المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1003 - بتاريخ: 22 - 09 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٠٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1003

- بتاريخ: 22 - 09 - 1952

ص: -1

‌أخرسوا هذه الأصوات الدنسة

للأستاذ سيد قطب

(مهداه إلى وزير الدولة وضباط القيادة)

محطة الإذاعة المصرية لم تشعر بعد بأن هناك ثورة في هذا البلد. وقد ظل إدراكها لمعنى الثورة محصوراً في إضافة بعض إذاعات جديدة إلى البرنامج العادي، قائمة على جهد فردي بحت. لا علة أساس انقلاب أساسي في عقلية الإذاعة!

وهذا طبيعي. فغن العقلية المشرفة اليوم على المحطة هي بذاتها العقلية التي كانت تشرف عليها منذ نشأتها

ومكلف الأشياء ضد طباعها

متطلب في الماء جذوة نار

إن الأصوات الدنسة التي ظلت تنثر على الشعب رجعها خلال ربع قرن من الزمان هي ذاتها التي تصبها الإذاعة على هذا الشعب صباً، وتكثر من عرض أشرطتها المسجلة بحجة أن الجماهير تحب هذه الأصوات

والجماهير تحبها نعم! كما أن هذه الجماهير تحب المخدرات! ولكن واجبنا اليوم هو حماية هذه الجماهير من الأصوات التي تحبها كما نحميها من المخدرات التي تحبها كذلك. وأجبنا هو أن نصون ضمائر الناس وأخلاقهم من التميع والشهوات المريضة، - المعذرة للرجولة والأنوثة - التي ينفثها في أرواحهم مخلوقات شائهة بائسة كعبد الوهاب ومحمد فوزي وفريد الأطرش وعبد العزيز محمود وليلى مراد ورجاء عبده وفايدة كامل وشهر زاد وأمثالهم.!

إن هذه الطابور المترهل الذي ظل يفتت صلابة هذا الشعب ويدنس رجولته وأنوثته، وهو المسؤول عن نصف ما أصاب حياتنا الشعورية والقومية من تفكك وانحلال في الفترة الماضية

إن فساد فاروق وحاشيته، ورجال الأحزاب ومن إليهم، لم يدخل إلى كل بيت، ولم يتسلل إلى كل نفس. أما أغاني هذا الطابور وأفلامه فقد دخلت إلى البيوت، وأفسدت الضمائر، وحولت هذا الشعب إلى شعب مترهل لا يقوى على دفع ظلم أو طغيان. وعبد الوهاب ينفث في ورعه أن الدنيا سيجاره وكاس!

ص: 1

إن هذه الأصوات بذاتها تكون جريمة وطنية، وجرمية إنسانية، بغض النظر عما تقول! فلقد تحول هي ذاتها إلى ميوعة مدنسة حتى ولو كانت تنشد مشيداً حماسياً!

وهذا هو محمد عبد الوهاب يغني أخيراً (نشيد الحرية) للأستاذ كامل الشناوي. فماذا صنع به؟ لد استحال في حنجرته رجعاً ضارعاً؛ ووصل إلى ضمير الشعب دعوة خانعة إلى تهويمة مخدرة! ومع أن تلحين النشيد من الناحية الموسيقية فيه جهد واضح، ولكن الكارثة كلها تكمن في طريقة الأداء الصوتية التي انطبعت بالشجن الضارع المترهل المحلول!

وعبد الوهاب رأس مدرسة، والآخرون ليسوا خيراً منه بل هم شر. ولا سبيل لعلاج هذه المخلوقات الشائهة الزرية. لا سبيل لعلاجها إلا بأن تخرس هذه الأصوات الدنسة إلى الأدب، إذا أردنا أن نربي روح هذا الشعب تربية جديدة، وأن نبث فيه حياة جديدة، وما كنا بمستطيعين من قبل أن نصنع هذا، ولا أن نطالب بإخراس هذه الأصوات كلية - مهما كان الشعب يحبها - لأن العقلية العامة لم تكن تستسيغ هذا الطلب. وربما لا تستسيغه الآن كذلك. ولكن واجب الثورة يحتم عليها أن تفعله - مهما بكن فيه من اعتداء على حريات الأفراد - فواجب الثورة أن تحمي الناس من أنفسهم أحياناً. كما تحميهم من المخدرات. والمخدرات لا يمكن أن تفسد ضمير الشعب، وأن تفتت تماسكه، كما يفسدها فلم واحد، أو أغنية واحدة من أغنيات هذا الطابور!

ثم نعود إلى محطة الإذاعة فنجدها توالي برامجها القديمة بعقليتها القديمة - فيما عدا تعديلات طفيفة قائمة على جهود فردية بحتة - كأن شيئاً ما لم يحدث في حياة هذا البلد

لماذا؟ لأن الرجال الذين عاصروا مولد الإذاعة هم القائمون عليها حتى الآن. وأنا آسف حين أتعرض لأشخاص بأعيانهم؟ فالأشخاص لا يهمونني في شيء، لولا دلالة وجودهم على أن الثورة لم تصل لعد إلى محطة الإذاعة

خذ مثلاً لذلك رجالاً، ردهم العهد الجديد إلى مراكز هامة في محطة الإذاعة، بينما هو عنوان على عهد لا ينبغي أن تظل له آثار في العهد الجديد

كل من احتكوا بالإذاعة يعرفون كيف نال بعضهم رتبة (بالكوية) في سنة مبكرة وكيف صعدوا الدرجات المالية وثباً

إن رتبة (البكوية) كان لها معناها، ولها أسبابها في مثل تلك العهود. ومع هذا فقد استطاع

ص: 2

بعضهم أن يعود إلى الإذاعة، وأن يطلق أبواق الثناء عليه في كافة الصحف!

لماذا. لمجد أن المنافسة القاسمة على الحظوة بالرضى الملكي السامي قد أبعدت قوماً وقربت آخرين

ولكن أحداً لم يسأل، ولم يعرف، فيم كان هذا الخلاف؟

إنه لم يكن قطعاً خلافاً على مبدإ، ولا على حق من حقوق الشعب، ولا على خطة ولا على فساد. إنما كان خلافاً على الحظوة بلثم الأعتاب الملكية الكريمة!

ولم يقل أحد إن انتصار موظف على موظف في هذا السباق يجعل أحدهما شريفاً والآخر مجرماً. ولكن بعضهم قال هذا. وجاء بالمبعدين ليشرفوا على محطة الإذاعة من جديد، في العهد الجديد!

إنني آسف حين أضطر إلى لمس ذلك الموضوع الشخصي ولكن عذري أنه عنوان على عهد يجب أن يزول

إن محطة الإذاعة يجب أن تنفض نفضاً من أقصاها إلى أقصاها. إنها في حاجة إلى تطهير من نوع خاص. فلم يبلغ الدنس في جهة من جهات الدولة ما بلغ في محطة الإذاعة. وإن جدرانها لو نطقت لأفصحت عن كثير، مما لا يجوز نشره في الصحف: لا لأن القانون يحرمه، بل لأن كرامة النفس البشرية تأبى الإفصاح عنه!

ولا سبيل للتطهير والأشخاص الذي عاصروا مولد الإذاعة وسايروها باقون في مراكزهم بالمحطة. إن لهم صلات معينة بالوسط الإذاعي لا يمكنهم التخلص منها. وإن لهم سهرات معينة لا يمكنهم أن يتنازلوا عنها. وإن لهم ارتباطات معينة لا يمكنهم التنكر لها، ومهما حاول الوزير المختص أن ينقي جو الإذاعة من الشوائب فإنه سيظل عاجزاً عن الوصول إلى تلك الملابسات التي تتدخل في عقود الإذاعة. وإلا اضطر إلى مراجعة ظروف كل إذاعة وهذا مستحيل!

وإن عقلية الإذاعة يجب أن تتغير، فتنصرف إلى بناء أخلاق الشعب ومبادئه ومثله وأهدافه. وإلى بناء ثقافته وتفكيره وتعبيره، وغلى تعبئة قوى الشعب وعزيمته وأطماعه وأشواقه وإلى دراسة مشكلاته وتوجيهه وجهة سليمة

وهذا لا يكفي فيه تعديل البرامج، ولا تنحية فرد أو اثنين، إنما هو في حاجة إلى تنحية

ص: 3

عقلية، وتنحية تاريخ

ولا حاجة إلى المساس بالموظفين جميعاً لتحقيق هذه الغاية. فالمهم هو تطهير الرؤوس المشرفة. الرؤوس الموجهة. الرؤوس التي عاصرت الفساد وسبحت بحمده وانغمست فيه

إن الرؤوس وحدها هي المتعفنة في هذا الشعب. وقد سار الفساد من أعلى إلى أسفل، ولم ينتقل من أسفل إلى أعلى

وكذلك يمكن أن يسير الإصلاح في نفس الطريق

سيد قطب

ص: 4

‌القيم الأخلاقية والوظيفة الحكومية

للدكتور عمر حليق

شغل المجمع الأمريكي للعلوم السياسية والاجتماعية في إحدى حلقاته الأخيرة بموضوع هام يتعلق بجوهر النظام الديمقراطي الذي هو مقياس الرقي للشعوب الحية. فقد تختلف النظم الفكرية في تحديد معنى الديمقراطية وأهدافها إلا أنها لا تختلف في ناحية واحدة على الأقل وهي نزاهة ومسئولية الوظيفة الإدارية مهما كان نوع الحكم الذي يعيش عليه المجتمع

والذي دفع المجمع الأمريكي إلى الاهتمام بهذا الموضوع هو الاستياء الشديد الذي أعربت عنه الأوساط الواعية في الولايات المتحدة الأمريكية أثر الكشف عن سلسلة من الفضائح في دوائر ضريبة الدخل والتجارة ومؤسسات الإقراض الحكومية التي توفر للزراع والصناع قروضاً طويلة الأمد بفوائد زهيدة في حالات الضيق الاقتصادي، وفي دواوين حكومية أخرى كانت مسؤولية بعض الموظفين فيها نزاهتهم موضع الشبهات

وقد أحب المجمع أن يعين الحكومة المركزية في مواجهة هذه المشكلة وجعل حركات التطهير مستندة إلى دراسة علمية ترتفع عن مآرب السياسة الحزبية وأهواء ذوي النفوذ والمصالح. وقد عقد المجمع حلقة لدراسة القيم الأخلاقية في الوظيفة الحكومية اشترك فيها نفر من أئمة العلوم السياسية والاجتماعية ومن كبار رجال السلك المدني وأعضاء البرلمان. وقد نشرت محاضر جلسات هذه الحلقة في سجل استند إليه كاتب هذه السطور في وضع هذا المقال في آونة يشغل بها الرأي العام العربي في هذا النوع من النشاط الاجتماعي

الوعي القومي في المجتمعات الديمقراطية يفترض احتراماً وتقديراً لمسؤولية الحكم والإدارة. وهذا يعني أن نظرة الناس إلى الوظيفة الحكومية يجب أن تستند إلى نوع من الاحترام شبيه الذي يحظى به أصحاب المهن الحرة من أطباء ومحامين وكتاب وعمال ومدرسين ومن يعملون في شتى أنواع العيش الشريف. فإذا اعترى السلك الحكومي ما يدفع الناس إلى وصمه بغير النزاهة فإن الأساس الديمقراطي الذي يدعم الدولة والمجتمع يصبح معرضاً إلى الانهيار

والوعي يستلزم يقظة مستديمة لمحاسبة المسئولين عن الأمانة الشعبية في جهاز الحكم والإدارة. فالمسؤولية الإدارية كانت منذ أقدم الأزمنة معرضة للإغراء؛ وندر أن تجد

ص: 5

مجتمعاً من المجتمعات القديمة أو الحديثة خلا من هذه المحاسبة. وقد تتخذ هذه اليقظة طابعاً حزبياً في بعض الحالات إلا أنها على وجه العموم تستند إلى طبيعة السلطة وطبيعة السلوك الإنساني وغلى تأصل القيم الأخلاقية في المجتمعات مهما تراكم على هذه القيم من الأطمار البالية

إذن فتعريض القيم الأخلاقية في الوظيفة الحكومية إلى المحاسبة الحزبية أو الشعبية مسؤولية ديمقراطية، وحد اجتماعي مهما صاحب هذه المحاسبة من نزوات الساسة ومآرب الذين يصطادون في الماء العكر

وقد وجد أعضاء المجمع الأمريكي للعلوم السياسية والاجتماعية أن دراسة القيم الأخلاقية في الوظيفة الحكومية اجتهاد يتطلب أكثر من الأمانة العلمية - يتطلب لباقة وسعة صدر تأخذ بعين الاعتبار نقاط

الضعف في الطبيعة البشرية؛ وتشعب المسؤولية الحكومية وتعرضها إلى ضغط أو إغراء أسبابهما في تضارب المصلحة الشعبية العامة مع المصلحة الخاصة لأرباب النفوذ من علية القوم أو من أرباب المصالح الاقتصادية والسياسية؛ ومن ثم يتيقن من أن مصادر الشبهات التي تحوم حول المسؤولية الحكومية المتهمة ليست مصادر مغرضة. فحقائق هذه الشبهات قد تضع في كثير من الحالات في ثنايا الاجتهاد الخاطئ الذي تنشره الصحافة في الرأي العام لأسباب تتعلق بفن السبق الصحفي ونفسية القارئ وإدراك الصحفي للعوامل المثيرة التي تستجلب انتباه القراء. والناس أميل إلى أن تحمل نوعاً من الحسد الدفين لذوي السلطان ومن هم في مركز إداري مسؤول، والناس أميل إلى تناقل الأنباء السيئة منهم إلى التحدث عن الأمور الحسنة التي ينظر إليها الناس على أنها من تحصيل الحاصل لا تتطلب تعليقاً

ومقاييس القيم الأخلاقية في الوظيفة الحكومية هي مقاييس غامضة لا يمكن بالضبط تحديدها على أساس مثال صادق ، فأكثرنا يميل إلى وزن هذه القيم الأخلاقية بمقاييس معينة منها الاختلاس أو الرشوة أو ما شكلهما من أنواع المنفعة المادية. ولكن سوء استعمال المسؤولية الحكومية لا تقتصر على مثل هذه المقاييس فقط، بل يدخل في نطاقها الوساطة الشخصية لمآرب لا صلة لها بمنفعة مادية للوسيط أو للموظف المسؤول. وهذا يعني أن

ص: 6

وزر الاعوجاج يقع على الطرفين. ومن الصعب في مثل هذه الحالات تحديد القيم الأخلاقية إذ أن فيها تقارباً بين مسؤولية الإدارة والحكم

ومن النقاط الطريفة التي أثارها أعضاء المجمع الأمريكي في معرض تحديده لمقاييس القيم الأخلاقية في المسؤولية الإدارية إشارته إلى أن هذه المقاييس تختلف باختلاف الزمان والمكان والمجموعة الإنسانية التي تنفذ فيها المسئولية الإدارية

ففي المجتمع الريفي الشرقي مثلاً تتخذ رشوة صاحب المصلحة للموظف المسؤول طابع (الهدية) والاعتراف بالجميل والود الخالص والاحترام والتقدير. وهذا النموذج من نماذج السلوك الريفي يتخذ في المدن لوناً مغايراً. فصاحب الحاجة في العاصمة حين يقدم للموظف (هدية) نقدية كانت أم غير ذلك يدرك تمام الإدراك أنه يتعمد رشوة الموظف المسؤول. فطابع هذه الرشوة لا يوحي إلى صاحب الحاجة باحترام الموظف أو الاعتراف له بالجميل والشكر والتقدير. والموظف نفسه لا يفترض هذا الاحترام. وبين هذين السلوكيين الريفي والحضري (ممثلاً في عاصمة الدولة) يوجد نموذج ثالث هو بين هذا وذاك. ففي المدن الصغرى يشترك الموظف المعوج مع صاحب الحاجة في تعيين نوع (الهدية) وكلاهما يعلل نفسه بأن هذا التعامل نوع من العادات الاجتماعية ليس طابعها ارتشاء محض أو أمانة مطلقة. وعلى ذلك فإن الصلة بين الموظف المعوج وصاحب الحاجة في هذا النموذج من السلوك المدني صلة (تجارية)

وهكذا نرى الصعوبة في تحديد مقاييس القيم الأخلاقية للوظيفة الحكومية وللوعي المدني ما دام للعوامل الاجتماعية ولنماذج السلوك صلة وثيقة بهذه المقاييس - صلة تتعارض في بعض الحالات مع النظرة الأخلاقية الصرفة

والعلاقة بين المسؤولية الحكومية والوعي المدني ذات صلة بجدل قديم العهد بالفلسفة وعلم الاجتماع. فمن قائل بأن عناصر النزاهة والأمانة في الفرد قد يقدر لها أن تظل خالية من الشوائب لولا تعكير المجتمع الفاسد لها، على اعتبار أن للمجتمع شخصية (فردية) مستقلة عن شخصية الأفراد الذين يشكلونه. ومن قائل بعكس ذلك

فالنظرية التي تعتبر الإنسان فاضلاً في فطرته معرضاً للفساد حين يتأثر بالصلات التي تفرضها عليه علاقته الأبدية بالمجتمع - هذه النظرية تتلخص فيما يلي: كلنا معرض

ص: 7

للخطيئة؛ وأكثرنا تعرضاً أولئك الذين لهم نفوذ وسلطان. وقد يقدر لنا أن نعصم أنفسنا عن الحرام لولا أن طبيعة النفوذ والسلطان التي نوفرها الظروف لبعضنا تجعله عرضه للإغراء وهدفاً مستمراً له

ثم إن هناك النظرة الميكيافيلية لمسؤولية الحكم، ولمقاييس القيم الأخلاقية. وهذه النظرة لا تزال تشكل عنصراً هاماً من عناصر السلوك السياسي والإداري في كثير من المجتمعات والنظم - ديمقراطية وغير ديمقراطية - على رغم أن الجميع يرمون ماكيافيلي بالكفر والإلحاد السياسي. ونظرية ماكيافيلي تقول بأن رجل الحكم حين يوكل إليه تنفيذ مسؤولية إدارية يشعر بأنه ملوم بأن يفعل ذلك في ظروف تستوجب مراعاة نواحي الضعف والقوة في الطبيعة البشرية؛ فليس من الحكمة والصواب - في رأي ماكيافلي - أن نزن رجال الحكم بمقاييس أخلاقية مستمدة من نظريات مثالية ينقصها الاختبار العملي بطبيعة السلوك الإنساني في مادته الخام. فما دام رجل الحكم قد تولى المسؤولية ومارسها برضى الناس فلا مفر له من أن يعالج الأمور ونصب عينيه أهواء الناس وحقائق طباعهم البشرية، وهي حقائق لا تقاس في بعض الحالات بمقاييس القيم الأخلاقية الفاضلة، النظريات المثالية الرفيعة. ويرى - ماكيافيلي - أن رجل الحكم وصي على أمور الناس، فإذا واجه ضغطاً من بعض هؤلاء الناس لتنفيذ غير ما نصت عليه الشرائع والأمانة الإدارية فإنه يفعل ذلك تلبية لأهواء هؤلاء الناس أو على الأقل أهواء نفر منهم ذوي حول وقوة ونفوذ. والنفع الذي يجنيه رجل الحكم حين يحيد عن القانون المدون في أغلب الحالات أقل في ناحيتها المادية من النفع الذي يجنيه الحزب أو الوسيط أو صحاب الحاجة. وعلى ذلك فإن عواقب الاعوجاج في السلوك الحكومي تقع في أغلب الحالات على صغار رجال الإدارة لأنهم لصغرهم (في النفوذ والمكانة والدخل) أميل إلى تقبل الإغراء في صفقة يكون النصيب الأكبر من الربح فيها عائداً إلى صاحب الحاجة. وهذا الاعوجاج إذا مارسه كبار رجال الإدارة والحكم كان نفعه عليهم أعم واستفادتهم منه أعظم

ورجل الحكم الذي يفوز بحصة الأسد من سوء استعماله للأمانة الحكومية يكون عادة رجلاً نافذ المكانة مهابته تفوق أهمية الوظيفة الحكومية التي يشغلها. وصاحب الحاجة من أفراد الأمة حين يحاول أن يتغلب على الأمانة والنزاهة الحكومية يعلم أنه يرتكب نوعاً من

ص: 8

الجريمة عقابها كامن في طبيعة الصفقة؛ وهذا الارتكاب يفرض على صاحب الحاجة المغامرة والإقدام. والمقامر لا يرضى عادة بالربح الطفيف ويترك حصة الأسد الموظف الذي اشترك معه في الإجرام. فإذا كان هذا الموظف ذا مكانة ونفوذ (اجتماعي أو سياسي أو مالي) تفوق حدود وظيفته كان نصيبه في النفع من الصفقة نصيب الأسد

وهكذا يتبين لنا حقيقة طالما تجاهلها الناس في معرض حديثهم عن الاعوجاج في الخدمة المدنية ومن الانحلال في القيم الأخلاقية لبعض رجال الإدارة والحكم؛ وهي أن وزر الاعوجاج في تنفيذ الأمانة الشعبية يقع قسطه على الموظف وعلى صاحب الحاجة من المواطنين. والقسط الأكبر من النفع الذي يصيبه الغالب على صغار المسؤولين الذين أساءوا استعمال الأمانة

وإلى أن يدرك المواطن أن الوزر في سوء استعمال الأمانة الحكومية يقع عليه كما يقع على الموظف المعوج - كبيراً كان أم صغيراً أم متوسطاً! - فإن دارسو القيم الأخلاقية ومحاسبة الوعي المدني لها ستظل عديمة الجدوى. ومع أن القانون يدين كلا الطرفين بالإجرام إلا أن الرأي العام يميل إلى تركيز التهمة على الموظف ويتجاهل اعوجاج المواطن، وكما أنك لا تستطيع أن تقدر القيمة الفنية للصورة الجملية إلا إذا كان لديك استعداد ثقافي معين فإنك لن تستطيع أن تقدر شناعة الانحلال الخلقي في الوظيفة الحكومية إلا إذا أشركت المواطن المعوج فيها ووفرت لنفسك ثقافة (مدنية) تعينك على إدراك الصورة الكاملة لشناعة الإجرام. وهذا ما يتطلبه الوعي المدني الصادق في المجتمع السليم

نيويورك

عمر حليق

ص: 9

‌هل كان الزهاوي فيلسوفاً؟

للأستاذ محمد رجب البيومي

قرأت المقال الرائع الذي كتبه المستشار الفاضل الأستاذ محمد سالم الخولي عن اثر (الرسالة) في الأدب الحديث، وقد اغتبطت كثيراً بما نم عليه من رأي صائب، وإطلاع دائب، وذوق سليم. وليس ذلك عجيباً، فالأديب يمت إلى القانون بأوشج الصلات وأكدها، فهو عدة المحامي اللسن ينمق به الدفاع، وسلاح القاضي المتمكن يدبج به الحيثيات، ولن ترى فقيها مرموقاً لا يستند إلى بلاغة الحجة وقوة البيان

وقد لاحظت أن الأستاذ يقول عن الزهاوي رحمه الله أنه الفيلسوف الشاعر وليس الشاعر الفيلسوف! وذلك قول تختلف فيه الآراء، ويفسح مجالاً للمناقشة والتعقيب، إذ أن الشاعرية أصل في جميل، قام عليها بناء مجده وخلوده، وكان للفلسفة ظلال خفيفة تتراقص في أبياته ومقالاته، ولكنها لا تصبغ إنتاجه بطابعها الدقيق، فظل الزهاوي طيلة حياته شاعراً يتشوف إلى الفلسفة، وقد يوجد من ينعته بالشاعر الفيلسوف على ضرب من التجاوز يدفع إليه الإطراء والتقدير، وقد يكون هذا مقبولاً جائزاً، أما الذي لا يقبل بحال فهو أن يكون الزهاوي فيلسوفاً شاعراً كما ذكر الكاتب الكبير

وحين نتعرض لجلاء هذه الحقيقة نذكر أن كلمة (الفلسفة) قد فقدت مدلولها الصادق عند كثير من الناس، فأنت تجد من يطلقها على كل مبهم غامض من القول، ومن يقف بها عند البحوث الشائكة التي تتعلق بالقدر والإله وما وراء الطبيعة، كما تجد من يطلقها على الحكم السائرة، أو الأمثال العابرة، حتى جاز أن يكون شعراء الحكم والمواعظ فلاسفة متأملين، ولو علمنا أن الفلسفة هي البحث عن حقائق الأشياء في شتى مناحي الكون، لاتضح لدينا أن كثيراً ممن نزعمهم فلاسفة شعراء، لا يصدق عليهم الزعم في قليل أو كثير

ومن البديهي أن الفلسفة لم تكن - مرة واحدة - علماً - كما يقول الأستاذ مهدي علام - في أساطير القصاص، وشعر الشعراء، وأقوال الحكماء، ثم اجتازت هذه المرحلة على جسر من أنصاف الفلاسفة، حتى وصلت إلى أيدي أساتذة الفكر وسادة العقل البشري فأصبحت ذات مذاهب دقيقة، ومدارس متشعبة تكد الأذهان وترهق العقول

فهل كان للأستاذ الزهاوي مذهب خاص يدعو إليه، ويقيم الأدلة على صحته، حتى يكون

ص: 10

فيلسوفاً يتبوأ مكانه بين الفلاسفة الخالدين؟!

إننا نبحث في إنتاجه - النثري والشعري معاً - فلا نجد غير مجموعة متناقضة من الآراء، وقسطاً وافراً من الشكوك العقلية، لا تجد من يذهب بها إلى الجزم واليقين، والشاعر حائر مضطرب لا يدري بأي رأي يتمسك، وإلى أي سبيل يتجه، فهو من هواجسه في ليل دامس لا يشرق فيه بدر منير، وقد دارت أكثر شكوكه حول الموت وما يعقبه من فناء أو خلود، فأكثر من الحديث في ذلك دون أن يجزم برأي يظهر اتجاهه، ويكشف عقيدته، فقد تقرأ له القصيدة فتظن أنه من الماديين الذين ينكرون خلود الروح، فإذا انتقلت إلى قصيدة أخرى رأيته يتشبث بالفكرة الإسلامية في الخلود والبقاء، ثم تقرأ قصيدة ثالثة فتجده في حيرة دامسة بين الرأيين السالفين، يذكرهما في شك وتردد، دون أن يعتصم برأي خاص يجهر به، ويصرح باعتقاده، وما هكذا الفيلسوف الصادق، بل أنه صاحب المذهب الفكري الذي يقيم بناءه على دعائم قوية من الأدلة والبراهين، وقد نلاحظ صلات واضحة بيم ما قاله أبو العلاء وما نظمه الزهاوي، فكلا الرجلين عريق في هواجسه وظنونه، ينفي ويثبت، ويلحد ويستغفر، ويجزم ويتردد، وقد أطلق المؤرخون على المعري ما أطلقه المحدثون على الزهاوي، فكان الأديب الفيلسوف، على ضرب من التجاوز، ولم يكن الفيلسوف الأديب، وأذكر أن الأستاذ أمين الخولي قد كتب كتابه (رأي في أبا العلاء) ليجرده من الفلسفة، ويقصرها على أصحابها المفكرين، وقد ذكر مجموعة كبيرة من لزوميات أبي العلاء، تظهر تناقضه الصريح في جميع ما ذكره من المعاني والآراء. . فهو يقول في الموت والقدر والروح والإله وغيرها أشعاراً متضاربة ينقض البيت أخاه، والكلمة سابقتها، حتى لا يستقر بقارئه على موضع، ثم خرج الأستاذ الخولي بالنتيجة السافرة التي تنفي أن يكون من التناقض والاضطراب والتردد والحدة مذهب فلسفي يدعي صاحبه بالفيلسوف

وسنفحص أقوال الزهاوي على ضوء ما كتبه الأستاذ في أبي العلاء لنصل إلى ما وصل إليه من نتائج، وحين نفعل ذلك لا نظلم الزهاوي في شيء، بل ننصفه من الفلسفة وننصف الفلسفة من أناس فهموها على غير وجه صحيح، فلقد حسب كثير من القراء في عصرنا الحاضر، أن كل كلام يقال في القدر والحياة والموت يمت إلى الفلسفة بنسب عريق، ومن

ص: 11

ثم فقد ظهر لدينا ألوف من الشباب، يتساءلون في قصائدهم عن سر الحياة، ورهبة الموت، ومن أين نجئ؟ وإلى أين نذهب؟ ويملئون أبياتهم بالدهشة والارتباك والذهول، ثم يحسبون بعد ذلك أنهم فلاسفة شعراء، مع أن الأفكار التي تجد مجالها في عقولهم كثيراً ما تتردد في أذهان العامة والأميين، فهل صار هؤلاء جميعاً بتساؤلهم الحائر فلاسفة مفكرين؟! كلا أيها القوم فالفلسفة لا تستند إلى الأوهام والتناقض، ولكنها تستند إلى الجزم والثبات، ونحن نعلم أن من الفلاسفة من بنى فلسفته على الشك في الحقائق، ولكن الشك شيء، والتناقض والتردد شيء آخر دون نزاع

ولابد لنا أن نذكر مثالاً من شعر الزهاوي يوضح قلقه الذهني، وتبلبله النفسي، وتردده في مجاهل اللوعة والحيرة، وأقرب شاهد لدينا ما ذكره في مصير النفس بعد الموت، فقد أطال في ذلك إطالة تدعو إلى السأم والاستخفاف، وما تكاد تقرأ له قصيدة حتى تستشف أوهامه الحائرة، وهواجسه المضطربة، فوجه بذلك أذهان الشبيبة الشاعرة إلى ما عرفوا فيه من التخرض والظنون، وأصبح المتأدبون من بعده ينهجون نهجه، زاعمين أنهم مثله، فلاسفة شعراء! وقد ارتاع أستاذنا محمد فريد وجدي لهذه النوازع الإلحادية، متى تسممت بها قصائد الشباب في فترة من الزمان، فكتب إلى الأستاذ الزهاوي خطاباً مفتوحاً، على صفحات جريدة السياسة (وقد كانت مسرحاً لنوازعه المادية) يرجو أن يناقشه نقاشاً علمياً أمام القراء لتتضح الحقيقة للعيان بعد الجدل والتمحيص، فاعتذر الزهاوي ولم يجد لديه من الأسلحة العلمية ما ينازل به فريد، وعلة ذلك واحدة، فالشاعر إذا نظم قصيدته لا يتقيد بمنطق دقيق بل يرسل آراء في جو شعري يستثير العاطفة والانفعال، ويحيطه الوزن العروضي بضرب من النغم الموسيقي الخلاب! أما الكاتب فملزم بمقارعة الحجة ومناهضو الدليل، ولن ينقذه من الحقيقة بيان ناصع، ولفظ رشيق

لقد قال الزهاوي في فناء الروح

يقولون إن النفس حق وجودها

فلا ينبغي إنكارها وجحودها

فقلت لهم هذا جميل وعله

خيالات عقل شارد لا أريدها

ولم يكن الإنسان إلا ابن غابة

على فجأة قد أنجبته قرودها

فماذا يرى القراء في هذه الأبيات، إنها مثال من عشرات الأمثلة التي تؤكد فناء الروح،

ص: 12

وقارئ الزهاوي يجد نظائره في دواوينه، ورباعياته، فهل استقر الشاعر على هذا الرأي لندرك نزعته المادية، ونضمه إلى فريق معين من الناس، كلا، فالشاعر يعلن ما يناقض ذلك حين يقول

فيا نفس سيري في الفضاء طليقة

فلا شيء فيه للنفوس يعوق

لأنت شعاع طار عن مستقره

وكل شعاع بالبقاء خليق

تحيق المنايا بالجسوم كثيفة

وأما بأرواح فليس تحيق

فما رأى القراء مرة ثانية في هذا القول؟ ألا يقف من سابقه موقف النقيض! على أن الشاعر لا يريح نفسه بعد ذلك، بل يفعمنا بوابل من التردد المتذبذب بين هذين المثالين، فهو يعلن مرة ثالثة خفاء مذهبه بين القول الأول والقول الثاني، ويجهر بأن الدليل يعوزه في ترجيح أحدهما على الآخر، ويغرق في شكوكه واضطرابه، فهو من هواجسه في بيداء مجهل تتقاذفه الكثبان والأودية وتشرد به التعرجات والسهوب

وإنك لتلمس اضطراباته وبلبلته في مثل قوله

قالوا وراء الموت أهوال ولم

أحفل بما قالوا ولم أتيقن

ولعل هذا الموت يتبع رحلة

للروح خالدة وراء الأزمن

وقوله

إني ملم بأخبار الحياة وما

عندي سوى الظن عما بعدها خبر

ما بال ليلتنا سوداء حالكة

فهل تقدر ألا يطلع القمر

وقوله

أتحسب أن النفس بعد منيتي

تطير بهذا الجو شبه قطاه

أم النفس من بعد المنية ريشة

تقاذفها الأرواح في فلوات

أم الروح بنت الكهرباء مصيرها

إلى هدران أفلتت وشتات

على أنني ماض إذا صاح بي الردى

وآت، وماض بعد ذاك وآت

خلال دهور مالها من نهاية

بسلسة موصولة الحلقات

والأمثلة السالفة وأكثر هواجس الزهاوي لا تخرج عن قول أبي الطيب المتنبي

تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم

إلا على شجب والخلف في الشجب

ص: 13

فقيل تخلص نفس المرء سالمة

وقيل تشرك جسم المرء في العطب

ومن تفكر في الدنيا ومهجته

أقامه الفكر بين العجز والتعب

فإذا جاز لنا أن نعتبر المتنبي فيلسوفا، فالزهاوي إذن فيلسوف!

وقد كان الزهاوي حينا من الدهر أستاذاً للفلسفة بالآستانة، فمن المؤكد أنه درس كثيراً من الآراء الفلسفية، ومدرس الفلسفة لا يكون فيلسوفاً، وإلا فجميع أساتذتها بالمدارس والمعاهد والكليات فلاسفة مفكرون، ولن يصدق هذا أحد من الناس

وقد يقول قائل إن الزهاوي قد ألف كتباً علمية هامة، ونشر في المقتطف والمقطم أبحاثاً طبيعية، ونحن نعترف أن هذه الكتب تضع الزهاوي في صفوف العلماء لا الفلاسفة، وتنبئ عن جدارته العقلية، وملكته الفكرية، كما أنها لم تخل من مطاعن تتجه إلى دعائمها الثابتة فتحيلها إلى أنقاض، فكتاب (الكائنات) مثلاً يقوم على أن الأثير أم الكائنات تتولد منه القوى البسيطة، فترتقي إلى أن تكون مادة، والمادة ترتقي إلى أن تكون عناصر، والعناصر ترتقي وتتركب فتكون أحياء منها الإنسان والحيوان، وغير خاف أن الأثير شيء افترضه العلماء افتراضاً، فكيف يكون نواة الحياة والأحياء في هذا الوجود، وكتاب الجاذبية للزهاوي يطلعك على عجائب وهمية تتصل بالدماغ والإشعاع والنور والتصور، وقد أكون ممن لا يستطيعون الحكم على أقوال الزهاوي العلمية، فلست ممن يتعمقون في البحث الطبيعي، ولكني أقول إن الزهاوي قد اثبت بكتبه في الطبيعيات أنه عالم لا فيلسوف، ويجمل أن نشير إلى بحث هام نشره الأستاذ محمد فريد وجدي بمجلة الأزهر سنة 1356، مؤيدا بالأدلة التي تجرد الشاعر من الفلسفة دون تحيف أو إنقاص

لقد كان الزهاوي شاعراً فحلاً يطيل القول فيجيد، وهو من كبار المجددين الذين سنوا للشعر مناهج طريفة وطرائق جديدة؛ كما كان صاحب رسالة إصلاحية في المجتمع يدين بها ويكافح عنها، وقد قاسى بسببها آلام السجن والاغتراب، ولن يضير مجد الأدبي ألا يكون فيلسوفاً، فهو من أدبه الرفيع في قمة عالية وحصن منيع

محمد رجب البيومي

ص: 14

‌عرض سريع عن

تاريخ النهضة الفكرية في السودان

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

إذا أردنا التحدث عن تاريخ النهضة الفكرية في السودان فإننا لا نجد بأيدينا من الأدلة ما يكفينا للاستدلال على المعالم الواضحة التي تنير لنا الطريق أو توصلنا إلى الحجة، فالخطوط الرئيسية مطموسة المعالم يكتنفها الغموض ويحيط بها الضباب من كل جانب؛ فنحن إذن نسير في سبيل ملتاث وفي ظلام دامس غير منار، ذلك لبعد الشقة بين الأمس واليوم، ولانعدام الصلة بين الماضي والحاضر، ولعدم وجود رابطة بين العهدين القديم والحديث، وستظل الحلقة مفقودة إلى أن يهيئ لها الله باحثاً سودانياً ينقب بجد ليكشف لنا السر المختفي وراء أطلال الماضي البعيد

وإذا أردنا الرجوع إلى الماضي فليس لدينا ما يثبت صحة قولنا غير أحاديث يتناولها الناس في مجالسهم الخاصة، يقتلون بها الوقت أو يتسلون بها لينقلها الخلف عن السلف، وهي أشبه ما تكون بأحاديث الرواة في العصور الأولى من صدر الدولة العباسية. . وهذه الأحاديث ينقص بعضها الثقة وبعضها السند. . على أنني تمكنت بواسطة اتصالاتي ومراسلتي مع إخواني أدباء وشعراء السودان أن أجمع مادة لبحثي هذا الذي أقدمه للقراء، وخصوصاً أبناء البلد الشقيق، راجين منهم إيضاح ما فات عني، واستدراك ما قد سهوت عنه

بدء النهضة

تبدأ النهضة الفكرية في السودان منذ العهد التركي أي منذ سنة 1820 م، وكانت الثقافة آنذاك تحبو وتتعثر، إلى أن هاجر بعض أبناء الجنوب إلى مصر والتحقوا بالأزهر الشريف حيث أتموا دراستهم ثم عادوا إلى بلدهم يحملون طلائع نهضة جديدة، ولكن مهمتهم كانت مقتصرة على الوعظ والإرشاد والترنم بالمدائح النبوية، ونظم كل ما له علاقة بالدين الإسلامي. على أن ذلك لم يمنع من التفاخر بالأمجاد. وكانت الحالة آنذاك في السودان غير مستقرة؛ العصر عصر حروب واستبداد ومظالم وإرهاب وثورات داخلية

ص: 15

وانحرافات خلقية، بل كانت الفوضى منتشرة في القطر، فمن فتك إلى سلب ونهب إلى تخريب إلى إقطاعية شاذة وعسف لا يطاق، وكيف تستقر الأمور في بلد كالسودان إذا كان الجهل باسطا جناحيه على السكان، والوعي القومي في مهده، والشعور بالحرية مقبور. فلهذه الأسباب لم تكن العوامل آنذاك مشجعة للنهوض بالأدب، لأن الطغيان التركي كان يحطم كل شيء ويسيطر على كل مرافق البلاد، حتى اللغة العربية كانت متفككة الأوصال، يكاد الدود العثماني العين ينخر جسدها المنهوك ويحترم عمرها وهي في الشباب

وظل السودان على هذه الحالة من العسف حتى سئم الناس الظالم، فولد الثورة في النفوس التي تمخضت عن انقلاب شامل قامت على أثره حكومة المهدي - المهدية - التي ظلت تحكم البلاد زهاء ستة عشر عاما، إلى أن تم الفتح الأخير على أيدي الإنكليز والمصريين في سنة 1898 م، إذ أبرمت الاتفاقية الثنائية لحكم السودان على النظام الحاضر

ورب قائل يقول: إذن كيف كانت الاتجاهات الفكرية في العهد (المهدوي)؟ أقول: لم تكن هناك اتجاهات أدبية وفكرية بالمعنى المفهوم الواضح نستطيع أن نتحدث عنها أو نسجل بعضها؛ إذ كل ما وصل إلى أيدينا من نتاج ذلك العهد هو أن الأدباء والشعراء كانوا يقصرون إنتاجهم الفكري على المدح والتغني بالأمجاد، وكل ما نظموه لا يتعدى حدود الدين والشريعة، وقد كان أكثر شعرهم نظماً شبيهاً بألفية ابن مالك ومدائح البرعي في الرسول الأعظم

وهكذا استمرت الحال حتى دارت عجلة الزمن دورتها البطيئة إلى أن وقفت أمام عام 1924 م، حيث تمخضت البلاد عن ثورة أخمدت في مهدها، ولا أريد أن أتحدث هنا عن الثورة، ولكني أحب أن أعرج على نفسية شباب ذلك العهد الذي يعتبر نقطة تحول بالنسبة للسودان من جميع النواحي، وإيضاحاً للحقيقة نقول: إن ذلك العهد بشبابه المتوثب الثائر، كانت فترة انتقال من عهد الجهل والخمود إلى عهد اليقظة والعلم والمعرفة

ففي تلك الفترة كان اتصال السودانيين بمصر الشقيقة وثيقاً، حيث أخذت الكتب والمؤلفات المصرية تغزو الأسواق فتتلقفها أيدي القراء، وتقبل عليها النفوس في لهفة وشو لتروي عطشها إلى العلوم والمعارف، وفي الحق أننا نستطيع أن نقسم ذلك العهد إلى أقسام ثلاثة هي:

ص: 16

1) التعليم:

كانت المدارس في ذلك الحين قليلة العدد، وكان باب التعليم مقصوراً على فئة قليلة من الناس

2) الصحافة:

أما الصحافة فقد كانت متأخرة وقليلة، إلا أنه كانت هناك صحف تعنى بالأدب وبالنتاج الفكري، وأهمها مجلة (الفجر) التي كانت كما قيل لي قد لعبت دوراً خطيراً في تاريخ السودان الأدبي، إذ خلقت ثورة أدبية لأنها كانت المنبر الوحيد لتجاوب المواهب والعبقريات المختلفة الأشكال والثقافة، ثم جريدتي (النيل) و (الملتقى)

3) التأثير الرسمي للثقافة:

لما كان السودان تحت الحكم الإنجليزي، والإنجليز يعدون أنفسهم مستعمرين وحاكمين، فطبيعياً تكون سياستهم مناوئة لنشر الثقافة، بل هم حاربوا العلم وسعوا في الحد من ذيوعه، حتى أنهم أخذوا يطاردون كل أديب متحرر وشاعر يفكر في طردهم من البلاد، أما تلك الحركات الأدبية والجولات القلمية التي ربت الجيل الجديد، ما كانت إلا نتيجة للصراع الفردي الذي بذله أحرار الفكر والعقيدة في السودان لخلق نهضة فكرية واتجاه ثقافي وأدبي مشرق اللمحات، بارز القسمات، إذ أنهم شعروا بضرورة العمل على خلق تلك النهضة لتؤدي خدمتها إلى أبناء البلاد كما ينبغي، وإذا ما ظهرت هناك جمعيات أدبية فمعنى هذا أن الاستعمار في خطر، لذلك كان الإنجليز يحاربون كل جمعية، حتى ولو كانت غير سياسية، على أنه رغم ذلك تأسست جمعية (اللواء الأبيض)، وهي سياسية الغايات والأغراض، ولعبت دوراً هاماً في ثورة عام 1924، ثم جمعية (أصدقاء الفجر)، وهي أدبية المقصد

ثم قام مؤتمر الخريجين، وكانت غايته أدبية اجتماعية، وقد فتح المؤتمر عدة مدارس أولية ومتوسطة وواحدة ثانوية. وكان المؤتمر يعد العدة كل عام لقيام المهرجان الأدبي الذي كان يعقد في (أم درمان) الجزء الثالث من العاصمة، والأبيض وعطبرة، وأخيراً تطور المؤتمر وأعلن عن أهدافه السياسية

ثم ولدت بعد ذلك الأحزاب السياسية المختلفة، وأنشئت الجرائد الحزبية التي لم تعد تهتم

ص: 17

بغير المهاترات السياسية السخيفة التي لا طائل تحتها، والتي كانت السبب في موت الأدب وخنق قابليات الأدباء والشعراء

ومنذ سنة 1946 اتجه السودانيون نحو السياسة وخلفوا الأدب وراءهم غير مهتمين بكل ما يمت إلى الفن بصلة

فالخطب السياسية والقصائد الحماسية هي اليوم تدور على ألسنة الناس، وهي التي تمتلئ بها أعمدة الصحف، وإنها لو جمعت في كتاب واحد لكانت تعطي فكرة عن الأدب السياسي السوداني الآن

ولكن رغم انحراف الناس وراء السياسة، وحبهم للجدل السياسي، لا يزال بعض الشباب المتوثب يولي الفن الصادق والأدب الرفيع أهمية بالغة، وكما أنه لا يخلو كل قطر من بعض الشعراء الأفذاذ، وسنعرض لهم بالتفصيل في مقال قادم إن شاء الله

ماذا ينقص السودان

بكل ألم وأمل نلاحظ أن السودان لا يزال متأخراً عن القافلة الأدبية العربية، بل في حاجة إلى كتاب ثائرين يجمعون بين قوة الفكرة واتساقها إلى جمال الأسلوب وقيمته، كتاب ينقطعون للدراسات الأدبية والتأليف، ويخرجون من الكتب ما يحمل طابع بلادهم الأصيل

كما يراد من أدباء السودان أن يطرقوا باب الثقافة الشعبية عن طريق المحاضرات والمدارس الأدبية التي تعلم العلوم العقلية، والتي تربط بين طبقات الشعب عن طريق حياة جماعية مشتركة، والتي تنمي في نفوس أبناء الأمة روحاً من المساواة الاجتماعية، وتمنحهم إلهاماً ومثلاً إنسانياً رفيعاً يؤدي إلى تطور اجتماعي لا يقوم على نضال اقتصادي بين الطبقات، تثيره الأطماع المادية وروح الشر والقسوة والجدب الروحي

الشعر السوداني

من الإنصاف للواجب والإثبات للحقائق أن نقف لحظة نتناول فيها الشعر السوداني بكلمة. وهي أن الباحث الذي يقرأ كتاب (شعراء السودان)، الذي جمعه الكاتب المصري سعد ميخائيل منذ سنوات، يلاحظ أن الشعراء المذكورين في ذلك الكتاب لا ذكر لهم الآن، ولذلك عدة أسباب: فمنهم من مات، ومنهم من انغمر في الحياة فهجر الشعر، ومنهم من حطمته

ص: 18

قيود الوظيفة، وبعضهم لم تساعده الظروف المالية على طبع ديوانه ونشره حتى اليوم. لأن السودان - وهو كالعراق تماماً - يفتقر إلى الناشر، إلا أن بعضهم - وهم الشيوخ. . . ظل مستمراً على النشر، كالأستاذ (محمد سعيد القياسي) الذي كتبت عنه في عدد سابق، و (الأستاذ عبد الله عبد الرحمن) و (التيجاني يوسف بشير)؛ أما الشعراء الشباب المعاصرون - وهم كثر بحمد الله - فأترك البحث عنهم إلى مقال مستقل، لأن روحتهم وأسلوبهم الفني يختلف بكثير عمن ذكرتهم، وهؤلاء جميعا يطلب منهم أن يكونوا أكثر جرأة من غيرهم، ويظهروا الحياة بجرأة وعزيمة صادقة، وليقفوا أمام العالم العربي ويظهروا نتاجهم للناس، غير عابئين بناقد أو حاسد، وإلا فإن انطواءهم على نفوسهم معناه الموت والضياع، لاسيما وأن فيهم من يبشر شعره بالخير العميم والعبقرية الكامنة وراء زوايا النسيان. .

بغداد - أمانة العاصمة

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 19

‌حركة التسلح الخلقي

بمناسبة الاشتراك في مؤتمرها بمدينة (كو) بسويسرا في

شهري يوليو وأغسطس سنة 1952

للأستاذ أحمد عوض

نشرت في عدد سابق من الرسالة الغراء كلمة عن (التسلح الخلقي والإسلام) تحدثت فيها عن أهداف هذه الحركة التي تدعو إلى الخلق الفاضل على أساس ديني وتمدح من بين رسالتها الفضائل الإسلامية، وتعين من بين الأهداف التي تحاربها النزعات الاستعمارية

كتبت هذا لأنني حضرت بعض مؤتمرات (التسلح الخلقي) في الأعوام السابقة، وسمعت صاحب الفكرة يشرحها شرحاً وافياً بما يتفق وديننا. ولأنني قرأت في أدب القوم ما يسوغ حسن الظن بهم. وقلت فيما قلت بتلك الكلمة إنهم وإن كانوا من أبناء أديان أخرى فإنهم فضلاً عن التمدح بالخلق الفاضل في ديننا وفضلاً عن حربهم للاستعمار فإن بيننا وبينهم غرضاً مشتركاً هو محاربة الإلحاد والشيوعية وأي استعمار على حد سواء

ولكني بعد ذلك زرت (كو) في شهري يوليو وأغسطس، ولست أدري هل تغيرت أهداف هذه الحركة أم اندس عليها من يحاولون استغلالها؟ ولكن الذي أدريه أن شعوري بين الحالين نحو هذه الحركة - لا مبادئها - كان ظاهر الاختلاف

لقد وجدت في رحلاتي الأولى من يستشهد بآيات من كتابنا الكريم ويمجد ذكرى نبينا العظيم ويرجو لنا وللعالم التحرر بفضل ما في هذا الكتاب من آيات بينات وما في هذا الرسول من أسوة حسنة

ووجدت كما وجد غير من المصريين وسائر المسلمين أن المذهب الداعي إلى تجديد بناء العالم على أساس الفضائل الخلقية يتفق مع تعاليم ديننا - في حين لا أجد في سائر مظاهر الحياة في الغرب من يقدرنا هذا التقدير، ولا من يبدي لنا مثل هذا الشعور وقد جمعت في رحلاتي قبل الأخيرة ما استطعت جمعه من كتب ألفها القوم عن حركاتهم فوجدت بينهم أنصاراً لنا ضد الاستعمار يدعوننا إلى مناصرتهم ضد الشيوعية ويرحبون بالفضائل الخلقية في ديننا سبيلاً إلى بناء عالم جديد

ص: 20

لقد صرح القوم في كتاباتهم وفي خطبهم بأن الاستعمار والدكتاتورية يتناقضان مع الخلق الفاضل، فكلاهما من مظاهر الأنانية ومن أعداء التطهير، ومن ابعد ما يكون عن فضيلة الحب فضلاً عن التضحية

وسمعت في المؤتمر الأسبق داعيا مصرياً - هو الدكتور محمد صلاح الدين - يدعو القوم إلى مساعدتنا على المستعمرين بقصد تغييرهم فيجيبه العضو الإنكليزي باعتراف صرح في أنه سيدعو في أمته إلى التغيير (التحرر من الرذيلة)

لكن المؤتمر الأخير كان خاليا كل الخلو من أية كلمة ضد الاستعمار

فلما أردت التوجيه إلى هذه الناحية لمست اتجاهاً واضحاً إلى أن التلويح بعداوة الاستعمار كان من أجل غرض واحد هو الاستفادة بعداوتنا نحو الشيوعية، ولم يمنعني ذلك عن الإفاضة في بيان مساوئ الاستعمار. ولكني لم أجد بينهم جدية الإصغاء

لست نادماً على حسن الظن السابق فقد كان الدليل قائماً لدي على مسوغات، ولا أزال عند رأيي في أن الخلق الفاضل مشترك بين الأديان وفي أن الدكتور بوكمان مؤسس هذه الحركة رجل فاضل، ولكن هؤلاء الذين اندسوا عليه وأحاطوا به يحاولون استغلال هذه الحركة في أغراض أخرى

إن في الدنيا كثيراً من الحق الذي يراد به الباطل، ومن الزيت الذي يردا به إيقاد النار، ومن استغلال حسن الظن بالتلويح بالخير؛ فهل تغيرت الحركة أم انضم إليها بعض الوصوليين والانتهازيين أو بعض أصحاب المطامع؟ هذا ما ستظهره الأيام

على أنني أعتقد أنه مهما يكن الرأي في القائمين بهذه الحركة أو المندسين عليهم فإن البرنامج الذي وضعوه مفصلاً على أساس تلك المبادئ يمكن تبنيه على أن يكون الخلق الذي تتسلح به ذا طابع قومي

إن الأخلاق في ذاتها لا تختلف بين أمة وأمة، ولا بين دين وآخر ولكن الفهم لها وطرق التوجيه إليها والانتفاع بها تختلف كما بدا لي أخيراً من الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة:

(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام)

الإسكندرية

أحمد عوض

ص: 21

‌المعرفة بين الفلسفة والتصوف

مهداه إلى الأستاذ علي الطنطاوي الذي كتب يقول: لي من

دنياي الآن مطلب واحد. يقظة قلب أدرك بها حقائق الوجود

وغاية الحياة

للأستاذ حسن محمد آدم

ما سر الوجود؟ وما لغز الحياة؟ من أين جئنا وإلى أين المصير؟ وكيف السبيل إلى إدراك كنه هذا الوجود، وفهم غاية هذه الحياة؟ وما السبيل إلى المعرفة الحق، والسعادة العظمى؟ هذه أسئلة عميقة تتفاعل في رأس الإنسان، وتدور في عقول الناس، ولا يدري لها الكثيرون أجوبة شافية، وردودا مقنعة، فيعيشون في الحياة قلقين حائرين، ويضربون في بيدائها تائهين يائسين، وكأني بهم يسيرون في موكب الإنسانية وهم يترقبون بنفوس قلقة متشائمة، أن يبتلع الجميع بعد الطريق الطويل. . هاوية سحيقة من العدم! والإجابة على هذه الأسئلة هي في صميمها المعرفة الحقة، وهي في ذاتها عين الحقيقة التي يتوق إليها الجميع، فأنت إن وفقت للإجابة الصحيحة فقد فككت طلاسم الكون، وحللت ألغاز الحياة، ووقفت على سر الوجود والغاية من هذه الحياة

ومنذ القدم، منذ وجد الإنسان المفكر على سطح هذا الكوكب، حاول الوصول إلى الجواب، وتمثل ذلك في فلسفات ونظريات متباينة تعددت وتنوعت على أعصر التاريخ، ولكنها جميعاً ظلت عبر القرون تتأرجح بين مذاهب متضاربة، ومدارس متعارضة، يقترب بعضها من الحقيقة أو يبعد بقدر ما أوتي الفلاسفة من نضج في الفكر، وقوة في التبصر، وإمعان في التأمل والحكمة

وكان حين تأتي على الناس فترات من الوحي، تشرق عليهم أنوار النبوات، فيتبدد عنهم الظلمات، ويستنير ما غم من طريق الحياة، ويذهب الشك والارتياب، ويتضح على هدى الرسالات سبيل المعرفة، ولكن رأي الدين في الوجود والحياة لون مفروض من المعرفة، يمليه الوحي وتلزم به العقيدة، وهو تصديق بأمور من الغيب، تصديقا لا تحتمل النقاش، ولا يقبل الجدال، يحمل الناس على اعتناقه سواء وافق ذلك منهم هوى العقل الطليق أم

ص: 23

خالفه، أو جارى منهم منطق التفكير الحر أم جافاه

فما كان للفلسفة أن تقتنع بهذا وهي ناصرة الفكر الحر، صناعة مناهج البحث، فرأت أن تحرر نفسها من أكبال الغيبيات، وأن تنهج على منهاج العقل علها تصل بذلك إلى المعرفة وتدرك الحقيقة وتفهم غاية الوجود. . وبدأ الزمان يسجل على صفحات القرون وخرج لنا تاريخ الفلسفة زاخراً كما أسلفنا بمآت من المذاهب الفلسفية والآراء النظرية في الوجود وفي الحياة، ويتيه الإنسان في غمارها، لا يدري أين الحق من هذا المذهب أو ذاك، وأين الرأي السديد من هذه النظرية أو تلك، ثم لا يخرج من بينها إلا وذهنه أشد فراغا، إلا من سيل دافق من علامات الاستفهام والتعجب يوشك أن يؤدي بعقله إلى محيط مظلم من الشك والإلحاد!

إن الفلسفة أرادت أن تدل الناس على المعرفة فلم تستطع. أنها أرادت أن ترسم سبيل الحقيقة فلم توفق. . . لماذا؟ ذلك لأن الفلسفة قد ترضي العقل النظري، وقد ترضي الاستدلال المنطقي، ولكنها لا تستطيع بحال أن ترضي الإحساس الروحي، والذوق القلبي، وطريق المعرفة إنما يلتمس بالروح لا بالعقل، ويطلب بالذوق والقلب لا بالمنطق والفكر!

ولا تعجب بعد ذلك إن رأيت الفلاسفة يجهدون، عقولهم وأفكارهم القرون الطوال بحثاً عن المعرفة، ثم يغادرون الحياة ولما يعرفوا سبيلها، بل يغادرونها جهالاً كما دخلوها، كما يؤثر عن سقراط الذي قال هو على فراش الموت:(الآن أعرف من الدنيا حقيقة واحدة وهي أني لا أعرف شيئاً!)

هذا، وفي الوقت الذي كان فيه الفلاسفة يسعون سعيهم، كان الذين عرفوا السبيل الصحيح من المتصوفة وأرباب الأذواق والمواجيد يطلبون المعرفة عن طريق تصفية النفس والتسامي بها من أدران المادة وشوائب الحس، إلى عالم النور والفيض والإلهام، ووصل هؤلاء الروحيون إلى بغيتهم فكانوا الرواد الأول، وكانوا مكتشفي الحقيقة، والراسمين سبيلها للحائرين في الأرض. . وقرر هؤلاء أن منهاج المعرفة منهاج واحد فريد هو مجاهدة النفس، فنها تشرق الروح وتتم النعم وتكمل السعادة

فيا من تريد قلباً يقظاً تدرك به حقائق الوجود، عليك بالنفس فادرس مراتبها وظلماتها ومقامات صفائها، وعليك بهيكل الجسم الحائل فروضه على الرياضة الروحية الصادقة

ص: 24

وخلصه بقدر من علائق الدنيا، ثم عليك من فورك بالطريق إلى الله فتعرف آداب سالكيه، ثم شد الرحال إليه صوب مقامه الأسنى وهناك في المعية الأولى الذي فاض منه الوجود بكل ما فيه ستعرف حقيقة إنسانيتك وحقيقة الكون الذي تعيش فيه، وحقيقة الحياة التي تحياها، وفي ذلك الفرصة الكبرى والسعادة العظمى

وإليك الغزالي حجة الإسلام وفيلسوفه الأكبر خير مثل على ما يقول، إن نفس هذا الفيلسوف العظيم تاقت في بداية حياته الروحية أن تصل إلى المعرفة، وتحرقت شوقاً للوصول إلى الحقيقة، فانطلق يطلبها عند أدعيائها من الفلاسفة والمتصوفة والمتكلمين، وكان في سعيه بادئ القلق، عظيم اللهفة، فوقع ضحية صراع نفسي مرير ظل يعانيه وهو دائم التردد على تلك الطوائف، فبلى أمر الفلاسفة فلم يجد عندهم ضالته، وبلى أمر المتكلمين فلم يعثر عندهم كذلك على بغيته. . . وأخيرا لجأ إلى التصوف، فأفهمه أربابه أن ضريبة المعرفة عندهم تجرد ومجاهدة، فكانت نفسه أن تستكين، ولكن روحه المعذبة كانت تناديه من الأعماق (الرحيل، فإنه لم يبق من عمر له إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل) فاستجاب لهذا الهاتف الباطني، وترك بغداد مسقط رأسه مهاجراً إلى الله صوب ربوع الشام وهو يردد:

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل

وعدت إلى محبوب أو منزل

ونادت بي الأشواق مهلا فهذه

منازل من تهوى رويدك فأنزل

وهناك وجد في زلال التصوف راحة النفس، وهدوء البال وسعدت روحه بالمعرفة المشرقة والسعادة الحقة، وعبر عن ذلك بقوله:

فكان ما كان مما لست أذكره

فظن خيراً ولا تسأل عن الخلل

حسن محمد آدم

ص: 25

‌زعماء الحركة القومية

السيد محمد كريم

للأستاذ عبد الباسط محمد حسن

(2)

اقتربت الحملة الفرنسية من مياه الإسكندرية في اليوم الأخير من شهر يونيو - وكان الفرنسيون ينظرون إلى الشعب المصري. . . نظرة العملاق الضخم. . إلى القزم الضئيل - الذي يستطيعون سحقه في دقائق معدودات!

ألم يقرءوا من قبل ما كتبه الرحالة الفرنسيون عن سهولة فتح مصر؟

ألم يخبرهم (فولني) بأن الاستيلاء على البلاد، والسيطرة عليها. . لا يتطلب إلا عدداً قليلاً من الرجال؟

ألم يبين لهم ضعف الحصون، وقلة الذخيرة، وعجز الإسكندرية عن المقاومة. . فوصفها بقوله:

(إنه ليس في المدينة سوى أربعة مدافع في حالة صالحة - وليس بين الحامية التي يبلغ عددها خمسمائة من يمكنه إصابة المرمى - بل جميعهم من العمال العاديين الذين لا يحسنون سوى التدخين؟)

فماذا ينتظر الفرنسيون بعد كل هذا الوصف الذي وصفه (فولني) وغيره من الرحالة والتجار الذين زاروا مصر من قبل؟!

وهل تعجز مدافعهم الضخمة عن تحطيم أسوار الإسكندرية أو تخريب المدينة كلها إذا لزم الأمر؟

إلا أن ذلك كله سهل يسير، وليست هناك وقوة في الأرض تستطيع أن توقف تقدم الجيش الفرنسي الظافر، أو تحطم آمال نابليون في تكوين إمبراطورية شرقية عظيمة

ولقد كان (نابليون) يظن أن المصريين سيستقبلونه هاتفين مرحبين - وسيضعون فوق رأسه أكاليل الغار. . أينما سار، وحيثما كان - وكان أبعد ما يتصوره. . أين يقف المصريون في وجهه. . أو يقابلوه بالقوة والعدوان!

ص: 26

ولذلك بعث إلى قنصل فرنسا يستدعيه، قبل أن يبدأ الجنود بالنزول إلى البر. . . وفي اليوم التالي عاد القنصل ومعه عدد من البحارة أرسلهم السيد محمد كريم لحراسته، وليعودوا به بعد أن ينتهي من مقابلته للفرنسيين

فأخبرهم القنصل بثورة الشعب وهياجه، واستعداده للنضال والمقاومة. . كما أخبرهم أن أسطولاً إنجليزياً يبحث عنهم في عرض البحر. . وأنه كان بالثغر ولم يغادره إلا عشية أمس الأول

فلما سمع نابليون حديث القنصل، خشي أن يباغته الأميرال نلسن بأسطوله، ولذلك أصدر أوامره إلى القواد بمحاصرة الإسكندرية، وتطويقها من ثلاث جهات

(وسارت القوة في منتصف الساعة الثالثة من صبيحة يوم 2 يوليو بحذاء الشاطئ، فوصلت تجاه أسوار المدينة عند شروق الشمس، وأخذت تحاصرها في الضحى - الجنرال مينو من الغرب. . والجنرال بون من جهة باب رشيد. . والجنرال كليبر من باب سدرا - بينما وقف نابليون على قاعدة عمود السواري، واتخذها معسكره العام. . يرقب منها حركة الهجوم، ويصدر أوامره لقواد جيشه. . .)

ولم يكد السيد محمد كريم يرى الجيوش الفرنسية القادمة. . . حتى أصدر أوامره إلى أهالي الإسكندرية بالصعود فوق الأسوار، ومقابلة القوة بمثلها، وصد العدوان بالعدوان

ووقف بنفسه فوق قلعة (قايتباي) ومعه فريق من المقاتلة لا ليشرف على المعركة كما فعل نابليون، ولكن ليحارب بنفسه كما يفعل غيره من أهالي الإسكندرية، وليضرب لهم أروع الأمثلة في الجهاد والكفاح والتضحية

وحينما بدأت المعركة، وضع المصريون أرواحهم فوق أيديهم وباعوها رخيصة في سبيل الوطن، وجعلوا يمطرون العدو بوابل من رصاص بنادقهم

وكان السيد محمد كريم - طوال المعركة - يثير النفوس، ويستحث الهمم، ويقوي العزائم، وقد استطاع المصريون خلال هذه المعركة أن يواجهون الفرنسيين، ويقتلون منهم عدداً ليس باليسير. . .

وقد أصيب الجنرال كليبر أثناء الموقعة بعيار ناري في جبهته، كما أصيب الجنرال مينو بضربة حجر أسقطته من أعلى السور، وكادت تودي بحياته، ولذلك كتب الجنرال مينو إلى

ص: 27

نابليون يقول:

(إن الجنود يستحقون الثناء العظيم على ما بذلوه من الإقدام والهمة والذكاء، وسط المخاطر العظيمة التي كانت تحيط بهم. . . لأن الأهالي قد دافعوا عن المدينة بشجاعة كبيرة. . وثبات عظيم)

ولما رأى (نابليون) استماتة الشعب المصري في الدفاع عن الإسكندرية، نظر إلى أسوار المدينة فلاحظ أن بالسور رغم ارتفاعه وضخامته ثغرات كبيرة رممت حديثاً. . .

فطلب من رجال أن يوجهوا مدافعهم تجاه هذه الأسوار، وظلوا يضربونها حتى عجزت عن المقاومة، وبدأ الجنود يدخلون المدينة من الثغرات التي أحدثوها، حتى وصلوا إلى الجهة الآهلة بالسكان. . فأخذ الأهالي يطلقون عليهم الرصاص. . حتى كاد نابليون نفسه أن يصاب برصاصة قاتلة. . وكذلك قال سكرتيره الخاص:

(دخل بونابرت المدينة من حارة ضيقة. . لا تكاد لضيقها تسع اثنين يمران جنبا إلى جنب. . وكنت أرافقه في سيره. . فأوقفتنا طلقات رصاص. . صوبها علينا رجل وامرأة من إحدى النوافذ. . واستمرا يطلقان الرصاص فتقدم جنود الحرس، وهاجموا المنزل برصاص بنادقهم، وقتلوا الرجل والمرأة)

ولقد ظل السيد محمد كريم يدافع عن المدينة، حتى ضعفت الحامية عن المقاومة. . فكف عن القتال، وسلم المدينة. . ولم يكن في ذلك التسليم ما يقلل من جهاد السيد محمد كريم. . وحسن بلاء أتباعه. . وإنما كان ذلك منه حكمة وحزما. . وحسن تقدير لعواقب الأمور. . .

يقول أحمد الحكماء:

(لا عار على أمة قليلة العدد. . ضعيفة القوة. . إذا تغلبت عليها أمة أشد منها قوة. . وإنما العار الذي لا يمحوه كر الدهر. . هو أن تسعى الأمة. . أو أحد رجالها. . أو طائفة منهم. . لتمكين أيدي العدو من نواصيهم. .)

للكلام صلة

عبد الباسط محمد حسن

ص: 28

‌رسالة الشعر

ابن عمي

للشاعر المرحوم صالح شر نوبي

ابن عمى مات. . . . فامضوا بي إلى قبر ابن عمى

ودعوا همي. . . . فقد ودعت منذ اليوم همي. .

غير ما جد من الموت، الذي آذن قومي

فرماهم. . . ورماني ومضى ما شاء يرمي. .!

ابن عمى مات. . . ما بين صباح ومساه

مات والأحلام تجلوه. . . كما يهوى هواه

مات والنعمة. . . والقوة فيه. . . والحياه

فدعوني من هوى الدنيا. . . وعزوا من نعاه

أيها الخلان، والراحة. . . والموت. . . هنا

أين من كان يرانا

ونراه. . . حولنا؟

أين من كان يحاكي

نضرة الدنيا لنا؟

غيب الترب سناه

وهو في أعيننا؟

أيها الراحل. . . والغبراء قبر فوق قبر. . .!

أيها الساكن. . . والموكب بالأقدار يجري

أدنني منك - على قربك من سري وجهري

أدنني منك. . . فما أدري - بما أصبحت تدري

أدنني منك قليلا

وادن من روحي قليلا

إن لي فيك رجاء

ورجائي أن يطولا

فلقد صاحبت مذ

فارقتني الصبر الجميلا

وبقلبي من تباريحك. . . نار. . . لن تجولا

أيها الراحل. . ماذا

بعد فقدان الحياه؟

ما الذي بعد انعتاق

يعلم الله مداه؟

ص: 30

بعد أن يجري قضاء

شاء أن يجري الإله

حار فيه كل من دبت على الأرض خطاه

بعد أن يطبق جفني

وترى الظلمة عيني

ظلمة الموت الذي ما

ذقته إلا بظن

ظلمة الفقد الذي

ييأس فيه المتمني

ظلمة البين عن الدنيا. . . وعن نفسي. . . وعني

ما الذي بعد نعتاقي

وزوالي عن رفاقي

أين أمضى.؟. وإلى أين.؟ وقد فك وثاقي

سيصلون على روحي. . ويبكون فراقي

ويقولون إلى الله. . . شبابا في البواقي

سيقولون. . . إلى الله. . شبابا. . وكهولا

وسيبكون كثيرا ظنه الناس قليلا

شاعرا. . عاش. . ولم يصنع بما قال جميلا

غير أنت يرثي ما فات. . . ويرجو المستحيلا

شاعرا. . . عاش كما شاء الذي الأقدار أمره

والذي يلطف بالعبد. . . فما يغلب صبره

والذي. . . لا شيء. . . إلا عنده يطلب سره

والذي الرحمة من أوصافه. . والقهر قهره

أيها الراحل. . والدنيا بما فيها تهون

حينما أذكر ما تصنع بالناس المنون

الرحى الشمطاء. . . ما تفتأ تجريها السنون

والبرايا. . . بين شرقيها. . . قلوب. . . وعيون

شغلتني عنك أحزاني. . . فلم أشهد سراك

ورأى وجهك أهلونا. . . ومولاك يراك

ومشى نعيك فيهم

وتولتك البواك

ص: 31

وأنا أجهل ما تخفيه. . . من حر أساك

ذقت في موتك ما ذقت. . . وما زلت صبورا

ورأى فقدك أعماني. . . وقد كنت بصيرا

وبعادي عنك. . . إنساني. . . وقد كنت ذكورا

غير أن أبكي منعاك. . . وأستوحي القبورا

طبت في مثواك. . . ما شاء الرحيم المستعان

وعلى دارك غفران. . . ونور. . . وأمان

وعلى أكبادنا بعدك. . . سلوان الزمان

أيها الخالد. . . ما تفني لمعناه معان

صالح علي شرنوبي

ص: 32

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

الصيف

ليس فصل الصيف - عادة - فصل الأدب والفن، أقصد فن الإنتاج والإخراج، وقد يكون موعد الخلق والإبداع، وموسم تجمع الرؤى والصور، إذ أن هذا الفصل بالنسبة للأدباء والكتاب والمفكرين فصل استجمام وراحة واستجلاء للحياة في مناطق البحر والجبل، على سواحل مصر أو غيرها من البلاد

ولذلك كان موسم الأدب بطيئاً، بحيث يمكن القول أنه بكتب المدارس وتعد منها ما يكفي للعام الجديد الذي أصبح وشيك الظهور

وقلما تحمل الصحف في باب (محاضرات اليوم) هذه الأيام شيئاً ذا قيمة أو أهمية يكون من شأنه أن يوجه الأدب أو يؤرخه، فما زال بيننا وبين الموسم الجديد وقت غير قصير

وما تزال حركة الانقلاب الجديدة، بعيدة الأثر في الصحافة والأدب، فقد انطلقت أقلام الكتاب والشعراء والقصصيين، وتحررت، وأخذت تعبر عن مشاعر الأمة، بالوضع الجديد، وتصور فرصتها بإنهاء عهد مظلم طال أمده

غير أن هذا اللون الجديد من الأدب ما زال قاصراً على صورة واحدة مكررة، هي تهنئة الجيش، وتصوير طغيان الملك السابق

وحفلت الصحف، ومازالت، بقصص عن الحياة الآثمة التي كان يحياها فاروق، والتي تمثل في الصور الجنسية والتصرفات المجنونة، والأساليب الخادعة، التي كانت تتكون منها شخصيته

وهي (موجة) عاتية لابد أن تمر بها الصحافة بعد الانقلاب، ولكن الأدب مازال حتى الآن، لا يجد مكانه في النهضة الجديدة

فلا زلنا نرجو أن ينشأ جيل جديد من كتاب النهضة جيل فيه إيمان وحرارة وثقة، وفيه جرأة

جيل لم يتلوث بآثام العهد الماضي ولا شروره، تكون له القدرة على أن يحلل على أضواء علم النفس والتاريخ والتطوير (بزوغ) ذلك الفجر الجديد. إن فريقا من كتابنا الكبار قد

ص: 33

وضع أساس هذا العهد الجديد، أولئك الذين صوروا آلام الأمة وأثاتها، والحجب المظلمة التي كانت تعيش فيها، أولئك الذين طالما ترقبوا مطلع النور الجديد، ورسموا صورة الزعيم المنتظر، فهؤلاء هم الذين أرضعوا النفوس لبان الثورة، وهم من حركتنا بمنزلة روسووفولتير في الثورة الفرنسية، ولكن مهمة جديدة الآن توشك أن تلزم شباب الكتاب، وهي (إبداع) اللون الجديد الذي يمثل العهد الجديد

عودة الغريب

كان الدكتور زكي أبو شادي صاحب مدرسة جديدة في الشعر، وكانت مجلة (أبو لو) من المجلات الفريدة، التي حملت لواء الدعوة إلى المذهب الابتداعي، وقامت بجهد ليس بالقليل، وأبرزت طائفة من الشعراء الشبان الذين لمعوا بعد ذلك في أكثر من مجال من مجالات الأدب والفن والصحافة والإذاعة

ثم بدا للدكتور أبو شادي أن يقيم في الإسكندرية فنقل مطابعه وصحفه إلى هناك، وأخذ يوالي عمله الأدبي هناك، غير أنه أحس أخيراً أن فترة من الحرج تمر به، وقيل أنه وقع في محنة (تقوى الإحسان)! وإن بعض خصومه الذين حمل عليهم بعنف، حمل على اتجاهاتهم الأدبية، استطاعوا في ظرف ما أن يضايقوه ويزعجوه، وأحس أنه لا سبيل مع ذلك إلى البقاء في مصر، وكانت طريقته في معاملة مريديه وأتباعه تقوم على أساس من الأخوة والوفاء والتضحية مما كان له أثره في حالته المالية

وأخيراً استقر رأى الدكتور أبو شادي إلى السفر إلى أمريكا؛ ولكنه فوجئ قبل أن يركب (الباخرة) بوفاة زوجته، فكانت نكبة أخرى ضاعفت متاعبه وآلامه

وقد نشرت (الرسالة) إذ ذاك هذه القصيدة العصماء التي ضمنها الدكتور ديوانه (نحو السماء) الذي طبعه في أمريكا ووزعه في العام الماضي

وسافر الدكتور أبو شادي إلى أمريكا واستقر في (نيويورك) وستقبل هناك استقبالا حافلا، وكان موضع تقدير البيئات الأدبية هناك

ومضت سنوات. . .

وأحس (أبو شادي) بالحنين إلى مصر، الحنين الجارف، وكانت لهب هذا الحنين تتبدى في قصائده وكتاباته، وبدأ يتصل بمصر مرة أخرى، وأحس أحباؤه وأصدقاؤه هنا بأنه يجب أن

ص: 34

يعود

كتبت مجلة (الأهداف) التي تصدرها السيدة جميلة العلايلي، وكتب صاحب هذه السطور في (الزمان) في هذا المعنى، وقد وجهت خطاباً إلى الدكتور طه حسين وكان إذ ذاك وزير المعارف؛ وتحدثت معه في هذا الشأن في مقابلة خاصة. . .

ويبدو أن الدكتور زكي أبو شادي علم هذا، فأرسل إلى بعض خاصته يقول أنه لا يريد العودة إلى مصر، وإن مكانه في نيويورك لا يدانيه أي مكان يمكن أن يصل إليه في القاهرة

غير أننا كنا نعرف سلفاً، أن الدكتور أبو شادي ثائر على الأوضاع في مصر، وأنه ساخط على كل شيء

أما الآن - وقد أثيرت مسألة إعادته من جديد - فنعتقد أنه سيكون غاية في الرضا بالأوبة إلى وطنه بعد أن تحرر، وأخذ يستقبل فجراً جديداً

(في موعد الذكرى)

كان الأسبوع المنقضي، موعد ذكرى لعرابي ولدوفيح وفرويدج. . ومن قبله كان موعد ذكرى السباعي وفيلكس فارس

وقد مرت هذه المناسبات - في الشرق - وغيرها يمر كل يوم، دون أن يذكرها ذاكر، أو تكون موضع اهتمام الدوائر الأدبية وتقديرها

فنحن لا زلنا لا نحتفل إلا بطائفة قليلة من الأسماء التي لمعت في غفلة من الزمن، والتي فرضتها مناورات السياسة، أو مجاملات التملق!

كنا نحتفل بسعد وفؤاد وإسماعيل وهؤلاء وغيرهم، أناس رفعت أسماءهم الصدف، ولا يدخلون في عداد الأبطال حين يفصل تاريخهم على وجه صحيح!

أما الرجال الذين جاهدوا حقا، وحفروا أسماءهم في ضمير الحياة الوطنية أو الفكرية في الشرق، فقد كانوا إلى عهد قريب - قبل وثبة الجيش المباركة - مبعدين عن محيط الحياة، كان لا يستطيع إنسان أن يذكرهم أو يفصل تاريخهم

كان عمر مكرم وجمال الدين والجبرتي، وأحمد عرابي، وحسن البناء، من الأسماء البغيضة إلى الجهات التي تتحكم في كتابة التاريخ، وكانت أوامر في صورة نصائح توجه إلى بعض

ص: 35

الصحف بأن لا تنشر عنهم شيئاً

وكان محمد فريد ومصطفى كامل، لا يلقيان ما يلقي سعد زغول أو غيره، من الحفاوة والتكريم والتقدير!

ولا يزال محمد فريد حتى الآن، لا يجد من مصر ما هو جدير به من تكريم بعد أن ضحى أغلى تضحية بذلها زعيم في سبيل بلاده!

وإننا لنرجو - وقد خلعنا ذلك الثوب القديم المهلهل، وجردنا الأدب والفكر والفن منه - أن نستقبل (موعد الذكرى) لأبطالنا والرجال الذين جاهدوا فينا على وجه كريم يليق بذكراهم وكفاحهم، وعلينا على الأقل أن نقيم تمثالاً لأمثال عرابي ومحمد فريد وجمال الدين وحسن البنا

والحق أنه ما من جريدة أو مجلة أوربية تفتحها عفوا، في أي موعد من مواعيد الذكرى، لبطل أو كاتب أو موسيقي أو فنان، إلا وتجدها حافلة بآثار هذا البطل أو الكاتب، على صورة مجددة، مشرقة

ذكرياته الصغيرة، أحاديثه العامة، فكآهاته، قصاصاته، خطاباته الغرامية، كل شيء حتى الأشياء الصغيرة التي لا يعيرها الناس التفاتاً

والأديب في هذا الميدان لا يقل عن الزعيم، كلاهما بطل، كلاهما جاهد وأدى واجبه، وبذل عصارة دمه وأعصابه وأفكاره في سبيل وطنه، في سبيل الحق والحرية والجمال

لماذا - كما يقول الأستاذ توفيق الحكيم - لا نضع لوحة تذكارية صغيرة على المنزل رقم 232 ونكتب عليها، هنا كان يسكن (ألما زني)

وكرر هذا على المنازل التي سكنها سيد درويش، وكامل الخلعي، والرافعي، وفخري أبو السعود، وغيرهم!

إن هذه اللوحة الصغيرة لن تكلفنا شيئاً، ولكنها ستكون بعيدة الأثر في إحياء ذكرى الكاتب أو الفنان بعد مائة عام!

إننا في عهد البعث، عهد الإحياء، هذا العهد الجديد الذي جب كل ما كان قبله، العهد الذي يقوم على السواعد الشابة الفتية والنفوس المؤمنة الصادقة، التي ظلت تجاهد وتعمل حتى طلع الفجر من وراء الليل الأسود الطويل، وفي هذا العهد يجب أن نصنع كل شيء في

ص: 36

سبيل المجد، مجد مصر. . والأبطال الحقيقيون، الخالصون، الذين رفعوا صوتهم في الأيام السود، والذين جاهدوا في وقت كان الظلام يعم فيه كل شيء، وكانت كلمة الحق أقسى على الظالمين من أصوات المدفع، وكان كل حر معرض لأن يذهب إلى غير رجعة، هؤلاء الذين وقفوا وقفة الأسد في وجه الطغيان، يجب أن ننحني لهم اليوم!

أنور الجندي

ص: 37

‌المسرح والسينما

زكي طليمات المفترى عليه

للأستاذ عبد الفتاح البارودي

كنت آمل أن أستقبل الموسم المسرحي الجديد بما استقبلت به الموسمين الماضيين من بشر وتفاؤل. بل كنت آمل أن أزداد بشراً وتفاؤلاً كما تقضي بذلك سنة التطور. غير أن الأحداث التي تواجه المسرح المصري في الآونة الراهنة تدعوني مع الأسف الشديد إلى الحزن والأسى إشفاقاً على مصيره. ذلك لأنها ليست من قبيل الأحداث الكثيرة التي واجهت مختلف المسارح في مختلف الأمم حينما كانت في دور التكوين، وإنما هي أحداث مفتعلة من شأنها - لو تحققت مراميها - تقوض مسرحنا وتدمر كيانه وتجهز على حاضره ومستقبله، وتعصف بالجهود المضنية التي بذلها المخلصون من رجاله حتى وصل إلى ما وصل إليه من ارتقاء نسبي ولعله من العجيب أن تحدث هذه الأحداث في الوقت الذي تطالب فيه البلاد بتطهير مرافقها - والمسرح في مقدمتها - من الجهل والفوضى، بل الأعجب من ذلك أن تحدث هذه الأحداث باسم التطهير دون أن يفطن مفتعلوها إلى الفارق الجسيم بين التطهير والتدمير

بدأت هذه الأحداث عملياً منذ منتصف الشهر الماضي عقب أو أوفدت قيادة الجيش الباسلة مندوباً عنها إلى الهيئات الفنية ليعاونها في استنقاذ النشاط الفني من براثن الرجعية وتوجيه الفنون وجهة قومية تحقق بها وظيفتها المثلى. وكم كان غريباً ومريباً أن يجتمع ممثلو الفرقة المصرية وفرقة المسرح الحديث لا ليعملون على تحقيق هذه التوجيهات القويمة؛ ولكن ليقدموا إلى ولاة الأمور مذكرات لا تمس الفن والإصلاح الفني إلا بقدر ضئيل، وهي بعد ذلك تتضمن مطالب ينحو بعضها منحى شخصياً ويستهدف غايات غير فنية وينطوي على مثالب وترهات يندى لها الجبين. وليس أدل على ذلك من أن يطعن ممثلو فرقة المسرح الحديث عميدهم (زكي طليمات) طعنات قاتلة! والأدهى من ذلك أن يطالبوا بتنحيته عن إدارة الفرقة التي تعتبر ثمرة جهاده الفني

وأبادر فأؤكد أنني لا أبتغي الدفاع عن تصرفاته ولا أبتغي مهاجمة أعضاء الفرقة في وضعهم الجديد الذي استقروا عليه الآن، بل لا أبتغي تناول النواحي الشخصية التي انزلقوا

ص: 38

إليها، تاركا تقدير ذلك لحكمة ولاة الأمور وفطنتهم. وإنما أبتغي، كناقد، أن أكشف عن بواعث هذه المحنة من الناحية النية وحدها، وأن أوضح مدى ما يترتب عليها من خطورة على الفن المسرحي

وربما لا يفي لإيضاح ذلك أن نسرد تاريخ زكي طليمات وجهاده الفني في أكثر من ثلاثين عاماً؛ بل يجدر بنا أن نتلمس أثره العميق في الحقبة الأخيرة التي بدأت بإنشاء فرقته وانتهت باستقالته وندب غيره لإدارتها وانقطاع الصلة الوثقى بينه وبين تلامذته الذين تألبوا عليه لنرى نتائج هذا الأثر في تطور المسرح المصري وبالتالي لنرى مدى الخسارة آلتي ستلحق به بفصل المتأبين. . . الناشئين!

ولنعد قليلاً إلى الوراء. وحسبنا أن نعود إلى الفترة التي سبق إنشاء هذه الفرقة لنستذكر ما جاهر به النقاد وقتئذ، فقد أجمعوا على أن المسرح المصري بلغ من الهزال حدا لا رجاء فيه، وحاول بعضهم تأويل ذلك إما بغلبة السينما عليه على اعتبار أنها أكثر منه ملاءمة لروح العصر. . أو بانصراف الناس إلى أمور معاشهم أو ما شبه ذلك ونسوا جميعاً أن المسرح فن لا يزال يزدهر عند الأوربيين وهم أكثر منا انشغالاً بالسينما وتكالباً على الأمور المعاشية. . . والمهم أن أحداً لم يتمكن من تشخيص الداء ووصف الدواء سوى زكي طليمات. . إذ اهتدى بثقافته وتجربته وتخصصه إلى أمرين جوهريين:

الأمر الأول أن النهاية التي وصول إليها مسرحنا لم تكن إلا نتيجة حتمية للبداية التي بدأ بها. فقد بدأ في أواخر القرن الماضي بداية ساذجة بمعنى أنه لم ينبت نبتاً طبيعياً كما حدث عند الإغريق، ولم ستنبت استنباتاً سليماً كما حدث في أوربا، فكان لابد من أن ينتهي إلى تلك النهاية الساذجة

والأمر الثاني أن المسرح فن لا تستقيم له الحياة إلا إذا توافرا له البيئة التي تحيى فيها والعقلية التي تدركه، وهذا ما لم يتهيأ لمسرحنا في شتى عهوده. فكما أن فكرة الجيل القديم عنه لم تخرج عن اعتباره إحدى وسائل التسلية والتلهية والتنفيس. . كذلك ظلت فكرة الجيل الأخير مع اختلاف في التفاصيل دون الصميم

من أجل ذلك وضع سياسته الفنية على أساس تقريب إنتاجنا من الأوضاع الفنية الصحيحة وتهيئة بيئتنا وأذهاننا لتقبل هذه الأوضاع، وتحقيقاً لهذه السياسة أنشأ فرقته على دعائم

ص: 39

منهجية وحدد برنامجها في ثلاث مراحل رئيسية: المرحلة الأولى مرحلة الترجمة عن الغرب والتتلمذ على الغربيين فيما امتازوا فيه، والمرحلة الثانية مرحلة التجربة والممارسة، والمرحلة الثالثة مرحلة الخلق والابتداع. وكما وفق في التصميم وفق أيضاً في التطبيق، ولهذا أعرضت فرقته عن الوسائل الارتجالية، وترفعت عن ممالأة النزعات السطحية، وآثرت تقديم المترجمات الممتازة، فقدمت في مستهل عهدها ثلاث روايات لموليير ورواية لتشيكوف وأخرى لبريستلي دون أن تمسخها بالتمصير والتعريب. . وظلت تسير على هذه الوتيرة حتى تأججت الثورة على الاستعمار في الموسم الماضي. . فكان زكي طليمات أول من استجاب للدواعي الوطنية من رجال المسرح. . وقدم روايتين وطنيتين. . وآثر أن يرجئ برنامجه ليشارك الثوار ويضئ الطريق للأحرار

وهكذا نجح مادياً ومعنوياً. . وأفلح فنياً وقومياً. . وفاز برضاء الوطن والفن وتأييد المخلصين

هذه هي قصة زكي طليمات موجزة ظلال العامين الماضيين، وهذه هي أيضاً قصة بجماليون القرن العشرين

فقد روت الأساطير الهلينية أن الفنان بجماليون ابتدع تمثالاً رائع الجمال فشغف به حباً وتوسل إلى الإلهة أفروديت أن تمنحه زوجة شبيهة بهذا التمثال. واستجابت الإلهة لهذا التوسل بأكثر مما كان يتصور. . إذ منحت الحياة للتمثال ذاته وتزوج بجماليون تمثاله الذي ابتدعه بيديه. وما أظن أن رمزية هذه الأسطورة في حاجة إلى إيضاح. . لكن ما يجدر بنا إيضاحه أن أحدا من شعراء الإغريق لم يحاول إخراجها مسرحياً وإنما اكتفوا واكتفى الأدباء من بعدهم باستلهامها واستيحائها. . فاستلهمها (مارستون) في أشعاره التي ظهرت عام 1598 واستوحاها (موريس) في مجموعته القصصية التي ظهرت عام 1868 وجاء المحدثون فوجدوا فيها معينا لمسرحيات كوميدية. . نذكر من هؤلاء جلبرت ثم شو ثم توفيق الحكيم وغيرهم. . ومع هذا لم يرتض أحدهم أن يخرجها من إطارها أو أن يزري بكرامة الفنان بجماليون في الصراع بينه وبين تمثاله. . واحتفظوا له بكيانه وأخرجوه منتصراً على تحفته الفنية باعتباره مبتدعها ونافخ الروح والجمال فيها. ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الرونق الفني فرموا المبتدع بحجارة تمثاله وخلقوا من الكوميديا

ص: 40

مأساة. . أولئك هم الزملاء الفضلاء ممثلو فرقة المسرح الحديث وهذه مسرحيتهم التي مثلوها أخيراً مع عميدهم الذي ابتدع فرقتهم، ونفخ فيها الحياة والجمال، وعشقها وتفانى في الإخلاص لها فكان جزاءه الجحود والعقوق

وإني لأذكر في يوم ميلادها كيف حرص على أن يكتب في أول نشه أذاعها: (إن هذه الفرقة لن تهلك إلا إذا ائتمر أعضاؤها على قتلها) وكنت مع إيماني بحصافته وبعد نظره أعجب لذلك وأعجب أكثر من ذلك لإصراره على تسجيل هذه العبارة في كل نشراته بلا استثناء، وما كان يدور بخلدي أن ما توقعه سيحدث بعد عامين اثنين من إنشائها على الرغم من نجاحها نجاحاً منقطع النظير. لم يكن زكي طليمات نبياً ولا مطلعاً على الغيب؛ وإنما أدرك - وهو اسبق من زمنه - أن منهاجه العلمي سيؤدي به إلى النجاح بين قوم لم يتوسلوا من قبل بمنهاج علمي بديل أنهم كانوا يتوقعون له الإخفاق. . وأدرك من جهة أخرى أن هؤلاء القوم سيحاولون هدم ما بناه. . وأدرك أيضاً أن لا شيء ينال منه إلا أن ينهار البناء بذاته. وربما كان أبرز ما يؤيد صحة مدركاته أن مما تتجه إليه الآن إدماج فرقته. . بعد ما أوشكت أن تتداعى - بالفرقة المصرية. . . وهكذا يتكشف الباعث الأصيل للمطالبة بإقصائه أو بعبارة أخرى لهدم الصرح الذي أقامه. . . وتتكشف تبعا لذلك أغوار هذه المحنة الأخلاقية التي أصبحت مضرب الأمثال

إن شيئاً واحداً أريد أن أصارح به زملائي، وهو أن زكي طليمات (الفنان) حقيقة تاريخية لا سبيل إلى طمسها، وإذن فلا ضير عليه، وإنما الضير على أبنائه الذين ضربوا مثلاً رائعاً في انتهاز الفرص حتى لقد استباحت ضمائرهم إهدار كرامته وهانت أبوته وأستاذيته، وكل ما أخشاه أن تكون في الإطاحة به إطاحة بهم وبمدرسته الفنية وبالأمل الذي يراودنا في تحقيق نهضة المسرح المصري الحديث

عبد الفتاح البارودي

ص: 41

‌الكتب

الأخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية الحديثة

تأليف الدكتور إسحاق موسى الحسيني

217 صفحة من الطع المتوسط - نشر دار بيروت 1952

للأستاذ عودة الخطيب

هذا الكتاب يجيء في أوانه، لأن لحركة الإخوان أثراً كبيراً في كثير من الحركات التي شملت الشرق الإسلامي في السنين الأخيرة، ولا يستطيع المؤرخ المنصف أن يغفل هذا الأثر الذي سجلته الأعمال الجسام والأحداث العظام، ولذا يجدر بالمثقفين أن يغيروا هذا الكتاب عنايتهم، وبالنقاد أن يعرضوا له بالنقد والتحليل

أما مؤلفه الدكتور إسحاق موسى الحسيني، فهو أحد أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت، ومثقف واسع الإطلاع، وأديب مشرق الأسلوب، وهو جدير بأن يتناول هذا الموضوع الدقيق بقلمه الحر المنصف، وأن يحلل هذه الحركة الجبارة بعقله الخصب الواعي، بعد أن كتب في موضوع الإخوان كثير من الكتاب، وهم بين أنصار يقومون بواجب الدعاية والدفاع، وبين خصوم يتناولون الحركة بالتجريح والهجوم، وقد اصبح طالب الحقيقة الواضحة الصافية حائراً بين هؤلاء وأولئك، وبقيت هذه الثغرة مفتوحة لم يستطع الكثيرون سدها، حتى جاء الدكتور الحسيني بمؤلفه الجديد وجعل رائدة أن يبحث عن الحقيقة بحياد وإنصاف، ولذا فهو لا يألوا جهداً في تتبع كلام الخصوم والأنصار، فيؤيد هؤلاء تارة، ويميل مع أولئك أخرى، بأسلوب مهذب لبق، برئ من التهجم، وخلا عن التعصب، وحاول أن يكون دائماً على الحياد، وقريباً من الصواب، بيد أنه - في سبيل هذا الحياد - سلك في بعض الأحيان طريقاً وعرة، وقيد قلمه بقيود ثقيلة، ما كان أغناه عنها! ولذا وقع في بعض الأخطاء، ذلك لأنه يريد أن يقرر في ذهن القارئ بعده عن التحيز لهذه الدعوة، خشية أن يتهمه أحد بالانتصار لها

وأكبر أخطائه - على ندرتها - وأكثرها شيوعا في كتابه، رأيه في الحكومة الدينية التي يقول إن الإخوان يعملون لها. ولا غضاضة على الإخوان - في رأينا - أن يسعوا إليها،

ص: 42

ويبذلوا الغالي والرخيص في سبيلها، لأنها أمنية كل مسلم يقظ، يعرف ما في الحكومة الإسلامية من خير وسعادة للفرد والمجتمع والإنسانية عامة، ولكن المؤلف في حديثه عن الحكومة الدينية يقف موقف المعارض لها بأسلوب فيه كثير من ألف والدوران يقول:(لا شك في أن الإخوان لم يطالبوا بالحكومة الدينية عبثاً. لقد رأوا بعض القوانين في مصر تبيح ما نهى عنه الدين، رأوا قانوناً يبيح الزنا وآخر يبيح الخمر، وهما محرمان ديناً فثاروا وطالبوا بتطبيق التشريع الديني في جميع الأحوال بلا استثناء، كما كان الحال في صدر الإسلام، وهذا هو موطن الدقة في الموضوع، هل جميع القوانين المدنية أدت إلى ما أدى إليه هذان القانونان؟ هل كل تشريع مدني فاسد؟ لو كان الأمر كذلك لكان التشريع الغربي بل تشريع العالم أجمع؛ عدا القسم من العالم الإسلامي الذي يطبق التشريع الديني فاسداً، وهو قول سخيف، فالتشريع يستوحى المصلحة العامة في كل الأمم قاطبة، والمصلحة العامة تلتقي مع الغرض الأسمى من الدين، ولا يجوز عقلاً أن يختلفا) ص 165 وموضع الخطر والخطأ في هذا الكلام أن الأخوان بنوا فكرة دعوتهم للحكومة الإسلامية حين رأوا قانوناً يبيح الزنا وآخر يبيح الخمر، والحقيقة غير ذلك، لأن كل من يدعو إلى الحكومة الإسلامية سواء أكان الإخوان أم غيرهم، يستطيع أن يجعل قانون الزنا والخمر مثلاً سبيلاً لقيام الحكومة الإسلامية، لأن مثل هذا السبب لا يصح أن يكون وحده أساساً لمثل هذه الدعوة، وإلا كانت هذه الدولة أخلاقية روحية فحسب، لا شأن لها في تنظيم المجتمع، وتنمية الثروة، والعلاقات الدولية. نعم إن من أهداف الحكومة الإسلامية، إقامة حدود الله ومنها حد الزنا والخمر. . . ولكن ليست هذه وحدها أيضاً مما تقول به دولة الإسلام

والسبب الحقيقي في قيام الحكم الإسلامي إنما هو الإسلام نفسه. . . . فالإسلام وجد ليحكم، ويؤسس دولة، ونشئ أمة، ويقود عالما، والعبادة فيه وسيلة لتربية الضمير الإنساني، ليعدل إذا حكم، وينصح إذا استشير، ويخلص إذا عمل، ويسعى للمصلحة العامة، ويدفع أذى الأعداء، والتشريع الإسلامي الذي هو قانون الحكومة الإسلامية، ينظم شؤون الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو صالح لكل زمان ومكان، لأنه قواعد عامة، وأصول مرنة، قابلة للتصور والاجتهاد. وقول المؤلف (بأن التشريع يستوحي المصلحة العامة في كل الأمم قاطبة، والمصلحة العامة تلتقي مع الغرض الأسمى من الدين، ولا

ص: 43

يجوز عقلاً أن يختلفا) في هذا القول تأييد للتشريع المدني وأنه يلتقي بالغرض الأسمى من الدين. . . ولا يجوز عقلاً أن يختلفا، ونحن نعلم أن التشريع المدني يبيح الربا وأن الدين يحرمه، والتشريع المدني - في كثير من البلاد - يحمي الإقطاع والاستغلال، والإسلام حرب عليها. . . فكيف جاز عقلاً أن يختلفا؟!

إن فكرة فصل الإسلام عن الدولة، وإبعاده عن الحكم، وإقصائه عن التشريع انحراف به عن غايته السامية، وحبس له في الخلوة والزاوية، وجعله هيكلاً راهناً منحلاً، لا يقوى على رد عدوان، أو صد هجوم، وهذا هو ما آل إليه أمر الإسلام بعد أن تكالب عليه الأعداء، ورموه بالجمود والرجعية، ووصموا أتباعه بالتأخر والهمجية، وساموهم سوء العذاب بالاستعمار والطغيان. . ومن المؤسف أن كثيراً ممن شد طرفاً من الثقافة الغربية، وتأثر بالنهضة الأوربية التي قامت على أساس إبعاد الكنيسة عن الدولة، يدعون بهذه الدعوة، وينادون بهذه الفكرة، ناسين ما بين الإسلام والمسيحية من فروق شاسعة، وبون بعيد، وقد تصدى لرد هذه الفكرة الخاطئة الأستاذ السيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وكانت سياسية الإخوان، ونشاطهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، رداً عملياً على هؤلاء الذين يتهمون الإسلام بالجمود، ويصمونه بالعجز عن تنظيم المجتمع الحديث، وهم كما قال فيهم الأستاذ الزيات (يحاولون أن يبعثوا في الهيكل الواهن المنحل روح الإسلام الفتية القوية، التي نقلت البدو الجفاة الحفاة من بوادي الجزيرة رعاة غنم، إلى حواضر الدنيا قادة أمم) و (هم هم وحدهم الذين يمثلون في هذا المجتمع الممسوخ، عقيدة الإسلام الخالص، وعقلية المسلم الحق، إنهم لا يفهمون الدين على أنه صومعة منعزلة، ولا الدنيا على أنها سوق منفصلة، وإنما يفهمون أن المسجد منارة السوق، وأن السوق عمارة المسجد، وكان للإخوان المسلمين في الإرشاد لسان، وفي الاقتصاد يد، وفي الجهاد سلاح، وفي السياسة رأي)

وهناك أمر آخر وثيق الصلة بموضوع الحكومة الدينية، وهو اشتراك الجمعية في السياسة، يخطئ فيه المؤلف فيقول: (وأثرت هذه الإجراءات الصارمة - يعني بطش إبراهيم عبد الهادي - في البنا الذي رأى البيت الذي بناه بيده في عشرين عاماً قد انهار بين ليلة وضحاها، ويبدو أنه ندم على اشتراك الجمعية في السياسة ص 36، وأحب أن أؤكد

ص: 44

للمؤلف أن البنا لم يندم على اشتراك الجمعية في السياسة) لأن السياسة - في عقيدته - جزء لا ينفصل من الإسلام، ولو فرضنا أن هذه الإجراءات القاسية الرهيبة، أثرت في نفسه، فلا يمكن أن يبلغ أثرها حداً يجعله يتخلى عن جزء من عقيدته التي هي عقيدة الإسلام الخالص. على أني شهدت له موقفاً خالداً مع مندوب الحكومة في دار جمعية الشبان المسلمين قبل استشهاده بأيام. . . سمعته رحمه الله يقول لمندوب الحكومة المفاوض (قل لمن وراءك: إذا كان ملك البلاد، ومن ورائه حكومته الرشيدة وعلماء الأنام، كل هؤلاء حرب على الإخوان المسلمين، فلا أقول عندي مليون أو ثلاثة ملايين. . . بل عندي خمسون، لا يضع الواحد منهم أنفه في الرغام، حتى يحطم خمسين من هذه الأصنام) وفي هذا الكلام - بلا ريب - تهديد خطير، وهو لا يدل على نفس نادمة، أو عزيمة خائرة، بل يعني أن هذه المحنة لم تنل من نفسه ولم تغير من عقيدته، وكيف؟! وهو الذي كان يسمي تلك المحنة العصيبة محنة يمحص الله بها الصادقين المخلصين

ثم أراد المؤلف أن يعلل اهتمام الإخوان بالصناعة والشركات، فعجب من أن يغرق الدين بطوفان من الظواهر غير الروحية ص 145 وقال (إن كانوا يقصدون أن الدين يشرع لهذه المظاهر الدنيوية، ويفرض سلطانه عليها، ويحدد سلوك الفرد فيها، فقد غالوا في مفهوم الدين، ووضعوا أمام السائرين في الدنيا مزالق لا يؤمن فيها العثار) ص 146، ويبدو أن المؤلف الذي يعجب من هذا الطوفان غير الروحي، لا يريد أن يتخلى عن نظرته إلى الإسلام، على أنه عبادة وروح وأخلاق، وأود أن أذكره أن في كتب الفقه الإسلامي قسماً كبيراً للمعاملات، فيه فصول مسهبة دقيقة تنظم البيع والسلم، والقرض والرهن، والتفليس والحجر، والصلح والحوالة، والضمان والشركة، والوكالة والشفعة، والمزارعة والمساقاة، ولهذه الأحكام الفقهية أدلة قوية، من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، بذل الفقهاء جهداً كبيراً في استنباطها وترتيبها. . . وليس مرد هذا الاهتمام إذا إلى ممارسة البنا لصناعة إصلاح الساعات كما يقول المؤلف (أما الاهتمام بالنصاعة والشركات فربما مرده الأول إلى صناعة إصلاح الساعات، التي أتقنها الوالد، وأولع بها الفتى، ومارسها كذلك) ص 44، ولا أجد داعياً إلى اتهام الإخوان بالمغالاة في الدين، كما لا أجد حاجة لأن يتساءل المؤلف هذا التساؤل العجيب فيقول: (وما الذي حمل الإخوان على مط الدين على هذا

ص: 45

النحو؟) ص 146، فليطمئن على أن الدين لم يمط، ولن يمط، لأن فيه إمكانية واسعة لتنظيم شؤون الدين والدنيا

هذه ملاحظات يسيرة، لا تغض من شأن هذا المؤلف القيم الذي يحوي بيد دفتيه حقائق ناصعة، وآراء صحيحة، وتحليلاً ناجحاً لهذه الحركة. فضلاً عن ذلك الإحصاء الدقيق لكل ما يتعلق بالإخوان، وقد ذيل المؤلف كتابه بالمراجع والشروح التي اعتمدها، ونقل عنها، فلا يكاد يترك كتابا أو رسالة أو صحيفة أو مقالة فيها حديث عن الحركة، إلا ذكرها وأوجز ما فيها، وقد بذل - ولا شك - في هذا السبيل جهداً كبيراً، يستحق أن يسجل بآيات الشكر والثناء

محمود عودة الخطيب

ص: 46

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ محمد سالم الخولي

تحية مباركة

وبعد فقد قرأت في العدد الألفي مقالكم القيم (أثر الرسالة في الأدب الحديث) وأعجبني منه كيف غاب عن ذاكرتكم - وأنتم تعددون أسماء الأشياخ الأعلام وشباب الكتاب - اسم الأستاذ علي الطنطاوي الذي رافق الرسالة من مشرق عمرها المديد على حد تعبيركم - ولا يزال.

أجل لقد عجبت أن يند عن الذاكرة اسم هذا العلم الشامخ، وإن العهد به في الرسالة لقريب، فارجعوا إن شئتم إلى مقاله المنشور في العدد الـ 998 فهو الغاية في التعريف بهذا الأديب الكبير والدلالة على منزلته الرفيعة وصوته البعيد في الأقطار الشاسعة التي فتحتها له الرسالة الغراء ومكنت له فيها، وهو إلى ذلك فن بديع في التنويه بالنفس والتعريض بالآخرين

دمشق

خليل صدق

لا يعلم الغيب إلا الله

قال الأستاذ ناصر سعيد: (إن النبي ولا شك كان يعلم الغيب)

وهذا خلاف الثابت المعروف من الدن بالضرورة، من أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وإنما يكشف الله لرسوله عن أشياء معينة، لحكمة يريدها فيخبر بها

ولعلي أعد هذا الموضوع فصلا أنشره في الرسالة

تصويب

في مقالتي في العدد (998) تطبيعات منها كلمة يستشرق للحب وهي يستشرف للحب

علي الطنطاوي

حول شوقيه لم تنشر

ص: 47

نشر الأستاذ محمد عدنان حسين في العدد 998 رثاء شوقي للمغفور له الخديو توفيق في الصفحات 921 - 923 وتقع المرثية المذكورة في 83 بيتاً. وقال إنها لم تنشر في ديوان شوقي - ولكن التوفيق الذي يصاحب الأستاذ عبد القادر الناصري في استدراكاته خان الأستاذ عدنان. فالرثاء المذكور طبع ضمن الجزء الأول من الشوقيات طبع مطبعة الآداب والمؤيد سنة 1898 م وهو الجزء الوحيد الذي طيع من الشوقيات القديمة والقصيدة فيه من ص 134 إلى 138. وتقع في 86 بيتاً أي بزيادة ثلاثة أبيات على ما نشر الأستاذ عدنان. وغني عن التعريف أن الشوقيات القديمة المذكورة أعلاه تحتوي على كثير مما لم يعد طبعه في الأجزاء الأربعة من الشوقيات الجديدة - كما أن بعض ما نشر في الجزء الثاني من الشوقيات الجديدة على أنه غزل إنما هو استهلال قصائد مدح الخديو عباس طيب الله ثراه - مثال ذلك قصيدة علموه كيف يجفو - نشر منها تسعة أبيات من أولها فقط في ص 163 من الجزء الثاني من الشوقيات الجديدة - بينما هي في 34 بيتاً في الشوقيات القديمة انظر ص 89 - 91، وحبذا لو تكرم حضرات المستدركين بمراجعة الشوقيات القديمة قبل الجزم بعدم نشر فريدة من فرائد شوقي

عبد السلام النجار

من عثرات الأقلام

كتب الأستاذ الربيع الغزالي في جريدة الأهرام أن (متشرد) صحيحة مثل. مشرد وشريد، وحجته في ذلك: أن التاء مزيدا للطب، وأنه جاء في بالمنجد، تشرد القوم: ذهبوا

وهذه الحجة لا تنهض دليلاً على صحة ما ذهب إليه، فإن التاء وغيرها من حروف الزيادة، ليست زيادتها قياسية في الفعل أو مشتقاته بل مدار هذه الزيادة على سمع من العرب، والقاعدة عند اللغويين أن ما سمع يحفظ، ولا يقاس عليه، ولم يؤثر عمن يوثق به من أئمة الفصحى الفعل (تشرد) بمعنى صار شريداً، ولا يمكن أن يتصور معنى الطلب في (تشرد) لأن التشريد لا يطلبه أحد لنفسه

وورود كلمة (تشرد) في المنجد ليس دليلا على صحتها، لأن المنجد ليس من المصادر المعتمدة عند علماء اللغة، ولو كانت الكلمة صحيحة لوردت هي أو بعض اشتقاقاتها في

ص: 48

أحد المراجع المعول عليها عند اللغويين، ثم لم نظلم المنجد وقد أورد كلمة (تشرد) بمعنى ذهب لا بمعنى طرد، ولا يخفى على أحد ما بين المعنيين من فرق

هذا ولن يضير اللغة أو ينقص من قدرها أن ينفي الزائف عنها؛ ويقتصر على استعمال الصحيح من مفرداتها

عبد الجواد سليمان

سرقة أدبية

قراء الرسالة يذكرون تلك العجالة الخاطفة التي نوه بها الأستاذ كمال رستم في العدد 922 من مجلتنا الغراء، ذاكراً أن الأستاذ إبراهيم المصري الكاتب القصصي المعروف. . قد سطا على قصة أنطون تشيكوف (الرهان) واضافها إلى نفسه بالعدد 852 من مجلة آخر ساعة تحت عنوان (الرهان العجيب)! ومع أن كلمة الأستاذ كمال رستم كانت تتسم بطابع العنف، فقد ضمت الأستاذ المصري صمت المتهم الذي ثبتت إدانته. .

واليوم. . تتكرر نفس المأساة على صفحات آخر ساعة نفسها، فقد طلعت علينا في عددها الفائت بقصة للأستاذ أمين يوسف عرابي تحت عنوان (دقات الساعة)، وقدمها على أنها قصة رمزيه مصريه! والقصة ليست من الرمزية أو المصرية في شيء؛ وإن القراء للعدد 934 من الرسالة إلغاء. . الصادر بتاريخ 28 مايو سنة 1951، وعلى الصفحة 627 من نفس العدد، يطالع هذه القصة. . وهي مسرحية ذات فصل واحد من ورائع (ميشيل وست) قمت بترجمتها وتقديمها. وقد تطاول الأستاذ أمين على أصول القصة، فنفحها بعضاً من عندياته، ولست أدري! أهذا إمعان منه ي الكرم على مؤلفها ذي الحق المسلوب؟ أم رأى فيها اعوجاجا فأبى أن يتفضل بتقويمه؟ أم أراد أن يطمس معالم السرقة كما فعل الأستاذ المصري في قصته (الرهان العجيب)؟

عبد القادر حميدة

شخصية الأسبوع

نشرت البروجريه ديمنش كلمة تحت هذا العنوان عن فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم أشارت فيها إلى مقترحاته لتطهير الأزهر وعزمه على الاستقالة إن لم تجب

ص: 49

مطالبه؛ وقالت إن الشيخ عبد المجيد سليم يتمتع بثقة الغالبية من رجال الدين والعلماء واحترامهم، وهو معروف بالتقوى والروع. وما حاول قط أن يفيد لنفسه، وقد جعل همه مصلحة الجامعة الأزهرية قبل مصلحة الأفراد، ومن أجل ذلك كافح في سبيل إنقاذ تلك المؤسسة الدينية. وهو لا يخشى إلا الله ولا يساوم في كرامته، ولذلك يستحق بجدارة تقدير الوطن

يهز الجيش حولك جانبيه

في البريد الأدبي من العدد 1001 من الرسالة الزهراء، يقول الأستاذ خاف إبراهيم الكاتب أنه لم يجد البيت:

يهز الجيش حولك جانبيه

كما نفضت جناحيها العقاب

في الجزء الأول من شرح ديوان المتنبي لعبد الرحمن البرقوقي، والحق أن البيت المذكور إنما هو للمتنبي، وهو من قصيدته التي يمدح فيها سيف الدولة ومطلعها:

بغيرك راعيا عبث الذئاب

وغيرك صارما ثلم الضراب

وليرجع الأستاذ إلى هذه القصيدة في الصفحة 75 من الجزء الأول من شرح ديوان المتنبي للعكبري، شرح وتحقيق الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ سلبي

عبد الرزاق عبد ربه

هفوة

قرأت بالعدد الأخير من الرسالة الغراء قصيدة ممتعة للشاعر الشاب. . محمد مفتاح الفيتوري. تحت عنوان (العائدون من الحرب)، والقصيدة تعد أنموذجا يحتذى في الشعر الوطني الحديث، لولا أن وقع الشاعر الفاضل في هفوة كنت أحب أن تتخلص منها قصيدته، ' ذ أن البيت الثاني من المقطوعة الأخيرة تنقصه (تفعيلة) فهو يقول:

فلا بارك هذى اليد لا باركها الرحمن

(إذا لم تسق بالحب صدى الحيران)

وكان الصحيح أن يقول مثلاً:

إذا لم تسق بالحب

صدى للعائد الحيران

ص: 50

وبذلك يتسقيم البيت وزناً

عبد المنعم عواد يوسف

ص: 51

‌القصص

الحذاء المشئوم

للكاتبة الإيطالية جرازيا دليدا

ضاقت سبل الحياة بالفتى إيليا كراي فهو لا يجد عملاً، وهو لا يدري كيف يزجي هذا الفراغ العريض الذي وقع فيه على حين فجأة، ألا أن يقضي شطراً من نهاره في حجرة الانتظار بالمحكمة واضعاً كراسة على ركبته يثبت فيها ما توافيه به قريحته من أشعار يناجي بها زوجته الحبيبة، لقد كان الضجيج يعلو بازائه، والجموع تتقاطر من هنا ومن هناك: ففقيرات النساء يتخاصمن على دريهمات ضئيلة كأنما يتناز عن أقطار الأرض جميعاً، وشاهدو الزور يسيرون في هدوء وأناة يبتغون شيئاً، وصغار المحامين يندفعون هنا وهنا يفتشون عن صيد جديد؛ هذا وإيليا جالس في هدوئه في زاوية الحجرة، يكتب إلى زوجته بعض الشعر وكأنه لا يحس مما حوله شيئاً:

(أنا أستطيع أن أرى الحياة بعيني عقلي، فكل ما يدور في العالم مقدر قبل أن يكون. أنا شاعر فيلسوف، فليس شيء في الحياة يثير في الدهشة لأنني أعلم أن الأيام تعلو بالمرء مرة وتسفل به أخرى. لا تقنطي - يا عزيزتي - فل ربما تذكرنا عمى أغسطينو، أغسطينو الذي طرد زوجته، وحرمها ماله؛ لعله يذكرها يوماً فتذهب إلى شاطئ البحر معا، نشهد القوارب تضطرب بين الأمواج الهائجة، ونحن نسير ذراعاً في ذراع كأننا عروسان في شهر العسل؛ على أننا - الآن - سعيدان، فالحب والاطمئنان يغمران قلبنا وحياتنا، وأنت يا سيدار؛ أنت فينوس هرموزا؛ أنت ثرائي وأنت ملكتي)

وفي صباح يوم من أيام الشتاء، أحس إيليا وهو في مكانه من حجرة الانتظار، حيث يجلس دائماً؛ أحس أن يداً قوية تجذبه في عنف، وسمع صوتاً خشناً يناديه:(أسرع! لقد كنت في (تيرانوفا) وعمك هناك يعالج مرضاً مخطراً. . .

هذا صوت سائق ينبهه إلى أمر، ولكنه ما كان ليسلبه بعض هدوئه. لقد أرسل أنة خفيفة خافتة، ثم قال يحدث نفسه:(سأنشر هذا الخبر المحزن على عيني زوجتي)

لم تضطرب الزوجة لما سمعت، ولم تحزن، ولم تفزع من مكانها وهي جالسة أمام باب الدار تلتمس الدفء من أشعة الشمس، وقد ارتدت خير ملابسها، وانتعلت، ورتبت شعرها

ص: 52

في دقة وأناقة؛ غير أن ملابسها وحذاءاها وقد عبثت بها يد البلى، ووجهها وقد شحب وتغضن وذوى جماله، وعينيها وهما تضطربان وقد خبا ضوءهما وانطفأ بريقهما؛ كانت كلها ترسم سطوراً واضحة في تاريخ فاقتهما وعوزهما

ومن أقصى المكان ارتفعت ضجة تشبه ما يسمعه إيليا دائماً في المحكمة: فهؤلاء أصحاب الدار يتنازعون فيما بينهم أمراً؛ وهذا الندى - وهو جزء من الدار - قد ضم جماعة يلعبون الورق ويمزحون في ضجة وصخب؛ والزوجة لا يعنيها ما يدور حولها. أما هو - هو إيليا - الزوج العاشق فقد وقف بازاء زوجته يداعب شعرها في رفق وتحبب ويقول: (أف تعلمين ما أنا صانع؟ سأذهب. . .!) قالت الزوجة: (إلى أين. . .؟) قال: (إلى أين؟ لعلك لم تعي شيئاً مما قلت! إلى عمي أغسطينو طبعاً! ما أجمل ما أرى في هذا اليوم. . .!) قالها وقد كتم في نفسه أموراً استشعرتها الزوجة المسكينة فراحت تحدق في حذائه الممزق مزقاً أعيت على الإسكافي، ثم قالت:(وأين لك بالمال تستعين به على السفر؟) قال الزوج في ثبات: (إن معي ما يكفيني، لا يشغلك هذا. إن كل ما في الكون يلد الحياة والجمال لو أن في النفس الهدوء والدعة. إن ما يهم المرء حقاً هو أن يحب الناس ويحسن معاملتهم. لقد شغلني هذا كل ساعات الصباح. . . أفتر يدين أن تقرئي؟) ثم قطع قصاصة من دفتره وألقى بها في حجرها وهو يبتسم. . . ثم أنطلق وما خلف من شيء سوى هذه القصاصة

انطلق ماشياً لأنه لا يملك سوى ثلاث ليرات؛ وكانت فلسفته قد أوحت إليه ألا يتخبط بين هذا وهذا، يقترض، فيضيع وقته فيا لا غناء فيه. . . هذا نوع من الرياضة تعوده منذ زمان؛ وما كان لشيء ما أن ينزع عنه رزانته أو يحاول بينه وبين أن يصل إلى عمه أغسطينو، وهو رجل سيار. لقد سار في نشاط وخواطره معلقة بحذائه دون قدميه، فهو يشفق عليه ويشفق. . .

بلغ إيليا (أوروسى) - وهي قرية في طريقه - ولم يحدث ما يعكر صفوه؛ فالطريق ممهد لا حب، والطبيعة جميلة تحنو عليه لتنسيه بعض متاعبه. لقد كانت رحلة ممتعة، في ناحية من الأرض سحرية، فالشمس تتألق كأنها ماسة كبيرة، وترسل أشعتها الذهبية في رفق على صخور الجبل، والحشائش تضطرب تحت نسمات البحر الرقيقة. وحين اندفع هو في

ص: 53

طريقه تراءت له الزهور الرفافة - زهور الربيع الجميلة - تنفث من عطرها الشذي في روحه النشاط، وتذكي في أعصابه القوة؛ ثم. . . ثم انحدرت الشمس إلى مغربها، فاستحالت حرارتها المنعشة إلى برد قاس تحمله نسمات الليل؛ وأحس الرجل أن قدميه تننديان، وأن حذاءه قد انفرج عنهما من هنا ومن هنا؛ فاضطرب وخانته رزانته الفلسفية حين بدا لعينيه أنهلا يستطيع أن يصلح حذاءه أو أن يجد غيره؛ وأنه لا يقوى على أن يحمل هم الطريق وهم الحذاء الممزق معاً. وتمثل له ما يلاقيه من مهانة واحتقار حين يبدو في دار عمه رث الملابس، زري الهيئة، ممزق الحذاء، وهو لا يريد أن يكون هو ألمن نفسه وعار زوجته حين يلج دار عمه في مثل حذائه. لابد أن يجد حذاء؛ ولكن كيف؟ أنه هو لا يدري. . . وبعد فترة كان يسير في شوارع القرية المهجورة المظلمة الندية وقد سيطرت عليه فكرة الحذاء الآخر. وفي ناحية من ساحة فندق هناك صغير يشع نوراً ذهبياً قوياً جذب إيليا إليه. . . جذبه لينام ليلته في حجرة قذرة، حيث نام عاملان فقيران؛ وقد كان غطيط أحدهما يستلب إيليا من أفكاره ومن نومه معاً. استقلي الرجل على فراشه وما في رأسه غير صورة نعل جديد تتراءى له أينما هفا خياله. في الشارع، في الحقل، في زاوية الحجرة، في صندوق في الزاوية الأخر، ثم هناك عند الباب وكانت تحور أحياناً إلى أخرى بالية تنم عن الفقر والفاقة

وظل إيليا تفزعه الريح العاصفة، والغطيط المدوي في أرجاء الحجرة؛ والساعات تمر، وتعلق بصره بنجم يتألق في السماء كأنه يسبح بين أمواج البحر المضطربة؛ وخياله عند زوجته وهو جالس إليها ينشر على عينيها بعش أشعاره الرقيقة الطلية، وعند الحياة الناعمة التي يحياها إلى جانبها لو ظفر بما يملك عمه

وانتفض الرجل من فراشه بعد لأي وهو يضطرب، وانحنى على حذاء العامل يريد أن يسلبه فوجده ثقيلاً واسعاً فتركه إلى حذاء الرجل الآخر، غير أنه لم يجد شيئاً، وطن في مسمعيه صوت أقدام تدب خارج الحجرة فاضطرب ووقف في مكانه وقد سيطر عليه الحزن والفزع؛ وبدت له خسته فخزن. . . حزن حزن القلب يستشعر الخطر المحدق؛ وحين انمحى الصوت دلف هو إلى الخارج ليرى. . . ليرى الردهة خالية إلا من بصيص من نور، وإلا من قطة تحك جسمها في الجدار، وإلا من حذاء بازاء القطة، بدا في عيني

ص: 54

الرجل جميلاً، فأنطلق إليه يخبئه في ثنايا معطفه، ثم اندفع إلى الشارع في هدأة الليل وسكونه. ولقد غادر الفندق لم يشعر به أحد، ثم أسرع وتراءى له هو يسير على شاطئ البحر كأن كواكب السماء تتساقط رويدا رويدا لتغتمر في هذه اللجة، فقال:(يا عجباً! أكل شيء في الطبيعة والإنسان يريد أن ينهد؟) وظل يحدث نفسه هذا الحديث وهو يخب في الظلام بين الصخور المظلمة والبحر الداكن

ومضت نصف ساعة جلس بعدها ليلبس الحذاء المسروق، لقد بدا عليه السرور والفرح - بادئ الأمر - غير أنه ما لبث أن استشعر الحسرة تفجره وتكاد تعصف به، فراح يحدث نفسه (ماذا يكون لو أنهم تبعوني؟ سيقتلونني لاشك، ماذا تقول زوجتي إذن؟ ستقول: ماذا صنعت يا إيليا؟ أف تسرق حذاء؟ أي فرق بينك وبين من يسرق مليون ليرة، أيها السارق؟

واضطربت الفكرة في رأسه: (مليون ليرة! أين هي؟ أين أجدها لو وجدتها لا ختطفتها لا أني ولا أتباطأ!) ثم تمطى وهو يبسم لهذه الخاطرة، ومد رجليه وحرك أصابعه في الحذاء الجديد؛ يا عجبا! لقد رانت على نفسه سحابة سوداء من الكآبة مرة أخرى، وشعر بقدميه تتقدان، وبأصابعه تختلج كأنها تنفر من هذا الحذاء المسروق! لقد سار في طريقه متكاسلاً، ومتأبطاً حذاءه ليستطيع أن يلبسه إذا تبعه أحد؛ ثم اضطرب وتوزعته الأفكار السود؛ فهو يلتفت إلى وراء بين الفينة والفينة ليرى من عساه يتبعه

وانبثق الفجر كأنه شيطان مارد يحدجه بعينيه فيهما البغض والازدراء؛ يطل عليه وقد قنعته سحابة دكناء من الضباب لبيعث في نفسه الفزع والرعب، ولينذر بالفضيحة والويل؛ وهؤلاء الناس - عما قريب - ينسلون إلى القرية مارين به، وحين يسمعون قصة الحذاء المسروق يقول قائلهم:(نعم، لقد رأينا رجلاً هناك يسير مضطرباً، وقد تأبط حزمة بخبئها تحت معطفه. . .)

ورأى - وهو يسير - فلاحاً يسير الهويني، في طريقه إلى القرية، فخيل إليه أنه يحدق به، ويلتفت إليه بين الحين والحين وعلى شفتيه ابتسامة السخرية والتهكم

ثم. . . ثم انحسر الظلام عن نهار حزين كالح؛ وقد نشرت السحب ذوائب طويلة سوداء تصل بين الجبل الشاهق والبحر المضطرب؛ والغرباتن تمر به وهي تنعق نعيقها المشؤوم؛ وقد انطوى الجمال الذي أحسه بالأمس في هذه الناحية؛ وبدت له الحياة عابسة تبعث في

ص: 55

النفس الألم والضيق، ودوت في أذنيه أصوات تفزعه من مكانه لأنه رأى فيها أصوات الذين من خلفه يقصون أثره ويسخرون منه؛ فاستبدل حذاءه القديم الممزق بالحذاء الذي سرقه، ألقى به في ناحية ثم انطلق

لقد ألقى بعض همه حين ألقى الحذاء المسروق، ولكنه مي زال في اضطرابه، وخياله ما يفتأ يصور له أشياء! فهذان العاملان اللذان قضى معهما ليلته، على أثره يطلبانه بعد أن وجدا الحذاء الملقى. . . سيلبيانه ثم يدفعان به إلى المحكمة، وهناك. . . وهناك. . .؛ وتراءى له جماعة يعذبونه ويعذبونه حتى يعترف. . .

ماذا تقول زوجته حيت يترامى الخبر؟ وتأججت الفكرة برأسه يؤوثها الإجهاد والبرد والجوع، فأنطرح تتنازعه الخواطر المظلمة كما تتناول الرياح الشديدة العاصفة سحابة في كبد السماء؛ ورجع إلى نفسه يلومها على أن طوحت به الأيام في هذه المتاهة، يضرب في الأرض، ويفقد الراحة والطمأنينة في وقت معاً؛ ثم هو لا يطلب إلا سراباً أو أملاً كالسراب، ومن يدري؟ لعله لا يستطيع أن يأتي بالحدة القاطعة يثبت بها أن أغسطينو هو عمه. . . وبرعم هذا فهو قد ألصق بنفسه عاراً لا يغسل

نكص الرجل على عقبيه ممتلخ العقل، مأخوذ اللب، يحدق في الحذاء الملقى في ذهول وبلاهة، أفيواريه التراب؟ أنه إن فعل فما غير من الحقيقة التي في رأسه! أن هذا الحذاء مسروق، وأنه هو السارق. . .

وتردد إيليا حيناً، ثم هوى إلى الحذاء يخفيه تحت طيات معطفه، وارتد إلى القرية لا يستطيع أن يهبطها إلا أن يسدل الليل أستاره، لقد غبر يوماً كاملاً لا يطعم شيئاً، فأحس بأعصابه تتراخى ومشى الهوينى يترنح كأنه عود ذاو تعصف به الريح الهوج، وولج الفندق ثانية وكأنه في حلم، وعلى شفتيه كلمة الاعتراف؛ غير أنه وحد المكان هادئاً كأن شيئاً ذا بال لم يكن، ومر فما تعلق به بصر، ولم تحم حوله شبهة؛ فتناول طعامه، ووضع الحذاء مكانه الأول، ثم ألقى بنفسه في لجة من النوم العميق الهادئ، فما استيقظ إلا عند ظهر اليوم التالي. وحين هم من مرقده اشترى رغيفاً بما بقي معه من مال ثم سار. .

وبد الجو في ناظري إيليا - مرة أخرى - جميلاً، والوادي كأنه يبسم في رقة وظرف، والنبات الأخضر تنبعث منه القوة والنشوة، وهو يندفع في سيره يفور نشاطاً وحيته على

ص: 56

رغم هذا الحذاء الممزق الذي تموج فيه قدماه، وهو - هو هذا الحذاء - كان يوقظ الرحمة والشفقة في قلوب الذين يرونه فيمنحونه بعض الخبز واللبن يبلغ بهما

وبلغ دار عمه وقد أجهده المسير وأضناه التعب، ولكن الأمل كان يشرق في عينيه فيدفعه إلى الأمام. . . لقد مات عمه منذ ساعات قليلة، وراحت الخادم تنظر إليه في دهشة وهي تعجب:(أأنت ابن أخيه حقاً؟ لماذا لم تسرع إلى هنا؟) ولكنه وقف صامتاً، فاندفعت هي تقول:(لقد أرسل إليك منذ ثلاثة أيام وانتظر. . . انتظر طويلاً وهو يذكرك، ثم بدا له أنك نسيته ففقد الأمل. وحين أحس بالموت يكاد يقصم عوده أوصى بكل ما يملك إلى اليتامى من أبناء البحارة). . .

فارتد إيليا إلى داره يحمل إلى زوجته الحبيبة إلى نفسه خيبة الرجاء وضيعة الأمل وهو لا يستطيع أن يقول شيئاً. . .

ك. ح

ص: 57