الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُتُونُ طالِبِ العِلِم
مُحَقَّقَةٌ عَلى (230) مَخطوُطَة
المُتُونُ الإِضَافِيَّةُ
(4)
كَشَفُ الشُبُهَاتِ
مُحَقَّقٌ عَلَى نُسَخٍ نَفِيسَةٍ عَتِيقَةٍ
لِإمَامِ الدَّعوَةِ الشَّيخ
مُحَمَّدِ بِنْ عَبْدِ الوَهَّابِ بِنْ سُلَيمَانَ التَّمِيميّ
رحمه الله (1115 هـ - 1206 هـ)
تحقيق
د. عَبد المُحْسِن بن مُحَمَّدَ القَاسم
إمَامِ وَخَطِيبِ المَسجِدِ النَّبَوي الشَريف
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
المُقَدِّمَةُ
الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الدِّينَ، وَأَقَامَ لَهُ الحُجَجَ وَالبَرَاهِينَ، وَجَلَّاهُ لِلْخَلْقِ، ثُمَّ زَاغَ أَقْوَامٌ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَأَلْقَوْا شُبُهَاتٍ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ حُجَجَ أَهْلِ البَاطِلِ دَاحِضَةٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يُلْقُونَهُ مِنْ شُبَهٍ فَإِنَّ الحَقَّ سَيَدْمَغُهُ، قَالَ سُبْحَانَهُ: {ولا يأتونك بمثلٍ إلا
جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: «{ولا يأتونك بمثلٍ} أَيْ: بِحُجَّةٍ وَشُبْهَةٍ {إِلا جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أَيْ: وَلَا يَقُولُونَ قَوْلاً يُعَارِضُونَ بِهِ الحَقَّ، إِلَّا أَجَبْنَاهُمْ بِمَا هُوَ الحَقُّ فِي نَفْسِ الأَمْرِ، وَأَبْيَنُ وَأَوْضَحُ وَأَفْصَحُ مِنْ مَقَالَتِهِمْ»
(1)
.
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ شُبَهُ المُبْطِلِينَ؛ مِنْ طَعْنٍ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَفِي دِينِهِ، وَفِي نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمِمَّا جَادَلُوا فِيهِ تَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ، فَأَثَارُوا الشُّبَهَ عَلَى أَهْلِ الحَقِّ، وَأَلْبَسُوا شِرْكَهُمْ وَتَنْدِيدَهُمْ ثَوْبَ التَّوْحِيدِ زُوراً.
(1)
تفسير القرآن العظيم (6/ 337).
وَانْبَرَى لِرَدِّ هَذِهِ الشُّبَهِ جَهَابِذَةُ العُلَمَاءِ عَلَى مَرِّ العُصُورِ، وَمِنْ أُولَئِكَ الأَفْذَاذِ إِمَامُ الدَّعْوَةِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ رحمه الله، فَقَدْ دَعَا إِلَى تَوْحِيدِ العِبَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ عَاماً، وَعَارَضَهُ أَهْلُ البَاطِلِ، وَأَثَارُوا شُبَهاً وَاهِيَةً عَلَى تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ، فَحَصَرَهَا؛ ثُمَّ أَجَابَ عَنْ كُلِّ شُبْهَةٍ بِمَا يُجَلِّي ظَلَامَهَا، فِي مُصَنَّفٍ سَمَّاهُ:«كَشْفُ الشُّبُهَاتِ» .
وَلَا تَكَادُ تَجِدُ شُبْهَةً عَلَى مَرِّ الأَزْمَانِ فِي تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ إِلَّا وَالجَوَابُ عَنْهَا مَسْطُورٌ فِي هَذَا الكِتَابِ، فَكَانَ كِتَاباً فَرِيداً فِي بَابِهِ، مُجَلِّياً لِلْحَقِّ، مُدْحِضاً لِكُلِّ شُبْهَةٍ بِالرَّدِّ عَلَيْهَا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِأَهَمِّيَّتِهِ حَقَّقْتُهُ ضِمْنَ سِلْسِلَةِ تَحْقِيقِ المُتُونِ الإِضَافِيَّةِ مِنْ «مُتُونُ طَالِبِ العِلْمِ» ، مُعْتَمِداً عَلَى نُسَخٍ خَطِّيَّةٍ نَفِيسَةٍ؛ لِيَكُونَ مُعِيناً عَلَى ثَبَاتِ أَهْلِ الحَقِّ، وَتَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ، وَزِيَادَةِ يَقِينِهِمْ بِصِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ المُعْتَقَدِ الصَّحِيحِ؛ وَلِيَكُونَ دَعْوَةً لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ إِلَى سُلُوكِ سَبِيلِ الهِدَايَةِ.
وَقَدْ جَرَّدْتُ هَذِهِ النُّسْخَةَ مِنْ حَوَاشِي الفُرُوقِ بَيْنَ نُسَخِ المَخْطُوطَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِيَسْهُلَ عَلَى الطَّالِبِ الحِفْظُ، وَأَثْبَتُّ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى.
أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَمَلَنَا فِيهِ خَالِصاً لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ، وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَرَغْتُ مِنْهُ فِي
16/ 11/ 1441 هـ
كَشَفُ الشُبُهَاتِ
لِإمَامِ الدَّعوَةِ الشَّيخ
مُحَمَّدِ بِنْ عَبْدِ الوَهَّابِ بِنْ سُلَيمَانَ التَّمِيميّ
رحمه الله (1115 هـ - 1206 هـ)
*
النُّسَخُ المُعْتَمَدَةِ فِي تَحْقِيقِ هَذَا المَتْنِ:
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِجَامِعَةِ المَلِكِ سُعودٍ - السُّعُودِيَّة -، برَقْمِ (1063)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1213 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِدَارَةِ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ - السُّعُودِيَّة -، بِرَقْمِ (6338 - مَجْمُوعَةُ مُحِبِّ الدِّينِ الخَطِيبِ 578 - 1)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1216 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِمَكْتَبَةِ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ بالمدينةِ النَّبَوِيَّةِ (مَجْمُوعَةُ المَكْتَبَةِ المَحْمُودِيَّةِ) - السُّعُودِيَّة -، بِرَقْمِ (1920)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1216 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِدَارَةِ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ - السُّعُودِيَّة -، بِرَقْمِ (1504 - مَجْمُوعَةُ آلِ عَبْدِ اللَّطِيفِ 7 - 2)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1217 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِدَارَةِ المَلِكِ عبدِ العزيزِ - السُّعُودِيَّة -، بِرَقْمِ (1081 - مَجْمُوعَةُ عَبْدِ العَزِيزِ المَنِيع 30 - 4)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1218 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِمَرْكَزِ المَلِكِ فَيْصَلٍ - السُّعوديَّة -، بِرَقْمِ (2727)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1223 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِمَكْتَبَةِ الحَرَمِ المَكِّيِّ - السُّعوديَّة -، بِرَقْمِ (1341)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1228 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِدَارَةِ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ - السُّعوديَّة -، بِرَقْمِ (5407 - مَجْمُوعَةُ المُهَنَّا 17)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1228 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِدَارَةِ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ - السُّعوديَّة -، بِرَقْمِ (2396/ 58 - 5)، تَارِيخُ نَسْخِهَا: لَمْ يُذْكَرْ؛ لَكِنْ وَرَدَ عَلَى النُّسْخَةِ حَاشِيَةٌ مُؤَرَّخَةٌ بِسَنَةِ (1237 هـ)، فَتَارِيخُ نَسْخِهَا فِي السَّنَةِ المَذْكُورَةِ أَوْ قَبْلَهَا.
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِمَكْتَبَةِ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيزِ العَامَّة بِالرِّيَاضِ، بِرَقْمِ (3687/ 3)، تَارِيخُ نَسْخِهَا: لَمْ يُذْكَر، لَكِنَّهَا ضِمْنَ مَجْمُوعٍ أُرِّخَ بَعْضُ رَسَائِلِهِ سنةَ (1281 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِمَرْكَزِ المَلِك فَيْصَلٍ - السُّعوديَّة -، بِرَقْمِ (13467)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1282 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِالجَامِعِ الكَبِيرِ بِعُنَيْزَةَ - السُّعوديَّة -، بِرَقْمِ (389)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1307 هـ).
- نُسْخَةٌ خَطِّيَّةٌ بِجَامِعَةِ المَلِكِ سُعُودٍ (قِسْمُ المَخْطُوطَاتِ) - السُّعوديَّة -، بِرَقْمِ (1072)، تَارِيخُ نَسْخِهَا:(1307 هـ).
بسم الله الرحمن الرحيم
[مُقَدِّمَةٌ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ دِينِ المُرْسَلِينَ وَمَا دَعَوْا إِلَيْهِ، وَحَقِيقَةِ دِينِ المُشْرِكِينَ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ]
اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ -: أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ: إِفْرَادُ اللَّهِ بِالعِبَادَةِ، وَهُوَ دِينُ الرُّسُلِ الَّذِي أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ.
فَأَوَّلُهُمْ نُوحٌ عليه السلام، أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ لَمَّا غَلَوْا فِي الصَّالِحِينَ - وَدٍّ، وَسُوَاعٍ، وَيَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ -.
وَآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الَّذِي كَسَّرَ صُوَرَ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ.
أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى أُنَاسٍ يَتَعَبَّدُونَ، وَيَحُجُّونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ كَثِيراً، وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ بَعْضَ المَخْلُوقَاتِ وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ - يَقُولُونَ: نُرِيدُ مِنْهُمُ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ، وَنُرِيدُ شَفَاعَتَهُمْ عِنْدَهُ - مِثْلَ المَلَائِكَةِ، وَعِيسَى، وَمَرْيَمَ، وَأُنَاسٍ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يُجَدِّدُ لَهُمْ دِينَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ هَذَا التَّقَرُّبَ وَالِاعْتِقَادَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ، لَا يَصْلُحُ مِنْهُ شَيْءٌ لَا لِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا لِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ؛ فَضْلاً عَنْ غَيْرِهِمَا.
وَإِلَّا فَهَؤُلَاءِ المُشْرِكُونَ - الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الخَالِقُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَرْزُقُ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُحْيِي وَلَا يُمِيتُ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُدَبِّرُ الأَمْرَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّ جَمِيعَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَالأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَنْ فِيهِنَّ، كُلُّهُمْ عَبِيدُهُ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَقَهْرِهِ.
فَإِذَا أَرَدْتَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ المُشْرِكِينَ - الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْهَدُونَ بِهَذَا؛ فَاقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} .
وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ.
فَإِذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِهَذَا وَأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُمْ فِي التَّوْحِيدِ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَعَرَفْتَ أَنَّ التَّوْحِيدَ الَّذِي جَحَدُوهُ؛ هُوَ تَوْحِيدُ العِبَادَةِ - الَّذِي يُسَمِّيهِ المُشْرِكُونَ فِي زَمَانِنَا «الِاعْتِقَادَ» -، كَمَا كَانُوا يَدْعُونَ اللَّهَ سبحانه وتعالى لَيْلاً وَنَهَاراً، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو المَلَائِكَةَ لِأَجْلِ صَلَاحِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ لِيَشْفَعُوا لَهُ، أَوْ يَدْعُو رَجُلاً صَالِحاً - مِثْلَ اللَّاتِ -، أَوْ نَبِيّاً - مِثْلَ عِيسَى -.
وَعَرَفْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَهُمْ عَلَى هَذَا الشِّرْكِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى إِخْلَاصِ العِبَادَةِ لِلَّهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَدًا}، وَقَالَ:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} .
وَتَحَقَّقْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَهُمْ؛ لِيَكُونَ الدُّعَاءُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَالذَّبْحُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَالنَّذْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَالِاسْتِغَاثَةُ كُلُّهَا بِاللَّهِ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ كُلُّهَا لِلَّهِ.
وَعَرَفْتَ أَنَّ إِقْرَارَهُمْ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَمْ يُدْخِلْهُمْ فِي الإِسْلَامِ، وَأَنَّ قَصْدَهُمُ المَلَائِكَةَ وَالأَنْبِيَاءَ وَالأَوْلِيَاءَ - يُرِيدُونَ شَفَاعَتَهُمْ وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ - هُوَ الَّذِي أَحَلَّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.
عَرَفْتَ حِينَئِذٍ التَّوْحِيدَ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَأَبَى عَنِ الإِقْرَارِ بِهِ المُشْرِكُونَ.
وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ مَعْنَى قَوْلِكَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ؛ فَإِنَّ «الإِلَهَ» عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي يُقْصَدُ لِأَجْلِ هَذِهِ الأُمُورِ؛ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكاً، أَوْ نَبِيّاً، أَوْ وَلِيّاً، أَوْ شَجَرَةً، أَوْ قَبْراً، أَوْ جِنِّيّاً.
لَمْ يُرِيدُوا أَنَّ «الإِلَهَ» هُوَ الخَالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ، فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ - كَمَا قَدَّمْتُ لَكَ -.
وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِـ «الإِلَهِ» : مَا يَعْنِي المُشْرِكُونَ فِي زَمَانِنَا بِلَفْظِ «السَّيِّدِ» .
فَأَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَهِيَ:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» .
وَالمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الكَلِمَةِ: مَعْنَاهَا؛ لَا مُجَرَّدُ لَفْظِهَا.
وَالكُفَّارُ الجُهَّالُ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الكَلِمَةِ: هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالتَّعَلُّقِ، وَالكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ وَالبَرَاءَةُ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ:«قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}» .
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ جُهَّالَ الكُفَّارِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؛ فَالعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسْلَامَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ مَا عَرَفَ جُهَّالُ الكُفَّارِ!
بَلْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّلَفُّظُ بِحُرُوفِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ القَلْبِ لِشَيْءٍ مِنَ المَعَانِي.
وَالحَاذِقُ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهَا: «لَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ وَلَا يُدَبِّرُ الأَمْرَ إِلَّا اللَّهُ» .
فَلَا خَيْرَ فِي رَجُلٍ جُهَّالُ الكُفَّارِ أَعْلَمُ مِنْهُ بِمَعْنَى «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» .
إِذَا عَرَفْتَ مَا قُلْتُ لَكَ مَعْرِفَةَ قَلْبٍ، وَعَرَفْتَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} .
وَعَرَفْتَ دِينَ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمُ - الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ -.
وَعَرَفْتَ مَا أَصْبَحَ غَالِبُ النَّاسِ فِيهِ مِنَ الجَهْلِ بِهَذَا؛ أَفَادَكَ فَائِدَتَيْنِ:
الأُولَى: الفَرَحُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .
وَأَفَادَكَ - أَيْضاً -: الخَوْفَ العَظِيمَ؛ فَإِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الإِنْسَانَ يَكْفُرُ بِكَلِمَةٍ يُخْرِجُهَا مِنْ لِسَانِهِ،
وَقَدْ يَقُولُهَا وَهُوَ جَاهِلٌ؛ فَلَا يُعْذَرُ بِالجَهْلِ، وَقَدْ يَقُولُهَا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ - كَمَا ظَنَّ الكُفَّارُ -.
خُصُوصاً إِنْ أَلْهَمَكَ اللَّهُ مَا قَصَّ عَنْ قَوْمِ مُوسَى - مَعَ صَلَاحِهِمْ وَعِلْمِهِمْ - أَنَّهُمْ أَتَوْهُ قَائِلِينَ: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} .
فَحِينَئِذٍ يَعْظُمُ خَوْفُكَ وَحِرْصُكَ عَلَى مَا يُخَلِّصُكَ مِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مِنْ حِكْمَتِهِ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً بِهَذَا التَّوْحِيدِ إِلَّا جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} .
وَقَدْ يَكُونُ لِأَعْدَاءِ التَّوْحِيدِ عُلُومٌ كَثِيرَةٌ، وَكُتُبٌ، وَحُجَجٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} .
إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، وَعَرَفْتَ أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى اللَّهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَعْدَاءٍ قَاعِدِينَ عَلَيْهِ - أَهْلِ فَصَاحَةٍ وَعِلْمٍ وَحُجَجٍ -؛ فَالوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَعَلَّمَ مِنْ دِينِ اللَّهِ مَا يَصِيرُ سِلَاحاً لَكَ تُقَاتِلُ بِهِ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينَ، الَّذِينَ قَالَ إِمَامُهُمْ وَمُقَدَّمُهُمْ لِرَبِّكَ عز وجل:{قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} .
وَلَكِنْ إِنْ أَقْبَلْتَ عَلَى اللَّهِ، وَأَصْغَيْتَ إِلَى حُجَجِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ؛ فَلَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} .
وَالعَامِّيُّ مِنَ المُوَحِّدِينَ يَغْلِبُ أَلْفاً مِنْ عُلَمَاءِ هَؤُلَاءِ المُشْرِكِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ؛ فَجُنْدُ اللَّهِ هُمُ
الغَالِبُونَ بِالحُجَّةِ وَاللِّسَانِ، كَمَا أَنَّهُمُ الغَالِبُونَ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَإِنَّمَا الخَوْفُ عَلَى المُوَحِّدِ الَّذِي يَسْلُكُ الطَّرِيقَ وَلَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ.
وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِكِتَابِهِ الَّذِي جَعَلَهُ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَأْتِي صَاحِبُ بَاطِلٍ بِحُجَّةٍ إِلَّا وَفِي القُرْآنِ مَا يَنْقُضُهَا وَيُبَيِّنُ بُطْلَانَهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} ، قَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ:«هَذِهِ الآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ حُجَّةٍ يَأْتِي بِهَا أَهْلُ البَاطِلِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» .
[جَوَابٌ مُجْمَلٌ عَنِ احْتِجَاجِ المُشْرِكِينَ بِالمُتَشَابِهِ]
وَأَنَا أَذْكُرُ لَكَ أَشْيَاءَ - مِمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ - جَوَاباً لِكَلَامٍ احْتَجَّ بِهِ المُشْرِكُونَ فِي زَمَانِنَا عَلَيْنَا؛ فَنَقُولُ:
جَوَابُ أَهْلِ البَاطِلِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: مُجْمَلٍ، وَمُفَصَّلٍ.
أَمَّا المُجْمَلُ: فَهُوَ الأَمْرُ العَظِيمُ، وَالفَائِدَةُ الكَبِيرَةُ لِمَنْ عَقَلَهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} .
وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؛ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» .
مِثَالُ ذَلِكَ:
إِذَا قَالَ لَكَ بَعْضُ المُشْرِكِينَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
أَوْ: إِنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ.
أَوْ: إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَهُمْ جَاهٌ عِنْدَ اللَّهِ.
أَوْ: ذَكَرَ كَلَاماً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ بَاطِلِهِ، وَأَنْتَ لَا تَفْهَمُ مَعْنَى الكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ.
فَجَاوِبْهُ بِقَوْلِكَ: إِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يَتْرُكُونَ المُحْكَمَ وَيَتَّبِعُونَ المُتَشَابِهَ.
وَمَا ذَكَرْتُهُ لَكَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَنَّ المُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّهُ كَفَّرَهُمْ بِتَعَلُّقِهِمْ عَلَى المَلَائِكَةِ، وَالأَنْبِيَاءِ، وَالأَوْلِيَاءِ - مَعَ قَوْلِهِمْ:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} -؛ هَذَا أَمْرٌ مُحْكَمٌ بَيِّنٌ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَعْنَاهُ.
وَمَا ذَكَرْتَ لِي - أَيُّهَا المُشْرِكُ! - مِنَ القُرْآنِ، أَوْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لَا أَعْرِفُ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ أَقْطَعُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَتَنَاقَضُ، وَأَنَّ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُخَالِفُ كَلَامَ اللَّهِ.
وَهَذَا جَوَابٌ جَيِّدٌ سَدِيدٌ، وَلَكِنْ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا تَسْتَهِنْ بِهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} .
***
[جَوَابٌ مُفَصَّلٌ عَنِ الشُّبَهِ]
[الشُّبْهَةُ الأُولَى: أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَمْ يَقْصِدْ مِنَ الصَّالِحِينَ إِلَّا الجَاهَ وَالشَّفَاعَةَ؛ فَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ]
وَأَمَّا الجَوَابُ المُفَصَّلُ: فَإِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ لَهُمُ اعْتِرَاضَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى دِينِ الرُّسُلِ يَصُدُّونَ بِهَا النَّاسَ عَنْهُ.
مِنْهَا: قَوْلُهُمْ: نَحْنُ لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ، بَلْ نَشْهَدُ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ، وَلَا يَرْزُقُ، وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يَضُرُّ، إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعاً وَلَا ضَرّاً، فَضْلاً عَنْ عَبْدِ القَادِرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ أَنَا مُذْنِبٌ، وَالصَّالِحُونَ لَهُمْ جَاهٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ!
فَجَاوِبْهُ بِمَا تَقَدَّمَ؛ وَهُوَ: أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُقِرُّونَ بِمَا ذَكَرْتَ، وَمُقِرُّونَ أَنَّ أَوْثَانَهُمْ لَا تُدَبِّرُ شَيْئاً، وَإِنَّمَا أَرَادُوا الجَاهَ وَالشَّفَاعَةَ، وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَوَضَّحَهُ.
***
[الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: حَصْرُهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ فِي الأَصْنَامِ دُونَ الصَّالِحِينَ]
فَإِنْ قَالَ: هَؤُلَاءِ الآيَاتُ نَزَلَتْ فِيمَنْ يَعْبُدُ الأَصْنَامَ؛ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ الصَّالِحِينَ مِثْلَ الأَصْنَامِ؟! أَمْ كَيْفَ تَجْعَلُونَ الأَنْبِيَاءَ أَصْنَاماً؟!
فَجَاوِبْهُ بِمَا تَقَدَّمَ.
فَإِنَّهُ إِذَا أَقَرَّ أَنَّ الكُفَّارَ يَشْهَدُونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ كُلِّهَا لِلَّهِ، وَأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا مِمَّنْ قَصَدُوا إِلَّا الشَّفَاعَةَ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ فِعْلِهِمْ وَفِعْلِهِ بِمَا ذَكَرَ.
فَاذْكُرْ لَهُ أَنَّ الكُفَّارَ مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الأَصْنَامَ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الأَوْلِيَاءَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} ، وَيَدْعُونَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وَاذْكُرْ لَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} .
فَقُلْ لَهُ: عَرَفْتَ أَنَّ اللَّهَ كَفَّرَ مَنْ قَصَدَ الأَصْنَامَ، وَكَفَّرَ - أَيْضاً - مَنْ قَصَدَ الصَّالِحِينَ، وَقَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
***
[الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ لَيْسَ بِشِرْكٍ]
فَإِنْ قَالَ: الكُفَّارُ يُرِيدُونَ مِنْهُمْ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ، الضَّارُّ، المُدَبِّرُ، لَا أُرِيدُ إِلَّا مِنْهُ، وَالصَّالِحُونَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ أَقْصِدُهُمْ أَرْجُو مِنَ اللَّهِ شَفَاعَتَهُمْ.
فَالجَوَابُ: إِنَّ هَذَا قَوْلُ الكُفَّارِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَاقْرَأْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى:{وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّبَهَ الثَّلَاثَ هِيَ أَكْبَرُ مَا عِنْدَهُمْ، فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ اللَّهَ وَضَّحَهَا فِي كِتَابِهِ، وَفَهِمْتَهَا فَهْماً جَيِّداً؛ فَمَا بَعْدَهَا أَيْسَرُ مِنْهَا.
***
[الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: نَفْيُهُمْ عِبَادَةَ الصَّالِحِينَ، مَعَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَهُمْ أَوْ يَذْبَحُونَ لَهُمْ]
فَإِنْ قَالَ: أَنَا لَا أَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، وَهَذَا الِالْتِجَاءُ إِلَى الصَّالِحِينَ وَدُعَاؤُهُمْ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ.
[الجَوَابُ الأَوَّلُ]
فَقُلْ لَهُ: أَنْتَ تُقِرُّ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكَ إِخْلَاصَ العِبَادَةِ؟
فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ.
فَقُلْ لَهُ: بَيِّنْ لِي هَذَا الفَرْضَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ - وَهُوَ إِخْلَاصُ العِبَادَةِ، وَهُوَ حَقُّهُ عَلَيْكَ -.
فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ العِبَادَةَ وَلَا أَنْوَاعَهَا؛ فَبَيِّنْهَا بِقَوْلِكَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} .
فَإِذَا أَعْلَمْتَهُ بِهَذَا؛ فَقُلْ لَهُ: هَلْ هُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ؟
فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ، وَ «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ» .
فَقُلْ لَهُ: إِذَا أَقْرَرْتَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَدَعَوْتَ اللَّهَ لَيْلاً وَنَهَاراً، خَوْفاً وَطَمَعاً، ثُمَّ دَعَوْتَ فِي تِلْكَ الحَاجَةِ نَبِيّاً أَوْ غَيْرَهُ؛ هَلْ أَشْرَكْتَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ غَيْرَهُ؟
فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ.
فَقُلْ لَهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، فَإِذَا صَلَّيْتَ لِلَّهِ وَنَحَرْتَ لَهُ؛ هَلْ هَذَا عِبَادَةٌ؟
فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ.
فَقُلْ لَهُ: إِذَا نَحَرْتَ لِمَخْلُوقٍ - نَبِيٍّ، أَوْ جِنِّيٍّ، أَوْ غَيْرِهِمَا -؛ هَلْ أَشْرَكْتَ فِي هَذِهِ العِبَادَةِ غَيْرَ اللَّهِ؟
فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ وَيَقُولَ: نَعَمْ.
[الجَوَابُ الثَّانِي]
وَقُلْ لَهُ - أَيْضاً -: المُشْرِكُونَ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمُ القُرْآنُ؛ هَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ المَلَائِكَةَ، وَالصَّالِحِينَ، وَاللَّاتَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ؟
فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ.
فَقُلْ لَهُ: وَهَلْ كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ إِلَّا فِي الدُّعَاءِ، وَالذَّبْحِ، وَالِالْتِجَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ وَإِلَّا فَهُمْ مُقِرُّونَ أَنَّهُمْ عَبِيدُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الأَمْرَ، وَلَكِنْ دَعَوْهُمْ وَالْتَجَؤُوا إِلَيْهِمْ لِلْجَاهِ وَالشَّفَاعَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدّاً.
***
[الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الشِّرْكَ؛ فَقَدْ أَنْكَرَ شَفَاعَةَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم]
فَإِنْ قَالَ: أَتُنْكِرُ شَفَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَبْرَأُ مِنْهَا؟
فَقُلْ: لَا أُنْكِرُهَا، وَلَا أَتَبَرَّأُ مِنْهَا، بَلْ هُوَ صلى الله عليه وسلم: الشَّافِعُ المُشَفَّعُ، وَأَرْجُو شَفَاعَتَهُ، وَلَكِنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا لِلَّهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} .
وَلَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللَّهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
وَلَا يَشْفَعُ فِي أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ فِيهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} .
وَهُوَ لَا يَرْضَى إِلَّا التَّوْحِيدَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
فَإِذَا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ، وَلَا يَشْفَعُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا غَيْرُهُ فِي أَحَدٍ حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ فِيهِ، وَلَا يَأْذَنُ إِلَّا لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ؛ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَأَطْلُبُهَا مِنْهُ، فَأَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنِي شَفَاعَتَهُ! اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ! وَأَمْثَالَ هَذَا.
***
[الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُعْطِيَ الشَّفَاعَةَ، وَأَنَّهَا تُطْلَبُ مِنْهُ]
فَإِنْ قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُعْطِيَ الشَّفَاعَةَ، وَأَنَا أَطْلُبُهُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ!
[الجَوَابُ الأَوَّلُ]
فَالجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ الشَّفَاعَةَ، وَنَهَاكَ أَنْ تَدْعُوَ مَعَ اللَّهِ أَحَداً؛ فَقَالَ:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .
وَطَلَبُكَ مِنَ اللَّهِ شَفَاعَةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم عِبَادَةٌ، وَاللَّهُ نَهَاكَ أَنْ تُشْرِكَ فِي هَذِهِ العِبَادَةِ أَحَداً، فَإِذَا كُنْتَ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُشَفِّعَهُ فِيكَ؛ فَأَطِعْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .
[الجَوَابُ الثَّانِي]
وَأَيْضاً: فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ أُعْطِيَهَا غَيْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَصَحَّ أَنَّ المَلَائِكَةَ يَشْفَعُونَ، وَالأَوْلِيَاءَ يَشْفَعُونَ، وَالأَفْرَاطَ يَشْفَعُونَ.
أَتَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمُ الشَّفَاعَةَ، فَأَطْلُبُهَا مِنْهُمْ؟
فَإِنْ قُلْتَ هَذَا؛ رَجَعْتَ إِلَى عِبَادَةِ الصَّالِحِينَ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
وَإِنْ قُلْتَ: لَا؛ بَطَلَ قَوْلُكَ: (أَعْطَاهُ اللَّهُ الشَّفَاعَةَ، وَأَنَا أَطْلُبُهُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ).
***
[الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ الِالْتِجَاءَ إِلَى الصَّالِحِينَ لَيْسَ بِشِرْكٍ]
فَإِنْ قَالَ: أَنَا لَا أُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً، حَاشَا وَكَلَّا! وَلَكِنَّ الِالْتِجَاءَ إِلَى الصَّالِحِينَ لَيْسَ بِشِرْكٍ.
فَقُلْ لَهُ: إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الشِّرْكَ أَعْظَمَ مِنْ تَحْرِيمِ الزِّنَا، وَتُقِرُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُهُ.
فَمَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي عَظَّمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ؟! فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي.
فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ تُبَرِّئُ نَفْسَكَ مِنَ الشِّرْكِ وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ؟
كَيْفَ يُحَرِّمُ اللَّهُ عَلَيْكَ هَذَا، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ؛ وَلَا تَسْأَلُ عَنْهُ وَلَا تَعْرِفُهُ؟
أَتَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُحَرِّمُهُ وَلَا يُبَيِّنُهُ لَنَا؟!
***
[الشُّبْهَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ الشِّرْكَ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، وَنَحْنُ لَا نَعْبُدُ الأَصْنَامَ]
فَإِنْ قَالَ: الشِّرْكُ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، وَنَحْنُ لَا نَعْبُدُ الأَصْنَامَ!
[الجَوَابُ الأَوَّلُ]
فَقُلْ لَهُ: مَا مَعْنَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ؟
أَتَظُنُّ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ تِلْكَ الأَخْشَابَ وَالأَحْجَارَ تَخْلُقُ، وَتَرْزُقُ، وَتُدَبِّرُ أَمْرَ مَنْ دَعَاهَا؟! فَهَذَا يُكَذِّبُهُ القُرْآنُ.
وَإِنْ قَالَ: هُوَ قَصْدُ خَشَبَةٍ، أَوْ حَجَرٍ، أَوْ بِنْيَةٍ عَلَى قَبْرٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ يَدْعُونَ ذَلِكَ،
وَيَذْبَحُونَ لَهُ؛ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَيَدْفَعُ عَنَّا بِبَرَكَتِهِ، أَوْ يُعْطِينَا بِبَرَكَتِهِ.
فَقُلْ: صَدَقْتَ، وَهَذَا هُوَ فِعْلُكُمْ عِنْدَ الأَحْجَارِ وَالبَنَايَا الَّتِي عَلَى القُبُورِ وَغَيْرِهَا.
فَهَذَا أَقَرَّ أَنَّ فِعْلَهُمْ هَذَا هُوَ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ؛ وَهُوَ المَطْلُوبُ.
[الجَوَابُ الثَّانِي]
وَيُقَالُ لَهُ - أَيْضاً -: قَوْلُكَ: (الشِّرْكُ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ)؛ هَلْ مُرَادُكَ أَنَّ الشِّرْكَ مَخْصُوصٌ بِهَذَا، وَأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الصَّالِحِينَ وَدُعَاءَهُمْ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ؟
فَهَذَا يَرُدُّهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ كُفْرِ مَنْ تَعَلَّقَ عَلَى المَلَائِكَةِ، أَوْ عِيسَى، أَوِ الصَّالِحِينَ.
فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ لَكَ: أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ أَحَداً مِنَ الصَّالِحِينَ؛ فَهُوَ الشِّرْكُ المَذْكُورُ فِي القُرْآنِ؛ وَهَذَا هُوَ المَطْلُوبُ.
وَسِرُّ المَسْأَلَةِ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنَا لَا أُشْرِكُ بِاللَّهِ.
فَقُلْ لَهُ: وَمَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ؟ فَسِّرْهُ لِي!
فَإِنْ قَالَ: هُوَ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ!
فَقُلْ: وَمَا مَعْنَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ؟ فَسِّرْهَا لِي!
فَإِنْ قَالَ: أَنَا لَا أَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.
فَقُلْ: مَا مَعْنَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ؟ فَسِّرْهَا لِي!
فَإِنْ فَسَّرَهَا بِمَا بَيَّنَهُ القُرْآنُ؛ فَهُوَ المَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ؛ فَكَيْفَ يَدَّعِي شَيْئاً وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ؟
وَإِنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ:
بَيَّنْتَ لَهُ الآيَاتِ الوَاضِحَاتِ فِي مَعْنَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ؛ أَنَّهُ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِعَيْنِهِ.
وَأَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ هِيَ الَّتِي يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا، وَيَصِيحُونَ كَمَا صَاحَ إِخْوَانُهُمْ حَيْثُ قَالُوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ المُشْرِكُونَ فِي وَقْتِنَا: «الِاعْتِقَادَ» ؛ هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ القُرْآنُ، وَقَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ عَلَيْهِ.
فَاعْلَمْ أَنَّ شِرْكَ الأَوَّلِينَ أَخَفُّ مِنْ شِرْكِ أَهْلِ زَمَانِنَا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الأَوَّلِينَ لَا يُشْرِكُونَ وَلَا يَدْعُونَ المَلَائِكَةَ وَالأَوْلِيَاءَ وَالأَوْثَانَ مَعَ اللَّهِ؛ إِلَّا فِي الرَّخَاءِ، وَأَمَّا فِي الشِّدَّةِ فَيُخْلِصُونَ لِلَّهِ الدِّينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} .
وَقَالَ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ
بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}.
وَقَالَ: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .
فَمَنْ فَهِمَ هَذِهِ المَسْأَلَةَ الَّتِي وَضَّحَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ - وَهِيَ:
أَنَّ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَدْعُونَ غَيْرَهُ فِي الرَّخَاءِ.
وَأَمَّا فِي الشِّدَّةِ فَلَا يَدْعُونَ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَنْسَوْنَ سَادَاتِهِمْ -.
تَبَيَّنَ لَهُ الفَرْقُ بَيْنَ شِرْكِ أَهْلِ زَمَانِنَا وَشِرْكِ الأَوَّلِينَ.
وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يَفْهَمُ قَلْبُهُ هَذِهِ المَسْأَلَةَ فَهْماً رَاسِخاً؟! وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ.
وَالأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الأَوَّلِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ أُنَاساً مُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللَّهِ؛ إِمَّا مَلَائِكَةً، وَإِمَّا أَنْبِيَاءَ، وَإِمَّا أَوْلِيَاءَ، أَوْ يَدْعُونَ أَشْجَاراً وَأَحْجَاراً مُطِيعَةً لِلَّهِ لَيْسَتْ عَاصِيَةً.
وَأَهْلُ زَمَانِنَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ أُنَاساً مِنْ أَفْسَقِ النَّاسِ، وَالَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ: هُمُ الَّذِينَ يَحْكُونَ عَنْهُمُ الفُجُورَ؛ مِنَ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالَّذِي يَعْتَقِدُ فِي الصَّالِحِ وَالَّذِي لَا يَعْصِي - مِثْلِ الخَشَبِ، وَالحَجَرِ -؛ أَهْوَنُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ فِيمَنْ يُشَاهِدُ فِسْقَهُ وَفَسَادَهُ وَيَشْهَدُ بِهِ.
***
[الشُّبْهَةُ التَّاسِعَةُ: كَيْفَ تَجْعَلُونَنَا مِثْلَ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ، وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟]
إِذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَحُّ عُقُولاً، وَأَخَفُّ شِرْكاً مِنْ هَؤُلَاءِ.
فَاعْلَمْ أَنَّ لِهَؤُلَاءِ شُبْهَةً يُورِدُونَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ شُبَهِهِمْ، فَأَصْغِ سَمْعَكَ لِجَوَابِهَا.
وَهِيَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمُ القُرْآنُ لَا يَشْهَدُونَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُنْكِرُونَ البَعْثَ، وَيُكَذِّبُونَ القُرْآنَ وَيَجْعَلُونَهُ سِحْراً.
وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَنُصَدِّقُ القُرْآنَ، وَنُؤْمِنُ بِالبَعْثِ، وَنُصَلِّي، وَنَصُومُ؛ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَنَا مِثْلَ أُولَئِكَ؟!
[الجَوَابُ الأَوَّلُ]
فَالجَوَابُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ العُلَمَاءِ كُلِّهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَدَّقَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ وَكَذَّبَهُ فِي شَيْءٍ؛ أَنَّهُ كَافِرٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي الإِسْلَامِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا آمَنَ بِبَعْضِ القُرْآنِ وَجَحَدَ بَعْضَهُ؛ كَمَنْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ وَجَحَدَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ.
أَوْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ وَالصَّلَاةِ وَجَحَدَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ.
أَوْ أَقَرَّ بِهَذَا كُلِّهِ وَجَحَدَ الصَّوْمَ.
أَوْ أَقَرَّ بِهَذَا كُلِّهِ وَجَحَدَ الحَجَّ، وَلَمَّا لَمْ يَنْقَدْ أُنَاسٌ فِي زَمَنِ النِّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَجِّ؛ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .
وَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا كُلِّهِ وَجَحَدَ البَعْثَ؛ كَفَرَ بِالإِجْمَاعِ، وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} .
فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ: أَنَّ مَنْ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ؛ فَهُوَ الكَافِرُ حَقّاً؛ زَالَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ - وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ الأَحْسَاءِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْنَا -.
[الجَوَابُ الثَّانِي]
وَيُقَالُ - أَيْضاً -: إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ أَنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَجَحَدَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ وَالمَالِ بِالإِجْمَاعِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِكُلِّ شَيْءٍ إِلَّا البَعْثَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ.
لَا يَجْحَدُ هَذَا، وَلَا تَخْتَلِفُ المَذَاهِبُ فِيهِ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ - كَمَا قَدَّمْنَا -.
فَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَعْظَمُ فَرِيضَةٍ جَاءَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الصَّلَاةِ،
وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالحَجِّ، فَكَيْفَ إِذَا جَحَدَ الإِنْسَانُ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ: كَفَرَ - وَلَوْ عَمِلَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.
وَإِذَا جَحَدَ التَّوْحِيدَ - الَّذِي هُوَ دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ -: لَا يَكْفُرُ؟! سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا أَعْجَبَ هَذَا الجَهْلَ!
[الجَوَابُ الثَّالِثُ]
وَيُقَالُ - أَيْضاً -: هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلُوا بَنِي حَنِيفَةَ وَقَدْ أَسْلَمُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ يَشْهَدُونَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَيُصَلُّونَ وَيُؤَذِّنُونَ.
فَإِنْ قَالَ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مُسَيْلِمَةَ نَبِيٌّ.
قُلْنَا: هَذَا هُوَ المَطْلُوبُ؛ إِذَا كَانَ مَنْ رَفَعَ رَجُلاً فِي مَرْتَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَفَرَ، وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ، وَلَمْ تَنْفَعْهُ الشَّهَادَتَانِ، وَلَا الصَّلَاةُ.
فَكَيْفَ بِمَنْ رَفَعَ «شَمْسَانَ» ، أَوْ «يُوسُفَ» ،
أَوْ صَحَابِيّاً، أَوْ نَبِيّاً؛ فِي مَرْتَبَةِ جَبَّارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ؟! سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ! {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
[الجَوَابُ الرَّابِعُ]
وَيُقَالُ - أَيْضاً -: الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِالنَّارِ: كُلُّهُمْ يَدَّعُونَ الإِسْلَامَ، وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَتَعَلَّمُوا العِلْمَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنِ اعْتَقَدُوا فِي عَلِيٍّ مِثْلَ الِاعْتِقَادِ فِي «يُوسُفَ» وَ «شَمْسَانَ» وَأَمْثَالِهِمَا.
فَكَيْفَ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؟!
أَتَظُنُّونَ أَنَّ الصَّحَابَةَ يُكَفِّرُونَ المُسْلِمِينَ؟!
أَمْ تَظُنُّونَ أَنَّ الِاعْتِقَادَ فِي «تَاجٍ» وَأَمْثَالِهِ لَا يَضُرُّ، وَالِاعْتِقَادَ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يُكَفِّرُ؟!
[الجَوَابُ الخَامِسُ]
وَيُقَالُ - أَيْضاً -: «بَنُو عُبَيْدٍ القَدَّاحِ» الَّذِينَ مَلَكُوا المَغْرِبَ وَمِصْرَ فِي زَمَنِ بَنِي العَبَّاسِ: كُلُّهُمْ يَشْهَدُونَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَيَدَّعُونَ الإِسْلَامَ، وَيُصَلُّونَ الجُمُعَةَ وَالجَمَاعَةَ.
فَلَمَّا أَظْهَرُوا مُخَالَفَةَ الشَّرِيعَةِ فِي أَشْيَاءَ - دُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ -؛ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى كُفْرِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَأَنَّ بِلَادَهُمْ بِلَادُ حَرْبٍ، وَغَزَاهُمُ المُسْلِمُونَ حَتَّى اسْتَنْقَذُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ بُلْدَانِ المُسْلِمِينَ.
[الجَوَابُ السَّادِسُ]
وَيُقَالُ - أَيْضاً -: إِذَا كَانَ الأَوَّلُونَ لَمْ يَكْفُرُوا إِلَّا أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الشِّرْكِ، وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ، وَالقُرْآنِ، وَإِنْكَارِ البَعْثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَمَا مَعْنَى البَابِ الَّذِي ذَكَرَ العُلَمَاءُ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ: «بَابُ حُكْمِ المُرْتَدِّ» - وَهُوَ المُسْلِمُ الَّذِي يَكْفُرُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ -؟ ثُمَّ ذَكَرُوا أَنْوَاعاً كَثِيرَةً، كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا يُكَفِّرُ، وَيُحِلُّ دَمَ الرَّجُلِ وَمَالَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَشْيَاءَ يَسِيرَةً - عِنْدَ مَنْ فَعَلَهَا -؛ مِثْلَ كَلِمَةٍ يَذْكُرُهَا بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ، أَوْ كَلِمَةٍ يَذْكُرُهَا عَلَى وَجْهِ المَزْحِ وَاللَّعِبِ.
[الجَوَابُ السَّابِعُ]
وَيُقَالُ - أَيْضاً -: الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} ؛ أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ كَفَّرَهُمْ بِكَلِمَةٍ - مَعَ كَوْنِهِمْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُجَاهِدُونَ مَعَهُ، وَيُصَلُّونَ مَعَهُ، وَيُزَكُّونَ، وَيَحُجُّونَ، وَيُوَحِّدُونَ -؟
وَكَذَلِكَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ؛ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ صَرَّحَ اللَّهُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ - وَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ - قَالُوا كَلِمَةً ذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوهَا عَلَى وَجْهِ المَزْحِ.
فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ: وَهِيَ قَوْلُهُمْ: تُكَفِّرُونَ المُسْلِمِينَ! - أُنَاساً يَشْهَدُونَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ-، ثُمَّ تَأَمَّلْ جَوَابَهَا؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَنْفَعِ مَا فِي هَذِهِ الأَوْرَاقِ.
[الجَوَابُ الثَّامِنُ]
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ - أَيْضاً -: مَا حَكَى اللَّهُ عز وجل عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ - مَعَ إِسْلَامِهِمْ، وَعِلْمِهِمْ، وَصَلَاحِهِمْ -: أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} .
وَقَوْلُ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ» ، فَحَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} .
وَلَكِنْ لِلْمُشْرِكِينَ شُبْهَةٌ يُدْلُونَ بِهَا عِنْدَ هَذِهِ القِصَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لَمْ يَكْفُرُوا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ» ؛ لَمْ يَكْفُرُوا.
فَالجَوَابُ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَفْعَلُوا.
وَكَذَلِكَ الَّذِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلُوا.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ؛ لَكَفَرُوا.
وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّ الَّذِينَ نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ لَمْ يُطِيعُوهُ، وَاتَّخَذُوا ذَاتَ أَنْوَاطٍ - بَعْدَ نَهْيِهِ -؛ لَكَفَرُوا.
وَهَذَا هُوَ المَطْلُوبُ.
وَلَكِنَّ هَذِهِ القِصَّةَ تُفِيدُ: أَنَّ المُسْلِمَ - بَلِ العَالِمَ - قَدْ يَقَعُ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الشِّرْكِ لَا يَدْرِي عَنْهَا.
فَتُفِيدُ: التَّعَلُّمَ وَالتَّحَرُّزَ، وَمَعْرِفَةَ أَنَّ قَوْلَ الجَاهِلِ:«التَّوْحِيدُ فَهِمْنَاهُ» ؛ أَنَّ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الجَهْلِ، وَمَكَائِدِ الشَّيْطَانِ.
وَتُفِيدُ - أَيْضاً -: أَنَّ المُسْلِمَ المُجْتَهِدَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ كُفْرٍ وَهُوَ لَا يَدْرِي، فَنُبِّهَ عَلَى ذَلِكَ وَتَابَ مِنْ سَاعَتِهِ؛ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ؛ كَمَا فَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَالَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَتُفِيدُ - أَيْضاً -: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْفُرْ فَإِنَّهُ يُغَلَّظُ عَلَيْهِ الكَلَامُ تَغْلِيظاً شَدِيداً؛ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
***
[الشُّبْهَةُ العَاشِرَةُ: أَنَّ مَنْ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) لَا يُكَفَّرُ وَلَايُقْتَلُ وَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ]
وَلِلْمُشْرِكِينَ شُبْهَةٌ أُخْرَى؛ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ رضي الله عنه قَتْلَ مَنْ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، وَقَالَ:«أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟» ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، وَأَحَادِيثُ أُخَرُ فِي الكَفِّ عَمَّنْ قَالَهَا.
وَمُرَادُ هَؤُلَاءِ الجَهَلَةِ: أَنَّ مَنْ قَالَهَا؛ لَا يُكَفَّرُ، وَلَا يُقْتَلُ - وَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ! -.
فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ المُشْرِكِينَ الجُهَّالِ: مَعْلُومٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلَ اليَهُودَ وَسَبَاهُمْ؛ وَهُمْ يَقُولُونَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» .
وَأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلُوا بَنِي حَنِيفَةَ؛ وَهُمْ يَشْهَدُونَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَيُصَلُّونَ، وَيَدَّعُونَ الإِسْلَامَ.
وَكَذَلِكَ الَّذِينَ حَرَّقَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِالنَّارِ.
وَهَؤُلَاءِ الجَهَلَةُ مُقِرُّونَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ البَعْثَ: كُفِّرَ، وَقُتِلَ - وَلَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -.
وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ شَيْئاً مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ: كُفِّرَ، وَقُتِلَ - وَلَوْ قَالَهَا -.
فَكَيْفَ لَا تَنْفَعُهُ إِذَا جَحَدَ شَيْئاً مِنَ الفُرُوعِ، وَتَنْفَعُهُ إِذَا جَحَدَ التَّوْحِيدَ - الَّذِي هُوَ أَسَاسُ دِينِ الرُّسُلِ وَرَأْسُهُ -؟!
وَلَكِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ مَا فَهِمُوا مَعْنَى الأَحَادِيثِ:
فَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ رضي الله عنه: فَإِنَّهُ قَتَلَ رَجُلاً ادَّعَى الإِسْلَامَ بِسَبَبِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ مَا ادَّعَاهُ إِلَّا خَوْفاً عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ.
وَالرَّجُلُ إِذَا أَظْهَرَ الإِسْلَامَ؛ وَجَبَ الكَفُّ عَنْهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} .
فَالآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الكَفُّ عَنْهُ وَالتَّثَبُّتُ، فَإِنْ تَبَيَّنَ مِنْهُ - بَعْدَ ذَلِكَ - مَا يُخَالِفُ الإِسْلَامَ: قُتِلَ؛ لِقَوْلِهِ: {فَتَبَيَّنُوا} ،
وَلَوْ كَانَ لَا يُقْتَلُ إِذَا قَالَهَا: لَمْ يَكُنْ لِلتَّثَبُّتِ مَعْنًى.
وَكَذَلِكَ الحَدِيثُ الآخَرُ وَأَمْثَالُهُ: مَعْنَاهُ: مَا ذَكَرْنَا؛ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الإِسْلَامَ وَالتَّوْحِيدَ: وَجَبَ الكَفُّ عَنْهُ؛ إِلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي قَالَ: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟» ، وَقَالَ:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ؛ هُوَ الَّذِي قَالَ فِي الخَوَارِجِ: «أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ» ، «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» ؛ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ عِبَادَةً وَتَهْلِيلاً - حَتَّى إِنَّ الصَّحَابَةَ يَحْقِرُونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَهُمْ، وَهُمْ تَعَلَّمُوا العِلْمَ
مِنَ الصَّحَابَةِ -، فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، وَلَا كَثْرَةُ العِبَادَةِ، وَلَا ادِّعَاءُ الإِسْلَامِ؛ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُخَالَفَةُ الشَّرِيعَةِ.
وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قِتَالِ اليَهُودِ، وَقِتَالِ الصَّحَابَةِ بَنِي حَنِيفَةَ.
وَكَذَلِكَ أَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْزُوَ بَنِي المُصْطَلِقِ؛ لَمَّا أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ؛ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ، وَكَانَ الرَّجُلُ كَاذِباً عَلَيْهِمْ.
فَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الأَحَادِيثِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا: مَا ذَكَرْنَا.
***
[الشُّبْهَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الِاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَيْسَتْ شِرْكاً؛ لِجَوَازِ الِاسْتِغَاثَةِ بِالأَنْبِيَاءِ فِي الآخِرَةِ]
وَلَهُمْ شُبْهَةٌ أُخْرَى؛ وَهِيَ: مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ يَسْتَغِيثُونَ بِآدَمَ، ثُمَّ بِنُوحٍ، ثُمَّ بِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِعِيسَى، فَكُلُّهُمْ يَعْتَذِرُونَ، حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَيْسَتْ شِرْكاً.
فَالجَوَابُ أَنْ تَقُولَ: سُبْحَانَ مَنْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِ أَعْدَائِهِ!
فَإِنَّ الِاسْتِغَاثَةَ بِالمَخْلُوقِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
لَا نُنْكِرُهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى - فِي قِصَّةِ مُوسَى عليه السلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} .
وَكَمَا يَسْتَغِيثُ الإِنْسَانُ بِأَصْحَابِهِ فِي الحَرْبِ وَغَيْرِهِ فِي أَشْيَاءَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا المَخْلُوقُ.
وَنَحْنُ أَنْكَرْنَا اسْتِغَاثَةَ العِبَادَةِ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ، أَوْ فِي غَيْبَتِهِمْ فِي الأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ.
إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ: فَالِاسْتِغَاثَةُ بِالأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرِيدُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ أَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ؛ حَتَّى يَسْتَرِيحَ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ كَرْبِ المَوْقِفِ.
وَهَذَا جَائِزٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ أَنْ تَأْتِيَ عِنْدَ رَجُلٍ صَالِحٍ حَيٍّ يُجَالِسُكَ وَيَسْمَعُ كَلَامَكَ، تَقُولُ لَهُ: ادْعُ اللَّهَ لِي، كَمَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ فِي حَيَاتِهِ.
وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ: فَحَاشَا وَكَلَّا أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِهِ! بَلْ أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ قَصَدَ دُعَاءَ اللَّهِ عِنْدَ قَبْرِهِ، فَكَيْفِ بِدُعَائِهِ نَفْسِهِ؟
***
[الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ كَانَتِ الِاسْتِغَاثَةُ بِجِبْرِيلَ شِرْكاً لَمْ يَعْرِضْهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]
وَلَهُمْ شُبْهَةٌ أُخْرَى؛ وَهِيَ: قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ، اعْتَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ فِي الهَوَاءِ، فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا!
قَالُوا: فَلَوْ كَانَتِ الِاسْتِغَاثَةُ بِجِبْرِيلَ شِرْكاً لَمْ يَعْرِضْهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
فَالجَوَابُ: إِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الشُّبْهَةِ الأُولَى؛ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْفَعَهُ بِأَمْرٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {شَدِيدُ الْقُوَى} ، فَلَوْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَارَ إِبْرَاهِيمَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الأَرْضِ وَالجِبَالِ وَيُلْقِيَهَا فِي
المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ؛ لَفَعَلَ، وَلَوَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَضَعَ إِبْرَاهِيمَ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْهُمْ؛ لَفَعَلَ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ؛ لَفَعَلَ.
وَهَذَا كَرَجُلٍ غَنِيٍّ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ يَرَى رَجُلاً مُحْتَاجاً، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ أَنْ يُقْرِضَهُ أَوْ يَهَبَهُ شَيْئاً يَقْضِي بِهِ حَاجَتَهُ، فَيَأْبَى ذَلِكَ الرَّجُلُ المُحْتَاجُ أَنْ يَأْخُذَ، وَيَصْبِرُ حَتَّى يَأْتِيَهُ اللَّهُ بِرِزْقٍ لَا مِنَّةَ فِيهِ لِأَحَدٍ.
فَأَيْنَ هَذَا مِنِ اسْتِغَاثَةِ العِبَادَةِ وَالشِّرْكِ لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ؟!
[خَاتِمَةٌ: التَّوْحِيدُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالعَمَلِ]
وَلْنَخْتِمِ الكَلَامَ بِمَسْأَلَةٍ عَظِيمَةٍ مُهِمَّةٍ تُفْهَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ، لَكِنْ نُفْرِدُ لَهَا الكَلَامَ لِعِظَمِ شَأْنِهَا، وَلِكَثْرَةِ الغَلَطِ فِيهَا؛ فَنَقُولُ:
لَا خِلَافَ أَنَّ التَّوْحِيدَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِالقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالعَمَلِ، فَإِنِ اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؛ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ مُسْلِماً.
فَإِنْ عَرَفَ التَّوْحِيدَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ مُعَانِدٌ - كَفِرْعَوْنَ، وَإِبْلِيسَ، وَأَمْثَالِهِمَا -.
وَهَذَا يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ يَقُولُونَ: هَذَا حَقٌّ، وَنَحْنُ نَفْهَمُ هَذَا، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ
الحَقُّ، وَلَكِنْ لَا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَهُ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ بَلَدِنَا إِلَّا مَنْ وَافَقَهُمْ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأَعْذَارِ.
وَلَمْ يَدْرِ المِسْكِينُ أَنَّ غَالِبَ أَئِمَّةِ الكُفْرِ يَعْرِفُونَ الحَقَّ، وَلَمْ يَتْرُكُوهُ إِلَّا لِشَيْءٍ مِنَ الأَعْذَارِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ، كَقَوْلِهِ:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} .
فَإِنْ عَمِلَ بِالتَّوْحِيدِ عَمَلاً ظَاهِراً وَهُوَ لَا يَفْهَمُهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ بِقَلْبِهِ؛ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الكَافِرِ الخَالِصِ {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} .
وَهَذِهِ المَسْأَلَةُ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ، تَبِينُ لَكَ إِذَا
تَأَمَّلْتَهَا فِي أَلْسِنَةِ النَّاسِ.
تَرَى مَنْ يَعْرِفُ الحَقَّ وَيَتْرُكُ العَمَلَ بِهِ؛ لِخَوْفِ نَقْصِ دُنْيَا أَوْ جَاهٍ، أَوْ مُدَارَاةً.
وَتَرَى مَنْ يَعْمَلُ بِهِ ظَاهِراً لَا بَاطِناً، فَإِذَا سَأَلْتَهُ عَمَّا يَعْتَقِدُ بِقَلْبِهِ: إِذَا هُوَ لَا يَعْرِفُهُ.
وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِفَهْمِ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ:
أُولَاهُمَا: مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
فَإِذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ غَزَوُا الرُّومَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَرُوا بِسَبَبِ كَلِمَةٍ قَالُوهَا عَلَى وَجْهِ المَزْحِ وَاللَّعِبِ.
تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالكُفْرِ أَوْ يَعْمَلُ بِهِ خَوْفاً مِنْ نَقْصِ مَالٍ أَوْ جَاهٍ، أَوْ مُدَارَاةً لِأَحَدٍ؛ أَعْظَمُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ يَمْزَحُ بِهَا.
وَالآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}.
فَلَمْ يَعْذُرِ اللَّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ مَعَ كَوْنِ قَلْبِهِ مُطْمَئِنّاً بِالإِيمَانِ.
وَأَمَّا غَيْرُ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ - سَوَاءٌ فَعَلَهُ خَوْفاً، أَوْ مَدَارَاةً، أَوْ مَشَحَّةً بِوَطَنِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، أَوْ عَشِيرَتِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ المَزْحِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَغْرَاضِ -؛ إِلَّا المُكْرَهُ.
وَالآيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ جِهَتَيْنِ:
الأُولَى: قَوْلُهُ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} ؛ فَلَمْ يَسْتَثْنِ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا المُكْرَهَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يُكْرَهُ إِلَّا عَلَى الكَلَامِ أَوِ الفِعْلِ، وَأَمَّا عَقِيدَةُ القَلْبِ فَلَا يُكْرَهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا.
وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} ؛ فَصَرَّحَ أَنَّ هَذَا الكُفْرَ وَالعَذَابَ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ الِاعْتِقَادِ، أَوِ الجَهْلِ، أَوِ البُغْضِ لِلدِّينِ، أَوْ مَحَبَّةِ الكُفْرِ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ أَنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ حَظّاً مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا فَآثَرَهُ عَلَى الدِّينِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ