المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 10 - بتاريخ: 01 - 06 - 1933 - مجلة الرسالة - جـ ١٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 10

- بتاريخ: 01 - 06 - 1933

ص: -1

‌من بريد الرسالة

بين الرسالة والمرأة

في بريد الرسالة بالأمس كتاب بالفرنسية، أنيق الشكل، جيد الخط، رائق الأسلوب، في رأسه وفي ذيله قرأته فذكرت بأسلوبه وإمضائه تلك المقالات الرقيقة التي كانت تتألق بالذكاء النسوي المصري في صدر (الليبرتيه) أيام كان يصدرها الأستاذ (ليون كاسترو). وسواء أكانت (الحياتان) واحدة أم اثنتين، فأن الأدب الذي يصدر عن هذه النفس والثقافة التي تظهر في هذا الأدب، يحملاننا على أن نناقش الآنسة الفاضلة في هدوء المنطق، ونعاتبها في حدود الرفق، ولا أقول إني أصطنع القول اللين، والحجاج الهين، لأن ذلك واجب الرجل في خطاب المرأة، فأن الآنسة تقول:(وما اعترفت منذ عرفت الرجل وسبرت قواه في مطالعاتي واختباراتي أن له من المزايا الفطرة ما يجعله قيماً على المرأة، وأن من هوان نفسي عليّ أن أقبل منه العطف لأني ضعيفة، أو اللطف لأني امرأة. . .)

شغلت الآنسة الصفحة الأولى من كتابها، بتقريظ الرسالة وكتابها ونحن مع الشكر لها نعتقد مخلصين أن مجهود الرسالة لا يزال لضآلته أبعد ما يكون عن تحقيق الأمل واستحقاق الحمد، ثم قالت:(ليس قصدي من هذه الكلمة أن أكون معك أو عليك فيما كتبته موفقاً عن المرأة، فأني أعتقد أن هذه المسألة لا تتعلق إلا بنا، ولا يكون الحكم فيها إلا لنا، وما دخول الرجل فيها إلا أثر من اعتقاده القديم أن في يده زمام هذا الجنس المنكوب يرخيه ويشده على هواه ` والأمر لا يخرج على كونه نظاماً طبيعياً يجري على سنة الحياة من هيمنة القوة على الضعف، وطغيان الأثرة الباغية على العدل الذليل. . . فحرية المرأة كحرية الأمة سبيلها الفعل وحجتهما القوة، أما الدفاع بالقول والإقناع بالحق فأصوات مبهمة كزفيف الريح المحبوسة في مخارم الجبل لا تدل على الطريق ولا تساعد على الفرج. لا أقصد كما قلت أن أناقش رجلاً في موضوع لا شأن له به، إنما أريد أن أقول لك إذا كان رأيك في المرأة هذا الرأي، وعطفك عليها هذا العطف، فلم حرمتها أن يكون لثقافتها مظهر في الرسالة بجانب ثقافة الرجل؟ فإن من يقرأ الرسالة في غير مصر يظنها تصدر عن بلاد كبلاد (الأسطورة الصينية) ليس فيها امرأة. .

سأنزل في الجواب على إرادة الآنسة (حياة) فلا أخوض معها في حديث المرأة، ولا أعتب

ص: 1

عليها في انتقاص الرجل، مادام الفصل في خصومة الجنسين للطبيعة لا لأحدهما.

سأقصره إذن على ما أخذته الآنسة على الرسالة من إغفالها ثقافة المرأة، ونحن في ذلك إنما نجري على مذهبها الذي ارتضته وأعلته فلم نرد أن يتحدث الرجال عن شؤون النساء الخاصة، وفتحنا الباب ومنعنا أن يدخل منه غير أهله، ثم انتظرنا أن يصل إليه شيء يدل بقيمته وقوته على النهضة النسائية المزعومة، فلم يأتنا بعد تسعة أعداد من الرسالة إلا كتابان: أحدهما منك والآخر من آنسة تسمى (عفيفة سيد، شارع الشيخة صباح، طنطا).

فأما كتابك يا سيدتي فقد قبلته الرسالة (موضوعاً) ورفضته (شكلاً) لأن كتابك إياه بالفرنسية الخالصة تدل على تلك الثقافة الشوهاء التي لا ترضاها الرسالة للفتاة. فهل تظنين أن العربية تقل جمالاً في الفم الجميل والقلم المذهب عن الفرنسية؟ وهل تظنين أن جَرْس العربية يقل إمتاعاً في الصالون، وإيقاعا في (النجوى) عن جرس الفرنسية؟ وهل تعتقدين أن المصرية لا تكون حديثة لنشأة ولا عصرية الثقافة إلا إذا كتبت بالفرنسية، أو ارتضخت لكنة أجنبية؟ إن المصارف والمتاجر والشركات وأرباب الامتيازات يحتقرون العربية لأنهم (الانديجين) وأولئك الانديجين لا يزالون من خدر الذل في بلادة صماء يضيع فيها وخز الإهانة! ولكنك يا سيدتي تسمين حياة، وتشيرين في كتابك إلى حفظ القرآن وإقامة الصلاة. فكيف تسيئين بنفسك إلى كرامتك. وبيدك إلى لسانك!؟

هذا كتابك وهو في رأيي محتاج إلى عفو الوطن. أما كتاب الآنسة الأخرى فهو بالعربية، ولكنه عبث طفلي ترجين وأرجو أن يقف داؤه عند الآنسة (عفيفة) أتدرين علام لصقت غلافه؟ لصقته على رسالة ومقالة! فالرسالة تعتب علينا في إغفالنا باب المرأة. وترغب إلينا في نشر المقالة (وهي كما تقول قطعة بقلمها تشجيعاً لها ولزميلاتها على الكتابة. .) والمقالة عنوانها (قبلة حية في رسالة) وتقرئيها، ومعاذ الله إن تقرئيها، فإذا المتكلم عاشق داعر، وإذا المخاطب معشوقة هلوك!! فخبريني يا سيدتي هل استجملت الناقة، أم طبقت الآنسة مذهب (لاجارسون) حتى في هذه العلاقة؟ وهل يروقك بعد ذلك إن تكون لثقافة المصرية في الرسالة هذا المظهر الأجنبي، أو ذلك العبث الخلقي؟؟

بين النجف وبغداد

روينا في هذا المكان من العدد الثامن إن وزارة المعارف العراقية، رغبت في تغيير

ص: 2

الأناشيد المدرسية، فقدمت إليها على الفور (جمعية الرابطة الأدبية في بغداد) ثلاثين نشيداً. . . ولكن كتاباً من النجف جاءنا اليوم يصحح الرواية ويقول:(إن الأناشيد نتاج قرائح الرابطة العلمية الأدبية بالنجف الأشرف مركز الثقافة العربية) ونحن نعلن هذا التصريح ونزيد عليه إن الشعر في العراق فراتي لا يستسيغ (كثيراً) ماء دجلة، ولنا على هذا الرأي تدليل سننشره في يوم قريب. ولئن عناك أن تسأل بعد ذاك عما صنعته (الرابطة الأدبية في بغداد) فأعلم إنها شربت الشاي مرة عند الرئيس، ومرة أخرى عند أحد الأعضاء، ثم أدركها الحر فرقدت بجانب (جمعية الثقافة العربية) في سرداب! ومن الذي تظنه يوقظها وقد هاجر البؤس بالرصافي إلى قرية الفلوجة، وظفر النعيم بالزهاوي إلى جوار الملك في شارع الأعظمية؟؟

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌إلى الدكتور طه حسين من الأستاذ توفيق الحكيم

يا دكتور

يعنيك طبعاً أن تعلم كيف يرى الجيل الجديد عملك وعمل أصحابك، إن رسالتي إليك ليست حكماً يصدره الجيل الجديد، إنما هي تفسير لذلك العمل، لك أن تقره ولك أن تنكره. لا ريب إن العقلية المصرية قد تغيرت اليوم تحت عصاك السحرية، كيف تغيرت؟ هذا هو موضوع الكلام، إن شئون الفكر في مصر حتى قبل ظهور جيلك كانت قاصرة على المحاكاة والتقليد، محاكاة التفكير العربي وتقليده، كنا في شبه إغماء، لا شعور لنا بالذات، لا نرى أنفسنا ولكن نرى العرب الغابرين، لا نحس بوجودناولكن نحس بوجودهم هم، لم تكن كلمة (أنا) معروفة للعقل المصري. لم تكن فكرة الشخصية المصرية قد ولدت بعد. رجل واحد لمعت في نفسه تلك الفكرة فأضاء لكم الطريق:(لطفي بك السيد)، وسرتم ركضاً حتى بلغتم اليوم هذه الغاية، وإذا الجيل الجديد أمام روح جديدة وأمام عمل جديد. لم يعد الأدب مجرد تقليد أو مجرد استمرار للأدب العربي القديم في روحه وشكله، وإنما هو إبداع وخلق لم يعرفهما العرب. وبدت الذاتية المصرية واضحة لا في روح الكتابة وحدها بل في الأسلوب واللغة أيضاً، من ذا يستطيع أن يرد أسلوب طه حسين إلى أصل عربي قديم؟ بون شاسع بين الأمس واليوم. حتى أمس القريب كانت مقامات الحريري ورسائل عبد الحميد وبديع الزمان مثلاً تحتذي في كتابات حفني ناصف والمويلحي وغيرهما ممن رسفوا في أغلال التقليد راضين أو مرغمين. لقد بدأنا نعي ونحس بوجودنا، وأول مظاهر الوعي شخصية الأسلوب واستقلال طريقة التعبير وما يتبعها من ألفاظ وأخيلة، بهذا يبشر صاحبكم احمد أمين اليوم، ويصيح في هذا الجيل كي ينظر فيما حوله ويعبر عما يراه بخياله هو لا بخيال العرب. كل هذا جلي معروف، ولم أبعث برسالتي من أجله، حاجة مصر إلى الاستقلال الفكري أمر لا نزاع اليوم فيه، وعملك أنت وأصحابك لهذا الاستقلال أمر لا نزاع فيه أيضاً. ولقد مضى كلامكم في هذا، إنما الأمر الذي يحتاج إلى كلام هو معرفة مميزات الفكر المصري. معرفة أنفسنا: حتى تتبين لجيلنا مهمته. هذه هي المسألة، لقد فهمنا عنكم مميزات الأسلوب والشكل، وما فهمنا بعد جيداً مميزات النفس والروح، ما هي مميزات العقلية المصرية في الماضي والحاضر والمستقبل؟ ما روح مصر؟

ص: 4

ما مصر؟ إن اختلاطنا بالروح العربية هذا الاختلاط العجيب كاد ينسينا إن لنا روحاً خاصة تنبض نبضات ضعيفة تثقل تحت ثقل تلك الروح الأخرى الغالبة. وإن أول واجب عليكم لنا استخراج أحد العنصرين من الآخر. حتى إذا ما تم تمييز الروحين إحداهما من الأخرى كان لنا أن نأخذ أحسن ما عندهما، وكان لكم أن تقولوا لنا:(ها نحن أولاء أنرنا لكم الطريق إلى أنفسكم فسيروا) لا بد لنا إذن أن نعرف ما المصري وما العربي؟ هذا السؤال ألقيته على نفسي منذ ست سنوات إذ كنت ادرس الفنين المصري والإغريقي. وكانت المسالة عندي وقتئذ: ما المصري وما الإغريقي؟ وأذكر أني أثرت هذه المسألة أمام بعض أصدقائي في حي (مونبارناس)، أذكر أني لخصت لهم الفرق بين العقليتين بمثل واحد في فن النحت سائلاً: ما بال تماثيل الآدميين عند المصريين مستورة الأجساد وعند الإغريق عارية الأجساد؟ هذه الملاحظة الصغيرة تطوي تحتها الفرق كله، نعم كل شيء مستتر خفي عند المصريين، وعار جلي عند الإغريق، كل شيء في مصر خفي كالروح، وكل شيء عند الإغريق عار كالمادة. كل شيء عند المصريين مستتر كالنفس، وكل شيء عند الإغريق جلي كالمنطق. في مصر الروح والنفس، وفي اليونان المادة والعقل. نظرةٌ أخرى في أسلوب النحت تدعم هذا الكلام. أن المثّال المصري لا يعنيه جمال الجسد ولا جمال الطبيعة من حيث هي شكل ظاهر، إنما تعنيه الفكرة، انه يستنطق الحجر كلاماً وأفكاراً وعقائد. على انه يشعر مع ذلك بالتناسق الداخلي، يشعر بالقوانين المستترة التي تسيطر على الأشكال، يشعر بالهندسة غير المنظورة التي تربط كل شيء بكل شيء، يشعر بالكل في الجزء، وبالجزء في الكل، وتلك أولى علامات الوعي في الخلق والبناء؛ هذا كله يحسه الفنان المصري لأن له بصيرة غريزية أو مدبرة تنفذ إلى ما وراء الأشكال الظاهرة لتحيط بقوانينها المستترة، فنان عجيب لا يصرفه الجمال الظاهر للأشياء عن الجمال الباطن. إنه يريد أن يصور روح الأشكال لا أجسامها، وما روح الشكل إلا القانون العام الأعلى المستتر خلفه؛ إن ولع المصريين بالقوانين الخفية لشيء يبلغ حد المرض، مرض إلهي، لو أن الآلهة تمرض لكان هذا مرضها: فرط البحث عن القانون! كل شئ في مصر إلهي، لأن مصر التي منحتها الطبيعة الخير واليسر وسهولة العيش وكفتها مشقة الإجهاد في سبيل المادة استلقت منذ الأزل تتأمل ما وراء المادة. . حظها في هذا حظ الهند: أمة

ص: 5

كثيرة الخير كذلك دانية القطوف لا حاجة بها إلى الكفاح ولا عمل لها إلا استمراء ترف الحكمة العليا، انقطعت هي أيضاً من قديم تحت أشجارها المقدسة تبحث عما وراء الحقيقة.

مصر والهند حضارتان قامتا على الروح لأنهما قد شبعتا من المادة، الإغريق على النقيض، أمة لم تشبع من المادة، أمة نشأت في العسر والفاقة، أرضها لا تدر من الخير إلا قليلا، كان لزاماً عليها الكفاح في سبيل العيش، وكان حتماً عليها الجري وراء المادة، حرب تلو حرب، وفتح بعد فتح، وضرب في مشارق الأرض ومغاربها، على هذا النحو لم يكن للإغريق ذلك الضمير المطمئن ولا ذلك الشعور بالاستقرار، ولا ذلك الإيمان بالأرض الذي يوحي بالتفكير فيما وراء الأرض والحياة، إن عاطفة الاستقرار والإيمان ممزوجة بالدم عند المصريين، لأن المصريين نزلوا من بطن الأزل إلى أرض مصر، لا يعرف لهم نسب آخر على وجه التحقيق، واختلاف العلماء في أمر أصلهم لم ينته بعد، وفي كل يوم يبدو دليل على أن العمران والاستقرار وجدا في مصر قبل التاريخ المعروف، ولقد ظهرت الحضارة المصرية في التاريخ تامة كاملة دفعة واحدة، كما يظهر قرص الشمس في الأفق عند الشروق، ولقد قال سولون: إن الكهنة المصريين يعنون العناية كلها بذكريات تلك القارة العظيمة ذات المدنية الزاهرة التي أبتلعها المحيط قبل مبدأ التواريخ: (قارة الأتلانتيد). أترى كانت الحضارة المصرية استمراراً لتلك المدنية المندثرة؟. . . لم يقم دليل، على كل فرض. مصر أمة مستقرة مؤمنة زهدها عمرها الطويل وخيرها الكثير في مباذل الحياة، وهذا الزهد والتفكير فيما وراء الحياة ظهر أثرهما على وجه الفن المصري، ولا شيءيدل على عواطف أمة وعلى عقليتها مثل فنها. فلقد طالع العالم الحديث على وجه الفن المصري الصرامة والجد والعمق ولا أكاد أفتح كتاباً في الفن المصري حتى أجد كلمة (الصرامة) نعتاً من نعوت هذا الفن، ولا أفتح كتاباً في الفن الإغريقي إلا وجدت كلمة (الحياة) وكلمة (الإنسانية) من نعوت هذا الفن، نعم. الحياة هي كل شيء عند الإغريق، قد يدفعهما حب البحث إلى لمس حدود الحياة الأخرى فيلمسونها بالعقل والمنطق لا بالقلب والروح. فلسفتهم فلسفة العقل والمنطق والحياة، فلسفة الحركة لا فلسفة السكون، عند مصر والهند السكون، عند الإغريق الحركة، قرأت حديثاً (المقبرة البحرية) لـ (بول فاليري) وهو المتصل اتصالاً مباشراً بالفلسفة اليونانية. فإذا هو يشير في القصيدة إلى الحركة

ص: 6

والسكون، وإذا الحركة عنده من خصائص الكينونة الواعية الفانية، والسكون من خصائص العدم الخالد غير الواعي، وهو يعارض زينون الألياتي في إنكاره للحركة ويتغنى في آخر القصيدة بانتصار الحركة على قصرها وفنائها، فهو في ذلك لم يخرج عن يونانيته المكتسبة. ولم يفهم في رأيي روح مصر والهند، ولم يشرف على ذلك العالم الخالد غير الواعي، كان دون هذا الإشراف والاتصال والتجرد التام من كل عقل آدمي أو منطق بشري، هذه هي الصعوبة في فهم مصر والهند، وهذا ما جعل الفن المصري سراً مغلقاً حتى أوائل هذا القرن، وما صرف الناس إلى دراسة اليونان وحدها، فهي واضحة المعنى يسيرة المنال. لأنها لزمت شاطئ الحياة.

حظ الإغريق في كل هذا حظ العرب. العرب أيضاً أمة نشأت في فقر لم تعرفه أمة غيرها، صحراء قفراء، قليل من الماء يثير الحرب والدماء، جهاد وكفاح لا ينقطعان في سبيل العيش والحياة، أمة لاقت الحرمان وجهاً لوجه، وما عرفت طيب الثمار وجري الأنهار ورغد العيش ومعنى اللذة إلا في السير والأخبار، كان حتماً عليها ألا تحس المثل الأعلى في غير الحياة الهنيئة، والجنات الخضراء، والماء الجاري، وألوان النعيم واللذائذ التي لا تنضب ولا تنتهي، أمة بأسرها حلمت بلذة الحياة ولذة الشبع، فأعطاها ربها اللذة ومنحها الشبع. كل تفكير العرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة، لذة سريعة منهومة مختطفة اختطافاً، لأن كل شيْ عند العرب سرعة ونهب واختطاف، عند الإغريق الحركة، أي الحياة، وعند العرب السرعة، أي اللذة، لم تفتح أمة العالم بأسرع من العرب، ومر العرب بحضارات مختلفة فاختطفوا من أطايبها اختطافاً ركضاً على ظهور الجياد، كل شيء قد يحسونه إلا عاطفة الاستقرار. وكيف يعرفون الاستقرار وليس لهم أرض ولا ماضٍ ولا عمران! دولة أنشأتها الظروف ولم تنشئها الأرض، وحيث لا أرض فلا استقرار، وحيث لا أستقرار فلا تأمل، وحيث لا تأمل فلا ميثولوجيا ولا خيال واسع ولا تفكير عميق ولا إحساس بالبناء، لهذا السبب لم تعرف العرب البناء، سواء في العمارة أو الأدب أو النقد، الأسلوب العربي في العمارة من أوهى أساليب العمارة التي عرفها تاريخ الفن، وإذا عاش لليوم فإنما يعيش بالزخرف، فن الزخرف العربي أنقذ العمارة العربية، إن العمارة العربية ـ إلا في مصر ـ ما هي في رأيي سوى زخرف لا بناء، فلا أعمدة هائلة ولا جبهة

ص: 7

عريضة ولا وقفة قوية ولا بساطة عظيمة ولا روعة عميقة، إنما هي وشي كثير وجمال كجمال الحلي المرصع يهز البصر ولا فكر خلفه. أما فن الزخرف العربي فهو في الحق أجمل وأعجب فن للزخرف خلده التاريخ. والزخرف عند العرب وليد ذلك الحلم باللذة والترف، كل شيء عند العرب زخرف. الأدب نثر وشعر لا يقوم على البناء، فلا ملاحم ولا قصص ولا تمثيل، إنما هو وشي مرصع جميل يلذ الحس، فسيفساء اللفظ والمعنى، و (آرابسك) العبارات والجمل. كل مقامة للحريري كأنها باب جامع المؤيد، تقطيع هندسي بديع. وتطعيم بالذهب والفضة لا يكاد الإنسان يقف عليه حتى يترنح مأخوذاً بالبهرج الخلاب، كذلك الغناء العربي (آرابسك) صوتي، فلا مجموعة أصوات متسقة البناء كما في (الديتيرامب) أو (الأوركسترا) الإغريقية أو كما في (الكورس) الجنائزي المصري، ولا حتى مجرد صوت ينطلق حراً بسيطاً مستقيما. إنما هو صوت محمل بألوان المحسنات من تعاريج وانحناءات والتواءات وتقاسيم كأنها (ستالاكتيتات) غرناطية، لا يكاد يسمعه (القاضي الفاضل) حتى يستخفه الطرب ويضع نعله فوق رأسه؛ كان هذا في العهد الأول للموسيقى إذ كانت عند جميع الشعوب بسيطة عارية تخرج من القلب تعبيراً عما في القلب، أو رمزاً لفكرة من الأفكار. والموسيقى كالعمارة من الفنون الرمزية لا الشكلية، ولكن العرب لا يحبون الرموز، ولا طاقة لهم بالفن الرمزي، ولا يردون إلّا التعبير المباشر بغير رموز، وإلا الصلة المباشرة بالحس، فجعلوا من الموسيقى لذة للأذن لا أكثر ولا أقل، ولقد حاول الفارابي فيما أذكر التقريب بين الموسيقى العربية والموسيقى الإغريقية، وكان لا بد له من الإخفاق لأسباب قد أذكرها بعد، كذلك التصوير العربي على جماله ودقته ليس إلا مجرد تزيين وزخرف للكتب والمخطوطات لم يؤَدِ لغير تلك الغاية (المنياتور) الفارسي. قد يكون للدين دخل في تأخر النحت والتصوير عند العرب، غير أني أعتقد براءة الدين. أن العرب كانوا دائماً ضد الدين كلما وقف الدين دون رغبات طبائعهم، لقد حرم الدين الشراب، فأحلوا هم الشراب في قصور الخلفاء، وما وصفت الخمر ولا مجالس الخمر في أدب أمة بأحسن مما وصفت في الأدب العربي، لا شيء في الأرض ولا في السماء يستطيع أن يحول بينهم وبين اللذة، أما النحت أو التصوير الكبير فليس في طبيعتهم، لأن تلك فنون تتطلب فيمن يزاولها إحساساً عميقاً بالتناسق العام مبناه التأمل الطويل والوعي

ص: 8

الداخلي للكل في الجزء وللجزء في الكل، وليس هذا عند العرب، فهم لا يرون إلا الجزء المنفصل وهم يستمتعون بكل جزء على انفراد، لا حاجة لهم بالبناء الكامل المتسق في الأدب، لأنهم لا يحتاجون إلا للذة الجزء واللحظة، قليل من الكتب العربية في الأدب تقوم على موضوع واحد متصل، إنما أكثر الكتب كشاكيل في شتى الموضوعات تأخذ من كل شيء بطرف سريع: من حكمة وأخلاق ودين ولهو وشعر ونثر ومأكل ومشرب وفوائد طبية ولذة جسدية، وحتى إذ يترجمون عن غيرهم يسقطون كل أدب قائم على البناء، فلم ينقلوا ملحمة واحدة ولا تراجيديا واحدة ولا قصة واحدة، العقلية العربية لا تشعر بالوحدة الفنية في العمل الفني الكبير، لأنها تتعجل اللذة، يكفيها بيت شعر واحد أو حكمة واحدة أو نغم واحد أو زخرف واحد لتمتلئ طرباً وإعجاباً، لهذا كله قصر العرب وظيفة الفن على ما نرى من الترف الدنيوي وإشباع لذات الحس، حتى الحكمة، وشعراء الحكمة كانوا يؤدون عين الوظيفة: إشباع لذة المنطق، والمنطق جمال دنيوي ولا استغرب غضب نيتشه على إيروبيد لإسرافه في هذا المنطق على حساب الموسيقى، ومن المستحيل أن نرى في الحضارة العربية كلها أي ميل لشؤون الروح والفكر بالمعنى الذي تفهمه مصر والهند من كلمتي الروح والفكر. إن العرب أمة عجيبة، تحقق حلمها في هذه الحياة، فتتشبث به تشبث المحروم، وأبت إلا أن تروي ظمأها من الحياة وأن تعب من لذتها عباً قبل أن يزول الحلم وتعود إلى شقاوة الصحراء، وقد كان. إن موضع الحضارة العربية من (سانفونية) البشر كموضع الـ (سكِيْرتزو) من سانفونية بيتهوفن: نغم سريع مفرح لذيذ!!

لا ريب عندي أن مصر والعرب طرفا نقيض: مصر هي الروح، هي السكون، هي الاستقرار، هي البناء، والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الظعن، هي الزخرف!

مقابلة عجيبة: مصر والعرب وجها الدرهم، وعنصرا الوجود، أي أدب عظيم يخرج من هذا التلقيح! إني أؤمن بما أقول يا دكتور. وأتمنى للأدب المصري الحديث هذا المصير: زواج الروح بالمادة، والسكون بالحركة، والاستقرار بالقلق، والبناء بالزخرف! تلك ينابيع فكر كامل ومدنية متزنة لم تعرف البشرية لها من نظير، إن أكثر المدنيات تميل إما إلى ناحية الروح وإما إلى ناحية المادة.

حضارة واحدة قيل أنها استطاعت في وقت ما هذا المزج بين الروح والمادة وهذا الاتزان

ص: 9

بين عنصري الوجود، تلك حضارة الإغريق. نعم أعود فأرد إلى أمة الإغريق اعتبارها، وأعترف أني عندما وضعتها في كفة المادة كنت متأثراً بكلام (تين) فضللت السبيل. (تين) عقل خلاب لكنه عقل. والعقل وحده بعيد عن فهم الجانب الروحي للمدنيات. ما هداني إلى الحق إلا القلب. . . ألا طول تأملي في جبهة (البارتينون). من دماغ ذلك الجواد الذي خلقته يد (فيدياس) فوق هذا المعبد خرجت أفكار توحي إلي بأن أولئك القوم كانوا أعمق مما نظن، وكانوا يشعرون بشيء آخر غير مجرد المادة الظاهرة، وما لبثت (ميلبومين) أن جاءتني ببينة أخرى، وتأملت قليلاً فرأيت القناع قد كشف. ذكرت أن أصل الإغريق جنسان مختلفان: اليونان القادمون من آسيا المعروفون عند الهنود باسم (اليافاناس) أي عباد (يونا) والدوريون الحربيون البرابرة الهابطون من الشمال، اله اليونانيين:(ديونيزوس) إله الدوريين (أبولون). وهاهنا تفسير الإغريق: في هذا الصراع بين ديونيزوس رمز الروح والقوى الشائعة والنشوة. . . وبين أبولون رمز الفردية والشخصية الفارزة والوعي، الصراع بين الروح والمادة، وبين القلب والعقل، وبين النشوة والوعي، ديونيزوس إله آسيوي فيما يخيل إلي، جلب من الهند بالأمراء. فغدا في اليونان ينبوع الموسيقى، لهذا السبب قدرت إخفاق الفارابي، أن الموسيقى العربية وليدة عقل واع، لأن العرب أمة الفردية والوعي والمنطق العقلي والظاهر المحسوس، إن العرب من عباد أبولون وهم لا يشعرون. إن العرب لا يمكن أن يفهموا ديونيزوس ولا نشوة ديونيزوس. تلك النشوة الدينية الجارفة التي تخرج صاحبها من سيطرة العقل والوعي كي تصله مباشرة بالطبيعة. إن أغاني عباد (باكوس) الحماسية في الغابات ومزامير الـ (ساتير) لشيء بعيد إدراكه على العقلية الفردية، شعور الإنسان في لحظة أنه انقلب مخلوقا له جسم جواد ورأس رجل أو أرجل ماعز. هذا الاتحاد بين الحيوان والإنسان إحساس ليس له مثيل إلا عند المصريين القدماء، وهذا التلاقي بين الأنواع وبين القوى في مخلوق واحد لهو عند الأولين بقية ذكرى تلك المحلوقات الإلهية البائدة التي كانت تحكم الأرض قبل ظهور الإنسان. . . مخلوقات لا هي من الإناث ولا هي من الذكور، ولا هي من الحيوان، ولا هي من الإنسان، لأن الأجناس والفصائل لم تكن قد فرزت. كذلك (الساتير) في الميثولوجيا الإغريقية رمز الإنسان الأول، ذلك الإنسان الداني من الحيوان القريب من

ص: 10

الآلهة، يدنو من الحيوان بغريزته الجنسية المتيقظة ينبوع القوة الخالقة عند الإغريق كما هي عند المصريين، ويقرب من الآلهة بغريزته الروحية المتصلة بقوى الطبيعة الإلهية، فهو ما زال يحتفظ بقبس من الحكمة العليا بدون أن يشعر، وببريق من ذلك النور الروحي والإلهام الذاتي يرى به كتلة الزمن من ماضي وحاضر ومستقبل في شبه لمحة واحدة.

تلك القدرة الخفية هي حاسة بائدة كانت للإنسان الأول، وفقدناها اليوم، نعم فقدنا كل القوى الروحية التي منحتنا إياها الطبيعة يوم كنا نحبها ونتصل بها، ولم يبقى لنا اليوم إلا العقل المحدود والمنطق القاصر. وها نحن اليوم في هذا الكون الهائل مخلوقات منفردة منبوذة! أين ذهب ديونيزوس؟ وهل يبعث من جديد؟ وإذا بعث فهل يجد من يعرفه في هذا العصر ذي الحضارة المادية الفردية؟!

رجل واحد ما زال يذكر هذا الإله ويستطيع أن يعرفه إذا ظهر كل عرف غالياس أصحاب الكهف!! وهو وحده كذلك الذي يستطيع أن يستقبله باسم هذا العصر، هذا الغالياس العصري هو:(تاجور) انه يتكلم كثيراً عن ذلك الاتحاد بين الإنسان والطبيعة. وعن ذلك الفاصل المرفوع بين الحياة الخاصة والحياة العظمى التي تخترق الكون. وعن ذلك الحب بين الإنسان والجماد. هذا كلام جميل. لكن هل تراه يشعر بحقيقته؟ يخيل إلي أن تلك الحقائق قد انطوت بانقضاء دولة الإغريق. بل لقد انقضت قبل أن تنقضي دولة الإغريق. انقضت بطغيان منطق سقراط على روح هوميروس. انقضت بطرد ديونيزوس من تراجيديات ايروبيد (غضبة نيتشه المعروفة) انقضت بظهور براكسيتيل على فيدياس، انقضت بغلبة الإحساس العقلي على الإحساس الروحي، انقضت بانتصار (أبولون) في النهاية على (ديونيزوس). وهكذا اختل التوازن، ورجحت كفة المادة، وانطفأت الحضارة الإغريقية إلى الأبد. ولم ترث أوربا منها غير كنوز العقل والمنطق، وبقيت في الظلام كنوز ديونيزوس الخفية.

لم تنجح اليونان إذن النجاح المطلوب في تطعيم الروح بالمادة، فهل تأمل مصر بلوغ هذه الغاية يوماً؟ أرجو من الدكتور أن يجيب، أنت وأصحابك ومدرستك قد فرغتم من تصوير وجه الأدب المصري، ولم يبقى إلا صبغه باللون الخاص، وطبعه بالروح الخاصة، فما هو هذا اللون؟ وما هي هذه الروح؟ إن ردك على هذا السؤال نور يلقي على طريق الجيل

ص: 11

الجديد.

(الرسالة): سيجيب الدكتور طه عن هذه الرسالة القيمة في العدد القادم

ص: 12

‌نظرة في نظام بيعة الخلفاء

النمو الأول

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

- 1 -

جاء في صحيح البخاري إن النبي عليه الصلاة والسلام عندما جاءه الموت قال (ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبداً) فقال بعض من حضر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله) فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول (قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده) ومنهم من يقول غير ذلك. فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قوموا)، ولم يكتب لهم شيئاً.

ولعل الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام يريده من ذلك أن يأمر بطريق الحكم بعده، ولكنه لم يكن ليفعل شيئاً عبثاً فلم يمض في ذلك وترك الأمر لأصحابه وأمته يختارون لأنفسهم ويجتهدون في أمثل الطرق لحكومتهم.

ولم يكن من قبل ذلك نظام مقرر لاختيار الخلفاء فكان على المسلمين أن يبتكروا من الخطط أمثلها في نظرهم بحسب ما تقتضيه الظروف والأحوال. وقد كان في الإسلام دوائر متعددة عند موت النبي. فقد كان هناك الأنصار أهل المدينة، وبين ظهرانيهم المهاجرون من أهل مكة، وكان هناك أعيان مكة من القرشيين المقيمين في عاصمتهم القديمة. وخارج هاتين المدينتين كانت قبائل العرب، بعضهم من قبائل اليمن وبعضهم من قبائل مضر، وكان كل من هذه الدوائر يشعر بالغيرة والأنفة أن يكون تابعاً للدائرة الأخرى، إذ أن الإسلام وإن هذب عصبية العرب وصرفها نحو الخير، لم يقض عليها أو ينزعها من القلوب كلها. فرفع الأنصار صوتهم أول شيء فقالوا أنهم أحق بالأمر، وتنادوا باسم زعيمهم سعد بن عبادة، وهتف بعضهم هتافاً كأنما يدعو إلى تحكيم السيف بالأمر. ووقف المهاجرون إلى جانب إخوانهم الأنصار يجادلونهم بالحسنى، ويذكرونهم بما وجب عليهم من الحق في ذلك الوقت العصيب، وما كان الأنصار ليثبوا وراء داعي الشقاق من أجل الحكم، وهم الذين قنعوا من قبل بأن يتركوا غنائم النصر الذي أحرزوه في وقعة حنين للمؤلفة قلوبهم ورؤساء الأعراب الذين لم يكن لهم كبير أثر في نصرة الإسلام، وقنعوا بأن

ص: 13

يعودوا إلى بيوتهم ورسول الله في رحالهم راضين بأداء واجبهم ورضى ضمائرهم جزاء على أعمالهم. ما كان هؤلاء ليحرصوا على الحكم بل سمحت نفوسهم به، ورضوا بأن يكونوا الوزراء دون الأمراء بعد أن لم يرضى المهاجرون بان يجعلوا منهم أميراً مع أميرهم.

في هذا الموقف تقررت أمور كثيرة ذات خطر عظيم في دستور دولة المسلمين. فتقرر أن يخرج الأنصار من الأمر فلا يكون الخليفة منهم بل يكون من إخوانهم المهاجرين من قريش. وتقرر كذلك أن تكون دولة الإسلام موحدة منذ أبي المهاجرون إلا أن يكون على المسلمين أمير واحد من المهاجرين، ولو قبل مبدأ أن يكون في المسلمين أميران أحدهما من أهل المدينة والآخر من المهاجرين من أهل مكة، لانقسمت دولة الإسلام إلى قسمين من أول أمرها ولسار تأريخها سيرة أخرى غير التي سار فيها.

ولم يكن الأنصار وحدهم الذين رفعوا رؤوسهم يتساءلون عن الأمر لمن يكون، بل إن قبائل العرب جميعها اشرأبت أعناقها تتطلع إلى الحوادث الجارية. فخرج بعضها عن الإسلام جملة، وقال بعضها يجب أن يكون الإسلام ديناً لا حكماً فامتنعوا عن أداء الزكاة التي هي رمز الحكم وحق الدولة على رعيتها. غير أن ذلك الأمر لم يتعد الحد في خطورته فاستطاع المسلمون في المدينة أن يبسطوا سلطانهم على القبائل مرةً أخرى وأصبحت لهم بعد شهور قلائل دولة متحدة متماسكة.

على أن طريقة اختيار أبي بكر نفسه، لم تكن طريقة اختيار بالمعنى الصحيح. ولم يكن الحال عند ذلك يسمح للناس أن يطيلوا التفكير في طريق الاختيار لعلمهم بما حولهم من المشكلات والأخطار. فبعد أن اتفق المهاجرون والأنصار على المبادئ العامة ورضي الأنصار بمكانة الوزراء دون مكانة الأمراء، ولم يبق موضع للتردد الكثير في قبول مرشح المهاجرين، ولو سمي رجل من أكابر الصحابة غير أبي بكر للقي قبولاً عند ذلك، ولكن المسلمين وفقوا أكبر توفيق في اختيارهم. وكان اختيارهم نتيجة شعور عميق وصراحة عقيلة نادرة، فلم يجاملوا ولم يحابوا، بل نطق عمر بما وافق هواهم، فسمى لهم أبى بكر فرضوا به ولم يتطلبوا أن يتبع اختيار خليفتهم رسم خاص ولا خطة تضمن صدق الاختيار. وأكبر الظن أنه لم يخطر ببالهم أن هناك طريقاً آخر غير أن يسمي أحدهم رجلاً

ص: 14

يرضونه فيبايعونه فلم يطل الأمر بعد المناقشة الأولى بل ازدحم الناس على أبي بكر يبايعونه وهم قانعون مما كان يعرفونه من وداعته وقوته وقدمه في الإسلام. ولم يخل الأمر مع هذا من وجود بعض الساخطين على هذا الاختيار مثل سعد بن عبادة من أهل المدينة ومثل أبي سفيان من أهل مكة، ولكن سيرة أبي بكر في مدة حكمه أرضت عنه من كان كارهاً لطريقة اختياره منتقداً لها لما رأى فيها من السرعة وعدم التمام.

وكان أبا بكر نفسه يشعر بأن طريقة اختياره لم تكن معصومة من النقد فقد روي عنه أنه لما مرض مرضه الأخير دخل عليه عبد الرحمن بن عوف وكان بينهما حديث طويل جاء فيه أن أبا بكر كان يشعر بالندم الشديد على أنه لم يكن قد سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا الأمر لمن هو حتى لا يختلف فيه الناس، وعما إذا كان للأنصار حق فيه أم هو وقف على قريش.

ولم يرض أبو بكر أن يترك الناس للاختلاف مرة أخرى فقد كانوا في المرة الأولى حديثي عهد بالرسول، فكان أثر شخصه العظيم داعياً إلى زوال كثير من الحرص وتملك الزهد في النفوس وخشي أبو بكر أن يكون للناس عند موته فرصة للخلاف مع وجود جنود المسلمين في وجهين عظيمين تلقاء مملكتي الفرس والروم، فرأى أسلم طريق أن يعهد إلى صاحبه المجرب ووزيره القوي المؤتمن عمر بن الخطاب.

غير أن طريقة استخلاف عمر كانت طريقة جديدة قابلها أهل المدينة بالرضى الصامت الذي لا يخلو من النقد الصامت، بل قد صعدت بعض أصوات النقد من بعض الزعماء، فأن طلحة مثلاً قيل أنه لام أبا بكر على اختيار عمر إذ كان يرى فيه شدة وصلابة، وقد روي أن عبد الرحمن بن عوف نفسه عندما دخل على أبي بكر في مرض موته استشاره أبو بكر في تولية عمر فأنكر عليه ذلك وقال إن فيه شدة وصلابة.

وعلى كل حال قد مضى أبو بكر في عهده إلى عمر وسن بذلك سنة جديدة، وهي أن الخليفة له أن يفرض على المسلمين أن يتبعوا رأيه بعد موته في تولية من يختار لهم بغير أن يكون لهم الحق في أن يحيدوا عنه، أو يعدلوا من رأيه، فكان تلك سابقة للطريقة التي سيتبعها عمر في رسم خطة اختيار الخليفة بعده.

غير أن أبا بكر وإن أبتدع سنة جديدة لم يخرج عن السنة التي رسمت في أول الأمر

ص: 15

فاختار الخليفة بعده من المهاجرين.

ولما قتل عمر بن الخطاب كانت الدولة في حال غير حالها الأول فقد فتحت الفتوح وأستقر العرب في البلاد المفتوحة وأنشئوا فيها أمصاراً لهم وعظمت شوكتهم فلم يكن يخشى عند موته من خذلانهم إذا طالت مدة اختيار الخليفة بعض الطول. فلم يشأ عمر أن يترك الناس لطريقة اختيار أبي بكر خوفاً من كثرة التردد والاختلاف، وما قد ينجم عنه في بلاد مثل بلاد العرب يسهل أن يثور فيها تعصب القبائل والعشائر ولاسيما بعد أن صار في المسلمين زعماء كثيرون معروفون امتازوا في حوادث الفتح بحسن الفعال وأصالة الرأي ولو لم يكونوا من أصحاب السابقة في الإسلام الذين جرى المسلمون على تقديمهم في أول الأمر، وكذلك لم يشأ عمر أن يوصي إلى رجل واحد كما أوصى أبو بكر إليه فأنه رأى أن في ذلك الشيء الكثير من عبء المسؤولية والاستبداد بالرأي في وقت ليس فيه ما كان عند وفاة أبي بكر من الخطر على الدولة وجنودها في ميادين القتال. فابتكر عمر طريقته المعروفة وهي وسط بين فرض الرأي وبين ترك الاختيار، ففرض رأيه في ترشيح جماعة من الزعماء أولي القدم والسابقة في الإسلام، ولم يخرج عن السنة الأولى، فاختارهم جميعاً من المهاجرين وترك لهم بعد ذلك أن يختاروا واحداً منهم يرضونه في مدة ثلاثة أيام، وأمر زعيماً اسمه مسلمة بن مخلد ألا يدعهم إلا مدة تلك الأيام الثلاثة.

وكان اجتماع هؤلاء المرشحين أهل الشورى وطريقهم في الاختيار خطوة واسعة في سبيل بناء دستور عربي متين لو بلغ مداه لكان من أتم نظم الحكومات.

أخرج أحدهم نفسه من الأمر واجتهد اجتهاداً لا يصدر إلا عن قلب عامر بحب المصلحة العامة، وقضى الليالي الثلاث التي جعلت للاختيار وهو لا ينام ولا يستريح بل يقضي الوقت كله في سؤال الناس سراً وعلانية. فسأل الأنصار والمهاجرين وسأل زعماء المسلمين وسأل قواد الجنود الذين وجدهم في المدينة عند ذلك وهم يمثلون جنود العرب الذين بالامصار، فكان بذلك ساعياً إلى الاستنارة برأي مختلف الدوائر، واستشارة مختلف الطبقات، والنظر إلى الأمر من مختلف النواحي. فلم يكن بين هذا وبين الانتخاب العام إلا خطوة واحدة، وهي أن يحصر حق الانتخاب في جماعة تتوافر فيهم صفات معينة وان تؤخذ آراؤهم بطريقة منظمة.

ص: 16

وقد تبين لعبد الرحمن من وراء بحثه أن الناس لا يقدمون أحدا تقديمهم لزعيمين من الصحابة من أهل الشورى وهما علي وعثمان، فلما استقر رأيه على اختيار واحد منهما ثارت في وجهه مسائل جديدة أولها المنافسة القديمة بين بيتي قريش: وهما بيت هاشم، وبيت أمية، وثانيهما ما كان في بيت هاشم من الاعتقاد بأن لهم الحق في الأمر لقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام وخشي إذا هو اختار عليا أن يحمل ذلك على أنه إنما اختاره لقرابته من الرسول لا لفضله وصفاته السامية، فكان في أمره في حيرة شديدة، وخرج منها على أن يطرح على المرشحين سؤالاً يكون بمثابة استطلاع لبرنامج كل منهما إذا هو ولى الحكم. فجمع الناس في المسجد وعرض سؤاله فقال:(هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبى بكر وعمر؟) فرأى علي أن معنى ذلك تقييده فوق كتاب الله وسنه الرسول بفعل خليفتي المسلمين قبله. ورأى أنه لا يحسن به أن يقيد نفسه بغير الكتاب والسنة تاركاً لنفسه بعد ذلك الاجتهاد والنظر وإن خالف رأي صاحبيه. وكانت أجابته على ذلك أن قال: (اللهم لا ولكن على جهد من ذلك وطاقتي) وأما عثمان فانه قال: (اللهم نعم) وكان عبد الرحمن ممن يرون اتباع السلف فيما ساروا عليه منذ كانوا في ذلك مجتهدين، ومنذ دلت الحوادث على حسن سياستهم فيه وسلامة عاقبة حكمهم. فرأى اختيار عثمان ورفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان ثم قال:(اللهم اسمع واشهد. اللهم أني جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان) وازدحم الناس بعد ذلك على الخليفة عثمان يبايعونه.

فخرجت الأمة الإسلامية من ذلك الموقف بسابقة جديدة منظمة تنظيماً كبيراً صالحة لأن تكون أساسا لنظام وافٍ صالح لاختيار الخلفاء، ففيه نواة الانتخاب العام، وفيه نواة النظر والموازنة بين المرشحين، وفيه نواة إدخال جميع العرب حق الاختيار، سواءاً أكانوا من أهل المدينة أم من أهل جزيرة العرب أم من أمصار البلاد المفتوحة. وفيه فوق كل ذلك نواة لرسم خطة للحكم يسأل عنها الخليفة قبل توليته، ويكون اختياره بعد الإفصاح عنها والتصريح بها وبذلك يكون عليه الوفاء بما تعهد به من الشرط قبل استخلافه.

ولم يبطئ العرب فيتلقف هذه الحقوق ولم يتهاونوا في المطالبة به في عهد عثمان ولم يترددوا في الثورة عندما رأوا أن خليفتهم لم يف بما تعهد به.

ص: 17

‌التجديد في الأدب

حول مقال الأستاذ أحمد أمين

للدكتور عبد الوهاب عزام

قرأت المقال الثاني الذي تكلم فيه الأستاذ عن (التجديد في العبارة) فرضيت آراء وأنكرت أخرى.

وأول ما آخذ على المقال أنه لم يحكم تحديده فالقارئ يحس أن كاتبه أراد أن يعالج التجديد في المعنى والعبارة معاً.

يقول الأستاذ في مستهل مقاله (واليوم أعرض لضرب آخر من ضروب التجديد وهو التجديد في العبارة. وأعني بالعبارة الجملة التي يؤدى بها المعنى على اختلاف ألوانها من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية.) ولست أدري كيف يكون التجديد في التعبير الحقيقي؟ الحقيقة لفظ مستعمل فيما وضع له. فإذا أتفق معنى لشاعر في الجاهلية فأداه بألفاظ حقيقية ثم وقع المعنى بعينه لشاعر معاصر فأراد الإبانة عنه بلفظ حقيقي لم يمكن التجديد في الأداء إلا بالإسهاب أو الإيجاز وليس هذا ما يريده الأستاذ، أو بإيثار لفظ حقيقي على آخر مثله وهذا يرجع إلى بحث الألفاظ الذي فرغنا منه في مناقشة المقال الأول، إذا أراد شاعر معاصر أن يبين بألفاظ لا تجّوز فيه عن قول القتال الكلابي:

ولما رأيت أنني قد قتلته

ندمت عليه أي ساعة مندم

لم يستطع هذا تغييراً يلائم العصر الحاضر، ولم يواته إلا أن يضع أبصرت مكان رأيت أو أسفت موضع ندمت أو يقدم أو يؤخر في الكلمات. وليس هذا هو التجديد في العبارة الذي عناه الأستاذ. أي تجديد في العبارة يستطيعه قائل يريد أن يترجم عن هذا المعنى.

يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم

وترمى النوى بالمقترين المراميا

إنما يمكن التغيير في المجازات والكنايات والتشبيه والتمثيل مما يمكن فيه تأدية المعنى الواحد بطرق مختلفة، وتصوير الحقيقة الواحدة بصور شتى وألوان عدة تنجلي فيها أثر الخيال والمعايش المختلفة، والأزمان والبلدان المتباينة. وهو موضوع لا يغني فيه الإجمال ولا غنى به عن التفصيل:

1.

بعض المجازات والكنايات جرت مجرى الحقائق حتى نسي أصلها أو كاد. ولا يدرك

ص: 19

فيها التجوز أو الكناية إلا بالبحث والرجوع بالكلمات إلى أقدم أصولها المعروفة. وذلك مثل أسبل المطر، فلان زميل فلان. وأرهقه العمل، وراض نفسه على الأمر، ودهماء الناس، وأمثال هذا مما شاع استعماله حتى ساوى مجازه الحقيقة أو غلب عليها فلم يبق المعنى الحقيقي شاهداً بأصل الاستعمال ودالاً على التجوز في غيره، كما يعرف التجوز في قولنا زلّ في رأيه، وزرع المودة في قلبه، وسمع زئير الحرب، ببقاء هذه الألفاظ معروفة ذائعة الاستعمال في معانيها المحسوسة. وحكم هذا المجاز حكم الحقيقة لا تجديد فيه ولا تغيير على الأسلوب الذي يريده الأستاذ أحمد أمين.

2.

وأما المجازات التي يظهر فيها التجوز، ويبين فيها التخيل فبعضها يخترعه الكاتب البليغ الذي يحس في نفسه المقدرة على تصريف الكلام وخلق العبارات. وهذا مأخوذ من عقل الكاتب، أو المتكلم وإحساسه وعلمه كما يسمي الجمل سفينة الصحراء ويسمي الرجل الجريء أسداً وذئباً الخ. وكما يسمى أحدنا الغواصة مثلاً نسر الماء، ومنطاد زبلين حوت الهواء، ويقول عن خبر فظيع جاءه بالتلغراف: هذه إحدى صواعق البرق، ويشبه الرجل العليم بأخبار العالم وأحواله بالراديو الخ. وينبغي ألا ننسى أن علم الإنسان وعقله ليسا مقصورين على البيئة التي يعيش فيها بل من هذه البيئة ومما رأى أو سمع عن بلادٍ غابرة أو حاضرة، وأمم ذاهبة أو قائمة. فقد يسوغ للكاتب المصري أن يستمد مثلاً أو تشبيهاً مما يعرف عن أمم الإسكيمو أو مما عرف عن الأمة المصرية القديمة أو الأمة العربية قبل الإسلام، أو من خرافات اليونان الأقدمين. فإذا قال عن رأي سيئ يظهر بمظاهر مختلفة أنه غول متلونة أو عن فكرة سخيفة في نفس باردة أنها كواحد من همج الإسكيمو يقطن بيتاً من الثلج لم يكن لأحد أن يقول له: أنك لم ترى الغول ولا عاشرت الإسكيمو فينبغي أن يكون بيانك خالياً من التشبيه بهما. وإنما شرط هذا أن يكون مصدر المجاز أو التمثيل معروفاً لا يقف بالقارئ عند غموض أو إغراب.

وضرب من المجازات وما إليها ينشا هذه النشأة ثم يذيع وتتداوله الأجيال حتى يصير مظهراً لبيان الأمة وخيالها لا لخيال كاتب أو متكلم كالذي ورثناه في لغتنا عن بلغاء العربية في الجاهلية والإسلام.

وهذا جدير بالاستعمال، فكل كاتب أو متكلم أن يتوسل به إلى البيان وإن كان مصدره

ص: 20

غريباً غير مألوف، بل ينبغي المحافظة عليه بما يبين عن تاريخ الأمة وحياتها في طور من أطوارها.

فلا عيب أن يقول القائل: أخذه برّمته، وترك حبله على غاربه، وما له خف ولا حافر، ورموا عن قوس واحدة، وأعطى القوس باريها، وألقى عصاه، والقافلة تسير والكلاب تنبح، كالمستجير من الرمضاء بالنار، كمهدي التمر إلى هجر، أعقد من ذنب الضب، أعدى من الشنفري، مرق مروق السهم، أختلط الحابل بالنابل، أهدى من القطى، وهلم جرا.

ولغات الأمم الأخرى حفظت كثيراً من عاداتها وتاريخها ولست أضرب مثلاً باللغة الفارسية أو التركية أو الأردية فهي لغات شرقية لا تصلح حجة في هذا العصر، ولكن أضرب مثلاً من اللغة الإنكليزية والفرنسية: يقال في الإنكليزية لمن يبالغ في كلامه: (ينزع في القوس الطويلة) ولمن يخير بين أمور عدة: (عنده أوتار لقوس واحدة) وهذه العبارة الأخيرة في اللغة الفرنسية أيضاً. ويقال في الإنكليزية في تقدير المسافة: (على رمية سهم) كما يقال في العربية (مقدار غلوة). ويقال في الفرنسية لمن يتوسل إلى غايته بكل وسيلة: (يبري سهاماً من كل خشب). وأمثال هذا كثير. فما منع الإنكليز والفرنسيين استبدالهم بالأقواس والسهام آلات الحرب الحديثة منذ مئات السنين، أن يبقوا على العبارات التي حدثت في عهد الأقواس والسهام.

لست أقول ينبغي أن نلزم العبارات القديمة ونأبى كل عبارة حديثة فلا أحد يستطيع أن يحول بين الناس وبين الإبانة عما في أنفسهم بوسائل مشتقة من حياتهم ولكني أخشى أن تكون الدعوة إلى الجديد دعوة إلى هجر القديم، ونحن في هذا العصر، عصر الفتن أحوج ما نكون إلى التمسك بالقديم، والاستمساك دون التهافت في التقليد، والضلال بين القديم والجديد. ومن يمعن النظر في صحفنا ومنشآت طلبتنا يعرف كيف تركنا كثيراً من عباراتنا الجيدة الموروثة إلى عبارات غثة ضعيفة لا تكاد تبين عما وراءها.

ثم يتكلم الأستاذ عن مسايرة الأدب الغربي للزمن ووقوف الأدب العربي، فيقول:(ذلك بأن الأدب الغربي ساير الزمان وأعترف بكل ما حدث فيه وأستمد منه، على حين أن الأدب العربي الحديث أغمض عينيه عن كل ما كان، ولم يعترف بوجوده الخ).

ولو رددنا الأمور إلى نصابها وتجاوزنا ظواهر الأمور إلى بواطنها ما رأينا في هذا قصور

ص: 21

الأدب العربي، ولا عجز أدباء العربية بل عرفنا فيه قصورنا في العلوم والفنون الحديثة أو حداثة عهدنا بها. الأدب ترجمان الحياة العامة فهو لا يتناول مسائل علم واصطلاحاته حتى تشيع أوليات هذا العلم بين الأمة شيوعا يدخل مصطلحاته في لغةالتخاطب0 ولا ينبغي للأديب أن يدخل في الأدب المسائل العلمية أو الأسماء التي لا تزال مقصورة على العلماء المختصين بها. فإذا جاوزتهم إلى جمهور الأمة ودخلت في لغة الكلام ساغ للأديب أن يتناولها. في الكيمياء، مثلاً، مسائل عويصة لا يعرفها إلا علماء الكيمياء فهذه المسائل ستبقى وقفاً على العلماء مخبوءة بين أجهزة الكيمياء، ولن تخرج إلى لغة الخطاب العامة فتدخل في الأدب إلا أن تصير الأمة أو جمهورها من علماء الكيمياء. وهناك مسائل من أوليات هذا العلم كصفات الأحماض وتأثير بعض العناصر في بعض.

وهذه تدخل في اللغة العامة وتتهيأ للدخول في الأدب حين يشيع في الأمة علمها فلا يختص بها الكيميائيون. ومن أجل هذا تجد طلاب الفلسفة أو الطب أو النحو يتفكهون بتشبيهات من هذه العلوم لا يفقهها غيرهم إذ شاع علمها بينهم وصلحت للدخول في لغة تخاطبهم. وإذا رجعنا إلى تاريخ الأدب العربي عرفنا أن اصطلاحات الفلسفة والمنطق وغيرهما لم تدخل في الأدب أول عهد المسلمين بهذه العلوم. ثم شاعت بعض قضاياها واصطلاحاتها فساغ لأبي نؤاس وأمثاله أن ينظموها في شعرهم. كما قال أبو نؤاس:

تأملُ العينُ منها

محاسناً ليس تنفد

فبعضها (يتناهى)

وبعضها (يتولد)

فالتناهي والتولد من اصطلاحات الفلاسفة، وكما قال البحتري:

وكأن الزمان أصبح (محمولاً)

هواه مع الأخس الأخس

فهو فيما أظن يشير إلى قول المنطقيين إن النتيجة تتبع أخس المقدمتين. وكقول المعري:

طرق العلى مجهولة فكأنها

(صم العدائد) ما لها (أجذار)

أدخل في شعره من أسماء الحساب العدد الأصم والجذر وكقول الفارابي في اصطلاحات الهندسة:

وهل نحن إلا خطوط وقعن

على كرةٍ وقع مستوفز

محيط السماوات أولى بنا

فماذا التنازع في المركز؟

ص: 22

وقد يكفي في هذا أن تشيع القضية العلمية بين المتأدبين من الأمة ولا ينتظر بها أن تشيع بين الجمهور. ولا يتسع المجال للإفاضة في البيان هنا.

ومهما يكن الأمر فقد غلا الأستاذ إذ قال: (أما الأدب العربي فيحارب مترليوزا بقوس وسهم، ويضيء في أدبه سراجاً بزيت والناس قادمون على أن يغيروا المصباح الكهربائي بخير منه ويبكي الأطلال ولا أطلال، ويحن إلى سلع ولا سلع ويستطيب الخزامي والعرار ولا خزامي لدينا ولا عرار.) هل يستطيع أستاذنا أن يعرفنا بشاعر أو كاتب في مصر أو الشام والعراق يفعل هذا؟

ويقول الأستاذ: (وسبب آخر من أهم الأسباب في فقر الأدب العربي في التعبير. هو أن الأدب العربي الحديث أدب أرستقراطي لا أدب شعبي.) وأنا لا أخالف هذا الرأي في جملته ولكن لي فيه مآخذ.

(1)

ليس حقاً أن أحاديث الخاصة من متعلمينا وتنادرهم وفكاهاتهم باللغة العامية. فأحاديث الخاصة من المتعلمين أقرب إلى لغة الكتابة من اللغة العامية. ومراقبة مجلس الأدباء والعلماء تشهد بما أقول.

وفي هذا نفسه بيان خير الوسائل إلى ما دعا إليه من (إزالة الحواجز القوية بين العامية والعربية على أي وجه يرضاه قادة الأمة.) وذلك أن قرب أحاديث الخاصة من لغة الكتابة يبين لنا الطريق التي ينبغي أن نسلكها لإزالة هذه الحواجز. فليس لنا من وسيلة إلا أن ترقى العامة حتى تستطيع أن تفهم عن الخاصة إذا حدثتها. فكلما شاع التعليم في الأمة ارتقت العامة إلى مستوى أقرب إلى لغة الأدب. ونحن اليوم سائرون في هذه السبيل وقد سمعت في السنين الأخيرة جماعة من العامة وأشباه العامة يخطبون ويتكلمون بلغة لا تخالف لغة الكتابة إلا قليلاً. وآلاف المتعلمين من طلاب مدارسنا وآلاف القارئين الذين يستطيعون مطالعة الصحف والكتب عاملون كل يوم للتقريب بين العامية والفصحى.

(2)

ثم قد غلا الأستاذ حين قال: (وكل أمة قد كسبت من توحيد لغتها الكلامية والكتابية ما لا يقدر، فقد أصبح الشعب كله منتجاً أدباً وتعبيراً قوياً.) ليس في العالم شعب ينتج كله أدباً قوياً ولا يزال الخاصة من الأدباء هم منتجي الأدب وأئمته، بل أتفه الأدباء أقربهم إلى العامة. فلا يزال عند الأوربيين فوارق بين أدب العامة وأدب الخاصة وستبقى هذه الفوارق

ص: 23

ما دام اختلاف العلماء والجهال في عقولهم ومشاعرهم. وكل الذي نبغيه أن يلتقي العامة والخاصة في مقدار من الأدب مشترك هو أعلى ما تسمو إليه العامة وأدنى ما تنزل إليه الخاصة. ولن يزول الفارق بين الأدبين أبداً.

وكيف يوفق الأستاذ بين دعوته إلى أن يساير الأدب العلم وتستحكم الصلة بين كلية الآداب وكلية العلوم وبين دعوته إلى توحيد الأدب والمساواة فيه بين الخاصة والعامة. أيمكن أن يكون جمهور الأمة آخذاً بحظه من كلية العلوم أيضاً.

(3)

ثم الفكاهات والنوادر. يقول أستاذنا الفاضل. (حسبك دليلاً على ذلك أن النكت والنوادر، وهي من أهم أركان الأدب، لا تجد منها سائغاٍ في أدبنا العربي عشر معشار ما تجد في الأدب العامي. وإن النادرة تحكى بالعامية فنضحك إلى أقصى حد ثم تحكيها باللغة الفصحى فتخرج باردة تافهة)

نظر الأستاذ إلى هذه القضية من جانب واحد. والحق أن النكتة تبلغ مبلغها فيما وقعت فيه من حال وعبارة. فالذين يشهدون الواقعة المضحكة أو يسمعون الكلمة المضحكة أكثر ضحكاً لها ممن رويت لهم في غير أحوالها أو بغير ألفاظها، بل ينطق الرجل بالكلمة فيضحك لها الناس فإذا رواها غيره بلفظها في مثل حالها لا تبلغ من النفوس ما بلغته أول مرة لما فاتها من أثر القائل الأول. فإذا اختلفت العبارة فأحرى أن يختلف التأثير. فإذا ترجمت الفكاهة من لغة إلى أخرى ضاع أثرها كله أو بعضه وإذا نقلتها من عبارة إلى أخرى في لغة واحدة لم تبق على حالها الأول. فإن تكن النكت العامية تبرد إذا نقلت إلى العربية الفصحى فكم من نادرة فصيحة تموت إذا نقلت إلى العامية. وكثير من فكاهات الجاحظ و (كتاب الحمقى والمغفلين) لأبن الجوزي لا يمكن نقلها إلى العامية؛ فالفكاهات المتعلقة بالنحو والعروض والفقه ونحوها وكثير منها يضعف أثره وإن أمكن نقله. وإلا فكيف تترجم إلى العامية هذه العبارات:

قال رجل للحسن يا أبى سعيد. فقال كسب الدرانيق شغلك عن أن تقول يا أبا سعيد. وقدم رجل من النحويين رجلاً إلى السلطان في دين له عليه فقال أصلح الله الأمير لي عليه درهمان. قال خصمه: لا والله أيها الأمير إن هي إلا ثلاثة دراهم لكنه لظهور الإعراب ترك من حقه درهماً واعتبر كل ما في كتب الأدب من ملح تجد أكثرها يجري هذا

ص: 24

المجرى.

ولا ريب أن لغة التخاطب ولغة الكتابة أو لسان العامة ولسان الخاصة كانا متقاربين في عهد الجاحظ ولم يكن بينهما ما بين الفصيحة والعامية اليوم. ولكن الفكاهات إذ ذاك كانت كما هي اليوم لا تصلح للنقل من لغة إلى أخرى. قال الجاحظ:

(ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الإعراب فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها. فإنك إن غيرتها بأن تلحن في إعرابها وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام وملحة من ملح الحشوة والطغام فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير لها لفظاً حسناً الخ)

وكذلك يقول قدامة بن جعفر في كتاب نقد النثر: (وللفظ السخيف موضع آخر لا يجوز أن يستعمل فيه غيره. وهو حكاية النوادر والمضاحك وألفاظ السخفاء فإنه متى حكاها الإنسان بغير ما قالوه خرجت عن معنى ما أريد بها وبردت عند مستمعها).

(4)

وبعد فلا ينبغي أن تسف لغة الآداب العالية إلى مستوى العامة بل يجب أن ترقى العامة إلى مستوى لغة الآداب أو ما يقرب منه. على أن هذا التباعد بين ما يسميه الأستاذ (الأدب الأرستقراطي) وما نسميه (الأدب الشعبي) مظهر واحد من مظاهر الاختلاف بين عامتنا وخاصتنا، بين الفريقين تفاوت عظيم في العقل والمعرفة والأزياء والمساكن وطرائق المعيشة. ولا بد من تقريب المسافة بين العامة والخاصة في هذا كله قبل أن يشتركا في لغة واحدة ويستمتعا بأدب واحد فإن الأدب الصحيح ترجمان معيشة الأمة.

ص: 25

‌التجديد في الأدب

للأستاذ أحمد أمين

- 3 -

من أوضح الظواهر أن الجمهرة العظمى من المتعلمين الذين درسوا أدباً عربياً وأدباً أجنبياً يعكفون على الأدب الأجنبي يتذوقونه ويكثرون من مطالعته، في جدهم إن شاءوا الجد، وفي لهوهم إن شاءوا اللهو، وهم إن قرءوا في الأدب العربي ففي القليل النادر، وإن فعلوا لم يطيلوا ولم يتعمقوا، وقل أن يدرسوا كتاباً دراسة جيدة، إنما أكبر همهم أن يقلبوا صفحات الكتاب ليقع نظرهم على أبيات من الشعر يستملحونها، أو قصة طريفة يتفكهون بها. ومكتبتهم، على قلتها، تمثل ميلهم، فالكتب الإنجليزية أو الفرنسية فيها غالبة، والكتب العربية قليلة نادرة.

ذلك ولا شك حال أغلب المثقفين ثقافة عصرية. ويذهب بعض الباحثين في تعليل هذه الظاهرة إلى أن السبب يرجع إلى فساد تعليم اللغة العربية وآدابها في المدارس، فإن أساتذتها لا يحببون إلى الطلاب الأدب العربي، ولا يصلون به إلى نفوسهم، وإنما هي أمثلة محدودة تتكرر عاماً بعد عام، ونماذج من الشعر والنثر تعرض مرة بعد مرة، ولا غرض من دراستها إلا أن يذكرها الطلبة عند الامتحان فيؤدوها كما تليت عليهم، ثم تذهب بذهاب الامتحان، لأنهم قد تجرعوها على مضض، فهم يفرحون بنسيانها فرح المريض، وقد شفي، بالخلاص من دواءٍ مر المذاق.

قد يكون هذا سبباً صحيحاً، ولكنه فيما أرى ليس بالسبب الجوهري، فإن بعض اللغات الأجنبية التي تدرس بيننا ليست دراستها بأحسن حالاً من دراسة اللغة العربية، ومع هذا فالطلبة يسيغون أدبها ويتذوقون كتبها بما لا يظفر ببعضه الأدب العربي.

أهم سبب عندي يرجع إلى موقف الأدبين الأدب العربي والأدب الأوربي.

ذلك أن كل أدب أوربي له قديم وحديث، والأدب الحديث هو الذي يناسب جمهور المتعلمين وعامة الشعب لأنه في الغالب يعرض لما يشعرون به فيعبر عنه التعبير الفني، فالأديب المحدث يرى ظاهرة اجتماعية فيضعها في قصة أو منظراً جميلاً فيضعه في قصيدة، أو معنى أثارته في نفوس قومه أحداث سياسية أو اقتصادية فيضعه في مقالة أو كتاب، فيقبل

ص: 26

الجمهور على قراءة ذلك ويعجبون به، وسبب الإعجاب أن الأديب شعر بما يشعر به الجمهور، واستطاع أن يعبر عنه التعبير الفني الذي لا يستطيعه الجمهور. أما الأدب الأوربي القديم فإنما يناسب خاصة المتعلمين لأنه يتطلب دراسة لغوية وأدبية عميقة كما يتطلب، لتطلبه، أن يلم المتعلم بشيء كثير من المسائل التاريخية والاجتماعية التي أحاطت بالأديب وبالقطعة الفنية حتى يستطيع أن يفهمها فهماً صحيحاً، وليس ذلك في مكنة السواد الأعظم من الناس. فالذين يفهمون الإلياذة والأوديسة وخطب ديمستين قليل بالنسبة إلى الذين يقرأون الأدب الحديث ويفهمونه، وكذلك الذين يفهمون الأدب الإنجليزي أو الفرنسي في القرون الوسطى ويتذوقونه هم الخاصة من الأدباء، وإن قرأ الجمهور شيئاً من الأدب القديم فإنما يقرءوه مترجماً إلى اللغة الحديثة، أو معروضاً في شكل جديد قد ذللت فيه كل الصعوبات التي يحتمل أن يلقاها القارئ العادي. أما الأدب الإنجليزي أو الفرنسي الحديث فيكاد يكون حظ الإنجليز أو الفرنسيين جميعاً.

وسبب ذلك أن الأدب هو نقد الحياة في أسلوب فني، وإذ كانت كل أمة تفهم حياتها الحاضرة فهماً ما، وإن اختلفوا في مقدار الفهم، كان الأدب الحديث أقرب إلى فهمهم وأيسر متناولا لجمهورهم، وإذ كان الأدب القديم وصفاً لحياة قديمة لا يستطيع فهمها فهماً صحيحاً إلا من عرف بيئتها وتاريخها، كان ذلك الأدب أدب الخاصة.

وبعد فالأدب العربي أدب قديم لا حديث له، وإن شئت تعبيراً دقيقاً فقل إنه أدب قديم لم يستكمل حديثه، لذلك كان الأدب العربي أدب الخاصة لا أدب الجمهور.

لا يستطيع القارئ أن يفهم الأدب العربي القديم إلا بفهم دقيق للتاريخ، وفهمٍ بالغ للظروف الاجتماعية التي نشأ فيها الأدب ومعرفة واسعة بالجغرافيا، وعلم تام بقوانين الصرف المعقدة كأنها قوانين اللوغاريتمات ليعرف كيف يبحث في معاجم اللغة العربية عن كلمة غريبة، وليس يصبر على ذلك كله إلا المجاهدون الصابرون، وقليل ما هم.

يريد سواد المتعلمين أن يغذوا مشاعرهم من حب يحلل تحليلاً دقيقاً، أو إعجاب بمنظر طبيعي ملك عليهم نفوسهم، فأرادوا أن يصور هذا الإعجاب في قطعة فنية، أو تبرم بأسر ورق فهم يريدون أدباً يتغنى بالحرية ويحفز النفوس إلى تحقيقها، أو ألم من سوء حالة اجتماعية فهم يبتغون قصة تمثلها أو قصيدة تصفها، أو كتاباً يحللها، أو نحو ذلك من

ص: 27

ضروب المشاعر فلا يجدها في الأدب العربي الحديث إلا قليلا نادراً فيضطر إلى الأدب الأجنبي يقرأه ويتغنى به ويستمرئه، وهو على الرغم من أن ذلك الأدب ليس بلغته، ولا يصف مشاعر تمثل بالدقة مشاعره، ولا يحلل حالات اجتماعية تشبه مشابهةٍ تامة حالاته، على الرغم من ذلك كله مضطر أن يقرأه، إذ ليس عنده من أدبه ما يكفي لغذائه، وفي الأدب الغربي كل صنوف الغذاء على اختلاف الأنواع وعلى اختلاف الأساليب؛ إن شاء سهلاً وجد السهل، أو صعباً وجد الصعب، أو بين ذلك وجد بين ذلك، وإذا غمض عليه لفظ استطاع أن يكشف عنه في المعاجم من أول درس تعلمه، فكيف لا يهمل بعد ذلك الأدب العربي ويعكف على الأدب الغربي؟

أن شئت فوازن بين ما يدرسه الطالب في المدارس الثانوية أو العالية في الأدبين، فهو في الأدب الغربي يدرس شكسبير وأمثاله فيجد موضوعاً شيقاً يمثل حالة من الحالات التي تتصل بنفسه، وتمس حياته الاجتماعية بقدر ما، قد صيغت في قالب فني رشيق، فخرج من الدرس يحبها ويحب موضوعها، أما في الأدب العربي فيدرس مختارات من جرير والفرزدق والأخطل، أو مختارات من مقامات البديع والحريري أو نحو ذلك، وهذه كلها لا تمثل ناحية اجتماعية يحياها أو ما يقرب منها، ولا فكرة عميقة حللت تحليلا واسعا، لذلك يخرج منها وهو لا يحبها، أو على الأقل يكون على الحياد منها.

لست أنكر أن في جرير وأمثاله، والمقامات وأمثالها، وفي الأدب العربي على العموم جمالا وفناً وإبداعا، ولكن ذلك لا يدركه إلا الخاصة الذين مرنوا طويلاً على الدرس وبذلوا الجهد في تدريب أذواقهم على تقويمه واستساغته، وليس ذلك في استطاعة كل الطلبة ولا أكثرهم.

فإن أنت نظرت إلى الأدب العربي الحديث فماذا ترى؟ ترى كثيراً من الأدب الغربي قد ترجم إلى العربية، وليس من الحق أن نعد هذا أدباً عربياً في جوهره وموضوعه، إذ ليس له من العربية إلا لغة ملتوية على النمط الغربي. وترى نتاجاً مبتكراً قليلاً، وأكثر هذا القليل مقالات وفصول جمعت بعد ذلك وسميت كتباً مجازاً، لا تربطها وحدة غالباً إلا بضرب من التمحل. والبقية الباقية من القليل هي التي يصح أن تسمى أدباً عربياً حديثاً لم يكتمل. ذلك في نظري أكبر سبب في انصراف جمهور المتعلمين عن الأدب العربي، فإن

ص: 28

أريد إقبالهم عليه فلا بد من إنتاج حديث وافر يغذي كل مشاعر الحياة كما يغذي العقول، وليس من الحق أن ندعو السواد الأعظم إلى الأدب العربي قبل أن نستكمله أو على الأقل نوجد فيه ما يسد رمقهم، وأن أردنا الأنصاف فواجب أن ندعو الدعوتين: دعوة الأدباء بالعربية إلى أن ينتجوا، ودعوة القراء إلى أن يقرأوا.

وينجح الأدباء إذا اقتصروا على أن يحتذوا حذو القدماء شكلا وموضوعا دون أن يمسوا حياتهم الواقعية وبيئتهم الاجتماعية ومشاعرهم النفسية؛ فالأدب متغير، خاضع لقوانين النشوء والأرتقاء، فإذا تقيد أدباؤنا بالموضوعات التي عالجها القدماء وبالأشكال التي صب فيها الأدب القديم، عد أدبهم قديماً لا حديثاً، ولم يصلح علاجاً لما نصف من أمراض.

مثال ذلك: أنا إذا وضعنا أيدينا على مختارات البارودي، وهو كتاب ضخم في أربعة أجزاء أختار فيها الثلاثين شاعراً من شعراء العصر العباسي، وجدناه قد أختار نحو أربعين ألف بيت، منها أكثر من أربعة وعشرين ألفاً في المديح، وإذا أضفت الهجاء والرثاء إلى المديح وجدت جميع ذلك يقرب من ثلاثين ألفاً، والربع الباقي في الأدب والصفات والزهد والنسيب!

فترى من هذا إفراط الأدباء القدماء في وصف العواطف الشخصية من كرم ورثاء وهجاء، وتقصيره في أبواب كثيرة أهمها وصف المناظر الطبيعية، وتحليل الانفعالات النفسية، وغير ذلك من ضروب الأدب.

وهذا التقصير وقع في الأدب الأوربي القديم كما وقع في الأدب العربي، فلو قرأنا شعر هوميروس وفرجيل ودانتي وجدنا فيه قليلاً من وصف جمال الطبيعة من جبال وبحار ونجوم، على حين، الشعر الأوربي الحديث قد مليء بهذا الضرب من القول وأبدع الشعراء فيه إبداعا لا حد له فأفاضوا في القول في السماء ونجومها، والأشجار وازدهارها وذبولها، والبحار والصحراء وغيرها، ووجدوا في ذلك كله كنوزاً استمدوا منها شعرهم، وكان تقصير القدماء وإجادة المحدثين في ذلك قانوناً طبيعياً لأن الإعجاب بجمال الطبيعة نتيجة رقي كبير في الذوق، فإذا قصر أدباؤنا المحدثون في هذا كما هو حادث الآن وتابعوا الأقدمين في المديح والهجاء والغزل، فقط، فقد ظل نقص الأدب العربي على ما هو عليه.

كذلك يعيش الشرقي عيشة خاصة غير التي كان يعيشها آباؤه، سفرت المرأة بعد حجابها،

ص: 29

وتغبر في العشرين سنة الأخيرة كل نظم الحياة تقريباً من معيشة بيتية ونظم اجتماعية، وحياة سياسية، وأصبح كل باب من هذه الأبواب يتطلب قصصاً جديداً وشعراً جديداً وكتباً أدبية جديدة، فأن نظر أدباؤنا إلى دواوين الشعراء الأقدمين ولم ينظروا إلى دواوين الطبيعة وصحائف العالم الذي فيه يعيشون، فلا أمل في شعرهم، ولا نثرهم وظل المتعلم منصرفاً عنهم إلى الأدب العربي على الرغم منهم.

ونوع آخر من الأدب يصح أن يستغله الأدباء، وهو أن يعمدوا إلى الأدب القديم، وأبطال الشرق، والأحداث التاريخية العربية فيجعلوا منها موضوعاً لدراستهم ثم يلقوا عليه أضواء مما وصل أليه العلم الحديث والأدب الحديث وعلم النفس الحديث، فيترجموه إلى لغة العصر ويبرزوه في شكل يناسب ذوق الجمهور ويحبب إليهم قديمهم.

أنهم إن فعلوا ذلك استطاع من لا يعرف لغة أجنبية أن يجد غذاءه في الأدب العربي، واستطاع أن يكون إنساناً مثقفاً تكفيه ثقافته، واستطاع من يعرف لغة أجنبية أن يباهي بأدب قومه كما تباهي كل أمة بأدبها، وفي ذلك اعتداد بشخصيتنا العربية الشرقية لا يستهان به.

ص: 30

‌إلى الدكتور عوض

من الدكتور علي مصطفى مشرفة

قرأت في مقال لك منشور برسالة أمس إن بيننا وبين الشمس 92 ، 000 ، 000 ميلا في الصيف، 93 ، 000 ، 000 ميلا في الشتاء. ولما كنت أنت اعلم الناس بان بعد الشمس عنا اكثر صيفاً منه شتاء (بداهة، يقصد سياق الحديث من الصيف في النصف الشمالي للكرة الأرضية والشتاء كذلك إذ أن العباس بن الأحنف إنما عاش في هذا النصف).

كما أن 93 ، 000 ، 000 ميلاً هي متوسط بعد الشمس أي البعد حوالي وقتي الاعتدالين الربيعي والخريفي، وأما البعد في فصلي الربيع والصيف فأكثر من ذلك، ويبلغ أقصاه حوالي وقت الانقلاب الصيفي، فيزيد حينئذٍ بنحو 1: 60 من قيمته المتوسطة، أي بنحو 1 ، 5 مليون ميل، وفي فصلي الصيف والخريف والشتاء يكون أقل من المتوسط، ويصل إلى حده الأدنى حوالي وقت الانقلاب الشتائي فيكون حينئذ أقل من قيمته المتوسطة بنحو60: 1 منها بنحو 1. 5 مليون ميل أيضا، فتكون نهايتاه العظمى والصغرى نحو94. 5 مليون ميل صيفاً ونحو 91. 5 مليون ميل شتاء. أقول لما كنت أنت أعلم الناس بذلك أردت أن أكتب هذا إليك لكي تبادر بتصحيح ما قد يكون علق بأذهان قراء مقالك الممتع من ان الشمس أقرب إلينا صيفاً منها شتاء.

وفي الختام أرجو أن تتقبل سلامي الخالص وإعجابي بمقالاتك التي أتتبعها في الرسالة بعناية مقرونة باللذة الفكرية.

ص: 31

‌حول قصة مصرية

قرأت كلمة في العدد الثامن من الرسالة الغراء بعنوان (حول قصة مصرية) وصف فيها كاتبها قصتي (حكمت المحكمة) بأنها قشور للقصة الحقيقية، وكم كان بودي أن يذيلها حضرته بإمضائه حتى أشكره وأشد على يديه إستحساناً وطرباً، فإن لي غراماً بفن القصة القصيرة، وأكبر الظن أني لن أصل إلى غايتي فيه إلا على ضوء النقد

كل ما أريد أن أقول هو أني عالجت في أقصوصتي:

1.

عادات الريفيين في مآتمهم

2.

مركز العمدة في القرية المصرية

3.

اعتزاز العربي بشرفه ودفاعه عن عرضه

4.

خطأ القانون في عقاب المدافع عن عرضه ومسامحته المعتدي على هذا العرض

ولست أعتقد أن كل ذلك قشور كما وصفه الكاتب، بل أني أخاف أن ينطبق هذا الوصف على خطته التي رسمها للقصة.

إنه يتساءل:

1.

كيف أتصل إبراهيم أفندي بابنة الأعرابي وهذه نقطة غير لازمة، يكفي أن يعرف القارئ من القصة أن الاتصال ممكن مادامت سلمى تخرج إلى الحقول ترعى غنمها.

2.

وكيف كانت العلاقة بينهما؟ على خير ما تكون يا سيدي. هي علاقة حب ما في ذلك شك. ولن أترك موضوع قصتي لأحصي عدد القبلات التي طبعها إبراهيم أفندي على خد سلمى

3.

كيف ظهرت هذه العلاقة وعرفها والد الفتاة؟ إن يكن الجواب صعباً فهو موضوع لقصة أخرى بوليسية، وأن يكن سهلاً مفهوماً ففي ذكره اتهام لذكاء القراء

وبعد فقد عاب حضرة الكاتب على القصة خلوها من أثر العواطف والمشاعر، وادعي إني لجأت في وضعها إلي الحوادث فسردتها سرداً كأنها خبر من أخبار الصحف اليومية، وفي هذا تجن على الحقيقة كثير كما ترى.

السيد أبو النجا. مدرس بالتجارة المتوسطة بالظاهر

ص: 32

‌في الأدب العربي

ابن خلدون والتفكير المصري

للأستاذ محمد عبد الله عنان

(5)

على إن ابن خلدون كان من جهة أخرى يحظى بتقدير فريق قوي من الرأي المصري المفكر. وكان على رأس هذا الفريق المؤرخ العلامة تقي الدين المقريزي. فقد درس المقريزي في فتوته على ابن خلدون واعجب بغزير علمه، ورائع محاضراته، وطريف آرائه ونظرياته. ويتحدث المقريزي عن شيخه ابن خلدون بمنتهى الخشوع والإجلال وينعته (بشيخنا العالم العلامة الأستاذ قاضي القضاة) ويترجمه في كتابه (دور العقود الفريدة) بإسهاب وإعجاب، ويرتفع في تقدير مقدمته إلى الذروة فيقول:(لم يعمل مثلها، وانه لعزيز أن ينال مجتهد مثالها، إذ هي زبدة المعارف والعلوم ونتيجة العقول السليمة والفهوم، توقف على كنه الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر الظيم، والطف من الماء سرى به النسيم). وهو تقدير يعارضه فيه ابن حجر كما قدمنا، ويأخذ ابن حجر وتلميذه السخاوي على المقريزي موقفه من ابن خلدون، ويرميانه بالمبالغة والإفراط في تعظيمه وإجلاله، ويقدم لنا ابن حجر تعليلا لهذا الموقف، وهو إن المقريزي كان ينتمي إلى الفاطميين وابن خلدون يجزم بإثبات نسبهم، ثم يقول لنا: إن المقريزي غفل في ذلك عن مراد ابن خلدون، فانه كان لانحرافه عن آل علي يثبت نسب الفاطميين إليهم، لما أشتهر من سوء معتقد الفاطميين وكون بعضهم نسب إلى الزندقة وادعى الألوهية.

وقد تأثر المقريزي فوق تعظيمه وتقديره لابن خلدون بنظرياته تأثراً كبيراً. وظهر هذا الأثر واضحاً في كتابه (إغاثة الأمة بكشف الغمة) الذي انتهت إلينا نسخة وحيدة منه تحتفظ بها دار الكتب المصرية.

ففي هذا الكتاب الذي يقول لنا المقريزي انه كتبه في ليلة واحدة من ليالي المحرم لسنة 808 والذي يتحدث فيه عن محن مصر منذ اقدم العصور إلى عصره، ينحو المقريزي في الشرح والتعليل منحى شيخه وأستاذه ابن خلدون في مقدمته. فيقدم لرسالته بمقارنة موجزة

ص: 33

بين الماضي والحاضر، وملخص لما جازته مصر من محن الغلاء والشَرَق منذ الطوفان إلى عصره، ثم ينفرد لنا فصلاً يتحدث فيه عن الأسباب التي نشأت عنها هذه المحن وأدت إلى استمرارها طوال هذه الأزمان، وفي هذا الفصل نرى منهج ابن خلدون في البحث والتعليل واضحاً، بل نرى المقريزي يستعمل ألفاظ شيخه وعباراته مثل (أحوال الوجود وطبيعة العمران وما إليها.) وفي رأي المقريزي إن أسباب الخراب والمحن، ترجع أولاً إلى توليه الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، واستيلاء الظلمة والجهلاء عليها، وثانياً غلاء استئجار الأطيان، وزيادة نفقات الحرث والبذر والحصاد (نفقات الإنتاج) على الغلة، وثالثاً ذيوع النقد المنحط، ويتبع ذلك بنبذة في تاريخ العملة في الدول الإسلامية ومصر. ثم يتحدث عن طبقات المجتمع، وأوصاف الناس، ويقسم لنا المجتمع المصري إلى سبعة أقسام: _

(1)

أهل الدولة.

(2)

أهل اليسار من التجار وأولي النعمة من ذوي الرفاهة.

(3)

الباعة وهم متوسطو الحال من التجار، وأصحاب المعاش وهم السوقة.

(4)

أهل الفلح وهم أرباب الزراعة والحرث وسكان الريف.

(5)

الفقراء وهم جل الفقهاء وطلاب العلم.

(6)

أرباب المصالح والأجر وأصحاب المهن.

(7)

ذوي الخصاصة والمسكنة الذين يتكففون الناس.

ويذكر أحوال كل فريق بالتفصيل، ثم يتحدث عن أسعار عصره وبخاصة أسعار المواد الغذائية ويختتم بشرح رأيه في معالجة هذه المحن، وهو أن يغير نظام العملة، فلا يستعمل منها إلا المكين الثابت من ذهب وفضة، وهي فكرة تثبيت النقد بعينها.

هكذا ينحو المقريزي في الشرح والتعليل، وهكذا نلمس أثر المؤرخ واضحاً في منهج تلميذه، ونستطيع أن نجد كثيراً من أوجه الشبه بين ما يعرضه المقريزي في رسالته، وبين ما كتبه ابن خلدون في مقدمته عن طبيعة الملك وعوامل فساده، وعن السكة، وعن أثر المكوس في الدولة، وأثر الظلم في خراب العمران، وكيف يسري الخلل إلى الدولة وتغلبها وفرة العمران والغلاء والقحط، وغير ذلك مما يتعلق بانحلال الدول وسقوطها بل نستطيع

ص: 34

أن نلمح مثل هذا الأثر في بعض ما كتبه السخاوي نفسه في كتابه (الإعلان بالتوبيخ) عن قيمة التاريخ وأثره في دراسة أحوال الأمم، فهنا يبدو السخاوي أيضاً على رغم خصومته لابن خلدون متأثراً بفكرته الفلسفية في شرح التاريخ وفهمه.

وهنالك مؤرخ مصري أخر هو أبو المحاسن بن تغري بردي يشاطر شيخه المقريزي تقديره لابن خلدون ويشيد بمقدرته ونزاهته في ولاية القضاء ويقول لنا انه باشر القضاء بحرمة وافرة وعظمة زائدة وحمدت سيرته.

ويظهر اثر ابن خلدون أيضاً في اعتماد بعض أكابر الكتاب المصريين المعاصرين عليه والاقتباس من مقدمته وتاريخه، ومن هؤلاء أبو العباس القلشندي صاحب كتاب (صبح الأعشى) فانه يقتبس من ابن خلدون في مواضع شتى من موسوعته.

(6)

هذه صورة دقيقة شاملة لحياة ابن خلدون في مصر، وصلاته بحياتها العامة، وأثره في حركتها الفكرية المعاصرة.

وهذه الحقبة من حياة المؤرخ، وهي حقبة طويلة امتدت ثلاثة وعشرين عاماً، تخالف في نوعها وظروفها حياته بالمغرب، ففي المغرب عاش ابن خلدون بالأخص سياسياً يتقلب في خدمة القصور المغربية، ويخوض غمر دسائس ومخاطرات لا نهاية لها.

ولكنه عاش في مصر عالماً قاضياً وإذا استثنينا مفاوضاته مع تيمورلنك في حوادث دمشق، وسعيه إلى عقد الصلة بين بلاط القاهرة وسلاطين المغرب، فانه لم يتح له أن يؤدي في سير السياسة المصرية دوراً يذكر. وإذا كان ابن خلدون قد خاض في مصر، معترك الدسائس أيضاً، فقد كان هذا المعترك محلياً محدود المدى شخصياً في نوعه وغاياته.

وكانت حياة ابن خلدونفي مصر اكثر استقراراً ودعة، وأوفر ترفاً ونعماء من حياته بالمغرب، ولكن الظاهر إن سحباً من الكآبةوالألم المعنوي كانت تغشى هذه الحياة الناعمة. فقد كان ابن خلدون في مصر غريباً بعيداً عن وطنه وأهله، وكان يعيش في جو يشوبه كدر الخصومة وجهد النضال، ونستطيع أن نلمس ألم البعاد في نفس المؤرخ في بعض المواطن، فهو يذكر غربته حين يتحدث عن اتصاله بالسلطان إثر مقدمه ويقول إن السلطان (أبر مقامه وآنس غربته). وهو يكشف لنا عن هذا الألم في قصيدة طويلة نقلت إلينا

ص: 35

التراجم المصرية منها هذه الأبيات المؤثرة:

أسرفن في هجري وفي تعذيبي

وأطلن موقف غربتي ونحيبي

وأبين يوم البين موقف ساعة

لوداع مشغوف الفؤاد كئيب

لله عهد الظاعنين وغادروا

قلبي رهين صبابة ووجيب

ولا ريب إن هلاك أسرة المؤرخ كانت عاملاً في إذكاء هذا الألم المعنوي، وهو يحدثنا عن هذه الفاجعة بلهجة الحزن واليأس حين يقول:(فعظم المصاب والجزع ورجح الزهد).

وكان المؤرخ يؤثر حياة العزلة في فترات كثيرة، وهو يشير إلى ذلك في بعض المواطن، حيث يقول لنا انه:(لزم كسر البيت ممتعاً بالعافية لابساً برد العزلة). وتشير التراجم المصرية إلى هذه العزلة فيقول لنا السخاوي: (ولازمه (أي المؤرخ) كثيرون في بعض عزلاته، فحسن خلقه معهم وباسطهم ومازحهم). وكان المؤرخ يشتغل في هذه الفترات بمراسلة أصدقائه بالمغرب والأندلس من السلاطين والأمراء والفقهاء، وهو يشير إلى ذلك في عدة مواضع.

وقد يكون من الشائق أن نعرف أين كان يقيم المؤرخ بالقاهرة، ولدينا عن ذلك نصان نقلهما ابن حجر عن الجمال البشبيشي ويقول الجمال في أولهما (انه كان يوماً بالقرب من الصالحية فرأى ابن خلدون وهو يريد التوجه إلى منزله وبعض نوابه أمامه. . .)(فيلوح من هذه الإشارة إن المؤرخ كان يقيم مدى حين على مقربة من الصالحية في الحي الذي تقع فيه هذه المدرسة اعني حي بين القصرين أو في أحد الأحياء القريبة منه، وذلك لأن مركز وظيفته كقاض للقضاة كان بهذه المدرسة ولأن إيوان الفقهاء المالكية كان يقع بجوارها. وأما في النص الثاني فيقول لنا الجمال ما يأتي مشيراً إلى ولاية ابن خلدون للقضاء عقب عوده من دمشق سنة ثلاث وثمإنمائة (إلا انه (أي ابن خلدون) تبسط بالسكن على البحر واكثر من سماع المطربات. . . الخ) ويستفاد من ذلك إن المؤرخ كان يقيم في هذا الحين في أحد الأحياء الواقعة على النيل ولعله جزيرة الروضة أو لعله بالضفة المقابلة من الفسطاط، حيث كانت لا تزال بقية من الأحياء الرفيعة التي قامت هنالك مذ خطت الروضة وعمرت وصارت منزل البلاط في أواسط القرن السابع، وسكن الكبراء والسراة في الضفة المقابلة لها من الفسطاط. ويرجح هذا الفرض إن المدرسة القمحية التي كان

ص: 36

يدرس فيها ابن خلدون بلا انقطاع كانت تقع على مقربة من هذا الحي.

هذا وأما مثوى المؤرخ الأخير، فقد ذكر لنا السخاوي انه دفن (بمقابر الصوفية خارج باب النصر) ويحدثنا المقريزي عن موقع هذه المقابر وقد كانت تقع بين طائفة من الترب والمدافن التي شيدها الأمراء والكبراء في القرن الثامن خارج باب النصر في اتجاه الريدانية (العباسية) ومقبرة الصوفية هذه أنشأها صوفية الخانقاه الصلاحية في أواخر القرن الثامن في هذا المكان وخصصت لدفن الصوفية، وقد كان المؤرخ كما نذكر مدى حين شيخاً لخانقاه بيبرس.

فهل يكشف لنا الزمن يوماً عن مثوى رفات المفكر العظيم فيغدو قبره أثراً جليلاً يحج إليه المعجبون برائع تفكيره وخالد آثاره؟

ص: 37

‌من طرائف الشعر

شوقية لم تتم

ننشر اليوم (مشروع قصيدة) كان شاعر الخلود شوقي بك يريد أن ينظمها في (الصحراء)، ثم بدا له فتركها على حالها الأولي قبل أن تتم، فأثبتناها بخطه كما هي خدمة للأدب والتأريخ

يا مُصّلي أديمه

من بني آدم طُهر

سبّح الرمل والحصى

في نواحيه والحجر

وعلى ظُهر جوه

صلَّت الشمس والقمر

جمعا عُزلة المدا

ر إلى عزلة المدر

سبحا ثم سبحا

بالعشايا وبالبُكر

وخِضَمَّا من الرما

ل أواذيًّه الصَخر

ماله ساحل ولا

من فحاءاته وزرَ

فيه من كل حاصب

جلل الجو وانهمر

هب من كل جانب

كالدَّبى اشتد وانتشر

رب أكفان مقمر

منهُ هيًّئن أو حُفر

وفضاء كأنه

حلم رائع الصور

العشايا سواحر

في حواشيه والبكر

كل سار وسامر

. . . . . .

ثم غير المرحوم هذه الأبيات الثلاثة المتقدمة بالأبيات آلاتية:

يا فضاء بسحره

ولًّه الركب بالسًّحر

فتنتهم وجوهه

واستخفتهمُ الصور

وشجاهم سكونه

بالعشايا وبالبكر

لا تلمهم فإنما

قائد إلا نفس الفِطر

كل نفس لها هوى

كل نفس لها وطر

كم جمال ومنظر

فرقا لذة النظر

ص: 38

كل حسن ومنظر

فيهما للهوا نظر

ص: 39

‌وطن جبران خليل جبران

هو ذا الفجر فقومي ننصرف

عن ديار ما لنا فيها صديق

ما عسى يرجو نبات يخلف

زهرهُ عن كل ورد وشقيق

وجديد القلب أنى يأتلف

مع قلوب كل ما فيها عتيق؟

هو ذا الصبح ينادي فاسمعي

وهلمي نقتفي خطواته

قد كفانا من مساء يدعي

إن نور الصبح من آياته

قد أقمنا العمر في واد تسير

بين ضلعيه خيالات الهموم

وشهدنا اليأس أسرابا تطير

فوق متنيه كعقبان وبوم

وشربنا السقم من ماء الغدير

وأكلنا السم من فج الكروم

ولبسنا الصبر ثوباً فالتهب

فغدونا نتردى بالرماد

وافترشناه وساداً فانقلب

عندما نمنا هشيماً وقتاد

يا بلادا حُجبت منذ الأزل

كيف نرجوك ومن أي سبيل؟

أي قفر دونها أي جبل

سورها العالي ومن منا الدليل؟

أسراب أنتِ أم أنتِ الأمل

في نفوس تتمنى المستحيل؟

أمنام يتهادى في القلوب

فإذا ما استيقظت ولى المنام؟

أم غيوم طفن في شمس الغروب

قبل أن يغرقن في بحر الظلام؟

يا بلاد الفكر يا مهد الألى

عبدوا الحق وصلوا للجمال

ما طلبناك بركب أو على

متن سفن أو بخيل ورحال

لست في الشرق ولا الغرب ولا

في جنوب الأرض أو نحو الشمال

لست في الجو ولا تحت البحار

لست في السهل ولا الوعر الحرج

أنت في الأرواح أنوار ونار

أنت في صدري فؤاد يختلج

ص: 40

‌القلب اليتيم

أرأيتِ النسيم مَرَّ على الرو

ض يناغي الزهور بالتقبيل؟

ورأيتِ الغصون يهفو بها الشو

ق فتلتف في عاق طويل؟

ونظرت العشاق: كل خليل

طائر القلب في غرام خليل؟

يغمر الحب كل قلب ويسقي

كل نفس من كأسه السلسبيل

غير قلبي، فقد خلا من نعيم

الحب أو روضه البهج الظليلِ

بادليه الغرام ثم اقبسيه

من سَنَا نورك البهي الجليل

طهريني بناره واتركيني

شاردا في مراحه المجهول

وَدَعيني افن الشباب غراما=بين نوح ولهفة وعويل

قد مللتُ الحياة من غير حب

واراني في الحب غيرَ مَلولِ

أمين عزت الهجين

ص: 41

‌قلبي

قلبيِ الذيِ يحبه

يرفُّ حولَ قده

يسبح فيِ مقله

يرقص فوق خدّه

قلبي الذي استعار من

لهَّفتهِ خُفوَقهُ

أعمى فانْ لاح له ال

حسن رأى طريقهُ

قلبي المعنىّ طائرٌ

داميةٌ جراحه

أكلما خَفّ له

أثقلهُ جناحه؟

قلبي سراج في الدجى

من ناظريك نورُهُ

أطفأه بُعدك يا

حلوُ فمن ينيره؟

(سورية) حمص. رفيق فاخوري

ص: 42

‌حينما كنا صغيرين

ذلك عهد وان تولى جديد

مشرق النور عاطر النفحات

هو ماض من الحياة سعيد

يملأ النفس في ربيع الحياة

كلما جد ذكره عاودتني

عند ذكراه نشوة المستعيد

وإذا غاب طيفه وجهتني

حرقة الوجد نحوه من جديد

يا زماناً عرفته حين كنا

نشبه الزهر في معاني النقاء

وكأن الزهور ترنو إلينا

في انتباه وغيرة واشتهاء

حين كنا كطائرين أصابا

في ظلال الربيع غصناً وريقاً

ننهب اللهو جيئةً وذهاباً

ونرى العيش ما حللنا طليقاً

كم نهضنا مع الطيور صباحاً

نطلب اللهو في رواء الصباح

نسبق الطير خفة ومراحاً

بين حزن الربى وسهل البطاح

كم سعينا إلى الرياض أصيلاً

وقطفنا الزهور ملء يدينا

كم ضحكنا وكم لعبنا طويلاً

كم جرينا وكم مشينا الهوينى

كم جمعت الزهور من كل غصن

ووضعت الزهور بين يديها!

جمع الزهر كل طهر وحسن

أين حسن الزهور من وجنتيها؟

اعرف الحب منذ كنت صغيراً

مطمئناً إلى نعيم الحياة

ليتني قد بقيت طفلاً غريراً

ساهي الطرف لاهي النظرات

ليت شعري أتذكر اليوم ودي

أم تناسته والتباعد ينسي

وبحسبي من الصبابة وجدي

ومن الهجر ما يعذب نفسي!

يا زماناً ذكرته في شبابي

فتمنيت أن أعود غلاماً

وعجيب مع الشباب طلابي

غير إن الزمان يأبى ابتساماً

محمود الخفيف

ص: 43

‌صورة

لوليم وردزورث

أبدع بفن أبرزت آياته

ذاك الغمام بحسنه المتألق

// لم يسه ثمة عن دخان خافت

يسمو ولا عن ضوء شمس مشرق

واستوقف الماشين قبل غيابهم

في ذلك الغاب الألفِّ المورق

وأيان ذلك الفلك يفتأ مرسيا

فوق الخليج وماءه المترقرق

يا أيها الفن الذي يروي النهى

ويظل يقبس كل حسن مونق

من روعة الآصال يقبس نوره

أو لمعة الإصباح ذات الرونق

هي وهلة في الدهر مسرعة الفنا

وافيتها ببنانك المترفق

فجلوتها لبني الممات جديدة

وكسوتها ثوب الخلود المطلق

ص: 44

‌متاعب الإنسان

لأندريه شنييه

// لكل شجون في الحياة كثير

ولكن يواري عن سواء شجونهُ

وكل فتى يبكي لبلواه غابطاً

فتى مثله باكي الفؤاد حزينهٌ

ولم يدر الإنسان بآلام غيره

فهم مثلما يخفي الأسى يكتمونهُ

وكل يناجي نفسه في شقائه

بان جميع الناس تسعد دونه

فخري أبو السعود

ص: 45

‌في الأدب الشرقي

من الشعر التركي

للشاعر المرحوم إسماعيل صفا

ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام

(1)

الشيخ البائس

احدودبت قامته، وارتعدت رجله ويده، وشحب لونه، وترنحت خطواته، ونمت أسرة وجهه عن فجائع حياته.

أن تنعم النظر في عينيه البارقتين، ومحياه الواضح، ولحيته البيضاء، تتبين انه طوف في الصحارى والبحار، وتهادته المدائن والقفار، وما جبينه المشرق إلا كتاب مفعم بالخطوب.

وقد غشى وجهه اشمئزاز من الحياة، وبرم بها، فالعالم أمامه مقبرة مكررة.

وتقرا في وجهه انه نضو حانات، شرب صفوها وكدرها، وتجرع ألوانا من سمومها.

رأيته لأول مرة، فقلت: ليت شعري من الرجل؟ ولست ادري لماذا زدت على الأيام شغفا بمعرفته، وكلفا بأستكناه أمره، انه يمر بداري كثيرا، فهو لا ريب أحد جيرتي، ولكن من هذا الشيخ البائس المحبوب الطلعة؟

كم لقيته شريدا تتقاذفه الطرقات، وتعثر به الخطوات، قد تأبط زجاجته، وقطب أسرته، فليت شعري من هو، وماذا يضطرب في ضميره؟

ذهبت يوما إلى أيوب، إلى غابة السرو المترعة بالأحجار وغصت في لجج من الفكر ما لها من قرار، ألست أرى الشيخ السكير؟ نعم انه هو. قد استند إلى شجرة من السرو وضرب بيده على لحيته مفكرا حزينا. وأمامه صفائح عتيقة قد استغرقت نظراته، واستبدت بأفكاره.

مشيت إليه على هينة حذراً، وقرأت ما كتب على القبر فعرفت حال الرجل ورثيت له، وجاشت في نفسي ثورة من الحزن والغم، وكان الذي قرأته هذه الأبيات:

(وا حسرتاه! إن صرصر الأجل العاتية، قد ذهبت بشجرة الأمل الناضرة، وقد مشى الموت الجبار على زهرة حياتي، فما الدنيا من بعد إلا مأتم، وما فرحي وعيدي إلا الحزن والغمّ).

ص: 46

إن تاريخ رحلته واحسرتا قد أتفق: (جنت مقرا ولدي محمد فريدمك)(صارت الجنة مقر محمد فريدي) سنة 1299

(2)

ليكن لك

ليكن لك ما غاب في العالم من جمال وحضر، وما ظهر من حُسن فيه واستسرّ، والسحائب بألوانها الباهرة، والصحارى بمرائيها الساحرة، وكل ما ترنم به العشق من غناء، وما إفاضه الوجد على ألسن الشعراء، وهذه الحدائق بنفحاتها ونغماتها، وهذه القبة المنيرة بشموسها وسياراتها، ومطلع الشمس في روائه، والقمر في لألائه والأزهار في حلل من الشفق، والأسحار مزدهرة في الغسق.

ليكن لك الجبال والبحار، والفلوات والأشجار، لتكن لك الدنيا دائمة السراء والسعادة والصفاء، ليكن لك في هذه الحياة كل ما تشائين، وليكن طوع أمرك ما تشائين، وليكن تحت طوعك ما تحبين.

ولكن كوني أنتِ لي يا حبيبتي، كوني أنت وحدك لي.

(3)

قلت وأقول

قلت: لو إن الليل المظلم صار نهارا!

وقلت: حين أمضّي الشتاء: لو انه انقلب ربيعا معطارا!

قلت: ولو إن طودا تخلله الأشجار، وتزينه الرياحين والأزهار، مشرف على لجج البحار.

قلت: ولو هنالك صحارى ومروجا تمرح فيها الطير والحملان.

قلت: ولو وقعت في الصحراء الظباء، فكلما بصرت بي أجفلت وانطلقت حيث تشاء

قلت: ولو إن على الجبل شجرة دلب عتيقة ولو إني في ظلها وحيد، وعلى غصونها بلبل غريد!

قلت: ولو خلع القمر على الكائنات حلل الضياء، وغشت السكينة الأرجاء.

قلت: ولو إن الأرض كلها والسماوات معطرة الأرجاء مضيئة الجنبات.

قلت: ما كنت لأسعد بهذا كله إلا أن يسعد طالعي فيؤنسني حبيبي.

وأقول الآن: هب كل هذا ميسرا. إنه واحسرتا! ظل زائل، فلو ذهبت إلى عالم لا تحول

ص: 47

لذاته، ولا تفنى مسراته!!

ص: 48

‌العلوم

صور النجوم

للأستاذ عبد الحميد سماحة. مفتش مرصد حلوان

قسم الفلكيون من قديم الزمان النجوم إلى مجموعات ليتيسر حصرها ومعرفتها بسهولة، وصوروا هذه المجموعات بصور مختلفة وسموها بأسمائها، فكل نجم أعطوه اسم العضو الذي يقع عليه من الصورة، فالنجم الذي عند القلب في صورة العقرب، يسمى (قلب العقرب) والذي عند الرجل في صورة الجبار يسمى (رجل الجبار).

ومن الغريب أن تكون هذه الطريقة في تقسيم النجوم معروفة عند أمم مختلفة من سكان الدنيا القديمة على بعد الشقة بينها، ووجدها الأوربيون عند سكان بيرو وكندا عند اكتشاف الأمريكيتين.

ومن الصعب معرفة تاريخ تسمية الصور بأسمائها المعروفة الآن، ولكن من المقرر أن الكثير منها يرجع في تسميته إلى ما قبل الميلاد بنحو آلف وأربعمائة سنة، وقد أطلق اليونان على الكثير منها أسماء أبطال قصصهم التاريخية، وبقيت هذه الأسماء على مرور الزمن، ولكن العرب عندما ترجموا عن اليونان عربوا بعض الأسماء مثل الدلو أو ساكب الماء لكوكبة اكوريوس وأبدلوا بعض الأسماء بأدوارها التي تلعبها في القصص اليونانية مثل المرأة المسلسلة لكوكبة اندروميدا وتركوا البعض الأخر على أصله في اليونانية مثل قيطس لكوكبة وقنطورس لكوكبة

وأطلق العرب أسماء عربية بحتة على كثير من النجوم ولا تزال تطلق عليها عند الأوربيين مثل الذنب المعروف والرِّجل المعروف باسم والطائر المعروف باسم

ويجب إلا ننسى إن هذه المجموعات من النجوم لا تدل تماما في شكلها على صورة الأحياء المسماة بأسمائها، اللهم إلا في مخيلة أول من سموها بهذه الأسماء. فسبعة النجوم الرئيسية من كوكبة الدب الأكبر مثلا وهي تؤلف الهيكل الرئيسي لصورة دب كما هو ظاهر في الصورة، يمكننا مع قليل من التعب أن نرسم عليها صورة فيل أو نمر مثلا، هذا فضلا عن إن ثلاث النجوم التي تكون الذنب متباعدة بحيث نجد هذا الذنب في الصورة طويلا على غير ما هو معروف من إن ذنب الدب قصير جدا.

ص: 49

وقد قسم بطليموس المتوفى سنة150 قبل الميلاد السماء إلى 48 كوكبة منها اثنتا عشرة في الدائرة الكسوفية وهي المعروفة بالبروج وإحدى وعشرون في نصف الكرة الشمالي، والباقي وهو خمس عشرة كوكبة في نصف الكرة الجنوبي.

وقد أضيفت كوكبات كثيرة إليها، ونقلت بعض النجوم من إحدى الكوكبات إلى الأخرى، ومعظم النجوم اللامعة في هذه الكوكبات له أسماء عربية أو لاتينية أو يونانية.

وليست الكوكبات فيما تتصل به من أسماء أبطال القصص مما يهم الفلكي، ولكن لا بأس من أن نسرد بعض ما يتصل بالمهم منها بالقصة اليونانية لشدة ولع الناس بها من هذه الناحية.

يروى إن كاسيوبيا وهي المعروفة عند العرب بذات الكرسي، زوجة قيفاوس ملك اثيوبيا كانت على جانب عظيم من الجمال، وكانت تباهي به الآهات البحر اللواتي توسلن إلى (نبتون) أن يرسل قيطس الغول إلى شواطئ الملك قيفاوس ليثار لهن، وأن قيفاوس أوحى إليه أن يربط ابنته (اندروميدا) إلى صخور الشاطئ فيغتالها الغول فداء لهم، ففعل، ولكن عند عودة برشاوش البطل العظيم من رحلة رأى ما حل باندروميدا فقاتل الغول حتى قتله وتزوج من الأميرة الحسناء. ويأتي في القصة انه بعد وفاة كاسيوبيا رفعت إلى السماء بجوار القطب، وأن الآهات البحار انتقاما لأنفسهن وضعنها بحيث يكون رأسها إلى الأسفل مدة نصف الوقت.

وبرشاوش هو ابن جيوبتر وقد أرسل ليقتل ميدوسا إحدى الشقيقات الثلاث وهي الفظيعة المعروفة في القصة باسم لها أنياب حادة ومخالب غليظة ورأس كرأس الثعابين، وكل من نظر إليها بعينيه صيرته حجراً جامداً لساعته، وقد احتاط برشاوش للأمر فاستعار درع مينرفا وحذاء عطارد ذا الأجنحة ولم ينظر إليها عند مقاتلتها بل إلى صورتها في الدرع، فقطع رأسها ثم عاد به، وكان يستعمله في مقاتلة الأعداء لأنه احتفظ بخاصيته الغريبة في أن يصير كل من ينظر إليه حجرا.

ومما يلاحظ إن العرب كانوا يسمون كوكبة هذا باسمي برشاوش أو حامل راس الغول، ومن أحفاد برشاوش واندرومينا (هرقل) المشهور في القصة اليونانية بمخاطراته الجريئة التي يبلغ عددها اثنتي عشرة، ويرى هرقل في الكوكبات المصورة جاثيا وقدمه اليسرى

ص: 50

على التنين ولابساً لبدة الأسد الذي كان قتله أول أعماله المشهورة، وقد ذهب هرقل لإحضار التفاحات الذهبية من حديقة هسبريدز وقد كان يحرس الحديقة الثعبان الكبير لادون الذي لا تغمض له عين (وهو الممثل في السماء بكوكبة التنين، وهي نظراً لقربها من القطب لا تغيب تحت الأفق).

وغني عن البيان إن هرقل قتل التنين واحضر التفاحات، غير إنا لا نعرف لماذا صوروا هرقل جاثيا، وربما كان ذلك هو السبب في تسميته عند العرب باسم الجاثي على ركبتيه.

أما ذات الشعور فيروى إن الملكة برنيس زوجة بطليموس ملك مصر في القرن الثالث قبل الميلاد نذرت شعرها الجميل لمعبد الزهرة إذا عاد زوجها مظفرا من إحدى حروبه في آسيا وقد انتصر فوضعت الشعر في المعبد، ولكنه سرق في الليلة نفسها فغضب الملك لذلك غضباً شديداً، ولكن (كونن) الرياضي أراه مجموعة صغيرة من النجوم وقال له ها هي ذي فتعزى الملك وأطلق عليها اسم وسماها العرب كوكبة ذات الشعور.

عبد الحميد سماحة

ص: 51

‌حلم الأستاذ مجنان

للدكتور احمد زكي

للأستاذ مجنان رأي بديع في مستقبل الطيران يشبه الأحلام في

حلاوتها. وإذا اعتبرنا انه المستشار الفني لوزارة الهواء الفرنسية وانه

درس خمسمائة جنس من أجناس الطيور، وعددا لا يحصى له من

الحشرات الطائرة، بقصد زيادة الطيران دقة وسهولة ويسراً، وانه

قضى في تلك الدراسة نيفاً وعشرين سنة، وإذا اعتبرنا انه قص هذا

الحلم الحلو في مجمع العلوم بباريس، وان العلم كثيرا ما أتانا بأحلام لا

نلبث أن وجدناها أولت تأويلا صادقا، إذا اعتبرنا كل ذلك صغينا إلى

الأستاذ بآذان واعية وقلوب مؤمنة، إن كان بها قليل من الريبة ففيها

كثير من الأمل، وان خّفت بها غرابة ما يقترح إلى ابتسامة التكذيب،

قعدت بها ابتسامة هادئة من سرور الطمأنينة والتصديق، ذكرياتُ

غريبات كانت بالأمس فأصبحت اليوم مألوفات لا تأخذ عيناً ولا

ترهف آذناً.

يرى الأستاذ انك في المستقبل القريب عندما تريد أن تزور صديقا لن تدخل إليه من باب بيته وإنما تطرق عليه باب سطحه، ولن يكلفك ذلك إلا أن تلبس جناحين لا تزيد مساحة الجناح منهما على أربع أقدام مربعة أو خمس وتقفز من سطح بيتك في الهواء فإذا بك تطير في الفضاء على بركة الله. وإنما يشترط أن يكون بعضلك من القوة ما يحرك الجناحين بسرعة بحيث يضربان عددا من الضربات بين الثلاث عشرة والعشرين في الثانية الواحدة. بالطبع لن يستطيع ذراعان إحداث هذا العدد من الضربات في ذلك الوقت القصير، لذلك يقترح الأستاذ أن تقوم الأرجل مقام الأذرع فتضغط على بدالين كبدالات الدراجات، إنما هنا يتحركان معا. وهذان البدالان يحركان جيرا يحرك جيرا اصغر منه

ص: 52

وهكذا حتى تتصل الحركة إلى الجناحين، فإذا حركت رجلاك الجير الأكبر مرتين في الثانية، حرك هذا الأصغر منه أربع مرات، وحرك هذا الذي يليه وهو اصغر منه أضعاف هذه المرات، فلا تصل هذه الحركات إلى الجناحين وهما خفيفان جدا حتى يتحركا بما هو بما بين الثلاث عشرة والعشرين من الضربات. ولكن يجب أن يضرب الجناح في اتجاه رأسي وهو نازل فإذا صعد صعد في زاوية، وبهذه الطريقة يقدر المرء أن يسير في الهواء في سطح أفقي واحد، إلا إذا واجه تيارات هوائية فهذه ترفعه. أما الآلة فلن يزيد وزنها عن مائتين وعشرين رطلا والقوة اللازمة للطيران بها على الصورة المذكورة تبلغ ثمن حصان وهي القوة التي ينفقها العامل الذي يشتغل بجسمه كل يوم في عمله. وفي استطاعتك إذا أردت أن تقتصد في من قوة بدنك أن تستخدم محركا صغيرا لا يزيد حجمه كثيرا على حجم رأسك، وعندئذ تستطيع أن تسير أسرع من ذي قبل، وان تصعد في الجو إذا أردت، وتفرغ لتوجيه الآلة، وللبحث عن تيارات الهواء والاستفادة منها، وللمتعة الكبيرة بما يمر تحتك من أشباح الجوامد والأحياء.

وفي استطاعتك إن خشيت وقوف المحرك لخلل ما أن تحمل معك دسقطا من الدساقط المعهودة تقيك الهبوط السريع فالتهشيم، أما مادام المحرك يعمل والجناحان يضربان بالصورة التي كشفها الأستاذ من الطيور بالكمرة السريعة فلا خوف عليك ولا أذى فالصعود في الجو كالصعود في الجبل. ففي الجبل تستعين بعصا تقاوم فيها فعل الجاذبية الأرضية، وفي الهواء عصاك جناحاك تمسك بهما الهواء وتتشبث به كما تمسك بعصاك حجر الجبل، وللهواء جسم كما للجبل جسم وهو جامد بمعنى كما الجبل جامد، ولو كان لنا حس أدق من حسنا وعين أبصر من عيننا لأحسسنا جمود الهواء كما يحسه الطير.

ص: 53

‌القصص

في الأدب الإيطالي الحديث

الرواية في بونتاسياف!

للكاتب الإيطالي لوسيو دامبرا

شرع (مارك) يبتعد، وهو ممسك بذراعي:

- وهي؟. . . . هي؟. . . . . آه! ليتني أستطيع مشاهدتها! ليتني أستطيع ذلك!. . . . إنها لا شك مسرورة الآن كل السرور بل هي الآن فخورة بهذا الانتصار الذي هو انتصارها!!!

ولكن أنى لي مشاهدتها أثناء التمثيل، والظلام يغشى القاعة كلها؟. . . خير لنا أن ننتظرها على بضع خطوات من منزلها. . . وانتظرنا. . . . . انتظرنا أكثر من ساعة، وإذا الستار ينزل بين إعصار شديد من الهتاف والتصفيق، فتسابق أصدقاء (سيريني) إليه، ليؤكدوا له نجاحه، وليقودوه إلى المسرح، لتحية الجماهير، ولكنه أبى أن ينزل على رغبتهم، لم يتحرك، بل لبث يحدق في تلك النافذة، شاحباً كئيباً!!!

أخذت الجماهير تتدفق، وقصدت جموعها تلك القهوة الحقيرة، التي ربحت في تلك الليلة ما لا يصدق؛ وبعد ساعة من الزمن، طفقت ترفض زرافاتها شيئاً فشيئاً، فأوى من أسعدهم الحظ باستئجار غرف في (بونتاسياف) إلى مضاجعهم، وانطلقت سيارات القسم الآخر تعدو وتتسابق، فلم تلبث القهوة أن أقفلت أبوابها، ولم يبق أحد مستيقظا، غير جماعة النقاد المسرحيين، الذين كانوا يتهافتون على دائرة البرق، ليبرقوا إلى صحفهم بهذا الانتصار، وبآرائهم فيه.

أما (سيريني) فأنه لبث واقفاً يحدق في تلك النافذة، ولا يرفع بصره إلا عنها، وقد كانت تلوح على وجهه إمارات الكآبة والحزن:

- طالع منكود!!!. . . أنا الذي لم يرغب في هذا الانتصار إلا لأتمتع برؤيتها عن طريقه. . .

ماذا كنا ننتظر بعد تلك الساعة؟ ليس من شك أنها عادت إلى دارها من حيث لم تقع أبصارنا عليها. . . ليس من شك أنها عادت، ومن وقت غير يسير؛ وأنا كذلك، وإذا

ص: 54

(سيريني) يتأكد أن منزل عروس أحلامه، لا باب له من واجهته!!!

طفقنا نبحث عن الباب، فاهتدينا إليه، في زقاق ضيق. . . . لا شك أنها عادت، ولكن. . . لو كانت عادت، لأبصرنا الضوء من خصاص النوافذ، ولو برهة وجيزة. إلا أنا كنا إذا أمعنا في التفكير قلنا: وما يدرينا؟ هل نحن واقفون على هندسة الدار، حتى نعلم إذا كان إشعال النور في إحدى الغرف، لابد أن يظهر من تلك النوافذ؟

دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، في الكنيسة المجاورة، وكان التعب قد بلغ مني مبلغه، حتى كدت أسقط إلى الأرض إعياء وضعفاً، فشرعت أتوسل إليه أن يعود، ومازلت به حتى أقنعته بذلك. . . وهكذا بفضل الله، وبعد سلسلة لا حد لها من التأوهات المحرقة، والتنهدات الملتهبة، وبعد كثير من الحدس والتخمين، وبعد نواح شبيه بمراثي أرميا، وبعد أن رسم خططاً ليقوم بتنفيذها في الغد، بعد كل ذلك، أوى (سيريني) إلى فراشه، وهو يزأر ويزمجر، وتركني أرقد بسلام؛ وأنا ألعن في نفسي الحب الريفي الذي يحتل قلوب كبار رجال المدن!!!

- 6 -

وفي الصباح، عند الساعة العاشرة، أحتشد الناس في قهوة القرية الحقيرة. وكان (مارك) قد دعا رهطاً من أصدقائه لتناول الطعام في الهواء الطلق، رغبةً منه في استبقائهم حوله. وكان بين المدعوين الممثلة الشهيرة (تيريز اندرياني) وعدد غير يسير من أصدقائه في فلورانسا وروما. وفريق من النقاد المسرحيين. الذين كان الشاعر الرصين، الذي يعرف كيف يدير أعماله لتكون موفقة حتى في اشد أحواله اضطرابا، سيرجعهم بسيارته الخاصة إلى روما. وهنالك طفق اعظم أولئك النقاد مقدرةً، وأبعدهم صيتاً، ينقد الرواية نقداً وجيهاً. مسهباً، ويمتدحها في غير تحفظ ثم أخذ يبين كيف كان يضعها لو عهد إليه بتأليفها. ولكنه لم يكد يدرك نقطة التدليل على سداد رأيه ببرهان جليل من علم الجمال حتى تحول عنه (مارك سيريني) ولم يعد يكترث به. وبأروع جمله. . .

حدث حادثان عظيمان. . . ظهرت عروس أحلامه. ومن ورائها أمها. تخطر وتتهادى في ذلك الزقاق الضيق. متجهة نحو الساحة الكبرى. ولم يكد يتميزها تماماً حتى كان أحد أصدقائه الفلورانسيين. قد هرع إلى السيدتين. ورفع قبعته لتحيتهما. . . وقد لبث يتحد

ص: 55

إليهما زهاء عشر دقائق. كاد (سيريني) ينفجر أثناءها. . . وقد انفجر. . . واخذ يطلع الجميع على سره: (هل تريدون أن تعلموا أصررت على أن تمثل رواياتي لأول مرة في (بونتاسياف)؟. . . إذن فاعلموا. إني لم افعل ذلك إلا من اجل هذه السيدة. التي أهيم بها هياماً جنونياً!).

وبكلمات قليلة أطلعهم على كل شيء. أطلعهم على قصة غرامه منذ وقوف سيارته تحت نافذتها. حتى انتظاره إياها في الليلة السابقة إلى ما بعد منتصف الليل بساعتين!

وكانت ترتفع عبارات الدهشة. والاستغراب. من ههنا وههنا. وكانت ترافقها في بعض الأحيان تعليقات مختلفة متضاربة. ورغم هذا كله ومع إن سيدة النافذة كانت ما تبرح تتحدث إلى (جيورجيني) صديقه الفلورانسي فأنها لم تلتفت إلى جهتنا قط. . . ولكن لا. . . لقد جادت علينا بنظرة قصيرة عندما لفت (جيورجيني) نظرها إلينا.

اخذ (سيرين) يلاحظ الأم. كانت تحمل عددا من مجلة (الليستراسيون) وكتاباً للصلاة تحت إبطها. . . وقد فتحت المجلة وارت صديقنا صفحة فيها. لم يملك أن يكتم دهشته على أثر النظر إليها

- هي تريه رسمي بكل تأكيد!. . . ولكن. . . لماذا يبدي (جيورجيني) هذه الدهشة.

وفي هذه اللحظة تماما، هز الفلورانسي يدي السيدتين، ورفع قبعته لتحيتهما ووداعهما، واتجهت السيدتان، دون أن تلتفتا إلى جهتنا نحو الكنيسة. . .

وعاد (جيورجيني) إلينا مسرعا، ولكن (مارك) كان قد أسرع لمقابلته، وسؤاله:

- من هي؟؟؟

- مدام (ازوري). . . عرفتها وهي طفلة في مدينة فلورنسا

- وماذا قالت لك؟

- لم تقل لي شيئا ذا أهمية!!!

- إذا لماذا نظرت إلي؟

- لم تنظر إليك قط!!!

-. . . إني أؤكد لك إنها نظرت إلي. . .

قال مارك ذلك. واحتد. . . فذكر (جيوجيني)، وبعد مدة

ص: 56

- ها. . . ربما كان ذلك عندما سألتهما إذا كانتا ترغبان في التعرف إلى (مارك سيريني). . .

- وهي. . . ماذا. . . ماذا قالت؟

- لم تقل شيئا!!

- كيف لم تقل شيئا؟. . . هذا محال!. . . تكلم!. . . تكلم!. . . تكلم!. . .

- إني أستميحك عذرا يا (سيريني) من اطلاعك على جوابها!. . . إني لا أجد في نفسي الجرأة الكافية لذلك!!!. . . إني لا يسرني أن أسمعك ما لا يسرك!!!!

- قل!!!. . . قل!!!. . . قل وإلا سحقتك!!!

أما نحن، فقد كنا في غاية الدهشة، والاستغراب. . . و (جيورجيني) المسكين لم يك يفهم سببا لهياج الشاعر وثورته، وكان كلما شدَّد المؤلف عليه النكير، أزداد هو جموداً واضطرابا

- قلت لهما: هل ترغبان في التعرف إلى (مارك سيريني). . . هذا هو!. . . فنظرتا إليك. . . ولكن. . بعد ذلك. .

- ماذا بعد ذلك؟؟؟. . قل. . . تكلم. .

- وبعد ذلك. . . وبعد ذلك سألتني. . .

- ماذا سألتك؟؟

- سألتني. . . سألتني: ومن هو (مارك سيريني)؟؟

يا للصاعقة!!!

كان (سيريني) واقفاً، فهوى على كرسيه متهالكا، ثم قال بصوت ضعيف:

- وأنت، ماذا أجبتها؟

- لم اجبها بشيء. . . فقد تذكرت وقالت: (آه. . . أجل. . . أليس هو (مارك سيريني) مؤلف الأوبرا التي مثلوها مساء البارحة؟)

- (الأوبرا)!!!. . . (الأوبرا)!!!. . .

- إن التعبير غريب، أليس يسمون كذلك؟ ولكن ينبغي أن نتلمس لها عذراً، لأنها ريفية. وسكان الريف يسمون كل شئ يمثل في لغتهم (أوبرا). . .

ص: 57

- ولكن. . . قل لي. . . (استطرد (سيريني) بصوت يكاد لا يسمع). . . قل لي، هل ذهبت على الأقل لمشاهدة (الأوبرا)؟

- كلا!!! لم تحظر التمثيل. . . لقد سألتها ذلك. . . لم تحضره لان زوجها مسافر. . . ومن جهة ثانية ليس لها رغبة في مشاهدة الروايات التمثيلية. إذ لديها ما يشغلها عن ذلك من الأعمال البيتية. . . لقد اعترفت لي بذلك. . . وقد اصبح لها ثلاثة أولاد فأنى لها ذلك؟؟؟

اخذ يردد (مارك) في نفسه. كيف لم تذهب؟. وكلمة (أوبرا) كادت تسحقه. . . ثم التفت إلي: (أوبرا). . . (أوبرا) أهذا يصدق؟؟؟

وعرض له خاطر آخر فسأل (جيورجيني)، ولكن. . . لماذا أرتك رسمي؟

- رسمك؟. . . أي رسم؟

- آه!. . . هل أصبحت أنت أيضاً (خبيثا)؟ لقد أرتك رسمي. . . أرتك إياه. . . إني موقن من ذلك!!! أولم تفتح لك الأم مجلة (الليستراسيون)؟؟؟

- مجلة (الليستراسيون)؟. . . آه. . . هذا صحيح. . . تذكر (جيورجيني). . . ولكنها لم تريني رسمك!!!. . . لعل من المستحسن أن أعلمك، بان زوجها مسيو (ازّوري) كيماوي، وبكلمة اصح، صيدلي، وقد اخترع في المدة الأخيرة حبوبا تقوي نهود النساء متى ما بلغن سنا معينة، وهو يحسب انه سيكسب بذلك الملايين، ولو سمعت السيدتان تتحدثان عن هذه الحبوب، لأيقنت إنها حبوب عجيبة جدا، ولقد أرتني الأم الإعلان الذي نشرته مجلة (الليستراسيون) عنها، وهو إعلان طريف، يصور الإلهين (جينون) و (فينيس) يتشادان من شعورهما وهما يتنازعان علبة من هذه الحبوب التي دعاها الصيدلي: مجددة الشباب!!!

- 7 -

كان هذا الحديث ضربة قاضية على آمال (سيريني) وأحلامه فارتمى على كرسيه خائراً، مضعضعاً، وأشار إلى (جيورجيني) بيديه، ألايتابع حديثه، وألا يعود إليه. . . أما نحن، فقد كنا غارقين في صمت رهيب، لا يعدله غير صمت المقابر، ولا أضنني بحاجة لأن أعلمكم، بان الدعوة وقفت عند هذا الحد، وان المدعوين عادوا إلى فلورنسا عادوا إليها ليتناولوا الطعام في مطاعمها.

ص: 58

وقد تناولت الطعام مع (سيريني) في مطعم (ميليني)، وإذا الشاعر قد أضاع رشده، وفقد صوابه، وأعاد النقاد المسرحيين بالقطار إلى روما. . .

ولما فرغنا من الطعام، جعلنا نتناول الفاكهة، وإذا به ينفجر:

- أرابت؟. . . لقد صادفت في حياتي انتصارات واندحارات عديدة، ولكني لم اشعر في حياتي على أثر اندحار، بالخجل القاتل الذي تركه في نفسي انتصار البارحة كلا! لم اشعر قبل اليوم بمثل هذا الخجل السام!!!

- إن الألفي شخص الذين أطاعوا هواي، وتسابقوا إلى (بونتاسياف) لمشاهدة روايتي الحديثة، وتحيتها بأعاصير داوية من الهتاف والتصفيق. . . والجرائد الصافحة بالتقاريظ والانتقادات الفخورة بنشر اسمي ورسمي. . . والسياحة الموفقة التي ينتظر أن تصادفها فرقتي. . . وبرقيات التهنئة التي ما برحت تتقاطر علي من كل حدب وصوب. . . إن كل ذلك يا صديقي قد تلاشى واندثر!!!

ولإطفاء هذا اللهيب. . . ولإحداث الظلام بتلك الأضواء، لم تتكبد تلك الريفية التي كنت احسب إنها تعجب بي إعجابا، لا يعد التأليه بجانبه شيئا مذكورا. . . لم تتكبد مشقة كبيرة. . . إنما كفاها أن تسال ذلك الأحمق (ولكن من هو مارك سيريني؟)

كم يبدوا لنا العالم كبيرا. وكم هو صغير!!! إن اعظم العظماء، إذا خرجوا عن دائرة بضعة آلاف شخص، يصبحون مجهولين، لا يعرفهم أحد، ولا يأبه بهم أحد!!!

انظر هذه جريدة (لاناسيون) قد شغلت اكثر من نصف صفحة بالحديث عن روايتي، وهذا اسمي قد كتب فيها بحروف بارزة على أربعة عواميد. . . ويخيل إليك بعد ذلك إن جميع الناس أصبحوا يعرفون هذا الاسم، بل ربما ظننت انه ينبغي لهم بعد ذلك أن يعرفوه. . . ولكن الحقيقة هي إن لا أحد يتذكره، عندما يقلب الصفحة. . هو ذا الجارسون يتأهب ليقدم لنا القهوة، وهو قد طالع جريدة هذا الصباح، ادعه واسأله. من هو مارك سيريني)؟. . . إني أراهنك على زجاجة شمبانيا: انه سيسخر منك، وسيفتح لك عينين كبيرتين دهشتين.

إلا إن (مارك) لم يقدم لي شيئا من الشمبانيا، لأني أحسنت صنعا بعدم دعوة (الجارسون)، ولكن المؤلف لم ينقطع عن الشكوى والتذمر، وأخذ ينعى على نفسه جهوده الضائعة، ولم يتردد عن لصق بعض الوصمات بنفسه، لأنه زرع بذورا قوية من العمل الدائم، ليحصد

ص: 59

بعد ذلك الموقف المزري الذي تقفه بلاده العاقة من نبوغه وعبقريته!!!

وأخيرا دعونا (الجارسون) لندفع له الحساب، وبينما (مارك) يعيد محفظته إلى جيبه، ابتسم الجارسون، وقال وهو يلتقط البقشيش:

- عفواً. . . ألم أحرز الشرف بخدمة (مارك سيريني)؟

فانتفض هذا الأخير وقال:

- وكيف عرفتني؟

- لقد أبصرت اسمك هذا الصباح منشورا في مجلة (الليستراسيون) وذهب يبحث عن العدد. ولم يلبث أن عاد به. وفتحه عند الصفحة التي نشر فيها رسم (سيريني) جديد بمناسبة تمثيل روايته الحديثة في (بونتاسياف) فنظرت أنا و (مارك) إليها. ولحظنا فجاء على الصفحة اليمنى. إزاء الرسم المنشور على الصفحة اليسرى تماما. أبصرنا يا لسخرية الصدف! أبصرنا (جينون وفينيس) يتنازعان علبة من الحبوب المجددة للشباب!!!

فخرج (مارك) من مطعم (ميليني) وقد هدأت أعصابه، وسكنت نفسه

هل ينبغي تهنئة (الجارسون) لأنه عرف (سيريني)؟. . . هل ينبغي تخطئة سيدة النافذة لأنها لم تعرفه؟

كلا أيها الأصدقاء! إن سيدة (بونتاسياف) الفاتنة قد ألقت علينا درساً مفيداً، ومفيداً جداً: ينبغي علينا أن ندير الاركستر وان نضع الروايات لا لغيرنا، بل لأنفسنا!!!

أما الشهرة، فهي كلمة جوفاء أيها الأصدقاء الذين أرادوني على الكلام كثيرا. الشهرة؟. . . كلمة لا أفكر فيها عندما أشير بعصاي اللدنة إلى أعضاء الاركستر. . . وهي الكلمة التي لم يعد (سيريني) يفكر فيها عندما يأخذ اليراع ليضع رواية جديدة. . . تمت

حلب. ايزاك شموش

قصة مصرية

ص: 60

‌سفروت الحاوي

كان بمدينة بور سعيد رجل اسمه (سفروت الحاوي) يتردد على المقاهي فيعرض ألعابه السيماوية وحيله السحرية على الجالسين لقاء ما يجودون به عليه، وكان سفروت هذا لبقاً فكه الحديث سريع الخاطر قلما يخلو له أسبوع من حيلة جديدة، وبذلك اكتسب رزقا حسده عليه بنو مهنته.

وأهالي بور سعيد كما يعلم القراء اشتهروا بأنه قلما وجد لسان في شرق الأرض أو غربها لم يلموا منه ببعض مفردات. ولكن سفروت هذا فاق أهل بلده في ذلك فقد وهبه الله هبة اللغات فكان يتفاهم في لغتين، ويشرح حيله ويطلب أجره في تسع لغات.

كان سفروت رجلا طويل القامة نحيلا أسمر اللون، زينت له أمه أذنه اليمنى بحلقة فضية لأنه عاش لها بعد خمسة ماتوا في طفولتهم. وكان يسر في جلباب من السكرونة عليه معطف طويل محشو الجيوب وينادي بصوت طلق قوي:

(أنا سفروت الحاوي، أنا الحاوي سفروت، اطلع البيضة من الكتكوت، جلا جلا جلا جلا جلا ويترجم ذلك أو شبهه إلى ألسن مختلفة بينما (يفنط) أوراق اللعب بين يديه بمهارة نادرة.

وأغنى الله سفروت الحاوي جزاء استقامته وذكائه واقتصاده فجلب من ألمانيا لعباً سيماوية ثمينة واتخذ له صبية وسيمة الوجه جذابة القد أسمها بهية، وانتشرت شهرته بين أصحاب المقاهي والملاهي في بور سعيد فاستأجروه لإحياء ليال خاصة أدرت عليه وعليهم الربح الكثير.

وزاد طموح سفروت فبدل ثوبه الوطني ببدلة سوداء على مثال أبناء حرفته الغربيين، وأرسل شعره طويلا قائماً، واتخذ لنفسه لقب (بروفيسير)، ثم انتقل إلى القاهرة يشتغل بها في موسم السواح، ويتركها إلى الإسكندرية وغيرها من المصايف في موسم الحر.

كان سفروت كعادة الحواة يبدأ ألعابه بالمألوف من الحيل مثل كسر البيض ووضعه في إناء أمام النظارة، ثم إخراجه صحيحاً من آذانهم، ويتدرج من ذلك إلى الصعب العجيب مثل أكل الخرق البالية وقصائص الورق، وإخراجها من فمه أعلاما للدول المختلفة وهكذا حتى ينتهي إلى أصعب ألعابه وهي لعبة صندوق الإخفاء الألماني العجيب الذي اشتراه بمبلغ كبير.

ص: 61

وأمر هذا الصندوق يظهر غريبا للمتفرجين، وبيانه إن سفروتا يأتي ببهية فيقيدها بالسلاسل والأغلال ويضعها في صندوق أمام المتفرجين، كان قد طلب إليهم فحصه قبل ذلك.

ويوصد الحاوي الصندوق بالأقفال ويربطه بالأحبال ويقف عليه، فيكفهر وجهه، ويقف شعر رأسه، ويتمتم ويتلو تعاويذ سليمان على الجن الحمراء، ويأمرهم سفروت أن يحولوا جسم بهية إلى المادة الهيولية. عندئذ يتصاعد من الصندوق بخار أحمر فينزل الحاوي عنه ويفتحه فلا ترى أثراً للفتاة فيه. ويقفل سفروت الصندوق ثانية، ويقف عليه فيكفهر وجهه ويقف شعر رأسه، ويدعو سليمان فتحضر الجن ثانية، فيأمرهم أن يسترجعوا جسم بهية، وينزل الدخان الأحمر من سقف المسرح ويفتح الحاوي الصندوق فإذا ببهية في أصفادها كما كانت.

حدث ذات مرة في موسم (رأس البر) أن تعاقد مدير فندق كبير مع (البروفيسير سفروت) على إحياء سبع ليال لتسلية المصيفين مقابل أجر طيباً فأمر الحاوي أن يبني له مسرح خاص في ردهة الفندق الكبيرة، وبدأ لياليه كالعادة، حتى كانت الليلة الثالثة ففي هذه الليلة بعد أن انتهى من لعبة الصندوق وبينما كان يجمع أدواته من المتفرجين ويعطيهم ما كان قد استعاره منهم أثناء الحفلة أعترضه رجل قصير القامة، بدين الجسم، يلمع العرق على وجهه الأسمر الأصفر، رجل من أقباط الصعيد في زعبوط أسود وعمامة سوداء يخاله الناظر من تجار الكسبة أو العجوة.

تقدم الرجل من سفروت خجلاً متردداً فقال: (نكتة اللعبة دي!. . . نكتة تمام يا أخينا). فوافق سفروت على قول الرجل ببرود وأدب مصطنع، ثم مضى إلى غيره، ذلك أن الناس كثيراً ما كانوا يأتون إليه بعد الحفلات يخبرونه أنهم يعلمون سر ألعابه أو أن ما فعله قد رأوه منذ سنوات أو ليلحوا عليه كي يعلمهم السر في حيلة أعجبتهم إلى غير ذلك من سخف كثيراً ما سايرهم فيه أو صرفهم عنه بسحرية غير جارحة، إذ لم يكن من الكياسة أن يجفو لهم في القول وعليهم مدار رزقه.

وتبع القبطي الحاوي وهو يردد في شيء من الذهول: نكتة جوي والله عبارة الصندوق دي!. . . . نكتة جوى. (فقال سفروت مستهزئاً! (إذا كان أعجبك فلم لا تشتري لك واحداً يا معلم! فلم يدرك الصعيدي أن الحاوي يهزأ به إذ كان يفكر في أمر ملك عليه انتباهه.

ص: 62

انتهى سفروت وخرج كعادته يتمشى على شاطئ البحر ليريح نفسه من عناء العمل وليستنشق هواء الليل قبل أن يذهب إلى فراشه فإذا بالقبطي يقتفي أثره ويبادر بحديث الصندوق.

_ لا تؤاخذني يا حضرة. . . . أنا عاوز أكلمك، أنت أولاً أسمك إيه؟

_ خدامك سفروت

_ عاشت الأسامي يا سي سفروت. . . . تعرف ياسي سفروت عبارة الصندوج دي مش نكته جوى جوي برده!

- إياك أنت تكون اهتديت لسرها بنباهتك من ساعة ما سبتك؟

_ لألأ! مش غرضي.

وأدرك سفروت من لهجة محدثه أنه يحاول أن يكتسب صداقته؛ وكانت الليلة مقمرة، فلما نظر رأى عيني القبطي تلمعان بانفعال غريب فحدثته نفسه (ماذا يريد هذا الرجل مني؟) ولكن محدثه قطع عليه تفكيره.

- بجه مش تفتكر أن تخيبة المرة اللي معاك دي يخصر اللعبة بعض شيء؟

- برده يا خواجه لك حق، لكن يعني أمال حخبي مين؟

- ليه ما تخبيش واحد من المتفرجين؟ أهو ده يكون نكته تمام.

وأندهش سفروت من هذا الاقتراح الشاذ وأجاب ساخراً

- يبقى نكتة أوي إذا كان واحد يرضى يوالس معايه! طبعاً إذا كنت أنت متطوع يبقى كويس. دا حتى ما يبقاش فيه فائدة للصندوق. الزعبوط بتاعك ده كفاية أوي، الزعبوط ده يخبي دستة. ثم ضحك مقهقهاً.

- ما تآخذنيش يامعلم! أنا راجل أحب الهزار.

- ولكن الرجل الغريب الأطوار تجاهل وقاحة الحاوي أو هو لم يسمعه فقد نظر حوله كمن يريد أن يستوثق من عيون رقيب، ثم أدنى فمه من أذن محدثه هامساً. اسمع! أنا راضي، أنا أتفق وياك. وتلفت حوله في انفعال عصبي ووضع يده في عبه وأخرج منها محفظة نقوده فاخذ ورقة ذات خمسة جنيهات وهو يهمس.

- ما تفتكرشييا سي سفروت أني مجنون، يمكن أطواري تظهر غريبة لك شوية، لكن أنا

ص: 63

مش مجنون. أنا عاوز أتعلم اللعبة دي، وآدي خمسة جنيه علشان تعلمهالي ونعملها بكرة سوى قدام الناس وساور الحاوي الشك في سلامة عقل الرجل، ولكن المال أغراه فبينما هو يقلب الأمر على وجوهه إذا صوت إمرأة يرتفع في وحشة الليل حوله.

- بولص!! بولص!

ونظر سفروت فإذا المرأة طويلة هزيلة في حبرة سوداء مقبلة عليهما.

وارتبك الرجل القبطي ارتباكاً واضحاً وظهر عليه الخوف، فقال مسرعاً:

- اسمع! دي مراتي أنا لازم أروح. أنا لازم أروح حالا. أنت اتفقت ولا لأ؟ فأخذ الحاوي الورقة من يد الرجل قائلاً:

- مادمت أنت عاوز كده مفيش بأس.

- يمكن تقابلني بكره الساعة تسعة الصبح علشان تعلمني؟

فرضي سفروت وانصرف الرجل إلى زوجته مسرعا كأنما هو يحرص أن لا تكشف عن صفة محدثه.

وفي اليوم التالي في الساعة المحدودة قابل الحاوي بولص وعلمه كيف يهبط قاع الصندوق مع الجزء الذي تحته من خشب المسرح بالضغط على زر خفي بأحد جوانبه، وكيف يفك أغلاله ويربطها بعد ذلك وكيف يرفع القاع إلى ما كان عليه.

وكان بولس برغم بدانته، وغرابة أطواره، وزعبوطه، ذكيا سريع الفهم تعلم في وقت قصير وأتقن اللعبة إتقان صبية الحاوي.

وكانت الحفلة في المساء وقام سفروت بألعابه كعادته الا انه كان كلما نظر إلى بولص رأى عينيه شاخصتين نحوه كأنما يربطهما بالحاوي خيط، فشعر بوساوس مقلقة وتوترت أعصابه وترك بهية تقوم بدور لا تحتاج فيه إليه فانسرق إلى البار وشرب بعضاً من الوسكي ثم رجع يعاود ألعابه.

وأتى دور الصندوق ولسفروت من حدة الذهن وجرأة الخمر ما ألهمه هذه الديباجة:

اعمل أمام حضرتكم الليلة أيها السيدات والسادة، ما لم يعمله حاو في العالم أجمع لا قبلي ولا بعدي، فإرضاء لزبائننا الكرام اتصلت قبل الحفلة بخادمي من الجن الأحمر المدعو جنجلوت. . . لا تضحكوا أيها السيدات، نعم، خادمي جنجلوت الخفيف الذي سخره لي

ص: 64

سليمان. وبعد الجهد الجهيد أيها السيدات والسادة رضى جنجلوت أن يأخذ أحد حضرات المتفرجين هذه الليلة ويحوله إلى المادة الهيولية ويصطحب روحه في نزهه سماوية.

من منكم أيها السيدات والسادة يحب أن يخاطر هذه المخاطرة؟ من عنده الشجاعة والإقدام؟. . . ألو ألو. . . الا أونا الا دوه. . . دقيقتين فسحة بين الكواكب يا سيدتي الو؟. . . حضرتك؟ لا؟ طيب تعالي أنت يا ست يا أم برقع، لأ؟ طيب بلاش لأ يا سعادة البيه، انت ثقيل شويه على جنجلوت أنت يا أفندي يا صغير؟ بقي ما فيش حد يجبر بخاطر جنجلوت الجني الخفيف الضريف؟ ألو الو ألا أونا الا دوه. . . ما فيش في الصالة واحد شجاع.

وظل المتفرجون بين ذلك يضحكون ولكن سرعان ما اعتراهم الصمت والدهشة إذ رأوا أحدهم يرتقي المسرح فعلا، وفي هذا السكون ارتفع صوت المرأة ذات الحبرة السوداء كما ارتفع في وحشة الليلة الماضية.

- بولص!!! بولص بولص!!! ارجع هنا.

صوت وحشي جهوري تفضح نبراته قسوة قلبها وأنانيتها. وتبينت أغلبية أهل الفندق بولص تاجر الصعيدي المتيسر والرجل الصامت المنعزل مع زوجته القبيحة، دائماً في شرفة الفندق الغربي. وتهامسوا فيما بينهم يرقبون بدهشة ما يحدث، وهابت نفوسهم إذ رأوا شبه جنون في عيني الرجل ورأوا العرق يتصبب غزيرا من وجه الأسمر الأصفر. ولكن سرعان ما وجدت أنظار الخلعاء ما يثير الضحك في هيئة الرجل التعس، فنادى أحدهم ما تخافيش يا ستي ده المعلم بولص يخوف العفاريت ونادى آخر.

- حاسب يابولص لا الجن يركبك وقال ثالث: ما تتطرفشى يا معلم في السماء لحسن عزرائيل يشوفك.

وغير ذلك مما تقهقه له الجماهير ولا يكاد الفرد يبتسم له. وكررت المرأة أنا بأقول ارجع يا بولص. فلم يكن بذلك من أثر سوى إسراف الناس بالضحك.

قيد الحاوي بولص بالسلاسل والأغلال وأقفل الصندوق بالأقفال والحبال ووقف عليه واكفر وجهه ووقف شعر رأسه وتمتم وهمهم وحضرت الجن وتصاعد البخار الأحمر فنزل عن الصندوق وفتحه فوجده فارغاً كما يجب. حدث ذلك طبعاً بين قهقهة الناس وهتافاتهم.

واقفل سفروت الصندوق ثانية الخ. حتى نزل الدخان الأحمر من سقف المسرح، فرفع

ص: 65

الغطاء ولكن بولص لم يرجع إليه! ارتبك الحاوي واقفل على عجل قائلا لنفسه (ربما لم أعطه الزمن الكافي) وشغل المتفرجين بلعبة أخرى بسيطة برهةً ما، ثم فتح الصندوق ثانية ولكن الصندوق بقي فارغا.

أدركت النضارة عدم وجود بولص فارتفع همسهم إلى ضجيج وتساءل البعض صائحا: فين المعلم بولص؟: أوع ليكون اختنق الرجل في الصندوق الخ الخ. .

فتحدث إليهم سفروت بحضور ذهنه المعتاد عن صعوبة رجوع بعض الأجسام من اللامادة إلى المادة، وخصوصا أجسام أهل الصعيد، حتى إذا استوثق انه أعطى الرجل ما يكفي من الوقت فتح الصندوق ثالثة ولكن بغير جدوى!!

لغط الناس وهاجوا وتسابق الشباب منهم يفحصون الصندوق ويعبثون بأدوات الحاوي، الذي أسرع إلى تحت المسرح يبحث عن بولص بغير نتيجة، وعلم مدير الفندق أيضا بالخبر فجزع وأرسل رجاله يبحثون. ولما رجع سفروت إلى الردهة اندفعت إليه المرأة ذات الحبرة السوداء اندفاع الأعاصير في أمشير وقد بلغ منها الغضب أشده.

- ازاي يعني تأخذ راجل طويل عريض تحويه! هي الدنيا سايبه ولا ايه!؟ مسخرة وقلة أدب!!

- يا ستي بس اهدي شوية دلوقت ايبان.

- يبان؟ أنا عاوزة جوزي دلوقت حالاً.

- هو أنا قلت له تعالى، ما هو هو اللي جه من نفسه.

- أبدا أنت حويته أنت راجل متختشيش.

ص: 66

‌الكتب

شعر ونثر

وحي الأربعين. للأستاذ عباس محمود العقاد

ثورة الأدب. للدكتور محمد حسبن هيكل بك

عليّ دين ثقيل للأستاذ العقاد حيل بيني وبين أدائه إلى الآن. ويظهر أني لن أستطيع أن أؤديه جملة فلا بد من تأديته أقساطا. فبين يدي كتب ثلاثةقرأتها وأعجبت بها ولي فيها آراء وأحب أن أذيعها. وهي كتاب الأستاذ عن ابن الرومي وكتابه عن جوت وديوانه الأخير وحي الأربعين.

ولسست ادري لماذا آثرت أن يكونقضائي لهذا الدين عكسيا فابدأ بآخر هذه الكتب الثلاثة ظهوراً. ولعلي إنما آثرت البدء بوحي الأربعين لأنه شعر، ولأن الوقوف عند الشعر والشعراء عذب لذيذ للكتاب الذين لا يحسنون قرض الشعر. فهم يجدون في قراءته ونقده وتحليله لذة لا يجدونها في قراءة النثر ونقده وتحليله. ولعلي إنما آثرت البدء بهذا الديوان لأن نقده أيسر من نقد الكتابين الآخرين. أيسر علي، وأيسر على الشاعر الكبير نفسه. فلن يكون بيننا جدال طويل ولا قصير. ولن نحتاج إلى أن نرجع إلى كتب الأدب والتاريخ لنثبت رأيا أراه ويخالفني العقاد فيه أو رأياًيراه العقاد ولا أقره عليه. وإنما هي آراء وخواطر تثيرها فينفسي قراءة هذا الديوان وسأعرضها على العقاد وعلى قرائه الذين نقدوه والذين قرظوه دون أن أحاول أن أفرضها على أحد فرضا أو أن أتعصب لها أو أن أجادل عنها. ودون أن يكون للعقاد وأنصاره وخصومه أن ينكروا هذه الآراء أو يجادلوا فيها لأنها آراء تتصل بالذوق وتتصل بمزاج الكاتب وطبيعته وتأثره بالفن الجميلأكثر مما تتصل بالحقائق المقررة أو الأمور التي يكثر فيها الجدال والنضال.

وما أظن أن أحدا يطمع في أن يفرض علي ذوقا غير ذوقي أو طبيعة غير طبيعتي أو تأثر بالفن الجميل غير تأثري به لمن شاء أن يرضى ولمن شاء أن يسخط وأنا أوثر بالطبع رضى الناس على سخطهم ولكن إيثاري لهذا الرضى شيء وظفري به شيء آخر.

ولعلي آخر الأمر إنما آثرت البدء بهذا الديوان لان كلام الناس قد كثر فيه ولأن جدالهم قد أشتد من حوله ولأن نقاده قد غلوا حتى جاوزوا القصد وأنصاره قد أسرفوا حتى جاروا عن

ص: 67

الحق فأحببت أن أقول في هذا الديوان كلمة، لا أقول أنها تقر الأمر في نصابه، وترد المختلفين إلى الوفاق، فليس إلى ذلك منه سبيل. ولكنها قد تصور رأى جماعة من المنصفين الذين لا يرضون عن آثار العقاد ولا ينكرونها لأنهم يغلون في حب العقاد أو يغلون فيبغضه، بل لأنهم ينظرون إليها من حيث هي آثار فنية خالصة تلائم أذواقهم أحيانا فيرضون، وتنافر أذواقهم حينا فينكرون. ومن حق هؤلاء الناس أن تصور آراؤهم وتظهر مذاهبهم في آثار كاتب مهما يقل فيه خصومه، فلن يستطيعوا أن ينكروا عليه البراعة، وشاعر مهما يقل أعداؤه فلن يستطيعوا أن يجحدوا حظه من الاجادة، وتوفيقه إلى شيء كثير جدا من الإبداع.

وأريد أن أقف وقفة قصيرة عند هذه الصفحات التيقدمها العقاد بين يدي ديوانه هذا لأقره في غير تحفظ، على ما ذهب إليه فيها من إن بين المجددين قوما يقلدون في التجديد، فيخطئون الفهم ويعدون الصواب ويتورطون في أحكام على الشعر والفن، لا خطر لها ولا غناء. وأن أقره أيضا في غير تحفظ على ما ذهب إليه في هذه الصفحات من أن للشاعر المجدد أن يطرق الفنون التي طرقها القدماء دون أن يمس ذلك تجديده أو يغض ذلك من براعته، بل قد يكون من الحق عليه أن يطرق هذه الفنون فيجددها ويبعث فيها حياة ملائمة للعصر والبيئة ولميول الجيل الذي يعيش الشاعر فيه.

فليس المدح عيبا من حيث هو مدح، وليس المدح فنا يجب أن يموت وإنما المدح فن من فنون الشعر لا بد من بقائه ما بقي الشعر، وما بقي بين الناس من يجيد ويحسن، وما بقي بين الناس من يرضى عن الإجادة ويحمد الإحسان للمحسنين. والهجاء فن من فنون الشعر لابد من أن يبقى ما بقي في الناس من يسيء وما بقي في الناس من يحب نقدا المفسد وتقويم المسيء. وقل في مثل ذلك في غير المدح والهجاء من هذه الفنون التي طرقها القدماء من العرب وغير العرب لا ينبغي أن تزول ولا أن تهجر، وإنما ينبغي أن تتطور لتلائم غيرها من أساليب الحياة العقلية والفنية التي يحياهاالناس على اختلاف البيئات والعصور.

ولكني وقفت مفكرا بعض الشيء عند هذا التعريف الذي أراد العقاد أن يعرف به الشعر حين يقول:

ص: 68

(وان من أراد أن يحصر الشعر في تعريف محدود لكمن يريد أن يحصر الحياة نفسها في تعريف محدود، فالشاعر لا ينبغي أن يتقيدالا بمطلب واحد يطوي فيه جميع المطالب، وهو (التعبير الجميل عن الشعور الصادق) وكل ما دخلفي هذا الباب، باب التعبير الجميل عن الشعور الصادق، فهو شعر وان كان مديحا أو هجاء أو وصفا للإبل والأطلال وكل ما خرج عن هذا الباب فليس بشعر وان كان قصة أو وصف طبيعة أو مخترع حديث).

فالشعر عند العقاد كالحياة ليس إلى حصره ولا إلى تحديده من سبيل، أو هو كالحياة يحصر ويحدد إذا أمكن حصر الحياة أو تحديدها. ولكن العقاد بعد ذلك يعرف الشعر بأنه التعبير الجميل عن الشعور الصادق وهو بهذا التعريف نفسه قد حدد الشعر وجعله أضيق من الحياة. فليست الحياة كلها تعبيرا جميلا عن شعور صادق بل في الحياة شعور غير صادق يعبر عنه تعبير غير جميل، وفيها شعور كاذب يعبر عنه تعبيرا جميلا، وفيها شعور صادق يعبر عنه أحيانا تعبيراً جميلا وتعبيرا غير جميل. وإذا فليس الشعر كالحياة لا سبيل إلى حصره بل ليس الشعر كالحياة يحصر كما تحصر الحياة ويحدد كما تحدد الحياة. وإنما الشعر لون من ألوان الحياة وتحديده ليسمستحيلا ولا عسيرا وآية ذلك أن العقاد نفسه قد حاول هذا التحديد فعرف الشعر بأنه التعبير الجميل عن الشعور الصادق وجعل كل ما يدخلفي هذا الباب شعرا مهما يكنجوهره وكلما يخرج من هذا الباب لم يجعله شعراً مهما يكن شكله وصورته وموضوعه.

وأظن إن العقاد لم يوفق في هذا التعريف فماذا أراد بالتعبير الجميل اهو المنظوم أو المنثور؟ أم هما المنظوم والمنثور معاً؟ فان تكن الأولى فقد يدخل في تعريف الشعر من الكلام ما ليس منه وإن تكن الثانية، فقد يخرج الشعر المنظوم كله من هذا التعريف، وإن تكن الثالثة فكل كلام جميل يصف شعورا صادقا فهو شعر. وإذا ففيما تقسيم الكلام إلى شعر ونثر؟. سيقول العقاد إن هذا التقسيم قديم لا غناء فيه ولكن العقاد نفسه لم يسم نثره شعرا ولم يطلق لفظ الديوان الا على كلامه المنظوم. ووحي الأربعين فيما اعلم نظم كله لا نثر فيه الا الشرح والتفسير. فالتعريف إذا من هذه الناحية بعيد كل البعد عن الدقة التي يعرف بها العقاد. ويزداد هذا البعد إذا توسعت بعض الشيء في معنى التعبير الجميل، والموسيقى تعبير جميل، والغناء تعبير جميل. فكل فن جميل إذا، فهو شعر، وهذا كلام يقوله الكتاب

ص: 69

حين يتجوزون أو حين لا يحرصون على التحقيق. فأما إذا أرادوا الإصابة والدقة فلا بد لهم من أن يلاحظوا فيه الوزن والقافية أو الوزن دون القافية أو الانسجام الموسيقي على كل حال. وهذا الشعور الصادق ما هو وما عسى أن يكون وهليطمئن العقاد حقا إلى أن كل ما يصفه الشعراء فيجيدون وصفه إنما هو نتيجة لشعور صادق حقا، أليس من الشعراء من يجيد الوصف لطائفة من العواطف، لا يجدها ولا يشعر بها شعورا صادقا وإنما هو يعرفها ويحسن معرفتها ويواتيه الفن فيجيد وصفها ويعبر عنها تعبيراً جميلا. وأظن العقاد يوافقني على إن المعرفة الجيدة شئ والشعور الصادق شئ آخر. والعقاد يعرف من غير شك هذا المثل الذي ضربه ارسطاطليس لبراعة الشعراء في التناقض وهو مثل بندار حين طلب إليه أن يمدح بغلا ولميعجبه الأجر، فاستكبر وذم البغل. فلما ضوعف له الأجر، جعل هذا البغل فرساً ذات جناحين. ومن المؤكد أن بندار لم يكن يشعرشعورا صادقا لا بمحاسن هذا البغل ولا بعيوبه وإنما كان يعرف هذه المحاسن والعيوب، وأعانه فنه فصورها تصويرا بديعا.

وكلنا يعلم إن الشعراء والخطباء يروضون أنفسهم على مدح الشيء وذمه، فيجيدون في المدح والذم جميعا ويعبرون عنهما تعبير جميلا دون أن يكون شعورهم بها صادق من غير شك، أو كاذبا من غير شك، وإنما هي البراعة الفنية الخالصة. وإذا فصدق الشعور قد يكون مزايا الشعر ومحاسنه، ولكنه لن يكون ركنا من أركان الشعر ولو قد جعلنا صدق الشعور ركناً من أركان الشعر لأسقطنا أكثر الشعراء من تاريخ الأدب في جميع اللغات. ولم يخطئ القدماء حين قالوا أن أعذب الشعر أكذبه. ولم يخطئ ارسطاطليس حين أباح للشعراء ما لم يبح للخطباء من الإسراف والإغراق. فلا بد إذا من ان يحقق العقاد تعريفه هذا للشعر ومن أن يحقق جزأيه جميعاً. ومع ذلك فهلل يصدق هذا التعريف على وحي الأربعين بحيث نستطيع أن نقول إن هذا الديوان كله تعبير جميل عن شعور صادق.

أما إن شعور العقاد بكل ما وصفه في ديوانه صادق فشيء أحسه في قوة لا تقبل الشك ولا الريب، ولكن بالقياس إلى بعض الأبواب. بالقياس إلى هذه الأبواب التي تظهر فيها شخصية العقاد ظهورا واضحا كل الوضوح. بالقياس إلى باب الغزل، مثلا هذا الذي تظهر فيه للعقاد شخصية خفية الظل جداً، حلوة الروح جداً، محبة للحياة جداً، مقبلة على اللذة

ص: 70

جداً، في حب لها واقتصاد فيها. انظر إلى هذه الأبيات:

ياله من فم

يالها من شفة!

يا لشهد بها

كدت أن أرشفه

يا لزهر بها

كدت أقطفه

حلوة ويحها!

غضة مرهقة

حسرتي بعدها

حسرة متلفة

ألست ترى فيها شخصية تحب الحياة وتكلف بها، وتحب اللذة وتوشك أن تسرع اليها، لولا أن شيئاً يصدها عنها صداً ويردها فترتد كارهة آسفة. وانظر إليه كيف وفق إلى الإبداع في تصوير هذه المعاني السهلة المألوفة، في لفظ جميل عذب كله أنيق، وكيف استطاع أن يصور من وراء هذه المعاني اليسيرة المألوفة، التي يجدها الناس جميعاً، ويراها الناس جميعاً، معنى آخر ليس يسيراً، ولا مألوفاً ولا شائعاً بين الناس وإنما هو مقصور على الذين يسلطون العقل على الحس ويحكمون الإرادة في العاطفة، ويجدون لذة في الرغبة الحادة يمسكها الحرمان الشديد. فالعقاد مفتون بصاحبته، مفتون بهذا الفم وهذه الشفة، شديد الظمأ إلى شدها، شديد الميل إلى زهرها، يود ولكنه لا يفعل، ويكاد ولكنه لا يحقق. ويجد لذة قوية في هذا الحب، وفي هذا الحرمان، يخرج عن طور اللذة الغرامية المألوفة إلى طور اللذة الفلسفية الخالصة.

في هذه الأبيات تظهر شخصية العقاد كما هي خفية جداً تهفو إلى الجمال وتصبو إليه، رزينة جداً تؤثر أن يكون استمتاعها بالجمال عقليا لا إثم فيه ولا جناح.

في هذه الأبيات تظهر براعة العقاد ويظهر كل ما يملأ قلب العقاد من غناء، يجمع بين الحلاوة والقوة، ويغري المغنين بتلحينها. في هذه الأبيات يتحققتعريف العقاد للشعر فهي تعبير جميل عن شعور صادق.

وقل مثل هذا في هذين البيتين وهما عندي من اجمل الشعر وأرقاه، وهما عندي يمثلان العقاد تمثيلا صادقا. يمثلان جموحه وتمرده، ويمثلان وداعتهوطمأنينته.

لا أرى الدنيا على نور الضحى

حبذا الدنيا على نور العيون

هي كالراووق للنور فلا

صفو الا صفوها العذب المصون

ص: 71

فانظر إليه كيف نفر وشذ وجمح في الشطر الأول من البيت الأول. فلم ير الدنيا على نور الضحى كما يراها الناس جميعا، ولم يألفها على هذا النور كما يألفها الناس جميعا. ثم انظر إليه كيف ثاب وأناب وهدأ واطمأن وأحب هذه الدنيا، ولكن في نور العيون بعد أن اختصرت وهذبت ونفيت عنها الأعراض، واستبقيت منها الخلاصة الخالصة والصفو الذي برئ من كل كدر، حبذ الدنيا على نور العيون. ثم انظر إليه كيف فسر حبه لهذه الدنيا المصفاة في هذا البيت الجميل:

هي كالراووق للنور فلا

صفو الا صفوها العذب المصون

فالعقادفي هذين البيتين لا يحب الدنيا المبتذلة التي يرخصها نور الضحى ويبيحها للناس جميعاً. وإنما يحب الدنيا المصونة الممتازة التي يحتويها نور العيون ولا يبيحها الا لطبقة خاصة من الناس هم الشعراء.

فإذا أردت، ويجب أن تريد دائماً مع العقاد، أن تتجاوز هذا المعنى الظاهر الذي يفهمه كل ذي حظ من الأدب، إلى الرمز الذي يريد إليه العقاد. وإذا ذهبت، ويجب أن تذهب دائماً مع العقاد، مذهب الرمزيين الذين يدلون بالقليل على الكثير وبالواضح على الخفي، فسترى إن هذين البيتين على قلتهما وقصرهما وضيقهما يسعان كل شيء ويصوران نفس الشاعر ونظرها إلى كل شيء. فالعقاد لا يحب الابتذال وإنما يحب الامتياز. ولا بأس عليه من ذلك ولا جناح عليه فيه، فالشاعر الذي يستحق هذا الاسم أرستقراطي بطبعه، وان كان أقدر الناس على تصوير الديمقراطية وفهمها وامدادها بالحياة.

وأكاد لا أشك في أن شعور العقاد صادق في كل هذا الباب من الديوان، ولو أني ذهبت أحلل الجيد من هذا الباب، وكله جيد، لما فرغت من التحليل في فصل ولا في فصول. وكم كنت أود لو أتيح لي أن أقف عند هذه القصيدة البديعة التي يسميها العقاد (المعاني الحية)، أو عند هذه الآية الشعرية التي يسميها العقاد (الغزل الفلسفي). أو عند هذه الآية الأخرى من بين الموشحات وهي التي سماها العقاد (ليلة البدر). فقد أجتمع للعقاد في هذه القصائد الثلاث من محاسن الشعر الرائع ما لم يجتمع له في غيرها من قصائد هذا الديوان. أجتمع له صدق الشعور وعلوه وصدق التصوير ودقته، وصدق الحس وامتيازه، وجمال اللفظ الذي لا غبار عليه، وأجتمع له التوفيق إلى المعاني النادرة التي قلما يقع عليها الشعراء

ص: 72

عندنا، والمهارة في تأدية هذه المعاني بحيث يخدع عنها القراء والسامعين فيخيل إليهم أنهم يقرءون أو يسمعون شيئا مألوفا. وهم يقرءون ويسمعون كلاما من أندر الكلام وأنفسه وأعلاه. كلاما لا يصدر إلا عن شاعر حقا. أجتمع له في هذه القصائد جمال التعبير وصدق الشعور، وكاد يجتمع له جمال التعبير وصدق الشعور في كلهذا الباب لولا ألفاظ تنبو عن سمعي وأحسبها تنبو عن سمع كثير من الناس كلفظ المأرف في قوله:

لك وجه كأنه طابع الصد

ق على صفحة الزمان المأرف

فلست ادري لماذا لا أحب هذه الكلمة في هذا البيت، ولما اشعر بأنها قلقة لا تستقر في مكانها الا كرها، ولما اشعر بأنها صغيرة ضئيلة بالقياس إلى الزمان. وكلفظ الطين الذي أنكره غيري من النقاد على العقاد في قوله في القبلة:

هي كأس من كؤوس الخالدين

لم يشبها المزج من ماء وطين

فأنا لا أناقش في المعنى ولا اعتدي عليه بمحاولة إفساده أو الغض منه. ولكن ذوقي هذا الذي تأثر بأدبنا العربي القديم ينفر، بل يفر من هذا الطين الذي يقرن بالقبلة. وأنا أفهم إن يعتذر الشاعر بصحة المعنى ودقته وامتيازه وارتفاعه من مألوف الناس، ولكني مع ذلك لا أطمئن إلى هذا الطين الذي تقرن به القبلة، أو يقرن بها. وهنا تظهر خصلة من خصال العقاد التي تميزه من غيره من الشعراء المعاصرين. فهو من شعراء المعاني الذين يحرصون اشد الحرص على تصحيح معانيهم وتجويدها وتميزها والارتفاع بها عن المألوف، ولكنهم لا يتكلفون مع الألفاظ ما يتكلفونه مع المعاني من تخير وتدقيق في التخير ومن تحرج وغلو في التحرج. هم اتباع المعاني وهم يزعمون أن الألفاظ يجب أن تتبعهم وان تدين لهم، وهم لا يطلبون إلى الألفاظ الا أن تؤدي لهم معانيهم وتعرب عنها إعراباً صحيحاً لا لبس فيه. فان أتيح لها مع ذلك أن تكون جميلة جذلة ورقيقة وعذبة فذاك وإلا فليس عليهم بأس ولا جناح. ولكن العقاد خليق بإحدى اثنتين: فإما أن يصلح تعريفه للشعر فلا يشترط جمال التعبير وإما أن يصلح مذهبه في الشعر فيكون احرص على تجويد اللفظ وتجميله وتزيينه في السمع والقلب مما هو الآن. وأنا أؤثر له الثانية، فليس من الحق في شيء أن الشعر يستطيع أن يستغني عن جمال اللفظ بجمال المعنى وروعته ولعله يستطيع أن يستغني بجمال اللفظ عن جمال المعنى أحياناً. فالشعر موسيقى أولا، وهو إذا متجه إلى

ص: 73

السمع، فإذا استطاع، أن يخدع السمع بجمال اللفظ وانسجامه، فقد يستطيع أن يخدع القلب والعقل وقد يستطيع أن يكتفي بالسمع وحده. والخير كل الخير أن يوفق الشاعر إلى الملائمة بين جمال اللفظ وجمال المعنى. والعقاد يوفق إلى هذه الملائمة كثيراً ولكنها تخطئه أحياناً.

تخطئه حين ينسى نفسه، ويعمد إلى الفلسفة ويريد أن يكون فيلسوفاً موضوعياً إن صح هذا التعبير، يعرض علينا الآراء الفلسفية في نفسها ومن حيث هي دون أن يبعث فيها شيئاً من شخصيته، أو من حياته كأنه العالم يقرر أصلاً من أصول العلم أو قانوناً من قوانينه. في هذه الحالة يتقن العقاد معانيه، ويصححها تصحيحاً لا غبار عليه. ولكن هذا الإتقان والتصحيح يستغرق جهده أو أكثره، ولا يكاد يبقي له الا ما يمكنه من النظم. وإذا شاعرنا مفكر من الطبقة الأولى ولكن نظمه يشبه نظم أبي العلاء، تنقصه السلاسة والنصاعة وصفاء الديباجة، وهذا الانسجام الذي يخلب سمعك ويملك عليك أمرك ويجعلك نهباً للشاعر يلقي في روعك ما يشاء.

كل هذه الخواطر تخطر لك حين تقرأ القسم الأول من وحي الأربعين. وأحب أن أكون منصفاً فلا يكاد الإنسان أن ينظر في هذا الديوان وفي غيره من دواوين العقاد، حتى يعجببالشاعر إعجاباً لا حد له، لأنه رفع نفسه ورفع الشعر معه إلى عالم لم يتعود شعراء العرب أن يعيشوا فيه، لا أكاد استثني منهم الا أبا العلاء. فالموضوعات التي يقصد إليها العقاد وينظم فيها الشعر موضوعات عالية كلها رفيعة، حتى إذا هبط العقاد إلى حيث يعيش الناس وشاركهم فيما تعودا أن يقرضوا الشعر فيه من الفنون لم يلبث أن يرتفع بهذه الفنون، ويحلق بها في جو لا يكاد يرقى إليه الطرف. وأكاد اجزم بأن العقاد لو استقامت له الألفاظ وأسمحت له اللغة، لمااستطاع أحد في هذه الأيام أن يساميه. ولكن لغته لا تمكنه من الأسف الشديد من أن يستمر محلقاً في الجو بل تثقل عليه وتثقل على معانيه وتضطره إلى الهبوط، فيهبط ومن حقه ان يظل عالياً. وهل يأذن العقاد في أن أنكر عليه خصلة أخرى في وحي الأربعين وهي هذه الشروح التي يقدمها بين يدي طائفة من قصائده الفلسفية والتي تترك في النفس أثراً مؤلماً ثقيلاً إلى حد ما، وتخيل إلى القارئ إن الشاعر قد تخير بعض الموضوعات الفلسفية التي طرقها الناس من قبله وأتقنوها بحثاً ودرساً فنظمها، ونظمها في

ص: 74

غير توفيق إلى الوضوح فقدم هذا الشرح بين يديها وجعل شعره أشبه بالمتون منه بالشعر حقاً.

إن الذين يقرءون شعر العقاد ويذوقونه هم المثقفون المستنيرون، الذين تعودا أن يقرءوا الشعر وأن يفهموه، وأن يقرءوا شعراً أصعب من شعر العقاد وأشد منه إمعاناً في الغموض، فيستطيع العقاد أن يحسن بهم الظن وان يخلي بينهم وبين شعره ليفهموه كما يريدون وكما يستطيعون. وليسس على العقاد بأس أن يفهم شعره أحياناً على غير ما أراد هو فمن يدري. لعله أن يكون هو مخطئا وأن يكون قارئه مصيباً، ومن يدري لعله يعود إلى شعره يقرأه فيفهم منه غير ما كان أراد، قد يكون هذا عيباً في النثر ولكنه مزية من مزايا الشعر الرائع، ولو أن لي أن اقترح على العقاد لطلبت إليه أن يلغي هذه الشروح الفلسفية في الطبعة الثانية من هذا الديوان، إن لم تكن قد تمت. فأني اعلم أن الطبعة الأولى قد نفذت منذ حين.

ولست أدري لما لا أريد أن أقف، وأن أختم هذا الحديث دون أن آخذ العقاد بملاحظة أخرى أود أن يقدرها ويفكر فيها، وهي: أن التجديد في الشعر يتناول الألفاظ ويتناول المعاني من غير شك، ولكنه خليق أن يتناول الوزن أيضاً فلكل نفس مذهبها في التفكير، ومذهبها في التعبير، ولكلل نفس موسيقاها أيضاً. وإذا صدق هذا بالقياس إلى الأفراد فهو صادق بالقياس إلي الأجيال. والعقاد يعلم إن كل نهضة في الشعر خليقة بهذا الاسم تستتبع تغييرا في الوزن، واستحداثاً لفنون جديدة من التوقيع. كان ذلك في شعرنا العربي في الشرق وفي الأندلس. وكان ذلك في غير شعرنا من الأمم، وكنت أحب أن يكون ذلك في شعرنا الحديث، وكنت احب أن يكون العقاد من السابقين اليه، ولست يائسا من ذلك فان العقاد رجل خصب النفس قوي الحس دقيق الشعور واخلق بمن تجتمع له هذه الخصال، ويكون له معها خيال قوي بعيد المدى أن يجدد في الشعرفيحسن التجديد، وان يتجاوز التجديد في الألفاظ والمعاني إلي التجديد في الأوزان والقوافي.

اعترف بأني قرأت وحي الأربعين مرتين وأني أود لو أقرأه مرة ومرة، وأني واثق بأني سأجد في قراءته المقبلة من اللذة والمتاع ما يجعلني فيها راغبا وعليها حريصاً.

أهي المصادفة التي أردت أن أتحدث عن العقاد وعن هيكل في مقال واحد، أم هو تشابه

ص: 75

قوي أو ضعيف بين هذين الأديبين دعاني إلى أن اجمع بينهما في هذا الفصل، وإن كان الاختلاف بينهما شديدا مغرقا في الشدة.

أما الذي لا اشك فيه فهو إن ظهور ثورة الأدب ليس هو الذي دعاني إلي الجمع بين هذين الأديبين فقد كنت أستطيع أن افرد لكل واحد منهما فصلاً ولعلي لو فعلت أرحت القارئ وأرحت نفسي من الإطالة ولعلي لو فعلت فرغت لكل واحد منهما فوفيته بعض حقه من النقد والثناء. ولكني وجدت نفسي مدفوعاً إلى أن انظمهما في سلك واجمعهما في فصل. وابحث بعد ذلك عما دفعني إلى هذا. وأظن انه الشعور الذي كنت أجده حين كنت انتقل من شعر العقاد إلى نثر هيكل، ومن نثر هيكل إلى شعر العقاد. فقد كان يخيل ألي أني انتقل بين أديبين مختلفين غاية الاختلاف. وإنما كنت انتقل من شعر كثيراً ما يشبه النثر إلى نثر كثيرا ما يشبه الشعر وكلاهما يمتاز بالخصب والثروة والعمق وكلاهما يمتاز بهذه الديباجة التي ينقصها الصفاء في كثير من الاحيان، وكلاهما يمتاز بإيثار المعاني وإعمال الألفاظ إلى حد بعيد. وهل أنا في حاجة إلى أن اصف هيكلا، واحمد فيه قلبه الزكي وعقله القوي، وبصيرته النافذة وفهمه الصحيح لحقائق الأشياء التي يعرض لها بالبحث والدرس. وهل أنا في حاجة إلى أن اصف هذا الخصب المدهش الذي يحار الإنسان في وصفه وفي تصويره، كلما فكر في هذه الجهود الهائلة التي يبذلها هيكل في غير انقطاع ولا تواني ولا فتور، والتي تستطيع مع هذا كله أن تحتفظ بقوة متشابهة لا يكاد يظهر فيها التفاوت ولا يكاد يعرض لها الضعف، فهيكل صاحب صحيفة يشرف عليها ويدير امورها، ويكتب فيها فصلا في كل يوم على اقل تقدير، وهو عضو في حزب سياسي يشارك زملائه فيما يعملون ويتحدث إليهم كل يوم في السياسة، إذا كان الصباح، وإذا كان المساء. وهو أديب يقرأ فيكثر القراءة وينوعها ويحسن تنويعها. يقرأ في الأدب العربي، ويقرأ في الأدب الانكليزي، ويقرأ في الأدب الفرنسي، ويقرأ في السياسة، ويقرأ في التاريخ، والغريب انه لا يكره أن يقرأ في علوم القانون وإن كان من رجال القانون وهو على هذا كله يكتب في الأدب في موضوعات مختلفة منه، يكتب في الأدب الإنشائي فإذا هو يصف فيبدع في الوصف، وإذا هو يقص فيجيد القصص، ويكتب في الأدب الوصفي فإذا هو ينقض الشعر وينقض النثر، ويوفق في هذا النقد إلى خير ما يطمع فيه الناقدون، وهو على هذا كله أب

ص: 76

وزوج لا يبخل على أسرته بحقها عليه وهو صديق لا يبخل على أصدقائه بحقوقهم عليه. وهو رجل له مكانته الظاهرة في حياتنا الاجتماعية والسياسية، وهو ينهض بما تستتبعه هذه المكانة من حقوق وواجبات. الغريب مع هذا كله أنك تلقاه فإذا هو رجل هادئ مطمئن كأنه أفاق منذ حين قصير من نوم مريح، فهو لم ينشط كل النشاط بعد ولكنه بعيد كل البعد عن الخمود والفتور، ولا تكاد تتحدث إليه دقائق حتى يفتنك ويروعك فكأنك تتحدث إلى جني ولكنه جني عذب الروح لذيذ الحديث.

هذا هو هيكل. فالذي لا يقضي الإنسان عجبا من قدرته على الإنتاج المتصل، في السياسة وفي أي سياسة، في الأدب وفي أي أدب، دون أن يظهر عليه ضعف أو إعياء أو شئ يشبه الملل.

أصبحت ذات يوم لا أكاد اسم صاحبي يتلو علي صحيفة من صحف الصباح الا سمعت إعلانا في هذه الصحيفة عن كتاب لهيكل جديد هو (ثورة الأدب) وكان الإعلان أمريكيا لا عهد لهيكل بمثله. فهيكل من انشط الناس في الأدب والسياسة ولكنهم من أشدهم فتورا في الإعلان. فقلت يجب أن يكون هيكل قد تغير ذلك فليس عهدي به بعيدا، يجب أن يكون شيء من حوله قد تغير، يجب أن يكون الله قد رزقه عفريتا في الإعلان كما هو عفريت في الإنتاج. وما هي الا ساعة أو ساعتان حتى اقبل رسول يحمل ألي نسخة من الكتاب. وكنت اعرف هيكلا بطيئا في إهداء كتبه وكثيرا ما لمته في ذلك، وكثيرا ما أسرفت في الإلحاح لأظفر بنسختي مما كان يصدر من الكتب. فلم ازدد أمام هذه السرعة وهذا النظام الا دهشا، وما زلت إلى الآن دهشا لأني لم افهم بعد مصدر هذه السرعة وهذا النظام في الإهداء والإعلان. ومهما يكن من شئ فقد أسرعت فأعلنت كتاب هيكل إلى الناس في الكوكب كما أعلنته الصحف الأخرى، ثم أسرعت فبدأت في قراءة الكتاب. ولم يخفني عنوانه، أما لأن صديقي هيكلا لا يخيف مهما يثر، وأما لان الثورة مهما تكن لا تخيفني. ولم احتج إلى هذا التفسير الذي خيل إلى هيكل انه محتاج اليه، ليفهم الناس عنه هذا العنوان. فأي غرابة في أن يسمي أي كتاب في الأدب الآن (ثورة الأدب). وهل حياة الأدب العربي في هذه الأيام الا ثورة متصلة. نحن ثائرون حين ننشئ ونحن ثائرون حين نصف ونحن ثائرون حين ننقد. كل إنتاجنا الأدبي ثورة حتى الذين يسمون أنفسهم محافظي

ص: 77

ويلحون في المحافظة ويتمدحون بها ويبتغون بها الوسيلة عند الذين يحبونها ويستغلونها. هؤلاء أنفسهم ثائرون يفرون من القديم الذي يحرصون عليه، يريدون أن يؤيدوه فإذا هم يجددونه ويغيرونه ويكفي أن تقرأ حتى في نور الإسلام وهي المجلة الرسمية للأزهر. فسترى فيها ثورة ومحاولة للتجديد، وحرصا على أن يظهر شيوخ الأزهر حين يفكرون ويكتبون ملائمين للعصر الذي يعيشون فيه. حياتنا الأدبية كلها ثورة إذا وكل كتاب نكتبه في الأدب فهو ثورة الأدب، لذلك لم اقف طويلا عند العنوان وإنما أسرعت فمضيت في قراءة الكتاب.

لم أجد في الكتاب شيئا جديداً وأرجو أن الا يغضب هيكل فالكتاب كله جديد ولكني أعرفه لا لأني قرأت كثيرا من فصوله حين نشرت في السياسة اليومية أو الأسبوعية بل لأني قرأته وسأقرأه كله في هيكل كما لقيته أو تحدثت إليه. فالكتاب صورة مطابقة اشد المطابقة وأصدقها وأجملها لنفس الكاتب. تقرأ في الكتاب فترى هيكلا وتسمع له وقد تنكر الرأي من آرائه فتهم بأن تتحدث بإنكارك هذا إلى هيكل كأنه جالس إليك تراه وتسمع منه وتريد أن تأخذ معه في الحديث. ليس في الكتاب شئ جديد وهو لذلك من اخطر الكتب واشدها غدرا لك ومكرا بك تمضي فيه فيخيل إليك انك تمضي في كلام مألوف ولكنك لا تكاد تفكر قليلا فيما تقرأ، أو لا تكاد تلح في القراءة، حتى يفتح لك هذا الكتاب أبواباً ويبسط أمامك آفاقا ما كنت تعرفها أو تفكر فيها من قبل وإذ كل شئ جديد، وإذ كل شئ طريف، وإذا الكاتب يخدعك ويمكر بك وان لم يرد خداعاً ولا مكراً.

أريد أن أعطي قارئ الرسالة فكرة دقيقة عن هذا الكتاب بشرط أن لا ألخصه ولا أحلله لا لأني لم اقرأه كما ظن هيكل بصديقنا المازني بل لأن تلخيصه يفسده ويذهب بجماله وقيمته الصحيحة وكيف تلخص في فصل واحد كتاباً يتناول التجديد والتقليد في الأدب ويتناول القصص والتمثيل ويتناول الأدب القومي ويحاول الإنتاج في هذا الأدب القومي، كيف تريد أن تلخص هذا الكتاب على اختلاف ما فيه من ثمرات وألوان. لقد حاول صديقنا المازني أن يلخصه فلم يوفق ولولا أن هيكلا شك في قراءته للكتاب لما تكلف المازني هذه المحاولة. أريد أذن أن أعطي قارئ الرسالة فكرة دقيقة عن هذا الكتاب دون أن ألخصه، ولعلي أوفق إن لاحظت أن لهذا الكتاب ناحيتين فهو تاريخ صحيح دقيق للأدب العربي

ص: 78

المصري في هذه الأعوام الأخيرة من جهة وهو فلسفة أدبية رفيعة موضوعها أدبنا الحديث من جهة أخرى. فإذا كنت تريد أن تعرف كيف نشأت الخصومة عندنا بين القديم والجديد وكيف تطورت والى أين انتهت وما المؤثرات المختلفة التي ألحت عليها فقوتها حيناً وأضعفتها حيناً آخر، وإذا كنت تريد أن تعرف مقدار ما كسبنا من أنفسنا من شخصية قوية أو ضعيفة في فنون الأدب على اختلافها في الشعر والنثر رسائل وقصصا وتمثيلا. وإذا كنت تريد أن تعرف الصورة التي نرسمها لأنفسنا من الأدب القومي، والحقيقة التي استطعنا أن ننتهي إليها من هذا الأدب فأنت واجد هذا كله في هذا الكتاب. وأنت واجد في هذا كله قصصاً هيكلياً ممتعاً بديعاً. ثم إذا كنت تريد أن تجعل الأدب موضوعاً للتفكير والفلسفة كما يجعل الفلاسفة الطبيعة وما بعد الطبيعة موضوعاً لفلسفتهم وتفكيرهم فيحللون ويعللون ويشرحون ويفسرون ويتنبئون فستجد هذا كله في هذا الكتاب. فقد حلل هيكل وعلل، وقد شرح هيكل وفسر، وقد أرخ هيكل وتنبأ، ووفق هيكل إلى كثير جدا من الحق في هذا كله.

اظلم هيكلا واظلم نفسي إن قلت أن إعجابي بكتابه يمكن أن يحد فهو مرآة صافية نقية صادقة لحياتنا الأدبية منذ وضعت الحرب الكبرى أوزارها ولكني أظلم هيكلا، وأظلم نفسي إن قلت أني راض عن كتابه كل الرضا، مقر بكل ما جاء فيه. فبين هيكل وبيني خصومة قديمة ما أرى أنها تنتهي لأنه لا يريد أن ينهيها. ولغة هيكل هي موضوع هذه الخصومة. فهيكل من أصحاب المعاني بين الشعراء، وهيكل يهمل لغته إهمالا شديدا ويتورط في ألوان من الخطأ واضطراب الأسلوب، يدنيه أحيانا من الابتذال، والغريب انه لا يضيق بذلك ولا يجد به بأسا، ولا يعترف بأنه يسيء إلى نفسه والى أدبه معا. ولست أريد أن أحصى عليه هذه العيوب ولا أن اضرب لها الأمثال فهو لا ينكرها ولا يراها عيوبا، ولعله يتمدح بها أحيانا وهو مخطئ من غير شك. فان من المؤلم أن تبدو معانيه الجميلة الرائعة في ثياب رثة بالية في كثير من الأحيان. وهيكل كالسيل إذا عرض لموضوع اندفع فيه فجاء بالجيد الكثير ولكنه لا يسلم أحيانا من الغثاء. فكثيرا ما يتورط في الخطأ لأنه يسرع ولا يتكلف التحقق والتثبيت في بعض مسائل التاريخ. أنظر إليه في المقدمة يريد أن يذكر الأوديسا فيذكر الإلياذة ويضيفها إلى اليونان. والإلياذة هي قصيدة فرجيل، وهيكل يعلم ذلك حق العلم

ص: 79

ولكنه نسى وصحح كتابه ولم يخطر له أن يتحقق مما يكتب. وانظر إليه في موضوع آخر حين يذكر تحرر الفرنسيين من آثار اليونان والرومان في القرن السابع عشر، كيف يذكر لابروير وموليير وهو يعلم حق العلم أن أولهما تأثر من غير شك بتيوفرايست، وإن الثاني تأثر من غير شك بتيرانس وبلوت. وتستطيع أن تأخذ هيكلا بطائفة غير قليلة من هذا الخطأ الذي مصدره الإهمال والسرعة، وشيء من الازدراء لتحقيق المحققين. ولو أني عرفت أن هيكلا يحفل بنقد الناقدين، أو نصح الناصحين لألححت عليه في أن يتخذ لفصوله الأدبية مصفاة، إن صح هذا التعبير، يصفى بها ما يكتب فيزيل منه الخطأ اللغوي ويزيل منه الإهمال في بعض الحقائق التاريخية.

أمتفق أنا بعد هذا كله مع هيكل في آرائه كلها حول القديم والجديد؟ ما أظن الا إننا نتفق في أكثرها ونختلف في أقلها. ولعل اختلافنا أن يكون ناشئاً من شيئين أحدهما هذا الإهمال الذي آخذ به هيكلا. والذي يدفعه إلى المبالغة ويضطره إلى التقصير أحياناً. والثاني أن هيكلا رجل أديب، ولكن اشتغاله المتصل بالسياسة قد أثر في تصوره للأشياء وحكمه عليها بعض الشيء. فهو يسرف حين يسئ الظن بما يكتبه الأوربيون عنا حين يمسون حياتنا الأدبية، فما أظن أن (جيب) وأمثاله يتخذون السياسة وأهوائها مقياساً لدراساتهم الأدبية، وهو يسرف حين يحسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج. ولكنه رجل سياسي حين يكتب في الأدب، يريد أن يدافع عن مصر والشرق كما يفعل في السياسة، ويريد أن يرضي المصريين والشرقيين كما يفعل في السياسة. أما أنا فأريد أن أدافع عن مصر والشرق ولكن بشرط أن لا يورطني هذا في تغيير الحقائق العلمية أو مسها بشيء من التشويه ولو قليلا. فالحق آثر عندي من أي شئ ومن أي إنسان.

أما بعد فمهما نأخذ به كتاب هيكل هذا، فلن نغض منه ولن يستطيع أحد أن ينكر أن هيكلا هو المؤرخ العربي للأدب العصري الحديث. وانه قد فرض بذلك نفسه، لا أقول على هذا الجيل وحده، بل أقول على الأجيال المقبلة أيضاً. وأنا واثق كل الثقة بأن كتابه هذا سيصبح من المصادر القيمة للذين يريدون أن يدرسوا أدبنا المصري في نهضته هذه الحاضرة.

طه حسين

ص: 80

‌سلمى وقريتها

للسيدة (آمي خير)

بقلم الأستاذ الكبير م. ع.

هذه قصة لبنانية بأشخاصها وأماكنها ووقائعها، فرنسية بلغتها، وقد كتبت في مصر، وطبعت في باريس.

واسم المؤلفة مركب من لفظين: ثانيهما عربي، وأولهما أعجمي بهمزة مفتوحة بعدها مدة فميم مكسورة فياء ساكنة.

كنت في مجلس بعض الأدباء، فجرى حديث هذه القصة فيما تناوله السمر، قال قائل منهم:

- من تكون مدام آمي خير؟

- إن كنت لا تعرفها فقد فاتك نصف عمرك.

- أواه، كم فاتني عمر كله، وكم فاتني نصف عمر!

- آمي خير سيدة تحدرت أرومتها من منابت الأرز في لبنان إلى أمومة لا تعرف الأرز ولا لبنانه، ونبتت في أحضان البحر الصغير في مدينة المنصورة، وربيت تربية فرنسية خالصة في هذه المدينة المصرية الخالصة.

هنا أخذ كل واحد من الجماعة يدلي برأيه غير منتظر تمام الحديث، فمن قائل: أن مؤلفة (سلمى وقريتها) لا يمكن ان تعتبر الا فرنسية، لأن صبغة الثقافة الفرنسية قوية جداً تصهر النفوس وتحيلها فرنسية مهما كان أصلها، الثقافة الفرنسية وريثة الثقافة اليونانية التي وجهت الفكر البشري توجيهاً يونانياً ودمغت بطابعها العلم والحكمة والدين.

أنظر إلى الكونتس (دي نواي) التي رزئ بها الشعر منذ قريب، لقد ماتت فرنسية، وعدت فرنسا مصابها مصاباً قومياً. والثقافة هي التي جعلتها فرنسية، لا الدم الذي كان يجري في عروقها. ومن قائل: ان الثقافة الفرنسية مهما قوى سلطانها فهي لا تستطيع أن تصنع شيئاً في الدم السكسوني وأن كان لقاحاً، ذلك الدم النزاع بجوهره إلى غير منازع الفرنسيين.

كان في المجلس شاب لبناني فأخذته حماسة الشباب وصاح: ودم لبنان؟ أليس للدم اللبناني حساب؟ إنا لنهفو إلى بعض الثقافات ونقلد بعض الامم، لكنا على ذلك ذوو عرق في الشرق عريق. .

ص: 82

وقال فتى من أهل الدقهلية:

- ما دامت السيدة قد نبتت بين البحرين فهي منصورية لحماً ودماً، والمنصورية مدينة لها من التاريخ ذكريات داوية من عهد ابن لقمان وداره، إلى عهد أبي سحلي وآثاره.

ثم عاد صاحب الحديث الأول يتمه: إن في السيدة (آمي خير) جمال المرأة الذكية، وفيها ذكاء المرأة الجميلة.

قال بعضهم: يا رفاقي على دين الدكتور (فريد الرفاعي) أفمن كانت بهذه المثابة تعنى نفسها بصنعة الكتابة؟

فانبرى للجواب صاحب الحديث:

- إن للسيدة (آمي خير) مشاركة جيدة في الفن والأدب، ولها ذوق من ألطف الأذواق، وهي على اتصال دائم بالمميزين من أهل الثقافات الغربية وإخوانهم من أهل الثقافات الشرقية، وتحاول أن تصل بين الثقافتين اللتين تحبهما على سواء.

تعطف على الفنانين والأدباء عطفا يسمو على اعتبارات الأجناس والأوطان والأديان لأنهم يؤدون رسالة الجمال في هذا العالم.

وكأنما تستصفي صواحبها تخيرا من ذوات الحسن البارع لأنها ترى المرأة الجميلة أيضا تؤدي رسالة جمال في هذا العالم المحتاج إلى جمال.

وتنقّل الحوار إلى (سلمى وقريتها) فمضى قائل يقول: موضوع القصة لا طرافة فيه، فان فتاة من بنات الفلاحين صبا إليها فتى من أبناء الأعيان ففتنت به، وكان بينهما كل ما يكون في كل حب من: عناق وقبل، وفرقت الأقدار بينهما وتزوجت (سلمى) شاباً من أهل قريتها كان يسر في قلبه حبها منذ زمان. لكن عقابيل الغرام الأول لم تزل تعاود سلمى حتى مرضت بالسل ووافاها حمامها.

ومن عجب إن المحبين في أقاصيصنا والمحبات يموتون بالسل دائما كأن جراثيم ذلك الداء لا تنتعش الا في صدور العاشقين!

قال آخر: يكون في كثير من الأحايين موضوع القصة بسيطا مطروقا لكن الكاتب يحسن تناوله فيبرزه في إطار من المعاني الشريفة والصور، ويسمو به إلى أفق الإبداع.

كان في حاشية المجلس رجل لم يشترك في شيء من الحديث وان أصغى إلى كل الحديث،

ص: 83

فلما سكت القائلون تصدى للكلام:

- يشعر القارئ لكتاب (سلمى وقريتها) بأن مؤلفته أرادت أن تصور لبنان تصويرا شاملا. فهي ترسم الجبال شامخات عاربات يلمع الثلج فوق هاماتها. وتنحدر الوديان من حولها وهادا سحيقة. ومروجا خضراء، وتتناثر القرى في سفوحها وفي أحضانها وربما تسامت إلى ذؤاباتها، والينابيع تتدفق عن يمين وشمال بالعذب النمير والكروم والأشجار تجتمع جنات الفافا، وتفترق ألواناً وأصنافاً.

وتصف السيدة حياة القوم حين يجمعهم الشتاء أسارى، وحين يطلقهم الصيف احرارا، وتذكر أمرهم في بيوتهم، وحالهم في مزارعهم، وشأنهم في مجامعهم، وتنعت ما يأكلون وما يشربون وما يقولون وما يفعلون، وتمثل أفراحهم وأحزانهم، وجدهم ولعبهم، ورقصهم وغنائهم، وعشقهم وغزلهم، ولا تهمل شعائر الدين فيهم كل ذلك في أسلوب بسيط إن خلا من زينة الصنعة فهو لا يخلو من جمال السهولة والوضوح.

وفي الكتاب لمحات بسيكولوجية، وقصة سلمى نفسها مملوءة من هذه اللمحات التي تكشف عن معان نفسانية.

فإيثار سلمى لجميل فارس بالعشق ملحوظ فيه انه وريث وجاهة وغنى، وقد حسبته انصرف عنها بعد أن تلهى بمغازلتها، فثارت في نفسها للكرامة حمية بددها الغرام بابن السادة الأغنياء. وأبو سلمى عرف أن ابنته العذراء قد فتنها جميل، وتهامس أهل القرية بما بينهما فلم تخرجه الغيرة عن حدود الرزانة والحلم وزوج سلمى حين سمع حليلته تهتف في سكرات الموت باسم عشيقها، صدمه ذلك ففار فورة ثم انطفأ وعاد يريق دمعه عند أقدام سلمى.

أما أم سلمى فقد جعلتها مدام خير مثال الزوجة البرة الصالحة والأم الحكيمة الرحيمة.

ويوشك أن يكون أروع ما في (لبنان مدام خير) بعد منابع المياه ومزة العرقي هي أم سلمى.

وكان ذلك نهاية السمر بين القوم فتفرقوا مجمعين على أن (آمي خير) قد وصفت لبنان وأهل لبنان في كتاب (سلمى وقريتها) وصفا فيه روعة الدقة ولطف الملاحظة وحسن البيان.

ص: 84

م. ع

ص: 85

‌الفكر والعالم

للأستاذ إبراهيم المصري

يشتمل هذا الكتاب على مجموعة مقالات (أو دراسات كما يدعوها المؤلف)، ثم قطعة تمثيلية من أربعة فصول فهو إذن كتابان في كتاب واحد. وسنقصر كلامنا على أولهما.

الفكر والعالم كلمتان عظيمتان تدلان على كل ما في هذه الخليقة من مادة وروح. وقد تشك في أن هذا الكتاب الصغير يحوي بين دفتيه خلاصة الفكر وخلاصة ما في العالم. فإذا ما قرأت هذا الكتاب انقلب الشك يقينا، فالكتاب يخدعك بعنوانه الضخم، وليس به من عنوانه الا القليل.

ولكنك قد تجد في الكتاب متعة أقرب إلى النفس، لأنك تتصل بفكر خصب هو فكر المؤلف نفسه، وتتصل بعالم حي هو نفس المؤلف ومشاعره. إذ ليس الكتاب سوى صورة إبراهيم المصري، صورة ميوله وآماله، ومتاعبه وآلامه. وفي الرسالة الأولى من الكتاب، وعنوانها نجوى، يتمثل تفكير المؤلف، وأسلوبه في الكتابة. استمع إليه وهو يقول:

(. . . نهذب نفوسنا ونصقلها بشتى الأفكار والمعلومات. وما تزال الحيوانية الكامنة ترتع في قلوبنا وتستشره. ترق احساساتنا في بعض الأحايين، وتخمد أعصابنا ويغفو ذهننا العامل المجد، ويخيل إلينا أننا بلغنا قمة الحكمة، وسمونا إلى حيث يشترك العقل البشري بالقوة الإلهية المحركة الأولى.

وسرعان ما نتصل بالمجتمع، فنلمس الحقيقة فنكر راجعين والخيبة تملأ جوانحنا، والكمال الروحي يتباعد عنا شيئا فشيئا، حتى يتلاشىّ بغتة ويغيب عن الأبصار.)

وهكذا تقرأ في الكتاب صفحات وصفحات من العبارات المتراصة المشبعة بالصفات والكلمات المؤكدة تنساق في سلسة واحدة لتصور لك في الحقيقة وفي والنهاية أمرا واحدا: الوجه الشاحب، قد أحاطت الغضون فيه بالفم والجبين قبل الأوان. وذلك الشعر الغزير الكثيف الذي وخطه الشيب على رغم الشباب. وتينك العينين المتعبتين من أثر الإسراف في القراءة تغطيهما عدستان قويتان. تلك هي الصورة التي تبرز لك من خلال مطالعة الكتاب: صورة إبراهيم المصري وهو يجاهد في مضمار الحياة تطحنه المادة، ولكن ذهنه المستنير يأبى إلا أن ينتصر، وأن يحطم الجسم في هذا السبيل. . . (فلتنزل بي الطبيعة

ص: 86

أشد كوارثها، ولتغمرني في الفقر والمرض حتى مغرقي، ولتمنحني جزءاً من فضيلة واحدة، ثم لتفعم نفسي بما شاءت من رذائل وآثام. . . فأنا راض. راض بالنقص الذي لا اعتبره نقصا. انه قوتي. وإنما الكون قد أوجدني لأسعى إلى الكمال لا لأبلغه).

وهكذا تلمح في هذه الصفحات النفس الثائرة الطامحة. يحدوها الرجاء حينا ويردها اليأس أحيانا، ولكنها لا ترتد ولا تهزم.

ويتابع الأستاذ إبراهيم المصري هذا الأسلوب، في رسائله الأخرى، حين يعطينا صورا لحياة عظماء عرفوا الشقاء وعرفوا الياس، ولكنهم ظلوا يعملون في عزيمة وصبر، كي يضيفوا إلى تراث الإنسانية شيئا خالدا. . . فهو يتكلم عن بروست وبودلير وميكائيل انجلو، وبيرون، مصورا لك حياتهم أو جانب منها، تصويرا دقيقا هو خلاصة لاطلاع واسع.

(ميم)

لم يستطيع صديقي (ميم) الذي كلفته نقد (الفكر والعالم) أن يطالع وينقد القطعة التمثيلية، التي تحتل النصف الثاني من الكتاب. وليس هنا مقام الأسف على الظروف التي اضطرت المؤلف أن يطبع الكتابين في كتاب واحد، وألا يستطيع أن يبرزهما للقراء في شكل جميل يليق بكل منهما. أما الرواية التمثيلية (نحو النور) فهي مشبعة بنفس الروح التي تبدو لنا خلال الرسائل فهي تمثل لنا رجلا نابغا شريف النفس ينشد الإصلاح بقوة وبعزم، وقد تألب عليه كل ما يمكن أن يعترض سبيل المصلحين من كوارث ونكبات، فمن فقر مدقع، إلى نفس أبية مسرفة في الإباء، إلى زوجة لا تفهم زوجها بل تخونه وتندفع في خيانته، إلى مجتمع جاهل فاسد يضطهده ويعنِّيه. كالمريض الذي يجمع كل ما لديه من قوة لكي يقتل الطبيب الذي جاء لعلاجه.

تلك هي الصورة الجليلة التي أراد المصري أن يبرزها لنا في شخص (محسن)، ولئن كانت الصورة التي رسمها المؤلف لا تنهض تماما إلى مستوى الموضوع الجليل الذي يعالجه. فأنها مع ذلك محاولة قيمة، وإنا لنرجو أن يعود الأستاذ لمعالجة هذا الموضوع الخطير مرة أخرى. بعد أن ترسخ قدميه في فن الكتابة المسرحي فإن الموضوع جليل حقا. ويمكن أن يعالج عدة مرار من نواح شتى.

ص: 87

م. ع. م.

ص: 88