المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1001 - بتاريخ: 08 - 09 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٠١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1001

- بتاريخ: 08 - 09 - 1952

ص: -1

‌صيحة في وجه وزارة المعارف

صححوا أكاذيب التاريخ

للأستاذ سيد قطب

إن تلاميذنا وطلابنا لا يعرفون شيئا حقيقيا عن الأحداث الجارية في وطنهم اليوم، بسبب أنهم لا يعرفون شيئا حقيقيا عن الأحداث الجارية في وطنهم اليوم، بسبب انهم لا يعرفون شيئا حقيقيا عن تاريخ بلادهم، ولا عن الأسباب والملابسات البعيدة، التي عنها نشأت الأحداث الجديدة.

لقد تآمر جماعة من المرتزقة - من مؤلفي كتب التاريخ المدرسية، مع العهود الظالمة الباغية التي أظلت مصر منذ عهد محمد علي، على كتابة تاريخ مزور، يطمس الحقائق ويشوها، وبذلك بقيت طبيعة الفترة ما بين سنتي 1800 - 1950مجهولة لدى جميع الأجيال التي خرجتها المدارس المصرية في ذلك العهد الطويل. والقليلون الذين اطلعوا على مراجع أجنبية لم تمتد إليها يد التزوير المصرية، لم يكونوا يملكون إذاعة الحقائق، لأن سيف الطغيان كان مصلتاً على الرقاب!

لقد كان الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي هو أجرأ من كتبوا عن تاريخ هذه الفترة. ولكن هنالك حقيقتين يجب أن نعرفها:

الحقيقة الأولى: أن الأستاذ الرافعي لم يكن يملك أن يقول كل شيء عن الحكام من أسرة محمد علي؛ لأن هنالك أشياء كان يعاقب عليها القانون لو قيلت. في أي تعبير وعلى أي شكل. ولم يكن يسمح بطبعها ونشرها في أي عهد من العهود.

وأذكر على سبيل المثال أن المؤرخ أحمد شفيق (باشا) كانت له مذكرات من أواخر عهد إسماعيل إلى آخر عهد عباس الثاني. وكنت أشتغل معه في إعداد هذه المذكرات للنشر. وكانت تحتوي على شناعات ليست المخازي الأخيرة لفاروق إلا طرفا منها وامتدادا لها. ففي هذه الأسرة لوثة وشذوذ لا شك فيهما لمن يتتبع تاريخ أفرادها. وكنت أحاول أن أنشر شيئا من الحوادث الكثيرة الواردة بتلك المذكرات الخطية. ولكن القوانين التي سنها الملوثون لحماية أنفسهم وعروشهم كانت تحول بيني وبين هذا. لأن الرجل كان قد ائتمنني على مذكراته، ولم يكن من الأمانة أن أعرضه وهو شيخ كبير للاتهام والمحاكمة! ومرة

ص: 1

واحدة حاولت أن أنشر في الجزء الخاص بعباس الثاني، بعض ما حوته المذكرات من وقائع، مما تسمح القوانين القائمة بنشره. ولكن عندما تم طبع هذا الجزء في مطبعة بنك مصر، وقبل توزيعه، اتصل الأمير محمد علي - وكان بعضهم قد أبلغه - بالمشرفين على المطبعة، كما اتصل بالسراي، وبالنائب العام، لوقف صدور هذا الجزء إلا بعد تعديله. وأجبر الرجل المؤرخ على تغيير صفحات كثيرة، واستغرق ذلك مني جهدا جديدا. وبذلك اختفت نهائيا تلك الحقائق والوقائع التي لا يعرفها إلا القليلون.

ولقد رجوت الرجل في أن يودع لدي الأصول الخطية لمذكراته، فقد يجيء اليوم الذي يمكن نشرها فيه، ووعدني بهذا، ثم بدا له خاطر أن يودعها في صناديق مقفلة تحفظ في دار الكتب المصرية إذ ذاك. . ولكن المنية عاجلته قيل أن يفعل. وعلمت مع الأسف أن معظم هذه المخطوطات قد أعدمه أولاه. وأرجو ألا يكون ما بلغني صحيحا.

ولقد كان في وسعي أن أنقل لنفسي بعض هذه المخطوطات. ولكن وقف في وجهي أنني كنت أمينا عليها، وأن الرجل كان واثقا بأمانتي!

والحقيقة الثانية أن الكتب المدرسية التي لا يقرأ معظم المتعلمين غيرها في تاريخ تلك الفترة، هي التي طبعت غالبية العقليات. وهي كتب مزورة كما قلت. ومع هذا فهي لا تزال مقررة في المدارس. وهذه مسالة خطيرة جدا.

لقد تركنا أجيالا من التلاميذ والطلاب في خلال مائة وخمسين عاما مضللة، لا تعرف شيئا حقيقيا عن أخطر مرحلة في تاريخ مصر الحديث، بل في تاريخ الشرق كله.

تركنا هذه الأجيال كلها تفهم أن محمد علي أوجد مصر الحديثة من العدم. ولم يكن هذا صحيحا؛ فمصر كانت قبل محمد علي أقوى بكثير في جوانب شتى. ويكفي أن نعرف أن الفرنسيين عندما استولوا على مصر خاضوا مع الشعب معارك كثيرة وفي كل مكان قبل أن تخضع مصر لهم؛ وظلت الثورات الشعبية تهددهم طوال مدة إقامتهم. وكان ذلك قبل استيلاء هذه الأسرة الملوثة الشاذة على مقاليد الحكم في البلاد. بينما الإنجليز وجدوا الطريق أمامهم مفتوحة بعد نصف قرن فقط، ولم يجدوا مقاومة شعبية تذكر؛ لأن طغيان هذه الأسرة كان قد حطم كبرياء الشعب وروحه المعنوية في أوائل عهد توفيق!

تركنا هذه الأجيال كلها تفهم أن تحطيم محمد علي للحركة الوهابية في الجزيرة العربية كان

ص: 2

عملا عظيما. وهو في حقيقته كان جناية تاريخية على النهضة الإسلامية التي كان يمكن أن تبكر مائة عام عن موعدها، لو تركت هذه الحركة تمضي في طريقها، وتبلغ أهدافها في ذلك الحين.

تركنا هذه الأجيال كلها تفهم أن ثورة المهدي في السودان كانت عملا عدائيا بالنسبة لمصر، وأن مصر ردت هذا العمل العدائي وحطمت المهدي وثورته. والحقيقة أن ثورة المهدي في السودان كانت ضد الحكم الإنجليزي في مصر وضد الحكام الخاضعين للاحتلال. وكان هدفها تطهير الوادي من الاحتلال الأجنبي وسيطرة الفكرة الإسلامية على الوادي كله. وكان القضاء عليها هو الخيانة الوطنية التي ارتكبتها حكومة مصر تحت ضغط الاحتلال؛ ثم ظلت هذه ثغرة بين شطري الوادي؛ كما أراد لها الاستعمار أن تكون!

تركنا هذا الأجيال تفهم أن إسماعيل كان حاكما عظيما وأنه أحد بناة الدولة العظام؛ وسترنا فصائحه التي لا تقاس إليها فضائح فاروق نفسه؛ وسترنا الكوارث التي جرها على الوطن والشعب؛ وتركنا الآلام التي جرعها لشعب مصر في حياته وبعد مماته، وسميناه ساكن الجنان! وسميناه المغفور له! والله يعلم أين مثواه ومثوى آبائه الأولين!

ولقد آن أن نصحح التاريخ الذي زوره المزورون على هذه الأجيال الكثيرة. آن أن نعرف من هو محمد علي على حقيقته. وما هو الشذوذ الكامن في شخصيته، والذي ورثه أبناءه من بعده. وهو شذوذ واضح كتب عنه الكثيرون، ولكنه كان محظورا على الشباب أن يعرفوه!

آن أن نعرف من هو إسماعيل على حقيقته ما هو الشذوذ الكامن في شخصيته، والذي ورثه أبناءه من بعده، وهو شذوذ واضح، كتب عنه الكثيرون، ولكنه كان محظوراً على الشباب أن يعرفوه!

نعم آن لنا أن نصحح كتابة التاريخ الذي تدرسه الأجيال المقبلة، وكفانا تزويرا وتضليلا، فعلى أساس هذا التزوير والتضليل قامت تلك القداسة المصطنعة لمحمد علي وأسرته. هذه الأسرة التي لم تبتل مصر بشر منها ومن حكمها في خلال مائة وثلاثين عاما.

نعم آن أن تتحرر الأجيال المقبلة من خرافة (الأسرة المحمدية العلوية) التي أوجدت مصر من العدم. ولم يبق إلا أن يقال: إنها هي التي حفرت مجرى النيل، وردمت الدلتا بالطمى،

ص: 3

وخلقت وادي النيل!

سيد قطب

ص: 4

‌صوت من الماضي

أنا الملك الفتى. .!

للأستاذ محمد محمود زيتون

لبس سليمان بن عبد الملك يوما حلة وعمامة، ونظر في المراة، فأعجبته نفسه، ونفخ الشيطان في منخريه، فقال:

أنا الملك الفتى

وكان إلى جواره، إحدى جواريه، فأنطلق لسانها يقول:

أنت نعم المتاع، لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للإنسان

ليس فيما علمته فيك عيب

كان في الناس، غير أنك فان

ولم ينقض أسبوع حتى مات الخليفة الشاب الذي لم يعرف التاريخ أشد منه حبا للطعام والشراب والنساء، في حقبة لم تتجاوز ثلاث سنوات، احتفلت بالترف والبذخ، وطفحت بالزيغ والفساد، والتحزب والتعصب، والنكال بالأخيار، ومداراة الأشرار.

قيل إن أباه - عبد الملك بن مروان - جاءه نبأ مصير الخلافة إليه. وهو جالس يقرأ في المصحف، فأطبقه وقال:(هذا آخر العهد بك). فما لبث هذا التقى أن استهوته الدنيا بزخرفها، فتغير حاله، وأطلق العنان لفرعون بين أميه - الحجاج ين يوسف الثقفي - الذي ولغ في الدماء والأشلاء. وحسب التاريخ مؤاخذة لعبد الملك أن كان الحجاج سيئه من سيئاته.

ورث سليمان عن أبيه دولة وصولة، وجمع مثله بين النقيضين، فإنه غمط فضل العاملين، ولم يستشعر جهود القادة الفاتحين الذين وطدوا له دعائم الخلافة، ومكنوا له في الملك العريض، فقلب لهم ظهر المجن، ولا سيما من كان فيهم قريبا للحجاج أو مقربا من، وذلك لما كان بينهما من عداوة قديمة. فقد كان الحجاج يهمل أوامره ويتكبر عليه أيام كان سليمان ولي عهد أخيه الوليد، ومن هنا امتد بغضه للحجاج حتى عصف بأشهر القادة.

واتبع سليمان خطة الإيقاع بين الولاة والأمراء، فدبت عقارب الفتنة بينهم، وتسللت أفاعي الفساد إلى الحكومة، ويئست الأمة من الإصلاح، وقبع كل صالح في عقر داره يلتمس النجاة.

ص: 5

ولم يدخر وزيره الصالح وابن عمه عمر بن عبد العزيز وسعا في بذل النصيحة له، ولكن جذور الشر كانت قد بلغت الأعماق في كل مرافق الدولة. ولم يكن عجبا - آخر الأمر - أن تنهار دولة الأمويين بعد اثنين وثمانين عاما، حملت خلالها جراثيم الانحلال والتدهور، فقد سئل حكيم: ما سبب زوال ملك بني أمية مع كثرة العدد والعدد، والأموال والموالي؟ فأجاب، وأحسن الجواب: لأنهم أبعدوا أصدقائهم ثقة بهم، وقربوا أعدائهم جهلا منهم، فصار الصديق بالإبعاد عدوا، ولم يصر العدو بالتقريب صديقا.

وفي ذات يوم دخل الملك الفتى. مدينة رسول الله فسأل: هل بالمدينة أحد من أصحاب رسول الله؟ فقيل له: أبو حازم، فأرسل في طلبه، فلما دخل عليه سأله: يا أباحازم، ما لنا نكره الموت؟ فأجابه: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنقلوا من عمران إلى خراب. . . وأغضى الملك الفتى، ثم أخذ يستزيد أبا حازم: وكيف القدوم على الله؟ فقال: أما المحسن فكغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكآبق يقدم على مولاه

وبكى أبو أيوب، ثم قال: يا ليت شعري، ما لنا عند الله؟. . فقال له أبو حازم:

أعرض عملك على كتاب الله. فسأله: في أي مكان أجده؟ قال: في قوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم). فقال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: قريب من المحسنين. فقال: فأي عباد الله أكرم؟ فأجاب: أولو المروءة

وكان وزيره الأمين شديد الحرص على قول الحق، تأخذه في فيه لومة لائم. اصطحبه يوما في الحج، فراع الخليفة عدد الرمل والحصى من رعاياه، فتلفت إلى وزيره وقال: ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يسع رزقهم غيره؟ قال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء رعيتك اليوم، وهم خصماؤك غدا عند الله. فبكى سليمان اشد البكاء. وقال: بالله أستعين.

وفي الواقع أن لحظات الندم التي كانت تطرق ضمير الملك الفتى، لم تكن غير فواصل عنكبوتية بين طغيان موصول، واستبداد متأصل، فقد أسرف يوما على الدنيا، فأعجبه ما صار إليه من الملك الذي نسجته دماء الشهداء، ودموع الفقراء، فنسى هذا كله أو تناساه، وتلفت إلى الوزير المؤمن وقال له: يا عمر، كيف ترى ما نحن فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عديم، وملك لولا أنه هلك، وفرح لو

ص: 6

لم يعقبه ترح، ولذات لو لم تقترن بآفات، وكرامة لو صحبتها سلامة.

وبكى سليمان ما شاء ولم يكد يضيق مما في حتى دخل عليه أعرابي يقول: يا أمير المؤمنين، إني أكلمك بكلام فاحتمله، فإن وراءه إن قلبته ما تحب. فقال: هاته يا أعرابي. فقال الأعرابي:

إني أطلق لساني بما خرست عنه الألسن، تأدية لحق الله، أنه قد اكتنفك رجال فد أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنيا لك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة، وسلم للدنين، فلا تأمنهم على ما استخلفك الله عليه، فإنهم لن ينالوا بالأمانة، وأنت مسؤول عما اجترموا، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس عند الله عيبا من باع آخرته بدنيا غيره.

عندئذ صعر الملك الفتى خده للأعرابي الذي قدم ينصحه بتطهير حاشية السوء، وبطانة الفساد، واستكثر أن يكون ذلك التوجيه منبعثا من أعرابي، فقال: أنت، ما أنت بأعرابي، فقد سللت لسانك علينا كما تسل سيفك. فأجابه في جرأة: أجل يا أمير المؤمنين، لك لا عليك.

ويشاء مالك الملك أن تنقشع هذه الغمة الغليظة التي جثمت على صدر الخلافة، فأحس الملك الفتى بقرب منيته، وآن له أن يستخلف بعد أن عهد إلى ابنه أيوب بالخلافة لولا أنه مات في حياة أبيه، ولم يبق لسليمان إلا صبية صغار، أمر بأن يعرضوا ما عليه في أردية الخلافة، فإذا بهم لصغر أسنانهم لا يحتملون ما لبسوا، وأخذوا يسحبونها سحبا، ويتعثرون فيها، فنظر إليهم وهو يقول في حسرة:

إن بني صبية صغار

قد أفلح من كان له كبار

فقال عمر: يا أمير المؤمنين، يقول الله تعالى (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى). فلم يلتفت إليه الملك المريض وأمر بأن يعرض عليه أولاده مرة أخرى عليهم السيوف ذات الحمائل، فعرضوا. فإذا بهم يتكفأون بها، ويجرونها، ولا يطيقون حملها، والسير بها، فنظر إليهم، والدمع يغالبه، وهو يقول:

إن بني صبية صيفيون

أفلح من كان له ربعيون

وأعاد عليه عمر ما قال آنفا، فأغمض جفنيه قليلا، وكأنه أقتنع بأن الخلافة زائلة عنه وعن

ص: 7

اعقابه، فأشير عليه بان يعقد لأبن عمه ووزيره عمر بن عبد العزيز، فأدار الأمر في رأسه حتى لم يعد مناص من القبول.

وأشتد به الوجع فكتب له العهد بخطه، ولم يطلع عليه أحدا غير رجاء بن حيوة الذي بالغ في التكتم حتى أنه لم يذكر من ذلك لأحد شيئا إلا بعد موت الملك الفتى، ففي آخر صحوة له قال: لأعقدن عقدا لا يكون للشيطان فيه نصيب

وحضره إذ ذاك عمر، ففهم بفطنته أن الخلافة قد أتته تجر أثقالها، فأوجس خيفة، وأفضى بذلك إلى رجاء، فتظاهر رجاء بالإنكار قائلا على سبيل التمويه: أتظن بني عبد الملك يدخلون في أمورهم؟!

فاطمأن عمر أو هكذا حاول أن يطمئن، فلما أعلن النبأ وبويع بالخلافة، طلب إلى أحد خلصائه أن يعظه فقال:

يا أمير المؤمنين، أبونا آدم، أخرج من الجنة بخطيئة واحدة

محمد محمود زيتون

ص: 8

‌سيادة الشعب

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

أقسمنا على أن نحرر أمتنا من الطغيان ومن المذلة والعار -

أو نموت دون ذلك

محمد نجيب

أفاق الناس كأنما كانوا في حلم مروع، وأنزاح عنهم كابوس ثقيل جثم على صدورهم ليلة كان طولها ستة عشر عاما!! سبحانك ربي تعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير وأنت على كل شيء قدير.

بلغ السيل الزبى وجاوز الطغيان مداه وبلغت القلوب الحناجر وراح الناي يتساءلون: أما لهذا الليل من آخر؟؟

وحار الناس في امرهم، وأشفقوا على مصير وطنهم: فحيثما نظروا وجدوا ظلما صارخا وفسادا قائما وفوضى لا أول لها ينظر ولا آخر لها ينتظر. أخلاق تنهار ونجتمع يضمحل وحكم فاسد وفساد يستشري. قتل للأبرياء الأحرار وسجن وتشريد ونفي وتعذيب. . . رشوة ومحسوبية، سرقة ونهب، ظلم وغدر: تلك هي قواعد الحكم.

وأشهد أني قرأت الكثير من كتب التاريخ ولكن ما شاهدته مصر لم تقرأ عيني له نظيرا!!

ويئس كثيرون ولكني كنت دائما أقول (إذا غفلت عين لإنسان فلن تتخلى عنا عناية الرحمن)

وأخيرا جاء اليوم المرتقب وأشرق العهد الجديد السعيد بمشيئة الله. وكان ذلك يوم 23 يوليو 1952.

أستيقظ الناس من نومهم واستمعوا إلى المذياع. أنه يتلو نداء جديدا. الله أكبر، هذا يوم كان الشعب ينتظره بفارغ الصبر.

لقد كان الجيش ينادي بزوال عهد الفساد والطغيان وبقيام الحكم الصالح في ظل الدستور.

وأشفق المصريون جميعا على رجال الجيش البواسل وانطلقوا يدعون الله أن يكلأهم بعنايته وأن يوفقهم في حركتهم.

ص: 9

وأشهد أن الناس قد أخذوا جميعا بحركة الجيش. لقد كان الملك السابق يعتمد على الجيش في إذلال الشعب وكان الشعب على أتم استعداد لمقاومة الطغيان لو ضمن حياة الجيش.

ونسى الطاغية أن الجيش من الشعب وللشعب وأن الولاء إذا قام حينا على أمل الإصلاح فلن يقوم دواما على الفساد.

وامتدت حركة الفساد إلى الجيش ونكل بالأحرار من رجاله وقتل بعضهم جهارا في شوارع العاصمة.

وكان ما لا بد أن يكون، قام الجيش في 23 يوليو يضع حدا للظلم، وللطغيان، والفساد.

وكانت الحوادث أسرع مما تصروا الناس. وجاء يوم 26 يوليو 1952 وجلست أستمع إلى المذياع وإذا به يذيع (انتظروا بيانا هاما في الساعة السادسة) وكرر المذيع ذلك النداء مرارا، وأشهد أن هذا التكرار قد أشاع القلق في نفسي ورحت أتساءل: ترى ماذا يكون هذا النبأ؟ وأخذت أحسب الثواني والدقائق حتى إذا كانت الساعة السادسة انطلق المذيع يتلو بيان اللواء أركان حرب محمد نجيب:

بني وطني

إتماما للعمل الذي قام به جيشكم الباسل في سبيل قضيتكم قمت في الساعة التاسعة من صباح اليوم بمقابلة حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء وسلمته عريضة موجهة إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول تحمل مطلبين على لسان الشعب: الأول أن يتنازل جلالته عن العرش لسمو ولي عهده قبل ظهر اليوم. والثاني أن يغادر جلالته البلاد قبل الساعة السادسة مساء.

قد تفضل جلالته فوافق على المطلبين وتم التنفيذ في المواعيد المحددة دون حدوث ما يعكر الصفو. .

استمعت إلى البيان وكاد قلبي يقفز من بين ضلوعي ولم تصدق أذناي ما سمعت فانطلقت إلى الشارع أشارك الشعب سروره وابتهاجه ورحت أطوف بالشوارع والطرقات فوجدت الناس من فرط السرور لا يعرفون كيف يستقرون على حال.

لقد كان زوال الظلم والطاغية حلما ولكنه أصبح الآن حقيقة واقعة، وهكذا أدركت مصر عناية الرحمن وعاد لشعبها سلطانه وسيادته.

ص: 10

الثورة المجيدة

كنت أقرأ في كتب التاريخ قصصا خالدة كتبتها جيوش بعض الأمم حين وقفت تدافع عن حرياتها الداخلية وكنت أتساءل دائما: لم لا يقف جيشنا يدافع عن حريتنا الداخلية كما يدافع عن أرضنا ضد العدو الأجنبي وكما فعلت جيوش تلك الأمم؟؟ وجاء الرد يوم 23 يوليو المبارك.

وإني هنا أصف للقراء تلك المواقف. في 1688 كان يحكم إنجلترا الملك جيمس الثاني وكان كاثوليكيا متعصبا يؤمن بالحق الملكي المقدس ميالا إلى التسامح مع الكاثوليك ولذلك كرهه الشعب والبرلمان. وكان الشعب يمني نفسه بأنه عند انقضاء أجل جيمس الثاني ستعتلي العرش ابنته ماري وكانت بروتستانتية ولكن في 1688 ولد لجيمس ولد من زوجته الكاثوليكية وبذلك صار وارثا للعرش. فلم يطق الشعب صبرا وقار ضد جيمس وأستدعى ماري وزوجها وليم أورنج من هولندا للحضور إلى إنجلترا لتوالي العرش فقدما.

أرسل جيمس جيشا ليحول بينهما وبين النزول في أرض إنجلترا ولكن الجيش رفض أن يحارب الشعب وانظم إلى صفوفه في الترحيب بماري ووليم وأسقط في يد جيمس واضطر أن يغادر إنجلترا إلى فرنسا. وتعرف هذه الثورة بثورة 1688 المجيدة.

بعد فرار جيمس اجتمع البرلمان وقرر أن عرش إنجلترا خال ودعا ماري ووليم لاعتلائه، وكان هذا معناه أن الملك مولى من قبل الشعب وبذلك سقطت نظرية التفويض الإلهي واستقر الحكم الدستوري الملكي في إنجلترا.

وفي فرنسا قامت ثورة 1830 ضد ملك طاغية هو شارل العاشر. كان هذا الملك رجعيا ظالما لا يؤمن بحرية الشعب ومن ثم عمد إلى مقاومة الحياة النيابية وتعسف ضد أعضاء البرلمان ولكنهم قاوموه. فحل المجلس أكثر من مرة وعدل قوانين الانتخابات وقيد حرية الصحافة وضاق الشعب ذرعا به فقام بالثورة ضده في 26 يوليو 1830

وأمر الملك الجيش بمحاربة الثوار، ولكن الجنود رفضوا مقاتلة أبناء وطنهم الذين قاموا يدافعون عن حرياتهم وانظموا إليهم.

وأسقط في يد الملك وسقط عن عرشه وغادر أرض فرنسا إلى غير رجعه.

وتولى العرش بعده لويس فيليب وكان مفروضا أن تستقر الديمقراطية في عهده ولكن هذا

ص: 11

الملك فشل في تحقيق الديمقراطية في داخل فرنسا فزيف الانتخابات واشترى ذمم النواب ووقف ضد رغبات الشعب فكرهه الشعب.

وزادت كراهية الشعب له بسبب ضعف سياسته الخارجية، ذلك أن فرنسا كانت تحب أن ترفع رأسها في أوربا وأن تكون لها الكلمة العليا في شؤون القارة كما كان الحال في عهد نابليون.

ولكن لويس فيليب كان ضعيفا متخاذلا ومن ثم عمل دائما على الخضوع لرغبات إنجلترا وكانت إذ ذاك أكبر أعداء فرنسا.

من ذلك أن فرنسا رفضت أن تعطي إنجلترا حق تفتيش سفنها بحثا عن العبيد المهربين، وكان ذلك في عهد لويس الثامن عشر وشارل العاشر، ولكن لويس فيليب وافق على ذلك، وكان في هذا إذلال الفرنسيين وجرح لشعورهم. من ذلك أيضاً أن فرنسا وقفت بجانب محمد علي أثناء الأزمة المصرية 1840 واعتقد محمد علي أن فرنسا ستقف بجواره في حالة قيام الحرب بينه وبين إنجلترا. ولكن لما أشتد الخلاف وأصبحت الحرب وشيكة الوقوع تخلى لويس فيليب عن حليفه محمد علي وتركه يتلقى وحده ضربات إنجلترا وحلفائها.

وأضعفت هذه السياسة المتخاذلة مركز لويس فيليب. وهكذا عجز لويس فيليب عن تحقيق الديمقراطية في داخل فرنسا وعن إحراز المجد لها في الخارج.

وأخيراً ثار الشعب ضده في فبراير 1848 وأمر الملك الجيش بمقاومة الثوار ولكن الجند رفضوا مقاتلة إخوانهم أنصار الحرية واضطر الملك أن ينزل عن عرشه وان يغادر فرنسا إلى غير رجعة أيضا.

تلك هي مواقف خالدة لبعض الجيوش الوطنية التي قامت لحماية حرية شعوبها.

ولكن حركة الجيش المصري الأخيرة كانت أروع الحركات التي سجلها التاريخ المعاصر.

مصدر السلطات

تذهب الدساتير حديثة جميعا إلى أن الشعب مصدر السلطات وهذه نظرية مقررة، ولكن أهم من تقريرها أن تكون نافذة وان يحرص الشعب فعلا على حقوقه فلا يتركها للمضللين والمفسدين.

ص: 12

وهذه النظرية ليست حديثة كما يعتقد بل إنها قديمة، وهي كذلك ليست نظرية مقررة في الغرب فقط وإنما هي نظرية مقررة في الشرق منذ جاء الإسلام.

واستمع إلى قول أبي بكر حين تولى الخلافة (أيها الناس: قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).

وهكذا قامت الحكومة الإسلامية الأولى على أساس اختيار الشعب وحددت سلطة ولي الأمر، فإذا عصا الله وجب عزله، وكان خوف الخلفاء من الله أكبر عاصم لهم من الزلل.

وفق الله قادة العصر الجديد إلى ما فيه خير الشعب وسعادته، ورعى الله كنانته وحفظ لشعبها سيادته وبارك لها في جيشها الباسل.

أبو الفتوح عطيفه

ص: 13

‌زعماء الحركة القومية

السيد محمد كريم

للأستاذ عبد الباسط محمد حسن

- 1 -

يعتبر السيد محمد كريم أول زعيم من زعماء الحركة القومية. ظهر في مصر قبل أن يظهر فيها سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد عرابي. . فكانت حركته بذلك أول صفحة من صفحات الجهاد القومي في تاريخ مصر الحديث.

ولقد كان السيد محمد كريم شخصية فذة، وزعيما حقا من زعماء الوطنية المصرية. . فاستطاع بمفرده ان يبث الشعور القومي في نفوس أهالي الإسكندرية. . وجعلهم يواجهون جيوش الثورة الفرنسية في سنة 1798م.

تلك الجيوش التي كانت لا تزال في عنفوان قوتها ومجدها. . والتي كان يقودها نابليون بونابرت. . أعظم شخصية حربية ظهرت في أوربا خلال القرن الثامن عشر!

وبعد أن احتل الفرنسيون أرض مصر، لم يتوقف السيد محمد كريم عن الكفاح لحظة واحدة، ولم يخضع لمشيئة نابليون، ولم يطأطأ رأسه كما فعل كثيرون غيره. . بل أخذ يثيرون روح الكراهية في نفوس الأهالي ضد الحاكم الجديد. . الذي لم يرغب من نزوله بمصر إلا أن يستبدل حكما بحكم. . واحتلال باحتلال. . وظل السيد يوالي نشاطه واتصالاته بالبلاد التي تمر بها الجيوش الفرنسية. . في طريقها إلى مصر. . لتمنع الماء عن رجال الحملة. . ولتقابلهم بكل ما استطاعت من أنواع المقاومة.

ولما ضاقت القيادة الفرنسية بجهود السيد محمد كريم. . اتهمته بخيانته للجمهورية الفرنسية، وإثارته العصيان في نفوس الأهالي. . وحكمت عليه بالإعدام رميا بالرصاص. . وبذلك أصبح بجانب زعامته للشعب، أول شهيد من شهداء الحرية. . في عهد الحملة الفرنسية.

نشأ السيد محمد كريم في مدينة الإسكندرية نشأة عادية. . كغيره من شبان الثغر. . ولم تكن للإسكندرية قيمة كبيرة في ذلك الحين. . بعد أن تحول عنها طريق التجارة القديم، ففقدت

ص: 14

بذلك مركزها التجاري العظيم.

وكان جمرك الإسكندرية في يد مراد بك. . يولي عليه من يشاء. . ويعزل من يشاء. . نظير إيراد معلوم.

فلما كبر السيد محمد كريم، ونما عوده، اشتغل قبانيا وكان مشهورا بالصدق والأمانة، والنشاط وخفة الحركة. . ولذلك سرعان ما عرف اسمه. . وذاع صيته. . حتى سمع به مراد بك. . حاكم مصر. . . وزعيم طائفة من أكبر طوائف المماليك. . فعينه مديراً للجمارك. . ثم حاكما عاما لمدينة الإسكندرية. . وقد استطاع السيد محمد كريم - بعد أن تسلم مهام منصبه الجديد - أن يحكم البلاد بحكمة وحزم. . وأن يعامل الأهالي معاملة طيبة. . ولذلك احترمه الناس وأحبوه.

وفي شهر يونيه سنة 1798م. . وصلت الأخبار إلى أهالي الإسكندرية. . بأن حملة أوربية تعتزم احتلال مصر.

وكان المصريون في ذلك الوقت. . لا يزالون يحملون في أنفسهم تلك العقيدة المتوارثة عن عظمة السلطان. . وقوة المسلمين.

ولذلك عقدوا العزم على محاربة الجيش الأجنبي، والوقوف في وجهه. . مهما بلغت قوته.

ومن سوء الحظ أن وصل الأسطول الإنجليزي الذي كان يتعقب الفرنسيين - إلى ميناء الإسكندرية قبل وصول الحملة بأيام. . وحاول نلسن قائد الأسطول البقاء في مياه الإسكندرية في انتظار الحملة الفرنسية. . وعرض على السيد محمد كريم أن يسمح بإمدادهم بالماء والمؤونة اللازمة لمقامهم. . لكن الحاكم رفض طلبه. قال الأستاذ عبد الرحمن الرافعي:

(ولعل السبب في رفضه أنه أساء الظن في مقاصد الأميرال نلسن لأن الإشاعات التي كان الناس يخوضون فيها ذلك الحين، تنبئ أن (الإفرنج) يعتزمون احتلال مصر. . وكلمة (إفرنج) كانت تتناول الفرنسيين والأوربيين على السواء. . فخشي أن يكون طلب الأميرال نلسن خدعة لها صلة بالحملة المقبلة).

ولم يكتف السيد محمد كريم بالرفض، وإنما أعطاهم مهلة قصيرة لكي يبرحوا المياه المصرية، وإلا أطلق عليهم النيران.

ص: 15

وعبثا حاول الإنجليز أن يفهموه خطر الحملة القادمة. . فقد وجدوا منه إصراراً وعناداً شديدين.

ولم ير (نلسن) أن يضيع وقته في مناقشات لا فائدة منها. ولذلك قرر الانسحاب عن الشواطئ المصرية.

يقول الجبرتي:

(وفي يوم الخميس الثامن شهر المحرم عام 1213هـ، الموافق 1798م. . ظهرت في ميناء الإسكندرية عشرة مراكب حربية. . وأرست بعيدا بحيث يراها أهل الثغر. . ولحق بها خمسة عشر مركبا أخرى. . وأرسلوا بعض الجنود إلى الشط في قارب. . فاستقبلهم كبار البلد، وعلى رأسهم السيد محمد كريم. . وسألوهم عن شأنهم. . فقالوا إنهم من الأسطول الإنجليزي حضروا للتفتيش عن مراكب الفرنسيين. . فقد علموا أنهم خرجوا في جيش كبير إلى جهة لا يعلمونها. . فلا تقدرون على دفعهم. . فلم يقتنع السيد محمد كريم والذين معه بصحة ما يقولون، وقابلوهم بجفاء فقال لهم الإنجليز:

- سنقف بأسطولنا في عرض البحر لنحافظ على ثغركم ولا نطالبكم إلا بالماء والزاد بالثمن الذي ترضونه. . فرفضوا طلبهم وقالوا:

(هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيين ولا غيرهم علينا سبيل فاذهبوا لشأنكم)

ولم يكد السيد محمد كريم يتخلص من الحملة الإنجليزية حتى أخذ يفكر في الخطر الجديد الذي بدأ يلوح في الأفق. . فالحملة الفرنسية التي وصلته أخبارها قد تأكدت لديه قدومها، بعد أن سمع حديث الأميرال نلسن. وعلم بنشاطه، وأصبح من الواجب عليه أن يعد للأمر عدته، وإلا سقطت الإسكندرية في أيدي المحتلين الأجانب. . وكان عليه أن يسرع بالعمل قبل أن يضيع الوقت، وتفوت الفرصة.

فبادر بالاتصال بمراد بك، وبالعرب المجاورين للثغر. . طالبا منهم المعونة. وأمر بتحصين أسوار المدينة. . كما طلب من الأهالي حمل السلاح. . استعدادا للكفاح القريب.

وباتت الإسكندرية كلها تترقب قدوم الحملة الفرنسية. حتى رأت وجه البحر وقد تغطى بالمراكب. . فعلمت حينئذ أن وقت الجهاد قد حان. . وان ساعة الكفاح آتية لا ريب فيها.

للكلام بقية

ص: 16

عبد الباسط محمد حسن

ص: 17

‌دماء الشهداء

شهيدان في كفن

للأستاذ عمر عودة الخطيب

(في تاريخنا الزاهر، دماء زكية خالدة، خطت آيته الكبرى،

ورسمت حدود عالم إسلامي واسع)

ع

- 1 -

قال (عمرو بن الجموح) لصديقه الوفي الحميم (عبد الله بن عمرو): -

- هل أتاك يا عبد الله حديث النبي الذي ظهر في مكة. . وأقبل عليه الناس من كل فج، يجتمعون إليه، ويؤمنون به، ويعاهدونه على أن ينصروه ويؤازروه، ويمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم؟

- أجل: لقد وفد على (يثرب) منذ أيام رجل من هؤلاء ما سمعت بمثل حديثه وما رأيت أكثر جرأة منه. . كنت اجلس إلى جواره، وكان المجلس حافلا. . وقد اجتمع الناس ليعلموا نبأ هذا النبي الذي سفه آراء قومه، وعاب آلهتهم، ثم لما عارضوه وآذوه، وقف في وجههم صابراَ ثابتا. . لا تهده النكبات، ولا تثنيه الأزمات. .

قال الرجل: إني رسول (محمد) إليكم، محمد رسول الله الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق، وهو يدعوكم إلى عبادة الله وحده، ونبذ هذه الأصنام التي تنحتونها بأيديكم، ثم تعكفون عليها، وتقدمون القرابين لها، وتهملون عقولكم أمامها، إن لهذا الكون خالقا مديرا حكيما، بيده مقاليد الأرض والسماء. . وهو الذي يقول لكم (وفي أنفسكم أفلا تبصرون. .)

قال (عمرو بن الجموح) وقد ثارت حفيظته عندما سمع حديث ذلك الرجل:

- ماذا قلت له (يا عبد الله)؟! وماذا قال له الناس؟! أحسبكم ضربتم عنقه، وأعدتموه إلى من أوفده، ليكف عن غزو (يثرب) بمثل هذه الأفكار، فنحن هنا إلى جوار (اليهود)، ولو كنا متخذين غير ديننا، لكان دين (يهود) أقرب إلينا. قال عبد الله:

ص: 18

- كلا. . يا عمرو: لقد أراد الله الخير بنا، إذ بعث لنا رسولا من انفسنا، من خير قبائلنا، وأشرف بقاعنا. . . يتلو علينا الكتاب بلسان عربي مبين، لقد آمن به الناس وآمنت، وأكرموا رسوله وأكرمت، وعاهدناه على الطاعة والوفاء. . ومن فضل الله علينا أن كان اكثر من في المجلس من شباب يثرب، ومن أعرقهم نسبا، وأكرمهم أبا، وأرفعهم عمودا، وأكثرهم يداً، يا عمرو. . لقد آمنت بمحمد. . وآمن به ابني جابر، وآمن أبناؤك معاذ ومعوذ وخلاد، فأسرع إلى النور، واعتصم بحبل الله، واستظل براية الإسلام، قبل أن يسكت اللسان، وينطق الحسام. .

صعق (عمرو بن الجموح) لهذا الخبر، فاسودت الدنيا في عينه، وذهل عن نفسه، وأصبح كالمحموم، ربي، وحقك، لا أتركك، ولن أدع يداً تمسك، وسوف أحملك إلى بيتي وأعبدك.

- 2 -

تحت جنح الليل والناس نيام و (يثرب) تحلم أحلامها العذاب بعد أن انسابت إلى كثير من بيوتها أشعة طاهرة من ذلك النور الإلهي الذي توهج في مكة، خرج ثلاثة أخوة جمعت بينهم وشائج الدم، وأواصر العقيدة، ووجد بين قلوبهم هدى السماء، وتعاقدوا على الفداء، وساروا في أزقة المدينة بخطى وئيدة، ونور إيمانهم يسعى بين أيديهم، وكان همسهم الخافت، وحذرهم الشديد، يدل على أنهم خرجوا لأمر ذي بال.

طرقوا باب جابر بن عبد الله فلباهم، قال معاذ:

- هل لك إلى خير وثواب جزيل؟

- أجل ما أحوجني إلى ثواب الله وخيره العميم فما ذلك؟

- هلم إلينا فإن يد الله مع الجماعة

تكاثر الفتية المؤمنون من بني سلمة قوم (عمرو) وفي طليعتهم معاذ، واجتمعوا على الكيد للصنم، وتسللوا في غفلة من عمرو إلى الدار، فطرحوه في بعض الحفر، وكان عمرو، والصنم في الحفرة، يحدث نفسه ويقول: لقد حفظت إلهي في بيتي، وضمنت بهذا السيادة في بني سلمة، والسدانة على أصنامهم، وسوف أنصح لقومي أن يحمل كل واحد ربه إلى بيته، يغسله ويطييه، ويعظمه كل صباح ومساء، ويدين له بالطاعة والولاء.

وفي الصباح رأى (عمرو) صنمه المقدس، الذي كان يحلم به طول ليله، منكبا على وجهه

ص: 19

في الحفرة، وقد علاه الرغام، فورم أنفه غصبا، وثارت حفيظته، ورفع الصنم من الحفرة وغسله وطيبه ثم قال، وهو يربت على الصنم -: وحقك لو كنت أعلم من صنع بك هذا لأخزيته، ثم نظر إليه نظرة صارمة، فيها بشائر من نور الهداية، لأنها أول الشك في هذه العبادة، ولأن فيها صرخة خافتة ضعيفة من العقل الذي خنقته الأكاذيب، وألجمه التقليد، ثم هب إلى سيفه وعلقه على الصنم وخاطبه قائلا: إن كان فيك خير فامتنع!

وجاء الفتيان في الليل - يجرون كلبا وربطوه في عنق الصنم، وأخذوا السيف وانطلقوا، وكأنهم أرادوا بربط هذا الكلب في عنق الصنم، أن يوقظوا بهذا الدرس الساخر عقلا وثنيا، استعبده الخشب والحجر، وكان درسا ناجحا مؤثرا، فحين أصبح عمرو سار إلى صنمه فألفاه ملقيا إلى جانب الكلب في الحفرة، فهان في عينيه، وصغر في نفسه وقال:

تا لله لو كنت إلهاً لم تكن

أنت وكلب وسط بئر في قرن

ثم قام إلى الصنم وحطمه، ودعا زوجه (هند) وأمرها بأن توقده، وتطبخ عليه ثم قال لها: اذهبي إلى أخيك عبد الله وابن جابر وقولي لهما: باني قد أولمت اليوم وليمة فإذا كان الليل فليغد إلى بيتي كل مسلم في يثرب، من بني سلمة

قالت (هند) وقد عمها البشر، وأستخفها الطرب.

حمدا لك يا إلهي! فلقد أسبغت علينا النعم، وصرفت عنا النقم، وبدلت شقائنا سعدا، وظلامنا نورا، وايم الله يا عمرو ما رأيت كاليوم أنسا وسرورا، لقد أحببتك حبا ملك على نفسي مذ كنت تغدو إلى بيت أخي عبد الله، وكان الحديث عنك يهز أوتار قلبي، ثم لما صرت إليك، كنت أزهو على أترابي بك، لأنك سيد قومك، وأكرم عشيرتك، ولكن هذا كله أمام إيمانك اليوم، قطرة من بحر، وحصاة بين در، فما أنت - الآن - بشر، بل أنت ملك كريم.

- 3 -

وكرت الأيام، وتتابعت على المسلمين أحداث، وظفروا بأعدائهم في بدر، وأعملوا في رقابهم السيوف، وسقوهم كؤوس الموت الزؤام، حتى كان (عمرو بن الحموح) يوما في مصلاه مقبلا على ربه يقرأ القرآن، مطمئن النفس، هانئ القلب، فإذا بصديقه (عبد الله) يدخل عليه فرحا مستبشراً، فتلقاه بالتحية والترحيب ثم قال له:

- ما ورائك يا عبد الله؟!

ص: 20

- لك البشرى يا عمرو فلقد ذهبت اليوم مع جمهرة من بني سلمة إلى بيت رسول الله، فقال لنا:(من هو سيدكم يا بني سلمة؟) فقال نفر منا: (هو الجد بن قيس على بخل فيه) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأي داء ادوأ من البخل، بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح)

فقال رجل من إخواننا المهاجرين: صدقت يا رسول الله، لقد رأيته يوم بدر، منقضا على الأعداء انقضاض الصقر على فريسته؛ وكان يقبل على الموت، إقبالا الإبل العطشى على الماء القراح، وكنت أرى فرسان قريش تفر من وجهه، وتتقي ضرباته الشداد، حتى أصابته ضربة بتار في رجله، فجعل يمشي على الأخرى، ويخوض الغمرات ببسالة وإقدام، ورأيت من صبره، يا رسول الله، ما ملأ نفسي إعجابا

رأى ابنه معاذا في إبان المعركة، وقد أصابته ضربة على عاتقه طرحت يده، فتعلقت بجلدة من جسمه حتى آذته، وأجهده القتال، فقال له بصوت فيه حنان الأب وشجاعة المؤمن:(يا معاذ ضع قدمك على يدك ثم تمطى حتى تطرحها، ودونك بعد هذا أعداء الله. .)

ولم يكد الرجل يتم حديثه، حتى رأيت البشر يملأ وجه الرسول، ويتلو قوله تعالى (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) فهنيئا لك يا عمرو!!

وسمع عمرو حديث صاحبه عبد الله بقلب يفيض فرحا، ويرقص طربا ثم قال: حسبي من الحياة - يا عبد الله - أن يرضى الله ورسوله عني، بعد أن حفتني عناية السماء، وأظلني لواء محمد.

- 4 -

كانت الشمس قد أرسلت تباشيرها، ونشرت خيوطها الذهبية على مشارف المدينة، وهضاب أحد، حين سمع (عمرو) جلبة وتكبيرا، وإذا مناد يقول: الصلاة جامعة! حي على الجهاد، فدعا زوجه (هندا) وأمرها أن تعد له سلاحه، وأن تصاحبه إلى المعركة، لتضميد الجرحى، وإثارة المشاعر ثم قال لها:

- أين أولادك يا هند؟!

- لقد أسرعوا إلى المسجد يا عمرو

- وهل لبسوا لأماتهم وتنكبوا سلاحهم؟!

ص: 21

لقد جهزتهم بيدي، ووصيتهم أن يكونوا صفا واحدا وألا يفارقوا رسول الله وقلت لهم:

اعلموا - يا أبنائي - أنه لا بد لهذه الدعوة من وقود، فكونوا أنتم وقودها، ولا بد لها من ضحايا، فكونوا انتم أول ضحاياها، واصبروا عند اللقاء، واشتدوا على الأعداء، واذكروا أن الجنة مثوى الشهداء الأبرار، وأستودعكم الله

- حييت (يا هند) من أم!! بمثل هذا الإيمان ننتصر، وبه تعلو راية القرآن وتنتشر، والآن ركضا معي إلى الجنة، إلى السعادة، إلى الله.

وفوجئ المسلمون في المسجد بدخول الشيح الجليل الأعرج (عمرو بن الجموح) متقلدا سيفه، متنكباً قوسه وهو يقول: سوف نهد لهم حتى ينقلبوا على أعقابهم صاغرين، أو يمرتوا بحد سيوفنا خاسرين.

وسمع أولاد عمرو صوت أبيهم، فأقبلوا نحوه، وحاولوا منعه من الخروج إلى ساحة المعركة، ولكنه راع المسلمين جميعا بإصراره على الجهاد، قال له أبناؤه:(قد عذرك الله ولا حرج عليك!!) فحزن حزنا شديدا، وآلى على نفسه أن يذهب، وأتى رسول الله وكان في جانب من المسجد، ووقف بين يديه وقال:

- يا رسول الله! إني بني يريدون أن يحبسوني من الخروج، فو الله إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.

فقال له رسول الله:

- أما أنت فقد أعذرك الله فلا جهاد عليك!. . .

فتطلع يعين كئيبة إلى السماء، وقد انحدرت الدموع على خديه حتى ابتلت لحيته ثم قال بصوت تخنقه الحسرات: يا رسول الله إني أرى يعيني هاتين، أن الشهادة مني قاب قوسين أو أدنى، وأن أمنيتي الكبرى أن ألقى ربي، تزملني الدماء، فلا تردني خائبا، روحي لك الفداء.

وحين رأى رسول الله إلحاف عمرو في الطلب، ورغبته الملحة في الجهاد، التفت إلى بنيه وقال لهم:(لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة. .) ولم يكد يسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم حتى استقبل القبلة، وقال على مسمع من الناس جميعا (اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني خائبا إلى أهلي) وامتلأت عيناه بالدموع، وساده صمت خاشع، ثم نظر إلى الرسول

ص: 22

وقال له: (يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟) فطمأنه رسول الله وابتسم وبان السرور في محياه، وإذا بعبد الله بن عمرو ومعه ابنه جابر يقبلان، فقال رجل من المسلمين لعمرو، هذا صاحبك عبد الله قد أقبل فطب نفسا، وتعانق الصديقان عناقا امتزج في فيه قلبان، وانسجمت روحان، وقال عبد الله لابنه جابر:(يا جابر إني أرجو أن أكون أول من يصاب، فأوصيك ببناتي خيرا).

ثم نظر إلى صديقه الحبيب عمرو وقال له بصوت يسيل رقه وعطفا، وكأنه يودعه الوداع الأخير:

- يا عمرو أتدري أين يكون اللقاء بعد الآن؟!

- أرجو أن يكون في دار البقاء في مقعد صدق عند مليك مقتدر

- 5 -

- وثار النقع، وصهلت الخيل، ولمعت السيوف، وحمى الوطيس في أحد، ونشب القتال، والتحم الفريقان، وأقبلت على رسول الله قائد المسلمين الأكبر، كتيبة متراصة من المشركين، قد احمرت منهم الإحداق، وثارت في نفوسهم الأحقاد، فوقف (عبد الله بن عمرو) في وجه المشركين، يفرق صفهم، ويفل عزمهم، ويناضل عن الرسول، وينافح عن الإسلام، ويحطم الفرسان، وجندل الشجعان، حتى صدق ظنه وأكرمه الله فكان أول شهيد في المعركة

واستلأم الأعداء، وأخذوا من المسلمين بالثأر، وانتقموا شر انتقام، فمثلوا بعبد الله الشهيد الأول في أحد أشنع تمثيل، جدعوا أنفه، وقطعوا أذنه، ولم يتركوه حتى هشموا عظمه، وشوهوا جسمه، ولما سجى بين يدي رسول الله أقبل ابنه جابر، وكشف الثوب عن وجه أبيه، ثم أكب عليه يقبله ويبكي

وسمع المسلمون من بعيد صوت امرأة نادبة، فشقوا لها الصفوف فإذا هي (هند) تبكي أخاها، وتوأم روحها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (ابكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها)

وانصرفت هند وصورة أخيها ماثلة أمامها، وملائكة السماء تظله بأجنحتها، وبشرى رسول الله تطئن نفسها، ولكن الدموع الحزينة كانت تملأ مقلتيها، ثم وقفت واجمة فزعة، وغامت

ص: 23

الدنيا في وجهها، وأظلم الكون أمامها، وجمدت الدموع في عينيها، فقد رأت - ويا لهول ما رأت، أبصرت زوجها (عمروا) وابنها (خلادا) مضرجين بالدماء، وقد فاضت منهما الروح إلى السماء، فهدها المصاب الرهيب، وأشجاها الدم الصبيب، وغرقت في لجة الأسى، وإذا بصوت الرسول الحبيب يخاطب الجاهدين فيقول (والذي نفس محمد بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح) فمسح هذا الصوت ما بنفسها من أشجان، وكان بلسم جراحها، وعزاء مصابها، فاحتسبت مصيبتها عند ربها، وتقدم رسول الله من الشهيد الباسل، وكشف عن وجهه وقال له:(كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة).

- 6 -

وعند الأصيل الكثيب، وقد مالت الشمس للغروب، وأقبل الليل ينشر أمامه ودائه الأسود القاتم. كانت (هند) المفجوعة، تتوكأ على عصاها، وتجر وراءها بعيرا حملت عليه شهدائها، وزوجها وأخاها وولدها، ميممة شطر المدينة، لتدفنهم هناك قريبا منها، فرأتها السيدة عائشة وكانت تسقي العطاش، فسألتها عن الخطب الذي حل بالمسلمين، فقالت لها:

- يا أم المؤمنين! أما رسول الله فسالم، وكل مصيبة بعده هينة، وأتخذ الله من المؤمنين شهداء

- ومن هؤلاء على البعير؟

- أخي عبد الله وولدي خلاد وزوجي عمرو بن الجموح وبينما السيدة عائشة تعزيها في شهدائها، جاء صائح يقول (أمر رسول الله بان يدفن الشهداء في موضع استشهادهم، فاتجهت شطر أحد، وعادت بشهدائها حتى وقفت أمام رسول الله فتلا قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) ثم نظر إلى عمرو وعبد الله وقال (كفنوا هذين المتحابين في الدنيا في كفن واحد، واجعلوهما مع خلاد في لحد واحد، وزملوهم بجراحهم فإني أنا الشهيد عليهم. . .).

دمشق - المزة

عمر عودة الخطيب

ص: 24

‌في بلاد الأحرار

للكاتب التركي الأستاذ أغا أغلو أحمد

بقلم الأستاذ أحمد مصطفى الخطيب

عندما استتب الأمر في تركية، وشرع في تنفيذ إصلاحاته العظيمة، ألف البروفيسور الكاتب التركي المعروف أغا أغلو أحمد، وأحد زملاء أتاتورك في الجهاد ضد الاستبداد كتابه الموسوم (في بلاد الأحرار) ليكون نهجا واضحا للذين الإصلاح عملا، والحرية خلقا، ومكافحة الطغيان طبيعة. . وقد كتبه بأسلوبه البليغ الساحر في شكل قصة شائقة خالية من الغموض والتعقيد، يستطيع أن يفهمها بكل سهولة ويسر، المتعلم مهما كانت ثقافته، ويستنير ويتعظ بها قادة الحكم ومحترفو السياسة مهما كانت نزواتهم وشهواتهم.

وقد خطر لي أن أنقل هذا الكتاب إلى اللغة العربية وأن أنشره في شكل مقالات متسلسلة أولا، ثم في هيئة كتاب مستقل ثانيا.

وإني أعتقد أن الفرصة قد سنحت لإخراج هذا الكتاب القيم على أي صورة. . . فثمة طاغ جبار يطرد من أرض الكنانة إلى غير عوده. . وقائد بار شجاع يتولى قيادة الأمة المصرية إلى حيث الشرف والعزة والكرامة والعدل. . . وشعب أبي متحرر أنقذ نفسه بنفسه من عهد فاجر جائر، يريد سلوك خير الطرق وأفضلها للوصول إلى أهدافه ومثله العليا. . أفلا يجب أن يكون لكتاب (في بلاد الأحرار) مكان على صفحات الرسالة الزاهرة لينير الطريق، ويرشد الضال، ويوقظ الهمم، ويضع الأسس ويصف الداء ثم الدواء.

أ. م. الخطيب

كنت أسيراً فشئت أن أكون حرا

كنت أسيراً، فشئت أن أكون حرا، وحطمت سلاسلي، وثقبت جدار الحصن. . فنفذت إلى الأرض الفضاء. وهناك تنفست الصعداء.

امتد أمامي براح شاسع. . ولم أكن عارفا إلى أين أتجه؟ ولا ماذا أعمل؟ خطوت بضع خطوات وأنا متردد محجم. . فوجدتني على مفرق طريقين. . فقرأت هذه الكتابة القائمة على رأس عمود هنا:

ص: 26

الطريق المؤدي إلى اليسار طريق الحرية

الطريق المؤدي إلى اليمين طريق العبودية

التزمت جانب اليسار، وسرت على قدمي حتى الصباح. . وعند انبثاق الفجر وجدت نفسي أمام قلعة. . وهناك قرأت لوحا كتبت عليه بأحرف ذهبية هذه العبارة:

(بلاد الأحرار)

قلت: هذه ضالتي التي نشدتها ثم هممت بالدخول. . قطع الحراس السبيل. . . وسألوني:

- من أنت؟. . ومن أين قدمت؟. . وإلى أين تقصد؟

فقلت:

- كنت أسيراً. . فحطمت سلاسلي وحضرت ههنا. . أريد أن أكون حرا. .

رمقني الحراس بنظرات الفحص والتأمل. . كانت آثار السلاسل في عنقي، ومعالم القيود في يدي ظاهرة جلية.

- أجل!. . يلوح لنا أنك قد حطمت قيود الأسر. . ولكن يا ترى. . هل اقتلعت قيودك الباطنية أيضا، وقذفت بها؟

قلت:

- لم أفهم ماذا عنيتم!

- إذن أجب عن هذه الأسئلة:

1 -

هل أنت مسيطر على نفسك؟

2 -

أتحب الصدق؟

3 -

أتستطيع تحمل الحقيقة؟

4 -

هل أنت ذو كبرياء؟

اتضح لي أنهم يمتحنونني قبل إفراجهم عن الطريق لدخولي فأحبت عن كل هذه الأسئلة (نعم)

انحنى الحراس أمامي احتراما لي، وفتحوا لي باب القلعة ثم رافقني أحدهم إلى الداخل.

كانت المدينة قد استيقظت، والحوانيت والأسواق قد نشطت وكان الجميع دائبين في أعمالهم.

ص: 27

إنها أول مرة في حياتي، كنت أرى فيها مدينة جميلة عليها سيما العمران كهذه. . فالسعادة والهناء تقرأهما في وجوه الأهليين أينما حللت، وحيثما ذهبت. وكان الذين يلقونها في الطرق يبتسمون في وجوهنا ويهشون لنا ويرتاحون.

وأخيرا انتهى بنا المطاف عندما وقفنا أمام باب دار كبيرة طرق الحارس الباب، فجاء شيخ طاعن في السن.

قال الحارس مشيراً إلي

- وطني جديد!

حياني الشيخ باحترام ودعاني إلى الدخول ثم قادني إلى غرفة فسيحة وقال:

هذا الموضع لكم بكل ما فيه وقبل أن أفيق من الذهول الذي انتابني؛ أضاف الشيخ إلى كلامه قائلا: سيحضر أستاذنا بعد قليل لمقابلتكم. خذوا قسطكم من الراحة الآن.

وإذ غادر الشيخ الغرفة جاءني رجل تبدو عليه إمارات الفتوة وأحضر لي طعاما وشاربا

وبعد لأي حضر الأساتذة أيضا. . وذهبوا إلى غرفة أخرى؛ وهناك سألوني من أنا؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا قدمت هذا المكان. فأجبتهم هكذا:

(. . أرومتي أصيلة. . بلادي نجيبة، ودمي طاهر نقي. . كان موطني قديماً هضاب آسية الوسطى العالية. . ثم ثار الدم في عروق أجدادي وهاج. . فتغلغلوا في الشرق والغرب، والشمال والجنوب.، واجتاحوا الممالك، وشادوا الدول، وأنشئوا الحضارات. .

كان زعماؤنا قبلا يعيشون عيشة ساذجة، يشاركون الشعب في سرائه وضرائه؛ يحترمون العهود والمواثيق، يطيعون الحق ومجالس الشورى. . وكانت قادة الحكم، ورؤساء القبائل وملوك البلاد لا يخشون شيئا في سبيل الذود كرامة الحق، وقولة الصدق، والتنكيل بالطغاة، ومنع الاستبداد. .

وطوال استمرار الحال على هذا المنوال كانت بلادي قوية، ومهيبة، مرفوعة الكلمة بين الممالك. . إلى أن جاء يوم فسدت فيه دماؤنا، وشرعنا نقلد البلاد المستعبدة في تقاليدها ومواطن ذلها. . فتلاشت مجالس الشورى، واختل النظام، وانتصر الاستبداد، وصار شعبي السيد الآمر عبداً رقيقاً. . .

ومنذ ذلك الحين انطفأت نارنا الواهجه، واضمحل صيتنا الذائع، وتلاشى صوتنا المدوي. .

ص: 28

حتى يوم أراد فيه خاقاننا السافل أن يبيعنا للأغراب. . وعندئذ بلغ السيل الزبى، وطفحت الكأس

خرج من صفوفنا شخص ذو شعور ذهبي، وسحنة رجليه ونظرة هي نظرة الأسد بعينها. .

فإذا هو الذائد عن حمى بلاده، والضنين بوطنه، ورسول ربه الكريم. .

قال أقوالا بعثت بالحمى الدافقة إلى القلوب الجامدة، وبالحياة إلى العروق الميتة، عمل أعمالا دهش منها القاصي والداني. . طرد الأغراب من المواطن وأسقط الخاقان من عرشه. . وهو الب منهمك في لم شعث أمته حول راية الحرية الخافقة. .

إنني كنت حينذاك من أسرى الخاقان في سجنه. . وبينما أنا أتقلب على أشواك اليأس والقنوط، إذا بصوت رجل آخر يطرق سمعي. .

دبت في الحياة فجأة، فحطمت سلاسلي، وأحدثت فجوة في الجدار، وجئت إلى هذه الديار في طريقي إلى الحرية التي أنشدها.

أصغى إلي الأساتذة باعتناء واهتمام شديدين. . . ثم قال أحدهم:

- أجل! أجل! إننا كذلك نعرف ذلك البطل ونحبه حبا جما، ونحن إنما نعمل هنا وفقاً لمبادئه وفكرته. .

ثم أضاف إلى كلامه قائلاً:

- هل عقدت النية على أن تكون حرا؟

- نعم!

- هل فكرت في الأمر جيداً!. . أعزمت على ذلك عزماً نهائيا؟. . ثم هل تعلم مبلغ صعوبة الحرية على الإنسان؟

أجل!. . أعرف كل ذلك، وعزمي في هذا الشأن لا يتزحزح!

- إذن ثمة شروط يجب أن تطلع عليها، وتعمل بمقتضاها. . وهذه الشروط مدرجة في سفر خاص بها. اقرأ وفكر مليا. . وسنأتي لمقابلتك ثانية بعد بضعة أيام. .

ثم غادر الأساتذة المكان. .

يتبع

أحمد مصطفى الخطيب

ص: 29

‌ساعة بين أعداد الرسالة

للأستاذ محمد حسن شرع الدين

لانقطاع الرسالة بسبب الملاحة في الشلال شعرت بالحاجة إلى قراءتها، وذلك لما كنت أتوقعه من انقلاب في أقلامها بعد الانقلاب الذي قام به البطل محمد نجيب (نجيب الحرية والدستور) وكانت تجول بخاطري أشياء أتذوق حلاوتها وألتذ لها لاعتقادي أن أعداد الرسالة القادمة سوف تتحدث عنها، وما تلك الخواطر إلا حوادث الانقلاب والملك المطرود، وقد تكلمت كل الصحف والمجلات عدا الرسالة التي لم تصل إلي: والكلام الرسالة وقع في نفسي غير كل كلام مقروء. قلت شعرت بالحاجة للإطلاع على الرسالة، ففزعت إلى أعدادها المودعة بمحل خاص - وأنت قد تعجب إذا قلت لك إني أحتفظ بأعداد الرسالة من سنة 1934 إلى يومنا هذا بصورة مستديمة - من قسم الإعارة لا التأخير، وتناولت أول عدد فكان العدد 962 وفتحته فكان أول ما قرأت مقال يوازن بين شوقي وولي الدين يكن في قصيدتين قيلتا بمناسبة (سقوط السلطان عبد الحميد) بقلم أستاذنا الأديب محمد رجب البيومي، وعلم الله أني أرتاح لكل ما يكتبه، وأجد فيه متعة الروح وغذاء العقل، متعنا الله بأدبه ومد في عمره بالعافية. فعجبت كيف هيأت الصدف للربط بين خواطري بالماضي المقروء للحاضر المشهود، وقلت لو كتب هذا الموضوع قبل الانقلاب بأسبوع لقلنا إن الكاتب يشير إلى نهاية (الفاروق) بالتورية للآتي القريب، ولكن مر على المقال أكثر من سنة فلا أظنه كتب لهذا الغرض وغم أنه كان ينفع للعظة لو وجد مجده بعده، وآخر يشمت به ويشيع عهده باللعنات، بتلك القوة الممتعة في الوصف البارع للمدح والذم، ووجد مقل قلم البيومي ليوازن بينهما، فهل نجد اليوم مثل هذين الشاعرين وقد وجدنا الظرف.

ولا نريد بعد أن أشرنا إلى العدد أن نأتي بشيء من القصيدتين، فمن أراد المتعة فليرجع إليهما فإنهما أنسب ما يقرأ في هذا الظرف وهذه المناسبة.

وبعد الفراغ من هذا العدد مددت يدي فأخذت عدداً آخر فإذا هو العدد 748 بقلم صاحب الرسالة في 3 نوفمبر سنة 1947 بعنوان: (يا أغنياء! قولوا أسلمنا ولا تقولوا آمنا) وقد علق به على حديث نشرته الأهرام لصاحب السمو الملكي الأمير محمد علي قال فيه:

ص: 31

(إني أشهد الله على أن كل توفيق أصبته وكل خير نلته منذ نشأتي إلى اليوم كان مرجعه إلى إئتماري بأوامر الدين وانتهائي بنواهيه).

وقد علق على هذا الكلام فقال: (جميل من سمو الأمير أن يعتقد الدين وأن يعمل به ويتعصب له ويدعو إليه في وقت نسي الناس فيه الله. فبعد الأمراء الشهوة - وكأنه يعمي القصر - وأله الأغنياء المال، واتبع الزعماء الهوى) ثم يقول بعد فصل: (لماذا اقتصر أمي الأمراء من فضائل الإسلام على (المحبة والسلام، والصلاة والصيام، والعمل والصبر والطهارة. وقد كنا نطمع في صدق إيمانه وسمو بيناه أن يذكر كذلك الزكاة والإحسان والبر والتعاون ليعلم أولئك الأمراء الذين أسلموا ولم يؤمنوا، وهؤلاء الأغنياء الذين أساءوا ولم يحسنوا) ويسترسل فيقول: (إن الدين عمل ومعاملة، وتثقيف وتكليف، وإيثار وتضحية. ثم يقول بعد فصل: وحق الله الذي يشبع الجائع، ويكسو العاري، ويداوي المريض، ويكفن الميت، ضئيل بجانب حق الشيطان الذي يولم الولائم الفاجرة، ويقيم السهرات الداعرة، ويجود على إنجلترا الخؤون من غير طلب، وينفق على العامل والفلاح، وحق الشيطان على ضخامته حفيف لأنه ينفق في الميسر والراح) ثم يسترسل فيقول: (إن أكثر الكبراء عقام أو عزاب، فلا عيال يكلفون في الحياة، ولا أعقاب يرثون في الموت؛ فليت شعري لم لا يتبنون هذا الشعب الكريم وهو الذي وضعهم في ركب الحياة على كاهله، فأقدامه تحفي من الكلال وهم في دعة، وجسمه يضوي من القلال وهم في سعة، ونفسه تضطرب من الأهوال وهم في أمن) ثم يقول (إنهم إلا يفعلوا يندموا فإن من المشكوك فيه أن يتسع حلم الشعب طويلا لهذا الحد من المقال عجبت! ولا عجب أن يصاحب التوفيق قلم أستاذنا، فيشير لهذه النهاية البعيدة حينذاك، ولكن زال عجبي عندما رجعت لقول ولي الدين يكن للسلطان عبد الحميد في قصيدته التي أسلفت القول عنها عندما قال:

عزاء أيها النافي الرعايا

ولا تجزع فخالقكم نفاكا

حرمت كراك أعواما طولا

وليتك بعد ذا تلقى كراكا

تفارقك السعادة لا لعود

وقد عاشت حطاها في خطاكم

فدع صرحا أقمت به زمانا

وقل يا قصر لست لمن بناكا

نعم عبد الحميد اندب زمانا

تولى ليس يحمده سواكا

ص: 32

ومنها:

ستحيا في سلانيك زمانا

ستحسد فيه عن بعد أخاكا

وتعلم أن ملكا ترتضيه

ولعت به ولكن ما ارتضاكا

أما قصيدته الثانية التي جارى بها شوقي، فلا يتسع المقام لسياقها، فلنتركها وليرجع إليها من يريدها بالعدد المذكور أو في غيره.

وعجبت أن يحقق الشعب ما أشار إليه أستاذنا؛ فيطرد المليك الجبار. . المليك الذي أراد أن يجعل من مصر وجيش مصر أضحوكة بين الشعوب. المليك الذي ضحى بشباب مصر في حرب فلسطين، وكان يستعرض الجيش ابتهاجا بولده في الوقت الذي يقتحم فيه البوليس الموت مع الإنجليز في قنال السويس، ويشد أزر كفاح البوليس أولئك الأبرار المجاهدين من الفدائيين. لقد حقق الله نبوءتك يا أستاذي، فها هو ذا الجبار قد ذل وطرد، وهاهم مانعوا الزكاة ومبددو ثروات الشعب يحاسبون حسابا عسيرا، فلننتظر قليلا ولنقل: حيا الله المخلصين من أبناء مصر، وأزال بهم طغيان كل جبار لا يؤمن بيوم الحساب، ولنقل مع الشاعر أيضا:

إذا الشعب يوما أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي

ولا بد للقيد أن ينكسر

محمد الحسن شرع الدين

تاجر بأم روابة

ص: 33

‌شيلر الشاعر الألماني

للأستاذ عيسى إسكندر المعلوف

حياته

هو فريدرك فون شيلر ولد في مدينة مارباخ من أعمال مقاطعة ورتمبرغ الجرمانية في 10ت سنة 1895. وكان أبوه يوهان كاسبار جراحاً مساعداً في الجيش استخدم في حرب أوستريا الارتية. وكانت والدته تقية حنوناً فغرست فيه تلك المبادئ. واسمها اليصابات كورفايس. كان منذ صغره ولوعا بالكتب، وفي المدرسة كان ينفرد ويطالع، فيجد تلك الساعات من ألذ أيام حياته، وكان يهيم في الطبيعة ويسرح في آفاق الخيال وراء شاعريته التي كانت نفسه تنزع إليها.

وكان نحيف الجسم مجتهداً كثير المطالعة تنزع نفسه إلى نظم الشعر، ولذلك جمع بين الإنشاء الطلي والشعر الرقيق والتاريخ الوطني، فكان ثاني غوته أشهر شعراء ألمانيا.

ترك آثاراً تشهد بنبوغه وتفوقه، وكان أصغر من زميله ومعاصره غوته بعشر سنوات، تعارفنا لما كان شيلر في الرابعة والثلاثين من عمره وغوته في الرابعة والأربعين.

أنصب شيلر على مطالعة أشعار هوميروس اليوناني وفيرجيل الروماني لإتقانه اللغتين اليونانية واللاتينية كل الإتقان.

ثم طالع منظومات (كلوستوك) شاعر ألمانيا العظيم وغيره من كبار الشعراء، مما بث فيه روح الشاعرية وقواها.

وكان قد درس على علماء عصره المشهورين ونال شهادته بإتمام دروسه سنة 1779 بحفلة حافلة شهدها غوته الشاعر الألماني الآنف الذكر. ولم يكن غوته يظن أن شيلر سيكون نابغة في عصره وصديهاً مخلصاً له، ورجلا محبا لوطنه وشعبه، ومؤثرا عظيما في رقي بلاده. ولم يكن غوته ليظن بأن شيلر سيصبح كاتباً مدققاً وشاعرا بليغا ومؤرخا ثقة، صاحب مخيلة واسعة، طلي الإنشاء، حتى يحبه الشعب ويحترمه.

وكان لما حل شيلر بقرية فولكشتات سنة 1788 أن اجتمع بغوته مرة فاستقبله هذا غير مكترث له فأثر ذلك المشهد الاحتقاري في نفس شيلر وحركته عزة نفسه أن كتب إلى صديق له يخبره بعدم تناسب الذوقين أي ذوقه وذوق غوته، لأن لكل منهما وجهة يتجه لها

ص: 34

الواحد دون الآخر.

على أن غوته بعد أن طالع آثار شيلر، ولا سيما قصيدتيه الشهيرتين (المتفننين) و (آلهة اليونان)، اللتين نسج بردتيهما إذ ذاك نسجا بليغا، انقلب عن الإعراض إلى الحفاوة والاحترام، فصار ودهما وثيق العرى متين الأسباب.

فكان شيلر ينظر إلى الحياة نظرات فلسفية وينظم الشعر التمثيلي، وغوته يسبح في عالم الطبيعة ويصوره ناظما الشعر الحقيقي، ومع ذلك هذا التباين في الذوقين بمانع من اتفاق آرائهما بالصداقة وتبادل الحب الصحيح بينهما بإخلاص وأمانة حتى آخر نسمة من حياتهما. وذلك نادر بين صاحبي صناعة واحدة. ولكن الشاعرية التي عرفا بها لم تستطع أن تبث روح الحسد في أحدهما ليعادي الآخر.

فصرف شيلر أوقاته مع غوته يتبادلان الآراء ويتجالسان ويتحاوران فأنتفع كل منهما من زميله. وهكذا أخرج شيلر آثارا نفيسة في الشعر والتاريخ والروايات التمثيلية الكثيرة، وهي مما لا تزال تتناقلها الألسنة والأقلام، وتترجم إلى اللغات المختلفة الغربية والشرقية.

ومن غرائب الاتفاق أن هذين الشاعرين المتحابين مرضا كلاهما بوقت واحد وخشي كل منهما موت الآخر. ولكن شيلر قبض إلى رحمة ربه قبل غوته وذلك في أيار سنة 1805 فبلغ نعيه غوته فبكاه واشتد حزنه عليه وقال كلمة لا تزال مضرب المثل.

لقد فقدت بموت شيلر نصف حياتي.

ولشدة حزنه انقطع مدة عن عمله وتفرغ للبكاء ومعاناة الأسف الشديد الذي ألم به. وطال ذلك العهد على غوته حتى توفي سنة 1832 وأقيم له سنة 1932 تذكار مرور مائة سنة على وفاته بحفلات شائقة، وسنة 1934 أقيم له تذكار مرور 175 سنة على ولادته. وكتبت الجرائد ومقالات شائقة عن الحفلتين في الشرق والغرب. ونشر كثير منها ترجمة حياته واعماله. وحضر تلك الحفلة كبار رجال الحكومة. وأقاموا الصلاة على قبره. وخطب الهر جيبلز فقال:(لو عاش شيلر، إلى اليوم لكان زعيم ثورتنا حرفيا. فنحن نحني رؤوسنا أمام ذلك الميراث الفني الذي هو لنا، لأن لنا وحدنا المقدرة وروح الابتكار لإنجاز رسالة بلك الثورة).

وأنشأت صحف اليونان مقالات أطرت فيها على ذكر شيلر، ومثلت في المسرح اليوناني

ص: 35

الوطني رواية (دون كارلوس) من نظمه.

آثاره

أشتغل هذا الشاعر بالأدب والتاريخ والروايات، فترك آثاراً ذات شان في نظر العلم والأدب من روايات تمثيلية وقصائد رائعة، فأخرج شيلر الدراما (قطاع الطرق أو اللصوص) طبعت سنة 1781 و (المؤامرة والحب). . ومن أهم رواياته (دون كارلوس)(1786). وبها اشتهر أول ما أشتهر. وآخرها (وليم تل) التي كتبها سنة 1804 ومدارها على أخبار وليم تل البطل السويسري الوطني. وكان غوته قد سافر إلى سويسرا ودرس جميع الشؤون المتعلقة بهذه الرواية على أمل أن ينسج بردتها بقلمه العسال. فحالت دون ذلك عوائق حملته على انتداب حميمة شيلر لهذا العمل فأعطاه دروسه كلها، فنظمها وأجاد فيها ما شاءت بلاغته. ولما وقف عليها غوته دهش منه وازداد تعلقاً به واحتراما له فعاشا على حد قول الشاعر:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

ومودة الأدب إذا كانت بإخلاص نية وعدم حسد وتنابز كانت آية الآيات في حسن السلوك وأدب المعاشرة.

فكانت هذه الرواية (بوق الحرية الشريف) وآخر رواياته.

من بدائع قصائده؛ (آلهة اليونان) و (ماري ستوارت)، (عذراء أورليان)، و (عروس مسينا). وفي مقدمتها يقول (ليس موضوع العلم أن يثير حلم الحرية للحظة. ولكن قصده أن يجعلنا أحرارا بالحقيقة). و (المتفننون)، (القتال)، ونشيد (فالنشتاين)(1799).

ومن مآسيه المشهورة (دون كارلوس) و (وليم تل). ومما قاله في مقطوعة عن وليم تل: (نحن نستنشق الهواء الجبلي للحرية ونطأ جبال الألب بحرية شخصية ونشعر برعدة).

ومن مشهورات تواريخه: (تاريخ ثورة هولندا) و (الحرب الثلاثينية) وهو كتاب تاريخ ممتاز

وكان شيلر صحافيا اشتغل بمجلات أنشأها هو أو ساعد غيره بكتابة مقالاتها.

وعلى الجملة كان شيلر فيلسوفا ومتفننا ومؤرخا وشاعر وصحافيا.

ص: 36

شيء من آرائه وأقواله

تناقل الكتاب والشعراء كثيرا من آراء هذا الشاعر وأقواله مترجما إلى لغاتهم ومنها لغتنا العربية.

قال في وصف فتاة: (أنت في السادسة عشرة إذ يبتدئ إن فؤادك أن يخفق لأول مرة بعواطف ويردد صدى نغماته. إن الفتيات أمثالك لهن دائما مرآتان: المرآة الحقيقية ومرآة المعجب بجمالهن. فتصلح الثانية بتمويهها ما تفسده الأولى بصدقها. فإذا أرتك المرآة أثر الجدري يقول المعجب الأعمى: تلك غاية الجمال.)

وقال يصف شابا: (كنت سالكا سبيلا قويما ولكن تخلى عني أقراني وأضلوني الطريق إذ انفصلوا عني واحدا واحدا).

وقال في تأثير المرأة: (كلما وجد رجل وصل بعمل إلى غايات المجد وجدت في جانبه امرأة محبوبة).

ومن أعظم قصائده (لحن الجرس) خاطب به رأسا قلوب الجماعات بقوله: (أنا أدعو الأحياء وأنا أنوح على الموتى وأنا أكسر اللمعان). فهي أشبه بقصيدة لنفلو الشاعر الأمريكي (بناء السفينة). وقد عربنا معظم ديوان الشاعر الأمريكيو.

ومن قوله في قصيدة القتال: (لا. لا. لن أصبر طويلا على هذا القتال الطاحن الذي يقوم به الواجب. فإذا لم تقدري على كبح أهواء قلبي أيتها الفصيلة فلا تطلبي مني التضحية. فإكليلك هذا يجب أن يبقى كل الأيام بعيدا عني. خذيه ودعيني وحدي أتلاشى).

عيسى إسكندر المعلوف

ص: 37

‌رسالة الشعر

أنا والحياة

للأستاذ حسين عبد الفتاح سويفي

أي شيء يا حياتي فيك يدعو للحياة؟

كل شيء فيك يهتاج بكائي وشكاتي

مل جفني من دموعي وشكا من عبراتي

كل شيء في حياتي غارق في الظلمات

ألسنا الوضاء معنى لم يلج في خطراتي

أي شيء يا حياتي فيك يدعو للحياة؟!

هذه النار التي تسري بروحي ودمائي

والأعاصير التي قد عكرت صفو هنائي

والأحاسيس التي تعشق دمعي وبكائي

والتعلات التي كانت عزائي ورجائي

والأماني التي لم تغنني أي غناء

كلها مجتمعات عجلت يوم فنائي

من أنا هذه الدنيا؟ أنا طير غريب

ضل في البيد فلا مأوى ولا عش قريب

بين جنبي جراح ليس يشفيها طبيب

وفؤاد ظامئ اللهفة موصول الوجيب

لم أجد في الكون قلبا عاطفا بين القلوب

لهف نفسي لحبيب مخلص - أي حبيب

ظامئ الروح ولكن أين كأسي وشرابي؟

أين آمالي. وأوهامي. وأحلام شبابي؟

أين حلو الصفو ما بين رفاق وصحاب؟

أين ما أملت من تلك الأماني العذاب؟

ص: 38

لم أنل غير عنائي وشقائي وعذابي

واجتراري الليل يمضي بين سهد وانتخاب

ها هي الآلام تدعوني فعذار يا رفاقي

هل رأيتم كيف يسقيني من الآلام ساق؟

هل رأيتم كشرابي؟ أنه مر المذاق

من مزيج اليأس والحرمان والدمع المراق

وسعار اللهفة الظمأى ونيران المآقي

أيها الآلام كفي بلغت روحي التراقي

من أنا في هذه الدنيا؟ أنا العاني الشريد

أنا من قد مل العيش في هذا الوجود

أنا من قد عاش في الأسر وفي ظل القيود

أنا من قد عاف طعم الذل في أرض العبيد

ثائر النفس على كل قديم وجديد

إنني أجهل نفسي. لست أدري ما أريد؟!

فاضت الكأس فخلوني أبث الطرس وجدي

لم يعد ينفع صبري. ولا يغني التحدي

قد قطعت العمر والأيام في أخذ ورد

وطموح في الأماني لانهيار وترد

وشكاة من حياتي وزماني المستبد

مل من شجوى صحابي وحملت الهم وحدي

يا ربيع العمر ماذا فيك من روح الربيع

هذه شمس حياتي قد حبت قبل الطلوع

يحجب الأنوار عن عيني سحاب من دموعي

ودخان من قنوط ثائر بين ضلوعي

كلما أوقدت شمعي أطفأ الدهر شموعي

ص: 39

يا ربيع العمر كم ذا فيك من يأس مريع

هل رأيتم مثل صبري في الورى صبرا عجيبا

أكتم الأشجان في نفسي وأخفيها ضروبا

ثم أبدو بين صحبي مرحا طلقا طروبا

أمسك القلب على الوجد وأخشى أن يذوبا

وأداري اللوعة الكبرى ولا أشكو لغوبا

إن أكن أذنبت فهل لي أن أتوبا

حسين عبد الفتاح سويفي

ص: 40

‌العائدون من الحرب

للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري

(مهداه إلى القائد الأعظم اللواء محمد نجيب)

لقد عدنا. . أجل عدنا من الحرب ميامينا

على أعناقنا قد عبئوا النصر رياحينا

ومن أفواهنا قد جسموا المجد أرانينا

ألا يا ليتنا متنا بعيداً عن أراضينا.!

لقد عدنا من الحرب. . إلى الحقل إلى المصنع

لكي نحرث. . أو نبذر. . أو نحصد. . أو نجمع

لكي نبني للغير. . لكي نطهو ولا نشبع

لكي نحلم بالفجر الذي من يدنا يسطع!

لكي نصنع جربا ضخمة أخرى. . لكي نصنع

لقد عدنا إلى الأكواخ. . أكواخ أهالينا

وكنا قد كسوناها أسمال أمانينا

فماذا أبصرت أعيننا غير مآسينا

وغير الطلل الموجع نكبه ويبكينا

وإن لج بنا الشوق لمسناه بأيدينا

لقد عدنا. . ألا تبصرنا. . تبصر بلوانا

بقايا آدميين مساكين. . بقايانا

نجرجر خلفنا التاريخ أشلاء وأكفانا

ألا ليت الذي رقعنا بالموت أبلانا

ولم يبق لنا كالناس أشواقا ووجدانا

لقد عدنا. . أجل عدنا ولكن عودة المقهور

شربنا عرق الحرب. . أكلنا صدأ التنور

لبسنا كفن الثلج. . سكنا جدت الديجور

ص: 41

وها عدنا إلى القيد. . إلى قيد الأسى المضفور

فيا ضيعة هذا العمر. . هذا الصدف المكسور

وقالوا. . قال رب السوط والقانون والقوة

سأمضي قبلكم. . إني لكم. . لقطيعكم قدوه

وظل السيد المعبود في رقدته الحلوة!

وكانت كأسنا الموت. . . وكانت كأسه الشهوة

فماذا يبتغي الجلاد. . ماذا يبتغي منا!

لقد سرنا كما شاء. . وعدنا لا كما شئنا

هدمنا وتهدمنا. . وعذبنا وعذبنا

وكم حلم سحقناه. . وكم مقبرة شدنا

وكم من مرة متنا. . وكم من مرة عشنا

فلا بارك هذى اليد. . لا باركها الرحمن

إذا لم تسق بالحب صدى الحيران

إذا لم تك فأسا في جدار البؤس والطغيان

إذا لم تك ميزانا لوحانية الإنسان

إذا عاشت لغير النور والرحمة والإيمان

محمد مفتاح الفيتوري

ص: 42

‌خطاب مفتوح

إلى الأستاذ محمد فتحي مستشار الإذاعة

من الأستاذ علي متولي صلاح

يا أخي الأستاذ

الآن وقد عاد إليك مكانك الطبيعي في الإذاعة التي اقترنت باسمك منذ مولدها، واقترنت أنت بها منذ مطلع سبابك وباكورة عملك في الحياة. . والآن وقد عاد إليك مكان المشورة والرأي والتوجيه في الإذاعة، وقد صارت مؤسسة ذات خطر في الدولة وذات أثر في الناس، وأصبحت عاملا هاما في التثقيف والتهذيب والمعرفة الصحيحة. .

والآن وقد عاد إليك مكانك هذا في عهد جديد سعيد كأنما انسقت عنه السماء ليكون برزخا فاصلا بين النقيضين: الرذيلة والفضيلة، وليكون تغييراً لمعالم الحياة في مصر، وليكون قبرا أخير للفساد والظلم والطغيان والاستعباد وما إلى ذلك مما تردت فيه البلاد حقبة ليتها لم تكن في تاريخها!

الآن وقد عاد إليك مكانك هذا في عهد كهذا، فإن على كاهلك ليقع عبء كبير ثقيل لا ينهض به إلا أولو العزم من الرجال، وإني أعيذك أن تحتسب الأمر هينا سهلا، فإنك - إن تردج الإصلاح حقا - لتنفق من ذات نفسك وجهدك الشيء الكثير.

إن الإذاعة - حتى اليوم - مهزلة كبرى وفضيحة لمصر ليس وراءها فضيحة، وكأنما تنفق الدولة ما تنفقه على هذه الإذاعة ابتغاء التشهير بها والنيل من كرامتها وقدرها أمام العالم أجمع، فهذا العبث الذي ترسله الإذاعة، وهذا التخنث الذي يشيع في الأغلب الأعم من أغانيها من أمثال قولهم (ما قال لي وقلت له، وجالي ورحت له، يا عواذل فلفلوا) وسواه مما لا اذكره احتراما لقلمي أن يخطه ويتلوث بذكره، إنما هو فضيحة ليس وراءها فضيحة. . وهذا النفاق الذي يتدفق من شعراء الإذاعة وكتابها، هؤلاء الذين كانت تجرهم الإذاعة كالثيران البدنية ليلقوا على الناس عقود المديح والثناء والإطراء في الطغيان والعسف والظلم والاستبداد، هؤلاء المنافقون الدجالون عليك إبعادهم ونفيهم وكتم أنفاسهم، وتطهير الإذاعة منهم فإنهم رجس يجب ألا يعيش في هذه الأيام. .

إن عليك يا أخي أن تمحو من الأغاني والأناشيد والأحاديث كل ما يضعف الرجولة ويشيع

ص: 43

الوهن والضعف والاستخذاء في النفوس. أمح من الإذاعة بجرة قلم جميع هذه الأغاني المخنثة المائعة التي يغنيها الرجال والنساء على السواء! يغنيها المغنون - يا أخي - بأصواتهم الغليظة فيجملونها بالتأوه والتعوج وإرسال الزفرات الحارة والتنهدات المتسعرة! أمح هذا العار الذي يحيل هؤلاء الرجال إلى إناث بعيدي الأنوثة ينافسون الإناث فيما اختصهن به الله!

إن عليك يا أخي أن تمحو باب الارتزاق - لمجرد الارتزاق - أمام كل من هب ودب من هؤلاء الذين يسقطون على الإذاعة وكأنها تكية السلطان! هؤلاء الذين يقدمون إلى الإذاعة أي كلام وأي أغاني وأي مسرحيات، ثم يضمنون إذاعتها دون مراجعة ودون اعتراض، معتمدين على ما لهم في الإذاعة من صلات وقرابات!

إن عليك ألا تكل إلى أحد من رجال الإذاعة مالا يفهم! فإن الناس ليعجبون كيف ينهض بالأمر في الإذاعة من لا يحسنه؟ وكيف يسند إليه من الأعمال ما لا يؤهله له علم أو فهم؟ أعط القوس باريها، ولا تعهد بعمل إلى رجل ألا إذا سبقت له به دربة كافية ودراية طويلة، ولا تقم وزنا لهذا الذي جاء به الوزير الفلاني والكبير العلاني. فإن هذه دولة قد دالت ويجب ألا يكون لها وزن في حياتنا الراهنة. . وإن الإذاعة - كما يعرف الناس جميعا موبوءة مشحونة بمن جلبتهم الشفاعات والوساطات لا يحسنون عملا ولا تعدو إليهم ضرورة!

هذه خطوط رئيسية جدا أنت أدرى الناس بها وبأكثر منها، فعليك أن تأخذ الأمر بالحزم والصرامة، وأنت تعلم ما الإذاعة وما خطرها وما أثرها في تتوجيه الدولة في الداخل وحسن سمعتها في الخارج؛ وأنت بعد اليوم مسؤول عن كل كلمة نسمعها في الإذاعة، فإن أحسنت وغيرت أيدناك، وإلا خذلناك وما نرى إلا محسنا إن شاء الله.

علي متولي صلاح

ص: 44

‌الكتب

الزعيم أحمد عرابي

الأستاذ عبد الرحمن الرافعي

الأستاذ محمود عبد المنعم محرم

الأستاذ عبد الرحمن الرافعي هو مؤرخ التاريخ المصري الحديث، وكتبه التي أخرجها هي في دقتها وصدقها مثال رائع لما يجب أن يقوم به المؤرخ المنصف. وكتابه الذي بين يدي الآن (الزعيم أحمد عرابي) انتهى الأستاذ الرافعي من كتابه في يناير مفتتح هذا العالم. وكان مقدراً لهذا الكتاب أن يرى النور في مارس من العام الحالي، غير أن الطغيان والظلم جالا دون ذلك، فبقى الكتاب حبيسا حتى خلى سبيله أخيرا يحمل الدعوة إلى التضحية والدعوة الإصلاحية إلى أبناء الوطن.

ومن تصاريف القدر أن الزعيم أحمد عرابي ظلم ظلما متواترا أثناء حياته وبعد مماته. وهذا الذي وقع لسيرته الرافعية ما هو إلا حلقة من سلسلة الاضطهادات المادية والمعنوية التي أصيب بها بطلنا الكبير. ولئن كان الأولون الذين ظلموه قد اتخذوا باطن الثرى مضاجع لهم، فإن هؤلاء الذين وقع ظلمهم عليه الآن، قد خرجوا من الديار يجوبون الآفاق طريدي العدالة والأنصاف، وراحوا مشيعين بما فعلوا من سوء وما قدموا من بغي وخذلان.

وأحمد عرابي زعيم فلاح نشأ في القرية، ودرس في الأزهر فترة وجيزة. وكتب علية أن يترقى في مناصب الجندية من ابسطها إلى أعلاها حتى كان زعيم مصر في عهد من احلك العهود التي مرت ببلادنا العزيزة. وكانت نهاية هذا البطل المخلص، أن ائتلفت ضده قوى الاستخذاء والاستعمار والأنانية والطغيان، وحاربيه في ميدانه الوطني، وأخرجته من وطنه الحبيب وبلاده التي جاهد لها.

وإن العدالة الإلهية تقتص لهذا الوطن البائس، ولأبنائه الفلاحين الفقراء العراة ولجنوده المظلومين من الطواغيت المستبد التي أخذت عليه مسالك الحرية والأمن والصعود إلى مصاف الدول القوية والشعوب المستنيرة. وغير خفي أن أحمد عرابي هب يطالب بحقوق الوطن، وأبنائه، في عهد الخديوي توفيق، الذي كان يمثل العقلية التركية القذرة بكل

ص: 45

غرورها الغبي وزهوها المخبول. وكانت الخاتمة أن يطرد ابن الوطن البار من بلاده، ويبقى الدخلاء المترفون يتمتعون بالخيرات والنعم التي يلتهمونها من أفواه المساكين. ثم على تعاقب الأيام، قلم بطل جديد ينادي بحق الشعب مرة أخرى وكانت النتيجة، أن ثبت الحق على يد أربابه وفي قلوب المؤمنين به، وطرد الغشوم الذي أساء إلى نفسه وأبعد في التنكيل بها، وراح ينسل بنفسه الآبق وشذوذ المتغطرس.

وإن ثمة وجوه شبه بين الثورتين، ثورة أحمد عرابي، وثورة محمد نجيب. من وجوه الشبه هذا المطالبة بحقوق الشعب. ومنها أن الثورة وجهت أول ما وجهت إلى الجالس على العرش الذي يمثل الظلم الصارخ والكبرياء الحقير. ومنها أن قائدي الثورتين من أبناء الاعتماد على العنصر الديني والإنابة إلى الله ومنها أن القائمين بهما من رجال الجيش. وغير ذلك من العوامل السياسية الأخرى التي تكاد تكون واحدة في مغزاها على عهد الثورتين كلتيهما.

وحرب فلسطين ليست بعيدة عنا بآثارها ونتائجها. ولعلك سمعت ما قيل حولها من خيانة وائتمار بالجيش، ومحاربة للشجعان المخلصين من أبنائه، وتقريب الذين كانوا سبب الهزيمة وعوامل الاندحار، مع جهلهم أو فسادهم أو خيانتهم، وهذا يشبه ما حدث في عهد إسماعيل. وهو فريب مما حدث على عهد توفيق أيضاً (ولا مراء في أن إسماعيل كان يميز الضباط والرؤساء الشراكسة والترك على الوطنيين في المعاملة، يرغم ما بدا منهم من العجز والجهل وعدم الكفاية، مما ظهر أثره جليا في الهزائم التي حاقت بالجيش سنة 1875 - 1876 في حرب الحبشة. وعلى ما كان لهذه الهزائم من أسوأ الأثر، فإن إسماعيل لم يحاسب أولئك القواد والضباط على ما وقع منهم من الإهمال والتقصير، وقيل أنه اعتزم محاكمة راتب باشا قائد هذه الحملة، ولكنه ما لبث أن رجل عن ذلك فقربه إليه وجعله من بطانته. وهذا يدلك على شديد ميله إلى تلك الفئة. فكانت لها الخطوة لديه ثم لدى الخديوي توفيق).

وإن الحكم النيابي قد عطل في عهدنا هذا. وكان الملك يستبد بالأمر، ولم يكد يدع للوزراء حرية يتصرفون بمقتضاها. حتى كان يولي من يشاء ويعزل من يشاء تبعا لأهوائه ونزواته. وهذا مثل ما حدث في عهد الخديوي توفيق. فقد كان الآخر يستبد بالأمر ويملي

ص: 46

إرادته على وزرائه. وإلا عمل إعفائهم من الحكم (وبينما كانت الطبقة المثقفة ترتقب إعلان الدستور على يد الخديوي توفيق؛ إذا بهم يرون شريف باشا يستقبل لمعارضة الخديوي يؤلف وزارة برياسته، مما ينم عن ميوله الاستبدادية، ثم يكلف رياض باشا تأليف وزارة من مبادئها الأساسية حكم البلاد حكما مطلقا، وحرمانها أي نظام دستوري. . حتى مجلس شورى النواب القديم على ما كان عليه من ضعف السلطة، فقد ظل معطلا سنتين، طوال عهد وزارة رياض باشا).

وقد كانت الصحافة تلاقي العنت والمشقة. ولا تزال تذكر قانون تقييد الصحافة الذي أطل برأسه من مدة، غير أن الصحف ومن ورائها أبناء الأمة، تنادوا حتى وأدوا هذا القانون الرجعي في مهده. والرقيب لا زال صرير قلمه يدوي في آذاننا إلى وقت قريب. وفي عهد توفيق استهدفت الصحف المعارضة للاضطهاد في عهد وزارته، ثم في عهد وزارة رياض، واستخدمت الحكومة اللائحة القديمة المسماة لائحة المطبوعات لإنذار الصحف أو تعطيلها. وقد عطلت الحكومة في عهد وزارة توفيق جريدة (مرآة الشرق) مرة لمدة شهر ومرة لمدة خمسة أشهر، وأنذرت جريدة (التجارة). وفي عهد وزارة رياض أنذرت الحكومة جريدتي (مصر) و (التجارة)، وأنذرت جريدة (مصر الفتاة)، وأنذرت جريدة (الإسكندرية) ثم عطلتها شهرا، وعطلت جريدة (المحروسة) لمدة خمسة عشر يوما، ومنعت جرائد (النحلة) و (أبو نضارة) و (أبو صفارة) و (القاهرة) و (الشرق) من دخول القطر المصري.

ولم يكن حظ المخلصين والوطنيين في عهدنا هذا بأحسن منه في عهد توفيق، فإنهم قد أوذوا في كلا العهدين، ونابهم رزء شديد وتجن بالغ، لا لشيء إلا لأنهم يخلصون لوطنهم ويعملون لإخوانهم أبناء الشعب، فكان جزاؤهم الإقصاء والحرمان، وتقديم العملاء والأصهار والمحاسيب والمرتشين، وبذلك تتعطل مصالح العامة، ولا يتقدم إلا كل خب مخادع مستغل، لا يخدم وطنه، وأن كان على استعداد لأن يتمرغ تحت أقدام وسادته وأولياء أمره، الذين لا يختلفون عنه في أنانيته واستغلاله ونكوصه عن قواعد الشرف والمروءة. وقد أرغم الخديوي توفيق محمود سامي البارودي على تقديم استقالته من وزارة الحربية لمشايعة العرابيين ولأسباب أخرى، وعين صهره داود باشا الدرة مللي محافظ القاهرة، لما كان معروفا عنه من مشايعة حركة عرابي، وتعيين عبد القادر باشا حلمي

ص: 47

مكانه، وكان مكروها من العرابيين، وبث محافظ العاصمة الجديد العيون والجواسيس لينقلوا أخبارهم، ويتعرفوا على جركاتهم وسكناتهم.

ما أشبه الليلة بالبارحة، وإن التاريخ يعيد نفسه. ولكن الذين يعتبرون به هم القليلون. وهذا الذي ذكرته من قبل كان من أسباب ثورة أحمد عرابي. وهو ذاته من أسباب ثورة محمد نجيب. الاستبداد بالأمر! تقييد الأذناب والمفسدين! فضائح الاستغلال والارتشاء! الغطرسة والتنكر لحقوق الشعب! كل هذا دروس بالغة كان يجب أن تؤتي ثمارها، غير أن الناس غافلون عما تقدمه لهم يد الزمان من ألوان العظة والاعتبار. ولو اعتبروا، ولو اتعظوا، لما وقع المتأخرون في مثل ما وقع فيه المتقدمون من عوامل الإفساد والأثرة، فانقلبت عليهم شعوبهم طالبة العدل والإنصاف!

أنا لم أر الأستاذ الرافعي، ولكن كتابه ينم عنه، فهو كتاب دقيق واضح عادل. ومعنى هذا أن مؤلف الكتاب يتمتع بصفات نادرة هذه الأيام من العدل والنظافة والإخلاص. وهي ذات الصفات التي قد تكون وفقت في سبيله، وغبنته حقه، فتقدم عليه من هو دونه. وإنه لأثر قبيح من آثار هذا الزمان الذي كنا نعيش فيه - والذي أرجو أن ينقشع - أن تكون الصفات النبيلة والكفايات الخلقية النادرة من أسباب تعويق الإنسان عن أن يصل إلى ما يستحق من تقديم وتكريم.

وأظن أنه كان من الخير أن حرم كتابه (الزعيم أحمد عرابي) النور إثر انتهائه من كتابته ولم يظهر في وقته المحدد. ذلك أن الظرف الذي ظهر فيه فيما بعد هو انسب الظروف لاستقباله مثل هذا الكتاب. فالكتاب عن جهاد زعيم ثائر - والثورة كانت للظفر بحق الشعب. ونحن الآن، وبقراءته، يجب أن نقارن بين الثورتين في دوافعهما وأسبابهما، وفي أغراضهما، وفي طبيعتهما. ويجب أن نعرف الدواعي التي أدت إلى إخفاق الثورة الأولى، لنتحاشاها ونحصن أنفسنا وثورتنا ضدها، ولئلا نقع فيما وقع فيه العرابيون.

يذكر الأستاذ الرافعي بحق أن الثورة العرابية مرحلتين: المرحلة الأولى كانت الثورة فيها مسددة موفقة، والمرحلة الثانية حادت الثورة فيها عن الطريق الإصلاح المنشود. والفارق بين المرحلتين هو عمل العرابيين على تنحية محمد شريف باشا كان بلا نزاع أقدر من البارودي على حسني تدبير الأمور في تلك الأوقات العصيبة، إذ له من ماضيه السياسي،

ص: 48

وثقافته، واختباره، ما يجعل له كفاية ممتازة في الاضطلاع بالمهام السياسية. أما البارودي فقد كانت نشأته أدبية حربية فحسب، وهذه مزايا ليست هي المطلوبة لتصريف سياسة مصر، وخاصة في هذا الظرف المضطرب. زد على ذلك أن رجال الجرب والشعر لا يعالجون المشكل علاجا واقعيا، بل يعالجونه بالحمية القلبية والخيال الذهني، لا بعقلية الحكيم المتبصر.

وهذا درس يجب أن يصغي إليه القائمون بأمرنا الآن عنايتهم، ويرعوه حق الرعاية. فإننا الآن عرضه - قدر الله - لمقل هذه المزالق التي تعثر فيها الآراء. ولو استمعنا إلى الماضي، وأحسنا التلقي عنه، لجنبنا ذلك كثيرا من الصعوبات السياسية الكثيرة، تلك الصعوبات التي ينقب عنها كل لحظة أعداء الحركة في الداخل والخارج.

وقد كان لكل من إنجلترا، وفرنسا، وتركيا، موقف مشهود في الحركة العربية، أما فرنسا وإنجلترا فكانتا تتدخلان في شؤون مصر الداخلية، وتعملان على إحباط الحياة النيابية، وتوسيع شقة الخلاف بين الثائرين والخديوي. وكان لهما ما أرادتا. ثم انسحبت فرنسا من الميدان وخلت إنجلترا وحدها فيه تتصرف بمحض جشعها واستغلالها ومصالحها الخاصة، ولا لمصالح العرابيين، ولا لمصالح الخديوي الذي تدعي أنها تحميه وتعمل على استقرار عرشه. وأما السياسة التركية فكانت تتسم بقصر النظر، والغرور الأحمق، والعمل على تسوئ سمعة مصر، وإعلان سيطرتها الوهمية على البلاد. وهذا شبيه بموقفها الذي الآن من الدول العربية عامة ومصر خاصة، فهو موقف الحقود الذي يتربص بنا الدوائر، فلا تنصر قضية عربية، وموقفها من مرور ناقلات البترول بقناة السويس لحساب اليهود معروف، وكذا موقفها من قضية تونس الذبيحة معروف أيضا.

والأستاذ الرافعي كتب كتابه بأسلوب المجتهد، إذ المعروف أن مصادر التاريخ المصري ملوثة، وان الكاتب يجد حرجا كبيرا، خاصة إذا كان من الوطنيين المخلصين أمثال الأستاذ الرافعي، فهو يكتب للوطن، لا لحساب دولة معينة ولا ناحية ما، بل إرضاء للحقيقة والواقع وتسجيلا لفترة من ماضي هذا الوطن المنكوب، حتى يفيد من يرجو الخير لبلاده، وحتى يشيح بوجهه من يشاء.

وهو مستقل في أحكامه على أحداث الثورة العرابية ووقائعها. وهو لا يعفي العرابيين من

ص: 49

اللوم والتقريع. ولا يعفي الخديوي ولا أوليائه من المؤاخذة العنيفة والصفع الدراك. فقد نقد موقف العرابيين من وزارة شريف باشا التي جاءت على أثرها وزارة البارودي باختيارهم. ونقدهم على عدم ردمهم قناة السويس اعتمادا على قول فرديناندي ليسبس. ونقد موقف إنجلترا من وزارة إسماعيل راغب التي جاءت بعد وزارة البارودي. واغلب الظن أن إنجلترا لم تكن تبغي تأليف وزارة في مصر لكي تبدو البلاد في حالة غير اعتيادية وتتخذ من ذلك ذريعة إلى التدخل في شؤون البلاد. فلما تألفت وزارة إسماعيل راغب قابلتها السياسة الإنجليزية بالجفاء وعدم الثقة والغض من قدرتها على إعادة الأمن إلى نصابه وأخذت تتخلق لها العقبات والعراقيل. ونقد موقف تركيا، فبينما كانت تتظاهر بتأييد سلطة الخديوي، إذ بالسلطان عبد الحميد يعلن عطفه على عرابي ويمنحه نيشانا رفيع الشان، ثم إذا جد الجد ونشبت الحرب بين عرابي والإنجليز طعنه السلطان في الصميم بإعلانه عصيانه، فكان هذا الإعلان من أكبر أسباب هزيمة عرابي وخذلانه. هذا التناقض والاضطراب، مضافا إليهما قصر نظر تركيا وسوء نيتها نحو مصر، ورغبتها في إنقاص استقلالها، ثم ما جلبت عليه من الدس والوقيعة، وتأثر وزرائها بالمال والرشا، وجعل السياسة التركية عامل فساد استخدمته بريطانيا لتحقيق أطماعها في مصر.

إني أدعو إلى كتابة التاريخ المصري الحديث من جديد، على هذا النحو الذي يكتب به الأستاذ الرافعي، لأننا بحاجة لأن نعرف بلادنا وتاريخنا على الوجه الصحيح في هذه الفترات المظلمات، ولنكون على بينة من مصالح الوطن وأمانيه ومطالبه في السنوات الخوالي.

محمود عبد العزيز محرم

ص: 50

‌البريد الأدبي

حول بيت المتنبي

نشر الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري في العدد 995 من مجلة الرسالة الغراء هذا البيت ونسبه للمتنبي في الصفحة 155 من الجزء الأول من شرح الديوان لعبد الرحمن البرقوقي.

يهز الجيش حولك جانبيه

كما نفضت جناحيها العقاب

ولدى تصفح الجزء الأول من شرح الديوان لم أجد هذا البيت الذي أشار إليه الأستاذ الناصري. . . ولعل الأستاذ يقصد ما ورد في الصفحة 154 من شرح الديوان من قصيدة المتنبي يمتدح بها بدر بن عمار ارتجالا وهو على الشراب.

إنما بدر بن عمار سحاب

هطل فيه ثواب وعقاب

ومعنى هذا البيت أن مثله مثل السحاب الذي ينهل بالمطر تنقض فيه الصواعق ففيه حياة لقوم وهلاك الآخرين. وهذا المعنى يناقض ما ذهب إليه الأستاذ الناصري. ويتضح من ذلك أن الأستاذ لم يطلع على شرح الديوان كما ذكر في تعقيبه وله مني جزيل الشكر.

خلف إبراهيم الكاتب

إلى الأستاذ (عين)

كلمتك الصغيرة يا أستاذ في العدد (997) من الرسالة الغراء - مترعة العاطفة، واثبة الروح؛ ولكنك لم تصب في تقدير قيمة، أو (حقيقة) هذه الحركة المباركة حين قلت:(ووالله ثم الله الذي لا يحلف به كذباً إلا فاجر لو أعطيت مائة ليرة ما فرحت بها مثل فرحي بهذا الخبر).

أعتقد أنك أخطأت تقدير حركة هذا الانقلاب لما كان يوازي - عندك - مائة فما فوقها. .

إن هذا الانقلاب يا سيدي الأستاذ - لا يقدر بالمائة ولا المائتين، ولا الألفين؛ وإنما يوزن بالحياة بكل معانيها من حرية وعزة وكرامة. .

والله لو وضع انقلاب مصر في كفه، ووضع ذهب الأرض وفضتها في كفة أخرى. لرجحتها الكفة الأولى.

ص: 51

إن وثبة الشعوب وانعتاقها لا يوازيه ثمن إلا الحياة بكل مقوماتها. . فعلى بركة الله يا شعب مصر.

عبد الله الشيرازي الصباغ

شوقية أخرى

الحرب لا بد منها

وإن أباها الأنام

حقيقة وضعوها

فليس فيها كلام

ما دام شر فحرب

والشر فيهم لزام

في كل يوم دعاوى

لا تنقضي وخصام

إذا استراح فريق

تقاتلت أقوام

والناس للناس بالحر

ب سيد وغلام

ولن يسودوا جميعا

حتى يسود السلام

أرسل إليكم هذه الشوقية النادرة أو المفقودة فيما أعتقد رجاء عرضها على الأستاذ عبد القادر الناصري وعلى القراء لمعرفة ما إذا كان أحد قد صادفها قبل الآن. وسأوافيكم بالموجود فيما بعد

لطف الله نصر الدين أيوب

حول علم النبي بالغيب

في (عدد الرسالة999): فالقرآن الكريم اثبت الغيب لله ونفاه عن غيره في قوله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا).

وفي (شرح المقاصد للسعد التفتازاني): النفي في قوله تعالى (فلا يظهر على غيبه أحدا) مع فرض التغاضي عن الاستثناء - مسلط على مصدر مضاف - أعني غيبه وهو من ألفاظ العموم، فيفيد سلب العموم، لا عموم السلب. فيكون المعنى نفي علم جميع الغيب لا نفي علم شيء من الغيب.

محمد شفيق

ص: 52

غضبة لصيحة

عزيز علينا أن يفرض الصمت على الناي المغني بالعراق، وان تظل. . الخميلة (غائبة لا يباح لها اخضرار ولا إيراق، بينما تحت الأنظار عشب يجهد الأرض ولا يجود بالثمر، يرعى ويغذي، ويخص دون غيره (بالامتياز). . هذا وقضاء الله قائم بان الزبد ذاهب جفاء، وان العاقبة للنافعين.

لقد أصغيت إلى صيحة (الناصري)(بالرسالة) موئل الثقافة الحرة، فعجبت للرجعية! كيف تنبح موكب التقدم؟ وكيف لم تصعق من جبروت الحضارة.

أحرام على بلابله الدو

ح حلال للطير من كل جنس

إن الفكر كالنهر حليم رزين قد يقف للسد ويطيع، ولكنه إذا فاض وتجمعت دفقاته، خرت صاغرة في جوف وادية كل العوائق والسدود، وما حطم أحجار (الباستيل) غير وخزات (فولتير)، وما أسقط (القيصرية) إلا أمثال (جوركي) ونصيب الشعوب بعد ذلك من الجهاد، إنها استجابت لصيحة العقل، وحققت إرادة الفكر، وغنمت النصر والحرية؛ فحرام تعضيد الأميين، وخذلان المثقفين. لأن ذلك إطفاء لشموع يريد لها ربها أن تضيء. . . واعتبروها إن

كنتم تبصرون.

بني سويف

بركات

يتيم ولطيم

ظهر أخيراً كتاب المساكين لدستو يفسكي ترجمة السيدة صوفي عبد الله وجاء في ص34 منه هذه العبارة: -

(وساشا فتاة يتمية لطيمة مات عنها أبواها. . .) ونقول سائلين على أي نوع من أنواع البلاغة يكون التعبير بهذه الطريقة؟

يقولون يتيم لمن مات عنه ابوه، ويقولون عجى لمن ماتت عنه أمه، ويقولون لطيم لمن

ص: 53

مات عنه أبواه جميعا.

وخلاصة ما نريد قوله أنه ما دام مات عن الفتاة والداها فلا داعي لاستعمال لفظ (يتيمة) إذ أن كلمة (لطيمة) وما تبعها من تفسير لها يغني كل الغناء عن استعمالها.

لقد حسبته المترجمة الفاضلة من الاتباع وليس منه.

خميس محمد إبراهيم

ص: 54

‌القصص

وفاء زوجه

عن الإنكليزية

كان يعيش في العاصمة منذ عدة قرون رجل فيلسوف اسمه شوانج. وكان معتكفا عن الناس لا يكاد يخرج من داره. وقد كانت زوجته الأولى في سن الشباب ولم يكن سعيدا معها؛ وكذلك كل الفلاسفة لا يسعدون بالزواج. فتزوج للمرة الثانية ولكنه طلق زوجته الأخرى منها إياها بسوء السلوك؛ وتزوج للمرة الثالثة بسيدة تدعى (تاين) فوجد معها من السعادة ما لم يجده في المرتين السالفتين.

وغير مسكنه بعد الزواج منها فأقام في ضاحية بالقرب من الجبال كان يتنزه في الخلاء، ففي يوم من الأيام وجد امرأة أمام قبر حديث البناء وفي يدها مروحة تحاول بها تجفيف بناءه. فكان ذلك الحادث داعياً إياه للتساؤل، فاقترب منها وسألها في رفق:(ما الذي تفعلين؟)

فأجابته: (في هذا القبر رفات زوجي. ولما كان رحمه الله غبيا فقد استحلفني إلا أتزوج بعده حتى يجف بناء قبره وقد زرت القبر أياما متوالية فلم أجد بناءه جف ولذلك استعجلت تجفيفه بهذه المروحة).

قالت ذلك ونظرت إلى الفيلسوف نظرة حملته على أن يؤدي لها خدمة. فقال: (إن يديك ليستا قويتين فدعيني أساعدك) فقالت: (شكرا! وهذه هي المروحة وستؤدي لي أعظم خدمة إذا عملت في تجفيف القبر).

فجلس يروح بقوته السحرية فجفف القبر بعد لحظات قليلة. وسرت السيدة بنجاحه فابتسمت له ابتسامة مشرقة وجعلت علامة شكرها إياه أن أهدت إليه مروحة أخرى ثمينة كانت تحتفظ بها بين ثيابها: وأهدت إليه كذلك دبوساً غاليا كان في طيات شعرها فقبل الهدية الأولى ورفض الهدية الثانية، ثم ذهب إلى منزله فتذكر الحادث وهو جالس مع زوجته فتنهد؛ فلما سألته عن سبب تنهده أخبرها بما سمعه، فبدا عليها الغضب وثارت على تلك الأرملة التي فضحت بنات جنسها. فردد شوانج المثل القائل: إن رؤية وجوه أناس شيء، ورؤية وجوههم شيء آخر؛ فقالت زوجته: (إنك تظلم النساء إن زعمت أنهن جميعا مثل

ص: 55

تلك الأرملة التي لا تخجل).

فقال الزوج: (علام هذا الاهتمام؟ أخريني، إذا مت وكنت لا تزالين صغيرة جميلة، أترضين بالترمل خمسة أعوام أو ثلاثة؟).

قالت: (إن الوزير الأمين لا يخدم سيدين، والزوجة الفاضلة لا تتزوج من رجلين؛ فإذا قدر الله أنك تموت قبلي فلن يقتصر وفائي على الترمل ثلاثة أعوام أو خمسة، ولكنني سألبس ثياب الحداد حتى الموت).

قال شوانج: (هذا كلام يصعب تصديقه) فقالت: (هل تظن أن النساء كالرجال المجردين من الإنصاف والوفاء؟ أن الزوجة متى ماتت بحث عن غيرها، وقد يطلقها لأنه اختار غيرها فلا تستمر في حديثك الذي أزعجني).

فعندما سمع الزوج هذه الكلمات مزق المروحة التي أهديت إليه عند المقبرة. وقال: (هدئي من روعك وأرجو أن يكون عملك في المستقبل مطابقا لقولك الآن).

بعد أيام كثيرة من هذا الحديث مرض شوانج مرضا خطرا فلزم الفراش. ولما بدت عليه علائم الموت قال لزوجته: (أشعر الآن بقرب منيتي فأستودعك الله. ولكنني آسف على تمزيق تلك المروحة، فقد كانت تنفعك في تجفيف قبري).

فقالت الزوجة وهي تبكي: (أرجو يا زوجي العزيز ألا تكون هذه الساعة الأخيرة ساعة ريبة تشعر بها نحوي. إنني قرأت كتاب السنن وتعلمت منه أن المرأة الفاضلة لا تتزوج إلا من رجل واحد. فإذا كنت لا تزال ترتاب في فإني أقتل نفسي بين يديك لأبرهن على وفائي).

فأجابها شوانج: (إنني لا أريد شيئا بعد الذي سمعته منك).

ثم اشتدت وطأة المرض عليه فقال: (هاأنذا أعالج سكرة الموت. إن الدنيا تظلم في نظري).

وعند هذه الكلمات فقد الحركة والتنفس. فلما عرفت تاين أن زوجها مات علا صوتها بالبكاء وعانقت جثته مرة بعد مرة وبكته آناء الليل وأطراف النهار مفكرة في فضائله وحكمته، وجريا على العادات المتبعة في الصين لم يدخر جيرانها جهداً إلا بذلوه في سبيل مساعدتها.

وبعد أيام أقبل طالب وجهه كوجه الدمية من الحسن وشفتاه كالعقيق وعليه ثوب من الحرير

ص: 56

البنفسجي وفوق رأسه قبعة سوداء مزركشة بالحرير وحذاءه قرمزيان ووراءه خادم.

وقال الطالب للسيدة أنه منذ بضعة أعوام أفضى للفيلسوف شوانج برغبته في أن يصير تلميذاً له فقبل، وإنه جاء من بلاده اليوم لأجل هذه الغاية، ولكن لسوء حظه لم يصل إليه بعد موت الأستاذ، وانه وفاء لعهده يريد أن يقيم في منزله حزينا عليه مائة يوم.

وبعد أن أبلغها ذلك سجد أربع سجدات وبلل الأرض بدموعه. ولما هدأت أعصابه قليلا طلب مقابلة تاين فرفضت ثلاث مرات، ولكنها رضيت أخيراً أن تراه بعد أن أخبرها الثقات بأنه لا حرج على أرامل العلماء من مقابلة تلاميذهم.

وتلقت تحياته بأهداب مسترخية فقد فتنها جمالة ورشاقته واختلج قلبها بمشاعر كثيرة وطلبت إليه أن يقيم بالمنزل. وأعد العشاء فتناوله معه، وكان تنهدها يمتزج بتنهده، وأهدت إليه علامة على تقديرها إياه نسخة من كتاب (نانهوا) وأخرى من كتاب (سوترا) وهما الكتابان اللذان يؤثرهما زوجها.

وكان هو أيضاً علامة على حزنه يصلي كل يوم بجانب القبر ساعة تجلس إليه لتبكي.

وفي إثناء هذه الجلسات كانت تدور أحاديث قصيرة ويتسارقان النظرات فنشا بينهما العطف فمال إليها كثيرا وأحبته اشد الحب.

ولما كانت راغبة في تعرف أحوال ضيفها استدعت خادمه وقدمت إليه النبيذ حتى سكر وسألته: (هل سيدة متزوج؟) فقال: (إنه لم يتزوج قط) فسألته الزوجة: (وما هي الصفات التي يشترطها فيمن يريدها زوجه). فقال وقد أثر فيه مثل جمالك يا سيدتي)

فسألته باهتمام: (هل قال ذلك حقا؟ أتخبرني بالصدق؟)

فأجابها الخادم: (إن رجلا في مثل سني لا يكذب)

قالت: (إذا كان الأمر كذلك فكن وسيطا في الزواج بيني وبينه)

فقال: (إن سيدي كلمني في ذلك قبل الآن، وإنه لولا احترمه لذكرى أستاذه لبادر بطلب الزواج)

قالت الزوجة: (الواقع أنه لم يكن قط تلميذا لزوجي، أما جيراننا فهم قليلون وليسوا من ذوي الاعتبار فلا يحسن أن تقيم وزناً لانتقادهم)

وهكذا ذللت العقبات وتعهد الخادم بان يكلم سيده. ولما ذهب الخادم شعرت السيدة بقلة

ص: 57

الصبر شعوراً مضاعفا. وكانت تسير في منزلها ذهابا وجيئة وتنصت قرب النافذة علها تتسقط كلمة من حديثه وهي لا تفكر إلا في الزواج.

فلما دنت من القبر سمعت صوتا منه واضحا، وسمعت تنهدا فقالت:(هل من الممكن أن يعود الميت إلى الحياة في الدنيا؟).

ولكنها سرعان ما اطمأنت أما رأت الخادم السكران نائما بجانب القبر. ولو أنها لاحظت هذه الملاحظة في وقت عادي لأنبت الخادم وزجرته، ولكنها في هذا الوقت لم تجد خيرا من السكوت.

وفي صباح اليوم التالي قال لها الخادم أنه كلم سيده وإن السيد يجد في هذا السبيل ثلاث عقبات وهي:

أولاً: إن قبر الميت في وسط الدار، وذلك لا يجعله مسكنا صالحا للعروسين.

ثانياً: إن شوانج كان يحب زوجته حبا شديداً وإنها كانت كذلك تحبه، وهو يخشى إن تزوج منها ألا تستطيع حبه كما كانت تحب زوجها الأول؟

ثالثاً: أنه لم يأت معه من الثياب ولا من المال بما يلزم لإتمام الزواج

قالت الزوجة: إن هذه الأمور لا يصح أن تسمى عقبات في سبيل الزواج. . فقبر الميت ينقل من داخل المنزل إلى الحديقة التي خلفه. . أما من الوجهة الثانية، فقد كان شوانج محترما عظيم النفوذ ولكن به ضعفا من الوجهة الخلقية؛ فقد ماتت زوجته الأولى، وطلق زوجته الثانية، وكان قبل وفاته بقليل يغازل امرأة تروح على قبر زوجها ليجف، فلا يكن عند الطالب شك في أنه سينال من حبها إن تزوج منها أكثر مما ناله الزوج السابق! وأما من الوجهة الثالثة فإن لديها مالا كثيرا وستعطيه ثمن الثياب وتقوم بنفقات العرس!

وقالت: أخبره أن اليوم أنسب يوم للزواج، فلا يتردد، ولا يرجئ الأمر! وأعطت الخادم مالا كثيرا فذهب إلى سيده الطالب.

ولم يكد يذهب، حتى أبدلت تاين ثياب الحداد بثياب العرس وأوقدت الشموع واستعدت لحفلة الزفاف، ولكن في الموعد المحدد جاء الطالب هائجا وعليه الجنون. فاستدعت تاين الخادم وسألته هل اعتاد سيده أن تنتابه هذه النوبات؟

قال: نعم، فإنه مدله بحب الإله (تسو) إله العلم، وكانوا يعالجونه من هذه الحالة بأن يطعموه

ص: 58

مخ إنسان!

فقالت: وهل يصلح لذلك مخ إنسان مات موتا طبيعيا؟

قال: نعم على شرط ألا يكون مضى على وفاته تسعة وثلاثون يوما!

فقالت: (الأمر سهل فأنه لم يمض غير عشرين يوماً على موت زوجي الأول فلنفتح قبره، ولنطعمه مخه).

قال: (وهل توافقين على ذلك؟)

فقالت: (إنني وسيدك الآن زوج وزوجة، وعلى الزوجة أن تفعل من اجل زوجها كل شيء فكيف أرفض إطعامه من جثة إن تركناها قليلا استحالت إلى تراب؟).

فأحضر الخادم فأسا وذهب مع تاين إلى القبر فحفراه حتى بدا الصندوق فناولها الخادم الفأس، وكسرت الصندوق فظهرت الجثة، ورفعت الزوجة يدها بالفأس لتكسر الجمجمة وتستخرج المخ، ولكن الجثة تثاءبت ثم فتحت عينها.

فصاحت تاين مذعورة ووقع الفأس من يدها، وجلس الفيلسوف الميت في قبره وقال:(يا زوجتي العزيزة ساعديني على القيام).

فخافت الزوجة ولم يكن في وسعها إلا أن تطيع، فساعدته وقادته إلى غرفتها، وكانت غير ناسية النظر الذي سيؤلمه في هذه الغرفة، ولذلك ارتعشت وهي تقترب من الباب؛ ولكن كان من حسن حظها أن الطالب وأصحابه خرجوا من تلك الغرفة قبل ذلك.

فانتهزت هذه الفرصة وقامت بالخدمة التي تحسنها كل امرأة وأقسمت أنها لم تكف عن البكاء بالليل ولا بالنهار. وأنها لما سمعت صوتا من جانب القبر تذكرت القصص القديمة التي تدل على احتمال عودة الموتى إلى الحياة؛ فأخذت الفأس لتفتح له القبر؛ وحمدت الله أن جعل ظنها صحيحا فعاد زوجها إليها.

قال: (أشكرك يا زوجتي العزيزة ولكن هل لي أن أسألك لماذا ترتدين ثيابا مفرحة كثياب العرس؟)

فقالت: (لما سمعت الصوت من جانب القبر حدثتني نفسي بأنك عائد إلى الحياة فلم أرد استقبالك في ثياب الحداد).

فقال: (ولكن أمراً آخر يستدعي الإيضاح وهو لماذا لم يكن قبري في داخل المنزل كما هي

ص: 59

العادة بل خلف المنزل في الحديقة؟)

فلم تستطع الزوجة مع ذكائها أن تجيب عن هذا السؤال.

ونظر شوانج إلى كؤوس الخمر والشموع الموقدة وموائد العرس، ولكنه لم يد ملاحظة أخرى بل طلب إلى الزوجة أن تناوله كأساً من النبيذ ففعلت وهي تهش في وجه زوجها وتبسم له. ولكن رفض أن يتناول الكأس، وقال:(انظري إلى الرجلين الواقفين خلفك).

فنظرت ورأت الطالب وخادمه فارتجفت. ولكنهما اختفيا في الحال فعادت إلى النظر إلى زوجها فوجدته اختفى كذلك. ثم عادت إلى النظر خلفها فلم تجدهما، والتفتت فرأت شوانج أمامها مرة أخرى فأدركت الحقيقة، وهي أن طالب وخادمه لم يكونا إلا طيفين خلقتهما روح شوانج، ووجدت من العبث إنكار الحقيقة عنه.

ولما اعترفت بها وضعها في الصندوق الذي كان مدفونا فيه ثم أضرم النار في منزله فلم يسلم منه شيء غير كتابي (نانهوا) و (سوترا).

ثم سافر شوانج متجهاً إلى ناحية الغرب ولا يعرف أحد إلى أين ذهب، ولكن شيئا واحدا هو الذي يوثق به وهو أنه لم يعد إلى التزوج مرة أخرى.

ع. ق

ص: 60