المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1002 - بتاريخ: 15 - 09 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٠٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1002

- بتاريخ: 15 - 09 - 1952

ص: -1

‌الأزهر في مفترق الطرق

أبد ما كان يخطر بالبال أو يقع في الظن أن الفساد وإن طم وعم يدنو من الأزهر وهو معقل الدين، ويعلق بالعلماء وهم وراث النبوة. ذلك لأن العقل لا يجيز أن يكون المصباح الذي يهدي هو الذي يضل، وأن الإكسير الذي يشفى هو الذي يُعل، وأن السائل الذي يطهر هو الذي يعدي! ولكن الأزهر الذي لزمناه اثنتي عشر سنة من أوائل هذا القرن نتفقه فيه ونتأدب لم يعد هو الأزهر. والعلماء الذي كنا نأخذ عنهم الدين بالاعتقاد، والخلق بالقدوة، والعلم بالعمل، لم يعودوا هم العلماء!

لقد استجاب الأزهر الحديث لدواعي الفتنة، وتأثر العلماء الأحداث

بعوامل المادة، وزُين للدينيين ما زُين للدنيويين من حب الشهوات،

فتنافسوا في المكاسب، وتفارسوا على المناصب، ورضوا بميسور العلم

حتى أنحصرهم الأستاذ في المقرر، واقتصر جهدا الطالب على

المقروء!

من أجل ذلك كتبنا وكتب المخلصون لدين الله ولرسالة الأزهر، نصف هذه العلل، ونستطب لها بالرجاء والدعاء؛ وما كانت وجهة رجائنا، ولا قبلة دعائنا، إلا أن يقيض الله لهذا الحصن الباقي من حصون الإسلام رجلا من أهله ينقذه من العصبية المفرقة، والمادية الموبقة، والعلم المشوب، والمعلم الجاهل، والمتعلم الفج، والكتاب المعقد. ثم لاحت تباشير الفوز في عهد الإمام مصطفى المراغي بعد أن حجبتها السحب الجون بموت الإمام محمد عبده؛ فتصارع الفساد والصلاح، وتعاقب الفشل والنجاح! ولكن الأرض كانت لا تزال نكدة فذوي الغراس وكذبت بروق الأمل.

وفي السنين العشر الأخيرة اجتاحت مصر كلها من شلالها إلى دالها جائحة من طغيان القصر وفجور الحكومة وعبث الأحزاب، ففسدت الذمم، وصغرت الهمم، ونغلت الصدور، ووقحت الأطماع، ففزع الناي إلى الله يستهدونه الطريق، ويستمدونه المعونة. ثم رفعوا أبصارهم إلى القيادة الدينية العليا، فلم يجدوا في الأزهر حرارة من نار سيناء، ولا شعاعة من نور حراء؛ فكادوا يضمرون اليأس من صلاح الحال، لولا أن نعَش الله عاثر الأمل

ص: 1

فاختار لمشيخة الأزهر المصلح الثالث الإمام عبد المجيد سليم.

والإمام عبد المجيد يختلف عن الإمامين السابقين بأنه يؤمن بالأزهر وإيمانه بالله، ويعتقد اعتقاد المؤمن بأن العمل لإصلاحه عبادة، وأن الأذى في سبيله تمحيص. فهو يتولى مشيخته على أنها جهاد وبذلك، لا على أنها منصب ومال. يتولاها بتقوى المتحنث، وزهد المتوصف، وصبر المجاهد، وفقه المجتهد. لا يراقب إلا الله، ولا يؤثر إلا الحق، ولا يتوخى إلا الصواب، ولا بغى إلا الخير. وتلك هي الصفات التي انفرد بها هذا الإمام من بين جيله.

فإذا أراد الله له أن ينجح - وفي نجاحه نجاح الأزهر - صد الرياح الهوج عن مصباحه، ودك العقبات الكؤد من طريق إصلاحه، وإلا كان الشيخ الأكبر وا أسفاه آخر شيخ يجمع الناس على فضله، ويرجون على يديه الخير للأزهر وأهله!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌نحو بعث جديد

لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان

إن الحركة الموقفة هي التي يتبعها بعث، والوثبة المباركة هي التي تتبعها نهضة. ومن ألزم اللوازم لحركة الجيش بعث جديد، بعث في الشعب والحكومة والدستور، وبعث في الأزهر والدين وبعث في الأحزاب والهيئات، وبعث في الإذاعة والمسرح، وبعث في كل شيء يتصل بحياتنا ونهضاتنا ومثلنا العليا.

فالشعب المصري يجب أن يبعث من جديد إزاء هذه الحركة المباركة، فقد ظل السنين الطوال الثقال لا يؤمن بغير العبودية دينا، ولا يعتنق غير المسنة عقيدة، ولا يتخذ غير المصابرة والمسالمة مبدأ. وظل السنين الطوال الثقال لا يعترف له بوجود، ولا يقر له على الإنكار على الباطل، وقدم التواري على تقويم الاعوجاج. وظل السنين الطوال الثقال في حضيض الفاقة، بينما السادة الأغنياء فوق القمة من الثراء؛ ووسط أمواج من التعاسة والشقاء، بينما السادة الأغنياء داخل أبراج من الترف والبذخ. وظل السنين الطوال الثقال محكوما كما يحكم العبيد، ومسوقا كما تساق الأنعام، وتستبد به كل حكومة منحت سلطة الحكم المطلق، ووهب لها سياط الحكم الإقطاعي الجائر. وهذه الحركة المباركة فرصة للشعب المصري حتى يبعث من جديد، فيكون مصدر السلطات كما تتضمنه دساتير العالم، وتكون إرادته فوق إرادته حكومته كما هو في دول الدنيا الناهضة، ويكون حرا متحررا لا يقر بالعبودية لإنسان، ولا ينكس رأسه لمخلوق، ولا يرغم على اعتناق عقيدة لا يرتضيها، ولا على الاستمساك بمبدأ لا يرغب فيه. ولا على سلوك حياة لا يطمئن قلبه إليها.

والحكومة في حاجة إلى بعث جديد، فقد كانت من قبل أداة فاشلة يستغلها الاستعمار لمصالحه، ويسخرها لرغباته، ويسيرها الطاغوت المتربع على عرشه كما يهوى ويحب، وما كان يهوى إلا الفوضى في شتى ألوانها، وما كان يحب سوى الهرج، شأنه شأن الصبية في الأزقة والدروب، وكانت الحكومة موظفة لدى الطبقة الأرستقراطية ترضي أهواءها، والطبقة الرأسمالية تحرس ضياعه وتزيد في أموالها، والطبقة المترفة العابثة تهيأ لها سبل الترف وتمهد لها الطريق إلى العبث، وتجلب لها الفرق الراقصة الأجنبية على حساب الشعب المكدود حتى لا تتكبد مشاق السفر إلى أوربا، ووعثاء الجو إلى الدنيا الجديدة، وهذه

ص: 3

الحركة المباركة يجب أن تضع حدا لتلك الفوضى، فتصوغ الحكومة في قالب جديد حتى تفهم كل حكومة أنها موظفة لدى الشعب تعمل على إسعاده وراحته ونهضته، وتعمل على استقراره ورفاهيته، وتضع لأسس السليمة للعدالة والمساواة بين أفراده.

والدستور في حاجة إلى بعث جديد. وحسبنا دليلا على هذه الحاجة أنه ظل قرابة ثلاثين عاما لم يقدم مصر خلالها شبرا نحو الأمام، وأنه تضمن من المواد ما يجعل الملك في منزلة الآلهة، وحاشيته في درجة الأحبار، وأعضاء حكومته في صفوف الملائكة؛ ومن المواد ما يجعل هؤلاء جميعا فوق القانون لا يسألون عما يفعلون ولا يحاسبون عما أجرموا. والدستور الجديد الذي يتفق وهذه الحركة المباركة يجب أن يكون دستورا حيا يحقق الخير لمص والعدالة الاجتماعية لشعبها. ولا نعتقد أن ترقيع الدستور يحقق الغرض، فحسبه من الهوان أن دستور مرقع. ولسنا ندري لم نهمل دستور الله الخالد الذي لا يأتيه باطل من يديه ولا من خلف تنزيل من حكيم حميد، وفيه عنى عن كل دساتير العالم، ونحن أمة مسلمة لا خير فينا إذا لم نعتز بتراثنا ونعتد به

والأزهر في حاجة إلى البعث، يجب أن يطهر من الحزبية الهزيلة لأنه أكبر من أن يتحزب، ويطهر من التعصب لأنه أجل من أن يتعصب، ويطهر من المناورات الصغيرة حتى ينال تقدير العالم وثقة المسلمين. إن له رسالة دينية إنسانية فيجب أن يعيش من أجلها، ويبتكر المناهج التي تحقق أغراضها. إن للشعوب المسلمة عليه واجبا، فيجب أن يرفع مستواها وينهض بأفكارها والدين في حاجة إلى البعث، لأن عهد الإقطاع والإرهاب قد جعل منه دينا هينا لينا، وجعل منه مخدرا يخدر الفقير حتى لا يعرف حقه على الغني، ويخدر المحكوم حتى لا يعرف حقه على الحاكم، ويخدر الشعب في مجموعه حتى لا يعرف قدر نفسه، وحصره في حدود التكاليف الشرعية، وتوافه الأمور التي لا تتصل بأسسه، حتى يظل بمعزل عن السياسة وبمعزل عن الحياة، وبعث الدين يجب أن يقوم على عاتق الأزهر والجماعات الإسلامية الناهضة حتى يؤدي الدين رسالته التي ارتضاها الله له، ورضيها لعباده، والتي يجب أن تحقق العزة والسعادة لأتباعه في مشارق الأرض ومغاربها.

والأحزاب والهيئات في حاجة إلى بعض جديد، لأن الأحزاب السياسية لم تكن طيلة السنين

ص: 4

الماضية سوى نواد لعلية القوم وأعيان مصر، يدلفون إليها لاحتراف السياسة والتعلق في حبال الزعامة التي هي أوهي من خيوط العنكبوت. ويثرثرون بين جدرانها ليليقوا بكراسي الوزارة أو مقاعد البرلمان - أما منهاج هذا الأحزاب هو تضياع الأوقات في غير جدوى، وأما هدفها فهو كراسي الحكم التي تحيا وتموت عليها، ولأن الهيئات الدينية والاجتماعية ظل معظمها مظهرا لا جوهر له، وشكلا لا حقيقة له. وعلى الأخص الهيئات الدينية التي احترفت الظهور، في توافه الأمور، والتعصب للقضايا الفاشلة. وحسبك أن تضحك من جماعة دينية ضخمة تنادي باللحية والعذبة ولا ترى الإسلام إلا منحصرا فيهما، وجماعة ثانية تندد بالأضرحة والأولياء ولا ترى الإسلام إلا منحصرا في التنديد بهما، وجماعة ثالثة تطارد المرأة ولا ترى في المسلمين خيرا إلا إذا طاردوها، ورابعة وخامسة إلى مالا ينتهي حصره من هذه الجماعات التي حصرت جهادها في سفساف الأمور، أما مهامها فهي أعجز من أن تجاهد في سبيلها. ومن حق هذه الحركة على هذه الجماعات الضئيلة أن تبعث من جديد، فتحصر جهادها فيما يقدم الإسلام وأمته، ويحل مشكلاتها ويحقق أمانيها.

والإذاعة المصرة والمسرح والسينما جميعها في حاجة بل في أمس الحاجة إلى البعث الحديد، لأنها موارد طيبة ومنابت خصبة للنهوض بالثقافة والأدب والعلم والمجتمع، فعلى الإذاعة أن تتعفف عن الأغاني الساقطة والتمثيليات الهزلية والقصص الركيكة، وعليها أن تسقط من برامجها التواشيح المهلهلة التي تسيء إلى الإسلام، والأحاديث الدينية المضطربة التي تشوه جماله، وعليها بعد هذا أن تبدأ عهدا لا تكون فيه تكية من التكيات التي تؤوي العجزة والعاطلين. وعلى المسرح والسينما أن ينتقل على حياة مشرفة لا تعيش فيها الأفلام الساقطة التي تلطخ جبين الفن بالعار، وتسود صفحته بالفضيحة، وتنزل بمستوى الشعب إلى الحضيض. وإذا كان للرقص والمجون والعربدة أثر فعال في نجاح كثير من الأفلام في العهد البائد، فلا نظن أن هذه المخازي سيكون لها ذرة من الأثر في نجاحها في هذا العهد المشرق، لأن مصر اليوم في حاجة إلى أفلام تجعل مصر في المقدمة، وتجلس شعبها فوق القمة، وتعالج المشكلات المستعصية، وتكافح الأمراض الاجتماعية المتوطنة، وليست في حاجة إلى الأفلام التي تثير الغرائز، وتشجع على الرذيلة، وترسم طرق الاحتيال والنصب للمشردين والعاطلين.

ص: 5

نريد بعثا جديدا في كل شيء يتصل بحياتنا وتتأثر به نهضاتنا حتى تؤتي حركة الجيش المباركة أكلها كل حين بإذن ربها، وتثبت للدنيا أن مصر جديرة بها، وأن شعبها خليق بثمراتها.

محمد عبد الله السمان

ص: 6

‌إلى القوي الأمين الرئيس اللواء محمد نجيب

من شيخ في الشام

يا سيدي:

// لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها

قد كنت شهما فأتبع رأسها أذنبا

وما كان فاروق (على قبح سيرته، وتسخيره عقله لشهوته وسلطانه للذته) رأس الشر، بل كان ذنبا طويلا من أذنابه. . وما كان فاروق أصل الفساد، بل كان فرعا عاليا من فروعه، سمق حتى بدا، وبسق حتى أظل، وإن كان بعش الشر كالعقرب، أخبث ما فيها الذنب، ومن الظل ظل ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب.

إن رأس الشر التربية التي صنعت فاروق. وهذه الحياة المستهترة المنحلة التي مكنت لفاروق. . ومادام الجذع قائما، والتربة منبته، فإنه سيخلف الفرع المقطوع، فروع.

وما فاروق؟ ولد نشئ على أن يعطي كل ما يطلب، ويمنح كل ما يريد. على غير توقى ولا حياء. ما يعصمه من خوف الله عاصم، ولا يمنعه من هيبة الناس ما يمنع أوساط الناس، فأدت به البداية على هذه النهاية. ولو كان الزمان مقبلا، والتربية صالحة والأمة نقية دينة كما كانت أمة صدر الإسلام، وربي فاروق على ما كان يربى أبناء المسلمين في ذلك الزمان، لكان (الملك الصالح) حقا.

وما دام هذا الفسوق باقيا، والتكشف والاختلاط والفساد، ومادام في الناس آلاف يعيشون عيش انطلاق وراء اللذة، وسعي لنيل الشهوة، من حل ومن حرمة.

وما دام في أطفال آلاف يربون الآن على نحو ما ربي عليه فاروق، فمن يأمن أن ينجم إذا أو بعد غذ من ينال منهم على فساده سلطانا فيكون شرا على الناس من فاروق؟

فإذا أردت الإصلاح يا سيدي حقا. وأنت لا شك تريده، فاقطع أصل شجرة الفساد، وأسحق رأس الأفعى، واستأصل بذور الداء، فإنه لا يكفي أن تفقأ الدمل، ولا أن تدفع (النوبة) إن ذلك يريح المريض ولكنه لا يشفيه. ما الشفاء إلا قطع أسباب الداء. ووقاية الجسم من عدواه، وتقويته حتى لا تؤثر فيه العدوى ولا يكون ذلك إلا بمحاربة الدعارة ومظاهر الإثم ودواعيه أولا ثم بتشجيع الزواج الحلال، ليغني عن الزنا الحرام، ثم بإصلاح المدارس، وتنشئة الناشئة على خوف الله. وكراهة المعصية، وعلى الرجولة والعفاف وابتغاء المعالي.

ص: 7

ولا يقولن أحد ما شأن (شيخ في الشام) بالإصلاح في مصر فإن المسلمين أمة واحدة وجسد واحد. والإسلام لا يعرف هذه الحدود. وإن النصح واجب. لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ثم أن هذه الفساد الذي نشكو منه إنما جاءنا الصلاح (ولا حياء في الحق من مصر، فلعل مصر إن حلت جاءنا الصلاح من مصر، وهذا (الشيخ) بعد ذلك مصري قدم الشام جده الأدنى، فهو مصري الأصل، شامي المولد، عراقي تارة، حجازي تارة.

في الشامي أهلي وبغداد الهوى وأنا

بالرقمتين وبالفسطاط إخواني

في مصر يا سيدي ست مدارس تعلم الناس الفساد: مدرسة التكشف في الحدائق والشوارع الحفلات والشواطئ، ومدرسة المجلات، ومدرسة الإذاعة، ومدرسة الأفلام، ومدرسة الملاهي. وهذه المدارس الرسمية التي وضع بذور الشر فيها (دنلوب)، ورعاها حتى نبتت من بعده (دناليب. . .).

أما التكشف فلقد عشت في مصر دهراً، ورأيت منه عجباً، أفخاذا بادية، وعورات ظاهرة، في حديقة الحيوانات وسائر الحدائق، وعلى العربات البلدية، وفي الأعراس التي تقام على السطوح. ولقد رأيت والله رجالاً يستحمون عراة لا يسترهم شيء تحت جسر الملك الصالح حيث يلتقي من أعظم شوارع مصر، طريق الجيزة وطريق الفسطاط، وخطا (ترام) وسبيلا (أتوبوس)، ورأيت بنت تنزل في الماء كما خلقها الله - أي والله العظيم - لتغسل طبق فجل لتبيعه. أما العرى على شواطئ فشئ أفظع من أن يوصف، وإن كنت زرت مصر مراراً وأقمت فيها سنين ولن أره بحمد الله قط أما المجلات الأسبوعية المصورة فلقد كانت معمولاً لهذه الأخلاق، سارت على طريق معبد، وفق خطة موضوعة، لإضعاف الأمة بصرف شبابها إلى الشهوات، وشغلهم بالغرائز الجنسية، عن الجهاد الوطني، والتسلح بالرجولة والقوة والصبر. . ومحاربة المستعمر. ولقد بلغت منا هذه المجلات أكثر ما بلغته جيوش الاحتلال جميعا، وكانت أنفع لأعدائنا من كل ما ساقوه إلينا من حملات، وما أنفقوه على حربنا من أموال.

ثم جاءت هذه الأفلام:

هذه الأفلام التي بحت الخناجر، وبريت الأفلام، وامتلأت الصحف بالكلام عنها، وبيان شرها، وسوء أثرها في نفوس رائيها، أفلام لا موضوع لها ولا حوار، ولا تمثيل فيها مثل

ص: 8

تمثيل الناس، ولا إخراج ما فيها إلا التخنث والخلاعة والسقوط والخزي ورقص البطن، والتهريج البارد، والتقليد السمج، حتى صار لقب المصري في فلم علامة على سقوطه وانحطاطه، وصار المهذب من الناس والشريف ومن يعرف لنفسه قدرها يتحامى هذه الأفلام ويحمي أولاده منها، وصار من المعروف أنه لا يرتاد دورها إلا العوام والسوقة والرعاع وسفلة الناس، ولا يخرج مع ذلك الكثير منهم إلا وقد ملأ نفسه التقزز والاشمئزاز و (القرف. . .).

إن هذه الأفلام دعاية على مصر لا لمصر، لو أنفق اليهود نصف أموالهم، ما استطاعوا أن يصلوا إلى بعضها، وهدم لكل ما تبنيه المدارس وما يقيمه المعلمون والمصلحون، ودرس في التخنث، وسقوط الهمة، والبعد عن عزة الإسلام وخلائق العرب، وفصاحة اللسان، والرجولة والإباء. وإن محاربتها أوجب عن محاربة الكوليرا واليهود، لأن الكوليرا تفتك بالأجساد، وهذه تفتك بالأعراض والأخلاق، واليهود وراء الحدود، وهذه منا وفينا.

أما الإذاعة فقد كان من الممكن أن تكون مدرسة ليس لها نظير وأن نجعل منها أداة للإصلاح لا يستعصي عليها فساد، ولكنا لم نتخذها مع الأسف إلا أداة للفساد. ولم نجد شيئاً نذيعه فيها إلا الأغاني، أغان دائماً وأبداً، كأننا أمة من الصراصير في الصيف لا تعرف إلا الغناء.

أغان ليس فيها نصاعة البيان، ولا روعة الأدب، ولا حلاوة الأنغام، ألفاظ عامية غثة باردة، لا وزن لها ولا رنين ولا قافية، كلها دعوة إلى الشهوة، وإثارة الغزيزة، وتصريح بطلب الفاحشة، ولو شئت ضربت الأمثال، ولكني أنزه قلمي عن أن يجري بألفاظها، أو أن يشرف بذكر اسمه أحداً من أصحابها.

لقد كانت الأغاني الأولى، أغاني حب وشوق، ونداء روح لروح، ومناجاة قلب لقلب. وهذه صرخة داعرة من أفواه فاجرة.

ولقد سكتنا من عجزنا وضعفنا عن إنكار منكرات الملاهي والحانات، وحمينا أنفسنا منهال وأهلينا، فما معنى أن تأتي الإذاعة فتنقلها إلى دورنا رغما عن آنافنا، وتسمعنا ما يكون في الأفلام الخبيثة من أغان، وأن تنقل إلينا حفلات آثمة بكل ما فيها. وإن نحن سددنا الراد عنها جاءنا الصوت من بيوت الجيران الذين يفتحونه على مصراعيه، فيزعج كل راد

ص: 9

دائرة قطرها مئة متر. وما معنى أن نحرم للنام إلى ما بعد نصف الليل لنسمع هذيان حفلة من هذه الحفلات، أو غناء مغنية من المغنيات؟ أليس في الناس مرضي؟ أليست لنا أشغال؟ ألا نحتاج إلى النوم. أنعطل أشغال النهار كله أو نقضيها مرضى لأن الآنسة أم كلثوم كانت تغني طول الليل؟ وإن كانت ليلة جمعة، ليس بعدها عمل. . . هل كانت ليلة الجمعة في نظر الإسلام للطاعة والقيام، أم لسماع أم كلثوم؟

وما معنى أن تذاع كل أغنية مرة ومرتين وعشرا وعشرين نملها ونشعر أنها خرجت من أنوفنا، وهبها أغنية جيدة فهل في الدنيا ألذ من الفراني والبقلاوة والكنافة وما شئت من هذه الألوان، أطعم رجلا منها أبدا، لا تطعمه غيرها في الصباح والظهر والمساء يشته الخبز والبصل. . . ثم إنها كانت مدرسة شر لأطفالنا، فما منهم إلا حافظ لبعضهم بدل حفظه آيات الكتاب، والحكم والآداب. وصار أبناؤها يرددون أسماء الممثلين والممثلات والمغنين والمغنيات، عوضا عن ترديد أسماء الأبطال والعلماء.

بقيت المدارس يا سيدي. وأنا لا أتكلم الآن عن برامجها وإهمال تعلم تاريخ الإسلام، وجغرافية بلاده؛ فإن لذلك حديثا آخر طويلا، ولكني متكلم عما يتصل منها بالفساد الخلقي وهو ما عقدت له هذا المقال.

المدارس يا سيدي تفسد بناتنا، وتعلمهن التكشف وتسوقهن إلى شفا المحرمات. وكم من متسترة ما تعلمت السفور إلا في المدارس، وكم من متمسكة بعادات البلاد وأوضاع الإسلام. ما جرأها على الخروج عليها إلا المدارس.

أليست المدارس تجبر البنات البالغات على كشف أفخاذهن في درس الرياضة في المدرسة؟ ألا يأتي المفتش مثلا فيراهن على هذه الحال؟ ومن في المدرسة من المعلمين الرجال؟! أليست المدارس تعلمهن الرقص التوقيعي، وفي الشام رقص السماح. وهو طريق إلى الفاحشة، وباب من أبواب الفساد.

ألا تكشف العورات في العرض الرياضي العام أمام الآلاف من الرجال وتأتي هذه المجلات الآثمة فتنشر صورة ذلك في الدنيا كلها، حتى يراها كل من لم يكن رآها.

والاختلاط في الجامعة؟ هل يرضى به الإسلام؟ هل تقره سلائق العروبة؟ أما رأيتم من مفاسده وشروره ما لا يجوز إبقاءه يوما واحدا؟

ص: 10

وهذا طرف مما نشكوه من المدارس، ولقد جاء مرة وزير للمعارف صالح اسمه مرسي بدر. شرع في الإصلاح، فخاف لصوص الأعراض أن يسد دونهم الأبواب والنوافذ، فقاموا عليه حتى أخرجوه. فخذ يا سيدي بالإصلاح فهذا طريقه، واقض على الفساد فهذا رأسه، واقطع شجرة الشر من جذورها، فإن الرجاء منوط بك، والأمل معقود عليك، وإلا تستطع ذلك لم يستطعه أحد بعدك.

أخذ الله بيدك، وسدد خطاك، وجزاك عن الحق والحرية والشعب والأخلاق خير الجزاء، وجعل كل رجال الانقلابات، وأصحاب السلطات، مثلك.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

دمشق

(ع)

ص: 11

‌التيتوية

للدكتور عمر حليق

ليست التيتوية (نسبة إلى المارشال تيتو عاهل يوغسلافيا الشيوعية اليوم) مجرد خلاف عارض بين دولتين شيوعيتين بواعثه خصومة سياسية أو حزازات شخصية بين ستالين وتيتو، أو اختلاف على زعامة الشيوعية العالمية التي اشترك هذان القطبان الماركسيان في خدمتها سنوات طوالا، أداتها مؤامرة مزيفة بين قطبين شيوعيين يخدمان هدفا واحدا؛ إنما هي (ردة) أيديولوجية جذورها في خلاف فكري عميق على مسألة دقيقة في التعاليم الماركسية تتعلق بتحديد العلاقات بين الدول اتخذت الشيوعية نظاما لها - تحديد يفسد على موسكو (وهي كعبة الشيوعيين) مركزيتها وسيطرتها المباشرة على النشاط الشيوعي في كل مكان، ويوفر للدول الشيوعية خارج الاتحاد السوفييتي حرية في التصرف تخالف مبدأ الوحدة الشيوعية العالمية وما تدعو إليه من تحالف وتعاون وتضامن في المبدأ والسلوك السياسي يبت بعضها بعضا وفي علاقاتها مجتمعة مع العالم الخارجي.

ولعل في استعراض حركة المارشال تيتوا الانفصالية عن موسكو ما يلقي ضوءا نافعا على ناحية هامة في العقلية الشيوعية ومستقبل نشاطها في الشؤون العالمية.

انفردت يوغسلافيا من بين الأمم الأوربية خلال الحرب العالمية الأخيرة بأنها الأمة الوحيدة التي استطاعت أن تقهر الاحتلال النازي قبل أن تلوح بوادر الهزيمة على ألمانيا النازية ففي حين أن حركات المقاومة السرية في الدول الأوربية التي احتلها جيوش هتلر كانت حركات ضعيفة مقيدة النشاط محدودة الأثر. . كانت حركة التحرر من الاحتلال النازي في يوغسلافيا واسعة النطاق فائقة النشاط عمت الأكثرية الساحقة من الشعب اليوغسلافي ومكنته من أن يحتفظ بأجزاء واسعة من بلاده في حرة طليقة لم تقو على استعبادها القوات النازية المرابطة في دساكر يوغسلافيا ومعاقلها الرئيسية. وكان عزم اليوغسلافيين وبأسهم في مقاومة الألماني على أشده حتى بعد أن رضيت الحكومة اليوغسلافية الشرعية آنئذ أن تهادن النازية وتتعاون معها وتخضع لمشيئتها. وقد حقق هذا العزم لحركة التحرر جيشا منظما وجهازا إداريا انتزع السلطة من الحكومة اليوغسلافية الشرعية التي أصبحت آلة فيد يد القوات النازية المحتلة، وما إن لاحت بوادر الهزيمة الألمانية في الميادين الأوربية

ص: 12

الأخرى حتى أسرع هذا الجيش اليوغسلافي الحر وجهازه الإداري المنظم فطرد الألمان إلى غير عودة، وأقصى معهم الحكومة اليوغسلافية الشرعية التي تعاونت معهم - بما فيها النظام الملكي الذي فر من الميدان في وقت مبكر.

ومع أن حلفاء الغرب كانوا يمدون جيش التحرر اليوغسلافي ببعض الذخيرة والعتاد العسكري والمعونة الأدبية إلا أن الفضل في انتصاره يعود إلى وطنية الشعب اليوغسلافي وتضحيته فوق كل شيء آخر. وعلى ذلك ظل اليوغسلافيون مؤمنين بأن تحريرهم لبلادهم من سيطرة النازية كان مجهودا يوغسلافيا بحتا لا فضل لأحد فيه - لا لحلفاء الغرب ولا لروسيا السوفيتية.

إلا أن انشغال ستالين ومكتبه السياسي بالحرب النازية ومعارك الشتاء على حدود موسكو وليننغراد لم تله صناع السياسة الشيوعية الروس عن مراقبة مستقبل القارة الأوربية - ومستقبل يوغسلافيا على وجه الخصوص من حيث أنها منفذ حسن لمياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة على رمية حجر من الشاطئ الأفريقي الذي كان ولا يزال يحتل مركزا هاما في خطط العسكريين والمسئولين عن سياسة الحرب في التاريخ المعاصر. أضف إلى ذلك أخوية اكتساب بلد كيوغسلافيا كقاعدة شيوعية في منطقة البلقان التي كانت ولا تزال حدا رئيسيا من حدود المجتمع الشيوعي الأكبر التي نصبت روسيا السوفيتية نفسها وكيلة بتشييده محققة بذلك تعاليم ماركس وشروح لينين وستالين عليها مما لا يتسع المجال في هذا المقال لاستعراضه.

وقد ساعد روسيا السوفيتية على دوام الاتصال بالتطورات في الوضع اليوغسلافي خلال الحرب العالمية الأخيرة ذلك النشاط الواسع الذي قامت به العناصر الشيوعية اليوغسلافية في محاربة الاحتلال النازي متعاونة مع العناصر الوطنية اليوغسلافية الأخرى على نحو ما فعلته العناصر الشيوعية في الصين عندما تآلفت مع العناصر القومية في محاربة الاستعمار الياباني وغزوه المسلح للقارة الصينية.

ولقد لعبت الحركة الشيوعية في يوغسلافيا أدوارا مماثلة لتلك التي قامت بها الحركة الشيوعية في الصين من حيث أنها تسربت إلى القوات المسلحة والجهاز الحكومي والسلطة الشرعية التي كانت تحارب الاحتلال الياباني، فما إن تمت هزيمة النازيين حتى قامت

ص: 13

العناصر الشيوعية في يوغسلافيا باستخلاص الحكم والسلطة من الحكومة الشرعية والقضاء على النظام الملكي والعناصر التي كانت تسانده؛ وتلك التي تعاونت مع الألمان الغزاة. وكان المارشال تيتو - زعيم الحركة الشيوعية في يوغسلافيا - وثيق الصلة بستالين وبالقيادة العليا للحركة الشيوعية العالمية التي كان المارشال اليوغسلافي من أبرز أعضائها، إذ سبق أن مثلها لدى الجيش الشيوعي الأسباني خلال الحرب الأسبانية الأهلية التي انتهت بفوز الجنرال فرانكو على خصومه الشيوعيين.

وأخذ المارشال تيتو يطبق في يوغسلافيا ما تلقنه من تعاليم ماركس وشروح لينين وستالين عليها عندما كان المارشال لاجئا سياسيا في موسكو وصديقا شخصيا لستالين.

وفي يونيه عام 1948 - بعد ثلاث سنوات من استتبات النظام الشيوعي في يوغسلافيا فوجئ العالم بخصومة علنية بين تيتو وستالين، وقطيعة حاد بين روسيا السوفيتية ويوغسلافيا الشيوعية، شغلت العالم في تلك الآونة وكانت حديث الناس في كل مكان.

فلأول مرة في تاريخ الحركة الشيوعية يشق عضو من أبرز أعضائها عصا الطاعة على موسكو ويعرض نفسه وبلاده لخطر (التأديب) الروسي الذي كانت جيوشه على حدود يوغسلافيا في البلقان وأوربا الوسطى الخاضعة للنفوذ السوفيتي.

ولكن يوغسلافيا ومارشالها استطاعا أن يحتفظا برأسيهما عائمين فوق الماء، وأن يضمنا لونا من المؤازرة العسكرية والسياسية من المعسكر الغربي - خصم الاتحاد السوفيتي - رغم أن يوغسلافيا ظلت بلدا شيوعيا في أنظمته ومبادئه وأهدافه ومراميه.

ولأول مرة سجلت قواميس اللغة كلمة (التيتوية) علما على الشيوعية (القومية) التي تعيش على نظام ماركسي بحت، ولكنها لا ترتبط بالحركة الشيوعية العالمية عن طريق مركزها الروحي والإداري في موسكو.

وليس المهم أن نتعرف هنا دقائق المراحل التي تمت بها هذه القطيعة بين البلدين الشيوعيين - بين موسكو والمارشال تيتو ربيبها السابق، إنما المهم أن نأخذ بما يؤكد معظم الخبراء في شؤون يوغسلافيا من أن هذه القطيعة قد تمت وأنها ليست مزيفة كما يعتقد بعض الناس.

ووجه الخطورة في هذه القطيعة أنها تستند إلى خلاف جوهري على مبدأ أساسي من مبادئ

ص: 14

الفكر الماركسي. . ألا وهو تحديد السلطة المركزية التي يمارسها (الوطن الأم) وهو أول بلد يتوطد فيه النظام الشيوعي - على بقية الدول الشيوعية التي تنتمي إليه بالولاء وتشاركه في السلوك وتؤمن بما يؤمن به من ضرورة تشييد المجتمع الشيوعي الأكبر في هذا العالم المترامي الأطراف.

ذلك لأن المارشال تيتو وأعوانه في الحكم لا يزالون يؤمنون ويطبقون التعاليم الشيوعية كاملة في يوغسلافيا، ولا يزالون يعتقدون بأنها أفضل النظم للعالم بأسره، ولا يزالون تواقين لمناصرة الحركات الشيوعية في كل مكان كما تشهد بذلك مواقف الحكومة اليوغسلافية في هيئة الأمم وفي خارج هيئة الأمم في دفاعهم عن وجهة النظر الشيوعية في معظم المشاكل الدولية التي دعين يوغسلافيا لإبداء رأي فيها، أو تولت - غير مدعوة - لإبداء الرأي، ولكن المارشال تيتو يرفض أن يمتثل لزعامة موسكو وهذا الرفض هو سر القطيعة بين تيتو وستالين.

ومما لا ريب فيه أن هذا الخلاف مبعثه حدة القومية اليوغسلافية ورفضها الانقياد لدولة أجنبية حتى لو كان في ذلك خروجا على المبدأ الماركسي الذي يصر على العمل الموحد والتناسق الدقيق بين الوطن الشيوعي المركزي (وهو الآن الاتحاد السوفيتي) وبين الدول الشيوعية المنتمية إليه كما يعترف وزير الدولة اليوغسلافي (ميلوفان دجيلاس) في عدد أبريل سنة 1951 في مجلة الشؤون الدولية اللندنية.

ثم إن هناك تطورا آخر على قسط كبير من الأهمية في مستقبل الحركة الشيوعية العالمية عقيدة وتطبيقا لتطور مجسم عن القطيعة بين موسكو والمارشال تيتو، وهو أمر يمس صميم التعاليم الماركسية وشروح لينين وستالين عليها - وهي إنجيل الشيوعيين في كل مكان. فالحركة الشيوعية في يوغسلافيا تمر الآن في انقلاب فكري خطير مبعثه نضال المارشال تيتو لبناء المجتمع اليوغسلافي على أسس ماركسية صادقة دون أن ينتظر العون والتأييد والإرشاد والتوجيه من الاتحاد السوفيتي ومن (الكومنفورم) الذي هو في الواقع دائرة عظيمة النفوذ تابعة لوزارة الخارجية الروسية. ولقد وجد المارشال تيتو نفسه منفردا في مسعاه يواجه تحديا عنيفا في منطقة النفوذ الشيوعي في أوربا الشرقية والبلقان ويتقاعس عن الارتماء كليا في أحضان المعسكر الغربي.

ص: 15

ولكن الغزل السياسي والدبلوماسي الذي أخذ يزداد في الآونة الأخيرة بين يوغسلافيا وبين دول أوربا الغربية وأمريكا الشمالية شق الطريق إلى صميم المجتمع اليوغسلافي الشيوعي وحمل إليه ألوانا من الفكر والأدب والفن الغربي (الرأسمالي) فأوجد تشويشا في الفكر والثقافة والعقيدة الشيوعية السائدة بين ولاة الأمور في يوغسلافيا وبين طبقات المجتمع اليوغسلافي. فالأفلام الأمريكية، والقصص والبحوث الفرنسية، والصحف والمجلات البريطانية، وجوقات الموسيقى والمسرح الأوربية والأمريكية. . أصبحت الآن أشياء مألوفة لدى المواطنين اليوغسلافيين، بعد أن انقطعت صلتهم بالحياة والفكر الغربي عشر سنوات طوال.

ونتج عن هذه الغزوة الثقافية أن تأثر عدد من أبرز أعضاء الحزب الشيوعي في يوغسلافيا، وصناع السياسة وقادة الفكر فيها بهذه التيارات الفكرية، وظهر هذا التأثير في موجات من النقد الخافت الموجه إلى النظام الشيوعي وأساليب تطبيقه؛ الأمر الذي أزعج المارشال تيتو وأعانه الخلص من الماركسيين المتعصبين للتعاليم الشيوعية. وقد أعرب عن هذا الانزعاج المارشال نفسه في خطاب ألقاه مؤخراً، ندد فيه بهذه الشعوبية وود لو أن يوغسلافيا طهرت نفسها من هؤلاء الشعوبيين، حتى أو استدعى ذلك إقصاء مائة ألف شخص من عضوية الحزب الشيوعي. . وهذا تعبير يعكس ما يتعرى المارشال من قلق وانزعاج.

وكرر (موشي كرولجي) وزير خارجية تيتو هذا التنديد في تصريح آخر حذر فيه هؤلاء الشعوبيين بأن من حق الدولة الشيوعية ومن واجبها أن تضع حدا للتيارات الشعوبية التي أخذت تنتشر في أوساط المجتمع اليوغسلافي بفعل البضاعة الفكرية الواردة من أوربا الغربية وأمريكا الشمالية.

وقد عزز المارشال تيتو القول بالعمل، فأخذ يقصي عن مراكز الحكم نفرا من أهم أعوانه من الذين ألموا بهذه الشعوبية لكنه لم يستطع أن يضع حدا لهذا الاتجاه الطارئ، فلم يفرض رقابة على البضاعة الفكرية الواردة من أوربا الغربية وأمريكيا الشمالية خشية أن يفقد عطف المعسكر الغربي بعد أن اختار القطيعة التامة مع المعسكر السوفيتي.

ولم يجد تيتو بدا من أن يلجأ إلى المساومة. فاختار نفرا من قادة الفكر الشيوعي في

ص: 16

يوغسلافيا وكلفهم بوضع تفسير جديد للتعاليم الشيوعية يوفق بين جوهر الفلسفة الماركسية وبين بعض النظريات والمبادئ السياسية والاقتصادية والثقافية التي تعيش عليها الدول والمجتمعات في أوربا الغربية والعالم الجديد وتوخى هذا التفسير الجديد أهدافا محدودة منها التأكيد بصلاح الشيوعية لتشييد المجتمع المثالي ليوغسلافيا ولجميع الشعوب.

ومنها رفض أساليب ستالين ومكتبه السياسي وسياسة (الكومنفورم) لبناء المجتمع الشيوعي. انتقدها انتقادا لاذعا ووصف الاتحاد السوفيتي بأنه دولة استعمارية سلاحها البطش والعدوان.

ومن هذه الأهداف كذلك تحرير الجاهز الحكومي في يوغسلافيا الشيوعية من المركزية الصارمة، واقتباس نواح من فن الإدارة (الديمقراطية) المصطلح على أتباعها في الغرب، بحيث تنتفي من المارشال تيتو وحكومته التهم (الديكتاتورية) الموجهة إليه من أوساط الغرب ومن بعض الأوساط اليوغسلافية التي تأثرت بالغرب وآرائه ومعتقداته وتحليلاته السياسية عن الوضع اليوغسلافي.

وأخذ التفسير اليوغسلافي الجديد للشيوعية يتفلسف ما استطاع ليجعل من المارشال تيتو صورة تخالف الصورة المعهودة في الغرب عن ستالين؛ وهي صورة الحاكم المستبد الذي لا ورد لأمره، والذي يستند في تنفيذ مآربه إلى جهاز دقيق من البوليس السري، فيتعقب الناس ويسترق آراءهم ويبطش بهم إذا ألمت بهم شعوبية أو أضمروا سوءا للعهد القائم.

وخلاصة القول في هذه الإيديولوجية الشيوعية الجديدة التي يحاول تيتو وباسطتها التوفيق بين ماركسيته ورأسمالية أصدقائه الجدد في المعسكر الغربي. . أنها كما يقال وزير الدولة اليوغسلافي (ميلوفان دجيلاس).

(استنباط فكري لا سابق له. فبلادنا الصغير (يوغسلافيا) بلاد جريحة ولم يكتمل نموها بعد. وعليها أن تناضل لا لتنمية مرافقها فحسب بل لصيانة كيانها القومي).

أليست هذه المحنة التي دفع إليها الشعب اليوغسلافي أشبه بالمحن التي تنتاب معظم البلدان في آسيا وفق شرفنا الأوسط؟ - بلاد متخلفة تحاول أن تنمي مرافقها وتقوي كيانها القومي في آن واحد، وفي وجه تيارات سياسية واقتصادية وثقافية تهب عليها من الفريقين المتخاصمين اللذين يهيمنان على مقدرات العالم هذه الأيام.

ص: 17

نيويورك

عمر حليق

ص: 18

‌رحلة أبي الطيب من مصر إلى الكوفة

للأستاذ أحمد رمزي

تتمة البحث

وكنت إذا يممت أرضا بعيدة

سريت فكنت السر والليل كاتمه

شعوران قد تملكا قلب أبي الطيب في رحلته، وأعترف بأني أشاركه فيما: شغفه بالبادية والتغني بمحسانها ولياليها، ومقته للظلم والطغيان، فهو لا يذكر أيامه بمصر إلا مقرونة بالألم والحسرة، ولا يمر بعقبة أو يخرج من أمر مدلهم، إلا عد ذلك نصرا على كافور وظلمه وطغيانه، ولا يترك مناسبة دون التغني بالبادية.

إنك لا تشعر بشعور أبي الطيب إلا إذا عشت بالبادية، ورأيت سماء الصحراء المقمرة أو لياليها التي تسطع فيها النجوم. إنني أذكر ليلة مقمرة في وسط الصحراء كدت أقرأ فيها على ضوء القمر صفحة من كتاب. ولقد تركت هذه الرحلة برغم مصاعبها أكبر الأثر في نفس أبي الطيب، حتى أنه بعد مضي أكثر من سنتين تقرأ له في قصيدة وضعها سنة 352 هـ أبياتا تشعرنا بحنينه الذي ملأ قلبه وقت السفر إذا قال يذكر مسيره من مصر ويرثي أبا شجاع فاتكا:

ختام نحن نساري النجم في الظلم

وما سراه على ساق ولا قدم

ولا يحس بأجفان نحس بها

فقد الرقاد غريب بات لن ينم

وهو مع ما أوتيه من نصر لتغلبه على الصعاب، يذكر حر الشمس في وسط القيظ، طول أيام السفر في الفيافي فيقول:

تسود الشمس منا بيض أوجهنا

ولا تسود بيض العذر واللمم

ثم تجده لا ينسى مدح المطايا التي لولاها لما خرج من مصر بعد ما لقيه من الظلم والعنت فيها:

لا أبغض العيش لكني وقيت بها

قلبي من الحزن أو جسمي من السقم

فكأنه يسير في تفكيره ليستعيد ما مر به من ألمه وأحزانه وهو الذي سبق له أن قال وهو بالفسطاط:

أقمت بأرض مصر فلا ورائي

تخب لب الركاب ولا أمامي

ص: 19

قليل عائدي سقم فؤادي

كثير حاسدي صعب مرامي

عليل الجسم ممتنع القيام

شديد السكر من غير المدام

فلا غرابة إذن أن مطلع جبال حسمي قد غمر قلبه، وأن رؤيته لتلك الشعاب قد نفخت فيه روحا جديدة، بعد ما لقي من نصب ومتاعب في رحلته؛ وبعدما تحمل في مصر من ألم نفساني ومرض أضنى جسمه.

إن مناظر الجزيرة وجبال حسنى قد ملأت نفسه حبورا وجعلت منه إنسانا آخر. . نرى ذلك في شعره ونحس معه أحاسيس الذي خرج من سجن وانطلق للفضاء. . ولا ننس أن بين حسمي ووادي القرى ليلتان، وبين الأخير والمدينة ست ليال.

ولا يمر هذا الشعور دون أن يعتريه انفعال آخر هو إحساسه بالنصر والغلبة على كافور كيده، وأنه رفض أن يقبل الذل على يديه، فها هو قد ترك دنيا الظلم والظلام، وذلك الوسط الذي قال عنه (كأن الحر بينهم يتيم) وقال فيه عن كافور (غراب حوله رخم وبوم) وهناك انطلق شاعريته في الكوفة فقال في مواجهة الأحداث وليشهد الدنيا على انتصاره.

لتعلم مصر ومن بالعراق

ومن بالعواصم أني الفتى

وأني وفيت وأني أبيت

وأني عتي على من عتا

وما كل من قال قولا وفى

وما كل من سيم خسفا أبي

وهو شعر يبلغ فيه النهاية ويترنم به من كان مثلي قد عانى الشدة وألم الاضطهاد ووقف أمام الظلم. رحم الله أبا الطيب وطيب ثراه! أنى أعد هذه القصيدة قطعة موسيقية من أروع ما أنشد هذا الشاعر العظيم. ولقد كنت ضحية للظلم يوما، وتنكر لي أقرب الناس إلي، وشعرت بشعور أبي الطيب، وأقمت مدة وأنا أترنم بهذه الأبيات، فاشعر بنفسي وقد قويت، وأستمد منها شجاعة وصبرا. . وهكذا يحيا شعر أبي الطيب في نفوس من يفقه أمر المتنبي ومن عاش عيشته ومن انكوى بنوع من الظلم يشبه ما أصاب شاعر العرب العظيم.

وأقسم بالله إني لأتحين الفرص لرؤية حسمي العالية الأطراف والتي قيل أن لا مثيل لها في الدنيا، هذه الجبال المتمدة على خليج العقبة الملساء الجوانب، والتي إذا أراد الناظر أن يمتع نفسه بالنظر إليها وإلى قنة منها، رفع بأبصاره إلى السماء.

إنها أوحت لأبي الطيب بالكثير من شعره عن نفسه، وأعذب الشعر ما تحدث به الشاعر

ص: 20

عن أحاسيسه، والمتنبي إعصار هائل من أين أتيت إليه، فهو عظيم في حجمه وجبروته، ولكن هذا الإعصار وسط الأدب العربي، بلغ القمة وجاوز حدود العظمة حينما سجل بشعره آلامه وأحزانه وفرحه وغبطته ويوم انتصاره.

وطابت حسمي لأبي الطيب فنزلها وأقام بها شهراً. أليست مواطن الأفذاذ من قبائل العرب، التي لم تعرف الخنوع ولا الخضوع، والتي على رغم قربها لملك كافور لم تسمح لنفسها أن تقبل ظلمه وجبروته وطغيانه.

جاء في كتاب الهمداني أن أرم وحسمي والبياض هي مساكن من تشاءم من للعرب الأقحاح، وقد سكنت لخم المنازل بين الرملة ومصر (الجفار) وطرق جبال الشراة، أما جذام فكانت تسكن ما بين مدين وتبوك وامتدت أذرح أو أذرع، واحتلت عاملة جبلها المعروف باسمها، من بحيرة طبرية إلى البحر.

وبقيت جبال حسنى بين فزازة وجذام. ولما نزلها أبو الطيب وارتاحت نفيه إليها، لم تتركه دسائس كافور، وهو الذي عمل حسابا له فتحاشى أقرب الطرق إلى حسمى خوفا من كمين قد يرصده له في طريق نزوله من رأس النقب إلى عقبة إيليا، واضطر أن يسلك طريق الشام أولا ثم بنكفئ من تربان إلى غرندل ثم جنوبا إلى منازل جبال حسمى.

أقول إن صاحب مصر أبي إلا أن ينغص عيش أبي الطيب وأن يتتبعه إلى الأطراف البعيدة، فكتب إلى رؤساء العرب ووعدهم وواعدهم، وبعد مضي شهر ظهر لأبي الطيب فسادنية عبيده وجاءت الحادثة مع وردان بين ربيعة من قبيلة طئ، وهو الذي سمع بأن لأبي الطيب سيفا مذهبا، فأخذ يلح في أن يريه إياه، وأبو الطيب يحاول التخلص منه، لأنه سيف يعتز به ويحرص عليه، فجعل الطائي يحتال على العبيد الذين في خدمة أبي الطيب ويحرضهم عليه طمعا في الحصول على السيف.

وهنا اكتشف أبو الطيب أن أبا المسك صاحب مصر قد كاتب العرب الذين حوله، ولم يبق هناك مفر من الرحيل، فأرسل من يثق به إلى بني فزاره وبني مازن، وإلى شيخ من ولد هرم بن قطية. ولما أتاه الخبر بقبوله النزول لديه شد ليلا على الإبل وجنب الخيل، وسار تحت كنف الليل على طريقته لما غادر الفسطاط والقوم لا يعلمون برحيله، وكان يقصد تضليلهم إذا حاولوا القبض عليه، كما ضلل من قبل جماعة كافور. ويظهر من تصرفاته أنه

ص: 21

كان على علم وإلمام بطرق البادية، مسالك البلاد وأسرارها، بدليل أنه أتخذ السير في طريق البياض وسار فيه ليلا حتى رأس الصوان، وهذا الدري خطير يحتاج فيه الراحل إلى الخفارة لتعذر الأمان فيه وهو الطريق الذي يسلكه من يرحل من تيماء ووجهته الكوفة فيمر يسرة فيما يلي البياض ثم يخترق ديار ذبيان، فمنازل كلب في صحراء السماوة ثم الدهناء، فإذا مر منها واجهه نخل الفرات. وما وصل أبو الطيب إلى رأس الصوان حتى انكفأ عائداً إلى الشمال مرة أخرى، محترسا من أن يقع على كمين إذا سار في الطريق الأول

وفي صفحة 495 من الديوان (وسار أبو الطيب حتى نظر آثار الخيل ولم يجد مع فليتة خبرا من العرب التي طلبها فقال له اخرق أو أحرف بنا على بركة الله إلى دومة الجندل؛ وذلك لأنه أشفق أن تكون عليه عيون بحسمى قد علمت أنه يريد البياض، فصار حتى انحدار إلى الكفاف فورد البويرة بعد ثلاث ليال.

ذكر ياقوت أن البويرة موضع بين وادي القرى وبين بسيطة الواقعة في طريق الكوفة

ومن ذلك يتضح أن أبا الطيب أقر في نفسه طريق السفر فجعل: أولا وجهته دومة الجندل

ثانيا تحاشى العودة إلى جبال حسمى.

فكأن انحداره للبياض كان تمويها لأنه اتخذ كعادته طريقا آخر هو طريق الكفاف ثم البويرة.

والخرائط لا تسعف هنا لأن المناطق الواقعة في أراضي المملكة السعودية لم تسمح بعد المساحة التفصلية، فأبدأ بالكلام على هذه المواقع جاعلا أول الكلام على دومة الجندل ثم بقية الأماكن إلى الكوفة.

إذا فتحت الخرائط وجدت منطقة الجوف تتوسط الصحراء وهي التي قال عنها صاحب جزيرة العرب كانت تسمى قديما دومة الجندل والجوف هي البلدة الرئيسية تقع وسط منطقة زراعية كبيرة على رأس وادي السرحان والواحة وقعة في منخفض نحو 500 قدم تحت سطح الصحراء المحيطة بها.

وفي هذا المنخفض واحات صغيرة مثل سكاكة وقارة والطوير وجاوة، وسكاكة هي أكبرها وتكثر فيها مزارع النخيل.

ص: 22

ولأهمية موقعها طلب مندوب المملكة الأردنية في مؤتمر الكويت أن تكون حدود نجد كما كانت عام 1919 أي طلب إخلاء الجوف وسكاكة ووداي السرحان من قوات المملكة السعودية فطلب مندوب نجد استفتاء أهالي الجوف ففشل المؤتمر.

وقد برز اسم دومة الجندل في تاريخ الإمام علي كرم الله وجهه ومعاوية، فقد ذكر المسعودي (وفي سنة 38 كان التقاء الحكمين بدومة الجندل، وقيل بغيرها على ما قدمناه وصف التنازع في ذلك) وذكر اسم كتاب له في تفاصيل النزاع ضاع ضمن ما ضاع من مؤلفاته.

ويقول الأستاذ الخضري في تاريخ الأمم الإسلامية.

(فتوافوا (أي الحكمين ومن معهما) بدومة الجندل بأذرح فيكون قد أقر بأن الاجتماع في دومة الجندل التي هي بأرض الشراة. وقد نقل هذا عن ابن خلدون الذي قال: وبعث معاوية عمرو بين العاص في أربعمائة من أهل الشام والتقوا بأذرح من دومة الجندل) صفحة 441

(وكتب الكتاب لثلاثة عشرة خلت من صفر سنة 37 واتفقوا على أن يوافي على موضع الحكمين بدومة الجندل وبأذرع في شهر رمضان) 440

وجاء ذكر دومة الجندل في صفحة 216 (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى من السنة الخامسة لستة أشهر من فتح بني قريظة، وذلك إثر رجوعه من دومة الجندل فسلك على طريق الشام أولا ثم أخذ ذات اليسار إلى صخيرات اليمام).

ولذلك اختلف الناس في تحقيق موضع اجتماع الحكمين هل هو ف دومة الجندل بالصحراء أم في دومة الجندل بأراضي المملكة الأردنية؟ أي في بلدة أذرح الواقعة في نطاق دومة الجندل التي كان يطلق عليها الصخرية.

إنني أميل إلى الرأي الأخير وإن كنت أدعو أحد المهتمين بتحقيق الدراسات الإسلامية أن يضع بحثا عنها.

وقد جاء في كتاب تاريخ الإسلام السياسي ما يأتي (اجتمع عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري بدومة الجندل وهي بضم الدال وفتحه وتبعد عن دمشق بست مراحل وتقع على الطريق بيد دمشق إلى المدينة).

ص: 23

وكان عقد التحكيم مدته من رمضان إلى رمضان وكتب في يوم الأربعاء 13 صفر سنة 37 وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجند المواثيق واتفقا على تأجيل القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا في بلدة أذرح المبينة على الخريطة شمال غرندل وتربان.

وبعث علي للميعاد بأربعمائة رجل ولم يحضر علي، وبعث معاوية بأربعمائة رجل ثم جاء معاوية واجتمعوا في أذرح والتقى الحكمان.

كل هذا يقتضي بأن الاختيار وقع أولا على دومة الجندل التي الجوف لتوسطها بين الطرفين ولكي يحضر المتخاصمان أمام الحكمين؛ ولكن معاوية الحريص على ملكه وحياته اختار الشق الثاني وجعل بلدة أذرع المكان المختار وقد يكون احتج بأنها قائمة بأرض دومة الجندل لأن هذه المنطقة كانت تسمى بأرض أدوم أو دومة من القدم. . . فقد جاء في قاموس الكتاب المقدس ص 451 أن دومة التي بها أذرح محرفة عن أدوم، وأنها البلاد التي يسكنها نسل دومة هو أدوم بن إسماعيل أو سادس أولاده (نك 25: 14) وأنهم سكنوا في صحراء سورا على بعد 150 أو 200 ميل من دمشق حيث توجد قطعة أرض تعرف باسم دومة الحجرية أو دومة السورية.

وفي كتاب الإمامة والسياسة ج 1 صفحة 136 ما يشير إلى كتاب بين علي ومعاوية اتفقا فيه على أن يرجع أهل العراق إلى العراق وأهل الشام إلى الشام ويكون الاجتماع إلى دومة الجندل (وأظن أنهما يقصدان دومة الجندل بالجوف) فإن رضيا أن يجتمعا بغيرها فلهما ذلك. . . ثم ذكر في صفحة 138 أن أبا موسى وعمراً لما اجتمعا بدومة الجندل كان عقد التحكيم هدنة من رمضان إلى رمضان.

وإذا رجعنا إلى اسم أدوم وجدنا أن معناه في قاموس الكتاب المقدس أحمر وهو لقب عيسو بن أسحق أخذ بلون العدس يوم باع بكوريته إلى أخيه يعقوب وأخذ الأرض الواقعة جنوبي (حبرون) مدينة الخليل إلى جنوب البحر الميت ثم تخوم أرض موآب ثم اتسعت البقعة فشملت الأراضي الواقعة بين برية (سين) وغربيها إلى البلاد العرب الواقعة شرقيها أي شملت منطقة أذرح وما حولها. التي اشتهرت بجودة هوائها، وخصب أراضيها ومناعة

ص: 24

حصونها. أما تسميتها بأدوم فأخذا من عيسو الملقب بأدوم (نك 43: 36) والمظنون أن نسله استوطن هناك فأصبح هذا القسم من جنوبي البحر الميت يشمل كل تخوم كنعان الجنوبية من البحر الميت إلى الخليج الشرقي للبحر الأحمر ومن ضمنها جبل سعير وكانت سالع عاصمة القسم الجنوبي وفيها استوطن تيمان بن عيسو (نك 11: 36) فتسمى الجزء الجنوبي تيماء باسمه وكان للأدوميين ملوك يحكمون باسمهم.

ولما جاء حكم الروم أنشئوا في تخوم العقبة باباً كبيرا ووضعوا عليه شحنة لجبي الضرائب على القوافل القادمة من الجنوب. . . وفي الاصطخرى وابن حوقل تمتد جبال أدوم من الشراة إلى أيلة أي العقبة كما جاء في كتاب فلسطين تحت حكم المسلمين لمؤلفه جوى لوسترانج أن أدوم في مادة الشراة.

أما تحقيق أدوم أو دومة الجندل لدى العرب فقد جاء في صفحة 106 جزء 4 من معجم ياقوت كما يأتي: بضم أوله أو فتحه.

ابن دريد: أنكر الفتح وعده من أغلاط المحدثين

حديث الواقدي: جاء فيه دوما الجندل

ابن الفقيه: عدها من أعمال المدينة: وقال سميت بدون بن إسماعيل بن إبراهيم

الزجاجي: دومان بن إسماعيل وقيل دوما

ابن الكلبي: دوماء بن إسماعيل، ولما كثر ولد إسماعيل بتهامة خرج دوماء حتى نزل دومة وبنى به حصنا فقيل ودماء ونسب الحصن إليه وهي على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. . . وقال أبو سعيد: دومة الجندل في غائط في الأرض خمسة فراسخ وفيها عين يسقى ما به من النخل والزرع وحصنها مارد، وسميت دومة الجندل لأن حصنها مبني بالجندل) ولا يبعد أو وصفه ينطبق على دومة الجندل بالجوف والحصن على ما بناه الأكيد وهو من فتح خالد بن الوليد. ثم يؤكد أبو عبيد الكوفي أن دومة الجندل قرب جبلي طي ويقصد بذلك واحة الجوف لأنه ذكر بلدة دومة وسكاكة وذو القارة أما دومة ففيها سور يتحصن به وفي داخل السور حصن منيع يقال له مارد وهو حصن أكيدر.

ونعود إلى أرض أدوم أو دومة الجندل الصخرية فنقول إن هذه البقعة كانت عامرة في

ص: 25

العصور السابقة وفي عهد الروم انشئت بها كما قلنا أسقفية في (غرندل) تحريف (أرندل) التي بقيت على الطريق الروماني من العقبة إلى بصرى، وكان يمر بأرض الشوبك وعليه حصن الكرك المشهور في الحروب الصليبية، وكان عامرة في عهودها الإسلامية بدليل سكنى الخلائف من قرش وبني هاشم، وأن الدعوة العباسية قامت من بلدة الحميمة حين مات بها إبراهيم الإمام.

وبعد هذا التحقيق والبحث كنت أقلب الجزء الأول من العقد الفريد تحقيق العلامة الدكتور أحمد أمين فوقع نظري في الصفحة 264 سطر 13

(وأوصل أبو دلامة إلى العباس بن المنصور رقعة فيها هذه الأبيات

قف بالديار وأي الدهر لم تقف

على مناظر بين الظهر والنجف

فإذا الحاشية (4) تقول

(النجف بالتحريك موضع بظهر الكوفة، وهو دومة الجندل بعينها، وبالقرب منها قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) ولاشك في أن واضع الحاشية كغيره من الأدباء أغفل تحقيق الأماكن الجغرافية لعدم أهميتها، والحقيقة أن بالكوفة مكانا يدعى (دومة) والنجف محلة منها ويقال إنها سميت بذلك لأن عمر بن الخطاب لما أجلى الأكيدر صاحب دومة الجندل المشهورة في الجوف قدم الحيرة ثم بنى بها منزلا سماه دومة على اسم حصنه الذي نزع منه (راجع كتاب تاريخ الكوفة تأليف المؤرخ السيد حسين ين السيد أحمد البراقي طبع النجف صفحة 148 سطر 2

ولا يصح أن يفهم القارئ خطأ بأن موضع دومة الجندل التي كر ذكرها واختلاف الرواة بشأن الحكمين كان موضعا بالقرب بالنجف حيث يرقد الإمام علي رضي الله عنه وبين النجف ودومة الجندل بالجوف مئات الأميال وبين أرض أدوم وبالشراة مئات أخرى.

أحمد رمزي

المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي

ص: 26

‌لا قريش بعد اليوم.

.!

(فصل من كتاب (جهاد النبي) الجزء الثاني - الذي صدر

حديثا)

للأستاذ محمد محمود زيتون

(جيش الإسلام في الطريق إلى مكة. . أبو سفيان والعباس يسبقان الجيش ويتحدثان)

أبو سفيان: ما شاء الله يا أبا الفضل. لقد ذقت والله حلاوة الإسلام في نفسي

العباس: ثبت الله قلبك على الحق يا أبا حنظل

أبو سفيان: والله ما كنت أظن أن رسول الله يزيد في قومه هكذا

العباس: فما بالك بجيشه الفاتح المنصور بإذن الله!

أبو سفيان: لئن جئت محمدا أخاف أن تهوى أسياف من معه على رقاب قريش، فأصبحت وأنا أشد شوقا إلى أن أراهم يرتعون في الإسلام، وإلا فالسيف بيننا وبينهم

العباس: بل ستكون المعجزة الكبرى يوم الفتح

أبو سفيان: بشرك الله بالفضل يا أبا الفضل

(العباس وأبو سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل. . . القبائل تدخ على قادتها. . . والكتائب على رايتها)

أبو سفيان: (لحكيم) أغدراً؟

حكيم: لا

أبو سفيان: إن أهل النبوة لا يغدرون

حكيم: ولكن لي إليك حاجة حتى تنظر جنود الله، وما أعد الله للمشركين

كل قبيلة تمر. . . تكبر ثلاثا. . . وتمضي في قوة وشجاعة)

أبو سفيان: من هذه؟

العباس: سليم

أبو سفيان: مالي ولسليم. . ومن هذه؟

العباس: مزينة

ص: 27

أبو سفيان: مالي ولمزينة. . وقد جاءتني تقعقع من وشواهقها، ومن تلك؟

العباس: تلك أسلم

أبو سفيان: مالي ولأسلم. . فمن؟

العباس: فجهينة

أبو سفيان: مالي ولجهينة والله ما كان بيني وبينهم حرب قط، فبنو من؟

العباس: فبنو غفار. . وهؤلاء طوائف أخرى من تميم وقيس وأسد

أبو سفيان: ما مر محمد بعد؟

العباس: لا

أبو سفيان: من هؤلاء الذين يكبرون؟

العباس: بنو بكر

أبو سفيان: نعم. . أهل شؤم، والله هؤلاء الذين غزانا بسببهم محمد. . فمن هؤلاء بعدهم؟

العباس: أشجع

أبو سفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد

العباس: أدخل الله الإسلام في قلوبهم. . فهذا فضل الله

أبو سفيان: أبعد ما مضى محمد؟

العباس: لو أتت الكتيبة التي محمد فيها لرأيت الخيل والحديد والرجال، وما ليس لأحد به طاقة

(تمر كتيبة الأنصار. . ابن عبادة على الراية)

ابن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة

أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار

(أبن عوف وعثمان وعلي حول النبي)

عثمان: يا رسول الله ما نأمن أن تكون لسعد بن عبادة صولة في قريش، وقد قال ما قال

النبي: (لعلي) أدركه فخذ الراية منه ثم مره أن يسلمها لأبنه قيس بن سعد بن عبادة

عمر: (للجيش) رويدا يلحق أولكم آخركم

(أبو سفيان لا يزال يتعجب مما يرى)

ص: 28

أبو سفيان: هلا ذكرت لي من على رأس هذا الجيش الكثيف يا أبا الفضل؟

العباس: أما رأيت خالد بن الوليد في بني سليم على الجناح الأيمن وهذا الزبير بن العوام على الجناح الأيسر، أحدهما آخذ من أعلى مكة والآخر من أسفها

أبو سفيان: ومن على المقدمة؟

العباس: أبو عبيدة بن الجراح

أبو سفيان: ولمن هذه الكتيبة الخضراء؟

العباس: إنها والله كتيبة رسول الله

أبو سفيان: هذه والله معها الموت الأحمر

العباس: أما تراهم في الحديد!

أبو سفيان: والله ما أرى منهم غير الإحداق من وراء الحديد، ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. . ومن هذا الغلام رديف رسول الله؟

العباس: هذا خادمه وابن خادمه أسامة بن زيد

أبو سفيان: أفي مثل هذا الموكب!!

العباس: تواضعاً لله. . ومن تواضع لله رفعه. . وفتح عليه

(يمر النبي على القصواء في تواضع. . . يحاذي أبا سفيان)

أبو سفيان: أمرت بقتل قومك.

النبي: لا

أبو سفيان: أنشدك الله والرحم في قومك، فإنك أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم، فما بال سعد؟

النبي: كذب سعد. . يا أبا سفيان: اليوم يوم الرحمة. . يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة.

(يمر النبي في كتيبته بين أبي بكر وأسيد بن حضير يتحدث إليهما. . ويظل أبو سفيان والعباس يتحدثان)

أبو سفيان: فمن هذا الوازع الذي يرعد في الكتيبة يا عباس؟

العباس: ذاك عمر بن الخطاب

أبو سفيان: لقط أمر أمر عدى في الكتيبة يا عباس؟

ص: 29

العباس: إن الله يرفع ما يشاء بما يشاء. وإن عمر ممن رفعه الإسلام

(فترة صمت. . أبو سفيان في شبه ذهول)

العباس: فما ترى؟

أبو سفيان: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغاداة عظيما

العباس: يا أبا سفيان إنها النبوة

أبو سفيان: إي والله إنها النبوة

العباس: إذن فالنجاء إلى قومك

أبو سفيان: فامض بنا. . ومن أين يدخل النبي مكة؟

العباس: من (كداء)

أبو سفيان: ناشدتك الله والرحم يا عباس إلا حدثتني. . . ما حملك على هذا الموقف؟

العباس: أما والله لأصدقنك. . قدمت على النبي، والناس متفرقون بين الأراك، فخفت أن ترغب في قلة الإسلام فتكفر بعد إسلامك فلا يقبل منك شيء غير القتل، فأصدقني أنت يا أبا سفيان أين وقع حديثي مما كان في نفسك؟

أبو سفيان: اللهم كان في نفسي أن أفعل بعض الذي قلت، فأما إذ رأيت الذي رأيت فقد علمت الآن أن هذا الأمر من الله لا مرد له، والله مازالت الكتائب تمر حتى خفت أن تسير معها جبال مكة. . سر بنا يا عباس فلم أر كاليوم قط صباح يوم في دارهم.

(نساء قريش يلطمن وجوه الخيل بالخمر)

(أبو قحافة وقد كف بصره ومعه ابنته من اصغر ولده)

أبو قحافة: أي بنية أظهري بي على (أبي قيس)

(تذهب به إلى الجبل)

أبو قحافة: ماذا ترين؟

- أرى سوادا مجتمعا

أبو قحافة: تلك الخيل

- وأرى رجلا يسعى بين يدي ذلك مقبلا مدبرا

أبو قحافة: ذلك الوازع

ص: 30

- قد والله انتشر السواد

أبو قحافة: قد والله إذن دفعت الخيل فأسرع بي إلى بيتي

(تمر بهما بعض الكتائب فيختطف رجل منها طوقا من الفضة حول عنقها)

- طوقي. .! طوقي. .!

النبي: (مبتسما) يا أبا بكر كيف حال حسان؟

أبو بكر: قال حسان

عدمت بنيتي إن لم تروها

نثير النقع موعدها (كداء)

ينازعن الأعنة مسرجات

على أكتافها الأسل الظماء

تظل جيادنا متمطرات

يلطمهن بالخمر النساء

(أبو سفيان والعباس يخلان مكة)

أبو سفيان: يا معشر قريش. هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به

- ويحك يا أبا سفيان!

- صباء الشيخ

(عكرمة ومقيس يقبلان عليه)

عكرمة: أقسم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وهبل وأساف ونائلة. . لقد سحرك محمد

مقيس: أو لهذا أرسلنك يا أبا حنظلة؟!

أبو سفيان: أقبلا على أمركما، فإنه قد أتاكما مالا تطيقان، أنمت ولا قومكما

عكرمة: على رسلك يا أحمس. . وما أتانا؟

أبو سفيان: أتاكم الله مثل الليل الدامس

مقيس: والله لقد طاح أبو سفيان بما بقي لدينا من عقل

أبو سفيان: وأخرى؟!

مقيس: وما تلك؟

أبو سفيان: من دخل داري فهو آمن

مقيس: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟

ص: 31

أبو سفيان: ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن

(هند تأخذ بشارب أبي سفيان)

هند: أقتلوا الشيخ الأحمق. . . اقتلوه فإنه صبأ. . . اقتلوا الحميت الدسم الأحمس. اقتلوه. . قبحه الله من طليعة قوم. . . يا آل غالب هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم.

أبو سفيان: ويحك! اسكتي وادخلي بيتك. . والله لتسلمن أو لأضربن عنقك. . ويلكم. . تغركم هذه الحمقاء عن أنفسكم فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به. فتفرقوا إلى دوركم وغلى المسجد

(الناس يعدون إلى بيوتهم. . مقيس وعكرمة وسارة حيارى لا يدرون أين يتوجهون)

أبو سفيان: ومن جنح إلى الكعبة وألقى السلاح فهو آمن

(مقيس وعكرمة. . . يخلعان الحديد ويركضان نحو الكعبة)

أبو سفيان: اللهم إلا مقيس وعكرمة بن أبي السرح وابن حنظل وسارة مولاة عبد المطلب. . لم يجعل لهؤلاء أمان ولو تعلقوا بالأستار

(سارة ومقيس وعكرمة ومن ليس لهم أمان. . تنهار أعصابهم فيخرون على الأرض. . ترتعد فرائصهم)

أبو سفيان: يا آل غالب اسلموا تسلموا

(حماس بن قيس بداره. . يتحدث إلى زوجته)

- ما تفعل يا حماس؟

حماس: كما ترين أبري نبلا

- فلم تبريه؟

حماس: بلغني أن محمدا يريد أن يفتح مكة ويغزوها

- والله ما أدري أنه يقوم لمحمد وأصحابه شيء

حماس: والله إني لأرجو أن أستخدمك خادما من بعض من نستأسره

- والله لكأني بك قد رجعت تطلب مخبأ أخبئك فيه لو رأيت خيل محمد

صفوان: يا حماس. . . يا حماس

- فمن هذا الذي يناديك؟

ص: 32

حماس: هذا صفوان بن أمية (يخرج ومعه سلاحه)

صفوان: وقد أعددته؟ فهام إلى عكرمة

حماس: أعنده من أحد؟

صفوان: عنده سهيل بن عمر، أما جمعت بني بكر؟

حماس: بل كنت في شغل بسلاحي أعده. . ألم تفعلوا أنتم؟

صفوان: بلى. . غدا نجتمع عند (الخندمة)

(الخندمة: القتال بين رهط خالد ورهط صفوان. . قتلي المشركين اثنا عشر. . حماس منهزم. . يدخل بيته)

حماس (لزوجته) أغلقي عليّ بابي. . لا تفتحي لأحد أبدا

- أين نبالك؟

حماس: قبحها الله من سلاح. . ويحك. . هل من مخبأ!

- فأين الخادمة التي وعدتني بها؟

حماس: دعيني عنك

إنك لو شهدت يوم الخندمه

إذ فر صفوان وفر عكرمة

وأبو يزيد قائم كالمؤتمه

واستقبلتهم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمة

ضربا فلا يسمع إلا غمغمة

لهم نهيت خلفنا وهمهمة

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه

(أسفل مكة. . حول راية خالد. . . ومعه بنو بكر وبنو الحارث وبعض من هذيل)

- والله لا تدخلها عنوة

خالد: الله أكبر. . الله أكبر

(المسلمون يجتمعون حول الراية)

حكيم: يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟

أبو سفيان: من دخل داره فهو آمن، ومن وضع سلاحه فهو آمن

(قريش يقتحمون الدور ويغلقون الأبواب وراءهم تاركين السلاح بعد أن طرحوه بالطرق فيأخذه المسلمون)

ص: 33

(النبي ينظر إلى بارقة السيوف. وقد وقع القتال)

النبي: ما هذا، وقد نهيت عن القتال؟

- نظن أن خالدا قوتل، وبدئ بالقتال فلم يكن بد من أن يقاتلهم

النبي: فقم فقل له فليرفع يديه من القتل

- يا خالد. . إن نبي الله يقول لك أقتل من قدرت عليه

النبي: ألا آمرك أن تنذر خالدا؟

- أردت أمرا فأراد الله أمرا، فكان أمر الله فوق أمرك وما استطعت إلا الذي كان

النبي:!؟. .!؟. .!؟

- يا رسول الله هذا خراش بن أمية وقد قتل ابن الأثوع الهذلي

النبي: إن خراشا لقتال، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم قتيلا، لأدينه

(خالد يقوم على النبي بعد أن قتل سبعين مشركا)

النبي: قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟

خالد: هم بدؤونا بالقتال وقد كففت يدي ما استطعت

النبي: قضاء الله خير. (ينظر إلى أبي هريرة) اهتف لي بالأنصار

أبو هريرة: يا معشر الأنصار أجيبوا رسول الله

النبي (للأنصار) ترون أن أوباش قريش وأتباعهم (يضع يدا على يد) أحصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا

(المسلمون يحصدون أوباش قريش التي وبشتها من قبل)

أبو سفيان: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش. لا قريش بعد اليوم

النبي: من أغلق بابه فهو آمن

محمد محمود زيتون

ص: 34

‌2 - في بلاد الأحرار

للكاتب التركي الأستاذ أغا أغلو أحمد

بقلم الأستاذ أحمد مصطفى الخطيب

عكفت على مطالعة السفر في الحال، وكانت صفحته الأولى تحمل هذا العنوان:(القواعد الأساسية لبلاد الأحرار).

وعندما قلبت الصفحة الأولى منه وقعت نظرتي على هذا العنوان: (الأسس العامة)

ثم تلا هذه المواد:

(1)

الحرية منحة سامية. . . ولكيما يكون المرء حرا، يجب أن يجوز منزلة كبيرة من السمو والرفعة. . . نزاهة الفكر. . نزاهة القول. . . نزاهة الحركة. . . تلك هي الأسس اللازمة للحرية.

(2)

لا يستطيع نيل الحرية أولئك الذين لا يتمكنون من التحكم في نفوسهم.

(3)

سذاجة القول. . . سذاجة المعيشة هما شرطا الحرية. . وبعد أن أقرأت هذه المواد التي بدت لي غريبة جدا لفت نظري هذا العنوان: (القانون الأساسي لبلاد الأحرار).

كان هذا القانون يتضمن المواد التالية:

(1)

الحرية تقوم على الصدق والجرأة

(2)

الكذب ممنوع منعاً باتا في بلاد الأحرار ومن يبتل بهذا الداء يطرد من البلاد.

(3)

الرياء والتزلف يعدان من أكبر الجرائم، ومرتكبهما يرجمه بالأحجار أفراد هذا الشعب كافة.

(4)

لا يجوز للجواسيس أن ينتسبوا إلى رعوية (بلاد الأحرار).

(5)

لا يجتمع الجبن وتوطن بلاد الأحرار على صعيد واحد.

(6)

إن من يعتدي على غيره قولا أو عملا يقذف به إلى خارج البلاد.

(7)

الاحتيال والنميمة يورثان مرتكبهما عقوبة إسقاط رعوية بلاد الأحرار عنه.

(8)

الدفاع عن الحق واجب. . . ومن لم يقم بهذا الواجب يطرد من البلاد.

(9)

العمل واجب. . . ومن تحدثه نفسه بالبقاء بغير عمل يستكره على العمل لحساب البلاد بغير أجر.

ص: 35

(10)

التساند واجب. . . والذين لا يقومون بتأدية هذا الواجب يفقدون رعوية البلاد.

(11)

إن القيام بإدارة شؤون بلاد الأحرار لهو من حق ذوي التجارب والاختصاص فحسب.

(12)

إن كل وطني مكلف بأن يراقب موظفي البلاد.

(13)

على كل موظف أو فرد في المملكة أن يؤدي الحساب في أي وقت كان، عن أعماله التي يقوم بها، أو ثروته التي يمتلكها. . . والذين يحاولون الهرب من تأدية مثل هذا الحساب يحكم عليهم بعقوبات قاسية ويفقدون صفة الاستيطان.

(14)

على كل وطني استظهار المواد المدرجة في أعلاه والعمل بمقتضاها.

قرأت هذه المواد، ثم أخذت أفكر. . ما أعجب هذه البلاد؟ إنها نقيض ما رأيته أو سمعته أو تعلمته حتى الآن.

ليت شعري! هل أستطيع آلفة هذه الحياة الجديدة؟ داخلتني الشكوك وساورني الإحجام. . . حتى خيل إلى لحظة وأنا في غمرة تفكير عميق أن من الأفضل أن أهرب من هذا المكان.

. . . ولكن غروري وكبرياء نفسي قد حالا بيني وبين ذلك.

وقد قلت لنفسي:

- (. . إذ قد أتيت. . وطلبت أن أكون (مواطناً) في بلاد الأحرار فالعمل في سبيل التعلم قضية كرامة شخصية ليس إلا. . نعم! أنا أعرف أن لي عادات كثيرة، وسجايا اكتسبتها من جدودي وعهود التاريخ، وإنه من الصعوبة بمكان. . . على أن أفارقها وأنبذها نبذ النواة دفعة واحدة. . . ولكن مهما يكن من شيء فالواجب يقضي على بالعمل وبذل كل الجهود المستطاعة).

وهكذا صممت على تعلم الدستور، فأقبلت عليه بالدرس والبحث والتأمل. . . ولم تمر غير أيام معدودات حتى كنت في خلالها قد تمكنت من استظهار مواده وفهم مغازيها. . . على أنه كانت ثمة أيضاً بعض المواد لم أفهم الحكمة من وضعها، وأخرى داخلني الشك والارتياب فيها. . فلذا صممت على مكاشفة الأساتذة بالأمر، وطلب الشرح الوافي منهم.

وبعد كل هذا أخذت أنظر ما حولي، وافحص الدار التي أسكنها، وأدرس الرجال الذين أتصل بهم.

ص: 36

إن ما رأيته بحيط بي قد بعث في نفسي من الحيرة والدهش أضعاف ما بعثه فيهما ما كنت قد قرأته من المواد والنصوص.

فقد علمت أن الدار التي أسكنها دار ضيافة، وأن هناك عدة دور أخرى مماثلة لها في المدينة خاصة بالذين يلجئون إلى بلاد الأحرار.

وكان معي في الدار ضيوف آخرون يبلغ تعدادهم عشرين ضيفاً بينهم نسوة.

وفي اليوم التالي أفضى بي الشيخ الذي فتح لي الباب إلى قاعة الطعام العمومية، ثم قدمني إلى الضيوف الذين كانوا قد اجتمعوا هناك؛ قائلا:

- ضيف جديد!

رحب بي القوم جميعاً بوجوه تطفح بشراً وإيناسا، ونظرات تفيض رقة وحنانا، ثم قال الجميع بصوت واحد:

- هنيئا لك!. .

كان الطعام وافراً ساذجا. . وبعد انتهائنا من تناوله، انتقلنا إلى البهو، وهنا جلست إحدى السيدات إلى المعزف، وأخذت توقع ألحانا مؤثرة

نهض الضيوف جميعا، وأخذوا ينشدون بصوت واحد نشيدا أشبه شيء بالدعاء. . . فنفذ لحن هذا النشيد إلى شغاف قلبي، وشعرت شعورا غامضا لا سبيل لي الإفصاح عنه

وهنا خاطبني الشيخ قائلا:

- يجب أن تحفظ هذا النشيد!

ثم ناولني ورقة مكتوبة فإذا أنا أقرأ فيها:

(ما أصعب أن يكون المرء حرا)

لست بمتذكر نفس الأقوال التي كانت قد وردت في ذلك النشيد، ولكنني أستطيع أن أقول إن خلاصتها كانت لا تعود ما يلي:

(الإنسان شعور الكون)

(نعبده ونقدسه)

(الحرية جوهر الشعور المقدس)

(نحبها ولا نتخلى عنها)

ص: 37

(بلاد الأحرار هيكل الشعور والحرية)

(نلجأ إليها ونعتز بها)

إنه ليس بوسعي أن أصف لكم مبلغ ما أحدثه هذا النشيد من الأثر البالغ في نفسي. . . فقد أصغت صوابي لعدة دقائق. . . وعندما عاد إلى رشدي وجدت الضيوف قد انقسموا إلى جماعات والكل يتحدثون.

جاءني جماعة منهم وأخذوا يجاذبونني أطراف الحديث كما لو كانوا من معارفي منذ مدة طويلة. . . فعلمت أن هؤلاء أيضاً مثلي قدموا هذه الديار عند بحثهم عن الحرية.

وبعد هنيهة أخذت أطوف الأقسام الأخرى أيضاً من البناية. . كانت الغرف والقاعات قد فرشت بفرش ساذجة، ولكنها تلمع من شدة النظافة. . والجدران مزدانة بعدد كبير من الصور الفنية الغالية والألواح النفسية.

وعلى معظم هذه الألواح دونت مواد دستور بلاد الأحرار بخط رائع جذاب. . . كانت ثمة كتابات أخرى أيضاً لفت نظري منها.

(الحريص يكتوي بنار حرصه ويحرق ما حوله)

(الكلام أول صوت إلهي شعر به الكون)

(الاستبداد معرة متوارثة من عهود الهمجية)

(العدل ميزة تثير غبطة الملائكة للإنسان)

(التضحية من أسمى مظاهر النفس البشرية)

(نكران الذات والتواضع خلتان يختص بهما ذوو الأرواح السامية)

(الغرور والعجرفة دليلان على سقوط النفس وضعة القدر)

كان ثمة بهور رحيب في ركن من البناية يضم في أرجائه الفسيحة مكتبة الدار. . وعلى منضدة تمتد على طول البهو صفت أشتات من الجرائد والمجلات والكتب، كما أن الرفوف كانت عامرة بآلاف المجلدات.

كان أغلب الضيوف حاضرين هنا. . . وكانوا جميعا مكبين على المطالعة والتأمل.

واقتربت أنا أيضاً من المنضدة. . فوقع نظري على كتاب عليه هذا العنوان: (فذلكة من تأريخ بلاد الأحرار)

ص: 38

حرك ذلك مني الرغبة فعكفت على مطالعته في الحال

لم يكن هذا تأريخا. . . بل مأساة دامية

أي أيام سود كانت قد مرت على هذه البلاد؟ يا لقسوة القدر!

كافحت هذه البلاد في سبيل الحرية عصورا طويلة واغلة في القدم

جرت الدماء جداول وأنهارا في هذه الشوارع التي تفيض بالهدوء والوداعة اليوم

فتارة يتخاصم الأهلون ويتقاتلون فيما بينهم، فيهدمون ويخربون؛ وتارة تجتمع كلمة الكل وتتحد غاياتهم فيهبون هبة واحدة لمحاربة الطغاة المستبدين، والحرب في كل ذلك سجال بين الفريقين. . إلى أن أتى يوم رسخت فيه دعائم الحرية، وتنفست البلاد الصعداء، وأخذت تعيش في كنف الهدوء والاطمئنان، وكل ذلك منذ قرنين من الزمان.

وإذ أنا أتأمل هذا الكتاب قلن بغير إرادة.

(ما أصعب أن يكون المرء حرا)

يتبع

ص: 39

‌رسالة الشعر

في مهرجان (الرسالة)

للأستاذ زهير مبرزا

لا تسلني فلن أحير جوابا

غرب الفكر عن زماني وغابا

واستحال السماك أشياع أعجا

ل أرونا الجوزاء فيهم ترابا

واستوى عقد بعضهم نضو فكر

وهزيل يرى الكتاب كسابا

وتخلى عن السباق عتاق

عطروا الساح فكرة وكتابا

وتباروا في حلبة المجد أنضا

ء اجتهاد فما أصابوا اضطرابا

كلهم رائد الخلود فما تلقى جبانا ولست تلقي ذئابا

من ترى يخلع الوقار على العيدان إن أهمل العتيق الرحابا؟

طوى السبق وانجلى عن فصيل

لم يعود شوطاً فضل صوابا؟

من لهذا البيان إن غاب أعلا

م أناروا الدنى وفاقوا السحابا

من لهذا البيان أن أمسك القر

ضاب جبس فدنس القرضابا؟

ضل من يقلب البراعة في كفيه فأساً تهدم الألبابا

ورأينا على الجياد خيالا

ت رجال لم يألفوا الإركابا

حطهم فوق سرجها عبث الدهر وحط الكمى عنها وغابا!!

سائل الحفل عن فتى عربي

تجد الحفل ضاق عنه جنابا

لم يجل فيه غير بعض هجين

أهمل النطق واستباح (الكتابا)

ورأى في البيان مظهر تقييد فدك البيان والإعرابا

وبنى المنطق الضعيف على الضعيف. . فكان البناء يشكو الخرابا

طلعت هذه (الرسالة) والنا

س عبيد لم يلقفوا الأسبابا

هم عبيد القديم، عن جهل فحوا

هـ، وبعض يرى القديم صوابا

هم عبيد الحديث، عن طفرة الوهم يزقونه شراباً سراباً

هم عبيد وكل عبد زنيم

كبرت ضلة وجلت مصابا

والعظيم العظيم من يقهر الجهل وينجي من القيود الرقابا

ص: 40

ألف جزء من (الرسالة) دنيا

جمعت طيباً فطابت وطابا

حملت مشعل الحضارة والبعث وجازت على الزمان الصعابا

ورقت بالفطير يعوزه الزق

إلى أن غدا من الخلد قابا

كم سما ناشئ إليها بدنيا

هـ فكانت نبراسه والشهابا

وانضوى في سجلها كل فكر

عبقري فكان تبراً مذابا

أطلعت هذه (الشموس) ولولا

ها لكان الضباب يعلو الضبابا

أعصر الانحطاط لم تك إلا

غفوات لم تلق صوتا مجابا

لم تكن فيهم (الرسالة) حتى

يتبارى إبداعهم وثابا

هي أم الكتاب قد حضنتهم

من طفولاتهم ليغدو شبابا

وشباب في نضجهم ككهول

لم يخب رأيها ولا الجد خابا

ثم كان الصباح. . وانبثق النو

ر إذا بالوجود يلقي النقابا

فتراه تكشف اليوم عن نو

ر سطيع يشعشع الأدبا

لا تلمني إذا غضبت لقومي

شيعة الصدق أن نكون غضابا

نحمل القلب طيباً ولنا الرأ

ي سديدا فما طغى أو حابي

خلق بعضه صنيع عصامي

وبعض من (النبي) اكتسابا

كل عصر له (أبو عبادة) إلا

عصر جهل يرى البلاغة عابا

ويح قومي!. . أما يخافون يوما

يفقدون الآداب والأنسابا

فيقول الإنسان عاشوا سواما

يقول التاريخ فيهم سبابا

غصة ملء صدرنا وأنين

لو يذيب الأحجار كان أذابا

لا تقل: تلك ضجعة الموت فينا

قدرة الفكر تبدع الإنقلابا؟

زهير ميرزا

ص: 41

‌أغنية الكفاح

فجر. . . ونور. . .!

للأديب محي الدين فارس

أقبل الفجر وغنى في الذرى طير الأماني

فانتشى النيل وأسماع الورى والشاطئان

بهجة في الأرضتغشى كل أفق ومكان

وابتسام ساحر رف على ثغر الزمان

إنه يا نيل عيد تنشق الأرواح زهره

هتفت في غمرة البشرى: فما أروح عطره!

اصدحي يا طير. هذا العبيد. عيد الكائنات

كم ترقبناه شوقا فهو أحلام الحياة. .

بقلوب ظامئات، وعيون شرهات!

فإذا بالغد في جنبيه فجر الأمنيات. . .

إنه يا نيل عيد تنشق الأرواح زهره

هتف في غمرة البشرى: فما أروح عطره!

ها هو القيد نثارات بأحضان الرياح

فارقصي يا بهجة النيل على لحن الكفاح

وتملي نشوة الدنيا وأفراح الصباح

فالمني ملء يدينا والسنا ضافي الوشاح

إنه يا مصر عيد تنشق الأرواح زهره

هتف في غمرة البشرى: فما أروح عطره!

خمدت نارك يا أمس خمودا فصحونا

فإذا بالركب لا يشكو على البيداء أينا

فرحة يا رب!. . . عيد ملأ الأكوان لحنا

ما علينا رضى (الغرب) فأصغي أم تجني؟

ص: 42

إنه يا شرق عيد تنشق الأرواح زهره

هتفت في غمرة البشرى: فما أروح عطره!!

محي الدين فارس

ص: 43

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

تطهير التاريخ

(. . نعتقد أن تطهير التاريخ قد بدأ فعلا، وأن الكتب التي تصدر في هذه الأيام، وخاصة التي بذل في تحريرها جهد، وسمت عن إرضاء رغبات القراء أو أهوائهم، تصحح وقائع التاريخ في العصر الأخير فعلا. .).

هذا بعض ما جاء في خطاب (عبد المحسن حسني) تعليقا على ما كتبنا في هذا المكان، في العدد الألف، ولكن الواقع أننا لا نريد تحرير التاريخ في العصر الأخير أو في السنوات الأخيرة وحدها. . وإننا نحن إزاء تاريخ كامل مضطرب، منذ الاحتلال الإنجليزي إلى اليوم، هذا التاريخ الذي حالت الكثير من الأوضاع والظروف دون تحرره!

ليس تاريخ الملوك والسلاطين والخديويين فحسب، وإنما تاريخ الزعماء ورجال الأحزاب والسياسة، وجانب كبير من تاريخ الأدباء والمفكرين.

لم تكن الموازين على طبيعتها العادلة المضبوطة، التي تضع كل إنسان في موضعه، وكانت أنباء كل شيء تنشر على غير حقيقتها، إما مزيدة أو مضيعة، كانت الأهواء من وراء كل حقيقة تلونها بلونها، وكانت الوصولية والهوى والغرض، تصبغ كل شيء بطابعها الأسود القاتم، وقد رفعت السياسة أسماء كانت أهلا لأن تهوى، وحرمت أسماء من أكرم الأسماء نصيبها من التقدير لأنها تجنبت الانزلاق إلى مهاوي السياسة والوصولية والحزبية!

إننا نريد أن نطهر التاريخ، فننصف تلك الشخصيات التي ظلمها التاريخ، حين أعطى لسعد أكثر مما أعطى لمحمد فريد، وحين رفع أسم فلان وفلان وفلان لأنهم كانوا موصولي الأواصر بإنسان يملك سلطان الإعزاز والإذلال.

إن هناك حقائق كبيرة تكمن وراء الكثير من الأحداث، لم تكتب ولم تفسر، وإن في تاريخ ثورة 1919 وعوامل اندلاعها، وقيادتها، ونتائجها، أشياء كثيرة لم تكتب بعد، وفي تاريخ إنشاء الأحزاب حقائق أيضاً لم تكتب، وفي الخلاف بين الحزب الوطني، الذي حمل لواء الجهاد وبين الوفد المصري الذي أنشأ بعج الحرب خلاف، وفيما بيم مصطفى كامل ومحمد

ص: 44

عبد خلاف، كل هذه قضايا لم تكتب على وجهها الصحيح.

وفي تاريخ الخديوي إسماعيل، وتوفيق، وعباس، وفؤاد وفاروق أشياء وأشياء. . لم تكتب، وهي في ذاتها بعيدة الأثر في تطور التاريخ الحديث.

كل هذا هو ما نريد أن يكتب، بروح الإخلاص والحرية والنزاهة

التطهير في محيط الأدباء

ويتصل بهذا، الحديث عن التطهير في محيط الأدباء ولا شك أن الأدباء هم أناس من الناس، وأن بعض الأقلام قد تلوثت وقد غرقت في المداد الأسود، وهي بهذا ليست جديرة بأن تحمل رسالة التطهير أو العمل الإيجابي أو البناء في العهد الجديد.

الكتاب الذين جعلوا القلم حرفة للإثراء، والنفاق، على حساب الأمانة التي حملهم الله إياها، والذين عقوا الفطرة، وجانبوا المهمة الكبرى والرسالة العظمى، فمحوا الظلم، ووصفوه على أنه عدل، وساروا في ركاب الظالمين، هؤلاء يجب أن نطهر منهم دولة الأدب والقلم.

الشمس في منتصف الليل

كتب إلى الأستاذ محمود تيمور من الإسكندرية يقول أنه مشغول الآن بإعداد كتابه الجديد (الشمس في منتصف الليل) وهو موضوع رحلته التي رحلها في الصيف الماضي إلى بلاد النرويج والسويد والمناطق الشمالية في القارة الأوربية، وقد فهمت من خطابه أنه يعني بذلك الرد على ما قلناه في مقالنا السالف من أن الصيف ليس فصل إنتاج، وأن الأدباء يقضون هذا الموسم في حالة استجمام.

والواقع الذي نعرفه أن عميد القصة المصرية، قد جرد نفسه لفنه تجريدا وأنه لا يشرك بعمله الأدبي شيئا، ولذلك فهو ما يلبث بين آن وآخر أن يطالعنا بعمل أدبي جديد.

مؤتمر اليونسكو

كتب الدكتور طه حسين في الأهرام يقول أنه لا يحول بينه وبين العودة في هذا الوقت، إلا انتظاره موعد انعقاد مؤتمر اليونسكو، الذي دعت إليه هذه الهيئة العالمية منذ مايو الماضي، وانتدبت الدكتور طه حسين إليه باسمه لا بوصفه.

وقد كان الدكتور طه ضيق الصدر في خلال الفترة التي أعقبت إقالة الوزارة الوفدية في

ص: 45

يناير الماضي، وكان يستحث الأيام لقرب موسم الصيف، حتى يهجر مصر هجرته المحببة التي لا ينسى فيها مصر، والتي تكون دائما موعدا بينه وبين الإنتاج الأدبي. . وقد حدثني عميد الأدب، أنه يصرف هذا الوقت الذي يقذيه في أوربا عاكفا على القراءة والإملاء، وأنه ما أن يقصد إلى فرنسا، ويذهب إلى باريس، حتى يسرع فيستقر في إحدى الجبال التي يحب الحياة فيها، وهناك حيث لا (تليفون) ولا اتصالات ولا زوار تقطع حبل الأفكار ونطغى على الإلهام، وتفسد الوحي.

وقد كنت أعلم أنه يعد في موسمه هذا. . الجزء الثاني من كتاب (الفتنة الكبرى) التي كان للجزء الأول منه دوي أي دوي. . وكان الدكتور طه حسين قد أعد تقريرا مسهبا في خلال شهر مايو الماضي، أرسله إلى مؤتمر اليونسكو، وهو الموضوع الخاص الذي سيتحدث فيه، وقد ناقش فكرة المذاهب الأدبية المختلفة في (أدب الاعترافات)، وخلاصة رأى الدكتور في هذا الموضوع: أن الأديب إذا ما وضع يده على الورق ليكتب فإنما هو يحس أن من ورائه قارئا، ولا يمكن مطلقا أن يكتب شيئا ليدخره لنفسه، وعلى هذا الأساس وما دام هو يحس أن ما يكتبه سيذاع على الناس، فهو يتجمل، ويحاول أن يلبس الوقائع والاعتراف الثوب الذي يجعلها مقبولة لدى القراء، وهذا (القبول) يختلف باختلاف الكتاب، فمنهم من يحب أن يواجه الجماهير على طريقة جريئة مكشوفة أمثال جان جاك روسو، ومنهم من يحب أن يكون مقذعا كأندريه جيد. . وهكذا.

وقد أكد لي الدكتور طه وهو يروي لي وجهة نظره في هذا الموضوع أن أيا من الكتاب: روسو، جيد، أوسكار، وايلد، إنما كان ينظر إلى القارئ وهو يكتب فصول اعترافاته.

أدب القصور

ظهر في خلال هذه الفترة الأدب البغيض الذي كان قد اختفى منذ عهد طويل، ذلك هو أدب القصور.

كان الأدب قد تحرر من سلطان الأمراء والملوك والخلفاء، وجرى طليقا، على نحو من الوطنية والقوة والصراحة.

ولكن النفاق عاد فاستشرى، فأصبح اسم الملك السابق، جري في كل قصيدة وفي كل مناسبة، وبدون مناسبة على صورة لم ينلها عمر بن الخطاب، ولا خالد بن الوليد، ولا

ص: 46

نابليون.

وكانت مناسبات الأيام السوداء في الميلاد والجلوس وغيرها، تحفل الصحف والمجلات والإذاعة بتلك القصائد المصنوعة التي لا تصدر من القلب ولا من العاطفة الخالصة، ولا من الإيمان العميق.

وكانت هذه أدوات الزلفى، وقماقم الراغبين في الوصول إلى غاية أو غرض، ونشرت دواوين، وكتب ومؤلفات، وحمل أصحابها أرقى الألقاب،. . . ومات هذا الأدب كله، وانطوى، وأصبح صفحة سوداء في تاريخ الذين وضعوه. . وإن جاءوا بعد ذلك ليقولوا قصائد أخرى، في مدح العهد الجديد. . . وبعد فنقولها كلمة صريحة: إن الشعراء الذين لوثوا أقلامهم في آثام العهد الماضي، وكذلك الكتاب. . يجب عليهم أن يتواروا. . . .

لا صدارة الآن إلا للأقلام النقية التي لم تلوث، تلك التي احتفظت بطهارتها ونقائها في وسط العواصف والأنواء.

أنور الجندي

ص: 47

‌البريد الأدبي

المصدر صحيح

صاغ الأستاذ المفتن (الزيات) رائعة من رائعة فيها جلال الذكرى، وجمال الوفاء، ومنها لطف العتب وحسن الاعتذار، فقد ألفت مجلته الخالدة شتات الألوان في ألفه (الألف) ودفعته الفرحة إلى التنويه ببلوغها بعد تبليغها، وساق تاريخها مساق الحقيقة، لكنه عنف حين عرض للخارجين على رسالته ونال منها حتى جعلها (معتلة. .)!

إن الاعتلال عرض عام يشترك فيه كل كائن، لكنه حين يتناول المبادئ لا يبلغ هذا المبلغ؛ فالمبدأ أخو العقيدة، والعقيدة أصل الكيان، والكيان لا يمكن أن يعتوره اختلال إلا إذا فسد اصل من أصوله؛ وفساد الأصل يتحقق بتحقيق دواعيه؛ وقد عاشت الرسالة ثلثي الألف وهي مسددة الخطا مبرأة من العيب بالغة الهدف، راغبة في الحق، مرتغبة عن الباطل. فكيف يمكن الحكم باعتلالها وكيانها صحيح؟

لقد قسا أستاذنا (الزيات) على رسالته لكنه نزيه في قسوته. فلا شك أنها كانت ولا زالت، ينبوعا فياضا تغترف منه النهى أصول المعرفة، واتخذت طابعا يطبعها بالاتزان، والوقار، والأناة، وحسن التأدي، وجودة التخير، وهي هي في اتسامها بتلك السمات لا تنحرف، ولا تنقاد، ولا تميل مع الأهواء حيث تميل!

إن المشتق والمصدر فرع عن أصل، والأصل لازال سليما معافى لم يثقله غير الكفاح في سبيل تحقيق المبدأ السامي الذي يدور حول سيادة لغة الضاد في إعزازها، والاعتزاز بها، وهذا ممثل في كل صفحة من صفحات الرسالة. إن مجلتك أيها الرجل الحصيف قد كفت عن الابتذال، لأنها عفت عن المال، وارتفعت بقوامها وقومها لأنها تأبى الإسفاف والانحراف، فحسبك ما ترى ونرى، ترى إشعاعها، ونحن نرى أضواء هذا الإشعاع!

بور سعيد

أحمد عبد اللطيف بدر

الفتاة وجور الجاهلية الأولى

نحن في القرن العشرين، ولكن يظهر أن الدنيا تغيرت وشمل هذا التغيير مخلوقات الله

ص: 48

جميعا ماعدا الفتاة. فالفتاة لم تزل إلى اليوم أشبه بالتركة البغيضة، والسلعة البائرة، والمتاع الهين المهين. ويظهر أن للعقلية التي كانت تسيطر على أجدادنا منذ عشرات الأعوام فحسب، كانت امتدادا لعقلية الجاهلية الأولى، ولذلك نرى تصرفاتهم تصر على اعتبار الفتاة من سقط المتاع، وكمية مهملة لا قدر لها، وإلا فلم حرموها الميراث وأوقفوا أملاكهم على الذكور دونها، كأن الله لم يخلقها لتعيش كويمة سعيدة وإنما خلقها لتهون وتشقى، وتذوق الأمرين في ظل شريعة العقول الرجعية الآسنة. وإن تعجب فعجب لهؤلاء الأجداد المسلمين الذين كانوا يؤدون شعائر الدين، ويفهمون تعاليم الإسلام كيف جاز لعقولهم أن تتنكر لنظام الشريعة العادلة، وتتمرد على نظم قوانينها في الميراث، ولم تجئ هذه القوانين إلا وفق العدالة الاجتماعية. وكيف فات هؤلاء أن البنت أقرب الرحم إليهم، وأن الله سائلهم عن هذه الرحم التي اشتق لها اسما من أسمائه، ووعد بأن يصل من وصلها ويقطع من قطعها كما في الحديث الشريف المشهور. أجل إن الله سائلهم عن هذه الرحم كما جاء في الآية الأولى من سورة النساء.

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا) لسنا ندري كيف جاز لعقول هؤلاء الأجداد، ما داموا مسلمين، أن يتمردوا على الإسلام فيتنكبوا طريقه، ويتمردوا على قوانينه العادلة التي اعتبرت الفتاة مخلوقا له وجوده وكيانه فأعلنت حقها في الميراث بجانب الذكر، وتوعدت المتمرد بغضب الله وشديد عذابه.

(للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر، نصيبا مفروضا)(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين. .)(تلك حدود الله. . . ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين).

وبعد. . فنحن الآن في موكب التحرير، وأظن أن الفرصة قد سنحت لمحق هذه البدعة المقيتة، بدعة حرمان الفتاة من الميراث، هذه البدعة التي لا يقرها عقل، ولا ترتضيها شريعة، وأملنا أن ينالها التطهير في هذا العهد المشرق الجديد.

الإسكندرية

ص: 49

نفيسة الشيخ

الصحافة الأدبية في العراق

قرأت في الرسالة النيرة (عدد 998) كلمة قصيرة للزميل الأستاذ عبد القادر الناصري عن (الصحافة الأدبية في العراق) وكنت، وأنا أطالع تلك السطور أتوقع أن أجد تحليلا دقيقا لصحافتنا الأدبية وأسباب تأخرها والعمد التي يمكن أن تقوم عليها نهضة أدبية شاملة. . . ولكني لم أجد إلا أمورا شخصية: اتصل به بعض شعراء البحرين والكويت والقطيف وعدن. . . واستفسروا منه، وقابل بعضهم وتجادل معهم (وذكر أسماء من قابلهم). . . الخ. . . ثم تطرق إلى موضوع امتياز مجلة أدبية طلب إصدارها ففشل وثمة توضيحات أريد أن أذكرها:

(1)

ليس السيد الناصري هو أول من قدم طلبا لإصدار مجلة ثم فشل، هناك كثيرون غيره قدموا طلباتهم ومازالوا ينتظرون، وهؤلاء لا يقلون كفاءة عنه، وإخلاصا لما أقدموا عليه.

(2)

وجه الكاتب لوما وتقريعا إلى السلطات التي لم تمنحه الامتياز، وكان يجب عليه ألا يشغل نفسه وتعبها بذلك. إنني لا أريد الدفاع عن مديرية الدعاية العامة عندنا، عفواً، فهي دائرة لا تعمل إلا بإيحاء من رجال الحكم؛ وهي لا تعطي امتيازات لشخص إلا بعد أن يثبت تلعقه وإخلاصه لرجل من رجال الحكم، أو الولاء لأية وزارة تأتي إلى الحكم، ولكني كنت أود ألا يهتم الزميل بمثل لهذه الأمور التي أصبحت بديهية ومعروفة.

(3)

قال (بعدم جود مجلة أدبية راقية تمثل الأدب العراقي المعاصر خير تمثيل تستحق أن تكون سفيرا بيننا وبين البلدان العربية الأخرى) وهذا صحيح، وكان الأحرى به أن يذكر أن هناك مجلات تمثل الأدب العراقي المعاصر، صدرت، ولكنها لم تر النور كثيراً، وأن يذكر العوامل التي أدت إلى ذلك.

(4)

أفهم من كلمته أن ليس في العراق مجلة أدبية، بينما كان الواجب أن يوضح ذلك مع ذكر الصحف الأدبية التي تصدر في (النجف) هذه الصحف التي تغالب الصعوبات وتقاوم (الاحتجاب)! فمجلة (الغري) مثلا مجلة أدبية راقية ينشر فيها كتاب العراق ومؤرخوه، وهي لا تقل نجاحا وقوة عن المجلات الأدبية الصادرة في لبنان ومصر؛ كما تعتبر (البيان)

ص: 50

منبرا حر لآراء الشباب وأفكارهم

وكان بودي أن أذكر تأريخ الحركة الصحفية في العراق اعتباراً من عهد الاحتلال البريطاني حتى اليوم، لولا أن ذلك يحتاج إلى شرح مسهب ووقت ليس قصيرا مما قد أفرد له مقالا خاصا في وقت آخر. غير أن من الضروري أن أبين العوامل التي يمكن أن تقوم عليها صحافة ونهضة أدبية مباركة:

(1)

أرى أن العامل الأول هو توفير مطابع راقية تقوم بطبع الصحف الأدبية بأجور بخسة، على أن تقوم بهذه المهمة دور للنشر والطباعة يعتمد عليها. وهذا عامل له أهمية في صحافتنا الأدبية التي تعاني غلاء الورق وأجور الطباعة الباهظة.

(2)

رأس مال ضخم أو مناسب لإصدار صحيفة راقية يمكن أن تصمد طويلا أمام العقبات، مع مساعدة (جمعية الصحفيين) لها في حالة (الركود!) إذ الصحف الأدبية عندنا ليست كالسياسية اليومية التي تعتمد أكثرها على مساعدات و (مخصصات سرية) تعينها على (البقاء)!

(3)

تأليف الجمعيات للأدباء والشعراء وإنشاء النوادي لهم وجمع التبرعات والقيام بإصدار مجلة خاصة لهم.

(4)

إفساح المجال لأقلام الأدباء والشعراء وإنتاجهم وإعطاؤهم الحرية الكاملة للتعبير عن أفكارهم، وتشجيع الأكفاء منهم باستمرار، ومساعدتهم بشتى الوسائل

(5)

نتاج متين قوي؛ وأحسب أن هذا موجود في العراق في أي وقت. . فهناك مواهب وقابليات كامنة، لا تزال (بالقوة) ولم تخرج إلى الفعل بعد! مع أهمية انصراف الأدباء والشعراء لأدبهم وفنهم، والخروج من وظائفهم الحكومية التي تحد من نشاطهم وحريتهم.

إن هذا لا يمنعنا من القول أن قيام نهضة أدبية ناجحة في العراق ليس أمر بعيدا، بل على النقيض نجد الجهود اليوم تتضافر للعمل لخلق تلك النهضة. وفي رأيي أننا يجب أن نتفاءل فأمامنا طريق يجب أن نعبده بأيدينا وجهودنا.

بغداد

فؤاد البعلي

ص: 51

‌القصص

من الأدب الإيطالي

عدو. . .

كان جالساً في حجرة المطالعة إلى نضد بجوار النافذة شارد اللب، مشتت الخاطر، يحدق في الفضاء المترامي أمامه لا يثبت شيئا ولا يحققه، وقد اضطربت في رأسه خواطر. . خواطر سوداء يريد أن يطردها بما ينفثه من دخان سجائره. كان كذلك حين نادته زوجته من خلف الباب:(بيتروا! بيترو؛ أأستطيع الدخول؟) ثم. . ثم دفعت الباب في رفق وهي تقول: (أرجو أن تعيرني سمعك قليلا. سأقص عليك خبرا هاما) وتقدمت في هدوء وهي تلوح بمنديلها تطرد به سحب الدخان المتكاثفة هنا وهناك: لقد أفرطت في التدخين يا بيترو، وهو يهد من كيانك. لماذا تجلس صامتاً في الظلام؟ وكان ثوبها الحريري الجميل يحف حفيفاً خفيفا، وقرطها الماسي يشع نورا؛ وكانت هي تبدو أنيقة جذابة لأن هذا اليوم هو يوم الاستقبال. . .

وزفر الزوج زفرة عميقة ثم نظر إلى زوجته وهو يبتسم في تهكم ويقول: (لماذا رتبت شعرك بمثل ما أرى وقد جاوزت سن الفتاة؟) فاضطربت شفتاها وقالت: (إن شعري لا يلبث أن يتشعث، ولكن لابد للمرء أن يبدو أنيقاً حين ينتظر قدوم الزائر)، وفي لهجة السخرية قال:(حقا. إن هذا اليوم عظيم. إن النواقيس لا تنفك ترن رنينها العذب. . .)

واقتربت الزوجة رويداً رويداً من زوجها وقالت هي تبسم في رقة وقد طرحت وراءها كل تهكماته: (أتعرف سالفيتي القانوني الشاب؟ إن أمه كانت هنا اليوم؛ أفهمت ما أعني؟)

فقاطعها الزوج في جفاء وقال: (لا، أنا لا أعرفه)

(إنك تذكره تماما! القانوني الشاب! أنه يبدو أنيقا رقيقاً!)

(أنا لا أذكره)

وفي الحق لقد كان بيترو يعرف الشاب، ولكن أي قوة على الأرض تستطيع أن تنتزع من بين شفتي هذا العنيد اعترافا؟

فقالت الزوجة في رقة: (لا بأس فأنا موقنة بأنك ستذكره حين تراه. لقد أسهبت أمه في وصف ابنتنا إيلينا بصفات الجمال والكمال والرقة والأنوثة و. . . ثم راحت تطلبها زوجا

ص: 53

لابنها الشاب في رجاء واستعطاف فوافقت، وسيزورك زوجها بعد. . .)

(وافقت؟ أحقا ما تقولين؟)

وصاحت المرأة: (بيترو، أي زواج خر من هذا الزواج؟ وإيلينا تهوى الفتى!)

وانتفض الرجل كمن مسه طائف من الشيطان يرعد ويزأر هائجاً مضطربا (وكيف؟ كيف استطاعت الفتاة أن تغرم بهذا الشاب؟ أين تلاقيا؟ أريد أن أعرف. . . وأنت. . . أنت التي لا تعرفين معنى الأمومة، كيف تركت لها العنان لتندفع في طريقها طائشة؟ هيه! نعم! لقد سمحت لابنتك أن تحب رجلا لا أعرفه. لعلهما تراسلا أيضا! ولعلك كنت واسطة بينهما! لقد تمت القصة وعلى عيني ستار كثيف أسود!)

واضطربت المرأة، وخارت قوتها، وطار عنها ثباتها، فغطت وجهها بيديها تخفي بعض خجلها، وتستر ضعفها النسوي المنسكب من عينيها، ثم راحت تنتزع الكلمات من بين شفتيها انتزاعا:

(لا لا يا بترو، لقد ظننت أني أحمل إليك بشرى، لماذا أنت كذلك؟ لماذا؟ ماذا اقترفنا، وأي غرابة في ذلك؟ شابان راق كل منهما في نظر صاحبه فتعلق أحدهما الآخر وأحبه، وبادله الآخر حبا بحب وغراما بغرام؛ أليس هذا ما كان بيننا يا بيترو؟ أنت ظالم)

وكان الرجل ظالما، وبدأ ف جلسته مهموما مضطربا، وقد تدلى رأسه كأن فيه ثقل جبل، وكانت أفكاره تضطرم اضطراما، وأحس كأنما يعاني ألما ممضا، وحين كبح جماح غضبه ارتد هذا في جسمه فتوراً واستخذاء، واستيقظ ضميره يخزه وخزات شديدة تؤلمه، كما آلمته أعصابه المضطربة من قبل. نعم لقد أحب سليليا وهام بها، فسعى إليها وقد اختارها لنفسه، ثم. . . ثم فاز بها بعد طويل عناء. أنها قصة غرام قديم. . . قديم منذ نيف وعشرين سنة؛ ولكن الحقيقة لا تهزم، وعلى رغم أن العقد الثالث من عمر سليليا قد انفرط منذ زمان إلا أنها لا تزال جذابة جميلة. أما هو. . . وهو يحبو للخمسين يبدو للعين كمن جاوز السبعين، أما قلبه فما برح شابا يؤمن بالحب، ويحبوه بما في رأسه ويده معا، لذلك. . . لذلك كان الرجل ظالما.

وحين تراءى له في خياله كل ذلك تقارظته الهموم فصاح: (سليليا، أعصابي!. . . دعي هذا الأمر الآن. . .).

ص: 54

وكفكفت المرأة عبرات الخيبة في صمت، ثم انطلقت إلى ابنتها حزينة كئيبة تحدثها الحديث كله، وتقف في طريقها إلى أبيها الثائر خشية أن يقع في أمر. وساد صمت رهيب حين علم الجميع أن أعصاب الأب تضطرب، فأمسك فرنسكو عن العزف على البيان، وتركت لوشيانا لعبتها، وصمت بيبينو الصغير عن استذكار دروسه، حتى الخادم المسكينة، خفقت من وطئها وهي تعد المائدة لئلا تزعج سيدها. . .

وعلى المائدة جلس الجميع في سكون، وبدت إيلينا قلقة جزعة وقد سيطر عليها اليأس، واضطربت الشوكة في يدها فسقطت، في سذاجة الطفل التقطها بيبينو وهو يبسم، ثم انفجر ضاحكا، وضحكت لوشيانا، ثم فرنسكو، حتى الأم الحزينة افتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة. وغاظ الزوج ما رأى، فأراد أن يخمد هذه الزوبعة في خشونة وغلظة، فنظر إلى زوجته ومن عينيه يتطاير شواظ ينتقد وقال:(أعدي ملابسي، سأسافر غدا إلى قريتنا. . قريتنا فالكونيتو)، وذعرت الزوجة وتردد نظرها حائرا بين الزوج المحنق وبين الفتاة وهي تتلقى الصفعة القوية. وأدرك الجميع ما أراد الأدب، فأطرقوا في حزن إلا بيبينو الصغير، فقد لمعت عيناه بالفرح. . . فرح التلميذ الصغير ينتظر الإجازة. . . فأشار إليه الأب:(أمسرور أنت لأنني ذاهب؟) فارتعد الطفل وقال (لا. لا يا أبي، حقا لا!)

وانطلق الأب والزوجة تقول له في صوت ضعيف: (أتعود قريباً؟ لابد أن تفكر في هذا الأمر) فقال: (أي أمر؟) قالت: (زواج إيلينا! إ ذهابك معناه الرفض والتحدي معاً. إن سعادة ابنتك فوق كل عمل في فالكونيتو) ولكنه كان في ثورته يبدو عنيدا فقال: (لا جرم أن المرأة حين تفكر في الحب تراه فوق كل عمل وإن كان عظيما!)

لم يكن العمل هو الذي دفع الزوج إلى القرية ولم تكن الرغبة، وإنما كانت النفس الشريرة التي فيه هي التي أرادته على أن يسئ إلى أهله

وصاحت الزوجة: (بيترو، لا تذهب. . .) غير أن الرجل اندفع لا يلوى على شيء. حتى إذا كان لدى الباب التفت إلى ورائه فرأى. . . رأى أبناءه في إطراق حزين، وصمت مؤلم، وما هم أحد ليودعه، فقال له ضميره:(أرأيت. . . أرأيت أسرتك المحبوبة كيف تتركهم عبيداً أذلاء؟)

وعند انبثاق الفجر كان الزوج في طريقه إلى القرية.

ص: 55

جلس بيترو وحيداً إزاء المدفأة في بيت قديم له بالقرية، وخياله عند الجماعة الذين خلفهم هناك في المدينة؛ وبدت نفسه رفيقاً له يحدثه: (كأني أسمع الزوجة تقول لابنتها: أمغتبطة أنت يا إيلينا؟ فتنطوي الابنة على هم، ونفسها تضطرم أسى ولوعة. وكأني بالأولاد من حولها يمرحون ويقولون: ما أجمل المكان حين يرتفع عنه هو. . . هذا الكابوس هذا الكابوس هو أنت. . . أنت الذي لا يحبك أحد، ولا يسر لمرآك طفل. . . أنت الشبح المخيف. . . إنهم يكرهونك ويمقتونك. . . عجيب هذا؟ كيف مرت الأيام وأنت تورث الفكرة في أذهانهم عن جهل منك وغفلة؟

لقد كان وحيداً، ولكنه كان هادئاً يستطيع أن يشعر نفسه الأخطاء التي ارتكبها؛ ويستطيع أن يرى بعيني عقله ثمار القسوة والغلظة وهي مرة كريهة. واستيقظ ضميره مرة أخرى يؤنبه بكلمات لاذعة قاسية، وحكم هو على نفسه حين نشر على عينيه تاريخ أعوام مضت. لقد كان إلى عهد قريب هادئ الطبع حلو الشمائل، رقيق العاطفة، طيب القلب؛ وحين أحس مصباح الحياة ينطفئ أمام عينيه لمس هو الظلام في كل شيء، وراحت أعصابه تضطرب فما يقوى على ضبطها. ماذا جنت زوجته وهي رقيقة عذبة الحديث عطوفة رحيمة طيعة؟ وماذا جنى هؤلاء الأطفال الأبرياء ليرى هو الهفوة الهينة منهم كبيرة لا يكفر عنها إلا العقاب الشديد؟ ثم ماذا في هذه الأعصاب الفانية المضطربة؟ لقد كانت رسول الشؤم والظلام في هذه الدار وأهلها آمنون).

هذه هي النهاية. . .!

وطلعت أيام الشباب في خياله تذكره قصة الماضي. فرأى أسرته جميعاً تنهد فرقا من ذكر أعصاب الأب المضطربة، تلك الأعصاب الظالمة التي وقفت سدا منيعا في سبيل زواج كبرى بناته، والتي أرغمت الصغرى على أن تتخذ خماراً وقد سيطر عليه الشك؛ ثم هي أخرجت أكثر أبنائه من الدار لا يملك صلدياً يسد به الرمق، وبيترو. . بيترو نفسه قاسي ويلات ما منته به هذه الأعصاب الظالمة. لقد كانوا يكرهون الأب ويمقتونه، لما يرون فيه من الظلم والأنانية، وكان بيترو نفسه يقول:(آه، لو أن لي ولدا فقسوت عليه بمثل هذا لخنقت نفسي بيدي هاتين. .) أما الآن. . . أما الآن فقد تراءى له ما يضطرب في خواطر أبنائه هو جميعا، وأحس بما يضمرون له من المقت والكراهية.

ص: 56

ليته يستطيع أن يطرح عن نفسه ذلك كله ليرجع إليهم وادعاً هادئا رقيقا. . . وشغلته الفكرة وتصرمت أيام.

ووافته الزوجة وهي تقول: (ما كنت لأجرؤ على المجيء ولكن. . . أنت مريض. . . أنت مريض حقا) ثم راحت تبكي في صمت.

وكان هذا الصراع النفساني قد أنهك الرجل فهو ذابل ذاو شاحب اللون، مضطرب لا يكاد يستقر، غير أنه قال في لطف (علام تبكين؟ هل الأسرة بخير؟) قالت:(أنت. أنت. . يجب أن تعود إلينا) قال: (نعم يجب أن أعود. . . أعود إكراما لإيلينا، يجب. . ولكني أجد الراحة واللذة هنا، وعندي هنا ما يشغلني. . . يجب. . . لأن إيلينا سأكتب إليها)

وكتب:

ابنتي العزيزة؛ أنا أوافق على زواجك من السنيور سالفيتي، لك تمنياتي الطيبة وحبي الطاهر.

(أبوك)

وناول الزوجة الورقة وهو يقول: (أفي هذا ما يكفي؟)

قالت: (كفى. . ولكن بيترو، ماذا وراء الباقي؟ الجهاز. الناس. الزفاف. . . لا يمكن أن ترفض!)

وتغاضى الرجل عن حديثها حينا ثم نظر إليها وهو يقول: (إن القطار يتحرك في الثالثة تماما)

(وأنت. . .؟)

(سأرافقك إلى المحطة)

وانطلقا جنبا إلى جنب وذارعا في ذراع والزوجة تقول: (تعال معي يا بيترو، تعال إلى دارنا تعال! لا تبذر فينا غارس الشقاء بفراقك!)

فقال الرجل في هدوء: (سأظل هنا ما بقي لي من العمر لأنكم تشقون بي، سأعيش هنا)

- (وحيدا!)

(نعم، هنا، إنني أريدكم هانئين سعداء)

- (وكيف. . كيف نكون سعداء وأنت هنا ونحن هناك يتامى وأرملة؟)

ص: 57

ثم راحت تندب حظها السود العاثر

قال: الرجل (إن كل من في الحياة يحمل قسطه من المتاعب والأحزان، وفي كل دار عدوها؛ فالفاقة والرذيلة والسقوط كل أولئك أعداء؛ أما دارنا ففيها عدو من نوع آخر هو. . هو أنا، هذا ما أعرفه وأوقن به، وليس لي من العزم ما أستطيع أن أخرج عن طبعي هذا. . . عن قسوتي وغلظتي، ولا أريد أن ابذر في أبنائي غراس العداوة والبغضاء لي، لهذا. . . لهذا فأنا لا أستطيع أن ارجع إلى داري. . . لن أرجع. . . لن أرجع حتى أبرأ)

وبدا ليعني المرأة مراد زوجها، ووضح لها ما يريد؛ فقالت في عطف وشفقة:(سأبعث إليك بفرنسسكو أو سالفيتي فهو فصيح اللسان قوي الحجة)

وراحت تودعه في حرارة وشوق وقد اشرق في نفسها تاريخ السعادة الأولى حين شبا حبيبين، وهي تقول: (وسأرسل فرنسسكو يا بيترو، فهو رحيم، وهو يحبك؛ يحبك على رغم كل شيء لأنك أبوه (ثم صعدت إلى القطار.

ورجع الزوج يتثاقل كأنما يحمل على ظهره حملا ثقيلا، وتراءى له ابنه الأكبر في الخيال يستعطفه ويرجوه ويجثو عند قدميه يبكي ويبكي. . . فيصغي هو، فيلين، فيلبي. . . ثم يرجع ويرجع معه العدة الذي فيه، فتضطرب الدار ويفزع الأبناء. أين الخلاص؟ وبدا له الخلاص وهو يسير على حافة هوة عميقة، في خطوة. . . خطوة واحدة يتقدمها في ثبات وعزم، فأغمض عينيه وسار. . .

وخرج فرنسسكو ليعود بأبيه فما عاد إلا بقصاصة ورق تحمل إليه النبأ المفزع. . . موت أبيه

ك. ح

ص: 58