الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 1000
- بتاريخ: 01 - 09 - 1952
بلغنا العدد الألف!
نعم، بلغنا العدد الألف! ومعنى ذلك انقضاء ألف أسبوع من عمر الرسالة الباقية، أو عشرين عاما من عمر صاحبها الفاني! وان عشرين عاما يقضيها الكاتب المتأمل في هذا المرصد الأدبي والاجتماعي يصوب مناظيره إلى كل سماه، وينصب مخابيره في كل أرض، لتكشف له عن ظواهر في الآفاق، وعن بواطن في الأنفس، ما كان ليراها، ولا بقلبه، لو أنه جلس مجلس المشاهد المتفرج في مسرح الحياة.
قضيت ثلث عمري الأعلى والأغلى دائبا دءوب القمرين، أعمل ليل نهار في عالم عبقري الأحلام والرؤى، يزخر بالعقول النيرة، والنفوس الخيرة، والأخيلة الخصبة؛ أناجيهم بالروح، وأخاطبهم بالقلم، وأقابلهم في البريج، وأجعل لهم من صفحات الرسالة جواء يسبحون في أطباقها مع الملائكة، ورياضا يهيمون على زهورها مع الفراش، وحقولا يعسلون من رحيقها مع النحل، حتى اجتمع لهم من أفانين الحق والخير والجمال عشرون مجلدا ضخما هي تاريخ نهضة وثورة أمة وتراث جيل.
في ذات عشية من عشايا نوفمبر من عام 1932 زرت أخي الدكتور طه حسين في دارته بالزمالك. وكنت منذ أربعة أشهر قد رجعت من العراق بعد من أغلقت دار المعلمين العليا ببغداد، وكان هو قد أنزل عن كرسيه في كلية الآداب من جامعة فؤاد. فقلت له بعد حديث شهي من أحاديث الذكرى والأمل:
ما رأيك في أن نصدر معا مجلة أسبوعية للأدب الرفيع؟
فضحك طه ضحكته التي تبتدئ بابتسامة عريضة، ثم تنتهي بقهقهة طويلة، وقال:
وهل تظنك واجدا لمجلة الأدب الرفيع قراء في مجتمع ثقافة خاصته أوربية، وعقلية عامته أمية، والمذبذبون بين ذلك لا يقرءون - إذا قرءوا - إلا المقالة الخفيفة والقصة الخليعة والنكتة المضحكة؟
فقلت له: لعل من بين هؤلاء وهؤلاء طبقة وسطا تطلب الجد فلا تجده، وتشتهي النافع فلا تناله.
فقال وهو يهز رأسه ويمط شفتيه: حتى هذه الطبقة، أن كانت، ستقبل على الجد النافع أول الأمر لأنه يتغير وتنويع، فإذا ما ألح عليها لا تلبث أن تسأمه وتزهد فيه. والمثل أمامك في (السياسة الأسبوعية).
فقلت له: ربما كان لإقبال القراء على (السياسة الأسبوعية) ولأدبارهم عنها سببان آخران غير التغيير والسأم. كانت هذه المجلة أول ما صدرت قوية غنية خصبة فأصبحت حاجة؛ ثم اعتراها ما يعتري الكائن الحي من الوهن والانحلال فصارت فضلة.
فقال لي بعد نقاش طويل: أنت وشأنك! أما شأني فهو المقال الذي أكتبه، والرأي الذي أراه.
وكان يظاهرني على تفاؤلي أصدقائي الأدنون من لجنة التأليف والترجمة والنشر، فكانوا بهذه المظاهرة نقطة الارتكاز ومبعث المدد.
وأخيرا تغلب العزم المصمم على التردد الخوار فصدرت الرسالة. صدرت قوية بالروح، غنية بالمادة، فتية بالامل، فكانت ولله الحمد حدث العام وحديث الناس! صادفت خلاء فشغلته، وخللا فسدته، وعبثا فحاولت أن تصدر عنه بإيقاظ النخوة في الرءوس والكرامة في النفوس والرجولة في النشء. ثم حركت في الملكات الموهوبة ساكن الشوق إلى الإنتاج فأبدعت، وأهابت بالقوى الأدبية المتفرقة فتجمعت. ثم سفرت بين الأدباء في كل قطر من أقطار العروبة، فعرفت بعضا إلى بعض، وأطلعت كلا على عمل كل. ثم قادت كتائب الفكر والبيان في ميادين الإصلاح الأدبي والاجتماعي والسياسي على نهج واضح من الدين والخلق، فكتب الله لها النصر في معارك، ووعدها الفوز في معارك. ولو كانت الرسالة اليوم بسبيل أن تكشف عن قلبها، وان تتحدث بنعمة ربها، لذكرت فيما تذكر بلائها العظيم في إنهاض الأدب، وتوحيد العرب، وتخريج طبقة من الأدباء، وتثقيف أمة من القراء، بله مجاهدتها السلطان الباغي والثراء الطاغي والفقر المهلك. ولكنها ترى ذلك من لغو الحديث ما دام (وحي الرسالة) منشورا وأعداد المجلة محفوظة.
كانت نشأة (الرسالة) كنشأة (الوفد) من كل الوجوه؛ وكان تطورها كتطوره من بعض الوجوه. نشأة الرسالة كما نشا الوفد إجابة لحال مقتضية وضرورية موجبة. لم تكن في مصر حين صدرت الرسالة مجلة الحق، وتقضي حاجة القارئ الجاد. إنما كان الأدب السامي حينئذ خبئ في الصدور وحبيس المكاتب. فلم تكد تخرج إلى الناس حتى احتشدت فيها القوى المدخرة، وظهرت على صفحاتها الملكات المستترة، فلم يبق في العالم العربي صاحب نثر أو شعر إلا أشرق فيها عقله، وانتشر مع انتشارها فضله.
كذلك لم يكن في مصر يوم ظهر الوفد جماعة سياسية تواجه مشكلات الحرب العالمية
الأولى، وتوجه خطوات الثورة المصرية الثانية. إنما كانت السياسة يومئذ أصداء خافته لأصوات الماضي، وآراء متهافتة من ترهات الحاضر. فلم يكد سعد زغلول يؤلف الوفد حتى انضم إليه عباقرة الرأي ودهاقين السياسة فلم يبق في مصر صاحب قلم أو لسان أو منطق أو جاه إلا قصر جهده على الوفد، وأضاف جهاده إلى جهاد سعد.
ثم سعى الشيطان بين الأخوة فتصدع الشمل وتفرق الهوى وتمزقت الوحدة. فأنشق على الرسالة كتاب. واشتق منها صحف كما انشق على الوفد أقطاب، واشتق منه شعب. فضعف الأصل ولم يقو الفرع، واعتل المصدر ولم يصح المشتق، وخسر المفرد ولم يربح الجمع. وأصبحت الرسالة رجلا واحدا يجتمع من حوله أشياع الفكرة، كما أصبح الوفد رجلا واحدا يسير من خلف أتباع المبدأ.
على أننا نطمع في فضل الله أن يزيد الرسالة قوة في عهد مصر الجديد. وما تسال الرسالة إلا العون من الله؛ فقد عودها جل شانه ألا تفزع إلا إليه فيما يحزب من أمر وما ينوب من مكروه.
ولعل السر في بقائها إلى اليوم على ضعف وسيلتها وقل حيلتها أنها عفت عن المال الحرام، فلا تجد لها اسما في (المصروفات السرية)، ولا فعلا في المهمات الحزبية، ولا حرفا من الإعلانات اليهودية.
وإذا لم يكن للفضيلة نفاق في عهد غرق فيه (القصر) في الفحش والنكر والبغي والاغتصاب والاستبداد والقتل وارتطمت فيه (الحكومة) في الاختلاس والغش والخيانة والرشوة والمحاباة والختل، فإنا لنرجو أن يكون لها من السيادة والفوز نصيب، في عهد يتولى الأمر فيه بإذن الله على ما هو ومحمد نجيب!
أحمد حسن الزيات
(الرسالة) مؤمل الرأي الحر
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان
أعتقد أن أهم ما تهدف إليه رسالة الصحافة في الوجود إنارة الرأي العام وتبصرة ببواطن الأمور وخفاياها، ولن تتمكن من تأدية هذه المهمة إلا إذا احتضنت الرأي الحر، وصارت مؤملا له. والصحافة التي لا تحتضن الرأي الحر ولا تصير مؤملا له - لا تعتبر صحافة في ميزان الحق ولو بلغت الذروة والقمة من الذيوع. . والصحف في مصر كثيرة لا حصر لها، ولكنها مع تباين مشاربها، وتنوع اتجاهها، وتعدد ألوانها، لا تظفر بواحدة منها تقسيم للرأي الحر وزنا، وتحسب له ولو ذروة من الحساب، فهي إما حزبية يهمها تأييد سياسة حزبها والتنديد بسياسة غيره، وإما مستقلة يهمها أن تظل على الحياد - مؤثرة نشر الموضوعات التي لا تحتمل الجدل، ولا تجر إلى المناقشة. وهي إما طائفية تعني بالدعاية لمذهبها، وسلق مخالفيه بألسنة حداد. وهناك لون رابع تافه تفاهة تجعله لا يشعر بوجوده ولا يكترث لظهوره.
والذي لا ريب فيه أن هذا التقسيم لا يشمل مجلتنا (الرسالة) إذ أن مشربا خاصا يميزها على غيرها، واتجاهها فريدا يجعلها في معزل عن سواها - أما مشربها فهو الأدب المصفى. تحمل إلى العروبة رسالته - وتتزعم وحدها جبهته، وتذود عن كرامته، وتنقيه من شوائب الدخن، وتحميه من بوادر الوهن. وأما اتجاهها فهو إلى تشييد حصن حصين للرأي الحر. وإقامة مسرح أمين للبحوث الجريئة، وبهاتين الخاصتين استطاعت الرسالة أن تشق طريقها في الحياة مرفوعة مكرمة. واصبح لها مكانتها المرموقة في مصر والشام والعراق والمغرب، وفي كل بلد ينطق بالضاد ويعتز بالعربية، وأصبحت موضوع ثقة الطبقة المثقفة، ومحل تقدير عشاق الأدب.
وحين نقول: - إن مشرب الرسالة هو الأدب المصفى. فإنما نقصد الأدب الخالص المعتمد الذي يتناوله الأديب وهو أكثر ما يكون اطمئنانا. ويتلقاه المتتلمذ إليها وهو أوفر ما يكون شوقا إليه وائتناسا به. وليس معنى قولنا: إن مشرب الرسالة الأدب أنها معنية بمادة الأدب وحدها، وإنما معناه أن الأسلوب في شتى موضوعاتها من الأدب الممتاز. حتى لتجد أن الألفاظ كلها منتقاة، وان العبارات جميعها مصفاة، وان صفحات الرسالة قد حرم عليها
الركة في الاسلوب، والتعقيد في الألفاظ، والتكلف في العبارات، وأحل لها المرونة المتقنة، والعذوبة الممتعة. وليس من البالغة في شيء إذا قلنا: إن موضوعات الرسالة سواء أكانت في الأدب أم في التاريخ أم في الدين أم في السياسة أم في الفن أم في غير هذه، هي من الموضوعات القيمة المقدرة لأن لها مستوى يجب أن يظل عاليا لا يرقى إليه ولا يعلى فوقه. ولذلك فهي لا تتسع إلا للموضوعات الحية القوية في أسلوبها، وفي مادتها، وفي أدلتها وبراهينها.
وحين نقول: أن للرسالة اتجاها خاصا هو تشييد حصن حصين للرأي الحر، فإنا نعتبرها الوحيدة في الصحف والمجلات المميزة بهذا الاتجاه الخطير الدقيق. تفتح مهمته آمنا من جمود المتزمتين، وسفه المتنطعين، وثرثرة الفارغين، وجعجعة المتخلفين، وصلف المكابرين. فالرسالة لا تجد غضاضة في أن ينقد على صفحاتها أبرز كتابها، ولو كان صاحبها، وأن يناقش أكبر الناس، ولو كان ممن بلغوا أسمى مكانة في العلم والأدب، لأن الجميع في ميدانها سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، ورئيسهم ومرؤسهم، إلا بقدر ما يصيب كل منهم من التوفيق والسداد، وبقدر ما يقدم كل منهم من قوى الحجة وساطع البرهان.
أول عهدي بالرسالة كتلميذ لها كان منذ أن عرفت الطريق إلى الصحف، فاتخذتها كمرجع ملم له قدره منزلته. أنهل من معينه كلما شئت، وأتناول منه غذاء فكريا كلما أحتجت، ويحتل من نفسي المكانة الأولى معتزا به اعتزازي بأغلى كنز في عالم الأدب. وأول عهدي بالرسالة ككاتب متواضع من كتابها كان منذ أعوام قلائل، يوم أن كتبت لها منتقدا رأيا في التفسير للإمام محمد عبده، وأنا واثق من أن الإقدام على نقد أمثال الإمام محمد عبده ليس بالشيء الهين اليسير، ولكن ثقتي بالرسالة واعتزازها بالرأي الحر شجعني على الإقدام من غير توان أو تباطؤ، ولم يكد يمضي أسبوع واحد حتى نشرت كلمتي ونشر رد بعدها الأستاذ جليل، وبذلك ازددت إيمانا بأن الأدب والعلم بخير في مصر والشرق، ما دامت الرسالة باقية تتلألأ طلعتها ويشرق نورها.
إن ثمة خاصة من خصائص الرسالة اختصت بها وحدها فهي المجلة الوحيدة التي تعبأ بالموضوعات، وبذلك أدت خدمة جليلة للأدب والعلم حيث قدمت إليهما أعلاما مبرزين
ظلوا مجاهيل خلف الصفوف، وضحايا للأثرة والأنانية حتى أخذت الرسالة بأيديهم، وقدمت إليهم دراسات حية كانت متوارية بين أضابير الإهمال والنسيان، وكادت تختنق بين ضوضاء السفاسف والتوافه في شتى الموضوعات. حتى أدركتها الرسالة وأنقذتها وأعادت إليها الحياة من جديد.
وبعد فإن الرسالة اليوم لجديرة بأن تكون أكبر مدرسة لطلاب العلم وعشاق الأدب في الشرق، وميدانا حرا لأبرز الكتاب، وأقيم البحوث، ومنبتا خصبا للرأي الحر، والنقد الجريء، وعنوانا للمثل العليا في دنيا الأدب والعلم والفضل.
محمد عبد الله السمان
على ضوء علم الاجتماع
حركات الإصلاح
للدكتور عمر حليق
الإصلاح نشاط اجتماعي. ويعرف علم الاجتماع (الحركة الاجتماعية) بأنها (مجهود عملي مشترك تقوم به طائفة واعية من أفراد المجتمع لكسب ولاء الشعب ومعونته لإحداث تبديل في الوسائل والأساليب التي تتوخى خدمة الصالح العام). وقد يكون قالب هذا التجديد حديثا لم يصغ من قبل، أو قد يكون إحياء (لنموذج سبق استعماله. وفي كلتا الحالتين فإن الدافع لتبديل الأساليب والوسائل ناتج عن الاستياء من الوضع الراهن وعن الرغبة في إصلاح الأمور.
إذن فالمجهود الإيجابي المشترك بين الطائفة الواعية وبين المجموعة الشعبية التي تمنحها الولاء والمعونة هو ما يعرف في الاجتماع (بالحركة الاجتماعية). وهذا التعريف يفترض أن يكون هدف الحركة خدمة المصلحة الجوهرية للشعب بأسره أو للكثرة الساحقة من أفراده. فقيام نفر من أعضاء جمعية معينة لتعديل دستورها أو تغيير مجلس إدارتها لا يعد حركة (اجتماعية) لأن هذا التعديل يمس مصلحة الجمعية وأعضائها ولا يهدف مباشرة خدمة المجتمع القومي الأكبر. وبنفس المنطق لا يمكننا أن نعرف (التيارات) و (الاتجاهات) الفكرية أو السياسية بأنها حركة اجتماعية. فإذا اتجه الناس نحو المطالبة بحق من الحقوق أو تبديل وضع من الأوضاع، وإذا ساد هذا الاتجاه تيارات فكرية معينة فذلك لا يعني أن هناك (حركة) بمعناها الاجتماعي الذي نحاول أن نعالجه في هذا المقال.
وأبرز ما يعنى به علم الاجتماع هو الحركات الاجتماعية التي تولد في نطاق شعبي واسع وتؤثر في صميم الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو الدينية أو المقدمات الثقافية والخلقية للأمة بأسرها.
وعلى ضوء هذا التعريف فإن لنا أن نستنتج بان الحركة الاجتماعية صبغة مزدوجة طابعها الهدف والإنشاء في آن واحد. فهي موجهة ضد وضع معين تأمل الحركة في تعديله أو إزالته؛ وهي في نفس الوقت طامحة إلى تحقيق برامج وأهداف إنشائية ديدنها خدمة الصالح العام.
إذن فالحركة الاجتماعية تستند إلى عنصرين رئيسين هما: (القضايا) التي أخذت الحركة على عاتقها حلها والتغلب عليها، و (الأيديولوجية) - المبادئ والبرامج والأهداف - التي تنوي التقيد بها وتحقيقها بمعونة الشعب ولمصلحته العامة. وهذا التحديد يدفعنا لأن نتساءل عن جوهر (القضايا) وعن أسس (الأيديولوجية) التي تؤدي إلى ميلاد الحركة وإلى كسبها ولاء الشعب ومعونته، ومن ثم إلى الاستقرار والنجاح.
وهنا يحسن بنا أن نقرر السلوك الإنساني لا ينشط ضد وضع ما، وفي صالح هدف معين إلا حين يمر في تجربة قاسية تؤثر في المقدمات السياسية والاقتصادية والدينية التي يعيش عليها، وفي المثل العليا التي تتعلق بها الجماعات الإنسانية؛ فالحرية الفردية والكرامة القومية والقيم الإنسانية الأصلية التي هي في قرارة النفس تتوازى في مجال المقارنة مع المصالح السياسية والاقتصادية. وقد تمر الجماعة الإنسانية خلال هذه التجربة القاسية في ألوان من المحن والملمات التي تمعن في تحدي المصلحة الشعبية ومقوماتها ومثلها العليا وقيمتها الإنسانية، ولكن الحركات الاجتماعية لا تتبلور وتنشط للعمل الإيجابي إلا حين تبلغ هذه التجربة القاسية منتهاها، وهذا لا يكون إلا إذا كان المنتهى شاملا عاما لا يقصر سوؤه على طائفة معينة أو مجموعة محدودة العدد من أفراد الأمة، وإنما يمس الكيان الشعبي بأسره، وهو كيان له سيطرة قويه على عقول الناس وأفئدتهم حتى لو ساد الناس في بعض الحالات فتور وسلبية إزاء التجارب والمحن.
وقد يتريث دعاة الحركة وقادتها والشعب بأسره قبل القيام بعمل إيجابي عاجل لحل (القضايا) وتنفيذ (الأيدلوجية) ولكن هذا التريث ليس إلا نتيجة حتمية لهول الصدمة التي أوجدتها التجربة القاسية. وعلم الاجتماع يقرر بأن الذيول التي تتولد عن هذه الصدمة لا بد لها من أن تسير على منوال المساوئ التي كانت سائدة في الوضع الذي أوجد الصدمة ودفع المحن والتجارب المريرة إلى المنتهى. وهذا يعني أن سلوك أولياء الأمر في الأمة المسؤولين عن هول الصدمة الكبرى وعن سوء الأوضاع الراهنة سيمعن في التحدي محاولة منه للقضاء على ما تبقى في نفسية الفرد وفي شعور الأمة من معنوية وكرامة. وهذا السلوك ظاهرة اجتماعية قل أن يشذ عنها المسؤولون عن الكرامة القومية الذبيحة وآلام النفس المعذبة.
وعلى ذلك فإن ميلاد الحركات الاجتماعية (سياسة كانت أو عسكرية أو دينية) أمر لا بد منه. . . ومبلغ حماس الحركات وإخلاصها لحل (القضايا) والتغلب عليها وتحقيق (الأيديولوجية) الإصلاحية الجديدة يتوقف على الصدمات وفظاعة المنتهى.
ويمكننا استنادا إلى هذه الحقائق الاجتماعية أن نؤكد بان جوهر (القضايا) التي تتولى الحركات الاجتماعية معالجتها والتغلب عليها يتوقف على مبلغ الخطر الذي تتعرض له مقومات الحياة القومية ومصالح الشعب السياسية والاقتصادية والقيم والمثل العليا التي تعيش عليها الكثرة الساحقة من أفراد الأمة.
أما جوهر (الأيديولوجية) - المبادئ والبرامج والأهداف - التي تؤمن الحركة وتعمل لتحقيقها فيتوقف على مفهوم الحركة وقادتها لحقائق هذه (القضايا) وأي منها كان السبب المباشر للصدمة التي ألمت بالكرامة القومية وبمصلحة السواد الأعظم من الشعب. وهل سوء الجهاز الإداري هو ضعف القوة العسكرية أم فقدان القيم الدينية وانحلال القيم الأخلاقية وتفشي المساوئ الاجتماعية؟ وهل الخطر الذي يهدد الكيان القومي موجه من عدو يرتقب؛ أم أن أعداء الأمة هم الفاسدون من قادتها وأبنائها؟
وعلى مدى تقدير الحركة الاجتماعية الجديدة لحقائق هذه (القضايا) يتوقف استقرارها ونجاحها ومبلغ ولاء الشعب لها. وعلى ذلك فكلما كانت الحركة ورجالها نتاجا (شعبيا) شديد الصلة بالعناصر الأصلية التي يتكون منها السواد الأعظم من أبناء الأمة كان فهم الحركة ورجالها لحقيقة هذه القضايا صادقا أمينا، وكانت (أيديولوجيتها) مطابقة لمصلحة الشعب متمشية مع شعوره الصادق وضميره الحي ومنقذة لما يدور في خلده من آمال وما يطفح به فؤاده وعقله وعواطفه من حماس ورغبة في مؤازرة الحركة والاندماج فيها والتضحية في سبيلها كأحسن ما تكون تضحيات الأمم الحية في معركة الحياة الشريفة.
والحركة الاجتماعية الناجحة هي التي تؤمن بما تعمل. وتعزيز القول بالعمل لا يكفي إلا إذا توفر للحركة مرونة فكرية طابعها الحكمة لا التزلف. فعليها أن توازن موازنة صادقة لحاسية الشعب - أو بالأحرى أغلبيته العظمى. فإذا لمست الحركة أن جزاء كبيرا من الأمة يؤمن بان الإصلاح يجب أن يشمل إحياء القيم الدينية ومكافحة الفساد وما أولده من انحلال في القيم الأخلاقية فجدير بالحركة أن تجعل لهذه الناحية من الإصلاح مكانا راسخا في
(أيديولوجيتها).
وإذا أدركت بان بين المواطنين طائفة مخلصة واعية تثر في قرارة النفس على أن التنمية الاقتصادية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية يجب أن تنال مكان الصدارة بين أهداف الحركة فمن الخير لإيديولوجية الحركة أن تولي ذلك عناية خاصة.
وإذا تحقق للحركة والمسؤولين فيها أن الحاجة ماسة لتعزيز الدفاع العسكري على أقصى حد مستطاع فما عليها إلا أن تلبي هذه الحاجة - فهي كحركة شعبية صلتها وصلة قادتها بالشعب صلة الأغصان بالجذوع كفيلة بأن تضمن حماس الأمة وتضحياتها في سبيل المناعة العسكرية، وجعل ذلك مبدأ أساسيا من مبادئ الأيديولوجية الجديدة.
وهناك طبعا سيل لا حد له من آراء الناس في أوجه الإصلاح وأيها أولى بالعناية من سواه.
والمهم عند تقرير الأيديولوجية أن توازن الحركة في مبلغ الحماس الشعبي الصادق لأوجه الإصلاح ومبلغ شعور الشعب وتقدير لأخطار (القضايا) والمشاكل التي تتحدى سلامة الكيان القومي. فليس المطلوب من الحركات الاجتماعية أن تتقيد بمعالجة قضية واحدة. فالعوامل التي توفر للحركة النجاح والاستقرار عديدة، وكثرتها تتوقف على كثرة الأخطار الناتجة عن هذه القضايا والمشاكل. ولذلك فلا نفر للأيديولوجية أن تتضمن أكبر عدد ممكن من البرامج والأهداف التي تكفل التغلب على هذه الأخطار.
والدراسة الاجتماعية للحركات الإصلاحية تثبت صواب الرأي في اتخاذ قضية أو أكثر من قضايا الأمة كعنوان للأيديولوجية الجديدة، إلا أن هذه الدراسة تؤكد كذلك أهمية إدراك الشعب للأخطار التي سببت له المحن والمساوئ في العهد أو العهود التي استبدلتها الحركة الجديدة.
فالحركة الشعبية الناجحة تولد عادة في جو اجتماعي اعتاد السماع لدعوات الإصلاح من دعاة أساءوا فهم المشاكل الرئيسية العميقة التي تواجه الأمة، ولذلك تفشل هذه الدعوات في كسب ولاء السواد الأعظم من المواطنين. فولاء السواد الأعظم وإخلاصه في مؤازرة الحركات الجديدة هو ميزان الاستقرار والنجاح، وعلى ذلك فإن الخطأ الذي ترتكبه معظم الأحزاب السياسية (وهي تقليد مشوه للحركات الاجتماعية) هو تصويرها القضايا القومية
على نحو لا يستند إلى فهم أمين لضمير الشعب، وإنما هو فهم مشوه اقتبسه قادة الحزب من شعورهم الخاص وهو شهور تتضارب فيه المصالح الذاتية - شعور يتزلف في اغلب الحالات إلى أوساط ليست من صميم الشعب وليست عنوانا على شعوره ويقظته ومصالحه، أوساط تنتمي إلى هذه الفئات الطفيلية التي تعيش على الشعب لا معه.
والشعب - أو بالأحرى الجزء الهام منه - يتحفظ في إعلان الولاء وبذل التضحية للحركات الناشئة إذا توفرت له عوامل نفسية معينة سجلها علم النفس الاجتماعي في دراسات لنفسية الجماهير وعقليتها، وطبيعة الزعامة الصالحة ومقوماتها، وإلى الأخطار والتجارب التي مرت بها الأمم في نشاطها الاجتماعي، كما أشرنا إلى ذلك في صلب هذا المقال.
وبعض هذه العوامل غامض يحمل أكثر من تفسير واحد، والبعض الآخر محدود الصفات واضح المعالم إدراكه سهل ميسور.
على كل دعنا نسترض فيما يلي بعض هذه العوامل ما دمنا في حديث الاجتماع وعلمه ولو كان ذلك على حساب أدب المقال في غير مجلات الاختصاص.
أ - يجب أن تكون القضايا التي تولت الحركة معالجتها شديدة الصلة بالمصلحة الشعبية العامة وبالمصلحة الخاصة لأكبر عدد ممكن من المواطنين.
ب - للحركة الاجتماعية الناشئة أن بمعالجة القضايا التي بها مكان الصدارة في شعور الناس ويقظتهم العاطفية والفكرية وحين يقتضي الوضع تفضيل قضية على أخرى فللحركة أن تعالج قضية واحدة معالجة عامة شاملة وتبدأ في نفس الوقت بمعالجة القضية أو القضية التي تليها في الأهمية معالجة جزئية - على ألا يكون لهذا التوزيع هدف غير الموازنة العادلة بين أهمية القضايا في تفكير الناس وفي مبلغ صلتها بالصالح العام وبمستقبل الحركة وأيديولوجيتها وأثر ذلك كله على الكيان القومي ومصلحته الجوهرية.
جـ - يؤكد علم الاجتماع أن استقرار الحركة الاجتماعية الناشئة لا يتوطد إلا إذا كانت أيديولوجيتها حاوية لقيم وأهداف تمس المنفعة الشخصية للكثرة - الغالبة - من أفراد الشعب. والمنفعة الشخصية شيء والشعور الشعبي المشترك شيء آخر، وإن كان كلاهما يعزز الآخر. فالأهداف الوطنية مثلا شعور شعبي مشترك، أما العدالة الاقتصادية والمساواة
الاجتماعية وصيانة القيم الدينية والأخلاقية فإنها أهداف تخدم المنفعة الشخصية لكل فرد من أفراد المجتمع، أو على الأقل أولئك الذين حرموا منها - وهم كثرة في معظم المجتمعات الإنسانية.
د - حين تختلف أوساط المجتمع في توكيد أهمية قضية ما على غيرها من القضايا التي يشغل بها الناس وتعالجها الحركة الجديدة فإن الضرورة تقتضي مجهودا صادقا يصدر عن الحركة والمسؤولين فيها ليقرر أولوية القضايا ويسعى جادا مخلصا لإقناع السواد الأعظم من المواطنين بها حرصا على سلامة وحدة الشعور الشعبي وتماسك اليقظة العاطفية والفكرية. وهذا المجهود يفترض حملة توحيد فكري وعاطفي واسعة النطاق يضمن نجاحها هذه الأيام المواصلات الفكرية الحديثة - الصحف والإذاعة والأفلام وما إليها من وسائل الدعاية والثقافة الشعبية.
هذا رأي علم الاجتماع في بعض نواحي الحركات الإصلاحية وهو رأي وإن كان لا يصح أن يؤخذ على أنه القول الفصل في تصور الحركة الاجتماعية ونضوج ثمارها فلكل حدث اجتماعي ظروف خاصة وتيارات وعوامل طارئة تتطلب مرونة للاستنتاج العلمي تؤكد في تواضع مقدرتها على تسليط ضوء نافع على جوهر السلوك الإنساني.
عمر حليق
حول العدد الألفي
أثر الرسالة في الأدب الحديث
للأستاذ محمد سالم الخولي
للرسالة في الأدب الحديث آثار خالدة خلود الأدب والفن. . سهرت على شوارده وأثبتتها، وتتبعت نوافره فجمعتها، وجلت غوامضه بالبيان الرائع والأسلوب الطيع، واللغة السليمة والمنطق المسلسل.
أشرقت على البلاد العربية والرأي الناضج في مصر يكاد لا يسمع به أديب بالعراق، والفكرة في العراق لا يتعالمها إلا من بالعراق، والشعر في الشام لا تتردد أصداؤه إلا بين جنبات الشرق حتى توحدت الفكرة والرأي والشعر وأصبح لحملة الأقلام رسالة. . . . رسالة تجمع بينهم وتعرفهم كلماتهم. . . والحقيقة أن المتأمل في أعدادها الألف اليوم يستطيع في يسر عجيب أن يجمع بين يديه خيوط دراسة أدبية رائعة لنهضة الأدب العربي الحديث.
فبين أحضان الرسالة نشأت مدارس الأسلوب الرائع النابض الحي، وبين صفحاتها تكونت مدارس للنقد المتعمق المحلل لخفايا النفوس والأساليب، وفوق أغصانها غردت أطيار من الشعراء لكل جماعة منها أهداف معلومة ورسالات محدودة. ولها لون وذوق فني خاص مع تفاوت بين أفرادها في طرائق العرض وأساليبه وطرائق تناول الموضوعات الشعرية، وإلقاء الظلال والألوان على الصور الشعرية.
إن دراسة أعداد الرسالة الألف تعتبر بحق دراسة للأدب العربي الحديث، بل لأزهى عصور الأدب العربي عامة.
وجدير بمحبي الأدب ودارسي روائعه أن يعملوا الفكر والتأمل في هذا التراث الخالد العظيم. حتى يقدموا للأجيال القادمة صوراً صادقة للنهضة الأدبية متمثلة في مدارس أدبية ناثرة أو شاعرة أو ناقدة كالرسالة تمتاز بصفة لازمتها دائما هي الاحتفال بما تقدم من الآثار الفنية. فهي لم تنشر من النثر إلا ما بلغ الغاية من الكمال الفني والنضوج الفكري. . . ولم تقدم من الشعر إلا ما ارتفع إلى مراتب الروائع الفنية وحلق في أجواء تعبق بالشاعرية الملهمة الفذة.
والرسالة لم تقدم إلى العالم من الأدباء أو الشعراء إلا من اكتملت لهم الأداة وتم لهم النضوج. . . وسعى لهم الفضل. . ودان لهم الخلود أو كتب لهم الخلود على يديها، وإنك لتلمح بين صفحاتها بين الحين والآخر أسماء تشرق حينا ثم تغيب، وأسماء تسطع دائماً وإن هي غابت فإلى عودة. . . فتحب أن تسأل عن السر في ذلك الإشراق المفاجئ. وذلك التكرار المتواتر على فترات قد تطول وقد تقصر. . . فتجد السر في برنامج مدرسة الرسالة. . حيث تراها مضطرة إلى الاحتفال بالموضوع الجدير بالنشر والمعروض في قالب جدير بها. فهي إذن ترحب كلما سنحت لها فرصة العثور عليه، ومن هنا يجيء سر الإشراق المفاجئ لبعض الأسماء، أما الأسماء المستمرة السطوع في افقها فهي إما لأبناء نجباء من أسرتها أو لأسماء استطاعت أن تقدم دائماً الطريف الجديد الرائع.
وأكبر مظاهر التقدير للرسالة الخالدة في يوم صدور عددها الألفي. . هي أن نحاول رسم خطوط متزنة لمدارس الرسالة الأدبية مع عرض لأسماء أشياخها الأفاضل وأسماء شبابها الخالد. . من كتاب ونقاد وشعراء.
فمن أشياخها الأعلام الأفاضل الذين قدمتهم في مشرق عمرها المديد ولا زالت تقدم بعضهم: الأساتذة الكبار طه حسين واحمد أمين وعبد الوهاب عزام وتوفيق الحكيم وعباس العقاد ومحمود البشبيشي وتوحيد السلحدار ومحمود تيمور ونقولا الحداد وأحمد رمزي ومحمد غلاب ومحمود أحمد الغمراوي والشيخ شلتوت والشيخ المدني والمرحوم الدكتور زكي مبارك وأحمد الزين والزهاوي وطوقان والنشاشيبي والكرملي والمازني والرافعي.
ولكل من هؤلاء الأشياخ الأعلام خصائص مميزة واتجاهات خالدة، منهم الأدباء الفنانون كطه حسين وتوفيق الحكيم وتيمور والمازني وزكي مبارك. وكان الرافعي فرداً في فنه، ومنهم الأدباء الرواة الثقات واللغويون الأعلام كالزيات والنشاشيبي والكرملي ومحمود البشبيشي. ويمتاز الزيات بالروعة في الأسلوب والدقة في العرض والإحاطة بالأدب، والبشبيشي بسعة الاطلاع والجزالة في الأسلوب، أما الكرملي والنشاشيبي فكانا يصدران عن طبع لغوي علمي يشوبه الجفاف في العرض.
وفيهم الأدباء والأعلام المختصون بالدراسات الأدبية والاجتماعية كالعقاد وأحمد أمين، ويمتاز العقاد بأفق واسع وأغوار عميقة لا يسبح فيها ولا يصل إليها سواه، أما الأستاذ
الحداد فله اتجاهاته الاجتماعية والعلمية، والأستاذ أحمد رمزي اتجاهاته الاجتماعية والدولية. وكان الزهاوي فيلسوفاً شاعراً ولم يكن الشاعر الفيلسوف، وكان الدكتور مبارك الفنان الشاعر ولم يكن الشاعر الفنان، أما شباب الرسالة فيهم بين أبن نشأ فيها ورعاها ورعته وأخذ عن صاحبها العظيم وتأثر به وحده أو به وبغيره من أشياخها. . أو بين أديب آثر الرسالة بآثاره المكتملة فأقرته واحتفلت به وقد يكون تأثر بها من بعد وقد لا يكون.
فمن الشباب كتابها الأساتذة الأعلام عبد المنعم خلاف وسيد قطب ومحمود الخفيف وعزيز أحمد فهمي وكامل محمود حبيب وفهمي عبد اللطيف وعباس خضر والدكتور محمود يوسف موسى وأنور المعداوي وأحمد أحمد البدوي ومحمد القصاص ومحمد محمد زيتون وراجي الراعي وعلي متولي صلاح ومحمد رجب البيومي وأنور الجندي ومحمود أبو ريه وصلاح الدين المنجد وفوزي الشتوي وسعيد العريان وصلاح المنجد، ومن شباب شعرائها الأساتذة الملهمون علي محمود طه ومحمود إسماعيل والزهاوي وإيليا أبو ماضي وسيد قطب وحسين البشبيشي وكامل الصيرفي وأنور العطار ومحمود السيد شعبان وعبد الرحمن الخميسي وإبراهيم نجا وأحمد العجمي ومحمود رجب البيومي والصافي النجفي وفدوى طوقان وعبد القادر رشيد الناصري.
ومن هؤلاء الشعراء من جمع بين الأسلوب الكتابي الرائع والقدرة الشعرية السامية فكان منهم من اشتهر بنثره النابض بالحياة وفكره المتعمق المساير للمجتمع والأدب كالأساتذة الأفاضل سيد قطب الكاتب المسلم الاجتماعي الخطير والناقد البصير وعبد الرحمن الخميسي الصحفي المعروف والعجمي وحسين البشبيشي والناصري، وإنك لتلمح أثر العقاد في سيد قطب واضحاً، وأثر الرافعي في سعيد العريان إلى حد تقيده طاقة العريان الفنية، وأثر الزيات في أنور المعداوي وحسين البشبيشي وصلاح المنجد والناصري. . وبعد فهذه خطوط رئيسية لا تصل إلى حد الدراسة. نأمل أن تجد من أدباء العروبة من يبادر إلى تناولها بالتفصيل. فللرسالة مكانتها الخالدة في الأدب والأدباء.
محمد سالم الخولي
مستشار سابق
اذكروا الشهداء
للأستاذ محمد زيتون
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون
بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم
يحزنون).
قرآن كريم
اليوم. . بعد أن انطلقت أسود العرين من إسارها، لخوض أروع معركة للتطهير والتحرير، في العصر الحديث، يحق لنا أن نذكر شهداء فلسطين من قواد وضباط وجنود، نعموا بجوار ربهم، وخلفوا وراءهم أرامل ويتامى، لهم عند الله اجر الصابرين.
أستشهد هؤلاء في نضال عنيف بين كتائب الحق، وشراذم الباطل، بعد أن ائتمرت على قضية فلسطين دعاة الميكيافيلية، وحماة الصهيونية، وتمكنت الذئاب المسعورة حتى تمكنت، وفي غفلة من الزمن، قامت لهم (دولة)، كان يوم ميلادها، نذيرا بحلقة جديدة من الاستعمار الجماعي، مما أصاب الضمير الإسلامي، بالحسرة والألم.
وشهداؤنا الأبرار، لم تذهب دمائهم من جراء مغامرة طاغية، ولا عدوان غاشم، وإنما هم الذين حملوا أكفانهم على رءوسهم، وجادوا بأرواحهم في سبيل الله، لا عن حزبية ولا عصبية، ولا دفاعا عن أموال وضياع، ولم تكن محارم الله مطيتهم إلى الهدف الذي تسابقوا إليه. وحسبهم أن باعوا الدار وأهلها، وخفوا لنجدة الجار المهضوم، والحرم المنهوب، فأنعم بها من غاية، وأكرم بها من سبيل.
كانت الشهادة - وهي إحدى الحسنين - رزقا، يتوسلون إلى بارئ النسيم أن يخصهم به، ورحم الله عمرو بن الجموح إذ حمل سلاحه، وأخذ يتكفأ في طريقة - وهو أعرج - ومن ورائه بنوه الأربعة كالأسود يجرون ليصدوه، ولكنه يتوجه إلى القبلة، ويضرع إلى الله في لهفة واشتياق (اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني خائبا إلى أهلي) وقاتل حتى استشهد، فرآه
رسول الله، وهو يطأ بعرجته في الجنة.
فلنذكر هؤلاء الذين باتت أرواحهم في حواصل طيور خضر، يسرحون في رياض الجنة، ولنتذاكر ما يوجبه علينا دين الجهاد نحوهم ونحو أهليهم ومواطنيهم أجمعين، يدفعنا إلى ذلك، قول نبي المجاهدين عليه الصلوات (من جهز غازيا أو خلفه في أهله بخير فقد غزا). . فمن الذي ينكص على عقبيه، وقد بلغته دعوة إلى غزوة. . نصيبه فيها عمل صالح يرفعه، ولا يصيبه منها ضربة أو طعنة!
كان رسول الله أول من عنى بتكريم الشهداء، فقد كان - عقب المشاهد - يجمعهم في مصارعهم، ويترحم عليهم، ويستعبر، ثم يأمر بتكفينهم في أثوابهم التي استشهدوا فيها، ونزع ما عليهم من جلود وسلاح، ودفنهم من غير غسل، فقد استشهد حنظلة بن عبد الله بن أبي عامر الفاسق، وعليه جنابة، فأطلع الله تعالى نبيه على أمره، وسماه (غسيل الملائكة).
وكان يقدم للجنازة أكثرهم جمعا للقرآن. ويأمر بدفن كل رجلين أو ثلاثة في قبر واحد لما يكون بينهم من صفاء أو قرابة في الدنيا، وكان يشرف على القتلى ويقول:(أنا شهيد على هؤلاء. وما من جرح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه: اللون لون الدم، والريح ريح المسك)، وكان يواسي ذويهم، ويوصي بهم خيرا، ويتعهدهم بحنانه وبره، ويدعو الله لهم بالخلافة عليهم.
كان النبي على فرسه وسعد بن معاذ ممسك بلجامها، فأقبلت أم سعد تعدو نحوه. فقال سعد: يا رسول الله، أمي. . فقال النبي: مرحبا بها. فلما وقف لها، دنت منه، وأخذت تتأمله، فعزاها بابنها عمرو، فقالت: أما إذ رأيتك سالما، فقد اشتريت المصيبة. فقال لها: يا أم سعد، أبشري، وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد تشفعوا في أهلهم جميعا. قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ يا رسول الله، ادع لمن خلفوا. فقال:(اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا)
وسار الخليفة الراشد أبو بكر، على هذا خليله المصطفى عليه السلام، فقد دخلت عليه فتاة، فألقى لها رداءه لتجلس عليه إكراما له، ولذكرى أبيها الشهيد الذي قال عنه رسول الله رحمه الله، نصح لله ولرسوله حيا وميتا) وإذ ذاك قدم عمر، فما إن رأى من أبي بكر هذا التكريم لتلك الفتاة، حتى عجب من أمرها، وسأله عنها فأجابه: هذه ابنة من هو حير مني
ومنك، رجل تبوأ مقعده من الجنة، وبقيت أنا وأنت، هذه ابنة سعد بن الربيع.
وعقب (أحد) أحتمل أناس قتلاهم ليدفنوهم بالمدينة، فجاء منادي رسول الله يعلن في الناس (ردوا القتلى إلى مضاجعهم) ولم يبق إلا قتيل واحد، ودفنوه حيث أستشهد.
على أن رفات الشهداء الأبرار لا تبلى كسائر الأجساد، فقد روى أن معاوية بن أبي سفيان أمر بحفر عين جارية وسط مقبرة شهداء أحد، واستصرخ الناس إلى قتلاهم، وأمر بنقل رفاتهم، فأخرجوهم رطابا تنثني أطرافهم، وذلك على راس أربعين سنة من دفنهم، ومع ذلك أصابت المسحاة قدم حمزة سيد الشهداء، فأنبثق الدم، وفاح المسك، وكأنما هو صريع ساعته، مع أن أرض المدينة سبخة، قيل يتغير الميت في قبره من أول ليلة، ولكن تأبى الأرض الطيبة - بقدرة الله - أن تأكل لحوم شهداء المعركة، لأنهم مع النبيين والصديقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
ويجب دفن الشهيد فور مصرعه والصلاة عليه، فقد رجعت هند بنت حرام بعد أحد تسوق بعيرا يحمل ابنها خلاد بن عمرو بن الجموح، وأخاها عبد الله بن عمرو، وزوجها عمرو بن الجموح، وصار الجمل يبرك يهم كلما وجهته إلى المدينة، فإذا ضربت في وجهه إلى أحد نزع وأسرع، فسألت النبي في ذلك فقال:(أن الجمل مأمور، فقبرهم بأحد، يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن).
وفي تاريخ الإسلام أروع الأمثلة لرباطة جاش المرأة المسلمة إذا نعى إليها زوجها أو ابنها أو أخوها أو أبوها، فهذه حمنة بنت جحش تلقى النبي عند منصرفه من (أحد) إلى المدينة، فينعى إليها خالها حمزة فتحتسب، وأخاها عبد الله بن جحش فتحتسب، ثم زوجها مصعب بن عمير فتصيح مولولة وتقول: وا حزناه. فينظر النبي إلى من حوله، ويقول (أن زوج المرأة لبمكان ما هو لأحد) ثم يسألها: لم قلت هذا؟ فتجيب (تذكرت يتم بنيه، فراعني. فدعا لها أن يحسن الله الخلف على أولادها.
وأثبت منها عند الجزع، امرأة من بني دينار أستشهد زوجها وأخوها وابنها وأبوها، فلما نعوا إليها احتسبتهم عند الله. واعتصمت بالصبر، وقالت، كيف رسول الله؟ فقيل لها: هو يحمد الله كما تحبين. فتقول أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، وتعلقت بثوبه عليه السلام وهي تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من
عطب.
وكانت الخنساء مضرب المثل في الإيمان عند النازلة، استشهد بنوها الأربعة في القادسية. بعد أن بلغت الثمانين من عمرها. ولما أقبل البشير بعد المعركة، جاءت تسأله عن حال الإسلام والمسلمين، فقيل لها: ألا تسألين عن أبنائك الأربعة؟ فقالت: هم بعد ذلك، فلما طمأنوها على سلامة جيش الإسلام، ذكروا لها أن بنيها قد استشهدوا جميعاً فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم في الإسلام وأساله تعالى أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
والإسلام بهذا لا يتناقض مع طبيعة البشر، ولا يدعي القضاء على غريزة من الغرائز التي هي القوة الدافعة للسلوك، أو انفعال من الانفعالات التي هي مظاهر الوجدان. فقد ثبت أن هذا الدين المتين يتمشى مع الطبيعة البشرية إلى الحد الذي يرتفع بها إلى أفق أعلى، وخلق أسمى.
وآية ذلك، أن نسوة الأنصار جئن إلى النبي يذكرن عمه حمزة ويبكين موتاهن، فصرفهم النبي في غير عنف وهو يقول: أرجعن رحمكن الله. لقد واسيتن معي، رحم الله الأنصار. وبلغ الحزن مبلغاً لم يقدر على مغالبته رجل أو امرأة، فجاء وفد من الرجال يسألون رسول الله: (يا رسول الله، بلغنا أنك نهيت عن النوح، وإنما هو شيء ندب به موتانا، ويجد فيه بعض الراحة، فأذن لنا فيه، فقال: أن فعلن، فلا يخمشن ولا يلطمن، ولا يحلقن شعراً، ولا يشققن جيباً.
وتكريم الشهداء لا يكون بتلك الأساليب العقيمة المرتجلة، التي يجترها السطحيون، فلا يسمو بهم الحس البليد إلى أكثر من اقتراح تسمية شارع أو ميدان أو محطة باسم الشهداء، أو اقتراح لإقامة نصب أو تمثال أو لوحة تذكارية أو قبر للمجهول في العاصمة والمدن الرئيسية.
وما أبعد هذا كله عن سبيل التكريم الخالص لوجه الله ولن نصل لهذه الترهات إلى الهدف النبيل الذب من أجله أرخص الشهداء دمائهم الزكية الغالية.
كما أن نقل رفات الشهداء غير جائز اعتمادا على ما أمر به رسول الله عقب غزاة أحد من رد القتلى إلى مضاجعهم، ولذا يجب إعادة النظر في الخمسة والعشرين ألف من الجنيهات التي اعتمدتها وزارة الوفد الأخيرة لبناء المقابر بجهة الغفير ونقل رفات الضباط من شهداء
فلسطين إليها.
وهذا تفكير عقيم ضحل، إن دل على شيء فإنما يدل على جهل مطبق بحقائق الدين. كما فيه امتهان لكرامة الشهداء الجنود، وإثارة الأحزان الدفينة في مشاعر ذويهم الصابرة وتملق رخيص للعواطف النبيلة.
وأول ما يجب البدء به لتخليد ذكرى الشهداء، وتمجيد بطولتهم وتكريم ذويهم. هو إحياء سنة عمر بن الخطاب، وذلك بإنشاء (ديوان المجاهدين) الذي وضع له اللوائح. ورتب الاختصاصات، وفرض مستحقات الجند أحياء ولذويهم من بعدهم، كل حسب بلائه وسبقه في الإسلام.
ويجب أن توضع الملفات لأسر الشهداء، لكي يتسنى للتاريخ الصحيح متابعة مجريات حياتهم، والتنويه بمظاهر الإعجاب في سلوكهم، والإشادة بآثار شهدائهم، مع منحهم مزايا اجتماعية تبقى رمزا إلى ما قدموا للوطن من أغلى التضحيات.
أما أبناء الشهداء وبناتهم، فأولئك ودائع عزيزة، ائتمنت عليها الأمة: جيشا وشعبا وحكومة. فلتكن نشأتهم على خير وجه مسنون من كرامة العيش وحسن التربية.
فهذا الفتى أسامة بن زيد؛ عقد النبي له لواء على جيش كثيف لغزو بني غسان قاتلي أبيه، وهذه الربيع بنت معوذ قاتل فرعون العرب أبي جهل: نراها في عهد عمر تشتري العطر من أسماء بنت مخرمة أم أبي جهل وذات يوم وزنت لها ولأصحابها على الأعطية فقالت لهن أسماء اكتبن لي عليكن حقي. فلما أملت الربيع اسمها على الكاتب استشاطت أسماء غيظا وتداركت: وإنك لأبنة قاتل سيده،؟ قالت الربيع: لا أبدا. وقالت عبده فقالت أم أبي جهل: والله لا أبيعك شيئا أبدا. وقالت الربيع: وأنا والله لا اشتري منك شيئا أبدا، فو الله ما هو بطيب ولا عرف. ولما عادت إلى بيتها قالت لأبنها والله يا بني ما شممت عطرا قط أطيب منه، ولكن يا بني غضبت.
هذا الترفع والإباء وليد روح عالية - بلا شك - دفعت ببنت المجاهد إلى مقاطعة البضاعة الكافرة. لمجرد غضبة المسلمة الغيري على سيادتها وعزتها.
وخير هدية من شهداء الوطن نقدمها للجيل الناهض، سفر كبير. لا يخلو منه بيت، ولا يدع شاذة أو فاذة من تاريخ الشهداء الأبرار إلا أنطوي عليها. مع ذكر تاريخ حياتهم، ومسقط
رأسهم، ومحامد سيرتهم وبطولتهم، والمعارك التي أسهموا فيها. إلى غير ذلك مما يقرب إلى النفوس مشاهد الجهاد في عصر تميعت فيه الرجولة، ورخصت فيه القراءة وطفحت الصحف والمجلات والكتب بقصص الغرام و (أصول الحب) و (نساء في حياتي).
وحق على وزارة المعارف أن تواكب هذه النهضة المباركة حتى تسير حملة التنوير وكتيبة التطهير جنبا إلى جنب. وتنهض بواجبها في بث الروح الجهادية قولا وعملا. فتختار للناشئة نخبة مختارة من أناشيد الحماسة، وخطب القادة، وأوامر الأمراء لجيوشهم، وعرض الأفلام والقصص التمثيلية التهذيبية، وتسهيل الزيارات لمتاحف الحضارة، وسرد الوقائع التاريخية بكل دقة وأمانة، من غير تمليق أو تزويق. هذا مع طبع المعاهد العلمية بطابع الجهاد الصحيح.
كان زين العابدين بن الحسين يقول (كنا نعلم مغازي رسول الله كما نعلم السور من القرآن)، وكان إسماعيل بن محمد ابن سعد بن أبي وقاص يقول (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول يا بني إنها شرف آبائكم. فلا تضيعوا ذكراها.
وفي (جهاد النبي). . حقا. أغلى ما يتزود به الجيل المؤمن ليتخذ من حقائق التاريخ مقياسا متينا لكل دعوة وغزوة، تنحل إزاءها حرب البطش والعدوان في القديم والوسيط والحديث على السواء. . . وبالتربية الجهادية تسمو النفوس، وتعلو الرءوس، وتنتظم الخطى، وتنسق الخطط، ويستبشر الشهداء في مضاجعهم بالذين لم يلحقوا بهم. . فنظفر بنصر من الله وفتح قريب.
محمد محمود زيتون
بمناسبة العدد الألفي للرسالة
الرسالة في حياة الأدب
للأستاذ حامد حفني داود
في أوائل القرن التاسع عشر تخلصت مصر من نير العصرين المملوكي والتركي، وانسلخت من حياة قاسية انحط فيها الأدب إلى الدرك الأسفل، واستقبلت عهدا جديدا في تاريخ أسس دعائمه على الكبير.
وزخر العهد الجديد بالإصلاحات الكثيرة التي تناولت مرافق الحياة في مصر، وأخذ ركب الحياة يمضي في ثوبه الجديد. ولكن الحياة الأدبية في ذلك الوقت لم تنل حظا كبيرا. فعلى الرغم من الإصلاحات العلمية وعلى الرغم من التعليم المدني الذي بعثه محمد علي في فجر النهضة المصرية فإن الأدب المصري كان يعاني لونا من التفكك وضربا من الجمود.
وقد شاهد العهد الجديد تغييرا كاملا في الحياتين السياسية والاجتماعية، ولكن الشجرة الأدبية لم تؤت أكلها أو ترسل ثمارها بالسرعة التي كنا ننتظرها، لأن سياسة التعليم في ذلك الوقت وبالتالي حياة الأدب لم تكن جميعها منبعثة من منبعها الطبيعي، وإنما كانت إصلاحات عامة يصدرها الحكام وحدهم، ويحس لها العلماء والأدباء ليسيروا سيرا مدرسيا بحتا لا يتجاوز جدران المدرسة أو يعدو قوانين التعليم العام. أما الأدباء المطبوعون والشعراء الموهوبون الذين يستطيعون أن يعبروا عن ميولهم وميول الشعب ويرسمون حياتهم وحياة الشعب؟ والذين كان في مكنتهم أن يضعوا لبنة متينة تمثل مرحلة من مراحل الحياة الأدبية في ذلك الوقت - فلم يفتح الباب أمامهم ولم يعطوا الحرية الكافية ليصوروا الأدب المصري الرفيع كما ينبغي.
وما كاد عقرب الزمن يطوي وراءه نصف قرن بعد محمد علي حتى اشتد الفارق بين الأدب الشعبي والأدب المدرسي. ثم أخذ الزمن يمضي وأخذت الأحداث تتقلب، وعاشت المدرسة في بيئة وعاش المجتمع في بيئة أخرى وازدادت الألسنة تبلبلا حين جمدت الثقافات الأدبية في موطن واحد هو المدرسة، استعصت على الحياة وامتنعت عن التفاعل بها.
وتقدم الزمن ووقعت (الثورة العرابية) وتدخلت أصابع الأجنبي لكبحها وقتلها. وشاء الله لها
أن تموت وتقبر في مهدها، ولكن جذورها النفسية وآثارها الأدبية لم تمت، فقد نبهت العقول الراكدة والنفوس النائمة إلى الواجب الوطني، في الوقت الذي شعرت الأمة بضرورة التقريب بين الطبقات، وحثت على محو الفوارق الاجتماعية التي لا يقرها الإسلام ولا تعترف بها المبادئ الإنسانية.
وقد كان لهذا الشعور العميق الذي شاع بين طبقات الشعب وعم أرجاء البلاد بعض الأثر في حياة الأدب. وكثيرا ما تكون الأحداث السياسية والثورات الوطنية مادة خصبة للبناء الأدبي ووقودا صالحا يشمل جذوة الحياة الأدبية بعد خمودها الطويل. وقد ساعد على ذلك أن لاقت الثورة الأولى نفوسا صافية وقلوبا واعية وأرواحا أدبية وثابة تتأثر بما حولها وتعبر عن آلام الشعب وآماله. ثم أنعكس شعاع هذه الثورة في الحياة الأدبية: انعكس في الخطابة فكان عبد الله النديم وأترابه، وغزا دولة الشعر فكان البارودي وكانت مدرسته وهي أولى مدارس الشعر المعترف بها في عصر النهضة، ونال الحياة الفكرية ما نال الخطابة والشعر من تجديد، وظهر ذلك واضحا في شخصية الشيخ محمد عبده وأستاذه الشريف جمال الدين الأفغاني موقظ الشرق ومجدد القرن الرابع عشر.
ولم يكد يمضي الزمن بالثورة العرابية ولم تكد تأخذ مكانها في سجل التاريخ حتى تمخضت عن مولود هو (ثورة 1919) وقد أعادت هذه الثورة إلى الحياة المصرية سالف رونقها وأجرت في شرايينها دماء الثورة الأولى والدعوة إلى المثل. وهكذا تقدمت الحياة المصرية خطوة إلى الأمام بعد الثورة الثانية. وارتقى التعليم المدني تبعا لذلك فغادرة ميدان المدرسة إلى ميدان أرقى وأجل هو الجامعة المصرية القديمة. وقد كان الغرض الأول من إنشائها تثبيت مكانة مصر السياسية والاجتماعية والأدبية.
ومنذ ربع قرن تطورت الجامعة المصرية القديمة إلى وضعها الجديد الذي بدأت خطوطه الأولى في جامعة فؤاد الأول. ولكن الحياة الأدبية الرفيعة التي كانت تدب في مصر في ذلك الوقت ظلت مختنقة بين جدران الجامعة. أما المجتمع الخارجي الذي كان يتمثل في النوادي والمجالس الأدبية - فلم يكن مقياسا صحيحا يمثل ما اعتور الأدب من تطور في ذلك الوقت، وإن كان في ذاته يعتبر امتدادا طبيعيا لنوع من الحياة الأدبية الشعبية في تاريخ مصر. ولعلك تعجب أن نضطرب هذا التطور بين الجامعة والمجتمع وأن تختلف
البيئتان في رسم هذا الاتجاه وتحديد ذلك النما!!
كان ذلك منذ ربع قرن حين كانت الجامعة وكان الجامعيون يعيشون بين جدران الجامعة ويدرسون الأدب للجامعة ولأنفسهم قبل أن يدرسوه لخدمة المجتمع وأهله أو قبل أن يتحملوا عبء هذه الرسالة ويكلفوا أنفسهم مشقة عرضها على المجتمع في صورتها الجديدة ، وهي الصورة التي كانت تساير الزمن ونساير الحياة الجديدة الناهضة في العالم كله.
أعنى: كانت هناك حلقة مفقودة بين (الأدب الرفيع) في الجامعة و (الأدب الشعبي) في المجتمع. واستمرت هذه الفجوة السحيقة والهوة الضخمة بين الأدبيين ردحا من الزمن أعني خلالها الأدب المصري لونا من التفكك وضربا من الجمود الذي ذكرناه.
ويوم تفقد الحلقة بين الأدب الرفيع وأدب الشعب تقع الطامة الكبرى على المجتمع وعلى القومية وعلى الدين وتصبح الحياة ضرباً من الترهات والتفكك والحواجز السخيفة التي لا تحتمل، وتصير الأمة أشبه بأمتين متباينتين متنافرتين في أمة واحدة.
وقد كان من رحمة الله على مصر أن هذه الفترة لم تطل حين قيض لها بالأمس جماعة من الأدباء حملوا لواء الحياة الأدبية. ونقد هؤلاء صفوف الأدب وأخذوا يقربون بين الأدب الرفيع وأدب الشعب ويرسمون من المثالين مثالا واحدا صادقا يصور التطور الصحيح ويتجانس مع الزمان والمكان.
وقد كان الأستاذ الزيات في مقدمة هؤلاء النفر الذين قربوا الخطى ووحدوا الصوف ووسعوا الميدان الأدبي وأفسحوا المجال الصحفي للمطبوعين المقبورين والموهوبين المنسيبين. كما كان في رسالته عون الشباب المتوثب المكافح المناضل العامل على رفع القواعد من المدرسة الأدبية المصرية. وهو من هؤلاء النفر الذين يقدرون الشيء لذاته. فليس أكرم الأدباء في نظره أشهر ولا أسنهم ولا أغناهم ولا أعظمهم جاها وشأنا، وليس أتفههم عنده أخملهم ولا أصغرهم ولا أفقرهم ولا أحقرهم مكانة ورتبة. إنما أكرمهم عنده بأدبهم وأعلمهم. وهكذا لم يشأ الأستاذ الزيات أن يتخذ من المقاييس اللاإرادية مقياسا يقيس به الأدباء والعلماء لقد أبى الأستاذ في رسالته إلا أن يكون الناقد الحصيف الذي يحسن الاختبار ويصل إلى الأعماق في النقد، ذلك لأنه يأبى إلا أن يجعل من الإرادة والإرادة وحدها مقياسه النزيه. أما هذه المقاييس التي تقوم على صفات عريضة لاحظ للإنسان فيها
ولا قدرة له على توجيهها فهي مقاييس زائفة تافهة في نظرة لأنها لا تمثل الحقيقة المجردة ولا نستقيم مع النقد النزيه، ويماثل ذلك قوله تعالى في محكم كتابه (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فالتقوى وأمثالها جانب إداري في حياة الإنسان. ولذلك صح أن تعتبر مقياساً التفاضل الأخروي.
وفي ضوء هذا النهج السليم قرب الزيات بين الحياتين ووحد بين الأدبين حين جعل من الرسالة منبراً عاماً يعتليه الأدباء لذواتهم وشخصياتهم لا لمناصبهم ومراتبهم، يعتلونه على اختلاف مشاربهم وأهوائهم وميولهم ونزعاتهم يعرضون ما لديهم من بضاعة الأدب والعلم والفن. ثم يطرحون ذلك كله أمام القراء الذين أقبلوا على الرسالة يتدافعون ويتزاحمون حين أدهشهم جلالها وأعجبهم اتساع صدرها وتمثيلها لجوانب الحياة الأدبية كلها. والقراء هم الحكومة النزيهة بين الرسالة وكتابها. فهم وحدهم الذين يستطيعون بإخلاص أن يسجلون ذلك في بريدهم الأدبي. وهم وحدهم يستطيعون أن يعلنوا ويثبتوا للأصلح (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
وهكذا ظلت (الرسالة والرواية) عشرين عاما منذ حرجت إلى الناس تحمل عددها الأول وهي تؤدي في صدق وأمانة رسالة الحرية الكاملة في الأدب العربي المصري الحديث ولا تزال تؤدي هذه الرسالة إلى اليوم وستؤديها ما شاء الله لها أن تبقى. وهي في ذلك كله تعرض على الملأ الكتاب الأحرار المخلصين للحقائق المجردة، وترسم أمام الناس صورا صادقة لتطور المقالة الأدبية والشعر الحديث والقصة الحديثة. وهي إلى جانب هذا وذاك تعتبر سجلا لطيفا يصور التاريخ الأدبي المصري وما يعتريه من نماء وتطور أسبوعا فأسبوعا. ولولا عنصر الصدق الذي امتازت به في أداء رسالة الأدب لعصفت بها يد الزمان ولحطمتها معاطب الحدثان.
نعم إنها ظلت تناضل مع الزمن وتصورا لحياة الأدبية المصرية في غير تكلف ولا تعسف. كما استطاعت بفضل عناصر: الصدق والدقة والإحاطة أن تصبح مرآة عامة تنعكس عليها آداب مصر والعراق وآداب الأقطار الشقيقة، وأن تستجيب لذلك كله لما وجدت من القراء في الأقطار الشقيقة من يمد لها الطريق ويعينها على أداء رسالة العربية وآدابها. فالرسالة - في نظر المنهج العلمي الحديث - هي الأدب الحي المعاصر. . . والأدب الحي
المعاصر هو الرسالة:
واليوم شاءت الأقدار أن تحتفل الرسالة بعددها الألفي، وأن تختم به عهدا قديما في حياة مصر، وأن تفتتح به عهدا جديدا حبيبا إلى النفوس، وهو عهد الحرية والفضيلة، عهد العدالة التي حطمت صخرة الطغيان وخلصت مصر من ربقة الظلم والإثم والبهتان. ولعل من أجمل الصدف وأحلاها في حياة الأقدار أن تفتتح الرسالة الألف الثانية من أعدادها في مفتتح هذا العهد الجديد. ذلك العهد الذي لا تزال الأعناق نشرئب إليه احتراما وتعظيما وتحملق العيون فيه إكبارا وإجلالا وتكريما، وقد خشعت له أصوات المردة وارتفعت فيه صيحات الحق، بعد أن ظل الناس زمنا يجأرون بالشكوى فلا يلتفت إليهم ويهيبون بالإصلاح فتداس حقوقهم وتحطم آمالهم.
ما أجمل أن تفتتح الرسالة ألفها الثاني في ذلك العهد الجديد وما أحراها أن تسهم فيه بنصيبها في الإصلاح والتطهير والتجديد، وأن تكتب عن ذلك كله وقد حمل صاحبها لواء الكتابة الإنشائية عشرين عاما كاملة. فما كان الأدب الحر في أي عصر إلا سلاحا ماضيا يدافع عن الأبطال المجاهدين وسيفا مصلتاً فوق رقاب الطغاة المتمردين. ألا إن حاجة الأمم إلى الكتاب وعذبات الأقلام ليس بأقل من حاجتها إلى القادة والقواد العظام.
حامد حفني داود
يوم 26يوليو
بمناسبة مرور شهر عليه
للآنسة نعمات أحمد فؤاد
ودنت ساعة الخلاص وكانت مصر بشعورها ولكن قلبها كان يهتز. كان يخفق فرحا بقرب إعلان مولد الفجر الجديد، وكان يضطرب إشفاقا خشية أن يكون أسرف في التفاؤل والأحلام. . وعاشت مصر أربعة أيام تترقب وتتكهن القدر وتتطلع إلى السماء، تدعوها في صوت مختلج أن تسند وقفتها في وجه الظلم فلا ترتكس، وأن تبارك هبتها في وجه الطغيان فلا اليوم الرابع أطول يوم لأن مصر عاشته لحظة لحظة، وكان أقصر يوم لأن مصر من هول ما عانت قبله، وعظم ما نالت فيه، بدا لها كالحلم السعيد الموشى، قصير الأمد بعيد التصديق.
لقد صبرت حتى شقي صبرها، واحتملت حتى ضاق ذرعها، وكابدت حتى وهى جلدها، وتجلدت حتى رماها الجاهلون ووصفوها بالجمود الذليل، ولكنها كانت تعرف أين تضرب ضربتها ومتى، كانت تدبر لها بحكمة السنين، ثم نفذتها بعزم الفراعين الجبابرة، ومضت إلى غايتها في استبسال المستميت. ثم استمدت ربها العون فأجاب، وفوقت سهمها فأصاب، واستلهمت تاريخها فتبدد من جوها اليأس، وأشرق في أفقها الأمل، وجاشت في صدرها العزة، وسرى في كيانها الشعور بالقوة والكرامة.
في 23 يوليه سنة 1952 قالت مصر (لا) مدوية كالرعد، نافذة كحكم القدر. وفي 26 يوليه سنة 1952 أصدرت مصر أمرها فطأطأ الطغيان رأسه، وأعلنت مصر كلمتها فخفض الاستبداد صوته، وفي 26 يوليه سنة 1952 فتحت مصر بابها فخرج الظلم إلى غير رجعة. ودهش العالم، وابتسم القدر، وسجل التاريخ، وهتفت الوطنية.
في 26 يوليه سنة 1952 خرج الظلم وانكمش أعوانه متضائلين بعد أن عاثوا الفساد وأشاعوا الفوضى، وأرهقوا بالبؤس، وحرمونا من الخير، وأذلونا بالاضطهاد، وقتلوا بالعنت والكبت، واعتصروا دمائنا ليريقوها في كؤوسهم خمرا، وما حسبوا أن الله لهم بالمرصاد وأن وراء الخمر أمرا.
في 26 يوليه سنة 1952 طردت مصر الظلم واكتفت بهذا فلم تنكل به كما نكل بفلذات
أكبادها، لم تودع في صدرها الأثيم الرصاص الذي أودعه صدور بنيها في فلسطين ليزداد ثراءهم لقد قبض ثمن أرواحهم حين أبتاع لهم الأسلحة الفاسدة ليضاعف خزائنه. . كانت مصر جبارة في غضبتها، ولكنها كانت كريمة في عفوها مع القدرة، النبيلة في صفحها مع غصة المرارة من الدم المسفوح. . . إن وطني صانع المعجزات، أن التاريخ القديم والحديث ليس فيه صفحة واحدة لشعب عفا عن طاغية استبد به واستهتر بكل القيم كما عفا شعب مصر.
لقد بكى قلبي مع الكثيرين من قومي عندما أعلن البشير خلاص مصر من ربقة البغي والطغيان، ولكن دموعنا هذه المرة طفرت من الفرح بالنصر المبين، وطالما سكبناها في مصارع ضحايانا فما تحدرت من مآقينا حتى اختلطت في بحر الدموع والعرى بلوعات الثكالى وزفرات اليتامى، وأنين المجهودين والحيارى ومن تقطعت أنفاسهم في منتصف الطريق.
اشتدي أزمة تنفرجي
نعم لولا تفاقم الخطب لما نفذ الصبر، ولولا اشتداد الكرب لما انفجر الصدر، ولولا توالي لذعات الألم لما فاضت الكأس.
لقد أكرهنا على أن نقدم ما نزرع ليتخموا ونجوع واغتصبوا الضرائب التي ندفعها باسم مخصصات ومرتبات يكدسونها أكواما من النضار عاما بعد عام دون أن تنقص لأنهم مكلفون مع هذا أن تتحمل تكاليف طعامهم ولباسهم ومركباتهم ونزهاتهم وأسفارهم وولائمهم وزينات أفراحهم، حتى إذا ضاقوا ذرعا بالمال كما نضيق ذرعا بالعدم بعثروه في سفاهة على الموائد الخضراء وفي الليالي الحمراء، حتى إذا طلع النهار اتخذوا سمات الصالحين فغشوا المساجد، وأداروا حبات المسبحة. وبلغت السخرية مداها حين زعموا. . . زعموا اتصال نسبهم بنبي المسلمين!
ويرى الشعب هذا ويسمع به وينتظر ويتحرق ولكن البغاة الذين أغراهم صبره وغرهم حلمه، أضافوا إلى صفحاتهم السود صحائف من الغيلة وانتهاك الأعراض والعبث بدستور البلاد وقوانينها. فخرج الاحتمال عن طاقة الإباء، وكبر الجرم حتى ضج به الحلم، وطاح معه الصبر فكان الانفجار.
لقد نسينا ما فدحنا به إسماعيل من ديون، وما نكبنا به توفيق من ويلات الاستعمار، واستقبلنا منذ ستة عشر عاما الطاغية الطريد كما يستقبل الميامين الأبطال، وأملنا فيه خيرا وأحببناه حبا دنا من العبادة وحففناه بقلوبنا، ولكن تركيته غلبت عليه، فسامنا الخسف كأسلاف له من قبل، وبغى واستكبر وما درى أن الله أكبر وأن على الباغي تدور الدوائر.
إن يوم 26 يوليه اجل أعيادنا خطرا وأعمقها أثرا، فيه ولدت مصر الجديدة، وفيه رفع الجيش رأس مصر المجيدة، وفيه صح الوعي من مصر الرشيدة. وفيه دمدم قائدنا نجيب أكبر حصون البغي ليبني على أنقاضه دولتنا من جديد.
إن أرواح الأبرار من أسلافنا تطوف بنا مرفرفة، ففي أرضنا فرحة وفي سمائنا تبريك.
إننا سنجعل من يوم 26 يوليه سنة 1952 طلائع موكب الحياة والنور، سنجعل من هبتنا فيه بداية يقظة موصولة تصحح على هديها اوضاعنا، وتستقيم على ضوئها أمورنا، فلا نضل بعد اليوم وقد وضحت معالم الطريق.
إننا سنجعل من ذكرى 26 يوليه سنة 1952 درساً بليغاً في العزة القومية نلقنه صغارنا حتى نجنبهم التجربة القاسية التي مررنا بها فما سلمنا منها إلا بمعجزة نجيبة.
سنلقنهم أنه في يوم 26 يوليه أمر المصريون الفلاحون السادة الأتراك أن ينزلوا عن عرش لا يستحقونه فأذعنوا صاغرين. ثم أمروهم أن يغادروا مصر فورا لا تشيعهم السلامة به قذفت بكبيرهم إلى البحر لعنات شعب ممرور. وأمر قائدنا نجيب ربان الباخرة أن يطرحه على شاطئ بعيد ثم يعود إلى مصر فوراً بباخرتنا (المحروسة).
سنجعل من ذكرى 26 يوليه سنة 1952 نشيدا قوميا يحفظه عنا أبناؤنا ليعرفوا حقهم فلا يفرطو فيه، ويعتزوا بوطنهم فلا ييأسوا منه مهما ران عليه الظلام والكمد، فها هو النور انبثق دفعة واحدة، وعلى غير انتظار من جوف ليل يهيم عابس حسب معه الكثيرون أن الصبح ضل طريقه، فإذا به غامر الضياء مائس النور.
سلام على مصر بين أوطان العالمين
وسلام على شعب مصر بين الخالدين
وسلام على جيش مصر بين الغر الميامين
نعمات أحمد فؤاد
تحية جديدة للرسالة المجيدة
بمناسبة أعيادها الأربعة في يوم واحد العدد الألف، والسنة
العشرين وعيد الأضحى، وعيد استقلال مصر.
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
لم لا أعود إلى تحيتها
…
تلك التي تحنو على الأدب؟!
لم لا أعود لها فأحمدها
…
والحمد عند العطف والحدب!
تطوي السنين بنا وتنشرها
…
تختال في أثوابها القشب
وتفيض بالآداب مترعة
…
بالفن يبعث هامد الطرب
الحق ديدنها وغايتها
…
تجلوه بين الشك والريب
كم غابت الأقمار واحتجبت
…
إلا (الرسالة) فهي لم تغب!
لولا الرسالة لانطوت شهب
…
منا وراء الغيم والحجب
لولا الرسالة ما جرى قلمي
…
بالمعجزات وجد في الطلب!
كنا معاً من فجر مولدها
…
كصبية شغفت فؤاد صبي!
ألهو بها وأجد مقتبسا
…
منها وليس الجد كاللعب
كم كنت أحبو في قراءتها
…
واليوم أحبوها بوحي نبي!!
أعيادها مثنى ثلاث وقد
…
وافت رباع تفيض بالعجب
في عيدها الألفي ساطعة
…
في عامها العشرين كالشهب
أضحى بها (الأضحى) يحج إلى
…
بيت البيان وكعبة الأدب!
والنصر وافي مصر بحبها شغفاً
…
حتى شغلت بربها الأرب
أني ثملت بحبها شغفاً
…
حتى شغلت بربها الأربُ
يا حبذا (الزيات) كم صلة
…
يحبوبها الفصحى وكم سبب؟
رأس البيان وغيره ذنب
…
شتان بين الرأس والذنب!
نالت بلاغته بروعتها
…
حد النهى ونهاية الأرب
والشرق يبصر في براعته
…
موسوعة تغنى عن الكتب!
آراؤه في الفن والأدب
…
دع عنك ذكر البدر والشهب
يعتز بالأسلوب في زمن
…
يعتز فيه الناس بالسلب!!
حسب الرسالة أن في يدها
…
يده التي تنهل كالسحب
هيهات أنسى من يؤازرني
…
ويهش للمغمور في النوب
قد كنت كالمغمور في ظلم
…
بالريف ويح الريف من غضبي!
أحيا كأني من سوائمه
…
وأعيش فيه عيش مغترب
أتضيع أحلام الشباب سدى
…
ويظل ذاك الظل في الكثب؟!
كم من يد طاشت فداء يد
…
راشت جناح النسر بالزغب!
وعلى ملوك البغي دائرة الس
…
وء البغيض تدور بالعطب!
تيجانهم قد أصبحت لعباً
…
شتى فيا لطرافة اللعب!!
يا رب تاج فوق ناصية
…
النعل أرفع منه في العقب!!
ولرب عملاق تعقبه
…
فأرداه بلا تعب!
التاج تاج الجيش والقضب
…
والعهد عهد الشعب و (الشعب)
وكتائب التحرير ساهرة
…
وعناصر التطهير عن كثب
والظلم مدحور فإن برزت
…
أنيابه فالرأي للقضب!!
والقائد الأعلى (نجيب) له
…
بأس الكمى وفطنة الذرب
يا شانئين كفي مناهضة
…
للناشئين الفتية النجب!
أخلوا الطريق لنا فموكبنا
…
يحدوه حادي النصر والغلب
أو فالبثوا. . هذى كتائبنا
…
تختال بين البيض واليلب
نحن الشباب وتلك نهضتنا
…
تسمو على الأفلاك والشهب
كم من فتى منا متى رغبت
…
نالت يداه الشمس لم يثب!
المعجزات لنا نسخرها
…
أرأيت فعل الريح بالسحب!
وعلى (الرسالة) من أسنتنا
…
أصداء هذا الجحفل اللجب
دامت ودام الشرق في فمها
…
أنشودة منشودة الطرب
أحمد أحمد العجمي
رسالة الشعر
هوى الملك الباغي
للأستاذ محمود البشبيشي
بعزم (نجيب) أدراك الحق طالبه
…
وروع صرح البغي وانهار جانبه
وأشرق وجه الشعب بعد عبوسه
…
وولى زمان قد تمادت غياهبه
يسائلني صحبي وقد بهرتهمو
…
من الجيش نفاثاته وعجائبه
لمن موكب كالرمح يمضي مسددا
…
تحوم المعالي حوله وتواكبه
لمن قامة كالسيف يسطع عزمها
…
تسير إلى الجبار صبحا تحاسبه
أذاك (نجيب) منقذ الشعب قد بدا
…
تحف به أنصاره وكتائبه
فقلت، وقلبي دائم الخفق باسمه:
…
أجل هو تحدوه العلا وتصاحبه
أجل هو سيف الله يمضي مظفرا
…
إلى الملك الباغي، وتلك مواكبه
إلى ملك لم يرع للحق جانباً
…
فقد شغلته نفسه ورغائبه
إلى ملك قد أثقلته ذنوبه
…
وذاعت على موج الأثير غرائبه
وعاث بآمال البلاد وأهلها
…
كما عاث في الكرم المباح ثعالبه
وقد عزه ما قد أعد وما درى
…
بأن عيون الشعب يقضى تراقبه
فلم يغن عنه - والجيوش محيطة
…
به ماله أو قصره ومساربه
أيحسب أن البطش يعصم تاجه
…
وكيف؟ وجبار السماء محاسبه!
لقد طوقته الغاشيات فلم يجد
…
أخا يفتديه أو صديقا يعاتبه
وما الجيش إلا نقمة الله أطبقت
…
عليه فما تنجيه منها مهاربه
وكيف يرجى رحمة الله ظالم
…
ويطمع في لطف الإله محاربه؟
فلا الجو ينجيه وقد زمجرت به
…
من الجيش نفاثاته وضواربه
ولا البحر ينجي والبوارج رصد
…
ولا البر منج والأسود طوالبه
كذلك بأس الله إن حاق بامرئ
…
(ولو ملكا) ضلت عليه مذاهبه
هو الجيش لله القوي حفاظه
…
وللوطن المحبوب تنضي قواضبه
لقد ظل دهرا يهتف الشعب باسمه
…
ويزجى من الألقاب ما هو طالبه
يسيء فيفضي الشعب حلما لعله
…
يثوب وراء الصبر كبتا يغالبه
وقد عزه صبر الكرام وما درى
…
بأن وراء الضبر كبتاً يغالبه
وقد حسب الدستور لهواه وملعبا
…
يقربه حيناً وحيناً يغاضبه
وينساه أحيانا وحينا يهزه
…
إليه حنان خادع ويداعبه
وكم همس الشعب الكريم ينصحه
…
وفيقاً فحلت بالبلاد مصائبه
تمرد واستعلى على الشعب لاهيا
…
فطور يرائيه، وطورا يشاغبه
وأملي له شيطانه فما له
…
(نجيب) بجيش لا ترد مطالبه
وصبحه بالجيش فالنهار عزمه
…
وأيقن أن الحق لا شك غالبه
وأدرك أن البغي يصرع أهله
…
وأن الأماني العذاب كواذبه
ولاح له طيف المنون فراعه
…
وقد برزت أنيابه ومخالبه!
فألقى إلى الجيش الأبي زمامه
…
فما بات حتى غيبته مغاربه
واقلع عن أرض الكنانة خاسئا
…
تشيعه آثامه ومعايبه
خدعنا به حينا فلما تبينت
…
مثالبه جئنا إليه نحاسبه!
وإنا لشعب لا تلين قناته
…
إذا استل سيفا لا تخون مضاربه
(إذا الملك الجبار صعر خده
…
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه)
محمود البشبيشي
نشيد الخلاص
للأستاذ حسين محمود البشبيشي
آن للظلم أن يزول فمرحى
…
بزوال القيود يا مصر مرحى
كم شربنا الحياة جرحا وجرحا
…
وعرفنا الجهاد كبتاً وكبحا
وانتهينا إلى النجاة. . . فمرحى
بزوال الطغاة والبغي مرحى
آن للبغي أن يزول فعالا
…
كالخطايا. . . وان يزول رجالا
بارك الله جيشنا حين قالا
…
قولة الشعب (زل) فخر وزالا
بعد عهد من البلاء توالى
آن يا شعب أن تعيش فمرحى
بزوال الطغاة والبغي مرحى
كم صبرنا على الهوان زمانا
…
وشربنا الخداع آنا فآنا
ونسينا الكفاح حتى سلانا
…
فصحونا على بشير دعانا
دعوة النصر صادقا وهدانا
لطريق الخلاص يا مصر مرحى
بزوال الطغاة والبغي مرحى
حسين محمود البشبيشي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
مدرسة الرسالة
في 15 يناير سنة 1932 بزغ النجم فصدر العدد الأول من الرسالة، وفي أول سبتمير سنة 1952 يصدر العدد الألف من هذه المجلة خلال فترة بلغت عشرين عاما، تطور فيها الأدب والفكر والفن، وانتقل من مرحلة إلى مرحلة، وسايرت الرسالة هذه النهضة ووجهتها وتفاعلت معها، وتركت فيها آثار حية ما تزال باقية خالدة.
وفي خلال هذه النهضة الأدبية التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى نشأت مدرستان: مجلة السياسة ومجلة الرسالة.
أما مدرسة السياسة فقد بدأت منذ عام 1922 وانتهت عام 1931، أما مدرسة الرسالة فإنها منذ بدأت لم تنته، وما زالت تواصل جهادها في قوة.
كانت مدرسة السياسة تنشئ الأدب الجديد، وتواجه التيارات المختلفة، وتقف من الحضارة الأوربية ومن القديم والجديد، ومن الشرق والغرب؛ موقفا بين الوضوح والغموض، وبين الاتزان والشطط، وبين الاعتدال والاضطراب.
أما مدرسة الرسالة فقد جاءت بعد أن استقرت الأمور، ونضج الأدب وبدت ثماره دانية القطوف، وانتهت المرحلة العصيبة الجادة إلى غير عودة.
وبينما كانت مدرسة السياسة تقول بالفرعونية، وتدعو إلى التنهيج بكتابين متواليين عن الشعر الجاهلي؛ والخلافة وأصول الحكم؛ كانت الرسالة تقول بالامتزاج وتقريب وجهات النظر ورعاية القديم وبعثه، وتقبل الجديد بعد دراسته ونقده.
وكان الصراع في (السياسة) بين الأدب القديم والجديد، أقرب إلى الهدم منه إلى البناء؛ فلما جاءت الرسالة واءمت بين القديم والجديد، وبين الشرق والغرب على هدى وبصيرة.
وبعد أن مالت (السياسة) بالأدب إلى النيل من شوقي والرافعي، جاءت الرسالة فأنشأت روحا جديدة قوامها الجمع بين الأفكار والنفوس عن ميدان الصراع، وخلق ميجان للبناء والإنشاء.
وفي مدرسة (السياسة) كتبت الأقلام التي أبرزتها النهضة بعد ثورة 1919: طه حسين،
وهيكل، والمازني، وعنان، ومحمود عزمي. . أما في الرسالة فقد كتبت هذه الأسماء، ونشأت في محيطها أقلام جديدة هي صفوة الكتاب الذين يلون الصف الأول.
وبعد أن كانت الكتابة في (السياسة) من ذلك النوع الذي أطلق عليه الدكتور طه حسين اسم (الأدب الموضوعي) وهو النقد، جمعت (الرسالة) بين الأدب الموضوعي والأدب الإنشائي. . . وكان الخلق والفن الجديد أغلب.
كان قوام مدرسة الرسالة روح (الزيات)، الأسلوب البليغ، والعبارة التزنة، والكلمة النقية، والنقد النزيه، والإبداع. .
وبالرغم من أن كتاب (السياسة) انتقلوا إلى الرسالة إلا أن إنتاجها قد تطور وتحول من حال إلى حال.
فالدكتور طه حسين الذي كان يكتب فصولا في تصوير الحياة الاجتماعية في العصر الأموي والعباسي تحت عنوان (حديث الأربعاء) في (السياسة)، كتب فصولا غاية في الروعة عن سيرة الرسول في الرسالة باسم (على هامش السيرة)، وكان هذا فنا جديدا من فنون القول والإنشاء.
والرافعي الذي كان يكتب حديث القمر، وأوراق الورد، والمساكين وغيرها قبل أن يتصل بالرسالة، فلا يقرأها إلا صفوة قليلة من الأدباء، كتب في الرسالة أجود إنتاجه، ونزل إلى مرتبة القراء الوسط، وخلف كتابا ضخما هو (وحي القلم).
وتوفيق الحكيم بدأ على صفحات الرسالة أول كتاباته في الأدب والفن في مساجلاته مع طه حسين عن نشأة الحوار والفن الإغريقي والفوعوني.
وعلى صفحات الرسالة بدأ العقاد عبقرية محمد، والحكيم قصة محمد المسرحية، ومن ذا الذي ينسى مقالة عبد الرحمن شكري في الرسالة بعد أن ظل أعواما وأعواما لا يكتب حتى نسيه الناس.
وعبد الوهاب عزام وأسفاره ورحلاته، وكتاباته عن التصوف.
والكتاب الذي يعد أجمل ما كتب زكي مبارك بدأه في الرسالة: (ليلى المريضة في العراق).
والقصص الإغريقي الخالد، كتب لأول مرة على صورة رائعة في الرسالة عندما أنشأه دريني خشبة.
والمساجلات الرائعة الخالدة، كانت صفحات الرسالة منبرها أمثال (بين الرافعي والعقاد)(بين سيد قطب ومحمود محمد شاكر وسعيد العريان)(ولايتينون وسكسيتون) بين العقاد وطه حسين.
و (صداقات الأدباء) بين توفيق الحكيم وزكي مبارك والعقاد.
و (ما لزكي مبارك وكتاب الله) بين زكي مبارك ومحمد أحمد الغمراوي.
و (الشيخ المرصفي) بين زكي مبارك والسباعي بيومي
و (أومن بالإنسان) بين علي الطنطاوي وعبد المنعم خلاف.
و (الأدب المهموس) بين محمد مندور وسيد قطب.
والمذهب الرمزي والتبياني بين العقاد وكثير من الكتاب.
وكان للرسالة فضل في إبراز شخصيات أدبية غاية في القوة في مصر والشرق وفي مقدمتها: الأستاذ صلاح المنجد وعلي الطنطاوي وناجي الطنطاوي وجواد علي وفهمي عبد اللطيف وأنور العطار وسعيد العريان ومحمود محمد شاكر وعزيز أحمد فهمي ومحمود الخفيف وعبد المنعم خلاف.
ومن كتابه ثلاثة كانوا غاية في القوة، وكان ينتظر لهم مستقبل حافل، لولا أنهم انتحروا: فخري أبو السعود وفيلكس فارس وإسماعيل أدهم أحمد.
وغاية القول أن مدرسة الرسالة كانت مدرسة الخلق والإنتاج، وان الأدب المعاصر مدين لها بكل ما فيه من قوة وعظمة وجلال، ولا نبالغ إذا قلنا إن كتابا من الكتب الأدبية الحديثة لم يكن قبل صدوره إلا فصولا في مجلة الرسالة. ونحن نهنئ الأستاذ الزيات بهذا الفضل الذي طوق به الأدب العربي الحديث.
هل يكتب التاريخ من جديد
فارق كبير بين ما يكتب الآن، وبين ما كان يكتب قبل 23يوليه 1952، إن القيود التي كانت موضوعة على الحقائق قد رفعت، فاصبح في مقدور كل من يعرفها أن يعلنها صادقة، هذه الحقائق هي مادة التاريخ، الذي يجب أن بكتب من جديد.
إن الأحزاب السياسية التي كانت تلي الحكم في الثلاثين عاما الأخيرة قد كانت في حديث الصحف والكتب قبل هذا التاريخ صاحبة أمجاد، وكان فلان وفلان وفلان هم زعماء
الشعب، أما الآن فقد أمكن أن تقال الحقيقة، وهي مدى الأثر الذي تركته هذه الأحزاب بصراعها ونفاقها في البلاد.
إن الملك السابق كانت تكال له عبارات التمجيد والتقدير والإعجاب من رجال السياسة والدين والصحافة، وقد تحول هذا كله اليوم إلى إعصار من الحقائق التي كانت محجوبة. . . والتي كان يمكن أن تظل محجوبة وقتا طويلا لولا هذا الانقلاب.
والصحف قبل 23 يوليو كانت تحمل أشياء كثيرة، لا أظن أنها صالحة لكاتبة تاريخ مصر كتابة صحيحة، ولا أظن أنها المادة النافعة لهذا، والمؤرخ الذي سيعتمد عليها سيكتب حتما صورة خاطئة لمصر.
وقد ألفت في هذه الفترة الطويلة كتب عن فاروق وفؤاد وإسماعيل وعن سعد زغلول والنحاس، وعن السياسة والوطنية والمجتمع، كل هذه المؤلفات ما عدا القليل منها أصبح زائفا.
ولم يكن هناك غير عبد الرحمن الرافعي وفتحي رضوان وبعض كتاب الإخوان المسلمين الذين كانوا يقولون بعض الحقيقة أو يحاولوا في لباقة أن يقولوا الحقيقة المرة.
لقد كانت المطامع والأهواء تغطي على كل شيء، فطالما زيفت الصحف الحقائق، وقالت غير ما هو كائن، وصورت الأمور على غير وجهها، وكان ذلك في بعض الأحيان رغم أنفها، وفي بعضها الآخر بإرادتها، وكانت بعض الصحف مشتراة، للأحزاب أو لغير الأحزاب، لتزييف هذه الحقائق، ولذلك وجب أن يكتب تاريخ مصر: تاريخ الملك والأحزاب والسياسة والأزهر من جديد بعد أن أصبح ذلك فعلا في مقدور كل كاتب.
أيها الكتاب: اكتبوا تاريخ مصر من جديد
أنور الجندي
رسالة النقد
كتاب معجم ما استعجم
من أسماء البلاد والمواضع
تأليف أبي عبيد البكري الأندلسي
المتوفى سنة 487هـ
تحقيق الأستاذ مصطفى السقا المدرس في الجامعة المصرية
للأستاذ حمد الجاسر
بقية ما نشر في العدد الماضي
الملاحظة الثالثة
وقع في هذا الجزء هفوات تحتاج إلى إصلاحات، منها:
1 -
ص1175:
ما كان بين الشيطين ولعلع
…
لنسائنا إلا مناقل أربع
والبيت بهذه الصفة، وإن استقام وزناً - إلا أنه خرج عن وزنه الصحيح، إذ هو من الطويل، وبعده: -
فجئنا بجمع لم ير الناس مثله
…
يكاد له ظهر الوريعة يظلع
وصوابه إذن: (فما كان. . . لنسوتنا). كما في كتاب لغدة الأصبهاني، عن بلاد العرب (ص17 نسختنا الخطية المقابلة على نسخة السيد المرحوم محمود شكري الألوسي).
2 -
ص1185: (المجازة، ومعرض، وحجر، والعامرية والصواب: (العمارية) وهي قرية من أعراض اليمامة، كما نقل المؤلف هنا، ولا تزال معروفة، تقع غرب مدينة الرياض مسافة 30كيلا (كيلو متر) - انظر (معجم البلدان) هذه المادة و (صفة جزيرة العرب) ص162 -
3 -
وفي ص1201: (وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى مدين، أميرهم زيد
بن حارثة، فأصاب سبياً من أهل ميناء، وقال ابن إسحاق: وميناء هي السواحل). كذا - وكلمة (ميناء) تصحيف (مقنا) بالقاف مكان الياء، ولعل هذا التصحيف سببه أن الفاء بالخط المغربي تنقط بواحدة من تحتها، فصحف أحد النساخ القاف فاء، ثم صحفت الفاء ياء لاشتباهها بالياء. ومقنا قرية معروفة الآن في ساحل مدين، بين قريتي (ظبا) و (حقل) وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سكانها من اليهود، إذ هي قريبة من وادي القرى (انظر هذه المادة في معجم البلدان، كتاب الرسول (ص) لأهل مقنافي (فتوح البلدان) للبلاذري، وفي (الوثائق السياسية للدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي، المطبوع بمصر، بمطبعة لجنة الترجمة والنشر والتأليف).
4 -
وفي ص1236: (ثم تنزل تريم وهي لبني جشم) و (تريم) تصحيف (بريم) بالباء الموحدة المضمومة فراء مفتوحة فياء مثناة تحتية ساكنة، فميم، وهو منهل لا يزال معروفا بهذا الاسم، في عالية نجد، بقرب جبل حضن، وثم منازل بني جشم قديما، وبقاياهم في هذا العهد يقرب هذا المنهل وانظر لتحديد (صفة جزيرة العرب) ص144 و151 وكتاب لغد الأصبهاني حيث تجد فيه: وفي بريم وهم شركاء جشم فيه، قال الراجز:(تذكرت مشربها من تصلبا - قصبا مثقبا). أما تريم - بالتاء والمثناه الفوقية المكسورة، بعدها راء ساكنة فياء مثناه تحتية مفتوحة فميم، فهو موضع آخر يقع في شمال الحجاز، يقرب مقنا، بين (المويلح) و (حقل) وهو الذي ورد ذكره في شعر كثير عزة. وتريم - بفتح اوله وكسر ثانية - بلدة في حضرموت معروفة.
5 -
ص1347: (قال أبو الصلت الثقفي). والمعروف (أمية بن الصلت الثقفي).
6 -
وفي ص1270: (سيحان من جنب). والصواب (سنحان) بالنون بدل الياء، وهي قبيلة معروفة في عهدنا هذا من قبائل جنب، منازلها في جنوب المملكة العربية السعودية وفي أطراف اليمن الشمالية، وفي السراة، (انظر تاج العروس مادة (سنح) وراجع كتب الأنساب)
7 -
وفي ص1335: أورد المؤلف شاهدا على تحديد (النميرة) بيتا للراعي، وعقبة بقولة:(فذلك أن حقيلا من ديار بين تميم). وكلمة (تميم) هنا مصحفة وصوابها (نمير) وهم قبيلة الراعي، وحقيل جبل في بلادهم قال فيه الراعي:
وأفضن بعد كظومهن بجرة
…
من ذي الأبارق إذرعين حقيلا
8 -
في ص1398: (بلقيس بنت هداد بن شرح). والصواب ما نقل الأستاذ في الحاشية عن الجزء العاشر من (الإكليل): الهدهاد. وأما شرح فصوابه إلى شرح، كما حقق ذلك الدكتور نبيه أمين فارس (انظر طبعته للجزء الثامن من الإكليل ص19) وورد في كثير من المؤلفات العربية بصيغ متعددة - الشرح - إلى شرح - ليشرح - لي شرح - وأورده نشوان الحميري في مادة (شرح) وسماه بهذا الأسم، ولكن الهمداني أوثق وأعلم من نشوان.
9 -
وفي ص1403: (صيد ين همدان). والصواب: (صيد من همدان) إذ الصيد هؤلاء من ولد عمرو بن جشم بن حاشد، وحاشد من همدان (أنظر نسبهم في الجزء العاشر من الإكليل، وانظر ص80ج 8 منه طبعة الدكتور نبيه فارس).
10 -
نقل الأستاذ في حاشية ص 1272 - عن ياقوت أن (منفوحة) قرية كان يسكنها الأعشى وبها قبره، وهي لبني قيس بن ثعلبة نزلوها بعد قتل مسيلمة. ولا أدري كيف غاب عن الأستاذ ان جملة (نزلوها بعد قتل مسيلمة) لا تتفق مع كون تلك القرية بلدة الأعشى وبها قبره، إذ الأعشى مات قبل قتل مسيلمة، وهو من بني قيس هؤلاء؟ وإذن فسكنى بين قيس متقدم على قتل مسيلمة.
هذه بعض الهفوات، ولم نحاول إحصاءها وحصرها، ولم نشر إلى الأغلاط المطبعية إيجاز للقول، وضنا بالوقت، ولأن جل من يرجعون إلى هذا الكتاب لتحقيق موضع ما من العلماء الذين لهم من سعة الإدراك والاطلاع ما يمكنهم من التثبت والتحقيق حتى يصلوا إلى الصواب، حينما يريدون الاستفادة من هذا الكتاب.
الملاحظة الرابعة
ذكر الأستاذ السقا - في مقدمة هذا الجزء - أنه صحح أغلاط المؤلف أوهاماً كثيرة، وأغلاطا فاحشة لم تصحح، وقد ذكرنا في كلمتنا التي نشرناها في هذه المجلة عند صدور الجزء الثالث عذر المؤلف في ذلك. لكونه ينقل عن كتب كثر فيها التحريف والتصحيف، وهو في بلاد الأندلس، البعيدة عن بلاد العرب. ولا نريد استقصاء ما وقع من المؤلف من الغلط، ولكننا نشير إلى بعضها، مؤملين من الأستاذ السقا إعادة النظر فيها عند إعادة طبع الكتاب، فمنها:
1 -
في ص1288 و1370: (وحسن خبة) بالخاء، وقد أوردها المؤلف في بابها، والصواب (جبة) بالجيم، وهو منهل معروف في فلاة واسعة يقع بين بلدتي (حائل) و (الجوف) في شمال نجد، وتلك بلاد طئ في العهد القديم.
2 -
وفي ص1218: (الحزواء) وأوردها كذلك في حرف الحاء مع الزاي - وهي في رأيي (الحوراء) التي ورد تحديدها في صفحة 1310 وهي فرضة قديمة على ساحل البحر الأحمر، تقع بقرب بلدة (الوجه) في جنوبها وقد خربت قبل القرن السابع الهجري.
3 -
في ص1253: (الملح) وقال المؤلف أنه مذكور في رسم القاعة والقاعة تسمى في عهدنا الحاضر: وادي المياه، وتقع غرب الإحساء، ممتدة من الجنوب إلى الشمال، وفيها قرى كثيرة ومن قراها (ملج) بالجيم بدل الحاء، وبقربها قرية (نطاع) وقد أورد البكري في ص104 - قول الشاعر
طحون كملقى مبرد فعمة
…
بصحراء ملح أو بجود نطاع
وقال الأصبهانيى - في كتابه عن بلاد العرب ص45 نسختنا الخطية: (ثم تخرج من بطن غر فتقع في الستار، وفيه أكثر من مائة قرية،. . . ومن قراها ثاج قال ذو الرمة
نحاها لثلج نحية ثم إنه
…
توخى بها العينين عيني متالع
وعينا متالع منها، وقرية يقال لها ملج، وقرية يقال لها نطاع، قال العجاج،
إن تك وهنا ظعنت عن دارها
…
عامدة لملج أو ستارها
فقد تصيد القلب باحوارها
…
وكفل ينصار بانصيارها
فإذا خرجت من الستار وقعت في القاعة، فيها مياه كثيرة) أهـ
4 -
وفي ص1217 (كداء. . جبل مكة، هو عرفة بعينها)
5 -
وفي ص1217 (المروة جبل بمكة معروف، والصفا جبل بإزائه، وبينهما قديد، عنهما شيئا، والمشلل هو الجبل الذي ينحدر منه إلى قديد) إلى غير ذلك من الخلط في تحديد المواضع، مما لا نطيل بذكره ونرى أن هذه الصحيفة لا تتسع لبيان وجهة الصواب فيه.
وبعد كل ما تقدم: فإننا نشارك حضرة الأستاذ السقا في قوله (إني لمغتبط إذا أقدم معجم ما استعجم بعد إتمام طبعه في هذه الصورة إلى العلماء، والباحثين في الثقافة العربية، ليحلوه من خزائنهم محل الصديق الوفي، يفزع إليه في التماس العون والرأي، إذا أدجن ليل
الشبهة، وغامت سماء الشكوك، خاصة فيما يتعلق بالجزيرة العربية، التي هي الوطن الأول للإسلام والعرب والعروبة) ونزجي لحضرته - مع هذا - شكرنا، لما أبداه للعربية من يد بيضاء.
حمد الجاسر
الإمام المراغي
تأليف الأستاذ أنور الجندي
للأستاذ عبد العزيز الدسوقي
كان الإمام المراغي. . طيب الله ثراه. . ورضى عنه. . قبساً من أقباس الفكر الخالق المتعمق، وشعاعا من نور النبوة الصافية. . . ونوراً من هدى السماء. مزج الدين بالدنيا، ووصل الأرض بالسماء. . وواءم بين وثبات الفكر المتطور المتألق، والعلم الزاحف. . . وبين منابع الدين الغامرة العامرة. . حتى صار بحق ثالث ثلاثة أحدثوا في الشرق والعالم الإسلامي، ثورة فكرية بعيدة المدى. .
. . وكان - الإمام - أحد نماذج التي تعشقتها، وكنت أستلهمها. وأستوحيها. . كان حبيباً إلى نفسي بنظراته النفاذة العميقة. وصوته الهادئ الموسيقي العذب النبرات، الفياض بالإخلاص. والمعبر القوي،. . ثم اختفى بعد حياة حافلة بالكفاح والاصطلاح. . وخنق صوته غول الفناء الرهيب. . وكادت سيرته تحتفي في قبو النسيان. . والشرق. . ومصر خاصة ما أكثر ما ينسى أبطاله، فلم نسمع عن المؤلفات التي تكتب عن المراغي وشخصيته متعددة الجوانب، ولم نر الأزهر يخلد ذكرى الإمام الذي وقف حياته على إصلاح، حتى قيض الله لهذا الإمام. . الصديق الكريم الأستاذ أنور الجندي وهو وإن كان من غير بيئة أن هيامه بالشرق، وتوفره على دراسة المسائل الإسلامية، وكتبه المتعددة في هذا المضمار، شاهد قوي على أنه ليس غريبا على جو الإمام والمراغي. .
لذلك أقدم الزميل الحبيب في إيمان حار. . وأخرج كتابه الإمام المراغي. . والكتاب وإن كان صغير الحجم كما تقضي بذلك طبيعة سلسلة (أقرأ) إلا أنه ألم بكل حياة المراغي. . فكتب عن المراغي طفلا تنطبع على نفسه انطباعات الطفولة في قريته المراغة بصعيد
مصر، وكتب عنه قاضيا لقضاة السودان، وصوره تصويرا بارعا، وتعمق نفسه، وقارن بينه وبين محمد عبده، وذكر وطنيته، وإصلاحه في المجتمع والأزهر، وتجديده ونزعته المتحررة، كتب عن كل هذا في أسلوب مشرق يفيض بالحماس الحار، والإخلاص لحياة الإمام المراغي. . .
وأنا لا أستطيع أن ألخص كتاب الزميل بهذه العبارات القلائل، فليس الكتاب قصة ألخصها، وإنما هو دراسة نفسية لحياة الإمام تنبسط أحيانا، ثم تنقبض أحيانا أخرى، وتمر على بعض الأدوار مرورا سريعا مكتفية باللقطات المعبرة، واللمسات الجياشة، وتمعن في التعمق واستكناه الأسرار في بعض الأدوار، ثم تمضي هذه الدراسة شيئا فشيئاكما تمضي الحياة نفسها حتى يبلغ الكتاب أجله، وتخمد الجذوة، ويسدل الستار على حياة الإمام، وهنا ينتهي الكتاب، ولكنه يترك في النفس خطوطا قوية، ودبيباً عارما، وهمساً فياضا. يدفع المرء إلى التأمل. . والكتاب الذي يدفعك إلى التفكير بعد قراءته هو كتاب قد أدى رسالته.
لذلك أهنئ الصديق أنور الجندي بهذا المجهود الطيب. . جزاه الله عن العروبة والإسلام خير الجزاء.
عبد العزيز الدسوقي
البريد الأدبي
عبد الحميد الزهراوي
جاء في عدد المصور 1451 (10 ذي القعدة 1371 - أول أغسطس سنة 1952) تحت عنوان شيخ الصحافة أحمد لطفي السيد يتكلم. . أن الشيخ الزهراوي عاد إلى وطنه سوريا ليكافح الفرنسيون هناك ويرد إلى بلاده حريتها واستقلالها. . فلم يرتح الفرنسيون إلى هؤلاء الوطنيين الأحرار فنصبوا لهم المشانق وأزهقوا أرواحهم، وكان الشيخ الزهراوي في مقدمة المشنوقين.
والحقيقة أن الشيخ رحمه الله كان ضمن الذين حكمت عليهم المحكمة العسكرية التي أقامها جمال باشا في عالية لبنان إبان الحرب العالمية الأولى.
ولقد أنشأ الأحرار العرب جمعيات:
الإخاء العربي، جمعية العهد، المنتدى الأدبي، الجمعية السورية العربية، والجمعية القحطانية، حزب اللا مركزية. وغيرها
وكان الزهراوي مؤسسا للمنتدى الأدبي باستنبول ومروجا لبرنامجه السري، وتوالى رئاسة حزب اللامركزية واشترك في مؤتمر باريس يوم عين في مجلس الأعيان ولم يقبل هذه العضوية إلا بموافقة حزبه، فهو في مقدمة الأحرار العرب الذين ذهبوا ضحية إهمال القنصلية الفرنسية في بيروت وهي التي وضعت السلطات التركية اليد على محفوظاتها السورية، واتضح لها منها وجود حركة منظمة لفصل البلاد العربية من الدولة العثمانية وتمكن فرنسا من الاستيلاء عليها.
وقد جاء في هذه المحفوظات ما يثبت سعي البعض في قلب سوريا إلى إمارة ممتازة تحت حماية فرنسا تدار من قبيل أمير مسلم ينتخبه الأهلون بكامل الحرية. . برقية مسيو دوفرانس في 22 مارس سنة 1913 إلى وزارة الخارجية الفرنسية.
كما تبين منها مساعي السير ألدون غورست المعتمد البريطاني في مصر من اجل قيام حركة لصالح بريطانيا وإرساله للأنصار والأتباع إلى سوريا تنفيذا للسياسة الموضحة بين الدول الاستعمارية على اقتسام أملاك الدولة العثمانية بتحطيم الخلافة الإسلامية.
وأن التقسيم سيجعل سوريا من نصيب فرنسا من حدود حيفا إلى إسكندرونة ولإنجلترا من
حيفا إلى حدود مصر مع جزيرة العرب والعراق.
كما تبين بشكل واضح وجود فريق يسعى جهده في لبنان لتحقيق:
1) استيلاء فرنسا على سوريا
2) ضم متصرفية بيروت إلى لبنان بعد فصلها من ولاية بيروت
3) وضع لبنان بأكمله تحت سيطرة ونفوذ فرنسا
ولا شك في أن الأحرار العرب ومن بينهم الشيخ الزهراوي لم يكونوا على علم تام باتجاهات السياسة الاستعمارية وأهدافها وهي التي استغلت غفلتهم.
ولذلك ذهبوا ضحية هذه السياسة الملتوية الجبارة التي سلمت أحرار العرب ومروجي هذه السياسة لحبال المشانق فكأنها في سبيل التخلص من رجال المبادئ باعت الأنصار والأتباع - والخونة - معهم، وتلك عبرة الأمم الناهضة ورجالها المخلصين الأبرار لكي يحترسوا من هذه الدول.
ولقد تيقظ أحرار العرب لمصيرهم من أول اجتماع لمؤتمر باريس سنة 1913 وكان لموقف هؤلاء رنة وصدى في الدوائر الاستعمارية إذ أعلنوا أنهم في كفاحهم ينشدون حرية البلاد العربية لا بيعها وتسليمها بعد الخلاص للدول الغاصبة.
والسيد الزهراوي أحد الذين غمرتهم الحركة فكان في مقدمة الأحرار الذين ذهبوا ضحية الاستعمار الأوربي والخونة. رحمه الله وغفر له.
أحمد رمزي
القائم بأعمال مصر سابقا في سوريا ولبنان
ألف ستتبعه ألوف!
يحمل هذا العدد من (الرسالة) الزاهرة رقم الألف، في لغة الأرقام. . . أما في لغة البيان فإن جهود (الرسالة) يخطئها الحصر، ولا يحدها إحصاء. . أو ترقيم. . .
وإنا لنبعث - في هذه المناسبة - بالتحية الحارة الخالصة لأستاذنا (الزيات) وأعوانه من حملة الأقلام الحرة التي سمت بالرسالة إلى تلك المنزلة الرفيعة في دنيا الصحافة، ودنيا الأدب. . أملين أن تتبع الألف ألوف. . . وألوف حتى تتبوأ مكان الصدارة في الصفوف!
لقد حملت (الرسالة) منذ عددها الأول مشاعل الأدب الرفيع، فجبت إلى القلوب هذا اللون من الأدب، في وقت تنافس فيه المتنافسون في تقديم ألوان رخيصة من الأدب للشباب، محاولين قتل الروح المعنوية في نفوسهم، بما يقدمونه له من أدب داعر، وصور ماجنة، وقصص يسري في فصولها السم!
حملت (الرسالة) مشعل الأدب، تقود على ضوئه كتائب الشباب نحو أهداف العزة والمجد، وتخرج في معدها الكثيرون من حملة الأقلام الحرة، التي تؤمن بما كتب، ولا تكتب إلا ما تؤمن. . . فأصبحت المنبر الذي تتلاقى فيه أقوى الأقلام. . . أقلام الإصلاح، والتقديم، والتوجيه السديد!
حملت لمحبي القصة أرفع القصص. . وحملت لمحبي خير ما يقرأ. . وحملت لمحبي العلوم كل ما يعوزهم. . كل ذلك في أسلوب رفيع. . ونهج بديع. . ما حادت عنه يوما. . وما رضيت عنه بديلا!
وبعد. . هذه تحية سريعة. . أسجلها على صفحات (الرسالة) إقراراً للحق. . واعترافا بالفضل. . لا أبغي من ورائها المديح ولا الإطراء. . لأن (الرسالة). . . وصاحب (الرسالة). . وأقلام (الرسالة) كل أولئك ليس في حاجة إلى المديح. . ولا الإطراء!
عيسى متولي
معاهد للأمهات
حبذا لو أنشئت في مصر والشرق معاهد للأمومة، تتلقى الأمهات بين جدرانها دروسا شتى في تربية أطفالهن، وينشئتهم النشأة الصالحة التي يقوم عليها تكوينهم الشخصي السليم.
يدفعني إلى هذا التفكير ما يلاحظ على كثير من الأمهات من أخطاء ملموسة في تنشئتهن أطفالهن وطبعهم بطابع يسوده التعقيد والاضطراب والجبن والفزع، والحيلولة بينهم وبين الحياة الصحيحة التي يجب أن يشبوا عليها، ويندر أن تجد الأم الحازمة التي تنشئ أطفالها على الشجاعة الأدبية والخلقية والاعتزاز بالشخصية، والثقة بالنفس والاعتماد عليها، والتي تفتح أمامهم منذ الصغر آفاقا فسيحة من الطموح والمثابرة والتنافس والإقدام.
لا تزال بعض الأمهات يقفن عقبة صامدة في سبيل النضوج الفكري والشخصي لأطفالهن
ويعقن التفتق الذهني لهم: محاولات أن يجعلن منهم آلات صماء تأتمر بأمرهن، وتتحرك بإرادتهن، وتنشأ على الحياة التي توافق مزاجهن. أبصرت سيدة ذات يوم تؤنب طفلها لأنه اختلس لحظات من وقته ليتصفح مجلة للأطفال بحجة أنها تشغله عن استذكار دروسه، وبهذه الحجة نفسها تحرم بعض الأمهات على أطفالهن أن يدنوا من المذياع أو يتصفحوا أي نوع من الصحف والمجلات، وأبصرت بنفسي أما تنهر طفلها في طريق عام فارضة عليه التزام الصمت وعدم الثرثرة، وكان هذا عقابا له لأنه سألها شرح بعض المعلومات العامة البسيطة التي لم يتسع ذهنه الصغير لهضم سرها، وأكثر من هذا ما تعمد إليه بغض الأمهات من تكلف القسوة الدائمة على أطفالهن باسم الأدب والتربية، ومن بث الروع في نفوسهم، وتهديدهم بالمروعات والمفزعات ليشبوا على أكبر قسط من الجبن والهلع.
لقد سمعت بنفسي إحدى الأمهات الجاهلات في طريق عام تستعين بالشرطي ليحمل طفلها على الحد من بكائه، والخضوع لأمرها بمتابعتها في سيرها، وما أكثر ما تخترع الأم الجاهلة من الأسماء الفظيعة للأشباح المجهولة تروع بها أطفالها حتى يناموا إذا لم يحل لهم النوم، وحتى يسكنوا إذا طابت لهم الحركة، وحتى يصمتوا إذا عن لهم أن ينطقوا ويتكلموا.
إن الطفل كالمعدن السائل تسهل صياغته وتكوينه، والأم الجاهلة تستطيع أن تخلق منه سفيها عييا، وجبانا مضطربا، ومخلوقا لا شخصية له، كما تستطيع الأم المتعلمة أن تخلق منه إنسانا ذا شخصية فذة يفيد نفسه ووطنه وأمته.
إن معاهد الأمومة من الأهمية بمكان، وسيكون لها أثرها الفعال في خلق جيل من الشباب النافع الذي ينهض ببلاده ويصل بها إلى ذروة المجد، فمتى يفكر المسؤولون في إنشائها؟، نأمل أن يكون قريبا، والله الموفق.
رمل الإسكندرية نفسية الشيخ
القصص
ذيول الحادث
عن الإنجليزية
بينما كان رئيس الشرطة غارقا في أفكاره، مستسلما لتأملاته يتبع بنظره تموجات الدخان الصاعدة من لفافة تبغ كان يدخنها، دخل عليه زائر بادي الاضطراب، شاحب اللون، غائر العينين يخيل لمن رآه أنه يشكو أرقا طويلا، وكان يمشي متثاقلا كأنه ينوء بحمل سر خطير. . فتهالك على مقعد أمام الرئيس، وابتدأ الحديث من غير تحية ولا سلام:
- إذا لم يخطئ ظني، فإن رجالك يتحرون دار المستر (جين أرنوت) ليقفوا على آثار الجاني، بعد أن عثروا على قتيلين: أحدهما رجل ملقى على الأرض، والثاني زوج صاحب الدار ملقاة فوق مقعد. . .
فقاطعه الرئيس قائلا:
- أصبت. . ويبدو لي أنك تعلم عن الحادث الشيء الكثير
- نعم. نعم أرجو أن تدعني أنتهج الخطة التي أريد في سوق الخبر إليك، لأني صحبت أرنوت سنوات كان لي فيها خير رفيق. . فقد حدثت هذه الجريمة المزدوجة ليلة البارحة، وكانت نتيجة حتمية لعذاب نفساني برح بأرنوت منذ شهور. .
ولكنه لم يكن قد تذوق منتهى العذاب إلا بعد وقوع الجريمة. . فاجتاحته عاصفة من الآلام النفسية، ليس في وسعه أن يتحملها. . فهل تعلم - أيها الرئيس - عنها شيئا؟
فهز الرئيس رأسه نفيا وهو يحدق في الزائر العجيب الذي استمر يقول:
- إن أرنوت رجل ذو ثراء واسع ومصالح عديدة متنوعة تتطلب - غالبا - غيابه عن المدينة عدة أيام لتدبير شؤونها وللوقوف على سير أمورها. أما داره فإنه لم يدخر وسعا في تأثيثها على أحسن ما يكون، لتكون صالحة من كل الوجوه لسكن زوجة. . . تلك الفتاة الجميلة الساحرة التي خلبت لبه عند أول نظرة. . . فقال الرئيس مقاطعا:
- ولم تقص علي كل هذه الأمور؟ أما الزائر فاسترسل في حديثه في شيء من الدهشة. .
- تمهل قليلا أيها الرئيس فستعلم كل شيء. . . فقد كانت زوج أرنوت امرأة فتانة الجمال، وهي المرأة الوحيدة التي أسرت أرنوت بسهام لحظها، فجن بها من أول نظرة وصار لا
يعرف للعيش طعما إلا بقربها. . وبعد لأي وفق في الاقتران بها. . فهو لا يضن عليها بحاجة مهما غلت، ولا يقصر في أمرها مهما عز إن كان فيهما ما يبعث السرور إلى تلك الحبيبة الساحرة. . . ولكن نيران الغيرة التهبت في صدره فجأة، فقد كان يغار عليها من كل عين ترنو إليها غير عينينه، ومن كل رجل يبادلها الحديث سواه. . ولم يكن ذلك لأنه لا يأمن جانبها، أو لأنه يشك في عفتها وطهارتها، بل لأنه كان يحبها حبا يقرب من العبادة ويعتقد أن أقرانه من أصحاب الجاه يحسدونه لأنه يملك هذه الدرة الغالية المتلألئة في داره.
إن أرنوت أيها الرئيس رجل من طراز خاص، فإنه بالرغم من هذه العاطفة الجامحة التي تعتلج في صدره لم يبد على وجهه أثر لهذا الشعور المضني. . بل كثيرا ما كان يبدو هادئاً رابط الجأش محتفظا بسكونه وفي باطنه عراك عنيف بين عقله وغيرته. . وهو في هذه الحال يتصور أن أحلى أمنياته أن يلبي أي طلب تسأله إياه. . .
فأوقفه الرئيس عن الحديث بإيماء من يده وقال: أراك ملما بحياته الخاصة إلى حد بعيد
فأجاب الزائر: كنت صديقا مخلصا له ومطلعا على جل أموره فأحنى الرئيس رأسه موافقا واستمر الزائر يقول:
- كانت لأرنوت صديق يدعى (بول ليس) ألزم له من ظله، مجتمعا مدرسة واحدة من زمن الطفولة وبقيا صديقين وفيين حتى ساعة الجريمة. . وكان (ليس) أعزب وقد تم تعارفه بزوج صديقه بعد اقترانه مباشرة، ولم يكن أحد ليدري ما يخبئه القدر وراء تعارفهما. . أخذ (ليس) يرعى زوجة صديقة ويصحبها إلى أماكن اللهو والتسلية في غياب ذلك الصديق أرنوت الذي كان كثيرا ما كانت تستدعي أعماله هذا الغياب. . ولما نمى إليه هذا الأمر، تصنع الرضا أمامها، ولكنه في الحقيقة بدأ يرتاب في صديقه (ليس) تحت وطأة تلك الغيرة الملتهبة في صدره، وكان وجهه الهادئ الرزين، وابتسامته الرقيقة، يخفيان تحتها هذا الشك القاتل. . تذكر أيها الرئيس أن أرنوت رجل كسائر الرجال يعرف الكثيرين ممن غدروا بأصدقائهم وخانوا شرفهم. . . وقد يعترض أحد الناس قائلا: أن أرنوت كان مخطئا في ارتيابه ما دام واثقا من صديقه، ومؤمنا بطهارة زوجه وعفتها. . . ولكن أيها الرئيس نحن - أنا وأنت - نعلم أن الغيرة عامل نفساني يثور لأقل وهم وأدنى شك وبقى أرنوت يحترق بين اللهيبين يحس بنار الجحيم تضطرم بين ضلوعه
لم يظهر أرنوت أي أثر لهذا الشك بل تمالك شعوره التام حيالهما، وأخذ يعاملهما كما عاملهما من قبل، ولكنه كان ينتظر وينتظر. . . ويفتح أذنيه لكل كلمة تدور بينهما عسى أن يجد بها رأي قاطع، وأخذ يراقب كل إيماءه أو حركة ويؤول كل لفظة بما يلائم شكه. فقاطعه الرئيس قائلا.
- ولم لم تحاول تخفيف هذه الحال عن صديقك؟
فأجاب الزائر:
- إن أرنوت لم يكن يزحزحه أي رأي أو نصيحة عن شكه، أنه آمن بهذا الشك إيمانا مطلقا. .
وفي يوم آب أرنوت إلى داره بعد سفرة شاقة فحادثته زوجة عن (ليس) ورعايته لها، حتى تولاه غضب عظيم فصرخ:
- أراك تبذلين له من العناية أكثر مما يستحق. . . بل أكثر مني. .
وولكن أجابته بابتسامة هادئة ثم قالت:
- إنك تهينني يا أرنوت. .
فقد كانت أيها الرئيس معتزة بكرامتها. . . ومن ذلك الحين أخذ أرنوت يتحين الفرص ليفاجئهما في خيانته كما يعتقد. ولما طال به الزمن أخذ يعد العدة لفخ يوقعهما به متلبسين بالخيانة. . فأعلن أرنوت لزوجه أن أمراً استدعى سفره إلى خارج المدينة. . وصحبها عند المساء إلى غرفة النوم وأشعل لفافة من التبغ وجلسا يتحادثان فقال أرنوت:
- هل يزورك (ليس) هذا المساء؟ وانتظر جوابها وهو يحدق في دخان اللفافة المتموج تجنبا لأي أثر قد يبدو في عينيه
فأجابته:
- لا أعلم. . فإنه يزورنا من غير موعد
ونهض بعدها أونوت وودع زوده وهي في حلة المساء أشبه بالزهرة الندية الفواحة وذهب إلى غرفته يجمع بعض أوراقه وغادر عن الدار. . إلى سفرته المزعومة. . وما ابتعد قليلا حتى اختبأ في منعطف إحدى الطرق يترقب. . فبان له شبح من بعيد دنا من باب الدار وولج إلى الداخل. . ذلك الشبح أيها الرئيس هو (ليس) بعينيه أما أرنوت فأخذ يهدئ من
روعه ويتغلب على شعوره حتى عاوده الهدوء. . . ومكث في مخبئه مدة يتأهب فيها للمفاجأة المنتظرة. ثم قفز إلى الشارع ومضى إلى داره. وكان صديقه وزوجه جالسين في المقصف يتسامران بحشمة ووقار حين اندفع إليهما أرنوت ووقف يحدق فيهما. فصرخت الزوجة: أرنوت! بعد أن غلبتها الدهشة لهذه العودة المفاجئة. . . أما (ليس) فقال:
- أهلا بك يا أرنوت ماذا عاد بك من السفر؟ فكتم أرنوت غضبه وأجاب:
- لم أدرك القطار. . وهنا صاح الرئيس بالزائر. .
- صه! لا بد أنك قابلت أرنوت بعد الجريمة
- نعم
- وهل تعلم مقره الآن؟
- نعم. هذا ما كان يحز في نفسي ليلة البارحة حتى أرقني فقد كنت أعمل الرأي من أجله. . وللسبب نفسه تجدني أحادثك بشأنه.
- وأين يقيم الآن؟
- إنه لا يستطيع الفرار فأنتظر. . اعتذر أرنوت لهما وغادر الغرفة، وهما في ذهول عظيم إلى غرفة النوم عله يجد دليلا يؤيد ظنونه. وأخيرا وجد ما يبتغي. . وجد رمادا متخلفا عن لفافة تبغ على المنضدة. . وجد الأثر الذي ينم على وجود (ليس) هذه الغرفة مع زوجه. . . واندفع إليهما راكضا شاهرا مسدسه هرول إليهما ليطفئ تلك النيران المتأججة في صدره. . . دخل إليهما بهذه الحال ففاجأه (ليس) واقفا يقول:
إني ذاهب الآن على موعد لا أستطيع التخلف عنه ولكن أرنوت صاح به:
- انتظر! لي كلمة معك. . ثم رفع ذراعيه إلى أعلى وتوقدت عيناه شرراً كأن به جنه وانهال عليهما شتما وسبا، فأنقلب وحشا ظامئاً لشرب الدماء بعد أن غمرته موجة من الظلام الدامس ليس فيها إلا نيران الحقد والغيرة وهما ينظران إليه مشدوهين حتى صاح (ليس):
أرنوت! أرنوت! كفى، هل جننت؟ رباه! إني لا أسمح لك أن ترمي زوجك بالخيانة وهي منها براء. .
ولكن أرنوت انتفض فجأة، وصوب مسدسه نحوه. . . ودوى طلق ناري ترنح (ليس) على
أثره وسقط جثة هامدة. . . ثم دوى صوت أرنوت كالرعد القاصف قائلا:
- انظري إلى عشيقك. ها هو ذا جثة لا حراك بها، أنظريه فأجابته بصوت ضعيف مرتجف:
إنه يعتقد ذلك! ثم شحب لونها واهتزت كأنها ريشة في مهب الرياح وصرخت بفزع:
- أتمم يا أرنوت عملك! أكمل يا أرنوت صنيعك!
فارتجف أرنوت يحزه ألم للثأر لشرفه المثلوم، ووجه المسدس إلى زوجته وأطلق النار. . ترنحت المسكينة قليلا ثم سعلت وانفجر الدم بغزارة من فمها وسقطت على الأرض هاتفة: أرنوت! أرنوت! ولفظت أنفاسها.
نظر إليهما أرنوت بعد أن عاود هدوءه وأشبع رغبة نفسه في الانتقام وأطفأ نيران الغيرة، فعاد ذلك الرجل الهادئ الرزين. . فتحركت بقية من حبه في سويداء قلبه فأندفع إلى الزوجة وهي ملقاة على الأرض وانتشلها بين يديه ووضعها على مقعد بقربه وشبك ذراعيها فوق صدرها. . ولكنه لم يجروء على إلقاء النظرة الأخيرة عليها فأطفأ النور. ثم. . ثم غادر الغرفة ينوي الرحيل من المدينة حالا. ولما مر بغرفة النوم لاحظ أنها لا تزال مضيئه فعول على إطفاء نورها. . أندفع إلى تلك الغرفة وهو محتفظ بشعوره متمالك نفسه، وسرعان ما وقع بصره على شيء أعمته غيرته الجامحة عن رؤيته قبل الجريمة فقذف بنفسه عليه. . . أنه عقب لفافة تبغ تحت تلك المنضدة. . فانتشله ونظر إلى علامته، فاضطرب واهتزت أوصاله وزفر زفرة كادت تقضي عليه. . إنها العلامة الموجودة على لفافات التبغ التي اعتاد تدخينها والتي يحفظ علبتها بدرج خاص مقفل، مفتاحه لا يفارق جيبه أبداً. . . ولكن ما مضى فات وذهبت نفسان بريئتان من غير ذنب. فقد تجلت الحقيقة له، فإن ذلك الدليل كان عقب لفافته التي تركها قبل سفرته المزعومة. .
في تلك اللحظة الرهيبة استمرت بين جوانبه نيران الإثم وحز قلبه الألم الممض. . .
وهنا أحس الزائر بأنه يكاد يختنق فعالج الكلام في صوت كأنه الحشرجة وقال:
- نعم أيها الرئيس، تلك اللفافة كانت لي فقفز الرئيس واقفا على قدميه وراء مكتبه وصرخ:
- لك!
- نعم - ليساعدني الله - أنا جين أرنوت!
س. ع