الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ـ[مجلة الرسالة]ـ
أصدرها: أحمد حسن الزيات باشا (المتوفى: 1388 هـ)
عدد الأعداد: 1025 عددا (على مدار 21 عاما)
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد]
العدد 1
- بتاريخ: 15 - 01 - 1933
الرسالة
. . . وأخيراً تغلب العزم المصمم على التردد الخوار فصدرت الرسالة: وما سلط على نفوسنا هذا التردد إلا نُذُر تشاع وأمثال تروى. . وكلها تصور الصحافة الأدبية في مصر سبيلا ضلت صواها وكثرت صرعاها فلم يوفِ أحد منها على الغاية، والعلة أن السياسة طغت على الفن الرفيع، والأزمة مكنت للأدب الرخيص، والأمةمن خداع الباطل في لَبْس من الأمر لا تَمَّيز ما تأخذ مما تدع! فلما تناصرت على هذه الوساوس حجج العقل، ونوازع الواجب، وعِدَات الأمل، أُصبحت الأسباب التي كانت تدفع إلى النكول بواعث على الإقدام وحوافز للعمل، لأن غاية (الرسالة) أن تقاوم طغيان السياسة بصقل الطبع، وبهْرجَ الأدب بتثقيف الذوق، وحيرة الأمة بتوضيح الطريق.
أجل هذه غاية الرسالة! وما يَصْدِفنا عن سبيلها ما نتوقع من صعاب وأذى، فإن أكثر الناهضين بها قد طووا مراحل الشباب على منصة التعليم، فلا يعييهم أن يُخلقوا بُرْد الكهولة على مكتب الصحافة، والعملان في الطبيعة والتبعة سواء، ومن قضى ربيع الحياة في مجادب ذلك، لا يشق عليه أن يقضي خريفها في مجاهل هذا!
أما مبدأ الرسالة فربط القديم بالحديث، ووصل الشرق بالغرب. فبربطها القديم بالحديث تضع الأساس لمن هار بناؤه على الرمل، وتقيم الدَّرَج لمن استحال رقيه بالطفور! وبوصلها الشرق بالغرب تساعد على وجدان الحلقة التي ينشدها صديقنا الأستاذ أحمد أمين في مقاله القيمبهذا العدد. والرسالة تستغفر الله مما يخامرها من زهو الواثق حينما تَعِد وتتعهد. فإن اعتمادها على الأدباء البارعين والكتاب النابهين في مصر والشرق العربي، واعتصامها بخلصانها الأدنين من أعضاء لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهم صفوة من خرَّجت مصر الحديثة في مناحي الثقافة، إذا اجتمعا في نفسها مع ما انطوت عليه من صدق العزم وقوة الإيمان أحدثا هذه الثقة التي تِشيع في الحديث عن غير قصد.
على أن للرسالة من روح الشباب سندا له خطره وأثرهُ، فإنهم أحرص الناس على أن يكون لثقافتهم الصحيحة مظهر صحيح. وما دامت وجهة الرسالة الأحياء والتجديد، وطبيعة الشباب الحيوية والتجدد، فلا بد أن يتوافيا على مشروع واحد!
فإلى أبناء النيل وبَردى والرافدين نتقدم بهذه الرسالة، راجين أن تضطلع بحظها من الجهد المشترك في تقوية النهضة الفكرية، وتوثيق الروابط الأدبية، وتوحيد الثقافة العربية، وهي
على خير ما يكون المخلص من شدة الثقة بالمستقبل.
وقوة الرجاء بالله.
أحمد حسن الزيات
حوادث وأحاديث
أحمد حسن الزيات
شوقي وحافظ
تصدر الرسالة والأسى لا يزال يرمض القلوب على حافظ وشوقي. ولئن رمت المنون لسانيهما الذليقين بالصمت الأبدي، فقد تركت حظيهما يتنازعان الذكر على ألسن الناس. وكان حظ شوقي في مماته كما كان في حياته شديد السطوع قوي البهر فكسف حظ أخيه! وكاد حافظ البائس يضيع في شوقي المجدود كما ضاع موت المنفلوطي في موت سعد!
كان لشوقي المأتم الحافل، والتأبين الفخم، والوفود تترى، والحفلات تقام، والمراثي تفيض بها الصحف، والحكومة تطبع كل ذلك بالطابع الرسمي، فتزيده أبهة وروعة! وكان لحافظ المأتم المتواضع، والجنازة الصامتة، والتأبين الموعود، وأصدقاء خلص يئنون في كل حين أنة، ثم يتركونها تتلاشى كما يتلاشى الرجع البعيد!!
الزعامة والشعر
خلا ميدان الشعر فجأة من قائديه العظيمين فحدث في صفوف الشعراء اضطراب وفوضى! وقام في (السقيفة) المقلدون والمجددون يقولون: منا أمير ومنكم أمير! وهناك أرسل الدكتور طه حسين حُكمه المعروف فزاد الخلاف شدة والجدال حدة! قضى للعراق بأمارة الشعر التقليدي. فغضبت مصر! وكان الأستاذ الهراوي أشد المصريين حنقاً وأعنفهم خصومة. فهو يقول في إستنكار وأنفة. إنه بايع الشاعرين، مبايعة علي للشيخين! ثم ينشد في ذلك أبياتاً فيها معارضة وفيها شدة وفيها جمال، وينتهي إلى أن هذا الحُكم قد أخزى مصر وقضى على نهضة الشعر!! ثم يعود فيستطرد إلى لوم الناقدين والمجددين، وينعى على وزارة المعارف إنصرافِها عن تعضيد الشعر، ويقترح عليها، والله أن تنشئ في ديوانها قلماً يسمى قلم الشُعراء تحمل عنهم فيه أكلاف العيش، وتغلق عليهم باب الغرفة، ثم تقول لهم: قولوا شعراً! ونسي صديقنا الهراوي أن يطلب إلى الوزارة أن تزود كل شاعر بسبحة يعد عليها أبيات الشعر، كما يعد صوفيو التكية كلمات الذكر!!
أما شعراء الشباب الذين لا يجرون على أسلوب الهراوي والزين والكاشف ومحرم ونسيم؛
فهم راضون ببراءة مصر من معرة التقليد ماضون كل المضي إلى التفوق والتميز من طريق الإنتاج والتنافس.
وسورية؟
وسورية التي تجعل من خمائلها ورباها وادي عبقر، وتدل بشعرائها المجددين في الوطن والمهجر، لا يرضيها أن تمر الزعامة بأراضيها إلى العراق دون أن تحيّ أو تلتفت على الأقل! فلقد هبت (العاصفة) تدافع رأي الدكتور في حدة وعنف، وتقول مع السيد نجار: ما للدكتور يرسل الزعامة إلى العراق في طيارة، وكان يكفيه أن يرسلها إلى صاحبها مطران في سيارة.؟
والعراق؟
والعراق هل اغتبط بهذه الزعامة؟ أما الرصافي فيرجو أن يكون خليفة لشوقي وحافظ ثم يسعه ما وسعهما من حُكم التاريخ وتقدير النقد. وأما الزهاوي فأنا اعلم إنه يؤثر أن يكون في ساقة المجددين على أن يكون في طليعة المقلدين. والظاهر أن شعراء العراق قد سرهم هذا التفضيل على علاته، ولكن ساءهم أن يوجه إلى شاعرين معينين. فقد نشر (أديب متقاعد) في جريدة الأخبار البغدادية فصلاً قيماً ينكر فيه استعمال الإمارة والدولة في لغة الشعر ويتساءل عمن جاد على شعراء مصر بهذه الألقاب، ويلاحظ بالحق حرص المصريين على الألقاب وزهد العراقيين بها. ويشكر للدكتور طه ترجيحه العراق على أية حال، ولكنه ينكر رأيه في تعيين جهة الزعامة، (لأنه رأي فرد بعيد عن العراق فلا يصح الاستناد إليه في حكم من الأحكام).
ثم تعصف النخوة في رأس الشاعر الشَاب محمد مهدي الجواهري فيرسل إضبارة كبيرة من شعره إلى الدكتور طه وكأنه يقول له: لو كنت قرأت هذا الشعر لما وجهت الزعامة إلى غير هذا الشاعر!
وإذن؟!
وإذن نستميح صديقنا الدكتور أن يدعها الآن فوضى حتى تسفر جهود الشباب عن عبقرية هذا الزعيم!. .
مصر في دورة الفلك
للدكتور محمد عوض محمد
الأستاذ بمدرسة التجارة العليا
على الرغم مني أعود إلى التفكير فيك، وعبثاً أحاول أن أصرف فكري إلى حديث غير حديثك، وذكر غير ذكرك. .
ولماذا أصرف فكري عنك؟
ألأني آلم إذ أفكر فيما تعانين، وما قد عانيت على مر السنين؟ ألم تعد في النفس بقية من الشجاعة؛ فأقابل بها الحقيقة؛ وإن كان أعذب ما فيها علقماً مريرا؟. .
ألعلي أخشى أن أدمنت التفكير فيك، أن أكون أبداً مقطب الجبين، سجين الكآبة، ثائر الفؤاد؛ لا أستقر على قرار، ولا أعرف للحياة لذة: فلا يبسم لي ثغر، ولا تقر لي عين؟
لماذا أصرف الفكر عنك؟
ألأني رويت من نميرك، وغذيت من ثراك، ونشقت من نسيمك، ورتعت في رياضك، وأظلني دوحك، وأطربني شدو غناء أطيارك. وهداني بدرك المنير إلى سر الجمال، وسماؤك الصافية إلى وحي الخيال، ونجومك اللامعة إلى جلال الكون، وشمسك المشرقة إلى قدرة الخالق؟
مع هذا أحاول أن أصرف فكري عنك؟ فأي عقوق هذا العقوق؟ وأي جحود هذا الجحود؟
أي مصر؟
لقد كنت من قبل عظيمة جليلة. كنت من قبل ورأسك يسامي النجم. وقد ترامت على أقدامكِ الأمم؛ لتقتبس منك النور؛ وتلتمس منك الهداية. لقد كنت وفي كفك الهائلة صولجان من الذهب ذو كرة مشرقة لامعة. يوم أن كانت الشعوب الأولى في ظلامها الحالك؛ مالها موئل غيرك؛ يوم لا نور إلا نورك؛ ولا هدى إلا هديك.
كانت في كفك كنوز الحضارة؛ وكنت تنثرينها بسخاء؛ للقريب والبعيد. فباتوا وهم أغنياء بما التقطوا من خيراتك، وما اقتبسوا من هباتك.
ثم حالت الحال، فأمسيت وقد تحطم الصولجان، وكسر الجناح وانتُهك الحمى! وذُلَ الأنف العزيز وانسَكَبَ الدمع العصي!!
فماذا دها الكون؟ وأي إصبع قد أدارت الفلك تلك الدورة الهائلة، حتى قلبته رأساً على عقب؟
يقولون إنك قد عقمت!. .
عقمت فأصبحت لا تلدين الأحرار، ولم يعد ثراك ينبت الأبطال! أجل يزعمون أن تُربَتكِ لم تعد تخرج إلا الزعانف والقزم: الذين همهم من العيش شهواتهم. ويعيشون فوق ثراك كالحشرات الطفيلية، يستمرئون خيره، ويحتسون رحيقه، ثم لا يخطر لهم أن يذودوا عن حوض رواهم، وموئل آواهم، ودوحة أظلهم فرعها وغذاهم ثمرها. . ما هم بالرجال ولا بأشباههم، ولا يجري في عروقهم دمٌ، بل جبن مذل. وخنوع مهين!
يقولون هذا كله عن بنيك يا مصر. فيا ليتهم كذبوا فيما أدعوه ويا ليت بنيك ينهضون لتكذيبهم!
أي مصر!
يقولون أن العام ربيع بعده صيف، يتلوهما خريف وشتاء. فهل مضى ربيعان وبان؟
أكتب لك الشتاء الأبدي والزمهرير السرمدي؟
إن كان هذا حكم الدهر فما أجوره! إن كان هذا حكم القضاء فما أقساه!
حلقة مفقودة
للأستاذ احمد أمين
الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية
في مصر حلقة مفقودة لا نكاد نشعر بوجودها في البيئات العلمية مع أنها ركن من أقوى الأركان التي نبني عليها نهضتنا. وفقدانها سبب من أسباب فقرنا في الإنتاج القيم والغذاء الصالح.
تلك الحلقة هي طائفة من العلماء جمعوا بين الثقافة العربية الإسلامية العميقة وبين الثقافة الأوربية العلمية الدقيقة، وهؤلاء يعوزنا الكثير منهم؛ ولا يتسنى لنا أن ننهض إلا بهم، ولا نسلك الطريق إلا على ضوئهم.
إن أكثر من عندنا قومتثقفوا ثقافة عربية إسلامية بحتة وهم جاهلون كل الجهل بما يجري في العصر الحديث من آراء ونظريات في العلم والأدب والفلسفة لا يسمعون بكانت وبرجسون، ولا بأدباء أوربا وشعرائها، ولا بعلمائها وأبحاثهم. اللهم إلا أسماء تذكر في المجلات والجرائد والكتب الخفيفة لا تغني فتيلا ولا تستوجب علما. وطائفة أخرى تثقفت ثقافة أجنبية بحتة يعرفون آخر ما وصلت إليه نظريات العلم في الطبيعة والكيمياء والرياضة ويتتبعون تطورات الأدب الأوربي الحديث وما أنتج من كتب وروايات وأشعار، ويعلمون نشوء الآراء الفلسفية وارتقاءها إلى عصرنا، ولكنهم يجهلون الثقافة العربية الإسلامية كل الجهل. فان حدثتهم عن جرير والفرزدق والأخطل أشاحوا بوجوههم واعرضوا عنك كأنك تتكلم في عالم غير عالمنا؛ وان ذكرت الكندي والفارابي وابن سينا قالوا أن هي إلا أسماء سميتموها ما لنا بها من علم، وماذا نحصل من هؤلاء إلا على جمل غامضة ومعان عميقة لا تفيد علما ولا تبعث حياة. وبالأمس كنت أتحدث مع طائفة من المتعلمين عن البيروني العالم الإسلامي الرياضي المتوفي سنة 440 هـ وما كشف من نظريات رياضية وفلكية وان المستشرق الألماني سخاو يقرر أنه أكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره. وأنه يدعو إلى تأليف جمعية لتمجيده وإحياء ذكره تسمى جمعية البيروني. فحدثني أكثرهم انه لم يسمع بهذا الاسم ولم يصادفه في جميع قراءاته وهو يعرف عن ديكارت وبيكون وهيوم وجون ستوارت مل كثيرا، ولكنه لا يعرف شيئا عن فلاسفة
الإسلام. ومثل ذلك قل في الأدب العربي والأوربي والعلم العربي والأوربي كل ثقافته العربية في كتاب القواعد وأدب اللغة للمدارس الثانوية أن كان قد بقي منها شيء في ذاكرته.
هاتان الطائفتان عندنا، يمثل الأولى خريجو الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء، ويمثل الأخرى نوابغ خريجي المدارس العصرية والبعثات الأوربية. أما الذين حذقوا العربية والعلوم الإسلامية ونالوا حظا وافرا من الثقافة الأجنبية فأولئك هم الحلقة المفقودة في مصر، وفقدانها سبب الركود في الحياة العقلية والأدبية.
ذلك أن الأولين إذا أنتجوا فعيب إنتاجهم أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا روح العصر ولا لغة العصر ولا أسلوب العصر، وإنما التزموا التعبير القديم في الكتابة، والنمط القديم في التأليف، وتحجرت أمثلتهم ومل الناس بلاغتهم، وعمادها رأيت أسدا في الحمام وعضت على العناب بالبرد، وعشرة أمثلة من هذا الطراز. ومل الناس نحوهم ومداره ضرب زيد عمرا ورأيت زيدا حسنا وجهه، وسئم الناس منطقهم، وكله الإنسان حيوان وكل حيوان يموت فالإنسان يموت وهذا حجر وكل حجر جماد فهذا جماد. ضجوا بالشكوى لأن الناس لا يسمعون منهم، وضج الناس بالشكوى لأنهم لا يأتون بجديد ولا يضعون القديم في شكل جذاب، ولا يلمسون الحياة التي يحيونها ولا البيئة التي يعيشون فيها فانصرفوا عن الناس وانصرف الناس عنهم ورضوا أن يعيشوا في جوهم الخاص ورضى الناس منهم بذلك وسلكوا سبيلا غير سبيلهم واتبعوا دليلا غير دليلهم.
وأما الآخرون فضعفت ثقافتهم العربية الإسلامية، فلما أرادوا أن يخرجوا شيئا لقومهم أمتهم أعجزهم الأسلوب والروح الإسلامي. فلم يستطيعوا التأليف ولا الترجمة وحاولوا ذلك مرارا فلم يفهم الناس منهم ما يريدون وسبوا القراء ورموهم بالضعف والانحطاط، وسبهم القراء ورموهم بالعي وانهم لا يفهمون ما يكتبون فعاشوا في أنفسهم ولأنفسهم ورضوا من الغنيمة بالإياب.
كان من نتيجة ذلك أن الأدب العربي الإسلامي والعلم العربي الإسلامي والفلسفة العربية الإسلامية على غناها ظلت دفينة لا ينتفع بها، تنتظر جبلا جديدا يسيغها ويهضمها ويبرزها في شكل تألفه الناس، وأن الأدب الغربي والعلم الغربي والفلسفة الغربية حرم منها أكثر
الشرقيين ولم يصل إليهم إلا نوع خفيف ينشر في المجلات والجرائد وأمثالها يقرؤها الناس ليطردوا بها الضجر أو يستعطفوا بها النوم، فأما أدب غزير وعلم عميق وكتب محترمة ومجلات قيمة فقليل نادر.
والذي جر إلى فقدان هذه الحلقة أن التعليم عندنا سار في خطين متوازيين لم يلتقيا، فالتعليم العربي الإسلامي سار في خط، والتعليم المدني الحديث سار في خط آخر، ولم تكن هناك محاولات جدية لتلاقي الخطين أو ربط بعضهما ببعض.
لا أمل في إصلاح هذه الحال إلا بالعمل على إيجاد الحلقة المفقودة وهي تذوق الثقافتين، والاغتراف من المنهلين، وإخراج أدب وعلم وفلسفة غذيت بما للعرب والإسلام من ثقافة، ولقحت بما للأوربيين من ثقافة ومنهج، فيها اللغة العربية قوية رصينة وروح الإسلام قوية متينة. وفيها ما للأوربيين من عرض للمسائل جذاب ونهج في الكتابة رشيق وفيها مقارنة شهية بين ما أنتجه الأولون والآخرون. لو تم ذلك لرأيت التاريخ الإسلامي يعرض على القراء في شكل محبوب يقرئونه ويستسيغونه، ورأيت الأدب العربي يقدم إلى الجمهور في ثوبه الجديد فيألفونه ويحبونه ورأيت الفلسفة الإسلامية يغاص عليها غوصاً عميقاً ثم تخرج من أصدافها وتجلى للقراء درة لامعة.
هذا هو السبب في نجاح رفاعة باشا ومدرسته فأنتجت إنتاجا غذى عصرهم بل كان فوق كفايتهم؛ فقد أرسل رفاعة إلى فرنسا بعد أن درس في الأزهر وتعمق في العربية والعلوم الإسلامية فلما حصل على الثقافة الفرنسية وضع يده على المنبعين فأخرج هو ومدرسته للناس ما استساغوه وأحبوه ونهضوا به ولم يكن كذلك من لحق بهم وخلف من بعدهم.
وقد كان إخواننا الهنود أسبق منا إلى إيجاد هذه الحلقة والانتفاع بها. أخرجوا التاريخ الإسلامي في ثوب جديد على نمط ما يكتب الغربيون ولكن بروح إسلامي وكتبوا في الدين الإسلامي والفقه الإسلامي بلغة العصر وروح العصر ونظام العصر كما فعل السيد أمير علي والسيد محمد إقبال فقد تضلع هذان العالمان الجليلان من الثقافة الإسلامية والأوربية؛ وأشرب قلباهما حب الإسلام فأخرجا كتباً يقرؤها الشباب المثقف فيحبها ويحب موضوعها ويستزيد منها، ويقرؤها الشباب المتعلم المتخصص في الطبيعة والكيمياء فيجدها تتمشى مع العلم الذي ثقفه والنهج الذي ألفه. وتقرأ للسيد محمد إقبال فتجده يعرض لفلسفة (كانت) فإذا
هو فيها دارس عميق والغزالي فإذا هو باحث خبير فيما يكتُب ويعرض لشعراء الألمان كجوته فيحلله تحليلا يدعو إلى الإعجاب ويتكلم في المعتزلة والصوفية فإذا هو قد تغلغل في أعماقهم واستبطن دخائلهم ثم عرض تعاليمهم كما يعرض الأوربي فلسفة قومه شيقة عذبة لذيذة.
ولكن الهنود يعرضون وآسفاه ذلك باللغة الإنجليزية فلا يغذون جمهورنا ولا يسدون حاجة العالم العربي إنما يتغذى الشرق بهذا يوم توجد هذه الحلقة المفقودة في العالم العربي كمصر والشام فيحيي آثار الأولين بأسلوب الآخرين، ويوم يكسر هذا الحاجز الذي يحجز بين علم الشرق وعلم الغرب، ويوم يلوى الخطان المتوازيان فيلتقيان.
أثر الثقافة العربية في العلم والعالم
بقلم احمد حسن الزيات
- 1 -
الشعوب كالأفراد، فيها من يولدون على حكم الطبيعة، ويعيشون على هامش الحياة، ثم يغوصون في ظلال العدم، لا ينعم بهم وجود، ولا يغنم منهم إنسان، ولا يعبأ بهم تاريخ. وفيها من يقبلون إقبال الربيع ينضرون الحياة بالجمال، ويمرعون الأرض بالخصب، ويفيضون على الدنيا سلاما ووئاما وغبطة! أولئك الذين يصطفيهم الله من خلقه لإعلاء حقه، فيودعهم سره ويحملهم رسالته فيعيشون لأجلها، ثم يموتون في سبيلها، بعد أن يخلدوا في صدر الزمان وعلى وجه الأرض آثار جهادهم في الله، وجهودهم للناس، وفضلهم على المجتمع. وهؤلاء هم أدلاء ركب الحياة، وحمال ألوية الخليقة، يقلون قلة الصفوة، ويبطئون إبطاء الخير، ولكن آثارهم تشغل ذهن العالم. وأخبارهم تملأ سمع الزمن!!.
هذا التاريخ على طوله وفضوله لم يسجل من الأمم التي بلغت رسالات الله بالخير والجمال والحق إلا أربعا: العبران في الدين والسلم، واليونان في الفن والعلم، والرومان في النظام والحكم، والعرب في كل أولئك جميعا!
(والعرب في كل أولئك جميعا) فقرة أقولها وأنا أعلم أن الشك فيها سيحك الآن في بعض الصدور. لأن ما أقرته التعاليم المريضة في الأذهان من أن اليونان والرومان هم مصادر الثقافة العالمية، وأن العرب أعجز بفطرتهم عن العلم، وأبعد بطبيعتهم عن التمدن، يجعل هذه القضية على إطلاقها سخيفة!
لقد أن للنظر الصحيح أن يرى، وللعقل المجرد أن يحكم!. أما الأحكام التي صدرت عن موتوري الشعوب وتجار العقائد وورّاث الأحقاد فلا وزن لها في نظر المنطق ولا شأن لها في رأي العلم.
كان العرب في الشرق فاتحين وحاكمين فلا بدع أن تعصف ثورة العصبية، وتقوم دعوة الشعوبية، وتظهر فكرة الإسماعيلية والإسحاقية. ويبقى من آثار ذلك ما نشاهده اليوم وقبل اليوم في سياسة الترك والفرس من ازورار عن العربية واضطغان على العروبة. وكان العرب في الغرب فوق ذلك شرقيين ومسلمين فلم يكن بد من تصادم العقائد وتعارض
الطبائع وتحكم الجهالة. فتنشأ محاكم التحقيق، وتصدر عقوبة التحريق والتمزيق، ويشاب التعليم بالتضليل والتلفيق. ويبقى من آثار ذلك أن تظل كنيسة الحمراء تقرع نواقيسها أربعاً وعشرين ساعة قرعاً متداركا في ثاني يناير من كل عام ابتهاجا بجلاء العرب عن الأندلس! فكيف يرجى من هؤلاء وأولئك الإقرار بفضل العرب على الثقافة. والاعتراف بجميلهم على الحضارة. وفي النفوس من غلبة الفاتح وترا، ومن عظمة الحاكم حقدا، ومن دين المجاهد إحنة، ومن سلطان الدخيل نفور؟ والنهضة الحديثة لم تستطع بفلسفة ديكارت وحرية الفكر ونزاهة التعليم أن تصفي العقول من شوائب هذه المذهبية القديمة، فلا يزال نفر من العلماء يكابدون ازدواج الشخصية فيهم. فهم يجمعون في أهاب واحد بين رجلين مختلفين: حديث يتأثر بالدراسة الشخصية والبيئة الخلقية والفكرية. وقديم يتكون على بطئ من تراث الأجداد ومخلفات القرون. وهذا الرجل العتيق هو الذي يتكلم في أكثر الناس، فيملي عليهم الآراء، ويلبس عليهم وجوه الحق. فإذا تنبه الرجل الحديث وتكلم وقع صاحبهما في التناقض وتعسف من جرائهما في الحكم. وأصدق الأمثلة على هذا الصنف من الباحثين العالم المؤرخ (ارنست رنان) خالق فكرة السامية والآرية، وأعدى الكتّاب للأمة العربية. فان ازدواج الشخصية فيه جعل آراءه في العرب متناقضة يدفع آخرها أولها. له محاضرة معروفة عن الإسلام ألقاها في السربون؛ وقد جهد أن يدلل فيها على وضاعة شأن العرب في التاريخ وقلة غنائهم عن العلم؛ ولكن الرجلين القديم والحديث كانا يتعاوران الكلام على لسانه فينقض أحدهما ما أبرمه الآخر. فبينما هو يقول مثلا:(أن العلوم والآداب والحضارة مدينة بازدهارها وانتشارها للعرب وحدهم طوال ستة قرون؛ وان التعصب الديني لم يعرفه المسلمون إلا بعد أن دالت دولة العرب وخلفهم على ولاية الإسلام الترك والمغول) إذا به يقول بعد ذلك: (أن الإسلام كان لا ينفك مضطهدا الفلسفة والعلم وانه جعل من دون الحرية الفكرية سدا في كل بلد احتله). ثم يعود فيفيض القول في فضل العرب على القرون الوسطى وفيما كانت عليه إسبانيا من الرخاء والارتقاء في عهدهم. فإذا فرغ من ذلك سارع الرجل القديم فيه إلى القول بأن الذين نهضوا بالعلم من المسلمين لم يكونوا من العرب وإنما كانوا من سمرقند وقرطبة واشبيلية؛ وأنساه شيطانه أن هذه البلاد عربية وأن الدم العربي والعلم العربي قد تغلغلا في أصولها منذ طويل؛ وأن
تقسيم العرب إلى عرب وعرابوفون سلاح لا تفلت منه أمته نفسها إذا حلل هذا التحليل نسبها وأدبها. ثم تنتهي المعركة بين الرجلين في (رينان) بقوله في صراحة مفاجئة: (ما دخلت مسجداً قط إلا تملكني انفعال شديد هو لو أفصحت عنه نوع من الأسف على أني لم أكن مسلما!).
على أن هناك فريقا من صفوة العلماء الأوربيين تحرروا من حكم الهوى، وتحللوا من قيد الغرض، فأقروا الحق في نصابه، وأرجعوا الفضل إلى أهله سنجعلهم شهودنا في إثبات ما نقول. فأن أشد ما شهد امرؤ على نفسه واقرب الآراء إلى الحق رأي الفرد في جنسه.
كان العالم شرقه وغربه في أوائل القرن السابع للميلاد قد استحال كونه إلى فساد. فحضارته تتحطم بالترف والرخاوة. وسياسته تتحكم بالغلول والأثرة؛ وأخلاقه تتفكك بالسرف والشهوة، وعقائده تتنزى بالجدل والتعصب ودماؤه تهدر بين الروم والفرس لغير غرض أسمى ولا مبدأ مقدس. وكانت شعوبه منذ طويل قد فقدت مثلها العليا فهي تعيش عيش الهمل السوائم: فلا عظمة روما تحفز الرومان، ولا مجد السلف يهز الفرس، ولا سمو الغاية يسدد وثبة البربر.
على هذه الحال خرجت أمة العرب برسالتها الدينية والخلقية إلى هذا العالم المنقض والهيكل البالي فجددت أخلاقه على الرجولة؛ وطبعت عقيدته على التسامح، ورفعت مجتمعه على المحبة؛ وصمدت للجهاد والفتح في سبيل هذا المثل الأعلى لا تطمح من دونه إلى سلطان ولا تطمع من ورائه في غرض حتى أنشأت فيما دون القرنين ملكا طبق الأرض. وحضارة هذبت العالم وثقافة حررت العقل ولم يكن ذلك مستطاعا لغير الأمم الموهوبة التي هيأها الانتخاب الطبيعي لتبليغ رسالة أو تجديد دعوة أو تحقيق (اديال وكأين من أمة قوضت سلطان أمة أو أمم. ولكنها لم تعد ما يفعل منسر من اللصوص سطا على قافلة أو قطيع من الوحوش عدا على قرية، فالشعوب الجرمانية والهونية والسلافية تعاقبت غاراتها على الرومان في الشرق والغرب فاجتاحوا ملكهم؛ والقبائل التركية والمغولية قد دهموا العرب فثلوا عرشهم. ولكن شعباً من هذه الشعوب لم يصغ قلبه للمدنية؛ ولم يجد فتحه على الإنسانية فظلوا بعداء عن الحضارة غرباء عن العلم الا ما كان من ترويجهم بعد لحضارة المغلوب وثقافته.
أماالقبائل العربية فلم يكادوا يضعون عن كواهلهم عتاد الحرب وينفضون عن وجوههم غبار الصحراء؛ حتى صعدوا في مراقي الحضارة بسرعتهم في طريق الفتوح. واستطاعوا أن يرفعوا على أنقاض اليونان والرومان والفرس حضارة ثابتة الأصول باسقة الفروع لا يظهر في عناصرها المختلفة الا روح الإسلام وفكر العرب، ثم كانت من القوة بحيث طاولت الدهر، وصاولت المغير، وأخضعت لسلطانها حضارات لم تخضع لفاتح من قبل. وسخرت لدعايتها خصوماً لم يتحرروا من آثارها بعد.
ولو رحنا نتلمس أسرار هذه القوة وأسباب تلك العظمة وجدناها أولاً في الهام الطبع وسلامة الفطرة وجاذبية المثل الأعلى وثانيا في القابلية الطبيعية لفقه الحضارة، وهي صفة لا تكتسب عفو الحاضر ولا طوع التقليد. وإنما تتأصل في الشعب بتقادم عهده في الثقافة وطول رياضته على التمدن. فالعرب لم يكونوا جميعا كما يصورهم الأدب القديم جفاة الطباع بداة الاجتماع. وإنما كان منهم في اليمن والحجاز والشام والعراق متحضرون لابسوا أرقى أمم العالم بالتجارة منذ ألفي سنة، وكان لهم قبل الإسلام ثقافة أدبية ومدنية لغوية لم يكن من المعقول أن تظهرا في التاريخ فجأة. فان تطور الأفراد والشعوب والأنظمة والعقائد تدريجي بطيء لا يبلغ كماله الا حالا على حال ودرجة بعد درجة. والحق أن الأخبار والآثار والعقل تتناصر كلها على إثبات حضارة عربية في المدن الجاهلية. وإذا كان بدو الجزيرة هم الذين أنتجوا الشعر وفتحوا الفتوح فان حضر الحجاز هم الذين حكموا الناس ونشروا المعرفة وأقاموا الحضارة.
في تعدد الأوضاع البلبلة والضياع
للأستاذ عبد القادر المغربي
عضو المجمع العلمي العربي بدمشق
الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي علم من أعلام الأدب وعضو نابه من أعضاء المجمع العلمي العربي وقلم بارع من أقلام مجلته الزاهرة. وله بمصر وصحافتها صلة قديمة. فلقد تولى التحرير بجريدة المؤيد حينا من الدهر كانت مقالاته في النقد والاجتماع موضع الإعجاب من صفوة الشباب وناشئة الكتاب لطرافة أسلوبها وحرية تفكيرها. وقد ثقف اللغة الفرنسية في عهد الكهولة فاستمد منها في جهاده الأدبي قوة عظيمة. ولا يزال الأستاذ بجلد الشبيبة وحكمة الشيخوخة يزاول التعليم في كلية الآداب بدمشق والتحرير بمجلة المجمع وقد تفضل أيضاً فمنح بعض هذا الجهد القيم (مجلة الرسالة).
أعرض على حضرات قراء هذه (الرسالة) مثالا واحداً من أمثلة الحيرة التي تعتري النقلة والمترجمين عندما يريدون وضع كلمة جديدة أو نقل كلمة أعجمية إلى لغتنا العربية ولا سيما إذا كانت من مصطلحات العلوم الفلسفية أو النفسية أو الاجتماعية.
كثيرا ما تتردد في كتابات المشتغلين بالفلسفة الحديثة كلمتا ويريدون بكلمة التفكير في الأمور من حيث مظاهرها الخارجية ومن دون أن يكون للانفعالات النفسية تأثير فيها.
فيريدون بها التفكير في الأمور لا من حيث مظاهرها الخارجية بل من حيث وقعها في نفس المفكر وتأثيرها في شعوره الباطني.
هذا ما يمكن أن يقال في تفسير الكلمتين تفسيراً إجماليا. ولما أراد كتاب العرب أن يضعوا لهما كلمتين عربيتين اختلفوا في الوضع أو الاختيار اختلافا كبيرا.
وربما كان أسبق هؤلاء الواضعين كتاب الأتراك. فقالوا في ترجمة وهو ما نفكر به باطنيا (لاهوتي) وفي ترجمة وهو ما نفكر به خارجيا (ناسوتي).
وقام من الأتراك العثمانيين كاتب المعي هو بابان زاده أحمد نعيم فاستحسن أن يقال مكان لاهوتي (أنفسي) ومكان ناسوتي (آفاقي) نسبة إلى كلمتي (الأنفس والآفاق) ناظراً في ذلك إلى الآية القرآنية الكريمة (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
أما كتاب العرب في مصر فربما كان نجاري بك رحمه الله هو أول من أعلن ترجمة هاتين
الكلمتين إلى العربية في معجمه الكبير (الفرنسي والعربي) المطبوع سنة 1905 م.
فقد فسر كلمة وهو ما نفكر به باطنيا بكلمة (جوهر) وفسر كلمة وهو ما نفكر خارجياً بكلمة (عرض).
ثم جاء بعد نجاريمن كتاب مصر من ترجم كلمة (بالذاتي) وكلمة (بالموضوعي).
وقال غير هؤلاء بل نترجم (بالفاعلي) وكلمة (بالمفعولي).
ثم وصل إلى كتاب العرب في العراق: فترجم الأستاذ الكبير ساطع بك الحصري كلمة وهو ما نفكر به باطنيا بكلمة (شخصاني) نسبة سريانية إلى كلمة (شخص) على حد قولنا (جسماني وروحاني) في النسبة إلى الجسم الروح.
وفسر كلمة وهو ما نفكر به خارجيا بكلمة (شبحاني) نسبة إلى (الشبح) الذي يرى من بعيد. ملاحظا أن معنى (الشبح) يراد أحيانا من كلمة ومنه تسمية البلورة الصغيرة في آلة التصوير الشمسي وهي التي تلتقط صور الأشباح الخارجية فترتسم فيها.
ولم يكد يذيع الأستاذ ساطع بك رأيه فيترجمة الكلمتين ويبرهن على صحته حتى عارضه الأستاذ إسماعيل مظهر في مجلة (العصور) مدعياً أن ترجمة كتاب مصر لهما (بالذاتي) و (الموضوعي) خير من ترجمة الأستاذ ساطع لهما (بالشخصاني) و (الشبحاني).
وسئل الأب أنستاس الكرملي عن ترجمة هاتين الكلمتين فأجاب في مجلد السنة السادسة من مجلة (لغة العرب) بما نصه: يقابل في لساننا كلمة (الذهني) والثاني يقابله في لغتنا كلمة (الخارجي). قال أبو البقاء في كلياته عن الأول كذا وعن الثاني كذا. . .
ثم نقل الأب الكرملي عبارة أبي البقاء بطولها وقفى عليها بقوله (فأنت ترى من هذا أن تعريف كل من (الذهني) و (الخارجي) تعريف صحيح على ما يفهمه الإفرنج في هذا العهد. ولا نعرف للحرفين المذكورين كلمتين أخريين، ومن يعرفهما فليذكرهما لنا اهـ).
هذا ما قاله كتابنا على اختلاف أمصارهم في ترجمة هاتين الكلمتين، وقد دار محور النزاع بينهم حول سبعة أزواج من الكلم وهي:
لاهوتي. ناسوتي
أنفسي. آفاقي
جوهر. عرض
ذاتي. موضوعي
فاعلي. مفعولي
شخصاني. شبحاني
خارجي. ذهني
ومن هذا نرى النقلة والمترجمين لا يرجعون فيما شجر بينهم الا إلى أنفسهم. ولا يستمدون الحكم في فصل الخلاف اللغوي الا من ذوقهم. والأذواق مختلفة، ولا تحكيم مع اختلاف المحكمين. والقراء حيارى بين هذا المترجم، وذاك الواضع. وفي تعدد الأوضاع البلبلة والضياع، فلم يبق الا أن يتولى المجمع أمر الوضع، فيجمع الشتات ويرأب الصدع.
اللغة العربية كأداة علمية
للدكتور علي مصطفى مشرفه.
الأستاذ بكلية العلوم
تجتاز اللغة العربية في عصرنا الحالي مرحلة من مراحل تطورها سيكون لها أثر واضح في مستقبلها. فاللغة التي كان عرب البادية يتكلمونها بسليقتهم فيصفون بها حياتهم ويعبرون بها عن مشاعرهم في صحرائهم وبين إبلهم وآرامهم والتي صارت بعد ذلك لغة الكتاب والفلاسفة في عصور المدنية الإسلامية؛ يتناولون بها سائر المعاني الأدبية والفلسفية. تلك اللغة قد كتب عليها أن يصيبها الخمول فتبقى مئات السنين بعيدة عن مجهودات البشر الأدبية والفلسفية والعلمية ثم ها نحن نراها اليوم وقد بعثت من مرقدها في ثوب جديد فصارت لغة الكتابة والتأليف، لغة الخطابة والتعليم في عصر انتشرت فيه مدنية جديدة وعمته حضارة مستحدثة؛ تختلف في مظهرها الخارجي وفي المحمل العقلي المرتبط بها إختلافاً بيناً عن حضارات القرون الوسطى. فاللغة العربية تبعث اليوم كما بعث الفتية بعد أن ضرب على آذانهم في الكهف سنين عددا فتجد نفسها في عالم جديد موحش لا تأنس إليه ولا يأنس إليها وهو لعمري موقف نادر تقفه لغتنا لعله فريد في بابه. لذلك كان لزاما على الأدباء والمفكرين من أهل اللغة العربية من عصرنا الحالي أن يحوطوها بعنايتهم وأن يهيئوا لها أسباب الحياة الطيبة في بيئتها الجديدة حتى تتكيف بالبيئة وتجنح إليها كما تتوتر لها البيئة وتحتويها. فاللغة كالكائن الحي في تفاعل مستمر مع البيئة التي تحيط به فأما تلاءما فاشتد الكائن وتكاثر ونما وأما تنافرا فاضمحل وتضاءل وهلك.
وإذا نحن قارنا البيئة الفكرية الحديثة بما كانت عليه في أيام ازدهار الحضارة العربية فلعل أول ما يسترعي نظرنا من الفوارق تغلب الروح العلمية على تفكيرنا الحديث. فالمدنية الحالية كما يدل عليه تاريخها مدنية علمية، مدنية كشف واختراع، مدنية استنباط وتحليل، ولذا كان مظهرها الخارجي غاصا بالآلات والعدد تكتنف الناظر إليها عن اليمين وعن الشمال. فلا عجب أن تشعر لغة العيس والسهام بوحشة بين الطيارات والمدافع الرشاشة. ومما لا شك فيه أن التقدم الذي حدث بمصر وفي سائر البلاد العربية في العصر الحالي قد كان من شأنه العمل على المقاربة بين اللغة العربية الحديثة وبين بيئتها. فمن ناحية قد
تطورت اللغة بأن دخلت عليها كلمات وعبارات مستحدثة نشأت الحاجة إليها كما تغيرت معاني الألفاظ ومدلولات التراكيب بما يتفق والتفكير الحديث، وهجرت الألفاظ الغربية علينا أو التي لا لزوم لها، فنشأ عن ذلك تهذيب في اللغة قربها إلى عقولنا وساعد على حسن استخدامها. ومن ناحية أخرى بانتشار التعليم بين طبقات الأمة وبزيادة تبحر متعلميها في مختلف العلوم والفنون قد انتشرت الألفاظ والتراكيب العربية وشاع استعمالها في طول البلاد
وعرضها كما تكونت طوائف من العلماء والمفكرين بيننا يكتبون ويخطبون ويؤلفون في سائر العلوم والفنون فنشأت ثروة من الأدب العلمي والأدب الفني الحديثين يصح أن تتخذ مرجعاً لعلماء اللغة في دراستهم للغة العربية الحديثة. الا أننا مع ذلك لا نستطيع أن نزعم أن الشقة بين اللغة وبيئتها قد تلاشت تماما. فلا تزال هناك مدلولات عديدة لم تتسع اللغة للتعبير عنها بحيث يشعر المتعلم منا بنقص في لغته عندما يحاول الكلام في كثير من المواضيع العلمية والفنية. كما أنه من ناحية أخرى يوجد نقص كبير في عدد المتعلمين الذين يحسنون الكتابة أو الخطابة بلغة متفق على صحتها.
وبعبارة أخرى كل ما يمكن أن يقال أن اللغة العربية الحديثة لا تزال في دور التكوين.
لو أتتيح لنا أن ننظر إلى مستقبل اللغة العربية فترى ماذا نجد؟ هل نجد لغة واحدة يكتبها ويتكلمها المتعلمون من أهل مصر وأهل العراق وأهل الشام وغيرهم من الأمم العربية بفروق ضئيلة؛ لا تزيد على الفروق بين لغة أهل استراليا ولغة أهل إنجلترا. وهل تكون هذه اللغة قريبة من اللغة العربية التي أكتبها الآن قرب لغة الإنجليزي المتعلم الآن من لغة شكسبير؟ أم هل نجد لغات مختلفة لغة في مصر وأخرى في العراق وأخرى في لبنان، مثلها كمثل اللغة الألمانية واللغة السويدية واللغة الهولندية في تقاربها وتباعدها، كل لغة متأقلمة بلهجة أهلها ولا صلة بين أيها وبين لغة هذا المقال الا كالصلة بين اللغة الألمانية واللغة اللاتينية. وبعبارة أخرى هل ستحيا اللغة العربية وتنتشر أو ستموت وتندثر وتحل محلها لغات أخرى! أن مآل اللغة العربية في مستقبلها متوقف علينا نحن اليوم. فاللغة كما قدمت في دور التكوين ولذا ففي يدنا قتلها وفي يدنا أحياؤها. أما قتلها فيكون بالجمود بها عن تطورها الطبيعي كما يكون بعدم التعاون بين الأمم المختلفة من أهلها على توحيدها
والمحافظة على وحدتها. وأما إحياؤها فيكون بالتبصر والحكمة وحسن الرعاية والتمشي بها في السبيل الطبيعي لرقيها كلغة حية واحدة. ومن حسن الحظ أن لدينا اليوم من الوسائل ما نستطيع به المحافظة على لغتنا في مصر وفي سائر البلاد العربية، فانتشار المطبوعات وسهولة الانتقال من بلد إلى أخرى والإذاعة اللاسلكية كل هذه عوامل قوية على توحيد اللغة وتعميمها إذا نحن أحسنا استخدامها وتنظيمها.
ولست أتعرض في هذا المقال للغة الأدبية بل أترك ذلك لأدبائنا وكتابنا وإنما أريد أن أشير إلى بعض الصعوبات التي تصادف لغتنا اليوم كأداة للتعبير العلمي. فمن جهة لا تزال كمية التأليف العلمي في مصر وفي الأقطار العربية ضئيلة بحيث لا يمكن بحال ما أن تعتبر ممثلة لحالة العلم في العالم اليوم، ومن ناحية أخرى يعوز المؤلفات العلمية الموجودة التهذيب كما يعوزها التجانس في المصطلحات، فكثير من المدلولات العلمية لا توجد الصيغ اللفظية لها، وبعض المدلولات توجد لها صيغأما ضعيفة أو غير صالحة، كما انه توجد في بعض الأحايين صيغ متعددة للمدلول الواحد مما يؤدي إلى نوع من الفوضى في أدبنا العلمي يجب علينا تلافيها. والطريقة المثلى للتقدم تكون بتأليف لجان من الأخصائيين لمراجعة المؤلفات الموجودة وتهذيبها والعمل على تجانسها كما تكون بتكليف القادرين منا وتشجيعهم فرادى ومجتمعين على وضع المؤلفات في مختلف الفروع العلمية حتى تتألف لنا ثروة من الأدب العلمي يصح أن يعتمد عليها علماء اللغة في استخلاص المصطلحات والعبارات العلمية في لغتنا الحديثة وتحديد معانيها ومدلولاتها بمعاونة العلماء الأخصائيين في ذلك. ويجب أن اذكر بهذه المناسبة أن من العبث أن يحاول علماء اللغة وضع المصطلحات العلمية وضعا قبل ورودها في المؤلفات العلمية وشيوع استعمالها فان ذلك يكون من باب التسرع وقلب النظام الطبيعي لتطور اللغة وهو في الغالب مجهود أكثره ضائع إذ لا يمكن التنبؤ بما إذا كان مصطلح من المصطلحات سيبقى ويدخل في صلب اللغة أو سيموت ويحل غيره محله.
بقيت نقطة أريد أن أتعرض لها وهي العلاقة بين المصطلحات العربية ومصطلحات اللغات الحية الأخرى. ففي رأيي انه من الجائز استعمال مصطلح أجنبي في لغتنا (بعد تحويره ليتفق مع ذوق اللغة وأوزانها) بشروط أن يكون هذا اللفظ مستعملا في جميع اللغات العلمية
الأخرى أو في معظمها. ومثل هذه الألفاظ تكون في الغالب مشتقة من اصل إغريقي أو لاتيني لا جناح علينا نحن إذا اشتققنا منه كما اشتق غيرنا. أما الألفاظ الأجنبية المقصورة على لغة واحدة أو لغتين فرأيي أن يكون له عندنا لفظ عربي مرتبط بأدبنا وتفكيرنا.
ولا يتسع المجال لزيادة التفصيل فليس المراد من هذا المقال أن أدخل القارئ في مسائل فنية هو في غنى عن بحثها وإنما أرجو أكون أثرت من نفسه الاهتمام بهذا الموضوع الذي هو من أهم المواضيع المرتبطة بحياتنا وتقدمنا.
رسالة الأديب في مصر
بقلم الأديب عبد الحميد يونس
وقف الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل وقفة طويلة في كتابه (الأبطال) عند البطل في صورة الأديب وعرفه بأنه (. . الرجل الذي يردد لنا نفسه الملهمة، وأقول الملهمة لأن ما نسميه بالعبقرية أو الصدق أو الموهبة أو صفة البطولة التي لا نجد لها اسماً خليقاً بها تدل على أن الأديب هو الذي يعيش في أعماق الأشياء؛ في الحقيقي، في الإلهي؛ في الخالد الذي يوجد أبداً والذي لا تراه الدهماء، لأنه يختفي وراء الزائل الحقير دائماً أبداً. الأديب هو الذي يذيع هذا الخفي للناس بالقول أو بالعمل؛ وحياته إذن قطعة من قلب الطبيعة الذي لا يعتوره الفناء) ثم استعان بآراء الفيلسوف الألماني (فخته) الذي أذاع سلسلة محاضرات في موضوع (طبيعة الرجل الأديب) قال فيها أن كل الأعمال التي يعملها الناس والأشياء التي تقع عليها أبصارهم في هذه الدنيا ليست الا ثوباً أو مظهراً إحساسياً يجثم وراءها ما أسماه (فكرة العالم الإلهية) وهي (الحقيقة التي توجد في أعماق المظاهر جميعا) وهي بالطبع لا تظهر لعامة الناس لأنهم يعيشون بين المظاهر والماديات. فرسالة الأديب أن يميز لنفسه وللناس هذه الفكرة الإلهية بما فيها من روعة وجمال وقوة وأن يقف إلى جانبها معجبا متعجبا؛ وان يذيعها في الناس حتى يكونوا أنعم بحياتهم وأقدر على فهم وجودهم. عليه أن يسمو بهم فوق رغبات العيش المادي من طعام وشراب وكساء وأن يحررهم (ولو إلى حد ما) من قيود الزمان والمكان.
وأظنك تستطيع أن تتخذ هذا التعريف مقياسا توازن به بين الأدب الحي والأدب الميت. فكما يوجد في هذا العالم أطباء ودجالون يدعون الطب كذلك يوجد أدباء وأدعياء يدعون الأدب. وإذا كنت تحرص الحرص كله على التمييز بين النقود الصحيحة والنقود الزائفة وهي التي تحصل بها على أغراضك المادية فالأجدر بك أن تكون أكثر حرصا على التمييز بين الآثار الأدبية الصالحة والآثار الأدبية الزائفة وهي التي تحصل بها على أغراضك الروحية.
والأديب يولد ولا يصنع (كما يقول الإنجليز) أي أنه رجل لا يكتسب صنعة الأديب بالتعلم والمران ما لم يكن موهوبا بطبيعته. بيد أن هذه الموهبة كالشجرة ما لم تثقف وتشذب فلن
تؤتي أكلها لذيذا شهيا. . .
نخرج من هذا بأن الأديب في مصر هو الأديب في غير مصر وأن رسالته هنا هي بعينها رسالته هناك وكل ما في الأمر إختلاف طرائق التعبير. على أن مهمة أديبنا أشق من مهمة الأديب الغربي لأن الغربيين يعرفون لأديبهم قدره فيبسطون له في الرزق حتى ينصرف إلى الإنتاج الأدبي الصالح بيننا ينكر المصريون أديبهم ويضيقون عليه الخناق وهم إن اعترفوا له بشيء فإنما يكون هذا الاعتراف بعد أن يفارق هذه الدنيا. ولهذا دون شك أثره البالغ في خلق الأديب فهو أما أن يتزلف إلى السلطات الحاكمة أو يترضى الأمراء والزعماء فإذا لم يستطع هذا أو ذاك أخذ يتملق الجمهور! ولا تتهمني بالمبالغة فأمامك تاريخنا الأدبي الحديث فهو حافل بأسماء الأدباء (وأشباه الأدباء) الذين كانوا أقرب إلى المتسولين منهم إلى أي شيء آخر. والذين انحطوا بصناعة الشعر والنثر إلى الدرك الأسفل حتى أصبح الأدب نوعا من (البهلوانية) في التعبير فإذا ألحت عليهم الحقيقة أتخذوا في إذاعتها فنون اللف والدوران والمواربة! وما أقل أولئك الذين عافت نفوسهم التمسح بأذيال السادة أو التعلق بأردان الجماهير! والأديب (بل وشبه الأديب) معذور لأن الجماعة لا تريد إلا من يسليها ويدخل السرور عليها أما الذي يكشف لها عن المثل العليا ويظهرها على الفرق بين حاضرها وهذه المثل فهو أبغض الناس إليها!
والأديب المصري الذي يريد أن يؤدي رسالته على الوجه الأكمل يصطدم بعقبتين كلتاهما صعبة شديدة. فما بالك إذا علمت أنهما متآخيتان، هاتان العقبتان هما (السياسة والتقاليد).
أما السياسة فقد طغت علينا وأفسدت مزاجنا الأدبي حتى اضطربت موازين النقد في أيدي الكتاب ورجال التعليم يجورون في أحكامهم على الأدباء جوراً ظاهراً: والطلاب والقراء في حيرة ليس مثلها حيرة. وأسرفت السياسة في طغيانها اشتدت جنايتها على الأدب حتى أنصرف الأدباء إلى السياسة وأدركوا أن الشهرة الأدبية لن تأتيهم إلا على حساب الشهرة السياسية!
والتقاليد أمرها غريب حقاً فهي من محاربتها للأدب والأدباء تتستر وراء الدين حيناً ووراء السياسة حيناً آخر. تظهر مرة وتختفي مرات. وويل للأديب الذي يتهم بالإلحاد. وويل للأديب الذي يتهم بالخيانة. وويل للأديب الذي يتهم بالإباحية! لو كان موظفاً طرد من
وظيفته. ولو كان عالماً جرد من شهادته. ولو كان كاتباً حورب في صحيفته!
على أن الأديب القوي هو الذي يصمد لهذا كله ويمضي في إذاعة رسالته مؤمنا بانتصاره. أو قل بانتصار آثاره تدفعه الفكرة الإلهية التي فيه. فإذا اعترف له أبناء عصره بفضله عليهم وعلى الأجيال المقبلة من بعدهم فذاك. وإلا فقد كتب أسمه في ثبت الخالدين. . .
وأدباء مصر في هذا الزمن هم (الطلائع) التي تتعرض للأخطار وتتلقى عن بقية الجيش السهام تتلوها السهام؛ والطلقات تعقبها الطلقات. فعليهم أن يضربوا المثل الصالح لأبناء الجيل الجديد.
وأني لأعلم أن مهمة الأديب المصري في الجيل المقبل ستكون أسهل من مهمة أخيه في هذا الجيل لان الأخير عليه إلى جانب مهمته الأساسية مهمة أخرى هي (التمهيد) وتعبيد طرائق التعبير من نحت ألفاظ. وإصلاح ألفاظ. ومن خلق قوالب أدبية لم يكن لها في تقاليد الأدب العربي وجود كالدرامة والشعر القصص والمقال الاجتماعي وما يتطلبه هذا كله من التغيير في قواعد النظم والكتابة.
وليذكر أولئك الذين يغرمون بتأليف المجامع اللغوية أن إصلاح اللغة لا يقوم به النحات والعروضيون وأصحاب الأبحاث (الفيلولوجية) وإنما يقوم به الأدباء والأدباء وحدهم لأنهم بطبيعة رسالتهم اقدر على ابتكار الألفاظ التي تتلاءم مع المعاني. والأساليب التي تتفق والأغراض. ثم هم اقدر على إذاعة هذه الأساليب وتلك الألفاظ في الناس. ثم يأتي بعدهم أصحاب النحو والعروض وعلوم اللسان يستخرجون من آثارهم القواعد العامة ويرتبونها ويصنفونها ويضعون المطولات والقواميس فيها!
فليمض الأدباء المصريون (وهم قلة) في تحقيق الرسالة السامية التي وجدوا من اجلها والتي يعيشون لها. والتي يجب أن يموتوا في سبيلها كما يموت كل صاحب رسالة يؤمن برسالته وليكن عزاءهم خلود آثارهم؛ وأحرى بالناس أن يقدروا الأديب الذي لا يعيش لنفسه وإنما يعيش لهم!. . .
في الأدب العربي - العبقرية والقريحة
أو
شوقي وحافظ
بقلم احمد حسن الزيات
فجيعة الشعر العربي في حافظ وشوقي يعز عليها الصبر، ويُعْوز منها العوض، ويصرف أساها الناقدين عن تقويم الميراث العزيز إلى تعظيم الموروث الأعز. وليس مما يزكو بالمنصف أن يجشم نظره رؤية الحق من خلال الدموع، فأن في ذلك اعتداء على العقل أو إساءة إلى العاطفة. وهذه الكلمة إنما نستجيز ذكرها اليوم لأنها إلى الهتاف بالعظيمين أقرب منها إلى النقد، ولأن ما يكتب عنهما الساعة إنما هو تقييد لعفو الرأي وتمهيد لأسباب الحكم الصحيح.
شوقي شاعر العبقرية وحافظ شاعر القريحة. وتقرير الفرق بين الموهبتين هو تقرير الفرق بين الرجلين. فالقريحة ملكة يملك بها صاحبها الإبانة عن نفسه بأسلوب يقره الفن ويرضاه الذوق. ومن خصائصها الوضوح والاتساق والأناقة والسهولة والطبيعية والدقة. أما العبقرية فضرب من الإلهام يستمر استمرارا تجددياً فتلازم أحياناً وتنفك حيناً. ومن أخص صفاتها الأصالة والإبداع والخلق. فالرجل العبقري إذن يعلو ثم يسفل تبعا لقيام العبقرية به أو إنفكاكها عنه. وهو يَشخُب الشعر غالبا فيرسله من فيض الخاطر كما يجئ دون تنقيح له ولا تأنق فيه، ثم هو في عظام الأمور سباق وفي محاقرها متخلف، لأن الجليل يوقظ خاطره ويحفز طبعه والتافه الوضيع ينخزل عن مكانه فلا يبلغ موضع التأثير فيه وقد يعني لسبب من الأسباب بعامي الأشياء أو سوقي الآراء فيبعث فيه من روحه ما يحييه، ومن حرارته ما يقويه، ومن أشعته ما يظهر فيه الطرافة والجدة كما تظهر الشمس كرات التبر في عروق الصخور! فالقريحة كما ترى توجد الصورة والعبقرية تبدع المخلوق. ومزية الأولى في الصنعة وتقديرها في التفصيل، ومزية الأخرى في الابتكار وتقديرها في الجملة. فإذا قرأت قصيدة لذي القريحة راقك منها جرس الحروف ونغم الكلمات واتساق الجمل وبراعة البيت، ولكنك تفرغ منها وليس لها اثر في نفسك ولا صورة في ذهنك. أما العبقريات فحسبك أن تذكر عنوانها لتشعر بها، وتتصور موضوعها لتتأثر منها.
ذو القريحة يقول ما يقول الناس، ولكنه يصوره بقوة ويؤديه بدقة وينسقه بذوق ويهذبه بفن، وذوو العبقرية على نقيضه، ينظر ويشعر ويفكر ويقدر على طريقته الخاصة. فإذا وضع خطة أو رسم صورة أو بحث فكرة أخرجها على طراز فَذ فتحسبها مبتكرة وقد تكون مسبوقة، لأنه استطاع بقوة لحظه ولقانة طبعه أن يريك فروقا لم ترها، ويقفك على تفاصيل لم تتصورها، ويفجر لك النهر من حيث لم يستطع غيره أن يفجر الجدول. . والرجل العادي ينظر بالعين فكأنه لسطحيته لم ير! والعبقري يرى باللمح فكأنه لزكاته لم ينظر!
على أن هناك فرصا للكمال تجتمع فيها على الوئام العبقرية والقريحة، فيسلم الفنان حينئذ من التفاوت القبيح بين إصعاده وإسفافه، أو بين جيده ورديئه. لأن العبقرية إذا غفت خلفتها القريحة، والقريحة إذا كبت سندتها العبقرية. على ذلك تستطيع أن تقول أن أبا نواس وأبا فراس والشريف من رجال القريحة وإن أبا تمام وأبا العتاهية والمتنبي من رجال العبقرية، وإن البحتري وابن الرومي ممن جمع في الكثير الغالب بين الموهبتين. وتستطيع كذلك أن تعلل أمثال قول البحتري في أبي تمام: جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه؛ وقول الأصمعي في أبي العتاهية: أن شعره كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والخزف والنوى، وقول الثعالبي في المتنبي: كان كثير التفاوت في شعره فيجمع بين الدرة والآجُرَّة، ويتبع الفقرة الغراء بالكلمة العوراء، وقولهم في ابن الرومي: إنه امتاز بتوليد المعنى واستقصائه وسلامة شعره على الطول.
اخطرُ ببالك بعد ذلك حافظا تجد أول ما يبهرك منه لفظه المونق وأسلوبه المشرق وقافيته المروضة وصوره الأخاذة. فأما الروح والموضوع فأصداء منبعثة من الماضي في فردياته وآراء مقتبسة من الحاضر في اجتماعياته، فحافظ لم يستطع لضيق مضطربه وقصور خياله وضعف ثقافته أن يعنى بغير الشكل والصورة، وكانت هذه العناية من اليقظة والحرص بحيث لم تغفل عن خلل ولم تعي بصقال. فإذا تهيأ للشعر أو للنثر عمد إلى الآراء التي تختلج حينئذ في النفوس وتستفيض في المجامع وتتردد في الصحف فيجمعها في باله ويديرها في خاطره ثم يكون همه بعد ذلك أن يصوغها فيحسن الصوغ ويسبكها فيجيد السبك، وتقرأ بعد ذلك أو تسمع فإذا نسق مطرد وأسلوب سائغ وشئ كأنك سمعته من قبل ولكن عليه طابع حافظ ووسمه.
وحافظ يتحمل من بناء القصيدة رهقاً شديداً، لأنه يلدها فكرة فكرة، ويبض بها قطرة قطرة، ويتصيد المعاني فيقيدها في مفردات أو مقطوعات، فربما وقع له ختام القصيدة قبل مطلعها، وعثر على عجز البيت قبل صدره، ثم يعود فيرتب هذه الأبيات لأدنى ملابسة وأوهى صلة! وتجئ الصنعة البارعة فتخدعك عن الخلل بالطلاء، وعن التفكك بارتباط الأسلوب.
ثم أخطرُ ببالك بعد ذلك شوقي تجده غير محدود بالصنعة ولا مقيد بالشكل، وإنما هو فيض يسخر بالحدود، ونور ينفذ من الستور، وإلهام يتصل باللانهاية، وشاعر كالمتنبي أو كهوجو يفتح مطلع القصيدة فكأنما يفتح لك باب السماء! فأنت من شوقي حيال شاعر روحه أقوى من فنه، وشعره أوسع من علمه، وحكمته أمتن من خلقه، وقدرته أكبر من استعداده، فلا تشك في انه وسيط لروح خفية تقوده، ورسول لقوة إلهية تلهمه، ثم تفارقه حينا تلك الروح وتفرق عنه هذه القوة فيعود رجلاً أقل من الرجال، وشاعرا اضعف من الشعراء، فينظم في افتتاح الجامعة ومشروع القرش وما إلى ذلك، فيأتي بما لا وزن له في النقد ولا مساغ له في الذوق!
وشوقي تحت وحي العبقرية يتنزل عليه الموضوع جملة، ثم يشغله عن تفاصيله التفكير في الغاية والتحديق في الغرض فيرسله من فيض الخاطر شعراً متسلسلا متصلا تضيق عن معانيه ألفاظه كما تضيق شطئان الرمل عن الفيضان الجائش المزبد. . ومن ثَمَّ كان التجديد والتعقيد والتدفق والعُمق من أقوى خصائص شوقي، كما كان التقليد والبساطة والكزازة والسطحية، من أبين خصائص حافظ.
وهنا نحجز القلم عن وجهه فلا نمعن في تحليل شاعرينا اليوم، فان لذلك إبانه ومكانه، ثم نرسل العين هتانة
المسارب أسى على ماض طويل انقطع، ونغم جميل تبدد، وحلم لذيذ تقضى، وكاهنين من كهان عطارد طواهما الخلود، ثم ترك بعدهما رسالة الشعر عرضة للشعوذة والجمود.
حلقات في الأدب
في الفسطاط
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت مدينة الفسطاط منذ القرن الثاني للهجرة مركزاًللتفكير والآداب ، يحج إليها كثير من أعلام المشرق. وكانت مصر قد بدأت تتبوأ مكانتها الفكرية والأدبية بين الأمم الإسلامية، منذ استقرت شئونها السياسية في عهد الدولة العباسية. ولم تكن مصر منذ افتتحها الإسلام أكثر من ولاية تابعة للخلافة. ولكنها كانت بين ولايات الخلافة أشدها احتفاظاً بشخصيتها وألوانها القومية؛ وكانت منذ البداية تأخذ نصيبها في بناء صرح التفكير الإسلامي؛ ولكنها كانت تشق طريقها الخاص. وكانت منذ الفتح مركزاً هاماً للسنة والرواية، يحتشد فيها جماعة كبيرة من الصحابة الذين اشتركوا في الفتح والتابعين الذين عاصروهم. وفي القرن الأول أيضا وضعت بذور الحركة الأدبية فنمت وأزهرت بسرعة ، حتى أنه يمكن القول أن مصر كانت منذ القرن الثالث قد كونت أدبها الخاص. ولم يأت القرن الرابع حتى كان هذا الأدب يتميز بخواصه المصريةالقوية مما عداه من تراث التفكير العربي في المشرق والأندلس.
وكانت الفسطاط عاصمة الإسلام في مصر منذ قيامها عقب الفتح سنة 21هـ (641م) حتى منتصف القرن الرابع. وقد قامت بجوارها مدينتا العسكر والقطائع دهراً. ولكن العسكر كانت مركزاً للإمارة والإدارة فقط، وكانت القطائع وهي مدينة بنى طولون مدينة بلاط فقط، أما الفسطاط فكانت قلب الإسلام النابض في مصر، ومهد التفكير والآداب في تلك العصور وحتى بعد أن قامت القاهرة المعزية سنة 358هـ (969م) لم تفقد الفسطاط أهميتها الفكرية والأدبية، بل لبثت بعد ذلك عصوراً تشتهر بحلقاتها ولياليها الأدبية. وكانت هذه الحلقات والليالي الأدبية من محاسن الفسطاط، يشيد بأهميتها وجمالها أدباء المشرق والمغرب الوافدين على مصر. وكانت في الواقع نوعا من الأبهاء الأدبية فيها الأدباء والشعراء، للقراءة والسمر والجدل والمساجلة ، وكانت مهاد اللقاء والتعارف بين الأدباء المحليين والنزلاء الوافدين من عواصم الإسلام الأخرى.
وقد بدأت هذه الحلقات الأدبية في الفسطاط منذ القرن الأول. ولكنها كانت في بدايتها فقهية
دينية ، وكانت لها أهميتها في تمحيص السنة والرواية. وكانت تجمع بين جماعة من أقطاب الفقهاء والحفاظ والمحدثين الذين يعتبرون في الطبقة الأولى بين فقهاء الإسلام ورواة السُنة، مثل يزيد بن حبيب، والليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، ثم الشافعي وأصحابه. ثم اتخذت هذه الحلقات طابعاً أدبياً، فكان يمزج فيها بين الكلام والأدب، وكان معظم فقهاء هذا العصر أدباء أيضا ًيأخذون من الأدب بحظ وافر، ولبعضهم في الشعر والنثر براعة خاصة. ونستطيع أن نذكر من هؤلاء الأمام محمد بن إدريس الشافعي قُطبْ الشريعة وحُجة التشريع، فقد كان أيضاً أديباً مبرزاً له في الشعر والنثر محاسن وروائع وكذلك آل عبد الحكم الذين نذكرهم بعد؛ وأبو بكر الحداد قاضي مصر؛ والحسن بن زولاق المؤرخ فقد كان هؤلاء جميعاً من كبار الفقهاء والأدباء وكان الفقه والحديث والأدب تمتزج معاً في مجالسهم وأسمارهم. . ولعل أبهى حقبة في هذه الحلقات الشهيرة في تاريخ الفسطاط مستهل القرن الثالث الهجري ففي ذلك الحين كان الإمام الشافعي نزيل الفسطاط وكان مدى الأعوام التي قضاها بمصر منذ قدومه إليها في أواخر سنة 198هـ (813م) حتى وفاته في رجب سنة 204هـ (819م) قطب الحركة الفكرية فيها وكعبة الصفوة من فقهائها وأدبائها يجذبهم إليه غزير علمه ورفيع أدبه، وبارع خلاله. وكانت حلقات الفسطاط الأدبية شهيرة قبل مقدمه لكنه اسبغ عليها بهاءً وسحراً وروعة. وكان أبو تمام الطائي الشاعر الأكبر إذا صحت الرواية عن مقدمه إلى مصر صبياً واشتغاله بسقي الماء في المسجد الجامع يغشى هذه المجالس الأدبية في حداثته وفيه تفتحت مواهبه الأدبية والشعرية. والظاهر انه كان طبقاً لهذه الرواية يقيم في الفسطاط في خاتمة القرن الثاني أو فاتحة القرن الثالث أعني في نحو الوقت الذي كان فيه الشافعي نزيلها. وكان أشهر هذه الحلقات أو الأبهاء حلقة بني عبد الحكم ، وهم أسرة مصرية نابهة كثيرة المال والوجاهة؛ أنجبت عدة من كبار الفقهاء منهم عميد الأسرة عبد الله بن عبد الحكم المصري، وهو من أقطاب الفقه المالكي وأولاده محمد وسعد إبنا عبد الحكم وكلاهما فقيه ومحدث كبير وعبد الرحمن بن عبد الحكم أقدم مؤرخ لمصر الإسلامية. وقد كان بنو عبد الحكم منذ القرن الثاني أعلام الفقه والتفكير والأدب في مدينة الفسطاط وكانت دارهم كعبة العلماء والأدباء ومنتدى للدراسات والأسمار الأدبية الرفيعة، وكانت حلقاتهم العلمية والأدبية تجذب أكابر
العلماء الوافدين على مصر من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فلما قدم الإمام الشافعي إلى مصر كان بنو عبد الحكم أول من استقبله وأكرم وفادته؛ وأمدته الأسرة النابهة بالمال ونظمت له سبل الإقامة والدرس؛ وكانت أول من انتفع بعلمه وأدبه. وبث مقدم الشافعي في آداب الفسطاط روحاً جديدة واشتهرت مجالسه وحلقاته الفقهية والأدبية. وكانت حقبة علمية أدبية زاهرة (198 - 204هـ) وكانت حلقات المسجد الجامع أو جامع عمرو منذ إنشائه سنة 21هـ (641م) قلب الفسطاط الفكري وكانت تعقد فيه مجالس القضاء الأعلى كما كانت تعقد مجالس الفقه والأدب الخاصة. وصحن المسجد الجامع شهير في تاريخ الفسطاط الأدبي وقد كان مدى قرون ندوة فكرية أدبية جامعة وكانت بين جدرانه توجه حركة التفكير والآداب في مصر الإسلامية. ويبدو مما كتبه مؤرخو الفسطاط في هذا العصر أن هذه الحلقات دورية وكانت منظمة برغم صفتها الخاصة. أنها كانت تعقد كل يوم تقريباً في المسجد الجامع. ولكن الظاهر أن أهمها ما كان يعقد يوم الجمعة؛ وأن مجالس الجمعة كانت تعتبر كموسم أسبوعي يغص المسجد فيه بجمهرة الفقهاء والأدباء والقراء والنظارة. وفيها كانت البحوث الكلامية، والمناظرات الأدبية، والمطارحات الشعرية والرواية التاريخية تنظم في حلقات فرعية أو متعاقبة.
وكانت هذه الحلقات الأدبية الشهيرة تتأثر بتطور السياسة والأهواء السياسية والدينية، إذ كانت موئل التفكير والدعوة إلى مختلف المذاهب الفقهية والأدبية. ففي سنة 226هـ مثلاً أمر محمد أبن أبي الليث قاضي قضاة مصر تنفيذا لرغبة الخليفة الواثق بالله، بالقبض على جميع الفقهاء والمحدثين والأدباء باسم الامتحان في مسألة خلق القرآن وهي المعروفة بالمحنة فملئت السجون بالمنكرين لخلقه من العلماء والأدباء، وأغلِقَ المسجد الجامع في وجه المالكية والشافعية، وفضت حلقاتهم العلمية والأدبية، ومنعوا من زيارة المسجد، ومن بث آرائهم ونظرياتهم وأخذ بنو الحكم فوق أخذهم بالمحنة بتهمة أخرى، وهي تبديد أموال طائلة ائتمنوا عليها من علي بن عبد العزيز الجروي، وهو زعيم خارج تغلب حيناً على بعض نواحي مصر ثم أخمدت ثورته، وأتهم بالخيانة، وقضي بمصادرة أمواله، فأتهم بإخفائها بنو عبد الحكم، وقبض عليهم وعذبوا واستصفيت أموالهم أداء لما قضي به وتوفي بعضهم في السجن (سنة 237هـ) ثم أفرج عنهم بعد ذلك، ولكن هذه المحنة ذهبت بوجاهة
الأسرة النابهة وجاهها وهيبتها فأضمحل نفوذ هذه الأسرة وتضاءلت أهمية هذه الحلقات الأدبية الباهرة التي اشتهرت بتنظيمها وعقدها زهاء نصف قرن. وفي نفس العام أمر الحارث بن مسكين قاضي القضاة بمطاردة الفقهاء الحنفية والشافعية وإخراجهم من المسجد الجامع وقطع أرزاقهم وحظر اجتماعاتهم.
وهكذا شتت شمل المجتمع الفكري في الفسطاط حينا وانزوت حلقاتها الأدبية الزاهرة حتى منتصف القرن الثالث ولكنها عادت فانتظمت وازدهرت واستعاد المسجد هدوءه وسكينته وردت حرية الاجتماع والدرس. وجاءت الدولة الطولونية (254 - 292هـ)(868 - 905م) فازدهرت في ظلها الآداب والفنون وكان أحمد بن طولون أميراً مستنيراً يحب العلوم والآداب ويرعاها بتعضيده وحمايته، ويجل مجالس العلم وحلقات الأدب. وكانت الفسطاط ومسجدها الجامع أيضاً مثوى الحلقات والمجالس العلمية والأدبية في هذا العصر؛ لأن مدينة القطائع التي شيدها إبن طولون لم تكن كما قدمنا سوى مدينة بلاط وبطانة. ونبغ في هذه الحقبة القصيرة عدد كبير من الأدباء والشعراء وبكت دولة الشعر دولة بني طولون عند ذهابها أيما بكاء فقال شاعرها سعيد القاص من قصيدة طويلة رائعة: -
طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها
…
بفقد بني طولون والأنجم الزهر
وفقد بني طولون في كل موطن
…
أمر على الإسلام فقداً من القطر
تذكرتهم لما مضوا فتتابعوا
…
كما أرفض سلك من جمان ومن شذر
فمن يبك شيئاً ضاع من بعد أهله
…
لفقدهم فليبك حزناً على مصر
لبيك بني طولون إذ بان عصرهم
…
فبورك من دهر وبورك من عصر
وفي أوائل القرن الرابع كانت الفسطاط تضم جماعة كبيرة من أقطاب المفكرين والأدباء وكانت أبهاؤها ومجالسها الأدبية حافلة زاهرة. ففي تلك الفترة اجتمع من زعماء التفكير والأدب أبو القاسم بن قديد وتلميذه أبو عمر الكندي مؤرخ الولاة والقضاة، وأبو جعفر النحاس المصري الكاتب والشاعر، وأبو بكر الحداد قاضي مصر، وأبو القاسم طباطبا الحسيني الشاعر، وأبو بكر بن محمد بن موسى الملقب بسيبويه مصر، والحسن بن زولاق المؤرخ الأشهر وكثيرون غيرهم؛ فكان لاجتماع هذه الصفوة العلمية والأدبية البارزة في هذه الفترة أثر كبير في ازدهار الحركة الفكرية بمصر في أوائل القرن الرابع.
فكانت حلقات الأدب في أوج نشاطها وكان المسجد الجامع يومئذ جامعة حقة يموج بهذه الاجتماعات العلمية والأدبية الشهيرة. وكانت دولة التفكير والأدب في بغداد قد أخذت في الضعف والاضمحلال وأخذت مصر تتأهب للقيام بدورها في رعاية التفكير الإسلامي في المشرق وكان بنو الإخشيد، محمد بن طغج وولداه انوجور وعلي ثم وزيرهم الخصي النابه كافور، مدى دولتهم التي استمرت زهاء ثلث قرن (324 - 358هـ)(935 - 969م) حماة للعلوم والآداب. وقد انتهى إلينا من آثار الحسن بن زولاق المؤرخ، أثر هام يلقي ضياء على تاريخ الحركة الأدبية المصرية في هذا العصر وهو كتاب (أخبار سيبويه المصري) وهو أبو بكر بن موسى الذي سبقت الإشارة إليه وقد كان صديقاً لابن زولاق وزميلا له في الدرس على ابن الحداد. وكانت له أخبار ومُلح ونوادر أدبية طريفة عُني ابن زولاق يجمعِها في هذا الكتاب. وفي دار الكتب نسخة خطية وحيدة من هذا الأثر لا ريب إنها من اقدم المخطوطات العربية التي وصلت إلينا بل لقد انتهينا في تحقيق شأنها إلى أنها اقدم مخطوط أدبي مصري وصل إلينا وأنها من آثار عصر الفسطاط ذاته وبخط ابن زولاق نفسه.
وفي اثر ابن زولاق هذا إشارات كثيرة إلى حلقات الفسطاط الأدبية في عصره في النصف الأول من القرن الرابع الهجري.
ويبدو من سياق كلامه أن المسجد كان مثوى لأهم هذه الحلقات وأشهرها وأنها كانت كما قدمنا دورية منتظمة تعقد على الأغلب في عصر يوم الجمعة وتجتمع بين الفقهاء والأدباء وينعقد فيها الجدل الكلامي والحوار الأدبي والشهري. والظاهر أيضاً أن هذا الجدل والحوار كان ينتهي أحياناً إلى بعض ما ينتهي إليه في عصرنا من مرارة واتهام وتراشق وأن بعض المفكرين الأحرار كانوا ينقمون من عصرهم ما ننقم من عصرنا أحياناً من اعتداء على حرية الرأي والبحث وأن بعضهم كان يرمى بتهم المروق والإلحاد إذا أطلق لنفسه حرية البحث والرأي على نحو ما يشير إليه سيبويه المصري في قوله من قصيدة أوردها ابن زولاق:
أما سبيل اطراح العلم فهو على
…
ذي اللب أعظم من ضرب على الرأس
فأن سلكت سبيل العلم تطلبه
…
بالبحث أبت بتفكير من الناس
وإن طلبت بلا بحث ولا نظر
…
لم تضح منه على إيقانٍ إيناس
وأنبذ مقالة من ينهاك عن نظر
…
نبذ الطبيب بذل القرحة الآسي
وهذه ظاهرة فكرية خطيرة يسجلها الشاعر المصري على عصره أعني أوائل القرن الرابع (حول سنة 320 - 340هـ) وهي تدل على أن الجدل العلمي والأدبي كان يرتفع يومئذ الى مرتبة الأيمان والعقيدة وينحدر أحيانا أخرى إلى درك التراشق والمهاترة. كذلك هنالك في قول الشاعر ما يدل على أن بعض المفكرين والأدباء كانوا يؤثرون الصمت على الجهر بآرائهم خيفة الاتهام والوقيعة.
وقد كانت حلقات المسجد الجامع بلا ريب أهم الحلقات الأدبية العامة ولكن هناك في أقوال ابن زولاق ما يدل على أنها كانت تعقد أيضاً في المساجد الأخرى. فمثلا كان الشاعر الأكبر أبو الطيب المتنبي الذي وفد على مصر سنة 346هـ (957م) ليستظل بحماية الأخشيد يجلس في مجلس يعرف بمسجد ابن عمروس وهناك يجتمع إليه الأدباء والشعراء؛ وكانت حلقة المتنبي بلا ريب من أهم مجالس الشعر والأدب والفلسفة في هذا العصر. وأما عن الحلقات والأبهاء الخاصة فيشير ابن زولاق إلى المجالس العلمية والأدبية التي كان يعقدها محمد بن طغج (الإخشيد) وولده انوجور ثم مجالس الوزيرين ابن الفضل جعفر بن الفرات والحسين بن محمد المارداني. والظاهر أن هذه المجالس والحلقات الأدبية كانت يومئذ من تقاليد الحياة الرفيعة وكانت نوعا من الترف الذي يأخذ به الأمراء والعظماء والأسر الكبيرة فان لهم جميعاً على نحو ما بينا في سير الأبهاء الأدبية في تلك العصور أكبر نصيب وذكر، ويرجع إليهم في أقامتها ورعايتها أكبر الفضل.
من طرائف الشعر
النكران
الفأس والشجرة
للدكتور محمد عوض محمد
كانت الفأس قطعة من حديد
…
وحدها لا تطيق حزاً وقطعاً
فرأت دوحة: فقالت: (هبيني
…
يالك الخير! من فروعك فرعاً!)
امنحيني يداً، تشدي بها أز
…
ري فأزداد في البرية نفعاً
فحبتها فرعاً متيناً وظنت
…
أنها أحسنت بذلك صنعاً!
باتت الفأس بعدها ذات حول
…
يصدع الصخر والجنادل صدعاً
وتناست أنى لها ذلك الحول
…
فجاءت لدوحة الأمس تسعى!
أن هوت نحوها بقسوة ذي غل
…
وحقد كأنه حقد أفعى
ضربتها ضربات طالب ثأرٍ
…
فهوت للثرى: فروعا ًوجذعاً!!
وحي الحياة.
لوجهك هذا الكون يا حُسْنُ كله
…
وجوهٌ يفيض البشرُ من قسماتها
وتستعرضُ الدنيا غريبَ فنونها
…
وتعرب عن نجواكَ شتىَّ لغاتها
ولولاكَ ما جاش الدَجى بهمومها
…
ولا افترَّ ثغر الصبح عن بسماتها!
ولا سعدتْ بالوهم في عالم المنى
…
ولا شقيتْ بالحبِّ بين لِداتها
ولا حيَيَتْ الفَّنان إلهام فنِّه
…
ولا رُزقَ الإبداع من نفحاتها
فوا أسفا يا حسن لِلّحظة التي
…
تطيش لها الأحلام من وثباتها!
فوا أسفاً يا حسن للحّظة التي
…
يعزُ على الأوهام جمع شتاتها!
وما هي إلا الصمت والبرد والدُّجى
…
ودنيا يشيع الموت في جنباتها!
فناءٌ تضجُ الريح من ظلماته
…
وتفزع فيه البوم من صرخاتها
وتنتثر الأزهار من عذباتها
…
وتعَْرى الغصون النُّظْر من ورقاتها
ويغشى السماء الجهمُ من كل ديمةٍ
…
تخدِّد وجه الأرض من عبراتها
هنالك لا الدنيا ولا البهجة التي
…
عَرَفْتَ، ولا الأيام في ضحكاتها!
ولكن رَوَى النفس التي كنت حبها
…
ونافثَ هذا السحر في كلماتها
مضت غير شعرٍ أودعت فيه وحْيَها
…
إليك فخذ يا حُسن وَحيَ حياتها!
علي محمود المهندس
في الأدب الشرقي
صفحات من الشعر الهندي
- 1 -
من ديوان رسالة الشرق
لشاعر الهند العظيم محمد إقبال
بقلم الدكتور عبد الوهاب عزام
المدرس بكلية الآداب
محمد إقبال هو شاعر الهند العظيم، وأكبر شعراء الإسلام في عصرنا. درس الفلسفة في إنجلترا وألمانيا وتزود من الفلسفة القديمة والحديثة ما شاء له الذكاء والاجتهاد، وعلم الفلسفة في جامعات الهند سنين كثيرة. وهو اليوم قائد من قادة الأفكار في الهند.
وله من الشعر دواوين عدة بلغ فيها الغاية. نظم واحداً منها باللغة الأردية وسماه (بانك درا) أي صلصلة الجرس. ونظم خمسة بالفارسية وهي:
(زبور العجم)، (وأسرار خودي)، (ورموز بي خودي)(أسرار الذاتية ورموز اللاذاتية)، (يبام مشرق)(رسالة المشرق) وقد جعله جواباً للقصائد المشرقية التي نظمها الشاعر الألماني جوته. وآخرها (جاويدنامه)(الكتاب الخالد).
والقطع المترجمة هنا مأخوذة من (يبام مشرق).
الحياة:
بكى سحاب الربيع في جنح الليل فقال:
إن هذي الحياة بكاء مستمر!
فتلألأ البرق الخاطف أن (قد غلطت. إنها لمحة من الضحك!.) ليت شعري من أخبر البستان بهذا، فهو حديث مستمر بين الندى والورد.؟!
الله والإنسان:
الله
خلقتُ العالم من ماء واحد وطينة واحدة، فخلقتَ انت الفرس والتتار والزنج. خلقت من التراب الحديد، فخلقت انت السيوف والسهام والمدافع، وخلقتَ الفأس لأغصان الشجر والقفص للطائر الغرّيد.
الإنسان
خلقتَ الليل فخلقتُ المصباح. وخلقتَ الطين فخلقتُ الآنية: خلقتَ الصحارى والجبال والرُّبي فخلقتُ الجنات وحدائق الورد والطرق المشجرة.
أنا الذي صنع المرآة من الحجر!.
وأنا الذي صنع الدواء من السم!.
اليراعة:
سمعت اليراعة تقول: لستُ كالنملة ينال الناس أذاها.
ولستُ كالفراشة، فأني اشتغل ولا احمل منَّة لأحد. إذا صار الليل اشد حلكا من عين الظبي أنرت بنفسي لنفسي الطريق!!.
الحقيقة:
قالت العقاب بعيدة الرأي للعنقاء: أن الذي يراه ناظري سراب! فأجاب ذلك الطائر: أنت ترين. ولكني أعلم أنه ماء. فارتفع صوت السمكة من لجة البحر: أجل يوجد شيء وهو في هياج واضطراب!!. .
الحكمة والشعر:
ضل أبو علي في غبار الناقة، وأخذت يد الرومي بستر المحمل!
هذا غاص حتى ظفر بالجواهر، وذاك دار مع الغثاء على وجه الماء.
الحق إن لم تكن فيه حرقة فهو حكمة. وإنما يصير شعراً حين يقبس من نار القلب!. .
الوحدة:
ذهبت الى البحر فقلت للموج المصطخب: أنت في طلب دائم فما خطبك؟ في جيبك آلاف اللآلئ، فهل في صدرك كما في صدري، جوهر من القلب!. .
فاضطرب وجزر عن الشاطئ ولم يحر جواباً!.
ذهبت إلى الجبل فسألت ما هذا القرار؟ ألا ينال مسمعك آهات المحزونين وصيحاتهم؟! أن يكن العقيق في أحجارك قطرات من الدم فحدثني فأني مُرَزّأ.
فانقبض وصمت ولم يحر جواباً!.
قطعت طريقا سحيقا وسألت القمر: يا جوّاب الآفاق! هل قدر لك منزل لم يوجد؟ العالم من شعاع وجهك حديقة من الياسمين. فهل نور شامتك من تجلي قلب لا يوجد؟
فرأى رقباء بين الأنجم ولم يحر جواباً!.
تخطيت القمر والشمس وصرت الى حضرة الخالق. قلت ليس في عالمك ذرة واحدة تعرفني! العالم خلو من القلب، وأنا، هذه القبضة من التراب كلها قلب!. المرج جميل، ولكنه ليس كفء نغماتي.
فتبسم ولم يحر جواب!.
الحور والشاعر:
جواب منظومة جوته (المسماة الحور والشاعر)
الحور:
لا ترغب في الخمر ولا ترفع بصرك إليَّ. عجيب انك لا تعرف طرائق الصحبة!
هذه الأنفاس التي تصهرها والغزل الذي تغني به كلها نغمة الطلب وكلها حرقة الأمل.
أي عالم من الجمال خلقتَ بألحانك؟ فهذه إرم تلوح لي كطلسم من السيمياء.
الشاعر:
تخدعن قلوب السائرين بكلام لاذع، ولكن لذته لا تبلغ وخزة الشوك! ماذا أصنع؟ أن فطرتي لا تسكن الى المقام وان له لقلبا قلقا كالصبا بين الحدائق!
كلما اطمأن ناظر الى وجه جميل خفق قلبي وراء وجه أجمل.
إني أريد من الشرر نجماً، ومن النجم شمساً. لا أبغي منزلا فان موتي أن أقرَّ. كلما تناولت قدحا من حميا الربيع قمت فأنشدت غزلاً آخر مشوقا الى ربيع جديد. إنما أطلب غاية الذي لا غاية له بعين لا تصبر، وقلب دائم الرجاء. تموت قلوب العشاق بجنة الخلد لا بألحان الألم والغم، والمؤاساة.
نسيم الصبح:
آتي من صفحات البحار وقمم الجبال، ولكني لست أدري من أين أهب!.
أبلغ الطائر المحزون رسالة الربيع، وأنثر في منزله فضة الياسمين.
وأتقلب في المرج، والتف على أغصان الشقائق، فأبعث من مسامها اللون والرائحة. وأتعلق رفيقا رفيقاً بأوراق الورد والزهر حتى لا تنوء أغصانها بجولاتي!.
وإذا رأيت شاعرا هاجه غم العشق خلطت بنغماته نفساً بعد نفس.
الصقر والسمكة:
قالت سمكة صغيرة لفرخ الصقر:
ان كل ما ترى من سلاسل الأمواج هو البحر. فيه وحوش أشد زمجرة من الرعد القاصف. وفيه صنوف الأهوال ظاهرة وخفية. وفيه السيول جائشة تقلع الصخور، وتغشى كل شيء. وفيه جواهر متلألئة ولآلىء نيرة. وليس الى الخروج منه سبيل! هو فوقنا وتحتنا وفي كل مكان. هو أبد الدهر فتى مائج متلاطم. لا يناله من دوران الأيام زيادة ولا نقص.
اتقد وجه السمكة بحرقة الحماسة، فضحك فرخ الصقر، وارتفع من الساحل الى الدوح وصاح: أنا الصقر فمالي وللأرض؟ أن الصحارى، وهي بحار، تحت أجنحتنا. دع الماء وتعوّد سعة الهواء. حكمة لا تدركها الا العين البصيرة.
العشق:
هذه الكلمة الآخذة بالقلوب، والتي هي سر وليست بسر. أنا أخبرك من سمعها وأين سمعها؟
أسترقها الندى من السماء فأوحاها الى الورد، وسمعها عن الورد البلبل، ونثَّتها عن البلبل ريح الصبا.
حداء
(نغمة حادي الحجاز)
يا ناقتي الخطارة
…
وظبيتي المعطارة
وعدَّني والشارة
والمال والتجارة
…
ودولتي السيارَة
حُثي الخُطى قليلاً
…
منزلنا قريب!
جميلة الرواء
…
مطربةُ الرغاء
محسودةُ الحوراء
…
وغيرةُ الحسناء
بُنيَّةَ الصحراء!
حُثي الخُطى قليلاً
…
منزلنا قريب!
كم غصتِ في السراب
…
في وقدة اليباب
وسرتِ لم تهابي
…
في الليل كالشهاب
والنوم عنك نابي
حُثي الخُطى قليلاً
…
منزلنا قريب!
قطعة غيم غادي
…
سفينة الروَّاد
كالِخضر في البوادي
…
تمضين في سداد
فلذة قلب الحادي!
حُثي الخُطى قليلاً
…
منزلنا قريب!
حرقتك الزمام
…
وسيرك الأنغام
يتعبك المقام
…
لا الجوع والأوام
والسفر المدُام
حُثي الخُطى قليلاً
…
منزلنا قريب!
ممسيةٌ في اليمن
…
مصبحة في قَرن
ترين حزَنْ الوطن
…
كالخز تحت الثفن
إيه غزال الختن!
حُثي الخُطى قليلاً
…
منزلنا قريب!
بدر السماء نعسا
…
خلف التلال خنسا
والصبح قد تنفسا
…
مزَّق هذا الغلسا
والريح تزجي نفسا
حُثي الخُطى قليلاً
…
منزلنا قريب!
لحني دواء السقم
…
والروح ملء نغمي
يحدو الركاب كلمى
…
من جارح وبلسم
هلم بنتَ الحرم!
حُثي الخُطى قليلاً
…
منزلنا قريب!
في الأدب الغربّي
الشاعر المحتضر
قصيدة من عبقريات لامرتين
ترجمها وأهداها إلى روح شوقي
أحمد حسن الزيات
تحطمت كأس عمري وهي مُترعة، وتصرمت حياتي زفرات في كل نَفَس، وَعيّ َبإمساكها ما أرسلت من عبرات وحسرات، وقرع الموت بجناحه الناقوس الباكي عليَّ مؤذناً بساعتي الأخيرة، فليت شعري أنوح أم أغني؟؟!.
لأغَنِّ ما دامت أناملي لا تزال على القيثار، لأغن ما دامت المنون تلهمني، وأنا على باب الآخرة ما تلهم البجعة من صرخة موزونة وأنة ملحونة، وإذا لم تكن النفس شيئا غير الحب والألم فلم لا يكون وداعها لحناً قدسياً؟؟!
إن القيثار يبعث أجملألحانه حين ينكسر، والمصباح يرسل أبهى أضوائه حين يخمد، والبجعة ترفع طرفها الى السماء حين تسلم الروح، والإنسان وحده يرجع البصر إلى الوراء ليعد أيامه ويبكيها!!
وما هذه الأيام التي تستدر حوالب عينيه؟ شمس تشرق متقطعة، وساعات تمر متشابهة، وخير تمنحه ساعة فتسلبه أخرى، ثم عمل يتلوه راحة، وألم يتبعه أحيانا حلم!
ذلك هو اليوم، ثم يمحو آيته الليل!
لِيبْك ذلك الذي أشتد على حطام الدنيا حرصه، وتعلق بأمانيها سببه، ثم يرى حبل مستقبله يَنْبَتّ، وظِل آماله يتقلص! أما أنا فأترك الدنيا في سهولة ويسر لأن جذوري منها كجذور النبتة الرخوة من الأرض، تهب عليها رياح المساء فتقلعها!
الشاعر أشبه شيء بالطيور الغوابر، لا تعشعش على الضفاف ولا تقع على غصَون الغاب وإنما تهدهد نفسها على متون الموج، ثم تمر مغردة على بعد من الشاطئ، فلا يعرف الناس من أمرها، غير ما يسمعون من صوتها!
أبداً لم تدرب يدي على الوتر الرنان يد مخلوق؛ لأن ما تلهمه روح الله لا تعُلِّمه يد إنسان
فالجدول لا يتعلم كيف يجري في المنحدر، والنسر لا يتعلم كيف يشق بجناحيه الهواء، والنحلة لا تتعلم كيف تؤلف العسل!
الناقوس تقرعه القوارع في مكانه العالي ليوم بشرى أو يوم نعي، فينوح مرة ويشدو مرة، وأنا كنت بهذا الناقوس أشبه! طهرني الألم كما طهره اللهب ، وحركت الأوتار المختلفة أوتار قلبي فأخرجت لكل عاطفة نغمة!
أنا كالقيثارة (الأيولية) تعزف طول الليل من تلقاء نفسها على خطرات النسيم، وتمزج خرير المياه بأنينها الرخيم، فيقف السائر حيران دهشاً مما يسمع! يطرب ويعجب ولا يدري مصدر هذه الزفرات المقدسة!
قيثارتي تخضل غالباً بالدموع! وما الدموع للمرء إلا كندى السماء للأرض! وهيهات أن ينضج القلب تحت السماء الصافية! فالكأس المصدوعة يسيل عنها عصير الكروم، والريحان الذابل إذا وطئته قدماك، تَضوَّع شذاه بين خطاك!
خلق الله نفسي من نغمة محرقة، فمن يتصل بها يحترق بلهبها! فيا عجبا لمنحة القدر!! أنا أسرفت في الحب ومن ذلك الإسراف أموت! ما لمست شيئاً قط إلا حال إلى رماد! كذلك رجوم السماء الساقطة على أشجار الخَلنَج، تنطفيء بعد أن تدمر كل شيء!
ولكن العمر! لقد استوفى اجله. . والمجد! آه! وما يعنيني من صدى نغمة باطلة تنتقل من عصر الى عصر، وسمعة كاللعبة البراقة تنحدر من جيل الى جيل؟ أيها الذين وعدهم المجد سلطان الغد! استمعوا الى هذا اللحن الذي يخرج من قيثارتي! هل تجدون لرنينه أثراً في الأذان، بعد ما حمله الهواء الى غير هذا المكان؟!
شهد الله أني منذ حييت لم أذكر هذا الاسم العظيم إلا بإزراء، ولطالما عصرت هذه الكلمة التي أخترعها هذيان الإنسان فلم أجد غير هواء، هنالك لفظتها كما تلفظ الشفتان قشرة يابسة.
في سبيل هذا الأمل الخالب، في هذا المجد الكاذب يرمي الإنسان في مجرى الزمن اسمه وهو عابر، فيلَقفه التيار، وتضعفه الأيام كلما سار، حتى يصير حطاماً تعبث به أمواج الدهر، ثم تحمله على غواربها من عصرٍ الى عصر، حتى تلقي به في لجج النسيان!
أنا كذلك القي اسمي بين تلك الأسماء العائمة، على هذه الأمواج المتلاطمة، ثم اتركه على
هوى الرياح والأمطار يطفو ويرسب! فهل يكون بذلك شأني أعظم ومقامي أرفع؟ ولماذا وكل ما هنالك أسم؟! وهل تسأل البجعة الطائرة في جو السماء إذا كان ظلها لا يزال طافيا على أديم هذه الغبراء؟!
تسألني لماذا كنت أغني؟ سل البلبل لماذا تتجاوب أغاريده وأناشيد الجدول طوال الليل؟! أنا أنشد يا صحابي كما يتنفس الإنسان، ويشدو العصفور، ويعزف الهواء، ويخر الماء!
الحب والدعاء والغناء ثلاث تقسَّمن كل حياتي!. . ولم آسُ ساعة الموت على فائت مما يتشوف إليه الناس في دنياهم إلا على زفرة حارة تتصَّعد الى الله، وسكرة طروبة تهبط من القيثار، وصمتة عاشقة تعمق حين يتعانق قلب وقلب!
إن مثولك خاشعاً أمام الجمال تسمع رجفان أوتار المزِْهر، وترى حديث الهوى يمتزج مع أنغامه ويسري في حشاك، وتستقر الدموع من العين المعبودة كما يستقر النسيمأنداء الفجر من الزهرة المطلولة. . .
وترى طافها الشاكي يصَعَّد حزيناً في السماء كأنما يطير مع النغم، ثم يرتد واقعاً عليك وهو بالحرارة العفيفة يجيش، وتبصر من خلال أهدابها المسبلة شعاع نفسها كالنار المضطربة في حالك الليل البهيم. . .
وترى ظلال أفكارها على جبينها الزاهر ترف، والكلام على شفتيها المثقلتين يموت، ثم تسمع بعد هذا الصمت الطويل هذه الكلمة ترن حتى تبلغ أذن الجوزاء! هذه الكلمة، كلمة الآلهة والناس هي:(إني احبك!)
ذلك هو الذي يساوي في الحياة زفرة!!
زفرة!! حسرة!! كلام لا معنى له!
على جناح الموت، روحي تطير إلى السماء! تطير حيث ترى العين شعاع الأمل يضيء! تطير إلى حيث طارت النغمة التي خرجت من مزهري! تطير إلى حيث صعدت جميع زفراتي!.
الإيمان (وهو عين الروح) قد اخترق ظلماتي كما تخترق عين العصفور ما وراء الظلال الحزينة. ثم باحت لي غريزته النبوية بما إستسر من حظي! وكم مرة اقتحمت نفسي آفاق المستقبل حتى بلغت السماء محمولة على أجنحة اللهيب، فتقدمت بذلك الموت!
لا تنقشوا اسمي على قبري الكئيب العابس، ولا تثقلوا بالبناء ظلي الخفيف، أن قليلا من الرمل يكفيني! لست وا أسفاه حريصاً ولا غيوراً!. ثم لا تتركوا من الفراغ أمام القبر الا مقدار ما يضع الزائر العابر ركبتيه!
حطموا هذا المزهر وذرُّوا حطامه في الهواء والماء واللهب فانه لم يجاوب أهازيج النفس إلا بنغمة واحدة! أن مزهر الساروفين يرتجف تحت أناملي! وعما قليل أعيش معهم في عالم النغمات، وأقود بقيثارتي ألحان السموات!
وعما قليل!! أن يد الموت الثقيلة قد قطعت الوتر!
انقطع بعد أن أرسل في أمواج الهواء، نغمة شاكية صماء، صمت مزهري البارد يا رفاقي! فخذوا مزاهركم، وأدخلوا نفسي عالم البقاء، بين خفق الأوتار وترجيع الغناء!. .
بيت الراعي
للشاعر الفرنسي الفريد دى فني
مهداة من المترجم إلى الأستاذ الجليل احمد لطفي السيد بك
الى إيفا
- 1 -
إذا كان قلبك وهو يتخبط عانيا كالنسر الجريح، لفرط ما أبهظته الحياة، قد قضى عليه أن يحمل كقلبي فوق جناحه المهيض عالماً بارداً مضنياً!
إذا كان لا يخفق بغير نزيف جرحه الأبدي، وقد أصبح لا يرى الحب؛ نجمة الصادق ينير له الأفق المتلاشي!
- 2 -
إذا كانت نفسك المكبلة كنفسي، قد أضنتها الأغلال ومر الطعام، فتركت المجداف فوق زورقها المنحوس، وأطلت برأسها الممتقع باكية على صفحة الماء باحثة وسط الأمواج عن طريق مجهول، فرأت - وهي ترتعد - كلمة الجماعة مرقومة فوق كتفها بالحديد.
- 3 -
إذا كان جسمك الحيّ الرعديد تخجله النظرات، وهو يضطرب بالأهواء الدفينة!
إذا كان يبحث لجماله عن حرم مصون، يحكم إخفاءه، عن المستهتر الجارح!
إذا كانت شفتك تجففها سموم الكذب وجبهتك الجميلة تحمر خجلا إذا مرت بأحلام مجهول غير عفيف، يراك أو يسمعك!.
- 4 -
إذا فارحلي بشجاعة اهجري المدن، لا تدنسي بعد اليوم قدميك بغبار الطريق، أشرفي من سماء أفكارنا على المدن الذليلة كأنها صخور القدر لاستعباد البشر! الغابات المترامية والحقول، المنبسطة ملاجئ فسيحة، طليقة، كأنها البحر يحيط بجزر معتمة. سِيري بين الحقولْ وبيمينك زهرة!
- 5 -
الطبيعة تنتظرك في صمت رهيب، العشب يرسل فوق قدميك سحابة الماء، وزفرة الوداع التي ترسلها الشمس فوق الأرض تحرك زهر الزنبق، فكأنه المباخر. الغابة قد نقبت صفوف أشجارها المترامية، وها هو الجبل يختفي والسيسبان ينشر مقاعده العفيفة فوق الأمواج الناصلة.
- 6 -
ها هو ذا الشفق المحب يتوسد الكرى وسط الوادي، فوق زمرد العشب، وذهب الحشائش. تحت القصب الحيية، في المجرى المنعزل، وتحت غابة الأحلام التي ترتعد في الأفق. ها هو يتمايل متسللا وسط عناقيد الزهور البرية، يلقى معطفه الرمادي فوق شواطئ المياه، ويشق عند ظهور الليل باب سجنها!.
- 7 -
فوق جبلي قصب كثيف لا تستطيع أقدام الصائد أن تتخلله. يرفع رأسه الجامح الى ما فوق جباهنا، ويؤوي في الليل الراعي والغريب. تعالى أخف فيه حبك وخطيئتك المقدسة. فإذا اضطرب أو لم يكن علوه كافياً شيدتُ لك بيت الراعي!
- 8 -
يسير الهوينا على عجلاته الأربع. سقفه لا يعلو فوق جبهتك وعينيك سيسبغ الياقوت وخدّاك على عربة الليل لونهما! المدخل عاطر والمخدع واسع معتم. هنالك بين الأزهار سنتخذ وسط الظلال فراشا صامتا لشعرنا المجتمع!
- 9 -
سأزور إن أردت بلاد الجليد. هنالك حيث يشع نجم الحب ويلتهب!. هنالك حيث تصطدم الرياح ويحاصرها الجليد!. هنالك حيث يختفي القطب تحت الثلوج. سنسير كما تشاء المصادفات الى غير سبيل مقرر. وفيم اهتمامي بالزمان؟ وفيم اهتمامي بالمكان؟ سأقول جميلاً ما تراه عيناك جميلا!.
- 10 -
ليهدي الله ذلك البخار الصاعق الى غايته فوق تلك القضب الحديدية، التي تخترق الجبال ليقم ملك كريم على ذلك الموقد الصاخب عندما يدب تحت الأرض أو يهز بجبروته
القناطر. عندما يخترق المدن بأسنان نيرانه التي تلتهم المراجل أو عندما يقفز الأنهار بوثبات أسرع من وثبات الوعل، وقد حما قفزه.
- 11 -
ما لم يسهر الملك ذو العينين الزرقاوين على طريق البخار. ما لم يحلق فوقه ويحميه وسيفه بيده؛ ما لم يعد كل دفعة من دفعات الرافعة. ما لم يستمع الى كل دورة من دورات العجلة في رحلتها الجبارة. ما لم يلق ببصره على الماء وبيده على النار كي يتهلل الموقد السحري بالنصر. كفانا حجر صغير يلقيه طفل!
- 12 -
لقد عجل الإنسان بركوب ذلك الثور الحديدي الذي يدخن ويصفر ويخور، وما يعلم أحد ماذا يحمل هذا الأعمى الخشن في جوفه من زوابع عاصفة! ها هو المسافر يسلمه راضياً كنوزه! ويلقي إليه بوالده العجوز وأبنائه رهائن كما كان يفعل الفينيقيون بما يقذفونه في جوف ثورهم المشتعل ناراً ليرده ترابا يلقيه تحت أقدام اله الذهب.
- 13 -
على أنه يجب أن نقهر الزمان والمكان، فأما نصر وأما موت. التجار يتنافسون، والذهب يتساقط كالمطر من دخان البخار الذاهب! الزمان والغاية هما العالم في نظرنا! كل يقول لنفسه هيا، ولكن لا سلطان لأحد على ذلك التنين الذي اخترعه أحد العلماء. أننا نلعب بما هو أقوى منا جميعا!
- 14 -
وعلى كل ليختط كل شيء سبيله، وليخدم النظر العمل فيحمله على أجنحة النار ما أتسع رحاب قاطرات البائع لكل نبيل، وما خدمت شريف العواطف. لتحل البركة على التجارة ذات الرمز الموفق ما دام الحب الذي يعبث بالمعقول قد أصبح في مكنته أن يخترق في يوم دولتين كبيرتين!. 0
- 15 -
ومع هذا فما لم نكن إزاء صديق يرسل صيحات اليأس، وحياته مهددة بالخطر. أو إزاء فرنسا التي تدق البوق لتدعونا الى ساحات الوغى أو اتصال العلم أو إزاء أمٍّ تحتضر في
سرير موتها، وتود جاهدة أن تلقي ببصرها الرقيق الحزين على ذويها قبل أن تغمض عيناها إلى الأبد.
- 16 -
لنتجنب السكك الحديدية ما دامت الرحلة بها مجردة عن كل لذة، حيث تجري على تلك الخطوط وكأنما هي سهم انطلق في الفضاء من قوسه الى غرضه، وسط أزيز الهواء، وهكذا ترى الإنسان وقد قذف به الى بُعد لا يستنشق، ولا يرى من الطبيعة الا ضباباً خانقاً يخترقه برق خاطف!
- 17 -
لن نسمع بعد اليوم وقع سنابك الخيل على الطرق الملتهبة. وداعا أيتها الرحلات البطيئة! تلك الأصوات التي نسمعها عن بعد! ضحكات المارة توقف العجلات عن السير. ثم تلك المنعطفات غير المتوقعة في مختلف المنحدرات، صديق نلقاه فننسى معه الزمان. الأمل في الوصول إلى مكان مهجور في وقت متأخر!
- 18 -
لقد تغلبنا على الزمان والمكان! لقد مدّ العلم حول كرة الأرض خطاً مستقيماً نحساً. لقد ضيقت معارفنا من فضاء الأرض وأصبح خط الإستواء عبارة عن حلقة صغيرة ضيقة. لا صدفة بعد اليوم. سيتخذ كل وجهته لا يعدو المكان الذي يحتل من بدء الرحلة غارقا في تقديرات صامتة باردة!
- 19 -
محال على الأحلام الوادعة الملتهبة بالعاطفة أن ترى قدمها الأبيض معلقا بها من غير أن ترتجف مشمئزة لأنه لا بد لها من أن تلقي على كل مرئي نظرة طويلة كالنهر المتدفق وأن تستجوب في لهفة كل شيء وأن تدرس في عناية كل سر الهي، وأن تسير وتقف، وتسير ورأسها منحن.
العلوم
النوم واليقظة
بقلم الدكتور احمد زكي
الأستاذ بكلية العلوم
النوم، ما أحلاه! أو هكذا يقول المجهود اللاغب قد استنفد النهار طوقه واستفرغ قواه.
النوم ما أعزه وأغلاه! أو هكذا يقول المريض تعذّر عليه القيام وسرى السقام في عظامه بصنوف الآلام. فلا هو بالصحيح الصاحي فتحمله كالناس رجلان، ولا بالغافل العافي فتغمض له عينان!. أمساؤه كأصباحه ونجوم ليله كشمس نهاره!.
النوم، ما أروحه! أو هكذا يقول المكروب أفعم الهّم صدره حتى كاد يصدّعه، وثار الفكر الملحّ برأسه حتى كاد يطير به، يطلب النوم فيتأبى عليه، والنوم كالسائمة الهائمة تشرد عن طالبها، فيحتال عليه بالفكر اقتناصاً، فيفكر ثم يفكر، ولكن في دائرة لا مبدأ لها ولا منتهى!.
النوم كالهواء والماء غلا حتى عز أن يكون له ثمن، منحة الله العظمى، وعطيته الكبرى، لا يستأثر بها غني ولا توصد الخزائن دونها عن فقير. وعَّمت فلم يختص بها الإنسان، فكان للخلائق أجمعين أنصبة منها، حتى النبات له من ذلك نصيب!.
نعم حتى النبات فهو في النهار يعمل كالإنسان سعياً وراء القوت، فيأخذ من الهواء أكسيد الفحم فيهضمه فأما الفحم فيستبقيه غذاء صالحا يزداد به في الجسم بسطة وفي الأفرع إنبساقاً، وأما الأوكسجين فيطلقه في الجو فضلة لا حاجة به إليها حتى إذا جاء الليل كف عن العمل وهجع إلى الصباح ليعود إلى ما كان عليه في أمسه!.
غريب فعل هذه الشمس في الخلائق. تغيب فتنام الأرض ومن عليها، وتطلع فتنشر أشعتها اليقظة والحياة، أو الأصح أن نقول أن نصف الأرض ينام حيث الشمس غائبة بينما نصفها الآخر صاح حيث الشمس طالعة، فالنوم واليقظة دوّاران كالشمس يدوران على الناس من المشرق الى المغرب. وعلاقة الشمس بالنوم ليست مصادفة وليست عادة ابتدعها الإنسان ثم ألفها، ولكنها علاقة اقتضتها طبيعة الحياة وطبيعة الأجسام الحية وطبيعة النوم كذلك. ومن اجل هذا عمت حتى شملت كل ذي حياة. حتى السمك يقل حسه في الليل ويهدأ حيث هو
من الماء. . ومن أطرف ما رأيت انهم أعلنوا في لندن منذ أعوام خلت أن الشمس ستكسف بعد طلوع الشمس بقليل. وكنا نسكن بظاهر المدينة فقمنا مبكرين نشهد هذا المشهد الجليل. فذَّر قرن الشمس وخرجت الطيور على العادة من أوكارها تسعى الى الرزق. ولكن ما هي الا أن احتجبت الشمس وجلل الأرض ما يشبه الغسق حتى وجدنا هذه الطيور تعود الى أوكارها زرافات ووحدانا مخدوعة عن صباحها، ولم يكن بعد قد جف نداه.
وهذا نظام كما ذكرنا عام اقتضته ضرورة الحياة، وله شواذ الا أنها لا تكون الا لضرورة من ضرورات الحياة كذلك. فكما نرى بين الناس من يضطره العيش إلى القيام والناس تجوع، والى الهجوع والناس قيام نرى من الحيوانات كالمفترسة ما يلبس رداء الظلام يتحسس فريسة نائمة، ومنها الضعيف الهياب كالحشرات والجرذان يتخذ من الليل نهارا يطلب القوت تحت ستاره في أمان واطمئنان. ومن النباتات أجناس رخصت لها الطبيعة بمثل هذا الشذوذ. فبينما نرى الكثير من الشجر تتهدل أغصانه بعض الشيء وتغمض أزهاره وتنحبس عطورها بمغيب الشمس، نرى القليل كنبات التبغ يسير على النقيض فتتفتح أزهاره في الليل ويفوح طيبه وما كان للطبيعة أن تأذن لهذا النبات في رخصة كهذه لولا أن فيها حياته وبها ضمان إنساله، فأن فَراش الليل ينجذب إلى الزهرة الذكر بشذاها، فيحط عليها طلباً لجناها، ثم يشيل عنها متحملا بلقاحها، فيحط به على زهرة أنثى فيتم إثمارها.
أما جوهر النوم وكنهه فقد حار فيهما العلماء كما حاروا في كل شيء يتصل بالمخ وتوابعه من حيث الصحة والمرض ومن حيث الإدراك والتفكير. ولا غرابة في ذلك، فالإنسان أمتاز من الكائنات بخلقه، والمخ أعقد ما في هذا الخلق، وبه ساد الخلائق، وبه تحكم فيها وورث الأرض، وبه سيرث أجرام السماوات. غير انه مما لا شك فيه أن النوم يعطل في الإنسان التعقل والتفكير، وكذلك الإحساس، وتلك جميعها من مظاهر اليقظة. ولا تدوم فترة ما بين اليقظة والنوم أكثر من دقيقة أو دقيقتين، وعندئذ يدخل الرجل الصحيح المعافى في النوم كما يجب أن يكون، وتنقطع الصلة بينه وبين هذا العالم ساعة أو ساعتين، تكون فيها صحيفة ذهنه بيضاء من كل شر أو خير، فهو كالميت وليس ميتا، ثم تقرب الصلة بعد ذلك بينه وبين العالم الحي، وهنا تتدخل الأحلام. وليس النوم ذو الأحلام بالنوم العميق، ولا أدل
على ذلك من أن أحلام النائم تتأثر بما يحدث حوله، فقد يقع كتاب في الغرفة فيتمثل للحالمكأن بيتاً ينهد، أو جبلاً ينقض. كذلك تتشكل أحلام النائم وفقاً لما يحدث في جسمه، كأن تتوعك أمعاؤه أو تتخم معدته فتضيق أنفاسه فيرى أن لصاً مجرماً أخذ بتلابيبه وضيق عليه الخناق، أو أنه أُلقي به في اليم فسد عليه الماء منافس الهواء. فالرؤى على هذا نوع من الكرى بين الوسن الخالص واليقظة الخالصة، ولا تكون راحة الجسم فيها تامة، ولو جمعته بالحور الحسان على أرائك من خز وجمان. وكما كان الدخول في النوم تدرجا كان الخروج منه تدرجا ولا يستغرق هذا التحول أكثر من دقيقتين.
ومع أن الإنسان يتعطل تعقله وحركته إذا هو نام الا أن أعمال جسمه الأخرى التي لا تتصل بمراكز المخ الرئيسية لا تتعطل ولا تكاد تتأثر الا قليلا، فالقلب يدق ولا تقل دقاته الا يسيراً، والمعدة تفرز العصارات الهضمية، والأمعاء تتحرك حركاتها الدودية، ويجري امتصاص الطعام فيها بمقدار ما يجري في الصحو. والدورة الدموية تجري كعادتها، إلا أن مخ النائم يقل دمه، بينما يكثر الدم مقابل ذلك في الأعضاء والأطراف لاتساع أوعيتها. ففقر الدم في المخ نتيجة من نتائج النوم، وكثيرا ما يكون سببا من مسبباته. ألا ترى أنك إذا أكلت فأثقلت جاءك النعاس فلم تستطع لسلطانه دفعاً؟ وسبب هذا أن المعدة تجذب الى نفسها أكثر الدم ليعينها على الهضم فيقل نصيب المخ منه. كذلك تقل حرارة الجسم في النوم تبعاً لنقص نشاطه، فأن كل عمل من أعماله نتيجة تفاعل كيميائي يصحبه احتراق بعض مادته. فإذا قل نشاط الجسم قل احتراقه فقلت حرارته. وإذا نحن قدّرنا نتاج احتراق الجسم في الأربع والعشرين ساعة بنحو 3000 سعر حراري وجدنا انه ينتج من ذلك القدر 600 من الأسعار في ثماني الساعات التي ينامها، وينتج 750 منها في ثماني الساعات التي يستريح فيه غير نائم، والباقي وقدره 1650 ينتجه في ثماني الساعات التي يكد فيها ويعمل. ولقلة دخل الجسم من الحرارة أثناء النوم يتغطى المرء حين ينام بكل موصل رديء للحرارة كالألحفة ونحوها ليقلل خروج الحرارة منه فيتم بذلك توازنه الاقتصادي. ومن أجل ذلك أيضاً يختل هذا التوازن على الأغلب والناس نيام، فيصابون بأزمة داخلية يعبرون عنها بالبرد.
وقد وضع العلماء نظريات عديدة في أسباب النوم لا داعي للإلمام بها لأنهم لم يجمعوا على
إحداها. وقد حاول قوم في عصر المحاولات الغربية (الذي نحن فيه) أن يستغنوا عن النوم بالمران، فكانوا كمن يحاول أن يستغني عن الشراب والطعام. ويختلف القدر اللازم منه للإنسان بإختلاف عمله وحركته وخموده، كذلك يختلف على ما هو معروف بأختلاف الأعمار، فالطفل الرضيع ينام أغلب يومه، ثم تقل حاجته منه حتى تبلغ في الشباب ثماني ساعات، ثم تزيد في القلة. فقد تنزل في الشيخوخة إلى ثلاث ثم تنعدم بالطبع عند نفاد الزيت واحتراق الفتيل.
العالم النسائي
تباشير الانقلاب
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
تحيي الرسالة صديقها الزهاوي بقصره الجديد من ضاحية بغداد تحية طيبة، وتعده بأن تعنى بدرس آثاره وتحليل أشعاره عناية ظاهرة، ثم تعاتبه في رقة ولطف على أن يختار لعددها الأول هذه القصيدة.
من بعد ما انتظرت حقابا
…
ثارت فمزقت الحجابا
عربية عرفت أخيراً
…
كيف تنبذ ما أرابا
كان الحجاب يسومها
…
خسفاً ويرهقها عذابا
إن الألى قد أذنبوا
…
هم صيّروه لها عقابا
وسيطلب التاريخ من
…
ناس لها ظلموا حسابا
سألت لها حرية
…
تغنى فما لقيت جواب
حتى إذا ما استيأست
…
خرقت بأيديها النقابا
فرأت أمام سفورها
…
للمجد أفنية رحابا
ذهبت كزوبعة لها
…
صخب فأحمدت الذهابا
أحسنت يا ابنة يعرب
…
صنعاً وأتبعت الصوابا
فلقد كفاك غضاضة
…
ذاك الشقاء بما أصابا
ليس الجمود سوى خنو
…
ع قد يجر لك التبابا
ان الحياة لتبتغي
…
في عصرنا هذا انقلابا
ظهرت تباشير له
…
تبني المنى منها قبابا
خوضي الى المجد الأثي
…
ل - إذا أرديته - الصعابا
وتنكبي الوهد الذي
…
يخفيك واطلبي الهضابا
أما العباب فانه
…
ان حال فاقتحمي العبابا
الحق حقك فانشدي
…
هـ في محاولة طلابا
وإذا أبوا فخذيه منه
…
م في محاججة غلابا
لا تعبئي أبداً بغر
…
بان يواصلن النعابا
وذري من الدين القشو
…
ر جميعها وخذي اللبابا
لا خير في ناس إذا
…
أفحمتهم ولوا غضابا
عزووا الحجاب الى الكتا
…
ب فليتهم قرأوا الكتابا!
ان التعصب مانع
…
أن تبصر العين صوابا
ما عاش شعب نصفه
…
قد شل من داء أصابا
الحق يزهق باطلا
…
قد زين، والصدق الكذابا
ما كان خدرك غير سجن
…
مظلم يولى اكتئابا
قولي إذا أخطأت
…
أخطأ، أو أصبت لقد أصابا
أني لأرجو أن أرى
…
التوقير في الفتيان دابا
وألوم من مردوا فلم
…
يبغوا عن السفه اجتنابا
كم من خراف حين أد
…
جي ليلها انقلبت ذئابا
لما رأت لحماً طري
…
اً أبرزت ظفراً ونابا
ولرب فاتنة العيو
…
ن لحاظها تحكي الحرابا
وترى خصائل شعرها
…
فتخالها تبراً مذابا
زفت الى وحش فس
…
لت في حيازته اكتئابا
وأجاعها شحاً ولم
…
يحسب لجوعتها حسابا
هل ظن أن المرهق
…
الغرثان يلتهم الترابا
ولقد غلى منها الأسى
…
فتفجرت تبكي المصابا
ان الأسى أما غلى
…
ليفجر الصم الصلابا
ونعاتب الأقدار لو
…
يسمعن من أحد عتابا!
ولقد يخر الدمع
…
محمراً فتحسبه شهابا
ذم الجهالة أنها
…
ما أورثت الا خرابا
قالت ألا بعداً لمن
…
سمع الدعاء وما أجابا
يا ماء أهلي أين أن
…
ت فأنني أشكو اللهابا
يا قبر (ليلى) أنت تحو
…
ي فيك زنبقة كعابا
حيتك واكفة الحيا
…
تهمي فتسكب انسكابا
كم مثلها من نسوة
…
يرجين في الصبر الثوابا
يلوين من جور الرجا
…
ل - وقد تبر من - الرقابا
أولست في وأد البنا
…
ت من الرجال ترى العجابا
مالي رجاء في الشيو
…
خ وإنما أرجو الشبابا
من كل وثاب إذا
…
أغريته اقتحم الصعابا
الناس في الآراء يخ_تلفون بعداً واقترابا
بسم المنى لأقلهم
…
خطأ وأكثرهم صوابا
أني أرحب بالألى
…
بلد الرشيد بهن طابا
من سيدات للعرو
…
بة جئن يرفعن القبابا
أوليننا النعم الرغا
…
ب وما توخين الثوابا
بل خدمة الوطن العزيز
…
بهن عن بعد أهابا
نعم سأشكرها ومن
…
لا يشكر النعم الرغابا؟!
وكذلك تشكر كل أر
…
ض - عضها الجدب - السحابا
يا (نور) هذا الحفل قد
…
جازت بطولتك النصابا
لا تحسبي للمرجفين
…
(ومن روى عنهم) حسابا!
الجمال والحب
هل يشترط الجمال في المرأة لإثارة الحب؟
آراء طائفة من أعلام النساء والرجال
هل يجب أن تكون المرأة حسناء لكي تحب؟ هذا سؤال طرحته صحيفة نسوية فرنسية ظهرت حديثا هي (جريدة المرأة) وتقدمت بسؤالها الى جماعة من الأكابر ذوي الرأي والمكانة الاجتماعية، رجالا ونساء، وقد رأينا لطرافة هذا الاستفتاء، أن ننقل خلاصة ما أدلى به أولئك الكبراء في هذه المسألة النفسية الخطيرة.
الرأي النسوي
ونبدأ بما يراه الرأي النسوي في ذلك ممثلا في أقوال طائفة من شهيرات النساء.
قالت مدام دوسان الفنانة الباريزية الكبيرة التي تعد نموذجا من أبدع النماذج لجمال الفرنسية وسحرها، والتي تحمل أرفع أوسمة (الشرف) وتشغل في المجتمع الباريزي أرفع مقام:
(ماذا يعني أولا أن تكون امرأة حسناء؟ يوجد ألف شكل لتكون المرأة حسناء، وألف آخر لتكون جذابة، ومائة ألف أخرى لكي لا تكون قبيحة! والحسن ليس شرطاً فقط لكي تحب المرأة، ولكن يجب أن تكون المرأة حسناء لأسباب كثيرة أخرى، يجب أن تكون حسناء بالصدفة. ففي مدننا المروعة حيث تأبى الأشجار ذاتها الحياة، يغدو القوام النسوي الساحر آخر بهجة تقدمها الطبيعة للأعين. ويجب أن تحاول المرأة أن تكون حسناء، فتلك مدرسة بديعة للإرادة. صحيح أن المرأة الحسناء تكون أحيانا فوزاً مدهشاً للطبيعة، ولكنها أكثر ما تكون امرأة استطاعت أن تصلح زينتها وأن تصقل رواءها، أو بعبارة أخرى امرأة استطاعت أن تكون قاسية على نفسها. وقد نعتقد متى فاجأنا إحدى أولئك النسوة تنظر الى المرآة خلسة أنها تعجب بنفسها. وهذا خطأ كبير. فهي في الحقيقة تدرس نفسها، وتضبط نفسها بصرامة حفية، وتتقدم في تفهم وسائل الحسن. ولكنها لن تعترف بذلك مطلقا، ولها في ذلك كل الحق.
ولا يوجد حسنان متماثلين. فقد يكون الجمال هو وسامة الخلقة، ولكنه قد يكون أيضا بشرة وردية وشعراً أشقر، أو يكون نبرة الصوت. أو طريقة الابتسام، ولو دققنا البحث فمن ذا
الذي لا يتمتع بلمحة من الجمال؟
على أنه يجب البحث وراء الجمال لاعتبارات صحية؛ والصحة من أنفس موارد الجمال. وواجب ألا يغرينا منظر الجمال السقيم، فهو كالأثواب الغريبة، قلما يتاح له النجاح. ولكن اضطرام الحياة، والتفاؤل، والحماسة وسائل محققة للاحتفاظ بصباحة الطلعة، وثبات القامة، ولمعان العين.
ولكن ماذا يجب لكي تحب المرأة! هذا هو لب السؤال. حقاً أن الحسن لا يضر، ولكنه ليس بذي عصمة، والجمال مثل المال، لا يحقق السعادة حتما. هذه المرأة الفتية النحيلة، ذات الجمال الخطر، التي تسحرك على لوحة السينما حيث يقتتل اثنان من اجلها، قد أرادت في الأسبوع الماضي أن تنتحر بالسم لأن الرجل الذي تحبه هجرها من اجل فتاة صغيرة من الرعاع لا ميزة لها الا أنها تحسن الطهي. ولكن تأمل أيضا هذه المرأة التي تسير جامدة دون تأنق، فأن لها زوجا يعبدها منذ عشرين سنة لأنها في نظره تجمع بين كل المحاسن. أن المسألة كلها حظوظ فقط.
ومع ذلك فيجب أن نجتهد في استكمال روائنا، وفي الظهور بديعات مشرقات، إذ أن ما نثير من اهتمام أو حماسة يشرق بدوره من حولنا. فنحن نعجب بجمال الممثلات، ولكن روح أدوارهن هو الذي يذكي هذا الجمال ويطيل اجله.
هل يجب أن تكون المرأة حسناء لكي تحب؟ أود أن أجيب أنه يجب أن تحب المرأة لكي تكون حسناء.)
وقالت مدام لوسي ديلاري مردروس الكاتبة والمثالة الشهيرة: (لست أعتقد أن الجمال شرط لإثارة الحب. فالجمال مسألة مفاجأة وظهور على المسرح. ونحن نعتاد النظر إليه كما نعتاد القبح، وهذا هو الخطر. ونحن نعرف الكلمة السائرة: أنها حسناء حتى لا ينقصها شيء. ولكن من سوء الطالع الا ينقص المرأة شيء، إذ يجب أن يمكن المرء من العناية والاختراع لأجل إنسان ما. فهذا التعاون من جانب ذلك الذي نحب ضروري جداً. والرجل يذكر دائما أن حواء قد خلقت من أحد أضلاعه. وإذن ففي بعض الأحوال قد تفوق جاذبية القبح جاذبية الجمال؛ فان محيا قبيحاً يثير الجزع والألم، ويحاول المرء أن يصلحه بلا انقطاع. وليس معنى ذلك أن المرأة يجب أن تكون قبيحة لكي تحب. ولكني اعتقد أن الحب
لا تذكيه خلقة الشخص، ولكن يذكيه إلهامه، وكذلك دلالة محياه، فإن دلالة ساحرة أفضل من خلقة وسيمة.
وقالت مدام ماريز باستيه الطيارة الشهيرة:
(لست أعتقد أن الرجل يبحث عن الجمال في المرأة اكثر مما نبحث عنه نحن النساء في الرجل. ومن سوء الحظ أن يعرف الرجل أنه جميل وهذا ينطبق أيضا على بعض النساء الحسان. وعلى أي حال فان الحسان يظفرن بكثير من النجاح. فهل يحبهن الرجال أكثر من غيرهن؟ ولكن الأخريات أين هن؟ يخيل إلي أنه لا توجد ثمة وجوه قبيحة).
وقالت مدام جني وهي أخصائية شهيرة في شئون الجمال والزينة (أن ما يدهشني دائما هو ما ألاحظه من ضآلة الدور الذي يؤديه الجمال في الحب. فالرجل تغريه أشياء غير الجمال. ولست أستطيع أن أجد لذلك أي تفسير، فهنالك نساء مبتذلات ونسوة من أحط الرعاع، يرتكب من أجلهن رجال ممتازون أشنع ضروب الطيش. وإذن فلنقل مثل ما قالت كارمن: أن الحب لا يعرف أي قانون).!
رأي الرجل
واليك رأي الرجل في تلك المعضلة الاجتماعية الدقيقة. ممثلا فيما أدلى به أكابر الرجال:
قال الأستاذ هنري روبير عضو الأكاديمية الفرنسية ونقيب المحامين السابق:
(لا بأس أن تكون المرأة جميلة ولكن ذلك ليس ضرورياً وأني لأفضل مائة مرة امرأة ذكية طيبة القلب وليست عاطلة من الوسامة على امرأة وافرة الحسن ليس لها قلب ولا ذكاء.
أن المواهب العقلية في المرأة لها قيمة كبيرة. وللذكاء النسوي دقائق ندهش لها بحق. والنساء اللواتي يخلبننا هن أولئك اللاتي يستطعن أن يقلن شيئا، فهنالك شيء لا يمكن وصفه، وهو أوقع جداً في إثارة الحب من الجمال: ذلك هو السحر. وهنالك من ضروب السحر نوع لا أستطيع مقاومته، ذلك هو سحر الصوت. وبعد فما قيمة المبادئ في هذا الموضوع؟ أن الإنسان حيوان العادة، فإذا ما اعتاد شيئا فانه لا يعنى بالتحليل).
وقال نيكولا سيجور الكاتب الأشهر:
(ان الجمال مقر ملوكي للحب، والخفاء هو الذي يجعله ينفتح ظافراً مختاراً. والمرأة الحسناء هي قدس طبيعي، بل هي التنزيل الوحيد على الأرض.
وللجمال أهمية كبرى في إثارة الحب. وهو هبة أرفع من المواهب والعبقرية والفضيلة، إذ أن المرأة الحسناء يجتمع في شخصها كما يقول رينان، كل ما تستخلصه العبقرية بمشقة وفي لمحات ضئيلة.
ولهذا فان ظهور امرأة حسناء يضع الرجل أمام المعجزة وجها لوجه. ويثير في نفسه اضطرابات كتلك التي يعرضها هوميروس بأسلوبه الخالد حينما يصف اجتماع شيوخ طروادة على الأسوار وهم يلعنون المرأة الغريبة التي جاءت لتبث في مدينتهم بذور الخراب والموت. ولكن هيلانة ما كادت تظهر حتى نهض أولئك الذين يلعنونها مضطربين يقول بعضهم لبعض: أنه لحق أن نتحمل الضرر من أجل امرأة لها ذلك الحسن.
وفي باريس نعرف كما عرف اليونان الأقدمون، أن الجمال مقدس وانه لؤلؤة الخليقة، والصورة المادية الوحيدة لما نسميه المثل الأعلى.
على أن هنالك خواص عجيبة أخرى تحل محل الجمال، وتخلق الجمال لدى المرأة التي لم تحظ بقسامة الخلقة. ولا ريب أن السحر والظرف، والذكاء تجذب الرجل وتخضعه. وما تغنمه الحسناء توا بظهورها، تستطيع أن تغنمه أية امرأة أخرى بوسائل أخرى.
ويخيل إلى أن ما يأتي بعد الجمال، هو خصب الحياة، وانتعاش الملامح، وما يستشفه الرجل من الحساسية حلال المحيا. فهذه تؤثر فيه تأثيراً قوياً ناجعاً.)
وقال الدكتور شابا عضو المجمع العلمي ورئيس جمعية الفنانين:
(لا ريب أن الجمال يعاون كثيراً على إثارة مشاعر الحب. بيد أنه يوجد نساء غير حسان، ولكنهن اكثر جاذبية من الحسان. وللسحر خفاء لا يعلل، فان السحر الذي تبثه امرأة ما في نفس رجل ما. قد يقتصر أحيانا على هذا الرجل.
ولكل امرأة على الأقل لحظة من السحر. وهذه اللحظة قد تقرر مصير حياتها كله. ويحدث أحياناً أن نرى نساء هن نماذج الجمال باردات منكمشات، فإذا هن بقبس يسطع في العين، أو حركة في جانب الثغر، فيحدث ذلك تغييرا في المحيا. وهذه الحالة تقع كثيراً للفتيات المحدثات. وإذا من المهم أن نكتشف لديهن ما هو خاف عليهن وعلى ذويهن، وما قد يعود يوما عاملا في إثارة الحب الذي يثرنه).
قال الدوق ليفي ميربو المؤرخ الأشهر:
(ليس الجمال شرطا لإثارة الحب. فإذا احب رجل امرأة وافرة الحسن، فهو غالباً آخر من يلاحظ جمالها، ولا ريب أنه يكون سعيداً بذلك، ولكن الجمال لم يكن أول ما أثار اضطرابه الأول. فالذي يثير ذلك هو الهام الحب، ذلك الإلهام الشهير الخالد. هو السحر الذي يتطور بتطور العصور. وليس وسامة الخلقة وانتظام التقاطيع. فان جوزفين بوهارنيه لم تكن وافرة الحسن، وكانت كليوباطرة (تلك المرأة الهائلة) اقل جمالا من أوكتافيوس).
القصص
على هامش السيرة
حفر زمزم
للدكتور طه حسين
- 1 -
كان عبد المطلب سمح الطبع رضي النفس سخي اليد حلو العشرة عذب الحديث. وكان عبد المطلب أيضاً قوي الإيمان تملك قلبه وتسيطر على نفسه نزعة دينية حادة عنيفة، ولكنها غامضة، يحسها ويخضع لها، ولكنه لا يتبينها ولا يستطيع لها فهما ولا تفسيراً. أبوه من مكة حيث التجارة والثروة، وحيث المكر والدهاء، وحيث الوثنية السهلة التي لا تحرج فيها ولا مشقة. وأمه من يثرب حيث الزراعة والصناعة اليسيرة، وحيث اليهودية تجاور الوثنية فتضعفها وتنقص من ظلها وتكاد تمحوها، وحيث الأخلاق اللينة والشمائل الحلوة وحيث الظرف ونعومة الحياة.
ولد في يثرب ومات عنه أبوه فلم ينقله الى مكة فنشأ بين أخواله وتأثر بحياتهم وتخلق بأخلاقهم وسار سيرتهم حتى بلغ الشباب أو كاد، ثم أقبل عمه فأنتزعه من إقليمه السهل الهين الى إقليم أخر صعب عسير، تجدب فيه الأرض ولا تبتسم له السماء الا قليلا. يرحل أهله الى الآفاق. فهم يأخذون من الناس ويعطونهم ويبادلونهم الأخلاق والشمائل كما يبادلونهم المنافع وعروض التجارة، ولعل أخلاق يثرب وخصال مكة قد اختصمت في نفس هذا الغلام، ولعل اختصامها قد طال، ولعل اختصامها قد قصر. ولكنها على كل حال قد انتهت إلى شيء من الاعتدال آخر الأمر. فلم يكتمل الفتى شبابه حتى كان فتى من قريش، ولكنه يمتاز من بقية فتيان قريش. فيه ذكاؤهم وفطنتهم وفيه إباؤهم وعزتهم ولكن. فيه دعة لم تكن مألوفة عندهم، وفيه شدة في الدين قلما كانوا يرضونها أو يبسمون لها. على أن خصلة أخرى ميزته منهم أشد التمييز، فلم يكن يصدر في حياته، كما كانوا يصدرون عن الروية والتفكير وطول التدبر، وإنما كانت تدفعه الى العمل والاضطراب في الحياة قوة خفية يحسها ويأبى عليها ويغلو في الإباء، ولكنه يضطر الى أن يذعن لها ويصدع بأمرها،
وكانت هذه القوة تصدر إليه أمرها في أشكال مختلفة، تدفعه الى العمل حينا، وكأنها إرادته الخاصة قد ملكت عليه حسه وشعوره؛ فهو لا يستطيع عنها انصرافاً ولا يملك لها خلافاً. وتتمثل له حيناً آخر شخصاً واضح المخايل بيّن الصورة، يلم به إذا إشتمله النوم فيأمره أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وتنتهي إليه مرة ثالثة صوتاً رفيقاً ولكنه ملحّ يملأ أذنيه بقظان، ويملأ أذنيه نائما يحثه على أن يأتي كذا وكذا من الأمر، وكان في هذا الصوت غموض، وكان في هذا الصوت إبهام، وكان في هذا الصوت جلال مصدره هذا الغموض والإبهام، وكان الفتى ينكره ويرتاع له، وكان الصوت يغمره ويلح عليه. وكان الفتى يخاف هذا الصوت ويهواه، وكان الصوت يتجنب الفتى حتى يؤيسه من نفسه، يلم به فيكثر الإلمام. ولم يكن هذا الصوت يقع في أذن الفتى بألفاظ كالتي تقع في آذان الناس إنما كان يصطنع ألفاظاً خاصة غريبة الجرس غريبة المعنى.
كانت إليه رفادة الحاج وسقايته بعد عمه المطلب، فكان يطعم الناس إذا حجوا البيت ويسقيهم، يجمع لهم الماء في أحواض من الأدم، وكان يجد في جمع هذا الماء لسقاية الحجيج جهداّ وعسراّ، فبينما هو نائم ذات يوم أو ذات ليل، أتاه آت رأى شخصه ولم يتبين له إسماً ولا شكلاً وقال له في صوت رفيق غريب فيه أنس وفيه وحشة: احفر (طيبة) قال. وما طيبة؟ فأنصرف الشخص وأنقطع الصوت، وأفاق الفتى وفي نفسه ذعر وعجب وأمل. وحاول أن يعود الى النوم لعله يرى هذا الشخص، أو يسمع هذا الصوت أو يتبين هذا الحديث ولكن النوم كان قد خاصم عينيه وأنصرف عنه مع هذا الشخص الغريب، ففكر وأطال التفكير، وقدّر وأطال التقدير، وتقلب في مضجعه فاكثر التقلب، حتى ضاق بالنوم واليقظة وسئم مضجعه. فجلس يرقى ببصره الحائر الى السماء لعل شمس النهار أو نجوم الليل تفسر له هذه الرؤيا، ويخفض بصره الى الأرض لعله يجد في إطراقه تفسير هذه الرؤيا، ويمد بصره نحو الكعبة لعل صنما من هذه الأصنام المنصوبة يوحي إليه بتعبير هذه الرؤيا. ولكن السماء صامتة والأرض ساكنة وعلى أصنام الكعبة شيء كأنه الوجوم، فيرتد الى الفتى بصره متعباً مكدودا، وتهوى نفسه الى قرارة ضميره لعلها تجد لهذا الرمز تأويلا، فلا تجد شيئا، فيشتد بها الذعر ويزداد فيها العجب، ويبقى لها الأمل. وينهض الفتى فيضطرب مع الناس فيما يضطربون فيه من أمور الحياة.
ثم يقبل الليل ويأوي الفتى إلى مضجعه، وقد أنسى كل شيء الا أنه قد مشى كثيراً وأجهد نفسه كثيرا، وأنه أشد ما يكون حاجة الى أن يبسط عليه النوم جناحيه. ها هو ذا مغرق في نوم هادئ مطمئن، قد هدأ من حوله كل شيء واطمأن في نفسه وجسمه كل شيء. ولكن ما هذا الشخص الغريب يقبل ساعيا إليه في أناة، حتى إذا دنا منه قال له في صوت رفيق غريب فيه أنس وفيه وحشة (احفر بَرَّةَ) وجسم الفتى هادئ مطمئن ولكن نفسه ثائرة مضطربة، ولسانه يتحرك في ثقل وصوته ينبعث من بين شقتيه خفيفا رقيقا بهذه الكلمة (وما برة؟) فينصرف الشخص وينقطع الصوت، ويفيق النائم وجلاً مذعوراً معجباً آملاً، ويفكر ويقدر ويتقلب. ثم ينهض فيسأل السماء ولكنها صامتة! ويسأل الأرض لكنها ساكنة! ويسأل أصنام الكعبة ولكنها مغرقة في البله والوجوم! ويضيق الفتى بنفسه وبالسماء والأرض والأصنام فيهيم على وجهه يلتمس في الحركة والاضطراب نسيان هذا الطائف الذي يفزعه ويغريه. ثم يعمل الناس في أمور الحياة، وينقضي النهار بخيره وشره وحلوه ومره، ويقبل الليل شيئاً فشيئاً فيبسط أرديته السود على ما يحيط بمكة من جبال وآكام وما يزال يمد في هذه الأردية حتى يغمر كل شيء ويستر كل شيء لولا هذه المصابيح الضئيلة التي تشب في الأرض، وهذه النجوم القليلة التي تضطرب في السماء. وقد سمر الفتى مع السامرين فسمع أحاديث التجار عن غرائب الأقطار، هذا يحدث عن قصور بصرى وعظمتها وهذا يحدث عن الخورنق والسدير وهذا يذكر غمدان، وهذا يصف أخلاق اليمانين ومكرهم بالتجار وهذا يتحدث عن سذاجة أهل الشام وانخداعهم لغربان العرب، وهذا يذكر ما أفاد من ربح حين باع الأدم في الحبشة، وهذا يذكر في القوم ما حمل لهم من خمر بيسان، وهم في أثناء هذا كله يتندرون على العجم والأعراب، ويتفكهون بأحاديث أولئك وهؤلاء؛ ويسخرون من أولئك وهؤلاء. حتى إذا تقدم الليل واطمأن كل شيء تفرقوا، ونهض الفتى ثقيلا فمشى الى بيته متباطئا يود لوفّر من النوم، ويود مع ذلك لو نام فألم به هذا الطيف. أنظر إليه! أنه ليتردد أيقذف بنفسه في أمواج النوم هذه التي تتمثل أمام عينه. لم يبق على الشاطئ يقظان يداعب النوم ولا ينام ليتردد ما استطاع، ليمتنع على النوم ما وسعه الامتناع، فان هذه الأمواج المصطخبة أمامه، تستطيع أن تطغي على الشاطئ فتغمره، وتغمر معه كل شيء. وكيف يستطيع هذا الفتى أن يمتنع عليها وما استطاعت أن
تمتنع عليها جبال مكة هذه التي تحيط بها من كل ناحية! أنظر أترى حركة؟ اسمع! أتحس نبأة؟ كل شيء هادئ! كل شيء مطمئن! فما نبوُّك وما امتناعك؟ هلم الى النوم لا تخف شيئاً! أن هذه الأمواج تريح ولا تغرق، اقبل الى هاتين الذراعين اللتين تمتدان إليك فستنس بينهما كل شيء، ومن يدري لعلك تجد بينهما شفاء لنفسك الحائرة! وأطبق الفتى جفنيه وأندفع أمامه فاشتملت عليه أمواج النوم كما اشتملت على غيره من الناس والأشياء. ولكن ماذا؟ هذا شخص يتقدم ساعياً هادئاً كأنه عش على الهواء، حتى إذا دنا يمشي من الفتى قال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة (أحفر المضنونة) جسم الفتى هادئ، ولكن صورة من الحيرة قد ارتسمت على جبهته، وهذا صوت خفيف رقيق ينبعث بين شفتيه وهو يقول: ما المضنونة؟ فينصرف الشخص وينقطع الصوت، ويفيق الفتى مذعوراً مأخوذاً، قد أظلم في نفسه كل شيء، وأحاط اليأس بعقله وقلبه وضميره. لا يرتفع بصره الى السماء ولا ينخفض الى الأرض، ولا يمتد إلى أصنام الكعبة، ولكنه يدور حائراً! وينهض الفتى وهو يقول: ما أرى الا أني سأجن! لئن أصبحت لآتين الكاهن، فلعلي أجد عنده من هذا العارض شفاءً.
أقبل أيها الصبح أسرع في الخطو، إرفق بهذه النفس الحائرة، هلم الى سوطك المشرق المضيء، فبدد به هذه الأشخاص المائلة، فرِّق به هذه الظلال المضطربة من حولي. ويقضي الفتى ليلا طويلا ثقيلا، حتى إذا كست الشمس بضوئها النقي ظواهر مكة وبطاحها أسرع الفتى الى المسجد يريد أن يقص أمره على الكاهن. ولكنه لا يكاد يبلغ مجالس قريش في فناء المسجد، حتى تذهب عنه حيرته ويفارقه وجومه، ويمتلئ قلبه اطمئناناً وثباتاً؛ ماذا؟ أأزعم للكاهن أني مجنون وتشيع في هذه المقالة ويضحك مني حرب بن أمية ولداتُه ويتندر عليَّ فتيان مخزوم؟ كل، ما أكثر هذه الخيالات التي تسكن الى نفسها في قبور الموتى! وتختبئ في الكهوف والأغوار ما أضاءت الشمس، واستيقضت الطبيعة. فإذا أظلم الليل ونام الكون انتشرت هذه الخيالات في الجو فمنها ما يصعد في السماء يرعى النجوم، ومنها ما يهبط الى الأرض يروِّع الناس. وما أرى أن هذا الطائف الذي يؤرقني منذ ثلاث إلا خيالاً من هذه الخيالات لعله ظل ميت من موتى قريش قد أنسيه قومه فهم لا يزورونه، ولا يقربون إليه لعله شيطان من هذه الشياطين التي تلح على الأنس فتتقاضاهم الطاعة
وتخضعهم لسلطانها كرهاً. لعله نذير من أحد الآلهة يطالب بالضحية والقربان، لقد مضت أيام ولم تقدم الى الآلهة شاة ولم ينحر لهم جزور، ولم تصطبغ أرض المسجد بهذا الدم الحار القاني الذي تحب الآلهة لونه ورائحته. إيه يا عبد المطلب، تقرب الى الآلهة بضحية ترضيهم لعلهم يرضون، ولعلهم يكفون عنك هذا الشر! وأقبل الفتى على مجلس من مجالس قريش، فتحدث وسمع ولكنه كان شارد النفس فلم يطل الحديث ولا الاستماع ونهض مولياً، فلما انصرف عن القوم قال حرب بن أمية لمن حوله أرأيتم إلى سرى بني هاشم، أني لأراه محزوناً، أني لأعرف في وجهه الهم، لم يحدثنا اليوم عن مآثر أبيه ومفاخر عمه.
ومضى الفتى الى أهله، فلما دخل على امرأته أنكرت عودته إليها من الضحى، فاستقبلته دهشة وهي تقول: إيه يا شيبة ما خطبك؟ أني لأنكرك منذ أيام. أراك مؤرق الليل، قلق النهار، قليل الحديث، طويل التفكير. ولقد هممت أن أسألك مرات، ولكني خشيت ردَّك علي وانتّهارك لي. فأني لأعلم فيكم معشر قريش رقة للنساء، ودعابة معهن. ولكني لا أجد عندك ما أجد عند قومك، فأنت صامت إذا خلدت إلى أهلك، وأنت مقطب الجبين أن أظلك معهم سقف. تحدث ما يحزنك؟ اخرج عن هذا الصمت الذي لزمته، كن رجلاً من قريش، أشرك أهلك فيما يعنيك، لقد أذكر يوم أنبأني أبي أنك خطبتني إليه، لقد فرحت بهذا النبأ، لقد كنت أتحدث الى أترابي في البادية بأني سأصبح امرأة من قريش، أجد من نعمة الحياة ولينها ومن ظرف الزوج ورقته ما لا يجدن تحت خيام بني عامر بن صعصعة، ولكني وجدت نعمة وليناً، ووجدت حباً وعطفاً، ووجدت عناية لا تعد لها عناية، ولم أجد أحب ما كنت أطمح إليه، لم أجد منك ابتسام الثغر، ولا انبساط الجبين، ولا انطلاق اللسان. قالت ذلك وأنتظرت هنيهة. فأجابها زوجها بصوت هادئ حزين. عزيز علي يا سمراء ما تجدين من حزن، وما تحسين من خيبة الأمل. أني لأحبك كما يحب الضمآن ما ينقع غلته من الماء العذب. أني لآنس إليك أنسا يزيل عن نفسي كل هم ويحبب ألي الحياة ويرغبني فيها. أني لأشتاق إلى التحدث إليك والاستماع لك والأنس بك، ولو خيرت لما عدلت بمجلسك مجلس قريش ولا ببيتك فناء المسجد ودار الندوة. ولكن، قوة خفية عاتية طاغية تملك عليَّ نفسي وتأخذ عليَّ كل سبيل وتدفعني الى حيث لا أدري ولا أريد. أبه يا سمراء، أني لمؤرق الليل، قلق النهار مفرق النفس منذ ليالي، وأني لأخشى على نفسي شراً. هذا
طائف يلم بي إذا أغرقت في النوم فيأمرني بصوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة أن أحفر شيئاً يسميه طيبة ويسميه برة ويسميه المضنونة، فإذا سألته عما يريد أنصرف شخصه وأنقطع صوته، وأفقت حائراً مذعوراً. لقد هممت يا سمراء أن أقص رؤياي هذه على الكاهن، وأن أصف له ما أرى وما أجد، ولكني أشفقت أن يتحدث الناس عني أني مجنون، أو أن يتندر بي فتيان قريش فيقولوا: أن له رَئِيَّا من الجن. أشيري ماذا ترين؟ قالت سمراء: هِوِّن عليك ولا تغل في الخوف ولا تسرف في الإشفاق، ما أكثر ما يلم أمثال هذا الطيف بالناس عندنا في البادية، فلا يحفلون ولا يأبهون، ومع ذلك فما يمنعك أن تتقرب أنت إلى الآلهة في غير توسط للكاهن، ولا توسل به، قم فضح لهم وقرب إليهم فسيرضون، وسيرضى الفقراء والجائعون، وسيغيظ ذلك قوما من قريش.
وما هي الا ساعات حتى كان فناء المسجد يموج بالناس، فيهم الفقراء، قد أقبلوا من البطاح والظواهر. وفيهم الأغنياء قد أقبلوا يقدمون الضحايا بين أيديهم. هؤلاء يتنافسون أيهم يغلي الضحايا ويكثر منها. وأولئك ينتظرون ويمنون أنفسهم بغريض اللحم وجيده، لقد سمعوا بأن عبد المطلب يريد أن يضحي، وان بني هاشم قد حفلت لذلك، فكرهت أمية أن لا تفعل فعلهم وكرهت مخزوم أن تسبقها عبد مناف، فأقبل أشراف قريش يستبقون في التضحية، ويتنافسون في القربان! تنافسوا. تنافسوا أيها الأشراف! استبقوا أيها الأغنياء! فان في ذلك شبع الفقراء وسعادة الأشقياء.
وقضت مكة يوما دامياً سمينا، كثر فيه الطعام وكثر فيه الشراب ورضيت فيه الأصنام، وسعد الفتى بما رأى، ونسى الفتى ما كان يهمه وينغصه، وقدر الفتى أن قد صرف عنه الشر ورد عنه المكروه، ورضيت سمراء. فتحدثت كثيراً، وسمعت كثيرا وأضحكت زوجها وابنها الحارث بملح الأعراب، ونوادر البادية. وقالت لزوجها وهي تمسح رأسه: أحبب إليَّ بهذا الطائف الذي أرقك وأضناك، فقد حقق أملي وأراني ما كنت أطمح إليه. ورسم في قلبي صورتك جميلة خلابة، فلن أراك منذ اليوم (مهما تكن الخطوب) إلا باسم الثغر، منبسط الجبين، منطلق اللسان. وهل السعادة إلا لحظات قصار، تصيبنا ولم ننتظرها ولم نقدر لها حسابا! فما أسعد القلب الذي يحتفظ بهذه اللحظات حين تمر، ويتخذها ذخراً للأيام، وما يعرض فيها من الخطوب. قال عبد المطلب: إذن فأنت راضية يا سمراء أن رضاك
ليقع من نفسي المحزونة موقع الماء من الأرض المجدبة. انعمي بما أنت فيه، وأنتظري أن يقدر الله لك خيراً منه. فلو قد صرفت عني هذه القوة العاتية الطاغية لأريتك يا سمراء كيف تطيب الحياة، وكيف ترق حواشي العيش.
وأوى الفتى إلى مضجعه راضياً مسروراً، واستقبل النوم مبتهجا له راغباً فيه، ولكن هذا الشخص يقدم عليه ساعيا في هدوء، كأنما يمشي في الهواء، حتى إذا دنا منه انحنى عليه، ووضع على جبهته يداً باردة خفيفة، وقال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة. احفر زمزم. واضطرب جسم الفتى كله واضطربت نفس الفتى كلها وأنفتحت شفتاه عن هذه الكلمة: وما زمزم؟ قال الطيف بصوت رفيق مؤنس، قد فارقته الغرابة والوحشة ومازجته سخرية ورحمة. (لا تُنْزَح ولا تذَم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم) قال الفتى: (الآن قد وعيت) فتولى عنه الطيف باسما وهو يقول: (الله أنتم أيها الناس لا يكفيكم الوحي، ولا تفقهون إلا سجع الكهان. رويداً عما قريب سيضئ الصبح) ونهض الفتى مبتهجاً مسرورا. فلما أصبح دخل على سمراء مشرق الوجه مضيء الأسارير. قالت وهي تسعى إليه: أيهما أحب إلى نفسي إشراق وجهك أم إشراق الشمس؟ ما أرى إلا أنك قضيت ليلا هادئا. قال: أنعمي صباحا يا سمراء لقد طابت الحياة منذ اليوم، أن هذا الطائف الذي يلم بي منذ ليالي، طائف خير يأتي بالنعمة والغيث، انه يأمرني أن إحتفر في فناء المسجد بئرا، فلأفعلن منذ اليوم، ولئن ظفرت بها ليشربن الحجيج في غير جهد ولا عسر. هلم يا حارث خذ معولا ومكتلا ومسحاةً واتبع أباك. ويتبعنه الماء إلى عرفات. .
الشيخ عفا الله
قصة مصرية
بقلم الأستاذ محمود تيمور
حدثني صديقي، قال:
منذ عشرين عاماً كنت أسكن جهة درب سعادة. ذلك الحي القديم ذو الشارع الضيق والمباني المتزاحمة الأثرية. وكنت إذ ذاك في التاسعة عشرة من عمري أحضر لإمتحان الشهادة الثانوية. وفي أوقات فراغي كنت أجلس أمام البوابة أتفرج على الرائح والغادي. وكان يمر أمام الدار (من وقت لآخر) شيخ بملابس بسيطة ضامر الوجه، بلحية خفيفة فيها آثار الشيب ظاهرة. هادئ المشية. يسير في وقار. منكس الرأس على صفارته يناجيها بألحان شجية. فكنت استوقفه وأطلب منه أن يسمعني شيئاً من أنغامه. وكانت جميع ألحانه تحوي كثيرا من معاني اليأس والحنو. ولاحظت أنه قنوع يرضى بالقليل. وكان إذا استرسل في صفيره خيل لك أن الصفارة تتكلم وتنوح كأنها تحاول أن تفشي سراً! وهو على طهارة قلبه ومظاهر الصلاح الناطقة على وجهه، لا يؤدي أي فرض من فروض الصلاة، ولا يذهب إلى الجامع مطلقا! ولا يتكلم عن شيء اسمه مغفرة ورحمة. وإذا ذكر اسم الله أمامه طأطأ رأسه ذليلا، وتمتم بألفاظ متقطعة غير مسموعة!.
وتوثقت بيني وبين الشيخ ألفة ساذجة. وحاولت أن استوضحه حقيقة آلامه فلم يرض أن يبوح لي بشيء. فاحترمت رغبته وصممت أن لا أفاتحه في هذا الموضوع. وظل الرجل وقتا ما لغزاً لا أستطيع الوصول إلى حله. ومرت الأيام والشيخ يزورنا مرة في الأسبوع فأحظى منه بألحان شجية، وحديث هادئ جميل!. وكان يسترسل في الكلام بعض الأحيان فتفلت منه من غير وعي جمل وكلمات بدأت تكشف لي شيئا من سره. وكان ينشد لي كثيراً من المواويل الريفية في الحب والتشبيب بالنساء وكان إذا لفظ كلمة (الغيط) لفظها مفخمة منغمة واتسعت عيناه ولمعت بوميض غريب. واتسع صدره وتمددت طاقتا أنفه وهو يستنشق في شغف الهواء الذي يحسبه هواء الريف. ثم يعقب ذلك تنهد حار عميق، ومناجاة طويلة لصفارته وباغته ذات يوم بقولي:
- اقسم بالله لقد اكتشفت سرك يا شيخ (عفا الله)!
فارتعد مذعوراً. وأتممت كلامي:
- انك فلاح من الريف
فنظر ألي بحيرة وقال بعد تردد:
- وهل أستطيع أن أنكر (أصلي)!
- وانك تتألم من حب دفين.
فأمسك بيدي وشد عليها، وقال:
- اسكت يا سيدي، اسكت:
- وانك ارتكبت معصية كبرى، وتريد التكفير عنها
فامتقع وجهه ونظر ألي محملقا، وقال:
- أعالم سري. .؟ أعالم سري؟. .
وأخذت استدرجه في القول حتى لان. وبدأ يروي لي قصته كالآتي:
لم اكن أدعى بالشيخ (عفا الله) فيما مضى، بل كنت اعرف (بسرحان) وهو اسمي الحقيقي، وكان لي أخ يدعى (محمد الرخ) كان إماما لمسجد القرية التي نشأت فيها. وكان قد تجاوز الأربعين، بينما كنت في السابعة عشر. أو كنت اعتبره كأبي واحبه حبا عظيما وكان هو الآخر يحبني كابن له: وقد حفظني القرآن وعلمني أصول الدين وأشركني معه في خدمة المسجد. وكنت قد بدأت أتعلم الصفير في ذلك العهد على شيخ طريقة مجذوب يجيد التوقيع على الصفارة وإنشاد القصائد الصوفية. ولما برعت في الصفير كان يلتف حولي على باب الجامع. بعد العشاء. جمع كبير من الفلاحين يستمعون إليَّ.
وكانت زوجة أخي قد توفيت منذ عام، فتزوج بفتاة في الخامسة عشر لم تقع عيني على املح منها. لها جاذبية غريبة سحرتني وخبلت عقلي. رأيتها للمرة الأولى فلم أتمالك أن أحببتها حبا تملك على جميع مشاعري وكبلني بالرغم مني بقيود ظالمة لم استطع التخلص منها. وخجلت من نفسي ومن أخي واعتبرت هذا الحب الشائن اكبر خيانة لذلك الشخص الذي وهبني حنانه وإخلاصه وثقته، وأردت أن أحطم هذه العاطفة الذميمة، ولكني لم استطع فكتمتها في قلبي ولم أبح بها الا لصفارتي! فقد كانت عزائي الوحيد في نكبتي.
وكنت أتعمد أن لا أخلو بزوجة آخي أتحاشى أن أكلمها إلا في الأمر الضروري. وكنت
امكث بعيدا عن الدار في فحمة الليل، أناجي حبي بالحان الشكاية والنوح. وحدث مرة أن كنت في موضع خلوتي غير بعيد عن الدار، اصفر في شبه غيبوبة، وأنا ملتذ بآلامي إذ شعرت بإحساس غريب فرفعت رأسي. والتفت حولي فوجدت (هنية) زوجة آخي جالسة غير بعيدة عني تنظر ألي في صمت وخشوع. فذعرت وقمت من فوري وأنا أقول:
- أنت هنا. .؟
- منذ برهة وجيزة. . . إني أحب صفيرك وأشعر عند سماعه برغبة في البكاء.
وتحركت أريد الهرب، فأمسكت بطرف جلبابي وقالت:
- لماذا لا تريد أن تجلس؟
فصرخت بالرغم مني قائلا:. .
- دعيني!
فنظرت إليَّ دهشة ولم تتكلم. ثم قالت:
- ما الذي يدعوك إلى كرهي. لماذا تهرب مني. .
وبغتة أجهشت بالبكاء. فشعرت كأن قلبي يتمزق وأن دماغي يحترق. ثم هبطت عليها دفعة واحدة، وأخذتها بين ذراعي، وأنا أقول:. .
- أنا أكرهك يا هنية!. .
وأنحنيت عليها أشبعها ضما وتقبيلا معبرا عن حبي الكبير بأحر العبارات. . وكانت الفتاة مستسلمة إليَّ في نشوة وغرام!.
وبينما نحن على هذا الحال إذ طرق سمعنا أصوات من بعيد فصحونا من حلمنا اللذيذ. ورأينا على جسر الترعة أشباحا تسير متمهلة. فاضطربت هنية وهمست في أذني قائلة:
هذا أخوك عائد مع المستأجرين.
ثم قامت دفعة واحدة وقالت:
- سوف أسبقه إلى الدار، متخذة طريق الغيط.
وقامت تعدو كالظبي المذعور، وأنا أراقبها في لهفة حتى ابتلع الظلام شبحها الجميل! وسرت أنا إلى الدار متمهلا في طريق الجسر فوجدت أخي قد جلس أمام الطعام منتظراً حضوري، ولما رآني صاح بي مداعبا:
أيصح أن تتركنا ننتظرك. تعال يا ملعون وشاركنا الطعام!. أريد أن أقص عليك كيف أجْرت الفدادين هذا العام بقيمة لم اكن احلم بها.
وجاءت (هنية) ووضعت العيش أمامنا. وجلست مبتعدة قليلا عنا. وبدأنا نأكل. وكنت منهمكا في تفكيري، لا أفهم شيئاً مما يرويه لي أخي، مع تظاهري بالإصغاء إليه. وكنت أرفع بصري بين وقت وآخر نحو (هنية) فأجدها مسبلة الأجفان في شبه ذهول تأكل بحركات ميكانيكية، ووجهها ممتقع. وحدث مرة أن رفعت نظرها إليّ واشتبكت عينانا. وخيل لي أن وجهي يدنو من وجهها، وأن شفتينا على وشك التلاقي. وبغتة سمعت صرخة اهتزت لها الدار فارتعت، وتنبهت لنفسي فرأيت (هنية) تشهق بالبكاء قائلة:
لا أستطيع! لا أستطيع!
وهب أخي فزعا نحوها. وضمها إلى صدره وهو يقول:
- ما لك يا هنية؟. ما لك؟.
ليس لي رغبة في الأكل. دايخة. أريد أن أنام.
- قومي يا حبيبتي لتستريحي. .
وقامت متجهة نحو حجرتها، وهي معتمدة على ذراع أخي. وكنت شاهد هذا المنظر وأنا في شبه خبل. أشعر بأني قد تحجرت وصرت جزءاً من الأرض التي كنت أنا جالس عليها.
وعاد أخي بعد هنيهة، وقال لي:
- المسكينة أجهدت نفسها اليوم في أعمال الدار.
وكنت لا أطيق أن أنظر إلى أخي في هذه اللحظة فقمت من فوري ووجهتي الباب. وسألني أخي؛
- إلى أين؟
- إلى الجامع. أريد أن اصلي العشاء. ثم أقفله أعود.
وخرجت أعدو إلى مأواي المختار (الذي قابلت فيه (هنية) منذ وقت قريب) وارتميت على الأرض أمرغ وجهي في الموضع الذي كانت جالسة فيه، وأنا أنشج نشيجا حارا وأمضيت ليلتي هناك، وأنا لا يهنأ لي مضجع. أبكي وأغفو وأحلم، ثم أصحو برجفة تزلزل جسمي،
وكان يتراءى لي شبح أخي في يقظتي ونومي. يحوم حولي يريد أن يقتلني، فكنت العنه بأشنع اللعنات. وفي الفجر غلبني نعاس عميق، لم أصحو منه الا عند الظهر. وفتحت عيني وأردت النهوض فخانتني قواي، إذ كنت أشعر بآلام شديدة وضعف هائل.
فجلست مستندا إلى جذع شجرة خلفي وأخذت استعيد قواي شيئا فشيئا. وكان الغم يخيم على قلبي، وشعور الندم الشديد يكتسح نفسي. فقمت مهرولا نحو الجامع، واعتذرت لأخي عن تأخيري بمختلف الأعذار ثم هبطت على يده اقبلها، وأنا أقول له:
أني احبك يا أخي!. واقسم بالله أني احبك حبا لم يضمره ابن لأبيه. أريد دائما أن أنال رضاك وعفوك. قل لي أتحبني!.
فأجابني:.!
- ما هذا الكلام يا سرحان. هل رأيت مني غير الحب الكبير؟. أنت ابني بل أنت افضل من ابني:.
ونظرت إلى أخي فوجدت آيات الإخلاص مرتسمة على وجهه. فأندفعت اقبل يديه من جديد؛ وأنا ابكي بصوت عال. وأنتابتني نوبة عصبية شديدة، فارتميت على الأرض في حالة تشبه الصرع. ولما أفقت وجدت نفسي ممددا في ركن من أركان الجامع وأخي بجانبي مهموم الخاطر من اجلي؛ يمرضني ويحنو عليّ.
ومضى أسبوع وأنا لا اقصد الدار الا في أوقات قليلة. وكثيرا ما كنت أتناول الطعام في الجامع، وأنام ليلا فيه، ولو استطعت لأمتنعت تماما عن الذهاب إلى المنزل. ولكني كنت احتاط للأمر حتى لا يشك أخي في سلوكي. وكنت أجاهد ما أمكن في سبيل ضبط عواطفي وأكلم (هنية) أمام أخي كلاما عاديا متحاشيا دائما النظر إليها. وإذا تصادف وخلونا نحن الاثنان برهة صغيرة ظللنا صامتين منكسي الرأس وإذا تقابلت الأعين اهتزت منا الأجسام كأن مستها الكهرباء.
ومضت الأيام والنار تأكلني أكلا، أنام نوماً سيئاً، وأقضي يقظتي في شبه أحلام مشوشة. وإذ أديت صلاتي أخطأت الأداء وكان قلبي مسرحا لمختلف الاحساسات المتباينة، الغضب والرحمة، والكفران، والتوبة والحب والبغض تتطاحن كلها باختلاط.
وتركت الدار (يوماً) بعد منتصف الليل بقليل وخرجت أعدو كالوحش المطعون وأنا أردد:
- أنه معها في الحجرة. إنها له. . وهو يتمتع بها. . .
وهمت على وجهي لا أدري أي وجهة اقصد. وأخيرا وجدت نفسي أمام الجامع فدخلته بدون وعي وارتميت على الأرض أعض يدي واضرب رأسي في الحائط، وأنا ما زلت أردد قولي: انه معها في الحجرة. . إنها له. وهو يتمتع بها. . .
وبينما كنت على هذه الحالة، شعرت بيد وضعت على كتفي. فالتفت مذعورا. فإذا (هي) أمامي. . هي (هنية) في تلك الساعة الموحشة من الليل، وفي ذلك المكان المنعزل. فأخذتها بين ذراعي بلا كلام واحتضنتها بوحشية وأنا أهذي.
وأمضيت معها ساعة غرام عنيفة، من أشهى ساعات الوجود. وأقسم لك انه ليس على وجه الأرض منذ خلقت الدنيا شخص نال مثلي نعيم تلك الساعة. إنها ساعة تساوي أعماراً بأكملها.
وبعد ذلك نمنا متعانقين. . . وتنبهت فإذا الباب يقرع. وإذا ضوء الشمس يغمر المكان، وسمعت صوت أخي يقول:
- افتح يا سرحان
فوجدتني أجيب بلا وعي:
- سأفتح في الحال
وكان للجامع نافذتان مشبكتان بالحديد. وليس ثمة مخبأ تستطيع أن تختبئ فيه هنية أو منفذ تنفذ منه إلى الخارج. فأختبل عقلي. ولكن خاطراً مر برأسي فقلت لها هامسا!
- أصعدي إلى السطح. . أصعدي سريعاً
فقامت هنية وصعدت في الحال إلى السطح؛ وقمت أنا إلى الباب ففتحته. وتظاهرت بالفتور الشديد ودخل أخي وعليه شيء من مظاهر الغضب. وقال:
- أما زلت تنام في المسجد يا سرحان؟ اليس لنا دار تسعك معنا؟
- يحلو لي الآن أن أتعبد في المسجد حتى مطلع الفجر!. .
وجلس أخي صامتا. وبعد برهة تكلم بلهجة قلقة.
- لقد أستيقضت من النوم؛ فلم أجد هنية بجانبي. وقد بحثت عنها طويلا في الدار فلم اعثر عليها. .
فارتجفت. ولكني تغلبت على ضعفي وقلت:
- لعلها تكون قد خرجت لتملأ جرتها من الترعة
- ربما. . إنما. . . .
ثم ابتلع ريقه وتمتم بكلمات لم أفهمها وقام وقال:
- هيا نصل الصبح!
وقمنا إلى الصلاة. ولكن أي صلاة هذه التي أديتها في ذلك الوقت. كانت صلاة للشيطان لا لله! وأنتهت الصلاة. وبدأ الناس يفدون على الجامع وأصبحت في حالة يرثى لها. وأخيراً خرج أخي عائداً إلى الدار. وما كاد يفعل حتى انسللت صاعدا إلى سطح الجامع لأدبر حيلة لهرب هنية. وما كانت أشد دهشتي حينما رأيت السطح خالياً. ودرت فيه وأنا كالمخبول، ابحث هنا وهناك. وشعرت بإحساس غريب يجذبني نحو حافة السطح. وما كدت أشرف منه إلى الأرض حتى صرخت مرتاعاً. ووجدت نفسي بعد لحظة على الأرض ولا أدري كيف نزلت. وكانت هنية ملقاة بجوار الجدار تئن أنينا خافتا فدنوت منها وأنا في جزع ولهفة وأمسكت بها وسألتها عما أصابها ففتحت عينيها بصعوبة وقالت:
- لقد انكسرت يا سرحان. انكسرت!
وكانت تعض على شفتيها محاولة كتم تأوهاتها!
فاحتضنتها وأنا أواسيها وأشجعها. وسمعتها تقول:
- آلامي لا تطاق. . أني أموت!
وحملتها بكل عناية واحتراس. وأنا أكاد اجن من الحزن، وذهبت بها إلى دار أم عبد الجليل. وكانت امرأة وفية ولي محبة. وأخبرتها بشيء من الحقيقة ورجوتها أن تذهب إلى أخي لتبلغه خبرا ملفقاً. فقامت المرأة من فورها إلى داره.
ونقلوا هنية إلى دارنا وقد أشاعت أم عبد الجليل أنها سقطت من سطح منزلها بينما كانت تأتي بوقود لها!
ومضى يومان وهنية تعيش في أتون متقد من آلام لا يتصورها العقل. أما أنا فكنت أذهب إلى زريبة المواشي، وأحكم أقفالها عليّ. ثم انهال على وجهي باللطم. وأنفجر في نواح طويل وأنا أقول:
- أنا سبب كل هذا!. أنا الذي يجب أن يعذب!. أنا الذي يجب أن يموت!
وماتت هنية في اليوم التالي ودفناها في قرافة القرية باحتفال بسيط. أما حالتي يوم وفاتها فقد اعتراني خبل غريب، فلم أصدق أنها ماتت. وكنت أؤدي عملي الذي كلفت به في مأتمها ببساطة وهدوء، بل كان يعتريني بعض الأحيان نوبات ضحك يعقبها خمول ووجوم. ولكن بعد أيام بدأت أشعر برد فعل شديد، فأخذت أهيم في الغيطان؛ وأختبئ في الذرة، وأنا ابكي وأندب بلا انقطاع. وأخيرا هدأت حالتي نوعا فعدت إلى عملي في الجامع. ولكن مرآي ذلك الجامع كان يزيد شجوني وعذابي. فتتمثل أمامي جريمتي كلما وطئت عتبته ويخيل لي أني أسمع صوت سقوط جسم من أعلى السطح إلى الأرض. فتعتريني قشعريرة واخبىء وجهي في يدي وأجهش بالبكاء.
لقد عملت المستحيل لكي أضلل أخي؛ وأبعد شكه من ناحيتي وتحملت أكبر العذاب في سبيل إخفاء جرمي. ولم اكن أجسر على النظر إليه. وكان يخيل إلي أنه يرفع يده في وجهي يريد سحقي.
ومضت الأيام وسري ينمو ويتضخم في قلبي فأشعر بثقله الهائل. ويخيل ألي في كل وقت إن قلبي يتمزق وان السر يطير منه ويعلن إلى الملأ فضيحتي. وكانت أيام عذاب لا أظن عذاب الجحيم يفوقها.
وفي ليلة عقب صلاة المغرب خرجت لأروح عن نفسي قليلا فقادتني قدماي، بدون شعور، إلى المكان الذي سقطت فيه هنية بجوار حائط الجامع. وبغتة قابلت أخي وجها لوجه ولا أدري ما لذي أرسله إليّ في هذه الساعة وفي هذا المكان. أهي المصادفة أم شيء آخر. لا ادري!. ووقفنا أمام بعضنا بالقرب من ذلك الجدار الرهيب. وشملنا الصمت برهة. وبغتة وجدت نفسي أصرخ وأقول:
- لا تقربني!. لا تقربني!.
وأندفعت أجري كالمجنون أهيم على وجهي. وكان هذا آخر عهدي بأخي وبتلك الديار!. وأخذت منذ ذلك الوقت أطوف المدن، وأعيش عيشة الطريد الشريد.
ثم أطرق الشيخ عفا الله صامتا. وشاهدت دمعة تتحدر في بطأ على خده. فقلت وأنا شديد التأثر بما سمعت.
- لماذا لا تعود إلى صلاحك، وتطلب مغفرة الله.
فرفع عينيه وقال:
- لقد تألبت عليْ الأقدار. وسأظل حتى النهاية ذلك المتمرد العاصي.
ثم سحب صفارته من عبه في هدوء وأخذ يوقع عليها لحنا شجيا فيه معنى الصبابة والتضحية. وكان منتشياً، بلحنه يتذوق آلامه الدفينة في شبه غيبوبة مسكرة.
في الأكاديمية الفرنسية
انتظم في سلك الأكاديمية الفرنسية أخيرا عضوان جديدان هما الكاتب القصصي بيير بنوا، والمؤرخ الأشهر جوسلان لينتر. والأول هو أصغر (الخالدين) سنا. فهو لا يتجاوز الأربعين من عمره، مع أنه لا يرقى في الغالب إلى هذا الشرف الرفيع سوى رجال قطعوا معظم مراحل العمر وأشرفوا على الستين أو السبعين. وينتمي بيير بنوا إلى أسرة من الضباط وقد كان أيام الحرب الكبرى ضابطاً في الجيش. فلما انتهت الحرب عاد إلى الأدب. وسرعان ما ظهر في ميدانه، وحاز ذروة الشهرة حينما اخرج روايته الأخيرة (الاتلانتيد). وهو يتربع اليوم في كرسي المؤرخ الشهير لافيس.
وأما المؤرخ لينتر، فهو باحث محقق اشتهر بالأخص بتحقيقه في تاريخ الثورة الفرنسية، وله في ذلك (باريس أيام الثورة) و (سقوط الجيرونديين) وقد اشتهر بتاريخ مختصر كتبه عن نابليون يمتاز بطرافته وفكاهته وقد حل في الأكاديمية مكان الروائي الشهير (رنيه بازان) وهو يربى على السبعين من عمره، ولكنه ما زال وافر الإنتاج يشتغل في التحرير في جريدة (الطان) ويكتب فيها باب (التاريخ الصغير).
العالم المسرحي والسينمائي
بنات اليوم على مسرح رمسيس
للأستاذ محمد توفيق يونس
بدأ الموسم التمثيلي هذا العام متأخرا عن موعده العادي، وكان أسبق الأيدي إلى هصر الستار عنه فرقة رمسيس بتمثيلها رواية (بنات اليوم) لمديرها الأستاذ يوسف وهبي. وهي قطعة ناجحة في أربعة فصول شائقة الموضوع، قوية الحوار، سريعة الحركة الا أن فيها بعض الطول. وكلامنا عن الرواية يتناول أمرين موضوعها وبناءها. أما الموضوع فحيوي جليل خليق بالعناية والنظر، هو موضوع الأسرة المصرية الذي طالما أثار الانتقاد، وبعث على الشكوى.
فبنات اليوم من الروايات ذوات الفكرة التي تبحث في نظام الأسرة وتنبه إلى الخطر الذي تتعرض له من الزواج المبني على اختلاف المشارب، وتباين الطباع، وتنافر الأهواء،
الذي تعقده المصادفة ولا يقوم على أساس من حرية الاختيار وائتلاف المزاج.
أحسن المؤلف اختيار موضوعه وأجاد بسطه وإن كان قد عنى بالتأثير أكثر من عنايته بالتحليل والتعليل.
جمع المؤلف بين اثنين مختلفي الأفكار برباط الزواج وقد نكد حظ الزوج به وساء طالعه فزوجته تختلف عنه عقلية ومزاجاً ولكنه سرعان ما يجد في أختها (لطيفة) فتاة تستطيع أن تفهم سر نفسه وتنظم أمور حياته. ويحلو الحب للعاشقين ولكن الزوجة (خديجة) تعلم أمرهما إذ يعثر أبوها على رسائل باللغة الفرنسية تبادلها الحبيبان فيطلب منها قراءتها فتعرف الحقيقة ولكنها تكتمها، مدعية أن ليس فيها ما يريب. ولكن لطيفة تحمل فتأتي إلى عيادة حبيبها وزوج أختها (الدكتور صادق) ليجهضها بعد أن ادعت أنها مسافرة لضيعة إحدى قريباتها. ولكن خديجة تفاجئها فإذا علمت أن أختها في خطر نسيت نفسها واهتمت بأمرها. ولكن الحالة تتحرج بدخول (سامي) خطيب لطيفة وابن عمها. وتنقذ الزوجة الموقف ثانياً فتدعي أن أختها اصطدمت بسيارة فجاءت إلى الطبيب.
تنقضي فترة من الزمن يأتي بعدها عم لطيفة يطلب يدها لأبنه سامي فيوافق الأب ولكن الابنة ترفض فلا يأبه لها ويمضي في تنفيذ إرادته. وتخلو لطيفة بابن عمها فتعلن إليه أنها لا تستطيع أن تقبله زوجاً لأنها لا تحبه. ويعود الأب فيملي عليها إرادته ولكنها لا تطيع، فيثور ويحتد فتضطر الفتاة إلى أن تعلن أن رفضها للزواج من أبن عمها إنما كان لإنقاذه وتسأل سامي أيقبل أن يتزوج من فتاة ساقطة سلمت نفسها لغيره. فيجن جنون الأب ويسألها عن الجاني فيخبره صادق بالواقع بعد أن ينبئه أن جهله وغطرسته وتشبثه بتزويج ابنته الكبرى قبل الصغرى كالتاجر الذي يريد التخلص من بضاعته القديمة قبل الجديدة قد دفعهما إلى هذا الموقف الأليم. لكن الأب لا يسمع ولا يرحم فإذا البيت شعلة من نار تحاول لطيفة أن تطفئها فتلقي بنفسها في النهر فيلحق بها صادق وسامي.
وتنجو لطيفة ويطردها أبوها فتبحث عن عمل فتلجأ إلى بيت حقير يأويها. أما صادق فيسجن لقاء جريمته ثم تنقضي مدة السجن فيعود إلى حبيبته ويتفقان على أن يغادرا البلاد معاً ليستأنفا الحياة من جديد. ثم تقبل خديجة وابنها ترجو من زوجها أن يتركه لها فيودعهما باكياً مستغفراً. ولهذا الموقف أثره في نفس لطيفة فتأبى الرحيل مع صادق حتى يبقى
لزوجته وابنه وتسأل سامي إن كان يقبل توبتها ويرضى بها زوجة فيوافق راكعا.
هذا مجمل الرواية أو بالأحرى مجمل الحادث الأصلي فيها ولم نعرض من الأشخاص إلا الأساسيين في العمل. فالرواية مليئة بالحوادث مزدحمة بالأشخاص وكان أجدر بالمؤلف أن يسير إلى غايته قدما حتى لا يضعف أثر الحادث الأصلي في الرواية ولا يقطع سلسلة العمل الأساسي بمشاهد ثانوية وشخصيات فضولية. هذه المشاهد في ذاتها قوية الوضع وتلك الشخصيات خفيفة الظل، ولكن قيمتها بالنسبة إلى الرواية ضئيلة وصلتها بها واهية، وأثرها عكسي في الواقع يخمد من حدة الشعور ويعوق وجهة الدفع الروائي نحو النهاية.
وكذلك يقطع العمل أثناء الرواية بحلول تكاد تكون حاسمة يمكن أن تقف الرواية عندها والروايات الحديثة تنتهي دون خاتمة ولا حل تاركة المجال للتفكير والتأمل.
وفي الرواية شيء من التصنع كتصريح الزوج انه هو المعتدي على عفاف أخت زوجته، وعلى عمل الأب على زج زوج ابنه في السجن مع ما في ذلك من فضيحة للأسرة جميعها.
إذا غضضنا النظر عن هذه المآخذ استطعنا أن نقول أن الرواية جميلة قوية مؤثرة ذات مواقف درامية صادقة ومناظر إنسانية رائعة تسترعي سمع المشاهد وتأسر لبه.
ولا عجب فقد درس الأستاذ يوسف وهبي المسرح وخبر الجمهور فضرب على أوتاره الحساسة واستطاع أن يظفر منه بالإعجاب والإقبال ولا يسعنا نحن الا أن نحييه ونهنئه ونرحب به عاملا من عوامل بناء المسرح المحلي.