي فاضربوا عنقه)، ولمالك في كتاب القذف أنه ليس علامة على البلوغ ونحوه لابن القاسم في كتاب القطع، وجعل هذا الخلاف في المقدمات فيما بينه وبين الآدميين، قال: وأما فيما بينه وبين اللَّه تعالى من وجوب الصلاة ونحوها فلا خلاف أنه ليس بعلامة. انتهى.
تنبيه:
وقع في شرح عبد الباقي ما نصه: وهل هو علامة مطلقًا في حق اللَّه وحق الآدمي أو علامة إلا في حقه تعالى وهو ما لا ينظر فيه الحكام من صلاة وصوم، وكذا ما ينظر فيه بالنسبة لما بينه وبين اللَّه تعالى فليس بعلامة في الباطن، فلا يأثم بفعله أو ترك ما حظر على محقق البلوغ بغيره بخلاف الظاهر فيلزمه طلاقه، والحد لخمر وغيره لأنه ينظر فيه الحكام. انتهى المراد منه.
وردَّ هذا الكلام الرهوني بأن الصلاة والصوم ينظر فيهما الحكام وقد مر "وقتل بالسيف حدا" فالحق أنه غير صحيح، وإنما معنى هذا القول أنه إذا ترك شيئًا مما يجب على البالغ أو فعل شيئًا مما يحرم على البالغ فلا شيء عليه فيما بينه وبين اللَّه تعالى، وإن كان مما يؤاخذ به في الظاهر إذا اطلع عليه. واللَّه تعالى أعلم. ونحو ما لعبد الباقي للخرشي وهو جدير بالرد. واللَّه تعالى أعلم.
وَصُدِّقَ يعني أن الشخص إذا ادعى أنه بلغ فإنه يصدق في ذلك ادعاه ببلوغ السن المذكورة أو بالحلم أو بالحيض أو بالحمل أو بالإنبات، وكذا يصدق في دعوى عدم البلوغ. فقوله:"وصدق" أي في شأن البلوغ إثباتا أو نفيا. وقوله: "وصدق" أي طالبا كما إذا طلب سهمه في الجهاد فيصدق في دعوى البلوغ أو مطلوبا كما إذا جنى وادعى عدم البلوغ فلا يقتص منه، أو شرب خمرا وادعى عدم البلوغ فيصدق ويدرأ عنه الحد، وما مر من أنه يصدق حتى في البلوغ بالسن خلاف ما في الخرشي وعبد الباقي، حيث قالا: وأما إن ادعى البلوغ بالسن فلابد من إثبات ذلك بالعدد. قال
البناني: فيه نظر. وفي الحطاب عن الشيخ زروق: ويصدق في السن إن ادعى ما يشبه حيث جهل التأريخ. انتهى.
وقال الرهوني: قوله وأما إن ادعاه بالسن فلابد من إثبات ذلك بالعدد ما نصه: هو ظاهر كلام الجواهر، ونَصُّها فَرْعٌ في طريق معرفة هذه العلامات، وأما السن فبالعدد وأفي الاحتلام فبقوله إذا كان ممكنا. انتهى. وبه جزم أبو علي ولم يحك فيه خلافا مع نقله كلام الجواهر ولم يعارض بينهما. فلعله رآه تقييدا وهو ظاهر. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
وقال عبد الباقي: وصدق الصبي طالبا أو مطلوبا في شأن البلوغ أي عدمه كطلاقه وجنايته لدرءِ الحد بالشبهة كما يفيده نقل المواق وإفساده ما أمن عليه، أو وجوده أي البلوغ بأي علامة ولو الإنبات، خلافا لابن العربي كيتيمة ادعته لتتزوج وذَكرٍ ادَّعاه ليأخذ سهمه في جهاد أو ليحوز أو ليكمل عدد جماعة جمعة. انتهى. وقال الخرشي: وأما إن ادعت البلوغ بالحمل فلا يلتفت لقولها حيث لم يكن ظاهرا، وينتظر الأمر في ذلك حتى يظهر. انتهى. ونحوه لعبد الباقي ويأتي الكلام عليه إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله: ولو الإنبات خلافا لابن العربي فإنه قال: ويثبت الإنبات بالنظر لمرءاة تسامت محل النبت بأن تكشف عورته ويستدبره الناظر فينظر في المرءاة. ابن عرفة: أنكر هذا عز الدين وقال: هو كالنظر إلى عين العورة وكذا ابن القطان المحدِّث المتأخر. قال ابن الحاجب: إنه غريب، قال المص: ولو قيل يجس على الثوب كالعنة ما بعد. انتهى. انتهى.
وعلم مما قررت أن قوله: وصدق معناه في دعوى البلوغ طالبا أو مطلوبا وفي دعوى عدمه طالبا أو مطلوبا. واللَّه تعالى أعلم.
إن لم يرب يعني أن محل تصديقه في البلوغ إنما هو حيث لم تعارض مقاله ريبة، وأما إن عارضت مقاله ريبة فإنه لا يصدق.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: معنى الريبة عندي أن يُتَلمَّح منه ما يدل على الصبا أو على البلوغ. واللَّه تعالى أعلم. وقولي: وأما إن عارضت مقاله ريبة فإنه لا يصدق أي فيما يتعلق بالأموال؛ وأما في الجناية فيصدق مع الريبة لدرء الحد بالشبهة. قال عبد الباقي: ومحل تصديقه فيما يصدق فيه إن لم يرب فيه، فإن ارتيب فيه لم يصدق فيما يتعلق بالأموال وصدق في الجناية لدرء الحد بالشبهة وفي الطلاق فلا يقع عليه استصحابا لأصل صباه، ففي مفهوم الشرط تفصيل ويستثنى من قوله:"وصدق" لخ دعوى الحمل فينتظر ظهوره حيث كان خفيا وقت دعواها وجوده كما في أحمد، وربما يدل له قول المص:"ولا نفقة بدعواها الحمل" بل بظهوره وحركته فيفرق بينه وبين غيره من العلامات بظهوره بعد ذلك، وفي الحطاب خلافه وأنها تصدق. انتهى. قوله: وربما يدل له قول المص ولا نفقة بدعواها لخ لا دليل فيه لا قاله أحمد؛ إذ لا يلزم من عدم وجوب النفقة على الزوج بدعواها عدمُ تصديقها في البلوغ بالحمل الذي ادعته لخ، وكلام الحطاب الذي أشار إليه هو قوله: قال الشيخ زروق: فأما الاحتلام والحيض والحمل فلا اختلاف في كونها علاماتٍ ويصدق في الإخبار عنها نفيا أو إثباتا طالبا كان أو مطلوبا، وكذا عن الإنبات ولا تكشف عورته. وقال ابن العربي: ينظر إليه في المرءاة لخ.
تنبيه:
وقع في شرح عبد الباقي ما نصه: إن لم يرب فيه فإن ارتيب فيه لم يصدق فيما يتعلق بالأموال ويسلك حينئذ ما تقدم عن ابن العربي. انتهى المراد منه. قوله: ويسلك حينئذ لخ، قال البناني: فيه نظر إذ حصول الريب لا يبيح محظورا. انتهى.
وللولي رد تصرف مميز يعني أن الولي سواء كان أبا أو وصيا أو وصي وصي أو مقدم قاض له أن يرد ما تصرف فيه المميز المحجور بغير إذنه من بيع أو غيره، سواء كان صغيرا أو بالغا سفيها، وإنما له الرد والإجازة في المعاوضات بشرط أن تستوي المصلحة في الرد والإجازة فإن كانت المصلحة في الرد تَعيَّن أو في الاجازة تعينت، وأما تصرفه بالتبرعات فيتعين ردها. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وللولي أب أو غيره لا لغيره رد تصرف مميز بعوض بغير إذن وليه، فاللام للاختصاص لأن تصرفه إن كانت المصلحة في رده تعين أو إجازته تعينت أو استوت خير، لقول ابن رشد: إن باع شيئًا من متاع نفسه في نفقته التي لابد له منها بمثل الثمن أي القيمة ولا شيء
له غير البيع أو له والبيع أولى فلوليه إمضاؤه ورده أي لإمكان أن يتسلف له، ويؤخر المبيع لوقت آخر. انتهى.
وقال البناني: ونص البيان في رسم البيوع من كتاب المديان والتفليس: فَتحصَّل فيما باع اليتيم دون إذن وصيه أو الصغير من عقاره وأصوله بوجه السداد في نفقته التي لابد له منها إذا كان لا شيء له غير الذي باع أو كان ذلك أحق ما يباع من أصوله أنَّهُ اختلف فيه على ثلاثة أقوال: أَحَدُها أن البيع يرد على كلّ حال ولا يتبع بشيء من الثمن وهو قول ابن القاسم وأضعف الأقوال. الثَّانِي: أن البيع يرد إذا رأى ذلك الوصي ولا يبطل الثمن عن اليتيم ويؤخذ من ماله وهو قول أصبغ. الثَّالِثُ: أن البيع يمضي ولا يرد إلا أن يكون باع بأقل من الثمن أو باع ما غيرُه أحق بالبيع في نفسه فلا يختلف في أن البيع يرد وإن لم يبطل الثمن عن اليتيم لإدخاله إياه فيما لابد منه. وأما لو باع اليتيم من ماله شيئًا وأدخله في شهواته التي يستغنى عنها فلا خلاف في أنه يرد ولا يتبع بشيء من الثمن كان الذي باعه من ماله يسيرا أو كثيرا وهو محمول فيما باع وقبض من الثمن على أنه أنفقه فيما له منه بد حتى يثبت أنه أنفقه فيما ليس له منه بد. انتهى. وبهذا اللفظ بعينه نقله الحطاب عنه، وكذا ابن سلمون في ترجمة بيع الأب والوصي عن ابن رشد، وكذا ابن هلال في نوازله والفشتالي في وثائقه، ومثله لابن عرفة في باب البيع لما تكلم على بيع المحجور، ونصه عن المتيطى: ولو أفاته أي أفات المحجور ثمن ما باعه وشهدت بينة أنه أنفقه في مصالحه، ففي أخذه من ماله المشهور ونقل يحيى بن إسحاق عن ابن القاسم، ثم قال: وما باعه وأنفق ثمنه في شهواته المستغني عنها رد ولم يتبع بشيء اتفاقا، والثمن محمول على أنه أنفقه فيما له منه بد حتى يثبت غيره، ونص ابن عرفة في باب الوديعة: ومن ابتاع منه أي من صبي سلعة ودفع إليه ثمنها فأتلفه ضمن المبتاع السلعة ولا شيء له من ثمنها لأنه الذي سلط الصبي على ذلك وأتلف ماله وكذلك الوديعة.
اللخمي والصقلي وغيرهما: وكذا السفيه لأن أصحاب ذلك سلطوا يده على إتلافه. اللخمي: ولا تباعة عليهما إلا أن يثبت أنهما أنفقا ذلك فيما لا غنى لهما عنه فيتبعان في المال الذي صوناه، فإن ذهب ذلك المال وأفاد غيره لم يتبعا فيه، وكذا في باب الوديعة من التوضيح. انتهى.
وَقَوْلُه "وللولي رد تصرف مميز" احترز به من غير المميز فإنه لا يصح تصرفه ولو بمعاوضة، وقول الشارح نبه بالمميز على أن غير المميز أحرى بالرد غير بين، فإنه يتعين رد تصرف غير المميز. واللَّه تعالى أعلم. قاله الحطاب. وقال عبد الباقي: وكون اللام للاختصاص لا ينافي قوله الآتي: "وله إن رشد" لخ لأن الآتي بعد رشده واختصاص الولي قبله، وأما تصرف المميز بغير عوض فيجب على الولي رده كما في الحطاب. قال أحمد: استعمل المميز هنا في الصغير والبالغ السفيه، وضميره الآتي في قوله: لاطلاقه في السفيه البالغ بقرينة الاستلحاق ونحوه مما ذكر. انتهى.
ويستثنى من رد الولي تصرف المميز ثلاثةٌ: محْجُورٌ عليه أسر وأراد الفداء بماله وامتنع وليه فلا كلام له. قاله ابن فرحون. الثَّانِي: زوجة عند زوج موسر امتنع من الإنفاق عليها وأراد فراقها وطلبت من الولي الإنفاق عليها من مالها فيجب على الولي ذلك مع ما في هذا من دوام العصمة، وأيضا لو أرادت عدم الزواج لم تجبر عليه ولأنفق عليها من مالها، وفي استثنائهما نظر لأن تخليصه من الأسر والإنفاق عليها من مالها في الحالة المذكورة كلاهما مصلحة، وتقدم أنه يجب على الولي فعلها. الثَّالثُ: إذا وهب ليتيم أو تصدق عليه بشيء شرط معطيه عدم الحجر عليه فليس لوليه رد تصرفه في ذلك كما في التتائي. ونقله عنه علي الأجهوري بغير لفظ يتيم، فيقتضي أن ذا الأب كذلك. ثم قال التتائي: قال ابن فرحون: وبه الفتوى وفيه خلاف. انتهى كلام عبد الباقي.
قوله: ويستثنى من كلام المص ثلاثة لخ بقي عليه رابع، وهو إذا قتل السفيه قتلا يوجب عليه القصاص فأراد أن يدفع عنه الدية لِرِضَى الأولياء بذلك وامتنع وليه كما في المواق. قاله الرهوني. وقوله: الثالث إذا وهب ليتيم أو تصدق عليه لخ ذكر الحطاب هذا الفرع فيما يأتي عند قوله: "ولغير من أذن له القبول" لخ، وجعل العمل بالشرط هو المشهور ثم قال: واعترض بعضهم هذا وضعفه بقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} . قاله ابن الفرس. انتهى.
وذكره الزرقاني فيما يأتي أيضًا. ولما ذكر الحطاب في التزاماته هذا الفرع عن المشدالي، قال عقبه: قلت في هذا نظر لأنه شرط لا يجوز؛ لأن إضاعة المال لا تجوز وإطلاق يد السفيه على المال إضاعة له. فتأمله. والصواب بطلان الشرط. واللَّه تعالى أعلم. انتهى. قال الرهوني: قول البناني
عن الحطاب: واعترض بعضهم هذا وضعفه بقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} لخ لا يخفى ما في الاستدلال بالآية على بطلان هذا الشرط بعد الوقوف على ما قاله المفسرون في معناها. وقوله: أيضًا عن الحطاب فيه نظر لأنه لا يجوز لأن إضاعة المال لا تجوز لخ فيه نظر لأن إضاعة المال إنما تلزم القائلين بإعمال الشرط لو كانوا يقولون بأنه لا يحجر عليه في إتلافه، كإلقائه في البحر وحرقه ونحو ذلك وهم لا يقولون بهذا، بل منعه من هذا من باب تغيير المنكر ولذلك يمنع منه الرشيد إذا أراد فعله لغيظ ونحوه، وإنما المراد بإعمال الشرط أنه لا يحجر عليه في ذلك باعتبار البيع والشراء والهبة ونحوها من أنواع التبرعات.
ولا خفاء في أنه إذا باع ما يساوي عشرة بدرهم واشترى ما يساوي درهما بعشرة مثلا أو تبرع بما وهب له لا يقال في ذلك إضاعة مال؛ لأن إضاعته إنما تكون فيما إذا لم ينتفع به أحد، وهنا النفع حاصل للبائع والمشتري والموهوب له مثلا، وغاية هذا الشرط أن ذلك دائر بين أمرين، إما أن ينتفع به المحجور كانتفاع الرشداء أو يدفعه لمن ينتفع به، إما بغير عوض أصلا أو بعوض مع محاباة على أن اعتراف الحطاب وغيره بأنه المشهور كاف في العمل به، ولو لم يظهر وجه لسقوط البحث فيه فكيف مع ظهوره غاية الظهور؟ انتهى.
تنبيهات:
الأوَّلُ: قال الحطاب: قال ابن رشد في المقدمات في باب المأذون له في التجارة: لا اختلاف بين مالك وأصحابه أن الصغير الذي لم يبلغ الحلم من الرجال والمحيض من النساء لا يجوز له في ماله معروف من هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق: وإن أذن له في ذلك الأب أو الوصي إن كان ذا أب أو وصي، فإن باع أو اشترى أو فعل ما يشبه البيع والشراء مما يخرج على عوض ولا يقصد فيه إلى معروف كان موقوفًا على نظر وليه، فإن رآه سدادا أو غبطة أجازه وأنفذه وإن رآه بخلاف ذلك رده وأبطله، وإن لم يكن له ولي قدم له ولي ينظر له بوجه النظر والاجتهاد، وإن غفل عن ذلك حتى وَليَ أبيره كان النظر إليه في إجازة ذلك أو رده. واختلف إن كان فعله سدادا نظرا لما كان يلزم الولي أن يفعله هل له أن يرده وينقضه إن آل الأمر إلى خلاف
(ذلك)
(1)
بحوالة سوق أو نماءٍ فيما باعه أو نقصانٍ فيما اشتراه وما أشبه ذلك؟ فالمشهور المعلوم في المذهب أن ذلك له، وقيل إن ذلك ليس له ولا تلزمه يمين فيما ادعِيَ عليه به، واختلف هل يحلف مع شاهده؟ المشهور أنه لا يحلف ويحلف المدعى عليه، فإن نكل غرم ولا يمين له على صبي إذا بلغ وإن حلف برئ إلى البلوغ، فإذا بلغ الصغير حلف وأخذ حقه، فإن نكل لم يكن له شيء ولا يلزم المدعى عليه يمين ثانية، وقد روي عن مالك والليث أنه يحلف مع شاهده ولا شيء عليه فيما بينه وبين اللَّه من الحقوق والأحكام، لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(رفع القلم عن ثلاث فذكر منهم الصبي حتى يحتلم). انتهى.
الثاني: قال الحطاب: قال ابن رشد: اعلم وفقنا اللَّه وإياك أن السفيه البالغ تلزمه جميع حقوق اللَّه التي أوجبها على عباده في بدنه وماله، ويلزمه ما وجب في بدنه من حد وقصاص، ويلزمه الطلاق كان بيمين حنث فيها أو بغير يمين وكذلك الظهار، وينظر له وليه فيه بوجه النظر، فإن رأى أن يعتق عنه ويمسك عليه زوجته فعل، وإن رأى (أن لا يعتق عنه وإن آل)
(2)
ذلك إلى الفراق بينهما كان ذلك له، ولا يجزئه الصوم ولا الإطعام إذا كان له من المال ما يحمل العتق. وقال ابن المواز: إذا لم ير له وليه أن يكفر عنه بالعتق فله هو أن يصوم ولا يطلق عليه إلا بعد ضرب أجل الإيلاء إن طلبت المرأة ذلك؛ لأن له أن يكفر بالصوم، وعلى القول الأول يطلق عليه من غير ضرب أجل وهو قول أصبغ. وقال ابن كنانة: لا يعتق عنه وليه إلا في أول مرة، فإن عاد إلى الظهار لم يعتق عنه، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز وأما الإيلاء فإن كان دخل عليه بسبب يمين بالطلاق هو فيها على حنث أو بسبب امتناع وليه من أن يكفر عنه في الظهار لزمه، وأما إن كان حلف على ترك الوطء فينظر إلى يمينه، فإن كانت بعتق أو صدقة أو ما أشبه ذلك مما لا يجوز له فعله ويحجر عليه في ذلك وليه لم يلزمه به الإيلاء، وعلى قول محمد يلزمه الإيلاء باليمين باللَّه، وإن لم يكن له مال ولا يلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق ولا شيء من المعروف في ماله إلا أن يعتق أم ولده فيلزمه لأنها كالزوجة ليس له فيها إلا الاستمتاع بالوطء.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 433 ط دار الرضوان والمقدمات ج 2 ص 346 ط دار الغرب الإسلامي.
(2)
ما بين المعكوفين ساقط من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 433 دار الرضوان والمقدمات ج 2 ص 356 دار الغرب الإسلامي.
واختلف في مالها هل يتبعها؟ على ثلاثة أقوال: أَحَدُها أنه يتبعها وهو قول مالك في رواية أشهب. والثَّانِي: أنه لا يتبعها وهي رواية يحيى عن ابن القاسم. والثالثُ: التفرقة بين الكثير والقليل. وقال المغيرة وابن نافع: لا يلزمه عتقها ولا يجوز عليه ولا يجوز إقراره بالدين إلا أن يقر به في مرضه فيكون في ثلثه. قاله ابن كنانة. واستحسن ذلك أصبغ ما لم يكثر جدا وإن حمله الثلث. انتهى.
الثَّالثُ: قوله: "وللولي رد تصرف مميز" قد علمت أنه في الصبي والبالغ السفيه كما يأتي التصريح بذلك، ومحله فيهما إن تصرف بغير إذن وليه وبغير مرءى منه، أما لو رآه يتصرف وسكت فليس له الرد، قال المواق: وأما إن تصرف المحجور بمرءى من وصيه وطال تصرفه أفتى ابن الحاج وابن عتاب وابن رشد أن ما لحقه من دين فإنه يلزمه وتصرفه ماض، قال البرزلي في نوازله: وبهذا هو العمل، وقال في موضع آخر من المدونة: إنه متى رآه وليه وسكت فإنه ماض ويحمل على أنه قصد ذلك وبه جرى العمل عندنا بتونس. ونقل من نوازل ابن حديد في ابن اشترى ملكا وثبت أنه في ولاية أبيه، فقام الأب يرد البيع مدعيا أنه حين البيع كان غائبا وادعى البائع أن الأب كان حاضرا، أجاب ابن ميسر: إن أثبت الغيبة المذكورة فلا يمين عليه وإلا حلف ورد البيع، وقال ابن زرب: إن ثبت أن البائع لم يزل مطالبا للثمن بعد قدوم الأب ثبت البيع. قال البرزلي: وكذا العرف عندنا أن كل ما فعله المحجور بعلم حاجره فهو ماض ولا رد له، وإنما يرد ما لا شعور له به انتهى المراد منه.
الرابع: قال الحطاب: قال في كتاب الدعوى والإنكار للرعيني: وإذا اشترى عبد أو يتيم سلعة أو باعها فأراد السيد أو الوصي فسخ ذلك فذلك لهما، فإذا أراد المشتري منهما أو البائع أن يحلف السيد أو الوصي ما أذن لهما في ذلك فليس له ذلك. انتهى.
وله إن رشد يعني أن المحجور المميز إذا تصرف بغير إذن وليه ثم خرج من الحجر، فإن له أن يرد تصرفه ذلك وهذا في الصغير المميز مولى عليه أو مهملا وفي البالغ السفيه المولى عليه، وأما إن كان مهملا فسيأتي الكلام عليه إن شاء اللَّه تعالى. قال الشارح: يعني فإن لم يكن له ولي أو كان ولم يعلم بذلك حتى خرج من الولاية فإن النظر حينئذ في إجازة ذلك ورده يصير إليه. انتهى.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: لا يجوز للمولى عليه بيع ولا عتق ولا هبة ولا صدقة، ولا يلزمه ذلك بعد بلوغه ورشده إلا أن يُجيزه الآن وأسْتحِبُّ له إمضاءَه ولا أجبره عليه. انتهى. قوله: وله إن رشد، وهل لوارثه ذلك؟ قولان، والراجح أن له ذلك وكونه يرد هو الذي مر عليه المص في النكاح حيث قال:"ولولي سفيه فسخ عقده ولو ماتت وتعين لموته"، قال البناني: وأما وارث البائع ففيه قولان ذكرهما ابن رشد في المقدمات، ونقلهما في التوضيح وابن عرفة وغيرهما، ورجح ابن يونس أن له النقض، ونصه: قال ابن حبيب: سألت مطرفا وابن الماجشون عن المحجور يبيع أو يهب أو يعتق فلا يطلع على ذلك إلا بعد موته أيرد ذلك من فعله كما يرده هو لو كان حيا؟ قالا: نعم لم يزل ذلك مردودا عند فعله وذلك موروث عنه. قال ابن حبيب: وبقولهما أقول وإليه رجع أصبغ وهو الصواب: وحكاه أيضًا عن أبي
(1)
سلمة وأبي حازم ونسب لمالك. انتهى. وهو نقل كلام ابن يونس مختصرا.
ونص ابن يونس: قال ابن حبيب: سألت مطرفا وابن الماجشون عن البكر أو الصغير أو المولى عليه يبيع أحدهم أو يهب أو يعتق فلا يطلع على ذلك إلا بعد موته؛ أيرد ذلك من فعله كما يرد لو كان حيا؟ فقالا: نعم لم يزل ذلك مردودا عند فعله فموته لا يجيز ذلك وذلك موروث عنه، وكذلك لو تزوج الولى عليه فلم يعلم بذلك وليه حتى مات أنه لا ميراث لامرأته ولا صداق، بنى بها أو لم يبْن لأن ذلك لم يزل مردودا حتى يجيزه الولي فقد انقطع موضع إجازته، وإن كانت المرأة هي التي ماتت وهو المولى عليه كان موضع النظر له قائما، وينظر الولي فإن رأى إجازة نكاحه ويغرم الصداق الذي أصدقها خيرا لما يجر إليه من ميراثها فَعَل وأجاز، وإن رأى رده رده، قال لي مطرف: وهكذا سمعت ابن أبي سلمة وابن أبي حازم يقولان: ولا أعلم لمالك خلافه، وسألت أنا أصبغ عن ذلك، فقال: قال ابن القاسم في ذلك كله إنه ماض جائز لا يرد لأنه أمر قد فات موضع النظر فيه، ومضى الذي به كانت الولاية وله كان يحبس المال فلا كلام
(1)
كذا في الأصل والبناني والذي في ابن يونس ج 5 ص 516 ابن أبي سلمة.
فيه للورثة أنهم يرثون ما كان له يوم مات، وهذا لم يكن له مال حتى يرد إليه ويجيزه إن رأى إجازته.
قال ابن حبيب: وبقول مطرف وابن الماجشون وابن أبي سلمة وابن أبي حازم أقول، وإليه رجع أصبغ. محمد بن يونس: وهو الصواب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك مالًا أو حقا فلورثته)، وهو على عمومه. انتهى. الرهوني: وبهذا تعلم أن الراجح هو قول مطرف ومن وافقه وهو الذي اعتمده المص في النكاح إذ قال: "ولولي سفيه فسخ عقده ولو ماتت وتعين لموته"، فهو الذي يجب التعويل عليه. واللَّه أعلم. انتهى.
وَقَوْلُه: وله إن رشد هو الذي صرح به ابن رشد ولم يحك فيه خلافا، وعليه اقتصر ابن عرفة وغيره وخالف في ذلك ابن سلمون وابن عات، فقالا: إن الولي إذا لم يعلم بالنكاح ولا بالبيع حتى ترشد المحجور إن ذلك ماض. انظر المواق. قاله البناني. المواق: محمد: فإن جهل حتى ملك نفسه مضى. ابن عات: ظاهره لا تعقب للمحجور بعد ملكه أمر نفسه في أفعاله مثل النظر له قبل ذلك، ولابن محرز مثله أيضًا. انتهى.
وفي نوازل ابن دحون عن ابن أبي زيد في بكر مولى عليها باعت حصة من أرض مع أخواتها فلما تزوجت طلبت الرجوع فيما باعت، فقال: إن ثبت أن بيعها كان لحاجة والبيع سداد لا غبن فيه فالبيع لازم. انتهى. وقال عبد الباقي: وله رد تصرف نفسه إن رشد وله إمضاؤه؛ لأن ما كان لوليه انتقل إليه. انتهى.
ولو حنث بعد بلوغه يعني أن المحجور إذا حلف في حال صغره أو في حال سفهه وهو بالغ ثم حنث في المسألتين بعد رشده، فإن له أن يمضي ما حلف عليه وله أن يرده، فإذا قال في صغره أو في سفهه: عبدي صانع حر إن دخلت الدار ثم دخل الدار بعد رشده فإنه لا يلزمه عتق صانع، بل الأمر إليه في ذلك إن شاء أمضى عتقه وإن شاء رده. فقوله:"ولو حنث" لخ مبالغة في أن له أن يبطل تصرفه أي ولو كان تصرفه بيمين حنث فيها بأن فعل المحلوف عليه بعد رشده. وَلَوْ أبدل المص قوله: "بعد بلوغه" بأن يقول بعد رشده لَكَان أظهر؛ لأن محل الخلاف المشار إليه بلو إنما هو فيما إذا حنث بعد الرشد لا فيما إذا حنث قبله.
قال البناني: قال ابن رشد: واختلف فيما حلف به في حال صغره وحنث به في حال رشده، فالمشهور أنه لا يلزمه، وقال ابن كنانة: ذلك يلزمه. انتهى. ولذا قال الحطاب: لو قال المص بعد رشده لكان أبين وأوضح. انتهى. وكلام المص يشمل ما حلف به في حال سفهه. قَال الحطاب: ظاهر المدونة والمقدمات أنه لا يلزمه ما حلف به في حال سفهه ولو لم يرده من ولي عليه حتى رشد وهو الذي وقع في سماع ابن القاسم من كتاب النكاح. وقال ابن رشد: هو الأظهر خلاف ما وقع في رسم المحرم من سماع ابن القاسم في النذور. وأنه يلزمه قال ابن رشد: وهذا الاختلاف إنما هو إذا لم يرُدَّ الولي فعل المولَّى عليه حتى ملك أمره، وكلام المدونة والمقدمات يرجح ما قال ابن رشد إنه الأظهر. واللَّه أعلم. انتهى. وهذا في المال، وأما إن حلف السفيه بالطلاق فإنه يلزمه. انتهى.
أو وقع الموقع عطف على المبالغة ففيه الخلاف أيضًا؛ يعني أن المحجور إذا تصرف في حال صغره أو في حال سفهه وهو بالغ ثم رشد فإن له أن يرد تصرفه ذلك، ولو كان تصرفه قد وقع الوقع أي كان سدادا ونظرا وكذا هو المشهور المعلوم من المذهب، فله الإجازة وله الرد، وقيل: ليس له الرد. قال عبد الباقي: وعطف على المبالغ عليه قوله: أو وقع تصرف المميز الموقع لكونه سدادا ونظرا فله رده وإمضاؤه وهذا إذا تغير الحال بزيادة فيما باعه أو نقص فيما اشتراه، فإن استمر فلا رد له كما يفيده ابن رشد خلافا لأحمد وتخييره المدلول عليه بقوله:"وله" لا ينافي قوله: "ولو حنث" لخ الذي موضوعه أنه تصرف بغير عوض؛ لأن تصرفه بغير عوض إنما يتحتم رده حيث كان النظر في رده وإمضائه للولي، وأما إذا كان النظر له فلا وهو ظاهر. قاله علي الأجهوري. أي فقوله: وله إن رشد سواء كان تصرفه بما يجوز للولي رده أو بما يجب عليه رده كالعتق. انتهى.
قوله: إذا تغير الحال بزيادة فيما باعه أو نقص فيما اشتراه لخ، قال الرهوني: لم يقتصر ابن رشد على هذا بل زاد بعده ما نصه: وما أشبه ذلك. انتهى. كذا وجدته في مقدماته، وكذا في نقل الحطاب عنها وهو يفيد أن الرد غير مقصور على الزيادة والنقصان، بل يشمل غير ذلك
كاحتياجه لسكنى الدار واستغلال البستان وركوب دابة لأنها تناسب حاله أو أمة لتخدمه أو نحو ذلك. انتهى.
وقال عبد الباقي: والغلة الحاصلة فيما بين تصرفه ورد فعله كان الرد منه أو من وليه للمشتري إن لم يعلم أنه مولى عليه، فإن علم رد الغلة ولو أمة زوجها المشتري لغيره فولدت منه فترد هي وولدها، لا إن ولدت من المشتري فترد مع قيمة الولد وترد الغنم بنسلها والأرض ولو بنيت، وله قيمة بنائه مقلوعا لأنه كالغاصب، وأما بيع غير المميز فلا يفوز المشتري منه بالغلة علم أم لا؛ لأن بيع غير المميز باطل هذا هو الذي ينبغي دون قول الشيخ سالم: يفوز المشتري من غير المميز بالغلة علم أم لا، كيف يقال في الباطل بذلك ويفصل في بيع المميز الذي هو صحيح بين علمه وعدمه، وأما عكس ذلك وهو ما إذا اشترى البالغ المولى عليه أبية فأولدها فقيل تفوت على بائعها بذلك وتكون له أم ولد ولا يتبع بشيء من ثمنها ويرده له البائع إن قبضه، وقيل لا تفوت وترد إلى بائعها ويرد الثمن للمولَّي عليه والولد حر ولا شيء عليه فيه. انتهى كلام عبد الباقي.
قوله: فترد مع قيمة الولد، قال الرهوني: نحو هذا لابن رشد في المقدمات لكنه لم يجزم به، بل شبهها بالأمة المستحقة وزاد ما نصه: ويأخذ الأمة التي ولدت منه وقيمة ولدها على الخلاف المعلوم في ذلك انتهى وصرح اللخمي أيضًا بأنها كالمستحقة ونصه وإن باع أمة فحملت من المشتري جرت على الخلاف في المستحقة إذا ولدت من المشتري إلا أن يكون المشتري معسرا وهو عالم بأن البائع محجور عليه فتنزع منه بكل حال. انتهى. ونقله ابن عرفة وسلمه وإذا تقرر أنها كالمستحقة، ففي جزم الزرقاني بردها نظر؛ لأن المص درج في المستحقة على خلافه إذ قال هناك:"وضمن قيمة المستحقة وولدها يوم الحكم" وصرح الزرقاني هناك بأن ما للمص هو المشهور، وقد جزم ابن يونس في أمة السفيه بعينها أنه
(1)
لا ترد، ونصه: والأمة إن كان ولدها من زوج رد معها، وإن كان من المشتري فعليه الأكثر من قيمتها يوم ابتاعها واليوم ويسقط الثمن الأول عن المولَّى عليه إلا أن يكون قائما أو دخل في مصلحة لابد منها.
(1)
في الرهوني ج 5 ص 329: أنها.
وقوله: وقيل لا تفوت وترد إلى بائعها لخ هذا القول هو الراجح، وقول اللخمي: إلا أن يكون المشتري معسرا وهو عالم بأن البائع محجور. قال الرهوني: كذا وجدته فيه بالواو لا بأو، كذا نقله ابن عرفة فيما وقفت عليه من نسخه وفيه نظر؛ لأنه إذا كان عالما لا فرق بين عسره ويسره إذ لا شبهة له: ولذلك يجب عليه رد الغلة كما نص عليه غيره. انتهى.
وضمن ما أفسد يعني أن المحجور يضمن ما أفسد بشرط أشار إليه بقوله: إن لم يؤمن عليه أي إنما يضمنه حيث لم يؤتمن عليه، وأما إن ائتمن عليه فلا يضمنه. وقوله:"وضمن" شامل للمميز وغيره، وقوله:"إن لم يؤمن عليه" إنما يتسلط على المميز.
تنبيه:
قال عبد الباقي: وضمن الصبي ولو غير مميز خلافا للتتائي ما أفسد في ماله، ولا يتبع بثمنه في ذمته إن لم يؤمن عليه إلا ابن شهر فلا ضمان عليه لأنه كالعجماء في فعله. قاله ابن عرفة. ومفهوم الشرط أنه إن أمن عليه لم يضمن إلا أن يصون به ماله فيضمن في المال الذي صونه أي حفظه خاصة، فإن تلف فأفاد غيره لم يضمن فيه، وإذا باع ما أمن عليه وصون به ماله فلا يضمن من ماله إلا قدر ما صون، وظاهره ولو كان الذي باعه من مال الغير يساوي كثيرا وانظره، وأما عكس كلام المص وهو أن المميز لو أودع شيئًا عند آخر فتلف عنده فإنه يضمن، وظاهره وإن لم يعلم أنه غير جائز التصرف، وأما المجنون فلا يتصور تأمينه، والمنقول فيما يتلفه ثلاثة أقوال: أَحَدُها المال في ماله والدية على عاقلته وربما يدل له ما يأتي في الخراج. الثَّانِي: أنهما هدر، الثَّالثُ: المال هدر والدية على عاقلته. انتهى.
قوله: "وضمن ما أفسد" في ماله ولا يتبع بثمنه في ذمته، قال البناني: تبع فيه الأجهوري قائلا: ذكره الرجراجي وحلولو، قال الرجراجي في كتاب المأذون: ولا خلاف أنه لا يتبع بالثمن في ذمته. انتهى. قال مصطفى: وهو وهم فاحش خرج به عن المذهب، بل يتبع به في ذمته كما في المدونة في كتاب الوديعة، ونصها: ومن أودعته وديعة فاستهلكها ابنه الصغير فذلك في مال الابن، فإن لم يكن له مال ففي ذمته. انتهى. ونحوه نقل ابن عرفة في كتاب الغصب عن ابن يونس، ونصه: الصقلي: والصبي المميز ضامن للمال في ذمته والدماء على حكم الخطإ، والكبير المولى عليه في جنايته كالمالك أمر نفسه. انتهى. وكلام الرجراجي الذي استدل به الأجهوري على
ما قال نقله الحطاب في التنبيه التاسع ولا دليل له فيه، قال مصطفى: لأنه في الثمن الذي أخذه الصبي وأنفقه فيما لابد له منه، هل يؤخذ منه أم لا؟ ولا خلاف أنه لا يتبع به في ذمته كما تقدم عن الحطاب. انتهى. أي في التنبيه الثامن فإن سياقه فيه يفيد ما قاله مصطفى وذكر الشيخ المسناوي مثل ما ذكر مصطفى ثم قال: وبعد كتبي هذا بمدة وقفت على كلام الرجراجي في أصله فوجدته -والحمد للَّه- موافقا لما قلناه ومطابقا لما ظنناه، ولنسق كلامه برمته لمزيد البيان، ورفع ما عسى أن يختلج في الأذهان، قال في المسألة الثالثة من كتاب المأذون المعقودة لما يلزم السفيه من أقواله وأفعاله بعد أن تكلم على ما يلزمه من حقوق اللَّه ما نصه: وأما ما كان من حقوق الآدميين على الخلوص كبيعه وشرائه وما أشبه ذلك مما يخرج على عوض ولا يقصد به المعروف فإنه موقوف على نظر وليه إن كان له ولي، فإن لم يكن له ولي قدم القاضي ناظرا ينظر له في ذلك نظر الوصي، فإن لم يفعل حتى ملك أمر نفسه كان هو مخيرا في رد ذلك وإجازته، فإن رد بيعه أو ابتياعه وكان أتلف الثمن الذي باع به أو السلعة التي ابتاعها فلا يخلو من أن ينفق الثمن فيما لابد له منه أو في غيره، فإن أنفقه في غير واجبه مما هو عنه في غنى فإنه لا يتبع بذلك ولا يتقرر في ذمته، وإن أنفقه فيما لابد له منه مما يلزمه إقامته من ماله فهل يتبع بذلك في ماله أو لا؟ على قولين متأوَّلين على المدونة، ولا خلاف أنه لا يتبع بذلك في ذمته. انتهى المراد منه. من أصله بلفظه.
وقال قبل ذلك في كتاب المديان في المسألة الثانية منه في الجواب عن الوجه الثاني منها، وهو طرو الغرماء على الورثة بعد قسمة التركة ما نص المراد منه: ولا خلاف عندنا في المذهب أن جناية الصغير على الأموال لازمة لماله وذمته. انتهى. نقل الشيخ المسناوي رحمه الله. وقوله: وظاهره ولو كان الذي باعه في مال الغير يساوي كثيرا وانظره، قال البناني: هذا الظاهر هو المصرح به في كلام اللخمي وغيره كما في التوضيح على قول ابن الحاجب في باب الوديعة: ومن أودع صبيا أو سفيها أو أقرضه أو باعه فأتلفها لم يضمن ولو أذن له أهله، ثم قال: وبالرجوع بالأقل صرح ابن عبد السلام. انتهى.
وقوله: والمنقول فيما يتلفه أي المجنون ثلاثة أقوال لخ، هذه الأقوال ذكرها ابن رشد في رسم العشور من سماع عيسى من كتاب الجنايات الأول في المجنون وفي الصغير غير المميز، ونقلها أبو الحسن في كتاب الديات ونقلها فيهما أيضًا ابن الحاجب وابن عرفة في كتاب الغصب، فالصغير غير المميز مثل المجنون في المال والدم على كل منها، وعلى القول الأول منها وهو أن جنايتهما على الأموال في مالهما وعلى الدماء على عواقلهما إلا أن تكون أقل من الثلث، ففي أموالهما فهما كالمميز في ذلك كما في ابن عرفة، وهذا القول هو الراجح لقول المص في التوضيح تبعا لابن عبد السلام: والقول الأول أظهر لأن الضمان من باب خطاب الوضع الذي لا يشترط فيه التكليف. انتهى. زاد ابن عبد السلام: وكذلك لا يشترط التمييز. قال اللقاني: وهو مقتضى ما اقتصر عليه ابن الحاجب في باب القصاص، بقوله: فلا قصاص على صبي ولا مجنون بخلاف السكران وعمدهما كالخطإ، فلذلك تجب الدية على العاقلة مطلقًا إن بلغت الثلث، وإلا ففي ماله أو ذمته. اهـ. أي وإن لم تبلغ الثلث ففي مال الجاني أو ذمته من صبي أو مجنون كما شرحه ابن عبد السلام، قال اللقاني: فإن ظاهره أي ابن الحاجب إنه لا فرق بين المجنون وغيره كما قاله التوضيح هناك، قال الشيخ المسناوي: وعليه فالذمة ثابتة للجميع فلا يشترط لها التمييز فضلا عن التكليف. اهـ. ويَرُجْحَانِ هذا القول يظهر لك أن قول المص: "وضمن ما أفسد" لخ يشمل المميز وغير المميز والمجنون. واللَّه أعلم. اهـ قاله البناني.
تتمة
اعلم أن الشيخ أبا علي رجح عدم ضمان غير المميز، فإنه قال: والحاصل أن الراجح هو عدم ضمان غير المميز مطلقًا في الأموال وغيرها وأن فعله كلا فعلٍ أصلا. انتهى ورده الرهوني، وقال: إن الصواب ما رجحه البناني تبعا للشيخ السناوي لما تقدم من كلام ابن عرفة السابق، فإنه جزم بأن من سنه فوق شهر يضمن، وبما تقدم عن التوضيح والمواق بأن من زاد سنه على ستة أشهر يضمن. انتهى المراد منه.
واعلم أن ابن شهر لا يضمن، وأما ابن ستة أشهر فقد اختلف في ضمانه والراجح أنه لا يضمن، ففي التوضيح: قال ابن القاسم: فإن أفسد شيئًا فإن كان ابن ستة أشهر ونحوها لا ينزجر فلا
شيء عليه، وإن كان مثل ابن سنة فصاعدا فذلك عليه، وعلى أن ابن ستة أشهر لا شيء عليه اقتصر المواق في الضمان وابن يونس في كتاب الحمالة. الرهوني: فهو الراجح. واللَّه أعلم.
وَلما كان الحجر عليه في حياته لحق نفسه كانت الوصية في ماله بخلاف ذلك فهي جائزة، ولا حجر عليه فيها وهي خارجة من ثلثه فساوى فيها البالغ ذكر ذلك بقوله: وصحت وصيته يعني أن الصغير المميز تصح وصيته، وقوله: كالسفيه فيه يحتمل أن معناه تصح وصية الصبي كما تصح وصية السفيه، فيكون قوله:"وللولي رد تصرف" لخ شاملا للمميز من صبي وسفيه بالغ، ويحتمل أن يكون قوله:"كالسفيه" تشبيها تاما
(1)
في جميع ما تقدم من الأحكام السابقة من قوله: "وللولي رد تصرف مميز" إلى هنا فيكون المراد بالمميز الصبي.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: هذا أحسن وقد شرحت المص على الاحتمال الأول قبل هذا. واللَّه تعالى أعلم.
إن لم يخلط الفاعل ضمير يعود على الصبي المميز وعلى البالغ السفيه المميز، وأفرده لأن المراد أحدهما، وفسر أبو عمران التخليط بقوله الذي يخلط في كلامه ليس بجيد العقل؛ أي بأن يكون كلاما مختلطا لا معنى له، مثل أن يذكر في كلامه ما يبين به أنه لم يعرف ما ابتدأ به كلامه، وسيأتي في الوصية إن شاء اللَّه تعالى تحقيق هذه المسألة في باب الوصية، ومعنى كلام المص أن وصية المميز إنما تصح حيث لم يخلط، وأما إن خلط فلا تصح. واللَّه تعالى أعلم.
إلى حفظ مال ذي الأب الكائن بعده أي البلوغ إلى هنا بمعنى مع كما صرح به الشيخ عبد الباقي، يعني أنه لابد أن يضم إلى البلوغ حفظ مال المحجور الذي له أب، فالصبي محجور عليه إلى أن يبلغ مع كونه يحفظ ماله إذا كان ذا أب، فإذا بلغ ولم يكن حافظا لماله يستمر حجر الأب عليه إلى أن يكون حافظا لماله. فقوله:"لبلوغه"، وقوله:"إلى حفظ" متعلقان بقوله: "محجور"، وقوله:"بعده" متعلق "بحفظ"، وقد مر أن حجر النفس ينتهي للبلوغ، فإذا بلغ ذهب حيث شاء
(1)
في الأصل: تشبيه تام.
وليس لأبيه منعه من الذهاب كما قال الإمام مالك في المدونة، وأما الحجر عليه بالنسبة للمال فهو الذي يستمر إلى حفظ مال ذي الأب.
قال المواق: قال ابن القاسم: إذا ثمَّر ماله وحاطه استوجب الرشد حتى وإن كان غير مرضي الحال. (ابن شهاب)
(1)
: وبهذا هو العمل، وقال ابن رشد: الابن في ولاية أبيه ما دام صغيرا ويخرج من الولاية ببلوغه، وإن لم يشهد الأب على إطلاقه من الولاية هذا إن بلغ معلوما بالرشد، وليس للأب أن يرد من أفعاله شيئًا، فإن بلغ وهو معلوم بالسفه فلا يخرجه الاحتلام من ولاية أبيه وأفعاله كلها مردودة غير جائزة. واختلف إن بلغ مجهول الحال لا يعلم رشده من سفهه، وفي المدونة دليل على القولين، والذي في الاستغناء: للأب أن يحجر على ابنه قرب بلوغه، فإن بعد لم يحجر عليه إلا السلطان. انتهى.
وقال البناني عند قوله "إلى حفظ مال ذي الأب" ما نصه: ابن عاشر: يستثنى منه إذا حجر الأب عليه في وقت يجوز له ذلك وهو عنفوان البلوغ، فإنه لا ينفك عنه الحجر وإن كان حافظا للمال إلا بفك الأب. انتهى. وهو الذي نقله ابن سهل عن ابن العطار، ونصه: قال ابن العطار: وإنما يكون للأب تجديد السفه على ولده قرب البلوغ وإذا بعد أزيد من العام لم يكن له ذلك إلا ببينة تشهد بسفهه. انتهى.
وقال المتيطي: ليس للأب أن يحجر على ابنه إلا بأحد وجهين، إما أن يكون سفهه حين الحلم أو قريبا منه وضرب على يديه وأشهد ببقاء ولايته عليه فذلك جائز له، ولا يزال الابن بذلك باقيا في حجره إلى أن يرشده أبوه أو يحكم له حاكم بإطلاقه، وعلى هذا بنى أهل الوثائق وثائقهم وانعقدت به أحكامهم، والوجه الآخر أن يكون الأب أغفل الحجر عليه حتى بعد عن سن الاحتلام، فلا يكون له تسفيهه إلا عند الإمام. انتهى من كتاب النكاح. لكن في أبي الحسن في كتاب الهبات في شرح قول المدونة: ومن وهب لعبد هبة الخ ما نصه: انظر فالأب أقوى من الوصي لأنه مقيس على الأب، ومع ذلك جعلوا لمحجور الأب أن يخرج من الحجر إذا ثبت
(1)
في المواق ج 6 ص 641 ط دار الكتب العلمية: ابن هشام.
رشده من غير أن يخرجه الأب، وجعلوا حجر الوصي لا يخرج منه محجوره إلا بإخراج الوصي، ويأتي الجواب عن هذا الاستشكال في شرح قوله:"وفك وصي أو مقدم" إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله: "إلى حفظ مال ذي الأب بعده" قال الحطاب: هذا حد الرشد الذي لا يحجر على صاحبه باتفاق، واختلف في الرشد الذي يخرج به من الحجر هل هو كذلك أو يزاد فيه اشتراط حسن التنمية؟ ذكر المازري في ذلك قولين. انتهى. وذكرهما اللخمي فيه أيضًا ونصه على ما قال الرهوني: واختلف في الرشد المراد بالقرآن، فقال في المدونة: هو الذي يحرز ماله. وقال محمد: الرشد هو الصلاح في دينه وماله، وقال أيضًا: الذي يصلح ماله ويثمره ويحجره عن معاصي اللَّه تعالى. وقال أشهب: لا ينظر إلى سفهه في دينه إذا كان ممسكا لماله ولا يخدع فيه كما يخدع الصبي، ولا يخاف عليه في تدبيره ولا يبذره. قال الشيخ: إن اجتمع أن يكون يحرز ماله وينميه فذاك: وإن كان يحرزه ولا يحسن التجر والتنمية فلا يمسك عنه لأن وليه لا يفعل فيه غير ذلك يمسكه وينفق عليه فهو أولى بفعل ذلك. انتهى.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: قد علمت مما مر أن الرشد رشدانِ: رُشْدٌ لا يضرب معه الحجر وهذا متفق على أنه لا يشترط فيه إلا حفظ المال لا حسن التنمية، فمن يحسن الإمساك بأن يحفظ ماله ولا يحسن التجر فيه لا يضرب عليه الحجر اتفاقا. وَرُشْدٌ يخرج به من الحجر وهذا فيه قولان، أَحَدُهُما وهو الراجح أنه كالأول لا يشترط فيه إلا حفظ المال ولا يشترط فيه حسن التنمية، فلو كان لا يحسن التجر في ماله مع أنه يحسن الإمساك لخرج من الحجر. القَولُ الثَّانِي: أنه لا يخرج من الحجر إلا بحفظ المال وحسن التنمية، وعلى هذا فمن حفظ ماله ولكنه لا يحسن التجر فيه لا يحجر ضليه، إما اتفاقا إذا لم يكن محجورا عليه وإما على الراجح إذا كان محجورا عليه، وهذا الراجح هو الذي مر عليه المص؛ إذ ظاهره أن من يحفظ المال ولا يحسن التجر لا يحجر عليه، بل يخرج من الحجر إذا كان محجورا عليه ولا يضرب عليه الحجر إن لم يكن محجورا عليه وهذا الذي هو ظاهر المص نسبه اللخمي للمدونة.
قال الرهوني بعد جلب كلام ما نصه: فتحصل من هذا أن ما أفاده ظاهر المص هو الراجح، خلاف ما درج عليه في التحفة وهذا هو الذي رجحه أبو علي هنا، وفي حاشية التحفة قائلا هنا: وإنما أطلنا في هذا لأن كثيرا من الطلبة زعموا أن شرط التنمية هو المذهب وليس كذلك. انتهى.
وفك وصي يعني أن الوصيّ عليه لا يخرج من الحجر إلا باجتماع ثلاثة أمور: البلوغ والرشد وفك الوصي الحجر عنه، أو مقدم يعني أن القاضي إذا قدم أحدا
(1)
على صبي أو سفيه ليس له أب ولا وصي فإنه لا ينفك عنه الحجر إلا باجتماع ثلاثة أمور: البلوغ والرشد وفك القدم. واعلم أن الوصي والمقدم لا يحتاجان في فكهما الحجر عن محجورهما إلى إذن القاضي.
تنيبهات:
الأول: قد مر أن الأب إذا لم يجدد الحجر على ابنه أوان بلوغه أو قريبا منه يخرج من الحجر بحفظه المال، وأنه استشكل ذلك بكون الأب هو الأقوى وقد خرج من حجره بالرشد، والوصيُّ والمقدمُ لا يخرج المولَّى عليه من حجرهما إلا بالبلوغ والرشد والفك، وَالجوابُ أن الأب لا أدخل ابنه في ولاية الوصي صار ذلك بمنزلة ما لو حجر الأب عليه أي جدد عليه الحجر، وهو إذا جدد عليه الحجر لا يخرج منه إلا بفكه عنه أي إذا كان ذلك عنفوان البلوغ، وهو الذي نقله ابن سهل عن ابن العطار، ونصه: قال ابن العطار: وإنما يكون للأب تجديد السفه على ولده قرب البلوغ، وإذا بعد أزيد من العام لم يكن له ذلك إلا ببينة تشهد بسفهه.
ويَتحصل من كلام السنهوري وغيره أن الابن إذا بلغ وجدد أبوه عليه الحجر عند بلوغه أن الولاية ثابتة عليه مطلقًا، فإن لم يجدده عليه أوان البلوغ، فإن علم رشده أو سفهه حمل عليه، وإن جهل فالمشهور أنه محمول على السفه وعند ابن العطار أنه محمول على السفه إلى عام، قال السنهوري: فعلى هذا يحجر عليه ما لم يتم له عام. انتهى.
ومعنى يحجر عليه يجدد عليه الحجر كما صرح به البناني عن ابن العطار، وفي السنهوري ما يفيد أنه يجدد عليه الحجر حيث علم سفهه، وأن المشهور أن له التجديد مطلقًا إن لم يعلم له سفه ولا رشد، وقد مر للبناني عن المتيطى ما نصه: قال المتيطى: ليس للأب أن يحجر على ابنه
(1)
في الأصل: أحد.
إلا بأحد وجهين: إما أن يكون سفهه حين الحلم أو قريبا منه وضرب على يديه وأشهد ببقاء ولايته عليه فذلك جائز له، ولا يزال الابن بذلك باقيا في حجره إلى أن يرشده أبوه أو يحكم له حاكم بإطلاقه، وعلى هذا بنى أهل الوثائق وثائقهم وانعقدت به أحكامهم. والوجه الآخر أن يكون الأب أغفل الحجر عليه حتى بعد عن سن الاحتلام فلا يكون له تسفيهه إلا عند الإمام. انتهى. وإنما أعدت هذا الذي قدمته لا أضفت إليه هنا من كلام السنهوري ليجتمع الكلام على المسألة في محل واحد.
الثاني: قال عبد الباقي: فإن مات الوصي قبل الفك تصير أفعاله بعد ذلك على الحجر ولابد من فك الحاكم، ولا يقال صار مهملا ولا يأتي الخلاف الآتي بين مالك وابن القاسم لأنه محجور عليه. انتهى. وهذا الذي قال عبد الباقي زيفه الرهوني، وقال: إنه خلاف ما قاله فقهاء طليطلة من أنه على مذهب ابن القاسم إن ظهر منه حسن نظر جائز الأفعال بعد موت وصيه، وإن لم يحكم بإطلاقه كما هو عنده في سفهه مردود الفعل دون حكم بالتحجير عليه والضرب على يديه، وأما على مذهب غيره فلا يخرج من الولاية التي لزمته إلا بحكم. وقاله ابن مالك القرطبي. انتهى المراد منه. لكنه قوى القول بأنه هنا يحتاج إلى الفك، فإنه نقل عن ابن سلمون ما نصه: واختلف في الذي يموت وصيه ولم يوص به إلى أحد ولا قدم عليه السلطان وصيا، فقيل: إن كان حسن النظر لنفسه معروفا بالرشد فأفعاله كلها جائزة، وإن كان معروفا بالسفه فأفعاله كلها مردودة وهو قول ابن القاسم. والذي جرت به الفتوى وعليه الشيوخ أن أفعاله كلها حكمها حكم من كان وصيه باقيا حتى يظهر رشده ويحكم برشده. انتهى المراد منه.
الثالث: قول عبد الباقي: إن الوصي ومقدم القاضي لا يحتاج في الفك إلى إذن من القاضي هو المشهور، وقيل لابد من إذن القاضي، ونسبه اللخمي وغيره لعبد الوهاب، وقول المص:"إلى حفظ مال ذي الأب بعده وفك وصي أو مقدم"، قال عبد الباقي: فيه إشعار بأن اليتيم المهمل يخرج من الحجر بالبلوغ.
الرابع: قال عبد الباقي: قال أحمد: ظاهر قوله: "وفك" لخ أنه لا يشترط مع ذلك ثبوت حفظ المال لعطف هذا عليه وهو ظاهر؛ لأنه سيأتي أن له الترشيد وإن لم يعرف الرشد إلا من قوله فالإثبات غير لازم، وسيأتي أن الفك هو الترشيد.
الخامس: قال الرهوني: ظاهر المص أنه لابد من الفك ولو كان أبوه حَدَّ الإيصاء بمدة وانقضت، وقد ذكر ابن سلمون وغيره في ذلك قولين. انتهى. ثم ذكر الرهوني ما نصه: في نوازل ابن سهل ذكر لي عن أبي عمر ابن القطان أن القاضي ابن بشر قال لمن حضره من الفقهاء: ما تقولون فيمن أوصى على ابنه وشرط أنه إذا بلغ عشرين سنة فهو مطلق فمات الوصي وبلغ الموصى عليه هذه المدة ثم تصرف بعد ذلك في بيع وغيره وهو مجهول الحال لم يظهر منه سفه ولا خبر منه رشد، هل تكون أفعاله جائزة دون إطلاق الموصي له من الولاية؟ قال أبو محمد بن دحون وأبو محمد بن الشقاق: لا يجوز له بيع ولا غيره إلا بعد ترشيد لأنه مولًّى عليه، وأخرج القاضي إليهم جواب أبي عمر أحمد بن عبد الملك الإشبيلي بأنه مطلق بذلك الشرط جائز الفعل. قال القاضي: وبهذا أقول وهو الصواب عندي. قال ابن القطان: وبه أقول وإياه أختار. انتهى.
وابن بشر هذا بكسر الباء وسكون الشين، وأما القاضي محمد بن بشير فهو أقدم منه، كان في طبقة أصحاب مالك، وأما أبو عمر الإشبيلي فهو ابن المكوي وهو من أشياخ ابن عبد البر والتحديد بالبلوغ كالتحديد بالسنين، والخلاف المذكور إنما هو فيمن جهل حاله. وفي المتيطي: وإذا شرط الموصي في وصيته إذا بلغ ابنه الحلم فهو منطلق من الولاية فله شرطه، وينطلق ابنه بالبلوغ إلا أن يثبت عليه أنه سفيه فتستمر عليه الولاية. قاله أبو عمر الإشبيلي. وابن بشر القاضي وابن القطان وغيرهم. وقال ابن أيمن وغيره: الشرط باطل. انتهى.
السادس: قال الرهوني: قال ابن عرفة: وفي ثبوت الولاية بتقديم خاص خلاف في أحكام ابن سهل لو قدم القاضي على مهمل من يقاسم عنه فقسم عليه ففي بقائه مهملا مطلقًا، أو إن كان
حين التقديم بالغا (لا صغيرا)
(1)
ثالثها عكسه لابن عتاب مع الإشبيلي وابن دحون وابن الشقاق، والقسم على الصغير ماض وفي البالغ قولان لابن دحون والإشبيلي. انتهى.
السابع: قال الإمام الحطاب: قال في وثائق الفشتالي: وإذا أراد الوصي أو الأب إطلاق المحجور من الولاية وَرَشَّدَهُ رَشَدَ وملكَ أمرَ نفسه وماله على العموم والإطلاق والشمول والاستغراق ولم تبق عليه ولاية، وقول الأب والوصي مقبول في ذلك، فإن باع ماله وأفسده وقامت البينة أنه لم يزل سفيها منذ بلغ إلى وقتهم هذا لزمتهم الولاية ورد فعله وعزل القاضي الوصي وجعل عليه غيره، ولم يضمن الوصي شيئًا مما أتلفه لأنه فعله باجتهاد، وإن طلب ترشيد نفسه كلفه القاضي إثبات رشده.
قال: فإن أثبت ذلك أعذر للأب والوصي والمقدم، فإن لم يكن مدفع أشهدت عليه بذلك، وإن ادعى خلاف الحال المذكورة كلف إقامة البينة، فإن أثبت ذلك أعذر فيه للمشهود عليه، فإن وافق فلا إشكال وإن نازع فيه وعجز عن الدفع فيه من تجريح أو غيره كانت شهادة من شهد بالسفه أعمل. وقال بعض الموثقين: ينظر إلى أعدل البينتين فإذا حكم الحاكم برشده وقام بعد ذلك وادعى أنه لم يزل سفيها، هل تمضي أفعاله لأن القاضي حكم بترشيده ولاسيما إن كانت بينة الترشيد أعمل فيكون قد وافق نقل قائل من أهل العلم، أو يرد ذلك إن كانت بينة السفه (أعمل)
(2)
لأنه حكم بخطإ.
قال ابن رشد في باب الوصايا في مسألة من أوصى به أبوه إلى أمه فتوفيت ولم توص به إلى أحد فتزوج ومات قبل البناء إن في ميراث زوجته وصداقها ثلاثة أقوال: أَحَدُها لا ميراث لها ولا صداق وَالثَّانِي لها الميراث والصداق وَالثَّالِثُ لها الميراث. وأما الصداق فينظر فإن كان نكاحه غبطة بحيث لو كان له ولي واطلع عليه لم يفسخه كان لها الصداق أيضًا، وإن كان على غير ذلك لم يكن لها صداق، وأما إن كان نكاحه بعد أن ثبت عند القاضي رشده فقضى بترشيده فالنكاح ماض ولها الصداق واليراث قولا واحدا، والحكم نافذٌ لا يرد بشهادة من يشهد أنه لم
(1)
في الأصل: لا صغير، والمثبت من الرهوني ج 5 ص 335.
(2)
ساقطة من الأصل والمثبت من الحطاب ج 5 ص 493.
يزل متصل السفه، وإن كانوا أعدل من الشهود الذين قضى القاضي بشهادتهم إذ قد فات موضع الترجيح بين الشهود بنفوذ الحكم، فإنما توجب شهادتهم الحكم بتسفيهه وتكون أفعاله من يوم حكم بترشيده إلى يوم حكم بتسفيهه جائزةً ماضيةً. انتهى. وقد علم أن اليتيم والصغير يجوز له شراء ما لابد له منه حيث كان على وجه السداد، وإذا ادعى على المولى عليه في شيء باعه أنه باعه قبل أن يجوز له البيع، وقال المبتاع بعد أن جاز له البيع فالبينة على البائع لأنه يريد فسخ بيع قديم، ولابن سحنون في كتابه أن القول قول السفيه. انتهى انظر ابن سلمون.
إلا كدرهم لعيشه مستثنى من قوله: "وللولي رد تصرف مميز" يعني أن المحجور المميز لا يحجر عليه في تصرفه بمعاوضة في الشيء التافه الذي لابد له منه، كدرهم لعيشه وعيش ولده ورقيقه وأمهات أولاده إذا أحسن التصرف فيه، قال عبد الباقي: وأخرج من قوله: "وللولي رد تصرف مميز" قوله: "إلا كدرهم" شرعي "لعيشه" وعيش ولده ورقيقه وأمهات أولاده من لحم وبقل وخبز فلا يحجر على المولى عليه فيه إذا أحسن التصرف فيه، وأما نفقة زوجته وخادمها فتعطى لها. قاله ابن ناجي. لأنها لحريتها أشبهت غير المحجور عليه، فإن كانت أمة دفعت نفقتها لسيدها فيما يظهر. انتهى.
وقال المواق من المدونة: لا يجوز للمولى عليه بيع ولا يلزمه ذلك بعد بلوغه ورشده، ولا يجوز شراؤه أيضًا إلا ما لا بد منه وهو تدفع إليه نفقته فيشتري بها ما يصلحه. انتهى. قوله: نفقته أطلق النفقة على الثمن لأنه سببها من إطلاق المسبب وإرادة السبب. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. واللَّه تعالى أعلم. وقال الشارح: لما ذكر أن الولي يخير في رد تصرف الصبي وإمضائه، ذكر أن ذلك مخصوص بما كان له قدر وبال، فأما مثل الدرهم يبتاع به طعاما لنفسه ونحوه فلا. اهـ. لاطلاقه عطف على "تصرف مميز" يعني أن الولي له أن يرد تصرف المميز بتبرع وغيره مما مر، وليس له أن يرد طلاقه أي المميز البالغ السفيه، فإذا طلق السفيه زوجته نفذ طلاقه، وليس للولي فيه كلام لأن الطلاق بيد من يرفع الساق، وأما الصبي فلا يلزمه طلاق. قال عبد الباقي: وأخرج أيضًا من قوله: وللولي رد تصرف مميز بناء على أن يراد به ما يشمل البالغ السفيه كما مر تجوزا ما يخص البالغ السفيه، فقال:"لا طلاقه" بالجر عطف على "تصرف" فلا يرد تصرفه فيه بل
يلزمه. انتهى. وقال المواق: اللخمي: اختلف في طلاق من لم يحتلم، فقال مالك: لا يلزمه، وقال في مختصر ما ليس في المختصر: إن ناهز البلوغ لزمه. ابن عرفة: المذهب لزوم طلاق السفية المكلف.
واستلحاق نَسَبٍ يعني أن السفيه البالغ إذا استلحق ولدا فإنه يلزمه ذلك الاستلحاق فيكون المستلحق ولدا له بالشروط الآتية في فصل الاستلحاق. ونفيه يعني أن البالغ السفيه لا يحجر عليه في أن ينفي ولدا باللعان، قال المواق: ابن شأس: لا حجر على السفيه في استلحاق النسب ونفيه لأنه مكلف.
وعتق مستولدته يعني أن السفيه إذا أعتق مستولدته أي أمته التي ولدت منه فإنه لا يحجر عليه في ذلك، بل يلزمه عتقها لأنها تشبه الزوجة التي ليس فيها إلا الاستمتاع بالوطء، وهل يتبعها مالها إذا أعتقت أم لا؟ اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أَحَدُهَا أنه يتبعها وهو قول مالك في رواية أشهب عنه، وَالثَّاني: لا يتبعها وهو رواية يحيى عن ابن القاسم، وَالثَّالثُ: التفرقة بين أن يكون مالها كثيرا وأن يكون قليلا فيتبعها إن قل لا إن كثر. قال ابن رشد: وأراه قول أصبغ وشهر عبد الباقي القول بأنها يتبعها مالها كثر أو قل، فإنه قال: وتبعها مالها ولو كثر على الراجح. انتهى.
قال الرهوني: انظر من رجحه وقد تقدم له نحو هذا في عتق المفلس أم ولده، وتقدم البحث معه هناك ولم أر من رجح ما قاله هنا بعد البحث عليه، بل وجدت لا يفيد رجحان غيره، فقد رجح ابن أبي زمنين في منتخبه أنه لا يتبعها مطلقًا، ونصه: وسئل ابن القاسم عن السفيه يعتق أم ولده أيتبعها مالها؟ فقال: لا أرى ذلك؛ لأن عتقها لم يمض على تجويز العتاقة وإنما أمضاه مالك لأنه رأى العتق قد كان سبق إليها بالولادة، فلما أعتقها كان إنما ترك ما كان له فيها من الاستمتاع بها، فلذلك رأيت أن لا يتبعها مالها؛ لأني إن أتبعتها مالها كنت قد جوزت للسفيه القضاء في ماله. قاله سحنون. وسواء كان مالها تافها أو غير تافه لا يتبعها منه شيء. انتهى منه بلفظه. فانظر كيف اقتصر عليه ولم يحك غيره مع نسبته لابن القاسم وسحنون واجتماعُهما من المرجحات؟ أيضًا كما صرح به غير واحد. ورجح اللخمي القول بالتفصيل ونصه: واختلف بعد
القول بجواز عتقها في مالها، فقال مالك في كتاب محمد: يتبعها مالها، وقال ابن القاسم: لا يتبعها إلا أن يكون يسيرا وهو أشبه. انتهى.
وقصاص يعني أن السفيه لا يحجر عليه في القصاص، فله أن يقتص ممن قتل ابنه أو أباه عمدا وجنى عليه هو في طرف فله أن يقطع يد من قطع يده عمدا بشروط القصاص الآتية ولا يتعرض له الولي في ذلك. ونفيه يعني أن البالغ السفيه لا يحجر عليه في نفي القصاص، فإذا قتل ابنه أو أبوه عمدا فله أن يعفو عن القاتل وله أن يعفو عمن جنى على طرفه جناية توجب القصاص. قال المواق: قال ابن القاسم في البكر التي حاضت يجنى عليها عمدا فتعفو هي ويريد (أبوها)
(1)
القصاص: فليس للأب قصاص خلافا لأصبغ. انتهى. وقال الشارح: ولا خلاف أنه لا يصح عفوه عن دم الخطإ لأنه ماله. انتهى. وفي معنى الخطإ جراح العمد التي لا قصاص فيها، وقد علمت أن هذه المسائل السبع في البالغ كما هو ظاهر.
والسابعة هي قوله: وإقرار بعقوبة يعني أن البالغ السفيه يلزمه ما أقر به من عقوبة في بدنه، فإن قال: قطعت يد زيد مثلا فإنه يقتص منه بشروط القصاص، قال في المقدمات: اعلم وفقنا اللَّه وإياك أن السفيه البالغ يلزمه حميع الحقوق التي أوجب اللَّه على عباده في بدنه وماله، ويلزمه ما وجب في بدنه من حد وقصاص. انتهى. والحاصل أنه يلزمه ما أقر به مما يستحق فيه العقوبة كالقصاص والحد في زنى أو شرب خمر مثلا.
وتصرفه قبل الحجر محمول على الإجازة عند مالك لا ابن القاسم يعني أن السفيه المحقق السفه الذكر البالغ المهمل أي الذي ليس له ولي من أب أو غيره، إذا تصرف قبل أن يحجر عليه فإن تصرفه ماض عند الإمام مالك، وقال ابن القاسم تصرفه غير ماض، وجاز تصرفه عند الإمام لأن العلة عنده في رد فعله الحجر لا السفه لاحتياج ثبوت السفه لاجتهاد وكشف للاختلاف فيه، ولم يمض عند ابن القاسم لأن العلة عنده في رد فعله السفه وهو موجود. قال عبد الباقي: والأول هو الراجح لتبعية كبراء أصحابه كابن كنانة وابن نافع له في ذلك، وشهره ابن رشد في مقدماته
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من نسخة أهل اتّا ج 5 والمواق ج 5 ص 644 دار الكتب العلمية.
وفي كلامه إشعار بترجيحه حيث لم يقل: وفي إجازة تصرفه قبل الحجر ورده خلاف، وحملنا كلامه على المحقق سفهه؛ لأن مجهوله أفعاله محمولة على الإجازة باتفاق. انتهى.
وقال المواق: ابن رشد: إن مات الأب ولم يوص به إلى أحد ولا قدم عليه السلطان وصيا ولا ناظرا، فقال مالك وكبراء أصحابه: أفعاله كلها بعد البلوغ جائزة نافذة رشيدا كان أو سفيها من غير تفصيل في شيء، وذهب ابن القاسم إلى أن ينظر إلى حاله يوم بيعه وابتياعه، فإن كان رشيدا جازت أفعاله وإن كان سفيها لم يجز منها شيء، واتفقوا أن أفعاله جائزة لا يرد منها شيء إن جهلت حاله ولم يعلم بسفه ولا رشد. انتهى.
وقال ابن هلال في نوازله ما نصه: العمل الآن إنما هو على قول ابن القاسم من اعتبار الحالة دون الولاية فلا عبرة بها مع ظهور الرشد وحسن التصرف، ولا عبرة بعدم الولاية مع وجود السفه وتبطل تصرفاته وإن لم يحجر عليه والدٌ ولا حاكم، بهذا العملُ الآن منذ خمسين سنة ونحوها وبه أفتى شيخنا القوري والعقباني سيدي أبو الفضل قاسم، وبه يحكم حكام البلاد الآن ويفتي مفتيهم وبه نفتي نحن وهذا أمر شائع ذائع يعرفه العامة الممارسون لأمور الخصام، ولعمري إنه هو الصواب وقد كان أفتي بقول ابن القاسم قديما. حكاه ابن أبي زمنين وغيره، ثم جرى العمل بقول مالك وجل أصحابه إلى الزمن الذي ذكرناه فجرى العمل على قول ابن القاسم إلى هلم جرا. انتهى.
وقال عبد الباقي: ومحل الخلاف الذي ذكره المص فيمن بلغ سفيها، وأما لو بلغ رشيدا ثم حصل له السفه ففي رد تصرفه خلاف أيضًا، لكن على حد سواء. انتهى. قال البناني: فيه نظر، بل الصورتان معا ذكرهما ابن رشد وسوى بينهما في الخلاف وترجيح القول الأول ونصه: وأما اليتيم الذي لم يوص به أبوه إلى أحد ولا قدم عليه السلطان وليا ولا ناظرا، ففي ذلك أربعة أقوال: أَحَدُها أن أفعاله كلها بعد بلوغه جائزة نافذة، رشيدا كان أو سفيها، معلنا بالسفه أو غير معلن، اتصل سفهه من حين بلوغه أو سفه بعد أن أُونِسَ منه الرشدُ من غير تفصيل في شيء من ذلك وهو قول مالك وكبراء أصحابه، ثم قال الرابع: أن ينظر إلى حاله يوم بيعه وابتياعه إلى آخر كلام البناني.
وقال الحطاب: الذكر إذا علم سفهه وكان مهملا فإن أفعاله جائزة عند جميع أصحاب مالك إلا ابن القاسم، وقد روى ابن وهب عن مالك أن أفعاله لا تجوز، مثل قول ابن القاسم، وقد حكى في المقدمات في اليتيم المهمل أربعة أقوال: أَحَدُهَا قول مالك وكبراء أصحابه أن أفعاله كلها بعد البلوغ جائزة نافذة، رشيدا كان أو سفيها، معلنا بالسفه أو غير معلن به، اتصل سفهه من حين بلوغه أو سفه بعد أن أونس منه الرشد من غير تفصيل. الثاني لمطرف وابن الماجشون: إن كان متصل السفه فلا تجوز وإلا جازت ولزمته ما لم يكن بيعه بيع سفه وخديعة بأن يبيع ما يباع بألف بمائة فلا يجوز، ولا يتبع بالثمن إن أفسده من غير تفصيل بين معلن السفه وغيره. الثالث لأصبغ: إن كان معلنا بالسفه فلا تجوز وإن لم يعلن جازت اتصل سفهه أم لا، وذهب ابن القاسم وهو القول الرابع إلى أنه ينظر يوم بيعه، إن كان رشيدا جازت أفعاله وإن كان سفيها لم تجز. انتهى. وليس هذا مخالفا لما مرَّ: أجمَعَ مالك وأصحابه إلا ابن القاسم لأن الخلاف الذي ذكر عن هؤلاء الثلاثة مطرف وابن الماجشون وأصبغ إنما هو في بعض أصحاب السفه. انتهى.
وعليهما العكس في تصرفه إذا رشد بعده يعني أن السفيه إذا رشد بعد أن حجر عليه ولم يحكم بفك الحجر عنه فإنه يتخرج على قولي الشيخين قولان آخران عكس القولين المتقدمين، فالإمام يقول بأن الولي له رد تصرفه وإجازته لوجود العلة عنده وهي التولية عليه، وابن القاسم يقول بمضي تصرفه لأن العلة عنده السفه، وقد زال وعبارة المص نحو عبارة ابن الحاجب وقررتها على حسب ظاهرها وهو معترض باقتضائه كون هذين القولين مخرجين وهما منصوصان. قال عبد الباقي: وَأُجِيبَ كما في أحمد بأن على بمعنى اللام. انتهى. أي وللشيخين العكس في تصرفه إذا رشد، وهذا يفيد أن الشيخين نصًّا على ذلك. قال عبد الباقي: ولم يذكر المغني ورود على بمعنى اللام، ومثل لورود اللام بمعنى على بقوله تعالى:{وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} . انتهى.
وزيد في الأنثى دخول زوج يعني أنه يزاد في الأنثى على ما تقدم أن تتزوج ويدخل بها زوجها، ويزاد على ذلك أيضًا شهادة العدول اثنان على المشهور، ولا يشترط أزيد منهما خلافا للمتيطى كظاهر المص. على صلاح حالها وهو حسن تصرفها وهو أمر زائد على حفظ المال كما عرفت، وينفك الحجر بما ذكره ولو بعد الدخول بقرب على المشهور. قاله عبد الباقي.
وَالحَاصِلُ أن الذكر يترشد بأمرين البلوغ وحفظ المال إن كان ذا أب، وبالبلوغ وحفظ المال وفك الحجر عنه إن كان ذا وصي أو مقدم، فإن لم يكن ذا ولي رد تصرفه إن كان صغيرا أي لم يبلغ وإن كان بالغا وهو سفيه فهو ما قال الشيخ "وتصرفه قبل الحجر" لخ، وَأما الأنثى ذات الولي فيزاد لها على ذلك أمران: دخول زوج وشهادة العدول على حسن تصرفها، فيقال: ذات الأب تترشد بحفظ المال مع البلوغ، ويزاد لها على ذلك أن تتزوج ويدخل بها زوجها، وأن يشهد عدلان فأكثر على أنها حسنة التصرف، وَذات الوصي والقدم تترشد بالبلوغ مع حفظ المال وفك الحجر عنها، ويزاد على ذلك أن تتزوج وأن يدخل بها زوجها، وأن يشهد العدول عدلان فأكثر على أنها حسنة التصرف.
وهذا الذي قررت به المص من تفسير صلاح الحال بحسن التصرف هو المتعين في كلام المص؛ لأنه إذا فسر صلاح الحال بأن لا تعرف بالسفه أي يشهدوا برشدها لا يكون لزيادة شهادة العدول على صلاح الحال معنى؛ لأنه قد مر له إلى حفظ مال ذي الأب، وَيُعَيِّنُ هذا ما نقله الرهوني عند قول عبد الباقي مفسرا لصلاح الحال أي حسن تصرفها فهذا زائد على حفظ مال ذي الأب، وعلى فك وصي أو مقدم. انتهى.
قال الرهوني: قول عبد الباقي: أي حسن تصرفها فهذا زائد على حفظ مال ذي الأب لخ نحوه لابن عاشر، ونصه قد يتبادر أن الأنثى لم تختص بهذا القيد لتقدم نظيرة في الذكر حيث يقول:"إلى حفظ مال ذي الأب"؛ لأن حفظ المال مساوٍ لانتفاء السفه، ولا يكفي انتفاء السفه في الأنثى بل ما هو أخص منه وهو صلاح الحال. قف على التوضيح يتبين لك هذا المعنى أعني ما ذكره في القيد الخامس. انتهى منه بلفظه. ونقله جسوس وسلمه. وما نسبه للتوضيح هو كذلك فيه فإنه بعد أن ذكر عن ابن رشد في البيان أن المشهور أنها في ولاية أبيها حتى يدخل بها زوجها ويشهد العدول على صلاح حالها.
قال ما نصه: ونحوه لعياض في باب النكاح لكنه زاد بعد أن عين أن المشهور أنها لا تخرج إلا بالدخول ومعرفة صلاح حالها، فقال: ومعناه عندهم أنها لا تعرف بسفه. انتهى. وعلى هذا فلا يشترط أن يشهد العدول بصلاح الحال، بل بعدم السفه. انتهى منه بلفظه.
قَالَ مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: بهذا الذي في التوضيح يتبين لك أن المص أراد هنا المعنى الذي قررته به؛ إذ لولا ذلك لم يكن لقوله: "وزيد" معنى بالنسبة لشهادة صلاح الحال. وقد نظر الرهوني في كلام المص في التوضيح بأن عياضا لم يقصد مخالفة ابن رشد وغيره في تعبيرهم بصلاح الحال، بل صرح بأن مرادهم بصلاح الحال أنها لا تعرف بسفه وهو الحق، وأتى الرهوني بما يدل على ما قال من أن الرشد في حق الذكر والأنثى سواء، وعلى هذا فعلى المص الدرك في قوله:"وزيد في الأنثى دخول زوج وشهادة العدول على صلاح حالها" بالنسبة لشهادة العدول على صلاح حالها، فلو قال: وزيد في الأنثى دخول زوج لسلم من هذا. واللَّه تعالى أعلم.
ولو جدد أبوها حجرا يعني أن ذات الأب تخرج من الحجر بما ذكر، ولا تحتاج إلى أن يفك عنها الحجر بل يفك عنها الحجر بحفظ المال مع البلوغ ودخول الزوج بها وشهادة العدول على صلاح حالها، ولا فرق في ذلك بين أن يجدد عليها الحجر وأن لا يجدده فلا تحتاج إلى فكه. وقوله: على الأرجح مقتضاه أن ابن يونس رجح هذا الذي قاله المص من أنها لا تحتاج في ترشدها إلى الفك ولو جدد أبوها عليها الحجر، قال عبد الباقي عند قوله:"على الأرجح" ما نصه: اعترضه التتائي بأنه لابن رشد لا ابن يونس، وبأن ابن رشد لم يفرع الخلاف المذكور على قوله:"وشهادة العدول" لخ بل على مقابله وهو مضي عام أو أكثر بعد دخول زوج بها. انتهى.
تنبيه:
هذا الذي ذكره المص إنما هو حيث طلب المولَّى عليه أن يحكم له بالترشيد، فلا يحكم له الحاكم به حتى يثبت عنده ما ذكر فيحكم له بذلك ويمضي تصرفه حينئذ، ولا كلام لوليه وأما إن لم يقع تنازع فللولي أن يرشده حيث علم منه الرشد ولا يحتاج لبينة على ذلك، وهذا عام في الذكور والإناث.
وأشار المص إلى ذلك في الإناث بقوله: وللأب ترشيدها قبل دخولها يعني أن الأب له أن يرشد ابنته قبل الدخول وكذا بعده، عُرِفَ عند الناس رشدها أم لا، فإن نازع في ذلك فهو ما قدمه بقوله:"شهادة العدول على صلاح حالها".
كالوصي يعني أن الوصي له أن يرشد المولَّى عليها قبل الدخول وبعده كالأب كما هو ظاهر المص، ولو لم يُعْرَفْ رشدها يعرف بالبناء للمجهول "ورشدها" هو النائب عن الفاعل؛ يعني أن الوصي له أن يرشد المولَّى عليها قبل الدخول وبعده، ولو لم يعرف رشد المرأة إلا من قول الوصي.
تنبيه:
جعل عبد الباقي المبالغة في المسألتين ونحوه للتتائي قال البناني: اعترضه مصطفى فقال: الصواب أنه خاص بالثانية إذ فيها الخلاف المشار إليه، وبه قرر الحطاب. انتهى. ونص المتيطى: واختلف في ترشيد الوصي إياها وهي بكر، فقيل له ذلك كالأب، وقيل ليس له ذلك حتى يدخل بها زوجها ويعرف من حالها ما يوجب إطلاقها. وقال أحمد بن بقي: ليس للوصي ترشيدها قبل دخول بيت
(1)
إلا أن تعنس لأن التعنيس يأتي على ذلك كله، واختلف هل للوصي من قبل الأب ترشيدها بعد ابتناء زوجها بها؟ فالمشهور من المذهب أن ذلك له وبه القضاء وعليه العمل والوصي مصدق في ذلك وإن لم تعرف البينة رشدها وقيل ليس له ذلك إلا بعد ثبوت رشدها. وقاله ابن القاسم في سماع أصبغ. ونحوه لعبد الوهاب. انتهى.
وقررت المص على ظاهره من أن الوصي له الترشيد قبل الدخول وبعده؛ لأنه الراجحِ كما قاله أبو علي. وقال أبو علي بعد أن نقل كلام المتيطيّ الذي قدمته عن البناني: حَاصِلُ كَلَامِ المتيطى أن الوصي فيه قولان، قيل يرشد الأنثى بعد البلوغ وقبل البناء، وقيل لا. وأما بعد البناء فالمشهور وما به العمل يرشد، فالمص مر على أن القول الأول هو المعتبر، وأنه يرشد قبل البناء وهذا كلام صحيح لا شك فيه؛ لأنه هو الراجح. انتهى المراد منه.
وفي مقدم القاضي خلاف يعني أنه اختلف في مقدم القاضي هل هو كالوصي فيكون له ترشيدها قبل البناء وبعده كما هو ظاهر المص؟ وإن لم يعرف رشدها إلا من قِبَلِهِ وهذا القول شهره المازري وغيره، أو ليس له ترشيدها إلا بعد ثبوت ما يوجب إطلاقه لها وشهره المتيطى؟ وقوله:"خلاف" مبتدأ وخبره قوله: "في مقدم"، وقال عبد الباقي: وفي مقدم القاضي خلاف في ترشيده لها بعد الدخول فقط، أو ليس له لا قبل الدخول ولا بعده وهو الراجح. انتهى.
(1)
في البناني ج 5 ص 297: بيتها.
وناقشه الرهوني في ذلك وقال: إن تشهير المازري هو الصواب، ويأتي الكلام على قول عبد الباقي إن شاء اللَّه تعالى.
تنبيهات:
الأوَّلُ: وقع في شرح عبد الباقي ما نصه: وفائدة ترشيد الأب لها من غير ثبوته أنه لا يجوز له تزويجها إلا بإذنها كما مر في قوله "والثيب تعرب كبكر رشدت"، وأما بيعها ومعاملاتها فهي محجور عليها فيها فلا يمضي شيء من ذلك إلا بإجازة أبيها. انتهى. قوله: وأما بيعها ومعاملاتها لخ، قال البناني: مثله في الخرشي وهو غيرُ صحيحٍ، وكأنهما خرجا به عن المذهب، وقد قدمنا الكلام في ذلك أول النكاح وأن الترشيد لا يتبعض. انتهى.
الثَّانِي: قال البناني: عند قوله "وفي مقدم القاضي خلاف" مستدلا لكلام المص ما نصه: قال المتيطى: واختلف أيضًا هل لمقدم القاضي ترشيدها بعد البناء بها؟ فالمشهور من القول أنه ليس له ذلك إلا بعد ثبوت ما يوجب إطلاقه لها وبعد أمر القاضي له بذلك، وكما أدخلها في الولاية قاض، فلا يجوز أن يطلقها منه إلا قاضٍ. وقاله ابن زرب وغيره. ونحوه لعبد الوهاب. وقيل إن إطلاقه من الحجر إلى نظره بغير إذن القاضي جائز وإن لم يعرف رشدها إلا بقوله: ونحوه في كتاب محمد. انتهى.
وقال في التوضيح: وأما المقدم من جهة القاضي فالمشهور على ما قاله المازري وغيره أنه كوصي الأب؛ لأن القاضي جبر به الخلل الكائن بترك الأبِ تقديمَ وصيٍّ لهذا الابن. انتهى.
الثَّالِثُ قال البناني: حاصل ما جرى به العمل عندنا في الأقسام المتقدمة أن غير البالغ من المذكور أفعاله مردودة ولو ظهر به شبه رشد فلا عبرة بذلك، والبالغ منهم إن كانت له حالة الرشد فأفعاله ماضية والضد بالضد، ولا اعتبار بحجر ولا فك كان له أب أم لا، كان له وصي أو مقدم أم لا فالمدار على الحال مطلقًا وإن جهل حاله وله أب ففعله مردود إلى ظهور رشده، وإن كان له وصي أو مقدم ففعله مردود إلى الفك وإن لم يكن له حاجر ففعله جائز هذا حكم الذكور، وَأمَّا الإناث فمن لم تبلغ منهن فأفعالها مردودة مطلقًا، ومن بلغت ولها أب فمن حالها الرشد ففعلها ماض والعكس بالعكس، وإن جهل حالها ففعلها يمضي بمضي عام من دخولها، وذات الوصي أو المقدم فعلها ماض إن علم رشدها، فإن علم السفه أو جهل حالها لم يمض فعلها إلا بفك الوصي
أو المقدم، ولا فرق بين مسنة وصغيرة وبالغة. نَعَم العانسُ المهملة يمضي فعلها بمجرد التعنيس ولو لم تتزوج. انتهى. ما حصله الشيخ أبو علي في شرح التحفة. اهـ.
وقوله: "وشهادة العدول على صلاح حالها" هذا هو المشهور وهو الذي مر عليه المص، قال الحطاب عن ابن رشد: والمشهور في البكر ذات الأب أنها لا تخرج من ولاية أبيها ولا تجوز أفعالها وإن تزوجت حتى يشهد العدول على صلاحها، والذي جرى به العمل عندنا أن تكون أفعالها جائزة إذا مرت لها سبعة أعوام من دخول زوجها بها على رواية ابن القاسم والأنثى المهملة إذا علم سفهها لا تجوز أفعالها إلا على قول سحنون وهو قول شاذ.
واعلم أن في البكر ذات الأب سبعة أقوال إذا لم يعلم سفهها، فَقيل: إنها تخرج بالحيض من ولاية أبيها، وَقيل: إنها لا تخرج به حتى تتزوج ويمر بها عام ونحوه من الدخول وقد مر أن هذا القول عليه العمل، وَقيل: ستة، وَقيل: سبعة، وَقيل: عامان، وَقيل: لا تخرج وإن طالت إقامتها مع زوجها حتى يشهد العدول على صلاح حالها. وقد مر أن هذا هو المشهور وهو الذي مر عليه المص. وقيل: تخرج بالتعنيس وإن لم يدخل بها زوجها. فهذه سبعة أقوال. الأَوَّلُ رواه ابن غانم وابن زياد عن مالك، والثَّانِي نص عليه غير واحد من الأشياخ وهو قول مطرف في كتاب ابن حبيب فتكون أفعالها قبل العالم مردودة ما لم يعلم رشدها وجائزة بعده ما لم يعلم سفهها، والرابع ينسب لابن القاسم، والخامس لابن نافع، والسادس هو مذهب الموطأ والمدونة والواضحة وهو المشهور كما عرفت نص عليه ابن رشد وعياض وغيرهما، والسابع جرى به العمل.
وَأما اليتيمة المهملة ففيها أيضًا سبعة أقوال والسابع مخرج، قِيلَ: إن أفعالها جائزة بعد البلوغ وَقِيلَ: لا تجوز حتى يمر بعد الدخول العام ونحوه أو العامان ونحوهما، وَقِيلَ: الثلاثة الأعوام ونحوها، وقيل: حتى يدخل ويشهد العدول على صلاح حالها، وَقِيلَ: إذا عنست وإن لم تتزوج فهذه ستة أقوال، ويتخرج فيها قول سابع وهو أن تجوز أفعالها بمرور سبعة أعوام، والمشهور فيها أن تكون أفعالها جائزة إذا عنست أو مضى لدخول زوجها بها العام وهو الذي جرى به العمل، فإن عنست في بيت زوجها جازت أفعالها باتفاق إذا علم رشدها أو جهل حالها وردت إن علم سفهها، والأقوال التي تقدمت في ذات الأب جميعها إنما هي إذا لم يعلم سفهها، وأما
إن علم سفهها فأفعالها مردودة، وكذلك المهملة إذا علم سفهها فلا تجوز أفعالها إلا على قول سحنون، وهو قول شاذ كما مر، بخلاف الذكر إذا جهل سفهه وكان مهملا فإن أفعاله جائزة عند جميع أصحاب مالك إلا ابن القاسم. انظر الحطاب والشارح.
وما مر عن مطرف أن أفعال ذات الأب قبل العام مردودة ما لم يعلم رشدها هو للشارح وفيه بعض مخالفة لما في تعميم الحطاب، وهو قوله: والأقوال التي تقدمت في ذات الأب جميعها إنما هي إذا لم يعلم سفهها، فإنه صادق بما إذا علم رشدها وبما إذا جهل حالها. واللَّه تعالى أعلم.
الرَّابعُ: قد مر لعبد الباقي أن مقدم القاضي إنما يرشد على القول بترشيده بعد الدخول لا قبله، وقد مر أنه خلاف ظاهر المص، قال الرهوني: وقد قال الشيخ أبو علي: يصح للمقدم أن يرشدها قبل البناء وهو ظاهر المتن؛ إذ فرض المسألة فيما قبل البناء، ومما يدل على هذا أن ابن غازي والحطاب لم يعترضا هنا ظاهر كلام المتن، وكلام المتيطى في المقدم ظاهره أنه لا يرشد قبل البناء وأن المشهور أنه لا يرشد بعد البناء، ولا أظنه يصح بدليل كلام الناس. انتهى.
قال الرهوني بعد هذا الكلام -وقد جلب قبله ما هو كالشاهد له- ما نصه: وبهذا كله تعلم ما في قول الزرقاني أو ليس له لا قبل الدخول ولا بعده وهو الراجح. واللَّه أعلم. انتهى.
الخَامسُ: قد مر عند قول المص: وشهادة العدول على صلاح حالها أن المشهور أنه يكفي عدلان، ونحوه في تبصرة ابن فرحون أول القسم الثاني، ونصه: الشهادة في الترشيد والتسفيه، قال ابن الماجشون وغيره من أصحاب مالك: يشترط فيهم الكثرة وأقلهم أربعة والمشهور أنه يجزئ في ذلك اثنان. انتهى. لكن ظاهر المص الأول وهو الذي جرى به العمل. انتهى. وعليه درج صاحب التحفة. قال أبو علي في حاشيته على شرحها: وحاصل ما ذكره ابن سهل والجزيري في وثائقه في هذا أن تكثير الشهود في الترشيد والتسفيه شرط، وأقل الكثرة عند ابن الماجشون أربعة وتجوز فيهما شهادة الرجال والنساء أو الرجال فقط، ولابد أن يكون الشهود من الجيران ومن يرى يعلم ذلك إلا أن يفقدوا فيشهد الأباعد. انتهى.
وَلَما جرى في كلامه ذكر الولي تكلم عليه فقال: وَالولي الأب يعني أن الأب هو الذي يلي الحجر على الولد إذا كان صغيرا أو بالغا له سفيها حيث لم يطرأ سفهه بعد البلوغ بل بلغ سفيها، وأما لو
بلغ رشيدا ثم طرأ له السفه فيقدّم الحاكم عليه، قال عبد الباقي: والولي على المحجور صبيا أو سفيها -لم يطرأ عليه سفهه بعد بلوغه- الأبُ المسلمُ الرشيدُ، لا الجد والجدة والأم والعم إلا بإيصاء، وقدم الحاكم على من طرأ سفهه بعد بلوغه وخروجه به من حجر أبيه كعلى وصي أب كافر أو سفيه مهمل كذي وصي على ما به العمل، وفي ابن عاصم المشهور خلافه إذ قال:
ونظر الوصي في المشهور
…
منسحب على بني المحجور
انتهى. وقال الخرشي: يعني أن الأب إذا كان رشيدا هو الذي ينظر في أمور المحجور عليه صبيا أو سفيها، فغير الأب من الأقارب لا نظر له على المحجور عليه إلا بإيصاء من الأب أو الحاكم: واختلف إذا كان الأب سفيها هل ينظر وصيه على أولاده أو لا ينظر إلا بتقديم خاص؟ في ذلك خلاف. انتهى. وَقولُ عبد الباقي: وقدم الحاكم على من طرأ سفهه لخ صحيحٌ نقله الحطاب عند قوله: "وإنما يحكم في الرشد" لخ عن وثائق الجزيري وابن سلمون. وقال المتيطى: وكذلك لو بلغ رشيدا ثم حدث به السفه فإنه يثبته عند القاضي ويقدمه للنظر له إن رأى ذلك وهو أحق بالتقديم عليه إذا كان من أهل النظر. انتهى. وقوله: "كعلى وصي كافر" أي كما يقدم الحاكم على صبي ذي وصي كافر أو سفيه مهمل، وقول ابن عاصم:
. . . . . . . . . . . . .
…
منسحب على بني المحجور
قال الشيخ ميارة: الظاهر واللَّه أعلم أن هذا في حياة الأب فقط، وأما بعد موته فلا يكون ناظرا على بنيه لأن نظره لهم كان بسبب التبع لأبيهم. انتهى. وقوله:"والولي الأب" معناه أنه يحوز له مالَه ويتصرف فيه بالنظر ويكون أبير الولد إليه، وهذا إذا كان ينظر له بالنظر السديد وإلا فلا يمكن من قبض ماله، قال الزقاق:
وللبعض نزع الشيء من يد حائز
…
إذا خيف أمر بالبقاء ويجعلا
بحفظ أمين هكذا منع والد
…
فقير من أخذ المال لِلْوُلْدِ فاعملا
قوله: منع والد، أشار به إلى ما ذكره ابن عرفة: شاهدنا شيخنا ابن عبد السلام حكم بمنع أب قبض إرث ابنه الصغير، فكلمته فيه فقال لي: إنه فقير، وكان الفقيه أبو إسحاق بن عبد الرفيع يحكم بذلك. انتهى.
وله البيع هذا بيان منه رحمه اللَّه تعالى للتصرف الذي يتصرف فيه الولي في مال المحجور؛ يعني أن الأب له أن يبيع مال ولده المحجور عليه بوجه النظر والسداد، ولا إشكال في اشتراط وجود سبب أيّ سبب كان؛ إذ لا يحل للأب فيما بينه وبين اللَّه تعالى أن يبيع بدون سبب أصلا. مطلقًا أيّ أن يبيع مطلقًا أي كان المبيع ربعا أو غيره. وإن لم يذكر سببه يعني أن الأب إنما يبيع مال ولده على وجه النظر والسداد، فلا يبيعه إلا لسبب من الأسباب ويحمل في بيعه على النظر والسداد، وأنه ما باع إلا لسبب فلهذا يمضي بيعه وإن لم يذكر السبب الذي لأجله باع لكن اختلف فيما إذا باع لنفسه، فقيل: يمضي وهو محمول على النظر والسداد وقيل: لا يمضي لأنه إذا باع لنفسه لا يحمل على النظر والسداد، بل على غيره حتى يثبت النظر، فمحل الخلاف إنما هو فيما إذا باع لنفسه متاع ولده، فقال ابن سلمون والمتيطى وابن سهل: يحمل على السداد وهو ظاهر النوادر، وقال ابن رشد: يحمل على غير السداد ودرج عليه في الشامل ونحوه في الحطاب.
ونص ابن عرفة: المتيطى: بيعُ الأب على صغار بنيه أو أبكار بناته محمولٌ على النظر حتى يثبت خلافه، قال بعض الشيوخ: اتفاقا إلا في شرائه لنفسه فهو على العكس، قال: ولا اعتراض للابن بعد رشده فيما باعه عليه أبوه. قاله ابن القاسم في الواضحة والثمانية وغيرهما. ابن حبيب عن أصبغ: يمضي بيعه وإن باع لنفعة نفسه ثم رجع لقول ابن القاسم إن باع لمنفعة نفسه وتحقق ذلك فسخ. انتهى. وأطلق في الفسخ فظاهره كان الأب موسرا أو معسرا وهو كذلك عند ابن القاسم. ابن رشد: وحكُم ما باعه الأب من مال ولده الصغير في مصلحة نفسه أو حابى به حكمُ ما وهبه أو تصدق به يفسخ في القيام، وحكمه في الفوات ما ذكرناه في الهبة والصدقة، غير أنه إذا غرم يرجع على الأب بالثمن. انتهى. وقال قبل هذا: فرق ابن القاسم بين أن يعتق الرجل عبد ابنه الصغير وأن يتصدق به أو يتزوج به، فقال: إن العتق ينفذ إن كان موسرا ويغرم القيمة لابنه ويرد
إن كان معدما إلا أن يطول الأمد فلا يرد. أصبغ: لاحتمال أن يكون حدث له خلالَ ذلك يسر لم يعلم به، وأما إن علم أنه لم يزل عديما في ذلك الطول فإنه يرد، وقال: إن الصدقة ترد موسرا كان أو معسرا، فإن فاتت الصدقة بيد المتصدق عليه بأمر من السماء لم يلزمه شيء وغرم الأب القيمة، وإن فاتت في يده باستهلاك أو أكل والأب عديم لزمه غرم قيمتها ولم يكن له رجوع على الأب. هذا الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في القسمة من المدونة.
وقال في التزويج: المرأة أحق به دخل أم لا، موسرا كان الأب أو معسرا ويتبع الابن أباه بقيمته. انتهى باختصار. ونقله مصطفى بتمامه، ثم قال: فَالحَاصِلُ على مذهب ابن القاسم لا فرق بين عسر الأب ويسره في رد البيع والهبة وعدم رد ما يتزوج به، وإنما الفرق بين اليسر والعسر في العتق وعلى هذا درج المؤلف بقوله:"كأبيه إن أيسر"، ثم قال: فظهر لك أن قول ابن القاسم هذا هو المعتمد، وللأخوين التفريق بين اليسر والعسر في البيع والرهن والهبة والصدقة والتزويج فأمضيا ذلك مع اليسر ورداه مع الإعسار. انتهى.
وَأطَالَ الحطاب فجلب كلامهما في النوادر وترك قول ابن القاسم المعتمد وهو مذهب المدونة وما ينبغي له ذلك. انتهى. قلت: قال ابن ناجي على قول المدونة في القسمة: وترد الصدقة وإن كان الأب موسرا لخ. المغربي: يعني وكذلك الهبة هما سواء، وما ذكره هو المشهور وأحد الأقوال الثلاثة، ثم ذكر قول الأخوين بالتفريق بين اليسر والعسر مطلقًا وقول أصبغ بالمضي من غير تفريق مطلقًا، ثم قال: قال في النكت: قال أبو محمد: الفرقُ بين عتق الأب عبدَ ابنه الصغير عن نفسه وبين صدقته بماله أو هبته للناس أن العتق أوجب الأب على نفسه تمليك شيء يتعجله، وهو ملك الولاء وإنفاذ العتق على نفسه، فذلك تمليك منه لنفسه مالَ ولده وله أن يتملك مالَ ولده الصغير بالمعاوضة، فأجزنا ذلك وألزمناه. وأما الهبة والصدقة فإنما أخرج ذلك من ملك ولده إلى ملك غيره بغير عوض لولده ولا لنفسه. انتهى قاله البناني. وَقال المواق: ابن عرفة: وَلي الموَلَّى عليه أبوه ثم وصيه ثم الحاكم. من المدونة: لا تجوز وصية الجد بولد الولد ولا أخ بأخ وإن قل المال.
ثم وصيه يعني أنه إذا لم يكن للصبي والسفيه ولي فإن الذي يلي أمرهما هو الوصي من قبل الأب، فهو الذي يلي الأب ويقدم على الحاكم لأنه نائب الأب، فإن مات الوصي فوصيه الذي أوصاه ذلك الوصي وهكذا، وإن كان الوصي قد بَعُدَ فوصي الأب مقدم على وصي الوصي ووصي الوصي مقدم على وصي وصي الوصي وهكذا أبدًا، ثم إن لم يكن من ذكر فالحاكم كما مر.
وكمل كالأب؟ يعني أن الشيوخ اختلفوا في الموصي، فمنهم من قال إنه كالأب أفعاله محمولة على السداد حتى يثبت خلافه فيبيع وإن لم يذكر السبب الذي لأجله باع؟ أو هو كالأب في جميع مال المولى عليه؟ إلا الربع فإنه يحمل في بيعه على غير السداد فلا يبيعه إلا بعد ثبوت السبب الذي أراد أن يبيعه لأجله، ولهذا قال: فإنما يبيعه ببيان السبب فالمراد ببيان السبب إثبات السبب بالبينة، والمراد بالسبب السبب الآتي الذي يباع لأجله عقار اليتيم. وقوله: خلاف مبتدأ حذف خبره أي في ذلك خلاف، قال البناني: ظاهر المص تشهير القولين معا، أما القول الأول فقد شهره الجزيري في وثائقه ونصه: فِعْل الوصي محمولٌ على السداد حتى يثبت خلافه هذا هو المشهور. انتهى.
قال مصطفى: ونحوه لابن فرحون في شرح ابن الحاجب، لكن انظر من شهر المقابل؟ انتهى. قلت: قال أبو الحسن في شرح قول المدونة: وهبة الوصي لشقص اليتيم كالبيع لربعه لا يجوز ذلك إلا لنظر ما نصه: عياض: قال بعضه: يظهر من هذا أن فعل الأب محمول على النظر حتى يظهر خلافه، وفعل الوصي محمول على غير النظر حتى يظهر النظر، وهذا إنما هو في الرباع خاصة كذا قال أبو عمران وغيره. قال أبو عمران: وهذا معنى ما في كتاب محمد وما في المدونة يفسره. انتهى من كتاب الشفعة. فهذا يدل على أنهم فهموا أن هذا مذهب المدونة وهو يقتضي ترجيحة. واللَّه أعلم انتهى.
وعلم مما قررت أن المراد ببيان السبب إثباته كما للبناني لا مجرد ذكره كما قال الشيخ أبو علي. قال الرهوني: ما قاله البناني هو الصواب، والحق ما قاله إذ بذلك تظهر ثمرة الخلاف بين القولين، وأما مجرد الذكر باللسان فلا يظهر له كبير فائدة إذ ما من وصي يريد تفويت ربع اليتيم
إلا ذكر بلسانه ما شاء من الأسباب الآتية، وذلك مُتَأَتٍّ لكل أحد بلا كلفة أصلا. انتهى. قوله:"فببيان السبب".
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: الظاهر أنه متعلق بمحذوف تقديره فيبيعه، والباء بمعنى مع أي فيبيعه مع بيان السبب أي إثباته بالبينة كما هو صريح كلام ابن رشد، والظاهر أن مقدم القاضي كالوصي. قاله الحطاب. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيهات
الأول: قوله: "خلاف" قال الرهوني: لا خفاء أن الأول أرجح، وفي المسألة ثالث بالتفصيل بين أن يكون مأمونا ذكرا فالأول وإلا فالثاني، واستحسنه ابن الطلاع. قال أبو علي في حاشية التحفة: وهذا تفصيل حسن لا بأس به عندي، ولكن الذي ينبغي في هذه الأزمنة اتباع ما قابل الراجح أو التوقف في ذلك ومشاورة العدول العارفين، ويجتهد القاضي في ذلك وينظر قرائن الأحوال ويذهب في ذلك مذهب العارف الشحيح في ماله أو مال ولده العزيز عليه. انتهى المراد منه. قال الرهوني: قلت: وما قاله (واضح)
(1)
وإذا قال ذلك في زمنه ففي زمننا أحرى واللَّه أعلم. انتهى.
الثاني: قال الرهوني: ظاهر كلام المص ومن تكلم عليه أنه على القول الأول لا يطلب بالإثبات ابتداء وليس كذلك، وقد قال المتيطى: والأول أحسن أن يذكر في العقد علم الشهود بالوجه الذي باع لأجله، فإن لم يذكر ذلك فالعقد صحيح لأن فعل الوصي محمول على النظر والجواز حتى يثبت خلافه. قاله ابن لبابة، وابن الهندي وابن العطار وابن عتاب. انتهى.
الثالث: قال الرهوني: قال الوانوغي: قال شيخنا يعني ابن عرفة: ظاهر نصوصهم أعم من أن يكون الربع موروثا عن أبي المحجور، أو اشتراه له ثم حدث موجب. قال: وكان شيوخنا يقولون إن الذي اشتراه بمنزلة السلع لا يشترط فيه من الوجوه في بيعه ما يشترط في الموروث، وإنما يحتاج إلى مطلق المصلحة كسائر عروض اليتيم، وعندي الفرق بين أن يشتريه بنية القنية
(1)
ساقطة من خط المؤلف موجودة في الرهوني ج 5 ص 340.
للمحجور فكالموروث وإن كان للتجارة فكالعروض. انتهى. ونقله ابن غازي في تكميله وأقره. انتهى.
الرابع: قوله: "خلاف" محله إذا لم يوص الأب ببيع مال ولده، ففي التوضيح عن ابن رشد ما نصه: ولو أوصى رجل بابنته وأوصى أن يبيع عليها مالها وأصولها جاز ذلك عليها، وإن لم تكن حاجة إذا كان ذلك نظرا كالنكاح. انتهى. وأصله في طرر ابن عات وساقه فقها مسلما. انتهى قاله الرهوني.
الخامس: قال الرهوني: ظاهر كلام المص أن غير الربع الوصي فيه كالأب بلا خلاف وليس كذلك، ولعل المص إنما قصر الخلاف على الربع لأنه ذكر الخلاف في التشهير، فقد قال أبو الحسن: ويخرج من إطلاقهم حيث لم يفرقوا بين الأصول وغيرها القول الشاذ في الوصي أنه محمول في غير الأصول على غير النظر. انتهى.
وتحصل مما مر أن الأب يجوز له بيع عقار ولده بالنظر من غير أن يحصر وجوه النظر في ذلك بعدد مليا كان أو معدما، وأن الوصي لا يجوز له أن يبيع عقار يتيمه إلا لوجوه معلومة حصرها أهل العلم بالعد لها، وستأتي للمص في قوله:"وإنما يباع عقاره". لخ.
وليس لي هبة للثواب يعني أن الوصي ليس له أن يهب مال محجوره للثواب، قال عبد الباقي: لأن الهبة إذا فاتت بيد الموهوب فإنما عليه القيمة والوصي لا يبيع بالقيمة ومثله الحاكم بخلاف الأب. انتهى. أي فله الهبة لثواب لأن له أن يبيع بالقيمة، وقد علمت أن بيعه لا يكون إلا لنظر. قوله:"والوصي لا يبيع بالقيمة" لخ، قال البناني: هو ظاهر إن كان البيع لغير حاجة، وأما إن كان لحاجة فللوصي البيع بالقيمة كما نص عليه المتيطى، وحينئذ يقال: لم لَمْ يكن له في هذا الفرض أن يهب هبة الثواب؟ وأجاب المسناوي رحمه الله بما حاصله أن هبة الثواب إنما بقضى فيها بالقيمة بعد الفوات؛ لأن الموهوب له قبل الفوات يخير بين الرد وإعطاء القيمة، والقيمة التي يقضى بها بعد الفوات إنما تعتبر يوم الفوات، ومن الجائز أن تنقص قيمته يوم الفوات عن قيمته يوم الهبة، فلذلك لم تجز له هبة الثواب لما عسى أن يؤدي إليه من النقص،
بخلاف البيع بالقيمة فإنه يدخل في ضمانه يوم البيع حتى إنه إذا نقص بعد ذلك فلا يعود عليه نقصه. انتهى.
قال الرهوني: الظاهر أن هذا الجواب غير تام لأن هذه العلة التي علل بها تجري أيضًا في الأب مع أن ذلك له جائز. وَالحق في الفرق أن الوصي وإن كان يبيع لحاجة بالقيمة بل بدونها لكن إنما يبيع بذلك بعد تسوق وعدم إلفاء زائد وذلك منتف في هبته للثواب وبيع الأب بالقيمة لا يتوقف على ذلك فافترقا، ثُمَّ وجدت لأبي علي نحو ما ظهر لي، ثم قال -أي الرهوني-: هذا الإشكال، والجواب عنه مبني على أن هبة الوصي للثواب مخالفة لبيعه وينظر مع ما في كتاب الشفعة من المدونة، ونصها: ومن وهب شقصا من دار لابنه الصغير على عوض جاز وفيه الشفعة، ولا تجوز محاباة في قبول الثواب ثم قالت؛ وهبة الوصي لشقص اليتيم كالبيع لربعه لا يجوز ذلك إلا لنظر فيجوز وفيه الشفعة. انتهى باختصار. ثم قال: فإعراض الجم الغفير من المحققين عنه واعتمادهم على ما لعبد الحق واستشكالهم إياه وجوابهم من أغرب الغرائب، وأغرب من ذلك احتجاج الحطاب به للمص مع مخالفته له.
ثم حاكم يعني أنه يلي الوصي الحاكم أو من يقيمه، قال عبد الباقي: ثم إن لم يكن وصي حاكم أو من يقيمه. انتهى. وقال الخرشي عند قوله: "ثم حاكم" ما نصه: يشير به إلى أن مرتبة الحاكم متأخرة عن مرتبة الأب والوصي، فيتولى أمره بنفسه أو يقيم له من ينظر في مصالحه. وباع يعني أن الحاكم يبيع ما دعت الحاجة إلى بيعه من مال اليتيم فيصرف ثمنه في مصالحه، وأشار إلى شروط جواز بيع الحاكم بقوله: بثبوت يتمه يعني أن الحاكم لا يبيع شيئًا من مال اليتيم إلا بعد أن يثبت عنده يتمه والباء للسببية أو بمعنى مع وَهَذَا أوَّلُ الشروط.
ثَانِيهَا قوله: وإهماله يعني أنه يشترط مع ثبوت يتمه ثبوت إهماله أي كونه لا وصي له ولا مقدم قاض.
ثَالِثُها قوله: وملكه لما بيع يعني أنه يشترط لجواز بيع الحاكم مع الشرطين المتقدمين أن يثبت عنده أن هذا الذي يريد بيعه ملك لليتيم، فمعنى بيع قصد بيعه. ويشترط أيضًا أن يثبت عنده أنه الظاهر أن الضمير للبيع الأولى أي أن هذا الذي يراد بيعه أولى بيعه لليتيم من بقائه في ملكه.
وحيازة الشهود له يعني أنه يشترط مع الأربعة شرط خامس أيضًا وهو أن يثبت عنده حيازة الشهود لهذا الشيء الذي يراد بيعه؛ بأن يقول الشهود للحاكم أو لمن وجهه معهم هذا الذي حُزناه هو الذي شهدنا أو شهد بملكه لليتيم خشية أن يقال بعد ذلك ليس المبيع هو الذي شهد بملكه لليتيم، فإن تضمنت شهادة بينة الملك في تشهد به بينة الحيازة من ذكر حدود الدار ومحلها وسائر ما تميز به استغني بها عن بينة الحيازة. قاله عبد الباقي.
وقال في القاموس: الحوز الجمع وضم الشيء كالحيازة. انتهى.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: يتحصل من هذا أن معنى قوله: "وحيازة الشهود له" أن يضبط الشهود في شهادتهم كل شيء من الدار مثلا الشهود بملكها لليتيم بأن يعينوا حدودها ومحلها وجميع أجزائها فتنضم تلك الأجزاء إلى اليتيم وينضم بعضها إلى بعض في ملكه. واللَّه تعالى أعلم.
والتسوق يعني أنه يشترط مع الخمسة أيضًا شرط سادس وهو أن يثبت عنده التسوق بالشيء الذي يراد بيعه أي يوقف في السوق مرة بعد مرة، وعدم إلفاء زائد يعني أنه يشترط في بيع الحاكم أو من يقيمه مع الشروط الستة شرط سابع وهو أن يثبت عنده عدم إلفاء أي وجود من يزيد في الثمن الذي يريد أن يبيع به، والسداد في الثمن يعني أنه يشترط مع السبعة شرط ثامن وهو أن يثبت عنده أن الثمن سداد، بأن يكون ثمن المثل فأكثر عينا حالًا لا عرضا ولا مؤجلا خوف الرخص والعدم.
وعلم مما قررت أن هذه المعطوفات كلها معطوفة على يتمه، وفي تصريحه بأسماء الشهود قولان يعني أن الحاكم إذا ثبتت عنده الشروط المتقدمة بالبينة فأوجبت البينة له البيع، فإنه اختلف هل يلزمه أن يصرح بأسماء الشهود الذين أوجبوا له البيع؟ بأن يقول ثبت ما ذكر بشهادة فلان وفلان، أو لا يفتقر إلى التصريح بأسمائهم بأن يقول ثبت ما ذكر بالبينة الشرعية، ومحل القولين في الحاكم العدل وإلا فلابد من التسمية وإلا نقض، وعلى القول الأول إذا لم يصرح هل ينقض حكمه قياسا على ما يأتي في بيع الغائب من قوله:"وسمي الشهود وإلا نقض" أم لا؟ والأول هو الظاهر أو التعين لما ذكروه هنا من أن الشروط المذكورة هنا في المص شروط لصحة البيع، ولو باع
القاضي تركته قبل ثبوت موجبات البيع، فأفتى السيوري برد بيعه ويلزمه المثل أو القيمة إن فات، وكذا لو فرط في قبض الثمن حتى فر المشتري أو هلك.
لا حاضن يعني أن الحاضن ليس له أن يبيع ومثل للحاضن بقوله: كجد وأخ، قال عبد الباقي: إلا لشرط بوصيته وكذا عرف فيما يظهر لأنه كالشرط كما يتفق في أهل البوادي بموت شخص من غير وصيته، ويحضن الصغير قريب فهو كالوصي كما نقله الطخيخي عن أبي محمد صالح. انتهى. وقال الخرشي: يعني أن الجد ونحوه كالأخ والعم لا يجوز له أن يبيع شيئًا من مال محضونه، سواء كان الحاضن ذكرا أو أنثى، قريبًا أو أجنبيًا. فالمراد بالحاضن هنا الكافل وتمثيله بالجد يوهم قصر الحكم على الأقربين. وقوله:"لا حاضن كجد" قد مر عنده قول عبد الباقي: وكذا عرف فيما يظهر لأنه كالشرط لخ، قال البناني: بهذا أفتى أبو الحسن في آخر مسألة من نوازله، فقال: شأن البادية تصرف الأكابر على الأصاغر في البادية يتركون الإيصاء اتكالا منهم بأنه يفعل من غير إيصاء، فالأخ الكبير مع الأصاغر في البادية بهذا العرف يتنزل منزلة الوصي على هذا درجوا، ثم نقل رواية ابن غانم عن مالك في أن الكافل بمنزلة الوصي بدون هذا العرف، وذكر قول أبي محمد صالح: هذه الرواية جيدة لأهل البوادي لأنهم يهملون الإيصاء. قال ابن هلال عقبه: وبذلك أقول وأتقلد الفتيا به في بلدنا لأنها كالبادية. انتهى.
وعمل بإمضاء اليسير يعني أنه جرى العمل في بيع الحاضن حيث لا شرط بوصيته ولا عرف بأنه يمضي بيعه إذا كان المبيع شيئًا يسيرا، وظاهر المص أن ذلك لا يجوز لتعبيره بالإمضاء مع أنه جائز، فلو قال: وعمل بجواز اليسير
(1)
. قاله غير واحد. وقال الشارح: قال ابن الماجشون في الواضحة: أجاز مالك وغيره من العلماء نظر العم وغيره كالأم والأخ لليتيم دون تقديم من السلطان أو إيصاء من الأب، وأجازوا له ما يجوز للوصي إذا أحسن النظر ولم يتهم. وقال ابن الهندي: إنما يجوز في بلد لا سلطان فيه، وأما ما فيه سلطان فلا يجوز. وفي العتبية: وبه قال أصبغ
(1)
في الخرشي ج 5 ص 298: ولو قل وعمل بجواز اليسير لكان أحسن.
وجرى به العمل أن ذلك يجوز في اليسير دون الكثير، وإليه أشار بقوله:"وعمل بإمضاء اليسير" لكن ظاهر كلامه أن ذلك لا يجوز ابتداء وفيه نظر مع ما تقدم. انتهى.
وقال البناني: ابن هلال: في بيع الحاضن على محضونه اليتيم الصغير اضطراب كثير والذي جرى به العمل ما لأصبغ في نوازله من كتاب المديان والتفليس من العتبية من التفريق بين الكثير والقليل، فيجوز في التافه اليسير، ثم قال: فعلى ما جرى به العمل لا يبيع إلا بشروط وهي معرفة الحضانة وصغر المحضون والحاجة الموجبة للبيع، وأنه أحق ما بيع ومعرفة السداد في الثمن، وتشهد بهذه الشروط كلها بينة معتبرة شرعا وهذا المعنى مستوفى في كتب الموثقين. انتهى.
وذكر في التوضيح أنه إذا قيم على المبتاع فيما باعه الكافل فعليه أن يثبت هذه الشروط، فذكرها وزاد بيان أنه أنفق الثمن عليه وأدخله في مصالحه فانظره، فإذا اختل شرط من هذه الشروط فللمحضون إذا كبر الخيار في رد البيع وإمضائه. قاله أبو الحسن فيما عدا كونه أنفق الثمن عليه ونقله في المعيار أيضًا. واللَّه أعلم. انتهى. قوله: وزاد أنه أنفق الثمن عليه لخ هذا فيه تهافت؛ لأن في عده من شروط جواز البيع أنه متقدم على البيع وصرف الثمن في مصالح المحضون متأخر عن البيع مع أنه مخالف لما نصوا عليه من تصديق الحاضن في صرف ما قبضه من النفقة على محضونه إذا لم يدع سرفا.
وفي حده تردد يعني أن الشيوخ اختلفوا في قدر اليسير الذي يجوز للحاضن بيعه ويمضي إذا باعه، فقال ابن الهندي: عشر دنانير ونحوها، وقال ابن العطار: عشرون دينارا ونحوها، وقال ابن زرب: ثلاثون دينارا، قال عبد الباقي: والظاهر سؤال أهل المعرفة عن القدر الذي يكون ما ذكر يسيرا بالنسبة إليه، فإن قيل لم كان الحاضن غير ولي بالنسبة إلى التصرف بالبيع ووليا بالنسبة إلى النكاح مع أن النكاح أقوى من المال كما قاله أبو بكر بن عبد الرحمن، فالجواب أن النكاح لا يستقل فيه بل بإذن الزوجة والذي يقع منه هو مجرد العقد، بخلاف البيع فإنه لا إذن فيه بالكلية وإن حصل إذن فهو غير معتبر فالبيع أقوى باستقلاله بالتصرف فيه لو جعل وليا كذا وقع في مجلس المذاكرة. انتهى. ونحوه للخرشي.
وللولي ترك التشفع والقصاص يعني أن الولي أبا أو غيره له أن يترك الأخذ بالشفعة للمحجور صغيرا أو بالغا سفيها إذا كان ذلك على وجه النظر للمحجور، وللولي أيضا أبا أو غيره أن يترك القصاص في أطراف الصغير أو في قتل وليه إذا كان ذلك نظرا فيأخذ له الدية، وأما السفيه البالغ فهو الذي ينظر في القصاص لنفسه ولا يحجر عليه فيه كما مر، وإذا ترك الولي الأخذ بالشفعة للمحجور والقصاص للصغير على وجه النظر فإنهما يسقطان أي الأخذ بالشفعة والقصاص، فلا يكون للصغير إذا بلغ ورشد ولا للسفيه إذا رشد أن يأخذا بالشفعة، ولا للصغير إذا بلغ أن يقتص بل يمضي ما فعله الولي من ذلك على وجه النظر. واللَّه تعالى أعلم. بخلاف تركهما على غير وجه النظر فله بعد ذلك القيام كما سيذكره في باب الشفعة بقوله:"أو أسقط وصي أو أب بلا نظر". قاله عبد الباقي.
ولا يعفو يعني أنه إذا استحق الصغير المولى عليه قصاصا فإنه لا يجوز له العفو عن الجاني مجانا أو على أقل من الدية إلا لعسر الجاني أو المجني عليه. المواق: ابن عرفة: في دياتها للأب القصاص في جراح ابنه الصغير ولا عفو له إلا بعوض وكذا الوصي، والنظر في شفعة السفيه للولي فإن سَلَّمَ من ذكرنا من أب أو وصي أو سلطان شفعة الصبي لزمه ذلك. انتهى. وقال الشارح: وقوله: "وللولي ترك التشفع" محمول على ما إذا كان ترك الأخذ هو المصلحة، فإن كان الأخذ هو المصلحة وترك ذلك الولي فإن له إذا رشد الأخذ بشفعته، وكذلك له النظر في قصاص وجب له إما بجناية عليه أو على وليه، وفي المدونة: فإن كان فقيرا محتاجا للإنفاق عليه فترك القصاص وأخذ الدية له أولى فيسقط حينئذ القصاص كما قال، وإن كان غنيا ولا حاجة له بالمال فالقصاص له أولى. قال في المدونة: وليس للأب أن يعفوَ إلا أن يعوضه من ماله يريد ولا يعفو إلا في عمد لا خطإ.
ومضى عتقه بعوض يعني أن وصي المحجور صغيرا أو بالغا سفيها إذا أعتق عبدا لمحجوره عتقا ناجزا بعوض من غير مال العبد، فإن عتقه ماض حيث كان العوض قدر قيمة العبد فأكثر فلو أعتقه بغير عوض رد فعله لأنه إتلاف لمال محجوره، ولا فرق بين الموسر والعسر في رد العتق بغير عوض من غير الأب، كأبيه إن أيسر يعني أن الأب إذا أعتق عبد ولده بعوض قدر قيمة
العبد فإن ذلك العتق ماض، وإن أعتقه بغير عوض فينظر إلى يسر الأب وعدمه فإن كان موسرا مضى عتقه وغرم قيمته، وإن كان معسرا رد فعله. قال في المدونة: ولا يجوز ما وهب أو تصدق أو أعتق من مال ابنه الصغير ويرد ذلك كله إلا أن يكون الأب موسرا في العتق فيجوز ذلك على الابن ويضمن قيمته في ماله، ولا يجوز في الهبة وإن كان موسرا. انتهى. وقد مر أن المعتمد قول ابن القاسم إنه لا فرق بين عسر الأب ويسره في رد بيع الأب ما باع من مال ولد في مصلحة الأب، وكذا الهبة والصدقة فيردان موسرا كان الأب أو معسرا، وأما إن أصدق زوجته مال ولده، فقول ابن القاسم أن ذلك ماض موسرا كان أو معسرا دخل بها أم لا، وأما العتق فيرد إن كان مع معسرا لا إن كان موسرا فإنه يمضي ويغرمه له قيمة العبد. هذا هو المعتمد في الجميع. ومقابله للأخوين التفريق بين اليسر والعسر مطلقًا، وقول أصبغ بالمضي مطلقًا. واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: "إن أيسر" قال عبد الباقي: يوم العتق أو قبل النظر فيه، فإن أعسر لم يجز عتقه ورد إلا أن يتطاول زمانه وتجوز شهادته ويناكح الأحرار فيتبع الأب بقيمته. قاله في المدونة. ابن يونس: وإنما يلزمه العتق إذا أعتق عبد ابنه الذي في ولايته وحجره، وأما عبد ابنه الكبير الخارج من ولايته فلا يجوز عتقه. انتهى نقله عن التتائي. وقال عقبه: فَقَوْلُ أصبغ إن حلف شخص بعتق عبد ابنه الصغير أو السفيه أو الكبير وهو ذو مال فحنث فيهم عتقوا عليه وضعن قيمتهم، وسواء حنث فيهم أو ابتدأ العتق فيهم لَا يُوافِقُ المشهورَ في الكبير، و"مفهوم قوله:"عتقه" أن هبته وصدقته ليستا كذلك وهو كذلك، فترد ولو كان الأب موسرا.
ثُمَّ ذكر من يتولى الحكم في أمور عدها منها الرشد والسفه فقال: وَإنما يحكم في الرشد وضده يعني أنه لا يحكم في الرشد وضده وهو السفه إلا القضاة أي لا يجوز الحكم فيهما إلا من القضاة لا غيرهم، كالوالي ووالي الماء والمحكم وأما نائب القاضي فهو مثله، فإن حكم فيهما غير القضاة مضى إن حكم صوابا وأدب كما يأتي.
والوصية يعني أنه لا يحكم في شأن الوصية أي أصل الوصية أو صحتها، أو بأن هذا وصي لهذا أو بأن الموصى له إذا تعدد يحصل الاشتراك في الموصى به أو يستقل به بعضهم إلا القضاة لا الوالي ووالي الماء والمحكم، فإن حكم غيرهم مضى إن حكم صوابا وأدب. قال عبد الباقي مفسرا
للمص: وأمر الوصية من تقديم وصي ومن كون الموصى له إذا تعدد يحصل الاشتراك أو يستقل به أحدهما، ومن كونه يدخل في الموصَى به الحمل حيث كان حيوانا أولا يدخل ومن صحتها وعدمها وتقديرنا أمر شامل لأصل الوصية حيث لم يوص الأب ولصحتها وعدمها ولغير ذلك. انتهى.
والحبس المعقب يعني أنه لا يحكم أي لا يجوز ابتداء كما عرفت أن يحكم في الحبس المعقب أي المتناول للعقب أي الأولاد إلا القضاة المنتصبون للقضاء لا الوالي ووالي الماء وغير ذلك ممن ليس بقاض والحبس المعقب أي صحة وبطلانا، وأن هذا الحبس معقب أو غير معقب قال عبد الباقي: والحبس المعقب أي المتعلق بموجود ومعدوم كحبس على زيد وعقبه ونسله لأنه حكم على غائب، وأما غير المعقب كحبس على فلان وفلان فلا يتقيد بالقضاة لكون الحكم فيه على غير غائب، وينبغي أن مثل المعقب الحبس على الفقراء. انتهى. ونحوه للخرشي وفيه ممثلا للحبس غير المعقب كفلان وفلان مثلا لكون الحكم فيه على غير غائب. انتهى.
وأمر الغائب يعني أن أمر الغائب لا يحكم فيه إلا القضاة يعني الغائب غير المفقود، وأما المفقود فقد مر أن لزوجته الرفع للوالي ووالي الماء لا القاضي فقط، قال عبد الباقي: وأمر الغائب غير المفقود إذ لزوجته الرفع للوالي ووالي الماء كما قدم لا القاضي فقط، على أن التقييد بغير المفقود إيضاح، وإلا فالغائب في اصطلاح الفقهاء من علم موضعه والمفقود من لم يعلم موضعه، وإنما أقحم لفظ أمر لأن ذات الغائب لا تقبل الحكم بخلاف البواقي فإن ذاتها تقبله. انتهى. ونحوه للخرشي.
والنسب يعني أن النسب كفلان من نسب فلان لا يجوز أن يحكم فيه ابتداء إلا القضاة. والولاء يعني أن الولاء كفلان له الولاء على فلان لا يجوز أن يحكم فيه ابتداء إلا القضاة المنتصبون للقضاء لا غيرهم، وحد يعني أنه لا يجوز أن يحكم في الحدود ابتداء إلا القضاة لا غيرهم. وقوله:"وحد" يأتي له أن الرقيق يقيم عليه السيد حد الزنى إن لم يتزوج أو تزوج بملك سيده وأما إن تزوج بغير ملك سيده فلا يقيم ضليه الحد إلا الحاكم كما لو كان يقام الحد على الحر فلابد من تخصيص كلامه هنا بهذا. واللَّه تعالى أعلم.
وقصاص يعني أن القصاص في نفس أو طرف لا يجوز أن يحكم فيه ابتداء إلا القضاة لا غيرهم، ومال يتيم يعني أنه لا يجوز أن يحكم في مال الأيتام ابتداء إلا القضاة، قال عبد الباقي عند قول المص:"ومال يتيم" ما نصه: كان الأولى أن يقول وأمر يتيم أي تسفيها وترشيدا وبيعا وقسما وغير ذلك. انتهى. قال البناني: قوله كان الأولى أن يقول وأمر يتيم أي تسفيها وترشيدا لخ، أما التسفيه والترشيد فهما قول المص أولا في الرشد وضده، وأما ما بعدهما فكله داخل في قول المص:"ومال يتيم" وحينئذ فلا حاجة لهذا التصويب. انتهى المراد منه.
القضاة فاعل "يحكم"، جمع قاض كغاز وغزاة ورام ورماة أي وإنما يحكم في هذه الأمور العشرة القضاة لخطرها، والمراد لا المحكمون أو الوالي أو والي الماء، قال عبد الباقي: فالحصر إضافي أي بالإضافة إلى هذه الثلاثة لا حقيقي إذ يصح وقوعه بنائب القاضي وبالسلطان وبغير قضاء بالكلية، فالمراد أن هذه حيث احتيج إلى الحكم فيها فإنما يكون من القضاة، ولذا قال: إنما يحكم دون إنما تقع وزيد على هذه العشرة العتق والطلاق واللعان. وقال بعض: إن زيادتها ضعيفة. وَاعلم أن هذه الأمور التي ذكرها هنا إن حكم فيها غير القضاة مضى ذلك إن كان صوابا وَأُدبَ، وكذا ما زيد عليها كما يأتي للمص في باب القضاء.
وَلما قدم أن ربع اليتيم لابد للوصي من بيان السبب الذي أراد بيعه لأجله على أحد قولين، أخذ يبين وجوه ذلك السبب وهي أحد عشر وجها يُكتَفَى في بيعه بكل واحد منها ذكر منها عشرة فقال: وإنما يباع عقاره لحاجة الضمير في عقاره لليتيم، يعني أنه لا يجوز أن يباع عقار اليتيم إلا لوجه من هذه الوجوه منها الحاجة فيباع عقار اليتيم لأجل حاجة لحقته من نفقة أو وفاء دين لا وفاء له إلا من ثمنه لأنه إنما حفظ ماله من أجل الإنفاق عليه، قال عبد الباقي: وإنما يباع عقاره أي اليتيم الذي لا وصي له وباع الحاكم بشروطه المتقدمة أوله وصي على أحد المشهورين المتقدمين، وهو قوله:"أو إلا الربع فببيان السبب". انتهى.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: وهذا لا يقتضي أن الوصي على القول الآخر لا يبيع بهذه الوجوه، بل إنما يفيد أن الوصي هو الذي يبيع لأحد هذه الوجوه دون الحاكم.
أو غبطة يعني أن من الوجوه المذكورة الغبطة بأن يزيد في ثمنه أو قيمتة قدر الثلث. قاله عبد الباقي. وزاد: وقول المدونة أن يزيد أضعاف الثمن لعله غير مقصود وأن يكون الثمن حلالا. ابن عرفة: الأخذ بظاهر هذا يوجب تعذره. أبو عمران: إن علم الوصي أن مال المشتري خبيث أي كله لا جلُّه ضمن، وإن لم يعلم لم يضمن وللابن إلزام المبتاع ثمنا حلالا أو تباع الدار عليه، زاد في هذا الوجه: ويرجو أن يعوض له ما هو أفيد. انتهى.
وأما الأب فتقدم أنه يبيع لهذه الوجوه ولغيرها مما هو مصلحة لأن بيعه وشراءه بالمصلحة وهي أعم من هذه الوجوه؛ إذ قد يكون بيعه ليتجر به، وفي أبي الحسن والتوضيح ما يفيد أنه لابد أن يبيع لأحد هذه الوجوه كذا للأجهوري، وفي أحمد عن التوضيح خلافه. وأما عقار السفيه فإنما يباع أيضًا لمصلحة وإن لم تكن أحد هذه الوجوه. انتهى. قوله: وقيد بأن يكون الثمن حلالا ابن عرفة: الأخذ بظاهر هذا يوجب تعذره لعله سقط منه شيء، ونص ابن عرفة: قال ابن فتوح عن سحنون: ويكون مال المبتاع حلالا طيبا، ونقل عنه المتيطى إن كان مثل عمر بن عبد العزيز، قلت الأخذ بظاهر هذا يوجب تعذره فالتعذر إنما هو مرتب على نقل المتيطى. وقوله: وللابن إلزام المبتاع ثمنا حلالا لخ كذا لابن عرفة عن أبي عمران، والذي في التوضيح عنه أي وللوصي إلزام المبتاع ثمنا لخ. وقوله: كذا للأجهوري عن التوضيح وفي التوضيح عن أحمد خلافه، العجب من هذا القصور. ونص التوضيح عن ابن عبد السلام ظاهر الذهب أن الأب يبيع على ولده الصغير والسفيه الذي في حجره الربع وغيره لأحد هذه الوجوه أو غيرها، وفعله في ربع ولده كغيره من السلع هو محمول على الصلاح، وإنما يحتاج إلى أحد هذه الوجوه الوصي وحده. انتهى. وبه تعلم ما في قول الزرقاني: وأما عقار السفيه الخ؛ لأنه إن أراد بالسفيه ذا الأب فهو كالصغير في ذلك، وإن أراد به ذا الوصي فباطل إذ لا فرق في التقييد بهذه الوجوه بين الصغير والكبير. انتهى قاله البناني.
تنبيهات:
الأول: من الوجوه التي يباع لواحد منها عقار المحجور المذكور الخوف عليه أي على العقار من سلطان أو غاصب، قال البناني: وهذا زاده في الطرر وذكره ابن عرفة وغيره، قال في شرح الزقاقية: وكأنه من باب قولهم: يجوز للإنسان أن يدفع عن نفسه الضرر إن قدر وإن علم
أنه ينزل بالغير. انتهى. قلت: أو يقال إنه يبيعه لمن لا يخاف من الغاصب فلا محذور. واللَّه تعالى أعلم قاله البناني.
الثاني: إذا بيع العقار المذكور بغير واحد من هذه الوجوه فإنه يفسخ، صرح بذلك المتيطى ولم يذكر فيه خلافا فضلا عن أن يكون القول بمضيه عليه العمل نقله أبو علي مقتصرا كأنه الذهب. ولم يحد فيه خلافا.
الثالث: قوله: "غبطة" بالكسر، قال في القاموس: الغبطة بالكسر حسن الحال والمسرة.
أو لكونه موظفا يعني أن عقار اليتيم يباع لأجل كونه موظفا أي عليه توظيف أي مكس فيباع ويؤخذ له عقار لا توظيف عليه. أو حصة يعني أن عقار اليتيم يباع لكونه حصة أي جزءا أمكن قسمه أم لا، أراد شريكه البيع أم لا فيباع ويشترى له بثمنه عقار
(1)
غير حصة. أو قلت غلته يعني أن عقار اليتيم وقد علمت أن مثله السفيه البالغ الذي لا أب له في هذه الوجوه كلها يباع عقاره لكون غلته قليلة فيباع ويستبدل خلافه مما له غلة كثيرة. قال غير واحد: والذي في توضيحه وقريب منه لابن عرفة أو لكونه لا يعود عليه منه شيء ومثله في وثائق الغرناطي.
البناني: في هذا التعقب نظر؛ إذ في التوضيح ما نصه: الأول أن لا يعور عليه منه شيء، الثاني أن يبيعه ليعوضه ما هو أفيد منه. انتهى.
فيستبدل خلافه يعني أنه إذا بيع عقاره لشيء مما ذكر فإنه يستبدل خلافه أي يشترى له بثمنه عقار مخالف للعقار الذي بيع له وهو راجع لما عدا البيع لحاجة حتى ما يبيع لغبطة كما يفيده المواق. وفي أحمد كالشارح أنه لا يشترط فيه أيضًا استبدال خلافه، وراجع أيضًا لما سيأتي ما عدا إرادة شريكه بيعا، قال عبد الباقي: يحتمل تقدير المص فيستبدل عقارا خلافه ويحتمل خلاف العقار، المذكور فيشمل استبداله بغير العقار ولا يشترط كون البدل كاملا إلا ما بيع لكونه حصة. انتهى. والظاهر من جهة النقل الاحتمال الأول.
(1)
في الأصل: عقارا.
أو بين ذميين يعني أن من الوجوه التي يباع لها عقار المحجور المذكور كونه بين ذميين فيباع ويشترى له بثمنه عقار في موضع صالح. قال عبد الباقي مفسرا للمص: أو لكونه أي مسكنه بين ذميين وإن قلوا فيستبدل له مسكنا بين مسلمين، لا عقاره للتجر لغلوه غالبا بمصر بين ذميين. انتهى.
أو جيران سوء يعني أن من الوجوه التي يباع لأجلها عقار المحجور المذكور كونه بين جيران سوء يحصل منهم ضرر في الدين أو في الدنيا، فيباع ويجعل ثمنه في موضع صالح، أو لإرادة شريكه بيتا ولا مال له يعني أن من الوجوه التي يباع لأجلها عقار المحجور أن يريد شريكه فيه بيعا، والحال أنه لا مال له يشترى له به حصة شريكه فيباع وإن لم يستبدل خلافه، أو لخشية انتقال العمارة يعني أن من الوجوه التي يباع لشيء واحد منها عقار المحجور المذكور أن يخشى انتقال العمارة عنه. المواق: ابن شأس: ومن هذه الوجوه كون العقار بموضع خرب أو يخشى انتقال العمارة من موضعه فيستبدل بثمنه في موضع أصلح منه. انتهى. وقال عبد الباقي: أو لخشية انتقال العمارة عنه فيصير منفردا. انتهى.
أو الخراب ولا مال له يعني أن من هذه الوجوه خشية خراب عقاره ولا مال له يعمر به أو له ما يعمر به، ولكن البيع أولى من العمارة كما قال: أو له والبيع أولى أي أصلح لليتيم من العمارة.
تنبيه:
زاد ابن أبي زمنين وابن زياد على هذه الوجوه كون الدار أو الحصة مثقلة بمغارم لا تفي أجرتها بها، وقد يقال إن المص استغنى عن هذا بالموظفة، وزاد ابن عرفة عن ابن الطلاع أن يخشى عليها النزول، ولعل المص استغنى عنه، بما يخشى انتقال العمارة عنه ونظمها بدر الدين الدماميني نظما مختصرا فقال:
إذا بيع ربع عن يتيم فبيعه
…
لأشياء يحصيها الذكى بفهمه
قضاء وإنفاق ودعوى مشارك
…
إلى البيع فيما لا سبيل لقسمه
وتعويض كلّ أو عقار محرر
…
وخوف نزول فيه أو خوف هدمه
وبذل الكثير الحل في ثمن له
…
وخفة نفع فيه أو ثقل غرمه
وترك جوار الكفر أو خوف عطله
…
فحافظ على فعل الصواب وحكمه
قاله البناني. وقوله: أو عقار محرر معناه -واللَّه تعالى أعلم- أن يباع لأجل أن يستبدل له بعقار محرر من التوظيف إذا كان هذا الذي يراد بيعه موظفا عليه كما يفيده ما قدمه البناني قبل إتيانه بالأبيات، وبقي على المص من هذا الفصل الابتلاء للرشد وهو مطلوب، قال تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ، قال ابن شأس: الابتلاء للرشد مطلوب وفي كونه قبل البلوغ. قاله الأبهري. والبغداديون. ابن عرفة: وهو أبين. المازري: الأشهر أنه بعد البلوغ. انتهى. والابتلاء الاختبار. المتيطى: للوصي أن يدفع لليتيم بعض ماله يختبره به كالستين دينارا ولا يكثر جدا إن رأى استقامته فإن تلف لم يضمنه. ابن حبيب: والوصي مصدق فيما دفع له من ذلك. قاله المواق.
وَلما فرغ من المحاجير الثلاثة: الصبي والسفيه والمجنون، شرع في المحجور الرابع فقال: وحجر على الرقيق يعني أن الرقيق محجور عليه بالأصالة لحق سيده، قال عبد الباقي: وحجر على الرقيق عدل عن قول ابن الحاجب وابن شأس وللسيد الحجر على رقيقه للاعتراض عليهما بأن لفظهما يوهم أصالة جواز أفعاله، مع أن الرق يوجب أصالة الحجر فلا يقدر هنا حجر السيد لأنه يرد عليه في عليهما، بل يقدر حجر الشرع على الرقيق لحق السيد، ويمكن أن يقال حجر السيد أصالة على رقيقه بأنواعه أي أنواع الرقيق في مال نفسه، كثيرا أو قليلا، قنا أو ذا شائبة، مفرطا لماله أو حافظا، كان عن معاوضة أو غيرها لحق سيده لِما لَه في زيادة قيمته، والتعليل بكونه له انتزاعه قاصر لأن بعض الأرقاء لا ينتزع ماله. انتهى.
وقال المواق: ابن عرفة: الرق سبب في الحجر. اللخمي: المدبر والعتق لأجل وأم الولد كالقن، قال في المدونة: لا يجوز للعبد في ماله بيع ولا إجارة، قال ابن القاسم: من واجر صبيا أو عبدا بغير إذن سيده فعليه الأكثر مما سمى وأجر المثل فإن عطب العبد كان للسيد قيمة عبده. انظر كتاب الجعل من المدونة. انتهى.
إلا بإذن الإذن يتقرر بما دل عليه من قول أو فعل. قاله الحطاب. يعني أن محل الحجر على الرقيق إنما هو حيث لم يؤذن له في التجارة: وأما إن أذن له في التجارة صريحا كأنت مأذونٌ لك أو ضمنا كالمكاتب فليس للسيد الحجر عليه، قال عبد الباقي إلا بإذن له في تجارة ولو حكما ككتابة فإنها إذن له حكما وكشرائه بضاعة له ووضعها بحانوت وأمره بالجلوس به، والمأذون من
أذن له سيده أن يتجر في مال نفسه ولو كان ربحه للسيد أو في مال دفعه له السيد على أن الربح للعبد، فإن كان للسيد فوكيل لا مأذون كذا يفيده أبو الحسن. والفرق بين هذا الرابع والثاني أن المال فيه ملك العبد واشتراط ربحه لسيده لا يخرجه عن كونه ملكه، بخلاف الرابع فإن المال فيه للسيد لا ملك للعبد فيه. قال أحمد: إذا أذن له السيد أن يتجر في ماله فله أن يتجر في مال نفسه أيضًا بخلاف عكسه، وإذا لحقه دين كان في المالين. انتهى.
وانظر لو دفع له مالا وأذن له في التجر فيه على أن يكون نصف ربحه له ونصفه الآخر للعبد والظاهر أنه يجري كل على حكمه، وإذا لحقه دين في المال كله فنصفه على السيد إن لم يكن بقي معه من أصل المال شيء ونصفه على المأذون ولا علقة على السيد فيه بشيء. انتهى.
ولو في نوع يعني أن السيد إذا أذن لعبده أن يتجر في نوع من الأنواع كالبز مثلا بأن قال له: اشتر البز فالبز هو المأخوذ عوضا عما في يده كما يأتي عن الرهوني ما يفيده، فإنه يكون مأذونا له أن يتجر في جميع الأنواع من بز وغيره لأنه أقعده للناس ولا يدرون لأي أنواع التجارة أقعده قاله ابن القاسم. وقول ابن القاسم هذا الذي مر عليه المص هو المشهور، وقال اللخمي: هو أحسن لأن السيد غر الناس بإذنه. انتهى. يعني أحسن من مقابله المشار إليه بلو، وهو قول سحنون إنه يختص بذلك النوع. قال عبد الباقي معللا كونه مأذونا له في النوع الذي خصه وغيره لأنه أقعده للناس ولا يدرون لأي أنواع التجارة أقعده، فإن صرح له بمنع غير النوع منع أيضًا أشهره أم لا، ورد غير ما ضينه له إن أشهره ومضى إن لم يشهره. انتهى المراد منه.
وقال الشارح: ولا خلاف أنه إذا أذن له في التجارة من غير تقييد بنوع أنه يكون كالوكيل الفوض. وقال سحنون: ليس له أن يتجر بالدين إذا حجر عليه في التجارة به، قال في المقدمات: وكذا يلزم من قوله إذا حجر عليه في نوع من الأنواع وعلى المشهور فقيد ذلك بعض شيوخ صقلية بأن لا يشهر ذلك ولا يعلنه، وأما إن أشهره فلا يلزمه. ابن رشد: وهو الصحيح من جهة المعنى قائم من المدونة والعتبية. انتهى.
وقال الرهوني عند قول عبد الباقي ومضى إن لم يشهره به ما نصه: هذا مذهب ابن القاسم في المدونة والعتبية وهو قول أصبغ وصرح في التوضيح بتشهيره، ونصه: فالمشهور وهو مذهب المدونة
أنه كذلك، وبه قال أصبغ. انتهى محل الحاجة منه بلفظه. وَقال سحنون: لا يمضي واحتج بقول ابن القاسم في مسألة من دفع قراضا لغيره وشرط عليه أن يتجر في صوف فاتجر في غيره أنه متعد، ولا تتعلق تلك المعاملة بالمال الذي بيده. وقال اللخمي، وقول ابن القاسم أحسن ثم ذكر تفصيلا من عند نفسه، ثم قال ما نصه: وهذا مع الفوات وأما مع القيام فلا خلاف لأن للسيد رد ذلك. انتهى منه بلفظه. وقال الحطاب: قال في المقدمات: ولا يجوز له أن يتجر إلا أن يأذن له سيده في التجارة، فإن أذن له فيها جاز أن يتجر بالدين والنقد وإن لم يأذن له في التجارة بالدين ولزمه ما داين به في جميع أنواع التجارات وإن لم يأذن له إلا في نوع واحد منها على مذهب ابن القاسم في المدونة؛ إذ لا فرق بين أن يحجر عليه في التجارة بالدين وأن يحجر عليه في نوع من الأنواع وهو قول أصبغ في التحجير في الدين، وذهب سحنون إلى أنه ليس له أن يتجر بالدين إذا حجر عليه في التجارة فيه، وكذلك على قوله إذا حجر عليه التجارة في نوع من الأنواع إلا أن يشهر ذلك ويعلنه في الوجهين فلا يلزمه قاله بعض شيوخ صقلية. وهو صحيح في المعنى قائم من العتبية والمدونة. انتهى. وقال اللخمي: إن كان العبد يرى أنه لا يخالف ما حد له خص بذلك النوع وإلا الغي فيعم. انتهى. وقوله: إلا أن يشهر ذلك لخ الاستثناء راجع لما قبل قوله: وذهب سحنون. واللَّه تعالى أعلم.
فكوكيل مفوض مرتب على قوله: "إلا بإذن" فيترتب على قوله: "ولو في نوع" أيضًا، وقوله:"فكوكيل" أي فهو كوكيل يعني أنه إذا أذن له في التجارة فإنه يمضي تصرفه إن اتجر في جميع الأشياء كالوكيل المفوض، ولا خلاف في ذلك حيث لم يخص نوعا من الأنواع، وكذلك يكون كالوكيل المفوض فيمضي إن اتجر في جميع الأشياء، والحال أنه خصه بنوع كالتجر في البز مثلا فيمضي تصرفه إن اتجر في غير البز على المشهور كما يمضي تصرفه إن حجر عليه في الدين واتجر فيه.
وَالْحَاصِلُ أنه إذا حجر عليه في الدين أو في نوع يمضي تصرفه في كل شيء، ولزمه ما داين به في جميع التجارات خلافا لسحنون. واللَّه تعالى أعلم. قال عبد الباقي: وأراد بالتشبيه كما في أحمد أنه يمضي النظر إلا أن يقول: وغير نظر، لا أنه يسوغ له الإقدام على غير ما عينه له لمنعه منه:
فإن صرح له بمنع غير النوع منع أيضًا أشهره أم لا، ورد غير ما عينه له إن أشهره ومضى إن لم يشهره به. انتهى.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: حاصل كلام عبد الباقي أنه لا يسوغ له الإقدام على غير ما عينه له، سواء صرح له بالمنع من غيره كلا تتجر إلا في البز مثلا، أو لم يصرح كاتجر في البز أشهره أم لا، ويرد غير المعين مع الإشهار ويمضي مع عدمه في الوجهين. واللَّه تعالى أعلم.
وَاعلم أن الوكالة لا تكون بمجرد وكلتك كما سيذكره المص، بخلاف قوله لعبده: أذنتك فمأذون لأن الغالب في الإذن المطلق له أن يحمل على الإذن في التجارة. وقال المواق عند قوله: "ولو في نوع" اللخمي: قال ابن القاسم: من استتجر عبده بمال وأمره أن لا يبيع ولا يشتري إلا بالنقد، فداين الناس إنهم أحق بما في يده وإن لم تكن هي أموالهم بعينها، قال أصبغ: لأنه مأذون له حين أطلقه على البعض، وكمن أذن له أن لا يتجر إلا في البز فَتَجَر في غيره فلحقه دين فإنه يلزمه لأنه نصبه للناس وليس على الناس أن يعلموا ما نصبه له. اللخمي: وقول ابن القاسم هذا أحسن لأن السيد غر الناس بإذنه. انتهى. وقال الحطاب: وهل يصدق فيما ادعاه من الإذن وهو الذي في كتاب الضحايا من المدونة، وظاهر سماع أشهب في كتاب المديان في رسم مسائل أنه لا يصدق. انتهى.
وله أن يضع يعني أن العبد المأذون له في التجارة إذا كان له دين على شخص فإنه يجوز له أن يضع عن غريمه شيئًا منه إن كانت الوضيعة شيئًا قليلا، ويؤخرَ بالنصب عطف على "يضع" يعني أن العبد المأذون له في التجارة إذا كان له دين حال، فإنه يجوز له أن يؤخر غريمه إلى أجل قريب، قال عبد الباقي: وله أي للعبد المأذون له في التجارة أن يضع من دين له على شخص، ويؤخر دينه الحال إن لم تكثر الوضيعة ويبعد التأخير. ذكره اللخمي. وينبغي اعتبار العرف في حد الكثرة والبعد. انتهى. قوله:"ويؤخر" هذا هو المشهور ومنعه سحنون لأنه إن كان عن غير فائدة فواضح وإلا فسلف بمنفعة، وأجيب باختيار الثاني ولا يلزم عليه المنع لأنها منفعة غير محققة. قاله الحطاب.
ويضيف يعني أن العبد المأذون له في التجارة له أن يضيف بضم أوله وتشديد ثالثه أو سكونه، وقوله: إن استألف راجع للثلاثة أي له أن يضع قليلا إذا كانت
(1)
إن استألف أي فعل ذلك استيلافا للتجارة، وله أن يؤخر إلى أجل قريب استيلافا للتجارة، وله أن يضيف إذا فعل ذلك استيلافا للتجارة، وله العارية إن استألف أيضًا كما في أبي الحسن وابن ناجي والمقدمات. انظر الرهوني. وقال الرهوني: وفي المدونة: وليس للعبد الواسع المال أن يعق عن ولده ويطعم لذلك الطعام إلا أن يعلم أن السيد لا يكره ذلك، ولا له أن يصنع طعاما ويدعو إليه الناس إلا بإذن السيد إلا أن يفعل المأذون ذلك استيلافا للتجارة. وفي المدونة تشبيه المأذون بالوكيل المفوض، وقد نص في المدونة على أنه يعير للاستيلاف. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.
قال عبد الباقي: ولا يعق عن ولده إن كره السيد أو قل المال ولو علم رضى سيده بفعلها؛ لأن قلته مظنة كراهة السيد لفعلها إلا أن ينص له على فعلها. كذا يفيده أبو الحسن على المدونة. وإذا صنع العقيقة حيث لا يجوز له فعلها ضمن من أكل ما أكله للسيد. قوله: أو قل المال ولو علم رضى سيده لخ، قال البناني: فيه نظر إذ مع علمه أن سيده لا يكره ذلك ينبغي العمل على ذلك. قاله الخرشي. وهو ظاهر. انتهى.
ويأخذ قراضا يعني أن العبد المأذون له في التجارة له أن يأخذ قراضا من غيره ليعمل فيه، قال عبد الباقي: وربحه كخراجه لا يقضى منه دينه ولا يتبعه إن عتق لأنه باع به منافع نفسه، فأشبه ما لو استعمل نفسه في الإجارة والمساقاة كالقراض. ويدفعه يعني أن العبد المأذون له في التجارة له أن يدفع قراضا للغير ليعمل فيه لأنه من التجارة، وله أن يتسرى ويقبل الوديعة لا التوكل والالتقاط إلا بإذن. انتهى. قاله عبد الباقي. وقال الرهوني: قال في كتاب الشركة من المدونة: ويجوز للمأذون مقارضة الحر كما يجوز له أن يدفع قراضا، قال ابن ناجي في شرحها: ما ذكره من دفع القراض هو قول ابن القاسم، وما ذكره من أخذه هو قول مالك وما فيها هو المشهور وقال أشهب وسحنون بمنعه. انتهى. وكلام سحنون هو: ولا يجوز للمأذون أن يأخذ
(1)
كذا في الأصل ولعها إذا كان.
قراضا ولا أن يدفعه لأن ذلك إجارة ولم يؤذن له في الإجارة. انتهى. وقال البناني: ابن عرفة: وفي استلزام الإذن في التجر أخذ القراض وإعطاءه نقلا الصقلي عن ابن القاسم وأشهب، بناء على أنه تجر أو إجارة أو إيداع للغير، انتهى المراد منه.
ويتصرف في كهبة بالنصب عطف على "يضع" يعني أن العبد المأذون له في التجارة له أن يتصرف فيما أعطيه كالهبة والصدقة والوصية بالبيع والشراء وكل معاوضة مالية، لا بهبة لغير ثواب وصدقة ونحوهما من معاوضة غير مالية، قال عبد الباقي: ولعله نص على هذا وإن دخل فيما جعل له؛ لأنه لما كان طارئا فربما يتوهم أنه ليس بداخل في الإذن. انتهى.
وأقيم منها عدم منعه منها يعني أنه أقيم أي أخذ من المدونة عدم منع المأذون من العطية أي من قبولها، فله أن يقبل العطية بدون إذن سيده وليس للسيد منعه منها، فَإنْ قِيلَ لا حاجة إلى قوله:"وأقيم منها عدم منعه منها" لفهمه من قوله: "ويتصرف في كهبة"، فَالجَوابُ أن فيه حاجة وهي التشبيه على أنه مأخوذ من المدونة.
ولغير من أذن له القبول بلا إذن يعني أن العبد الذي لم يؤذن له في التجارة له أن يقبل ما أعطيه بلا إذن من سيده، وليس للسيد منعه منه فأحرى المأذون. قال عبد الباقي: كل من استقل بالقبول استقل بالرد ومن استقل بالرد ليس لغيره منعه من القبول، ثم المفهوم من المص هنا خلاف قوله في النكاح، "فأخذ منه جبر العبد على الهبة" والراجح ما هنا وليس لغير المأذون التصرف في كهبة بغير إذن السيد إلا أن يشترط معطيه عدم الحجر عليه كما في السفيه والصغير. قاله ابن عبد السلام. قال ابن الفرس: والعمل بشرط المتصدق المذكور خلاف قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ، وأما الشرط على الموهوب الرشيد أن لا يبيع ولا يهب فإنه لا يجوز، وأما المولى عليه مادام في الولاية فيجوز. قاله في المدونة. انتهى.
قوله: وأما الشرط على الموهوب الرشيد أن لا يبيع ولا يهب فإنه لا يجوز هذا خلاف ما يأتي له في الهبة عند قوله: "في كلّ مملوك ينقل" من صحة الشرط فيعمل به، ويكون ذلك بمنزلة الحبس وقد اعترض التاودي ما هنا واختار ما يأتي، لكن نسبة الزرقاني ما هنا للمدونة صحيحة، واختار ابن ناجي حملها على ظاهرها من أنه لا يجوز ابتداء ويفسخ بعد الوقوع، انظر ما يأتي.
ولابد انتهى. وقوله: خلاف قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا} لخ قد مر الجواب عن هذا الاعتراض، وأن المشهور العمل بالشرط المذكور. وقال المواق: وأما استقلاله ولو كان غير مأذون له بقبول الهبة فيؤخذ من المدونة استقلاله، ويؤخذ أيضًا منها عدم استقلاله، وسمع سحنون إن تصدق على عبد فأبى أن يقبل فلسيده أخذ ذلك، قال ابن رشد: هذا متفق عليه. انتهى.
وقال الشارح: قال في المدونة: وما وهب لمأذون فغرماؤه أحق به من سيده، ولا يكون للغرماء من عمل يده شيء ولا من خراجه وإنما يكون ذلك من مال وهب للعبد أو تصدق به عليه أو أوصي له به فقبل العبد، عياض هذا ظاهر في أن السيد لا يمنعه من قبوله، وظاهره أن الغرماء لا يجبرونه على قبوله، أبو محمد صالح: وظاهره سواء وهب لأجل الدين أم لا. القابسي: وهذا فيما وهب له لأجل وفاء الدين وإلا فهو كخراجه، وقال الشيخ أبو محمد: الغرماء أحق به إن وهب بشرط الوفاء أم لا. انتهى.
والحجر عليه كالحر يعني أن الحجر على المأذون في قيام الغرماء عليه كالحجر على الحر من كون القاضي هو الذي يتولى ذلك لا الغرماء ولا السيد إلا عند السلطان، ويقبل إقراره لمن لا يتهم عليه قبل التفليس لا بعده، ويمنع من التصرف المالي بعد التفليس وغير ذلك كما مر، وليس للسيد إسقاطه بخلاف غير المأذون في ذلك كله، وكذا الحجر على المأذون أي إبطال إذنه في التجارة ولو لم يكن عليه دين كالحر في أنه لا يتولى ذلك إلا الحاكم، فالمص شامل لمسألتين. قال البناني: فرض الزرقاني المسألة في قيام الغرماء تبعا للتوضيح، قال مصطفى: ولا خصوصية لذلك بل هنا مسألتان كما في ابن الحاجب، هو في قيام الغرماء عليه كالحر وهو في الحجر عليه كالحر أيضًا. ومعنى الحجر ضليه ابطال إذنه في التجارة ورده للحجر، وبهذا قرر ابن عبد السلام وهو الصواب وسواء كان عليه دين أم لا. انتهى باختصار. وما في المواق عن المدونة يدل على أنهما مسألتان هو فيهما معا كالحر، وأن الحجر عليه لا يتقيد بقيام الغرماء. انتهى.
وأخذ مما بيده يعني أن الدين الثابت على المأذون يقضى مما بيد المأذون من المال أي مما له سلاطة عليه سواء كان بيده أم لا، وإن مستولدته، يعني أن أم ولد المأذون تباع لأجل دينه ويقضى غرماؤه من ثمنها إذ ليس فيها طرف من حرية، فلذلك بيعت في الدين. قال عبد الباقي: وإن
كان ما بيده مستولدته قبل الإذن في التجارة أو بعده حيث اشتراها من مال التجارة أو ربحه؛ لأنها مال له ولا حرية فيها وإلا كانت أشرف من سيدها ولم يدخلها من الحرية ما دخل أم ولد الحر، وكذا له بيعها لغير دين لكن بإذن السيد لا بغيره لرعي القول بأنها تكون أم ولد إن عتق. ابن القاسم: إن وقع مضى لأن رعي الخلاف إنما يكون في الابتداء لا في الانتهاء، ولا يباع ولده منها لأنه ليس بمال له بل للسيد، ويفسخ بيعه إن وقع للاتفاق على عتقه عليه إن عتق. قاله ابن القاسم أيضًا. فهو كغلته كما في المدونة، ولذا إذا اشتراها من غلته الحادثة بعد الإذن من غير مال التجارة بل من خراجه وكسبه لم تبع في دينه؛ لأنها غلة فهي للسيد حينئذ كولدها وتستثنى هذه من كلامه، وشمل كلامه ما إذا اشترى زوجته حاملا منه أو مع ولده منها حيث كان عليه حين الشراء دين، لكن تباع فيه حينئذ مع ولدها بخلاف ما إذا اشتراها حاملا أو مع ولدها قبل الدين، فإن الولد للسيد كما مر وتباع هي فقط بعد الوضع لا قبله؛ لأن ما في بطنها للسيد ولا يجوز استثناؤه. ولو باعها في الدين ثم ظهر بها حمل فللسيد فسخ البيع على الصحيح لِحَقِّه في الولد، وقيل لا يفسخ ومثل مستولدته في البيع للدين من بيده من أقاربه ممن يعتق على الحر، فإن لم يكن عليه دين محيط لم يبع أحد منهم إلا بإذن سيده كما في المدونة، وشمل الدين دين سيده فيتحاص الغرماء به ولا يحاص بما دفعه له لتجر إلا أن يعامله بعده بسلف أو بيع صحيح. انتهى.
قوله: ويفسخ بيعه إن وقع للاتفاق على عتقه عليه لخ. ابن عرفة: ولو باع ولده منها بغير إذن سيده رد بيعه إذ لا اختلاف في عتقه عليه إذا عتق، قلت: بل لأنه محض ملك لسيده، وقوله: وتباع هي بعد الوضع لخ أما كونها لا تباع حاملا حتى تضع فمحله إذا بيعت في الدين. ابن عرفة: وسمع أصبغ ابنَ القاسم في الاستبراء: لا تباع أم الولد لغرمائه وهي حامل حتى تضع؛ لأن ما في بطنها لسيده ولا يجوز استثناؤه، فإن لم يكن عليه دين جاز بيعها بإذنه وإن كانت حاملا، وأما كونها بعد الوضع تباع وحدها دون الولد ففيه نظر. قال في التوضيح: وإذا قام الغرماء على المأذون وأمته ظاهرة الحمل، فقال اللخمي: يؤخر بيعها حتى تضع ويكون الولد
للسيد وتباع بولدها، ويقوم كل واحد بانفراده قبل البيع ليعلم كل واحد ما بيع به ملكه. انتهى. قاله البناني.
وقال الرهوني: قول البناني: أما كونها لا تباع حاملا فمحله إذا بيعت في الدين ظاهر كلامه هذا مع ما استدل به من كلام ابن عرفة أنه لا يجوز بيعها في الدين قبل الوضع ولو بإذن السيد؛ لأنه قيد جواز بيعها حاملا في غير الدين بإذن السيد، وصرح بأن حكم بيعها للدين مخالف لبيعها لغيره ولا تظهر المخالفة إلا بما ذكرناه مع أنه (لم)
(1)
يظهر لي وجه منع بيعها في الدين حاملا بإذن السيد. انتهى.
كعطيته يعني أن الغرماء يأخذون ديونهم مما أعطيَ للمأذون صدقة أو هبة أو وصية سواء أعطي بعد قيام الغرماء أو قبله، قال عبد الباقي: ذكرها وإن دخلت فيما بيده لقوله: وهل إن منح للدين يعني أن الشيوخ اختلفوا فيما أعطي للعبد المأذون، فمنهم من قال إنما يكون للغرماء إذا أعطي لأجل وفاء الدين، وأما إن أعطي لغير ذلك فلا يأخذه الغرماء بل يختص به السيد كخراجه، ومنهم من قال: يأخذ ما أعطي له سواء منح أي أعطي لأجل وفاء الدين أو لغير ذلك. وإلى هذا أشار بقوله: أو مطلقا أي سواء منح لوفاء الدين أو لغيره في ذلك. تأويلان الأول للقابسي والثاني لابن أبي زيد، وفي الشامل: ويختص سيد المأذون بما رهنه له قبل قيام الغرماء إن ثبت ببينة والدين قدر ماله وإلا فلا، وفي المدونة: وإذا دفع العبد إلى السيد في دينه رهنا كان السيد أحق به، وإن ابتاع من سيده سلعة بثمن كثير لا يشبه الثمن مما يعلم أنه توليج لسيده فالغرماء أحق بما في يد العبد إلا أن يبيعه بيعا يشبه البيع فهو يحاص الغرماء. انتهى. فقول الشامل: والدين قدر ماله هو قولها بيعا يشبه البيع. وقوله: وإلا فلا هو قولها: بثمن كثير لا يشبه الثمن. انتهى. وقد نقل عبد الباقي هنا هذا الكلام محرفا فأتى بما لا يصح ولا معنى له. واللَّه تعالى أعلم. وقال المواق: القابسي: معنى قوله: ويكون دين المأذون في مال وهب له أو تصدق به عليه يريد أن ذلك وهب له أو تصدق به عليه ليقضي به دينه، فيكون حينئذ لغرمائه أخذه، وأما إن
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من الرهوني ج 5 ص 348.
لم يوهب له لذلك فهو بمنزلة ما اكتسبة العبد من غير التجارة، وحكى عن أبي محمد أن ذلك سواء ولغرمائه أخذه مطلقًا. انتهى.
لا غلته ضطف على قوله: "مما بيده" يعني أن العبد المأذون له في التجارة لا يقضى دينه من غلته الحاصلة بعد الإذن، بخلاف التي بيده قبل الإذن فتؤخذ في دينه لدخولها في المال المأذون ضمنا. قاله عبد الباقي. ونحوه للخرشي. وقال المواق ما نصه: تقدم نص المدونة: السيد أحق بكسبه وأرش جرحه وليس لغرمائه من خراجه شيء. انتهى.
ورقبته يعني أن رقبة المأذون لا تؤخذ في دينه فليس للغرماء منها شيء لأن ديونهم إنما تعلقت بذمته لا برقبته، ولهذا إذا فضل من دين الغرماء فضلة يتبعون بها ذمته إذا عتق، ولم يؤخذ من غلته لأن الغلة للسيد وديونهم لم تتعلق بذمة السيد، فإذا فضلت منها فضلة اتبعوا بها ذمة العبد إذا عتق. وقوله: لا رقبته فيه تنبيه على خلاف أبي حنيفة القائل بأنه يباع في دينه إن أراد ذلك الغرماءة وحكى أبو عمر إن استهلكها بتعد فهي في رقبته كالجناية. قاله الشارح. . قال: وحكي عن سحنون مثل قول أبي حنيفة. انتهى.
وإن لم يكن غريم فكغيره يعني أن المأذون إذا لم يكن له غريم فهو كغيره ممن لم يؤذن له فللسيد انتزاع ماله كله حيث لم يكن له غريم وله انتزاع الباقي عن الدين حيث كان ماله فيه فضلة عن الدين، فالمص هنا إنما يقرر بالانتزاع فقط، وأما الحجر عليه بمعنى إبطال إذنه ورده للحجر عليه فلا يكون إلا عند الحاكم، فقولُ عبد الباقي: وإن لم يكن للمأذون غريم فكغيره أي كغير المأذون فلسيده انتزاع ماله وتركه والحجر عليه بغير حاكم. انتهى. قال البناني: نحوه للأجهوري وهو غير صواب لما تقدم من أن الحجر عليه كالحر، وقد نص في المدونة والجواهر على أنه لا يحجر عليه إلا عند الحاكم كالحر سواء كان عليه دين مستغرق أم لا، فالصواب تقرير كلام المص هنا بالانتزاع فقط كما فعل التتائي. انظر مصطفى. انتهى.
وفي بعض النسخ: غريما بالنصب واسمها حينئذ عائد على المأذون، ويراد بالغريم المدين بخلاف نسخة رفع غريم فيراد به رب الدين، وليس تزويج السيد أمته أحدا انتزاعا وكذا غير المأذون؛ لأن الانتزاع إما بتصريح أو بفعل لا يصلح إلا بعد الانتزاع كوطئها أو عتقها أو هبتها وفي الرهن قولان. قاله عبد الباقي. والضمير في أمته للمأذون أو للعبد وفي وطئها أو عتقها أو هبتها لأمة المأذون. أو مطلق الرقيق. اللخمي: والمعتق بعضه في يوم سيده على الحجر حتى يأذن له؛ وفي يومه كالحر يبيع ويبتاع ويؤاجر نفسه إذا كان المال يخصه دون سيده بأن صار له بالمقاسمة مع سيده أو اكتسبه في الأيام التي تخصه. انتهى. واللَّه سبحانه أعلم.
ولا يمكن ذمي من تجر في كخمر إن اتجر لسيده قال الخرشي: يعني أن العبد الذمي إذا أذن له سيده المسلم في أن يتجر له فإنه لا يمكن من التجارة فيما لا يحل للمسلم تملكه من خمر وربي، سواء باع لذمي أو مسلم، لكن إن باعها لمسلم كسرت على المسلم فإن لم يقبض الذمي ففي المدونة تصدق به عليه أدبا له، ولا ينتزع منه إن قبضه على المشهور. انتهى. وقال عبد الباقي: ولا يمكن عبدٌ غيرُ مأذون ذميٌّ أي يحرم على المسلم أن يمكن عبده الذمي غير المأذون من تجر في كخمر وخنزير ونحوهما مما لا يباح تملكه إن اتجر لسيده؛ لأن تجارته بمثابة تجارة السيد لأنه وكيل عنه سواء باع ذلك الذمي لذمي أو مسلم لكن إن باعها لمسلم أريقت وكسرت الآنية، فإن لم يقبض الذمي ثمنها تصدق به عليه أدبا له، فإن قبضه لم ينزع منه على المشهور. ولا مفهوم لقوله:"في كخمر" بل يحرم تمكينه من تجر فيما يباح أيضًا كما هو منطوق قوله في باب الوكالة: "ومنع ذمي في بيع أو شراء أو تقاض" وهو مقدم على مفهوم ما هنا، وإنما خصه هنا بكخمر لقوله: وإلا أي وإن لم يتجر لسيده بل تجر لنفسه بماله، ففي تمكينه من التجر في كخمر وعدم التمكين من ذلك قولان: الأول مبني على أنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة وعليه فيحل للسيد تناول ما أتى به إذا أراد انتزاع ما بيده، والثاني مبني على خطابهم بها. قال عبد الباقي: وحملنا المص على غير المأذون لقوله: "إن تجر لسيده" لأن معناه تجر في مال سيده على أن الربح للسيد وهو حينئذ ليس بمأذون وإنما هو وكيل له، ونحوه في أحمد، وكلام الشارح والمدونة يفيده
ويمكن حمله على المأذون لكن في فرض خاص وهو أن يتجر في مال نفسه على أن الربح للسيد؛ إذ يقال فيه حينئذ تجر لسيده.
وقوله: "قولان" أجراهما اللخمي على خطابهم بفروع الشريعة وعدم خطابهم. قاله الشارح. وقال المواق: اللخمي: لا ينبغي للسيد أن يأذن لعبده في التجر إن كان يعمل بالربا أو خائنا في معاملته، فإن ربح في عمله بالربا تصدق بالفضل، وإن كان العبد نصرانيا وتجر مع أهل دينه بالخمر أو بالربا فعلى القولين هل هم مخاطبون؟ وقد ورث ابن عمر عبدا له كان يبيع الخمر ويبتاعها، قيل مراده بعبده هنا مكاتبه إذ لا تحجير عليه، وقيل هو في مأذون له يتجر بمال نفسه وقيل في قوته وقيل فيما تركه له سيده توسعة له. أشهب عن مالك: ولا يشترى من غير المأذون وإن قل مثل الخف وشبهه، ولا يقبل قوله إن أهله أذنوا له حتى يسألهم ولعله في عبد ليس من عادته البيع والشراء، وأما عندنا بمصر فهو يبيع ويشتري لاسيما الشيء القليل فينبغي أن يقبل قوله، كما قبلوه في الهدية والاستيذان إذا أخبر أن سيده أهدى كذا أو أذن في الدخول عليه ونحوه. وذكر القرافي أنه يجوز تقليد الصبي والأنثى والكافر في ذلك، وهو مستثنى من الشهادة لا يحف به من القرائن للضرورة. قاله الشارح.
ولما أنهى الكلام على المحاجير الأربعة ذكر المحجور الخامس وأعقبه للرقيق لمناسبته له، إذ كل منهما يحجر عليه لغيره، فقال: وعلى مريض حكم الطب بكثرة الموت به يعني أنه يحجر على المريض ومن تنزل منزلته كما يأتي بشرطأن يكون الطب قد حكم بكثرة الموت بسببه، وقوله:"الطب" أي أهل الطب، والمراد أن لا يتعجب من صدور الموت عنه وإن لم يغلب صدوره عنه خلافا للمازري. كسال مثال للمرض الذي حكم الطب بكثرة الموت بسببه، يعني أن السل بكسر السين من الأمراض التي يحجر على صاحبها، قال عبد الباقي: مرض ينحل به البدن فكأن الروح تنسل معه قليلا قليلا كما تنسل العَافِيَةُ، يقال: سل بالضم وأسله اللَّه فهو مسلول.
قال مقيد كذا الشرح عفا اللَّه عنه: قوله فكأن الروح تنسل معه هو بتشديد اللام أي تذهب معه، وقوله: كما تنسل العافية الظاهر أن المراد بالعافية هنا الشعر الطويل؛ لأنه يقال: عفا شعر البعير إذا طال. واللَّه تعالى أعلم.
وقولنج مثال ثان للمرض الذي حكم الطب بكثرة الموت بسببه قال الحطاب قال في تهذيب الأسماء واللغات: بضم القاف وسكون الواو وفتح اللام. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: بضم القاف وسكون الواو وفتح اللام وقد تكسر أو هو مكسورها وتفتح القاف وتضم: مرض معوي مؤلم يعسر معه خروج الثفل أي الغائط والريح. قاله في القاموس. وقوله: مِعَوي بكسر الميم وفتح العين وبالواو أي منسوب لِلْمِعَا لحلوله فيها لا للمعدة كما في التتائي؛ لأنه ليس فيها وإنما هو في المعى واحد الأمعاء. ومثله ذات الجنب وإسهال دم. انتهى.
وحُمَّى قوية مثال ثالث للمرض الذي حكم أهل الطب بكثرة الموت به؛ يعني أن الحمى القوية يحجر على صاحبها، قال عبد الباقي: وحمى قوية حارة بأن تجاوز العادة في الحرارة وإزعاج البدن وتداوم، في تأتي يومًا بعد يوم غيرُ حمى مخوفة. وأول حمى نزلت بالأرض بالأسد حين حمله نوح معه في السفينة فخافه أهلها فسلط اللَّه عليه الحمى. انتهى.
وحامل ستةٍ يعني أن الحامل إذا مرت عليها شة أشهر أي أتمتها فإنه يحجر عليها، قال عبد الباقي: وحامل ستة أي أتمتها ودخلت في السابع ولو بيوم، فإضافة حامل لستة على معنى اللام أي المنسوبة لستة أشهر وهي لا تنسب لها إلا إذا أتت على جميعها، وَيكفي علم بلوغها ستة أشهر من قولها: ولا يسئل النساء. قاله عبد الباقي. قوله: ويكفي علم بلوغها لخ صحيح، ففي المنتقى ما نصه: وبم يعرف بلوغها ستة أشهر روى عيسى في العتبية عن ابن القاسم أن ذلك يعرف بقولها وهي مصدقة ولا يسئل النساء عن ذلك. انتهى. وقال المواق: ابن بشير: المعروف من المذهب أن حكم المرأة الحامل بعد ستة أشهر حكم المريض. ابن عرفة: هذا هو الصواب، وبه فسر عياض الذهب أنها لا يحكم لها بحكم المريض حتى تبلغ في السابع. وقال السيوري: القول بأن الحامل المقرب كالمريضة ليس بصحيح، والذي آخذ به إن بانت من زوجها فله مراجعتها وهو قول لأصحابنا. وقال المازري: مستند هذه المسألة العوائد والهالك من الحمل قليل من كثير لو
بحثت عن مدينة من المدائن لوجدت أمهات أهلها إما أحياء وإما أمواتا من غير نفاس، ومن كان هذا حاله لم تخرج به المرأة إلى أحكام المرض الخوف وهذا مختارنا. انتهى.
ومحبوس لقتل هذا مثال ثان لمن في حكم المريض يعني أن من حبس لكونه قتل من يستحق عليه القصاص وثبت قتله ببينة شرعية أو باعترافه، فإنه محجر عليه وأما من حبس لمجرد الدعوى ليستبرأ أمره فلا يحجر عليه. قاله عبد الباقي. وهو كالصريح في أن فاعل قوله:"لقتل" هو المحبوس.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: والأولى أن يكون المحبوس مفعول لِقَتْلِ ليشمل المحارب والزاني؛ أي حبس لأجل أن يقتل أعم من أن يكون في قصاص أو غيره، ويمكن أن يكون معنى ثبت عليه ترتب فيشمل ذلك. واللَّه تعالى أعلم.
أو لقطع إن خيف الموت يعني أن الشخص إذا قُرِّب لأجل أن يقطع في قصاص أو سرقة وكان قطعه يخاف عليه منه الموت، فإنه يحجر عليه كالمريض. قال عبد الباقي: أو مقرب لقطع لا محبوس له إن خيف على المقرب للقطع الموتُ. انتهى. ونحوه للشارح. وقال المواق من المدونة: قلت إن قرب لضرب حد أو لقطع يد أو رجل فطلق امرأته ثم مات من ذلك الضرب، قال: لم أسمع فيه من مالك شيئًا إلا أن مالكا قال فيمن يحضر الزحف أو يحبس للقتل هو كالمريض فضرب الحد وقطع اليد إن خيف منه الموت فهو كالمريض. عياض: عَارَضَ بعضهم هذا بأن الحد يسقط إن خيف الموت به، وَأجِيبَ بأن هذا لم يقصد الكلام عليه. انتهى. وأجيب أيضًا بأنه يتصور في المقطوع لحرابة فإنه يقطع ولو خيف عليه الموت. قاله البناني.
وحاضر صف القتال يعني أن الحاضر لصف القتال كالمريض يحجر عليه، قال عبد الباقي: وإن لم يصبه جرح لا صف النظارة أو الرد أو التَّوَجُّهِ للقتال، وصف النظارة هم الذين ينظرون المغلوب من المسلمين المجاهدين فينصرونه، وصف الرد هم الذين يردون من فر من المسلمين أو أسلحة للمسلمين، وصف التوجه أي التهيؤ للقتال قبل ملاقاة العدو ومثل حاضر صف القتال الناسُ زمن
الوباء إن أذهب نصفهم أو ثلثهم، كما أفتى به البرزلي قائلا: إنه كالمرض. قال: وأفتى صاحبنا العدل أبو مهدي عيسى قاضي الجماعة بأنهم كالأصحاء حتى يصيبهم المرض المذكور، ولم يقف الحطاب ومن تبعه على هذا فنظَّر فيه. انتهى. قوله: عن البرزلي وأفتى صاحبنا القاضي يعني الغبريني وما أفتى به من أنهم كالأصحاء هو الذي أفتى به أبو العباس القباب، ونقل ابن هلال في نوازله كلامه وكلام البرزلي فانظره. قاله البناني.
لا كجرب يعني أن خفيف المرض أي الذي لا يخاف منه الموت لا يحجر على صاحبه كالجرب والرمد والضرب
(1)
وحمى يوم بعد يوم، وحمى ربع بكسر الراء وسكون الوحدة وهي ما تأتي رابع يوم من إتيانها قبله، وكذا حمى ثلث وبرص وجذام وفالج فلا يجب الحجر على صاحبها؛ لأن الغالب السلامة منها والموت بها نادر. قاله عبد الباقي. قال: والتتائي والشارح والتوضيح واللخمي يدل كل على عدم الحجر عليه فيما زاد على الثلث في هذه الأمور ولو أعقبها الموت أو زادت بعد التبرع: وقول ابن عرفة آخر التطاول أي كالفالج وأوله إن أعقبه الموت مخوف. انتهى. يدل على أن غير الخوف إذا أعقبه الموت يصير مخوفا، وقيد في المدونة كون الفلوج والأبرص والأجذم وذي القروح من الخفيف بما إذا لم يقعده [ويضنه]
(2)
، فإن أقعده وأضناه وبلغ به حد الخوف عليه فله حكم المخوف. انتهى. قوله: وقول ابن عرفة آخر المتطاول لخ ما قاله ابن عرفة هو الصواب، وما ذكره بعد عن المدونة موافق لما لابن عرفة، ولذا قال الرجراجي في كتاب الطلاق من مناهج التحصيل ما نصه: والمرض المخوف المتطاول كالسل والاستسقاء وحمى الربع وما أشبه ذلك إذا طلقها فيه وأعقبه الموت قبل الطاولة أنها ترثه على مذهب المدونة. انتهى بلفظه على نقل العلامة أبي العباس الملوي، ومثل ما لابن عرفة للخمي. وقد أشار المواق لكلام اللخمي وأحال على ما تقدم في النكاح وتقدم أيضًا في الطلاق.
وفي المنتقى ما نصه: وقال عثمان بن عيسى: ابن كنانة: في الأمراض الطويلة كالفالج والجذام والبرص والجنون وحمى الربع وشبهه أن هذا كالصحيح في أفعاله من عتق وصدقة وبيع وطلاق
(1)
في عبد الباقي ج 3 ص 305: ضرس.
(2)
في الأصل: ويضنيه، والمثبت من عبد الباقي ج 5 ص 305.
ونكاح، وكذلك كل ما كان خفيفا لا يضجعه حتى لا يخرج، وقد [شاهد]
(1)
، قاضي المدينة العلماء فيمن به ريح يدخل ويخرج وهو مضرور محتال مصفر يمشي أحيانا الأميال فأجازوا فعله في النكاح والطلاق وغيره ورأوه كالصحيح. وروى ابن المواز عن مالك في الشيخ الكبير به البهر الشديد والبلغم لا يقوم إلا بين اثنين وقد احتبس في المنزل فقال فعله جائز إلا أن يأتي من ذلك بما يخاف عليه فيكون كالمريض، وأما إن كان من ذكرناه بين العلة لا يخرج إلا خروجا يريد به أن يمضى فعله فإن فعل هذا في الثلث قاله ابن كنانة. انتهى نقله الرهوني.
وَمُلَجِّجٍ ببحر صفة للجج يعني أن الملجج بكسر الجيم المشددة أي الذي يخوض اللجة بضم اللام وهي معظم الماء كائنا في البحر لا يحجر عليه، قال في القاموس: لجج تلجيجا خاض اللجة، وقال عبد الباقي مفسرا للمص: ولا حجر على ملجج أي مائر في اللجة ببحر ملح ونيل وفرات ودجلة وبطائح البصرة في سفينة أو عائما حيث أحسنه لا غير محسن له، فكمريض مرضا مخوفا فيما يظهر. انظر أحمد. انتهى. قوله:"وملجج ببحر" فيه ثلاثة أقوال المشهور ما عليه المص، وقيل أفعاله من الثلث، وقيل إن حصل الهول فهو من الثلث وإلا فمن رأس المال.
ورد المص هذا القول بلو المقرونة بواو النكاية أي الإغاظة والمخالفة لصاحب هذا القول فقال: ولو حصل الهول أي الفزع بالفعل كما إذا غشيهم الموج كالظلل من كل مكان لهبوب الريح العاصف فأخذوا يدعون اللَّه مخلصين له الدين. قال المواق من المدونة راكب البحر والنيل في حين الهول والخوف، قال مالك: أفعاله من رأس المال وروي عنه أنها من الثلث. ابن رشد: أظهر الأقوال القول الثالث أن ركوب البحر إن كان حال الهول فيه كان كالمرض وهو دليل رواية ابن القاسم. انتهى. وقال عبد الباقي: وكذا لا حجر على من جمحت به دابته فحكمه حكم الصحيح عند ابن القاسم ونحوه للشارح، وزاد ما نصه: وعند أشهب وابن وهب حكمه حكم المريض وهو ظاهر قول مالك. نقله ابن عبد السلام. انتهى.
(1)
في الرهوني ج 5 ص 349: شاور.
في غير مؤنته راجع لقوله: "وعلى مريض" فهو متعلق "بحجر" وهو تبيين لما يحجر عليه فيه، يعني أن المريض الذي حكم أهل الطب بكثرة الموت فيه ومن في حكمه إنما يحجر عليه في غير مؤنته كنفقة وكسوة، وفي غير تداويه وفي غير معاوضة مالية ولا يحجر عليه في مؤنته ولا فيما يتداوى به؛ لأن بهما قوام بدنه، ولا يحجر عليه في المعاوضة المالية كالبيع والشراء والقراض والمساقاة ونحوها مما فيه تنمية لماله، فإن حابى في المالية فمن الثلث إن توفي من مرضه وإلا صحت وكانت لغير وارث وإلا بطلت إلا أن يجيزها له بقيتهم فعطية منهم تفتقر إلى حوز، وتعتبر المحاباة يوم فعلها لا يوم الحكم وحوالة السوق بعد ذلك بزيادة أو نقص لغو. وقولي: فإن حابى في المالية فمن الثلث إن توفي من مرضه لخ نحوه لعبد الباقي، قال الرهوني: أجمل في هذا لأن قوله فمن الثلث صادق بما إذا حملها الثلث كلها، وحكمها ظاهر كما إذا باع ما يساوي مائة بخمسين وخلف مائة بعد قضاء ديونه ومؤنة تجهيزه غير هذا المبيع، فالمبيع كله للمشتري بالخمسين ولا شيء عليه غيرها وصادق بما إذا زادت على الثلث كما إذا خلف في هذا المثال خمسين فقط وفي ذلك خلاف.
ففي أول مسألة من سماع سحنون من كتاب الشفعة ما نصه: قال سحنون: وسئل ابن القاسم عن الرجل يكون له شقص في دار ليس له غيره قيمته ثلاثون دينارا، فيبيعه من رجل بعشرة دنانير وهو مريض، قال: ينظر في ذلك إذا مات البائغ، فيقال للمشتري: إن أحببت إن لم يجز لك الورثة هذه المحاباة فزد عشرة أخرى وخذ الدار ولا قول للورثة، فإن فعل فللشفيع إن كان له شفيع أن يأخذ الدار بعشرين دينارا، فإن أبى المشتري أن يزيد عشرة دنانير وقد أبت الورثة أن يسلموا الدار إليه كما أوصى الميت قيل لهم أعطوا ثلث الشقص بتلا بلا شيء تأخذونه منه. انظر بقيته فيه. وقال عبد الباقي: ومن غير المالية النكاح والخلع وصلح القصاص فيمنع من ذلك كمنع التبرعات. انتهى.
ورد الرهوني هذا الكلام وأبطله، وقد مر لي أن المريض إن حابى وصح من مرضه أن المحاباة تصح، وَلنَذْكُرْ في ذلك ما تيسر فأقول: اعلم أن المحاباة إما من الصحيح ومثله المريض ثم يصح صحة بينة، وإما من المريض ولم يصح بعد وهي إما لوارثه أو لأجنبي، فإذا كانت من الصحيح
وحازها المشتري الحوزَ المعتبرَ ففيها قولان، أرجحهما اختصاص المشتري بها وإن لم يقع حوز فهل يبطل الجميع ويرد إلى المشتري ما دفع؟ وهو الذي في الواضحة عن الأخوين وأصبغ وقول ابن القاسم، أو يكون له من المبيع بقدر ثمنه فقط؟ أو يخير في ذلك وفي أن يدفع بقية الثمن فيكون له الجميع. ثلاثة أقوال. والأول هو الأرجح، وإذا كانت من المريض لوارثه فإن أجازها الورثة فهي ابتداء عطية منهم فتجري على أحكامها، وإن لم يجيزوها فعن ابن القاسم يبطل الجميع ويردون له ما دفع، وعنه أيضًا أنه يكون له من المبيع بقدر ما دفع من الثمن ويبطل الزائد، وعنه أيضًا أن له أن يكمل الثمن ويكون له الجميع جبرا على الورثة. فتلك ثلاثة أقوال لابن القاسم.
وإذا كانت من المريض لأجنبي وحملها الثلث فلا إشكال، وإن لم يحملها وأجازها الورثة فابتداء عطية، وإن لم يجيزوها قيل يخير بين أن يتم فيكون له الجميع فإن أبى فله مناب ثلثه من البيع وثلث مال الميت، وقيل ليس له أن يكمل جبرا على الورثة ويكون له مناب ثمنه مع ثلث الميت، وهذا الأخير هو الراجح. انظر الرهوني. واللَّه تعالى أعلم.
ووقف تبرعه يعني أن المريض مرضا مخوفا إذا تبرع بأن أعتق أو تصدق أو وهب لغير ثواب أو وقف، فإن ما تبرع به يوقف حتى يصح أو يموت من مرضه. إلا لمال مأمون وهو العقار اللام بمعنى من؛ يعني أن محل وقف ما تبرع به المريض مرضا مخوفا إنما هو حيث لم يتبرع من مال مأمون وهو العقار، وأما إن كان تبرعه من المال المأمون كدار وأرض ونخل فإن ما تبرع به لا يوقف بل ينفذ الآن حيث حمله الثلث، فيأخذه المتبرع له به ولا ينتظر به الموت، فإن حمل الثلث بعض ما تبرع به من العقار نفذ ذلك البعض عاجلا، فإن مات لم يمض غير ما نفذ وإن صح أخذ الجميع.
وَرَتَّبَ على ما قبل الاستثناء قوله: فإن مات فمن الثلث يعني أن المريض مرضا مخوفا إذا تبرع بغير العقار، فإن ما تبرع به يوقف كما عرفت، فإن مات فهو خارج من الثلث أي ثلث مال الميت، فإن حمله كله نفذ وإلا نفذ منه ما حمله الثلث ورد المجاوز إلا أن يجيزه الورثة، وإلا أي وإن لم يمت من مرضه بل صح مضى تبرعه وليس له رجوع فيه؛ لأنه بتله ولم يجعله وصية
وليس من التبرع الذي فيه تفصيل الوصية لأنها توقف ولو كان له مال مأمون؛ لأن له فيها الرجوع. هذا ظاهر ما قاله عبد الباقي. وقرره الخرشي بما هو كالصريح في أن اللام في لمال مأمون للتعليل، فمعنى كلام المص على ما للخرشي أن المريض إذا كان عنده مال مأمون فإن تبرعه يمضي الآن إن حمله الثلث تبرع بالعقار أو غيره كالعتق والصدقة والهبة.
وحاصل تقريره أنه إذا لم يكن له مال مأمون وقف تبرعه، وإن كان له مال مأمون لم يوقف ما تبرع به تبرع بعقار أو غيره، فيمضي إن حمله الثلث وإلا نفذ منه الآن محمل الثلث. واللَّه تعالى أعلم. والظاهر تقرير الخرشي لقول المواق: ومن المدونة: من بتل في مرضه عتق عبده وماله مأمون تمت حريته في كل أحكام الأحرار، وإن لم يكن مأمونا وقف حتى يقوم في ثلثه بعد موته، وليس المال المأمون عند مالك إلا الدور (والأرضين)
(1)
والنخل والعقار، قال مالك: وإذا تصدق المريض ثم صح فلا رجوع له لأن الحجر كان لقيام المانع لا لعدم الأهلية بخلاف غير البالغ. انتهى. وذَكَر السبب السادس وعقب به ما قبله لأن الحجر فيهما لحق الغير فقال: وعلى الزوجة لزوجها يعني أنه يحجر على الزوجة لحق زوجها أي الزوجة الحرة الرشيدة، فالأمة الحاجر عليها سيدها لا زوجها والحرة السفيهة أفعالها مردودة، وقوله:"لزوجها" أي البالغ الرشيد أو ولي السفيه. ولو عبدا يعني أن الزوجة يحجر عليها لحق زوجها، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الزوج حرا وأن يكون عبدا، وقوله:"ولو عبدا" هو ظاهر المدونة، ورواه أشهب وابن نافع عن مالك، وقال ابن وهب: هو بخلاف الحر ولزوجته الحرة أن تتصدق بجميع مالها. أصبغ: وليس بشيء وله من الحق ما للحر.
محمد: ولولي السفيه أن يحجر على زوجته. قاله الشارح. وقوله: "وعلى الزوجة لزوجها" هذا مذهب مالك، وخالف في ذلك الشافعي وأبو حنيفة، وقد انتصر غير واحد من أهل المذهب لمالك، ففي ابن يونس نقلا عن بعض البغداديين ما نصه: إنما قال ذلك مالك لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة ملك زوجها عصمتها عطية في مالها إلا بإذنه)، وهذا نص. وقوله:
(1)
في الأصل والأرضون والمثبت من المواق ج 6 ص 665 ط دار الكتب العلمية.
(تنكح المرأة لدينها ومالها وجمالها) وذلك يفيد أن للزوج حقا في تبقية المال، وإنما أجزنا لها الثلث لأن الحديث مقيد بالمنع فيما زاد على الثلث، ولأن منعها فيه لأجل غيرها فأشبهت المريض. قال ابن حبيب: إنما كان معروف ذات الزوج في ثلثها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجوز لامرأة أن تقضي في ذي بال من مالها إلا بإذن زوجها)، فرأى العلماء أن ذا بال من مالها ما جاوز ثلثها فأجازوا لها القضاء في الثلث، ولم تكن أسوأ حالا من المريض الذي قصره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الثلث. وقال ابن رشد في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الهبة والصدقة ما نصه: لا يجوز للمرأة ذات الزوج قضاء في أكثر من ثلثها بهبة ولا صدقة ولا بما أشبه ذلك من التفويت بغير عوض دون إذن من زوجها في قول مالك رحمه الله وجميع أصحابه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يجوز لامرأة قضاء في ذي بال من مالها بغير إذن زوجها). انتهى.
والاستدلال بهذه الأحاديث المذكورة يقتضي صحتها أو حسنها، أما حديث:(تنكح المرأة) لخ فلا إشكال في صحته هو في الصحيحين وغيرهما، وأما ما عداه فقال ابن عرفة بعد ذكره كلام ابن رشد السابق مختصرا ما نصه: قلت: لا أعرف هذا الحديث في كتب الحديث، إنما ذكره ابن حبيب وأحاديثه لا تستقل بالصحة بل يجب البحث فيها حسبما ذكره عبد الحق وغيره، وخرج النسائي عن حسن
(1)
المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللَّه بن عمرو بن العاصي، قال: لما فتح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة قام خطيبا، فقال في خطبته:(لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)
(2)
. ورواه داوود بن أبي هند [وحسين]
(3)
المعلم عن عمرو بن شعيب بهذا الإسناد، قال:(لا يجوز لامرأة هبة في مالها إذا ملك زوجها عصمتها). ذكره النسائي أيضًا.
قال عبد الحق: وتقدم الكلام على ضعف هذا الإسناد، وفي البخاري عن ميمونة أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت:
(1)
كذا في الأصل والرهوني ج 5 ص 357 والذي في سنن النسائي حسين.
(2)
سنن النسائي، كتاب الزكاة، رقم الحديث 2540.
(3)
في الأصل وحبيب.
أشعرت يا رسول اللَّه أني أعتقت وليدتي؟ قال: (أو فعلت)؛ قالت: نعم قال (أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجْرِك)
(1)
. انتهى. قلت: قوله: وتقدم الكلام على ضعف هذا الإسناد يوهم أنه متفق على ضعفه أو أن الراجح ضعفه، وعبارة ابن عبد السلام بعد ذكره روايتي النسائي هي ما نصه وإسناد هذا الحديث مما اختلف في قبوله. انتهى. وهو أحسن. ومع ذلك ففيها نظر لقول الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ما نصه: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن العاصي: فيه كلام طويل، والجمهور على توثيقه وعلى الاحتجاج بروايته عن أبيه عن جده. انتهى.
قال ابن عبد السلام بعد ما قدمناه عنه وبعد ذكره حديث البخاري عن ميمونة ما نصه: يَجْمَعُ أهل المذهب بين هذه الأحاديث وأشباهها بأن حملوا أحاديث المنع على الكثير وأحاديث الإباحة على القليل، وجعلوا الفصل فيما بين القليل والكثير هو الثلث؛ لأنه القدر الذي اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية. انتهى. فقد بأن لك صحة مذهب مالك وظهرت حجته. واللَّه الموفق. قاله الرهوني.
في تبرع زاد على ثلثها هذا بيان للذي يمنع الزوج زوجته منه، يعني أن الحجر للزوج على الزوجة إنما هو في التبرع لا في المعاوضة المالية ولا في الواجب عليها، كنفقة أبويها ولابد أن يزيد ما تبرعت به على ثلثها، فإن تبرعت بالثلث أو أقل فليس له رد شيء مما تبرعت به. قال عبد الباقي عند قوله:"في تبرع زاد على ثلثها" ما نصه: ولو بعتق حلفت به وحنثت فيه فللزوج رده ولا يعتق منه شيء، قاله في المدونة. وعلل أحمد حجر السيد على أمته بأن له انتزاع مالها ثم ظاهر ما تقدم من قول المص:"والرجعية كالزوجة" أن حق الزوج فيمن طلقت طلاقا رجعيا باق. انتهى.
وقوله: باق فيه نظر لأن علة الحجر الاستمتاع وهو ممنوع منه، واحترز بقوله في تبرع عن الواجب عليها من نفقة أبويها فلا يحجر عليها فيه كما لو تبرعت بالثلث فأقل ولو قصدت به
(1)
صحيح البخاري، كتاب الهبة، رقم الحديث 2592.
ضرره عند ابن القاسم، وأصبغ ولو ثلث عبد لا تملك غيره عند ابن القاسم، خلافا لعبد الملك. وفهم من قوله:"لزوجها" أنه لا حجر عليها لأبيها ونحوه. انتهى. قوله: ولو بعتق حلفت به وحنثت فيه كما في المدونة، قال الرهوني: هو كذلك في المدونة، ونصها: ولو حلفت ذات زوج بعتق رقيقها فحنثت والثلث يحملهم عتقوا، وإن كانوا أكثر من الثلث فللزوج رد ذلك ولا يعتق منهم شيء. انتهى منها بلفظها. ومثله لابن يونس عنها ونحوه في المنتخب أيضًا، ولم يحك ابن ناجي فيه خلافا. وقال ابن حبيب: قال ابن القاسم: وإذا أعتقت ثلث عبد لا تملك غيره جاز ذلك وإن أعتقته كله لم يجز منه شيء وهو قول ابن أبي حازم، وقال ابن الماجشون ومطرف: يبطل عتقها في الوجهين لأنه كأنه عتق كله بعتق بعضه (لإيجاب النبي صلى الله عليه وسلم تتميم العتق على معتق شقص، فكيف بمن يملك جميع العبد؟ فلما منع الزوج عتق الجميع رد كله، وروياه عن مالك وعن المغيرة وابن دينار وغيرهم، واختصره ابن عرفة بقوله: ولو أعتقت ثلث عبد لا تملك غيره فلابن حبيب عن ابن القاسم جاز ولو أعتقته كله لم يجز وقاله ابن أبي حازم، وروى الأخوان بطلانه وقاله المغيرة وابن دينار. انتهى.
وقول عبد الباقي: وقوله: باق فيه نظر، فيه نظر واستدلاله غير مسلم إذ لو كانت العلة الاستمتاع لكان منعه مقصورا على ما يقع به التجمل من الحلي والحلل دون غيرها كالأصول والحيوان وهو باطل، وأيضا قد قدم هو الفرق بين السفيه حيث كان الكلام لوليه في رد تبرعها، والعبد حيث كان الكلام له في ذلك لا لسيده وهو ترقب الإرث في السفيه بموتها والعبد لا يترقبه إلا بعد موتها وعتقه، وذلك يدل على أن الرجعية كمن في العصمة لاشتراكهما في هذه العلة وهي ترقب الإرث.
تنبيهات:
الأول: إذا ادعى الزوج أن ما تبرعت به زائد على الثلث وخولف في ذلك فعليه الإثبات ومحاباتها في معاوضتها المالية كتبرعها بالهبة والصدقة ونحوهما، قال ابن رشد في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الهبات والصدقات ما نصه: وإن ادعى الزوج أنه أكثر من الثلث كان عليه إقامة البينة انتهى منه بلفظه. قاله الرهوني.
الثاني: ظاهر المص أنه لا كلام له في الثلث فأقل ولو كان شوار بيتها أو صداقها قبل البناء وهو كذلك، ففي ابن يونس ما نصه: قال أصبغ: وإذا تصدقت بشوار بيتها وهو قدر الثلث فأقل، فقال الزوج: لا تعري بيتي فذلك صحيح ماض وتؤمر هي أن تعمر بيتها بشوار مثله، وكذلك لو تصدقت قبل البناء بصداقها وهو دون الثلث وهي ثيب أن ذلك ماض وتؤمر أن تجعل مثله من مالها في شورة يدخل بها. انتهى.
الثالث: ظاهر كلام المص أن الثلث معتبر بالنظر لجميع مالها من غير تفصيل وهو ظاهر كلام جل أهل المذهب، وقال ابن رشد: والقياس أن لها أن تقضي في جميع ما أفادت بعد النكاح؛ إذ لم يتزوجها الزوج عليه فلا يحجر عليها فيه. انتهى. ونحو هذا للخمي وهو قول بعض المتأخرين. انتهى.
الرابع: إذا تبين أن الزوجة إنما قصدت الإضرار بزوجها فيما تتبرع به من مالها لفساد ما بينهما، فإنه اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: الأول لسحنون ورواه يحيى عنه أنها إذا تبرعت بالثلث فأقل فإن ذلك ماض وهو ما للمص، والثاني أن ذلك مردود وهو قول غير ابن القاسم وظاهر قول مالك في رواية أشهب عنه، وَالثالث إن كان أقل من الثلث جاز وإن كان الثلث لم يجز وهو قول ابن القاسم في رواية سحنون عنه. والمشهور الأول إذ المشهور في الوصية بالثلث النفوذ مع قصد الضرر، قال ابن عحلية: ومشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصِيَ لا يعد ما فعله ضررا ما دام في الثلث، فإن ضار الورثة في ثلثه مضى ذلك، وفي المذهب قول أنَّ المضارة ترد وإن كانت في الثلث إذا علمت بإقرار أو بينة. انظر الرهوني.
وإن بكفالة يعني أن الكفالة أي الضمان من التبرعات، فإذا ضمنت ما هو قدر ثلث مالها فأقل مضي، وإن تكفلت بأكثر من الثلث فللزوج رد جميع ما تكفلت به، وقوله:"وإن بكفالة" هو نص المدونة خلافا لابن الماجشون. الرهوني: ومحل الخلاف إذا ضمنت موسرا، ففي تبصرة اللخمي ما نصه: وأما كفالتها موسرا إذا كانت بأكثر من الثلث فمنعه ابن القاسم وأجازه ابن الماجشون. انتهى المراد منه. وقال عبد الباقي: وإن كان تبرعها بزائد حاصلا بكفالة لأجنبي معسرا أو موسرا لا لزوجها فتلزمه أي لأنه لا يحجر على نفسه لنفسه. ابن عرفة: وإن قالت: أكرهني، لم
تصدق. انظر التتائي. وهو يخالف ما يأتي في الضمان من أن ضمانها لزوجها كضمانها لأجنبي وهذا في غير كفالة الوجه والطلب فله منعها منهما مطلقًا، بلغت الثلث أم لا. انتهى.
قوله: "لا لزوجها فتلزمه" لخ قال الرهوني: سكت عنه التاودي والبناني واعترضه شيخنا الجنوي بأنه مخالف لنص المدونة، ونقل التاودي كلامها آخر الحمالة، ثم قال: وقد نقله الحطاب في باب الضمان مقتصرا عليه، قال شيخنا: لكن كلام المدونة موضوعه أن كفالتها استغرقت جميع مالها وهو كما قال في اختصار أبي سعيد وابن يونس، وكذا في نقل ابن أبي زمنين في منتخبه عنهات ونصه: قال ابن القاسم: وإذا تكفلت عن زوجها بما يستغرق جميع مالها ولم يرض الزوج لم يجز من كفالتها لا ثلث ولا غيره، وإن أذن لها في ذلك زوجها جاز، وإن أحاط ذلك بمالها كله إذا لم تكن سفيهة. انتهى منه بلفظه. والظاهر أن الحكم سواء وهو الذي يفيده كلام الحطاب أول الضمان، وهو ظاهر لأن حكم ما زاد على الثلث زيادة بينة حكم ما استغرق في جميع فروع هذا الباب. واللَّه أعلم. انتهى.
وفي إقراضها قولان يعني أنه اختلف هل للمرأة أن تقرض شيئًا من مالها بغير إذن زوجها، كان أكثر من ثلثها أم لا؟ لأنه كالبيع وإليه ذهب ابن دحون، أو ليس لها أن تقرض أكثر من الثلث من دون إذن زوجها لأنه كالهبة؟ وإليه ذهب ابن الشقاق محتجا بما في المدونة من منع كفالتها، وَرُدَّ بأن القرض فيه هي المطالِبة بالكسر وفي الكفالة هي المطالَبة بالفتح. قاله الشارح. وسيأتي أن قول ابن الشقاق هو الحق. وقال عبد الباقي: وفي جواز إقراضها أي دفعها مالًا قرضا زائدا على ثلثها بغير إذن زوجها لأخذها عوضه وهو رد السلف لها، فهو كبيعها ومنعه لأنه يشبه الهبة من حيث إنه معروف، ولأنها تخرج لمطالبتها بما أقرضته وهو ضرر على الزوج قولان، وأما دفعها مالًا قراضا لعامل فليس فيه القولان لأنه من التجارة وإقراض المريض مرضا مخوفا كالزوجة كذا ينبغي ذكره بعضهم. انتهى. قوله:"وفي إقراضها قولان" قال البناني: أطلق المص هنا، وفي التوضيح وابن عرفة وغيرهما، ولم يقيده الزرقاني ولا غيره ممن تكلم على هذا المحل ممن وقفت على كلامه، والظاهر تقييده بإقراضها موسرا أو من يرجى له حصول فائد معلوم كما تقدم تقييد الكفالة بذلك، وإلا منع اتفاقا ثم قال: وقول ابن الشقاق هو الحق وقياس القرض على الكفالة من
القياس الجلي إلى آخر كلامه، وأتى فيه بما يدل على أن التحقيق أن القرض يحجر عليها فيما زاد على الثلث فيه. وباللَّه تعالى التوفيق.
وهو جائز حتى يرد يعني أن تبرع المرأة المتزوجة بأكثر من ثلثها جائز أي ماض إلى أن يرده الزوج أي إلى أن يرد جميعه أو ما شاء منه وهذا الذي قاله المص من أنه جائز حتى يرده الزوج هو المشهور، وقيل مردود حتى يجيزه الزوج، وثمرة الخلاف لو اختلفت معه في كون تبرعها بثلث أو أكثر، فعلى المشهور القول قولها وعلى الآخر القول قوله، وسواء خرج من يدها أم لا. ومن ثمرته ما أشار له بقوله: فيمضي أي لكون تبرعها بأكثر من الثلث جائزا حتى يرده الزوج يمضي إن لم يعلم الزوج به حتى تأيمت بطلاق وأولى إن علم وسكت أو مات أحدهما. قال عبد الباقي: وَالْفَرْقُ بينها وبين قوله: "وله إن رشد" أن الفعل وقع فيه ممن لا يعتد بفعله لصغره أو سفهه، بخلاف الزوجة فإنها قد تكون رشيدة، ومثلها في الفرق المذكور العبد المشار إليه بقوله: كعتق العبد يعني أن مضيَّ ما تبرعت به إلى أن يرده الزوج الذي هو المشهور وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك مقيسٌ على مسألة عتق العبد، وذلك أن العبد إذا أعتق عبده المحجور عليه فيه ولم يعلم سيده بأنه أعتقه حتى أعتق السيد العبد المعتِقِ بالكسر ولم يستثن ماله، فإن عتقه ماض وكذلك سائر تبرعاته إذا لم يعلم بها السيد حتى أعتقه ولم يستثن ماله، فإنها ماضية. وقوله:"كعتق العبد" يحتمل أنه من إضافة المصدر أي اسم المصدر إلى مفعوله بعد حذف فاعله، بمعنى إعتاق من الرباعي أي كمسألة إعتاق السيد عبده بعد أن تبرع بتبرعات من عتق وغيره ولم يعلم بذلك سيده، أو علم ولم يقض برد ولا إجازة حتى أعتقه ولم يستثن ماله والمال بيده فإن تبرعاته تمضي، ويحتمل أنه من إضافة المصدر إلى فاعله أي كإعتاق العبد رقيقه المحجور عليه فيه ولم يعلم سيده بعتقه حتى أعتقه ولم يستثن ماله فإن عتقه ماض نافذ. واللَّه تعالى أعلم.
ووفاء الدين هذا أيضًا من المقيس عليه؛ يعني أن المديان إذا تبرع بعتق أو غيره بغير إذن غريمه ولم يعلم الغريم بذلك حتى وفى الدين دينه فإن تبرعه ذلك ماض نافذ ولو بقي بيده. وله رد الجميع إن تبرعت بزائد يعني أن الزوجة إذا تبرعت بأكثر من الثلث فإن للزوج أن يرد الجميع الثلث والزائد، وله إمضاء الجميع وله إمضاء الثلث ورد الزائد. وقوله:"بزائد" ظاهره ولو كان
يسيرا. وفي المدونة المضيُّ إذا كان يسيرا، قال المواق: ومن المدونة إذا عرف بعد البناء رشد المرأة وصلاحها جاز بيعها وشراؤها في مالها كله، وإن كره الزوج إذا لم تحاب فإن حابت أو تكفلت أو أعتقت أو تصدقت أو وهبت أو صنعت شيئًا من المعروف كان ذلك في ثلثها وكفَالَتُها معروفٌ وهي عند مالك من وجه الصدقة، فإن حمل ذلك كله ثلتها وهي لا يُوَلى عليها جاز وإن كره الزوج؛ لأن ذلك ليس بضرر إلا أن يزيد على الثلث كالدينار وما خف، فهذا يعلم أنها لم ترد به ضررا فيمضي الثلث مع ما زادت. انتهى.
وقال عبد الباقي: وله أي للزوج رد الجميع إن تبرعت بزائد على الثلث، وظاهره ولو كان الزائد يسيرا ولا ينافي هذا ما قدمه من أنه إنما له الحجر عليها في تبرع زاد على ثلثها؛ لأن رد الجميع معاملة لها بنقيض قصدها، أو لأنها كمن جمع بين حلال وحرام. قاله أحمد. وله إمضاء الجميع وله رد الزائد فقط إلا أن يكون تبرعها عتقا لذات واحدة، فليس له إلا رد الجميع أو إجازة الجميع لا ردُّ الزائد فقط، ليلا يعتق المالك بعض عبده من غير استكمال. قاله مالك وابن القاسم. وفرق في توضيحة بين المشهور هنا من أن للزوج رد الجميع، وبين تبرع المريض ووصيته بزائد فإنه ليس لوارثه رد إلا فيما زاد على الثلث بأن الأصل إبطال الجميع في المسائل الثلاث لأنه قد وقع على وجه ممنوع فأبطلناه في حق الزوجة؛ لأنها يمكنها استدراك غرضها بإنشاء التبرع بالثلث ثانيا بخلاف تبرع المريض والموصي، فإنا لو أبطلنا الجميع فقد لا يمكن استدراك الغرض بموت المعطي. انتهى.
وفرق بين تسلط الزوج هنا على رد الجميع إن تبرعت بزائد وبين عدم تسلطه على الثلث فيما إذا صدقت الأب في دعواه إعارتها بعد السنة كما مر من قوله: "فإن صدقته ففي ثلثها" بقوة شبهة الأب. انتهى. وفيه نظر لاقتضائه أن ذات الأب الرشيدة إن تبرعت على أبيها بزائد الثلث، فليس للزوج إبطال الجميع بل الزائد فقط والنص بخلاف ذلك، والصواب في الفرق ما ذكره عبدُ الباقي نفسُه فيما مر في النكاح. وَمُحَصَّلُه أن ما هنا تحقق تبرعها بما زاد على ثلث لتحقق ملكها لما تبرعت به، وفيما مر لم يتحقق لاحتمال صدقها وصدق أبيها في نفس الأمر. فتأمله. قاله الرهوني.
وَقال الحطاب: تقدم في فصل الصداق عند قول المص: "وإن صدقته ففي ثلثها" عن القرافي في الذخيرة عن النوادر عن عبد الملك: إذا أقرت المرأة في الجهاز الكثير أنه لأهلها جَمَّلُوهَا به والزوج يكذبها، فإن لم يكن إقرارها بمعنى العطية نفذ وبمعنى العطية يرد إلى الثلث. انتهى. ويأتي الكلام عليه قريبا إن شاء اللَّه. واللَّه أعلم. وقوله:"وله رد الجميع إن تبرعت بزائد" قال الشارح: وهذا قول ابن القاسم في المدونة. ابن نافع: وسواء كانت الزيادة يسيرة أو كثيرة، وفي المدونة أيضًا عن ابن القاسم: إذا زادت على الثلث كالدينار وما خف فإن الجميع يمضي للعلم بأنها لم تقصد بما خف الضرر، بخلاف ما إذا كثرت الزيادة فإن له حينئذ رد الجميع وفي المدونة عن المغيرة أنه لا يرد إلا ما زاد على الثلث، وشبه ذلك بالوصايا، وبقوله قال ابن الماجشون. انتهى. قول الشارح عن ابن نافع.
وسواء كانت الزيادة يسيرة أو كثيرة. انتهى. قد علمت أن عبد الباقي اقتصر على هذا حيث قال: وظاهره -يعني المص- ولو كان الزائد يسيرا. انتهى. قال الرهوني: اقتصر -يعني عبد الباقي- على هذا فأوهم أنه المذهب وليس كذلك، فقد تقدم نص المدونة وما لابن يونس عنها، وقد نقل المواق هنا والحطاب في باب الضمان كلام المدونة وسلماه مقتصِرَيْنِ عليه وكذا صاحب المنتخب، ونصه: قال سحنون: قلت له في زادت على ثلث مالها من قليل أو كثير لم يَجُزْ منه شيء؟ قال: نعم إلا أن تكون الزيادة كالدينار والشيء الخفيف مما يعلم أنها لم ترد به الضرر فإنه يمضي وهو قول مالك. انتهى.
وقد ذكر المتيطى والمص في التوضيح وابن عرفة كلام المدونة وسلموه، ولم يذكروا مقابله إلا عن ابن نافع، وقال ابن ناجي عند كلام المدونة السابق ما نصه: وما ذكره في الكتاب مما استثناه هو المشهور. وقال ابن نافع: للزوج رد ما زاد على الثلث من قليل أو كثير. انتهى.
تنبيه
قال الرهوني: قال الحطاب هنا ما نصه: تقدم في فصل الصداق عند قول المص: "فإن صدقته ففي ثلثها" عن القرافي في الذخيرة لخ ما يأتي له عن الذخيرة، وهو يفيد أن قول المص فيما مر:"فإن صدقته ففي ثلثها" ليس على إطلاقه، وكذلك فعل في النكاح فإنه قال بعد أنقال ما نصه: وَحَاصِلُه أنه إذا بعد ولم يشهد فلا يقبل قوله إذا كذبته الابنة وكذا إذا صدقته وكانت
سفيهة، وإن كانت رشيدة وصدقته ففي ثلثها إذا كان على وجه العطية، وإن لم يكن على وجه العطية فقال القرافي في الذخيرة في كتاب الحجر: قال في النوادر قال عبد الملك: إذا أقرت في الجهاز الكثير أنه لأهلها جملوها به والزوج يكذبها، فإن لم يكن إقرارها بمعنى العطية نفذ أو بمعنى العطية رد إلى الثلث، وإذا كان هذا في أهلها فأحرى الأجانب. انتهى منه بلفظه. ونقله أبو علي في النكاح مقتصرا عليه وسلمه.
قلت: وما نقله عن النوادر نحوه في المفيد عن ابن حبيب ذكره في ترجمة الترشيد وأفعال السفيه من الفصل الثاني، وأعاده في ترجمة قضاء الرجل في مال ولده والمرأة في مالها من الفصل الثالث بذلك اللفظ بعينه، ونصه: وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون في المرأة تقر في كثير من جهازها أن أهلها جملوها به وصدقوها أنه يجوز إقرارها وإن زاد على ثلث مالها، إلا أن تقر على وجه العطية. قف على هذه المسألة فإنه يخرج منها أن إقرارها بالكثير من مالها لأهلها عامل إلا أن يكون على وجه العطية، وإذا جاز إقرارها لأهلها فأحرى أن يجوز إقرارها لأجنبي بالديون وغيرها، وليست كالمريض ولا المولَّى عليه. انتهى منه بلفظه.
وكلام هؤلاء يدل على أنهم فهموا قول ابن الماجشون على أنه المذهب لا مقابل، فجعل الحطاب هنا وفي ما تقدم قوله تقييدا لإطلاق المص، وتبعه أبو علي هناك موافقا لهم لكنه عندي مشكل؛ إذ لم يبينوا معنى وقوع ذلك منها على وجه الإقرار، ومعنى وقوعه على وجه العطية، والمتبادر من ظاهر عبارتهم أن معنى الإقرار أن تقول مثلا إنه أعلمني أولا بأن ذلك إنما هو على وجه العارية وعلى ذلك أخذته منه، ومعنى العطية أن تقول لا علم لي بحقيقة ما ادعاه ولكني أسلمه له الآن ولا أنازعه، فإن كان هذا مرادهم فما نقلوه عن ابن الماجشون مخالف لظاهر كلام غير واحد، ففي التوضيح ما نصه: بعض الموثقين وإن كان قيام الأب على بعد من البناء والأصل له معروف أم لا، ثم قال: فليس له ذلك وهو للابنة بطول حيازتها ولا ينفعه إقرار الابنة إذا أنكر ذلك الزوج.
ابن الهندي: إلا أن تكون خرجت من ولاية أبيها فيكون الإقرار في ثلثها وللزوج مقال فيما زاد على ثلثها. انتهى منه بلفظه. ونحوه في المتيطية والعين وغيرهما، ومثله لابن فتوح معبرا عن ابن الهندي بأحمد بن سعيد، وفي ابن عرفة عن سماع أصبغ ابنَ القاسم ما نصه: وإن ادعاه بعد طول حوزها فهو
لها ولو عرف أصله له وللزوج في ذلك مقال، وطول حيازتها تقطع دعوى الأب إن أنكره الزوج، وإقرارها به لغو إن رده الزوج (ولم
(1)
يقيد ابن رشد فيما نقله هو وعنه ذلك بشيء). فتأمل ذلك كله. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
وليس لها بعد الثلث تبرع إلا أن يبعد يعني أن المرأة إذا تبرعت بثلثها فليس لها بعد ذلك أن تتبرع بشيء آخر من مالها، إلا أن يبعد ما بين العطيتين، قال عبد الباقي: وليس لها بعد الثلث تبرع إلا أن يبعد ما بينهما بعام على قول ابن سهل، قيل: وهو الراجح أو ستة أشهر على قول أصبغ ونحوه لابن عرفة. انتهى. ولم يحك ابن شأس وغيره، إلا أنها إذا تبرعت بالثلث فليس لها تصرف في بقية ذلك المال الذي أخذت ثلثه، ولها ذلك في مال آخر إن طرأ لها وكأنه عنده هو المذهب لاقتصاره عليه، وظاهره سواء بعد ما بين العطيتين أو قرب وهو قول عبد الوهاب. اللخمي: وهو أحسن، وقال ابن رشد: هو الأصح يريد لأنا لو أجزنا لها ذلك لأدى إلى ذهاب مالها في كرات متعددة وهو خلاف المقصود، ونحوه للمازري لكن قال: المعروف من المذهب أنه لا يمنعها مطلقًا. انتهى. يعني في الطارئ وغيره. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيهات:
الأول: قال عبد الباقي: واعلم أن رد السيد وولي السفيه رد إبطال، ورد الغرماء رد إيقاف، ورد الزوج تبرع زوجته رد إيقاف بناء على قوله: فيمضي إن لم يعلم حتى تأيمت ورد إبطال على مقابله، والقاضي يقوم مقام كل من هؤلاء الثلاثة في الرد الإيقافي والإبطالي. انتهى. قال البناني: ونظم ذلك ابن غازي في نظائر الرسالة بقوله:
أبطل صنيع العبد والسفيه
…
برد مولاه ومن يليه
وأوقفن رد الغريم واختلف
…
في الزوج والقاضي كمبدل ألف
وفي نسخة: كمن به خلف وهو معنى قول عبد الباقي: والقاضي يقوم مقام لخ، وقول عبد الباقي: ورد الزوج تبرع زوجته رد إيقاف بناء على قوله فيمضي إن لم يعلم حتى تأيمت لخ لا معنى لهذا
(1)
لفظ الرهوني ج 5 ص 364: ولم يقيد هو ولا ابن رشد فيما نقله هو عنه ذلك بشيء.
البناء، ولا يعقل أن يبنى قول من قال إن الرد إيقاف على قول من قال إن فعلها ماض؛ إذ لم يقع رد أصلا حتى تأيمت مع أن مضي فعلها إذا لم يرد حتى تأيمت متفق عليه على طريقة ابن يونس بين جميع أهل المذهب وبين المختلفين، هل رده رد إبطال أو إيقاف على طريقة ابن رشد؟ ثم الخلاف إنما هو في العتق والراجح أنه رد إبطال، ولذلك ذيلت بيتي ابن غازي تتميما للفائدة فقلت:
والزوج كالسيد والولي
…
في الراجح الجلي والمرضى
وذا بعتق لا على الإطلاق
…
فغيره يبطل باتفاق
الثاني: إنما يكون للزوج رد الجميع إذا لم يشترط عليه في العقد أنه لا يحجر عليها في ذلك، قال في مسائل النكاح من المعين ما نصه: مسألة إذا شرط لزوجهِ أن لا يمنعها القضاء في مالها فإنه يكون لها بهذا الشرط أن تعتق رقيقها وتهب لمن تشاء مالها؛ لأن شرط ذلك إذن لها فيه. انتهى منه بلفظه. فظاهره سواء كان الشرط معلقا أم لا، ويؤيده تعليله، لكن الذي في المتيطية ومختصرها لابن هارون أن ذلك مع التعليق، ونص ابن هارون: ولو شرط لها أن لا يمنعها من القضاء في مالها فإن فعل فأمرها بيدها جاز، ويكون لها بهذا الشرط أن تعتق رقابا أو تهب مالها إن شاءت ولا يعترضها في ذلك لأن اشتراط ذلك عليه إذن منه فيه. انتهى واللَّه أعلم.
الثالث: قال الرهوني: إذا علم الزوج وسكت مدة ثم أراد الرد هل له ذلك أم لا؟ ولم أر أحدا ممن تكلم على هذا المحل تعرض لذلك حتى أبا علي، وفي نوازل البيوع من المعيار أن أبا الحسن سئل عمن تصدقت زوجته وهو حاضر فلم ينكر ولم يجز ووعد بالتسليم بعد ذلك هل سكوته تجويز لفعلها أم لا؟ فأجاب إذا سكت عن الإنكار فيما تصدقت به زوجته وأَرْبَتْ على الثلث ولم يجز فله ما دامت العصمة ردُّ الجميع على مذهب ابن القاسم في المدونة، وما زاد على مذهب المغيرة فيها. ونقل عن ابن عرفة ما يخالف هذا في امرأة أبرأت من تركة أبيها إخوتها وزوجها حاضر لم يظهر منه تغيير ولا إنكار ولا يمنعه من القيام مانع، فلما كان بعد ثلاثة عشر عاما من حين الإبراء قام يطلب أن يرد ابراء الزوجة، قال ابن عرفة: إن كان عالما بالإبراء فلا قيام له وإلا
حلف حيث يجب الحلف أنه لم يعلم ذلك إلى حين قام منكرا إبراءها، فحينئذ إن كان ما أبرأت منه يزيد على ثلث كل مالها يوم إبرائها لم يصح إبراؤها، وإلا صح إبراؤها وكذلك لو علم به فسكت لم يكن له رد. انتهى. قال الرهوني: ما لأبي الحسن هو الجاري على أن السكوت ليس كالإذن، وما لابن عرفة يجري على مقابله والخلاف في ذلك شهير في المذهب انبنت عليه فروع كثيرة ذات خلاف أيضًا اختلف فيها التشهير ولم تجر على سنن واحد. واللَّه أعلم بالصواب.
الرابع: إذا رد الزوج تبرع الزوجة بأكثر من الثلث فإنه لا اختلاف أنها تقضي فيه بما شاءت قبل أن تتأيم. قاله ابن رشد.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: وَلما أنهى الكلام على ما أراده من أسباب الحجر وكان الحاجر يصلح في شأن المحجور، شرع في الكلام على شيء من مسائل الصلح لأن فيه إصلاح الخصمين، فقال:
باب في الصلح
قال الحطاب: قال في التوضيح: قال النووي: الصلح والإصلاح والمصالحة والصِّلَاح قطع المنازعة وهو مأخوذ من صلح الشيء بفتح اللام وضمها إذا كمل وهو خلاف الفساد، يقال صالحته مصالحة وصلاحا بكسر الصاد. انتهى. ذكره الجوهري وغيره. والصلح يذكر ويؤنث. انتهى. وقال الشارح: يقال اصطلحا وتصالحا واصَّالحا وصلح الشيء بفتح اللام يصلح بضمها صلوحا مثل دخل يدخل دخولا وصلح الشيء أيضًا بضم اللام. انتهى. وقال الخرشي: والصلح لغة قطع المنازعة، وحقيقته الشرعية كما قال ابن عرفة: انتقال عن حق أو دعوى بعوض لرفع نزاع أو خوف وقوعه. فقوله: انتقال عن حق يدخل فيه الإقرار والثاني صلح الإنكار. وقوله: بعوض متعلق بانتقال يخرج به الانتقال بغير عوض، وقوله: لرفع نزاع يخرج به بيع الدين، وقوله: أو خوف وقوعه يدخل فيه الصلح يكون عن إقرار وإنكار لصدق الحد عليهما والسكوت راجع إلى أحدهما كما يأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى.
وأورد الحطاب على حد ابن عرفة أنه غير جامع لعدم شموله الصلح على بعض الحق المقر به، وتعقبه أبو حفص بأن بعض الحق حق، فيندرج في قوله: انتقال عن حق، ورد الرهوني هذا التعقب بأن ابن عرفة قيد الحق بكونه بعوض ولا عوض فيما أورده الحطاب. واللَّه تعالى أعلم.
والأصل في الصلح قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ، وقوله تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، وقوله تعالى:{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ، وقوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، إلى غير ذلك من الآي، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما)
(1)
، و (حديث: المرأة التي سألته عليه السلام في فراق زوجها على أن ترد له ما أخذت فأصلح بينهما على ذلك وأخذ الصداق)، وفي البخاري:(أن كعب بن مالك كان له دين على عبد اللَّه بن (أبي)
(2)
حدرد،
(1)
سنن الترمذي، كتاب الأحكام، رقم الحديث 1352.
(2)
ساقطة من الأصل والمثبت من البخاري ج 1 ص 117 ط دار الفكر.
فلزمه حتى ارتفعت أصواتهما فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يضع الشطر ففعل)
(1)
: وأحاديث الصلح كثيرة وفيما قدمناه دليل واضح على جواز الصلح. انظر الشارح.
وقسم المص الصلح على ثلاثة أقسام: بيع وإجارة وهبة؛ لأن المصالح به إذا كان ذاتا فهو بيع وإن كان منفعة فهو إجارة، وإذا كان ببعض المدعى به فهو هبة وهذه الثلاثة تجري في الصلح على الإقرار وعلى الإنكار وعلى السكوت، أما الإقرار فظاهر وأما في الإنكار فبالنظر للمدعى به، وأما السكوت فهو راجع إلى أحدهما، وأما قول المص الآتي:"أو السكوت أو الإنكار" فإنما خصصهما بالذكر لانفرادهما عن صلح الإقرار بشروط ثلاثة ذكرها المص، ثم المصالح به إن كان منافع اشترط أن يكون المدعى به معينا حاضرا، ككتاب مثلا يدعيه على زيد وهو بيده فيصالحه بسكنى دار أو خدمة عبد، فلو كان المدعى به دينا في الذمة فلا يجوز أن تصالحه بمنافع لأنه فسخ دين في دين. واللَّه أعلم. قاله البناني.
وأشار المص إلى القسم الأول من أقسام الصلح بقوله: الصلح على غير المدعى بيع يعني أنه إذا ادعى عليه بشيء فأقر به ثم إنه صالحه على غيره، فإن ذلك بيع يشترط فيه شروط البيع وانتفاء موانعه، كما لو ادعى عليه بعرض معين أو بحيوان معين أو بطعام معين فأقر فيصالحه بغير العرض في الأول وبغير الحيوان في الثاني وبغير الطعام في الثالث، فإن ذلك جائز وهو بيع فيجوز عند انتفاء موانعه. وقوله:"بيع" أي حيث كان المصالح به ذاتا.
وإلى الثاني بقوله: أو إجارة يعني أنه إذا ادعى عليه بشيء معين فأقر به فصالحه عنه بمنافع كسكنى دار وخدمة عبد مدة معلومة فإن ذلك إجارة، فيجوز حيث انتفت الموانع، كانت المنفعة معينة أو مضمونة، فإن اختل شرط البيع كصلحه عن سلعة بثوب بشرط أن لا يلبسه أو لا يبيعه لم يجزت كما لو انتفت شروط الإجارة كصلحه بمنافع معينة أو مضمونة عن دين في الذمة. وقولي: بمعين، لا خصوصية للمعين بذلك، بل وكذا الدين فهو بيع أيضًا أو إجارة كما يأتي
(1)
صحيح البخاري، كتاب الصلاة، رقم الحديث 457.
بيانه في قوله: "وعن دين بما يباع به" وقولي: فأقر به وكذا لو أنكر فهو بيع أو إجارة كما سأبينه عند قوله: "أو الإنكار".
وإلى الثالث بقوله: وعلى بعضه هبة يعني أنه إذا ادعى عليه بشيء فصالحه على بعضه فإن ذلك هبة للبعض المتروك فتلزم الواهب، ويشترط فيها قبول الموهوب له، فإن قبل في حياة الواهب صحت وإن قبل بعد موته لم تصح، وقيل: تصح بعد موت الواهب، وعبارة الخرشي: وعلى أخذ بعضه هبة للبعض الباقي فيشترط قبوله في حياة الواهب وفي قبوله بعد موته قولان، المشهور لغوه. انتهى.
قال البناني: ابن عاشر: تظهر فائدة هذا الاشتراط -واللَّه تعالى أعلم- فيما إذا قال المدعي مائة بعد إقرار المدعى عليه مع لدده أو بعد إنكاره أو سكوته: ادفع لي خمسين وأسقط لك الباقي، فلم يجبه إلى ذلك المدعى عليه فلا ينعقد الصلح فلو رضي المدعى عليه بعد لَزِمَ الصلح، واختلف إذا لم يرض حتى مات المدعي. انتهى. وعبارة عبد الباقي عند قوله:"هبة": فيشترط فيها القبول في حياة الواهب لا إبراء حتى يكون غير محتاج لقبول انتهى قال الرهوني قول عبد الباقي لا إبراء حتى يكون غير محتاج لقبول سَلَّمه التاودي والبناني وبنى عليه ما ذكره عن ابن عاشر وفيه نظرت بل هو غير صحيح لأن القول بأن الإبراء لا يحتاج إلى قبول لأشهب وهو شاذ، والمشهور وهو قول ابن القاسم في المدونة أنه يحتاج إلى القبول. انتهى المراد منه. وقال الشارح ما معناه: إنه لو ادعى عليه بشيء فصالحه على أن يدفع له بعضه ويسقط عنه بعضه فلا إشكال أن ذلك القدر الذي أبرأ ذمته منه هبة وهبها له، وذلك لازم للواهب لأنها هبة مقبوضة فيشترط فيها قبول الموهوب في حياة الواهب، وقيل يكفي قبوله بعد موت الواهب. انتهى.
تنبيهات:
الأول: قال الرهوني لو ادعى شخص على آخر أنه سرق له عبدا مثلا فأنكر المدعى عليه فاصطلحا على مال يغرمه المدعى عليه للمدعي ثم يوجد العبد أي عند غير المتهم به فإن العبد يكون للمدعى عليه الذي غرم المال للمدعي، ولا ينتقض الصلح بظهور العبد وجد صحيحا أو معيبا. قاله ابن القاسم. انتهى. ونحوه لعبد الباقي وزاد إلا أن يقر المدعي بأنه مبطل في دعواه السرقة فللمدعي رد الصلح. انتهى. وقال ابن ناجي: قال ابن أبي زيد: إذا صالح من رُمِيَ متاعُه
في البحر من لم يُرم له عَلَى شيء فأخذه جاز ولو خرج من البحر انتقض الصلح وقيل لا؛ أي لا مر عن ابن القاسم وهو في العتبية وأقيم من المدونة، وفرق بينهما بأن قولها فيه تعد يوجب تضمينها في الذمة والرمي في البحر ليس تعديا، وإنما هو شيء توجبه الضرورة فإذا زالت رجع إليه متاعه. انظر الرهوني.
الثاني: اعلم أن كل من لزمه غرم شيء من صانع ومكتر ومعار ثم وجد بعد أن غرموا فذلك لازم، ولا رجوع لواحد على الآخر إلا أن يتبين بطلان دعواه الضياع كالغاصب، ولم يكن له رده بعيب وإن كان الصلح بيعا لثقل الخصومة، وهذا غير ما يأتي في قوله: وإن رد مقوم بعيب لخ. انظر شرح الشيخ عبد الباقي. قوله: ومن لزمه غرم شيء لخ، قال الرهوني: ظاهره مطلقًا، وقال شيخنا الجنوي: وَهذا إذا غرم له قيمته، وأما إذا اصطلح معه على أقل من القيمة ثم ظهر ذلك فالظاهر أن يأخذه ربه ويرد ما أخذ، إذ من حجته أن يقول إنما تركت بعض حقي ظنا مني أن ذلك ضاع من غير سببك وإشفاقا مني عليك، فأما إن ظهر فلا وما قاله ظاهر من جهة المعنى. واللَّه تعالى أعلم انتهى.
الثالث: في نقل الرهوني عن ابن الحاجب: وأما الصلح على ترك القيام بالعيب فابن القاسم يرى أنه مبايعة بعد فسخ الأول، فيعتبر ما يحل ويحرم من بيع وسلف وفسخ دين في دين، وأشهب يرى البيع الأول باقيا وهذا عوض عن الإسقاط، فيعتبر ما يحل ويحرم من سلف جر منفعة وفسخ دين في دين، فمن اشترى عبدا بمائة ونقدها فصالح عن عيب بمعجل من ذلك النقد أو من العروض جاز عندهما، فلو صالح بعشرة إلى شهر منع. ابن القاسم: لأنه بيع وسلف لأنه اشترى حينئذ العبد بتسعين وأخذ العشرة وجوز أشهب لأنه عن العيب، فلو صالح قبل نقدها على تسعين ويؤخر العشرة انعكس القولان لأنه عند ابن القاسم تأجيل لبيع مستأنف وهو جائز، وعند أشهب أخره بالعشرة ليسقط العيب فهو سلف جر منفعة. انتهى منه بلفظه. قوله: من ذلك النقد أي من تلك السلعة بعينها، وقول ابن القاسم هو الراجح لأنه ورهب المدونة ورجحه بعضهم أيضا، قال في التوضيح: واختار جماعة قول أشهب لأن القيام بالعيب لا يلزم فيه حل البيع. اللخمي: وهو أقيس إذا قام بالعيب ولم يقل رددت، فإن قال: رددت فَالْجَوابُ على قول ابن
القاسم، وقد نقل ابن القصار عن مالك أن قول المشتري رددت فسخ للبيع وإن لم يحكم بذلك حاكم. انتهى منه بلفظه.
الرابع: قد مر الحديث الشريف أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما)، قال في التوضيح: رواه الترمذي وحسنه وعزاه غيره لابن خيارة، قال المازري: أما تحليل الصلح للحرام فمن أمثلته من صالح عن دار ادعاها بخمر أو خنزير أو غير ذلك مما لا تجوز المعاوضة به، وأما قوله: أو حرم حلالا فمن أمثلته أن يصالح عن هذه الدار التي ادعاها على أمة بشرط أن لا يطأها أو بثوب بشرط أن لا يلبسه أو لا يبيعه إلى غير ذلك من وجوه التحجير الممنوعة مع ما (يدخل)
(1)
في هذا المعنى من تحريم المحلل. انتهى من أول شرح كتاب الصلح من التلقين. انتهى من الحطاب.
الخامس: يشترط في الصلح أن يكون فاعله من أهل المعاملة.
السادس: يجوز الصلح عن المجهول إذا لم يقدرا على الوصول إلى معرفته، وأما إذا قدرا على الوصول إلى معرفته فلا يجوز. انظر الحطاب.
السابع: قال عبد الباقي: قول المص: "بيع أو إجارة" فيما إذا كان الصلح على إقرار وعن معين، وأما على إنكار فسيذكر له ثلاثة شروط، وإن كان عما في الذمة فسيذكره بقوله:"وجاز عن دين بما يباع به". انتهى المراد منه.
ويظهر من صنيع البناني أن قوله: "بيع أو إجارة" عام في المعين وغيره وفي الإقرار والإنكار والسكوت؛ لأنه يرجع إلى أحدهما وهو الذي قررت عليه المص، ولهذا قال البناني عند قوله: وجاز عن دين بما يباع به ما نصه: الأنسب فجاز بفاء التفريع بدل الواو. انتهى. ومعنى قول المص: "وجاز عن دين بما يباع به" أنه تجوز المصالحة عن الدين بما يجوز أن يباع به الدين، كدعواه عرضا في الذمة فيقر به أو ينكر فيصالحه بدنانير أو بدراهم معجلة أو بالجميع معجلا، وكدعواه طعاما من قرض فيصالحه عنه بنقد معجل أو بعرض معجل، ومفهومه المنع عن دين بما
(1)
في الأصل: يدل، والمثبت من الحطاب ج 5 ص 457 ط دار الرضوان، وشرح التلقين ج 6 ص 1058.
يمنع بيعه به، كأن يودي الصلح إلى فسخ دين في دين كمصالحته عما في الذمة بمنافع معينة أو مضمونة، وكصلحه عما في الذمة بمؤخر غير جنسه أو من جنسه وكان أكثر، أو إلى نساء في طعام كصلحه عن قمح بشعير أو عكسه مؤجل، أو إلى صرف مؤخر كصلحه عن عشرة دنانير بفضة لأجل، أو إلى بيع الطعام قبل قبضه كصلحه عن طعام من بيع بعشرة دراهم، أو إلى ضع وتعجل كصلحه عن ستة دنانير أو أثواب مؤجلة بأربعة دنانير أو أربعة أثواب نقدا، وضع وتعجل يدخل في النقد والعرض، أو إلى حط الضمان وأزيدك كصلحه عن عشرة أثواب لشهر باثني عشر نقدا وحط الضمان وأزيدك يختص بالعرض من بيع، ثم يرد الممنوع إن كان قائما وقيمته أو مثله إن فات ويرجعان للخصومة ليلا يكون تتميما للفاسد، وأراد بالجواز الإذن فلا ينافي قول ابن عرفة: الصلح من حيث ذاته مندوب وينفذ إن وقع بالمكروه ولو أدرك بحدثان قبضه. قاله مطرف.
وقال عبد الملك: يفسخ بحدثانه وينفذ مع الطول كصلحه عن دين بثمرة حائط معينة قد أزهت واشترط أخذها تمرا على أحد القولين السابقين عند قوله: "وهل المزهي كذلك" لخ، وقرر المواق المكروه بما اختلف فيه خارج المذهب لا حقيقته لأنه لا يتصور فيه فسخ مطلقًا. قاله عبد الباقي. قوله: وقرر المواق لخ. الرهوني: هذا التقرير موافق لما نقله في المفيد عن عيسى بن دينار، ولعله اللقاني؛ إذ ليس ذلك في المواق، وقد صرح ابن رشد في المقدمات بأن المشهور الفسخ إن حرم على دعوى أحدهما، مع أن أصبغ يجيزه ابتداء فلم يراع الخلاف المذهبي، فكيف بغيره. وقال البناني: وقد اشتمل كلام الزرقاني هنا على ما يتقى في الصلح من أوجه الفساد المشار إليها بقول القائل:
جَهْلًا وفَسخًا وَنَسًا وَحُطَّ ضَعْ
…
والبيعَ قبلَ القبض إن صالَحْت دَعْ
إلا أنه لم يذكر هنا الجهل وقدمه قبل هذا، قال في التوضيح: وكذلك تعتبر معرفة ما يصالح عنه، فإن كان مجهولا لم يجز ولذا اشترط في المدونة في صلح الزوجة عن إرثها معرفتها بجميع التركة. انتهى باختصار. لكن هذا إذا أمكن معرفة ذلك، فإن تعذرت جاز على معنى التحلل إذ هو غاية المقدور. نقله الحطاب عن أبي الحسن.
وقول عبد الباقي: ويرجعان للخصومة لخ، قال البناني: هذا الذي يفيده كلام ولد ابن عاصم في شرح تحفة أبيه، ونصه: الصلح الحرام مفسوخ إن عثر عليه قبل أن يفوت، فإن فات قبل الفسخ صحَّ بالقيمة كما يصحح البيع الحرام إذا فات ثم رجع على صاحبه في دعواه الأولى إلا أن يصطلحا صلحا آخر بما يجوز به الصلح. انتهى.
الرهوني: ليس هو من كلام ابن عاصم نفسه، بل هو من كلام الأخوين في الواضحة وابن الناظم نقله عن المنتخب والشيخ ميارة وغيره، وقوله: كصلحه عن دين بثمرة حائط بعينه لخ، قال البناني: بهذا مثل أبو الحسن المكروه، وقال ابن عرفة: عن ابن رشد: المكروه ما ظاهره الفساد غير محقق كونه في جهة معينة، كدعوى كل منهما على صاحبه دنانير أو دراهم فيصطلحان على تأخير كل منهما صاحبه لأجل. انتهى.
ابن القاسم: ومن استهلك لك بعيرا لم يجز أن تصالحه على بعير مثله إلى أجل لفسخك ما وجب لك من القيمة في ذلك. قاله المواق. ويأتي هذا للمص في قوله: "وإن صالح بمؤخر عن مستهلك" لخ، وقال ابن القاسم فيمن ذبح لرجل شاة فأعطاه بالقيمة شاة أو بقرة أو فصيلا: فإن كان لحم الشاة لم يفت لم يجز إذ له أخذه فصار اللحم بالحيوان، وإن فات اللحم فجائز نقدا بعد المعرفة بقيمة الشاة نقله المواق.
وعن ذهب بورق وعكسه يعني أنه يجوز الصلح عن المذهب بالفضة وعكسه وهو الصلح بالذهب عن الفضة، كما لو ادعى عليه بمائة دينار فأقر بها أو أنكر وصالحه عنها بفضة، وكذا العكس إن حلا يعني أن محل الجواز في المسألتين حيث حلَّا أي المصالح عنه والمصالح به، ومعنى الحلول في المصالح عنه أن يدعي عليه بالحال ويقر له به أو ينكر، ومعنى الحلول في المصالح به أن لا يشترط تأخيره.
وعجل يعني أنه يشترط في الجواز أيضًا أن يعجل المصالح به بالفعل، وَحَاصِلُ هذا أنه يشترط في الصالح به أمران: أحدهما الحلول وهو أن لا يشترط تأخيره وأن يعجل بالفعل، فالضمير في عجل للمصالح به، وأنه يشترط في الصالح عنه الحلول فإن لم يحل المصالح عنه لم يجز الصلح، ومعنى الحلول فيه ظاهر ولو لم يحل المصالح به، فإن اشترط تأخيره لم يجز الصلح أيضًا ولو
حل، فإن لم يشترط تأخيره لكن لم يعجل لم يجز أيضًا، ولم يكتف المص بالتعجيل عن الحلول لأن الشيء قد يعجل ولم يكن حالا وقد يحل ولا يعجل، فلذا لم يستغن بالحلول عن التعجيل، وعدم الجواز هنا ينشأ عنه فساد الصلح كما صرح به عبد الباقي.
قال عبد الباقي: ومفهوم كلامه عدم اشتراط ذلك في صلحه عن ذهب بمثله وعن ورق بمثله، وإنما يشترط أن يكون الصلح عن إقرار وإلا كان فيه سلف جر نفعا، ومثل ذلك الصلح عنهما بعرض. انتهى. قوله: ومثل ذلك الصلح عنهما بعرض أي فيشترط تعجيل العرض، وهذا صحيح إذا كانت الدعوى في ورق أو ذهب في الذمة؛ لأن في عدم تعجيل العرض فسخَ دين في مؤخر، أما لو كانت الدعوى في ذهب أو ورق معينين فلا يشترط تعجيل العرض بل يجوز كونه موصوفا في الذمة، بخلاف الصلح بذهب عن ورق وعكسه فلابد من التعجيل فيه مطلقًا. قاله البناني.
كمائة دينار ودرهم عن مائتيهما مثال لقوله: "وعلى بعضه هبة"، وقوله:"ودرهم" عطف على مائة أي درهم واحد، يعني أنه لو ادعى عليه بمائة دينار ومائة درهم، فأقر له بالمائتين وصالحه عنهما بمائة دينار ودرهم واحد فإن ذلك جائز لأنه ترك تسعة وتسعين درهما، وَتَبرَّكَ المص بلفظ المدونة وإن كان الأوضح كدرهم ومائة دينار عن مائتيهما. ابن يونس: وسواء أخذ منه الدرهم نقدا وأخره به، أو أخذ منه المائة دينار نقدا وأخره بها لأنه لا مبايعة هنا، وإنما هو قضاء وحطيطة فلا تهمة في ذلك، ولو كانت المائة دينار والمائة درهم لم تحل لم يجز لأنه ضع وتعجل. انتهى.
فقول التتائي: فيشترط الحلول والتعجيل مخالف لما لابن يونس من أنه لا يشترط التعجيل إن كان عن إقرار، فكلام المص ظاهر حيث صالح بمعجل مطلقًا أو بمؤجل والصلح عن إقرار، فإن صالح عن إنكار امتنع لأنه لا يجوز على ظاهر الحكم ومفهوم قوله:"ودرهم" أنه لو أخذ مائة دينار ودينارا نقدا جاز؛ لأن المائة قضاء والدينار بيع بالمائة درهم، فإن أخذ المائة وتأخر الدينار لم يجز لأنه صرف مستأخر، ولو نقد الدينار وأخر المائة لم يجز لأنه صرف مؤخر أيضًا. قاله عبد الباقي. إلا لأنه صرف مؤخر فإنها للبناني. واللَّه تعالى أعلم.
وعلى الافتداء من يمين يعني أن المدعى عليه يجوز له أن يصالح عن اليمين المتوجهة عليه، فيفتدي منها بمال ولو علم براءة نفسه فالمصالح عليه إعطاء المال عن اليمين والمصالح عنه الحلف
هذا ما تقتضيه عبارة المص، وقولي: ولو علم براءة نفسه هو ظاهر المص كما هو ظاهر المدونة. ابن ناجي: وهو المعروف خلافا لمن منعه حيث علم براءة نفسه. قاله عبد الباقي. قوله: ولو علم براءة نفسه رد على ابن هشام في قوله: إن علم براءة نفسه وجبت اليمين ولا يصالح لأربعة أمور: مِنْهَا أن فيه إذلال نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام:(أذل اللَّه من أذل نفسه)، وَمِنْهَا أن فيه إضاعة المال، وَمِنْهَا أن فيه إغراء للغير، وَمِنْهَا أنه أطعمه ما لا يحل. انتهى.
وَرُدَّ عليه نقلا ومعنى، أما نقلا فإن أبا بكر وعمر حلفا وعثمان صالح عن يمينه ومعلوم كذب من ادعى عليهم رضي اللَّه تعالى عنهم والأمران جائزان، وَأَمَّا معنى فلأن ما استدل به لا ينهض حجة لأن في صلحه إعزاز نفسه لأن الحلف يزري به عند العوام وهم أكثر الناس ولاسيما ذو المال الكثير ولم يضيع ماله بل ادخره، وكونه أطعمه مالًا حراما وأغراه بالغير ليس باختياره وإنما هو مضطر إليه وظلم هو نفسه، قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} الآية، قال الحطاب: وجعل الشارح كلام ابن هشام تقييدا وجزم به في شامله وهو غير ظاهر، ولم أر شيئًا يعارض هذا الإطلاق بل ما رأيت إلا ما يقويه. انتهى. قال الرهوني: اعتراضه على الشارح صحيح. انتهى. وقال المواق من المدونة: من لزمته يمين فافتدى منها بمال جاز. ابن عرفة: قيدها غير واحد بمعنى الصلح على الإنكار فيما يجوز وما لا يجوز. انتهى.
أو السكوت يعني أنه يجوز الصلح عن مقتضى السكوت أي ما يترتب عليه من حبس وتعزير وهو على قول مالك وابن القاسم كالإقرار وهو المشهور، وقول ابن محرز الآتي مقابل، وعند ابن محرز كالإقرار والإنكار فيعتبر فيه ما فيه من الشروط الثلاثة الآتية، فإذا ادعى عليه بدينار فسكت فصالحه على دراهم مؤخرة امتنع على مذهب الإمام مالك وابن القاسم؛ لأنه صرف مؤخر ويمتنع أيضًا على قول ابن محرز الذي جعله كالإنكار لأنه صرف مؤخر على دعوى المدعي، وإذا ادعى عليه بعشرة أرادب من قرض فسكت فصالحه على دراهم جاز على مذهب الإمامين لأن حكمه عندهما حكم الإقرار، ويجوز عند ابن محرز أيضًا.
تنبيه:
هذا المثال الذي ذكرت أنه يجوز على قول الإمامين وابن محرز جوازه عند الثلاثة صرح به البناني، ومنعه عبد الباقي قائلا: لاحتمال أن يقر المدعى عليه بعد ذلك بأنها من سلم وناقشه
البناني بقوله: فيه نظر؛ لأنا إن نزلنا السكوت منزلة الإقرار فالمدعى عليه موافق للمدعي، وإن نزلناه منزلة الإنكار على قول ابن محرز واعتبرنا فيه الشروط الثلاثة فلا دعوى للمدعى عليه بحال، فلا يعتبر فيه منع من جهته كما صرح بذلك بعده، إذ قال: فإن لم يُجِب بشيء فالشرط أن يجوز على دعوى المدعِي فقط. انتهى. وأما مجرد الاحتمال فلا عبرة به تأمله. انتهى. واللَّه تعالى أعلم.
أو الإنكار يعني أنه يجوز الصلح على الإنكار وهذا باعتبار عقده في الظاهر، وأما في باطن الأمر فإن كان الصادق المنكر فالمأخوذ منه حرام كما يذكره وإلا فحلال، ويشترط في جواز الصلح على الإنكار -ويدخل فيه الافتداء من يمين- ثلاثةُ شروط عند مالك وهو المذهب، أشار لاثنين منها بقوله: إن جاز على دعوى كل أي يشترط أن يكون جائزا على دعوى المدعي، ويشترط أيضًا شرط ثان وهو أن يجوز على دعوى المدعى عليه، قال عبد الباقي: وإطلاق الدعوى عليه مجاز إذ معناه: قال ليس عندي ما ادعى به علي فهذان شرطان، وَمَحَلُّ كلامه إن أنكر المدعى عليه خصوص ما ادعى به وأجاب بغيره، فإن لم يجب بشيء فالشرط أن يجوز على دعوى المدعي فقط. انتهى. وهو صريح في أن السكوت على أنه كالإنكار لا يعتبر فيه دعوى من جهة المدعى عليه؛ إذ لم يدع شيئًا وإنما يعتبر فيه دعوى المدعي فقط.
والشرط الثالث جوازه على ظاهر الحكم، قال البناني: الظاهر أن المراد بالحكم ما يطرأ بينهما في المخاصمة ومجلس الفصل. انتهى. وليس المراد به حكم القاضي، وهذه الشروط الثلاثة اعتبرها مالك وهو المذهب كما عرفت، واعتبر ابن القاسم الشرطين الأولين فقط وأصبغ أمرا واحدا وهو أن لا تتفق دعواهما على فساد،
مِثالُ المستوفي للشروط الثلاثة أن يدعيَ عليه بعشرة حالة فأنكرها أو سكت فيصالحه عنها بثمانية معجلة أو بعرض حال،
وَمِثَالُ ما يجوز على دعواهما ويمتنع على ظاهر الحكم فقط أن يدعي بمائة درهم حالة فيصالحه على أن يؤخره بها إلى شهر أو على خمسين يدفعها له عند حلول الشهر، فالصلح صحيح على دعوى كل لأن المدعِيَ أخر صاحبه أو أسقط عنه بعض حقه وأخره، والمدعى عليه افتدى من
اليمين بما التزم أداءه عند الأجل، ولا يجوز على ظاهر الحكم لأنه سلف جر منفعة، فالسلف التأخير والمنفعة سقوط اليمين المنقلبة على المدعي بتقدير نكول المدعى عليه أو حلفه فيسقط جميع المال المدعى به، فهذا ممنوع عند الإمام وجائز عند ابن القاسم وأصبغ.
وَمِثَالُ ما يمتنع على دعواهما أن يدعيَ عليه بدراهم وطعام من بيع فيعترف بالطعام وينكر الدراهم، فيصالحه على طعام مؤجل أكثر من طعامه أو يعترف بالدراهم، ويصالحه على دنانير مؤجلة أو على دراهم أكثر من دراهمه، فحكى ابن رشد الاتفاق على فساده ويفسخ لما فيه من السلف بزيادة والصرف المؤخر،
وَمِثَالُ ما يمتنع على دعوى المدعي وحده أن يدعيَ بعشرة دنانير فينكرها ثم يصالحه على مائة درهم إلى أجل، فهذا ممتنع على دعوى المدعي وحده إذ لا يجوز له أن يأخذ دراهم مؤجلة عن دنانير، ويجوز ذلك على إنكار المدعى عليه لأنه إنما صالح على الافتداء من يمين وجبت عليه فهذا ممتنع عند مالك وابن القاسم وأجازه أصبغ إذ لم تتفق دعواهما على فساد.
وَمِثالُ ما يمتنع على دعوى المدعى عليه وحده أن يدعي بعشرة أرادب قمحا من قرض، وقال الآخر: إنما لك عليَّ خمسة من سلم وأراد أن يصالحه على دراهم ونحوها معجلة فهذا جائز على دعوى المدعي؛ لأن طعام القرض يجوز بيعه قبل قبضه، ويمتنع على دعوى المدعى عليه لأن طعام السلم لا يجوز بيعه قبل قبضه فهذا يمتنع عند مالك وابن القاسم. قاله عبد الباقي. أي ويجوز عند أصبغ، ولمصطفى هنا كلام رده البناني، فظهر أن الصواب ما مثل به هنا عبد الباقي وغيره. واللَّه تعالى أعلم.
وَلَا يحل لظالم يعني أن المصالح به لا يحل للظالم من الخصمين لأخذه ما ليس له، فلا يحل له ما أخذ فيما بينه وبين اللَّه بل ذمته مشغولة به، وظاهره ولو حكم به حاكم يراه وهو ظاهر؛ إذ قوله:"للظالم" يشعر بأن الحكم وقع فيما ظاهره يخالف باطنه، فهو موافق لقوله في القضاء: لا أحل حراما، وأما ما ظاهره كباطنه فإنه يحل الحرام كما يأتي بيانه في القضاء، ثم فرع على قوله:"ولا يحل لظالم" فروعا ثمانية، قال الخرشي: ستة يسوغ للمظلوم نقض الصلح فيها اتفاقا أو على المشهور، واثنتان لا ينقض فيهما اتفاقا أو على المشهور.
وإلى الأول أشار بقوله: فلو أقر بعده يعني أن الظالم من مدع أو مدعى عليه إذا أقر بعد وقوع الصلح ببطلان دعواه في الأول وبما ادعيَ به عليه في الثاني، فإن للمظلوم نقض الصلح فيرد المدعي للمدعى عليه في أخذ منه في الأول، ويعطي المدعى عليه للمدعي جميع ما أقر له به في الثاني، وهذا مما لا خلاف فيه لأنه كالمغلوب على الصلح وله إمضاؤه، وظاهر المص أن له النقض ولو كانت له بينة يعلمها وهو كذلك، وظاهره أيضًا ولو أشهد على نفسه أنه أسقط البينة وهو كذلك. انظر الرهوني.
أو شهدت بينة لم يعلمها هذا هو الفرع الثاني من الفروع الثمانية؛ يعني أنه إذا شهدت بينة للمظلوم والحال أنه لم يعلم بها حين الصلح قربت أو بعدت فإن له أن ينقض الصلح مع يمينه أنه لم يعلمها ويرجع بماله على الظالم، قال عبد الباقي: وهذا متفق عليه، وقال البناني: بل هو مختلف فيه. واللَّه تعالى أعلم. قوله: "أو شهدت بينة لم يعلمها" قال البناني: هذا مقيد بأن يقوم له على الحق شاهدان، فإن قام له شاهد واحد وأراد أن يحلف معه لم يقض له بذلك. قاله الأخوان وابن عبد الحكم وأصبغ، نقله القلشاني وابن ناجي في شرح الرسالة. انتهى.
قوله: هذا مقيد بأن يقوم له على الحق شاهدان لخ، قال الرهوني: هذه المسألة شبيهة بمن قام بالحجة بعد أن حلف خصمه، وقد نقل البناني فيما يأتي عند قوله في القضاء:"إلا لعذر" عن مصطفى عن ابن عرفة مثل ما ذكره هنا، ثم ذكر بعده كلام ابن ناجي فانظره فيما يأتي. والظاهر أن ماله هناك يجري هنا. واللَّه تعالى أعلم. انتهى. وكلام البناني الذي أشار إليه الرهوني عند قول المص:"إلا لعذر" هو في نصه: مصطفى: أي فله القيام بالبينة إلا بالشاهد الواحد. ابن عرفة: لو وجد شاهدا واحدا، فقال الأخوان وابن عبد الحكم وأصبغ لا يحلف معه ولا يقضى إلا بشاهدين. انتهى.
قلت: قال ابن ناجي عند قول المدونة: وإن حلف المطلوب ثم وجد الطالب بينة، فإن لم يكن علم بها قضِيَ له بهافي نصه: وظاهر قوله ثم وجد بينة وإن كانت واحدا ويحلف معه وهو كذلك عند ابن القاسم وغيره، وقال ابن كنانة في الواضحة: ليس له ذلك لأنه يسقط يمينا قد درأ بها حقا بيمينه مع شهيده، ولكن إذا أتى بشاهدين وكلاهما ذكره اللخمي ولم يذكر أبو محمد وابن
يونس وغيرهما غير القول الثاني معزوا لابن حبيب عن الأخوين وابن عبد الحكم وأصبغ، وبه حكم ابن عبد الرفيع قاضي الجماعة بتونس. انتهى.
وقد اقتصر ابن عرفة على الثاني أيضًا ولم ينتبه لما نقله اللخمي عن ابن القاسم الذي هو ظاهرها. انتهى. كلام البناني. وحاصل ما للرهوني أن المسألتين مشتبهتان، وأن البناني نقل في مسألة الصلح هذه عن ابن ناجي في شرح الرسالة أن الشاهد الواحد لا يقام به، ونقل عنه في شرح المدونة هذا، ومقابله عن ابن القاسم أنه يقام بشاهد واحد وهو ظاهر المدونة فيجري في هذه أيضًا قول ابن القاسم الذي هو ظاهر المدونة حسبما ظهر له. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيه:
قال الحطاب: إذا انعقد الصلح على وجه جائز وأرادا نقضه والرجوع إلى الخصومة لم يجز ذلك لا فيه من الانتقال عن المعلوم إلى مجهول. انتهى.
وأشار إلى الفرع الثالث بقوله: أو أشهد وأعلن أنه يقوم بها يعني أن أحد الخصمين له نقض الصلح فيما إذا صالح، وله بينة يعلمها غائبة بعيدة كما في توضيحه، زاد المواق: بعيدة جدا كإفريقية من المدينة أو من مكة أو الأندلس من خراسان، والحال أنه أشهد أنه يقوم بها وأعلن بالإشهاد أي أظهره عند الحاكم وهذا متفق عليه، وأما إن علم بها وقت الصلح وقربت أو بعدت لا جدا فليس له القيام بها ولو أشهد وأعلن أنه يقوم بها، وقول المص:"وأعلن" يأتي مفهومه قريبا إن شاء اللَّه تعالى.
وأشار إلى الفرع الرابع بقوله: أو وجد وثيقة بعده يعني أنه إذا صالحه عن إنكار لعدم وثيقته ثم وجد بعد الصلح وثيقته، وقد كان أشهد وأعلن أنه يقوم بها فله القيام بها فينقض الصلح وهذا متفق عليه أيضًا، قال الخرشي: وأما إن نسيها حال الصلح ثم وجدها فإنه يحلف ويقوم بها كالبينة التي لم يعلمها. انتهى. ويأتي قريبا مثله عن عبد الباقي، ويأتي البحث فيه.
وعلم مما قررت أن قوله: فله أي للمظلوم نقضه أي نقض الصلح جواب الشرط، فهو راجع للمسائل الأربع، قال عبد الباقي: أو صالح على إنكار لعدم وثيقته ثم وجد وثيقته بعده، وقد
كان أشهد أنه يقوم بها إن (وجدها)
(1)
فله نقضه اتفاقا وله إمضاؤه، فإن نسيها حال الصلح ثم وجدها فله نقضه أيضًا والقيام بها مع يمينه أنه لم يعلمها كما تقدم في البينة التي لم يعلمها. انتهى. قوله: مع يمينه أنه لم يعلمها لم يبين وقت الحلف، وقد بينه المتيطى ونقل كلامه في الدر النثير، وذكره ابن عرفة عنه وعن ابن فتوح، ونصه: المتيطى وابن فتوح: إن ذكر في الصلح إسقاط البينة فلا قيام له بها ولو لم يكن علمها، وإن لم يذكره فله القيام بما لم يعلمه حين الصلح بعد حلفه ما كان عالما بها، وحلفه هذا إنما يكون بعد قيامه بالبينة وقبولها؛ لأنه لو حلف قبل قبولها ثم ردت لم يُعَدَّ شيئًا إلا أن يكون في (الخصام)
(2)
إتعاب المطلوب، بحيث (يرفعه)
(3)
عن شغله إلى الخصومة وأداء البينة على عينه، فالقياس إحلاف الطالب قبل تمكينه من إتعاب خصمه. انتهى قاله الرهوني. وقال: قوله: "إن نسيها" حال الصلح لخ لا يصح هذا القياس؛ لأن جهل البينة ضذر في الحيازة والنسيان ليس بعذر فيها لخ.
تنبيه:
ظاهر قول المص: "فله نقضه" ولو وقع بعد الصلح إبراء عام وعليه الناصر اللقاني وشيخه برهان الدين اللقاني، فيقيد قوله الآتي:"وإن أبرأ فلانًا مما له قبله برئ مطلقًا" لخ، بما إذا أبرأه من جميع الحق، وأما إن أبرأه مع الصلح على شيء ثم ظهر خلافه فلا يبرأ أي لأنه إبراء على دوام صفة الصلح لا إبراء مطلق، فلما لم يتم وجعل الشرع له نقضه لم ينفعه إبراؤه وبهذا سقط ما عسى أن يقال إذا أبرأه من جميعه صح وبرئ فأولى من بعضه، وجوابه ما علم من أنه إبراء من بعضه معلق على تمام الصلح. وقال أحمد: ظاهر قوله: "فلو أقر بعده" سواء كان هناك براءة أم لا، والذي ينبغي أن يقال إن وقع الصلح بشرط البراءة فلا عبرة بها أي بالبراءة لأنها كالصلح، وإن وقع لا بشرط البراءة ثم وقعت فهي معتبرة وليس له كلام بعدها. انتهى. قاله عبد الباقي.
وأشار إلى الفرع الخامس بقوله: كمن لم يعلن هذا مفهوم قوله: "أو أعلن" يعني أن من ادعى على شخص بشيء معلوم فأنكره فأشهد سرا أن له بينة غائبة بعيدة الغيبة وأنه إنما صالح لأجل بعد
(1)
في الأصل وجده والمثبت من عبد الباقي ج 6 ص 6.
(2)
في الأصل الخصوم والمثبت من الرهوني ج 5 ص 371.
(3)
في الرهوني ج 5 ص 371: يدفعه.
غيبة بينته وأنه إن قدمت قام بها والحال أنه لم يعلن في الإشهاد عند الحاكم ثم صالحه ثم قدمت بينته، فله القيام بها وينقض الصلح كمن أشهد وأعلن. قاله الخرشي. وغيره وهذا رواه عن ابن القاسم أصبغ، ومقابله أنه ليس له نقض الصلح والأول، قال المص: إنه الأحسن. قال الرهوني: وأشار المص -واللَّه أعلم- بقوله: "على الأحسن" بالنسبة إلى قوله: "كمن لم يعلن" إلى ترجيح غير واحد من المحققين له باقتصارهم عليه؛ إذ الاقتصار على قول واحد ترجيح له لا محالة، بل هو أقوى من ذكر الخلاف مع اختيار بعضه ثم جلب النقل. واللَّه تعالى أعلم.
وأشار إلى السادس بقوله: أو يقر سرا فقط يعني أن المدعى عليه إذا كان يقر بالحق سرا ويجحد علانية خوف أن يطلبه به عاجلا أو يحبسه مثلا، فأشهد المدعي بينة على جحده علانية ثم صالحه على تأخير الحق المدعى به سنة مثلا وقد أشهد المدعي قبل الصلح وبعد الإشهاد على الإنكار كما لابن عرفة بينة لا يعلمها الجاحد، أنه إنما يصالحه على التأخير ليقر له بحقه علانية، وإن لم يشهد البينة أنه غير ملتزم للتأخير، فإن له أن ينقض الصلح عند إقرار المدعى عليه بالحق علانية. هذا قول سحنون. ومقابله لمطرف، والأول هو الأحسن لفتوى بعض أشياخ شيخ المص بذلك.
وقوله: "أو يقر" برفع يقر أي وكمن يقر له المدعى عليه سرا فقط والدعى عليه في هذه مقر حين عقد الصلح، ولذلك لم يمكن المدعي من نقض الصلح إلا بتقديم بينة الاسترعاء لاحتمال أن يكون أقر له قبل عقد الصلح، ووقع الصلح من المدعي طوعًا خلاف قوله في الأولى: فلو أقر بعده فإن المدعى عليه فيها حين عقد الصلح منكر، فإقراره بعده يوجب للمدعي نقض الصلح من غير احتياج لاسترعاءٍ. واللَّه تعالى أعلم. قاله البناني.
وعلم مما مر تصريحا أن قوله: على الأحسن راجع للمسألتين، وقد بان لك وجه الترجيح للقول بنقض الصلح في المسألتين.
تنبيه:
قال عبد الباقي: وهذه البينة التي أشهدها المدعي بعد إنكار المدعى عليه، تسمى بينة استرعاء أي إيداع الشهادة، فإن أشهدها أنه ليس ملتزما للتأخير أو إسقاط بعض حقه فهو استرعاء في استرعاء. قال ابن عرفة: وشرطه أي الاسترعاء تقدمه على الصلح فيجب تعيين وقته
بيومه، وفي أي وقت من يومه خوف اتحاد يومهما أي وقتهما، فإن اتحدا دون تعيين جزء اليوم لم يفد استرعاؤه، وشرطه أيضًا إنكار المطلوب ورجوعه في الصلح إلى الإقرار، فإن ثبت إنكاره وتمادى عليه لم يفد استرعاؤه، فقول العوام: صلح المنكر إثبات لحق الطالب جهل. انتهى. باختصار.
قوله: فإن أشهد أنه ليس ملتزما للتأخير أو إسقاط بعض حقه فهو استرعاء في استرعاء، قال البناني: فيه نظر، بل الاسترعاء في الاسترعاء كما ذكره ابن غازي هو أن يقول في استرعائه: متى أشهد على نفسه بإسقاط البينة المسترعاة فهو غير ملتزم لذلك. قال ابن عرفة: فهذا لا يضره إسقاطه في الصلح استرعاءه، فإن لم يذكر في استرعائه ذلك كان إسقاطه في صلحه الاسترعاء مسقطا لاسترعائه، وإذا قلت في الصلح إنه قطع الاسترعاء والاسترعاء في الاسترعاء، وقد قال في استرعائه:(إنه)
(1)
متى أشهد بقطع الاسترعاء فهو غير ملتزم له لم يفده؛ إذ لا استرعاء في الاسترعاء، زاد المتيطى: وقاله غير واحد من الموثقين وفيه تنازع والأحسن ما قدمناه. انتهى من ابن عرفة.
تنبيه:
قال أبو الحسن في شرح قولها في النكاح الثاني: وإن أظهرا مهرا وأسرا دونه أخذا بما أسرا ما نصه: الاسترعاء إما أن يكون في المعاوضات أو في التبرعات، فإن كان في المعاوضات فلابد من إثبات التقية، أو في التبرعات فإنه يصدق وإن لم يثبت التقية ويكفيه مجرد الاستحفاظ فإن لم يستحفظ وادعى بعد العقد التقية، فإن أثبت التقية قبل قوله من غير استحفاظ ولو كان الاستحفاظ لكان أتم، ولا فرق في هذا بين التبرعات والمعاوضات. انتهى بلفظه. انتهى كلام البناني.
قول البناني: زاد المتيطى وقاله غير واحد لخ، قال الرهوني: ما نسبه لابن عرفة هو كذلك فيه، وما نقله ابن عرفة عن المتيطى مثله في اختصار ابن هارون كذا وجدته فيه وكذا نقله أبو علي، وقوله: والأحسن ما قدمناه أي من أنه لا ينفعه استرعاؤه وذلك خلاف ما نقله ابن غازي هنا في
(1)
في الأصل: إني، والمثبت من بناني ج 6 ص 7.
شفاء الغليل وفي تكميل التقييد، فإنه لم ينقل عن المتيطى والأحسن ما قدمناه بل جعل الأحسن متعلقا بما بعده. فقال ما نصه: زاد المتيطى وقاله غير واحد من الموثقين وفيه تنازع، والأحسن في هذا كله أن يُقِرَّ أن كلّ بينة تقوم له بالاسترعاء فهي ساقطة كاذبة، وإقراره أيضًا أنه لم يسترع ولا وقع بينه وبينه شيء يوجب الاسترعاء فإن ذلك يسقط دعواه ويخرج به من الخلاف إن شاء اللَّه تعالى؛ لأنه يصير مكذبا لبينته ومبطلا لها هذا من دقيق الفقه. انتهى منه بلفظه.
وقد أسقط ابن فرحون في تبصرته من كلام المتيطي، والأحسن ما قدمناه وهو موافق لابن غازي، فابن عرفة وابن هارون كل منهما لم يستوف كلام المتيطى في نهايته، واختصراه اختصارا مخلا ثم في اقتصار أبي علي والبناني على ما نقلاه هنا نظر؛ لأنهما سلما قول المص في الخلع ولا يضرها إسقاط البينة المسترعاة على الأصح والانتفاع بذلك هو الذي اختاره ابن راشد كما في الحطاب هنا، وإلى اختياره أشار المص هناك بالأصح، وعليه اقتصر ابن عات في طرره ونقله عن الاستغناء، ونصه: قال الموثق في غير الوثائق: متى عقد على نفسه قطع الاسترعاء في الاسترعاء، وذكر في استرعائه أنه إن قطع عن نفسه الاسترعاء والاسترعاء في الاسترعاء إلى أقصى تناهيه، فإنما يفعله للضرورة إلى ذلك وأنه غير قاطع لشيء من ذلك كله وراجع في حقه فله ذلك، ولا يضره ما أشهد به على نفسه من قطع ذلك كله. من الاستغناء. انتهى منها بلفظها.
وذكره ابن فرحون في تبصرته بالمعنى، ثم ذكر بعده كلام المتيطى إلى قوله: وفيه تنازع، وقال متصلا به ما نصه: وما قاله في الطرر أصح في النظر لأنه ألجأه إلى الصلح بإنكاره والمكره لا يلزمه شيء، وقول البناني (في أبي)
(1)
الحسن: وإن كان في التبرعات فإنه يصدق لخ، قد نص على هذا المتيطى وضيره. انتهى المراد من كلام الرهوني. ثم قال: انظر هل لابد من ذكر السبب بأن يقول إنما أفعله خوفا مثلا أو لا يحتاج إلى ذلك أصلا؟ بل يكفيه أن يقول ما أفعله من الهبة فأنا غير ملتزم له مثلا؟ لم أر في ذلك نصا صريحا، وظاهر كلامهم هو الأول. انتهى.
(1)
في الرهوني ج 5 ص 375: عن أبى.
ولما ذكر السائل التي له النقض فيها ذكر فرعين ليس له النقض فيهما، فقال: لا إن علم بينة ولم يشهد هذا مفهوم قوله: "أو شهدت بينة لم يعلمها" وهو الفرع السابع، يعني أنه إذا ادعى شخص على آخر بدين فأنكره ثم صالحه عليه وله بينة يعلمها حين الصلح ولم يشهد أنه يقوم بها، فإنه لا قيام له ببينته فليس له أن ينقض الصلح، سواء كانت بينته حاضرة أو غائبة غيبة قريبة أو بعيدة ولو لم يصرح بإسقاطها. قال عبد الباقي: لا إن علم المصالح على إنكار ببينة شاهدة له على المنكر ولم يشهد قبل صلحه أنه يقوم بها، فليس له القيام بها ولو غائبة بعيدة وليس له نقضه لأنه كالتارك لها حين الصلح لقوة أمر الصلح، ولأنه بيع أو إجارة أو هبة بخلاف ما يأتي من أن المدعي إذا استحلف المدعى عليه وله بينة غائبة غيبة بعيدة، فإن له القيام بها وإن كان عالما بها ولم يشهد أنه يقوم بها للفرق المذكور مع ضعف أمر الاستحلاف. انتهى.
وأشار إلى الفرع الثامن بقوله: أو ادعى ضياع الصك فقيل له حقك ثابت فأت به فصالح ثم وجده يعني أنه إذا ادُّعِيَ على شخص بحق فأقر له به المدعى عليه، وقال له: حقك ثابت فأت بالصك لِنَمْحُوَ ما فيه فتأخذ حقك فقال ضاعت مني وأنا أصالحك، فصالحه ثم وجد الوثيقة بعد ذلك فإنه لا قيام له ولا ينقض الصلح اتفاقا، والفرق بين هذه والتي قبلها أن غريمه في هذه معترف وإنما طلبه بإحضار صكه ليمحُوَ ما فيه، فقد رضي بإسقاطه أي صكه واستعجال ما صالحه عليه والأول منكر للحق، وقد أشهد أنه إنما صالح لضياع صكه فهو بمنزلة من صالح لغيبة بينته الغيبة البعيدة فله القيام بها عند قدومها. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيهان:
الأول: اعلم أن هذه المسائل الثمان التي ذكر المص هنا أربع منها متفق عليها وأربع منها مختلف فيها، قال في التوضيح: وهنا ثمان مسائل أربع متفق عليها وأربع مختلف فيها، فأما المتفق عليها فَالأُولَى إذا صالح ثم أقر وَالثَّانِيةُ إذا أشهد وأعلن وَالثَّالِثةُ إذا ذكر ضياع صكه ثم وجده بعده فهذه الثلاث اتفق فيها على القبول، وَالرَّابعَةُ إذا ادعى ضياع الصك فقيل له حقك ثابت فأت به فصالح ثم وجده فلا رجوع له باتفاق، وَأمَّا الأربع المختلف فيها فهي إذا غابت بينته وأشهد سرا أَوْ شَهِدَت بينة لم يعلمها والمشهور في المسألتين القبول، وَالثَّالِثةُ إذا صالح وهو
عالم ببينته والمشهور فيها عدم القبول، وَالرَّابعَةُ من يقر سرا ويجحد علانية وذكر الخلاف. انتهى باختصار. انتهى.
قوله في الثالثة المتفق عليها إذا ذكر ضياع صكه ظاهره وإن لم يشهد بذلك ولم يعلن، قال الرهوني: محل الاتفاق إذا أشهد بذلك وأعلن وقد مر هذا. واللَّه تعالى أعلم. وقوله في الثالثة المختلف فيها إذا صالح وهو عالم ببينته والمشهور فيها عدم القبول، قال الرهوني: ظاهره كانت قريبة أو بعيدة وليس كذلك، بل محل الخلاف في البعيدة وأما القريبة فلا قيام له بها اتفاقا. انتهى.
الثاني: قوله: "لا إن علم ببينة ولم يشهد" قال الشارح: هذا مذهب المدونة، وذكر ابن يونس وغيره فيها قولين هذا أحدهما والثاني أن له ذلك. وعن إرث زوجة من عرض وورق وذهب بذهب يعني أن الميت إذا ترك ذهبا وفضة وعرضا فإنه يجوز لزوجته أن تصالح عن إرثها من ذلك بذهب من عين التركة ولابد أن يكون ذلك الذهب الذي أخذت من التركة في الصلح قدر ما ترث من ذهب التركة الحاضر أو أقل، قلت الفضة أم لا، وكذا يجوز لها أن تصالح بفضة من عين التركة قدر ما ترث من فضة التركة أو أقل قل الذهب أم لا، ومثل الزوجة غيرها من الورثة، وإنما خص الزوجة تبعا للفظ المدونة، ولأن حصول المنازعة منها أكثر لأنها أجنبية غالبا. وإلى ما ذكرته من أنه لابد أن يكون الذهب قدر ما ترثه من ذهب التركة أو أقل أشار بقوله: قدر مورثها أي يجوز لها أن تصالح عن إرثها بذهب قدر مَوْرثها بفتح الميم وسكون الواو وكسر الراءِ المهملة منه؛ أي من ذهب التركة الحاضر كصلحها على عشرة دنانير والذهب ثمانون حاضرة، أو على خمسة والذهب أربعون حاضرة، فإن صولحت بعشرة من عين التركة وحضر من الثمانين أربعون أو بخمسة عن الأربعين وحضر بعضها لم يجز. وقوله:"بذهب من التركة قدر مورثها منه" أي وكذلك الفضة يجوز أن تصالح هي أو غيرها من الورثة عن إرثها من ذلك بفضة من عين التركة قدر ما ترثه من فضة التركة أو أقل.
فأقل أي لابد أن تكون العين المأخوذة في الصلح قدر ما ترثه من عين التركة فأقل، فإن أخذت الذهب في الصلح فلابد أن يكون قدر إرثها من ذهب التركة فأقل والفضة كذلك، وقد علمت أن غيرها من الورثة كذلك.
وأما إن أخذت من الذهب أو من الفضة أكثر مما ترثه من ذلك فهو ما أشار إليه بقوله: أو أكثر إن قلت الدراهم يعني أنها إذا أرادت أن تأخذ في الصلح من الذهب أكثر مما ترثه من ذهب التركة فإن ذلك إنما يجوز إن قلت دراهم التركة التي تخصها بأن لم تبلغ صرف دينار، وأما إن لم تقل بأن بلغت صرف الدينار فأكثر فإن ذلك لا يجوز لاجتماع البيع والصرف في أكثر من دينار. وقوله:"إن قلت الدراهم" يعني أو قلت العروض التي تخصها بأن لم تبلغ قيمتها دينارا وحضرت، وكذا الحكم لو أخذت من فضة التركة أكثر مما ترثه فإنما يجوز ذلك إن قل ما ينوبها من الذهب بأن لم يبلغ دينارا، أو قلت العروض التي تخصها عن قيمة دينار كما يؤخذ من كلام غير واحد. واللَّه تعالى أعلم. وهذا تقرير المص بحسب ظاهره.
وَالتَّحْقِيقُ في قوله: أو أكثر أنه إن كان الزائد دينارا فقط جاز قلت الدراهم أو العروض أم لا، وإن زاد على دينار جاز إن قلت الدراهم أو العروض وإلا فلا. واللَّه تعالى أعلم. قال الرهوني عن شيخه الجنوي: كلام المص غير تام، وحاصل الفقه أن الزائد على ما تستوجبه إن كان دينارا فالجواز مطلقًا وإن كان أكثر، فإن قلت الدراهم بحيث لم تبلغ صرف دينار أو العروض بحيث لا تبلغ قيمتها صرف دينار فكذلك وإلا فالمنع لاجتماع البيع والصرف في أكثر من دينار. انتهى ملخصا من خطه.
قُلْتُ: فلو قال المص: أو أكثر فكالبيع والصرف لوفى بهذا التحرير الحسن. واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
وقال البناني: ويتحصل من كلامه -يعني عبد الباقي- أن الصور الجائزة ثلاث: أن تقل الدراهم عن صرف الدينار أو يقل منابها من العروض بحيث يكون أقل من دينار أو تأخذ عنهما وإن كثرا دينارا فقط. انتهى. وقال عبد الباقي: وجاز لبعض الورثة الصلح عن إرث زوجة أو
غيرها من باقي الورثة، وخص الزوجة لأن حصول المنازعة منها أكثر لأنها أجنبية غالبا من عرض وورق وذهب حاضرين. انتهى.
قال البناني: قول الزرقاني حاضرين بل إنما يشترط حضور النوع المأخوذ منه فقط كما بينه بعده وهو في المدونة، وإنما شرطوا في النوع الذي أخذت منه أن يكون حاضرا لأنه إن كان بعضه غائبا لزم النقد بشرط في الغائب، نعم إن أخذت حصتها من الحاضر فقط جاز لإسقاط الغائب. انتهى.
قوله: لأنه إن كان بعضه غائبا لزم النقد لخ، قال الرهوني: فيه نظر إذ لو كانت العلة هذه لجاز ذلك إن كان على مسافة اليومين مثلا، والصواب في التعليل ليلا يؤدي إلى سلف جر نفعا أو إلى المبادلة والتأخير؛ لأنه إذا خلف أربعين دينارا حاضرة وأربعين غائبة مع ثمانين درهما وعرضا فقد أسلفها خمسة الآن ليأخذها من الدنانير الغائبة، وانتفع بإسقاط حقها من الدراهم والعروض، وإن شئت قلت دفع لها خمسة من عنده ليأخذها من الغائب فهي مبادلة بتأخير. انتهى بتغيير قليل. وقوله: وإنما يشترط حضور النوع المأخوذ منه فقط.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: هذا ظاهر حيث أخذت قدر مورثها فأقل من الذهب أو الفضة، وأما إن أخذت أكثر فقال المواق ما نصه من المدونة: قال ابن القاسم: من مات عن ولد وزوجة وترك دنانير ودراهم حاضرة وعروضا حاضرة وغائبة وعقارا، فصالح الولد الزوجة على دراهم من التركة، فإن كانت قدر مورثها من الدراهم فأقل جاز، وإن كانت أكثر لم يجز لأنها باعت عروضا حاضرة وغائبة ودنانير بدراهم نقدا، وذلك حرام. انتهى.
وقال المواق أيضًا: ابن عرفة: صلح الوارث بقدر حظه في صنف ما أخذه واضح؛ لأنه لما سواه واهب وبزائد عن حظه فيه بائع حظه في غيره بالزائد فيعتبر البيع والصرف وتعجيل قبض ما معه.
تنبيه:
قال الرهوني: سكت المص عن صلح الزوجة عن صداقها وميراثها معا في صفقة واحدة، وقد صرح ابن فتوح والمتيطي وغير واحد بمنعه ونظمه في التحفة وأطلق غير واحد في ذلك، وقيده أبو الحسن في أجوبته بما إذا زاد ما أخذت على قدر صداقها وإلا جاز وسلمه ابن هلال في الدر
النثير قائلا ما نصه: فكأنها أخذت صداقها أو بعضه ووهبت ميراثها فلا إشكال في الجواز. انتهى منه بلفظه. انتهى.
لا من غيرها مطلقًا هذا مفهوم قوله: "من التركة" يعني أنه إذا وقعت المصالحة على شيء يعطيها إياه من غير التركة والتركة ذهب وفضة وعروض، فإن كان المصالح به عينا لم يجز مطلقًا ذهبا أو فضة قل أو كثر، كانت التركة أو شيء منها حاضرا أو غائبا؛ لأنه يدخله التفاضل بين المعينين، والتأخير بينهما لأن حكم العروض التي مع العين حكم العين، وأما إن كان المصالح به عرضا فهو ما استثناه بقوله: إلا عرضا الاستثناء متصل؛ لأن قوله: "لا من غيرها" شامل بحسب ظاهره للعين وغيرها، فاستثنى المرض من ذلك وجعله عبد الباقي منقطعا على تقدير لا بعين من غيرها وجوز فيه الاتصال.
ومعنى كلامه أنه يجوز صلح الزوجة في الفرض المذكور أو غيرها من الورثة على عرض من غير التركة، فإن لم يكن في التركة دين جاز بشرطين. وإن كان فيها دين فإنما يجوز بأربعة شروط أشار لأوَّلِهَا بقوله: إن عرفا جميعها يعني أنه إنما يجوز الصلح في الفرض المذكور بالعرض بشرط أن يعرفا أي الوارث والزوجة جميعها أي التركة حتى تكون المصالحة على معلوم، وإلى الثَّانِي بقوله: وحضر يعني أنه إنما يجوز الصلح بالعرض المذكور بشرط أن يحضر جميع التركة، فإن لم يكن في التركة دين اكتفِيَ بهذين الشرطين فيجوز الصلح بالعرض إن حصلا معا، وإن كان فيها دين زيد عليهما شرطان آخران أَحَدُهَمَا أشار إليه بقوله: وأقر المدين يعني أنه إذا كان في التركة دين فإنه لابد في الجواز مع الشرطين المذكورين أن يقر المدين بما عليه من الدين، وأشار إلى الثَّانِي بقوله: وحضر يعني أنه لابد في الجواز أيضًا أن يحضر المدين وقت الصلح، ولابد أيضًا من أمرين آخرين وهما أَنْ يَكُونَ المدين ممن تأخذه الأحكام، وَأن يَكونَ العرض الذي أخذه في الصلح مخالفا للعرض الذي على الغريم. قاله عبد الباقي.
قال البناني: هذا الشرط نحوه في المواق ووجهه بعضهم بأنه لو كان المرض الذي أعطاها موافقا لا على الغرماء لكان سلفا لها بمنفعة؛ لأن الغالب أن لا تأخذ إلا أقل من حقها وهو ظاهر. انتهى. قال الرهوني: سلم هذا التوجيه بل أيده بقوله وهو ظاهر وفيه عندي نظر؛ لأن حاصله أن السلف
هو دفع الولد في مثال المدونة عرضا من ماله الآن ليأخذ مماثله الذي في ذمة الغريم، والنفع كونه في الغالب لا يعطيها إلا ما تكون قيمته أقل من حظها من جميع التركة، ووجه النظر أنا لا نسلم أن الغالب ما ذكره إذ كثيرا ما يكون مساويا أو أكثر لرغبة الولد في أعيان التركة، وخصوصا دار السكنى ونحوها ويريد دفع ضرر شركتها بمثل حظها أو أكثر، وهذا أمر مشاهد لا سبيل إلى إنكاره، ثم قال: والظاهر في التعليل عندي اجتماع البيع والسلف إلى آخر كلامه. واللَّه تعالى أعلم.
وقال عبد الباقي: إلا بعرض إن عرفا جميعها وحضر جميع التركة حقيقة في العين وحكما في المرض، فإن كان قريب الغيبة بحيث يجوز النقد فيه بشرط فإنه في حكم الحاضر، وعلة الشرط الثاني سلامتهما من النقد في الغائب بشرط وأقر المدين بما عليه حيث كان في التركة دين ولو عرضا وحضر وقت الصلح.
تنبيه:
قوله: "إن عرفا جميعها" قال البناني: هذا الشرط وكذا ما بعده يرجع أيضًا لقوله: "أو أكثر". انتهى. وقال عبد الباقي: وأقر المدين وحضر وكان ممن تأخذه الأحكام وكان المرض الذي أعطاه لها مخالفا للعرض الذي على الغريم، ويشترط غير ذلك من الشروط المعتبرة في بيع الدين، فإن اختل شرط من هذه الشروط لم يجز صلحها بعرض من غيرها.
ومَوْضُوعُ مسألة المرض بشروطها أن في التركة عرضا وعينا، وأما إن كانت كلها عروضا فيجوز للولد أن يصالحها بعين من ماله إن عجلها، ولو كانت العروض ديونا على غرماء حضورا مقرين وتأخذهم الأحكام ووصفت العروض التي عليهم. انتهى.
قوله: وأما إن كانت عروضا لخ قال البناني: بل شروط المص لابد منها في هذا أيضًا تأمله. انتهى. وقال عبد الباقي: وأشعر اشتراطه معرفة جميع التركة في صلحها بعرض من غيرها أنه لا يشترط ذلك في صلحها بعين أو عرض منها، وهذا يرد على قولهم: كل موضع يمكن فيه العلم لا يجوز الصلح فيه إلا بعد المعرفة اللهم إلا أن يقال الصلح هنا من باب، "وعلى بعضه هبة".
والضابط في غيره. انتهى. وكلامه يفيد أن محل كونه لا يشترط فيه المعرفة إنما هو حيث أخذت قدر ما ترثه من الذهب أو الفضة أو العرض فأقل لا إن أخذت أكثر فلا ينافي ما قدمته عن البناني من
(1)
قوله: إن عرفا جميعها يرجع هو وما بعده، لقوله:"أو أكثر". واللَّه تعالى أعلم.
قوله: "إن عرفا جميعها" قال الحطاب: هو نحو قول المدونة المتقدم: فإن عرفت هي وجميع الورثة مبلغ التركة، قال ابن ناجي في شرح المدونة: وظاهر قولها مبلغ التركة يتناول أنهم لو اتفقوا على أنهم اطلعوا على جميع التركة ولم ينصوا عليها بالتسمية أنه كاف، وأفتى شيخنا رحمه الله غير ما مرة بعدم الجواز إلا مع التسمية وهو بعيد. انتهى.
وعن دراهم وعرض تركا بذهب كبيع وصرف يعني أن الميت إذا ترك دراهم وعروضا، فصالح الوارث زوجة الميت على دنانير من ماله أي الوارث، فإن كان حظها من الدراهم يسيرا أقل من صرف الدينار جاز إن لم يكن في التركة دين، وإن كان في حظها منها صرف دينار فأكثر لم يجز، وهو معنى قوله:"كبيع وصرف" أي فإن قلت الدراهم التي تخصها أو العروض التي تخصها. بأن نقصت أو نقصت قيمة العروض عن دينار جاز الصلح لأنه بيع وصرف اجتمعا في دينار. قاله الخرشي وغيره.
وإن كان فيها دين فكبيعه يعني أنه إذا كان في التركة دين وأراد الوارث أن يدفع للزوجة أو غيرها من الورثة شيئًا من عنده في المصالحة على حظها أو حظه من التركة فإن ذلك حكمه حكم بيع الدين، فإذا كان في التركة دين من دنانير أو دراهم لم يجز الصلح على دنانير أو دراهم نقدا من عند الوارث، وإن كان الدين حيوانا أو عرضا من بيع أو قرض أو طعاما من قرض لا من سلم فصالحها الوارث عن ذلك على دنانير أو دراهم عجلها لها من عنده فذلك جائز إذا كان الغرماء حضورا مقرين ووصف ذلك كله كذا في المدونة، وهذا ظاهر حيث لم يكن في التركة نقد، وأما إن كان فيها نقد فلا يجوز صلحه بدنانير أو دراهم معجلة؛ لأن حكم العرض مع النقد حكم العين. انظر الرهوني. وشرح عبد الباقي.
(1)
كذا في الأصل ولعلها: من أن.
قوله: "وإن كان فيها دين فكبيعه" هذا جار في جميع صور المصالحة من غير التركة، وكذا إن كان الدين في نوع ما صالحها به أو في غير نوعه وصالحها بأزيد من حظها من النوع الذي صالحها به، فإذا صالحها بذهب قدر مورثها منه فأقل والدين في غير ذلك جاز، وإن صالحها من المذهب بأكثر من حظها والدين في الدراهم أو في العرض فلابد في ذلك من مراعاة بيع الدين، وقصد المص استيفاء الفروع التي في المدونة وإلا فقوله:"وعن دراهم" لخ يغني عنه قوله: "إن قلت الدراهم"، وكذا قوله:"وإن كان فيها دين فكبيعه" يغني عنه قوله فيما مر "وأقر المدين وحضر".
وَلَمَّا تكلم على الصلح على الأموال، شرع يتكلم على صلح الدماء فقال: وعن العمد بما قل أو كثر يعني أنه يجوز الصلح عن دم العمد في نفس أو طرف بما قل عن الدية أو كثر عنها؛ لأن العمد لا دية فيه وإنما فيه القصاص، فتجوز المصالحة على تركه بدية النفس أو بأكثر منها أو بأقل، وكذا يقال فيما دون النفس، قال عبد الباقي: وجاز الصلح عن دم العمد نفس أو جرح بما قل عن الدية وكثر عنها معينا ذلك عند عقد الصلح؛ لأن دم العمد لا دية فيه، وأما إن وقع وقته مبهما فينعقد ويكون كالخطإ. قاله ابن رشد. انتهى. وقال المواق من المدونة: كل ما وقع به الصلح عن دم عمد مع المجروح أو مع أوليائه بعد موته فذلك لازم، كان (أكثر)
(1)
من الدية أضعافا أو أقل من الدية لأن دم العمد لا دية فيه إلا ما اصطلحوا عليه، وإذا وجب لمريض على رجل جراحة عمدا فصالحه في مرضه على أقل من الدية أو من أرش تلك الجراحة، ثم مات من مرضه فذلك جائز لازم؛ إذ للمقتول العفو عن دم العمد في مرضه وإن لم يدع مالًا. انتهى.
لا غرر يعني أنه لا يجوز الصلح عن دم عمد ولا عن غيره بالغرر، قال الخرشي: الأحسن عطفه على ما يفيده الكلام السابق أي وجاز الصلح بما استوفى الشروط لا بغرر. انتهى. وقال المواق من المدونة: لا يجوز الصلح عن جناية العمد على ثمرة لَمْ يَبْدُ صلاحها، فإن وقع ذلك ارتفع القصاص وقُضِيَ بالدية. انتهى.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من المواق ج 7 ص 12.
ومثل للغرر بقوله: كرطل من شاة قال عبد الباقي عند قوله "كرطل من شاة" ما نصه: كرطل أو أرطال من شاة صالح صاحبها بذلك ذا دين عليه وهي حية كما في المدونة، أو ذبحت ولم تسلخ كما عَوَلَّ عليه أبو الحسن على المدونة، فإن سلخت جاز وكذا يجوز صلحه بجميعها حية أو مذبوحة، ومن الممنوع صلحه بثمرة لم يبد صلاحها لأن الصلح عقد معاوضة يمنع فيه الغرر كسائر المعاوضات. قاله أبو الحسن. فَإن وقع الصُّلْحُ ارتفع القصاص وقضي بدية عمد.
فرع:
قال ابن راشد: ولو وقع الصلح على أن يرتحل القاتل من بلد الأولياء، فقال ابن القاسم: الصلح منتقض، ولصاحب الدم أن يقوم بالقصاص، وقال أصبغ والغيرة: يجوز ويحكم على القاتل بأن لا يساكنهم أبدا كما شرطوه وهذا هو المشهور العمول به، واستحسنه سحنون، وعلى قول أصبغ إن لم يغب أو غاب ثم عاد وكان الدم قد ثبت فلهم القود والدية، وإن لم يثبت كانوا على حجتهم. انتهى كلام عبد الباقي.
قوله: فرع قال ابن راشد لخ قال الرهوني: سلم كلام ابن رَاشِدٍ هذا كما سلمه علي الأجهوري وفيه نظر من وجوه، أحَدُهَا أن ما نسبه لابن القاسم من الرجوع للقصاص مخالف لما نسبه له الناس من الرجوع للدية ثَانِيهَا: أن في نسبه لأصبغ خلاف ما في المفيد عنه، وَالْجَوَابُ عن هذا أن لأصبغ قولين. ثَالِثُهَا أن ما رتبه على المشهور من أنه إن لم يغب أو غاب ثم عاد وكان الدم قد ثبت فلهم القود لخ لا يصح، وإن وقع مثله لابن هارون في اختصار المتيطية.
ثم قال الرهوني بعد جلب كثير من النقول ما نصه: فَتَحصَّلَ مما سبق كله أن الصلح إن انعقد على شرط الرحيل جزما ففي صِحَّتِه ولزومِه وصحِته وبطلان الشرط ثَالِثُهَا: بطلانهما والرجوع إلى الدية، وَرَابعُها والرجوع إلى القود لأصبغ في الواضحة والمغيرة، وسحنون مع المشهور والمعمول به، وأصبغ في كتاب ابن وضاح مع ابن كنانة وابن القاسم وابن نافع، وإن انعقد على أنه إن ارتحل ولم يعد فقد أسقطوا حقهم، وإن لم يرتحل أو ارتحل ثم عاد فهم مخيرون بين القود والدية لم يجز حتى على المشهور، وإن انعقد على أنه إن فعل ذلك فقد أسقطوا حقهم وإن لم يفعل فهم على حقهم فهو صحيح على القول المشهور، فإن وفى بالشرط المعلق عليه لم يكن للأولياء معه كلام، وإن لم يوف فلهم القود إن ثبت الدم وسجنه وطلبهم للحجة إن لم يثبت. فَشُدَّ يدك على
هذا التحرير العجيب. ولا تلتفت لما خالفه وإن قاله من له في المعلوم والتحقيق أَوْفَرَ نصيبْ. وقد رأيت دليله من العقول والمنقولْ. فلم يبق فيه لصنف ما يقول. واللَّه الموفق. انتهى كلام هذا الرجل ذي القدم الراسخ جزاه اللَّه عنا خيرا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذي دين محيط منعه منه يعني أن المدين دينا محيطا إذا وجب عليه القصاص فأراد أن يصالح عن القصاص الذي ترتب عليه بمال، فإن لرب الدين المحيط أن يمنعه من ذلك سواء كان القصاص متعلقا بنفسه أو بطرف من أطرافه كما هو ظاهر كلام غير واحد؛ إذ فيه إتلاف ماله على ما لم يعامله عليه غرماؤه، ومفهوم قوله:"محيطٍ" أنه إن لم يحط الدين بماله فلا كلام للغرماء أي فليس لهم أن يمنعوه من الصلح عن القصاص؛ لأنه قادر على وفاء الحق بما بقيَ ولو بتحريكه.
تنبيه:
ظاهر قوله: "وعن العمد" لخ أنه يجوز الصلح ولو قبل ثبوت الدم وهو كذلك، وقوله:"ولذي دين محيط" لخ قال عبد الباقي: فإن قلت لِمَ كان لذي دين منعه هنا؟ فقدمنا الغرماء هنا على الجسد وهم مؤخرون عن القوت كما مر، فالجواب أنه هنا ظالم بالجناية فلا يضر الغرماء بظلمه، وهناك معذور فقدم بدنه على مال الغير كالمجاعة كذا في الذخيرة. انتهى. ثم تمم قوله:"وعن العمد بما قل" لخ فقال: وإن رد مقوم بعيب يعني أنه إذا وقع صلح العمد مطلقًا أو الخطإ على إنكار على مقوم معين كعبد أو فرس أو ثوب أو دار أو نحو ذلك ثم اطلع فيه على عيب، فإن المجني عليه له أن يرده ويرجع بقيمة ذلك العين الذي رده بالعيب، ولا يرجع إلى القود ولا إلى الخصومة في الإنكار.
أو استحق يعني أنه إذا وقع صلح العمد مطلقًا أو الخطإ على إنكار على مقوم معين ثم استحق من يد المجني عليه، فإنه يرجع بقيمة ما استحق من يده ولا يرجع للقود في الإقرار بالعمد، ولا إلى الخصومة في الإنكار.
وعلم مما قررت أن قوله: رجع بقيمته جواب الشرط فهو راجع للمسألتين، وفاعل "رجع" ضمير يعود على المصالح المجني عليه، والضمير في قيمته عائد على المصالح به. قال عبد الباقي: وإن رد مقوم معين كعبد أو فرس أو ثوب معين صولح به عن دم عمد مطلقًا أو عن خطإ على إنكار
بعيب، اطلع عليه آخذه أو استحق ذلك القوم المصالح به أو أخذ بشفعة رجع المصالح على دافعه بقيمته يوم عقد الصلح به سليما صحيحا، لا بما صولح عنه إذ ليس للدم ولا للخصام في الإنكار قيمة يرجع بها، وأما على إقرار ففي غير الدم يرجع في المقر به إن لم يفت وفي عوضه إن فات وفي الدم يرجع للدية، وما ذكرته من اعتبار القيمة يوم عقد الصلح نحوه في الحطاب عن أبي الحسن، فَذِكرهُ عليٌّ الأجهوري عن بعض مشايخه بلفظ ينبغي قصُورٌ، وكلام المص فيما إذا وقع الصلح على مقوم معين كما ذكرنا، فإن كان القوم مبهما موصوفا رجع بمثله مطلقًا. انتهى.
قوله: أو أخذ بشفعة، صورتها أن يصالح الجاني المجني عليه في دم عمد مطلقًا أو خطإ عن إنكار بشقص من دار مشتركة بين الجاني وغيره فأخذ الشريد الشقص من يد المجني عليه بالشفعة، فإن المجني عليه يرجع بقيمة الشقص ولا يرجع إلى القود ولا إلى الخصومة في الإنكار. كنكاح يعني أن المرأة إذا استحق من يدها صداق معين مقوم أو ظهر به عيب، فإنها ترجع بقيمة ما استحق من يدها أو تعيب صحيحا سليما على الزوج، ولا ترجع في بضعها فلا ينفسخ النكاح وقد مر هذا.
وخلع يعني أن الزوجة إذا اختلعت من زوجها بمقوم معين ثم استحق ذلك المعين من يد الزوج أو تعيب، فإنه يرجع بقيمة ذلك المستحق أو المتعيب صحيحا سليما ولا يرجع في عصمة زوجته فقد بانت منه، ومر هذا مستوفى فراجعه إن شئت. قال عبد الباقي: كنكاح وقع صداقه عبدا مثلا فوجدت الزوجة به عيبا وخلع وقع على كعبد، فاطلع الزوج فيه على عيب رجعت الزوجة في النكاح والزوج في الخلع بقيمته صحيحا سليما لأنها قيمة معلومة لا بما خرج من اليد إذ لا قيمة له، وكذا في استحقاق ذلك وأخذ الشفيع له بالشفعة بقيمة الشقص، وكالنكاح والخلع غيرهما من بقية النظائر السبعة التي استثناها في فصل الاستحقاق؛ إذ قال:"وفي عرض بعرض بما خرج من يده أو قيمته إلا نكاحا وخلعا وصلح عمد؛ أي عن إقرار أو إنكار ومقاطعا به عن عبد أو مكاتب أو عمرى". انتهى. والطارئ على جميع ذلك إما عيب أو استحقاق أو أخذ بشفعة، فثلاثة في سبعة بأحدٍ وعشرين، قال ابن غازي وكنا نظمناها في بيت وهو:
صلحان عتقان وبضعان معا
…
عمرى لأرش عوض بها ارجعا
وقد فصلها التتائي هنا. انتهى.
وإن قتل جماعة أو قطعوا جاز صلح كل والعفو عنه قتل بالبناء للفاعل وكذا قطعوا، قال الخرشي: يعني أنه لو قتل جماعة رجلا أو رجالا عمدا أو قطعوا يد واحد أو يدين وثبت ذلك ببينة أو اعتراف، فإن ولي الدم يجوز له أن يصالح البعض أي بعض القاتلين أو القاطعين ويعفو عن البعض الآخر، ويجوز له أن يصالح كلا ويعفو عن كل مجانا، فقوله:"قتل" لخ بالبناء للفاعل فيهما وهو صحيح جار مع نص المدونة في تعدد القاتلين أو القاطعين وكذلك الجارحون، وأما العكس وهو تعدد المقتولين واتحاد القاتل فروى يحيى عن ابن القاسم: من قتل رجلين عمدا وثبت ذلك عليه فصالح أولياء أحدهما على الدية وعفوا عن دمه، وقام أولياء الآخر بالقود فلهم القود، فإن استقادوا بطل الصلح ويرجع المال إلى ورثته لأنه إنما صالح على النجاة من القتل. انتهى. المراد منه.
وقال عبد الباقي: وإن قتل جماعة أو قطعوا بالبناء للفاعل في الفعلين رجلا أو رجالا جاز صلح كل والعفو عنه، وجاز قصاص كل. انتهى. وقوله:"وجاز صلح كل" أي على انفراده كما في شرح عبد الباقي، وفي المواق عن المدونة: قال ابن القاسم: إذا قطع جماعة يد رجل أو جرحوه عمدا فله صلح أحدهم والعفو عن من شاء منهم، والقصاص ممن شاء منهم وكذلك الأولياء في النفس. انتهى. وقال البناني: قال مصطفى: إذا علمت مذهب ابن القاسم أن العمد ليس فيه إلا القصاص أو العفو مجانا ولا يكون الصلح إلا برضاهما ظهر لك عدم صحة قول صاحب التكملة: الخيار لأولياء المقتولين فقط، وظهر لك أنه يصح التخيير لأولياء المقتولين باعتبار أن لهم طلب الصلح، لكن يتوقف على رضى القاتلين وكذا العكس، فافهم فلا مخالفة بين كلام الش والمدونة والكل صحيح بهذا الاعتبار. انتهى.
وإن صالح مقطوع ثم نُزِيَ فمات فللولي لا له رده والقتل بقسامة يعني أن من قطعت يده أو رجله عمدا في حال صحته، ثم صالح القاطع من قطعت يده بشيء ثم سال دمه إلى أن أدى إلى الموت،
فإن لأولياء المقطوع أن يمضوا هذا الصلح ولهم أن يردوه ويقتلون القاطع بعد أن يقسموا لمن ذلك الجرح مات؛ لأن الصلح إنما كان على القطع وكشف الغيب أنه نفس، فالواجب عليه غير ما صالح عنه، فإن أبوا أن يقسموا فليس لهم إلا المال الذي وقع به الصلح، وليس للقاطع أن يرد الصلح ويقول للأولياء ردوا المال الذي وقع به الصلح واقتلوني بغير قسامة؛ لأن الجناية آلت إلى نفس ولا يجاب إلى ذلك؛ لأن النفوس لا تباح إلا بأمر شرعي، والمراد بالقطع الجرح كان قطعا أو غيره ولو قال مجروح كان أشمل. قاله الخرشي.
وقال عبد الباقي: وإن صالح مقطوع أو مجروح عمدا على مال عن القطع فقط، ثم نزي بالبناء للمجهول أي سال دم الجرح المفهوم من قوله:"مقطوع" فمات المقطوع فللولي -واحدا أو متعددا أي ولي الميت لا له أي للقاطع- رده أي المال المصالح به والقتل بقسامة أنه مات من ذلك الجرح؛ لأن الصلح إنما كان عن قطع وكشف الغيب أنه نفس، وإنما أقسموا لتراخي الموت عن الجرح ولهم بقاؤه على ما صالح به المقطوع، وليس لهم إمضاء الصلح وأخذ باقي الدية، فإن أبوا أن يقسموا فليس لهم إلا ما وقع به الصلح. اهـ المراد منه.
كأخذهم الدية في الخطإ قال الخرشي: تشبيه تام؛ يعني أن من قطعت يده أو رجله في حال صحته خطئا ثم صالح فمات فلولي المقطوع إمضاء الصلح، وله أن يرد الصلح ويأخذ الدية بعد أن يحلف أيمان القسامة، وتكون الدية على العاقلة ويرجع الجاني بما دفع من ماله لأنه كواحد منهم فإن أبى الولي من القسامة كان له المال الذي وقع به الصلح، وإنما أتى بضمير الجمع هنا ولم يأت بضمير الفرد الراجع للولي إشارة إلى أنه لا فرق بين الواحد والمتعدد. انتهى. فالمراد بالولي الجنس.
وقال عبد الباقي: ثم إن كلام المص فيما إذا وقع الصلح على الجرح دون ما يئول إليه وإلا منع في الخطإ، وكذا في عمد فيه القصاص على ما استظهر الحطاب وهو أحد القولين الآتيين في المص؛ وأما ما لا قصاص فيه فإن وقع عليه وعلى ما يؤول إليه حتى الموت امتنع أيضًا، وإن وقع عليه وعلى ما يؤول إليه دون الموت فإن كان فيه شيء مقرر ففي جوازه قولان، وإن كان لا شيء فيه مقرر لم يصالح عليه إلا بعد برئه. انظر الأجهوري. اهـ
قوله: وإلا منع في الخطإ أي اتفاقا إن لم يبلغ الثلث، وعلى أحد القولين إن بلغ ثلث الدية، ونص ابن رشد على اختصار ابن عرفة الصلح في الجراحات على تراميها للموت في الخطإ فيما دون الثلث كالموضحة لا يجوز اتفاقا؛ لأنه لا يدري يوم الصلح ما يجب عليه ويفسخ إن وقع، فإن برئ ففيه أرشه وإن مات فالدية على العاقلة بقسامة، وفيما بلغ الثلث في منعه وجوازه نقلا ابن حبيب وغيره، وفي العمد الذي فيه القود قولان: المنع لسماع عيسى والجواز لقول ابن حبيب مع قول صلحها والجواز فيه أظهر وما لا قود فيه لا يجوز على تراميه للموت. قاله ابن حبيب. وعلى الجرح دون تراميه للموت أجازه ابن حبيب فيما فيه عقل مسمى. قال مرّة عليه وعلى ما ترامى إليه دون الموت ومرة عليه فقط. انتهى ببعض إيضاح.
وقد نقل الحطاب كلام ابن رشد مبسوطا فانظره، فقول الزرقاني على ما استظهره الحطاب غير صواب لاقتضائه أن الحطاب استظهر المنع وليس كذلك، بل المستظهر هو الجواز لا المنع والذي استظهره هو ابن رشد كما تقدم لا الحطاب، فانظره. قاله البناني. وقال الحطاب: قال ابن رشد: أما جراح الخطإ الذي دون الثلث كالموضحة فلا خلاف في أن الصلح فيها على ما ترامت إليه من موت أو غيره لا يجوز؛ لأنه إن مات كانت الدية على العاقلة فهو لا يدري يوم صالح ما يجب عليه، وإن وقع الصلح على ذلك فسخ إن عثر عليه واتبع فيه مقتضى حكمه لو لم يكن صلح فإن برئ كان عليه دية الموضحة، وإن مات كانت الدية على العاقلة بقسامة وإن بلغ الجرح ثلث الدية ففيه قولان: أحدهما أنه لا يجوز وهو قوله في هذه الرواية وظاهر ما حكم به ابن حبيب في الواضحة، والثاني أنه جائز. انتهى المراد منه.
وإن وجب -أي ثبت- لمريض على رجل جرح عمدا هذا لفظ المدونة، فقال أبو الحسن: المرض هنا من ذلك الجرح وهو غير ظاهر لأنه يوجب التكرار مع ما مر، وقال الحطاب والسنهوري والأجهوري وعبد الباقي: إن المرض من غير الجرح. قال عبد الباقي: والجرح طارئ على المرض كما تدل عليه عبارته، وقرره شيخنا اللقاني على أنه لا فرق بين تقدم المرض عن الجرح وتأخره، وما يأتي في الجنايات لم يحصل فيه صلح.
فصالح المريض عن جرحه في مرضه بأرشه أو غيره إن لم يكن فيه شيء، أو بأقل من ديته إن كان فيه شيء معين، ثم مات من مرضه من على بابها بمعنى الأجلية. وقال غير واحد بمعنى في وهي ظرفية: زمانية لأنه إذا تحقق أن موته من مرضه لم يأت قوله: وعلى ما يئول إليه، ويأتي أن التحقيق الأول جاز ذلك الصلح ابتداء. ولزم بعد وقوعه. قاله عبد الباقي. ومعنى كلامه أن المريض الذي ثبت له على رجل جرح عمدا ببينة أو اعتراف نشأ مرضه من ذلك الجرح على قول أبي الحسن، أو طرأ مرضه على الجرح لا من الجرح على ما للقاني أو مرض ثم جرح الجرح المذكور على ما هو التحقيق إذا صالح عن جرحه في مرضه بأرش ذلك الجرح أو بغيره حيث لم يكن فيه شيء مقرر أو فيه وصالح بأقل من الأرش، ثم إن المريض مات من مرضه على ما هو التحقيق أو في مرضه على غيره، فإن ذلك الصلح يجوز ابتداء ويلزم بعد الوقوع.
واختلف الشيوخ هل يجوز ذلك ويلزم إن صالح عن الجرح الحاصل بخصوصه أو عليه؟ وعلى ما يئول إليه، أو إنما يجوز ويلزم إن صالح عليه أي على الجرح فقط، لا إن صالح عليه وعلى ما ينول إليه فلا يجوز ولا يلزم في ذلك تأويلان: الأول هو ظاهر المدونة وتأولها عليه ابن العطار، والثاني تأولها عليه غير واحد وهو موافق لقول ابن القاسم، قال عياض: وعن ابن القاسم يمتنع الصلح إلا بعد البرء خشية السريان، قال البناني: قال أبو الحسن: عياض: تأولها غير واحد على أن الصلح على الجرح دون ما يئول إليه من النفس، وتأولها ابن العطار على الجرح وما يتناهى إليه، وفي العتبية لابن القاسم: لا يجوز أن يصالحه بشيء على الجرح والموت إن كان، لكن يصالحه بشيء معلوم، فإن عاش أخذ ما صالحه عليه، وإن مات كانت فيه القسامة والدية في الخطإ والقتل في العمد.
تنبيه:
اعلم أن الصواب في تقرير المص كون من على بابها تعليلية، وأن المرض من غير الجرح، واعلم أن الذي في الحطاب وابن غازي أنه إن وقع الصلح على الجرح فقط جاز على كل من التأويلين، فإن مات من مرضه لزم الصلح الورثة وإن نزي فمات فالحكم ما تقدم في المسألة الأولى؛ يعني فللولي لا له رده والقتل بقسامة، وإن صالح عليه وعلى ما يئول إليه فعلى التأويل الثاني الصلح باطل، ويعمل بمقتضى الحكم لو لم يكن صلح وعلى التأويل الأول يلزم الصلح وإن نزي
فيه فمات فلا كلام للأولياء، قال الحطاب: وليس معنى هذا القول أنه إذا وقع الصلح على الجرح فقط ثم نزي فمات أن الصلح لازم للورثة؛ إذ لم يقل بذلك أحد فيما علمت. اهـ. نقله البناني.
وقوى الرهوني ما للحطاب، وقال إنه هو الحق، ثم قال بعد جلب كثير من النقول: وحاصل المسألة أن الصلح إن وقع عن الجرح وحده بعد تحقق البرء وصحة المجروح فهو جائز بلا خلاف، وإن وقع على الجرح وحده قبل البرء فهو جائز على المشهور خلافا لأحد قولي ابن القاسم، ثم على المشهور إن لم يترام إلى الموت فلا إشكال، وإن ترامى إليه فالأولياء مخيرون بين أن يتماسكوا به وبين أن يردوه فيقسموا، ويكون لهم القود في العمد والدية في الخطإ، وإن وقع عليه وعلى ما يئول إليه في العمد الذي فيه القصاص، فمنعه ابن القاسم وحمل الأكثر عليه المدونة، وأجازه ابن حبيب واختاره ابن رشد، وحمل هو وابن العطار عليه المدونة، والأول هو الراجح والجاري على المشهور، وقول مالك في المدونة في الصلح عن دم العمد بما فيه غرر والثاني هو الجاري على قول الغير فيها الذي استحسنه سحنون، فعلى الثاني لا إشكال ولا كلام لعاقده ولا لورثته إن ترامى إلى الموت، وعلى الأول فهو باطل مطلقًا فإن ترامى إلى الموت فلورثته أن يقسموا ويقتصوا على ما قاله الحطاب وسلمه من قدمنا ذكرهم؛ يعني الأجهوري وأتباعه وأحمد بابا وابن عاشر ومصطفى وأبو علي وجسوس والتاودي والبناني والجنوي وغيرهم، والصواب أنه ليس لهم بعد القسامة إلا الدية كما قدمناه عن المدونة، ولأن القول الآخر شبهة ولو كان ضعيفا فكيف مع قوله؟ وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(ادرءوا الحدود بالشبهات)
(1)
، هذا الذي ظهر لي بعد البحث ومراجعة ما أمكن مراجعته واستعمال الفكر وإطالة النظر وشدة التأمل وطول السهر، وهو الحق إن شاء اللَّه كما يظهر لكل منصف ذي بصر، فالحمد والشكر الأكملان لمن منَّ بتحريره وأنعم بتوضيحه وتقريره، والصلاة والسلام الأتمان على الواسطة العظمى في حل كل مقفل وتيسيره، سيدنا محمد وآله وأصحابه الباذلين نفوسهم في نصرة دينه وتقريره وتوقيره،
(1)
الجامع الصغير، رقم الحديث 314.
وعلى كل من تبعهم بإحسان وخصوصا القائمين بحفظ شرعه وصونه عن تغييره. اهـ. كلام هذا الفحل الشامخ، والقرم ذي القدم الراسخ، واللَّه تعالى أعلم.
وقال عبد الباقي: هنا وليس القصاص في مثل هذا من القصاص بالشك كما في المسألة الآتية في قوله في باب الجراح: "ومرض بعد الجرح" لما علمت من أن المرض هنا سابق على الجرح، ومحل التأويلين في عمد فيه قصاص، وأما في خطإ أو عمد لا قصاص فيه لكونه من المتالف فيمنع الصلح على ما يؤول إليه حتى الموت اتفاقا، فإن وقع على ما يؤول إليه دون الموت ففي جوازه قولان إن كان في الجرح شيء مقرر، وإلا لم يصالح عليه إلا بعد البرء. اهـ كلام عبد الباقي.
وإن صالح أحد وليين فللآخر الدخول معه يعني أن المقتول عمدا إذا كان له وليان فصالح أحدهما القاتل بمال، فإن للولي الآخر أن يدخل مع المصالح فيما صالح به بأن يأخذ نصيبه من القاتل على حساب دية العمد ويضمه إلى ما صالح به صاحبه ويقتسمان الجميع كأنه هو المصالح به. قاله الحطاب. الرهوني: وهو في المدونة، وله أن لا يدخل معه ويأخذ ما ينوبه من الدية.
وسقط القتل بذلك الصلح فليس للآخر إلا الدخول مع المصالح فيما صالح به ويجبر المصالح على ذلك أو اتباع الجاني بما ينوبه من الدية، وهذا قول ابن القاسم في المدونة، وقال غيره في المدونة: إن المصالح يختص بما صالح به عن حصته ولا يدخل معه الآخر. وقوله: "وإن صالح أحد وليين" لخ أي صالح عما فيه قصاص سواء صالح عن الدم كله بأكثر من الدية أو أقل، أو صالح عن حصته فقط بأكثر مما ينوبه من الدية أو بأقل. قال عبد الباقي: وإن صالح أحد وليين لمقتول عما فيه قصاص إما عن الدم كله سواء صالح بأكثر من ديته أو أقل، وإما عن حصته فقط بأكثر مما ينوبه من الدية أو بأقل، فللآخر إذا طلب الأخذ بما يجب له الدخول معه جبرا فيأخذ ما ينوبه ولو وقع الصلح بقليل وسقط القتل وله عدم الدخول معه فله نصيبه من دية عمد كما يأتي في باب الجراح، فليس لمن صالح الدخول معه حينئذ وله العفو، فلا دخول له مع المصالح وليس له القتل لقوله:"وسقط إن عفا رجل كالباقي" مع أن الأول إذا عفا بغير شيء فليس للآخر القتل، وإنما له التكلم في المال.
وما قررت به المص من أن معنى قوله: "فلصاحبه الدخول معه" أنه يأخذ من القاتل نصيبه من الدية ويضمه إلى ما صالح به الآخر ويقتسمان الجميع لا يعارض ما يأتي من قول المص: "وإن صالح على عشرة من خمسينه" لأن ما هنا في الصلح عن دم العمد، وما يأتي في الصلح عن المال، وَالْفَرْقُ بينهما ظاهر لأنه هنا أبطل حق صاحبه الواجب له أصالة وهو القصاص، فوجب أن يدخل معه فيما أخذه إن شاء بخلاف المال إذ ما كان له قبل الصلح هو الذي له بعده كذا يظهر لي، ثم وجدته منصوصا لابن يونس. نقله عن بعض القرويين وسلمه. فإنه لما ذكر قول ابن القاسم في المدونة مثل ما قاله المص، وقول الغير فيها أنه لا دخول لواحد منهما على الآخر وهو كعبد بينهما باع أحدهما حصته بما شاء فلا يدخل عليه الآخر ما نصه: قال بعض القرويين: ولا يلزم ما احتج به الغير ابن القاسم والفرق عنده بين بيع أحد الشريكين حصته من عبد وبين صلحه عن حصتة من الدم أن بيع الشريك حصته من العبد لم يغير على شريكه شيئًا من حصته، فوجب أن لا يدخل عليه وفي الصلح عن الدم قد تغير الأمر بصلح الشريك؛ لأن بصلحة عاد مالًا بعد أن كان دما. اهـ منه بلفظه. وهو موافق لما كان ظهر لنا والحمد للَّه، وثمرة هذا الخلاف إنما تظهر إذا اصطلحا على أكثر من نصف الدية أو على عرض أو دار مثلا، وأما على نصف الدية فلا وكذا على أقل لأن الخيار له وهو لا يختار ما يوجب له الأقل، فإن اختار على سبيل التجوز فقد رضي بترك حقه. فتأمله واللَّه أعلم.
تنبيه:
قال جسوس بعد ما قرر كالأم المص ما نصه: وظاهر ما تقدم أن لمن بقيَ نصيبه، رضي الجاني أم لا وهو قول أشهب، ومذهب ابن القاسم أن ذلك إذا رضي الجاني، وفي التحفة:
وإن ولي الدم للمال قبل
…
والقود استحقه فيمن قتل
فأشهب قال للاستحياءِ
…
يجبر قاتل على الإعطاءِ
وليس ذا في مذهب ابن القاسمِ
…
دون اختيار قاتل بلازمِ
اهـ منه بلفظه. وهذا سهو منه رحمه الله أو سبق قلم، وليس معناه ما فهمه منه ومعناه بين. واللَّه أعلم. قال جميعه الرهوني.
كدعواك صلحه فأنكر تشبيه في سقوط القود؛ يعني أن الجاني عمدا إذا ادعى عليه ولي الدم أنه صالحه على مال فأنكر الجاني ذلك، فإن القود يسقط عن الجاني، وكذا المال إن حلف الجاني، فإن نكل حلف مستحق الدم واستحق المال. قاله الخرشي وعبد الباقي. وزاد عبد الباقي: فإن نكل فلا شيء له فيما يظهر. اهـ. قال غير واحد: وإنما سقط القود والمال مع حلف الجاني لأن دعوى ولي الدم أثبتت أمرين: إقراره على نفسه بأنه لا يقتص منه، وأنه يستحق عليه مالًا فيؤخذ بما أقر به على نفسه ولم يعمل بدعواه على الجاني بالمال. انتهى.
وقال المواق: من المدونة: قال ابن القاسم: من وجب لك عليه دم عمدا وجراحة فيهما قصاص، فادعيت أنك صالحته على مال فأنكر الصلح فليس لك أن تقتص منه ولك عليه اليمين أنه ما صالحك. اهـ.
وإن صالح مقر بخطإ بماله لرمه يعني أن من أقر بقتل خطإ إذا صالح بمال فإنه يلزمه الصلح، فلا رجوع له. فقوله:"بخطإ" متعلق "بمقر"، وقوله:"ما له" متعلق: "بصالح" وقوله: "لزمه" جواب الشرط. قال الشارح مفسرا للمص: مراده أن من أقر بقتل خطإ ولم تقم عليه بالقتل بينة فصالح الأولياء على مال وظن أن ذلك يلزمه، فليس له رجوع في الصلح ويلزمه. ونحوه في المدونة. اهـ.
وهل أي اختلف الشيوخ بم يلزم الصلح؟ فتأول أبو عمران المدونة على أنه يلزم بالعقد، وعليه فيلزم مطلقا فيما دفع من المال الصالح به وفيما لم يدفعه، أو أي وتأول ابن محرز المدونة على خلاف ذلك وهو أن الصلح إنما يلزم بالدفع لا بالعقد، وعليه فيلزمه في ما دفع من المصالح به، فإن لم يدفع شيئًا لم يلزمه وإن دفع جميع ما صالح به لزمه، وإن دفع بعضه لزمه ما دفع دون ما لم يدفع.
وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، قال البناني: الأول لأبي ضمران والثاني لابن محرز وهما على قول المدونة، ولو أقر رجل بقتل رجل يعني خطئا ولم تقم بينة فصالح الأولياء على مال قبل أن يلزم الدية على العاقلة بقسامة وظن أن ذلك يلزمه فالصلح جائز. اهـ. أبو الحسن: أي لازم نافذ، وانظر بماذا يلزم قال أبو عمران بالعقد؟ وقال ابن محرز: إنما يلزم
بالدفع. اهـ. وقد بقي على المص التقييد بظن اللزوم، والتأويلان مبنيان على أن العاقلة تحمل الاعتراف كما في الحطاب ومصطفى. اهـ.
واعلم أنه اختلف فيمن أقر بقتل خطإ على أربع روايات: الأولى: أنه إن اتهم أن يكون أراد إغناء ولد المقتول كالأخ والصديق لم يصدق، وإن كان من الأباعد صدق إن كان تقيا مأمونا ولم يخف أن يرشى عن ذلك ثم تكون الدية على العاقلة بقسامة، فإن لم يقسموا فلا شيء لهم. الرواية الثانية: أنها على المقر في ماله، الثالثة: لا شيء عليه ولا على عاقلته، الرابعة: تفض عليه وعلى عاقلته فما أصابه غرمه وما أصاب العاقلة سقط.
إلا إن ثبت القتل وجهل لزومه هذا مفهوم قوله: "مقر بخطإ" يعني أنه إذا ثبت هذا الخطأ ببينة وصالح الجاني أولياء المقتول عن الدية ظنا منه أنها تلزمه لأجل جهله بالحكم، فإن الصلح لا يلزمه. وقوله:"وجهل لزومه" أي تصور في نفسه لزومه أي المال الذي هو الدية له؛ إذ الجهل تصور الشيء على خلاف ما هو عليه، وحينئذ فيندفع ما قيل إن الذي جهله هو عدم لزوم الدية لهم لا اللزوم، فإما أن يكون معناه جهل لزومها للعاقلة أو معناه جهل شأن اللزوم؛ أي لم يعرف يلزم من؛ لأن هذا على تفسير الجهل بالعدمي أي عدم العلم بالشيء لا بالوجودي كما ذكرنا. قال العوفي: ولابد من ثبوت أنه يجهل أي بالفعل، أو أن مثله يجهل فهما صورتان. انتهى. انتهى. قاله الشيخ عبد الباقي.
وحلف يعني أن هذا الصالح الذي جهل لزوم الدية وقد قلنا إنه لا يلزمه الصلح، فإنما ذلك بشرط أن يحلف على ما ادعى من الجهل، فيحلف حيث ثبت قتل الخطإ ببينة أنه ظن لزوم الدية له بانفراده. وقوله: ولابد من ثبوت أنه يجهل بالفعل هذا يكفي في ثبوت اليمين، ولا يمكن أن يكون بالبينة لأنه لا يعلم إلا من جهته. قاله بعضهم. وهو قول المص:"وحلف" لخ. الشيخ أبو الحسن: يقوم من هنا أن من ادعى الجهل فيما الغالب أن جنسه يجهله أنه يصدق. اهـ. قاله البناني. وإذا حلف المصالح الذي ظن لزوم الدية له بانفراده في مسألة ثبوت قتل الخطإ ببينة، رد بالبناء للمفعول المال المصالح به ما عدا ما يخصه مع العاقلة فإنه لا يرد، ولا يقال نصيبه هو لا يلزمه إلا منجما لأنا نقول هو متطوع بتعجيله. قاله عبد الباقي.
إن طلب بالبناء للمجهول به أي بالصلح من أولياء المقتول مطلقًا. وجد ما صالح به بيد أولياء المقتول أم لا، فيرجع في عينه إن كان باقيا، وفي مثله أو قيمته إن فات بذهاب عينه؛ لأنه كالمغلوب على الصلح أو طلبه أي كان الجاني خطئا هو الطالب للصلح، والحال أنه وجد ما دفعه في الصلح بيد أولياء المقتول كلا أو بعضا، فيرجع فيه وما فات أو تلف فلا شيء له فيه قِبَلَهُم، كمن أثاب على صدقة ظانا لزوم الثواب. قاله التتائي. ويحسب له وللعاقلة ولا يرجع عليهم بشيء. قاله عبد الباقي. وقوله:"إن طلب" شرط في الرد، وقوله:"أو طلبه" عطف على "طلب"، وحاصله أنه إذا كان هو المطلوب بالصلح يرد له ما دفع إن كان باقيا، فإن فات بذهاب عينه رجع بقيمته أو مثله، وإن كان هو الطالب رد له ما وجد بأيديهم وما فات لا شيء له فيه، ويحسب له وللعاقلة ولا يرجع عليهم بما حسب لهم. قاله الهاروني. وقال شيخنا البنوفري: بل يرجع على العاقلة بما حسب لها، ومقتضى نقل الشارح والمواق أنه لا يحسب له ولا للعاقلة، فهي ثلاث مقالات أظهرها من جهة النقل الأخيرة. قاله الأجهوري. وقد يقال أظهرها من جهة النقل ما للبنوفري. قاله عبد الباقي. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيهان:
الأول: قال الرهوني: انظر إذا لم يكن عجل ما ينوبه لكنه وقع الصلح على الحلول، هل يقضى عليه بتعجيله لانعقاد الصلح على الحلول أو يبقى إلى أجله المعتاد؛ لأن القبض له تأثير فلا يلزم من عدم رد ما قبض لزوم دفع ما لم يقبض؟ لم أر في ذلك نصا، والظاهر عندي الثاني. واللَّه أعلم اهـ.
الثاني: قال ابن عاشر: تأمل ما معنى وجوده، هل المراد أنه وجد على هيئته أو كيفما وجد؟ أو هل المراد أن قابضه صار عديما فلم يجد ما يقبض منه؟ تأمل. اهـ منه بلفظه. ونقله جسوس ولم يزد عليه شيئا. قلت: الثاني هو المراد، وبه جزم أبو علي ونصه: والمراد بالوجود وجود عينه كيف ما كان بدليل تشبيه هذا بمن أثاب عن صدقته. اهـ منه بلفظه. وفي الدر النثير من جواب لأبي الحسن ما نصه: هذه مسألة القاتل خطئا يظن لزوم الدية له فيدفعها ثم يعرف أنها لا تلزمه أو من عوض عن صدقته ظانا أنه يلزمه، ثم تبين أن ذلك لا يلزمه إن وجد ما دفع بعينه أخذه وإلا مضى لأنه سلطه عليه، وهذا إن وجد عين ما صالحه به وإلا فقد سلطه عليه. اهـ منه
بلفظه. وقد صرح عبد الباقي بهذا عند قوله: مطلقا حيث قال: وفي قيمته أو مثله إن فات بذهاب عينه. اهـ.
وقال المواق: من المدونة: قال مالك: والقاتل خطئا إذا صالح الأولياء على مال نجموه عليه فدفع إليهم نجما، ثم قال: ظننت أن الدية تلزمني دون العاقلة فذلك له ويوضع عنه ويتبع أولياء المقتول العاقلة، قال ابن القاسم: ويرد عليه أولياء القاتل ما أخذوه منه إذا كان يجهل ذلك. ابن يونس: قال جماعة من أصحابنا: وعليه اليمين أنه ظن أن الدية تلزمه، قالوا: وينظر ما دفع في الصلح فإن كان قائما أخذه، وإن فات فإن كان هو الطالب للصلح فلا شيء له قبلهم كمن عوض عن صدقة، وقال ظننته يلزمني وإن كان مطلوبا بالصلح فإنه يرجع على الأولياء بما دفع إليهم أو بقيمته إن كان مما يقوم. اهـ.
وإن صالح أحد ولدين وارثين وإن عن إنكار فلصاحبه الدخول قال الخرشي: يعني أن أحد الوارثين سواء كانا والدين
(1)
أو أخوين أو عمين أو غير ذلك إذا صالح شخصا على مال ادعى عليه أنه خالطه موروثه، فأقر له أو أنكره فإن للوارث الآخر أن يدخل مع صاحبه فيما صالح به عن نصيبه من ذهب أو فضة أو عروض، وله أن لا يدخل معه ويطالب بحصته كلها في حالة الإقرار وله ترك ذلك والمصالحة بما دون ذلك، وأما في حالة الإنكار فإما أن يكون له بينة أم لا، فإن كانت له بينة أقامها وأخذ حقه أو تركه أو صالح بما يراه صوابًا، وإن لم تكن له بينة فليس على غريمه إلا اليمين ويرجع المصالح على الغريم بما أخذ منه إن دخل معه. اهـ.
وقال عبد الباقي: وإن صالح أحد ولدين مثلا وارثين شخصا خليطا لأبيهما ادعى عليه هذا الوارث مالًا لأبيه، وإن كان صلحه عن إنكار من المدعى عليه فلصاحبه الدخول معه فيما صالح به عن نصيبه من ذهب أو فضة أو عرض، وقولنا مثلا لأنه فرق بين كون الوارثين ولدين أو غيرهما، كعمين أو ابني عم. قاله التتائي. وله أن لا يدخل معه ويطالب بحصته كلها في حالة الإقرار وله ترك كله وله المصالحة بدون ما صالح به صاحبه، وأما في حالة الإنكار فإن كانت له
(1)
في الخرشي ج 6 ص 12 ولدين.
بينة أقامها وأخذ حظه أو تركه أو صالح بما يراه صوابا، وإن لم يكن له بينة فليس له على غريمه إلا اليمين، ويرجع المصالح على الغريم بما أخذ منه إن دخل معه. اهـ. قوله: ويرجع المصالح على الغريم لخ هذا يجري على قول المص: "وإن صالح على عشرة من خمسينه" وهو ظاهر لتساوي المسألتين وهذه وما يأتي من قوله: "وإن صالح على عشرة مىن خمسينه" الصلح فيهما الصلح عن المال، وما مر من قوله:"وإن صالح أحد وليين" لخ الصلح فيه صلح عن القصاص كما مر. واللَّه تعالى أعلم.
كحق لهما في كتاب تشبيه في أن المصالح لصاحبه الدخول معه، وقوله:"في كتاب" متعلق بمحذوف نعت "لحق" والضمير في "لهما" عائد على ما تقدم باعتبار العددية لا باعتبار الوصف بالولدية والإرثية. قاله أحمد. أي فهو راجع للمقيد بالتثنية بدون قيديه وهما الولدية والوارثية. قاله عبد الباقي. وإيضاحه أن تقول الضمير عائد على الوصوف من قوله: "وإن صالح أحد ولدين وارثين" أي شخصين ولدين وارثين من دون اعتبار الصفة، ومعنى كلام المص أن الحق المشترك بين شخصين إذا كان في كتاب وصالح أحدهما عن حصته بشيء فإن لصاحبه الذي لم يصالح أن يدخل مع المصالح في ما صالح به، وله أن لا يدخل معه ويأخذ جميع حقه.
أو مطلق عطف على قوله: "في كتاب" وفي الحقيقة عطف على الصفة أي أن الشريك الذي لم يصالح له أن يدخل مع صاحبه فيما صالح به سواء كان الحق في كتاب أو كان مطلقًا أي لم يكتب في كتاب فموضوع المص أن أصل الحق مشترك بينهما وباعاه صفقة واحدة بهذا الحق الذي على زيد، فالحق لهما معا إلا الطعام ففيه تردد ظاهر كلامه أنه إذا صالح أحد الشريكين فللآخر الدخول معه إلا في الطعام، ففي دخوله معه تردد وليس هذا هو المراد، بل أراد أن ينبه على أنه في المدونة استثنى الطعام فتردد المتأخرون في وجه استثنائه، فقوله:"إلا الطعام ففيه تردد" أي ففي وجه استثنائه ترددت هل هو مستثنى من صدر المسألة أعني ما أفاده من قوله: "وإن صالح أحد ولدين وارثين وإن عن إنكار كحق لهما في كتاب أو مطلق" من أن لأحدهما أن يصالح عن نصيبه فقال: "إلا الطعام" أي لا يجوز له أن يصالح عن نصيبه في الطعام لأن في ذلك بيع طعام المعاوضة قبل قبضه، أو هو مستثنى من آخر المسألتين أعني ما أفاده قوله الآتي: "إلا أن
يشخص ويعذر إليه في الخروج أو الوكالة فيمتنع" من جواز الإذن لصاحبه في الخروج لاقتضاء حقه خاصة، فقال: "إلا الطعام" فليس لأحدهما أن يأذن لصاحبه في الخروج لاقتضاء حقه خاصة؛ لأن إذنه في الخروج مقاسمة له وهي في الطعام كبيعه قبل قبضه، والأول لعبد الحق والثاني لابن أبي زمنين وغيره.
واعلم أن الاختلاف المذكور إنما هو في محل المستثنى منه، وأما في الحكم فهما متفقان عليه. قاله التاودي.
وهذا الذي قررت به المص هو الصواب وهو الذي قاله غير واحد من المحققين. إلا أن يشخص ويعذر إليه في الخروج أو الوكالة فيمتنع مستثنى من قوله: "فلصاحبه الدخول معه" يعني أن محل ما مر من قوله فلصاحبه الدخول معه إنما هو حيث لم يشخص المصالح إلى المدين ويعذر إلى صاحبه الذي لم يسر، وأما إن شخص إلى المدين أي سار إليه شخصه أي ذاته وأعذر إلى شريكه الذي لم يسر في الخروج معه في اقتضاء نصيبه، أو في الوكالة له أو لغيره في اقتضاء نصيبه فامتنع من الخروج ومن الوكالة فإنه لا دخول له مع المصالح فيما صالح به عن نصيبه، وكذا لو اقتضى نصيبه ولم يصالح فلا دخول له فيما اقتضى.
وقوله: "ويعذر" أي يقطع عذر شريكه بأن يرفعه إلى السلطان ليخرج أو يوكل فيمتنع من ذلك، قال عبد الباقي: واستثنى من قوله: "فلصاحبه الدخول معه" قوله: "إلا أن يشخص" بفتح التحتية والخاء المعجمة أي يخرج بشخصه أي ذاته أي يسافر للمدين بعضهم لاقتضاء نصيبه، ويعذر إليه أي إلى البعض الذي لم يشخص عند الحاكم أو بحضور بينة في الخروج معه لاقتضاء نصيبه أو الوكالة له أو لغيره في اقتضاء نصيبه فيمتنع من ذلك، والمدار على الإعذار وإن لم يكن سفر. قاله الأجهوري. وفي التتائي خلافه ولا دخول لصاحبه معه فيما اقتضي؛ لأن امتناعه من الشخوص معه ومن التوكيل دليل على عدم دخوله معه، وأنه رضي باتباع ذمة الغريم الغائب. اهـ.
قوله: والمدار على الإعذار وإن لم يكن سفر لخ، نحوه قول أبي الحسن فصل في المدونة في الغائب: وسكت عن الحاضر وهو مثله في الإعذار اهـ. قاله البناني. وقوله: عند الحاكم أو
بحضور بينة، قال الرهوني: ظاهره أن الإعذار إليه بالبينة فيمتنع كاف، وإن تأتَّى له الرفع للقاضي وهذا هو ظاهر المدونة في كتاب الحمالة، لكن قال ابن يونس عقب كلامها ما نصه: قال بعض فقهاء القرويين: أما امتناعه بعد الرفع إلى السلطان من الخروج مع صاحبه فلا يدخل مع صاحبه فيما اقتضي، فصواب وأما إشهاده عليه فيجب أن لا ينتفع بذلك لأنه كالمقاسمة فلا يجب أن يكون بحكم قاض، إلا أن يكون بموضع لا قاضيَ به فتقوم الجماعة مقام القاضي ويصير ذلك مقاسمة.
محمد بن يونس: ولعل ابن القاسم أراد ذلك. اهـ منه بلفظه. وقال هنا ما نصه: وإذا أعذر إلى شريكه في الخروج معه قبل الحطيطة فامتنع فلا ينفعه الإشهاد عليه دون أن يرضى له بالخروج وحده، فإن لم يرض له بالخروج وامتنع أن يخرج معه رفع أمره إلى القاضي فيحكم عليه بالقاسمة، فإذا حكم عليه صار مثل حقين لا يدخل عليه فيه كما لو رضيا واقتسما. اهـ منه بلفظه. ونسب ابن غازي ما عزاه ابن يونس لبعض القرويين للتونسي فلعله مراد ابن يونس لكن ظاهر ابن ناجي أنه لم يجعله تفسيرا كما فعل ابن يونس ونصه: وما ذكره فيما إذا أعذر له عند السلطان متفق عليه، وما ذكره فيما إذا أشهد خالف فيه التونسي لأن القسم لا يكون إلا بحكم، إلا أن يكون بموضع لا سلطان فيه فتقوم الجماعة مقامه. اهـ منه بلفظه.
وقال أبو الحسن عند كلام المدونة في الحمالة ما نصه: وقوله: فإن أشهد عليهم لخ ظاهره سلموا أو امتنعوا من التسليم، وقيل إن امتنعوا لابد من الحاكم. اهـ. لكنه جزم في باب الديات بأنه لابد من الحاكم إن لم يسلموا. واللَّه أعلم. اهـ. كلام الرهوني. واللَّه تعالى أعلم.
وإن لم يكن غير المقتضى يكن تامة وغير فاعل، وهو مبالغة في عدم دخول الممتنع فيما قبضه الشاخص؛ يعني أنه إذا أعذر الشريك الشاخص لصاحبه في الخروج أو الوكالة وامتنع من ذلك، فإنه لا دخول له فيما أخذ ولو كان الذي أخذ هو جميع ما عند المدين، فقوله:"وإن لم يكن غير المقتضى" بفتح الضاد أي وإن لم يكن عند المدين غير ما أخذه الشاخص قضاء عن حقه، قوله:"وإن لم يكن غير المقتضى" استشكله ابن عاشر بقوله: تأمل قائل هذا مع ما تقدم في قوله في التفليس عاطفا على ما للغريم أن يمنع منه من أحاط الدين بماله وإعطاء غيره قبل أجله أو كل ما
بيده. اهـ منه بلفظه. ونقله جسوس ولم يجب عنه، وأجاب عنه التاودي بما نصه: قد يقال امتناعه من الخروج وتسليمه القبض لشريكه يعد رضى منه باتباع ذمة الغريم وإعطائه كل ما بيده، فليس له المنع بعد. انتهى منه بلفظه. وأجاب عنه أبو علي بقوله: لأن هذا أعذر لشريكه فهو راض بقبضه، ومعلوم أنه يحتمل أن لا يبقى له شيء فقد رضي بإسقاط حقه. اهـ.
قال الرهوني: وفيهما معا نظر لأن رضاه بقبضه بعد الإعذار هو موجب الإشكال لأنه صار به كل واحد منهما كصاحب دين مستقل، وكونه بعد بذلك يعد رضى منه بإعطائه جميع ما بيده ممنوع، وتوجبه أبي علي ذلك بقوله: ومعلوم أنه يحتمل أن لا يبقى له شيء لا يفيد لأنه يجوز أيضًا أن يبقى له ما يوفي به حقه، فمن حجته أن يقول: إن تبين أنه بقيَ بيده شيء فلا يضرني إذني له في ذلك، وإن تبين خلاف ذلك فلي فيه متكلم، وقد ذكر ابن يونس نحو هذا الجواب عن بعض القرويين وأقره، ولكن جعل موضوعه تسليمه له فيما اقتضاه بعد قبضه وهو حينئذ صحيح، ويلزم على هذا الفرق أن ذوي الحقوق المتفرقات إذا خرج أحدهم لقبض حقه بعد إعلامه غيره وإذنهم له في ذلك أنه لا كلام لهم إن دفع المديان لمن خرج جميع ما بيده ولا أظن أحدا يلزم هذا، نعم إذا كان الإذن مع علمهم بأنه ليس له إلا ما يدفعه له كان له وجه.
أو يكون بكتابين عطف على "يشخص" فهو في حيز الاستثناء يعني أنه إذا كان الحق المشترك بين الشخصين مكتوبا في كتابين، بأن كتب نصيب كل منهما بكتاب منفرد فإنه لا دخول لأحدهما فيما اقتضاه صاحبه، كان أصل الحق المشترك بينهما مبيعا في صفقة واحدة أم لا، قال عبد الباقي: أو إلا أن يكون الحق المشترك بينهما بكتابين؛ أي كتب كل منهما نصيبه بكتاب منفرد ثم اقتضى أحدهما حقه أو بعضه فليس للآخر الدخول معه فيما اقتضى؛ لأن كتبهما المشترك بكتابين كالمقاسمة. اهـ. قوله: كتب كل نصيبه بكتاب لخ احترز به عما إذا كتب جميع حقهما بكتاب واحد وجعلا منه نسختين أخذ كل واحد منهما واحدة. قاله الرهوني. وقال الحطاب مفسرا للمص: يعني أن الحق إذا كان بكتابين فلا يدخل أحد الشريكين على الآخر فيما اقتضي، وإن كان ذلك ثمن شيء واحد بينهما وباعاه في صفقة واحدة كعبد أو ثوب، قال في
المدونة: والحق إذا كان بكتابين كان لكل واحد ما اقتضى ولم يدخل عليه شركاؤه، وإن كان شيئًا أصله بينهم أو باعوه في صفقة. اهـ.
وفيما ليس لهما وكتب في كتاب قولان يعني أنه إذا كان لكل واحد من الشخصين شيء خاص به لم يشاركه فيه صاحبه، وشيئاهما متحدان جنسا وصفة وباعاهما في صفقة واحدة بثمن واحد وكتب ذلك الثمن في كتاب واحد، فإنه اختلف في ذلك على قولين هل يدخل أحدهما فيما اقتضاه صاحبه لجمع مالهما في كتاب واحد أو لا يدخل أحدهما فيما اقتضاه صاحبه من نصيبه؛ لأن أصل الثمن ليس مشتركا بينهما. وقوله:"قولان" مبتدأ وخبره فيما ليس لهما وفي كتاب متعلق بكتب. قال عبد الباقي: وفيما ليس مشتركا لهما أي بينهما بل كل منهما له شيء خاص به لكن باعاه معا بثمن واحد لا بثمنين. قاله أحمد. واتحدت السلعتان جنسسا وصفة كثوبين وحيوانين، وإن اختلف قدر ما لكل وكتب أي ثمنه في كتاب واحد قولان في دخول أحدهما فيما اقتضاه الآخر، بناء على أن الكتابة الواحدة تجمع ما كان مفترقا وعدم دخوله بناء على عدم الجمع، والقولان أيضًا مفرعان على جواز جمع الرجلين سلعتيهما في بيع من غير شرط أو وجد شرطه كأن قوما على ما تقدم في قوله:"كعبدي رجلين بكذا". اهـ.
قوله: والقولان مفرعان أيضًا على جواز لخ، قال البناني: نحوه لابن يونس كما في المواق، قال الحطاب: إذا كانت المسألة مفرعة على جواز جمع الرجلين سلعتيهما في بيع فلا حاجة لذكرها؛ لأنها مفرعة على غير المشهور. اهـ. لكن إن وجد شرط الجواز في جمع السلعتين كان التفريع على المشهور كما في الزرقاني وسقط بحث الحطاب. اهـ. وقوله: "قولان" القول بأن لصاحبه الدخول معه فيما اقتضى لسحنون، قال صاحب التكملة في شرحه: ظاهر الكتاب وصريح قول سحنون اشتراك الكتابة في المفترق يوجب الاشتراك في الاقتضاء، والقول بأنه ليس له الدخول فيما اقتضى صاحبه لابن أبي زيد، قال ابن يونس: وفيه نظر لأن الكتابة لما كانت تفرق ما كان أصله مشتركا بينهما فيكون إذا كتباه بكتابين كقسمة الدين، كذلك ينبغي أن تجمع الكتابة ما كان أصله مفترقا وعليه يدل ظاهر الكتاب. واللَّه أعلم. ومفهوم ما مر من أنهما باعا متاعهما صفقة
واحدة أنهما لو باع كل بانفراده وجمع الثمن في كتاب واحد أنه لا دخول لأحدهما فيما اقتضى الآخر من حقه وهو كذلك.
تنبيه:
قال عبد الباقي: قوله وفيما ليس لهما وكتب في كتاب قولان ما نصه: هذا وما قبله يجري في الأجرة كما يجري في الثمن، فإذا آجر شخصان داريهما صفقة واحدة بأجر متفق صفة، فكل من اقتضى من المستأجر شيئًا دخل معه فيه الآخر؛ يعني وكتب ذلك في كتاب واحد على أحد القولين، والظاهر أن وظائف الخدمة يجري فيها ذلك لأن ما يؤخذ منها بمنزلة الأجرة. اهـ.
ولا رجوع إن اختار ما على الغريم وإن هلك يعني أن محل دخول أحد الشريكين فيما اقتضاه صاحبه من الغريم إنما هو حيث لم يختر اتباع الغريم، وأما إن سلم للمقتضي ما اقتضاه واختار اتباع الغريم أي الدين فإنه ليس له بعد ذلك أن يدخل مع صاحبه فيما اقتضاه وإن هلك ما بيده؛ لأن اختياره اتباع الغريم كالمقاسمة ولا رجوع له بعدها، والضمير في هلك عائد على ما كما يفيده المدونة، وجعله عبد الباقي عائدا على الغريم أو ما، فإنه قال؛ ولا رجوع لأحد الشريكين على الآخر فيما قبضه من الغريم إن اختار تسليم ذلك له واتباعه ما على الغريم، وإن هلك الغريم نفسه أو ما بيده لأن اختياره اتباع الغريم كالمقاسمة ولا رجوع له بعدها، فإن قيل هذا تكرار مع قوله:"وإن لم يكن غير المقتضى" إذ يفيد أحدهما ما يفيده الآخر، أجيب بأن ما مر لم يكن غير المقتضى حين الخروج والهلاك هنا حصل بعد اختيار اتباع الغريم، وبأن ما مر فيما إذا قبض أحدهما بإذن من الآخر له في الخروج وأعذر له في الخروج والوكالة فيمتنع، وهنا قبض بغير إذنه ثم أمضى قبضه واختار اتباع الغريم. اهـ. وقوله:"ولا رجوع إن اختار" لخ قال الشارح: هذا مثل قوله في المدونة: وإن اختار اتباع الغريم ويسلم له ما اقتضى لم يدخل معه بعد ذلك فيما قبض، وإن توي ما على الغريم لأن ذلك كمقاسمة الدين القاضي: وتوى بفتح التاء وكسر الواو وقد تفتح الواو والأول أفصح: هلك. اهـ.
وإن صالح على عشرة من خمسينه فللآخر إسلامها صورتها أن لزيد وعمرو مائة على بكر مثلا من شيء أصله شركة بينهما، كانت المائة بكتاب أو بغير كتاب فصالح زيد مثلا عن خمسينه بعشرة
من غير شخوص ولا إعذار، فعمرو بالخيار إن شاء أسلم العشرة لزيد ويتبع هو الغريم بخمسينه كلها، وإن شاء أخذ من شريكه خمسة من العشرة التي صالح بها، كما قال: أو أخذ خمسة من شريكه الذي هو زيد، ويرجع على المدين ببقية حقه خمسة وأربعين. وإذا أخذ عمرو الخمسة من زيد يأخذ الآخر الذي هو زيد من المدين خمسة فتتم له العشرة التي صالح بها.
وقوله: "وإن صالح" الأولى التعبير بالفاء لأن هذا مفرع على قوله: "وإن صالح أحد ولدين وارثين" لخ، وقوله:"من خمسينه" من هنا بمعنى بدل كما في قوله عز وجل: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} أي بدل الآخرة، قال عبد الباقي: وإن صالح أحد شريكين في مائة على غريم بكتاب أو غيره على عشرة من خمسينه أي بدلها وقبضها فللآخر الذي لم يصالح إسلامها أي العشرة للمصالح ويتبع الغريم بخمسينه أو أخذ خمسة من شريكه المصالح، ولم يقل منها مع أنه أخصر لاقتضائه الرجوع في عين العشرة وليس كذلك. قاله أحمد. أي غير متعين ويرجع الذي لم يصالح على الغريم بخمسة وأربعين تمام خمسينه، ويأخذ الآخر المصالح، قال ليست للعهد الذكريّ من الغريم خمسة أي يرجع عليه بها لأنها بمثابة المستحقة منه، وهذا بالنسبة إلى الصلح عن الإقرار، وأما على الإنكار فيأخذ شريكه من المصالح خمسة من العشرة المصالح بها ثم يرجع من صالح على الغريم بالخمسة المدفوعة لشريكه ولا رجوع للشريك، على الغريم بشيء لأن الصلح على الإنكار ليس فيه شيء معين يرجع به. فضمير صالح عائد على أحد الشريكين، ومن للبدل كما قررنا على حد قوله تعالى:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} .
وأثبت نون خمسينه خوف التباسه بخمسيه بضم الخاء وفتح السين تثنية خمس، وأشر قوله:"على عشرة" أنه لو صالح بدل خمسينه بعرض أو طعام فلشريكه تركه واتباع الغريم بخمسينه، وله أخذ نصف العرض أو الطعالم من شريكه، قال سحنون: ثم يكون بقية الدين بينهما، وذلك أنه تعدى له على دين فابتاع به شيئًا فهو كعرض باعه بغير أمره، وليس كعين تعدى فيه والصلح في غير موضع أشبه شيء بالبيع. اهـ. ولابن القاسم في كتاب المديان أن للذي لم يصالح أن يأخذ من شريكه نصف العرض الذي صالح به، ثم إذا قبض هو جميع حقه رد عليه نصف العرض الذي أخذه منه يوم وقع الصلح به. اهـ. قوله:"ولا رجوع" للشريك على الغريم بشيء،
قال البناني: مثله في الخرشي وفيه نظر إذ الفرض أنه لم يصالح، فالظاهر أنه يطالبه حتى يحلف أو يؤدي أو يصالح. اهـ. وقد مر له ما هو الصواب عند قوله:"وإن صالح أحد ولدين وارثين" لخ، فقد قال الرهوني: هذا هو الظاهر دون ما يأتي له عند قوله: "وإن صالح على عشرة" لخ، وقوله: وأشعر قوله على عشرة أنه لو صالح بدل خمسينه بعرض أو طعام لخ كله كلام المدونة.
ولما ذكره ابن يونس قال بعده ما نصه محمد بن يونس: قال بعض شيوخنا: ترد عليه القيمة وإن كان مما يكال أو يوزن، ثم قال: وقال غيره من شيوخنا بل يدفع في المكيل والموزون مثله. محمد بن يونس: وهذا هو الصواب لأنه إنما أخذ ما أوجب له عليه الحكم ولا أجر له فيعا صنع. اهـ.
تنبيه
قول ابن يونس: ولا أجر له فيعا صنع ظاهره قبض ما اصطلح به في الحضر أو شخص إليه، ولم يعذر إليه في ذلك لأنه ذكره بعدهما معا وهو ظاهر إذا تولى ذلك بنفسه فقط؛ لأن ما أخذ منه شريكه إنما هو كالاستحقاق فلا وجه لأخذه الأجرة، ويشهد له ما يأتي في الحوالة عن ابن رشد وسلمه ابن عرفة، ومثله إذا قبض حقه فقط وادعى أنه إنما قبضه لنفسه وإن ادعى أنه قبضه لنفسه ولشريكه فحكمه حكم ما إذا قبض الجميع، وقد نص ابن الحاج في نوازله على أنه له أجرة مثله بعد أن يحلف أنه ما خرج من بلده لاقتضاء ذلك متطوعا، وسواء خرج بإذن شريكه أو بغير إذنه. اهـ. نقله المواق عند قوله:"ورجعت الزوجة بما أنفقت"، وصاحب المعيار قبل نوازل السماسرة وسلماه، ونقل أبو علي هنا كلام العيار وساقه كأنه المذهب جازما به.
قلت: وهو خلاف ظاهر كلام المدونة ففيها في كتاب الشركة ما نصه: ولو صح عقد المتفاوضين في المال ثم تطوع الذي له الأقل بعمل في الجميع جاز ولا أجر له. اهـ منه بلفظه. لكن قال ابن ناجي: إن قوله هنا تطوعا معناه نصا فلا يعارض قولها في أحد الشريكين: إذا مرض أو غاب إنه يرجع عليه إذا تفاحشت خدمته لأنه هناك عمل فقط. اهـ. بالمعنى. وفيه نظر انظر ما يأتي في الشركة عند قوله: "وله التبرع" فالحق أنهما قولان وأن ما هو في المدونة أرجح واللَّه أعلم. قاله الرهوني.
وقوله: "وإن صالح على عشرة من خمسينه" لخ هو أحد أقوال ثلاثة في المدونة، وهذا قول ابن القاسم في كتاب الصلح من المدونة وقول غيره في كتاب المديان منها. الثاني: أن للذي لم يصالح أن يأخذ من شريكه خمسة ثم يرجع هو على الغريم بخمسين جميع حقه، فإذا أخذها دفع للمصالح الخمسة التي أخذ منه. ثالثها قول غير ابن القاسم في كتاب الصلح: إن اختار الذي لم يصالح أن يدخل مع المصالح في العشرة فإني
(1)
أجعل دينهما كالستين دينار فيكون له خمسة أسداس العشرة، وللمصالح سدسها ثم يرجع المصالح بخمسة أسداسها على الغريم ويرجع عليه الآخر بما بقي له: وذلك أحد وأربعون دينارا وثلثا دينار. اهـ. قاله الرهوني.
وقال بعد جلب كلام كثير ما نصه: وبه تعلم أن ما درج عليه المص هو قول ابن القاسم في كتاب الصلح من المدونة وقول غيره في كتاب المديان منها، وأن في المدونة قولين آخرين. وقال الرهوني: فهذه الأقوال الثلاثة متفقة على أنه ليس للمصالح إلا العشرة، وأن للذي لم يصالح خمسين وإنما اختلفت في كيفية ذلك. اهـ. واللَّه تعالى أعلم.
وإن صالح بموخر عن مستهلك لم يجز يعني أن من استهلك شيئًا من المقومات عرضا أو حيوانا فإنه لا يجوز أن يصالح عنه بمؤخر من غير جنس قيمته مطلقًا أو من جنسها وهو أكثر لأن ذلك فسخ ما في الذمة في مؤخر. إلا بدراهم كقيمته هذا مستثنى من قوله: "لم يجز" يعني أن محل عدم الجواز إنما هو حيث كان هذا المؤخر من غير جنس القيمة أو من جنسها وهو أكثر كما قررت وأما إن كان هذا المؤخر من جنس القيمة وهو قدرها أو أقل كما قال. فأقل فإن ذلك جائز. واعلم أن من استهلك مقوما فإنه بنفس استهلاكه ترتب القيمة لمالكه في ذمة المستهلك والقيمة إنما هي بالعين من الذهب أو الفضة، فمن استهلك مقوما فليس له أن يلزم الجاني مثله وله أن يلزمه العين، كما أن المستهلك لا يلزمه المثل وله أن يلزمه العين، فإذا استهلك له مقوما وأرادا أن يصطلحا على مؤخر فلا يجوز ذلك إلا بفضة قدر قيمته أو أقل.
(1)
لفظ الرهوني فإذا جعل دينهما كأنه كان ستين دينارا لخ ج 5 ص 387.
أو بذهب كذلك أي قدر قيمة المستهلك فأقل إذ لا محذور فيه لأنه انظر مدينه وذلك جائز، فإن صالحه بفضة أكثر من القيمة أو بذهب أكثر من قيمته امتنع لأنه فسخ ما في الذمة في مؤخر، وبقي للجواز شرط آخر أشار إليه بقوله: وهو أي المقوم المستهلك مما يباع به بما صولح به كالعقار فإنه لا يباع إلا بالذهب، وإذا كان لا يباع إلا بالذهب لجري العادة بذلك فإنه لا يقوم إلا بالذهب، فإذا صولح عنه بالفضة المؤخرة لم يجز ذلك لأنه فسخ ما في الذمة في مؤخر لأنه فسخ ما ترتب له من الذهب في ذمة المستهلك في فضة لا يتعجلها مع ما في ذلك من الصرف المؤخر.
والحاصل أن من الأشياء ما تعتبر قيمته بالذهب، ومنها ما تعتبر بالفضة، فما تعتبر فيه القيمة بالذهب لا يصالح عنه بمؤخر عرضا أو فضة قدر قيمته أو أقل أو أكثر، وإنما يصالح بالمؤخر من الذهب إذا كان قدر قيمته فأقل، وكذا يقال فيما يقوم بالفضة كالحلي من الذهب، ففي كتاب الغصب من المدونة: ومن غصب لرجل سوارين من ذهب فاستهلكهما فعليه قيمتهما من الدراهم، وله أن يؤخره بتلك القيمة. وعلم مما مر أنه إذا جرت العادة بتقويم المستهلك بأحدهما معينا وقوماه بخلاف ما جرت به العادة بمؤخر أن ذلك لا يجوز، وفي كلام عبد الباقي هنا نظر ظاهر. انظر البناني.
وقال عبد الباقي عند قوله: "مما يباع به" ما نصه: وأسقط المص قيد كونه يباع به بالبلد، قال التتائي: وكأنه عنده طردي. اهـ. قوله عن التتائي: وكأنه عنده طردي لخ أي غير معتبر وليس كذلك، بل يعتبر في التقويم التقييد بالبلد، ولذا تارة تكون القيمة ذهبا وتارة تكون فضة فالقيد لابد منه كما قاله أبو الحسن. قاله البناني. وقال عبد الباقي: وإذا كانت عادة البلد تقويم المستهلك بذهب أو فضة وقوماه بأحدهما معينا فلا يجوز أخذ الآخر عنه مؤجلا. اهـ.
ووقع في شرح عبد الباقي ما نصه: وإن صالح بمؤخر عن مستهلك كعرض أو طعام أو حيوان. اهـ المراد منه. قوله: أو طعام، قال البناني: تبع في ذكر الطعام التتائي والشارح، قال مصطفى: وفيه نظر لأن المسألة مفروضة في المدونة وغيرها في المقومات، والطعام مثلي يترتب مثله باستهلاكه فأخذ العين فيه فسخ دين في دين مطلقًا. اهـ المراد منه. ومفهوم قوله: بمؤخر أنه لو صالحه بدراهم أو ذهب حالين فيجوز من غير اعتبار. قوله: كقيمته فأقل. وعلم من المص أن المسألة في
المقوم بدليل قوله: "كقيمته" ومن المقوم المثلي مجهول القدر، وأما المثلي المعلوم القدر فلا يصالح عنه بعين مؤخرة لترتب مثله في ذمة المستهلك، فيكون فسخ ما في الذمة في مؤخر كما مر. واللَّه تعالى أعلم. وقال البناني عند قول المص:"إلا بدراهم قدر قيمته فأقل" ما نصه: أبو الحسن: ظاهر المدونة وإن لم يعرفا قيمة المستهلك هذا حيث أخذ الجنس المرتب له في القيمة من دنانير أو دراهم، وأما في غير الجنس فلابد من معرفة القيمة. اهـ باختصار. وجعل الرهوني كلام أبي الحسن هذا فيما إذا كان المأخوذ عن المستهلك معجلا، وجعله البناني فيما إذا كان المأخوذ مؤخرا، فقال: والظاهر أن هذا مع تحقق أن المصالح به لا يزيد على القيمة، أما مع احتمال أنه أكثر من القيمة فلا. واللَّه أعلم. ورده الرهوني بأن هذا يؤدي إلى أنه إذا أخذ غير الجنس مؤخرا مع معرفة قيمة المستهلك فإنه يجوز، مع أنه لا يجوز. واللَّه تعالى أعلم.
كعبد أبق قال الخرشي: تشبيه في الحكم والعلة، والمعنى أن الشخص إذا غصب عبدا لغيره فأبق عنده ولزمته القيمة فإنه لا يجوز له أن يصالحه عنها بعرض مؤخر، فإن صالحه عنها بدنانير أو دراهم قدر القيمة التي لزمت الغاصب بالاستيلاء جاز وليست المصالحة عن نفس السابق وإلا منع؛ لأن الصلح على غير المتنازع فيه بيع وبيع السابق لا يجوز. اهـ. ونحوه لعبد الباقي وزاد: ويجوز بنقد معجل، ومثل الغصب الإجارة والوديعة والعارية حيث ضمن المستأجر أو المودع أو المستعير بتفريطه حتى أبق. اهـ. وقال الحطاب: قال في كتاب الصلح: وإن غصبك عبدا وأبق منه لم يجز أن يصالحك على عرض مؤجل، وأما على دنانير مؤجلة فإن كانت كالقيمة فأقل جاز وليس هذا من بيع الآبق. واللَّه أعلم. اهـ. ونحوه في المواق.
وإن صالح كان عن إقرار بشقص ملك له من عقار عن موضحتي عمد وخطإ أي جنى عليه عمدا فأوضحه وجنى عليه خطئا فأوضحه أيضًا وأراد شريك الجاني الأخذ بالشفعة، فالشفعة بنصف قيمة الشقص يدفعها للمجني عليه مع دية الموضحة، وصورة المسألة أن شخصا أوضح آخر موضحتين إحداهما صدرت عمدا والأخرى خطئا، ثم صالح الجاني المجني عليه عن الموضحتين بشقص أي جزء من عقار مشترك بينه وبين غيره، وقيمة الشقص يوم الصلح عشرون مثلا فأراد الشفيع وهو شريك الجاني أن يأخذ بالشفعة، فإن الشقص يقسم نصفين: نصف في مقابلة
الموضحة الصادرة عن العمد ونصف في مقابلة الموضحة الصادرة عن الخطإ، فيدفع الشريك للمجني عليه نصف قيمة الشقص وهو عشرة في المثال المذكور؛ لأنه القابل للعمد وليس في العمد شيء مقدر، ويدفع له أيضًا دية الموضحة الصادرة خطئا في نصف الشقص الآخر المدفوع في مقابلة الخطإ ودية الموضحة نصف عشر الدية الكاملة؛ لأن من قاعدة ابن القاسم في المدونة فيما أخذ في مقابلة معلوم ومجهول أنه يوزع عليهما شطرين، للمعلوم نصفه وللمجهول نصفه قاله الخرشي وعبد الباقي. وزادَ: وتعتبر القيمة يوم الصلح كذا ينبغي. اهـ.
وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم من صالح عن موضحة عمد وموضحة خطإ على شقص من دار جاز وفيه الشفعة بدية موضحة الخطإ وبنصف قيمة الشقص؛ لأنا قسمنا الشقص على الموضحتين وإحداهما معلومة والأخرى مجهولة. ابن يونس: ووجهه أن المصالح بالشقص إنما دفعه ثمنا للموضحتين فكان العدل أن يجعل لكل موضحة نصفه. اهـ.
وهل كذلك إن اختلف الجرح يعني أن الشيوخ اختلفوا فيما إذا لم تتفق جراح العمد والخطإ بل اختلفت، فمنهم من جعل الشقص يقسم بين المعلوم والمجهول نصفين، فأول قول ابن القاسم في المدونة على ذلك، فيوافق قول ابن عبد الحكم إنه يجعل بينهما نصفين وإن لم تتفق الجراح، ومنهم من تأول المدونة على أن محل ذلك إن اتفقت الجراح، وأما إن لم تتفق فإنه يوزع الشقص على قدر دية الجراح وعليه أكثر القرويين. وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، قال عبد الباقي: وهل كذلك يقسم ما قابل المعلوم والمجهول نصفين إن اختلف الجرح كنفس ويد وهو قول ابن عبد الحكم، أو أنه عند اختلاف الجرح يجعل الشقص على قدر ديتهما فيأخذ الشفيع الشقص بخمس مائة دينار، وثلثي قيمة الشقص إن كان القطع هو الخطأ والقتل عمدا لأن دية اليد في الخطإ خمس مائة ودية النفس لو كانت خطئا ألف، وإذا نسبت خمس مائة لمجموع خمس مائة وألف كانت ثلثا، فيغرم الخمس مائة دية الخطإ ويغرم في مقابلة النفس العمد ثلثي قيمة الشقص، وعلى هذا فقس في عكس ذلك يأخذ في الشفعة بدية النفس وبثلث قيمة الشقص ومثل ذلك ما إذا أخذ الشقص عن مال مقرر دينا على الجاني وموضحة عمدا مثلا، أو
عن مال دفعه المجني عليه للجاني وأخذ الشقص في مقابلة المال المدفوع والموضحة. اهـ. كلام عبد الباقي.
وقوله: وإن صالح بشقص عن موضحة عمد وخطإ لخ هو خاص بالصلح على الإقرار كما مرت الإشارة إليه، وأما في الإنكار فالشفيع يأخذ الشقص بقيمة الجميع. انظر البناني.
وَلما أنهى الكلام على الصلح أتبعه بالكلام على الحوالة لأنها شبيهة به؛ لأنه تحويل من شيء لآخر كما أنها كذلك لأنها تحويل الطالب من طلب غريمه لغريم غريمه، فقال:
باب في الحوالة
بفتح الحاء مأخوذة من التحول من شيء إلى شيء، وعرفها ابن عرفة بقوله: الحوالة طرح الدين عن ذمة بمثله في أخرى ولا ترد المقاصة؛ إذ ليست طرحا بمثله في أخرى لامتناع تعلق الدين بذمة من هو له، قال: وقول ابن الحاجب: نقل الدين من ذمة إلى ذمة تبرأ بها الأولى تعقب بأن النقل حقيقة في الأجسام. اهى. وتعقب مصطفى تعريف ابن عرفة بأن الطرح مفرع عن الحوالة لا نفسها، إذ المفرع عن الشيء ليس هو ضرورة، وقد جعله في الجواهر حكما من أحكامها، فقال: أما حكمها فبراءة المحيل من دين المحال. اهـ. قال البناني: قلت الطرح في كلام ابن عرفة هو فعل الفاعل أي طرح المحال الدين عن ذمة المحيل لخ، فهو مضاف للمفعول وليس هو البراءة في كلام الجواهر، بل البراءة مفرعة عنه. اهـ.
عياض: قال الأكثر هي رخصة لأنها مبايعة مستثناة من الدين بالدين والعين بالعين، غير يد بيد لأنها معروف، قلت: ليست من الدين بالدين لبراءة المحيل بنفس الإحالة، فهي من باب النقد قاله الباجي. اهـ. قاله البناني. وقال الرهوني: نقله عن الأكثر أنها رخصة لا ينافي ما في التوضيح من قوله: وهي محمولة على الندب عند أكثر شيوخنا، وحملها بعضهم على الإباحة. انتهى. لأن الرخصة لا تنافي الندب كما هو مقرر في محله. اهـ. وقال المواق: ومعناها تحويل الدين من ذمة إلى ذمة تبرأ بها الأولى. عياض: هي مندوبة وقيل مباحة. ابن يونس: لم يختلف في جواز الحوالة. اهـ. المراد منه.
ولم يتعرض المؤلف لتعريف الحوالة بل اعتنى بشروطها فقال: شرط الحوالة رضى المحيل والمحال يعني أنه يشترط في صحة الحوالة أن يرضى بها المحيل والمحال، فإذا كان لزيد دين في ذمة عمرو ولعمرو دين في ذمة بكر، فإنه يشترط في تحويل زيد عن عمرو إلى ذمة بكر أن يرضى بذلك عمرو وهو المحيل في هذا المثال، وأن يرضى بذلك زيد وهو المحال في هذا المثال ولا يشترط رضى بكر وهو المحال عليه عند جميع العلماء كما قال: فقط وهل يشترط حضوره أي المحال عليه، وإقراره بالدين أو لا يشترطان؟ قال عبد الباقي: في ذلك قولان مرجحان. اهـ. قال البناني: فيه نظر، بل الراجح إنما هو القول باشتراط الحضور، وأما عدم اشتراطه فقد انفرد بتشهيره ابن سلمون وهو متعقب بما نقله الحطاب من اقتصار الشيوخ على اشتراطه. اهـ. وهذا
الذي قاله البناني قاله غير واحد. وتعقبه الرهوني بجلب كثير من النقول، وحاصله تقوية ما لابن سلمون جدا، ويأتي في التنبيه الثاني من هذه التنبيهات بعض تحصيله لذلك. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيهات
الأول: قال عبد الباقي: وإنما يشترط رضى المحال عليه في مسالتين: إحداهما قوله فيما يأتي: "فإن أعلمه بعدمه وشرط البراءة صح"، والثانية: وجود عداوة بينه وبين المحال سابقة عن وقت الحوالة بل لا تصح الحوالة عليه حينئذ على المشهور من المذهب، وهو قول مالك: وأما لو حدثت بعد الحوالة فهل يمنع من اقتضاء دينه ليلا يبالغ في إيذائه بعنف مطالبته فيوكل من يقضيه عنه، أو لا يمنع لأن الحوالة سابقة وقد دخل على أن صاحب الحق يقتضي حقه؟ تردد في ذلك ابن القصار، وفحوى كلامه أنه لا يمكن من الاقتضاء بنفسه. اهـ. قوله: إحداهما قوله فيما يأتي فإن أعلمه لخ فيه نظر يعلم مما يأتي، قاله البناني. وقوله: تردد في ذلك ابن القصار فيه نظر؛ لأن تردد ابن القصار إنما هو في طرو العداوة بعد المداينة، وخرج على ذلك البساطي طروها على الحوالة. قاله الرهوني.
الثاني: قال الرهوني بعد جلب كثير من النقول في تشهير ما لابن سلمون من قوله: المشهور أنه لا يشترط حضور المحال عليه ولا إقراره ما نصه: فتحصل من هذا أن ما شهره ابن سلمون وابن عاصم وولده هو المشهور، وأن دليل ذلك ظاهر غاية الظهور وأنه الذي يفهم من ظواهر المدونة، وليس فيها ما يخالفه أصلا، وقد رأيت وجه ذلك مبينا عقلا ونقلا، فشد يدك عليه ولا تلتفت لما خالفه وإن جل قائلوه، وعظم قدرا مسلموه وناقلوه، فليس الشأن معرفة الحق بالرجال وإن كنت ولابد ممن يعرفه بهم فلا تغفل عن جلالة أبي إسحاق الملقب بالنظار، وأبي عبد اللَّه المازري الذي قال فيه في الديباج: لم يكن في عصره للمالكية أفقه منه ولا أقوم لمذهبهم في سائر الأقطار، وقيل فيه إنه بلغ درجة الاجتهاد المطلق، وأبي بكر بن يونس الذي قيل في ديوانه مصحف المذهب، وأبي الوليد بن رشد الذي قال فيه الإمام ابن مرزوق: إنه المقدم نقلا وفهما شهد له بذلك ابن عبد السلام فمن فوقه، وأنشد فيه ما هو معلوم وغيرهم ممن قدمنا من أهل الإتقان والتحرير. والعلم كله للَّه العلي الكبير. اهـ. وفيه عن ابن يونس: قال بعض الفقهاء: فإن أحاله
ثم أنكر المحال عليه أن يكون عليه دين، فالأظهر أن لا مقالة له لأنه فرط حين أحاله وهو حاضر مقر إذ لم يشهد عليه، ولكن لو لم يحضر فقبل الحوالة عليه فلما حضر أنكر لا نبغى أن لا تلزمه الحوالة، وكذلك إن مات قبل أن ينكر وذلك كالعيب في الحوالة. اهـ المراد منه.
الثالث: في الصحيحين والموطإ من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم فإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع)
(1)
، وهذا الحديث قد دل بظاهره على أنه لابد من معرفة كون المحال عليه مليا. اهـ.
الرابع: قال الخرشي مفسرا للمص: أي شرط لزوم حوالة القطع رضى من عليه الدين، ثم قال: وقولنا في صدر المسألة أي حوالة القطع احتراز من حوالة الإذن فلا يشترط فيها هذه الشروط، بل تجوز بما حل وبما لم يحل وبالطعام وبغيره وهو توكيل وللمحيل عزل المحال، ولا تبرأ ذمة المحيل إلا بالقبض. انتهى. يشير بهذا إلى ما في الحطاب عن ابن جزي في قوانينه: الحوالة على نوعين، إحالة قطع وإحالة إذن. وذكر شروط إحالة القطع ثم قال: وأما الإذن فهو كالتوكيل على القبض فيجوز بما حل وما لم يحل لخ.
وثبوت دين يعني أنه يشترط في صحة الحوالة ثبوت الدين، قال الرهوني: والذي يظهر أن المراد بثبوت الدين وجوده ولو بقول المحيل مع تصديق المحال حقيقة أو حكما، بأن يسكت عند الإحالة ومحترزه إذا لم يدع ذلك المحال، ولذا عقب المص ذلك بقوله: فإن أعلمه بعدمه، وبهذا يوافق ما هنا قوله الآتي: والقول للمحيل إن ادعى عليه لخ. اهـ. وقال ابن عاشر: المراد بثبوت الدين وجوده لا الثبوت العرفي ببينة أو إقرار، وحينئذ يكفي في ثبوته تصديق المحال بثبوته كما يأتي آخر الباب. انتهى المراد منه. قاله على سبيل الاحتمال. وهو الذي جزم به الرهوني كما رأيت. وقال عبد الباقي: وثبوت دين للمحيل في ذمة المحال عليه، وكذا للمحال على المحيل وإلا كانت وكالة لا حوالة، وإن لم يوجد دين في الصورة الأولى كانت حمالة لا حوالة ولو وقعت بلفظ الحوالة، ووصف دين بقوله: لازم ليحترز به عن دين صبي وسفيه وعبد بغير إذن وليه
(1)
الموطأ، كتاب البيوع، رقم الحديث 84 وصحيح البخاري، كتاب الحوالات، رقم الحديث 2287 وصحيح مسلم، كتاب المساقاة، رقم الحديث 1564.
وسيده، فإنهما لا يصح لهما أن يحيلا به حيث كان لهما ولا أن يحال عليه حيث كان عليهما. اهـ.
وقال البناني: وقول المص: "لازم" لم يذكره ابن شأس ولا ابن الحاجب ولا ابن عرفة، وقد تورك المواق على المص في اشتراطه قائلا: إنما اشترطوا هذا في الحمالة. اهـ. لكن نقل في التوضيح عن التونسي أنه لا تجوز حوالة الأجنبي على المكاتب وهو يفيد شرط اللزوم فتأمله. وما في الزرقاني من أنه احترز به عن دين صبي أو سفيه بغير إذن وليه فلا يحال به حيث كان لهما، ولا يحال عليه حيث كان عليهما فغير ظاهر؛ لأن هذا خارج بشرط ثبوت الدين لأنه لا دين هنا، وكذا من صرف من رجل دينارا بدراهم وأحال غريمه عليها لا دين له لعدم صحة الصرف تأمله. اهـ.
ويدخل في قول المص: "لازم" ما خالعت به الزوجة فإنه يجوز للرجل أن يحيل عليه ويؤخذ من تركة الزوجة إن ماتت ويحاص الغرماء، فإن لم يجد شيئًا سقط، وما نقل عن ابن المواز من أنها إذا ماتت قبل القبض رجع المحال على الزوج بدينه مبني على مذهبه من أن العوض في الخلع يفتقر إلى حيازة فيبطل بموت الزوجة قبل قبضه وهو ضعيف مخالف للمشهور، وما بنوه عليه هنا ضعيف فالصواب إسقاطه، وقد قدمناه في الخلع فراجعه. قاله الرهوني.
وقال المواق: من المدونة: لا تكون حوالة إلا على أصل دين وإلا فهي حمالة. اهـ.
واعلم أن من تصدق على رجل بشيء أو وهبه شيئًا ثم أحال المعطى بالفتح به على من له عليه دين، فإنها حوالة كما في التوضيح مع أنه لا يصدق عليه دين عرفا كما في الحطاب، وإن كانت الهبة والصدقة يلزمان بالقول لكنهما غير دين لازم متقرر لبطلانهما بموت المعطي أو فلسه قبل حوز المعطى بالفتح، قاله عبد الباقي.
قال مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: علم مما مر أن الثبوت إنما هو شرط في كونها حوالة لا غير فتصير حينئذ حمالة. فإن أعلمه بعدمه وشرط البراءة صح قال الخرشي: فاعل "أعلم" هو المحيل والهاء ترجع للمحال، والضمير في "عدمه" يرجع للدين. انتهى. والمعنى أن المحيل إذا أعلم المحال أنه لا دين له على المحال عليه، وشرط المحيل براءته من دين المحال صح الإبراء ولزم، ولا رجوع للمحال على المحيل عند ابن القاسم؛ لأن المحال ترك حقه والإعلام ليس بشرط بل علمه
كاف كما في المدونة، وظاهره سواء علم المحيل بعلمه حين الحوالة أم لا، وهو ظاهر، قال البناني: والظاهر أن الحوالة صحيحة وإن لم يرض المحال عليه أي بالتحمل، لكن إن رضي لزمه وإلا فلا. اهـ.
وهل إلا أن يفلس أو يموت تأويلان قوله: "فإن أعلمه بعدمه" لخ هو قول ابن القاسم في المدونة، ومعنى كلام المص أن الشيوخ اختلفوا في قول ابن القاسم في المدونة فمنهم من تأوله على رواية ابن وهب عن مالك في المدونة أنه لا رجوع للمحال على المحيل إلا أن يفلس المحال عليه أو يموت، فيرجع حينئذ المحال على المحيل، ومنهم من حمل قول ابن القاسم على ظاهره فلا يكون للمحال رجوع على المحيل ولو فلس المحال عليه أو مات، والتأويل الأول أي تأويل التوفيق لمحمد وتأويل الخلاف لسحنون وابن رشد. انظر المواق. والشارح.
وقال البناني: التأويلان ذكرهما ابن رشد في المقدمات ونصه: واختلف إن اشترط التحمل له على الحميل أن حقه عليه وأبرأ الغريم، فظاهر قول ابن القاسم في كتاب الحوالة أن الشرط جائز ولا رجوع له على الغريم، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا رجوع له عليه إلا أن يموت الحميل أو يفلس، ثم قال: ومن الناس من يحمل رواية ابن وهب عن مالك في المدونة على التفسير، لقول ابن القاسم فيها: ويقول معنى ما ذهب إليه ابن القاسم أنه لا رجوع للمتحمل له على غريمه الأول إلا أن يموت أو يفلس. اهـ. ويحتمل عندي أن يؤول قول ابن القاسم على أنهما قد أبرءا الغريم جميعا من الدين جملة فيكون ابن القاسم إنما تكلم على غير الوجه الذي تكلم عليه في رواية ابن وهب عن مالك وهذا ممكن سائغ محتمل. انتهى. فهي ثلاث تأويلات، وعزى ابن يونس الثاني لمحمد والثالث لأبي عمران، وقال أشهب في كتاب محمد: يرجع في الفلس والموت مع العلم وشرط البراءة. قال ابن يونس: يحتمل أن يوفق بينه وبين قول ابن القاسم بمثل التأويل الثاني، وعليه تأوله محمد ولا يمكن فيه التأويل الثالث لأنه شرط البراءة، كقول ابن القاسم بخلاف رواية ابن وهب.
وبما ذكرنا من كلام ابن رشد وابن يونس تعلم أن التوفيق الذي في كلام المص موجود بين قول ابن القاسم ورواية ابن وهب كما هو موجود بينه وبين قول أشهب، خلافا لمصطفى في إنكاره وجوده
في رواية ابن وهب. اهـ كلام البناني. قوله: وعزا ابن يونس الثاني لمحمد أي ابن المواز هكذا وجدته في ابن يونس، وكذا في نقل المواق ومصطفى عنه وعزاه في التوضيح -وتبعه الشارح والتتائي- لأبي محمد بن أبي زيد، وقد رأيته في ابن ناجي على المدونة معزوا لأبي محمد ناقلا له عن ابن يونس وأظنه تصحيفا. وقوله: كما هو موجود بينه وبين أشهب خلافا لمصطفى لخ اعتراضه هذا على مصطفى صواب، لكن الصواب أن يقول كما هو موجود بينه وبين رواية أشهب؛ لأنه كذلك في ابن يونس. قاله الرهوني.
وجلب نص ابن يونس إلى أن قال: فيصير على هذا التأويل قول ابن القاسم، ورواية ابن وهب في المدونة ورواية أشهب في كتاب محمد واحدة. واللَّه أعلم. وقول البناني: إن ابن يونس عزا الثالث لأبي عمران نحوه يفهم من كلام مصطفى، ولكن لم أجد ذلك في النسخة التي بيدي من ابن يونس، وكلام ابن ناجي ظاهره موافق للنسخة التي بيدي فإنه لما ذكر كلام ابن يونس، قال عقبه: وتأول أبو عمران بأن جواب ابن القاسم فيه ولو علمت وفيه شرط المحيل البراءة فهو اختلاف سؤال، فكل منهما يقول بقول صاحبه. اهـ المراد منه. وقال عبد الباقي عند قوله "تأويلان" ما نصه: قال أحمد: انظر لو رضي المحال عليه بالحوالة ودفع هل يرجع على المحيل أم لا؟ وينبغي أن يكون له الرجوع لأن اشتراط البراءة إنما هو بالنسبة إلى المحال؛ أي ولأن رضاه بمنزلة الحميل وهو يرجع إذا غرم، وتوقف في ذلك بعض شيوخنا ثم قال: البراءة قطعت ذلك. اهـ. أي فصار المحال عليه كالمتبرع بالدفع، وكتب بعض أشياخي على قوله: وينبغي أن يكون له الرجوع فيه قصور إذ النقل كذلك. انتهى. انتهى.
وصيغتها يعني أنه يشترط في صحة الحوالة الصيغة أي اللفظ الدال عليها، نحو: أحلتك، قال الخرشي: وظاهره أنه لابد من لفظها الخاص بها، قال أبو الحسن: وأن يكون بلفظ الحوالة. اهـ. ووقع في البيان ما يدل على أنها لا تتوقف على ذلك، ونص الحوالة أن يقول أحلتك بحقك على هذا أو أبرأ إليك منه، وكذا خذ من هذا حقك وأنا بريء من دينك، وظاهر كلام ابن عرفة أنه ماش على كلام البيان في قوله: لفظ الحوالة أو ما ينوب منابه، حيث قال: الصيغة ما دل على ترك المحال دينه من ذمة المحيل في ذمة المحال عليه. اهـ. وقال أبو علي: وما قاله أبو
الحسن وافقه عليه أبو عبد اللَّه الفشتالي، ثم قال بعد أن قال ما نصه: وقد تبين من هذا كله أن مذهب المدونة واللخمي وأبي الحسن ومن وافقه أنه لابد من لفظ الحول، ومذهب ابن رشد أن ما ينوب مناب ذلك كالتصريح بلفظ الحول وهو دليل كلام ابن عرفة. اهـ.
قال الرهوني: قلت: ما لابن رشد هو صريح كلام ابن العطار وقد قبله المتيطى، وكون الإشارة من القادر لا تكفي هنا على طريقة أبي الحسن ومن وافقه واضح، وقد وجه أبو الحسن ما اعتمده بقوله: كل عقد خرج عن أصله ورخص فيه يشترط في عقده التصريح كالمساقاة. اهـ. وقد قال المص: "بساقيت"، وقال قبل هذا:"إن لفظ بالعرية"، وأما على طريقة ابن رشد ومن وافقه فلا وجه لعدم إجزاء الإشارة المفهمة، وقد قال ابن ناجي عند قول المدونة في كتاب الحمالة: وما فهم عن الأخرس أنه فهمه من كفالة وغيرها لزمه ما نصه قال المغربي وإشارة غير الأخرس كالأخرس. انتهى.
وقال أبو علي: ويحتمل عندي أن كلام أبي الحسن واللخمي ومن وافقهما موافق لكلام ابن رشد، بحمل كلام اللخمي ومن وافقه على أن المراد صريح اللفظ أو ما ينوب منابه كما يقوله ابن رشد، واحترزوا من الخال
(1)
منهما ويدل على هذا كلام ابن ناجي الذي ذكرناه وكذا كلام القلشاني والشارح وغيرهما. اهـ. واستظهر ذلك الرهوني أيضًا، وقال المواق: قال يحيى عن ابن القاسم في المطلوب يذهب بالطالب إلى غريم فيأمره بالأخذ منه ويأمره الآخر بالدفع إليه فيتقاضاه فيقضيه البعض أولا يعطيه شيئًا: إن للطالب أن يرجع على الأول لأنه يقول ليس هذا احتيالا بالحق إنما أردت أن أكفيك التقاضي، وإنما وجه الحول أن يقول أحيلك بحقك على هذا وأبرأ إليك بذلك. اهـ.
وحلول المحال به يعني أنه يشترط في جواز الحوالة أن يكون الدين المحال وهو المدين الذي للمحال في ذمة المحيل حالًّا، قال البناني: هذا شرط في الجواز، قال عياض في قوله صلى الله عليه وسلم:(مطل الغني ظلم): حجة أنه لا تجوز الحوالة إلا من دين حال؛ لأن المطل والظلم
(1)
في الرهوني ج 5 ص 401: الخالي.
إنما يصح فيما حل. اهـ. قال في التوضيح: هذا محل الرخصة وهي لا تتعدى موردها، وقال الخرشي: يعني أن من شرط صحة الحوالة ولزومها حلول الدين المحال به وهو دين المحال الذي في ذمة المحيل؛ لأنه إذا لم يكن حالا أدى إلى تعمير ذمة بذمة، فيدخله ما نهي عنه من بيع الدين بالدين ومن بيع الذهب بالذهب أو الورق بالورق لا يدا بيد إن كان الدينان ذهبا أو ورقا، إلا أن يكون الدين الذي انتقل إليه حالا ويقبض ذلك مكانه قبل أن يفترقا مثل الصرف فيجوز ذلك، ونحوه لعبد الباقي قوله إلا أن يكون الدين لخ، قال البناني: هكذا قال ابن رشد كما قاله المواق، قال مصطفى: فإذا خرجت عن محل الرخصة أي بعدم الحلول فأجرها على القواعد فإن أدت لأمر ممنوع فامنع وإلا فأجز كما قال ابن رشد، وإنما أطلق من أطلق المنع إذا لم يحل الدين؛ لأن حقيقتها ذمة بذمة وتعجيل الحق يخرجها عن أصلها، وعلى التعجيل يحمل قولها في السلم الثاني: ولو استقرض الذي عليه السلم مثل طعامك من أجنبي وسأله أن يوفيك وأحالك به ولم تسئل أنت الأجنبي ذلك جاز قبل الأجل وبعده، وبه يعلم جواب ما أورده بعض أهل درس ابن عبد السلام حين إقرائه المدونة أن كلامها هذا خلاف المذهب في اشتراط حلول المحال به، فلم يحضره ولا غيره جواب.
وفي الرهوني أنه لا يحتاج إلى ما قاله مصطفى من التعجيل؛ لأنه ليس هنا بيع دين بدين، إذ هذا الدين الذي يلزم الوفاء به قبل قبض المقترض له لا يسمى دينا اصطلاحا كما في الهبة والصدقة، وقد اعترض الحطاب حد ابن عرفة بأنه غير جامع لأنه يخرج منه من تصدق على رجل ووهبه شيئًا ثم أحاله به على من له عليه مثله قائلا ما نصه: فإنها حوالة ولفظ الدين لا يطلق عليها عرفا وهو ظاهر غاية؛ إذ لو مات الواهب أو المتصدق أو المقرض في مسألة القرض قبل دفعه لم يؤخذ من تركته. اهـ. وما ذكره من أن القرض من التبرع هو المعول عليه كما مر بل هو الحق راجع ما تقدم عند قول المص: "وفي إقراضه قولان"، وعند قوله:"وهل القرض كذلك" لخ، وعند قوله أول الفلس:"من تبرعه". واللَّه تعالى أعلم.
وإن كتابة مبالغة في اشتراط حلول المحال به؛ يعني أن المحال به لابد أن يكون حالًا كما عرفت، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدين المحال به كتابة وأن يكون غيرها، وصورة ذلك أن
يحل شيء من الكتابة أو الكتابة كلها فيحيل المكاتب بفتح التاء سيده على مدينه أي مدين المكاتب بالفتح. واعلم أن المكاتب إن أحال السيد على أجنبي بالكتابة فإن ابن القاسم يشترط حلولها، قال: وإلا فهو فسخ دين في دين، وقاس ذلك ابن القاسم على ما سمعه من مالك من منع بيع كتابة المكاتب لأجنبي بما لا يجوز. قاله في المدونة. وقال غيره فيها: تجوز الحوالة ويعتق مكانه لأن ما على المكاتب ليس دينا ثابتا، واختار سحنون وابن يونس وغيرهما قول الغير، وحكى عبد الحق عن بعض شيوخه أنه إنما يختلف ابن القاسم وغيره إذا سكتا عن شرط تعجيل العتق وعن بقائه مكاتبا، فعند ابن القاسم يفسخ ما لم يفت بالأداء، وعند غيره يحكما بتعجيل العتق، وأما لو أحال بشرط العتق فلا يختلفان في الجواز ولا في عدمه بشرط عدمه. اهـ.
وقد علمت منه أن مذهب ابن القاسم في المدونة أن الحوالة تصح مع الحلول في الكتابة وإن لم يشترط تعجيل العتق. ابن عرفة: ولا تجوز حمالة بكتابة وتجوز الحوالة بها على أصل دين، وفي شرطها بحلولها قولا ابن القاسم وغيره فيها، وصوبه سحنون واللخمي والصقلي. بعض شيوخ عبد الحق: إن لم تحل الكتابة وأحال سيده بشرط تعجيل العتق أو بشرط عدمه لم يختلفا فيهما، وإن لم يشترطا فقال ابن القاسم: يفسخ يريد ما لم يفت بالأداء وعند غيره يحكم بتعجيل العتق. اهـ. وقد علمت أن هذا الذي ذكرته إنما هو في إحالة المكاتب السيد على أجنبي، وأما إذا أحاله على مكاتب له أسفل فلابد من تعجيل عتق الأعلى حلت كتابته أم لا. ابن عرفة بعد ما تقدم عنه: وفيها إن أحالك مكاتبك بكتابك على مكاتب له بقدرها لم يجز إلا ببت عتق الأعلى، فإن عجز الأسفل كان له أي للسيد الأعلى لما يأتي رقا. الصقلي: يريد وإن لم تحل كتابة الأعلى لشرط تعجيل العتق. المازري: قالوا لا معنى لاشتراط تعجيل العتق لأن الحكم يوجبه. الصقلي عن بعض شيوخه: القياس أن لفظ الحوالة موجب لتعجيل العتق وهو قول غير ابن القاسم، وأشار المازري للاعتذار عن شرط تعجيل العتق بما تقريره أن الحوالة إنما أوجبت براءة المحيل حيث كونها على محقق ثبوته وهو الدين الثابت في الذمة، والمحال عليه هنا ليس كذلك لاحتمال عجز الأسفل فلا يحصل نفس المحال عليه، فضعف إيجاب هذه الحوالة البراءة الموجبة للعتق فافتقر إلى شرطها بالعتق. انتهى. انتهى.
وفي التوضيح قال في المدونة: ثم إن عجز الأسفل كان لك رقا ولا ترجع على المكاتب بشيء. اهـ. وقال عبد الباقي: ثم إذا بت عتق الأعلى عند حوالته على كتابة الأسفل تبعه السيد، فإن عجز رق له ولا يرجع على الأعلى بشيء لتمام حريته ولأن الحوالة كالبيع كما في المدونة. انتهى
تنبيهان:
الأول: إن وقعت الحوالة ببعض النجوم فإنما يشترط حلول ذلك النجم فقط، فإن كان آخر النجوم صار حرا مكانه كما صرح بذلك في المدونة وغيرها، ويفهم من كلامهم أنه إن لم يكن الآخر فإنه يبرأ منه، ثم إن أبى ما بقيَ خرج حرا وإلا رق وهو واضح، وإنما نبهت على هذا لأن بعض الناس توقف فيه لعدم اطلاعه على كلام الناس. واللَّه أعلم. قاله الرهوني.
الثاني: قال الرهوني في نوازل المعاوضات من العيار ما نصه: وسئل أي سيدي عبد اللَّه العبدوسي عمن أسلف بشرط الحوالة، فأجاب بأنه لا يجوز مثل أن يسلفه دراهم أو طعاما أو دنانير على أن يحيله بها على غريمه فلان؛ لأن الحوالة بيع من البيوع فصار قد باع له تلك الدراهم بالدراهم التي على الغريم، فصار دراهم بدراهم إلى أجل. اهـ. وتعقبه الونشريسي بكلام لأبي إسحاق النظار، ورد الرهوني ما قاله الونشريسي والنظار بما هو التحقيق فانظره فيه إن شئت. واللَّه تعالى أعلم. وفي المدونة: ولا يجوز أن تستقرض من أجنبي مثل طعامك وتحيله على الذي عليه السلم، ويوفيك على ذلك حل الأجل أم لا. اهـ. وأما لو وفاكه بغير شرط الإحالة لجاز ذلك قولا واحدا. انظر الرهوني.
لا عليه يعني أنه لا يشترط حلول الدين المحال عليه كان كتابة أو غيرها، نعم يشترط في الحوالة على الكتابة أن يكون المحال هو السيد، ولا يصح أن يحيل السيد أجنبيا على دين الكتابة. قال في التوضيح: وأما الكتابة المحال عليها فلا يشترط ابن القاسم ولا غيره حلولها، ولا يعرف فيها من قال به. التونسي: والمكاتب جائز له أن يحيل سيده بما حل من كتابته على ما لم يحل، وإن كان المحال أجنبيا لم يجز لأن الحوالة إنما أحيلت
(1)
للأجنبي إذا أحيل على مثل الدين، وهاهنا قد يعجز المكاتب المحال عليه فتصير الحوالة قد وقعت على غير جنس الدين كما لو كان على
(1)
في التوضيح ج 6 ص 279: إنما أجيزت.
رجل دين لأجنبي فأراد أن يحيله بذلك على مكاتبه ما جاز ذلك؛ لأنه قد يعجز المكاتب المحال عليه فتصير قد خالفت ما رخص فيه منها، وهو أن يكون المحال عليه من جنس المحال به. انتهى.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: وهذا ظاهر لكون المكاتب إذا عجز يرق لمن له الكتابة. واللَّه تعالى أعلم. قال في التوضيح: فإن قيل أنتم تجيزون بيع الكتابة قيل أصل الحوالة رخصة فلا يتعدى بها ما خفف منها. اهـ
وهذا الذي قررت به المص من رجوع الضمير في قوله لا عليه للدين قرره به غير واحد، وقال الخرشي: ويحتمل أن الضمير عائد على المكاتب أي لا يصح أن يكون المحال على المكاتب أجنبيا أي لا يصح أن يحيل السيد أجنبيا له عليه دين على كتابة مكاتبه، وعلى هذا الاحتمال يعلم عدم اشتراط حلول الدين المحال عليه من مفهوم قوله:"وحلول المحال به". اهـ.
وتساوى الدينين قدرا وصفة يعني أنه يشترط في الحوالة أن يتساوى الدينان المحال به والمحال عليه في القدر والصفة، والمراد أن لا يكون المأخوذ من المحال عليه أكثر مما أحيل به المحال، فيجوز أن يحيله بخمسة على مدينه الذي له عليه عشرة يدفع للمحال خمسة، قال عبد الباقي: ولا يجوز كما أفتى به الأجهوري أن يأخذ المحال من المحال عليه منافع عين لتنزل المحال منزلة المحيل، وقال البناني: قال في المقدمات: والثاني أي من الشروط أن يكون الدين الذي يحيل به مثل الذي يحيله عليه في القدر والصفة لا أقل ولا أكثر ولا أدنى ولا أفضل؛ لأنه إن كان أقل أو أكثر أو مخالفا له في الجنس والصفة لم تكن حوالة وكان بيعا على وجه المكايسة، فدخلها ما نهي عنه من الدين بالدين. اهـ.
قال ابن يونس: قال في كتاب ابن المواز: إذا اختلفا في الصفة وفي الجودة والصنفُ واحدٌ وهما طعام أو عرض كانا أو أحدهما من بيع أو قرض فلا تصح الحوالة فيه وإن حلا. محمد بن يونس: لأنه إذا اختلف الصنفان دخله التكايس والتغابن وخرج عن وجه المعروف الذي أجازه إلى بيع الدين بالدين المنهي عنه، قال ابن المواز: إلا أن يقبض قبل أن يفترقا فيجوز إلا في الطعام من بيع فلا يصح أن يقبضه إلا صاحبه. اهـ. واستظهر الرهوني أن المراد بالدين بالدين هنا فسخ ما
في الذمة في مؤخر، وقال قول ابن يونس: وخرج إلى بيع الدين بالدين هو تجوز في العبارة، وعلى هذا تكون العلة مطردة. واللَّه تعالى أعلم.
وفي تحوله على الأدنى تردد يعني أنه إذا تحول على الأكثر أو الأعلى منع قولا واحدا، وأما إن تحول على الأدنى صفة أو الأقل قدرا ففيه تردد بين المنع والجواز، فابن رشد قال بمنع ذلك كما رأيت، واللخمي والمازري والمتيطى قائلون بالجواز لأنه أقوى في المعروف، وعلل ابن رشد المنع بالخروج عن الرخصة إلى المكايسة فهو من بيع الكالئ بالكالئ، قال الرهوني عند: قوله وفي تحوله على الأدنى تردد ما نصه: أي اختلاف للمتأخرين، فالجواز للخمي والمازري والمتيطي وابن شأس وأكثر المتأخرين، والمنع لابن رشد وعياض. قلت: وما لابن رشد هو ظاهر كلام العتبية والموازية وابن يونس الذي قدمناه. فتأمله. اهـ.
تنبيه:
قال الحطاب: قال في التوضيح: وحيث حكم بالمنع في هذا الفصل فإنما ذلك إذا لم يقع التقابض في الحال، وأما لو قبضه لجاز، ففي المدونة: إذا اختلفا في الصنف أو في الجودة والصنف واحد وهما طعام أو عين أو عرض من بيع أو قرض، أو أحدهما من بيع والآخر من قرض فلا تصح الحوالة وإن حلا. محمد: إلا أن يقبضه قبل أن يفترقا فيجوز إلا في الطعام من بيع فلا يصح أن يقبضه إلا صاحبه، وكذلك إن كان أحدهما ذهبا والآخر ورقا فلا يحيله به وإن حلا إلا أن يقبضه مكانه قبل افتراق الثلاثة وطول المجلس. اهـ. وقد مر هذا واللَّه تعالى أعلم.
واعلم أن المص مر على المنع أولا حيث عمم، ثم استدرك بقوله:"وفي تحوله على الأدنى تردد"، قال الخرشي: وكأنه حذف الأقل قدرا للعلم به من الأدنى صفة. اهـ. أي لأنه مما فيه التردد. واللَّه أعلم.
وأن لا يكونا طعاما من بيع يعني أنه يشترط في صحة الحوالة أن لا يكون الدين المحال به والدين المحال عليه طعامين من بيع، وهذا صادق بصورتين: إحداهما أن يكون الطعامان من قرض وهذه يكفي فيها حلول المحال به بلا نزاع، الثانية أن يكون أحدهما من بيع والآخر من قرض وهذه يكفي فيها حلول المحال به أيضًا فقط على المذهب وهو قول مالك وأصحابه، إلا ابن القاسم فإنه اشترط حلول المحال عليه أيضًا. ابن عرفة: الصقلي: وقولهم أصوب. اهـ. ولهذا
مشى عليه المص وتبعه في الشامل حيث صدر به، ونقل الثاني بصيغة قيل. قاله أحمد. قاله عبد الباقي. ومفهوم المص أنه لو كان الدينان طعاما من معاوضة لم تجز الحوالة لما فيه من بيع طعام المعاوضة قبل قبضه، ولم يقل المص طعامين لأنه في الأصل مصدر. قاله اللقاني. وقال الأجهوري: لأنه اسم جنس يصدق على القليل والكثير كماء، وثنى في السلم نظرا إلى كونهما نوعين مسلم ومسلم فيه، ولا يقال المحال به والمحال عليه مختلفان أيضًا من حيث وصفهما؛ لأنا نقول: لما اشترط تساويهما قدرا وصفة كانا كشيء واحد. اهـ.
قال عبد الباقي عند نقله كلام اللقاني ما نصه: وأريد هنا بالمصدر اسم المفعول؛ إذ ليس القصد هنا المصدر وإنما هو ذات الطعام المحال به وذات الطعام المحال عليه. انتهى. وقوله: "وأن لا يكونا طعاما من بيع "سواء اتفقت رءوس الأموال أو اختلفت، وقال أشهب: وإن كانا من بيع لم تجز الحوالة وإن حلا إلا أن يتفق رأس مالهما فتجوز، وقوله: وهذه يكفي فيها حلول المحال به بلا نزاع، قال الرهوني: وهو مخالف لما في أبي الحسن، لكن ما قاله أبو الحسن فيه نظر، فإني لم أر من ذكر ذلك غيره، بل قال ابن عرفة: وفيها طعاما القرض كالعرضين. اهـ منه بلفظه. ولم يذكر خلافه أصلا. وقوله: وهذه يكفي فيها حلول المحال به أيضًا على المذهب لخ، قال الرهوني: انظر من صرح بأنه المذهب، مع أن مقابله قول ابن القاسم في المدونة والواضحة والمجموعة والموازية، وبه صدر ابن رشد في المقدمات وعليه اقتصر ابن زرقون، نعم اللخمي اقتصر على ما عزاه ابن حبيب لمالك وأصحابه واختاره ابن يونس فكل منهما قوي. واللَّه أعلم.
لا كشفه عن ذمة المحال عليه يعني أنه لا يشترط في صحة الحوالة كشفه أي المحال عن ذمة المحال عليه أغني أو فقير، بل تصح الحوالة عليه مع عدم الكشف عن ذمته على المذهب، وقد مر الكلام على حضوره وإقراره بالدين هل يشترطان أو لا؟ البناني: المازري: شرط بيع الدين علم حال ذمة المدين وإلا كان غررا، بخلاف الحوالة لأنها معروف فاغتفر فيها الغرر ونحو هذا لابن يونس واللخمي. انظر المواق. اهـ. الرهوني: وهذا الذي في المواق مخالف لما في ابن غازي عن ابن عرفة، فإنه قال بعد ذكره كلام ابن يونس مختصرا ما نصه: ومن لازم هذا الكلام أن الحوالة لا تجوز حتى يرف ملاء الغريم من عدمه، وهو نقل المازري واللخمي فتأمله. اهـ. كذا نقله ابن
غازي هنا وفي تكميل التقييد وسلمه وقد راجعت كلام ابن عرفة في أصله فوجدت ما نقله عنه ابن غازي هو لفظه، قلت: من وقف على كلام ابن يونس ظهر له ببادي الرأي أن الصواب ما فهمه منه ابن عرفة، ومن تأمله ظهر له أن الصواب ما فهمه منه المواق.
ويتحول حق المحال على المحال عليه يعني أنه بمجرد عقد الحوالة يتحول حق المحال على المحال عليه، فلا رجوع له بعد ذلك على المحيل، وإن كان المحال عليه أفلس حين الحوالة أي أحاله عليه والحال أنه أي المحال عليه مفلس أي فقير فلا رجوع له على المحيل، وأولى لو طرأ له الإفلاس بعد الحوالة. أو جحد يعني أنه لا رجوع للمحال بعد الحوالة على المحيل، وإن جحد المحال عليه الدين بأن قال: لا دين علي لمن أحالك، قال عبد الباقي: جحد بعد تمام الحوالة لا قبلها حيث لا بينة عليه بالدين. اهـ. وكان الأولى أن يأتي بفاء التفريع لأن هذا مفرع على قوله: "لا كشفه عن ذمة المحال عليه"، قوله: جحد بعد تمام الحوالة لا قبلها لخ، قال البناني: فيه نظر بل ظاهر المص أنه لا رجوع للمحال بجحده قبل الحوالة إذا جهل المحيل ذلك بدليل، لكن يقيد بوقوع التصديق من المحال. قال ابن عرفة عن التونسي: لو كان المحال عليه غائبا فلما حضر أنكر كان للمحال حجة. المازري: قوله في الغائب صحيح إن لم يصدق المحال المحيل في صحة دينه، فإن صدقه جرى على الخلاف فيمن دفع وديعة لمن زعم أن ربها أمره بقبضها منه وصدقه المودع وأنكر ربها فغرمها له، هل يرجع على قابضها بها لغرمه إياها أو لا لتصديقه إياه؟ اهـ. وسيأتي عند الزرقاني أن تصديق المحال بالدين يكفي في ثبوته. واللَّه أعلم. وقال ابن عرفة: سمع سحنون المغيرة: إن شرط المحال على المحيل إن فلس المحال عليه رجع على المحيل فله شرطه، ونقله الباجي كأنه المذهب، وقال ابن رشد: هذا صحيح لا أعلم فيه خلافا. ابن عرفة: وفيه نظر لأن شرطه مناقض لعقد الحوالة، وأصل المذهب في الشرط المناقض للعقد أنه يفسده. اهـ. قوله عن ابن عرفة: ونقله الباجي كأنه المذهب. الرهوني: وكذا اللخمي نقله كأنه المذهب، ونصه: فإن أفلس المحال عليه بعد ذلك أو مات أو غاب لم يرجع المحال إلا أن يشترط أنه يرجع إن فلس أو مات فله شرطه، وهو قول المغيرة في العتبية. اهـ. منه بلفظه. وقول ابن عرفة: فيه نظر، سلمه البناني وهو غير مسلم، فإن تسليم سحنون والعتبي قول المغيرة:
وإتيان الباجي واللخمي به كأنه المذهب من غير أن يذكروا فيه خلافا ولو شاذا مع قول ابن رشد هذا صحيح لا أعرف فيه خلافا كاف، وبحث ابن عرفة جوابه أن تأثير الشرط المناقض محله المعاوضات الحقيقية لبنائها على المكايسات لا التبرعات، فإن ذلك فيها غير موثر، ولذلك عمل بشرط المحبس أن من احتاج من المحبس عليهم باع وشرط الواهب أو المتصدق على محجور أن لا يحجر عليه فيما وهبه أو تصدق به عليه على المشهور في هذه، وهو الصواب كما تقدم تحريره، والحوالة من المعروف بلا نزاع، وابن عرفة لا ينازع في ذلك. اهـ.
تنبيه:
قال عبد الباقي: لا يدخل الرهن أو الحميل في عقد الحوالة أو الشراء أو الهبة إلا أن يشترط دخولهما ويحضر الحميل ويقر بالحمالة، وإن لم يرض بالتحمل لمن ملك الدين للسلامة من شراء ما فيه خصومة لكن لرب الدين أن يطلب وضعه عند أمين هذا هو المطابق للنقل دون فتوى الناصر اللقاني بتحوله برهنه وضامنه. اهـ.
إلا أن يعلم المحيل بإفلاسه يعني أن محل عدم رجوع المحال على المحيل حيث أفلس المحال عليه إذا لم يعلم المحيل بإفلاسه وقت الحوالة، وأما إن علم وقت الحوالة أنه مفلس فللمحال الرجوع على المحيل، وقوله: فقط معناه دون المحال أي علم بإفلاس المحال عليه عند الحوالة المحيل دون المحال، وأما إن علمه المحال معه فلا رجوع له عليه، وإنما كان له الرجوع حيث علم المحيل وحده لأنه غره. قال عبد الباقي: إلا أن يعلم المحيل بإفلاسه أي المحال عليه فقط دون المحال، فيرجع على المحيل لأنه غره والظن القوي كالعلم فيما يظهر، ومثل علمه بإفلاسه علمه بلدده أو بعدمه، وإن لم يكن مفلسا وكذا بأنه سيء القضاء على أحد قولين والآخر لا يضر، وأما علمه بجحده فإن كان ليس عليه بالدين بينة فلا حوالة لفقد شرطها، وإن كان معناه علمه من حاله أنه بعد تمام الحوالة يجحد إقراره الحاصل حين الحوالة، فهذا لا يوجب رجوع المحال على المحيل فيما يظهر، فإن شك المحال مع علم المحيل بكإفلاس المحال عليه فله الرجوع على المحيل.
تنبيهان:
الأول: قوله: "إلا أن يعلم" لخ مقيد بما إذا لم يكتب الموثق في عقد الحوالة بعد معرفة ملاء المحال عليه وموضعه، وإلا فلا رجوع بوجه. قاله ابن سلمون.
الثاني: قال الحطاب: ولو دفع المحال عليه الدين للمحيل لم أر فيه نصا، والظاهر أنه إن علم المحال عليه بالحوالة لزمه غرمه للمحال، وإلا لم يلزمه كما قال في سماع عيسى من كتاب الصدقات في دفع الدين الموهوب للواهب. اهـ. وقال الخرشي عند قوله:"إلا أن يعلم المحيل بإفلاسه فقط" ويثبت علم المحيل بإفلاس المحال عليه إما ببينة أو إقرار وعلم الجحود كعلم الفلس. اهـ. وقال غير واحد: ولو عبر المص بعدمه بدل إفلاسه لكان أخصر وأحسن، فيكون الإفلاس أولى بل كلامه يوهم أن العلم بالفقر ليس كالعلم بالإفلاس وليس كذلك. اهـ.
ولو أدخل الكاف على إفلاسه ليشمل ما تقدم من علمه بعدمه أو لدده لكان أحسن. قاله عبد الباقي. واللَّه تعالى أعلم. وقال المواق من المدونة: قال مالك: إذا أحالك غريمك، على من له عليه دين فرضيت باتباعه برئت ذمة غريمك ولا ترجع عليه في غيبة المحال عليه أو عدمه، ولو غرك غريمك من ضدم يعلمه بغريمه ففلس فلك طلب المحيل، ولو لم يغرك أو كنتما عالين بفلسه كانت حوالة لازمة لك. المازري: وأما الجحود فاختار بعض شيوخنا أنه لا يوجب الرجوع على المحيل لأن المحال فرط إذ لم يشهد على المحال عليه، فكأنه لما قبل الحوالة برئت ذمة المحيل وفرط في الإشهاد فصار كالمتلف لماله قبل القبض فمصيبة الجحود منه ولا أعرف لمالك في هذا نصا. اهـ. وحلف على نفيه إن ظن به العلم يعني أن المحيل إذا أحال على من هو مفلس ولم يقر بأنه يعلم بأنه مفلس حين الحوالة فإنه ينظر، فإن كان ممن يظن به العلم بذلك أي كان مثله يتهم بأنه يعلم بذلك ولا يخبر به المحال، فإنه يحلف على نفي بأن يقول: باللَّه الذي لا إله إلا هو لقد أحلته وأنا لا أعلم بأنه مفلس، فإن لم يتهم بذلك لم يحلف. قال عبد الباقي: وحلف على نفيه أي العلم إن ظن بالبناء للمفعول به العلم أي كان مثله يتهم بذلك وإلا لم يحلف، وإن اتهمه المحال كذا يفيده النقل فقراءة ظن بالبناء للمفعول كما ذكر تفيد ما في النقل وضبطه بالبناء للفاعل جري على خلاف النقل، والظاهر جري مثل ذلك في دعوى المحيل على المحال مشاركته في العلم وأنكر المحال. اهـ.
وقال الخرشي: أي إذا ادعى المحال على المحيل أنه يعلم عدم المحال عليه فإنه يحلف إن ظن به العلم؛ أي بأن كان مثله يتهم بهذا، فإن حلف برئ ولزمت الحوالة وإن نكل حلف المحال
ورجع بدينه على المحيل، فإن لم يظن به العلم فلا يمين عليه، والمناسب قراءة ظن بالبناء للمفعول إذ قراءته بالبناء للفاعل تفيد أن ظن المحال به ذلك يوجب اليمين وإن كان مثله لا يتهم بذلك، وهو خلاف ما يفيده النقل. انتهى. قوله:"وإن نكل حلف المحال" لخ.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: كيف يحلف ويمينه يمين تهمة ويمين التهمة لا ترد فالظاهر ما لعبد الباقي. واللَّه تعالى أعلم. وقال المواق: الباجي: لو غر المحيل من حال المحال عليه وقد علم بفلسه كان للمحال الرجوع عليه، وإن جهل أمر المحيل في ذلك فقال مالك: إن كان يتهم أحلف ومعناه إن كان يظن به أنه رضي بمثل هذا أحلف. اهـ.
فلو أحال بائع على مشتر بالثمن ثم رد بعيب ثم استحق لم تنفسخ هذا مفرع على قوله: "ويتحول حق المحال" لخ قوله: "بائع" فاعل "أحال" وقوله: "على مشتر" متعلق "بأحال" وقوله: "بالثمن" متعلق "بأحال" أيضًا، والظاهر أن الباء سببية أو داخلة على محذوف أي بنظير الثمن أو بمعنى على بدل مما قبله. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. وقوله:"لم تنفسخ" أي الحوالة جواب لو، وصورة المسألة أنه باع زيد سلعة لعمرو بمائة في ذمته ولم يقبضها منه، ثم أحال بائع السلعة غريما له على المشتري ليدفع له تلك المائة التي هي في ذمته ثم إن السلعة المبيعة استحقت من يد المشتري أو ظهر بها عيبط فإن الحوالة لا تنفسخ، فيدفع المشتري للمحال المائة ويرجع على المحيل فيدفع له مائة، فإذا عرفت هذا فتوضيح المسألة أن تقول إذا باع شخص سلعة بثمن في ذمة مشتريها ولم يقبضه، ثم أحال من له عليه دين على ذلك المشتري بسبب الثمن الذي في ذمته لم يقبض، ورد ذلك المشتري السلعة على بائعها بعيب أو استحقت من يده فإن الحوالة ماضية لا تنفسخ، وحينئذ فيؤدي المشتري للمحال الثمن الذي في ذمته، فإذا أداه رجع على المحيل بائع السلعة المذكورة بنظير الثمن. واللَّه تعالى أعلم. قال الخرشي: ومثل الرد بالعيب الرد بالفساد ونحوه لعبد الباقي، وزاد كما في الشامل وظاهره ولو مع قيام المبيع. اهـ.
وقال المواق: من المدونة وكتاب محمد: إن أحلت غريمك على ثمن عبد أو سلعة بعتها من رجل وهو ملي ثم استحقت السلعة أو العبد أو ردها عليك بعيب، فقال ابن القاسم: الحول ثابت عليه
يوفيه للمحال عليه ويرجع به عليك، قال: وبلغني ذلك عن مالك، وقال أشهب: الحول ساقط ويرجع غريمك عليك. ابن المواز: وهو أحب إلينا وهو قول أصحاب مالك كلهم.
وإلى هذا أشار بقوله: واختير خلافه وعلم من هذا أن صوابه والأصح خلافه؛ لأن القول الأول لابن القاسم في المدونة، والثاني لأشهب واختاره ابن المواز وقال إنه قول أصحاب مالك كلهم، فما ذكره المص غير جار على قاعدته من وجهين: التعبير بالاختيار وكونه بالفعل. انظر الحطاب. قاله البناني. وقال عبد الباقي عند قوله: "واختير خلافه" ما نصه: وعليه الأكثر ومحل الخلاف حيث كان البائع يظن ملكه لما باع وإلا فسخت اتفاقا، ومحله أيضًا الرد بالفساد إن لم يعلم به المشتري وإلا لم تبطل الحوالة على القولين، وهل يدفع الثمن أو القيمة قولا ابن القاسم وأشهب؟ ذكره شارح الشامل، قال التتائي: وفرض المص وغيره المسألة في البائع يفهم منه أن المشتري لو أحال البائع بالثمن فرد أي المبيع بعيب أو استحق انفسخت وانظره. انتهى. ونحوه في أحمد. اهـ. قوله، يفهم منه لخ، قال البناني: هذا هو الظاهر وما في الخرشي من الجزم بعدم الفسخ في هذا غير ظاهر، بل ينبغي الجزم [ببطلان]
(1)
حق المحال بالاستحقاق. قاله بعضهم. اهـ.
وقال عبد الباقي: ولو تصدق البائع في مسألة المص بالثمن على شخص ثم أحاله على المبتاع ثم رد البيع بعيب أو استحق بطلت الحوالة؛ لأن الصدقة إنما كانت فيما يملك البائع ولا شيء له ولو قبض أخذه المشتري على الأصح، وإن مات أو فلس المحال عليه قبل القبض فالظاهر أن الصدقة أو الهبة لا تبطل بل تمضي، فإن لم يرد البيع صحت الحوالة بالصدقة وهذا وارد على قوله: وثبوت دين لازم كما مر. اهـ. قوله: ولو تصدق البائع لخ ما ذكره في هذه هو أحد أقوال خمسة نقلها ابن عرفة والمص في التوضيح، لكن الذي في التوضيح أنه قول أشهب، والمعروف من قول ابن القاسم هو أن الهبة تبطل إذا لم يقبضها الموهوب له، فإن قبضها لم يتبع بها إلا الواهب بمنزلة ما لو قبضها الواهب ثم تصدق بها فيظهر من كلامه أن هذا هو الراجح، فقول الزرقاني فيما ذكره إنه الأصح في عهدته. واللَّه أعلم. اهـ. قاله البناني.
(1)
في الأصل لبطلان والمثبت من بناني ج 6 ص 21.
وقال الرهوني: قوله: ولو قبض أخذه المشتري على الأصح صواب موافق لما في الشامل، ونصه: ولو باع عبدا وتصدق بثمنه على شخص ثم أحاله على مشتريه ثم استحق أو رد بعيب بطلت الحوالة ولا شيء له، ولو قبض الثمن أخذه المشتري على الأرجح وإن فات مضى. اهـ. ونقله التتائي مسلما له معتمدا له وسلم له ذلك محشياه: ابن عاشر ومصطفى، ونقل الأجهوري كلام التتائي وسلمه وهو حقيق بالتسليم؛ لأن كلام ابن يونس واللخمي وابن رشد يفيد رجحانه، ونص ابن يونس: وقال ابن القاسم في كتاب محمد والعتبية فيمن باع عبدا بمائة دينار وتصدق بها على رجل وأحاله بها وأشهد له ثم استحق العبد أو رد بعيب، قال: إن قبض المتصدق عليه الثمن وفات بيده لم يرجع عليه المشتري بشيء ويرجع على البائع كما لو قبضها المتصدق بها ثم تصدق بها، قال: ولو لم يفت الثمن بيد المعطى كان للمشتري أخذه، وقيل إن قبض مضى فانظر كيف صدر به؟ ووجهه بأنه وهبه ما ظن أنه ملكه فكشف الغيب أنه لا يملكه وعزاه لابن القاسم، وعبر عن الآخر بقيل ولم يعزه لأحد، ثم جلب الرهوني من النقول ما فيه كفاية لتصحيحه كلام عبد الباقي ثم قال: وبذلك كله تعلم ما في اعتراض البناني على عبد الباقي، ثم قال بعد ذلك ما نصه: فظهر لك صحة ما قلناه وعلمت أن الصواب ما قاله الزرقاني لا ما قاله البناني. اهـ.
والأقوال الخمسة التي مرت الإشارة إليها هي: أنه إذا لم يقبض المتصدق عليه الثمن أو قبضه ولم يفت يأخذه المشتري، وإن قبضه وفات مضى ولا يرجع المشتري حينئذ إلا على الواهب هذا أحدها. الثاني: أنها تفوت بمجرد القبض فإذا قبضه الموهوب له لم يتبع المشتري إلا الواهب، وقيلَ نفس الهبة فوت ويلزم المبتاع أن يدفعه إلى الموهوب أو المتصدق عليه ويرجع بالثمن على الواهب، الرابع أنه لا يفوت بحال ولو قبضه الموهوب له واستهلكه، الخامس أنه إن كان البائع الواهب عديما كان للمشتري أن يمسك الثمن إن كان لم يدفعه، وإن كان مليا لزمه أن يدفعه إلى الموهوب له ويتبع به الواهب. انظر التوضيح.
قال عبد الباقي: ولما كان الأصل أن القول لمدعي الصحة دون مدعي عدمها وللمثبت دون النافي، أشار لذلك بقوله: والقول للمحيل إن ادعَى عليه نفي الدين للمحال عليه يعني أنه إذا أحاله على شخص ثم تنازع معه بعد ذلك، فقال: المحال أحلتني على من ليس لك عليه دين، وقال
المحيل بل أحلتك على دين لي في ذمة ذلك الشخص الذي أحلتك عليه، فإن القول يكون للمحيل في ثبوت الدين فلا رجوع للمحال عليه. وقوله:"للمحال عليه" هو فيما وقفت عليه من النسخ باللام، فيحتمل أن تكون بمعنى عن متعلقة بنفي ظرف لغو، وأن تكون بمعنى على ظرف مستقر. قاله مقيده واللَّه تعالى أعلم. قال عبد الباقي مفسرا للمص: وإن ادعى محال على محيل نفي دين محال عليه، وأنه أحال على غير دين كان القول للمحيل بيمين إن ادعى عليه المحال نفيَ الدين للمحال عليه ومات أو فلس أو غاب غيبة انقطاع، فإن كان حاضرا وذكر ما يوافق أحدهما فهل يكون كالشاهد أم لا؟ وهل يجري في الملي والمعسر أم لا؟ فإن قيل تقدم أنه لابد في صحة الحوالة من ثبوت دين لازم فكان المناسب أن يكون الحكم في تنازع المحيل والمحال عليه في ثبوت الدين ونفيه لزوم المحيل بإثبات ذلك حتى تصح الحوالة، فَالجَوابُ أن المحال لا رضِيَ بالحوالة كان ذلك تصديقا منه بثبوت الدين وثبوته إما بالبينة أو بإقرار المحال وهو هنا بإقراره. انظر ابن يونس. قاله أحمد. اهـ.
وقال المواق: ابن يونس: قال بعض الفقهاء: إذا مات المحال عليه، فقال المحال: أحلتني على غير أصل دين، وقال المحيل: بل على أصل دين، قال: هو حول ثابت حتى يتبين أنه أحاله على غير أصل دين؛ لأن أصل الحوالة براءة الذمة، وأنها على أصل دين، فمن ادعى بعد قبوله الحوالة أنها على غير أصل دين لم يصدق. انتهى. قال الرهوني: ومراده ببعض الفقهاء أبو إسحاق التونسي كما يدل عليه كلام ابن غازي في تكميله، قلت: وانظر لم عزاه ابن يونس لبعض الفقهاء مع أنه في الموازية كما نقله اللخمي، ونصه: وقال محمد: إذا قال المحال بعد موت المحال عليه أحلتني على غير مال، وقال المحيل على مال فهو حول ثابت حتى يثبت أنه على غير مال. اهـ. منه بلفظه. ونقله ابن عرفة أيضًا. ولم يتعرض لكلام ابن يونس. واللَّه أعلم. اهـ. كلام الرهوني.
لا في دعواه وكالة يعني أنه إذا صدر بينهما لفظ الحوالة، وقال المحيل بعد ذلك إنما أحلتك لتقضي لي ديني، وقال المحال: بل أحلتني لأجل دين لي عليك فإن القول لا يكون للمحيل بل يكون للمحال ويصدق في أن له دينا على المحيل، قوله:"وكالة" مفعول دعواه، قال المواق: ابن
الماجشون: إذا قال المحال للمحيل كانت لي دينا عليك، وقال الآخر: ما أحلتك إلا لتقبض لي فهو حوالة حتى يقوم دليل أنها وكالة، مثل أن يكون هذا ممن يتوكل في مثل ذلك. انتهى.
أو سلفا عطف على "وكالة" يعني أنه إذا صدر بينهما لفظ الحوالة، ثم قال المحيل: إنما أسلفتك فاقضني ما تقاضيت، وقال القابض: إنما أحلتني بحق كان لي عليك فقد قبضت حقي وإحالتك إياي إقرار بحقي ولا بينة على الحق كالتي قبلها، فإن القول للمحال في أن له حقا عليه أحاله به ولا يكون القول للمحيل. هذا قول ابن الماجشون. واختاره ابن حبيب. وقال ابن القاسم وأشهب: القول قول المحيل ومحل الخلاف أن أتيا بما يشبه أو بما لا يشبه، وأما إن أشبه قول أحدهما فقط فالقول قوله اتفاقا، وقال البناني: وما اقتصر عليه المص تبع فيه قول ابن الحاجب إنه الأصح أي في كل من الوكالة والسلف، قال في التوضيح: أراد بالأصح قول ابن الماجشون في المبسوط في مسألة الوكالة وغير الأصح هو قول ابن القاسم في العتبية في السلف. اللخمي: والمسألتان سواء وعلى هذا فإنما في كل واحدة قول، وخرج فيه قول آخر من الأخرى. اهـ. باختصار. انتهى. وقال الرهوني بعد جلب كلام ما نصه: فتحصل أن ما ذهب عليه المص في السلف هو المنصوص لابن الماجشون وهو اختيار ابن حبيب. اهـ. المراد منه.
ولما كان الضمان والحوالة متشابهين لما فيهما من حمالة الدين أتبعه بها فقال:
باب في الضمان
ومن يصح منه وما يصح به وما يبطله وانفراد الضامن وتعدده وأقسامه وهي ثلاثة: ضمان ذمة ووجه وطلب وما يتعلق بذلك، قال الحطاب: قال المازري في شرح التلقين: الحمالة في اللغة والكفالة والضمانة والزعامة كل ذلك بإعنى واحد، فتقول العرب: هذا كفيل وحميل وضمين وزعيم. اهـ.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: معنى ضمن كذا جعله على نفسه والتزمه. واللَّه تعالى أعلم.
وعرف المؤلف الضمان بقوله: الضمان شغل ذمة أخرى بالحق يعني أن الضمان هو أن يشغل شخص ذمته بالحق الذي على غيره أي يلزمها ذلك الحق، فقد شغلت بالحق ذمتان: الذمة التي كانت مشغولة به قبل الضمان أي ملزومة به، والذمة الأخرى التي شغلت به حين ضمنت ذلك الحق، فقوله:"ذمة" جنس وأخرى كالفصل يخرج البيع، وأل في قوله:"بالحق" للعهد فيخرج البيع المتعدد كمن باع رجلا سلعة بدين ثم باع أخرى لآخر بدين إذ يصدق عليه أنه شغل ذمة أخرى لكن بغير الحق الأول، ويخرج أيضًا التولية والشركة لأن الحق الذي شغلت به ذمة المولَّى، والشرك بالفتح للمولى والمشرك بالكسر هو غير الحق الذي على المولي والشرك بالكسر لأنه حق للبائع لهما، وتعريف المصنف يشمل أنواع الضمان الثلاثة كما أنه منطبق على أركانه الأربعة: الضامن والمضمون له والمضمون والحق المضمون فيه.
وعرف ابن عرفة: الضمان بقوله: الحمالة التزام دين لا يسقطه أو طلب من هو عليه لمن هو له، وقول ابن الحاجب تبعا للقاضي: شغل ذمة أخرى بالحق لا يتناولها لأن شغل ذمة إنما هو لازم لها لا نفسها لأنها مكتسبة، والشغل حكم غير مكتسب نشأ عن مكتسب كالملك مع البيع فتأمله. اهـ. وحاصله أن قولهم:"شغل" مباين للمحدود فليس بجامع ولا مانع؛ لأن الضمان سبب في الشغل فالشغل مسبب عنه لا نفسه كما أن الملك مسبب عن البيع لا نفسه، وسلمه ابن غازي والحطاب وردد ابن عاشر بأن الذي ليس فعلا للشخص إنما هو اشتغال الذمة، وأما شغلها فهو فعل الشخص لأنه متعد، فقولهم:"شغل ذمة" مصدر مضاف للمفعول بمعنى أن الشخص شغل ذمته بالحق أي ألزمها إياه، فهو فعل مكتسب مساو لقول ابن عرفة التزام دين. واللَّه تعالى أعلم. اهـ. وهذا الذي قاله هو الذي قررت به المص التابع للشيخين قبله، وقال الرهوني: ابن يونس:
الأصل في جواز الحمالة قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} فهذا حمالة المال، وقال في قصة يعقوب:{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} ، فهذا ضمان النفس بعينه. اهـ. منه بلفظه. قلت: وهذا على أن شرع من قبلنا شرع لنا حتى يرد ناسخ وفيه خلاف. اهـ. وقد مر تعريف ابن عرفة للضمان، بقوله: الحمالة التزام دين لا يسقطه أو طلب من هو عليه لمن هو له. اهـ. قوله: لا يسقطه فاعل يسقطه ضمير يعود على الالتزام، وأخرج به الحوالة لأنه يتحول حق المحال على المحال عليه بمجردها فلا مطالبة له على المحيل وفيه نظر؛ إذ ليس في الحوالة التزام دين والظاهر أن لفظ لا يسقطه حشو. قال الرهوني: ويحتمل عندي أن يكون احترز به عن صورة وهي أن يقول شخص لرب دين: إن أبرأت فلانًا من دينك فأنا ملتزم لك به من غير رجوع مني عليه. فتأمله. واللَّه تعالى أعلم. اهـ.
قال عبد الباقي: ولما كان في الأركان تفصيل لم يكتف باستفادتها من التعريف بل أشار لكل، فأشار للضامن بقوله: وصح من أهل التبرع يعني أن الضمان يصح ويلزم من أهل التبرع، ولا يصح من صبي وسفيه ومجنون ويصح ولا يلزم من عبد غير مأذون له فيه ومريض وزوجة في زائد ثلثهما، قال المواق: ابن شأس: يشترط في الضامن أهلية التبرع. الباجي: والحميل من لا حجر عليه. اهـ. وقال عبد الباقي: وصح ولزم من أهل التبرع وهو المكلف الذي لا حجر عليه فيما ضمن فيه، فدخل ضمان زوجة ومريض بزائد ثلث فصحيح أيضًا وغير لازم، كوقوعه من عبد بغير إذن سيده وإن كان من سفيه وصبي ومجنون ففاسد يجب رده وليس للولي إجازته، وسواء كان الصبي مميزا أم لا، وخرج بأهل التبرع من يغترق دينه ما بيده وذو عقد إجارة لنفسه فيقدم كل على الضمان، كما يقدم دين على إجارة وإن وجدت قبله وعلى سفر زوج بزوجة وعليها دين. اهـ. قوله: وذو عقد إجارة لنفسه لخ، أشار به لما ذكره شارح التحفة، ونصه: قال في النوادر: قال محمد بن عبد الحكم: من تكفل بوجه رجل فغاب الرجل فأخذ به الكفيل فأقام آخر البينة على الكفيل أنه استأجره قبل ذلك أن يبني له داره أو يسافر معه إلى مكة، فالإجارة أولى ولا يحبس في الدين لأن الكفالة في الدين معروف تطوع به، ولو كانت ظئرا استوجرت على رضاع
قبل الكفالة لم تحبس في الكفالة أيضًا والرضاع أولى، فإذا انقضت مدة الرضاع طولبت بالحمالة. قاله البناني. ونقله الحطاب.
كمكاتب ومأذون جعلهما عبد الباقي مثالين ولا بأس بذلك؛ يعني أن المكاتب والمأذون له في التجارة يصح منهما الضمان ويلزم إذ
(1)
أذن سيدهما لهما في الضمان، فلا تكرار بين قوله:"مأذون" و"أذن" لا إن لم يأذن فلا يلزم، وإن صح كما مر بدليل قوله الآتي:"واتبع به ذو الرق إن عتق" وقوله: "أذن سيدهما" رد به على ابن الماجشون القائل: تجوز كفالتهما ولو لم يأذن السيد لهما في الضمان كما في التوضيح، وقول غير ابن القاسم في المكاتب أيضًا: لا يجوز أن يضمن ولو أذن له السيد لأنه داعية إلى رقه. المواق من المدونة: قال ابن القاسم: لا يجوز لعبد ولا مكاتب أو مدبر أو أم ولد عتق ولا كفالة ولا هبة ولا صدقة ولا غير ذلك مما هو معروف عند الناس إلا بإذن السيد، فإن فعلوا ذلك بغير إذنه لم يجز إن رده السيد، فإن رده لم يلزمهما ذلك وإن عتقوا وإن لم يرده حتى عتقوا لزمهم ذلك، علم به السيد قبل عتقهم أو لم يعلم. قال ابن القاسم: ولا تجوز كفالة المأذون إلا بإذن سيده. اهـ. وقال عبد الباقي عند قوله: "أذن سيدهما" ما نصه: ثم الفرق بينهما وبين صحة رهنهما بغير إذنه كما تقدم في باب الرهن إذا أصابا وجهه أن في الضمان اشتغال ذمتهما بمال على وجه التبرع والرهن إنما يكون عن معاملة كبيع وشراء، وظاهر المص أنه لابد من إذن السيد ولو ضمناه وهو كذلك، ومراده بهما غير المحجور عليهما لدين بدليل جعلهما مثالين لأهل التبرع، وبه يجاب عن اعتراض الشارح بأن كلامه يشمل المأذون الذي عليه دين يغترق جميع ماله. اهـ.
وزوجة ومريض بثلث هذان أيضًا مثالان يعني أن الزوجة والمريض إذا ضمن واحد منهما قدر ثلث ماله، فإن ذلك صحيح لازم، قال عبد الباقي: وزوجة ومريض بثلث أو بأزيد منه بيسير كالدينار وما خف مما يعلم أن الزوجة لم تقصد به ضررا فيمضي الثلث مع ما زادت لا بكثير فلا يلزم، وإن ضمنت زوجها أو ضمن مريض وارثه وإن كان تبرعهما بذلك صحيحا، خلافا لدعوى بطلان
(1)
كذا في الأصل ولعلها: إذا أذن الخ.
ضمان المريض بزائد الثلث وحيث صح فيتوقف كل على إجازة الزوج والوارث، وللزوج رد جميعه إن تبرعت بأزيد كما مر ولو له هو وللوارث ود الزائد ولو له هو، خلافا لدعوى بعضهم أن له رد الجميع أو بطلانه معللا له بأنه كالعطية له أو بأن الضمان معروف، فإن كلامهم يخالفه. اهـ. وقال البناني: ابن عرفة: فيها كفالة ذات الزوج في ثلثها وإن تكفلت لزوجها ففيها قال مالك: عطيتها زوجها جميع مالها جائزة وكذا كفالتها عنه. الباجي: يريد بإذنه وفيها إن ادعت أنه أكرهها في كفالتها عنه فعليها البينة. اهـ. فلا فرق بين كفالتها زوجها وغيره، وما نقله ابن عرفة عن الباجي هو في نص المدونة كما في الحطاب. اهـ. وقوله:"ومريض" قال الرهوني: ظاهر المص سواء وقعت الحمالة في حلب عقد البيع أو لا، وهو ظاهر كلام غيره. قال في المدونة: ومن تكفل في مرض فذلك في ثلثه، وقال ابن غازي في تكميله: اللخمي: وإذا تكفل المريض بمال في عقد البيع بغير أمر البائع جاؤ ولا يجوز بأمره على القول بأنها تحل على الحميل بموته؛ لأنه لا يدري على أي ذلك باع
(1)
النقد أو إلى أجل. اهـ. قيل: يلزم على هذا أن لا يجوز شراء المريض بدين. اهـ.
واتبع به ذو الرق إن عتق يعني أن الرقيق إذا ضمن ثم أعتق فإنه يتبع به أي بالضمان أي بما يؤول إليه من غرم ضمن بإذن سيده أم لا، وليس له إسقاطه عنه في الأول بخلاف الثاني فله قبل عتقه رده فلا يتبع به إن عتق خلافا لابن الحاجب لأن رده رد إبطال وإن لم يصرح بإبطال أو إسقاط ولا يباع فيه قبل العتق ولو كان بإذن سيده، قال عبد الباقي: إلا أن يضمنه فيفلس السيد أو يموت. اهـ. قال البناني: لا وجه لهذا الاستثناء لأن بيعه حينئذ لأجل دين السيد، سواء ضمنه أم لا، وليس بيعه بسبب الضمان. اهـ.
وليس للسيد جبره عليه يعني أن السيد ليس له أن يجبر رقيقه على الضمان سواء كان ينتزع ماله أم لا، قال عبد الباقي: أما غير من له انتزاع ماله فظاهر، وأما من له انتزاعه فلأنه قد يعتق والضمان باق عليه فيحصل له بذلك ضرر فإن جبره عليه لم يلزم العبد شيء بعد عتقه، وقيل: له
(1)
في الرهوني ج 6 ص 3: باع على النقد.
جبره وهو الجاري على النكاح وفرق بأن للسيد منفعة في النكاح وظاهر المص أنه ليس له جبره عليه ولو له إلا بقدر ما بيده من مال لأنه كانتزاعه. قاله اللخمي. اهـ. ونص كلام الحطاب: قال اللخمي: وللسيد أن يجبر عبده على الكفالة إذا كان بيده مال بقدرها، واختلف إذا كان فقيرا وليس في يده مال، فقال ابن القاسم: إنه لا يجبر، وقال محمد: يجبر. اهـ. وكأنه المذهب ونقله ابن عرفة. اهـ. كلام الحطاب. اهـ. نقله البناني. وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: تجوز كفالة العبد ومن فيه بقية رق، ولا يجبره السيد على ذلك ولا يلزمه إن جبره. اهـ. وقال الخرشي: المشهور وهو مذهب المدونة أن السيد ليس له أن يجبر عبده على الضمان أما غير من له انتزاع ماله. لخ ما مر.
وقال الشارح عند قوله: "وليس للسيد جبره عليه": وهذا هو المشهور وهو مذهب المدونة، ومقابل المشهور رواية أبي زيد عن ابن القاسم أنه يجبره لأن له انتزاع ماله، وحكى ابن المواز عن عبد الملك أن للسيد الجبر إلا أن يكون على العبد دين محيط بماله. اهـ. وقول عبد الباقي: وظاهر المص أنه ليس له جبره عليه ولو له إلا بقدر ما بيده. لخ. فيه أمران: أحدهما أنه يوهم أن موضوع كلام اللخمي إذا تحمل عن نفسه وليس كذلك، ثانيهما أن قوله لأنه كانتزاعه يوهم أنه من كلام اللخمي وليس كذلك، وإنما هو من كلام الأجهوري فإنه بعد أن ذكر أن أبا الحسن وابن ناجي لم يتعرضا لكلام اللخمي، قال ما نصه: ووجه كلام اللخمي أنه يقدر كأن السيد انتزع منه ذلك المال وفيه نظر؛ إذ قد يرضى العبد بانتزاع المال ولا يرضى باتباع ذمته. اهـ. محل الحاجة منه. وما قاله ظاهر؛ لأن انتزاعه ماله لا ضرر عليه فيه وإلزامه الحمالة مع كون ما بيده من المال يفي بما تحمل به فيه عليه ضرر لاحتمال تلف ذلك المال واستحقاقه من يده، فتبقى ذمته مشغولة، ولهذا واللَّه تعالى أعلم لم يعرج في التوضيح على كلام اللخمي ولا أشار إليه بحال، وإنما قال ما نصه: وليس للسيد أن يجبر عبده على الضمان على المشهور. اهـ. وتبعه في الشامل، فقال: وليس للسيد جبرهم عليه على المشهور. اهـ. وليس في كلام ابن عرفة ما يدل دلالة ظاهرة على أن كلام اللخمي تقييد، وصرح ابن غازي في تكميله بأنه خلاف. اهـ. قاله الرهوني.
وعن الميت المفلس عطف على قوله: "من أهل التبرع" قاله الشارح؛ يعني أن الضمان يصح عن الميت الفقير مفلسا أم لا وأحرى الميت الذي خلف وفاء، وإنما خص الميت المفلس للرد على أبي حنيفة القائل: إنه لا يصح الضمان عن الميت إلا إذا خلف وفاء، قال الرهوني: قال ابن يونس: قال عبد الوهاب: يجوز الضمان عن الميت خلف وفاء أو لم يخلف، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا إن خلف وفاء، ودليلنا حديث أبي قتادة في الذي مات وعليه دين فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه، فلما ضمنه أبو قتادة صلى عليه. اهـ. وقال الشارح: ولا خلاف في صحة الضمان عن الحي موسرا أو معسرا، وكذلك عن الميت الموسر وإن كان الميت معسرا ووقع الضمان عنه في حياته فكذلك، واختلف هل يصح الضمان عنه بعد موته، فذهب الجمهور إلى صحته ولزومه إن وقع، وذهب أبو حنيفة والثوري إلى عدم صحته وقد انفردا بذلك كما لابن رشد، وحكى المازري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال:(كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة، قالوا: صل عليها، قال: هل عليه دين؟ قالوا: لا، قال: هل ترك شيئا؟ قالوا: نعم فصلى عليها. ثم أتي بجنازة أخرى فقالوا: يا رسول اللَّه صل عليها، قال: هل عليها دين؟ قالوا: نعم، قال: فهل ترك شيئًا؟ قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها، قال: فهل ترك شيئًا؟ قالوا: لا، قال عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول اللَّه وعلي دينه، فصلى عليه) فدل الحديث على صحة الضمان عن الميت المفلس وتقييده ذلك بالمفلس احتراز من الملي، فإن الحق يؤخذ من تركته ولا خلاف في مذهبنا فيما ذكر. اهـ. وقوله:"المفلس" قال عبد الباقي: بسكون الفاء وكسر اللام أي المعسر عند مالك، خلافا لأبي حنيفة هذا هو الذي فيه الخلاف بينهما دون مفتوح الفاء واللام المشددة، إذ يصح الضمان عنه بلا خلاف. اهـ. وقد مر في تقرير المص الرد عليه بأن المدار على كونه لم يخلف وفاء أو خلفه فنحن نجيزه مطلقًا وأبو حنيفة يمنعه إن لم يخلف وفاء، فلا فرق بين المفلس وغيره. قال الرهوني: وكلام الأيمة كالصريح في رده أي رد ما لعبد الباقي.
تنبيهان
الأول: علم من هذا أن المفلس بضم اليم وسكون الفاء هو المعسر، فهو أعم من المفلس بضم الميم وفتح الفاء هذا هو الظاهر، وقد مر لعبد الباقي والخرشي عند قول المص:"إلا أن يعلم الحميل بإفلاسه" ما يقتضي ترادفهما وهو غير ظاهر. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه. واللَّه تعالى أعلم. وقال عبد الباقي: والظاهر أنه يتفق في هذا يعني المفلس الأخص على عدم رجوع الضامن بما أدى عنه بعد موته ولو علم له مالًا؛ لأنه كالمتبرع لذمة خربت بعد حكم الحاكم بخلع كل ماله لغرمائه، بخلاف المفلس ساكن الفاء فإنه يرجع إن علم أن له مالًا أو شك كما يفيده أبو الحسن. وفي أحمد عن ابن رشد: وإن تحمل عن ميت لا وفاء له بما تحمل عنه لم يكن له الرجوع بما أدى عنه في مال طرأ له، خلافا لأبي حنيفة. اهـ. وقال عند تقرير المص وصح الضمان بمعنى الحمل لا حقيقة الضمان أي صح الحمل ويلزم، ثم قال: وقولي ويلزم أي الضمان هو المتعد كما لأبي الحسن، خلافا لقول اللخمي وإن اقتصر عليه التتائي لو ضمن ميتا ظاهر الملاء فتبين عسره أرى عدم لزومه؛ إذ يقول إنما تحملت لأرجع ولو علمته معسرا لم أضمنه. اهـ. انتهى. قوله: والظاهر أنه يتفق في هذا لخ، قال البناني: فيه نظر، بل ظاهر المدونة أن له الرجوع إن علم له مالًا ولا فرق بين المفلس بالتشديد والتخفيف. انظر لفظها في الحطاب. وقوله: وإن تحمل عن ميت لخ محل كلام ابن رشد إذا تحمل عالما بأنه لا مال للميت فلا معارضة بينه وبين ما يفيده أبو الحسن. قاله البناني.
الثاني: قال ابن الحاجب: ولو تنازعا في أنه دفع محتسبا فالقول قول الدافع إلا لقرينة، قال في التوضيح: يعني أنه إذا أدى رجل عن رجل دينا، ثم قام الدافع يطلب المال وقال المدفوع عنه إنما دفعت عني على وجه المعروف احتسابا، فالقول قول الدافع لأن الأصل عدم خروج ملكه إلا على الوجه الذي قصده إلا أن تقوم قرينة تدل على كذب الدافع، كما إذا دفع عن الميت المفلس ثم طرأ له مال لم يعلم به وطلب الرجوع. ابن عبد السلام: إلا أن لا تقوى القرينة فينبغي أن يحلف الدافع وحينئذ يأخذ ما دفع. اهـ. فيؤخذ من كلام ابن عبد السلام أنه لو لم تقم قرينة بالكلية لصدق بلا يمين وإذا قويت القرينة لا يصدق أصلا. قاله الحطاب. وفيه أن التبرع ما كان
من غير سؤال والتطوع ما كان عن سؤال. اهـ. وَيَتَحَصَّل من كلامهم هنا أن من أدى عن ميت عالما أنه لا مال له ثم ظهر له مال أنه لا يرجع عليه وإلا رجع عليه. واللَّه سبحانه أعلم.
والضامن يعني أنه يصح ضمان الضامن ولو تكرر، بأن يضمن الضامن ضامن واحد أو متعدد ويضمن ضامن الضامن ضامن كذلك وهكذا، وكلام عبد الباقي والحطاب كالصريح في أن قوله:"والضامن" بالجر وهو ظاهر فيكون عطفا على قوله: "الميت المفلس" وكلام عبد الباقي هو ما نصه: وصح الضمان عن الضامن وإن تكرر بأن ضمن الضامن ضامن واحد أو متعدد وضمن ضامن الضامن ضامن كذلك وهكذا، وليس المراد بالتكرار أن يحصل الضمان من أكثر من واحد للضامن الأول على أن كل واحد يضمنه في جميع ما عليه، وظاهر المص يشمل ما إذا كانت الكفالة من كل منهما بمال أو بوجه أو الأولى بمال والثانية بوجه أو بالعكس وهو كذلك من حيث الصحة ولكنها مختلفة الإحكام من حيث الرجوع. انظرها في التتائي كعلي الأجهوري نثرا ونظما. اهـ.
وقال الشارح: وهذه المسألة لا تخلو إما أن يكونا حميلين بالمال أو بالوجه أو الأول بالمال والثاني بالوجه أو بالعكس فإن كانا حميلين بالمال فغاب الغريم أخذ الطالب الكفيل الأول بالذي عليه بعد حلول الأجل، فإن وجد عديما أخذه من الثاني وإن غاب الأول كلف الثاني إحضار الغريم أو الكفيل الأول فأيهما أحضره موسرا برئ وإلا غرم، فإن غاب الجميع بدئ بالقضاء من مال الغريم، فإن لم يوجد له مال فالأول، فإن لم يوجد له مال فالثاني وإن كانا معا بالوجه، فإن غاب الغريم كلف الأول إحضاره فيبرأ بذلك وإن كان معسرا، فإن عجز غرم المال وإن كان معسرا لم يغرم الثاني لأن الذي وكل به حاضر، فإن غاب الأول أيضًا كلف الثاني إحضارهما يعني إحضار واحد منهما فيبرأ بذلك، فإن غاب الجميع ووجد مال للثاني أخذ منه إلا أن يثبت فقر الغريم والكفيل الأول فلا يوخذ من مال الثاني شيء، فإن كان الأول بالمال دون الثاني فغاب الغريم غرم الأول ولا شيء على الثاني إن كان الأول فقيرا لأن الثاني حميل بالوجه، فإن غاب الأول أيضًا فإن أحضر الثاني الغريم موسرا أو الأول وإن كان معسرا وإلا غرم، فإن غاب الجميع ووجد للثاني مال أخذ منه إلا أن يتبين فقر الأول، وإن كان الأول بالوجه دون الثاني فغاب الغريم كلف الأول إحضاره وإلا غرم وإن كان الأول عديما غرم الثاني، وإن غاب الأول أيضًا
فأحضر الثاني أحدهما برئ لكن بشرط كون الثاني موسرا وأما الغريم فيبرأ بإحضاره وإن كان معسرا فإن مات الغريم في هذا الوجه برئ الأول وبرئ الثاني لأن الأول إذا برئ سقطت الحمالة عن حميله. انتهى كلام الشارح. وقال الخرشي عند قوله: "والضامن" هو بالرفع عطف على الضمير المستتر في صح هو أي الضمان، وصح الضامن أي ضمان الضامن وإن تسلسل ويلزمه في لزم الضامن، وبالجر عطف على الميت. اهـ. وقال المواق من المدونة: من أخذ من الكفيل كفيلا لزمه ما لزم الكفيل. اهـ. واللَّه تعالى أعلم.
والمؤجل حالا قال الخرشي: هو معطوف على الضمير المستتر في صح وبالجر ويقدر مضاف أي ضمان المؤجل حالا. انتهى. وصورة مسألة المص هذه أن من له دين قبل شخص مؤجلا فأسقط الدين حقه من التأجيل وضمنه حينئذ شخص على الحلول، فإن هذا الضمان صحيح لازم بشرط أشار إليه بقوله: إن كان الدين مما يعجل أي الذي يجوز للمدين تعجيله ويلزم رب الدين قبوله وهو العين مطلقًا والعرض والطعام من قرض فإن كان من بيع منع تعجيله فلا يجوز أن يضمنه على الحلول لما فيه من حط الضمان وأزيدك توثقا لدخوله في البيع فقط.
تنبيهات:
الأول: قال البناني عند قوله: "وضمان المؤجل حالًا" ما نصه: مثله في الجواز بقيده إن ضمنه لدون الأجل، فإن ضمنه للأجل نفسه فجائز ولأبعد ممتنع كما في المدونة، فالصور أربع والتقييد بكونه مما يعجل ذكره ابن يونس واعترضه ابن عبد السلام كما في التوضيح، وجلب نص التوضيح ثم قال بعد نقله عن التوضيح اعتراض ابن عبد السلام ما نصه: وتعقبه بعض الشيوخ بمخالفته للنقل.
الثاني: قال الرهوني عند قوله "إن كان مما يعجل" ما نصه: مفهومه إن كان مما لا يعجل لم يجز مطلقًا وهو ظاهر كلام ابن يونس وغيره، وقال اللخمي ما نصه: ويفترق الجواب إذا أعطاه حميلا ليتعجلة قبل الأجل، فإن كان الدين عينا أو عرضا من قرض جاز، وإن كان من بيع وكان قصد الغريم بتعجيله منفعة الطالب جاز، وإن أراد إسقاط الضمان عن نفسه لم يجز. اهـ منه بلفظه. ومفهوما كلامه متعارضان فيما إذا أشكل الأمر والمتعين العمل بمفهوم أول كلامه، وهذا
الذي قاله لم أره لغيره، لكن يوافقه في المعنى قول المص فيما مر في القرض:"إلا أن يقوم دليل على أن القصد نفع المقترض فقط" لخ. فتأمله. اهـ.
الثالث: قوله: "والمؤجل حالًا" قد مر أن موضوعه أن الدين أسقط حقه من التأجيل. قاله عبد الباقي وغيره. قال عبد الباقي: وقولي وإن رضي مدين بإسقاط الأجل فيما إذا كان الدين مما يعجل مفهومه لو لم يرض بإسقاط حقه من الأجل لكان من أداء الدين عنه لا من الضمان. اهـ. وسيأتي أن أداء الدين عن المدين جائز في كلام المص بشرطه.
الرابع: قال عبد الباقي: والرهن كالضمان في التفصيل، فإذا رهن في مؤجل على أن يكون حالا جاز إن كان الدين مما يعجل، وإلا بطل الرهن وكان المرتهن إسوة الغرماء.
الخامس: قال عبد الباقي: يجوز في الضمان أن يقع مؤجلا كأن يضمنه مدة معينة ولا يجوز ذلك في الرهن، ولعل الفرق أن الرهن أشد لكونه يطلب فيه الحوز، قال التتائي: وأما ضمان المؤجل قبل أجله إلى أجله فجائز مطلقًا عينا أو عرضا أو قرضا. اهـ. قوله: كأن يضمنه مدة معينة. ابن غازي: لا مفهوم لقوله: معينة وكذا المجهولة كما لابن يونس والحطاب وغيرهما. وقوله: ولعل الفرق أن الرهن أشد لخ الظاهر في الفرق بينهما أن تحديد الرهن بمدة معينة مخل بشرطه الذي هو الحوز من غير رجوع ليد راهنه؛ لأن تحديده بمدة معينة دخول على رجوعه ليد راهنه بعد انقضانها فهو شرط مناقض. قاله الرهوني.
السادس: قوله: "حالًا" قال عبد الباقي: حال مقارنة. اهـ. والحال المقارنة هي المقارنة لعاملها نحو جاء زيد راكبا فركوبه مقارن لمجيئه، والعامل هنا الضمان وهو مقارن للحلول. واللَّه تعالى أعلم.
وعكسه عطف على الضمير المستتر في صح أي وصح عكس ضمان المؤجل حالا وهو ضمان الحال مؤجلا وصورة المسألة أن يقول شخص لرب الدين الحال: أخر مدينك بما عليه شهرا مثلا وأنا أضمنه لك، فيصح ذلك إن وجد أحد أمرين أشار لأولهما بقوله: إن أيسر غريمه يعني أن ضمان الحال على التأجيل يصح بشرط أن يكون المدين موسرا حين الضمان أعسر بعد ذلك أم لا، وإنما اشترط اليسر للسلامة من سلف جر نفعا، قال الخرشي: أولهما يعني الأمرين أن يكون من عليه
الدين موسرا بما عليه في أول الأجل للسلامة من سلف جر نفعا؛ لأنه قادر على أخذ حقه الآن فكان ابتداء سلف بضامن أو رهن، فإذا حصل هذا الشرط جاز ضمان الحال على التأجيل، فإن لم يحصل جاز ذلك إن حصل هذا الشرط الذي أشار إليه بقوله: أو لم يوسر في الأجل يعني أن ضمان الحلول على التأجيل يصح أيضًا إذا كان من عليه الدين مع مسرا والعادة أنه لم يوسر في الأجل الذي أخره إليه لأن تأخيره حينئذ ليس سلفا بل هو واجب لوجوب إنظار المعسر. قال الخرشي: ثانيهما أن يكون من عليه الدين معسرا والعادة أنه لم يوسر في الأجل الذي ضمن الضامن إليه بل يمضي عليه جميعه وهو معسر؛ إذ تأخير المعسر واجب فليس صاحب الحق مسلفا حقيقة ولا حكما أما لو كان يوسر في أثناء الأجل الذي ضمن الضامن إليه كأن يضمنه إلى أربعة أشهر وعادته أن يوسر بعد شهرين فلا يصح عند ابن القاسم؛ لأن الزمان المتأخر عند ابتداء يساره وهو الشهران الأخيران في مثالنا يعد فيهما صاحب الحق مسلفا لقدرته على أخذ حقه عند فراغ الشهرين الأولين الذين هما زمان العسر، فهو مسلف في الشهرين الأخيرين وانتفع بالحميل الذي يأخذه في زمن العسر واليسر وهو الأشهر الأربعة، بناء على أن اليسر المترقب كالمحقق، وأجاز ذلك أشهب لأن الأصل استصحاب عسره ويسره قد لا يحصل فإنه معسر تبرع بضامن. اهـ. فقوله: إن أيسر غريمه أي في أول الأجل لا في جميعه؛ لأن العبرة بالحالة الراهنة والتتائي فهم أن قوله: "في الأجل" راجع لهما وليس كذلك لأنه خاص بالثانية، وقوله:"أو لم يوسر" عطف على "أيسر" أي أو إن لم يوسر أو العطوف محذوف أي أو أعسر ولم يوسر. انظر الخرشي. وَتَحَصَّلَ أنه يجوز ضمان الحال على التأجيل بشرط يسر المدين حين الضمان على التأجيل من غير نظر إلى ما يطرأ، وإن كان معسرا حين الضمان جاز إن كانت العادة أن لا يطرأ له يسر إلى أن ينتهي الأجل، وإن كانت العادة أن يطرأ له يسر في أثناء المدة بعطاء مثلا لم يجز. وباللَّه تعالى التوفيق.
تنبيه:
قال الرهوني عند قوله "وعكسه إن أيسر غريمه" ما نصه: ظاهر شرح الزرقاني أن التأخير وقع بجميع الدين، ومثله إذا أسقط عنه بعضه وأخره بالباقي على الراجح، ففي ابن يونس عن ابن المواز ما نصه: ومن حل دينه فقال له رجل ضع لغريمك كذا وكذا وأنا حميل لك بباقيه إلى
أجل كذا فذلك جائز ولو شاء تعجله، فكأنه أسلفه وحطه، وقاله ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم. ورووه عن مالك واختلفت رواية أشهب فيه عن مالك فكرهه وأجازه وإجازته أبين؛ لأنه إذا جاز أن يؤخره بحميل جاز أن يحط ويؤخره. اهـ منه بلفظه.
وعلم مما قررت أن قوله: "في الأجل" مراده به الأجل الذي وقع الضمان والتأخير إليه وذلك يفيد أن شرط الجواز كونه معسرا من وقت ضربه إلى انقضائه، وقول عبد الباقي في المسألة الأولى: إن أيسر غريمه أي مدينه بالحال ولو في أول الأجل، صوابه إسقاط لو بأن يقول إن أيسر غريمه أي مدينه بالحال في أول الأجل. قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: وقوله "وعكسه" لخ مثل الحميل في ذلك الرهن. واللَّه تعالى أعلم.
وبالموسر يعني أن الدين إن كان الدين الذي عليه حالا وهو موسر ببعضة ومعسر بالبعض الآخر، فإنه يجوز أن يضمن له شخص البعض الموسر به فقط على التأجيل، بشرط أن يكون موسرا بذلك البعض الذي ضمنه على التأجيل حين ضمنه كما مر في قوله:"إن أيسر غريمه" فمن له قبل شخص مائتا دينار حالتان وهو موسر بمائة منهما معسر بالأخرى وضمنه في المائة الموسر بها مؤجلة جاز ذلك، بشرط أن يكون موسرا بها حين ضمانه على التأجيل كما في مسألة إن أيسر غريمه. وباللَّه تعالى التوفيق. وقوله:"وبالموسر" أي بتمامه فقط أو ببعضه فقط.
أو المعسر يعني أن المدين إذا كان الدين الذي عليه حالا وهو موسر ببعضه ومعسر بالبعض الآخر، فإنه يجوز أن يضمن له، شخص على التأجيل البعض المعسر به فقط بتمامه أو بعضه، بشرط أن يكون معسرا به في جميع المدة التي وقع الضمان والتأخير إليها، قال الخرشي ونحوه لعبد الباقي-: وضمانه ببعض الموسر به كضمانه بكله وكذلك ضمانه لبعض المعسر به كضمانه لكله.
لا بالجميع يعني أنه لا يجوز في المسألة المذكورة أن يتكفل له أحد بجميع ذلك الدين الحال على التأجيل، والمراد بالجميع الموسر به والمعسر به معا، ومثل ضمانه بالجميع ما إذا ضمن البعض من كل منهما. وقوله:"لا بالجميع" علة المنع سلف جر نفعا فالسلف تأخير الموسر به والنفع ضمان المعسر به، وفي المدونة إن لم يحل الأجل فأخره به إلى أبعد من الأجل بحميل أو رهن لم يجز لأنه سلف بنفع، قال غيره: ولا يلزم الحميل شيء ولا يكون الرهن به رهنا وإن قبض في
فلس الغريم أو موته. اهـ منها بلفظها. ونقله ابن غازي ولم يقيده بشيء، وكذا الزرقاني فيما مر لم يقيده بشيء، لكن قال ابن يونس بعد ذكره عن المدونة ما قدمناه عنها ما نصه: محمد بن يونس: أراه إنما قال ذلك لأن الرهن لم يكن في أصل الدين ولو كان في أصل الدين لكان المرتهن أحق به من الغرماء حتى يستوفي حقه، وإن كان فاسدا. انتهى منه. وهو تقييد لابد منه وقد أغفله البناني هنا فلم يقيد إطلاق الزرقاني مع أنه قدم عند قوله في الرهن "وباشتراطه في بيع فاسد" ما يفيد أن التقييد هو المذهب وابن غازي لم ينبه على تقييد كلام المدونة، مع أنه قدم في الرهن عند النص السابق ما يفيد أنه المذهب أيضا وما كان ينبغي لهما ذلك. واللَّه الموفق. قاله الرهوني. وقوله:"وبالموسر أو المعسر لا بالجميع" قد علمت أن ذلك في ضمان الحال على التأجيل، وأما إذا لم يحصل تأجيل بل ضمان فقط أو حصل التأجيل في المعسر به فيجوز ضمانهما معا. واللَّه تعالى أعلم. انظر البناني.
تنبيه
اشتمل الكلام فيما مر من قوله: "والمؤجل حالا" على صور، إحداها قوله:"والمؤجل حالا" جازت إن كان الدين مما يعجل وإلا فالمنع، وهاتان صورتان ومثل ضمان المؤجل حالا ضمانه لدون الأجل وهاتان صورتان، فتلك أربع صور وضمانه لأبعد من الأجل ممتنع وهاتان صورتان: وللأجل جائز وهاتان صورتان، فتلك ثمان صور، الجائز منها أربع، والممتنع منها أربع، وهي في ضمان المؤجل على الحلول وعلى التأجيل، التاسعة ضمان الحال على التأجيل تجوز إن أيسر غريمه في أول الأجل أي حين الضمان على التأجيل، والجواز حاصل أيضا مع العسر في جميع المدة التي وقع التأجيل إليها وهاتان صورتان، والمنع ان أعسر في أولها وكانت عادته اليسر في أثنائها وهذه ثلاث صور: اثنتان منها جائزتان وواحدة ممنوعة، وهذه الثلاث تحت قوله: وعكسه إن أيسر غريمه أو لم يوسر في الأجل، وقوله:"وبالموسر" تحته صورتان جائزتان وهما ضمانه بالموسر بتمامه وببعضه، وقوله:"أو المعسر" تحته أربع وهي عسره في جميع الأجل وضمن جميع المعسر به أو بعضه، فإن أعسر في أوله وعادته اليسر في أثنائه فالمنع فهذه ستة يجوز منها أربع وتمنع اثنتان، وتحت قوله:"لا بالجميع" اثنتان ضمانه الجميع
وهذه هي صريح اللفظ ويلحق بها ضمان البعض من كل منهما، وبقيت صورة جائزة وهي ضمان الجميع مع وقوع التأجيل في المعسر به فقط، فهذه عشرون صورة. واللَّه تعالى أعلم.
بدين الباء بمعنى في متعلقة بصح من قوله: "وصح من أهل التبرع" يعني أن الضمان يصح في الدين، واحترز بدين من المعينات فإنه لا يصح الضمان فيها فإذا اشترى منه مبيعا معينا فلا يجوز ضمان مثله له، إذا هلك قبل القبض أو استحق، قال ابن الحاجب: فلا يصح ضمان مبيع معين مطلقا بإحضار مثله إن هلك، قال في التوضيح: قوله مطلقا أي سواء كان مقوما أو مثليا وهو مقيد بغير النقدين فيصح ضمانهما ولو عينا على مذهب المدونة؛ لأنه إنما تجوز المعاوضة عليهما عنده على شرط الخلف. وقوله: إن هلك قبل أن يقبضه المشتري، وفي معنى الهلاك الاستحقاق، ولو اشترى سلعة من رجل على أنها إن استحقت فعلى البائع خلفها وضمن البائع في ذلك غيره، ففي المدونة قال ابن القاسم: إن استحقت انفسخ البيع ولا تلزمه الحمالة، وقال غيره: تلزمه وهو أدخل المشتري في غرم ماله فعليه الأقل من قيمته يوم تستحق أو الثمن الذي وَدَّى إلا أن يكون الغريم مليا حاضرا فيبرأ، ثم قالت: ولو عقد البيع على اشتراطه لفسد البيع. اهـ. ومثله لابن يونس عنها. انظر التوضيح والرهوني. وقوله: "بدين" اعلم أنه إذا ضمن ما يترتب على المعينات كالوديعة والعارية ومال الشركة والقراض بسبب تعد أو تفريط من ضمان القيمة أو المثل فإن ذلك يصح ويلزم.
لازم يعني أن الضمان إنما يصح في الدين اللازم، وأما الدين الذي ليس بلازم فلا يصح الضمان فيه كدين عبد بغير إذن سيده، ولا يصح التحمل عن السفيه إلا بما يلزمه وذلك أن ما أخذه السفيه أو اقترضه أو باع به شيئا من متاعه فلا يخلو إما أن يكون صرفه فيما لابد له منه أو فيما هو مستغنى عنه، فالأول يرجع عليه به على الراجح من القولين، ويصح ضمانه عنه ويرجع عليه الضامن في ماله إذا أدى، وأما ما لا يلزم المحجور فلا يرجع عليه به، فإن ضمنه فيه إنسان رشيد فهل يلزم الضامن غرم أم لا، لا يخلو الضامن للمحجور عليه والمضمون له المحجور من أن يعلما بأنه محجور أو لا يعلما، أو يعلم الضامن دون المضمون له، أو يعلم المضمون له دون الضامن؟ ففي الوجه الرابع لا يلزم الضامن شيء اتفاقا، وفي الثالث يلزمه ما ضمن اتفاقا ويختلف
في الوجهين الأولين فعند ابن القاسم يلزمه، وعند ابن الماجشون لا يلزمه. ومن هذا الباب لو ضمن المحجور شخصا لشخص آخر ثم ضمن المحجور الضامن شخص آخر رشيد فضمان المحجور لا يصح ولا يلزمه شيء، وهل يرجع رب الحق على الرشيد الذي ضمن له المحجور أولا؟ يأتي التفصيل المتقدم.
أو آئل يعني أن الضمان إنما يصح في الدين اللازم كما عرفت، وكذا يصح أيضا في الدين الذي يؤول إلى اللزوم كداين فلانا وكالجعل كما يأتي للمص قريبا لا كتابة يعني أن الحمالة بالكتابة لا تصح، قال المواق: ابن شأس: من شروط المضمون أن يكون حقا ثابتا مستقرا أو مئاله إلى ذلك فلا تصح الحمالة بالكتابة إذ ليست بدين ثابت مستقر، ولا تؤول إلى ذلك لأن العبد إذا عجز رق وانفسخت الكتابة. اهـ. وقال عبد الباقي عند قوله:"لا كتابة" ما نصه: إلا أن يعجل السيد عتقه أو يشترط تعجيل عتقه عند عجزه فيصح لأجنبي ضمان الكتابة في هاتين الصورتين للزومها فيهما، وكان للضامن الرجوع على المكاتب قال في الشامل: لا كتابة على المعروف إلا بشرط تعجيل العتق أو كانت نجما واحدا، وقال الحميل: هو علي إن عجز. اهـ. قوله: عن الشامل لا كتابة على المعروف لخ، مقابل المعروف ما نقله ابن يونس عن ابن عبد الحكم من أنه لا بأس بالحمالة بالكتابة، قال ابن يونس: ولا أعلم لي في هذا القول رواية. انظر التوضيح. وابن عرفة. وخرج اللخمي جواز الحمالة بالكتابة على قول أشهب: يجوز أن يعطي رجل لسيد العبد مالا على أن يكاتبه وهو لا يدري هل يناله العتق أم لا؟ ورده ابن عرفة بأن المقصود في مسألة أشهب محقق الحصول وهو نفس الكتابة لا المقصود منها وهو العتق، وفي الحمالة بالكتابة المقصود منها العتق وقد لا يحصل فيؤدي إلى غرم المال مجانا. اهـ. ونقله ابن غازي في تكميله وسلمه. قاله الرهوني.
فرع:
قال ابن ناجي في شرح المدونة ما نصه: وإذا فرعنا على قوله ووقع ذلك فإن الحمالة تسقط وتصح الكتابة، وإن كان ذلك في أصل العقد. قاله عيسى. اهـ منه بلفظه. قاله الرهوني.
بل كجعل هذا مثال للدين الذي يؤول إلى اللزوم؛ يعني أنه يجوز التحمل بالجعل، فإذا قال: إن جئتني بعبدي الآبق فلك عشرة دنانير مثلا فيصح أن يضمن الجاعل شخص في تلك العشرة ولو
قبل الشروع في العمل كما في ابن عرفة والشامل لأنه قبلَه -وإن لم يكن لازما- آئلٌ إلى اللزوم فلذا جعله مثالا للآئل، وتقييد ابن شأس وابن الحاجب بالشروع منتقد ودخل بالكاف قول شخص لآخر ما ثبت لك على خصمك فأنا حميل به فأثبت عليه حقا ببينة، وكذا بإقراره على أحد قولين والآخر لا يكون ضامنا به. قاله عبد الباقي.
وداين فلانا يعني أنه إذا قال لفلان داين فلانا أي أعطه شيئا يأخذه منك بدين في ذمته وأنا ضامن لك ذلك الدين، فإن هذا الضمان يصح لأنه دين آئل إلى اللزوم. قال عبد الباقي: وصح الضمان ممن قال لشخص: داين أو بايع فلانا وأنا بما داينته أو بعته ضامن حتى يصير ضمانا، وإلا كان غرورا قوليا. اهـ. يعني أنه إنما يلزمه الضمان إذا قال وأنا ضامن، فإن لم يقلها بأن قال داين فلانا أو بايعه ولم يقل وأنا ضامن لم يكن على القائل شيء ولو تعسر الأخذ ممن داينه ولو زاد مع قوله: داينه وهو ثقة. وقد ذكر البرزلي فيه خلافا، ويفهم من كلامه أن المشهور عدم الضمان. قاله الحطاب.
قلت: وعليه اقتصر في الطرر ففيها في ترجمة ضمان ما يداين به الرجل صاحبه ما نصه: رأيت في بعض الكتب سئل بعضهم عن رجل أتى إلى رجل، فقال: أعطني ذهبا على سلعة ما إلى أجل، فقال: لا أعرفك، فقال له رجل آخر: هو ثقة أيجوز إن أفلس أو غاب أو مات أن يأخذ ذلك القائل، فقال: لا يجوز ذلك حتى يقول في ضماني أو أنا ضامن لسلعتك. فانظر ذلك. انتهى منها بلفظها. وكذا إذا قال أنا أعرفه أو جمع بينهما فقال أنا أعرفه وهو ثقة كما نقله ابن سلمون عن ابن الحاج.
تنبيه:
لم يذكر في الطرر يمينا وكذا الحطاب ومن تبعه، وقال ابن سلمون عن ابن الحاج ما نصه: يحلف هذا القائل إنه ما أراد بقوله ثقة ضمانا ويبرأ بما قال إن شاء اللَّه. اهـ منه بلفظه. وهو ظاهر. واللَّه تعالى أعلم. قاله الرهوني.
ولزم فيما ثبت يعني أنه إذا قال له داين فلانا أو بايعه وأنا ضامن لك ما داينته به أو بايعته به ثم داينه، فإن الضمان يلزمه فيما إذا ثبت أنه داينه ببينة، وكذا بإقرار المضمون إن كان مليا وإلا فقولان. قاله عبد الباقي. وقال الحطاب: قال ابن عرفة: ومن تحمل لفلان بمالَه قِبَلَ فلان في
لزومه غرمه ما أقر به فلان بإقراره ووقفه على ثبوته ببينة نقلا اللخمي قولي ابن القاسم في الدمياطية والمدونة.
وهل يقيد بما يعامل به يعني أن الشيوخ اختلفوا في قول المدونة، قال مالك: من قال لرجل بايع فلانا أو داينه فما بايعته من شيء أو داينته به فأنا ضامن لزمه ذلك إذا ثبت مبلغه، هل يقيد بقول غير مالك في المدونة إنما يلزمه من ذلك ما يشبه أن يداين به المحمول عنه فيكون كلام الغير تفسيرا؟ وبهذا قال ابن رشد وابن يونس واللخمي، وقال المازري: هو الأظهر، وقال بعضهم: قول الغير خلاف. انظر الشارح. وقال عبد الباقي: والمعتمد الأول منهما بل أنكر ابن عرفة معرفة الثاني، وقال الرهوني: فالتاويل الثاني صاحبه غير معروف مع إنكار ابن عرفة وجوده. اهـ. وقال عبد الباقي: وهل يقيد لزوم ما ثبت بما يشبه أنه يعامل به مثله وإلا لم يلزمه إلا المشبه فقط كما قد يفيده التتائي. اهـ. قوله: كما قد يفيده التتائي، قال الرهوني: كأنه لم يقف على نص في ذلك مع أنها منصوصة بخلاف ما قال، ففي تبصرة اللخمي ما نصه: وإن داينه أكثر من مداينة مثله وكانت مرة بعد مرة لزمه أولها وسقط ما هو فوق ما يداين به وإن عامله بأكثر وأخذ فوق ما يعامل به مثله سقط عن الكفيل المطالبة بجميع ذلك. اهـ منها بلفظها. ونقله ابن عرفة وأقره ولم يحك خلافه. وقال العبدوسي في شرح المدونة ما نصه: قال الشيخ: فإن داينه بما لا يشبه، فإما أن يكون ذلك مرة أو مرة بعد مرة، فإن داينه أكثر من مداينة مثله في صفقة واحدة سقط ذلك كله وإن داينه مرة بعد أخرى لزمه ما يشبه وسقط ما لا يشبه. هكذا نقل الشيخ عن اللخمي. وقال: قول اللخمي هذا تفسير للمذهب [لأن]
(1)
ساقه مساق التفسير.
وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، وقد مر الكلام عليهما وله الرجوع قبل المعاملة يعني أنه إذا قال داين فلانا أو بايعه أو عامله وأنا ضامن فيما داينته به، فإن الضمان يترتب عليه كما عرفت هذا إن لم يرجع عن مقالته قبل المعاملة، فإن رجع عنها قبل حصول شيء منها فلا شيء عليه، وإن رجع بعد حصول شيء لزمه ما وقعت فيه المعاملة وسقط ما لم
(1)
لفظ الرهوني ج 6 ص 6: لأنه.
تقع فيه، فقوله: قبل المعاملة أي قبل تمامها، قال عبد الباقي: وله أي للضامن في مسألة داين فلانا الرجوع عن الضمان قبل المعاملة لأنه التزم قدرا لا غاية له. قاله اللخمي كما في أحمد. وهذا إن كان ضمان مال وكذا وجه أو طلب فيما يظهر، وظاهر المص سواء أطلق أو قيد بقدر كمائة وهو كذلك على أحد قولين متساويين فيما إذا قيد والآخر لا رجوع له. انظر أحمد عن التوضيح والتتائي. ثم قوله:"قبل المعاملة" أي قبل تمامها، فإذا عامله يوما مثلا ثم رجع الضامن لزمه في اليوم لا فيما بعده. قاله الجزيري. وهذا إنما يظهر إذا حد للمعاملة حدا أو لم يحد وقلنا يقيد بما يعامل به، وأما على القول الثاني فلا يظهر له فائدة، وانظر لو رجع ولم يعلم برجوعه حتى عامله وظاهر المص أنه لا يلزم الضامن شيء وظاهر المدونة على نقل الشارح أنه لابد من علم المضمون له بالرجوع قياسا على الزوجة تنفق مما بيدها للزوج قبل علمها بالطلاق. اهـ.
قوله: لأنه التزم قدرا لا نهاية له لخ، قال الرهوني: هذه العلة للخمي كما قال، واللخمي علل بها على مذهبه من التقييد بما إذا لم يسم قدرا معلوما، والزرقاني قال بعدُ ما نصه: وظاهر المص سواء أطلق أو قيد بقدر كمائة وهو كذلك لخ: فلا يصح أن يعلل بتلك العلة لأنها قاصرة وكلام التوضيح الذي أشار إليه هو ما نصه: ذكر المازري عن بعض أشياخه أنه إنما يرجع إذا أطلق، وأما إن قيد فقال عامله بمائة دينار فلا رجوع له، وأنكر غيره هذه التفرقة، ورأى أن له الرجوع مطلقا وما عزاه للخمي هو كذلك في تبصرته ونقله ابن عرفة ولم يتعقبه، ولكن نقل من كلام عبد الحق ما يدل على خلافه. وقول عبد الباقي: وأما على القول الثاني فلا يظهر له فائدة فيه نظر بل تظهر فيه الفائدة على كل من القولين تأمل. وقوله: وظاهر المدونة على نقل الشارح لخ على ظاهرها يجب التعويل لوجود العلة وهي توريطه. انظر نصها في المواق. واللَّه تعالى أعلم. قاله الرهوني.
بخلاف احلف وأنا ضامن به يعني أنه إذا قال لرجل احلف أن الذي تدعيه على فلان حق وأنا ضامن لك به ثم رجع فإن رجوعه ذلك لا ينفعه بل يكون ضامنا إن حلف المدعي، قال في المدونة: ومن قال لرجل احلف أن الذي تدعيه قِبَلَ أخي حق وأنا له ضامن ثم رجع لم ينفعه رجوعه ولزمه ذلك إن حلف الطالب، فإن مات كان ذلك في ماله. اهـ منها بلفظها. قاله
الرهوني. وقال المواق: قال ابن القاسم: ولو لم يداينه حتى أتاه الحميل فقال لا تفعل فقد بدالي فذلك له، بخلاف احلف وأنا ضامن ثم رجع قبل اليمين فهذا لا ينفعه رجوعه لأنه حق وجب. اهـ. وقال عبد الباقي: بخلاف من قال لمدع على آخر بحق وهو يكذبه احلف أن ما تدعيه حق أو أن لك عليه حقا وأنا ضامن به، فلا رجوع له ولو قبل حلفه لأنه بالتزامه صار كأنه حق واجب لتنزله منزلة المدعى عليه كما أشار له ابن يونس، وإذا حلف وأخذ من الضامن ولم تقم على المضمون بينة بالحق ولا اعترف به حلفه الضامن، فإن حلف أنه ليس عليه حق للمدعي لم يرجع الضامن عليه بشيء ولا على من أدى له، وإن نكل غرم بمجرد نكوله ما غرمه عنه ولا يحلف الضامن لعدم علمه ولا رب الدين لتقدم يمينه، وسواء حضر الدين ساكتا حين أداء الضامن عنه أو كان غائبا ثم قدم. اهـ.
إن أمكن استيفاؤه من ضامنه شرط في قوله: "وصح" يعني أنه يشترط في صحة الضمان أن يكون المضمون فيه مما يمكن أن يستوفى من الضامن، وأما إن لم يمكن استيفاؤه من الضامن فلا يصح الضمان فيه كالحدود والتعازير والقتل والجراح وكالمعينات وهذا الشرط يغني عن قوله:"بدين"، وقوله:"إن أمكن استيفاؤه من ضامنه" أي شرعا، قال المواق: القضاء أن كل ما يلزم الذمة فالكفالة به جانزة والحدود والآداب والتعازير لا تجوز الكفالة فيها. وقاله مالك. وقال ابن بكير: ولا يجوز في دم أو زنى أو سرقة أو شرب خمر ولا في شيء من الحدود. ابن يونس: لأن فائدة الحمالة أن يحل الضامن محل المضمون في تعذر أخذ الحق منه، وهذا المعنى يتعذر في الحدود لأن استيفاءها من الضامن لا يجوز، وقد وقع لأصبغ في الفاسق المتعسف على الناس يؤخذ فيتحمل رجل عنه بكل ما يجترم أن ذلك لازم إلا في القتل خاصة، قال فضل: انظر هل يريد فيغرم الدية. اهـ.
وإن جهل يعني أن الضمان يصح وإن كان الحق المضمون مجهولا حالا ومئالا. ابن عرفة: جهل قدر المتحمل به غير مانع اتفاقا، وقوله:"وإن جهل" من هذا قوله وداين فلانا ولزم فيما ثبت، وقال في كتاب الشفعة من المدونة: ومن تكفل عن رجل ولم يذكر ما عليه جاز، فإن غاب المطلوب قيل للطالب أثبت حقك وخذه من الكفيل، فإن لم تقم بينة وادعى أن له على المطلوب
ألف درهم فله أن يحلف الكفيل عليه فإن نكل حلف الطالب واستحق يريد ثم لا يرجع الكفيل على المطلوب بما غرمه من سبب نكوله إلا أن يقر له المطلوب، وله أن يحلفه فإن نكل غرم، وقال في كتاب محمد والعتبية عن مالك: من مات وعليه دين لا يُدرَى كم هو وترك مالا لا يُدرَى كم هو، فيتحمل بعض ورثته بجميع دينه نقدا أو إلى أجل على أن يخلى بينه وبين ماله، فإن كان على أنه إن كان ثم فضل بعد وفاء الدين فهو بينه وبين بقية الورثة على فرائض اللَّه، وإن كان نقص فعليه وحده فذلك جائز لأنه معروف، وأما إن كان له الفضل وعليه النقصان فلا يجوز لأنه غرر، ولو كان وارثا واحدا جاز وإن طرأ غريم لم يعلم به فعليه أن يغرم له، ولا ينفعه قوله: لم أعلم به وإنما تحملت بما علمت، مالك من مات وعليه ثلاثة آلاف دينار ولم يترك غير ألف دينار وله ولد لا يرثه غيره فسأل غرماء أبيه أن يدعوا له الألف بيده وينظروه سنين ويضمن لهم بقية دينهم فرضوا فذلك جائز، قال ابن القاسم: وبلغني عن ابن هرمز مثله، قال مالك: وإن كان معه ورثة غيره وأدخلهم في فضل إن كان فذلك جائز وان طرأ غريم لم يعلم به لزمه أن يغرم له. نقله الشارح.
وقال عبد الباقي: وإن جهل قدر الحق المضمون حالا ومئالا فإن قلت الحمالة فيها الرجوع وهو مستحيل بالمجهول، قلت: نعم لكنه يرجع بما أدى وما أدى معلوم، فالضمير في جهل للدين أو للحق كما ذكرنا المشار إليه بقوله سابقا:"شغل ذمة أخرى بالحق".
فَرْعٌ:
من مات وعليه دين وهو وتركته مجهولان فضمنه وارثه ليتمكن من التركة جاز إن انفرد أو تعدد وكان النقص على الضامن والفاضل بينهم لا على أن يختص به، وإن طرأ غريم لم يعلم به فعليه أن يغرم له ولا ينفعه قوله لم أعلم به وإنما تحملت ما علمت لأنه معروف. انظر الشارح. والظاهر أن الأجنبي كذلك بدليل التعليل المذكور، وإذا لم يقع من الوارث نص على أن ما فضل بينهم ولا على عدمه فهل يكون بمنزلة النص عليه أم لا، وأخذ غير واحد من أشياخ الأجهوري من قوله لأنه معروف أن ما يقع في الوثائق من قوله إنه متى قام قائم وأغرمه شيئا بسبب ما ذكر كان عليه القيام به من ماله أنه يلزمه ما التزمه. اهـ.
أو من له يعني أن الضمان يصح وإن كان الذي له الدين مجهولا فالضمير في له عائد على من، وهي واقعة على رب الدين. وقوله:"أو من له" عطف على الضمير في جهل من غير فاصل وهو سائغ كثير في النظم ضعيف في النثر. المواق: ولما جازت هبة المجهول جازت الحمالة به لأنها معروف. ابن شأس: الركن الثاني المضمون له ولا يشترط معرفته. انتهى.
فَرْعٌ:
تجوز الحمالة إلى أجل مجهول ويضرب له من الأجل بقدر ما يرى، قال ابن القاسم: ومن قال لرجل إن لم يوفك فلان حقك فهو علي وإن لم يضرب لذلك أجل تلوم له السلطان بقدر ما يرى ثم لزمه المال إلا أن يكون الغريم حاضرا مليا. قاله الحطاب. وفي المدونة: ولا بأس أن يتكفل بمال إلى خروج العطاء وإن كان مجهولا إن كان في قرض أو في ثمن بيع صحت عقدته، وإن كان في أصل بيع لم يجز إذا كان العطاء مجهولا. قاله الحطاب.
وبغير إذنه يعني أنه يصح أن يضمن عن الشخص بغير إذنه، فالضمير في إذنه للشخص المضمون وهو الذي عليه الدين ويفهم منه صحة ضمان من عليه الحق وإن جهل. قاله عبد الباقي. وقال المواق من المدونة: إن أشهد رجل على نفسه أنه ضامن بما قضي لفلان على فلان أو [قال]
(1)
، أنا كفيل لفلان بماله على فلان وهما حاضران أو غائبان أو أحدهما غائب لزمه ما أوجب على نفسه من الكفالة والضمان لأن ذلك معروف، والمعروف من أوجبه على نفسه لزمه. انتهى. ابن عرفة: ونصوصها مع غيرها بصحة الحمالة دون رضى المتحمل عنه واضحة. المتيطى وابن فتوح: من العلماء من قال لا تلزم الحمالة الذي عليه الحق إلا بأمره، ولذا كتب كثير من الموثقين: تحمل عن فلان بأمره واستدل المص على صحة الضمان بغير إذن المدين ورضاه بقوله: كأدائه رفقا يعني أنه يصح ضمان المدين بغير إذنه ورضاه كما في مسألة أداء الدين عن المدين بغير إذنه، فإنها جائزة إذا كان ذلك رفقا بالمدين. وقوله:"رفقا" راجع للمسألتين أي لقوله: "وبغير إذنه"، ولقوله:"كأدائه" وفي المديان منها: من أدى عن رجل دينا بغير أمره جاز إن فعله رفقا بالمطلوب، وإن أراد الضرر بطلبه وإعناته لعداوة بينهما منع من ذلك. اهـ.
(1)
ساقط من الأصل، والمثبت من المواق ج 5 ص 121 ط دار الفكر والتهذيب ج 4 ص 20.
وإلى ذلك أشار بقوله: لا عنتا يعني أنه إذا قصد بالضمان أو بالأداء العنت محركة أي ليتعب من عليه الدين، فإن ذلك لا يجوز ويرد إن وقع كما قال: فيرد قال عبد الباقي واستدل المص على ضمان المدين بغير إذنه بقوله: "كأدائه" من إضافة المصدر لفعوله أي كما يصح أن يؤدي شخص دينا على آخر بغير إذنه إذا أداه عنه رفقا ويلزم رب الدين قبوله، ولا كلام له ولا للمدين إذا دعا المؤدي أحدهما إلى القضاء وأجابه، فإن امتنعا معا لم يلزمهما فيما يظهر وهو راجع لما قبل الكاف أيضا كقوله: لا إن قصد بالأداء أو بالضمان عنه عنتا بفتح النون مصدر عنت وبسكونها اسم مصدر بمعنى الإعنات كالكره بمعنى الإكراه أي ضررا أي ليتعب من عليه كقصد سجنه لعداوة بينهما، فيرد الأداء أي يرد عليه فعله ويرجع على من دفع له بما أقبضه له فإن فات بيده رد له عوضه كان المؤدى عنه حاضرا أو غائبا وإن تعذر رده لغيبة رب الدين أقام الحاكم من يقبض من المدين ويدفع للمؤدي عنتا.
وكذا يقال في قوله: كشرائه أي كما يمنع شراء دين على مدين عنتا فيرد، فإن فات بيده إلى آخر ما مر، ويقال: ويدفع للمشتري بدل المؤدي، قال أبو الحسن: والضرر من أفعال القلوب فإنما يعلم بإقراره قبل ذلك أو بقرائن تدل الشهود على أنه قصد ذلك. اهـ. أي فالأصل عدم العنت. اهـ. كلام عبد الباقي بتغيير قليل جدا. قوله: ويلزم رب الدين قبوله ولا كلام له ولا للمدين لخ، قال الرهوني: أصله في الحطاب لكن لم يقتصر عليه بل زاد بعده ما نصه: ثم وقفت على كلام ابن عرفة الآتي عند قوله: "وتسليمه نفسه" وهو نص في عين المسألة. اهـ. ومعناه أنه نص
(1)
أنه لا يلزم رب الحق قبوله، ويؤخذ منه أنه لا يلزم المدين بالأحرى وعدم لزوم ذلك لهما إن أبيا معا ضروري إذ ذاك، وكلام ابن عرفة المشار إليه يدل على أنه متفق عليه لأنه ساقه مساق الاحتجاج والاستدلال به، ومثل ما في ابن عرفة للباجي في المنتقى ونصه: زاد ابن المواز: إلا أن يأمره الحميل بذلك فيكون كدفع الحميل لأنه قد وكله على النيابة عنه فيبرأ، فإذا أشهد بذلك لزم الطالب وإن أباه قال القاضي أبو الوليد رحمه الله: وهذا عندي إذا لم يرد الطالب قبوله
(1)
في الرهوني ج 6 ص 7: نص في أنه.
إلا بتسليم الحميل لأنه حق قد لزم الحميل، فللطالب أن لا يقبله من غيره وله أن يقبله فيبرأ الحميل، كما لو كان عليه دين فدفعه أجنبي فإن للطالب أن لا يقبله من الأجنبي إلا بتوكيل الغريم وله أن يقبله فيبرأ بذلك الغريم. اهـ.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: من أدى عن رجل حقا لزمه بغير أمره فله أن يرجع عليه، قال ابن القاسم: وكذلك من تكفل عن صبي بحق قضي به عليه فوداه عنه بغير أمر وليه فله أن يرجع به في مال الصبي، وكذلك لو أدى عنه ما لزمه من متاع كسَرَه أو أفسده أو اختلسه لأن ما فعل الصبي من ذلك يلزمه وقاله مالك. ابن المواز: قال ابن القاسم: وذلك إذا كان الجاني الصغير ابن سنة فصاعدا، وأما الصغير جدا مثل ابن ستة أشهر لا ينزجر إذا زجر فلا شيء عليه، ومن المدونة: من أدى عن رجل دينا عليه بغير أمره أو دفع عنه مهر زوجته جاز ذلك إن فعله رفقا بالمطلوب، وأما إن أراد الضرر بطلبه أو إعناته وأراد سجنه لعدمه لعداوة بينه وبينه منع من ذلك، وكذلك إن اشتريت دينا عليه تعنيتا له لم يجز ورد إن علم بهذا.
وهل إن علم بائعه يعني أن الشيوخ اختلفوا فيما إذا قصد المشتري بشرائه إعنات من عليه الدين، فمنهم من تأول المدونة على أن محل رد الشراء المذكور إنما هو إذا علم بائع الدين بقصد المشتري له إعنات من عليه الدين، وأما إن لم يعلم بائع الدين بقصد المشتري ذلك فلا يرد الشراء المذكور بل يباع الدين على مشتريه فيرتفع الضرر بذلك عن المدين.
قال المص: وهذا التأويل هو الأظهر فكلامه صريح في أن ابن رشد استظهر هذا التأويل، ومنهم من تأول المدونة على أنه إذا قصد المشتري إعنات الدين فإنه يرد الشراء المذكور علم بائع الدين بقصد المشتري للضرر أم لا، وهذا التأويل هو ظاهر المدونة، وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان، قال المواق: ابن يونس: اختلف شيوخنا إن كان مشتري الدين قاصدا بشرائه الإضرار والبائع غير عالم بقصده، فقال بعضهم: يفسخ البيع مثل تواطئهما جميعا وشبهه كالمسلف يقصد بسلفه النفع والقابض للسلف لا علم عنده، وكبيع من لا تلزمه الجمعة ممن تلزمه، وقال غيره: إذا لم يعلم البائع بقصد المشتري للضرر لم تفسخ عليه صفقته ويباع الدين
على المشتري فيرتفع الضرر عن الذي عليه الدين. ابن يونس: وهذا القول بين، وظاهر الكتاب يدل على الأول. انتهى.
وقوله: "وهو الأظهر" قال عبد الباقي: صوابه الأرجح. اهـ. وهذا الذي قاله هو الذي يدل عليه نقل المواق كما رأيت، وقال الخرشي: ثم إن قوله وهو الأظهر ليس جاريا على اصطلاحه لأنه لم ينقله في توضيحه إلا عن ابن يونس وكذا الشارح، فكان الجاري على اصطلاحه أن يقول على الأرجح. اهـ. وقال الرهوني: يمكن أن يكون المص أشار بالأظهر إلى ما نقله غير واحد عن ابن رشد من أن جهل الثمن أو المثمن إنما يؤثر الفساد إذا كان من المتعاقدين معا لا من أحدهما فقط. فَمُحَصَّلُ ذلك أن موجب الفساد إنما يؤثر عنده إذا كان من الجهتين معا فهو وإن لم يصرح بالفساد في هذه المسألة بخصوصها فكلامه يشعر فيها بذلك، فإن سلم هذا سقط بحث ابن غازي ومن تبعه فتأمله. اهـ.
قال غير واحد: وإنما جرى في الشراء خلاف واتفق على الرد في الأداء عنتا لأنه ليس فيه عقد معاوضة حتى يفصل فيه بين العلم وعدمه، وإنما نظر فيه لقصد الضرر بخلاف الشراء فإن القائل بالتفصيل فيه يراعي في العلم دخولهما على الفساد وفي عدم العلم عدم الفساد لعذره بجهله فلذا لم يرد. اهـ.
لا إن ادعى على غائب فضمن ثم أنكر يعني أن من قال لي على فلان ألف درهم والحال أن فلانا غانب، فقال رجل أنا بها كفيل فعلم فلان الغائب المدعى عليه فأنكر ذلك وقال ليس له علي شيء فإنه لا شيء على الكفيل حتى يثبت الدين على الغائب ببينة أو بإقراره على أحد التأويلين كما يأتي هذا قريبا إن شاء اللَّه قال المواق من المدونة: من قال لي على فلان ألف دينار، فقال له رجل: أنا بها كفيل فأتى فلان فأنكرها لم يلزم الكفيل شيء. اهـ. أو قال: أي ولا يلزم الضمان بقول شخص لمدع على شخص منكر أي مكذب له فيما ادعاه عليه: إن لم آتك به لغد اللام للغاية أو بمعنى في قاله مقيده عفا اللَّه تعالى عنه: وقوله "إن لم آتك به لغد" شرط، وجوابه قوله: فأنا ضامن للمال الذي عليه والحال أن القائل لهذا الكلام لم يأت به أي بالمنكر وهو المدعى عليه غدا فلا ضمان عليه، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: من ادعى على رجل
حقا فأنكره فقال له رجل أنا كفيل إلى غد فإن لم آتك به غدا فأنا ضامن للمال الذي عليه وسمى عدده، فإن لم يات به غدا فلا يلزم الحميل شيء.
إن لم يثبت حقه ببينة يعني أن محل عدم لزوم الضمان في المسألتين إنما هو حيث لم يثبت الحق على المدعى عليه ببينة، وأما إن ثبت عليه ببينة فإنه يلزمه الضمان فيهما كما في المدونة. وهل بإقراره تأويلان يعني أنه إن ثبت الحق على المدعى عليه بإقراره، فإن الشيوخ اختلفوا في ذلك، فمنهم من تأول المدونة على أنه يلزمه الضمان لثبوت الحق بالإقرار كثبوته بالبينة وهذا التأويل لعياض، ومنهم من تأولها على أن ثبوت الحق بإقرار المدعى عليه كثبوته بالبينة فلا يلزمه الضمان. قال الحطاب: الشرط وما بعده راجع إلى المسألتين قبله. انظر المدونة في الحمالة، وكلام أبي الحسن عليها تفهم منه ذلك. اهـ. وقال بعض شيوخنا: التأويلان إنما هما في الثانية وإن كان في الأولى خلاف أيضا، لكن ليس بتأويل على المدونة. انتهى. انظر البناني. قوله: وقال بعض شيوخنا لخ، قال الرهوني: بهذا جزم أبو علي ونصه: ونحن لا ننكر الخلاف في الصورة الأولى وإنما مرادنا التأويلان في أي صورة هما، وقد تبين أنهما في صورة المنكر وهي قول المتن:"أو قال لمدع على منكر" لخ، وأما قول المتن:"لا إن ادعى على غائب فضمن" لخ فليست محلا للتأويل وإنما طرقها خلاف. انتهى. ثم قال: وقول الحطاب محيلا على المدونة وأبي الحسن: يفهم ذلك منهما، غير صحيح.
تنبيهات:
الأول: قال عبد الباقي عند قول المص: "وهل بإقراره" ما نصه: راجع للثانية فقط فإقراره في الأولى لا يوجب على الضامن شيئا. اهـ. قوله: فإقراره في الأولى لا يوجب على الضامن شيئا، قال الرهوني: القول بأنه لا يلزمه ذلك بالإقرار عزاه ابن يونس واللخمي للموازية، وجعلاه خلاف ظاهر المدونة، وكذا أبو إسحاق فهم المدونة على أن الإقرار كالبينة ولم أر من حمل كلام الموازية في هذه على التفسير للمدونة وعلى وجوده فهو ضعيف؛ لأن ابن رشد حكى الاتفاق على لزومه بالإقرار، فقال في رسم الشجرة من سماع عيسى من كتاب الكفالة ما نصه: فإذا قال الرجل لي على فلان ألف دينار، فقال له رجل أنا لك بها كفيل، لزم الكفيل غرمها إذا أقر بها المطلوب قولا واحدا. اهـ منه بلفظه. والاتفاق منقوض بنقل ابن يونس واللخمي: وحكاية ابن رشد
الاتفاق وإن كانت غير مسلمة تفيد ضعف ذلك التأويل على تقدير وجوده. ونص كلام ابن يونس: ومن قال لي على فلان ألف دينار، فقال له رجل أنا بها كفيل فأتى فلان فأنكرها لم يلزم الكفيل شيء حتى يثبت ذلك ببينة. ابن المواز: لا بإقرار المطلوب الآن ولو كان إقراره بذلك قبل الحمالة للزم الكفيل. محمد بن يونس: وظاهر اعتلاله في المدونة لو أقر لزم الحميل الغرم. اهـ. محل الحاجة منه بلفظه. ونقل نحو هذا عن اللخمي، ثم قال: واعتمد ابن ناجي كلام أبي إسحاق الذي فهم المدونة على أن الإقرار كالبينة، ثم قال: وبذلك كله تعلم ما في قول الزرقاني فإقراره في الأولى لا يوجب على الضامن شيئا قطعا، والعجب من سكوت التاودي والبناني عنه مع ما قدمناه من قول ابن رشد: يلزمه قولا واحدا. واللَّه الموفق.
الثاني: قال البناني عند قوله: "أو قال لمدع على منكر" لخ ما نصه: الصواب أن يعلل سقوط الضمان في هذه بأنه التزام معلق على أمرين: أحدهما في اللفظ وهو عدم الإتيان به والآخر في المعنى وهو ثبوت الحق على هذا المنكر، فكأنه يقول إن لم آتك به وثبت الحق فأنا ضامن، فإذا لم يأت به ولم يثبت الحق فلا ضمان؛ إذ لم يقع العلق عليه بجملته، وإذا أتى به سقط عنه الضمان ولو ثبت الحق؛ لأن الإتيان به نقيض المعلق عليه، وأما التعليل بأنه وعد فغير ظاهر كيف وهو التزام. اهـ. قوله: وإذا أتى به سقط لخ أي ولو كان عديما لأنه ضمان وجه. انظر الرهوني. وقال عبد الباقي: وهل بإقرار راجع للثانية تأويلان في لزوم الضمان به، كلزومه بالبينة وعدم لزومه لأنه يتهم على أن يكون تواطأ مع المدعي على لزوم الضمان للضامن، ومحلهما إذا أقر بعد الضمان وهو معسر فإن أقر قبله أو بعده وهو موسر فإن الحمالة تلزمه إذ لا ضرر على الضامن حينئذ. اهـ.
الثالث: قال الرهوني: قال في المدونة: ومن قال لرجل إن لم أوافك بغريمك غدا فأنا ضامن لما عليه فمضى الغد فادعى الحميل أنه وافاه به فالبينة عليه وإلا غرم إلا أن يوافيه به الآن قبل الحكم عليه فيبرأ من المال. انتهى منها. ومثله لابن يونس عنها. اهـ.
الرابع: قال الرهوني عند قول المص: "وهل بإقراره تأويلان" ما نصه: وإذا فرعنا على المقابل فلا إشكال أنه لا يلزم الحميل إذا نكل المطلوب وحلف الطالب، وأما على المشهور فقال اللخمي
متصلا بما قدمناه عنه ما نصه: وكذلك ينبغي أن يكون الجواب إذا جحد ونكل عن اليمين وحلف المطلوب إن ثبتت الكفالة. اهـ. والذي قبله هو ما نصه فإذا أقر فلان لزم. اهـ. وكلام الرهوني هذا في المسألة الأولى.
الخامس: قوله: "أو ادعى على غائب فضمن ثم أنكر" قال الرهوني: إذا استمر المدعى عليه غائبا وأراد المدعي تحليف الكفيل أنه لا يعلم له حقا على المطلوب فله ذلك كما يؤخذ مما في أواخر كتاب الشفعة من المدونة، ونصها: ومن تكفل بنفس رجل ولم يذكر ما عليه جاز، فإن غاب المطلوب قيل للطالب أثبت حقك ببينة وخذه من الكفيل، فإن لم يقم بينة وادعى أن له على المطلوب ألف درهم فله أن يحلف الوكيل على علمه، فإن نكل حلف الطالب واستحق. انتهى.
السادس: قوله: "لا ان ادعى على غائب" قال عبد الباقي قبله ما نصه: وأخرج من قوله: "ولزم فيما ثبت" كما للتتائي أو من قوله: "وصح من أهل التبرع". انتهى. قال عبد الباقي: وشبه في عدم اللزوم حيث لم يثبت الحق ببينة وفي لزومه حيث ثبت بها، والثبوت بالإقرار هنا معتبر اتفاقا لأنه أقر على نفسه وليس من الضمان.
كقوت المدعى عليه يعني أنه إذا ادعى شخص على آخر بحق، فقال المدعى عليه للمدعي: أجلني اليوم أي اتركني في هذا اليوم ولا تطالبني فيه، فإن تركتني اليوم ولم أوافك بضم الهمزة وفتح الواو بعدها ألف بعدها فاء مكسورة بعدها كاف ضمير مخاطب أي آتك غدا، فالذي تدعيه علي حق ولم يأته غدا فإنه لا يلزمه شيء ولا يثبت عليه الحق بذلك، فإن قامت على الحق بينة أو أقر به لزمه وافاه غدا أم لا، ومثل كلام المص إن أخلفتك غدا فدعواي باطلة أو فدعواك حق أو علي كراء الدابة التي تكتريها أو حقك علي فلا يلزم شيء من ذلك من التزمه، أو قال إن لم أحضر مجلس القاضي فعلي كذا فلا شيء عليه في ذلك كله انظر شرح الشيخ عبد الباقي. قال البناني: نسخة الزرقاني: فإن لم أوفك بتشديد الفاء دون ألف من الوفاء، وعليها يتنزل سؤاله. قال مصطفى: وكذا في المنسخ التي وقفنا عليها والصواب أوافك بألف بعد الواو من وافى بمعنى أتى، والأول تصحيف ممن لم يفهم معناه إذ لا معنى لوفى الذي بمعنى أدى هنا إذ ذاك كصريح
الإقرار ومخالف لفرض المسألة في كلام الأيمة. قال في المدونة: وإن أنكر المدعى عليه ثم قال للطالب أجلني اليوم فإن لم أوافك غدا فالذي تدعيه قبلي حق فهذا مخاطرة ولا شيء عليه. اهـ. أبو الحسن: لأنه قد لا يقدر أن يأتي إذ قد يتعذر ذلك عليه، يفهم من توجيه أبي الحسن أن وافى بمعنى أتى.
قلت: ويدل لذلك أن ابن يونس اختصرها بلفظ: فإن لم آتك غدا لخ وهو الذي نقله المواق، قال مصطفى: ومما يدل على ما قدمناه أن المسألة السابقة وهي قوله: إن لم آتك به لغد فأنا ضامن، عبر عنها في المدونة بإن لم أوافك كما في هذه فخالف المص بينهما تفننا وذكر مصطفى نصها، ثم قال: وبه تعلم أن تجويز الحطاب تشديد الفاء بمعنى الوفاء واستدلاله على هذا الضبط بلفظ المدونة المذكور فيه نظر؛ إذ كلامها مما يدل على خلافه كما ترى. اهـ كلام البناني.
ولما تكلم على الضمان وأركانه وشروطه ذكر ما يرجع به الضامن إذا غرم، فقال: ورجع بما أدى يعني أن الضامن إذا غرم الحق لربه فإنه يرجع على المدين بما أدى أي بمثل ما أدى عنه لرب الدين مثليا كان أو مقوما، ولهذا قال: ولو مقوما قال عبد الباقي: أي بمثل ما أدى لأنه كالمسلف يرجع بمثل ما أدى، سواء كان مثليا أو مقوما، ولا يرجع بقيمة القوم حيث كان من جنس الدين، وقيل يخير المطلوب في دفع مثل المقوم أو قيمته والخلاف ما لم يشتره، فإن اشتراه رجع بثمنه بلا خلاف ما لم يحاب وإلا لم يرجع بالزيادة، وهذا كله إن ثبت الدفع من الضامن أي ثبت أنه دفع الدين المتحمل به لمن هو له ببينة أو بإقرار صاحب الحق لسقوط الدين بذلك لا بإقرار المضمون عنه، فلا يلزم بدفعه لأنه يقول قد ينكر رب الدين الأخذ منك. وانظر في الأصل فرع الشامل. اهـ. كلام عبد الباقي.
قوله: فإن اشتراه صورة الشراء أن يعطي ثمنا في الرض الذي تحمل به ويدفع العرض لربه، وقال الشارح عند قوله:"ورجع بما أدى" وهذا ما لم يشتر العرض لذلك، فإن اشتراه له ولم يحاب فلا خلاف أنه يرجع بثمنه الذي اشتراه به، ولا يرجع بالزيادة إن حابى. اهـ. فإن اشتراه رجع بثمنه لخ، قال البناني: أي لأن الثمن هو المؤدى من عنده، فيرجع بما أدى أي بما خرج من يده. هذا كلام اللخمي وابن يونس وابن رشد وغيرهم، وقول التتائي: ومن وافقه لعل
كلام ابن رشد طريقة غير صحيح، وذكر ابن يونس عن بعض القرويين أنه يرجع بالثمن الذي اشترى به إن كان الضمان بإذن المضمون عنه وإلا فيرجع بالأقل من الثمن وقيمة ما تحمل به، وقول الزرقاني: وانظر في الأصل فرع الشامل لخ، نص الشامل: ولو دفعه بحضرة الغريم دون بينة لم يرجع عليه على الأظهر إلا إذا أقر له الطالب ولا يفيد إقرار المضمون عنه. اهـ. وهذا إذا دفع الحميل المال من مال نفسه، ولو دفعها الذي عليه الحق للحميل ليدفعها إلى صاحب الدين فدفعها له ثم أنكر، فإن دفعها بحضرة الذي عليه الحق فلا ضمان على الحميل الدافع ويغرمها المطلوب ثانية بعد يمين الطالب الجاحد، فإن كان المطلوب عديما أو غاب أخذت من الحميل ثانية، ولا يرجع على المطلوب لعلمه أنه لا شيء عليه، كما لو دفعها المطلوب من ماله بحضرة الحميل فجحد الطالب فأخذه من الحميل ثانية لعدم المطلوب أو غيبته فلا يرجع بها على المطلوب لعلمه أنه أداها، وإن دفعها الحميل من مال المطلوب بغير حضرة المطلوب فهو ضامن لرب المال ويسوغ لرب المال تضمينه، وإن علم أنه حجده لأنه أتلف عليه إذ لم يشهد على دفعه. انظر الحطاب.
وقال الرهوني عند قوله: "ولو مقوما" مقابل لو قولان: الرجوع بالقيمة وتخيير المطلوب. ابن عرفة: ولو أدى من تحمل عنه مثله من عنده، ففي رجوعه بمثله ثالثها يخير المطلوب فيهما لابن رشد عن المشهور معها، وقوله في الواضحة وسماع أبي زيد: ولو قضي على الحميل بالعرض فاشتراه، فسمع يحيى ابن القاسم يرجع عليه بالثمن ما بلغ. ابن رشد: اتفاقا ومعناه ما لم يشتره بأكثر مما يتغابن بمثله في البيوع. قلت: ما عزاه للواضحة عزاه الصقلي لأصبغ عن ابن القاسم. انتهى.
فرع:
وفي كتاب محمد: إذا غاب الغريم فغرم الحميل لصاحب الحق ثم قدم الغريم فذكر أنه دفع لصاحب الحق وأقام بينة على ذلك، قال ينظر: فإن كان الحميل دفع الحق قبل الغريم وبعد أن حل الأجل فله الرجعة على الغريم لأن دفعه كان لحق، ويرجع الغريم بما كان دفع على صاحب الحق وإن كان الغريم هو الدافع قبل الحميل فلا تباعة للحميل عليه، ويرجع الحميل على صاحب الحق إن دفع إليه، وإن جهل أمرهما لم يتبع الحميل إلا من دفع إليه إلا
أن تكون له بينة أنه الدافع الأول أو بقضاء من السلطان بعد أن يحلف الغريم أنه كان الدافع قبل، فإن نكل حلف الحميل وأغرم الغريم، فإن نكلا جميعا لم يكن للحميل على الغريم شيء. اهـ.
ونقل اللخمي كلام محمد مختصرا، وأسقط منه التقييد بكون الحميل دفع بعد حلول الأجل وأسقط اليمين عند جهل حالهما وما كان ينبغي له ذلك، ونقل ابن عرفة كلام الموازية مختصرا وأسقط منه قيد الحلول فقط. واللَّه أعلم. اهـ. قوله: بعد أن يحلف متعلق بقوله لم يتبع. قاله مقيده، وهو صريح الرهوني. واللَّه تعالى أعلم.
وجاز صلحه عنه بما جاز للغريم الضمير في "صلحه" للضامن، وفي "عنه" للدين، والمراد بالغريم من عليه الدين؛ يعني أنه يجوز للضامن أن يصالح رب الدين عن دينه بما يجوز للغريم أن يدفعه عوضا عما عليه، وقد قدم شيئا من ذلك بقوله: وبغير جنسة إن جاز بيعه قبل قبضه وبيعه بالمسلم فيه مناجزة وأن يسلم فيه رأس المال، ولابد أيضا أن لا يؤدي إلى ضع وتعجل وحط الضمان وأزيدك، ومفهوم قوله:"بما جاز للغريم" المنع فيما لا يجوز للمدين أن يدفعه عوضا عن الدين الذي عليه. وقد أشار المص إلى شيء من ذلك في باب السلم بقوله: "لا طعام ولحم بحيوان وذهب ورأس المال ورق وعكسه" ومن ذلك ما أدى إلى ضع وتعجل وحط الضمان وأزيدك والصرف المؤخر وبيع الطعام قبل قبضه.
واعلم أنه وقع في كلام أهل التحقيق أن المص هنا كلامه مفروض فيما إذا صالح بمقوم عن دين العين بدليل ورجع بالأقل منه أو قيمته، وبهذا يظهر قوله: على الأصح لقول ابن زرقون: إنه المشهور، وحكى المازري وابن رشد الاتفاق عليه وهما وإن نوزعا في الاتفاق فأقل أحواله أن يكون هو المشهور، ومقابل الأصح أن ذلك ممتنع لأنه لا يدري بم يرجع، هل هو بالأقل من الدين أو من قيمة المصالح به؟ وأما صلحه بمثلي عن عين كما في النقل فقال ابن عرفة: وفي منعه عن عين بمثلي وجوازه قولا سلمها وكفالتها، بناء على تأثير الغرر بما يرجع به الحميل لتخيير الغريم في دفع ما عليه وما أدى عنه ولغوه؛ لأنه معروف. وقال ابن الحاجب: وإذا صالح الضامن رجع بالأقل من الدين والقيمة. اهـ. قال ابن عبد السلام: تكلم هنا على ما إذا أدى عنه ما يخالف
جنس الدين وكان المدفوع من ذوات القيم لا من ذوات الأمثال، فذكر أن الضامن يرجع على الغريم بأقل الأمرين من الدين أو من قيمة ما دفع، وهذا يدك بالالتزام على أن هذا الصلح جائز وإن كان الضامن لا يدري بماذا يرجع، هل بمثل الدين أو بقيمة الصالح به قبل؟ وإنما جاز ذلك لأن الضمان بابه المعروف والضامن دخل على أنه يأخذ أقل الأمرين وهو معلوم عنده، فإن دفع له الزائد بعد ذلك فمعروف صنعه معه الغريم. واختلف قوله في المدونة: إذا صالح الضامن الغريم بشيء من ذوات الأمثال مخالف لجنس الدين فأجازه في كتاب الحمالة وهو أقرب؛ لأن الباب معروف ومنعه في كتاب السلم الثاني لأن الضامن لا يدري ماذا يرجع به على الغريم، والجهالة فيها أكثر من الجهالة في مسألة المؤلف لمخالفة ما وقع به الصلح لما في ذمة الغريم في الجنس فلا يتأتى فيه الرجوع بالأقل. انتهى.
ومن الشراح من عمم المص فجعله في المثلي وغيره وخص قوله: ورجع بالأقل لخ بالمقوم فعمم في أول الكلام وخصص في آخره كالشارح وعبد الباقي وما قالاه حسن. واللَّه تعالى أعلم. قال عبد الباقي: وجاز صلحه أي الضامن لرب الدين عنه أي عن الدين بما جاز للغريم أي المدين الصلح به عما عليه لتنزله منزلته على الأصح كصلحه لربه بعد الأجل عن دنانير جيدة بأدنى منها أو عكسه، وكصلحه عن طعام قرض قبل الأجل بأكثر وبعد الأجل على أي وجه. قاله التتائي. اهـ. قوله في المثال الجائز كصلحه لربه بعد الأجل عن دنانير جيدة لخ صحيح. قال ابن عرفة: وإن كان عن عين بصنفها أدنى أو أجود، فقال الصقلي عن بعض الفقهاء: جائز لتيقن أن أحدا لا يختار إلا دفع الأخف عليه. اهـ. وقوله: كصلحه على طعام قرض قبل الأجل بأكثر لخ هذا غير صحيح؛ إذ قضاء القرض بأكثر تقدم أنه لا يجوز مطلقا لقول المص: "لا أزيد عددا أو وزنا إلا كرجحان ميزان". واللَّه أعلم قاله التتائي.
وقال عبد الباقي عند قوله: "وجاز صلحه عنه بما جاز للغريم على الأصح" ما نصه: ويستثنى من كلامه يعني على شمول المص للمصالح بمقوم أو مثلي لا على أنه خاص بالمقوم مسألتان: الأولى صلحه بدنانير عن دراهم وبالعكس، والثانية صلحه عن طعام بأجود منه أو أدنى عند حلول الأجل فإن ذلك جائز للغريم لا للضامن؛ لأنه في الأولى صرف مؤخر وصرف بخيار إن دفع
المدين ما عليه من الدين، لا إن دفع ما أداه الحميل عنه لأنه يخير في دفع أحد الأمرين المذكورين، وفي الثانية بيع الطعام قبل قبضه أي باعه رب الدين للضامن قبل قبضه من المدين، ثم يخير المدين بين دفعه للضامن مثل ما أعطى رب الدين ومثل ما عليه، واختلف في مسألة ثالثة وهي جواز صلح الضامن لرب الدين بمثلي مخالف لجنس الدين بشروطه الثلاثة التي قدمها المص؛ لأن الباب معروف ومنعه لجهله بما يأخذه عوضا عما صالح به، وإنما يصالح بمقوم بخلاف المدين فيجوز له بمثلي مخالف قطعا بالشروط الثلاثة، ومفهوم قوله:"بما جاز للغريم" منع صلحه عنه بما منع للغريم كضمانه في عروض سلم فلا يجوز للضامن صلحه عنها قبل الأجل بأدنى صفة أو قدرا لدخول ضع وتعجل، ولا بأكثر لدخول حط الضمان وأزيدك وكصلحة عن ثمن طعام على مدين على طعام يأخذه منه، فإنه يمنع ذلك له أي للضامن كما يمنع للمضمون له قاله. ابن المواز. وأما من تحمل بثمن طعام وأداه فله أن يأخذ من الغريم أي المدين فيه طعاما إذا رضي، كان من صنفه أو من غير صنفه أو أكثر من كيله. اهـ. من المواق اهـ كلام عبد الباقي.
قوله: الأولى صلحه عن دراهم بدنانير أو بالعكس، قال البناني: وأما الصلح عن الذهب بالورق وعكسه ففيه قولان بالجواز والمنع ذكرهما في المدونة، قال في التوضيح: وإلى منع المصالحة بالدراهم عن الدنانير وبالعكس رجع ابن القاسم وأشهب وأصحابنا، وأما صلحه عن طعام بيع بأجود منه أو أدنى، فإن منعه للضامن دون الغريم ذكره في المدونة، وقد نقل في التوضيح بعد ذكره أن الكفيل كالغريم فيما يجوز من الصلح، ويمتنع عن المازري ما نصه: لكن لم يطرد هذا في المدونة في الطعام من السلم، فإنه منع الكفيل أن يصالح إذا حل الأجل بطعام أجود أو أدنى منه، وعلله بأنه بيع الطعام قبل قبضه لحصول الخيار للمدين. اهـ باختصار. ومثله في الحطاب قوله: بأنه بيع الطعام قبل قبضه، بحث ابن عاشر في هذه العلة بأنها واردة في صلح الغريم نفسه بذلك أيضا وأجازه. وقوله: بشروطه الثلاثة أي المذكورة في آخر السلم بقوله: "وبغير جنسه إن جاز بيعه قبل قبضه" لخ. انظر البناني. قال الرهوني: الظاهر عندي سقوط هذا البحث لأنه في الغريم إما حسن قضاء أو اقتضاء وفي الضامن بيع لتخيير الغريم في دفع مثل ما دفع فهو كالإمضاء وفي دفع مثل ما عليه فهو رد. انتهى باختصار.
وقال الشارح: وأشار بقوله "على الأصح" إلى أن المسألة قد اختلف فيها وهو كذلك، فقد قيل: يجوز صلحه مطلقا لأنها مكارمة، وقد دخل في ذلك على أن الغريم إن شاء دفع ما عليه أو قيمة المقوم ومثل المثلي، وقيل يمتنع صلحه مطلقا للجهالة فيما يرجع إليه فهو مبيع بثمن مجهول، وقيل إن صالح عنه بمقوم جاز وإلا امتنع؛ لأن المقوم يرجع فيه إلى القيمة وهي من جنس الدين والحميل يعرف قيمة سلعته فقد دخل على القيمة إن كانت أقل من الدين، وإن كانت أكثر فقد دخل على أخذ الدين وهبة الزيادة، وأما المثلي فإنه من غير جنس الدين فلا يعرف فيه الأقل والأكثر لأن الأقل والأكثر لابد أن يشتركا في الجنس والصفة فكانت الجهالة فيه أقوى، وحكى في البيان رابعا بالجواز فيما يجوز فيه النسيئة في المبايعة لا فيما تمتنع فيه لأنه يؤدي دنانير عن دراهم أو قمحا عن ثمن. اهـ المراد منه.
ورجع بالأقل منه أو قيمته يعني أن الضامن إذا صالح عن الدين بمقوم فإنه يرجع على المدين بالأقل من قيمة المقوم الذي دفع لرب الدين ومن الدين الذي على المدين فالتخيير للمدين، فقوله:"أو قيمته" الضمير فيه يرجع للمصالح به، والضمير في "منه" عائد على الدين. قال عبد الباقي: ورجع الضامن الغارم على المدين بالأقل منه أي من الدين أو قيمته أي ما صالح به أي رجع بأقل الأمرين وهما الدين وقيمة الصالح به، فمن للبيان كما في أحمد لا للتبعيض. اهـ المراد منه. وقوله:"أو قيمته" يعني يوم الصلح لا يوم الرجوع، ففي رسم الأقضية من سماع يحيى من كتاب الحمالة عن ابن القاسم ما نصه: وإن كان غرم عنه عرضا مخالفا للعرض الذي كان تحمل به عنه خير المطلوب، فإن شاء غرم قيمة العرض الذي غرم عنه يوم أخرجه الحميل، وإن شاء غرم مثل العرض الذي كان وجب عليه فقط. اهـ. وقال عبد الباقي: وأما إن كان على المدين مائة دينار وصالح الضامن عنها بخمسين فإنما يرجع على المدين بالخمسين فقط قطعا، ولا يتأتى فيها قوله:"ورجع بالأقل منه أو قيمته".
قوله: وأما إن كان على المدين مائة دينار فصالح الضامن لخ، قال الرهوني: سكت عن رجوع رب الحق على المدين بالخمسين التي أسقطها عن الضامن مع أن هذا هو المتوهم، وظاهر كلامه أنه لا يرجع عليه وليس كذلك، ففي المدونة ما نصه: ومن تكفل لك بمائة حالة فأبرأته من
خمسين على أن يدفع إليك خمسين فلا يرجع هو إلا بما أدى ولك أنت اتباع الغريم بخمسين؛ لأن تلك البراءة براءة من الحمالة فقط قال ابن غازي في شرحها ما نصه: لم يقل في إبراء الحميل من بعض الحق إن ذلك إبراء للغريم إلا أن يحلف كما قال في تأخير الحميل إنه تأخير للغريم إلا أن يحلف، والفرق بينهما أن التأخير يتضمن طلب الحميل عند الأجل المؤخر إليه، فكأنه قال للحميل: أطلبك عند الأجل وذلك يستلزم تأخير الغريم والإسقاط عن الحميل لا يتضمن إسقاطا عن الغريم ولا يستلزمه. اهـ. فتأمله.
تنبيه:
قوله: "ورجع بالأقل منه أو قيمته" هذا في المقوم كما عرفت، وأما لو صالح بمثلي فقد مر عن الشارح أنه يرجع بالمثل أو بالدين على القول بجوازه.
وإن برئ الأصل برئ يعني أنه إذا برئ الأصل أي المدين بوجه من وجوه البراءة كهبة الدين له أو قضائه، فإن الحميل يبرأ من الكفالة لأن طلبه فرع ثبوت الدين على الأصل. قال عبد الباقي: وإن برئ الأصل أي المدين بهبة الدين أو قضائه أو موته والطالب وارثه؛ أي فكلما برئ الأصل برئ الحميل لأن طلبه فرع ثبوت الدين على الأصل، ولأنه في الصورة الأخيرة إن غرم الضامن شيئا رجع به في تركة المدين والتركة في يد الطالب فصارت مقاصة، فإن مات المدين معدما غرم الكفيل. قاله في المدونة. وكذا يبرأ الحميل إن مات رب الدين ولو معدما والمدين وارثه، قال أحمد: ظاهر قوله: "وإن برئ الأصل" ولو اشترط أخذ أيهما شاء. انظر التوضيح. اهـ. وظاهره أيضا ولو حصل فيما دفعه الأصل استحقاق لأنه طارئ بعد انحلال الضمان. وهو لابن رشد عن ابن حبيب. وأفتى به فضل وحكم بعضهم برجوع الضمان عليه وكذا إذا دفع المدين مالا يحل كطعام مؤجل بدينار حال وأبرأ رب الدين الضامن للدينار، ثم قام وقال: فسخته لي في مؤخر ممتنع وكنت أجهل ذلك وأراد الرجوع على الضامن، فليس له ذلك وخرجه ابن رشد على الخلاف المذكور. اهـ.
قوله: وخرجه ابن رشد على الخلاف المذكور أي في مسألة الاستحقاق فيه نظر؛ لأن مسألة دفع الطعام مصرح بها في العتبية في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الكفالة، سأل عنها قاضي الأسكندرية ابن القاسم فأجابه بقوله: ليس له أن يرجع على صاحبه والحميل بريء، قال
القاضي رضي الله عنه: إنما بطلت عن المتحمل بالدينار الحمالة من أجل أن المتحمل له أبرأه منها بما ظن من جواز فسخ الدينار في الشعير إلى أجل فلم يعذر بالجهالة وهو أصل مختلف فيه، فيأتي على القول بأنه يعذر بها إذا كان ممن يمكن أن يجهل، مثل هذا أن يحلف ما أبرأه من حمالة الدينار إلا وهو يظن أن الدينار قد بطل عن المطلوب بالشعير الذي سلمه فيه، وهذا نحو ما حكى ابن حبيب عن أصبغ في الحميل على الغريم إذا أخذ الذي له الحق من الغريم فاستحق ما أخذ. وباللَّه التوفيق. اهـ منه بلفظه.
فقوله: هذا نحو ما حكى ابن حبيب لخ إشارة إلى ما في الرواية، ويعني أن ما في العتبية عن ابن القاسم وما في الواضحة عن أصبغ متفقان في المعنى وإن اختلف موضعهما، فلم يخرج ابن رشد أحدهما على الآخر وإنما فيه تخريج الخلاف في مسألة العتبية من الخلاف في العذر بالجهالة. فتأمله. واللَّه أعلم. انظر الرهوني. وقوله:"وإن برئ الأصل برئ" فاعل برئ الأخيرة ضمير يعود على الضامن. لا عكسه يعني أنه إذا برئ الفرع وهو الضامن لا يلزم من ذلك أن يبرأ المدين.
والحاصل أنه كلما برئ الأصل برئ الضامن، بخلاف العكس فإنه قد يبرأ الضامن ولا يبرأ المضمون وهو المدين، قال عبد الباقي: لا عكسه أي إذا برئ الضامن لا يبرأ الأصل لزوما بل بعض براءة الضامن براءة الأصل، كأخذ الحق منه فإنه براءة للأصل من رب الدين، والمطالبة حينئذ للضامن وبعض براءته غير براءة الأصل كبراءة الضامن من الضمان بانقضاء مدة ضمانه، وعدم أخذ الحق منه كما إذا وهب رب الدين دينه للضامن فإنه لا يبرأ الأصل وهو المدين، قال التتائي: والظاهر افتقاره لحوز فعلى المدين دفعه للحميل. اهـ.
وعجل بموت الضامن يعني أنه إذا مات الضامن والحال أن الدين المضمون مؤجل فإنه يحل بموته ما ضمنه من الدين المؤجل إن ترك مالا، وكذا لو فلس الضامن فإنه يحل بفلسه ما ضمنه من الدين المؤجل فيعجل الحق من تركته في الأولى ويحاص رب الدين الغرماء في الثانية، قال عبد الباقي: وعجل المؤجل المضمون بأحد أمرين: أولهما بموت الضامن أو فلسه من ماله قبل حلول أجل الدين كما يشعر به قوله: "عجل" ويؤخذ من تركته لخراب ذمته وإن كان المضمون حاضرا مليا لعدم حلوله عليه، ومعناه إن شاء الطالب لا أن التعجيل واجب. اهـ. وقوله:
"وعجل بموت الضامن" سواء كان ضامنا للمال أو ضامنا للوجه، قال الخرشي: عجل بموت الضامن أي بالمال أو بالوجه، لكن في الوجه تطالب الورثة بإحضار الغريم فإن لم يحضروه أغرموا.
ورجع وارثه بعد أجله يعني أنه إذا مات الضامن وأخذ الحق من تركته لحلوله بموته، فإن ورثته يرجعون على المدين بعد حلول الأجل فيأخذون منه الحق، وقوله:"بعد أجله" قال الخرشي: هو محط الفائدة وأما رجوع الوارث فلا إشكال فيه، فكأنه قال: ولا يرجع وارثه إلا بعد أجله. اهـ. وقال عبد الباقي: ورجع وارثه أي وارث الضامن بعد حلول أجله، فإن مات الضامن عند حلوله أو بعده لم يكن للمضمون له طلب تركة الضامن عند حضور الغريم موسرا. وأشار للثاني بقوله: أو الغريم عطف على الضامن يعني أنه إذا مات الغريم أي المدين، فإنه يعجل الحق الذي كان مؤجلا عليه إن ترك مالا ويؤخذ من تركته.
وعلم مما قروت أن قوله: إن تركه راجع للمسألتين أي "وعجل بموت الضامن" إن ترك الضامن مالا وعجل بموت الغريم إن ترك الغريم مالا، فالضمير البارز في ترك عائد على المال والضمير المستتر راجع إلى الضامن أو الغريم، ومن المدونة قال مالك: إذا مات الضامن قبل الأجل فللطالب تعجيل حقه من تركته، ثم لا رجوع لورثته حتى يحل الأجل وله محاصة غرمائه أيضا، ومن المدونة قال مالك: إن مات الغريم تعجل الطالب دينه من ماله إن ترك مالا، فإن لم يدع مالا لم يتبع الكفيل حتى يحل الأجل. اهـ. نقله المواق. وقال الشارح: وفي المذهب رواية أن الحق يؤخذ من تركة الضامن ولا يدفع للطالب بل يوقف حتى يحل الأجل، فإن لم يكن الأصل مليا أخذه الطالب وإلا أخذه الورثة، وبهذا قال عبد الملك وأنكر ذلك يحيى لأنه حجر للمال من غير فائدة تحصل لوارث الحميل ولا لرب الدين وقد يتلف، وحكى اللخمي والمازري عن ابن نافع قولا بالفرق بين أن يكون تركة الحميل ما مونة متسعة فلا يؤخذ الدين منها معجلا ولا موقوفا، وإلا وقف الدين. انتهى. فقول المص. وعجل رد على رواية يحيى ومن قال بها وعلى ابن نافع.
وقال الشارح: والحاصل أن الغريم إذا مات معدما قبل الأجل فليس للطالب على الضامن شيء حتى يحل الأجل؛ لأنه لا يلزم من حلول الدين على الغريم حلوله على الضامن لبقاء ذمته، ولا
خلاف في ذلك على ما نقله ابن رشد. اهـ. وقال عبد الباقي: إن تركه راجع للصورتين، فإن مات المدين ولم يترك شيئا لم يطالب الكفيل حتى يحل الأجل، وقوله:"إن تركه" كلا أو بعضا ويبقى البعض الذي لم يتركه لأجله، وشمل كلامه ضامن الوجه فإن مات لم تسقط الكفالة على المشهور، لكن إنما يطلب وارثه بإحضار غريمه إن حل دينه وإلا وقف من تركة الضامن قدر الدين حتى يحل إن لم يكن الوارث مأمونا. انظر أبا الحسن. انتهى.
ولا يطالب إن حضر الغريم موسرا "يطالب" بالبناء للمفعول ونائبه ضمير يعود على الضامن والغريم المدين "وموسرا" حال يعني أن الضامن لا يطالب رب الدين بما ضمنه حيث كان المدين حاضرا موسرا، قال عبد الباقي: ولا يطالب الضامن بالدين أي لا مطالبة لربه عليه إن حضر الغريم أي المدين المضمون موسرا تأخذه الأحكام غير ملد ولا مماطل، وإن لم يكثر وغير مقول له أيكم شئت أخذت بحقي كما يأتي ولا اشترط ضمانه في الحالات الست يسر المدين وعسره وغيبته وحضوره وموته وحياته وإلا طولب كما في وثائق الجزيري وغيره، وإنما لم يطالب مع وجود الشروط المذكورة لأنه إنما أخذ توثقا فأشبه الرهن، فكما لا سبيل إلى الرهن إلا عند عدم الراهن فكذا لا سبيل إلى الكفيل إلا عند عدم المضمون. اهـ.
وقال البناني: ابن عرفة: وفيها رجع مالك عن تخيير الطالب في طلب الحميل دون الغريم لوقفه على العجز عن طلب الغريم وأخذ به ابن القاسم ورواه ابن وهب. اهـ. ابن رشد: وقول مالك الذي اختاره ابن القاسم أظهر في أن الكفالة لا تلزم الكفيل مع ملاء الكفول عنه وحضوره واستوائهما في اللدد؛ لأنه إن قضي للمكفول له على الكفيل قضي في الحين للمكفول عنه فالقضاء للمكفول له على المكفول عنه أولى وأقل عناء. اهـ من المقدمات. وقوله: غير ملد ولا مماطل لخ، قال مصطفى: التقييد بكونه غير ملد ولا مماطل لغير ابن القاسم في المدونة، وجعله ابن شأس وابن الحاجب خلافا، وجعله ابن عبد السلام وصاحب الشامل تقييدا. اهـ باختصار.
قلت: ظاهر كلام ابن رشد المتقدم أن التقييد به هو المعتمد؛ إذ قال: واستوائهما في اللدد وهو ظاهر كلام المتيطى أيضا فيسقط تورك مصطفى على الأجهوري. واللَّه أعلم.
تنبيه:
بالتخيير الذي رجع عنه الإمام جرى العمل عندنا كما ذكره في شرح العمليات عن سيدي العربي الفاسي. اهـ. كلام البناني. وقال الرهوني: قول الزرقاني غير ملد ولا مماطل تبع فيه الأجهوري وهو صواب، وقول مصطفى: إن التقييد بما إذا لم يكن ملدا ذكره ابن الحاجب بقيل التي للتمريض، ونسبه ابن شأس لغير ابن القاسم، ونصه: قال غير ابن القاسم: لو كان ملدا ظالما فله اتباع الحميل، وكلام الغير هو في المدونة وهو عند ابن شأس وابن الحاجب والمولف خلاف ابن القاسم، وإن قال ابن عبد السلام: في عده خلافا نظرٌ وجعله صاحب الشامل تقييدا. انتهى. فيه نظر من وجهين: أَحَدُهُمَا جزمه بأن المص وابن شأس جعلا قول الغير خلافا، فإن كلام ابن شأس ليس صريحا ولا ظاهرا فيما عزاه له بل الظاهر منه أنه عنده تقييد، ونصه: ولو كان غائبا مليا أو حاضرا مديانا يخاف إن قام عليه المحاصة. قال غير ابن القاسم: أو ملدا ظالما فله اتباع الحميل. اهـ منه بلفظه. فانظر كيف جمع قول الغير مع ما قبله مما هو محل اتفاق؟ وأجاب عن ذلك بجواب واحد وهو قوله: فله اتباع الحميل تجده كما قلناه، وأما المص فإن عنى في مختصره فلا يخفى عليك ما فيه، وإن عنى في توضيحه فستقف على ما فيه.
ثَانِيهِمَا أنه على تسليم أن ابن شاس والمص صرحا بجعل ذلك خلافا كابن الحاجب فلا يليق بجلالته ومنصبه الرد بذلك على الأجهوري؛ لأن ما فعله هو الذي عليه جل أهل المذهب كابن أبي زمنين وابن يونس واللخمي وابن رشد والمتيطى وابن هارون وابن عبد السلام والمص في التوضيح وصاحب الشامل والبرزلي وابن ناجي وغيرهم، ويتبين لك ذلك بنقل كلامهم، أما ابن أبي زمنين فقال في منتخبه ما نصه: لأن الحميل لا يؤاخذ بالذي على المديان إذا كان المديان حاضرا مليا، وإنما له أخذه إذا كان المديان عديما أو غائبا أو يكون ملدا ظالما. اهـ. وأما ابن يونس إلى آخر كلامه.
أو لم يبعد إثباته عليه يعني أن المدين إذا غاب ولم يبعد على رب الدين إثبات ماله بل تيسر عليه إثبات أن له مالا والنظر فيه، فإنه لا يطالب الضامن بشيء، قال عبد الباقي: أو غاب الغريم ولم يبعد إثباته أي إثبات مال الغائب والنظر فيه عليه أي على الطالب، بل تيسر عليه إثباته والاستيفاء منه بلا مشقة شديدة عرفا وبلا بعد للبينة الشاهدة بمال الغائب، وإلا فله طلب
الحميل. اهـ. قوله: "أو لم يبعد" كذا في نسخة عبد الباقي، وفي نسخة الخرشي: ولم يبعد. قال: والواو بمعنى أو وهو معطوف على محذوف تقديره أو غاب الغريم، ولم يبعد إثبات مال الغائب والنظر فيه على الطالب، فإن تيسر إثباته على الطالب من غير مشقة شديدة فلا مطالبة على الغريم أو كان الغريم حاضرا موسرا يتيسر الوفاء من ماله، وأما لو كان في إثباته والنظر فيه بعد ومشقة فله مطالبة الحميل، أو كان الغريم معدما. ويصح أن يقرأ إتيانه بمثناة فوقية والنون بعد الألف أي لا بعد في إتيان الطالب أي تسليطه على الغريم أو على ماله، أما لو كان في الإتيان والتسليط على الغريم بعد للدده أو ظلمه أو في التسليط على ماله بعد، لعسر الوصول إليه من ظالم أو عدم إنصاف حاكم فللطالب طلب الحميل، وسواء في هذا كان الغريم حاضرا أو غائبا؛ لأنه بعدم الإنصاف يصير الموجود معه [معدوما]
(1)
، وعلى نسخة إثباته بالمثلثة يكون الضمير عائدا على الدين، وعلى نسخة إتيانه يكون عائدا على رب الدين ومعناهما واحد. انتهى.
والقول له في ملائه يعني أنه إذا تنازع رب الدين والضامن في أن المدين ملي أو معدم: فادعى رب الدين أنه معدم وطالب الضامن وادعى الضامن أنه ملي كي تسقط مطالبة رب الدين له، فإن القول للضامن في أنه ملي فلا مطالبة لرب الدين عليه، قال عبد الباقي: وإن تنازع رب الدين والضامن فادعى رب الدين أن المدين معدم، وطالب الضامن فادعى أنه ملي كان القول له أي للحميل في ملائه أي المضمون؛ لأن الغالب على الناس الملاء بالتكسب فليس لرب الدين حينئذ طلب على الضامن لتصديق الضامن في ملائه، ولا على المدين لأنه أقر بعدمه إلا أن يقيم بينة بالعدم فله مطالبة الضامن، أو يتجدد للمدين مال فله مطالبته وهذا ظاهر. انظر أحمد.
قال الحطاب: والظاهر أن القول له في ملائه بلا يمين إلا أن يدعى عليه علمه بعدمه. اهـ. وكذا إذا تنازع المدين والضامن فادعى الأول عدم نفسه فالقول للضامن في ملائه، ويفيده من حيث المعنى "وحبس لثبوت عسره". اهـ. وقال البناني عند قوله:"والقول له في ملائه" ما نصه: هذا خلاف ما استظهره ابن رشد في نوازل سحنون من أن القول للطالب إلا أن يقيم الحميل بينة
(1)
في الأصل معدما والمثبت من الخرشي ج 6 ص 28.
بملاء الغريم، وهو قول سحنون. وانظر الحطاب والمواق، وهذا الذي استظهره ابن رشد، قال المتيطى: هو الذي عليه العمل ونصه: وإذا طلب صاحب الدين الحميل بدينه والغريم حاضر، فقال له الحميل: شأنك بغريمك فهو ملي بدينك، وقال رب الدين: الغريم معدم وما أجد له مالا فالذي عليه العمل وقاله سحنون في العتبية أن الحميل يغرم إلا أن يثبت يسر الغريم وملاءه فيبرأ، فإن عجز حلف له صاحب الحق إن ادعى عليه معرفة يسره على إنكار معرفته بذلك وغرم الحميل، وله رد اليمين على الحميل فإن ردها حلف الحميل وبرئ، وقال ابن القاسم في الواضحة: ليس على الحميل سبيل حتى يبدأ بالغريم. انتهى. فقد بان به أن الراجح خلاف ما عليه المص، قال الحطاب: لكن المص في التوضيح استظهر أن القول قول الحميل. انتهى. وقد علم من عادة المص أنه لا يعتمد استظهار نفسه. واللَّه أعلم.
تنبيه
قال الحطاب: من كان القول قوله هل بيمين أم لا؟ لم أر من صرح بشيء من ذلك، والظاهر أن لا يمين في ذلك إلا أن يدعي عليه خصمه العلم. انتهى.
قلت: ما استظهره هو الذي صرح به المتيطى كما تقدم عنه ولم يطلع عليه. واللَّه أعلم. اهـ. كلام البناني. قول البناني: فبان به أن الراجح خلاف ما عليه المص فيه نظر، بل الراجح هو ما عليه المص معنى ونقلا. أَمَّا معنى فلأنه الجاري على ما تقدم في الفلس من أن المشهور المعمول به حمل الغريم على الملاء حتى يثبت العدم، ولأنه لو حمل هنا على العدم وقبل قول رب الحق إنه عديم لم يكن لقول مالك المرجوع إليه كبير فائدة؛ لأن رب الحق مهمى طلب أخذ الحميل بحقه في حضور المدين توصل إلى ذلك بدعواه العدم. فتأمله. وَأَمَّا نقلا فلأن ما للمص هو قول مالك وابن القاسم واختاره اللخمي، وصرح أبو الحسن على الرسالة بأنه المشهور واقتصر عليه صاحب المفيد، ونص اللخمي واختلف إذا أطلقت الحمالة ولم تقيد بشرط تبدئة، فقال الطالب للحميل: اغرم لي لأن الغريم معسر، وقال الحميل: هو موسر، فقال ابن القاسم في كتاب ابن حبيب: ليس على الحميل سبيل حتى يستبرأ المطلوب. وقاله مالك في كتاب محمد. ثم جلب قول سحنون: ونقل عن المفيد مثل ما نقله اللخمي عن ابن حبيب، ثم ذكر ما يفيد تقوية ما للمص. واللَّه تعالى أعلم.
وأفاد شرط أخذ أيهما شاء يعني أن رب الدين إذا اشترط أنه ياخذ أيهما أي الضامن والمدين شاء، فإن شرطه ذلك يفيده بمعنى أنه يعمل به، فإذا قال أيكما شئت أخذته بحقي فله أن يأخذ الضامن ولو كان الغريم حاضرا موسرا. وقوله:"وأفاد شرط أخذ أيهما شاء" قال ابن رشد: هذا هو المشهور المعلوم من مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها، وبه قال أصبغ ومرة قال ابن القاسم إن الشرط لا يجوز إلا في القبيح المطالبة أو ذي السلطان. اهـ. نقله البناني. وقال الشارح مفسرا للمص: يعني أن الطالب لو شرط أن يأخذ بحقه أيهما شاء فإن ذلك يفيده، قال في البيان والمقدمات، وهو المشهور عن ابن القاسم في المدونة وغيرها، وقيل لا يفيده وهو قول أشهب وابن كنانة وابن الماجشون، والقولان عن مالك وابن القاسم. اهـ. وقال عبد الباقي: وأفاد رب الدين شرط أي اشتراط أخذ أيهما المدين والحميل شاء بحقه، وفائدة هذا الاشتراط بالنسبة إلى الحميل وذلك لأنه لا يطالب بالشرط المتقدم في قوله: ولا يطالب إن حضر الغريم موسرا وهنا يطالب مطلقا، ثم إن اختار أخذ الحميل سقطت تباعته للمدين. اهـ. قوله: ثم إن اختار أخذ الحميل لخ، قال البناني: هكذا نقله الشيخ أحمد عن بعضهم وليس بظاهر. اهـ.
وتقديمه يعني أنه إذا اشترط رب الدين تقديم الحميل على المدين فإن شرطه ذلك يفيده بمعنى أنه يعمل به. قال عبد الباقي: وأفاد شرط تقديمه أي الحميل على المدين سواء اشترط براءة المدين أم لا، وإذا اختار مع عدم البراءة تقديمه فليس له مطالبة المدين إلا عند تعذر الأخذ من الحميل فيطالب المدين ويأخذ منه. اهـ. قوله: وإذا اختار مع عدم البراءة لخ انظر من قاله، وليس بظاهر لأن اشتراط تقديمه حق له. قاله الرهوني. ويرده نقل المواق ويقوي ما لعبد الباقي. وكلام المواق: ابن رشد إن اشترط المتحمل له على الحميل أن حقه عليه وأبرأ الغريم، فظاهر قول ابن القاسم أن الشرط جائز، ولا رجوع له على الغريم، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا رجوع له عليه إلا أن يموت الحميل أو يفلس، ويحتمل أن يتأول قول ابن القاسم على أنهما أبرءا الغريم جميعا من الدين فيكون إنما تكلم على غير الوجه الذي تكلم عليه في رواية ابن وهب. اهـ. ويلزم على ما للرهوني اتحاد هذا الفرع مع الفرع الذي قبله. واللَّه تعالى أعلم. وظهر أن معنى قول عبد الباقي: فإذا اختار مع عدم البراءة اختار ذلك ابتداء. واللَّه أعلم.
وعلم مما قررت أن قوله: "وتقديمه" مجرور معطوف على أخذ أو إن مات يعني أن الحميل إذا اشترط على رب الدين أنه لا يطالبه إلا بعد موت الدين معسرا فإنه يفيده شرطه ذلك، فلا يطالبه رب الدين إلا بعد موت الدين معسرا، قال عبد الباقي: أو اشترط الحميل أن لا يؤخذ منه الحق إلا إن مات المضمون معدما عمل بشرطه، فلو فلس ولم يمت لم يكن له قِبَلَ الحميل طلب، وكذا إن قال إن افتقر أو قال إن جحد أو إن أمر فيعمل بشرطه. انظر أحمد. والطخيخي. ويحتمل عود ضمير "مات" للضامن أي شرط على رب الدين أن لا يطالب إلا بعد موت الحميل، فما دام حيا لا يطالب ولو أعدم المدين. اهـ. ونحوه للخرشي والضمير في تقديمه للحميل، فالشرط وقع من الطالب على الحميل، وفي "إن مات" للغريم أو الحميل. انتهى. وقال المواق من المدونة: إن قال إن لم يوفك حقك حتى يموت فهو علي فلا شيء على الكفيل حتى يموت الغريم. ابن حارث: إن شرط الحميل بدين تقرر أنه إن مات فلا شيء على ورثته، وإن مات رب الدين فلا شيء على الحميل جاز اتفاقا ولو كان في عقدة بيع ففيه خلاف. اهـ.
كشرط ذي الوجه أو رب الدين التصديق في الإحضار تشبيه في إفادة الشرط يعني أن ضامن الوجه إذا شرط على رب الدين أنه مصدق في إحضار المدين له دون يمين، فإنه يعمل بشرطه وكذلك يعمل بشرط رب الدين على الضامن التصديق دون يمين في عدم إحضار المدين، فقوله:"في الإحضار" أي في شأن الإحضار فيصدق بالتصديق في عدم الإحضار حيث كان الشرط من رب الدين، وبالتصديق في أصل الإحضار حيث كان الشرط من الضامن. قاله غير واحد.
وله طلب المستحق بتخليصه عند أجله الضمير في "له" للضامن، والمستحق هو رب الدين، والضمير في "تخليصه" للضامن وهو من إضافة المصدر لمفعوله، ويحتمل أن يكون الضمير في تخليصه للحق؛ يعني أن الضامن له أن يطلب المستحق وهو رب الدين بأن يخلصه من الضمان بأن يقول له عند أجله أي عند حلول أجل الدين: إما أن تطلب حقك أو تسقط عني الضمان، وكذا للضامن طلب المضمون بدفع ما عليه عند أجله وإن لم يطالبه رب الدين، قال عبد الباقي: وله أي للضامن طلب المستحق وهو رب الدين وإلزامه بتخليصه أي الحق من المدين أو بتخليصه من الضامن عند حلول أجله أي الدين ولو بموت الدين أو فلسه حيث كان المضمون مليا، بأن
يقول له إما أن تطلب حقك من المدين أو تخلصني من الضمان، وكذا للضامن طلب المضمون بدفع ما عليه عند أجله وإن لم يطالبه رب الدين، خلافا لتقييد الجواهر ذلك بطلب رب الدين له ويتصور طلب رب الدين للضامن ومن عليه الدين ملي حاضر فيما إذا كان ملدا. ومفهوم الظرف أنه ليس له ذلك قبل حلول الأجل. اهـ. قوله: خلافا لتقييد الجواهر لخ، نص الجواهر: للكفيل إجبار الأصل على تخليصه إذا طولب وليس له ذلك قبل أن يطالب. انتهى. وتعقبه الحطاب بأنه مخالف لقولها في السلم الثاني، وليس للكفيل أخذ الطعام من الغريم بعد الأجل ليوصله إلى ربه، وله طلبه حتى يوصله إلى ربه ويبرأ من حمالته. انتهى. وهذا هو الملائم لقول المص: لا بتسليم المال إليه، فلو قال المص: وله طلب المديان بتخليصه عند أجله لا بتسليم المال إليه لكان حسنا. انتهى كلام الحطاب. وهو الذي اعتمده الزرقاني وغيره. انتهى. قاله البناني.
لا بتسليم المال إليه يعني أن الضامن ليس له أن يطالب المضمون أي المدين بأن يسلم المال إليه ليدفعه لربه أي لا يجبره على ذلك؛ لأنه لو أخذه منه ثم أعدم الكفيل أو فلس لكان للذي عليه الدين أن يتبع الغريم. قاله الخرشي وغيره. والطالب في هذه والتي قبلها الضامن، والمطلوب في الأولى المستحق وهو رب الدين وفي هذه المطلوب المدين.
ولما ذكر المص أنه ليس للضامن أن يجبر المضمون على أن يسلم له المال ليدفعه لرب الدين بَيَّن ما إذا وقع ذلك فقال: وضمنه إن اقتضاه يعني أن الضامن إذا قبض الحق من المدين على وجه الاقتضاء فإنه أي الضامن يضمن ما قبض، وكذا يكون الضمان لما قبض من الضامن إذا تنازع هو والمدين في وجه القبض، فقال المدين على وجه الاقتضاء، وقال الضامن على وجه الإرسال، وكذا يكون الضمان من الضامن فيما إذا عري القبض عن القرائن ومات الكفيل والأصيل، ولم يعلم هل هو على وجه الاقتضاء أو الإرسال، فهذه الصور الثلاث يضمن الحميل فيها ما قبضه من المدين أي للمدين وضامن بالحمالة لرب الدين ومعنى الاقتضاء أن يكون هو المقتضي للدين أي الآخذ له قضاء ليبرأ من حمالته وتبرأ ذمة الذي عليه الحق، فكأنه يقول أنا أصير المطلوب دونه فهذا كأنه أبرأ ذمة الذي عليه الحق وصار هو المطلوب قاله التونسي نقله الحطاب.
لا أرسل به أي بالحق يعني أنه إذا قبض الضامن الحق من المدين على وجه الإرسال بأن أرسله مع الضامن لرب الدين فتلف، فإن الضمان لا يكون من الضامن وإنما الضمان على المرسل الذي هو المدين وفي حكم الإرسال ما إذا أخذه على وجه الوكالة فتلف قبل أن ياخذه رب الدين فإنه لا ضمان على الوكيل الضامن ولا على المدين قولا واحدا، فهذه خمسة أقسام، ثلاثة منها يضمن فيها الحميل للمدين، واثنان منها لا يضمن فيها الحميل للمدين.
وقوله: "وضمنه إن اقتضاه لا أرسل به"، اعلم أن لرب الدين أن يطلب أيهما شاء كما صرح بذلك الرجراجي وغيره؛ يعني في جميع الأقسام ما عدا توكيل رب الدين للحميل، قال الحطاب: وهذه المسألة في السلم الثاني من المدونة فيمن أسلم في طعام وأخذ كفيلا، ونص كلام الرجراجي لا يخلو قبض الكفيل للطعام من الذي عليه السلم من خمسة أوجه: الأول أن يقبضه على معنى الرسالة فلا يخلو الطعام من أن يكون قائما بيده أو فائتا، فإن كان قائما فالطالب مخير إن شاء اتبع الكفيل وإن شاء اتبع الأصل ولا خلاف في ذلك، وإن فات الطعام فلا يخلو من أن يكون بتلف أو إتلاف فإن كان بتلف فهو مصدق ولا ضمان عليه ويبقى عليه الطلب بطريق الكفالة خاصة، ثم يجري على الخلاف المعهود في الحمالة هل المطالبة على التبدئة أو على التخيير، وإن كان بإتلاف من الكفيل فهو ضامن للأصل مثل ذلك الطعام فإن غرم الكفيل الطعام للطالب فلا تراجع بينه وبين الأصل، فإن غرمه الأصل لرب الدين فإنه يرجع على الكفيل بمثل طعامه أو أخذ ثمنه إن باعه ولا خلاف في هذا الوجه، وإن غرم الكفيل الطعام للطالب بعد أن باع ما أخذ من الأصل فأراد الأصل أن يدفع له مثل ما غرم من الطعام ويأخذ منه الثمن فليس له ذلك.
الثاني أن يقبضه على معنى الوكالة، فإذا قبضه برئت ذمة الأصل قولا واحدا فإن الطالب يجوز له بيعه بقبض الكفيل، فإن تعدى عليه الكفيل بعد صحة قبضه فالعداء على الطالب وقع بلا إشكال.
الثالث أن يقبضه على معنى الاقتضاء إما بحكم حاكم على وجه يصح الاقتضاء بذلك، كما إذا غاب الطالب وحل الأجل وخاف الكفيل إعدام الأصل، وبهذا تأول ما وقع في المدونة من قوله:"قبضه" بحكم قاض، أو يكون قبضه برضى الذي عليه الطعام من غير حكم فالكفيل في هذا الوجه ضامن بوضع اليد على الطعام، وذمته به أو بمثله عامرة حتى يوصله إلى الطالب، وللطالب مطالبة
من شاء منهما اتفاقا مع قيام الطعام بيد الكفيل أو فواته، فإن غرم الأصل كان له الرجوع على الكفيل بطعامه أو مثله إن استهلكه، أو بثمنه إن باعه إن شاء أخْذَ الثمن، ولا يجوز للطالب أن يبيعه بذلك القبض إن كان قائما ولا أخذ ثمنه إن باعه؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل قبضه، فإن أخذ منه الطالب مثل طعامه بعد أن باع ما اقتضاه كان الثمن سائغا له، فإن أراد الأصل أن يدفع له مثل ما غرم من الطعام ويأخذ منه الثمن فليس له ذلك.
الرابع إذا اختلفا في صفة القبض الكفيل يدعي أنه قبضه على معنى الرسالة، والأصل يقول بل على معنى الاقتضاء، فقد اختلف فيه المذهب على قولين قائمين من المدونة أحدهما: أن القول قول الأصل وهو قول ملك في كتاب القراض حيث قال: إذا قال القابض قبضته على معنى الوديعة، وقال رب المال: بل قرضا إن القول قول رب المال، والثاني: أن القول قول القابض وهو قول أشهب وغيره وظاهر المدونة في غير موضع.
وسبب الخلاف تعارض أصلين أحدهما أنهما قد اتفقا على أن المال المقبوض للدافع ولا شيء فيه للقابض وهو قد أقر بقبضه ثم ادعى ما يسقط الضمان عنه، فكان الأصل أن لا يقبل، والأصول موضوعة على أن وضع اليد في مال الغير بغير شبهة توجب الضمان، وبهذا قلنا القول قول الأصيل، والأصل الثاني أن الأصل في الحظر والإباحة إذا اجتمعا أن يغلب حكم الحظر والكفيل هاهنا قد ادعى قبضا صحيحا والأصيل قد ادعى قبضا فاسدا، فوجب أن يكون القول قول القابض الذي هو الكفيل؛ لأنه قوله قد أشبه وقد ادعى أمرا مباحا، والأصيل قد ادعى الفساد لأن الكفيل لا يجوز له قبض الطعام من المكفول، وإنما عليه مطالبته ليدفعه إلى الطالب لكي يبرأ من الكفالة، فإذا ادعى عليه أنه قبضه على الاقتضاء فقد ادعى أمرا محظورا، فوجب أن لا يصدق.
قال مقيد هذا الشرح عفا اللَّه تعالى عنه: قوله والأصل الثاني أن الأصل في الحظر والإباحة إذا اجتمعا أن يغلب حكم الحظر، صوابه حكم الإباحة قطعا، وهذا إنما يحمل على تحريف الناسخ لا على المؤلف. واللَّه تعالى أعلم.
الخامس: إذا أبهم الأمر وعَرِي عن القرائن وقد مات الكفيل والأصيل، هل يحمل على الرسالة حتى يثبت الاقتضاء أو على الاقتضاء حتى تثبت الرسالة؟ فهذا مما يتخرج فيه قولان. اهـ. ولم
يذكر في الوجه الأول إذا قبضه على معنى الرسالة وادعى التلف أنه يحلف، وقال ابن رشد في شرح أول مسألة من سماع عيسى من كتاب الكفالة: وإن قبض على معنى الرسالة من الدافع فالضمان من الدافع والمصيبة منه بعد يمين القابض على ما ادعاه من التلف، ويبقى الحق عليهما على ما كان قبل. اهـ. وقال الشيخ أبو الحسن عن ابن يونس: قال ابن المواز: والقول قول الحميل في ضياعه بغير يمين لأنه مؤتمن وإن اتهم أحلف. انتهى.
وقال ابن رشد في الوجه الثاني: إذا قبضه على معنى الوكالة فهو مصدق على ما يدعي من التلف مع يمينه إذا اتهم كالمودع، وإذا صدق فيما يدعى من التلف وكانت المصيبة من الطالب فيبرأ المطلوب وسقطت الكفالة، وهذا إذا كانت له بينة على معاينة الدفع، وأما إذا لم تكن له بينة فلا يبرأ بتصديق القابض إذا ادعى التلف، ولا اختلاف في هذا إلا أن يدخله الاختلاف بالمعنى من مسألة الولد من كتاب الوكالات من المدونة، وإنما اختلف إذا غرم الدافع هل له أن يرجع على القابض أم لا؟ فقال مطرف: يرجع لأنه فرط في دفع ذلك إلى الذي وكله حتى تلف، وقال: لا يرجع
(1)
حتى يتبين مند تفريط وهذا إذا قامت
(2)
بينة على الوكالة أو أقر بها، وأما إذا ادعاها الوكيل فقيل القول قوله وقيل القول قول الموكل. اهـ.
وقوله في الوجه الثالث إذا قبضه على وجه الاقتضاء إن الكفيل ضامن سواء قبضه بحكم حاكم أو برضى من عليه الحق، في كلام أبي الحسن خلافه؛ لأنه قال: قوله بقضاء سلطان، قال عبد الحق: قال ابن وضاح: إن سحنون أنكر هذا اللفظ، وقال: ليس للسلطان هنا حكم، قال: ورأيت في ما أملاه بعض مشايخنا أنه قال: معناه أن يكون الذي عليه الحق غاب غيبة بعيدة فحل الأجل فقام الكفيل على الذي عليه الحق، وقال: أخشى أن يعدم إلى أن يقوم الذي عليه الحق فإذا أغْرَمُ أنا فإن السلطان ينظر، فإن كان الذي عليه الحق مليا فلا يكون للحميل عليه شيء، وإن كان يخاف عليه العدم أو كان ملدا قضى عليه السلطان بالحق وأبرأه منه وجعل على يد رجل عدل أو على يد الكفيل إن كان ثقة. ونقله ابن محرز عن فضل بن سلمة.
(1)
في البيان ج 11 ص 305: وقال ابن الماجشون: لا يرجع الخ.
(2)
في الأصل: أقامت، والمثبت من البيان ج 11 ص 305.
قال الشيخ: إلا أن في هذا إحالة للمسألة عن وجهها؛ إذ لا ضمان في هذا الفرض الذي ذكر، ومسألة الكتاب فيها الضمان فتأمل ذلك. اهـ. كلام الشيخ أبي الحسن. وما قاله الشيخ أبو الحسن صرح به في الذخيرة في الحكم السادس والعشرين من الباب الثاني من كتاب الكفالة، ونصه: وإذا أراد الحميل أخذ الحق بعد محله والطالب غائب، وقال: أخاف أن يفلس وهو ممن يخاف عدمه قبل قدوم الطالب أو لا يخاف إلا أنه كثير اللدد والمطل مكن من ذلك، فإن كان الحميل أمينا أقر عندد وإلا أودع لبراءة الحميل والغريم، وضمان المال من الغائب لأنه قبض له بالحاكم وإن كان المطلوب مليا وفيا لا يوخذ منه شيء لعدم الضرورة.
وقال في المدونة في الوجه الثالث: لو قضاه الغريم متبرعا أو باقتضاء من الكفيل، قال الشيخ أبو الحسن عن ابن يونس: معنى متبرعا أنه اقتضاه بدفع ذلك إليه متبرعا ولم يكلفه أن يقضي عليه سلطان. وأما لو لم يقتضه فتبرع الغريم بدفع ذلك إليه فظاهر هذا أنه على الرسالة. عبد الحق: إن قيل إذا قبضه الكفيل بأي وجه يعلم قبضه إياه إذا وقع مجملا؟ فالجواب أنه إذا لم تكن قرينة تدل على الاقتضاء أو الرسالة، فهاهنا إن كان المطلوب قد تبرع بدفعه للكفيل حمل على الرسالة وإن كان الكفيل اقتضاه فهو على الاقتضاء فيضمنه، وإن قال: خذه على أني بريء منه أو نحو هذا من الكلام فهذه تدل على الاقتضاء فيضمنه قابضه وإن لم يسأله الكفيل به فيه. اهـ.
تنبيهات:
الأول: اعلم أن البناني قرر المص بقوله: فقول المص: "إن اقتضاه" يعني أو تنازعا فقال المدين اقتضاء وقال الضامن رسالة، فالقول للمدين وكذا لو انبهم الأمر، وقوله:"لا أرسل به" أي حقيقة أو حكما بأن يقبضه على وجه الوكالة من رب الدين. اهـ. وبان من ما مر أنه لو سأل الحميل رب الدين القضاء فدفعه له أن ذلك اقتضاء، أو دفع له الحق وقال أنا بريء منه، وإن لم يسأله الحميل أن يدفع له الحق فذلك اقتضاء أيضا، وأنه إن تنازع معه في أنه قبضه على وجه الاقتضاء أو الرسالة فإن القول للمدين أنه على وجه الاقتضاء، كما لو تنازع معه في كونه على وجه الاقتضاء أو الوكالة، فإن دفعه من غير سؤال ولم يقل خذه وأنا بريء منه فهذا يحمل على الرسالة. فَتَحَصَّل من هذا أنه إن وقع التصريح بالاقتضاء أو الرسالة وثبت ذلك فالأمر ظاهر، وأنه إن اختلفا في المصرح به من ذلك فإنه يحمل على الاقتضاء، وقد علمت أن الوكالة في حكم الرسالة،
فإن انبهم الأمر بأن دفعه له ولم يصرحوا بشيء فإن كان ذلك بعد سؤال الحميل للدفع فهو اقتضاء، وكذا لو قامت على الاقتضاء قرينة كما لو قال له: خذه وأنا بريء منه سأله أم لا، وأنه لو دفعه له ولم يسأله ولم يقل المدين خذه وأنا بريء منه لكان هذا من حكم الرسالة.
الثاني: قال الحطاب: قد تقدم في كلام الرجراجي أنه لا يجوز للكفيل أن يأخذ الحق على وجه الاقتضاء من الغريم فاعلمه، وقد تقدمت الإشارة إلى بعض عبارة التهذيب فينبغي أن نذكرها بكمالها هنا، قال: وإذا قبض الكفيل الطعام من الغريم بعد الأجل ليؤديه إليك فتلف عنده، فإن أخذه على الاقتضاء ضمنه قامت بهلاكه بينة أو لا، كان مما يغاب عليه أو لا، قضاه ذلك الغريم متبرعا أو باقتضاء من الكفيل بقضاء سلطان أو غيره، وأما إن قبضه الكفيل بمعنى الرسالة لم يضمن. اهـ. قال أبو الحسن: إنما ضمنه إذا أخذه على الاقتضاء لأنه تعد فهو ضمان عداء فلذلك ضمنه ولو قامت البينة.
الثالث: قال الشارح: ونصها -يعني المدونة-: وإذا دفع الغريم الحق إلى الكفيل وضاع، فإن كان على الاقتضاء ضمنه الكفيل قامت بهلاكه بينة أم لا، عينا كان أو عرضا أو حيوانا لأنه متعد، وإن كان على إرساله لم يضمنه وهو من الغريم حتى يصل إلى الطالب. اهـ.
قال عبد الباقي: ولما ذكر أن للكفيل طلب المستحق بتحصيله عند الأجل إن سكت أو أخره وله أن لا يرضى بتأخيره، شرع في جلب كلام البيان حيث قال: وإذا أخر الطالب الغريم فلا يخلو إما أن يكون مليا أو معدما، فإن كان معدما فلا كلام للحميل باتفاق، وإليه أشار بقوله: ولزمه تأخير ربه المعسر يعني أن رب الدين إذا أنظر المدين المعسر أي أخره شهرا مثلا، فإن الضامن يلزمه ذلك التأخير لوجوب إنظار المعسر والتأخير رفق بالحميل، ومعنى لزوم التأخير للضامن أن الضامن إذا قال لرب الدين: تأخيرك للمدين ابراء لي فإنه لا يصدق في ذلك والكفالة لازمة له، فعند حلول الأجل المؤخر إليه يلزمه القضاء مع عسر المدين، قال عبد الباقي: ولزمه أي لزم الضامن تأخير ربه أي الدين المدين المعسر لوجوب إنظاره والتأخير رفق بالحميل. اهـ.
ومفهوم قوله: "المعسر" إذا أخره وهو موسر ففيه تفصيل ذكره ابن رشد، قال غير واحد: قال ابن رشد: وإن كان الغريم موسرا فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أن يعلم ويسكت، أو لا يعلم حتى يحل
الأجل الذي أنظره إليه، أو يعلم فينكر، أشار إلى الوجه الأول بقوله: أو الموسر إن سكت يعني أن رب الدين إذا أخر المدين الموسر شهرين -مثلا- وسكت الضامن بعد علمه بذلك التأخير مقدار ما يرى عرفا أنه رضي ببقائه على الضمان، فإن الضامن يلزمه ذلك التأخير أي يلزمه بقاؤه على الضمان مع التأخير المذكور، قال عبد الباقي: أو تأخير ربه المدين الموسر يلزم الضامن بقاؤه على الضمان إن سكت الضامن بعد علمه بالتأخير مقدار ما يرى عرفا أنه رضي ببقائه على الضمان والشرط راجع للثانية، والظاهر أنه لو سكت وادعى الجهل يعذر به؛ إذ ليس هذا مما لا يعذر فيه بالجهل.
وعطف على "سكت" الوجه الثاني في كلام ابن رشد فقال: أو لم يعلم إن حلف أنه لم يؤخره مسقطا يعني أن رب الدين إذا أخر المدين الموسر مدة ولم يعلم الحميل بالتأخير حتى حل الأجل الثاني بأن انقضت المدة المذكورة والحال أن الغريم قد أعسر، فإن الضمان يلزمه بقاؤه ولا يكون تأخير رب الدين المذكور إبراء له بشرط أن يحلف رب الدين أنه لم يؤخر المدين مسقطا للضمان عن الضامن ويؤخذ الحق من الضامن عاجلا، فإن نكل سقط الضمان.
وعلم مما قررت أن الموضوع أنه أخره وهو موسر ثم حل الأجل الثاني وهو معسر، وهذا الذي قررت به المص هو الذي قرره به غير واحد كالأجهوري ومن تبعه، ورد عليه التاودي بأن محل قول ابن القاسم هذا إذا كان الغريم موسرا عند الأجلين، فلو كان موسرا يوم حل الأجل الأول ثم أعسر الآن لم يكن له على الحميل شيء؛ لأنه فرط في حقه حتى تلف مال غريمه ولم يعلم الكفيل فيعد راضيا. نقله عن الحطاب عن اللخمي. ورد ذلك الرهوني وقال: إن الصواب ما قاله الأجهوري ومن تبعه لا ما قاله اللخمي وإن سلمه الحطاب، وقال: فيه نظر من وجهين: أحدهما أنه لا تظهر ثمرة لصحة الحمالة مع يسر الغريم عند حلول الأجل الثاني إلا أن يكون غائبا إذ لا يطالب على مذهبه إن حضر الغريم موسرا، ثانيهما: أن ما قاله مخالف لظاهر قول ابن القاسم في سماع يحيى، ولصريح قول مالك في رسم الأقضية من سماع القرينين من كتاب الحمالة، ثم قال بعد جلب النقل ما نصه: فكلام ابن رشد صريح في أن الغريم معسر كما قاله الأجهوري ومن تبعه. اهـ المراد منه.
والحاصل أن قوله: "أو لم يعلم إن حلف أنه لم يؤخره مسقطا" حمالة الكفيل فيه باقية أعسر عند الأجل الثاني أو استمر موسرا، وقوله:. "إن حلف قال البناني: شرط في لزوم الضمان كما دل عليه كلام الزرقاني، لا في لزوم التأخير كما يقتضيه كلام المص، إذ لا يعقل عدم لزوم التأخير مع أن الأجل المؤخر إليه قد مضى. واللَّه تعالى أعلم.
وأشار إلى الوجه الثالث بقوله: وإن أنكر حلف أنه لم يسقط يعني أن رب الدين إذا أخر مدينه الموسر، ثم إن الضامن علم بالتأخير المذكور وحين علم به أنكره أي لم يرض به، وقال للطالب: تأخيرك ابراء لي من الضمان، فإن رب الدين يحلف أنه لم يسقط الضمان أي يحلف أنه غير مسقط للضمان بسبب تأخيره للمدين، فإذا حلف لزم الضامن الضمان ويبقى الحق حالا، قال عبد الباقي: وإن أنكر الضامن التأخير أي لم يرض به حين علمه، وقال للطالب: تأخيرك ابراء لي من الضمان حلف رب الدين أنه لم يسقط أي أنه غير مسقط للضمان بتأخيره ولزمه الضمان، وسقط التأخير عن الضامن فيؤخذ منه الحق عاجلا ويرجع به عند حلول أجل التأخير على المدين، فإن نكل رب الدين سقط الضمان ولزمه التأخير. قاله الشارح في الكبير وهو الصواب. اهـ المراد منه. قوله: وسقط التأخير عن الضامن لخ، قال البناني: فيه نظر، والصواب أنه يسقط التأخير بالكلية كما في عبارة ابن رشد وابن عرفة وابن غازي والحطاب وغيرهم، ثم قال: إنه مخالف للنقل، ونحوه للرهوني فصريح ماله أنه إن حلف لا يلزمه التأخير أي فيكون حالا على الغريم أيضا. واللَّه تعلى أعلم. وقال ابن عرفة: قال ابن رشد في آخر سماع أشهب: إن أخره معدما فلا حجة لحميله، وإن أخره مليا فأنكر حميله ففي سقوط حمالته وبقائها: ثالثها إن أسقط الحمالة صح تأخيره وإلا حلف ما أخر إلا على بقائها وسقط تأخيره، وإن نكل لزمه وسقطت الكفالة للغير فيها وغيره، وابن القاسم فيها وإن علم وسكت لحلول الأجل ففيها مع هذا السماع وسماع يحيى ابن القاسم: الحمالة لازمة، ويدخله الخلاف المعلوم: هل السكوت كالإقرار أم لا؟ وإن لم يعلم حتى حل الأجل حلف ما أخره إسقاطا للحمالة ولزمت، فإن نكل سقطت. هذا كله في التأخير الكثير. واليسير لا حجة فيه للحميل. اهـ. قوله: فسكت حتى حل الأجل، ظاهره أنه إذا قام قبل انقضاء الأجل فإن حكمه حكم ما إذا قام بمجرد علمه، ولكن قوله: ويدخل فيه الاختلاف المعلوم لخ يفيد
أنه إذا سكت مدة يعد فيها راضيا فإنه لا قيام له بعد، وعلى هذا حمل المدونة أبو الحسن، قاك أبو علي: قال العبدوسي: وهما تاويلان للمتأخرين. اهـ.
وتأخير غريمه بتأخيره يعني أن رب الدين إذا أخر الضامن فإنه يكون ذلك تأخيرا للغريم أي المدين، قوله:"وتأخير" عطف على قوله: "تأخير" فاعل لزمه، والغريم هنا المدين والضمير المضاف إليه غريمه عائد على رب الدين، قال الخرشي: والمعنى أن صاحب الدين إذا أخر الحميل بالدين بعد حلوله إلى أجل فإنه يلزم منه تأخير الغريم الذي عليه الدين.
إلا أن يحلف يعني أن محل لزوم تأخير الغريم بتأخير الضامن إنما هو حيث لم يحلف رب الدين أنه إنما أراد بالتأخير الحميل فقط، وأما إن حلف أنه إنما أراد بالتأخير الحميل فقط دون المدين فإن لرب الدين أن يطالب الغريم بالدين؛ لأنه إذا وضع الحمالة كان له طلب الغريم إن قال وضعت الحمالة دون الحق، فإن نكل رب الدين عن اليمين فإنه يلزمه تأخير الغريم، قال عبد الباقي: فإن قلت ما فائدة تأخير الضامن مع حضور المدين موسرا وعدم مطالبة الضامن حينئذ؟ قلت: إنما تظهر فيما إذا نكل رب الدين عن اليمين فإنه يلزمه إنظار المدين كما مر. اهـ. وقال غير واحد: واسْتُشْكِلَ قوله: "وتأخير" لخ بأنه لا يتأتَّى على الرواية المشهورة من أن رب الدين لا يطالب إن حضر الغريم موسرا وأجيب بأنه أخره والمدين معسر أو غائب، فإن أيسر في أثناء أجل تأخير الضامن أو قدم مليا أثناءه لم يطالب حتى يحل الأجل الذي أخر رب الدين الضامن له. انتهى.
وبطل إن فسد متحمل به يعني أن الضمان يبطل إذا فسد المتحمل به قولا واحدا إذا وقعت الحمالة بعد العقد الفاسد، وعلى المشهور إذا كانت الكفالة في أصل البيع الفاسد، قال الخرشي: المشهور أن الحمالة تسقط عن الضامن إذا كان المتحمل به فاسدا، كما إذا قال شخص لآخر: ادفع لهذا دينارا في دينارين إلى شهر أو ادفع له دراهم في دنانير إلى شهر وأنا حميل لك بذلك، وأما إذا وقعت الحمالة بذلك بعد انبرام العقد فلا خلاف في سقوطها. اهـ.
وقال الحطاب عند قوله: "وبطل إن فسد متحمل به" ما نصه: هذا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرها في التوضيح وهي في البيان، قال في البيان في رسم العرية من سماع عيسى من الكفالة بعد أن ذكر
الخلاف: وهذا الاختلاف كله إنما هو إذا كانت الكفالة في أصل البيع الفاسد، وأمَّا إن كانت بعد العقد الفاسد فهي ساقطة قولا واحدا. اهـ. وقال الشارح: يعني أن الضمان يبطل بفساد الدين وهو المراد بالمتحمل به، كما إذا أعطاه دينارا بدينارين إلى شهر أو دراهم بدنانير إلى شهر أو بالعكس وتحمل له رجل بذلك، وما ذكره من البطلان هو قول ابن القاسم في المدونة والعتبية، ورواه عن مالك وبه قال ابن عبد الحكم، ونحوه في كتاب محمد فإن فيه: وكل حمالة وقعت على حرام بين المتبايعين في أول أمرهما أو بعد فهي ساقطة، ولا يلزم الحميل علم المتبايعان بحرام ذلك أو جهلاه علم بذلك الحميل أو جهله.
ولابن القاسم في العتبية قولان آخران أحدهما وهو قول الغير في المدونة وقول سحنون في نوازله أن الحمالة لازمة للحميل على كل حال، علم الحميل بفساد البيع أم لا؛ لأن الحميل هو الذي أدخل صاحب الدين في دفع ماله للثقة به، فعليه الأقل من قيمة السلعة أو الثمن الذي تحمل به، والقول الآخر أن الحميل يلزمه الضمان فيما دفع الطالب إن علم بالفساد، وإن لم يعلم بالفساد فالحمالة ساقطة عنه، قال ابن القاسم في العتبية في الذي يعطي دينارا في دينارين ويتحمل له رجل بالدينارين: إن كان علم بعلتهما فعليه الدينار الذي أعطى في أصل البيع الفاسد، وأما إن لم يعلم فلا شيء عليه لأنه يقول: لو علمت لم أتحمل ولم أدخل في الحرام، وهذا الخلاف إنما هو إذا كانت الحمالة في أصل البيع الفاسد، وأما إن كانت بعد العقد الفاسد فلا خلاف في سقوط الحمالة. اهـ.
وقوله: وبطل إن فسد متحمل به" قال عبد الباقي: ظاهره سواء لزم في المتحمل به القيمة لفواته أم لا، وقد مشى في الرهن على بطلان الرهن في البيع الفاسد إذا ظن فيه اللزوم، وهو موافق لهذا إذ لا فرق بين الرهن والضمان، ولكن اعتُرِضَ عليه هناك بأنه يكون رهنا في القيمة، وسُلّم كلامه هنا لكونه موافقا للمدونة، وعلى الاعتراض يحتاج للفرق بين البابين. اهـ الراد منه. الرهوني: الفرق بينهما واللَّه أعلم أن الحمالة معروف التزمه الحميل على نفسه في شيء خاص وهو ثمن البيع، والقاعدة أنه لا يلزم الإنسان من المعروف إلا ما التزمه، وبراءة المشتري من الثمن براءة للحميل منه. اهـ.
أو فسدت يعني أن الضمان يبطل إذا فسدت الحمالة شرعا بأن حرمت، واستعمل المص البطلان في المعلق بمعناه الحقيقي وهو عدم الاعتداد به، واستعمل الفساد في المعلق عليه ومعناه الحرمة فلم يتحد العلق والمعلق عليه.
كبجعل من غير ربه لمدينه مثال للحمالة الفاسدة؛ يعني أن الحمالة الفاسدة هي أن يعطي للضامن جعلا على ضمانه كان من رب الدين أو المدين أو غيرهما فهذه ثلاث صور، وكذا الجعل للأجنبي كما لو قال الحميل أنا أتحمل لك على أن تعطي لفلان غير الغريم دينارا، وبقيت صورتان إحداهما جائزة وهي الجعل من رب الدين للمدين على أن يأتي له بضامن وهذه مفهوم المص، الثانية الجعل من أجنبي للمدين على أن يأتي لرب الدين بضامن، وهذه داخلة في منطوق المص، فكلامه كالصريح في أنها ممنوعة وليس الأمر كذلك بل جائزة كصورة المفهوم فهي واردة على منطوق المص. واللَّه تعالى أعلم.
فقوله: "كبجعل" معناه مثال ما إذا فسدت الحمالة إن وقعت بجعل من غير ربه أي الدين للمدين، وذلك صادق بما إذا كان الجعل للضامن مطلقا أو من أجنبي للمدين على أن يأتي بضامن، وهذه الصورة الأخيرة قد علمت جوازها وأنها واردة على منطوق المص، ومَفهُومُه صورة واحدة وهي الجعل من رب الدين للمدين على أن يأتي بضامن وهي جائزة كما عرفت، وكلام المص كالصريح في بطلان الضمان في هذه الوجوه كلها. ويأتي عن البناني تقييد ذلك عن اللخمي، وقال الحطاب: ظاهر المص أن الضمان يسقط في جميع الوجوه، ونقل ابن عرفة عن اللخمي خلافه. اهـ. وفي نسخة:"أو فسدت بكجعل من غير ربه" وهي بمعنى التي شرحت عليها.
فرع:
قال الرهوني: مما يترتب على أن الحمالة معروف أنه إذا اشترى الإنسان شيئا ولم يشترط المشتري على البائع ضامن الدرك للعيب والاستحقاق ثم طلب، منه ذلك فإنه لا يلزمه، وهذه نازلة كثيرة الوقوع ويقع الخطأ فيها كثيرا فإنهم يكلفونهم بذلك فإن عجز خيروا المشتري في فسخ العقد ولا سلف لهم في ذلك وهو مخالف للمنصوص، ففي رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الحمالة ما نصه: وسئل مالك عن الرجل يشتري الجارية من الغريب فإذا كان بعد يوم أو يومين سأله المعرفة؟ قال مالك ليس ذلك له إلا أن يكون اشترط ذلك عند بيعه، ثم قال: أرأيت
الإبل والغنم أيلزم أهلها معرفة؟ أرأيت أهل منى أيراد منهم معرفة؟ ليس ذلك عليهم. اهـ. وسلمه حافظ المذهب ابن رشد ولم يحك خلافه.
تنبيهات:
الأول: قوله: "أو فسدت بكجعل" لخ اعلم أنه ذُكِر للمنع في ضمان بجعل علتان: أولاهما أن ذلك من بياعات الغرر؛ لأن من أخذ عشرة على أن يتحمل بمائة لم يدر هل يفلس من تحمل عنه أو يغيب فيخسر مائة ولم يأخذ إلا عشرة، أو يسلم من الغرامة فيأخذ العشرة. ثانيتهما: أنه دائر بين أمرين ممنوعين؛ لأنه إن أدى الغريم كان له الجعل باطلا، وإن أدى الحميل صار كأنه أسلف ما ودى وربح الجعل فكان سلف بزيادة. اهـ باختصار.
والبطلان مقيد بكون الجعل من رب الدين أو من غيره وعلم به رب الدين وإلا لزمت الحمالة ورد الجعل، قال ابن الناظم في شرح التحفة: اعلم أن الجعل إن كان للحميل رد الجعل قولا واحدا، ويفترق الجواب في ثبوت الحمالة وسقوطها وفي البيع وفساده على ثلاثة أوجه، فتارة تسقط الحمالة ويثبت البيع، وتارة تثبت الحمالة والبيع، والثالث يختلف فيه في الحمالة والبيع جميعا، فإن كان الجعل من البائع كانت الحمالة ساقطة لأنها بعوض ولم يصح، والبيع صحيح لأن المشتري لا مدخل له فيما فعل البائع مع الحميل، وإن كان الجعل من المشتري يعني أو من أجنبي والبائع غير عالم به فالحمالة لازمة كالبيع؛ لأن الحميل غر البائع حتى أخرج سلعته، واختلف إذا علم البائع فقال ابن القاسم في كتاب محمد: تسقط الحمالة يريد ويكون البائع بالخيار في سلعته، وقال محمد: الحمالة لازمة وإن علم البائع إذا لم يكن لصاحب الحق في ذلك سبب. اهـ باختصار. وأصله للخمي. انظر الحطاب قاله البناني. وقال الرهوني: قال ابن عرفة ما نصه: والضمان بجعل لا يجوز، قال ابن القطان عن صاحب الإنباه: أجمع العلماء على ذلك. اهـ منه بلفظه.
قلت: إنما وجدته لابن القطان عن الإشراف لا عن الإنباه، والعلماء متفقون على أن للضامن أن يرجع على المضمون بما ضمن عنه بأمره. اهـ من إقناعه بلفظه من نسخة حسنة متقنة جدا. وقول البناني: فقال ابن القاسم في كتاب محمد تسقط الحمالة لخ لم يقابل قول محمد إلا بهذا، وفي التوضيح ما نصه: ابن القاسم في الموازية والواضحة: وإن علم بذلك الطالب سقطت الحمالة وإلا رد الجعل والحمالة تأمله وقاله مطرف وابن الماجشون وابن وهب وأصبغ. اهـ منه بلفظه. وقد اقتصر
ابن عرفة على كلام اللخمي كما فصل ابن الناظم فلم يزد على قوله: "ولو علم البائع بذلك" ففي سقوط الحمالة قولا ابن القاسم ومحمد، قائلا: إن لم يكن للبائع في ذلك سبب. اللخمي: وعلى الأول يخير في إمضاء البيع دون حمالة وفسخة. اهـ.
الثاني: قال الحطاب: قال في الذخيرة في النوادر: قال عبد الملك: إذا بعت مُوَلَّى وأخذت حميلا بالثمن فرد ذلك السلطان وأسقطه عن المولَّى، فإن جهلت أنت والحميل حاله لزمت الحمالة لأنه أدخلك فيما لو شئت كشفته، وإن دخلت في ذلك بعلم سقطت الحمالة علم الحميل أم لا لبطلان أصلها. اهـ. قال الرهوني: اقتصاره على ذلك يوهم أنه الذهب كله أو راجحه وليس كذلك، ففي نوازل أصبغ من كتاب الحمالة: وسئل أصبغ عن الرجل يشتري من البكر والموَلَّى عليه ويتخذ عليه حميلا بما لزمه من قبله أو من قبلها من درك، هل يَلْزَمُ الحميل حمالته إذا فسخ بيع السفيه أو البكر وأبطل الثمن عنهما لفسادهما، وأنهما لم يدخلاه في منفعة ويُعْدَى عليه المشتري بالثمن كما اشترط في حمالته، وكيف إن لم يذكر حمالته وقال: إنما أشتري منه على أنك ضامن لما أدركني من قبله؟ قال أصبغ: الحمالة لازمة ولا تسقط لأنه ليس فيها حرام تسقط به إنما ضمن ما دفع إلى السفيه فهو كدافعه إليه ويغرمه ويسقط عنه ولا يتبعه به، فأما ضمان ما أدرك منه فلا أراه شيئا إلا أن يكون السفيه هو القائم بذلك عن نفسه ولنفسه حتى فسخ له الشراء وأبطل ماله بمعاملته قام بذلك عن نفسه فقضي له أو حسنت حاله فقام به قيام صحة، فإن كان كذلك رأيت الضامن ضامنا لأنه أدركه منه وإلا فلا.
قال القاضي رضي الله عنه: ألزم أصبغ من تحمل للمشتري عن البكر أو المولى عليه بما لزمه من قبل كل واحد منهما ما التزمه، وكذلك إذا ضمن ذلك عنهما، وفي قوله في السؤال: وكيف إن لم يذكر حمالة وإنما قال إنما أشتري منه على أنك ضامن لما أدركني من قبله دليل على أن الحمالة ألزم عنده من الضمان في ذلك وإن كانا عنده جميعا لازمين فيه، والأظهر أن يكون الضمان في ذلك ألزم من الحمالة وإن لزما جميعا؛ لأن السفيه لا يرجع عليه والحمالة تقتضي الرجوع والضمان يحتمل الحمل الذي لا رجوع فيه والحمالة التي فيها الرجوع، فاللفظ الذي يحتمل الحمل فيما لا رجوع فيه، ينبغي أن يكون ألزم من اللفظ الذي لا يحتمل الحمل فيما لا رجوع فيه وظاهر قول
أصبغ إلزام الحميل الحمالة وإن لم يعلم بسفه الذي تحمل عنه وهو مذهب ابن القاسم، ومعنى ذلك عندي إذا لم يعلم بذلك المتحمل له أيضا.
ثم ذكر أن الصور أربع: جهلا (1) معا هي محل الخلاف بين ابن القاسم وابن الماجشون، فابن القاسم يقول بلزوم الحمالة، وابن الماجشون يقول بسقوطها، علما (2) جميعا لزمته الحمالة قولا واحدا، علم (3) الحميل وجهل المتحمل له لزمته الحمالة قولا واحدا أيضا، جهل (4) الحميل وعلم المتحمل له لم تلزم قولا واحدا. ثم ذكر عن ابن الماجشون أنه يقول بسقوط الحمالة فيما إذا علما جميعا واستبعده. واللَّه تعالى أعلم.
الثالث: قال في رسم باع شاة: وسئل عن نصراني أسلف نصرانيا خمرا أو خنزيرا وتحمل له نصراني بالخمر والخنزير، فأسلم الحميل وأعدم الذي عليه الحق، قال: فليس على الحميل الذي أسلم شيء ويتبع النصراني غريمه النصراني، قال ابن القاسم: وكل حمالة كان أصل شرائها حراما فليس على المتحمل فيها مما تحمل شيء. اهـ.
وبالغ على بطلان الضمان حيث فسدت الحمالة بقوله: وإن كان الجعل حصل للضامن بضمان مضمونه يعني أن الضامن بجعل باطل وإن كان ذلك الجعل هو نفس ضمان المضمون أي المدين، واعلم أن المصدر مضاف إلى فاعله فيصدق بصورتين: أن يضمن مضمونه دينا له أو دينا عليه، بأن يبيع زيد لعمرو سلعة ويضمن عمرا بكر أي يضمن الثمن الذي عليه لزيد بشرط أن يضمن عمرو دينا لبكر على حارثة مثلا وهذه صورة، الثانية: أن يتداين رجلان دينا من رجل أو رجلين ويضمن كل منهما صاحبه فيما عليه لرب الدين فيمنع، وهذا إن دخلا عليه كما عرفت، قال المواق: قال ابن الحاجب: لا يجوز ضمان بجعل ولذلك امتنع أن يضمن صاحبه ليضمنه الآخر ومن المدونة: إن باعا سلعتيهما في صفقة على أن أحدهما بالآخر كفيل لم يجز، وكأنه ابتاع من الملي على أن يتحمل له بالمعدم. ابن الكاتب: اتفاقا من ابن القاسم وأشهب. اهـ.
إلا في اشتراء شيء بينهما هذا مستثنى من قوله: "وإن بضمان مضمونه" قال الخرشي: واستثنى من ذلك ما مضى به عمل الماضين بقوله: "إلا في اشتراء" لخ، ومعنى كلامه أنهما إذا اشتريا قطيفة مثلا بينهما بمائة درهم على أن كل واحد منهما ضامن للخمسين التي على صاحبه فإن ذلك
يجوز، قال عبد الباقي: إلا في اشتراء شيء معين بينهما شركة، ويضمن كل منهما الآخر في قدر ما ضمنه فيه فإنه جائز. اهـ. وقال الخرشي: أي إلا أن يقع ضمان كل منهما لصاحبه في اشتراء شيء معين بينهما شركة، ويضمن كل منهما صاحبه في قدر ما ضمنه فيه فإنه جائز، أما لو اشترياه على الثلث والثلثين مثلا وضمن كل منهما الآخر فيما عليه لم يجز؛ لأنه سلف جر منفعة أو ضمان بجعل اللهم إلا أن يتحمل صاحب الثلث بنصف ما على صاحب الثلثين. اهـ.
ونحوه لعبد الباقي، وقال المواق: ابن حبيب: من باع سلعة من ثلاثة على أن بعضهم حميل ببعض وإن لم يكونوا شركاء في غيرها فذلك جائز، ولم يزل هذا من بيوع الناس وما علمت من أنكره، وإنما الذي لا يجوز أن يقول: تحمل عني في شيء على أن أتحمل عنك في شيء آخر. اهـ.
أو بيعه يعني أنهما إذا باعا سلعة بينهما وضمن كل واحد من البائعين ما يلزم الآخر على تقدير ظهور عيب أو استحقاق فإن ذلك جائز، وقال المواق: ابن يونس: لو كانت سلعة بينهما نصفين فباعاها على أن أحدهما حميل بالآخر جاز؛ لأن الثمن بينهما وهذا إذا استوت شركتهما، وقد أجاز ابن القاسم السلم لرجلين على أن كل واحد منهما حميل بالآخر، بخلاف جمع السلعتين إذ قد يستحق مبيع أحدهما دون الآخر. اهـ. وقال عبد الباقي:"أو بيعه" أي بيع شيء معين بينهما كما لو أسلمهما شخص في شيء وتضامنا فيه. اهـ. قال البناني: هاتان مسألتان. انظر بسطهما في المواق، ومعنى الأولى أن يضمن كل واحد لخ.
كقرضهما يعني أن الشخصين إذا اقترضا شيئا بينهما نقدا أو عرضا أو غير ذلك أي تسلفاه على أن كل واحد منهما حميل لصاحبه فإن ذلك جائز، وإلى هذا ذهب ابن أبي زمنين وابن العطار، قال ابن عبد السلام: وهو الأصح، وإلى هذا أشار بقوله: على الأصح. ومقابله لابن الفخار ورآه سلفا جر منفعة، قال عبد الباقي: وإنما جاز في الأمور الثلاثة لعمل الماضين فهي مستثناة مما امتنع، والجواز في الأولى مقيد بأن يكون ما اشترياه بينهما معينا كما قدمته، فإن كان غير معين امتنع. اهـ. وقال المواق: ابن الهندي وابن الفخار: إن كان السلف على جماعة فلا يصح أن يعقد على أن بعضهم حملاء عن بعض لأنه سلف جر منفعة، وقال ابن أبي زمنين وابن العطار: ذلك جائز في
البيع والسلف إذا كان ما على كل واحد منهم من ذلك مثل ما على صاحبه، فإن اختلف ما عليهم في العدد أو الجنس لم تجز الحمالة، ابن أبي زمنين: وكذلك إن كان أحدهم موسرا والآخر معسرا. اهـ.
وإن تعدد حملاء اتبع كل بحصته يعني أنه إذا تعدد الحملاء دفعة وليس بعضهم حميلا ببعض وليسوا غرماء، فإن كل واحد منهم إنما يتبع بحصته أي بحظه فقط من الدين بقسمه على عددهم، فإن اشترى زيد من عمرو فرسا بمائتين وضمنهما أربعة فإن كل واحد منهم إنما يغرم خمسين، وجدوا في آن واحد أم لا. قال عبد الباقي: وإن تعدد حملاء في آن واحد غير غرماء اتبع كل بحصته فقط من الدين بقسمه على عددهم، وليس بعضهم حميلا عن بعض بدليل ما بعده فلا يؤخذ ملي عن معدم ولا حاضر عن غائب؛ كأن يقول واحد: ضمانه علينا ويوافقه أصحابه، أو يقال لهم: أتضمنون زيدا؟ مثلا فيقول كل واحد نعم، أو ينطق الجميع دفعة واحدة، وأما لو قال كل واحد: ضمانه علي فهو حميل مستقل بجميع الحق، وسيأتي في قوله:"كترتبهم" اهـ. وقال المواق من المدونة: قال مالك: إذا تكفل ثلاثة رجال بمال على رجل حمالة مبهمة فأعدم الغريم لم يكن للطالب على من لقى من الحملاء إلا ثلث الحق.
إلا أن يشترط حمالة بعضهم عن بعض يعني أن محل كون واحد منهم إنما يتبع بحصته فقط إنما هو حيث لم يشترط حمالة بعضهم عن بعض، وأما إن اشترط في أصل الكفالة أن بعضهم حميل عن بعض، فحينئذ إن غاب أحدهم أو أعدم أخذ من وجد منهم بجميع الحق، فإن لقيهم أملياء لم يأخذ من كل واحد إلا بقدر ما ينوبه وهو الثلث في المثال المذكور؛ إذ لا يتبع الكفيل في حضور المكفول به وملائه، وهذا حيث لم يقل أيكم شئت أخذت بحقي، وأما لو قال أيكم شئت أخذت بحقي فإنه يأخذ من شاء منهم بجميع الحق، وإن كانوا حضورا أملياء سواء اشترط حمالة بعضهم عن بعض أو لا، لكن إن اشترط حمالة بعضهم عن بعض يرجع من أدى منهم الحق على غيره، وإن لم يشترط حمالة بعضهم عن بعض فلا رجوع للغارم على أصحابه وإنما يرجع على المدين. واللَّه تعالى أعلم.
قال عبد الباقي: إلا أن يشترط رب الدين في عقد الحمالة حمالة بعضهم عن بعض فيتبع كل واحد منهم بالجميع مع حضور غيره مليا، وأولى إن غاب أو مات إن قال مع الاشتراط المذكور أيكم شئت أخذت بحقي وإلا اتبع البعض بالجميع في العدم أو الغيبة فقط، والمسألة رباعية: تعدد الحملاء ولا شرط فلا يؤخذ كل إلا بحصته، تعددوا واشترط حمالة بعضهم عن بعض وقال مع ذلك أيكم شئت أخذت بحقي فيأخذ كل واحد بجميع الحق، تعددوا واشترط حمالة بعضهم عن بعض ولم يقل أيكم شئت أخذت بحقي فيؤخذ كل واحد بجميع الحق إن غاب الباقي أو أعدم وللغارم في هاتين الصورتين الثانية والثالثة الرجوع على أصحابه، تعددوا ولم يشترط حمالة بعضهم عن بعض لكن قال أيكم شئت أخذت بحقي فله أخذ من شاء بجميع الحق وليس للغارم الرجوع على واحد من أصحابه لأنهم حملاء فقط كما هو الموضوع، فلو كانوا غرماء لم يرجع الغارم على واحد منهم إلا بما يخصه من أصل الحق. اهـ بتغيير قليل.
وقال المواق من المدونة: قال مالك: إذا تكفل ثلاثة رجال بمال على رجل حمالة مبهمة (فأبهم)
(1)
فأعدم الغريم لم يكن للطالب على من لقي من الحملاء إلا ثلث الحق، قال مالك إلا أن يشترط في أصل الكفالة أن بعضهم حميل عن بعض، فحينئذ إن غاب أحدهم أو أعدم أخذ من وجد منهم بجميع الحق، فإن لقيهم أملياء لم يأخذ من كل واحد إلا ثلث الحق إذ لا يتبع الكفيل في حضور المكفول به وملائه، ولو اشترط أيكم شئت أخذت بحقي ولم يقل بعضكم كفيل ببعض فليأخذ أحدهم بجميع الحق إن كانوا حضورا أملياء، ثم لا رجوع للغارم على أصحابه إذ لم يود بالحمالة عنهم ولكن على الغريم. ابن حبيب: وقاله جميع أصحاب مالك. اهـ.
فرع:
قال الرهوني: إذا اشترط حمالة بعضهم عن بعض، وقال أيكم شئت أخذت بحقي أو اشترط حيهم بميتهم وحاضرهم بغائبهم ومليهم بمعدمهم، فأخذ من أحدهم ضامنا فأفلس هذا المحمول عنه وأراد رب الحق أخذ الحق من ضامنه، فقال الحميل: إنما تحملت بما ينوب هذا من المال فعلي ثلث، سئل عن ذلك ابن القاسم في أول مسألة من سماع حسين بن عاصم منه من كتاب
(1)
لم ترد في المواق ولا في التهذيب.
الحمالة فأجاب بما نصه: أرى على الحميل ما على صاحبه، وذلك الحق كله إذا أخذه الغريم بما شرط عليه. اهـ محل الحاجة منه بلفظه. قال ابن يونس بعد أن ذكره ما نصه: يريد وقد علم الحميل بما على الحملاء من الشرط. اهـ منه.
بلفظه ومثله لابن رشد، وزاد ما نصه: ولو لم يعلم بشرطه ما لزمه إلا ثلث الحق حظ الذي تحمل به، وهو محمول على غير العلم حتى يثبت عليه العلم، فإن أنكر أن يكون علم ولم تقم عليه بذلك بينة لزمته اليمين، فإن حلف لم يلزمه إلا ثلث الحق. وباللَّه التوفيق. اهـ منه بلفظه.
كترتبهم تشبيه في قوله: "إلا أن يشترط حمالة بعضهم عن بعض" أي فللغريم أن يأخذ كل واحد بجميع الحق، كما أنهم لو ترتبوا في الزمان ولو تقاربت اللحظات يأخذ كل واحد بجميع الحق، وتوضيح هذا أن تقول: إذا ضمن كفيل بعد كفيل فلرب الدين في عدم المدين أخذ جميع حقه من أي الكفيلين شاء، ولو مع حضور الثاني وملائه علم الثاني بالأول أم لا، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: من أخذ من غريمه كفيلا بعد كفيل فله في عدم الغريم أن يأخذ بجميع حقه أي الكفيلين شاء بخلاف كفيلين في صفقة لا يشترط حمالة بعضهم عن بعض. اهـ.
تنبيه:
قال عبد الباقي في شرح قوله: "وإن تعدد حملاء" ما نصه: وإن تعدد حملاء في آن واحد غير غرماء ثم قال ما نصه: وقولي غير غرماء يدل عليه قوله: "إلا أن يشترط حمالة" لخ إذ الحملاء الغرماء أي المدينون يتبع كلا بالجميع، ويأخذ اللي عن المعدم والحاضر عن الغائب، ولا يتأتَّى فيه اشتراط حمالة بعضهم عن بعض تارة وعدمه أخرى؛ لأن المدينين متى كانوا حملاء لبعضهم فكأنه اشترط حمالة بعضهم؛ إذ لا معنى لتعلق الحمالة بهم إلا ذلك، ويمكن شمول المص للحملاء الغرماء أيضا بتقدير عاطف ومعطوف بعد حملاء وهو أو غرماء، وحذف أو ومعطوفها جائز حيث لا لبس كما لابن هشام، وليس من خصائص الواو والفاء، والقرينة على هذا قوله:"ورجع المودي" وما فرعه عليه في المثال المذكور وعلى التقييد المذكور فيكون استعمل الاشتراط المذكور في حقيقته في الحملاء غير الغرماء، وفي مجازه في الحملاء الغرماء لحصول غرم كل بحمالة بعضهم عن بعض وإن لم يشترط كما مر، ولا ينافي الشمول المذكور قوله الآتي:"وهل لا يرجع" لخ لأنه كلام على الحملاء فقط من حيث التراجع لا من حيث اتباع كل بحصته أو بها وبما على غيره.
وأما قوله: "ورجع المؤدي بغير المودَّى لخ ففيما إذا كانوا حملاء غرماء بدليل تمثيله الآتي أو حملاء فقط واشترط حمالة بعضهم عن بعض. اهـ المراد منه. قوله: "ولا يتأتي فيه اشتراط حمالة بعضهم عن بعض" لخ، قال البناني: فيه نظر، بل الغرماء فيهم الأقسام الأربعة التي في الحملاء، وقوله: وفي مجازه في الحملاء الغرماء لخ فيه نظر، فإن الحمالة بين الغرماء إنما تؤخذ مما بعد إلا. اهـ.
ورجع المؤدي بغير المؤدى عن نفسه بكل ما على الملقي ثم ساواه، المؤدي الأول اسم فاعل والثاني اسم مفعول، وقوله:"بغير" متعلق "برجع"، وقوله:"عن نفسه" متعلق "بالمؤدى" الذي هو اسم المفعول، ونائبه ضمير يعود على الموصوف وهو المال، وقوله:"بكل ما على الملقي" بدل من "بغير" لخ، وهذا شروع منه في بيان كيفية التراجع بين الحملاء الغرماء إذا أدى بعضهم عن بعض، ومعنى كلامه أن الحملاء الغرماء إذا غرم أحدهم الحق لرب الدين، فإن المؤدي يرجع على من لقي من أصحابه بكل ما عليه أي على الملقي، ولا يأخذ منه ما أداه عن نفسه ثم يساويه في غرم ما دفع عن غيره من الحملاء، قال عبد الباقي: وأما قوله: "ورجع المؤدي" اسم فاعل بغير المؤدى اسم مفعول عن نفسه، وأبدل من بغير لخ قوله:"بكل ما على الملقي ثم ساواه" ففيما إذا كانوا حملاء غرماء بدليل تمثيله الآتي أو حملاء فقط، واشترط حمالة بعضهم عن بعض، وسواء قال في القسمين أيكم شئت أخذت بحقي أو لم يقل. اهـ.
قال الرهوني: وفي ابن يونس متصلة بمسألة الستة الحملاء ما نصه: ولو أن رب الدين لم يأخذ من الأول إلا مائة لم يرجع هو على أحد من أصحابه بشيء، ولو أخذ منه مائة درهم ودرهما لم يرجع عليهم إلا بالدرهم خاصة على نحو ما وصفنا، وإنما يرجع هذ الغارم على أصحابه في شرط صاحب الحق حمالة بعضهم عن بعض، قال مع ذلك أيكم شئت أخذت بحقي أم لا فله أخذ أحدهم بجميع الحق، وإن كان الباقون حضورا أملياء ثم ليس للغارم منهم أن يرجع على كل واحد من أصحابه إذا كانوا حضورا أملياء إلا بسدس جميع الحق وهو ما عليه من أصل الدين، وهو في ذلك بخلاف رب الدين لأن رب الدين هو الذي اشترط أيكم شئت أخذت بحقي، وسواء في هذا كانت حمالة بعضهم عن بعض وهم شركاء في السلعة أو حملاء عن غيرهم. اهـ منه بلفظه.
فكلامه صريح في أن القسمين سواء ونفي الرجوع في كلامه مقيد بقوله: إذا كانوا حضورا أملياء، ومفهومه ثبوته في غيبتهم أو عدمهم فتأمله. واللَّه أعلم. اهـ كلام الرهوني رادا به على عبد الباقي في نقله عن ابن يونس. قال الرهوني: ما نسبه لابن يونس ليس فيه بل فيه خلافه، فإن الذي فيه متصلا بمسألة الستة الحملاء إلى آخر ما مر، وقوله:"ورجع المؤدي بغير المؤدى عن نفسه" لخ قال عبد الباقي عنده ما نصه: ولا يجري التراجع المذكور في ترتبهم ولا فيما إذا لم يكن بعضهم حميلا عن بعض، ولو قال مع ذلك أيكم شئت أخذت بحقي إذ في مسألة الترتيب إنما يرجع من أدى على الغريم، وكذا في مسألة ما إذا لم يكن بعضهم حميلا عن بعض، وقال مع ذلك أيكم شئت أخذت بحقي حيث كانوا حملاء فإنما يرجع من أخذ منه على المدين لا على من كان معه في الحمالة؛ إذ الفرض أنه لم يشترط حمالة بعضهم عن بعض، وأما إذا كانوا غرماء غير حملاء فإن كل واحد إنما يؤدي ما عليه فلا يرجع على غيره إلا أن يقول أيكم شئت أخذت بحقي، فإن قال ذلك وأخذ جميع حقه من أحدهم رجع المأخوذ منه على كل واحد بما أدى عنه فقط.
وقوله: "ثم ساواه" أي ساوى المؤدي الملقي، فإن كان الملقي لم يغرم شيئا في الحمالة ساواه فيما غرمه بها وإن كان غرم شيئا بها فإن كان قدر ما غرمه بها، من لاقاه ساواه بمعنى أنه لا يرجع عليه بشيء مما غرمه بها، وإن كان ما غرمه بها أحدهما أكثر مما غرمه الآخر بها فإنه يسقط الأقل مما غرمه أحدهما بها من الأكثر مما غرمه الآخر بها ويتساويان فيما بقي. اهـ.
وأوضح ذلك بمثال المدونة الذي أفرده الناس بالتصنيف بفاء التفريع على قوله: "ورجع المؤدي بغير المؤدى عن نفسه" فقال: فإن اشترى ستة أي ستة أشخاص سلعة مثلا بست مائة من الفضة من شخص على أن على كل واحد منهم مائة بالأصالة وعليه الباقي بالحمالة أي أن كل واحد حميل بالجميع فلقي بائع السلعة للستة أحدهم أي أحد الستة، أخذ البائع منه أي من الواحد الذي لقيه الجميع أي جميع الثمن وهو المئون الست ثم إن لقي المؤدي أحدَهم أي أحد الخمسة الباقين يقول له غرمت مائة عن نفسي لا رجوع لي بها على أحد وغرمت خمسمائة عنك وعن أصحابك يخصك منها مائة، فيأخذ منه مائة أصالة ثم يأخذ منه مائتين حمالة، ولهذا قال: أخذه بمائة تخصه بالأصالة وبقيت أربع مائة غرمها الأول عن الأربعة الباقية، فيتساويان فيها بأن يغرمه مائتين كما
قال، ثم أخذه بمائتين حمالة لمساواته معه في حمالة المئين الأربع الباقية فكل منهما غرم عن الأربعة الباقية مائتين.
ثم إن لقي أحدهما ثالثا أخذه بخمسين أصالة لأنه غرم مائتين عن أربع: الملقي أحدهم فعليه خمسون لأن المائتين إذا قسمتا على الأربعة ناب كل واحد منهم خمسون وبقي مائة وخمسون عن الثلاثة الباقية فيساوي فيها هو الثلاثة فعلى الثالث نصفها وهي خمس وسبعون حمالة: ولهذا قال: وبخمسة وسبعين فجميع ما غرم هذا الثالث مائة وخمسة وعشرون، فإن لقي الثالث الغارم خمسة وسبعين عن ثلاثة رابعا بالنسبة للماضين أخذه بخمسة وعشرين أصالة، بيان هذا أن خمسا وسبعين ثلثها خمس وعشرون وهو قد أداها عن ثلاثة فيأخذها منه بالأصالة بقيت خمسون أداها عن اثنين فيتساويان فيها فيأخذ منه خمسا وعشرين بالحمالة، ولهذا قال: وبمثلها وهو خمس وعشرون، قوله:"فإن لقي الثالث رابعا" وكذا لو لقيه الأول قبل صاحبيه فإنه يأخذ منه خمسة وعشرين ثم يأخذه بمثلها، وكذا لو لقيه الثاني قبل الأول والثالث فإنه يأخذه بخمسة وعشرين أصالة ثم بمثلها حمالة. واللَّه تعالى أعلم.
ثم إن لقي هذا الرابع الغارم خمسة وعشرين عن اثنين خامسا أخذه باثني عشر ونصف؛ لأن خمسة وعشرين نصفها اثنا عشر ونصف تخص الخامس بالحمالة، وبقى اثنا عشر ونصف أداها الرابع عن السادس بالحمالة فيتساويان أي الرابع والخامس فيها فيدفع له الخامس نصف ذلك ستة وربع واحد نصف النصف، ولهذا قال: وستة وربع وكذا لو لقي الأول الخامس قبل الثاني والثالث والرابع، وكذا لو لقيه الثاني قبل الأول والثالث والرابع وكذا لو لقيه الثالث قبل الأول والثاني والرابع. واللَّه تعالى أعلم. فإن لقي أحدهم السادس أخذه بستة وربع لأنه لم يؤد عنه سواها وسكت عن هذا لوضوحه.
والحاصل أنه إذا مر الأول عليهم مترتبين قبل من غرم عنه منهم فأجره على هذا يافتى وكذا لو مر عليهم الثاني على هذا الوجه وهكذا. وها أنا أذكر كيفية تراجعهم إلى أن يصل لذي كل حق حقه، ولم يذكر المص ذلك فأقول معترفا بالتقصير معتصما باللطيف الخبير: قال في التوضيح: المازري: أفردت جماعة من الأشياخ لمسألة الستة حملا تأليفا ولم يذكر المص -يعني ابن الحاجب- إلا
ابتداء العمل فرأينا أن نكملها حتى يؤديَ كل واحد مائة فإني رأيت نفوس الطلبة عند إلقائها تطلب تمام عملها وربما صعب ذلك عليهم وها أنا أذكرها على ما قال المازري فأقول: إنه إذا غرم الأول ستمائة ثم لقي أحدهم أخذ منه ثلاثمائة كما تقدم، ثم إن لقي الأول ثانيا قال له غرمت ثلاثمائة مائة عن نفسي ومائتين بالحمالة عن أربعة أنت أحدهم يلزمك في حصتك خمسون وعليك نصف ما بقي وهو خمسة وسبعون، فجميع ما يأخذ منه مائة وخمسة وعشرين، فصار جميع ما أخذ من أصحابه أربعمائة وخمسة وعشرين تبقى له خمسة وسبعون، ثم إن لقي ثالثا قال له أديت بالحمالة خمسة وسبعين عن ثلاثة أنت أحدهم فادفع إليَّ ثلثها خمسة وعشرين، ونصف ما بقي مما أديته بالحمالة فإنك معي به حميل فجميع ما أخذ منه خمسون وتبقى له خمسة وعشرون، ثم إذا لقي خامسا قال له بقي مما أديت بالحمالة خمسة وعشرون وهي عليك وعلى صاحبك السادس فأعطني نصفها اثني عشر ونصفا ونصف ما بقي وذلك ستة وربع، فجميع ما يأخذ منه ثمانية عشر وثلاثة أرباع وبقي له مما غرم ستة وربع، فإذا لقي السادس أخذها منه فهذا إكمال عمل الأول، ثم نعود إلى الذي يليه وهو الثاني الذي لقيه الأول وغرم ثلاثمائة، فإذا لقي الذي يليه وهو الثالث الذي كان غرم للأول مائة وخمسة وعشرين فيقول إني قد أديت بالحمالة من هذه الثلاث مائة التي غرمتها مائتين عن أربعة نصيبك منها خمسون فيأخذها منه وتبقى مائة وخمسون وأنت معي بها حميل، فيقول له هذا الثالث قد أديت أيضا بالحمالة للأول خمسة وسبعين ساويتك في مثلها وتبقى خمسة وسبعون فخذ نصفها سبعة وثلاثين ونصفلا فجميع ما يأخذ منه سبعة وثمانون ونصف فجميع ما أدى هذا الثالث للأول والثاني مائتان واثنا عشر ونصف، وبقي للثاني مائة واثنا عشر ونصف مما أدى بالحمالة لأنه ودى ثلاثمائة مائة منها عن نفسه ومائتان بالحمالة، ورجع إليه مما أدى بالحمالة سبعة وثمانون ونصف من مائتين فالباقي له مما أداه بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف فيقول للرابع أديت مائة واثني عشر ونصفا عن ثلاثة أنت أحدهم فيلزمك ثلثها في حصتك وهي سبعة وثلاثون ونصف، فيأخذها منه فيقول له بقيت لي خسمة وسبعون أنت معي بها حميل فأعطني نصفها، فيقول له هذا الرابع قد أديت أنا بالحمالة خمسة وعشرين للأول خمسة وعشرين ساويتك في مثلها وبقيت لك خمسون فخذ نصفها، فجميع ما يأخذ منه اثنان
وستون ونصف، فجميع ما أدى الرابع للأول والثاني مائة واثنا عشر ونصف فيبقى للثاني مما أداه بالحمالة خمسون، ثم إن لقي الخامس قال له بقي مما أديت بالحمالة أيها الخامس عنك وعن السادس خمسون عليك نصفها خمسة وعشرون فيأخذها منه ويقول له بقيت لي خمسة وعشرون أنت معي بها حميل، فيقول له الخامس قد أديت أنا أيضا ستة وربعا ساويتك في مثلها وبقيت لك ثمانية عشر وثلاثة أرباع علي نصفها وذلك تسعة وثلاثة أثمان، فجميع ما أدى هذا الخامس للأول ثمانية عشر وثلاثة أرباع وللثاني أربعة وثلاثين وثلاثة أثمان، فجميع ذلك ثلاثة وخمسون وثمن وبقي هذا الثاني يطالب بخمسة عشر وخمسة أثمان، فإذا لقي السادس يأخذها منه.
ثم إن الثالث الذي غرم للأول والثاني مائتين واثني عشر ونصفا إذا لقي الرابع قال له بقي لي مما أديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف عن ثلاثة أنت أحدهم فأعطني ثلثها وهو سبعة وثلاثون ونصف فيأخذها منه ويقول له قد بقي لي مما وديت بالحمالة خمسة وسبعون أنت معي بها حميل، فيقول له هذا الرابع قد أديت أنا أيضا بالحمالة للأول خمسة وعشرين وللثاني خمسة وعشرين وذلك خمسون ساويتك في مثلها وبقيت لك خمسة وعشرون فخذ نصفها اثني عشر ونصفا، فيصير جميع ما أخذ منه خمسين فجميع ما أدى هذا الرابع للأول والثاني والثالث مائة واثنان وستون ونصف، ثم إنه إذا لقي الخامس قال له بقيت لي بالحمالة اثنان وستون ونصف عنك وعن السادس عليك منها نصفها أحد وثلاثون وربع فيأخذها منه، ثم يقول له بقي لي واحد وثلاثون وربع أنت معي بها حميل فيقول له هذا الخامس قد أديت أنا أيضا للأول ستة وربعا وللثاني تسعة وربعا وثمنا وذلك خمسة عشر ونصف وثمن ساويتك فيها تبقى خمسة عشر ونصف وثمن خذ نصفها سبعة وثلاثة أرباع ونصف ثمن تبقى له ثلاثة وعشرون وثلاثة أثمان ونصف ثمن يأخذها من السادس فيذهب هذا الثالث وقد تم العمل فيه.
ثم إن الرابع الذي غرم للأول والثاني والثالث مائة واثنين وستين ونصفا إن لقي الخامس يقول له بقي لي مما أديت بالحمالة اثنان وستون ونصف عنك وعن السادس عليك نصفها أحد وثلاثون وربع، فيأخذها منه ويقول له بقي أحد وثلاثون وربع أنت معي بها حميل فيقول له الخامس قد أديت أنا أيضا بالحمالة للأول والثاني والثالث ثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن ساويتك في
مثلها وبقيت لك سبعة وستة أثمان ونصف ثمن علي نصفها ثلاثة وسبعة أثمان وربع ثمن، فيأخذها منه فيصير جميع ما أخذ الرابع من الخامس خمسة وثلاثين وثمنا وربع ثمن وجميع ما أدى الخامس للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرون وثلاثة أرباع ثمن وبقي الرابع يطلب سبعة وعشرين وربعا وثلاثة أرباع ثمن فإذا لقي السادس يأخذها منه ويذهب فقد غرم مائة وتم العمل فيه.
ثم إن لقي الخامس السادس وقد كان أدى للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرين وربعا وثلاثة أرباع ثمن عليه منها مائة يبقى يطلب سبعة وعشرين وربعا وثلاثة أرباع ثمن فيأخذها من السادس، فيذهب وقد غرم مائة ويذهب السادس وقد غرم للأول ستة وربعا وللثاني خمسة عشر وخمسة أثمان وللثالث ثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان ونصف ثمن وللرابع سبعة وعشرين وربعا وثلاثة أرباع ثمن وللخامس مثلها وجميع ذلك مائة. واللَّه تعالى أعلم. اهـ بتغيير قليل لتصحيف النسخة التي بيدي.
ونظم هذه المسألة على هذا المثال حبيب اللَّه بن عبد اللَّه اليعقوبي وقد أجاد في نظمه رحمه اللَّه تعالى فقال:
حمدا لمن قد حبانا فقه مسألة
…
أعيت حديثا وقدما قادة نبلا
إذا بست مئين ادان ستة أشـ
…
ـخاص وكلهم بالكل قد كفلا
فمن قضى لمنهم ذا الدين أجمعه
…
يرجع بما قد قضى عن خمسة الحملا
فحيثما لقي الثاني يواخذه
…
بمائة وبمثلها كما عقلا
من ثالث يقتضي خمسين ثم له
…
خمس وسبعون مما عنهم حملا
وإن أتى رابعا أعطاه خمسا وعشـ
…
ـرينا وخمسا وعشرينا كذا نقلا
واثنين مع عشرة ونصف واحدها
…
ثمت ستا وربعا خامس الكفلا
وسادس القوم إن وافاه يأخذه
…
بستة وبربع تم ذا بولا
وإن أتى الثالث الثاني فإن له
…
عليه خمسين دينارا بما أصلًا
ثم الثلاثون مع سبع حمالته
…
والنصف من واحد بالعلم نلت علا
وناول الرابع الثاني ثلاثين مع
…
سبع ونصفٍ أصالةَ فلا تهلا
ثمت خمسا وعشرينا يناوله
…
حمالةَ وإذا للخامس انتقلا
أعطاه خمسا وعشرينا وناوله
…
تسعا ثلاثة أثمان وإن نقِلا
لسادس فله خمس ويتبعها
…
عشر وخمسة أثمانٍ عِ ما حصلا
وحيث رابعهم ياتيه ثالثهم
…
سبعا ثلاثين مع نصف حباه ولا
أصالة ثم باثني عشر اتبعها
…
نصفا وهذا إذا للخامس ارتحلا
فواحد وثلاثون يواخذه
…
بها وربعٍ فكن بالعلم محتفلا
سبع وستة أثمان حمالتُه
…
ونصف ثمن وإن لسادسٍ نقِلا
أعطى ثلاثا وعشرينا ثلاثةَ أثـ
…
ــمانِ ونصفا لثمن فاحفظ المثلا
وإن أتى رابع لخامس فله
…
ربعٌ ثلاثون معْها واحدٌ وصلا
ثلاثة سبعَ أثمان كفالتَه
…
وربعَ ثمن وإن للسادس احتَمَلا
سبعا وعشرين مع ثُمْنَين يتبعها
…
أرباعَ ثمن ثلاثًا نال منه تلا
وحظ خامسهم من عند سادسهم
…
كحظ رابعهم منه وقد كملا
ثم الصلاة وتسليم يقارنها
…
على النبي وأصحاب النبي الفضلا
ولما ذكر تراجع الحملاء الغرماء ذكر تراجع الحملاء فقط فقال: وهل لا يرجع الحميل بما يخصه أيضا أي كعدم رجوعه بما يخمه فيما سبق في الحملاء الغرماء إذا كان الحق على غيرهم أوَّلًا بتشديد الواو مع التنوين أي ابتداء وعليهم بطريق الحمالة، وعليه الأكثر من العلماء، قال الشارح: وإليه ذهب كثير من الأندلسيين ونحوه في الموازية، وفي سماع أبي زيد في المستخرجة: فجعلوا ما ينوب كل واحد من المال وهو مائة في المثال الآتي كما لو كان عليه من أصل الدين أو يرجع بما يخصه، وإليه ذهب ابن لبابة والتونسي وغيرهما، قالوا: لأنهم سواء في الحمالة وليس يخص أحدهم ما لا يخص غيره.
وقوله: تأويلان مبتدأ حذف خبره أي في ذلك تأويلان. واعلم أن الشيخ مصطفى رحمه اللَّه تعالى، قال: إن الصواب في تقرير كلام المص وبه تظهر مسألة الخلاف إذا أخذ رب الدين من الأول ما يخصه فقط وهو مائة، فهل لا يرجع به كما إذا كان الحق عليهم أو يرجع به؟ قال: والمسألة مفروضة هكذا في كلام ابن رشد في مقدماته، وذكر نصه على نقل أبي الحسن والمواق، ثم قال مصطفى: وأما فرض المسألة فيما إذا أخذ جميع الحق من أحدهم فلا يظهر للخلاف فيه معنى لمن تأمل وأنصف، وإن كان جمع من المحققين فرضوه في ذلك كعياض وابن عبد السلام وابن عرفة، بل جميع من وقفت عليه غير ابن رشد مع أنهم لم ينقلوا إلا كلام ابن رشد ولعلهم حرفوه وإن كان يبعد تواطؤ هؤلاء الأيمة الأجلاء على التحريف، فإنه لا يصح فرضهم والحق أحق أن يتبع. اهـ.
وصوب الرهوني تقرير الشيخ مصطفى واعتراضه على الأيمة إلا أنه قال: قولُ مصطفى: إنما تظهر ثمرة الخلاف إذا دفع قدر ما ينوبه فقط فِيهِ نَظرٌ، وصوابه أن يقول بدله إذا لم يدفع الحق كله فيصدق بثلاث صور: دفعه مقدار حقه فقط أو أقل أو أكثر ولم يوف الحق كله. اهـ المراد منه. فإذا كانوا ثلاثة تحملوا بثلاثمائة وكلهم كفيل عن صاحبه، فإذا لقي رب الدين أحدهم فأخذ منه مائة فلقي هذا المأخوذ منه واحدًا من صاحبيه
(1)
فعلى التأويل الأول وهو التأويل المذكور لا يرجع عليه
(1)
في الأصل: صاحبه.
بشيء لأن المائة تخصه في الحمالة فلا يرجع بها، وعلى التأويل الثاني المطوي يرجع عليه بنصف المائة فيساويه فيها.
وقال البناني عند قوله: "وهل لا يرجع بما يخصه أيضا إذا كان الحق على غيرهم" ما نصه: كيفية التراجع في ذلك على هذا التأويل الأول أنه إذا تحمل ثلاثة مثلا عن واحد بثلاثمائة وغرم أحدهم جميعها ثم لقى آخر فإنه يطالبه بمائة وخمسين نصف ما أعطى مائة عن نفسه وخمسون بالحمالة عن الثالث؛ لأنه حميل معه عنه ومن لقي منهم الثالث أخذ خمسين، وكيفيته على هذا التأويل المطوي أن الغريم الأول يطالب الثاني إذا لقيه بمائة وخمسين أيضا كالأول، فإذا لقي أحدهما الثالث طالبه بالمساواة معه فيما أدى وهو مائة وخمسون فيأخذ منه خمسة وسبعين، وإذا لقيه الآخر أيضا طالبه أيضا بذلك فيقول له قد أديت لصاحبنا الملقي قبلك خمسة وسبعين ساويتك فيها فيبقى لك زائدا عليها مثلها، أخذ نصفه وهو سبعة وثلاثون ونصف ثم من لقي منهما الآخر الذي لم يدفع إلا خمسة وسبعين أخذ منه، اثني عشر ونصفا، فيستوي الجميع في أن كل واحد دفع مائة فظهر تغاير التأويلين في كيفية التراجع في المثال المذكور، خلافا لمن قال: لا تظهر ثمرة التأويلين فيه وإنما تظهر فيما إذا أخذ رب الدين من الأول مائة فقط، فعلى التأويل الأول لا يرجع على الملقي الثاني بشيء، وعلى الثاني يرجع عليه، وكلام من وقفنا عليه من الشراح في هذا المحل غير ظاهر ولا واف بالمقصود.
وعلى هذا فلو قال المص: وهل كذا إن كان الحق على غيرهم لكان أولى لاختصاره وإفادته جريان هذه المسألة على الأولى في جميع ما ذكره فيها من قوله: "ورجع المؤدي بغير المؤدى عن نفسه" إلى قوله: "ثم ساواه" قاله المسناوي رحمه الله. فقول الزرقاني: فلو تحمل ثلاثة عن شخص أي بشرط حمالة بعضهم عن بعض: وقول الزرقاني: فعلى الأول يقاسمه في مائتين على كل مائة لخ أي فلا يرجع على من لقيه إلا بمائة مما غرمه وهو غير صحيح، بل يرجع بمائة وخمسين كما تقدم نصف ما أعطى مائة عن نفسه وخمسون بالحمالة عن الثالث، ونص المدونة في الثلاثة الحملاء فقط: إن أخذ من أحدهم جميع المال رجع الغارم على صاحبيه بالثلثين إذا لقيهما، وإن لقي أحدهما رجع
عليه بالنصف. اهـ. وهو صريح في الرجوع بالنصف، ولذا اتفق فيه التأويلان وإنما اختلفا فيما إذا لقي الأول أو الثاني الثالث كما تقدم بيانه وقد اندفع بما تقدم ما هوَّل به مصطفى. اهـ المراد منه. الرهوني: الحق ما قاله مصطفى واعتراضه صحيح، وقولهم: إنما تظهر ثمرة الخلاف في رجوع أحدهما على الثالث هو حجة لمصطفى لا عليه؛ إذ يقول بلسان حاله إنما تظهر ثمرة الخلاف في رجوع أحدهما على الثالث لرجوع المسألة إذ ذاك لموضوع الخلاف، ومحله وهو عدم دفع الأول الحق كله. وإيضاح ذلك أن غارم الحق كله لما لقي الأول وأخذ منه نصف ما دفع صار كل واحد منهما دافعا لبعض الحق لا لكله، فمن لقي منهما الثالث صار معه كدافع بعض الحق أولا نعم، قول مصطفى: إنما تظهر ثمرة الخلاف إذا دفع قدر ما ينوبه فقط فيه نظر، وصوابه أن يقول بدله: إذا لم يدفع الحق كله فيصدق بثلاث صور إلى آخر ما مر، ثم قال: وكلام مصطفى آخرا قد يرشد إلى ما قلناه، وهو قوله: وأما فرض المسألة فيما إذا دفع جميع الحق لخ، فيفهم منه أن فرضها فيما دونه صحيح وإن كان أكثر من حقه أو أقل فيقيد آخر كلامه أوله، وقد ذكر المسألة في العتبية وفرضها فيما إذا دفع نحف الحق وهم أربعة، وذكر ابن رشد في شرحها الخلاف الذي ذكره في المقدمات فيما إذا دفع مثل ما عليه بعينه.
فاستفيد من مجموع كلامه في المقدمات والبيان أن المدار على دفع بعض الحق فقط، وكلام العتبية هو في سادس مسألة من سماع أبي زيد من كتاب الحمالة، ونصها: قال ابن القاسم في أربعة نفر تحملوا لرجل بأربع مائة دينار بعضهم حملاء عن بعض فحل الأجل وثلاثة منهم غيب والرابع حاضر فأغرمه صاحب الحق مائتين ثم جاء أحد الثلاثة المغيب، فقال: يغرم للذي أدى المئتين ستة وستين دينارا وثلثي دينار، قيل له: فإن قدم أحد الغائبين الآخرين كيف يرجع عليه؟ قال: يغرم أربعة وأربعين دينارا وأربعة أتساع الدينار، فيكون بين الذي أغرم أولا وبين الثاني نصفين سواء اثنين وعشرين دينارا وتسعا دينار لكل واحد.
قال القاضي رضي الله عنه: هذه مسألة صحيحة على قياس قول غير ابن القاسم في المدونة في مسألة الستة كفلاء، وعلى ما في كتاب محمد بن المواز أن الحمالة في صفقة واحدة على أن بعضهم حميل عن بعض إذا أخذ من أحدهم ما ينوبه من جملة ما تحملوا به فأقل لم يكن له به رجوع
على أصحابه، وإنما يرجع على من وجد منهم بما يجب عليه مما أخذ منه زائدا على ما ينوبه من جملة ما تحملوا به، وبيان ذلك في هذه المسألة بعينها أن الغريم الذي تحمل له الأربعة كفلاء بأربعمائة وكل واحد منهم حميل عن صاحبه لما وجد أحدهم فأخذ منه مائتي دينار كانت المائة الواحدة منها هي التي تنوبه من جملة ما تحملوا به فلا رجوع له بها على أحد والمائة الثانية أداها عن أصحابه الكفلاء ثلاثة وثلاثين وثلثا ثلاثة وثلاثين وثلثا ثلاثة وثلاثين وثلثا عن كل واحد منهم، فإن قدم أحدهم قام عليه الذي أدى المائتين فقال له: قد أديت إلى الغريم مائتين المائة الواحدة واجبة علي لا رجوع لي بها إلا على التحمل عنه، والمائة الثانية أديتها بالحمالة عنك وعن صاحبيك الغائبين ثلاثة وثلاثين وثلثا ثلاثة وثلاثين وثلثا ثلاثة وثلاثين وثلثا عن كل واحد منهما، فادفع إلى الثلاثة والثلاثين التي أديتها عنك في خاصتك بالحمالة، ونصف ما أديت عن صاحبيك الغائبين بالحمالة؛ لأنك حميل بها معي وذلك ثلاثة وثلاثون دينارا وثلثا دينار لأني أديت عنهما جميعا ستة وستين وثلثين كما قال وذلك بين حسبما بيناه، فإن قدم بعد ذلك الثاني من الغائبين فقام عليه الأول الذي أدى مائتين والثاني الذي رجع عليه الأول بستة وستين وثلثين رجع عليه بأربعة وأربعين وأربعة أتساع فاقتسماها بينهما بالسواء، وتفسير ذلك أنهما يقولان له: أدينا عنك في خاصتك ثلاثة وثلاثين وثلثا فادفعها إلينا، وأدينا عن الغائب الثاني بالحمالة ثلاثة وثلاثين وثلثا فعليك ثلثها لأنك حميل معنا به وذلك أحد عشر وتسع فيأخذان ذلك منه تتمة أربعة وأربعين وأربعة أتساع بينهما كما قال اثنين وعشرين وتسعين لكل واحد منهما. فهذا تفسير ما ذكره من التراجع في هذه المسألة.
فإن قدم بعد ذلك الغائب الثالث فقام عليه الثلاثة الأول الذي أدى المائتين ورجع على القادم الأول بستة وستين وثلثين، وعلى القادم الثاني باثنين وعشرين وتسعين حسب ما وصفناه والثالث الذي رجع عليه الأول والثاني بأربعة وأربعين وأربعة أتساع فيما بينهما حسب ما وصفناه، فإنهم يرجعون عليه بثلاثة وثلاثين وثلث فيما بينهم أحد عشر وتسع لكل واحد منهم يستوفي الأول بها جميع المائة التي أدى بالحمالة؛ لأنه رجع على الغريم الذي قدم ثالثا بأحد عشر وتسع، فتمت بذلك المائة ويكون كل واحد من الثلاثة المغيب قد أدى ثلاثة وثلاثين وثلثا كما وجب عليه من
المائة التي أداها عنهم الأول، وذلك أن الأول من القادمين كان رجع عليه الأول بستة وستين وثلثين، فرجع منها على القادم الثاني باثنين وعشرين وتسعين وعلى هذا الثالث بأحد عشر وتسع تتمة ثلاثة وثلاثين وثلثا نصف ما كان أدى والثاني من القادمين كان رجع عليه الأول والثاني بأربعة وأربعين وأربعة أتساع على ما بيناه، فلما رجع منها على الثاني بأحد عشر وتسع كان الذي غرم ثلاثة وثلاثين وثلثا فاستووا ثلاثتهم في الغرم، وبقي لصاحب الدين من دينه مائتا دينار يرجع بها عليهم ثلاثتهم فيأخذ من كل واحد منهم ستة وستين دينارا وثلثي دينار، فيكون كل واحد منهم أدى مائة كما أدى الأول إذ قد رجع بالمائة الثانية فيرجع كل واحد منهم بالمائة التي أدى إلى المتحمل له على المتحمل عنه فهذا بيان هذه المسألة وتمامها على هذا القول.
وأما على القول بأن الحمالة في صفقة واحدة وكل واحد منهم حميل بما على صاحبه يرجع من أدى منهم شيئا على أصحابه بما يجب عليهم من جميع ما أداه حتى يستوي معهم في الغرم (
(1)
وكان الذي ينوبه) مما تحملوا به أو أكثر أو أقل فلا يحتاج في التراجع إلى هذا التشغيب؛
(2)
لأنه كلما وجد واحدا من أصحابه رجع عليه حتى يتساويا فيما غرم بيان ذلك في مسألتنا هذه أن الأول الذي غرم مائتين يرجع على القادم أولا من المغيب الثلاثة بمائة، ثم إن قدم الثاني رجعا عليه بستة وستين وثلثين فاستووا ثلاثتهم في الغرم: ثم إن قدم الثالث رجعوا عليه بخمسين (ربع المائتين)
(3)
فاقتسموها بينهم ثلاثتهم يجب لكل واحد منهم ستة عشر وثلثان، فيكون الذي أدى كل واحد منهم خمسين. وهذا كله بين وباللَّه التوفيق. اهـ.
فعلم من كلام العتبية هذا الذي هو صريح في أنه دفع بعض الحق ولكنه أكثر مما ينوبه، ومن قول ابن رشد في شرحه: إنه مثل ما في الموازية فيما إذا أخذ من أحدهم مثل ما ينوبه فأقل صحة ما قلناه من أن موضوع الخلاف هو دفع بعض الحق مطلقا، وأن كلام ابن رشد في المقدمات والبيان صريح في أن الخلاف المذكور فيمن لقيه أولا وفي غيره، وأن ثمرته ظاهرة في الجميع، فتحصل من
(1)
في البيان ج 11 ص 369: كان هو الذي لخ.
(2)
عبارة الرهوني ج 6 ص 26: التشعيب.
(3)
في الأصل: ربع المائة، والمثبت من الرهوني ج 6 ص 29 والبيان ج 11 ص 369.
ذلك كله أن اعتراض مصطفى حق لا شك فيه، وأن ما أجابوا به عنه لا يدفعه بل يعززه ويقويه، وأما دفع الحق كله أو لا فلا تظهر ثمرة الخلاف فيه إذا لقي الأول، وقد صرح في المدونة بأنه إذا لقيه يرجع عليه بنصف ما دفع، وتظهر الثمرة فيما إذا لقي أحدهما ثالثا فيجري فيه الخلاف المذكور لكن تخريجا لا نصا. هذا تحقيق القول في هذه المسألة فشد يدك على هذا التحرير فإنه من فتح العليم الخبير، ولا تغتر بما قاله العالم النحرير واعتمده (خير
(1)
ما جد) شهير، فإن الفضل بيد اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه الموفق اهـ بتغيير قليل.
ولما أنهى الكلام على ما هو المعظم بالقصد وهو ضمان المال شرع يتكلم على ما يشبهه وهو ضمان الوجه عاطفا له على قوله: "وصح من أهل التبرع"، فقال: وصح بالوجه يعني أن الكفالة بالوجه تصح، ومعناها أن يتكفل له أن يحضر وجه المدين أي ذاته، بأن يقول له أنا ضامن لك أن آتيك بزيد، قال عبد الباقي: وصح الضمان بالوجه أي بإحضار الوجه ففيه حذف مضاف والباء للملابسة أي متلبسا بالوجه، وأراد به الذات مجازا من إطلاق اسم البعض على الكل، ومثل الوجه غيره من الأعضاء، ففي الشامل: وجاز بوجه والعضو المعين كالجميع. اهـ.
وضمان الوجه، قال في توضيحه عبارة عن الإتيان بالدين وقت الحاجة، ولا يدخل فيه ضمان الطلب كما فهم أحمد من أنه غير مانع لذلك؛ لأن ضمان الطلب طلبه بما يقوى عليه فليس الإتيان جزئيا له ولا لازما له، ثم إنه إنما يصح ضمان الوجه حيث كان على المضمون دين لا في قصاص، ولذا حذفه هنا وزاده في ضمان الطلب، والفرق أيلولة الوجه للمال في بعض أحواله والطلب طلب إحضاره. انتهى. وتأمل هذا فسيأتي للمص:"وغرم إن فرط أو هربه" وقال الخرشي: والمعنى أن الضمان يصح بالوجه وإذا لم يأت بالضمون فإنه يغرم ما عليه وهو عبارة عن الإتيان بالغريم الذي عليه الدين وقت الحاجة ولا اختلاف في صحته عندنا، ثم قال: والمراد بالوجه الذات. اهـ. وقال الشارح: ولا خلاف فيه أي في ضمان الوجه عندنا. ابن عبد السلام: ويحكي غير واحد الإجماع أن ضمان الوجه صحيح. انتهى.
(1)
في الرهوني ج 6 ص 29: غير ما حبر شهير.
وللزوج رده من زوجته يعني أن الزوج له أن يمنع زوجته من الكفالة بالوجه، ظاهره ولو كان المال الذي على المضمون دون ثلثها، وهو ظاهر ما ذكره في التوضيح والشامل وابن عرفة عن ابن عبد الحكم وقبلوه، وزاد: ولو شرط عدم الغرم، قال في التوضيح: ولو تكفلت ذات زوج على أن لا مال عليها فلزوجها رد ذلك؛ لأنه يقول: قد تحبس وأمنع منها وتخرج للخصومة وليس ذلك علي اهـ. وعلى هذا أيضا فيمتنع تحملها بالطلب. فتأمله واللَّه أعلم. اهـ. قاله الحطاب.
ونحوه لعبد الباقي فإنه قال: وللزوج رده من زوجته ولو كان دين من ضمنت وجهه لا يبلغ ثلثها؛ لأنه يقول: قد تحبس فأمتنع منها أو تخرج للخصومة وذلك معرة علي، والتعليل المذكور ظاهر في ضمانها لغيره، ومثل ضمانها للوجه ضمان الطلب فللزوج رده، وأما ضمان المال فقد مر. اهـ. قوله: لأنه يقول قد تحبس لخ، نحوه في المواق لكنه يأتي في ضمان المال أيضا، فلو عللوا بأنه مظنة أن تخرج في طلبه كان ظاهرا. قاله البناني.
وبرئ بتسليمه له يعني أن ضامن الوجه إذا سلم المضمون عند الأجل لرب الدين فإنه يبرأ فلا يطالب بعد ذلك بإحضاره ولا يغرم إن لم يحضره، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إن تكفل برجل أو بوجهه أو بنفسه أو بعينه إلى أجل ولم يذكر مالا، فإنه إذا أتى بالرجل عند الأجل مليا أو معدما برئ المتيطى، وإذا أخذ بالحميل حميلا فغاب الغريم والحميل الأول كلف الحميل الآخر أن يحضر أحدهما الحميل الغريم أو الحميل، فأيهما أحضر برئ إن كان الذي أحضر موسرا وإلا غرم. اهـ. وقال عبد الباقي: وبرئ بتسليمه له في مكان يقدر على خلاص، والضمير في تسليمه للمدين وهو مصدر مضاف إلى مفعوله، وفاعل التسليم الضامن، والضمير في له لرب الدين، وقال الخرشي: إنه مضاف إلى فاعله والمفعول محذوف أي بتسليم الضامن المضمون. انتهى.
وإن بسجن يعني أن الضامن إذا سلم المضمون لرب الدين وهو في السجن فإنه يبرأ، ومعنى التسليم للمدين المسجون أن يقول الضامن لرب الدين: صاحبك في السجن فشأنك به وهذا إذا أمكنه خلاص حقه منه وهو في السجن، وإلا فلا يبرأ بتسليمه، قال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إذا حبس المحمول بعينه فدفعه الحميل للطالب وهو في السجن برئ الحميل؛ لأن الطالب يقدر على أخذه في السجن فيحبس له بعد تمام ما سجن فيه، وقال الشارح مفسرا للمص: يريد أن ضامن الوجه
يبرأ بتسليم الغريم للطالب، يريد في مكان تأخذه فيه الأحكام، قال في المدونة: ويبرأ إن دفعه إليه بمكان فيه حاكم، وإن أسلمه إليه في مكان لا سلطان فيه أو في حال فتنة أو مفازة أو في مكان يقدر الغريم على امتناع منه لم يبرإ الغريم حتى يدفعه إليه بموضع يصل إليه وبه سلطان فيبرأ.
وقوله: "وإن بسِجْنٍ" يعني أن الغريم إذا سجن في حق لغير الطالب فسلمه الحميل له فيه فيبرأ ولا يضر ذلك في تسليمه إليه، قال في المدونة: وإذا حبس المحمول بعينه فدفعه الحميل إلى الطالب وهو في السجن برئ: لأن الطالب يقدر على أخذه في السجن ويحبس له في حقه بعد تمام ما حبس فيه. اللخمي. والمازري: وسواء سجن بحق أو بالباطل لإمكان أن يحاكمه عند القاضي الذي حبسه، فإن منع هذا الطالب منه ومن الوصول إليه فيجري ذلك مجرى موته، وموته يسقط الكفالة. اهـ.
وقال الحطاب: قال ابن المواز في أثناء كلامه: لو سلم الكفيل الغريم وهو محبوس في سجن القاضي، فإن هذا التسليم يسقط الكفالة لكون المتكفل له يتمكن من طلبه وهو في الحبس ومحاكمته عند القاضي الذي حبسه حتى يمكنه من حقه ويقضي بذلك على المحبوس، وإن وجب حبسه زاد في مقدار أمد الحبس لأجل هذا الطلب الثاني بحبس ما يقتضيه الاجتهاد. اهـ. وقال ابن عرفة: الباجي: ولو كان حبسه في دم أو دين أو غيره، ويكفي قوله: برئت إليك منه وهو في السجن فشأنك به، كان سجنه في حق أو تعديا، قال ابن عرفة: قلت في التعدي نظر لأنه مظنة لإخراجه برفع التعدي عنه، وقال عبد الباقي: وإن سلمه في سجن في حق آخر وكذا ظلما بالأولى وكلاهما مقيد بما إذا أمكن خلاص حقه منه وهو به. انتهى.
قوله: وكلاهما مقيد لخ، قال البناني: لم أر من ذكر هذا القيد وهو غير ظاهر، ففي التوضيح ما نصه: اللخمي والمازري: وسواء سجن بحق أو باطل لإمكان أن يحاكمه عند القاضي الذي حبسه، فإن منع هذا الطالب منه ومن الوصول إليه فيجري ذلك مجرى موته، وموته يسقط كفالته. اهـ. ونقله ابن عرفة أيضا، وقال: قلت في التعدي نظر لأنه مظنة إخراجه برفع التعدي عنه فلا يتمكن منه فيه اهـ وفيه نظر لإمكان أن يحاكمه في الحين، فإن منع منه جرى مجرى موته كما تقدم عن اللخمي والمازري. اهـ.
وقوله: وكذا ظلما بالأولى، قال الرهوني: في الأولوية نظر لأن السجن بحق متفق عليه وبظلم مختلف فيه. تأمله. وقول البناني: لم أر من ذكر هذا القيد لخ ذكره البرزلي وبه كان يفتي ويدرسه
(1)
، وسلمه تلميذه ابن ناجي واستشهد له بظاهر كلام المدونة، ففيها ما نصه: وإذا حبس المحمول بعينه فدفعه الحميل إلى الطالب وهو في السجن برئ الحميل؛ لأن الطالب يقدر على أخذ حقه في السجن ويحبس له في حقه بعد تمام ما سجن فيه، وكذلك إن دفعه له بموضع فيه حاكم أو سلطان يبرأ، وإن دفعه له بموضع لا سلطان فيه أو في حال فتنة أو في مفازة أو بمكان يقوى الغريم على الامتناع منه لم يبرأ منه الحميل حتى يدفعه إليه بموضع يصل إليه منه وبه سلطان فيغرم. اهـ.
قال ابن ناجي ما نصه: ظاهره ولو سجن في ظلم وهو كذلك نص عليه اللخمي، قال بعض شيوخنا: فيه نظر؛ لأنه مظنة لإخراجه بدفع التعدي عنه، وظاهر قولها لأن الطالب يقدر على أخذه في السجن أنه لو كان لا يقدر كما هو اليوم إذا كان في سجن السلطان أو كان في يد خدامه فإنهم يمنعون طالبه من أخذه حتى يتخلصوا منه فلا يبرأ الحميل بإحضاره هكذا، وبه كان شيخنا حفظه اللَّه يفتي ويدرس. اهـ منه بلفظه. قلت: ويؤخذ ذلك أيضا من قولها لم يبرأ منه حتى يدفع إليه بموضع يصل إليه ربه لخ وهو ظاهر، فقول البناني: وهو غير ظاهر فيه نظر لأن قياسه على ما ذكره في المدونة وغيرها من دفعه في زمن الفتنة، وما ذكر معه أولى من قياسه على موته لخراب ذمته بالموت وبقائها فيما عداه، والذمة في محل النزاع باقية وقد تعذر الأخذ منها فيؤخذ الحق من الضامن. انتهى.
تنبيهان:
الأول: قد علمت أنه يكفي من التسليم إذا كان في السجن أن يقول له: صاحبك في السجن فشأنك به كما في الخرشي وغيره، قال البناني: مما يشبه ذلك ما إذا أحضر مضمونه في زاوية ولم يمكن إخراجه منها، فالذي وقع منه الحكم وبه العمل أن ذلك إحضار يبرأ به، قال في نظم العمل:
(1)
لفظ الرهوني ج 6 ص 29: ويدرس.
وضامن مضمونه قد أحضرا
…
بموضع إخراجه تعذرا
يكفيه ما لم يضمن الإحضار له
…
بمجلس الشرع بتلك المنزله
الثاني: قال الشارح: لو شرط الحميل بالوجه أنك إن لقيت غريمك سقطت الكفالة عني اعتبر هذا الشرط إن لقيه في مكان تناله فيه الأحكام لا إن لم تنله. قاله في العتبية من التوضيح. اهـ.
أو بتسليمه نفسه مفعول المصدر قبله وهو معطوف على بتسليمه له؛ يعني أن الضامن يبرأ بتسليم المضمون نفسه لرب الحق، بشرط أشار إليه بقوله: إن أمره؛ أي إنما يبرأ المضمون بتسليمه نفسه لرب الدين إذا أمر المضمون الضامن بذلك التسليم، فالضمير المستتر في أمره عائد على الضامن، والبارز عائد على المضمون أي المدين والمجرور عائد على التسليم، قال الشارح: أي وهكذا يبرأ الحميل إن سلم الغريم نفسه للطالب بشرط أن يكون الحميل قد أمره أن يسلم نفسه له؛ لأنه يصير كوكيله. وقاله ابن المواز. والظاهر أنه تقييد للمدونة، ومذهب المدونة وهو المشهور أن الغريم لو سلم نفسه للطالب وأشهد أنه رفع نفسه إليه وقال له أسقط الكفالة عن من تحمل بوجهي أن الكفالة لا تسقط، قال في المدونة: ولو كان بموضع تنفذ فيه الأحكام إلا أن يسلمه الحميل بنفسه أو وكيله إلى الطالب.
ابن المواز: أو يقول الحميل للغريم اذهب فسلم نفسك إلى من له الحق عليك فإن ذلك يسقط الكفالة، وهو مراد الشيخ بقوله: إن أمره به ويكون الغريم كوكيل له. انتهى. وقال عبد الباقي: "أو بتسليمه"
(1)
المضمون نفسه للمضمون له إن أمره أي الضامن به أي بالتسليم؛ لأنه كوكيله وأمكن الخلاص منه في جميع ذلك، فإن سلم نفسه أو سلمه أجنبي بغير أمر الضامن لم يبرأ إلا أن يقبله الطالب، ولو أنكر الطالب أمره به برئ إن شهد له ولو واحدا ولو لم يحلف معه، ومحل هذا الشرط في المص إن لم يشترط حميل الوجه أنك إن لقيت غريمك سقطت الحمالة عني، فإن شرطه برئ إن لقيه بموضع تناله الأحكام فيه ولا يفتقر لتسليمه. قاله في العتبية. انتهى.
(1)
لفظ عبد الباقي ج 6 ص 37: بتسليمه أي المضمون.
قوله: ولو لم يحلف معه لخ، قال البناني: غير ظاهر، ولم أر من قال به. اهـ. قال الرهوني: وجه عدم ظهوره مخالفته للقواعد، وجوابه أن مخالفته للقواعد إذا لم نقل بما قاله الزرقاني حاصلة أيضا؛ إذ يؤدي الأمر إلى أمر ممنوع بالسنة والإجماع؛ لأنا إذا قلنا لا يبرأ من الدين بذلك لزم أن نقول إنه يتوجه عليه الغرم بنكوله دون يمين الطالب لرد ما شهد به الشاهد، وفي ذلك مخالفة للقواعد وإن كلفناه بالحق كلفناه بالغموس؛ إذ من أين له أنه لم يأمره بذلك، ودعواه أنه كان مصاحبا له من وقت الضمان إلى وقت النزاع ليلا ونهارا وأن بينة أخبرته بذلك لم تفارقه ليلا ونهارا متعسرة إن لم تكن متعذرة فتأمله. واللَّه أعلم. انتهى.
وقوله: إن حل الحق شرط في المسألتين، بخلاف قوله:"إن أمره به" فإنه شرط في الثانية فقط فليس الشرطان متواردين على محل واحد، ولذا أسقط العاطف، ولو عطف الثاني بالواو لأوهم قصره على الثانية، ومعنى كلام المص أن الضامن إنما يبرأ من الضمان بالتسليم في المسألتين إن حل الحق على المضمون، وأما إن لم يحل الحق على المضمون فإن الضامن لا يبرأ بالتسليم المذكور في المسألتين، قال عبد الباقي: إن حل الحق على المضمون بمضي أجل الدين، وقولي: إن حل الحق على المضمون لخ هو الصواب كما في الشارح، سواء حل على الضامن أيضا أم لا، كما إذا أخر رب الدين الضامن وحلف أنه لم يقصد بذلك تأخير الدين قياسا على ما مر في ضامن المال، ولا يحل على الضامن بموته قبل حلول أجل الدين على المعتمد بل يوقف من تركته قدر الدين إلى حلوله إن لم يكن وارثه أمينا كما مر عن أبي الحسن، خلافا لقول ابن المواز: يحل بموته وإذا أحضره وارثه حينئذ لرب الدين قبل حلول أجل الدين برئ فإنه ضعيف. اهـ بإصلاح.
قوله: ولا يحل على الضامن بموته لخ يشير بذلك إلى ما قدمه عند قوله: "وعجل بموت الضامن" لخ، ونصه: وشمل كلاهه ضامن الوجه فإن مات لم تسقط الكفالة على المشهور، لكن إنما يطلب وارثه بإحضار غريمه إن حل دينه وإلا وقف من تركة الضامن قدر الدين حتى يحل إن لم يكن الوارث مأمونا. انظر أبا الحسن. انتهى. وقال الحطاب عند قوله:"إن أمره به" ما نصه: مفهومه أنه إن لم يأمره به لا يبرأ وهو كذلك، قال ابن عرفة عن ابن المواز: هذا إن لم يرد الطالب قبوله
إلا
(1)
حتى يسلمه له الحميل، ولو قبله برئ كمن دفع دينا عن أجنبي للطالب أن لا يقبله إلا بتوكيل الغريم وله قبوله فيبرأ. انتهى.
وبغير مجلس الحاكم إن لم يشترط، قال الخرشي: يعني أن ضامن الوجه يبرأ إذا أسلم المضمون لرب الحق في غير مجلس الحكم، إلا أن يشترط صاحب الحق على الضامن أن لا يبرأ إلا بتسليمه الغريم له في مجلس الحكم، فإن الشرط يعمل به ولا يبرأ إلا بتسليمه فيه بشرط أن يكون باقيا على حاله تجري فيه الأحكام، فإن خرب فسلمه له فيه فهل يبرأ بذلك أم لا؟ قولان ذكرهما ابن عبد الحكم. قاله في التوضيح عن صاحب الكافي. ومبنى القولين هل المُراعى اللفظ أو القصد؟ انتهى.
وبغير بلده إن كان به حاكم يعني أنه إذا لم يشترط إحضار الضامن للمضمون في بلد معين فأحضره لرب الحق في بلد غير البلد الذي وقع فيه الضمان، فإن الضامن يبرأ بذلك بشرط أن يكون بذلك البلد حاكم. هكذا في المدونة. وعلى هذا حمل المص عبد الباقي وبغير بلده أي الضمان إن كان به أي بذلك الغير حاكم، وأما إحضاره بغير بلد الاشتراط أي بغير البلد الذي اشترط عليه أن يحضره له فيها ففي براءته به وعدمها قولان مرجحان، فلا يحمل المص عليه للاعتراض عليه حينئذ بأنه اقتصار على أحد قولين لم يرجح أحدهما، لكن في التتائي عن بعض أشياخه أنه شهر القول بالبراءة. انتهى.
قوله: فلا يحمل المص عليه لخ رد به على الحطاب حيث قال: يصح أن يعود الضمير على الاشتراط؛ ثم قال: والمعنى أنه إذا اشترط الطالب على الحميل أن يحضر له المديان ببلد فأحضره في غيره فإنه يبرأ إن كان الموضع الذي أحفره فيه تأخذه فيه الأحكام، وإذا حمل كلام المص على هذا كانت مسألة المدونة مفهومة منه بالأحروية، وهي ما إذا لم يشترط إحضاره بموضع معين فأحضره الحميل في غير البلد الذي وقع فيه الضمان. اهـ.
ومسألة المدونة هي التي قررت بها كلام المص تبعا لعبد الباقي كما رأيت، قال البناني عن الحطاب: لعل المص رجح هذا القول؛ يعني القول بأنه يبرأ إذا أحضره له بغير البلد المشترط:
(1)
في الحطاب ج 5 ص 496: قبوله حتى.
لقول المازري: إنه يلاحظ فيه مسألة الشروط التي لا تفيد، وكونها قد تفيد في بعض الصور لا يمنع ذلك لأن الصور النادرة لا تراعى. اهـ. وبه يسقط اعتراض الزرقاني، لكن حمله على مسألة المدونة أقرب. واللَّه أعلم. انتهى.
ولو عديما مبالغة في قوله: وبرئ إلى هنا، يعني أن حميل الوجه يبرأ بما ذكر من الإحضار على الوجوه المذكورة، ولو كان المضمون المحضر عديما فليس كضامن المال، فإنه يطالب إذا حضر المدين معسرا وهذا هو المشهور، خلافا لابن الجهم، وبه قال ابن اللباد: قال إنما يبرأ الضامن بإحضار المضمون إذا كان موسرا، قال الرهوني: ابن الجهم روى ذلك عن مالك كما للخمي وعياض والتوضيح وابن عرفة وغيرهم، ونص اللخمي: وقد قال ابن الجهم عن مالك: لا يبرأ إلا بوصول الحق إلى صاحبه، قال: لأنه تحمل به في وقت يساره فيأتي به في وقت إعساره. فقد أتلف عليه المال. انتهى. وقوله: "ولو عديما" هو نص المدونة، قال ابن القاسم: إن تكفل برجل أو بوجهه أو بنفسه أو بعينه إلى أجل ولم يذكر مالا، فإنه إذا أتى بالرجل عند الأجل مليا أو معدما برئ. انتهى.
وإلا مركب من إن الشرطية ولا النافية، راجع لقوله: وبرئ بإحضاره إلى هنا؛ أي وإن لم تحصل براءة حميل الوجه بوجه مما سبق أغرم حميل الوجه ما على المضمون، فقوله:"أغرم" بضم الهمزة وسكون الغين العجمة وكسر الراء وفتح اليم فهو مبني للمفعول، ونائبه ضمير يعود على الضامن، ومفعوله الثاني محذوف أي الدين إذا لم تحصل براءة لضامن الوجه فإنه يؤخذ منه الحق الذي على المضمون؛ لأنه ضمن وجه الغريم ولم يأت به، لكن إنما يؤخذ منه الحق حيث لم يأت بالحميل بعد خفيف تلوم أي يتلوم له تلوما قليلا بقدر اجتهاد الحاكم، لعله يأتي بالمضمون.
ومحل هذا التلوم القليل إنما هو إن قربت غيبة غريمه أي المضمون، فالمراد بالغريم هنا المدين، ومثل لقريب الغيبة بقوله: كاليوم أي إنما يتلوم للضامن إذا كان المضمون على مسافة قريبة كاليوم ونحوه، وأما إن بعدت فإنه يغرم بلا تلوم، قال عبد الباقي: ومقتضى كلام المؤلف أن الغريم إذا كان حاضرا فإن الضامن يغرم من غير تلوم، والذي في المدونة أنه يتلوم له في هذه الحالة أيضا، فلو
قال: إن حضر أو قربت غيبته لوفى بما في المدونة. اهـ. لكن الظاهر أن أمد التلوم للغائب أكثر من أمده للحاضر. انظر البناني.
ومن المدونة: إن لم يأت حميل الوجه بالغريم عند الأجل والغريم حاضر تلوم له، وإن كان غائبا قريب الغيبة مثل اليوم وشبهه تلوم له كما يتلوم للحاضر، قال في العتبية: بقدر ما لا يضر فيه بالطالب وما يجتهد به للحميل، فإن أتى به بعد التلوم فلا شيء عليه وإلا أغرم المتيطى: يلزم بضمان الوجه غرم المال الذي ثبت قبل المضمون عنه إذا لم يحضر الوجه ولما كان له مال حاضر. اهـ. نقله المواق.
وقال الشارح: أي وإن لم تحصل براءة الحميل بوجه من الوجوه المذكورة غرم ما على الغريم وهو المشهور، والشاذ لابن عبد الحكم لا غرامة عليه؛ لأنه لم يلزم إلا إحضار الغريم وهو لا يقتضي التزام المال، وإذا قلنا بالشهور فلابد من تلوم خفيف كما ذكر وهو مذهب المدونة والموازية والعتبية، وقال ابن وهب: إذا غاب الغريم غرم الحميل بغير تلوم، وقوله:"إن قربت غيبة غريمه" يعني أن التلوم مشروط بأن يكون غيبة الغريم قريبة، فإن بعدت فلا يتلوم له، قال في المدونة: فإن بعدت غيبة الكفول به غرم الحميل مكانه، وقوله:"كاليوم" قال في المدونة: مثل اليوم وشبهه، وفي الموازية: مثل اليوم واليومين، وفي العتبية: والثلاثة.
المازري: وقيل هي يومان وثلاثة وظاهره أن هذين القولين خلاف، واختار بعض الأشياخ اليوم لأنه بقدر ما يتلوم في الحضر وذلك ثلاثة أيام؛ لأن الحميل يسافر ليأتي بالغريم مسافة يوم ويتأخر يوما في طلبه ويأتي به في اليوم الثالث، وإذا قيل يومان اقتضى ذلك خمسة أيام: يومان في الذهاب ويومان في الرجوع ويوم في الإقامة، والقول بالثلاثة أبعد لأنه يقتضي سبعة أيام، قال: والأصح عندي في هذا مراعاة الضرر فينفى عن الضامن قدر الاستعجال المضر، وعن الطالب ضرر التأخير. اهـ كلام الشارح.
ولا يسقط بإحضاره إن حكم به يعني أن الضامن إذا حكم عليه بالغرم قبل أن يحضر الدين الذي ضمن وجهه وبعد أن حكم عليه به أحضر المدين، فإن ذلك الغرم قد لزمه وترتب عليه فلا يسقط عنه بذلك الإحضار، قال عبد الباقي: ولا يسقط الغرم عن ضامن الوجه بإحضاره أي المضمون إن
حكم عليه به أي بالغرم قبل إحضاره؛ لأنه حكم مضى ويخير رب الدين حينئذ في تقديم أيهما شاء، وهذا مقيد بما إذا كان المضمون موسرا عند حلول الأجل، فإن كان معسرا رد حكمه ورجع الضامن بما دفع للطالب لقوله:
لا إن أثبت عدمه يعني أن الحميل إذا أثبت عند حلول الأجل أن المدين عديم والمدين غائب فإنه يبرأ من الكفالة فلا غرامة عليه، قال عبد الباقي: لا إن أثبت عند حلول الأجل عدمه، معناه أثبت ولو بعد الحكم عليه بالغرم أنه كان عديما حال الحكم، ثم ما ذكره المص هنا طريقة اللخمي، قال التتائي في صغيره: ويترجح ما هنا لذكره في بابه. اهـ. واقتصر في الفلس على ما لابن رشد من غرمه ولو أثبت عدمه، وقد تقرر عندهم تقديم ما لابن رشد على ما للخمي، وفي بعض التقارير والشراح أن المشهور ما هنا ونحوه للتتائي كما مر، ولكن لا يوافق قاعدة تقديم ما لابن رشد على ما للخمي؛ فلعل القاعدة أغلبية. انتهى. قوله: وقد تقرر عندهم تقديم ما لابن رشد على ما للخمي لخ: قال الرهوني: قد علمت أن محل ذلك هو قولاهما لا نقلاهما، وكلام اللخمي هنا صريح في أنه ناقل لما قاله، وإنما
(1)
قاله فيه هو الاختيار ونصه وإذا كانت الحمالة بالوجه ثم عجز الحميل عن إحضار المتحمل به غرم المال إلا أن يثبت فقره بأمرين، وأما يمينه لو كان حاضرا أنه لا يغيب شيئا فعلى الاستحسان فتسقط الكفالة وهذا هو الصواب من القول. اهـ.
أو موته يعني أن الحميل إذا ثبت موت المدين قبل أن يحكم عليه بالغرم فإنه يبرأ من الحمالة فلا غرم كليه، فإن أثبت أنه مات بعد الحكم فهو حكم مضى فيلزمه الغرم.
والحاصل أن الحكم إن سبق الموت لزم الغرم، وإن سبقه الموت لم يلزم لتبين خطإ الحكم. اهـ. وكذا العدم إن وقع الحكم بالغرم، فإن ثبت أن العدم كان عند الأجل نقض الحكم وبرئ الضامن، وإن أعدم بعد الحكم لم يبرأ.
وقوله: في غيبته راجع لقوله: "لا إن أثبت عدمه" فقط، واحترز به عما لو أثبت عدمه في حضوره أي مع عدم إحضاره لرب الدين فإنه لا يسقط عنه الغرم؛ لأنه لابد في إثبات العدم من حلف من
(1)
في الرهوني ج 6 ص 31: وأن ماله هو فيه الاختيار.
شهدت البينة بعدمه حيث حضر، فإذا لم يحلف انتفى ثبوت العدم بخلاف الغائب، فإن عدمه يثبت بالبينة فقط: فإن شهدت بعدم المضمون الحاضر وأبى أن يحلف وتعذر تسليمه للطالب غرم الضامن. قاله عبد الباقي. وقوله: "لا إن أثبت عدمه" في بعض النسخ بلا النافية وفي بعضها بإلا الاستثنائية مستثنى من قوله: "ولا يسقط بإحضاره إن حكم به" ونسخة الاستثناء هي التي شرح عليها الخرشي. واللَّه تعالى أعلم.
ولو بغير بلده راجع لقوله: "أو موته" يعني أن الكفالة تسقط بموت الغريم أي المدين قبل الحكم عليه بالغرم، سواء مات ببلده أو بغير بلده، قال الخرشي: وأشار بلو لرد تفصيل ابن القاسم في سماع عيسى. اهـ. وقال المواق: وأما موت الغريم ولو بغير بلده، فقال ابن القاسم: وإذا مات الغريم بالبلد فلا شيء على الحميل، وإن مات في غيبته لزم الغرم إلا أن يكون موت الغريم قبل الأجل بأيام لو كلف الحميل المجيء به لرجع قبل حلول الأجل، فحينئذ تسقط عنه الحمالة، وقال أشهب: لا أبالي إذا هو مات تسقط بموته في غيبته أو بالبلد.
ابن يونس: قول أشهب هو نحو ما في المدونة، قال بعض الفقهاء: وهو أشبه لأن الغيب كشف أنه لا قدرة على الإتيان به. اهـ. وقال الرهوني: مقابل لو لابن القاسم في الموازية والعتبية والواضحة، ففي سماع سحنون من كتاب الحمالة ما نصه: قال سحنون: سألت ابن القاسم عن الرجل يتحمل بوجه رجل فيموت المتحمل عنه قبل الأجل أو بعده، قال: إن كان حاضرا أو مات في الحضر فلا شي، على الحميل، وإن كان غائبا نظر فإن كان بموضع لو كلفه أتى به في الأجل أو بعده بشيء لم يكن على الحميل غرم، وإن كان بموضع لو كلفه لم يأت به إلا بعد الأجل بكثير فأراه ضامنا. اهـ منه بلفظه.
ونحوه في رسم أسلف دينارا من سماع عيسى من كتاب الحمالة إلا أنه لم يذكر التفصيل بين الكثير والقليل، وزاد فيه ما نصه: وكل ما قلت لك من خلاف هذا فدعه وخذ بهذا، قال القاضي رضي الله عنه: رواية سحنون عن ابن القاسم تحمل على التفسير لرواية عيسى عن ابن القاسم هذه، ولما حكى ابن حبيب عنه في الواضحة من رواية أصبغ ومثل هذا في كتاب ابن المواز وكل هذا خلاف لما
في المدونة فنقل كلامها، ثم قال: فعلى ما في المدونة إذا مات لا يبالي حيث مات تسقط الحمالة بحإته في غيبته أو في البلد وهو قول أشهب. اهـ منه بلفظه.
وقال في قوله في رواية سحنون أو شيء ما نصه: يريد بمقدار ما كان يتلوم له فيه لو طلبه منه لم يكن عليه غرم، وقد صرح ابن يونس بأن ما لأشهب موافق لما في المدونة وما لابن القاسم في الموازية خلاف. اهـ المراد منه.
تنبيه:
قال الحطاب: وانظر إذا غرم ثم أثبت أنه كان عديما قبل القضاء هل يرجع أم لا؟ واللَّه أعلم. اهـ. واعترضه أبو علي، فقال: كأنه لم يقف على كلام اللخمي، ثم قال عن أبي علي: وعلى هذا فقول المتن: "إن أثبت عدمه" أي ولو بعد الحكم عليه بالغرم ودفع المال، ثم قال: ونحوه له في حاشية التحفة. قلت: في ما قاله نظر لاختلاف الموضوع، إذ تنظير الحطاب فيما إذا ثبت عدمُه بعد الحكم عليه وهو غائب، وكلام اللخمي إنما هو فيما إذا قدم بعد الحكم عليه، ثم قال عن اللخمي: والمسألة على ثلاثة أوجه: فإن قدم معسرا وكان عند حلول الأجل موسرا كان الحكم ماضيا، وإن كان معسرا عند حلول الأجل رد الحكم، وإن غرم الحميل المال استرجعه لأن غيبة الغريم لم تضر الطالب بشيء، ولو كان حاضرا لم يأخذ منه شيئا وإن كان موسرا يوم حل الأجل ويوم قدم كان الحكم قد وقع موقعه وكان الآن بمنزلة الحميل.
واختلف هل يبتدأ بالحميل أم لا؟ اهـ منه بلفظه. فإن عنى أبو علي أن كلام اللخمي هذا نص في عين ما توقف فيه الحطاب فقد علمت ما فيه وهذا هو المستفاد من كلامه، وإن عنى أن ذلك يؤخذ من كلام اللخمي بالقياس ففيه نظر، إذ لا يلزم من جزم اللخمي بسقوط الحكم بثبوت العدم وحضور الغريم سقوطه عنده لثبوت العدم بعد الحكم من غير حضور الغريم. فتأمله بإنصاف. اهـ.
ورجع به يعني أن الضامن الذي حكم عليه بالغرم وغرم يرجع به أي بما دفعه على رب الدين إذا أثبت أن الغريم قد مات في غيبته قبل الحكم أو أعدم حين حل الحق، فهو راجع لمسألتي العدم والموت كما في الطخيخي، وجعل أحمد والحطاب له في مسألة الموت
(1)
قصور، وأما إذا غرم في غيبة
(1)
لفظ عبد الباقي ج 4 ص 38: في مسألة الموت فقط قصور.
الغريم أو موته من غير قضاء ثم أثبت موته أو عدمه قبل الغرم فإنه لا يرجع على رب الدين؛ لأنه متبرع كما في الطخيخي. قاله عبد الباقي. وتقدم في التنبيه قبل هذا مناقشة الرهوني لعبد الباقي في نسبة الحطاب للقصور وكذا البناني؛ فقوله: "ورجع" بالبناء للفاعل وفاعله ضمير يعود على الضامن: وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: لو غاب الغريم فقضي على حميل الوجه بالمال فودَّاه ثم أثبت ببينة أن الغريم مات في غيبته قبل القضاء رجع الحميل بما أدى على رب الدين؛ لأنه لو علم أنه ميت حين أخذ به الحميل لم يكن عليه شيء، وإنما تقع الحمالة بالنفس ما كان حيا. اهـ.
وبالطلب عطف على قوله: "بالوجه" يعني أن الكفالة بالطلب تصح؛ كأن يقول أنا حميل بأني أطلبه فإن لم أجده برئت من المال، وضمان الطلب عبارة عن التفتيش عن الغريم من غير إتيان به، قال المواق: قال مالك: لو شرط حميل الوجه أني أطلبه فإن لم أجده برئت من المال ولكن علي طلبه حتى آتي به لم يلزمه إلا ما شرط. ابن المواز: أو يقول لا أضمن إلا وجهه، فهذا لا يضمن إلا الوجه غاب أو حضر أو مات أو فلس، ولا يحبس إن لم يحضره إلا أن يعلم بمكانه فيحبس بقدر ما يرى السلطان مما يرجو به إحضاره، وفي المدونة قال غيره: لا يلزمه من المال شيء جاء بالرجل أو لم يأت به، إلا أن يمكنه بقدر الأجل إحضاره ففرط فيه حتى أعوزه فهذا قد غره. اهـ.
وإن في قصاص يعني أن ضمان الطلب يصح فيما ترتب على المضمون من مال أو غيره كقصاص، قال الشارح: أي وكذلك يصح الضمان بالطلب وإن كان على المطلوب قصاص وضمنه بسببه؛ لأنه لا يلزمه فيه غرم. عياض: ويصح ضمان الطلب في كل شيء حتى في القصاص. اهـ. وأشار إلى صيغة ضمان الطلب وأنها إما بصريح لفظه وإما بصيغة ضمان الوجه مع اشتراط نفي المال بقوله: كأنا حميل بطلبه يعني أن من أمثلة صيغ ضمان الطلب أن يقول: أنا حميل بطلبه أو عليَّ أن أطلبه أو لا أضمن إلا طلبه أو أنا مطالب بطلبه.
أو اشترط نفي المال يعني أنه إذا اشترط الحميل نفي المال فإن ذلك ضمان طلب؛ فإن لم يأت بالمضمون فلا غرم عليه كقوله: أضمن وجهه وليس علي من المال شيء، قال المواق: قال ابن رشد: الحميل بالوجه يلزمه غرم المال إذا لم يحضر المعين، فإن أحضره برئ من المال وإن كان عديما إلا
أن يشترط أن لا شيء عليه من المال فينفعه الشرط، ولا يجب عليه غرم المال وإن لم يحضره إلا أن يكون قادرا على الإتيان به فيفرط في ذلك أو يتركه أو يغيبه حتى يذهب فيكون ضامنا للمال بإهلاكه إياه، وما لم يفعل شيئا من ذلك فلا ضمان عليه في المال وإنما يلزمه الطلب خاصة على ما اشترط، وفيما يلزمه من الطلب اختلاف. اهـ. وقال عبد الباقي: أو اشترط نفي المال بالتصريح كأضمن وجهه وليس علي من المال شيء، أو ما يقوم مقام التصريح.
كما أشار إليه بقوله: أو قال لا أضمن إلا وجهه قوله: "لا أضمن إلا وجهه" أصله في الموازية لابن المواز نفسه، ونقله الباجي وابن يونس وسلماه، واعترضه ابن رشد في المقدمات والبيان قائلا: عندي فيه نظر؛ إذ لا فرق بين قوله: "أضمن وجهه"، وبين قوله:"لا أضمن إلا وجهه"، كما أنه لا فرق بين قول القائل أسلفني فلان دينارا وقوله ما أسلفني إلا دينارا، إلا أن يكون هناك بساط، كما إذا قيل تضمن وجه فلان فإن لم تأت به غرمت ما عليه، فقال: لا أضمن إلا وجهه. اهـ ملخصا. ونقل ابن عبد السلام وابن عرفة اعتراض ابن رشد وسلماه، وكأن المص لم يرتضه فاعتمد ما لابن المواز. واللَّه أعلم. قاله الرهوني.
وطلبه بما يقوف عليه، "طلبه" بصيغة الماضي فيفيد وجوب الطلب؛ يعني أن حميل الطلب يلزمه أن يطلب الدين طلبا يقوى عليه، فقوله:"بما" أي بالأمر الذي يقوى عليه من المسير إليه، ونحوه قوله:"وطلبه بما يقوى عليه"، قال البناني: يتعين قصر كلام المص على معلوم الموضع؛ لأن المجهول إنما يطلبه في البلد وما قرب منه كما في التوضيح. اهـ. وقال الشارح: قال اللخمي: إن لم يعلم موضعه وحيث توجه كان عليه أن يطلبه في البلد وفيما قرب منه، واختلف إذا عرف مكانه فقال أصبغ: يطلبه على مسيرة اليوم واليومين وحيث لا مضرة فيه، وقال ابن الماجشون: يخرج أو يؤدي عنه. ابن حبيب: والشهر ونحوه من أسفار الناس، وقال ابن القاسم في العتبية: يعتبر في هذا ما يقوى الكفيل عليه فيكلفه وما لا يقوى عليه فلا يكلفه، وإلى مذهب ابن القاسم أشار بقوله:"وطلبه بما يقوى عليه"، قال في البيان: وحكى الفضل عن ابن عبد الحكم أن السلطان يتلوم له، فإن جاء به وإلا حبسه حتى يأتي. اهـ.
وحلف ما قصر يعني أن حميل الطلب إذا لم يأت بالمدين فإنه يحلف أنه ما قصر في طلبه، قال الشارح عند قوله:"وحلف ما قصر" ما نصه: هكذا قال ابن الهندي أن على حميل الطلب أن يحلف أنه ما قصر في طلب الغريم ولا دلس فيه، وأنه لا يعلم له مستقرا، وظاهر قول ابن القاسم في العتبية أنه مصدق من غير يمين، ونصه: وإذا خرج لطلبه ثم قدم وقال لم أجده، وقال الطالب من يعلم أنك بلغت الموضع، القول قول الحميل إن مضت مدة يذهب فيها ويرجع اهـ المراد منه.
وغرم إن فرط أو هربه يعني أن حميل الطلب إذا تمكن من إحضار المدين ففرط فيه حتى هرب أو أنذره فهرب وهو معنى قوله: "أو هربه" فإنه يغرم ما عليه، وعوقب يعني أن محل تضمين حميل الطلب ما على المضمون إنما هو حيث تمكن من الإتيان بالضمون ولم يأت به؛ كإن لقيه فتركه أو أنذره فهرب، وأما إن لم يتمكن من إتيانه بأن لم يلقه ولا هربه بل قصر في طلبه كما إذا ذكر له ببلد فخرج لغيره أو خرج وأقام بغير بيته فإنه يعاقب ولا غرم عليه، ولا تجتمع العقوبة والغرم فهذه ثلاثة أقسام، وقال الخرشي: وغرم إن فرط أي بالفعل أو هربه أي بالفعل.
وقوله: "وعوقب" أي
(1)
اتهم على أنه فرط. اهـ. وقال المواق عند قوله "أو عوقب" ما نصه: ابن القاسم: إن قال الطالب هو بموضع كذا فخرج فأثبت الطالب أنه خرج وأقام بقرية ولم يتماد فليعاقبه السلطان بالسجن بقدر ما يرى، وأما أن يضمنه المال فلا إلا أن يثبت أنه غيبه أو لقيه فتركه. اهـ. ونحوه في التوضيح، وقال عبد الباقي: ثم إذا كان المضمون فيه قصاص فالظاهر أنه حيث وجب عليه الغرم بتفريطه يضمن دية عمد، ولكن مفاد ابن عرفة أنه لا غرم عليه وينبغي أن يعاقب. قاله علي الأجهوري. اهـ. قوله: فالظاهر أنه حيث وجب عليه الغرم لخ، قال البناني: هذا قصور، فإن ابن رشد في المقدمات إنما قال في ضمان الطلب في القصاص: إن الضامن يلزمه طلب المكفول، قال: وقال عثمان البتي: إذا تكفل بنفس في قصاص أو جراح فإنه إن لم يجيء به لزمته الدية وأرش الجراحات وكانت له في مال الجاني؛ إذ لا قصاص على الكفيل. اهـ. فأنت تراه إنما عزا لزوم الدية لعثمان البتي وهو خارج المذهب.
(1)
عبارة الخرشي ج 6 ص 36: وعوقب أي إذا اتهم.
وقال عياض في التنبيهات في ذلك: ولا شيء عليه إن لم يأت به إلا عند عثمان البتي فإنه يلزم الحميل بالنفس في القتل والجراح إن لم يأت به دية القتل وأرش الجراحات، ولأصبغ في الواضحة في الفاسق المتعسف على الناس بالقتل وأخذ المال: فيؤخذ ويعطي حميلا بما عليه من قتل وأخذ مال أنهم يؤخذون بالمال خاصة أو به وبالدية في القتل. عياض: وهو على هذا التأويل موافق لعثمان البتي يلزم الحميل في القتل والجراح إن لم يأت به دية القتل وأرش الجراح. اهـ. ونقله في التوضيح. وهو يفيد أن ما قاله البتي يأتي على أحد التأويلين في كلام أصبغ في المذهب، لكن لا يخفى ضعفه، والبتي بالموحدة والمثناة الفوقية هكذا رأيته في المقدمات والتنبيهات والتوضيح. وهو واللَّه تعالى أعلم نسبة إلى بيع البت.
وأشار المص إلى صيغ الضمان بقوله: وحمل في مطلق أنا حميل يعني أن الضامن إذا قال أنا حميل وأطلق في ذلك أي لم يقيده بمال ولا بوجه لا لفظا ولا نية، فإن ذلك يحمل على أنه كفيل بالمال وزعيم يعني أن الضامن إذا قال أنا زعيم بكذا فإنه يحمل على أنه ضامن للمال حيث أطلق في قوله ذلك أي لم يقيد بمال ولا بوجه لا لفظا ولا نية، وأذين يعني أن الضامن إذا قال أنا أذين وأطلق أي لم يقيد بمال ولا بوجه لا لفظا ولا نية فإنه يحمل على أنه ضامن للمال، وقبيل يعني أن الكفيل إذا قال أنا قبيل بكذا فإنه يحمل على أنه ضامن للمال حيث أطلق في ذلك.
وعندي يعني أن الحميل إذا قال عندي ما على فلان وأطلق في قوله فإنه يحمل على أنه كفيل بالمال، وإلي يعني أن الكفيل إذا قال إلي ما على فلان وأطلق فإنه يحمل على أنه ضامن للمال، وشبهه يعني أن الضامن إذا قال ما يشبه واحداهن هذه الألفاظ وأطلق كعلي وكوين وصبير وكفيل وضامن وغرير بغين معجمة فمهملتين بينهما مثناة تحتية، فإن ذلك يحمل على المال، وما فسرت به المطلق هو الذي فسره به أحمد. نقله عنه عبد الباقي. ونصه: وقال أحمد: المراد بالمطلق العاري عن التقييد باللفظ والنية. اهـ. وفسر عبد الباقي المطلق بقوله: والمراد بالمطلق ما عري عن التقييد بالمال ولا بالوجه بلفظ ولا قرينة. اهـ.
وما فسره به أحمد فسره به الخرشي فإنه قال: المراد بالمطلق الذي لم يقيد بمال ولا بوجه لا بلفظ ولا نية؛ إذ لو نوى شيئا اعتبر كما في المدونة. اهـ. وقال الشارح: قال في المدونة: ومن قال أنا
حميل أو زعيم أو ضامن أو قبيل أو هو لك عندي أو علي أو إلي فذلك كله حمالة لازمة، إن أراد الوجه لزمه وإن أراد المال لزمه، فإن لم يدع أنه أراد شيئا فاختلف الأشياخ هل يحمل على المال أو على الوجه؟
وعلم مما قررت أن قوله على المال راجع لقوله وحمل إلى هنا واختار ابن يونس وابن رشد أنه بالمال، ولهذا قال: على الأرجح والأظهر، فالأرجح إشارة إلى ابن يونس، والأظهر إشارة إلى ابن رشد. ونص ابن يونس: واختلف فقهاؤنا المتأخرون إذا قال أنا حميل به أو زعيم أو كفيل ولم يزد على هذا، هل يحمل على أنه بالمال أو بالوجه إذا عريَ الكلام عن دليل؟ قال: والصواب من ذلك أنه على المال لقوله عليه الصلاة والسلام: (الزعيم غارم). اهـ. وعبارة ابن رشد في المقدمات: واختلف إذا قال أنا حميل أو كفيل وعري الكلام عن دليل، فقيل: هو محمول على حمالة الوجه حتى ينص
(1)
المال، وقيل هو محمول على حمالة المال حتى ينص
(2)
الوجه وهو الأصح، لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(الحميل غارم والزعيم غارم). انتهى. وقال ابن عرفة: وفي حمل لفظها المبهم العاري عن بيان لفظ أو قرينة على المال والوجه نقلا عياض عن الشيوخ. اهـ. نقله البناني. قوله: "وأذين" كأمير هو الزعيم كما في القاموس، وقال الحطاب: الأذين بالذال العجمة قال في المقدمات: والأذين مأخوذ من قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} ، ومن قوله تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ، وقال الشاعر:
فقلت قدي وغضي اللوم إنى
…
أذين بالترحل والوفود
وقال امرؤ القيس:
وإني أذين إن رجعت مملكا
…
بسير ترى منه الفرانق أزورا
(1)
في البناني ج 6 ص 39: ينص على المال.
(2)
في البناني ج 6 ص 39: ينص على الوجه.
وإنما كان الأذين بمعنى الحميل؛ لأن الأذين والأذان والإذن وما تصرف من ذلك إنما هو بمعنى الإعلام، فلما كان بمعنى الإعلام الذي لا يكون إلا بمعلوم متيقن لا يصح أن يوجد بخلافه، إذ هو مأخوذ من العلم الذي معرفة
(1)
العلوم على ما هو به، فكان قول الرجل أنا أذين بما لفلان إيجابا منه على نفسه أداء المال إليه، إذ لا يستعمل ذلك اللفظ إلا في الواجب المتعين. اهـ كلام الحطاب. والفرانق كعلابط الذي يدل البريد على الطريق، والقبيل الزعيم من القبلة بالضم وهي الكفالة، والغريم الكفيل وكذلك الكوين والصبير. واعلم أنه يعتمد هنا على الألفاظ التي يستعملها أهل العرف في الضمان لا على غيرها. انظر الرهوني وهو ظاهر صحيح.
لا إن اختلفا ما مر في لفظ مبهم عري عن النية والقرينة، وما هنا اختلفا فيما عقدا عليه الحمالة، فقال الضامن: ضمنت الوجه، وقال الطالب: ضمنت المال، فالقول للضامن وينبغي بيمين كما يدل عليه ما في كتاب محمد في الضامن إذا جاء للطالب برجل فقال: إنما ضمنت لي غير هذا، فإن القول للضامن بيمين، ويدخل في كلام المص ما إذا اختلفا في جنس المضمون وقدره، وما إذا اختلفا في الضمان وعدمه، ولا يدخل في كلامه ما إذا اختلفا في حلول المضمون فيه وفي تأجيله، فإن القول قول مدعي الحلول ولو كان هو الطالب اتفاقا. قاله عبد الباقي.
قوله: ويدخل في كلام المص ما إذا اختلفا في جنس المضمون وقدره. قال الرهوني: صحيح لكنه لم يبين كيفية العمل في ذلك، والمسألتان معا مذكورتان في أول رسم من سماع عيسى من كتاب الحمالة، ونصه: وقال في رجل تحمل عن رجل بحمالة، فقال التحمل تحملت لك بألف درهم، وقال صاحب الحق بل بخمسمائة دينار وصدقه الغريم الذي عليه الحق، قال ابن القاسم: يحلف الحميل أنه ما تحمل له إلا بالألف درهم، فإذا حلف أخذ من الحميل الألف درهم التي أقر بها فتباع بدنانير، فإن بيعت بثلاثمائة دينارا تبع صاحب الحق الذي عليه الحق بمائتين بقية الخمسين مائة دينار، ويرجع الحميل على الغريم بثلاثمائة دينار ثمن دراهمه التي بيعت فيشترى له بها دراهم، فإن بلغت ألف درهم فذلك وإن زادت فالزيادة للغريم الذي عليه الحق، فإن نقصت
(1)
كذا في الأصل والذي في الحطاب ج 5 ص 498 الذي هو معرفة.
حلف الذي عليه الحق للحميل أنه ما تحمل عنه إلا بخمس مائة دينار، فإن نكل حلف هذا الحميل وأخذ.
قال القاضي رضي اللَّه تعالى عنه: هذه مسألة فيها نظر، والذي يوجبه القياس فيها والنظر أن يحلفا جميعا، يحلف الحميل ما تحمل إلا بألف درهم، ويحلف صاحب الحق أنه تحمل عنه بخمس مائة دينار، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا عن اليمين كان الجواب على ما ذكر، إلا فيما قال في آخر المسألة أن المذهب التي ابتيعت بالدراهم إن نقصت عن ألف درهم فنكل الذي عليه الحق عن اليمين أنه ما تحمل عنه إلا بخمس مائة دينار يحلف الحميل ويأخذ لا يحتاج إليه إذا حلفا جميعا لأنه قد حلف مرة، فلا يلزمه أن يحلف مرة ثانية، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما إن صدقه الذي عليه الحق، وأما إن كذبه فيحلف على ما أقر به ويشترى به للحميل ما أدى، فإن كان في ذلك زيادة رجعت إليه الزيادة، وإن كان فيه نقصان لم يلزمه أكثر من ذلك؛ لأن الدراهم إذا أخذت من الحميل إنما تباع على ملكه ومصيبتها منه إن تلفت، والأجر إن احتيج في تصريفها الى أجر عليه فلا يصح أن يفعل، هذا كله إذا حلف أنه لم يتحمل عنه إلا بألف حتى يحلف صاحب الحق أنه إنما تحمل عنه بخمس مائة دينار. وباللَّه التوفيق.
مسألة:
وقال في رجل تحمل له رجل بحمالة، وقال: تحملت لك بألف إردب قمحا، وقال صاحب الحق: لا بل بخمس مائة دينار، وقال الغريم الذي عليه الحق: إنما تحمل عني بألف درهم، قال ابن القاسم: يأخذ من الغريم ألف درهم فيجعلها قضاء عن الحميل، فينظر كم ثمنها قمحا وكم يبلغ ثمن القمح؟ فإن بلغت مائة إردب أخذ من الحميل تسع مائة إردب تمام الألف إردب التي أقر بها ثم يباع ذلك كله بدنانير فيوفى صاحب الحق الخمسمائة، قال: فإن نقصت عن خمسمائة دينار لم يكن له على الحميل أكثر منها، وإن زادت على خمس مائة ردت إلى الحميل قال القاضي رضي اللَّه تعالى عنه: قوله وإن نقصت عن خمس مائة لم يكن له على الحميل أكثر منها، يريد ولم يكن له ولا للحميل رجوع على الغريم المطلوب بشيء؛ لأنه إنما أقر بألف درهم وقد غرمها، وهي مصيبة دخلت عليه وسكت في هذه المسألة عن ذكر الأيمان، ولابد منها لأن
من نقص منهم من حقه شيء فله أن يحلف من يدعي عليه، فوجه الحكم فيها أن يحلفوا كلهم وحيننذ يكون ما قال يحلف الغريم المطلوب الذي عليه الحق أنه ليس عليه إلا ألف درهم، ويحلف الحميل أنه لم يتحمل إلا بألف إردب قمحا، ويحلف الطالب صاحب الحق أنه تحمل له بخمس مائة دينار، فإذا حلفوا أو نكلوا كان الحكم في ذلك على ما قاله في الرواية، وإن نكل الذي عليه الحق وحلف الطالب والحميل لزمه ما حلف عليه الطالب وكان الحكم بين الطالب والحميل على ما ذكر في الرواية وإن نكل الطالب لم يكن على المطلوب الغرم إلا ما حلف عليه، وإن نكل الحميل لزمه ما حلف عليه الطالب ولم يكن له أن يرجع على الذي عليه الحق إلا بما حلف عليه. وباللَّه التوفيق. اهـ. وبه يتضح ما أجمله الزرقاني. واللَّه تعالى أعلم.
وقول عبد الباقي: ولا يدخل في كلامه إذا اختلفا في حلول المضمون فيه وفي تأجيله فإن القول قول مدعي الحلول، يريد أن أحدهما ادعى أنه وقع على الحلول والآخر على التأجيل، وأما لو اتفقا على أنه وقع على التأجيل واختلفا في حلوله بانقضاء أجله فالقول قول من ادعى عدم الحلول، عملا بقول المص فيما مر في اختلاف التبايعين، وإن اختلفا في انتهاء الأجل فالقول لمنكر التقضي. واللَّه تعالى أعلم.
تنبيه:
قال اللخمي في تبصرته في كتاب الشركة: والحميل يشهد على من تحمل عنه إذا أنكر فاختلف في جوازها وأن تجوز أصوب لأنه غير متهم. اهـ.
ولم يجب وكيل للخصومة يعني أن من ادعى على شخص حقا وأنكره المدعى عليه وادعى الطالب أن له بينة غائبة وطلب المدعى عليه أن يوكل من يخاصم عنه لأنه يخاف أن لا يجده عند إتيانه ببينة، فإنه لا يجب على المدعى عليه أن يوكل له وكيلا لأجل أن يخاصم عنه المدعي في المستقبل؛ لأن للقاضي سماع بينته في غيبة المطلوب كما في الشارح وغيره، ولو أقام المدعي شاهدا ولم يحلف معه وهو ظاهر. قاله عبد الباقي.
ولا كفيل بالوجه بالدعوى يعني أنه لا يجب على المدعى عليه بمجرد الدعوى أن يأتي للمدعي بكفيل بوجهه؛ أي إذا سأل المدعي أن يأتي له المدعى عليه بكفيل بوجهه لأنه يخاف إذا ذهب ليأتي ببينة تشهد له بالحق على المدعى عليه أن لا يجده، فإنه لا يلزم المدعى عليه أن يأتيه
بكفيل بوجهه حيث لم يكن إلا مجرد الدعوى وأحرى بالمال، وقوله:"بالدعوى" راجع للمسألتين وهو في الثانية خلاف ما صدر به في باب الشهادات، قال البناني: وذكر الشيخ أبو علي في شرحه أن العمل جرى بإلزام المطلوب حميل الوجه بالدعوى، سواء ادعى الطالب قرب بينته أو بعدها. انظره. اهـ.
قوله: ذكر الشيخ أبو علي في شرحه لخ، قال الرهوني: هذا قول أشهب، وقد صرح في التحفة بالعمل به، وقوله عن أبي علي: سواء ادعى قرب بينته أو بعدها، الذي في شرح أبي علي هو ما نصه: وقد تبين أن قول المتن: ولم يجب المعمول به خلافه، ولكن في الغيبة القريبة. اهـ منه بلفظه. وقال قبل ذلك ما نصه: وقد تبين من هذا أن البينة والقريبة يلزم فيها المطلوب الحميل بالوجه، فإن عجز حلف الطالب أن له بينة وسجن، وأن البعيدة يحلف فيها المطلوب ويسرح ولا يطلب بغير ذلك، ولا تسقط بينة الطالب البعيدة بحلف المطلوب، ويأتي أن الذي به العمل في البعيدة حلف الطالب وسجن المطلوب. اهـ منه بلفظه. ونحوه له في حاشية التحفة، فإنه بعد أن ذكر نحو ما مر في القريبة قال ما نصه: والذي به العمل في البعيدة تحليف الطالب أن له بينة ويسجن المطلوب، فظاهره أنه يسجن ولا يكتفى منه بالكفيل، وعليه فهو مخالف لما نسبه له البناني، ولكنه مشكل غاية بل لا يسجن إذا أتى بحميل في البعيدة بالأحرى. اهـ المراد من كلام الرهوني.
إلا بشاهد يعني أنه لا يجب على المطلوب كفيل بالوجه بمجرد الدعوى كما عرفت، وأما إن أقام على ما أدعى شاهدا فإنه يجب على المدعى عليه أن يأتيه بكفيل بالوجه هذا ظاهر المص وهو خلاف ما يأتي له في باب الشهادات من لزوم كفيل بالمال، ونحوه في المدونة والاستثناء منقطع لأن ما قبله حيث تجردت الدعوى وهو فيما إذا لم تتجرد. البناني: مذهب سحنون أنه لا يجب مع الشاهد إلا حميل الوجه، وقال ابن القاسم: يجب حميل المال، ذكر هذا الخلاف ابن هشام في المفيد، وقال: مذهب سحنون هو الذي به العمل. نقله أبو علي في حاشية التحفة. اهـ.
وان ادعى بينة بكالسوق وقفه القاضي عنده يعني أن المدعى عليه إذا أنكر الحق وقال المدعي لي بينة حاضرة بالسوق أو من بعض القبائل، فإن القاضي يوقف المدعى عليه عنده، فإن جاء المدعي
ببينة عمل بمقتضاها، وإن لم يأت بها خلى سبيل المدعى عليه، وظاهره أنه يوقفه القاضي وإن لم تثبت الخلطة. قاله الخرشي. وقال عبد الباقي: وإن ادعى الطالب أن له بينة حاضرة بكالسوق أو من بعض القبائل وقفه أي المطلوب المنكر لدعوى المدعي القاضي عنده وإن لم تثبت الخلطة، ووكل به من يلازمه ولا يسجنه فإن جاء ببينة لخ ما مر عن الخرشي، وقال المواق من المدونة: قال ابن القاسم: إن سأله وكيلا بالخصومة حتى يقيم البينة عند القاضي لم يلزم المطلوب ذلك إلا أن يشاء، وإن سأله كفيلا بالحق حتى يقيم البينة لم يكن له ذلك إلا أن يقيم شاهدا، فله أخذ كفيل وإلا فلا إلا أن يدعى بينة يحضرها من السوق أو من بعض القبائل فليوقف القاضي المطلوب عنده لمجيء البينة، فإن جاء بها وإلا خلى سبيله. اهـ.
ولما أنهى الكلام على الضمان شرع في الكلام على الشركة لأنها تستلزم الضمان في غالب أقسامها، فقال: