المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1004 - بتاريخ: 29 - 09 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٠٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1004

- بتاريخ: 29 - 09 - 1952

ص: -1

‌تجلد يا قارون باشا!

لك الله يا مسكين! لم تعد باشا بعد يوليو، ولن تعود قارون بعد أكتوبر!

ذهب اللقب وضاع (الطين)، فلا رأس يشمخ ولا لغد ينتفخ! وخلا

الدوار والإسطبل، فلا ثور يخور ولا فرس يصهل! وخوي القصر

والديوان، فلا حاجب يسعى ولا حاسب يحسب! وخفت الصوت الراعد

فلا (شخط ولا نطر)، وخرس اللسان البذيء فلا نهر ولا قهر!

لم يبق لك من ثارئك الفاحش الضخم، إلا جسد بض، وبطن شحيم، ووجه جهم، وذهن مغلق، وحس نظلم، وجهل مطبق، وسمعة قبيحة! وكانت هذه المزايا التي مازك الله بها مستورة بالطين فما كان يراها أحد. فلما كشفوا عنك غطاء الذهب، واستردوا منط جلال اللقب، بدوت في شرفة القصر عارياً من زينة الجسد والروح، كما بدا فاروق في شاطئ كابري عارياً من زينة الملك والإنسان!

أنا والله شامت بك يا قارون! لطالما قرعت سمعك وسمع الأمير بزواجر النصح الخالص، ولكنكما لم تكونا يومئذ تصدقان أن للناس رباً يمهل ولا يهمل، وأن للعدل نوراً يخبو ولا ينطفئ، وأن للشعب وعياً يضعف ولا يموت! وها هو ذا غضب الله يحل، ونور العدالة يشرق، ووعي الأمة يستيقظ؛ فهل أغنى عنكم النضار الذي كنزتموه، والعقار الذي حزتموه؟ لقد أخذتكم صيحة الجيش بالحق، فآمنتم لأول مرة أن الناس عبيد الله، وأن الوطن ملك الجميع، وأن الملك أحد الناس

أنا والله شامت بك وبأمثالك يا قارون! كان كل منكم حاشية كحاشية فاروق، وزبانية كزبانية جهنم! حاشية تحبب إليكم الفسق، وتهون عليكم الإثم، وتوفر لديكم المتاع. وزبانية يعقدون لكم دم الفلاح ذهباً، ويحولون إليكم عرق الأجير فضة. ثم لا يشيرون عليكم أن تعملوا لعبيدكم ما يعمل الفلاح لمواشيه: يغذي البقرة لتحلب، ويقوى الثور ليحرث!

لقد أصبحتم بكفرانكم لنعم الله ناساً من أقل الناس، تذوق ألسنتكم الحلو والمر، وتحس نفوسكم العز والذل، وترجون الدستور كما نرجو، وتخشون القانون كما نخشى. وستنسون من طول ما يلح الغلاء وتفدح الأعباء، أنكم كنتم من الطبقة التي أقامت نفسها بقوة المال

ص: 1

وسطوة الحكم بين الله وبين عباده، تملك الأمر والنهي، وتعطي الحياة والموت، وتضع يدها في يد إبليس، لتنقض ما أبرم الله، وتفسد ما أصلح الدين

كنت يا قارون تكره العلم لأنك تحب الجهل، وتوالى الظلم لأنك تعادي العدل؛ فماذا تصنع اليوم وقد أصبحت محتاجاً إلى العلم لتعمل، ومفتقراً إلى العدل لتعيش؟

إن في مذكراتي وذكرياتي افانين من مخازيك يا قارون، لو نشرتها على أعين الناس لأنكروا أنك منهم، وأشفقوا أن تعيش فيهم؛ ولكني أتأدب بقول الرسول الكريم: أكرموا عزيز قوم ذل، وغنى قوم افتقر!

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌رسالة المسجد في ظلال النهضة الجديدة

للأستاذ محمد عبد الله السمان

أعتقد أن وزير الأوقاف فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري لم يقبل هذه الوزارة إلا وفي مخيلته رسالة الإصلاحية يبغي تحقيقها، وفي نفسه ثورة انقلابية يود إشعالها، مستعيناً على تحقيق رسالته وإشعال ثورته بنضارة شبابه وسداد رأيه وقوة عزمه، ومستمداً التأييد من هذا العهد الجديد القائم إلى أسس ثابتة من الإصلاح

وأعتقد مرة أخرى أن وزير الأوقاف هذا ينال ثقة كبرى من شعب مصر على اختلاف أحزابه وهيأته. ولا سيما شباب الطليعة الذي يقدر ثقته، ويحسن الظن بها. وما أكثر ما يئس الناس قبلاً من إصلاح وزارة الأوقاف وفقدوا الأمل كله في إنقاذها من أوحالها وأثقالها وأوزارها! ولكن ما أكثر ما يملأ الرجاء اليوم قلوبهم وما ينبعث الأمل في نفوسهم، واثقين كل الثقة من إصلاحها وإنقاذها على يد وزيرها الشاب الناهض الذي لا يقر العجز ولا يلين لليأس ولا يؤمن بالتقهقر، ولا يرضى الفشل ثمرة لجهده الجبار الذي يهب له صحته وراحته

ونحن لا يعنينا حل الوقف الأهلي، ولا تنظيم الوقف الخيري، ولا وضع حد لفوضى الصدقات والخيرات. بقدر ما يعنينا رسالة المسجد في ظلال وثبة الجيش الجبارة، والنهضة الجديدة المباركة، وبرنامج الإصلاح الشامل المنشود، لأن الوقف بنوعيه يهم فئة من الشعب، ونظام الصدقات يجب ألا يكون من مقومات الأمة في عهدها الجديد

أما المسجد فيخض الشعب بأسره، وهو ضروري له، لأننا نبغي بعثه من جديد، وتكوينه التكوين السليم، حتى نؤهله للوقوف بجانب الشعوب الناهضة الحية التي أبت إلا حياة العزة والكرامة والمهابة فكان لها ما أرادت

كان المسجد في ظلال العهود الإسلامية الأولى معبداً تؤدى فيه الشعائر، ومعهداً تدرس بين جدرانه شتى العلوم ومختلف الفنون وندوة يروج تحت سقفه ألوان من الأدب المصفى، وبرلماناً شعبياً تلتقي تحت قبته الآراء الحرة، وترسم خطط النهضة، وبرامج الإصلاح وكانت خطبة الجمعة بياناً شاملاً عن سياسة الدولة وشؤونها وخطواتها وكان أن نكبت البلاد الإسلامية بعدئذ بعهود حائرة حكمتها حكماً إقطاعياً فإجراء أصاب فجوره وفساده

ص: 3

أسلوب الحكم؛ كما أصاب الشعب والعلم والأدب والفن حتى المسجد لم ينج من شره لأنه لم يكن يملك غير الشر، ولم تنله رحمته، لأنه لم يكن يملك ذرة واحدة من الرحمة

إن ذلك الحكم الإقطاعي الذي حكم بلاد المسلمين في القرنين الأخيرين وقف بالمرصاد للمسجد لأنه البوتقة التي تصهر فيها قوى الشعوب، وتتكون من بخارها الصيحات الجريئة، والآراء الحرة فعولت على أن تجعل منه مجرد معبد تؤدى فيه شعائر الدين ليس إلا وتجعل من خطبة الجمعة منشوراً دورياً، يزهد المسلمين في الحياة الدنيا وزينتها، ويحذرهم مغبة التكالب على الثروة والجاه والسلطان، ويذكرهم بسكرة الموت وظلمة القبر، وهول الموقف، ويروج بينهم للصبر والمثابرة، والتسليم والمسالمة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خشية الفتنة، والغفلة عن ظلم الولاة وطغيان الحاكمين وجبروت السلطان حتى لا يموتوا ميتة جاهلية. . .!

واليوم وقد وثبت مصر هذه الوثبة المباركة، وبدأت تتحرك وفق أرض المنانة قافلة الإصلاح في غير توان أو تلكؤ؛ يجب أن يعود للمسجد شأنه فتعود مكانته إلى قلوب الناس من جديد، والمسجد الجديد يجب أن يشمل الإصلاح مكانه وإمامه، فمتى وجد المسجد المنظم النظيف وجد الشعب نفسه منجذباً إليه يؤثر الصلاة تحت سقفه على الصلاة في بيوته، ومتى وجد الخديب الحر اللبتي القوي؛ وجد شباب الطليعة المثقف نفسه منجذباً إلى المسجد ليفيد من المعاني الإسلامية الحية التي تزيده ثقافة دينية فوق ثقافته العصرية

إن هناك مساجد ضخمة كبرى تهوى إليها الآلاف يوم الجمعة وما أن تسمع خطبة الجمعة من شيخ كهل لا يقوى على النطق فضلا عن الخطابة وهي لا تزيد على كلام مكرر ركبك ذي أسلوب معقد عقيم! ما أن تسمع مثل هذه الخطبة حتى تريد عن المسجد ضيقة الصدر كئيبة النفس - وبجانب هذه المساجد الضخمة مساجد صغيرة أشبه بالزوايا، موزعة في الأزقة والحارات والدروب، لا تشعر بالدنيا، ولا تشعر الدنيا بها! قد عين لها خطباء من الشباب الكفء القدير، القوي في تفكيره وأسلوبه ومنطقه، فإذا كان الضروري للعهد البائد المنقرض أن يبقى هذا الوضع الشائن ليضمن غفلة الشعب وغفوة الرأي الحر، فأي مبرر لأن يظل كما هو اليوم، ونحن في ظلال حياة جديدة هي في مس الحاجة إلى الشعب القوي ليكون دعامة لها وسياجا لبنائها

ص: 4

وهناك مسألة لها أهميتها، فالمعروف أن الدروس التي في المساجد دينية محضة تشتمل في معظم الأحيان على ألوان من التفسير والفقه والتوحيد والحديث ومزيج من القصص الركيكة، فلماذا لا يكون بجانب هذه الدروس ولا سيما في المساجد الكبرى بالعواصم دروس أخرى في السياسة والأدب والفلسفة والتاريخ والاجتماع وغير ذلك، وتشرف الوزارة على اختيار المدرسين - بشرط أن يتطوعوا للمساجد المشهورة، وتترك للأئمة في المساجد الأخرى حرية الاستعانة بمن يشاءون، وبذلك نضمن رواداً للمساجد من الطليعة الناضجة شبابا وكهولا، ونخطو بالمسجد خطوة موفقة نحو المكانة التي تليق ببيوت الله. . .؟

هذه همسات خفيفة نرجو أن تصغي لها أذن وزير الأوقاف الموثوق بكفاءته وإخلاصه لرسالته - والله الموفق

محمد عبد الله السمان

ص: 5

‌العلم والمال

للدكتور أحمد فؤاد الأهواني

ليس للعلم في ذاته قيمة، وليس للمال كذلك في ذاته قيمة، وإنما تتغير قيمة كل منهما بالنسبة للآخر، حتى إذا تبدلت ظروف أحدهما فارتفع أو انخفص، ارتفع الآخر أو انخفض تبعاً لذلك

وقد كان للعلم في العهد السابق على الانقلاب الأخير قيمة معينة بالنسبة للظروف الاجتماعية السائدة حينذاك، والتي كانت تخضع إلى حد كبير إلى عامل أساسي عظيم الأثر هو المال. فقد كانت الثروة هي المقياس لجميع الأشياء، حتى إذا تبين للناس أنها المحرك الأول في الحياة، وأنها هي التي تجلب حاجات المعيشة، ووسائل الرفاهية، وأسباب اللهو والزينة، مما كان فتنة الناس وقبلتهم، أقبلوا على المال يقتنونه بشتى الوسائل، شريفة كانت أم غير شريفة، لا يحلفون في سبيل ذلك بشيء، حتى لقد أخضعوا العلم نفسه للماس، فأصبح يباع ويشترى، وتطرق إلى بيعه وشرائه أسباب الفساد والرشوة والمحسوبة، كما تطرق الفساد والرشوة والمحسوبة في كل شيء آخر في الحياة

فإن قلت: وهل يخضع العلم للمال؟ وكيف كان ذلك؟ قلنا: ألم يبلغك نبأ المعلمين الذين يحملون العلم ويتجه إليهم الطلاب يلتمسون عندهم هذه البضاعة، كيف انغمسوا إلى الأذقان في (الدروس الخاصة) يزعمون أنها أجر على التعليم، وحددوا للساعة أجراً أخذ يرتفع إلى أن بلغ قيمة لا يطيقها أوساط الناس وأصبحت ترهق ميزانياتهم. ولم تكن بدعة الدروس الخاصة معروفة من قبل، اللهم إلا في نطاق شديد الضيق، لأن المعلمين كانوا يقومون بمهنتهم خير قيام، ويؤدونها أحسن أداء، ويكفيهم في ذلك أن الدولة قد تعهدت بمعاشهم، وأعطتهم الرواتب للقيام بهذا العمل وتنفيذه. وقد شاعت هذه البدعة حتى بلغت أسوار الجامعة واقتحمتها وأصبحت شيئاً مألوفاً في معظم كلياتها. وهذا أعظم باباً من أبواب الفساد

ولم يقنع المعلمون بالأجر يأخذونه على الدروس الخاصة، فتهافتوا في جميع أنواع التعاليم على تأليف كتب يتجرون في بيعها، ويفرضونها فرضاً على الطلاب، سواء أكان ذلك في مدارس الروضة أم في المدارس الابتدائية والثانوية، أم في كليات الجامعة. وهذا باب آخر من أبواب الفساد

ص: 6

وهيأ الجشع لبعض المعلمين أن يتجروا في الامتحانات، فيهبونها لمن لا يستحق في نظير مبلغ معلوم، وفاحت رائحة تزكم الأنوف، وضبطت حوادث كثيرة من هذا القبيل. وهذا باب ثالث من أبواب الفساد

جملة القول: هبطت قيمة العلم بالإضافة إلى المال، وتلوثت أيضاً أقدار العلماء والمعلمين، وهم حملة راية العلم، أصبحنا نجد رجالاً لا يمتون إلى العلم الصحيح بصلة يتصدرون المجالس ويتبوءون أرفع المناصب، ويتحكمون في المصائر، ويحكمون على غيرهم، وهم أبعد ما يكون عن المعرفة وعن صفات العلماء

والآن وقد قام الانقلاب على هدم أقدار الناس الذين يعتمدون على المال فقط، ومن أجل ذلك أصر الموجهون للثورة على تحديد الملكية، فلا غرابة أن تتغير قيمة العلم ومنزلة العلماء مع تغير قيمة المال

وما دامت الثروة قد أوشكت أن تفقد ما كان لها من سلطان ونفوذ وسحر وأثر في النفوس، فسوف يقضي على ألوان الفساد الذي تطرق إلى أبواب العلم

والموقف الذي تقفه مصر اليوم هو أشبه شيء بما كان يجري في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، حين تفشت الديمقراطية وهي حكم الشعب، ثم فسدت هذه الديمقراطية، وانتشرت طائفة من الفلاسفة والمعلمين يعرفون باسم السفسطائيين، يعلمون الناس الخطابة والبيان لحاجتهم إلى هذه الأسلحة في المجالس النيابية. ولكنهم كانوا يتناولون أجوراً باهضة على التعليم، ولم يكن غرضهم العلم لذاته؛ بل تعليم الخصم كيف يتغلب على خصمه بالحجة باطلة كانت أم صحيحة

فما أشبه العهد السابق بعصر السفسطائيين!

فلما جاء سقراط كان أول همه أن يكافح تلك الجماعة، فكان يقوم بالتعليم دون أجر، مع أنه كان فقيراً، يمشي في الأسواق حافي القدمين. وعلة الرغم من صلته بكثير من الأغنياء كان يرفض أن يمد يده إليهم

ثم كان ينشد في تعليمه الحق الخالص، لا يبغي تزييفاً أو نفعاً أو شهرة أو تغلباً على خصم. وذلك سخط السفسطائيون عليه، ودبروا له المحاكمة المشهورة في التاريخ، والتي انتهت بالحكم عليه بالإعدام. ولكم الروح التي بثها سقراط هي التي أثمرت وسرت ونجحت، فكان

ص: 7

أفلاطون ثمرتها، ثم أر سطو من بعده، واستتبت قواعد العلم على أسس صحيحة بعيدة عن السفسطة

وجدير بمصر اليوم أن تكافح جماعة السفسطائيين الذين ألبسوا الباطل أثواب الحق، ونشروا أسباب الفساد، وهبطوا بالعلم والتعليم درجات ودرجات

فلا أجر على التعليم إلا ما تدفعه الدولة

ولا تجارة في الكتب

ولا مساومة على الامتحانات

ولم تكن هذه المفاسد كلها مجهولة في السنوات الماضية، فقد كتب كثير من أحرار المفكرين في الصحف ينادون بمكافحتها والقضاء عليها، واجتهد بعض وزراء المعارف أن يلتمسوا لها حلاً فأمروا بمنع إعطاء الدروس الخاصة، وأصدروا المنشورات التي تحرم على المعلمين القيام بها. فكانت تلك المنشورات حبراً على ورق، وظلت تجارة الدروس شائعة رائجة

ولجأ بعض الوزراء إلى إلغاء الامتحانات أصلاً، ونقل التلاميذ من عام دارس إلى عام آخر بمجرد الحضور، واكتفاء بتقارير المدرسين. ولم يحل هذا الإجراء المشكلة، بل زادها تعقيداً على تعقيد

ولم يكن من الميسور ولا من المعقول أن تصلح حال العلم والتعليم في وسط موبوء، كله مفاسد وشرور ومحسوبة وشذوذ، ولذلك كان طلب الإصلاح في تلك الظروف من المحال

فلما أجتث الرأس الفاسدة، والحاشية التي كانت تبث الفساد في كل ركن من أركام الحياة، لأن معظم أفرادها من العامة بل وسفلة القوم، ونحن نعني ذلك لأن الحاشية كانت من الخدم! ويحضرني بهذه المناسبة وصية لابن سينا في تعليم الرجل أبناءه: هي (ألا يتركهم في أيدي الخدم حتى لا يتطرق إليهم الفساد، ولا يتخلق بأخلاقهم) نقول لقد مضى عهد الخادم الجهل الذين كانوا يتصدرون الدولة ويعدون بحكم مناصبهم قدوة لغيرهم، وأصبح الطريق مفتوحاً لمن يتصف بخصلتين أساسيتين هما: العلم والخلق، وذهب إلى غير رجعة من يسلك الطريق بالمال

غير أن انهيار أصحاب المال لا يكفي وحده في إصلاح الحال؛ فأنت تعرف ولا ريب

ص: 8

سلطان العادة على النفوس. وقد درج الكثيرون فيما سبق على كسب المال من طريق العلم والاتجار فيه، وتزييف الكتب ودفعها إلى السوق، متسترين باسم الألقاب العلمية التي حصلوا عليها بأسباب غير شريفة. وهؤلاء وأولئك لن يعفوا عن باب اعتادوه وكان يدر عليهم الذهب. وسوف يكون موقفهم كموقف الأحزاب السياسية التي رفضت الدعوة إلى التطهير حتى أرغمت عليه

لذلك نحن في حاجة إلى تطهير جبهة العلم من الأدعياء السفسطائيين بحركة جريئة تجتث الرؤوس الفاسدة، وقد تعفنت من الفساد، ولا يرجى معها إصلاح

إن قوة الأمة تقاس بانتشار العلم الصحيح بين أبنائها، لا بمقدار ما يملكه أفرادها من مال. وجدير بمصر وهي في فجر ثورتها أن تعول على الطريق الجدي الموصل حقا إلى تقويتها، وهو العلم. ولن يتيسر ذلك إلا بالإصلاح هيئات التعليم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعمل الخالص لوجه العلم والابتعاد عن فتنة المال كما كان الحال في صدر الإسلام، حين كان العلماء يقومون بتعليم الناس حسبة لوجه الله، لا يتناولون على تعليمهم أجراً. بل إن فقهاء الدين أصحاب المذاهب كأبي حنيفة وأبن حنبل، لم يعرف عنهم التكسب بالفقه، بل كان للواحد منهم صناعة يعتمد فيها على معاشه، مثل أبي حنيفة الذي كان بزازاً

فأين علماء اليوم من علماء الأمس؟

عاش علماء الأمس فقراء طول حياتهم، فخلد اسمهم على الزمان، وظلت آثارهم باقية حتى اليوم، وتنعم علماء اليوم في رغد من العيش وفيض من الثروة، فقتلوا أنفسهم، وقتلوا أمتهم معهم

فليبتعد العلماء عن فتنة المال حتى ينزهوا العلم عن الشوائب، وحتى يكونوا قدوة صالحة للطلاب وعاملاً في بناء مجد مصر

ليبتعدوا عن هذا كله قبل أن تمتد إليهم يد الثورة فتحرقهم

أحمد فؤاد الأهواني

ص: 9

‌عبد الله بن الحسين وعباس الثاني

للأستاذ أحمد رمزي

بقية من نشر في العدد 948 - 2 سبتمبر 1951

كتب عبد الله بن الحسين مذكراته وطبعها في لندن وجاء في نسخة بالإنجليزية وقعت ليدي، اطلعت فيها على الفصل العاشر المسمى (الحرب)، وكانت إحدى المجلات الأسبوعية قد نشرت قسماً منه في مصر نقلاً عن الصفحة 128 جاء فيه (لقد زارني الخديو عباس في عمان وكان ذلك إبان حكم الملك فؤاد الأول لمصر وقال لي الخديو (هذا هو القدر وأنا غير نادم على شيء، لقد تعبت بعد أن حكمت 25 سنة كاملة وأن عمي الملك فؤاد الذي يحكم مصر الآن يعاني ما كنت أعانيه - إن من الصعب أن ترضي شعبنا - الشعب المصري - ومن الصعب أن ينتهي الاحتلال البريطاني لأن الإنجليز أقوى منا بحيث لا نستطيع طردهم) ثم قال لي الخديو بصوت حزين (إن الشيء الوحيد الذي أنا آسف عليه فعلاً هو أني أعيش بعيدا عن البلاد الإسلامية فلا أستطيع أن أرى مآذن المساجد أو أسمع الأذان للصلاة منبعثا منها، إني أخاف أن أموت بعيدا عنها وأن أدفن في أرض غريبة

ولما اطلعت في الأصل الإنجليزي على هذه الفقرة بالذات عادت إلي ذكريات الحوادث والأيام التي عشتها بمدينة القدس بين سنة 1935، 1937 فقد حضرت طرفاً من هذا الموضوع الذي أثاره عبد الله بن الحسين وكان لي معه حديث فيه، كما أنني دعيت إلى حفلة أقامها الخديو السابق، ولما استأذنت الحكومة في حضورها جاءتني برقية غريبة تقول بادعاء المرض والتزام الفراش في نفس الوقت الذي كنت مقيما فيه بالفندق الذي نزل فيه الخديو السابق

إن حوادث هذه الأيام تقع في شهر يناير سنة 1936 ومقابلة الخديو عباس مع بعد الله بن الحسين تقع في شهر رمضان، أما الدعوة إلى حضور مأدبة الخديو السابق فقد كان محددا لها يوم 19 فبراير سنة 1936

ولشرح ما جاء في تلك الأيام عدت إلى مذكراتي في تلك الفترة بالذات التي حضر فيها الخديو السابق إلى مدينة القدس ونزل في فندق الملك داود (كنج دافيد) وقام زيارة القنصلية

ص: 10

المصرية وطلب إلي بعد تقديم القوة له أن يرى المكاتب وطريقة العمل فيها. فرافقته في زيارته وقدمت إليه الموظفين، واحداً واحداً، وكان السرور باديا على وجهه لأن بعد سنوات طويلة اتصل لأول مرة بعد اعتزاله الحكم بمكتب مصري رسمي تابع للحكومة المصرية التي بقي على رأسها اثنين وعشرين عاماً

وقد لاحظت بعد وصوله كثرة عدد الرواد المصريين في فلسطين ولكل منهم وجهته الخاصة وكانت آمالهم تتجه إلى تنسم أخباره، وكان من بينهم من يعرف جيداً كيف يستغلون الخديو السابق ويحصلون على أمواله، وكان منهم من أتقن طريقة استغلال مصر لمنفعتهم والقيام برحلات على حساب المصاريف السرية للتمتع بؤرية فلسطين

وكانوا يحضرون إلى القنصلية للتحية، ويكفي الحديث معهم عدة دقائق لتفهم الوضع الصحيح لعواطفهم واتجاهاتهم، فقد زارني كثيرون من رجال السياسة والأعيان وأهل الرأي ورجال الصحافة. اذكر من ذلك تصريح أحد الصحفيين المعروفين الأب بقوله لي (إن إحدى الجرائد المصرية المشهورة لم تكن على وفاق تام مع السراي الملكية، وأنه وفق بناء على جهوده إلى إزالة هذا البرود وذلك حينما اقنع صاحب هذه الجريدة بأن يطبع عدداً ممتازاً خاصاً بأعمال فؤاد الأول في المدة التي حكم فيها) صرح بهذا لي في الوقت الذي كان دائم الاتصال بالخديو السابق ويعمل لحسابه. . .

وكان عباس حلمي الثاني يتبع نظاماً خاصاً للأكل، ولذا اعتاد الحضور إلى الفندق في الساعة السابعة مساء لتناول العشاء، وكان ينتهي نته في الساعة الثامنة وهو الوقت الذي أدخل فيه قاعة الطعام. فكان يتفضل بتحيتي ويدعوني للجلوس معه في ردهة الفندق وهناك يجتمع حوله الزوار المصريون فتأتيه أنباء المفاوضات القائمة بمصر بقصر الزعفران وما تم في الجلسات من المناقشات وما تبودل من الرأي فيها، وكان يعلق على ذلك جميعه بأسلوب الرجل المتمكن فهمه لتطور سياسة بلاده وعلاقتها يتطور السياسة العالمية

وفي بعض الأحيان كان يحضر المجلس المرحوم سليمان فوزي فيحدث كيف كان أحد الذي ضربوا بالمسجد الأقصى عند اجتماع المؤتمر الإسلامي الذي عقد هناك فأثار ضحك المجلس بأسلوبه الفكه النادر

وفي ليلة من الليالي بعد انصراف الخديو السابق التفت إلى أحد المشتغلين بالسياسة في

ص: 11

مصر ووجه حديثه إلى قائلا (لا تنسه يا رمزي في تقاريرك التي سترسلها حتما عما دار في هذه الجلسة من أحاديثنا) وهنا جمد الدم في عروقي ورددت عليه بقولي: (إن لحكومة مصر ألف وسيلة لكي تعلم ما دار في هذا المجلس من الأحاديث وهي لا شك ستعلم ما دار هنا، أما أنا فلا أجد فيها من الأهمية والخطورة ما يصح أن تعلق مصر أهمية عليه؛ ولكني أذكر جيداً كيف اجتمع البعض في تركيا وقابلوا الخديو الذي كان جالسا معنا منذ لحظة: وحينما انصرف وانفض الجمع بادر كل واحد لتقديم تقرير هزيل عما تم في هذه المقابلة وما تحدث به إخوانه وأصحابه) واستأذنت للذهاب إلى حجرتي

وإني لأعجب لهؤلاء الذين يملأهم الغرور، ويدعون العلم بالسياسة وستظاهرون بانتقاء الأخبار والتقرب زلفى إلى ذوي السلطان، ويتنقلون بين مختلف الأحزاب والهيئات، كيف كانوا يعيشون ويحملون في وقت دائم الحركة والعمل والإنشاء

وقد ملأ الأسى نفسي لما فكرت في هؤلاء النكرات وأنا أقلب صفحات مذكراتي عن تلك الأيام فوقع نظري على ما كتبته في يوم 4 فبراير 1936

(حضر إلي إدوارد صمويل نجل هربرت صمويل المندوب البريطاني الأسبق في فلسطين، وهو يشعل وظيفة وكيل مصلحة المهاجرة بحكومة الانتداب. . . فقال لي

(إن الصحافة المصرية تصل بانتظام كل يوم إلى فلسطين أي في اليوم الذي تصدر فيه بالقاهرة، ولها تأثير غريب في عقلية أهل البلاد العرب فهي تلهب حماسهم وتجعلهم يفتحون أنظارهم كل صباح على أحوال العالم الخارجية والاتصال بتطورها)، وقال (إنه علم بأن الوزارة المصرية الجديدة أقدر من سابقتها على فهم مركز مصر الدولي)

ثم أردف بقوله: (إن مركز قنصلية مصر هنا هام لكثرة المصريين المهاجرين إلى فلسطين ولكثرة أعمالها واتصالها بالهيئات الرسمية وغير الرسمية (يقصد الوكالة اليهودية والهيئات العربية) ولكن حكومة مصر لا ترسل إلى هذا المكان إلا من كان مغضوبا عليه في بلاده) وهنا قاطعته وقلت (أنت مخطئ في هذه الناحية لأنني كنا أشغل وظيفة أقل من هذه ثم رقيت إليها) قال: (أقصد أن حكومة مصر لا تقدر هذا المركز تماماً ولا تعلق عليه ما يستحق من أهمية. وقد سمعت من الكثيرين من رجالكم الرسميين وغيرهم من أن القناصل المتقدمين في السن والذين لا يصلحون في شيء هم الذين يرسلون إلى القدس)

ص: 12

ثم صرح بما يأتي (إن شرق الأردن تحسد فلسطين على حالة الرواج فيها، وأهل فلسطين يحسدون مصر لأنها بلاد من أغنى بلاد الأرض وبشكل لا يتصوره أحد منكم. ويظهر أن الحكومة المصرية ورجالها الرسميين لا يقدرون هذا وكانت كلمته بالإنجليزية)

ففي الوقت الذي يتحدث فيه ابن هربرت صمويل وهو بريطاني يهودي عن هذه الأمور الهامة التي ذكرتها وعن إمكانيات مصر التي لا يمكن تحديدها من ناحية الثروة والانتعاش والتنمية الاقتصادية ويظهر قلقه من أثر الصحافة المصرية في نهضة الشعوب العربية كان جماعاتنا من المصرين يفكرون في نقل حديث عن بعضهم أو يظهرون أهميتهم في التقريب بين صحيفة يومية ورجال الحاشية بإخراج عدد ممتاز من أعمال الملك السابق فؤاد الأول

في غمرات هذه الحوادث تلقيت الدعوة التي أشرت إليها لحضور المأدبة التي أقامها الخديو السابق في فندق أريحا ودعا إليها المندوب السامي البريطاني وبعد الله بن الحسين وطائفة من رجال حكومة الانتداب وحكومة شرق الأردن، ولا شك في أن حضور ممثل ممصر في تلك المأدبة كان لازماً إن لم يكن لإعطاء صورة واضحة عما دار في تلك المأدبة فعلى الأقل لإظهار أن ما تم الاتفاق عليه بين العرش الخديو السابق كان جدياً ولا أثر لبقاء أي اختلاف بين الجالس على العرش وابن أخيه

ولكن تلقيت رداً على برقيتي التي أرسلتها إلى الخارجية أدهشني غاية الدهشة، وهو الذي يقول (الزم حجرتك وادع المرض)؛ وكان عبد الله البشرى في معية الخديو السابق، يتصل بي كل يوم لمعرفة رأيي في قبول الدعوة أو رفضها. فلما علمتا بمضمون هذه البرقية الرمزية لم أجد مناصاً من اعتذار، ولكن الأسلوب الذي فرض عليّ أن أعتذر به لم يقنعني. . وفي صباح اليوم التالي وهو يوم 18 فبراير نشرت الصحف خبر زوبعة ترتب عليها فقدان عدد من مراكب الصيد المصرية على شواطئ فلسطين، وأن بعض البحارة وصل إلى الموانئ في غزة ويافا؛ فانتهزت فرصة هذا النبأ، واتخذته مبرراً لتغيبي عن القدس واعتذاري عن قبولي دعوة الخديو السابق. وكنت تلقيت في نفس اليوم دعوة من راغب النشاشيبي عن حفلة شاي أقامها في منزله للخديو السابق؛ فبدأت بالاعتذار عنها

ص: 13

لاضطراري للسفر ثم اعتذرت عن مأدبة الخديو السابق في اليوم التالي

ونشرت صحف يافا خبر وصولي لتتبع حوادث مراكب الصيد المصرية التي تعرضت للخطر بعد الزوبعة التي هبت في البحر الأبيض المتوسط؛ وفعلا ذهبت إلى يافا وتنقلت منها إلى غزة وما حولها

وبعد ثلاثة أيام عدت إلى مدينة القدس. ولما قابلني الخديو السابق ابتسم، فقد كان يعلم عن أساليب الحكومة المصرية في أيامه وبعد عهده أكثر مما أعلم، وإن كان أقرني على الطريقة التي اتبعتها

كان اتصالي بحكومة شرق الأردن دائماً وباستمرار؛ ولما اقترب شهر رمضان وكنت في ذلك الوقت أتم صيامه كاملاً سواء كنت في الشرق أو في الغرب، رأيت من واجبي أن أذهب إلى عمان وأهنئ عبد الله بن الحسين بحلول هذا الشهر المبارك وأعلمه بأنني سأقضيه في مدنية القدس، ولن أحضر لزيارته قبل حلول عيد الفطر لأقوم بواجب التبريك

قمت مبكراً على نية قضاء ليلة بعمان، أرتب فيها مواعداً للمقابلة ثم أعود في اليوم الثاني، وكانت دهشتي عظيمة حينما دخلت حجرتي فأعلمت بأن الشريف جميل ناصر رئيس الديوان والسيد الخطيب مستشار الأمير ينتظرانني بحجرة الاستقبال، فنزلت لمقابلتهما حيث أخبرني الأول بأن الأمير يدعوني لتناول الغداء معه، وأنه في شدة الاشتياق لرؤيتي ولا يقبل أي اعتذار للتخلف عن هذه الدعوة. فطلبت منهما إمهالي لتغيير ملابسي ثم ذهبن برفقتهما إلى قصر الإمارة، حيث استقبلت استقبالاً كما يقول الأتراك (فوق العادة) ورافقني في الدخول إلى الأمير ضابط مصري اسمه خاطر، كان يعمل في الجيش الأردني، التحق به بعد ترك خدمة الجيش المصري في السودان وحضر هذه المأدبة الأمراء أنجال عبد الله بن الحسين، والشريف جميل ناصر والد الملكة زين ومستشار الأمير وغيرهم، ولم يدر في المأدبة حديث خاص، وعند انتهائها أخذني عبد الله بن الحسين، فسرت برفقته إلى حجرة الاستقبال الكبرى حيث أجلسني على يمينه وأقفلت الأبواب وراءنا

قال بلهجته العربية الحجازية (إنه جد حريص إلى علاقات المودة والصداقة التي تربطه بالعائلة المالكة في مصر، وعلى رأسها فؤاد الأول وهو لا ينسى ما غمره به محمد علي مؤسسها من الإنعام على عائلة الشريف بما مقداره خمسة آلاف فدان من أراضي مصر

ص: 14

وهو في تصرفاته وأعماله يرغب رغبة أكيدة في أن يكون محل رضا الجالس على عرش مصر. . .)

(بل هو يؤمل في ألا تفسر دعوته الخديو السابق إلى عمان تفسيراً يسئ إلى العلاقات القائمة بين البيتين العلوي والهاشمي؛ وأما الخديو السابق فرجل قد انتهت أطماعه، ولم يعد يرغب في شيء من مظاهر هذه الدنيا، وأنه أبدى لعبد الله بن الحسين رغبته في أن يرى بلد إسلاميا في شهر رمضان، بعد أن أمضى السنوات الطوال بعيداً عما تعود أن يراه في شهر رمضان من سماع الأذان والدعوة إلى الإفطار، وفرح الشعب بحلول شهر الصوم، ولذلك دعاه عبد الله بن الحسين إلى تناول طعام الإفطار لديه، وليس في ذلك أية رغبة لإحراج مصر وحكومتها، وإنما هو أداء لواجب صداقة وعلاقة قديمة)

ولقد دهشت لكل ما سلف، فأنا لا أعلم بهذه الدعوة، ولم أحضر للاحتجاج عليها، ولا أدري ماذا دار في خلد عبد الله ابن الحسين ولا في خلد الخديو السابق، ولا في فكر رجال الانتداب البريطانيين في فلسطين وشرق الأردن، وإنما جئت مهنئا بحلول شهر الصوم، جئت مهنئا الجالس على عرش شرق الأردن بحلول هذا الشهر المبارك، ولم أجد شيئاً أقوله سوى أن صارحته بما جئت من أجله، وأكدت عليه أنني لا أعلم شيئا، ولا أدري هل صدقني عبد الله بن الحسين في ذلك أم اعتبر مصارحتي له نوعاً من السياسة الملتوية والدبلوماسية الشرقية التي اعتاد عليها رجال الشرق في مواجهتهم الأمور واهتمامهم بالصغائر

والحقيقة التي أعلمها عن عبد الله بن الحسين رحمه الله، وعن المرحوم عباس الثاني، إنهما كغيرهما ممن أسندت إليهم الشؤون العامة والسيطرة على أجزاء من أقطار الشرق، يتلهفون لمعرفة أخبار الناس وتتبعها؛ وأذكر على سبيل المثال اليوم الذي جاء فيه أحد رجال سوريا الذين تنقلت بهم الأيام بين خدمة عبد الله بن الحسين والحكومة السعودية وقبل ذلك حكومة سوريا، وكيف تقرب من مجلس الأمير بمجموعة من الأخبار التي أتى بها من الحجاز عن أنباء الملك أبن السعود وتصرفات الأمراء أبنائه

وأذكر جلسة مع عبد الله بن الحسين، والتليفون لا ينقطع ينقل أخبار سيارة المندوب البريطاني بين جسر بنات يعقوب وأربد واتجاهها إلى جسر المجامع. .

ص: 15

إن اهتمام رجال الحكم في الشرق بتتبع أخبار بعضهم بعضاً في الوقت الذي كانت الوكالة اليهودية تنشئ وطناً قومياً على أسس ثابتة، أمر أصبح الآن ظاهراً واضحاً للعيان. .

إن الحياة كانت تدب في فلسطين تحت معول الحضارة الحديثة بينما كنا نحن نغط في نوم عميق وسبات لا نهاية له، حتى تنبه الشرق تحت ضربات النكبات والهزائم والأرزاء

أحمد رمزي

المدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي

ص: 16

‌الاتجاهات الحديثة في الثقافة الأوردية

للدكتور عمر حليق

لعل أبرز الظواهر في حاضر الحياة الفكرية في الباكستان هو العكوف عن التقليد الأعمى والانسياق التام في تيارات الثقافية الغربية التي كانت تهيمن على الحياة العقلية في القارة الهندية قبل تقسيمها إلى هند وباكستان

وجدير بالذكر أن أثر الثقافة الغربية مع الإنتاج الفكري في القارة الهندية لم يكن في جملته سيئ النتائج. فقد أولد هذا الأثر اتجاها ملحوظا لتوجيه الحياة العقلية هناك على أساس مناهج البحث العلمي الحديث. بحيث أخذ إنتاج الهند والباكستان يتميز بطابع الدقة وعمت الفكرة التي يلمسها كل من أتيح له الاطلاع على البحوث القيمة التي عالجت مشاكل الساعة سواء في الدراسات العلمية للتراث الإسلامي والهندوس أو في الشعر والنثر الأوردي، أو في الإنتاج الفني الذي أخذ ينمو هناك نمواً سليماً

ولكن الظاهرة الفريدة في حاضر الثقافة الأوردية هي انفراد حفظة الثقافة في الباكستان - إثر ميلاد هذه الدولة الإسلامية - في العكوف عن جعل الحياة العقلية والأدبية والفنية هناك صورة مشوهة للثقافة الغربية وصدى سطحي العمق للتيارات الأدبية والفنية التي تتسرب إلى حاضر الثقافات الآسيوية من أوربا والعالم الجديد

فقد شعر حفظه الثقافة الأوردية في الباكستان أن الانسياق في التغذي بالصورة المتوهمة للثقافة الغربية قد أخذ يولد في الأوساط الثقافية هناك لونا من التشويش قد يؤدي إلى توجيه الحياة الفكرية في هذه الدولة الجديدة على نمط لا يتمشى مع روائع المجتمع الباكستاني وتراثه الإسلامي وقضاياه السياسية ومشاكله الاقتصادية والاجتماعية

وثمة أمر آخر دفع الباكستانيين إلى مراقبة تيارات الثقافة الغربية المتسربة إلى مجتمعهم مراقبة نبيهة. . . ذلك هو ازدياد الشعوب إيمانا بأن دعائم الفكر الغربي لم تستطع أن تثبت صلاحها لتوطيد الاستقرار في الغرب نفسه وفي المجتمع العالمي الأكبر

ومما فرض على حفظة الثقافة الأوردية في الباكستان هذا التحفظ في نشاطهم التوجيهي. . الأحداث السياسية والأوضاع الاقتصادية الطارئة التي جاءت في أعقاب التقسيم، وتعرض الدولة الباكستانية الجديدة إلى مشاكل إدارية واجتماعية نشأت عن طبيعة التكوين الجغرافي

ص: 17

لهذه الدولة الناشئة، عن تشرد الملايين من المسلمين الهنود نتيجة للصراع الطائفي الذي صاحب التقسيم، ونزاع كشمير وقضايا الحدود ومياه الري المشتركة بين الهند والباكستان وما إلى ذلك من القضايا الفرعية التي لها صلة مباشرة بوضعية الباكستان الإقليمية

وفي مثل هذا الجو وجد الكتاب والشعراء الباكستانيون أنفسهم منساقين إلى معالجة المشاكل الوثيقة الصلة بحياتهم اليومية، وأن يكتبوا وينظموا في أمور وأحداث هي من صلب الأحوال والأوضاع التي تكتنف دولتهم ومجتمعهم الجديد

ومن الاتجاهات المتولدة عن هذا المناخ العقلي الجديد ما ألم باللغة الأوردية في السنوات الأخيرة من تطور. فالمعروف أن نشوء اللغة الأوردية جاء نتيجة لأثر اللغتين الفارسية والعربية على اللهجات الأصلية في شبه القارة الهندية (وعلى الأخص في السند والبنجاب) عندما خضعت للحكم الإسلامي، فأصبحت الفارسية والعربية بمثابة لغة الاشتقاق للغة الأوردية التي تطورت بدورها فوطدت لنفسها استقلالاً لغة يا سليماً

ويبدو أن اللغة الأوردية في الباكستان أخذت اليوم تقوم بنفس الدور الذي قامت به اللغتان العربية والفارسية منذ قرون. فبعد أن توطد الاستقلال الثقافي للغة الأوردية، وبعد أن تثبت الكيان لدولة الباكستان أخذت الأوردية تؤثر تأثيراً مباشراً في اللهجات المحلية في القطاعات التي تؤلف الأمة الباكستانية

فلقطاع البنجاب مثلاً تقليد عريق في الأدب مدون باللغة البنجابية - تقليد أصوله في التراث والثقافة الإسلامية التي عاش عليها شعب البنجاب حقبة من الزمن. وتمتاز اللغة البنجابية بغزارتها في الإنتاج الأدبي إجمالاً، في الشعر الغربي والأدب الشعبي على وجه الخصوص. وللمناطق الشمالية الغربية من الباكستان لغتها المحلية الخاصة - لغة البوشنو - وللتراث الإسلامي في تلك المناطق دعائم متينة

ولقد وجدنا أن تيارات الثقافة الغربية كانت قبل تقسيم شبه القارة الهندية تجتاح الحياة العقلية هناك، وأن ذيول التقسيم قد فرضت على المثقفين الباكستانيين رغبة ملحة في صيانة حياتهم العقلية من عناصر التشويش في التقليد والانسياق الأعمى، وفي توجيه هذه الحياة نحو مشاكل الساعة والظروف والأوضاع الطارئة. ولذلك لم يكن لهؤلاء المثقفين بد من أن يمعنوا في صيانة الدعائم التي يعيش عليها مجتمعهم - لا في مجال السياسة

ص: 18

فحسب، بل في أصول الفكر وعناصر الثقافة العامة. فأخذوا يعملون في يقظة ونباهة على صيانة الثقافة الأوردية من التيارات الضارة التي كانت تتعرض لها - سواء جاءت هذه التيارات من الغرب البعيد أم من الهند القريبة. وهذه النزعة (القومية) في حاضر الثقافة الأوردية جاءت نتيجة لعوامل منطقية فرضتها طبيعة الأوضاع وفلسفة الحكم وأسس التطور الاجتماعي الذي يعمل أولو الأمر في الباكستان على تحقيقه بوحي من الإسلام وتراثه. ولذلك لم يجد حفظه الثقافة الأوردية في الباكستان صعوبة في تعميمها - على صورتها الجديدة - في المناطق والقطاعات التي في لغاتها المحلية قسط واف من التراث الإسلامي - كما هو الحال في لغتي البنجاب والبوشنو

ولكي يضمن الباكستانيون اطراد النمو في نهضتهم اللغوية الجديدة - بعد أن اختاروا العكوف عن التأثر بالاستعارة المشوهة من ثقافات الهندوس والأوربيين والأمريكان - اتجهوا إلى تعزيز الروابط اللغوية والثقافية مع الشعوب الإسلامية الأخرى، وما رغبتهم في إحلال اللغة العربية مكانة رفيعة في الباكستان إلا تحقيقاً لهذا النحو وتعزيزاً لهذه النهضة

وكان من نتائج هذا التنظيم الفكري أن أخذ الأدب الأوردي في الباكستان ينمو ويزدهر فلا يقتصر على إحياء الذخائر القديمة في قالب مجدد أو أن يعالج الحياة الجديدة في إطار الإبداع الفني، بل أخذ يستمد الإيحاء من التراث الأدبي والفني العريق الكامن في الثقافات المحلية التي تعيش عليها الجماعات ذوات التقاليد الاجتماعية الزاهية التي تؤلف قطاعات الباكستان الشرقية والشمالية والغربية. فقد ترجمت عشرات من مقطوعات النثر والنظم من هذه اللغات المحلية إلى اللغة الأوردية، وأخذت الأوردية تتغذى بالصور الفنية الرقيقة التي خلدها شعراء الغزل والأدب الشعبي في البنجاب، وقصائد البطولة والرجولة التي يتميز بها شعراء البوشنو - بطولة مستمدة من طبيعة الإقليم وأسلوب الحياة الذي يسود في مناطق الحدود في الشمال والشمال الغربي

وعلى الرغم من تحفظ المثقفين الباكستانيين في تأثرهم بالتيارات الفكرية الأجنبية الخاطئة، فإن إقبالهم على ترجمة روائع الآداب العالمية تشهد لهم بحسن الاختيار وسلامة الذوق

أما طابع الأدب الأوردي الجديد فهو اليوم يتميز باتجاه عام لمعالجة شؤون الناس والحياة في جلد وتعمق، وفي إطار العناصر الفنية المكتسبة من هذا التمازج الجديد بين تراث

ص: 19

الثقافة الأوردية والذخيرة الفنية من التقاليد الطريفة الزاهية للمناطق التي تؤلف المجتمع الباكستاني

وهذا الطابع الجدي ملموس في فن القصة القصيرة والقصة الطويلة، وفي الشعر والنقد الأدبي

وقد أتى على الأدب الأوردي حين كان العنصر الرئيسي المهمين على إنتاجه يكاد يقتصر على مشاكل اللاجئين والصراع الطائفي الذي عصف بالناس وبعواطفهم في ذيول التقسيم. ويبدو أن نجاح أولى الأمور والشعب في الباكستان في احتضان هؤلاء المنكوبين والتخفيف من محنتهم، قد ترك أثره في انطباعات الأدباء والشعراء. فأصبح تطرقهم إلى هذه المحنة أقل غزارة مما كان عليه قبل بضع سنوات

أما اليوم فقد تطور فن القصة وعلى الأخص القصة القصيرة في الباكستان على يد نفر من الكتاب الناشئين الذين نافسوا قدامى الكتاب منافسة شديدة. طمعوا الأدب الوردي بنوع سليم من القصة التي تحمل في ثناياها أشياء أهم من التسلية أو إثارة الغرائز

وفي مجال القصة الطويلة لا يختلف الباكستانيون عن غيرهم في معظم الشعوب الشرقية التي لم يرسخ فيها هذا النوع من الإنتاج، فالأدب الأوردي كثير من الآداب الشرقية العريقة ليس في تراثه ذخيرة من القصص الطويلة على النحو الذي عرفته الآداب الغريبة، ولا يزال إنتاج القصة الطويلة في الباكستان مبعثر الجهد ضئيل القيمة في الناحية العددية والفنية

أما الشعر فقد أخذ يقتدي بألوان العروض والمواضيع التي تعالج عادة في الشعر الأوردي الحديث وأخذ الغزل القديم يفقد مكان الصدارة التي كان يحتلها في الحياة الأدبية وبعض الشعراء الناشئون ستطرقون إلى الغزل التقليدي في مستهل حياتهم الأدبية إلا أن قرضهم للشعر يتطور فيها بعد ويتخذ طابع التجديد في أبواب العروض وفي مواضيع النظم وفي الصور الفنية التي تحتويها العقائد

أما أدب المقال والنقد الأدبي والدراسات التحليلية فينزعهما ثلاثة من فطاحل الأدباء: مولانا عبد الجق، ومولانا سيد سليمان ندفي، وميرزا محمد سعيد، ويشاركهم في ذلك الأديب الكبير الشيخ إكرام الذي يتوخى في دراساته وتحليله توجيه الإنتاج الفكري في باكستان

ص: 20

ليعزز المبادئ والأهداف التي تكتنف هذه الدولة الناشئة بتوطيدها في ذلك الجزء من العالم الإسلامي

ويضاف إلى هؤلاء نفر من الجامعيين في معاهد (البنجاب)(والسند) و (دكما) و (لاهور) المنهمكين في تزويد المكتبة الأوردية بالبحوث والدراسات العلمية في مختلف ألوان الثقافة الجامعية

ومدارس النقد الأدبي في الباكستان تدين بالاجتهاد لطائفة من الكتاب والشعراء الذين استهلوا حياتهم الأدبية بقرض الشعر أو إنشاء المقالات ثم ما لبثوا أن انصرفوا عن ذلك إلى معالجة النقد لا لأنهم فشلوا في الإبداع الفني فلأكثرهم إنتاج فني مرموق المكانة ولكن لرغبتهم في تخصيص اجتهادهم لخدمة النهضة الثقافية في الباكستان وتوجيه الموهوبين من كتاب الجيل الجديد وشعرائه لبناء نهضة أدبية سليمة الدعائم عميقة الفكر رفيعة في إبداعها الفني

وقد أثمر هذا الجهد نتائج طيبة، فاستطاع الشعر مثلاً أن يتخلص من رخاوة مدرسة (طاغور) وابتعادها عن شؤون الساعة وانسياقها في مشاعر عواطف صلتها بالأدب الحي واهنة ضعيفة. ولم تقتصر هذه الثورة (الشعرية) على موضوع القصيد بل تعدته9 إلى فن العروض، فأنطلق الشعراء في استنباط بحور جديدة على نحو ما يمارسه بعض الشعراء المحدثين في حاضر الأدب العربي، وازداد النظم بالشعر المنثور إلا أن كثير من أئمة العروض في الأدب الأوردي لا يزالون يلجئون إلى جزالة اللفظ ورصانة التعبير ليسبغوا على الشعر لوناً من القوة. وللشعر الرمزي في الباكستان أتباع ومريدون يغرمون بالإيجاز في الكلم والبراعة في اختياره على نحو ما تتطلبه الرمزية

وقد تزعم الأديب البنغالي الكبير (نصر الإسلام) الثورة على مدرسة طاغور، فقد لمس فيها رخاوة وخنوعاً لا يتمشى مع مطالب الحياة العقلية الإسلامية، ودعا نصر الإسلام إلى أن تكون صلى الأدب بالحياة السياسية والاجتماعية وثيقة متينة، ودواوين هذا الشاعر البنغالي تطفح بالقوة والنظرة العميقة فضلاً عن جزالة اللفظ ورقة الموسيقى ومهارة الصياغة وبلاغة التعبير

وفي الشعراء المجددين في حاضر الأدب الباكستاني شاب يجمع في القصيد بين الروعة

ص: 21

الفنية والنظرة الواقعية للصور والمواضيع التي يعالجها في شعره - هذا الشاعر هو (عبد الحسين) الذي يمتاز نظمه بالتعابير المستحدثة والنغمة الرقيقة والبلاغة المبسطة التي قال عنها ابن المقفع (إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها)

والتجديد في الأدب الأوردي في شرق الباكستان وغربيها لم يتعمد القضاء على تراث الماضي والذخيرة النافعة الكامنة فيه، بل إن النهضة الفكرية إجمالاً توخت استيحاء التراث القديم والكشف عن نفائسه. وهذا الاتجاه ملموس في البنغال الشرقية أكثر منه في المناطق الأخرى

وحركة بعث الذخائر الأدبية القديمة لا يقتصر على تراث الإسلام الذي اندثر تحت سيادة الهندوس الثقافية في تلك البقاع الإسلامية بل شمل أكثر نفائس الأدب الشعبي الذي سبق انتشار الإسلام. وقد تخطى هذا الإحياء حدود نشر القديم وتبويبه وتحريره في لغة الجيل فطعمت اللغة الأوردية بأكثر من ألفين وخمسمائة كلمة جديدة من مشتقات عربية وفارسية وجدت سبيلها إلى الأدب الشعبي القديم عن طريق الإسلام، وارتأى حفظة الثقافة الأوردية في الباكستان إحياءها وتغذية النهضة الأدبية بها

وإذا جاز للباحث عن حاضر هذه النهضة الثقافية في الباكستان أن يحصر أسسها في عنصر متميز، فإن هذا العنصر هو ازدياد الثقة بالنفس والشعور بالمسئولية في مجتمع اختار التراث الإسلامي نبراساً له واتخذ معاول العلم الحديث أسلوباً للتعبير عنه ولتعزيزه وتوطيده

وليس أدعي إلى الإيمان بمستقبل الثقافة الأوردية في الباكستان من أن يكون نبراسها هذا التراث العتيد وأن تكون معاولها واتجاهاتها متماشية مع مطالب الجيل الجديد

نيويورك

عمر حليق

ص: 22

‌الظلم. الجبن. الأنانية هذه هي أعداؤنا

للأستاذ محمد محمود زيتون

يتشدق الكثيرون بأن الفقر والجهل والمرض هي أعداؤنا التي يجب أن نكافحها، إذا أردنا صلاح أمر هذه الأمة، وأسارع إلى القول بأن هناك فرقاً بين العلة وأعراضها، وليس بدعا من الرأي أن يكون الظلم والجين والأنانية هي العلل الفتاكة التي تنمو في نفوس الأفراد والجماعات وتحطم كيان الأمم حتى يكون من أعراضها الفقر المدقع والجهل المطبق والمرض الفتاك

ومن بداهة العقل أن الظلم هو الصورة السلبية للعدل، والعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، من غير إفراط أو تفريط، بحيث تسير الأمور في هذه الدنيا على سواء، ومن مظاهر العدل أن ينسجم الفرد مع نفسه ومع غيره، وأن تتسق الجماعات والهيئات في نشاطها الاجتماعي، وأن تتعاون الأمة مع الحكومة، وأن تتناسق الدول بحيث تكون كفالة الأمن والسلام أمراً لازماً لا معدي عنه. وبعد: فإن من العدل أن تهدف الإنسانية إلى أسمى المثل، وتعمل على تحقيقها قولاً وعملاً

إما إذا اضطرب هذا الانسجام في الفرد والمجموع ساد الظلم في أقصى حديه: الإفراط والتفريط. وعمت الفوضى التي لا يصلح عليها أمر، وينعدم حيالها كل رجاء في الإصلاح والتقدم، وإن أقرب ما يحس به الفرد حينذاك هو الشعور بالفارق بينه وبين غيره، وقد يتنكب هذا الشعور كل حقيقة فإذا به يرد هذا الظلم الواقع على من بيده ملكوت كل شيء، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً

إنه تبارك وتعالى يأمر بالعدل وينهى عن الظلم ويبعث المرسلين مبشرين ومنذرين، ولقد جاء في الحديث القدسي عن رب العزة أنه يقول:(يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظلموا) ومن الطبيعي أنه إذا وقع الظلم انحلت القوى الفكرية، وانتشرت جراثيم الوهم، فلا مناص من أن يثوب المرء إلى رشده ويسحن التدبير ليوقن أن الظلم إنما هو (انحراف الموازين الموضوعة) وليس هذا قضاء حاتما ولا قدر لازماً، وإنما على الفرد والجماعة مكافحة هذا الانحراف وإلا حاق بهم ما يكرهون

قال أبو بكر (أيها الناس: إنكم تقرءون هذه الآية (يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا

ص: 23

يضركم من ضل إذا اهتديتم) وأني سمعت رسول الله يقول (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوه على يده، أوشك الله تعالى أن يعمهم جميعاً بعقاب) وماذا يمنع المرء أن يكون قادراً على رد الظالم وقد أعزه الله تعالى بقوله الكريم

(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، ولماذا يتخلى صاحب العزة عن سلاحه الذي به يسود، وهو يعلم أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وأن نصر المؤمنين حق. ولقد ساير الإسلام طبيعة البشر في مدارج الإسلام لدفع الظلم بالقلب، فإذا امتلأ بالإيمان نطق اللسان قوياً في الجماعة التي تقوى بدورها لدر كل منكر باليد حتى يزول، وهذا مصداق لقول الرسول (ص)(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)

وما كان لمؤمن أن يرضى لنفسه الضعف أو الوقوف عند مجرد الإنكار بالقلب، وذلك مما لا يؤدي إلى الغرض، وهو القضاء على الظلم، وإلا ارتفعت درجة الظلم كلما انخفضت حرارة الإيمان، ولذا يقول الرسول الأعظم (الساكت عن الحق شيطان أخرس)

إن الجبن الذي يقعد بصاحبه عن المغامرة في شرف دفع الظلم فتتفكك أوصاله وترتعد فرائصه، وتختل قواه، ويقبع في عقر داره، وينعقد منه اللسان إن لم يلجأ إلى الملق والنفاق، ليحجب أفاعيل الخور والهزيمة في نفسه، وهنا يزين له الشيطان مسلكه! فإذا بالجبان طاغية وباغية، وإذا بالرعديد كالصنديد إذا خلا بأرض طلب الطعن والنزال وحيداً

والأصل أن يكون المؤمن قوياً عزيزاً ليكون شجاعاً كريماً، يندفع إلى الحق في صراحة وحماسة، لا تأخذه لومه اللوام، وله في ذلك شرف المجاهدين في أشق ميادين الجهاد وهو النفس، وبهذا يرتفع لواء الخير وتعلو كلمة الحق، ويسود العدل، وما يلبث ضعاف الإيمان أن يتدافعوا نحوه، فتقوى قلوبهم، وتشتد سواعدهم في سبيل الله، والجبان لا يتخلف عن الركب القوي إلا لأنانيته الخسيسة، وحبه لنفسه المتهالكة الواهية، وإمعاناً في إخفاء ما يستذل العنق، وإبقاء على سر موغل بصاحبه إلى عيب دفين، فإذا به ينطوي على نفسه يكتم منافذها جهداً استطاعته، منزوياً بها عن الهواء الطلق والنور الصريح، وهنا يعقد له منطق التبرير ما يطمئن قلبه، بقول فيلسوف العرب ديكارت (عاش سعيدا من أحسن

ص: 24

الاختفاء). مثل هذا الشخص مريض، على المجتمع أن يعالجه، بل هو جاهل علينا أن نعلمه، فليسمع قول المتنبي شاعر البطولة:

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم

وليتمثل علو الهمة في الشافعي:

همتي همة الملوك ونفسي

نفس حر ترى المذلة كفرا

وعندي أن الأناني لص اجتماعي، لأنه إذا استغنى عن المجتمع بما لديه من مال أو جاه إنما يتسلل في الخفاء وبنهب عرق الكادحين ويمتص دماءهم، وهو في وكره البعد ينعم بالدفء والراحة، فهو يأخذ ولا يعطي

وما علينا إذن إلا أن نحطم أوكار الأنانية على أصحابها، وأن نسوقهم أمامنا إلى ميادين العمل حتى يتذوقوا مرارة العيش التي يمسي فيها العاملون ويصبحون. وهكذا يتدخل الفرد والمجموع وتتفاعل الحياة بينهما على نحو طبيعي تقدمي:

ولقد دل حديث الرسول (ص) على استمرار العمل الإنساني بقوله عليه السلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)

أما بعد: فليعلم كل من لا يعلم أن الفقر والجهل والمرض ما هي إلا أعراض الظلم والجين والأنانية؛ وهي بحق العلل الفتاكة، فلنحارب كل ظالم، وكل جبان، وكل أناني، وإليكم رائدنا قول الشاعر:

متى تحمل القلب الذكي، وصارما

وأنقاً حميا تجتنبك المظالم

محمد محمود زيتون

ص: 25

‌زعماء الحركة القومية السيد محمد كريم

للأستاذ عبد الباسط محمد حسن

(3)

بعد أن انتهى الفرنسيون من احتلال مدينة الإسكندرية أمر نابليون بإبقاء (السيد محمد كريم) حاكماً لها حتى يخلد الأهالي إلى الهدوء والسكينة، وينصرف الجميع إلى أعمالهم

وكان نابليون يعلم تماماً أن الأهالي وعلى رأسهم (السيد محمد كريم) لم يخضعوا له إلا إذعانا للقوة المسلحة، وأنهم يتحينون الفرص للثورة على الحكم الجديد، ولذلك عمل على التقرب إليهم لينال عطفهم، ويكسب مودتهم

وقد بين لهم أنه ما جاء إلى مصر - إلا ليحارب المماليك الذين استبدوا بحكم البلاد وحرموا الفلاح المصري ثمرة خيراته، واعتدوا على التجارة وأساءوا إلى أهل البلاد بما ارتكبوا من مظالم

وأخذ نابليون يذيع منشوراته على الأهالي، ليثبت هذه المعاني في نفوسهم، ويضمن ولاءهم للجمهورية الفرنسية، كما طلب أعيان الثغر وألزمهم بجمع السلاح، وإحضاره إليه حتى لا يفكر الأهالي في المقامة المسلحة

(لقد أخذتك والسلاح في يدك، وكان لي أن أعاملك معاملة الأسير ولكنك استبسلت في الدفاع؛ لذلك أعيد إليك سلاحك وآمل أن تبدي للجمهورية الفرنسية من الإخلاص ما كنت تبديه لحكومة سيئة)

ولم يكن هذا القول من جانب نابليون إلا تقديراً منه لجهود (السيد محمد كريم) وعلمه بما يشعر به الشعب نحوه من محبة وإكبار وتقدير

وقبل أن يترك نابليون مدينة الإسكندرية، عين الجنرال (كليبر) حاكما لدائرة الإسكندرية وضواحيها) وأوصاه بأن يعمل كل ما في وسعه لاستبقاء العلاقات الحسنة مع الأهالي وإبداء كل أنواع الاحترام للعلماء ورؤساء المشايخ في المدينة)

بهذا نرى أن (السيد محمد كريم) بقي في منصبه بناء على رغبة نابليون، ولكن هذا الحاكم الوطني المحب لبلاده، المخلص للسلطان العثماني خليفة المسلمين وظل الله في أرضه، كان يشعر بالكراهية والمقت لهؤلاء الحكام الأوربيين

ص: 26

وقد زاد من نفوره منهم وحقده عليهم أنهم فرضوا على الأهالي غرامة قدرها ستة آلاف جنيه تقريباً في الوقت الذي حل فيه الكساد محل الرخاء. . وانتشرت الفاقة والضيق بالأهالي بعد أن كانوا أوفر ثورة، وأحسن حالاً

وقد زاد من سوء الحالة أن الجنود الفرنسيين بدءوا يشكون من البلاد المصرية بعد أن ذاقوا ملذات المدن الإيطالية؛ وبعد أن وجدوا أن الأماني التي وعدهم بها نابليون لم تكن إلا مجرد وهم وخداع، وظهرت روح التمرد بين الجنود، فأخذوا يغتصبون ثمر الأشجار ويقطعون النخيل من جذوعه، ويعتدون على الأهالي المسالمين. .

ولقد ظلت روح التمرد والعصيان كامنة في نفوس الأهالي حتى أشعلها (السيد محمد كريم) وأوقد نارها من جديد

فاعتدى الأهالي على أحد جنود مدفعية الأسطول، وألقه جثته في الطريق، كما القوا في البحر خادم أحد الضباط فمات غرقاً وقد ثارت ثائرة (كليبر) وأراد أن ينتقم من الجناة. . ولكن لم يعثر لهم على أثر، كما تأكد لديه أن الجندي الفرنسي قد تعرض للقتل نتيجة لاعتدائه على الأهالي

ولذلك أصدر منشوراً إلى جنوده، طالباً منهم أن يحافظوا أنفسهم بحماية الأهالي والمحافظة عليهم، ومهدداً بالإعدام كل جندي يعتدي على حقوق المسلمين الدينية أو المدنية

ولم يقتصر السيد محمد كريم على إثارة روح الكراهية والثورة في نفوس الأهالي، بل جعل يتصل بجميع المدن والقرى التي يمر رجال الحملة الفرنسية ليعدوا للأمر عدته، وليقاوم نابليون وجنوده بكل ما استطاعوا من وسائل المقاومة

وقد حدث أن إحدى الكتائب الفرنسية خرجت من الإسكندرية لتقوم بحملة تفتيشية في بعض الجهات المجاورة - فلما علم السيد محمد كريم بما يعتزمه الفرنسيون، اتصل بالمدن والقرى القريبة، وطلب منها أن تقاوم الكتيبة، وتمنع الماء عن رجالها

فلما غادر الفرنسيون الإسكندرية، تابعوا سيرهم حتى وصلوا إلى دمنهور، وكانوا يجدون مقاومة شديدة من جانب الأهالي، كما قتل منهم ما يقرب من ثلاثين جندياً، ولذلك عادوا إلى الإسكندرية وهم في حالة سيئة، وقد ثبت لديهم أن الأهالي لم يخضعوا - بعد - للحكم الفرنسي، وأن هناك اتصالاً مستمراً بين الإسكندرية وغيرها من المدن والقرى

ص: 27

ولما علم الجنرال (كليبر) بما لاقته الكتيبة من مقاومة ومشقة، أراد أن يقضي على حركة المقاومة - ويقوم بعمل حاسميستعيد به هيبة الجيش الفرنسي، ويسترجع مكانته في نفوس الشعب، فأمر بالقبض على (السيد محمد كريم) وبعث به إلى أبي قير، تمهيداً لتوصيله إلى القاهرة، حيث يقابل نابليون، ويدفع عن نفسه التهم الموجهة إليه، وفي نفس الوقت، أرسل الجنرال كليبر كتاباً إلى نابليون يعرض فيه أمر السيد محمد كريم، ويطلب منه ألا يأمر بعودته إلى الإسكندرية حتى لا تعظم مكانته ويستفحل أمره - ويزداد نفوذه في نفوس الأهالي

وقد مكث (السيد محمد) في أبي قير أياماً. . طلب بعدها من الأميرال (بردي) قائد الأسطول أن يأمر بتوصيله إلى القاهرة. فأرسله الأميرال بدوره إلى رشيد. . ليبعث به الجنرال مينو إلى القاهرة. . .

ومما هو جدير بالذكر. . أن (السيد محمد كريم) على الرغم من أن دائرة حكمه لم تكن تتعدى الإسكندرية. . إلا أن شهرته قد انتشرت في جميع أجزاء مصر. . وأصبح المصريون - على اختلاف طبقاتهم - ينظرون إليه على اعتباره محور المقاومة للنظام الجديد. . وعلى اعتباره زعيمهم المعبر عن أمانيهم. . والمفصح عن آمالهم. . .

يقول الأستاذ عبد الرحمن الرافعي:

(وصل السيد محمد كريم. . إلى رشيد. . مطلق السراح، وكانت منزلته من نفوس المصريين قد عظمت بسبب اعتقاله. . وانتشرت محبته في كل مكان. . فلم يكد يعلم أهالي رشيد بمقدمه حتى سارعوا إلى ملاقاته بالحفاوة والتكريم. . ما اضطر الجنرال مينو إلى القبض عليه. . والإسراع بإرساله إلى مصر. . .)

وما كان السيد محمد كريم يصل إلى مصر. . حتى أصدر نابليون أوامره إلى الجنرال (ديبوي) حاكم القاهرة: بالتحقيق معه. . كما طلب منه أن يحاول إثبات التهمة عليه بمختلف الوسائل

ولم تكن هناك حاجة إلى التحقيق، فسرعان ما انتهى بثبوت التهمة عليه. . وإعلان خيانته للجمهورية الفرنسية

(وأصدر نابليون أمراً بإعدامه رميا بالرصاص. . ومصادرة جميع أملاكه وأمواله. . وسمح

ص: 28

له أن يفتدي نفسه بدفع ثلاثين ألف ريال في أربع وعشرين ساعة)

فرفض السيد محمد أن يدفع له هذا المبلغ. . لم يكن ذلك منه عجزاً. . أو حرصاً على المال. . وإنما كان إيماناً بالله. . . وإيماناً بأن الموت مصير كل إنسان. . ونهاة كل مخلوق

فليكن موته إذن على أيدي أعدائه. . وأعداء بلاده. . حتى يكون ذلك وقوداً جديداً للثورة. . . وباعثاً للمصريين على مواصلة الكفاح والنضال لتحرير بلادهم من أيدي أعداء الدين والوطن

ولقد نصحه أحد تراجمة الحملة بأن يدفع الغرامة. . وقال له:

(إنك رجل غني. . فماذا يضيرك أن تفتدي نفسك بهذا المبلغ. .

فأجابه السيد محمد كريم:

(إذا كان مقدراً عليّ أن أموت، فلا يعصمني من الموت أن أدفع هذا المبلغ. . وإذا كان مقدراً لي الحياة. . فعلام أدفعه؟؟)

وظل على رأيه. . إلى أن نفذ فيه حكم الإعدام. . وبذلك أصبح (السيد محمد كريم) بجانب زعامته للشعب، أول شهيد من شهداء الحرية، في عهد الحملة الفرنسية

هذه خلاصة موجزة، لسيرة ذلك البطل المصري، الذي استطاع أن ينفخ من روحه القوية، في نفوس مواطنيه، معنى الحياة الحرة الكريمة، والذي استطاع أن يثبت بكفاحه وجهاده أن مصر لم تكن تفتح أبوابها لكل طارق، وأن شعب مصر، لم يكن يتنازل عن حريته. . أو يفرط في كرامته. . لأي فاتح، مهما بلغت قوته، أو زادت سطوته. .

كما اثبت سجل النهضة المصرية، ملئ بآيات الشجاعة والمجد، حافل بصور الكفاح والتضحية. . . زاخر بضروب البسالة والإقدام. . .

عبد الباسط محمد حسن

ص: 29

‌أقلام الثورة

عمر عودة الخطيب

مهداه إلى صاحب العلم الثائر الأستاذ سيد قطب

ضاقت الكنانة ذرعاً برعايا الشيطان، الذين تربعوا على عروش الظلم والطغيان، وعاثوا في الأرض الفساد، وأذلوا رقاب الناس، واحتكروا أقوات الشعب، وكمموا الأفواه الثائرة، وحطموا الأقلام الطاهرة، فأرسلتها صرخة مدوية قوية زلزلت الأرض تحت أقدام الحاكمين، وقوضت دولة الفساد، وأفزعت هذه الحفنة من العبيد الجلادين، فطرد ملك مستبد، لينعم الناس بالحرية، وألغي البوليس السياسي ليتحرر الشعب من الخوف، وستوزع الأرض على هذه المواكب التعسة الكادحة لتشبع البطون الخاوية وتكتسي الأجسام العارية، وكانت - والحق - ثورة تليق بمجد مصر وشعب مصر

وإذا كان لا بد للثورة من عقول حازمة، وقلوب مؤمنة، وعزائم قوية، لتطهر الحكم من الفساد، وتنقذ الشعب من الشقاء، وتحرر البلاد من الأعداء، فهي أشد ما تكون حاجة إلى أقلام ثائرة، مدادها الإخلاص، ورائدها الحق، لتطهر النفوس من الضعف والخنوع، وتحرر العقول من الغفلة الركود، وتأخذ بيد هذا الشعب إلى ذروة عالية هو بها جدير

تريد الثورة أن يكون القلم جندياً شريفاً، يوقظ الأفكار الهاجعة، ويحرر القلوب الخانعة، ويخط رسالة المجد، ويكتب سطور القوة، ويلهب بكلماته حماس الشعب لكل إصلاح، ويقر بصيحاته الآذان الصم، ويفتح القلوب الغلف، ويبعث بصرخات الضمير الميت، ويبني بمداده حصن الحرية المكين، وصرح الخلق المتين

تريد الثورة أن تسكت هذه الأقلام الفاجرة، التي تغذت من الفساد حتى ترهلت، ورضعت من الإثم حتى ارتوت ومجدت الطغاة والمفسدين، وحاربت الهداة والمصلحين، وانغمست في التحلل والضلال، وماتت عندها الكرامة والرجولة؛ وفقدت معاني الشرف، وخانت أمانة الله والوطن. . . نعم تريد الثورة أن تسكت (أقلام الترفيه الماجن)، التي تتملق الغريزة الجنسية وتتلف أعصاب الشباب بسم الإباحة. . . هذه الأقلام التي كانت تجول في معارك الرقص مع حبائل الشيطان، والشعب يخوض معارك النار مع الأعداء؛ وكانت تنفق على غانيات باريس وفي نوادي لندن ونيويورك ألوف الجنيهات، والشعب يجود من ما لأبطال

ص: 30

التحرير في فلسطين والقنال بثمن اللقيمات. . . ثم تعود هذه الأقلام الرفيعة إلى مصر من رحلاتها الفاجرة، لتقص على هذا الشعب المسكين جمال الباريسيات وعناد الألمانيات وطيش الأمريكيات، وتقول له - بوقاحة سافرة - هات ثمن هذه الزاد الفكري القيم، الذي أتعبنا به أنفسنا، وأرهقنا بسببه أعصابنا وتكلفنا في سبيل جلبه، إليك وعثاء الطريق، وتكبد نفقات السفر!!. . ويصدق الشعب المسكين هذه الأكذوبة ويعطيهم بغير حساب، ويقبل على ما يكتبون، فلا يجد به سوى دعوات الفجور بأسلوب تفوح منه ورائح الإثم

تريد الثورة أن تسكت الأقلام المأجورة التي اشتراها الدولار وغذاها الاستعمار، وأمدها فلم المخابرات لتسبح بحمد الدخلاء وتروج لسياسة الأغراب، وتنشر على الناس أساطير الديمقراطية وأكاذيب الأهداف الغربية. . . هذه الأقلام التي ولدت في مصر وشربت من نيلها الصافي وعاشت من خيرها العميم. . استهواها السين وبرح بها هوى التايمز، فأنكرت قوميتها وجحدت شرقيتها، وكفرت بالأمة وسخرت من الشعب، وألقت في النيل بأحجار المقت والكفران. . فهي تتحدث - بإكبار - عن الإنجليز في بلادهم، وتنسى الحديث عن الإنجليز في مصر والشرق، وهي تعشق فرنسا بلد النور والحرية والإشعاع، وتعمى عما تعمله فرنسا من وحشية واستبداد في بلاد المغربي العربي. ثم تبلغ بها الوقاحة منتهاها حين تزعم أنها تدافع عن حق الشعوب المضطهدة، بمثل هذه الأساليب الرخوة المتهافتة، التي لا تصدر عن ضمير حر وقلب متأثر. . . والعجيب في هذه الأقلام أنها إذا ما رأت طلائع الثورة، ولمحت أشعة الفجر، وعرفت أنها ستفضح وينكشف عورها، خرجت من الظلام، وطامنت من كبريائها؛ ونزلت من أبراجها، وأدلت بدلوها، وبرزت أمام الناس أقلاما حرة نظيفة، بسطور من النفاق تزخرفها، تضحك بها على الشعب الذي خذلته في أيام المحنة، وسخرت منه حين كان يطال بالحربة والاستقلال

تريد الثورة أن تختفي من السوق بضاعة الأدب الأسود، أدب الميوعة والمجون، والنفاق والتهريج، ليحل مكانه أدب قوي رصين يستمد أصوله من الماضي التليد والحاضر المجيد، ويبني بحكمة وقوة حضارة مصر والشرق، ويؤيد بحرارة وإيمان آمال العروبة والإسلام. . . وأصحاب الأقلام يعرفون قبل غيرهم أن الشرق العربي والعالم الإسلامي يعاني أزمة خانقة، يثيرها أعداؤنا في كتلتي الشرق والغرب؛ ويرون فينا لقمة سائغة تبتلعها أفواه

ص: 31

المدافع، وهم لذلك يعدون لنا - ولنا وحدنا - وسائل التدمير والخراب، وأسلحة الحديد والنار. . ثم يضحكون لنا، ويزينون للمخدوعين منا مبادئهم، ويظهرون بأثواب الحملان الوديعة، التي تريد بنا الخير وتتمنى لنا السعادة والطمأنينة. . فمن واجب الأقلام هنا أن تنزل إلى الميدان، لتحذر الشعوب الغافلة من مكائد الاستعمار وأذنابه، وتنقذ المخدوعين من أنياب الذئب وأظفاره

ثم إن أصحاب الأقلام يعرفون قبل غيرهم أنه يجثم على صدورنا كابوس ثقيل من الفقر والجهل والمرض. . . كابوس صنعه هؤلاء المترفون الذين يعيشون في قصورهم الكبيرة، وينفقون الملايين الكثيرة، ويأكلون فلا يشبعون، ويشربون فلا يرتوون، ويرون بأعينهم الكافرة صوراً شاحبة حزينة لأناس معروقة العظام، بادية السقام، تهيم في الأزقة المظلمة الحقيرة، لتربض عند أكوام من (القمامة) تبحث فيها عن الفتاة الذي ركله السادة المبطلون يرون هذا من خلف أسوارهم المنيعة فلا يرحمون، ويسمعون الأنات الشاكية تنبعث من صدور الجائعين فلا يشفقون، إن أصحاب الأقلام يعرفون كل هذا فعليهم أن يدركوا بأقلامهم الثائرة أسوار الجلادين، ويبعثوا بأضوائهم الباهرة إلى أكواخ البائسين، لتحقق العدالة الاجتماعية، وتعم الأخوة الإنسانية، ويعيش الناس في أمن وسعادة ووئام

هذا ما تريده الثورة العاقلة التي خلعت ملكاً ظالماً، وأنقذت شعباً مظلوماً، وطهرت حكما فاسداً، وأيقظت شعوراً راكداً، وبدأت تبني للأمة مجتمعاً فاضلاً، وتهيئ لها مستقبلاً رغداً، وهي تهيب بالأقلام أن تسير مع القافلة نحو القوة والعزة والمجد. فهل تستجيب

عمر عودة الخطيب

ص: 32

‌رسالة الشعر

أحبابي الموتى

للأستاذ أنور العطار

فيا عهدهم لازلت نضرا على البلى

ترف رفيف النور في أضلع الزهر

أحن إليكم كلما ذر شارق

وأبكيكم ما عشت في السر والجهر

أحباي يا سؤلي ويا غاية المنى

طويتم ضلوع القلب في على الجمر

وبت أناجيكم اهفوا إليكم

واصبوا إلى لقياكم آخر الدهر

كأني لحن الحب قيثارة الهوى

أنوح على الأحباب بالدمع الحمر

أصوغهم شعرا يفيض مواجعا

وأنظمهم عقدا يتيه على الدر

وأودعهم قلباً تقطع حسرة

عليهم، وعيناً دمعها أبداً يجري

فيا عهدهم لازالت نضراً على البلى

ترف رفيف النور في أضلع الزهر

ويا طيفهم زدني اشتياقا ولوعة

يزدك الهوى ما شئت من دامع الشعر

فيا أيها الغادون لا البين صدهم

ولا حجبت أنوارهم ظلمة القبر

جفوني مأواهم، ضلوعي قبورهم

فيا قلبور خطها الحب في صدري

سلوا الجفن هل طافت به سنة الكرى

سلوا الليل هل دارت به مقلة الفجر

إلى الله أشكو ما أقاسي من النور

وما يتنزى في الخواطر من ذكر

بروحي أنتم من محبين ودعوا

فودعت أفراحي وفارقني صبري

ولم تؤوني الأرض الفضاء كأنني

سجين أقضي العمر في النفي والأسر

بعيد عن السلوان، صفر من الآلي

أشاع هواهم لذة الشعر في ثغري

فهل علم الأحباب أن خيالهم

سميري في حلو الحياة وفي المر

إذا نسي الإنسان في اليسر صحبه

فلا خير في التذكار في ساعة العسر

أأيامنا لا زلت معسولة الجني

كروض شذي رف في حلل خضر

أناجيك بالقلب اللهيف من الجوى

وأرعاك بالود البريء من الغر

وأسقيك دمع العين سقيا كريمة

إذا ضن جفن السحب بالساكب القر

سلام على تلك العهود فإنها

أمدت خريف العمر بالورق النضر

ص: 33

وزانت أناشيدي ووشت مدامعي

فمن لؤلؤ نظم إلى لؤلؤ

وما شئت من ظل رخي ومن شذا

وما شئت من طير يغني ومن

أماني في زهو الحياة وفجرها

مرصعة الأوفياء يا الممتع المغر

أراك بعيم قد تنكر دهرها

وما ألفت إلا الوفاء على النكر

وأصبوا إلى ذكراك والذكر راحة

لمن عاش في الهم المبرح والخسر

وأشتاق آلافا سقاني ودادهم

كؤوس الهوى حتى انتشيت من السكر

وحتى كأن الدهر طوع أناملي

ينولني قصدي ويبلغني أمر

إذا زرتني يا طيفهم في حمى الكرى

فقد زارني سعدي وعاودني بشر

وأشرقت الدنيا بعيني وازدهت

ليالي بالأنوار والأنجم الزر

وهون ما ألقاه من لاعج الضنى

وخفف ما أشكوه من ثائر الفكر

مررت على الدار التي غالها البلى

وقوضها حتى استحالت إلى قر

فنازعني قلب يذوب صبابة

إليها، ودمع لا ينهنه بالزحر

أطوف بها والروح يعصرها الشجا

ويعمرها بالبشر حيناً وبالذر

هنا الأهل والأحباب والقصد والمنى

هنا الملتقى بعد القطيعة والهجر

هنا تجثم الذكرى هنا ترقد الرؤى

هنا الموت يبدو في غلائله الصر

هنا يقرأ الإنسان سفر حياته

ويا هول ما يلقاه في ذيلك السر

صحائف إن قلبتها ازدتت حسرة

على ما بها من غائل الغدر والشر

هنا العبرة الكبرى التي دق شأنها

وأعوزها سبر فأعيت على السر

هنا يخشع القلب الشجي مرددا

كتاب الردى المحتوم سطراً إلى سطر

بنفسي أرواح رقاق حبيبة

مضخمة الأعطاف مسكية النشر

تأرج بالذكرى وتعبق بالهوى

كأن بها عطراً أبر على العصر

أعيش بها خذلان يسعجني الرضا

ويقنعني منها الخيال إذا يسر

سلام على الأحباب إن طيوفهم

لتملأ هذا الفكر بالنائل الغر

ولولاهم لم أجن ريحانة الهوى

ولولاهم ما شمت بارقة العبر

ولا صغت أنغاما لطافا شجية

أرق من النجوى وأصفى من الخمر

ص: 34

يرى المفرد الحيران فيها أليفة

وينسى بها دار الخديعة والمكر

عفاء على الدنيا فما هي لذة

إذا كانت في شطر وقلبك في شطر

ويا بؤس محيانا ويا طول غمنا

ويا شد ما نلقاه في الدهر من قسر

ويا شوقنا للصحب في غمرة الردى

وفي هدأة المثوى وفي رقدة العفر

نمر خيالات يوشجها الأسى

وننزع أثواب الحياة ولا ندري

ونطرح أياما ثقالا رهيبة

براء من الألوان خلواً من السحر

أنور العطار

ص: 35

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

الأدب في البصير

لفت نظري أخي الكاتب الأديب الأستاذ صديق شيبوب إلى احتفال الدوائر الأدبية الفرنسية هذه الأيام بذكرى مرور خمسين سنة على وفاة إميل زولا ومائة سنة على وفاة بول بورجيه

والأستاذ صديق شيبوب من ابرز كتاب الأدب المعاصر في الثغر الإسكندري؛ وقد شارك بجهود ضخمة في جماعة نشر الثقافة، وهو الآن محرر الصحيفة الأدبية الأسبوعية من جريدة البصير التي تظهر يوم الجمعة، والتي أنتظرها بشوق بالغ لأقرأ تلك الفصول الأدبية القوية التي يكتبها شيبوب فيسكب فيها عصارة مجهود ضخم، يبذله طول الأسبوع، فهي تحوي تلخيصاً وافياً لكتاب من الكتب الأوربية الجديدة وتعليق المترجم عليه

وجميل أن تظل صحيفة (البصير) التي تملأ أعمدتها بحديث المال والاقتصاد، محتفظة بذلك التقليد الجميل، تقليد الصفحة الأدبية الأسبوعية بعد أن هجرته الصحف اليومية أو حولته إلى صورة ليست من الأدب في شيء لإرضاء رغبات القراء، وغرائز الجماهير

وقد كانت بدعة الصحيفة الأدبية الأسبوعية قد انتشرت في الصحافة المصرية إلى ما قبل 1939 عندما بدأت الحرب العالمية، واضطرت الصحف إلى أن تلغي صفحات الترف منها واقتصرت على الأنباء الهامة

وكانت الصفحات الأدبية في البلاغ والسياسة والأهرام والمصري، تتناول الكثير من مشاكل الأدب وشؤون الفكر. . على نحو لا بأس به. وكانت تقوم المحاورات والمساجلات الأدبية بين كتاب الصحف اليومية وكتاب المجلات الأدبية، كالمسجلات التي قامت بين العقاد في الجهاد وطه حسين في الرسالة. . وغيرها

فأما انتهت الحرب العالمية وعادت الصحافة إلى التوسعة على قرائها بمزيد من الصفحات، كان الذوق الصحفي قد طور، وأخذ يمضي في طريق يمكن القول بأنه مضاد للأهداف الأدبية والفكرية العليا، فقد عنيت الصحافة بالأدب الخفيف أو أدب (الساندويتش) وحرصت على أن تقدم للقارئ القصة المثيرة، والصورة العارية، والفكاهة التافهة، باسم الطرائف

ص: 36

ورمت الصحف اليومية من هذا إلى تقليد المجلات الأسبوعية التي تعيش على إرضاء أهواء القراء، وبذلك انحسرت الموجة الأدبية تماما من الصحف اليومية وتوارت خلف بعض المجلات الأدبية الأسبوعية التي ما زالت تحتفظ بطابع الأدب الرفيع

الشاعرات

من الملاحظات الدقيقة الجديرة بالبحث والعلاج، ندرة الشاعرات بين فتياتنا ونسائنا المثقفات. ويقيني أن الأمر لا يقف عند الشاعرات فحسب، ولكن ينسحب على اللواتي يشغلن أنفسهن بالعمل الأدبي بوجه عام

فأنت لا تستطيع أن تحصي أكثر من شاعرتين أو ثلاث، لا يرتفع شعرهن إلى قاعدة الإجادة أو التفوق

وهناك أسماء كاتبات وشاعرات كانت تلمع قديماً، ثم اختفت وتوارت. . من أمثال ذلك الكاتبة (ملك محمود السراج) أين هي الآن، لماذا اختفت وراء السحب، لماذا اكتفت بحياتها المنزلية المحدودة؟ إن زميلاتها، أمينة السعيد، وبنت الشاطئ، وجميلة العلايلي، وغيرهن. . ما زلن يكتبن. . فلماذا تختفي هي!

وإذا كانت لا تحب الاتصال بالمجلات الأدبية فلماذا لا نرى لها بين آن وآخر كتاباً جديدا؟ إنها زوجة كاتب كبير واسع الأفق طالما أثار على صفحات المجلات فنوناً من الآراء الجديدة، قبل أن يشتغل بالسياسة، هو الدكتور محمد مندور، وما نعتقد أن الكاتب الكبير يحتجز هذه العبقرية أو يحول بينها وبين الضوء

أدب الانقلاب

لاشك أن الأدب في الشرق سيدخل في البوتقة ليظهر من جديد، فإن الانقلابات العسكرية التي وقعت في سوريا ومصر ولبنان خلال هذه الشهور السبعة، ستكون بعيدة الأثر في كيان الأمة العربية

وقد كانت هذه الأمة التي تمتد على ساحل البحر الأبيض من الشام إلى مصر كانت تعيش في مرحلة عصيبة عنيفة، قاست فيها الظلم والظلام والإرهاق. . خلال الفترة الأخيرة التي سبقت استجابة الجيش لرغبات الشعب في إقصاء الطغاة وإخراجهم وإقامة حكومات جديدة

ص: 37

تنبع من روح الشعب وآماله

وقد كانت الأمة العربية في لبيان وسوريا ومصر. . تعيش في ذلك الشقاء، وهي تحس بإرهاصات غروب دولة. .، وانتهاء جيل، و. . شروق فجر جديد

ولاشك أن ذلك الالتقاء النفسي الواضح بين الشام ومصر الذي يلقي أضواء متشابهة على التاريخ الماضي في مختلف العهود؛ يبشر بألوان أدبية جديدة ستظهر في الأفق في وقت قريب

الترجمة والشعر المنثور

ظاهرتان جديدتان، أو متجددتان في الأدب العربي والمعاصر، تبدوان مرة أخرى بعد أن اختفتا طويلاً. . هما العود إلى الترجمة وظهور الشعر المنثور مرة أخرى

بدأت النهضة الأدبية في أول أمرها بعد ثورة 1919 بالترجمة عن الآثار الأوربية، وقد كان في مقدمة روادها الزيات وطه حسين والسباعي وخليل مطران والمازني

ثم بدأ أدب الإنشاء والنقد والبناء، وساهم فيه هؤلاء الرواد بدور ضخم. . غير أن ظاهرة العودة إلى الترجمة بدت مرة أخرى في أفق الحياة الفكرية واتصلت في الأغلب بالآثار العلمية والتاريخية

وفي مقدمة الكتب المترجمة الجديدة: الوحدة الإيطالية (لبولتن كيم) الذي ترجمه الفريق طه الهاشمي، وهيلين كيلر للأستاذ مرسي قنديل، وتطور الزراعة للأستاذ نظيف وزير زراعة سوريا

أما الظاهر الثانية فهي (بدعة) الشعر المنثور. . .

لقد عادت مرة أخرى بعد أن اختفت وقتاً طويلاً. . وكدنا أن ننسى هذا اللون. . ويجيء هذا التيار هذه المرة من الشام ومن لبنان بالذات! فقد صدر في الأسبوع الماضي ديوانان منه (أمواج) للشاعرة هند سلامة و (لمن) للأستاذ ألبير أديب

ولاشك أن كتابين من لون واحد في وقت واحد يدعو إلى التسجيل والبحث

وعقيدتي أن هذا اللون هو من أدب الترف يمكن أن يظهر في الأمة بعد أن تستكمل أدوات قوتها وعوامل نضوجها. .، أما الآن ونحن في مرحلة (الثورة). .، وفي مواجهة الأحداث، أحداث التجديد والتغيير، والتحرير والتطهير؛ فما أحوجنا إلى الأدب الجاد الصارم

ص: 38

إن الشاعرة (هند سلامة) - زكم كنت أحب أن أعرف عنوانها لأكتب لها - تثير في نفس القارئ شعوراً، وهو مزيج من القلق و. . .، وما كان أغناها عن إثارة هذا الشعور، فنحن نطمع في المرأة الجديدة التي تستطيع أن تنقي جو حياتنا الفكرية والاجتماعية من الوساوس وأسباب القلق!!

وهذه قطعة تخيرناها من كتاب الشاعرة (هند) وراعينا فيها أهداف الرسالة بعنوان (لولاك)

أيها القلم. .

ها أنا ذي أودع قلبك. .

وأهمس في أذنك

أسرار أحلامي الأخيرة. . .

في طباعي شذوذ

إني أنشدك كلما ضاق صدري بالهجوم

وأثقلت قلبي الرزايا والمحن

ففي وشوشاتك للكلمة والحرف

ما يخفف عن القلب أثقاله

وفي دبيبك على القرطاس. .

ما يفك عن الصدر أغلاله. .

ويحملني بعيدة

بعيدة على أجنحة الأثير

لولاك يا قلم

ما اتسعت بي الأرجاء

ولما كنت خفيفة طليقة كالنسيم

رغم نفسي المثقلة

المقيدة بأسباب الحقيقة والوجود

لولاك

ما كان لي تعزية ساعات معدودة

ص: 39

ولكنت سلكت مسالك الناس

وكشفت لهم عن آلامي

ولكنني لم أجد قلبا كقلبك

يتسع لسبر أغواري

وكشف حنايا نفسي

أبثك لأعلن لك أسراري

وأطرح عليك أثقالي

وبعد فإنا موقن بأن الشاعرة (هند) لو كتبت هذه القطعة على أنها لوحة نثرية لجاءت غاية في الروعة، ولكانت أقوى ألف مرة، من هذا التمزيق والتقسيم والتقطيع لأوصال الكلمات والجمل حتى يمكن أن يطلق عليها اسم الشعر المنثور. . وما أثقله من اسم

أنور الجندي

ص: 40

‌الكتب

بلادنا فلسطين

(229 صفحة من القطع المتوسط طبع القاهرة 1948)

التاريخ القديم للشرق الأدنى

(266 صفحة من القطع المتوسط طبع بيت المقدس 1951)

تأليف الأستاذ مصطفى مراد الدباغ

للأستاذ علي محمد سرطاوي

الأستاذ، مصطفى مراد الدباغ، مؤلف هذين الكتابين، المفتش في معارف حكومة فلسطين سابقاً، والوكيل المساعد لوزارة المعارف الأردنية اليوم، وأحد أفراد أسرة الدباغ اليافية، التي اشتهر أفرادها بالفضل والعلم والأدب، ومنهم الشاعر المبدع المرحوم إبراهيم الدباغ في مصر، علم من أعلام المؤرخين المعاصرين، وقطب من أقطاب التربية والتعليم جمع إلى العلم الغزير، المثالية الإسلامية في أروع صورها

حصل على ثقافة عميقة الجذور في كلية المعلمين في بيروت زمن الحكم العثماني، بحكم ذكائه الذي جعله الأول على جميع الطلاب في جميع سنوات الدراسة، والتحق بالجيش، فصقلت خشونة الجندية الرجولة الفذة الكامنة فيه، وطبعته بطابع الصرامة والجد، في كل ما يتصل بنفسه وعمله من شؤون؛ والجندية كالنار، لا يخرج منها غير المعدن الصافي، والذهب الإبريز وحين كانت الجحافل التركية تتراجع أمام جيوش الثورة العربية، التي كان يقودها المغفور له فيصل بن الحسين، في الحرب العالمية الأولى. وفي وهاد الأردن، وأطراف الغوطة ومرتفعات الأرز، انتقاماً من وحشية الاتحاديين، متمثلة في فظاعة السفاح، الطاغية، جمال، الذي راح يطارد، في جنون السلطان المطلق، أحرار العرب، ويسوق إلى أعواد المشانق، الصفوة الممتازة من رواد الحرية في الأمة العربية، في عالية، وقد التفت حوله بطانة مجرمة من رجال السوء، والخونة المارقين في أردية الكهنوت الإسلامي، كانت تعمل في الوقت نفسه لحساب الحلفاء، وراحت تلك الفئة التي تجري في

ص: 41

شرايينها معاني الرق، تحرف كلام الله عن مواضعه إرضاء لطغيانه، وتفتيه في خيانة أولئك الأحرار، محللة له سفك دمائهم باسم الدين؛ لم يكد ذلك ليتم حتى كان حاييم وايزمن، المحاضر في جامعة منشستر يقهقه ملء رئتيه، في عاصفة هوجاء من المرح الأرعن، ويشرب من أصحابه الغادرين، نخب النصر الذي أحرزه على المغفور له الملك حسين بن علي، بوعد بلفور

لم يكن وعد بلفور في حقيقته غير بداية الهجوم على الشرق في حرب صليبية مقنعة، لم يكن للضمير الإنساني فيها أي نصيب، وتضاءلت فظائع القدامى من الفاتحين أمام وحشيتها، وضراوتها، وهمجيتها، لكم حولت - يشهد الله - تلك الحفنة الباسلة، التي كان نصيبها أن تكون في خط النار الأول في معركة الهجوم الوحشي على الشرق الأدنى، من أبناء فلسطين - أن ترسم أمام الأعين التي يغظ أصحابها في سبات الغفلة العميق، صورة الدوحة الهائلة تنبت من البذرة الصغيرة، وأن تجسم الخطر الذي سيهدد أمن الشرق جميعه من وراء عبارات وعد بلفور المتواضعة، ولكن كل تلك الجهود ذهبت عبثاً، ولم يكن أمامها غير الثبات إلى النهاية متحملة الخسائر في كل شيء، مدى ثلث قرن من الصراع الرهيب بين قوى غير متكافئة، وهي منفردة في معركة الشرف لم تتزحزح، ولم تفرط، حتى غلبت على أمرها، وشردت عن أوطانها، في مشارق الأرض ومغاربها، بعد أن استبيحت المحارم، وانتهكت الأعراض، ودنست المساجد، في عار لم تسجل صحف التاريخ مثله على أمة من الأمم، وسيظل الذين ظاهروا عليه، موضع اللعنة من الله ومن الأجيال المقبلة في تاريخ الأمة العربية والتاريخ الإنساني إلى يوم يبعثون

عاد (أبو عمر) إلى أرض الوطن الذي بارك الله ثراه بإسراء سيد المرسلين إلى المسجد الأقصى فيه، فرأى أن العمل الخليق بالجندي الباسل هو التعليم، بحكم ما فيه من شرف بالغ، وتضحيات جسيمة، وعمل مجيد للأمة يمد جذور حياتها إلى ثرى المستقبل

التحق بإدارة المعارف، مديراً لثانوية الخليل، ثم أستاذاً محاضراً في كلية المعلمين بالقدس، تلك الكلية التي طافت بها نفحات قدسية قومية ساحرة من عبقرية شاعر الأمة العربية معروف الرصافي رضوان الله ورحمته عليه، يوم أن كان أستاذاً محاضرا فيها ثم الحق بإدارة التفتيش وبقي فيها حتى اليوم الخامس عشر من أيار 1948 وهو اليوم الذي انتهى

ص: 42

فيه الانتداب البريطاني على فلسطين

كانت المشكلة التي تواجه الوطن القومي، والتي كان يخيل للقائمين على تأسيسه أنها مستعصية الحل، هي الحصول على الأراضي الكافية لإقامة القلاع الحربية في مظاهر متواضعة من الأكواخ البسيطة، غير أن القدر الساخر ما لبث أن جعل المشكلة بصورة عجيبة، عن طريق انتقال صفقات هائلة من أخصب الأراضي، قامت عليها من أزمان موغلة في القدم، قرى، ومزارع، وفلاحون، إلى الأيدي الصهيونية، كانت تملكها الأسر الكبيرة من غير أهل فلسطين، تقيم في الأقطار العربية المجاورة؛ ذلك إلى جانب الوسائل الجهنمية التي ابتدعها رئيس النيابات العامة نرومان بنتويش، بما كان يصدره من أنظمة تعسفية وقوانين غريبة لوضع البلاد في أسوأ الأوضاع التي من شأنها أن تجعل في إقامة صرح الوطن اليهودي

وكان لا مفر لبناة الوطن القومي اليهودي من رسم مناهج التدريس في المدارس العربية الحكومية رسماً بارعاً، تعين النتائج فيه على بناء ذلك الوطن، بخلق طبقة مستغربة من العبيد لا تعرف مكانها من الكرامة، ولا تاريخها المجيد في تواريخ الأمم والشعوب، تعيش ليومها، ضيقة الآفاق، تعبد الغرب بدل من الخالق، يملأ الغرور نفوسها، ويوهن ما في ضمائرها من خلق وشرف ورجولة، طول الجري وراء أجساد العاهرات من بنات إسرائيل؛ ولكن الله رد كيدهم إلى نحورهم، فلم تفلح مناهجهم الآثمة في إخراج واحد من أبناء فلسطين، على النمط الذي أرادوا

وكانت محاولة الإصلاح في جو موبوء مسموم من هذا النوع، ضرباً في حديد بارد، ونفخا في رماد، ولكن الأستاذ الدباغ، رأى في تلك المناهج، على الرغم مما فيها من فساد، شيء لا بأس به من الخير؛ إذ ليس هنالك خير مطلق، أو شر مطلق في الوجود، وراح كالغواص البارع، يبحث في ظلامها الدامس عن الدر والجوهر، فوجد من ذلك ما حاول به إصلاح سوء النية في وضعها، وراح يركز نشاطه في بيئة الفلاحين، وفي مدارس الريف باعتبار الفلاح الحارس الأمين على أرض الوطن التي امتزج ثراها بدماء النافحين من خير أمة أخرجت للناس، وكان يهيب بضمائر المعلمين، ويبيح لهم التحلل من القيود المنهجية في الحد الذي يبصره الضمير القومي من حذف أو زيادة أو تغيير، وأن تركز

ص: 43

المسائل الحسابية على شراء الأرض، وأن لا يجري بيعها على لسان أبدا

وظهر في هذه الفترة كتابه (في القرية)، ويدعو فيه إلى تركيز القوى للنهوض بالفلاحين، وتوفير ما يكفي من الخدمات الصحية والتعليمية لرفع مستواهم، وتوفير عدالة اجتماعية في الحدود الممكنة

وأدرك السير (آرثر واكهوب) المندوب السامي على فلسطين آنذاك، والذي يتظاهر بصداقة الفلاحين، ويكثر من زيارتهم، والحفاوة بهم، على الرغم من دخول أكبر عدد من المهاجرين أيام حكمه، وكأنما كان يمثل دور الصياد الذي يبكي هو يذبح العصافير في القصة المشهورة؛ أدرك ذلك الداهية الأريب والجندي المدرب، وكان رجلا، قدر المؤلف الرجل، وقد صدق وطنيته - وكان للسير واكهوب ضمير إنساني حساس، يختلف عن ضميره الرسمي - فبعث إليه بكتاب يطفح بالشكر، وينوه بمجهوده نحو إصلاح القرية، ويطلب إليه المزيد من العناية، ويبارك عمله المجيد

من أبرز ما يمتاز به (أبو عمر)، الأستاذ الدباغ، إحساس عجيب يسبق الزمن، وما يجري وراءه من أحداث، أو قد تتمخض عنه تلك الأحداث من مفاجئات ونتائج. ومن مظاهر ذلك الإحساس انكبابه على تأليف موسوعة تاريخية في هذه الفترة أطلق عليها اسم (بلادنا فلسطين). وكأنما ألقى إليه من وراء الغيب، أو أدرك بحاسة سادسة عجيبة، أن أحداثاً جساماً في طريقها إلى تلك البلاد، تأكل الأخضر واليابس، وتمحو من سجل الوجود مدنا وقرى بأسرها، وتشرد أهلها

وقد كانت طريقته في تأليف تلك الموسوعة السير من المعلوم إلى المجهول. كان يسائل المعمرين عما يعرفون من تاريخ قراهم أو مدنهم، وأنسابهم، وكل ما يتصل بماضيهم من شؤون وشجون، حتى إذا ما دون أقوالهم، انقلب إلى مكتبة غنية بالمصادر أنفق جهداً ومالاً في سبيلها، يراجع وينقب، حتى يصل إلى بعض الحقائق فيما لديه من أقوال. قد يرفضها كلها، وقد يحذف بعضها، وقد يزيد عليها، وقد يدفعه البحث والتدقيق، عن حقيقة من الحقائق، إلى السفر من مدينة إلى أخرى، أو إلى قطر مجاور، حتى إذا فرغ من الأساس التاريخي لبحثه عن تلك القرية أو المدينة، أنصرف إلى البحث الحاضر، وهو أمر ميسور تبرع لمعاونته عليه عدد كبير من المعلمين والموظفين في مختلف الإدارات الحكومية،

ص: 44

فكانوا يجمعون الإحصاءات المفصلة من التقارير الرسمية، أو يحصون بأنفسهم، وبمساعدة أهل القرى، ما لا يدخل في تلك التقارير؛ فتجمع لديه من كل ذلك معلومات دقيقة عن عدد السكان، ومقدار الذكور والإناث، وعدد المتعلمين، ونوع التعليم ومستواه، وعدد المدراس والطلاب والمعلمين، وأنواع المحاصيل، وعدد أشجار الفاكهة، والمساحات التي تزرع بأنواع المزروعات، وعدد الحيوانات، والبيوت، والمساجد، إلى آخر ما هنالك من التفاصيل التي لم يسبق أن استعملها مؤرخ سابق على هذا النوع الدقيق من الأسلوب العلمي المضني الذي ينوء به الفرد ولا يقوى عليه

وتقع هذه الموسوعة في عدة مجلدات ضخمة، تولت مكتبة الطاهر إخوان عام 1947 طبع الجزء الأول - القيم الأول، منه في مطابع دار التوزيع والطباعة والنشر في القاهرة - وتشاء الصدف العجيبة أن يخرج هذا الجزء في شهر أيار من تلك السنة، وهو الشهر الذي انتهى في منتصفه بعد عام واحد (1948) الانتداب البريطاني على فلسطين

يقول الأستاذ الدباغ في المقدمة: (هذه البلاد عربية منذ آلاف السنين، وأول من عرف من سكانها الموجات العربية الأولى التي نزلتها، وقد قدستها الأديان العظيمة التي تدعو لخير البشرية. . .

اجتهدت في إخراج هذا الكتاب في أجزاء عدة، وجعلت بحثه يشمل تاريخ كل مدنية وبليدة، وتاريخ ما تمكنت من الوصول إليه عن القرى، والمزارع، والأنهر، مع وصف الحالة الحاضرة في كل منها

وقد رأيت أن البحث لا يستوفي ما لم يشتمل على المهم من التاريخ العام للقطر الفلسطيني، فقسمت هذا البحث على الأجزاء جميعها، بحيث لا يفرغ القارئ منها إلا ويكون لديه سفر تاريخي لهذه البلاد منذ أقدم الأزمنة إلى قبيل الوقت الحاضر. . .

يبحث الجزء الأول من هذا الكتاب عن تاريخ القطر الفلسطيني، منذ فجز التاريخ إلى انقسام المملكة اليهودية، وعن تاريخ مدن وقرى وقبائل بلاد نابلس

وسيتناول الجزء الثاني البحث عن غزة والسبع، وقراهما وقبائلهما، كما أن البحث في الجزء الثالث سيدور عن يافا والرملة واللد وجوارهما

وأرجو المولى أن يوفقني لإتمام البحث عن المناطق الأخرى من فلسطين

ص: 45

ثم تجهمت أحداث الزمن، وتوالت النكبات بسرعة فأوقف طبع الأقسام التالية من الجزء الأول؛ وليت الأمر وقف عند هذا الحد! بل تعداه إلى خسارة فادحة بفقدان الأجزاء التي لم تطبع من الكتاب، حين كان الأستاذ الدباغ ضمن آخر جماعات أرغمت على مغادرة يافا في باخرة رأى ربانها إلقاء عدد من الحقائب من حمولتها إلى مياه البحر، وكانت الحقائب التي تحمل ذلك الكنز الثمين من بينها. وكأن القدر أراد أن لا يبقى كتاب يتحدث عن بلاد ذهبت وذهب أهلها

لقد أورد الأستاذ مقتبسات من الأحاديث النبوية في الفصل الأول جاء فيها

1 -

عن معاذ قال: قال رسول الله (ص): (يا معاذ. . إن الله عز وجل سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة)

2 -

عن وائلة بن الأسفع: قال رسول الله (ص)(يجند الناس أجناداً؛ فجنداً بالشام، وجند باليمن، وجندا بالعراق، وجندا بالمشرق، وجندا بالمغرب، فقلت يا رسول الله، أني رجل حديث السن، فإن أدركت ذلك الزمان فأيها تأمرني يا رسول الله؟ فقال: عليك بالشام فإنها صفوة الله في أرضه، يسوق إليها صفوته من خلقه)

3 -

روى المشرف بسنده عن كعب قال: (أحب البلاد إلى الله الشام، وأحب الشام إلى الله تعالى القدس، وأحب القدس إلى الله تعالى جبل نابلس، ليأتين على الناس زمان يتماسحونه بالحبال بينهم) صدق رسول الله فقد جاء ذلك الزمان

(ومن المصادفات العجيبة أن صلاح الدين الأيوبي، تسلم القدس من الفرنج يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب سنة 583 هجرية أي في ليلة المعراج المنصوص عليها في القرآن الكريم، وهذا اتفاق عجيب، فقد يسر الله بأن تعود الدس إلى أصحابها في مثل زمان الإسراء بالني الكريم (ص) ترى من هو القائد العربي العظيم الذي أعدته قدرة الله لشرف إعادة القدس من الصهيونيين؟

أما كتاب الأستاذ الثاني (التاريخ القديم للشرق الأدنى) فهو تلك القصة الخالدة من الصراع الدائم في تاريخ الحضارة، يتابع المؤلف أحداثها في وصف تاريخ ولفتات رائعة تدل على فهم لما وراء حوادث التاريخ، من عصر إلى عصر، عبر الزمن الغابر البعيد، والإنسان

ص: 46

هو الإنسان لا يتغير ولا يتبدل. لد كان الشرق الأدنى ولا يزال، مقابر القاتحين، في جميع عصور التاريخ، والجسر الذي عبرت فوقه موجات الحضارة، وموجات الفتح؛ ولم يعرف الزمان تاريخا معقداً مثقلاً بالحوادث الجسام كتاريخ هذا الجزء المتعب من العالم، يتصارع الأمم على وفرة خيراته وطيب مناخه، وموقعه الطبيعي الاستراتيجي وهو يربط أجزاء القارات الثلاث العظيمة

يقول الأستاذ في مقدمة كتابه: (هذا كتاب وضعته لطلاب المدارس الثانوية، وللطلاب الذين يستعدون لامتحان الاجتياز إلى التعليم العالي، إلا أن القراء عامة، في وسعهم أن يستفيدوا منه، إذ يطلعون فيه على صفحة من تاريخ الشرق العربي في العصور القديمة، وقد تبسطت في الكلام عن تاريخ بلاد الشام وعلى الأخص تاريخ القسم الجنوبي منها، وهو القسم الذي يعرف الآن باسم (المملكة الأردنية الهاشمية)، وكان يسمى قبلاً (فلسطين وشرق الأردن) وهذا البحث، على ما أعلم، لم يتعرض له أحد من المؤرخين على هذا الوجه)

وبعد، فلقد أطلت الحديث لقراء الرسالة الغراء، عن هذا الجندي، الذي طالما أبى عليه تواضعه إلا أن يظل مجهولاً، وأنا شديد الإيمان بأننا أحوج ما نكون إلى رجال من هذا الطراز يكونون مثلنا الأعلى في الحياة الجديدة الكريمة المقبلة التي تليق بكرامة الإنسان وهو يخطو على الصراط المستقيم الذي أقامته يد السماء، ليكون طريقه على ثرى الأرض، وهو يعبر إلى الطرف الآخر، المتواري في ضباب الغيب، في ركب الحياة

علي محمد سرطاوي

ص: 47

‌البريد الأدبي

هل كان الزهاوي فيلسوفاً؟

نشرت الرسالة بالعدد (1003) هذا المقال الموجز، وقد لاحظت أن المطبعة قد أسقطت سطراً بتمامه، فاضطرب المعنى، تبعا لذلك، وإني أعيد القول من جديد، ليزول الاشتباه:

(ومن البديهي أن الفلسفة لم تكن مرة واحدة علماً دقيقاً متين القواعد والأصول، ولكنها مرت بدور الطفولة والصبا - كما قول الأستاذ مهدي علام - في أساطير القصاص وشعر الشعراء وأقوال الحكماء)

فلعل القراء يلتفتون إلى هذا التصحيح السريع

محمد رجب البيومي

تحت منظار النقد

ألقى الأستاذ محمود جبر في الحفل الذي أقامته جماعة الشبان المسلمين بمناسبة الهجرة النبوية الشريفة قصيدة ميمية جاء فيها تنديداً بمن نسبوا الملك السابق فاروق إلى الحسين:

يا منبع الطهر قد نسبوا إليك فتى

من غير حق فحارت فيه إفهام

والبيت من البحر البسيط وهو مكسور في الشطر الأول لأن السين في (نسوا) كان يجب أن تكون ساكنة لا متحركة

وكم ضحكت كثيراً حينما سمعت التصفيق الشديد لهذا البيت!

شبرا النملة

عبد اللطيف محمود الصعيدي

المسابقات الأدبية بمجمع فؤاد الأول للغة العربية

إلحاقاً بما سبق أن أعلنه المجمع عن جوائزه لتشجيع الإنتاج

الأدبي سنة 19521953 وبعد صدور قانون ميزانية سنة

19521953 يعلن المجمع أن الجوائز التي سبق الإعلان

ص: 48

عنها خفضت قيمة كل واحدة منها من مائتي جنيه إلى خمسة

وعشرين ومائة جنيه

أسبوع رعاية مشوهي الحرب ومساعدة أبناء الشهداء

المشروع

أولاً - خلق وعي قومي يقدس التضحيات التي بذلها مشوهو الحرب والشهداء وتخليد فدائيتهم، ووضعهم في المقام اللائق بهم

ثانياً - بذل كل المساعدات المادية والأدبية

(أ) عمل تخفيض دائم من المتاجر والبيوت المالية والشركات والأطباء والصيدليات وغيرها لمشوهي الحرب وعائلات الشهداء

(ب) منحهم إعانات مالية لتسوية حالاتهم المضطربة

ومقومات المشروع

أولاً - جمع التبرعات

(أ) بصناديق تعد بمعرفة مصلحة الخدمات الاجتماعية في جميع أنحاء البلاد مختومة بخاتم الوزارة، وتفتح بمعرفة لجنة مشتركة من الوزارة والجمعية

(ب) فتح باب الاكتتاب والتبرعات لمشروعات الجمعية من الأثرياء والكبراء. على أن يتطوع حضرات أعضاء الجمعية يساعدهم لفيف من الطالبات والطلبة وذوي المروءة المتطوعين لمؤازرة هذه الرسالة النبيلة

ثانياً - توزيع مليون طابع باسم (أسبوع مشوهي الحرب) من فئة القرش صاغ ويكون وتوزيعها كالآتي:

بمعرفة المتطوعين من أعضاء الجمعية واصدقائهم

دور السينما والمسارح

مكاتب البريد والتلغراف

محطات السكك الحديد

المحلات التجارية والشركات والبنوك وغيرها

ص: 49

ثالثاً - تخصيص يوم السبت أول نوفمبر 1952 ليكون (يوم السينما) على أن ترصد إيرادات الحفلة المسائية من التاسعة مساء لمشروع رعاية مشوهي الحرب ومساعدة أبناء الشهداء

رابعاً - إقامة حفلات موسيقية وغنائية يساهم في إحيائها مشاهير المطربين والموسيقيين يخصص ربعها لمشوهي الحرب

خامساً - فتح باب قبول الهبات العينية من الملابس والأقمشة والأحذية وخلافها من الحاجيات، وما يفيض عن حاجة ذوي البر والمروءة، على أن ترسل إلى مقر الجمعية ويسلم عنها إيصالات توطئة لتوزيعها على المشوهين وعائلات الشهداء

وسائل تنفيذ المشروع

أولاً - الرسوم الرمزية

إقامة مسابقة بين رسامي الكاريكاتير وغيرهم لتصميم رسم رمزي يهدف إلى الفكر السامية التي تطويها رسالة الجمعية ويدعو إلى مؤازرة مشروعاتها النبيلة ويكون وسيلة صالحة للدعاية عن أعمالها

ويمنح الفائز الأول والخمسة الآخرين (الأوائل) جوائز ثمينة

ويطبع الرسم الرمزي الفائز ويوزع بكميات كبيرة في أنحاء القطر

ثانياً - إخراج أفلام سينمائية قصيرة

تدعو إلى معاضدة الجمعية وتشيد ببطولة مشوهي الحرب والشهداء، وتدعو إلى تخليد ذكراهم وتسير وسائل الحياة السعدية لهم، على أن تعرض في جميع دور السينما لمشايعة أغراض الجمعية وتحقيق أهدافها السامية

ثالثاً - الإذاعة اللاسلكية

إذاعة أحاديث دورية عن الجمعية ورسالتها، وبطولة مشوهي الحرب والشهداء، وما ينبغي عمله لهم ولذويهم من مساعدات ومعاونات

أحمد توفيق

منقذ فلسطين

ص: 50

كتب الأستاذ محمد رجب البيومي عن مسرحية منقذ فلسطين، التي أخرجها الأستاذ عبد الرحمن البنا، وقد أعجبني ما كتبه، والواقع أنني حضرت القصة عندما أخرجت على مسرح الأوبرا ليلة 16 أغسطس سنة 1948، وهي نفس الليلة التي دخل فيها جيش مصر الباسل فلسطين، فأعجبت بها وهزتني من الأعماق. .

وكنت قد حضرت للأستاذ البنا مسرحيات أخرى من هذا النوع الإسلامي، الذي يحرص على إبعاد عنصر المرأة عنه ومع ذلك فقد كانت هذه الروايات لا تفقد قوتها ولا جلالها وقد سمعت من الأستاذ عبد الرحمن أن الأستاذ زكي طليمات قد أبدى إعجاباً لا حد له بهذه المسرحيات الإسلامية، وقال إن هذا اللون ناجح ولا شك، وأن قوة المعاني والصور والمواقف فيه، لا تكشف النقص الذي يمكن أن يأتي من إبعاد عنصر المرأة عنه

(أنور)

غيظ

إن البلاد إذا شاع الفساد بها

وأصبح اللؤم فيها خلة الناس

وأسفر البغي يقضي في سياسته

مصعر الخد مخفورا بحراس

لم يبق للحر إلا الغيظ يكظمه

بين الضلوع وإن ضاقت بأنفاس

محمود عبد السيد حمزة

ص: 51

‌القصص

صديق جديد عن مجلة (تروستوري)

تطلعت من السيارة التي كنت أعمل فيها إلى أعلى، فوجدت - ماني بيترز - وعلى شفتيه ابتسامة بريئة، غير أن عينيه الزرقاوين - في هذه المرة - كانتا تشعان ببريق غريب

خالط عقله مس منذ أن كان في العاشرة من عمره، حينما حدث أن أصابه أحد رفقائه - دون قصد بحجر. ومما يحز في نفسي أن أقول إنني كنت أكرهه بكل ما في هذه الكلمة من معان، وإن كنت أدعه يعبث بأدوات السيارة التي وضعتها في (جراج) بمدينة (جيرسي الجديدة) وذلك لمعرفتي أن جنونه من نوع غير خطير، وأنه محتاج إلى كل ما يمكن أن يتسلى به، ولكنه أهاجني اليوم أكثر من أي يوم سبق، فقد قضيت عشر دقائق في البحث عن أداة احتجت إليها لعمل مستعجل

تذكرت أن (ماني) أمعن في العبث أمس - كما يفعل غالباً - فكان السبب في هذا التأخير، فأخذت ألعن الظروف التي خلقت لي مثل هذا المأزق الحرج، وأخيراً وجدتها

يستطيع الحدادون أن يقسموا على أن شيئاً لا يزعجهم مثل اختلاف مواضع الآلات التي يضعونها في أماكنها

لم أقل لـ (ماني) شيئاً، إذ أعرف أن نتيجة ذلك ستكون سيئة، وأنه لا يمكنه أن يفهم حقيقة الموقف؛ وإن فهم فلا يمكنه أن يتذكر ذلك غلا لمدة خمس دقائق. أقنعت نفسي بالتغافل عن أعماله، وأن أستمر على عملي، ولكن نيران الحقد ولهيب الكراهية، جعلاً مني مرجلاً ثائراً

نظرت إلى يدي القويتين، وأحببت أن أداعب بها رأس من تسول له نفسه العبث بأشياء تخصني، أما أن يكون هذا الشخص (ماني) فإنني لا أستطيع حتى رفعهما

مضيت في عملي وأنا جد متعجب من سكان القرية. ترى ما الذي جعل (ماني) محبوباً منهم، وأنا احمل له من البغض والكراهية ما ينوء تحتهما كاهلي! وطبعا لم يكن الذنب ذنبه، أحبه الناس أم لم يحبوه، وشعوري بالكراهية لم ناجم عن عدم الإكبار للرجال الضعفاء وغير المرغوب فيهم، كرهي لكل عضو لا يقوم بعمله تمام القيام

تحملت منه ما لم يتحمله أهل القرية الأنانيون الذين قدت قلوبهم من الصخر، لا يعرفون قوياً ولا يرحمون ضعيفاً، وحبي له لم يكن إلا شفقة عليه ورثاء له

ص: 52

انتهيت من عملي، لو أنتبه للشخص المشرئب بعنقه ليرى ما أعمل، مما سبب اصطدامي به، وبعدها ألفيتني محملقاً فيه. أما هذا الشخص فكان (ماني)

تملكني الغضب الشديد، فصحت به: بالله ماذا جاء بك إلى هنا؟

ودفعته دفعة قوية لأزيحه عن طريقي

فتترنح إلى الخلف بمجرد اختلال توازنه، وغارت عيناه الزرقاوان في محجريهما متعجبتين سائلتين، ولم أكن رأيتهما على هذه الحالة من قبل

ثم اصطدم ببعض آلات مبعثرة هنا وهناك، وسقط سقطة أفقدته الرشد

زاغت عيناي واشتد بي الخوف، وأحسست بفيض من العواطف يدفعني إلى مساعدته على القيام. وفجاءة، رأيتني ماداً إليه يدي أساعده على النهوض

شعرت وأنا أنحني إلى الأسفل أن يدي قد بلتا، ونظرت إلى الأسفل فرأيت قطرات حمراً على الأرض على بعد ست وثلاثين عقدة مني

حينئذ عرفت أن رأسه قد أصيب ببعض أدوات سببت شج رأسه، فظننت أنه مات، ولكنني شاهدت صدره يعلو ويهبط فعرفت أنه لم يفارق الحياة. لم أعر ذلك اهتماماً بادئ ذي بدء، وطمأنت نفسي بأنه لن يلبث أن يستفيق. وبرغم ما كنت أتظاهر به من الهدوء، وكنت معتقداً أن إصابته خطيرة. سرت تحو التليفون وطلبت الطبيب قائلاً: أصيب ماني بيترز - بحادث خطير فأرجو أن تأتي بسرعة. وعلقت (السماعة) ورجعت إلى - ماني - أسائل نفسي ماذا يمكنني عمله حتى يصل الطبيب. استطعت أن اقف النزيف، ولكنني لم أعرف ما يجب أن أعمله أيضاً. وهكذا جلست إلى جانبه منتظراً مجيء الطبيب، محاولاً جهدي آلا أفكر فيها سبب هذه الحادثة

جاء الطبيب في وقت مناسب ومعه خمسة رجال من أهالي القرية ممن أعرفهم. لقد كانوا في بيت الطبيب ساعة أن أخبرته بما حدث. ولما سمعوا ما قاله الطبيب عن (ماني) أتوا معه ليعرفوا حقيقة ما حدث

وكما قلت قبلاً إن أهل القرية جميعهم يحبون (ماني) ما عداي فتأثروا لما أصابه

لم ينبس أحدنا ببنت شفة، حتى فرغ الطبيب من الفحص، فرفع إلينا وجهاً ممتقعاً، فكان ذلك جواباً كافياً وفر عليّ السؤال

ص: 53

تكلم بهدوء قائلاً: إن أصابته خطرة جدا، فليخبر أحدكم مستشفى (آردين) ليرسلوا نقالة لحمله. ثم الفت وسألني عن كيفية وقوع الحادثة فأخبرته بما حدث، فأومأ برأسه فاهماً

غير أنني لاحظت الخمسة الآخرين ينظرون إلى مستغربين، ورأيت واحداً أو اثنين - لا أتذكر - ينظر إلى متشككاً

عشر دقائق مؤلمات مرت قبل أن تصل النقالة. ولم تمض دقيقة أخرى حتى كان الطبيب وماني في الطريق إلى مستشفى (آردين)

شعرت بحمى خفيفة، وذهبت إلى حيث أستطيع أن أتنفس، لأن هواء (الجراج) يكاد يخنقني. وقبل أن أصل إلى حيث أردت، سمعت قائلاً يقول: فيلد، دقيقة من فضلك، لا يمكنني أن أدعك تذهب الآن

فالتفت قائل: ولم ذلك يا جاك؟ ألم تصدق ما أخبرت الطبيب به؟

وظهر في هذه اللحظة الأربعة الآخرون

- لا، لا، إن أحد لم يصدق ذلك لما نعرف من مبلغ حقدك على (ماني)

تملكني غضب مفاجئ. إنهم يظنون أنني فعلت ما فعلت عن عمد وإصرار

ظننتني قادراً إلى إقناعهم بادئ الأمر بأن ما حدث لم يكن إلا مصادفة سيئة، أما الآن فإن ذلك لا يزيد مركزي إلا حرجاً

أنثنيت إلى جاك قائلاً: تظنني حاولت قتل ماني؟ أليس كذلك؟! حسن، ظن ما شئت، فلست أبالي. والآن تفضل بالخروج وإلا أصابك ما لا يرضيك

فكان جوابه أن رفع يده وضربني بقوة، إلا أنني تحاشيت ضربته بحركة خفيفة من رأسي، فاستدار حول نفسه وسقط على الأرض يتدحرج

فلما رأى الأربعة الآخرون ما حل بصاحبهم هجموا علي دفعة واحدة كالذئاب الكاسرة يريدون تمزيقي. وسمعت (لودين) يقول: آه. . . هل تقدر أن تفعل بنا ما فعلت بماني. إيه؟ حسن إنك لا تقدر. إننا لا نتصارع من أجل جائزة كما تفعل، ولكننا سنلقي عليك درساً لن تنساه مدى الحياة

دافعت عن نفسي دفاع المستميت، ولكن ما حيلتي آزا خمسة رجال أشداء؟ نعم أسقطت اثنين منهم ولكن الباقين تمكنوا مني وضربوني ضرباً مبرحاً. وأخيراً وجدتني ممداً على

ص: 54

الأرض مشرفاً على الإغماء

أذكر أنني سمعت (لودين) يتكلم بالتليفون طالباً نقالة أخرى، وبعدها لم أكد أفقه شيئاً مما يدور حولي، إذ أن الإغماء غلبني

فلما أفقت رأيتني على سرير أبيض من أسرة المرضى، ثم رأيت ممرضة منحنية فوقي وكان إلى جانبها طبيب فعرفت أنني في المستشفى. سأل الطبيب الممرضة عن حالي فأجابته أنني أحسن من ذي قبل. ثم التفت إلى مستفهماً: ما الذي حدث؟!

فأجبته بصوت ضعيف: تشاجرت. ثم سألت: هل كسر شيء؟!

فقال الطبيب مغمغماً: تشاجرت؟ وتابع فرحاً: آه، لا، يحدث شيء مما تعني، إنما كل ما هنالك رضوض لن تلبث أن تزول آلامها فيمكنك أن تخرج بعد يومين. ثم انصرف

أردت أن سأل عن (ماني) ولكن حالتي كانت من الضعف بحيث لم أستطيع معها أن أتكلم. سرى بي التفكير إلى الرجال الذي أشبعوني ضرباً. ومن الغريب أنني لم اشعر نحوهم بذرة من الحقد، وكأن ما حدث لم يكن إلا خيالات وأوهاماً

غير أنني سعيد، سعيد لأن عظامي لم يصبها عطب، وإلا لكانت الدنيا لدي أضيق من سم الخياط. وأدركت أخيراً أن عملي كان جنونيا. ترى من يصدقني إذا قلت إنني دفعت (ماني) دفعة لم ابلغ من جرائها قتله؟

وفجأة وثب إلى ذهني خاطر أذهلني، واصطكت أسناني رعباً، وهو ما سيكون شأن الشرط معي إن. . . إن هو مات؟!

انقبض صدري لهذا الخاطر المروع، وكدت أصيح بكل ما في حنجرتي من قوة. والفضل في إنقاذي من هذا الموقف للممرضة التي دخلت في تلك اللحظة فأزمعت سؤالها عن ماني، قلت:

- إن لي زميلاً هنا اسمه (ماني بيترز) كيف حاله؟ فأجابتني بصوت هادئ

- إنه في حالة سيئة، وإنه الآن في غرفة الجراحة لإجراء عملية جراحية خطيرة

فسألتها بلهفة:

- هل تدعينني أذهب لأرى ما يعملون؟

ففغرت فاها متعجبة، ولكنها لم تلبث أن استعادت ثباتها وتعهدت بأنها ستفعل، وتركتني

ص: 55

وانصرفت

قضيت مدة أتقلب على فراش الألم خائفاً مذعوراً مما سيحدث لي ولماني. لم أكن أشتكي في ذلك اليوم من شيء، غير أنني كنت منزعجاً مما سيحدث لي

وفي ذلك المساء أقبلت الممرضة قائلة:

- إن الأمل في نجاح العلمية كبير جدا، ولو أنهم لم يحبروا أحداً، وإننا سنعرف عنها في الصباح كثيراً

كنت أريدها أن تقول أنه سيعود كما كان دون أنت يكون في قولها هذا ذرة من الشك. لذا بقيت في حيرة من أمري، مما أثر في حالتي وأخر شفائي

وفي صباح اليوم التالي رأيت الممرضة مبكرة عليّ غير عادتها، فأحسست أن دقات قلبي توقفت، وأن الدم قد جمد في شراييني. وتمثل أمامي بعين الخيال ماني ممدداً على السرير جثة هامدة. ياله من منظر مخيف تقشعر منه الأبدان! وسألتها: ما هذه الضوضاء؟ هل هو ماني! هل. . . هل مات؟

- لا، ولكنه يسير من شيء إلى أسوأ، وقد سأل عنك، فهل في استطاعتك أن تذهب إليه؟

لم أحبها عن سؤالها، بل أسرعت في إلقاء الأغطية عني، وحاولت القيام فلم تسعفني أعضائي المنحطة، فجلست على مضض

حاولت أن أسترد قوتي، غير أن رأسي كاد ينفجر فأسرعت الممرضة نحوي، ومددتني على السرير بهدوء، ثم قالت بقلق ظاهر: سآتي بنقالة لحملك، فأخبرتها أنني قادر على المشي على قدمي، إذا هي ساعدتني. ففعلت، ووصلنا إلى غرفة (ماني)

انحنيت فوقه، وسألته عن حاله، فأجابني، وفي عينيه تلك النظرة البريئة الطاهرة: إن رأسي يكاد ينفجر، ولكنني أحببت أن أراك حيت علمت أنك أصبت أنت أيضاً، ورغبت أن أراك سليماً معافى

شعرت بالدموع تجري على خدي حارة غزيرة. يمكن أن يكون معتوهاً، ولكنني لم أر قلباً بريئاً طاهراً مثل قلبه

عرفت أن لم يتذكر ما فعلته به، ولا كيف كنت أعامله دائماً

وشعرت لأول مرة في حياتي منذ أن كنت طفلاً، بشوق إلى الصلاة، فأخذت أصلي،

ص: 56

وأصلي بحرارة. صليت وابتهلت إلى الله، من أجل - ماني - ليشفى، ولأستطيع أن أدعه في (الجراج). وكأن دعائي أجيب، إذ أن - ماني - ترك المستشفى بعد شهر منذ دخوله وقد عاد كما كان لم يتغير

إنه الآن يقضي جميع أوقاته إلى جانبي في الجراج، وإنه لم يعد يحدث لي المتاعب. إنني أرغب أن يكون دائماً هناك، لأنه يزيل وحشتي في وحدتي، وقد جعلني أشعر بالشفقة والحنان لكل من يكون مفتقراً إليهما.

ع ب

ص: 57