المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1005 - بتاريخ: 06 - 10 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٠٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1005

- بتاريخ: 06 - 10 - 1952

ص: -1

‌نحن الشعب نريد

للأستاذ سيد قطب

نحن الشعب ندرك اليوم أن فجراً جديداً قد طلع، وأن عهداً جديداً يظلل هذا الوادي؛ وندرك أن وثبة الجيش المباركة هي التي أطلعت ذلك الفجر، وبدأت هذا العهد، وأن هذه الوثبة المباركة ليست لحساب فرد أو هيئة أو حزب، وإنما هي لحسابنا نحن الشعب!

نحن الشعب ندرك أن الذين قاموا بالثورة حملوا رؤوسهم على أكفهم، وساروا في ظلام دامس، في طريقهم الشوك، وفي قلوبهم الشعلة، وفي وجوههم الخطر. بينما كان كبراء هذا البلد في مصافيهم الناعمة بأوربا، يحف بهم النعيم، وتراودهم أخيلة الحكم، وتداعبهم أحلام الماضي!

ونحن الشعب نريد أن نعمل مع الذين واجهوا الخطر في الظلام الدامس؛ وأن تتخلى عن الذين استمتعوا بالنعيم ونحن هنا في قبضة البؤس والظلم. . ذلك أننا نعرف أن الأبطال الذين كافحوا كانوا معنا، والكبراء الذين استمتعوا كانوا علينا!

نحن الشعب ندرك أن الإقطاع قطر من عرقنا كؤوسا شهية للسكارى، وجمد من دمائنا يواقيت في نحور الغواني، وجعل من رفات آبائنا وأجدادنا سماداً للأرض الطيبة كي تزيد غلاتها لحسابه. . ونعرف أن محترفي الحكم وتجار السياسة قد انضموا إلى جلادينا الإقطاعيين، وأصبحوا منهم ذوي ملكيات واسعة، ولم ينضموا إلينا نحن الكادحين في الأرض. . حتى قامت وثبة الجيش الأخيرة. . هنا فقط قال حماة الوادي للجلادين: مكانكم! وهنا فقط ردت الأرض إلى ملاكها الحقيقيين

ونحن الشعب نريد أن ننبذ محترفي الحكم وتجار السياسة الذين وقفوا في صفوف الإقطاع ولم يقفوا في صفوفنا. وأن نحمي ظهور حماة الوادي من دسائس الإقطاعيين وحلفائهم من محترفي الحكم وتجار السياسة!

نحن الشعب ندرك أن الرأسمالية قد فتلت لنا حبال المشانق في صورة قوانين ولوائح. وسلطات علينا البوليس السياسي يطاردنا في المعامل والمصانع. وحرمت علينا تكوين النقابات وتكوين الاتحادات النقابية إلا بإذنها ورضاها، وإلا بجواسيسها وأذنابها. . ونعرف أن مستغلي النفوذ من الوزراء والمستوزرين قد باعوا أنفسهم لهذه الرأسمالية، مقابل

ص: 1

صفقات رابحة، وعضويات في مجالس الشركات، وأذون استيراد وتصدير. . وأن الوثبة الجديدة وحدها هي التي مزقت البوليس السياسي، وقلمت أظافر الرأسمالية. وأطلقت للنقابات العمالية حرياتها، ومهدت لقيام اتحاد النقابات على أسس سليمة، واعترفت بشرعية هذا الاتحاد

ونحن الشعب نريد أن نتخلص نهائياً من المستغلين الذين باعوا أنفسهم للرأسمالية. وأن نتكتل وراء الوثبة الجديدة التي خلصتنا من براثنها المخيفة

نحن الشعب ندرك أن وزراء العهود الماضية كانوا ينتظرون إشارة صغيرة من مولاهم ليدوسوا الحريات، ويعطلوا الصحف، ويحطموا الأقلام، وأن البرلمانات كانت وراءهم توافق لهم على القوانين، وتعترف لهم بشرعية الطغيان، وتقفل باب المناقشة عندما يجبهها الحق. . ونعرف أن الثورة المقدسة هي التي قالت لمولاهم: تنازل قبل الساعة عشرة وارحل قبل الساعة السادسة. وهي التي أملت على التاريخ صفحة جديدة من العزة والكرامة، وطوت صفحة قديمة من الذل والصغار، وتركت حتى خصومها الكائدين لها، يثرثرون في صحافتهم، ويملئون الدنيا ضجيجاً وعجيجاً. لأنها تؤمن بالحرية حتى لأعدائها

ونحن الشعب نريد أن نطوي صفحة هذا الماضي بملكه ووزرائه ومستوزريه، وزعمائه ومتزعميه. نريد أن نطوي هذه الصفحة المخزية، لنفتح الصفحة الجديدة التي أملتها الوثبة المقدسة على التاريخ. لأننا شعب لم كرامة ويجب عليه أن يحمي هذه الكرامة

نحن الشعب ندرك أن تجار السياسة استغلوا حماستنا الوطنية، وتطلعنا إلى الحرية والاستقلال، وحرصنا على أن نكون أمة لائقة بماضيها التاريخي، ليتجروا بها كلها في الأسواق الدولية والأسواق الداخلية. وأنهم لذلك أثروا على حسابنا ثراء فاحشاً، ولو أنهم استغلوا تجاراً في أية سلعة ما اثروا مثل هذا الثراء الفاحش. وأنهم على استعداد أن يستغلوا حماستنا الوطنية من جديد، ليزيدوا بها ثراء على ثراء، وترفا على ترف، وقصوراً على قصور. . ونعرف أن الوثبة الجديدة وحدها هي الوثبة النظيفة. لأن رجالها لا يزالون يعيشون عيشة الشظف: يسهرون والناس نيام، ويعيشون على أخشن الطعام. ولا يعرفون مصايف مصر فضلاً إلى مضايفَ العالم ومغانيه

ونحن الشعب نريد أن نقول للممثلين على مسرح الوطنية: أسدلوا الستار فقد سئمنا

ص: 2

الرواية! أسدلوا الستار واذهبوا فإن فجر جديداً قد طلع. وإن عهداً جديداً يظل هذا الوادي

سيد قطب

ص: 3

‌محمد رسول الله

للأستاذ علي الطنطاوي

كتب كتاب في الرسالة عن الرسول صلى الله عليه وهل كان يعلم الغيب أم أن الغيب شيء قد اختص الله نفسه بعلمه. فكتبت كلمة صغيرة لتنشر في البريد الأدبي، ثم رأيت أن الأمر أكبر من ذلك وأنه لا يكفي فيها تحقيق هذه الجزئية؛ بل لا بد من تصحيح عقيدة كثير من المسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم

إن القرآن بين بياناً صريحاً لا لبس فيه ولا غموض، ولا مجال لتأويل ولا تبديل، بأنه صلى الله عليه وسلم بشر يوحي إليه، فهو في ولادته وفي منشئه وفي صحته وفي سقمه، وفي حياته وفي موته، بشر كسائر البشر، وإن كان الله دق اختصه باسني الصفات (البشرية) في الخلق والطبع والسلوك والمواهب، وأنه فوق ذلك يحوي إليه كما كان يوحي إلى الأنبياء من قبله، ولا يوحي أبداً لأحد من بعده، لا لإمام من أئمة آل البيت، ولا لمتنبئ ولا لمدع العيسوية في قاديان. هذه هي العقيدة الصحيحة، فهل المسلمون كلهم عليها؟

إن كثيرين من المسلمين، ولا سيما من يدعي التصوف منهم يرفعون النبي صلى الله عليه وسلم فوق البشر، ويصفونه بصفات الألوهية، والأدلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، وأنا أمثل على ذلك بقصائد تتلى صباح مساء، ويتبرك الناس بها، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله بتلاوتها وإنشادها، وفيها الكفر الصريح. الذي يعد كفر المشركين من قريش إن قيس به إيمانا، فكفار قريش كانوا إن ركبوا الفلك، ودهمتهم الشدائد دعوا الله، كما أخبر بذلك القرآن، والبوصيري صاحب قصيدة (البردة) التي يتلوها المسلمون خاشعين كأنهم يتلون القرآن، يقول للنبي صلى الله عليه:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

ومن المعلوم أن أقوى طرق القصر عند علماء البلاغة هو النفي والإثبات، ولذلك كانت كلمة التوحيد، لا إله إلا الله: نفي الألوهية عن الجميع وإثباتها لله وحده

وهذه القصيدة الأخرى، التي كان مشايخنا. . يتبركون بها، ويتأدبون عند تلاوتها. قصيدة (ما أرسل الرحمن أو يرسل)، يقول صاحبها مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم

عجل بإذهاب الذي أشتكى

فإن توقفت فمن أسأل؟

ص: 4

وأصرح من ذلك قول الشيخ عبد المجيد الخاني، مؤلف الحدائق الوردية:

رسول الله لي بصر كليل

وأنت بكل أحوالي بصير

رسول الله مالي من نصير

سواك الدهر يا نعم النصير

لعمرك يا أجل الرسل إني

لما أنزلت من خير فقير

فإن أدركتني بخفي لطف

فدهري لا يضر ولا يضير

هل يشك أحد ممن يفهم الكلام العربي، بأن هذا الرجل يؤله محمداً، ويعبده، ويخاطبه بما جاء في القرآن خطابا لله عز وجل (رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير)؟

والأحاديث الصحيحة، قد بينت أنه صلى الله عليه وسلم ولد وربي كما يولد ويربى لذاته من أبناء قريش إلا أن الله عصمه من عبادة الأصنام، ومن الكذب والغش وسائر شرور اللسان والقلب، وجعله على خلق عظيم لم يجعل عليه بشراً غيره في كل عصور البشرية، وتأتي مع ذلك هذه الموالد التي يتولها الناس، وأشهرها مولد العروس عند العامة، ومولد البرزنجي عند الخاصة، وكلاهما محشو بالكذب، فتجعل الوحوش تباشر بولادته، بأفصح الألسن القرشية. . . وأنه حضر أمه ليلة مولده آسية ومريم في نسوة من الحظيرة القدسية. . . وأن جده وأمه وأمه كانا يعرفان بأنه خاتم الأنبياء، مع أنه هو صلى الله عليه، لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان، وأنه لما جاءه الوحي ذهب يقول زملوني، دثروني، حتى أخبره ورقة أن هذا هو الناموس الذي كان ينزل على عيسى

وبعض المسلمين لا يعتقد أن الرسول ميت، ويراه حياً في قبره مثل حياتنا، حتى أنه كان في حينا (في المهاجرين - في دمشق) خطيب كان يقول في خطبته مسجعاً:(قال صلى الله عليه وسلم وهو في قبره حي: لا بخيل من ذكرت عنده لم يصل علي، وناقشه بعض طلبة المدارس. فأكد لهم أنه حي في قبره، وأن فلاناً (ومشايخ الطرق)، وقف عند القبر، وقال من قصيده:

(فامدد يمنيك كي تحظى بها شفتي)

قال: فخرجت اليد الشريفة من جدار القبر حتى قبلها

وأمثال هذه الأكاذيب التي لا يقرها عقل ولا نقل، ولا يقبلها شرع ولا طبع

والله يقول للرسول: (إنك ميت) ونحن ننكر موته، فيم إذن نقرأ السيرة. ونقول أنه ولد سنة

ص: 5

كذا. ومات سنة كذا؟ وفيم نصب الخلفاء من بعده؟ ولماذا لم يرجعوا إليه يوم اختلفوا في السقيفة وكاد ينصدع أمر الإسلام، وهو مسجى لم يدفن بعد؟

إنه حي عند الله حياة برزخية روحية الله أعلم بها - أما بالنسبة إلينا فهو ميت - قد مات ودفن كما يموت سائر الناس ويدفنون، وإن كان قد ورد أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن الله يوكل ملكا يسمعه السلام عليه، أو يرده عنه. وهذه كلمة وإن صح طريقها إخبار آحاد، لا تثبت بها عقيدة - ولا يبنى عليها علم، كما هو معروف من علم الأصول

والغريب في المعجزات أنك إن رجعت إلى كتب الصحاح وغلى السير الأولى كسيرة ابن إسحاق، لم تجد إلا شيئاً منها قليلاً، فإن ذهبت إلى الكتب المتأخرة كالسيرة الحلبية مثلاً وجدتها فياضة بذكر العشرات من المعجزات التي لم يكن لها ذكر في الكتب الأولى. ونحن لا ننكر المعجزات، ولكنا نجد في القرآن ما يرد على طالبي الآيات من المشركين، بأن القرآن هو الآية الكافية التي لا تحتاج إلى شيء معها

ومن المسلمين من يجعل المنامات والرؤى أصلاً من أصول الشرع ويبني عليها أحكاماً وأوهاماً أتخذها سبيلاً إلى احتلال المنافع، ودرء المفاسد، ويستندون إلى حديث (من رآني فقد رآني حقاً) مع أن العلماء قد نصوا على أن الشرط في ذلك أن يراه على الصورة التي وصف بها في كتب الحديث وفي الشمائل. ولا يبنى على الرؤيا مع ذلك حكم شرعي

هذا وأنا لا أذكر درجة هذا الحديث - وليس تحت يدي وأنا أكتب هذا الفصل شيء من الكتب أرجع إليه وليس عندي وقت للمراجعة

وبعضهم يخالف ما عليه الإسلام من جهة تقديس أسرته، وتفضيلهم بمجرد النسب، مع أن الفضل في الإسلام للتقوى والمزايا الشخصية. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لابنته فاطمة:(يا فاطمة بن محمد، لا أغنى عنك من الله شيئا) ويحتجون بآية (إلا المودة في القربى) جاهلين معناها ومساقها

وآخرون من المسلمين يظنون أنهم يمدحون الرسول ويعظمونه، وبوصفه بأنه جميل الوجه، ومدح عينيه وجماله، وذكر العشق والوصال، وينشدون في ذلك الأناشيد في الإذاعات - أيام المواسم - ويسموها أناشيد دينية، وما هي إلا تقليد للترتيبات الكنسية النصرانية زقلة أدب مع الرسول، ولا أصل لها في الإسلام ولا يرضى بها الشرع ولا

ص: 6

الذوق ولا الأخلاق. ويجب شرعا منع إذاعتها

هذا وقد نجحت طائفة من شباب المسلمين. . تنكر الوحي وترى النبي صلى الله عليه وسلم عبقريا فقط، وبعضهم ينسب العبقرية للشعب العربي، ويرى بأن الرسول أثر لها - وكل هذا اتباع للمستشرقين واللمحدين، ولبعض النصارى من أجراء الأجانب الذي أفسدوا الإسلام في بلاد الشام باسم القومية العربية، والانتصار لها والدفاع عنها. . وسنفصل الكلام في العربية والإسلامية في مقال آخر إن شاء الله

وبعد فإن من أوجب الواجبات على العلماء والخطباء وأرباب الأقلام الإسلامية، أن يردوا أتباع محمد إلى العقيدة الصحيحة في سيدنا محمد صلى الله عليه، الذي كان بشراً يوحي إليه، ولم يكن إلهاً يعبد - ولا جميلاً يعشق، ولا نابغة عبقرياً فقط

علي الطنطاوي

ص: 7

‌صوت الهجرة

للسيدة وداد سكاكيني

ما كانت الهجرة إلا مركب الأسنة الذي يضر إليه أحرار الفكر والرأي، أو اللهيف المتشوق إلى آفاق جديدة للرزق والمعرفة، فإن الوطن عزيز لدى أهليه وساكنيه، إذ يعيش المرء فيه كما تعيش الشجر في مابتها، فمنذا الذي فارق بلده وذويه ولم يؤلمه البعاد والنزوح طوعاً أو كرها؟

لو عرفنا شعور الطير الذي يسمونه السنونو وقد كتب عليه في الحياة أن يترك عشه إلى أفق بعيد، يفرد فيه جناحيه، لأدركنا عمق اتلأسى والحنين، في مغادرة المنزل المألوف والأرض المعهودة

أبداً نرى الذين جلوا عن بلادهم ومعاهدهم متلهفين عليها، لا هجين بذكرها وآثارها. ولكم علق نظري بأسماء يونانية أو إيطالية كأثينا والأكروبول وفينيسيا وسواها، سميت بها بعض المتاجر والملاهي بمصر، فقلت يا الله! أقام الروم طويلا بضفاف النيل، وظلوا متعلقين بالوطن الأول. وفعل مثلهم أكثر المهاجرين من العرب إلى الديار الأمريكية والأفريقية، فإنشأوا بيوتاً وأسواقاً على طراز ما عرفوا في بلادهم وحافظوا على لهجاتهم وتقاليدهم، وقديماً بقيت الأندلس على عربيتها شرقية أصيلة

هذه خواطر طرفت بخيالي وفكري وأنا أتصور هجرة الرسول محمد بن عبد الله، وجعلتني أتساءل: ترى كيف كان شعور الرسول في تلك الليلة الخطيرة، فإن السيرة لم تقل لنا كب شيء، وما التحاور الذي كان بين محمد عليه السلام وبين صاحبه المحزون وهما يسريان في أناة وحذر، والبيداء تطويهما نحو المدينة؟ لقد بقي كثير من ذلك التحاور في ضمير الزمن، ولم يستطع الفن ولا الأدب أن يكشف عنه حرمة وتهيبا

إن في معنى الهجرة بتلك الليلة المرصودة ما يتعايا دون تصويره القلم واللسان لأنه يحتوي فيما يحتوي فراق الأهل البلد، لا لا كتساب الرزق والصيت أو لا لتماس السلوى في تبدل الوجوه والآفاق، بل من أجل هدف أسمى وأغلى، وفي سبيل إنسانية مثلى، تجعل كل بلد يذكر فيه اسم الله ورسوله وطناً لمحمد، فإن هذا الدين الحنيف لم يولد ليبقى بين الجبلين الاخشبين أو لتهفو إليه الأفئدة من صوب أبي قبيس فحسب، وإنما أراد الله أن يعم العالم

ص: 8

بالهدى والرحمة، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور

فمن أجل هذه الرسالة الخالدة فارق محمد بلده مضطراً مقهوراً، حتى عاد إليه مؤيدا منصورا، وفيه أعد المشعل الكبير الذي أمسك به أبو بكر ثم سلمه من بهد إلى عمر

لقد أقبل محمد بصاحبه الصديق على يثرب في لهفة وحسبان وإشفاق على من تركهم ف مكة حيارى يحذرون كيد المتربصين وعنت الأعداء، فتلقاه غطاريف الأوس والخزرج بالنصر والإيمان وراحوا يفدونه بالأرواح مخلصين، ويستجيبون لدعوته مؤيدين

وكان من شأن أكثر الفاتحين أن يدمروا البلاد التي يأخذونها، ولكن محمداً لم يهدم إلا الأصنام التي لكزها فانحدرت منكسة محطمة من أعلى الكعبة، ولم يكن عجباً في الدهر أن تحارب المدنية مكة، فقد حاربت إسبارطة أثينا، وكلتاهما من موطن واحد، وأشهدتنا الأيام القريبة حرب الجنوبيين في أمريكا للشماليين، على أن حرب الرسول عليه السلام ما كانت إلا لتحقيق الرسالة الإلهية التي أداها إنقاذاً للإنسانية التي ضلت سبيلها، وتاهت في جاهليتها متنكبة عن الخير والهدى، ولم يكن جهاده طمعاً في مآرب الدنيا والسيطرة على أهلها، بل في سبيل كلمة أراد أن تحق في الدنيا وأن تكون هي العليا، فإذا مرت هذه الذكرى بعد ترادف العصور بقيت خافقة بالحياة كأنها قد جرت البارحة، وإلا فما قيمة التاريخ، وما تعب الزمان في حفظ الأحداث ورواية الخطوب

إن كل تاريخ لا يروي لنا الذكرى ويبعثها حية خافقة في النفوس لهو في نظري تابوت ترقد فيه مومياء، ولهذا لا ينبغي أن نمر بذكره الهجرة مرور الحفاوة والتكريم كمن يفرح بعيد جميل قد مر بحياته أو بفرد من أفراد أهله، وإنما ينبغي أن نحس في ذكرى الهجرة بمثل ما أحس المؤمنون والأنصار حين أقبل عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعه صاحبه يتخففان من كيد المتمردين والحادقين، ويستأنسان بمن شد الأزر وفتح الصدر للرسالة التي جمعتهم على محبة وإيمان وعزم لم تزعزعه المحن والفتن، ولا هدته الصدمات والملمات

فما أروع المعاني التي احتوتها هجرة الرسول؛ وما أحرانا بأن نبعثها في حياتنا الراهنة فتحققها ونستلم منها القوة والاعتبار. بل ما أجدرنا بالتعاون على قهر العدو الذي يكيد لنا، وأي كيد أدهى وأمر من متشردين أهل فلسطين الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وضيما،

ص: 9

مستجيرين من دخيل غاصب أصبح بعون الطغاة الغاشمين صاحب الدار؟ فهل يتاح لهؤلاء المهاجرين المقهورين رجعة إلى ديارهم وبلادهم؟

من هنا ينبغي أن نفكر في ذكرى الهجرة بما صنع البغي بالنازحين واللاجئين، وأن نذكر أن عودتهم ونصرتهم تحققها كلمة الرسول وتعاليمه إن اتبعناها وما كانت لترضى بقبول الظلم والهوان، فإن رسالته وضحت كل شأن وقالت بأن لا نقيم على ضيم وخذلان، ولا نستخذى لغاصب لئيم، ففي هذه الذكرى يجب على كل بيت ومجتمع، ألا يقر له قرار إلا بالعمل على انتزاع شوكة الطغيان والعدوان من دنيانا التي ألمت بها أشتات الخطوب والمحن؛ حتى إذا مرت الذكرى بعثت الهمم وسددت الرأي والخطى، وفتحت أعين الرجال والنساء على عهد جديد في هذا الشرق الذي يستعيد اليوم مجده ويتحر من أغلال الظلم والفساد

القاهرة

وداد سكاكيني

ص: 10

‌مشاكل الجامعة

ترقيات المدرسين بالجامعة

للأستاذ محمد رجب البيومي

ينظر المهيمنون على شؤون التعليم نظرة إشفاق على المستوى الجامعي الذي أخذ ينحدر شيئاً فشيئاً - في مختلف كليات الجامعات - حتى أوشك أن يهبط إلى الحضيض، وتتضح هذه الحقيقة المؤلمة حين تجلس مع طالب في السنة الأولى بإحدى كليات الجامعة، وطالب آخر قد أتم سنواته الجامعية، فلن تجد فرقاً واضحاً بين التفكير العلمي لدى الطالبين، فكلاهما يشترك مع طلبة المدارس الثانوية في تلقين الدروس، وكتابة المذكرات وحشو الذهن بالمواد المتزاحمة، دون أن تتسع لديه البصيرة النافذة، والتمييز الدقيق، ودون أن تفيده الجامعة ما ينبغي أن يتمتع به من التفكير السليم، والاستنتاج العلمي المرتكز على قواعد من البحث والتعليل، ودون أن تخلع عليه الجامعة روح الابتكار والشمول المستوعب لدقائق الموضوع، مما يدفع بك إلى التساؤل عن سر هذه النكبات المتلاحقة التي أخذت ترصع الجامعيين، وتسد أمامهم الطريق

ونحن نلقي التبعة دائماً على السياسة الحزبية التي صرفت الطلاب عن واجبهم العلمي، وقذفت بهم إلى الجج من الفوضى والاستهتار، وهذا حق لا مريه فيه، ولكن الحق أيضاً أن نذكر نصيب الأساتذة في هذه التبعة الفادحة، فلا نجبن عن إعلان دروهم الرئيسي في تمثيل هذه المسرحية الحزينة، دون أن نقيم أي اعتبار لغير الصدق الذي لا يعدم النصير!

لقد كانت جامعة فؤاد الأول منذ أعوام حافلة بذخيرة ثمينة من الأساتذة الذين يتبوءون مناصبهم العلمية عن جدارة واستحقاق، وكانت مع ذلك تستقدم من أساتذة أوربا أعلام يدوي صيتهم العلمي في أنحاء العالم، فيقومون بتوجيه الطلاب أكمل توجيه، وينمو على أيديهم غرس زاهر يؤتي الثمر ويمد الظلال، ثم أنشئت جامعتا فاروق وإبراهيم - وسينشأ غيرها من الجامعات - فأخذ ولاة الأمور يبحثون عن أساتذة يملئون الفراغ بجدارة مشرفة، فلا يجدون غير أساتذة الجامعة الأولى فتخطفتهم الجامعات تخطفاً غير عادل، دون أن يكملوا النقص الشاسع المديد، واضطر المهيمنون على الجامعات أن ينشروا الإعلانات في الصحف باحثين عن مدرسين أو مساعدين يقضون حاجات المعامل والفصول والمدرجات،

ص: 11

وكأنهم يبحثون عن مبنى (للبيع) أو شقة للإيجار، وهم معذورون في ذلك مهما ثلمت كرامة التدريس الجامعي، فالمضطر يركب الصعب في أتعس الأحوال! وحين لم يجدوا من تتوفر فيهم الكفايات المنشودة ملئوا الأماكن بالمعيدين وإضرابهم من ذوي الحداثة في السن والتوجيه، وهؤلاء كانوا منذ شهور يتلقون الدروس، فأصبحوا بمعجزة خارقة مدرسين يقومون بالشرح والتفهيم، ولن ننكر ما قد يكون لدى القليل من النضوج والاستعداد، ولكن الكثرة الغالبة في حاجة ملحة إلى التمرين بالمدارس الثانوية من جهة، وغلى البعثات العلمية من جهة أخرى، ليجدوا في عقولهم ما يقدمونه إلى الطلاب في مختلف المواد، بل إن الكثير من هؤلاء المعيدين يتملقون زملاءهم الطلاب - ستر للضعف العلمي بما يعود بالخيبة والإخفاق، وهذه جناية التقليد الضرير الذي يأخذ بالقشور دون اللباب! وليت الجامعات واصلت الاستعانة بأساتذة أوربا في الكليات العلمية - على وجه الخصوص - فهي فقيرة إلى الأكفاء من الأساتذة، بل وإن التسرع العاجل قد حال دون الانتفاع بذوي الكفاية والمواهب، دون أن نعرف سبباً منطقياً ينأي عن العواطف والنزوات، مع أن جامعات الغرب - فوق تقدمها الملموس - تستقدم من أساتذة الشرق من ترى في انتدابهم النفع والسداد، فلم لا نقلدهم مخلصين في ملء هذا الفراغ؟ أكبر الظن أننا نثق إلى حد مضحك في كفاءة المعيدين، قانعين بالإعلانات المتكررة في الصحف والمجلات

وأنت تنظر إلى مناصب الدولة عندنا فتجدها متخمة بأساتذة الجامعة السابقين من ذوي القدرات الممتازة، فتتساءل عن هذا الفرار السريع من ميدان التربية والتدريس، مع ما نعلمه من حرص الأساتذة في جامعات أوربا على التدريس بالجامعات رغم المغريات اللامعة، وقد يكون المغنم المادي جزيلا خارج الجامعة، أو يكون للمنصب الجديد بريق يؤذن بالنفوذ والأبهة والجاه، قد يكون هذا وذاك، ولكن يجب أن نذكر أن ازدحام الجامعة بمن لا يصلحون للتدريس قد زين الفرار لأساتذتهم من ميدانهم الأصيل، كيلا يجتمع الطيب والخبيث في منزلة واحدة أمام الأنظار

وإذا كان لابد من الترقية لهؤلاء المعيدين، ونظرائهم من المدرسين والمساعدين، فعلى أي منوال تكون الترقية القريبة من العدالة والإنصاف؟ لقد تطاحنت الآراء حول هذا الموضوع طاحنا وصل صداه إلى الصحف والأندية، وجاوز الحرم الجامعي بأميال، ففريق يؤمن بأن

ص: 12

الأبحاث العلمية هي الميزان الدقيق للكفاءة الممتازة والترقية العادلة، وفريق يخالف ذلك مخالفة شديدة، ويجهر بأن الأبحاث العلمية لا تصلح ميزاناً عادلاً للترقية في درجات التدريس، ولهذا الفريق المتحمس أدلته التي لا تخرج عن نقاط ثلاث

أن التدريس ملكة مغايرة للبحث، إذ قد يكون من لا يجيد البحث والتأليف مدرساً لامعاً من أحسن طراز

أن الأبحاث العلمية ستكون طوفانا حافلا بالمكرر التافه من الآراء، إذ لا يتسنى لكل مدرس أن يبتكر الطريف النافع، فيلجأ إلى القول الزائفة، والتلفيق السخيف

أننا بتقديس الأبحاث نجحد الاكتشافات العلمية، التي تستنفد الوقت الطويل للوصول إلى مخترع حديث، أو علاج جديد، وبذلك لن يتقدم العلم خطوة واحدة، بل ربما رجع إلى الوراء

وقد تبدو هذه النقاط الثلاث مقبولة عند النظرة الأولى، ولكنا بعد التأمل الفاحص نجدها زائفة لا تستند إلى منطق صحيح، وربما كان الهروب من التبعة الفكرية والاستقرار العلمي باعثاً على اختلافها وتصيد الأسانيد الموهومة لتدعيمها، والجري وراء الأقدمية المطلقة، جرياً يبعث على الدهشة والاستغراب؛ فالنقطة الأولى التي تباعد ما بين البحث والتدريس صادقة بالنظر إلى تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية فقط، فهو لا يحتاجون إلى العلم الزاخر والمادة الغزيرة، بل يتطلبون المدرس الملم بالطرق الخاصة للتدريس، وإن كان قاصر المادة محدود الاطلاع، لتمكن من تبسيط المعلومات وتيسيرها من طريق مختصر، أما المدرس الجامعي فيجد أمامه طلاباً في مرحلة الشباب، وقد كمل نموها العقلي والجسمي والعاطفي، وألموا بطائفة من المواد تساعدهم على استيعاب النواحي الأبحاث الجامعية، وتهيئتهم للبحث المتسع الأفق، المتشعب النواحي، القائم على أسس وطيدة من حرية التفكير وسلامة المنطق، فهم في حاجة إلى مدرس عالم مارس البحث العلمي ليشبع الرغبات النهمة، ويفتح النوافذ الموصدة، وبقدر مكانة الأستاذ العلمية يكون نجاحه وتوفيقه في التدريس الجامعي مع علو أقدارهم في البحث والتأليف، فهم من القلة بحيث لا ينبغي أن نتخذ منهم قاعدة عامة تندرج على الجميع. وأرى بهذه المناسبة أن تحتم الجامعة على كل من يتأهب للتدريس بها ممن يجدون من أبنائها المتخرجين، أن يدرسوا مبادئ التربية

ص: 13

والطرق الخاصة، وعلم النفس دراسة مستوعبة، لتنعدم الهواة الجاثمة بين البحث والتدريس لدى القلة الضئيلة من الجامعيين، وإني لأعجب كيف يكون المدرس في التعليم الثانوي والابتدائي متخرجاً من معهد التربية العالي للمعلمين، ولا يكون المدرس الجامعي مشاركاً به في الدراسة بهذا المعهد الممتاز، إذ أنه يواجه من مشاكل الشباب ومتاعبه وانحرافاته مثل ما يواجه المدرس الابتدائي من مشاكل الطفولة، والمدرس الثانوي من مشاكل المراهقة، وجميع هذه المشاكل تدرس بتوسع في معاهد التربية العالية، ولن تغني عنها الدكتوراه أو الماجستير في شيء، فلم لا نلتفت إلى هذا النقص الخطير؟

وتأتي النقطة الثانية فنعلن أن الخوف من التكرار والتفاهة في الأبحاث العلمية لا يجد مبرراً يستند إليه، فهذه البحوث تقدم إلى هيئة عالية محترمة، تعرف الجيد من الرديء، وتميز بيم من يسلك النهج المنطقي في العرض والاستقراء والاستنباط، ويعمد إلى المشكلات الغامضة فيزيل إخفائها ويكشف إبهامها، ويأتي بجديد يصحح فكرة خاطئة، أو يغير وضعاً فاسداً؛ أجل! هذه الهيئة المحترمة العالية تميز بين هذا الباحث الضليع، وبين من يخبط في بحوثه السقيمة خبط عشواء، فيجمع إلى التفاهة والتكرار فساد المنطق، وضعف التفكير ومتى كانت الموازنة عادلة صادقة، فلا خوف على الدرجات الجامعية أن ينالها غير الأكفاء الناهضين، ولن يغضب إنسان ما من كثرة الأبحاث وتنوع المؤلفات، لأن الزبد يذهب جفاء، بل ربما كان البحث المضطرب التافه سلما إلى البحث المعتدل الأصيل، ولا يزال السائر في الظلام يتخبط في المجاهل والدروب حتى يشرق عليه الصباح الباهر فيهتدي إلى الطريق

أما ما يدعونه من جحود الكشف العلمي الجديد، وعدم الالتفات إليه لدى الترقية من درجة إلى درجة، فهذا لا ينبغي أن يقنع به أحد، إذ أن الكشف العلمي - ومع توشقنا إليه - من الندرة والقلة بحيث لا يصلح أن يكون قاعدة جامعية عامة تطبق على الأساتذة والمدرسين لدى الترقيات، فإذا وفق الله عبقراً جامعياً، وخرج على الناس بكشف يزيد من سطور الحضارة، ويضع لبنة في صرح العلم، فالجامعة إذ ذلك تقدره حق قدره، وتجعله استثناء ممتازاً للقاعدة التي تسير عليها دون أن يعترض عليها إنسان، بل إن مكافأته الطيبة لن تقتصر على الجامعة وحدها، بل تنتقل إلى الأوساط العلمية التي تشيد بالكفاح الذهني

ص: 14

وتحني رأسها للدأب والنبوغ

إن البحوث العلمية ميزان عادل للترقية في الجامعة، وهي التي تدفع المدرسين إلى العمل المثمر، وتقطع عليهم طريق التثاوب والخمول، وإذا وجد مدرس يتمتع بالبراعة في التدريس دون أن يجيد البحث العلمي، فمن الإنصاف لنفسه أن يظل مدرسا لا يرقى إلى الأستاذية بحال، إذ أن الأستاذ الجامعي في موضع جليل الخطر، عظيم المهابة، فيجب أن يمارس البحث الدائب، والعمل الناطق، وبغير هذه البحوث المتواصلة لن ترقى جامعة، أو يتقدم شعب يعتمد على التربية الصحيحة ليشق طريقه في ميدان الحياة

محمد رحب البيومي

ص: 15

‌إلى الأستاذ نبيل النجار المحامي

حول مقال إلغاء الدين الرسمي

للأستاذ عبد الباسط محمد حسن

ليس في استطاعة أمة من الأمم أن تعيش في حاضرها منعزلة عن ماضيها. وليس في طبيعة الإنسانية أن تحيه دولة دون أن تتصل بغيرها (وإلا قدر لأبناء هذه الدولة أن يظلوا بعيدين عن ركب الحياة) متخلفين عن قافلة الإنسانية

والأمم الناهضة هي التي يستطيع أبناؤها أن يتأثروا بالاتجاهات الحديثة التي يمر بها العالم دون أن ينسوا ماضيهم (ويتجاوبوا مع التيارات الجديدة دون أن يسيروا على منهاج مبتكر منقول يخالف تراثهم الروحي والاجتماعي)

ولقد أخذت التيارات الغربية تغزو ميادين الحياة في الشرق، ولهذا لزمنا أن نصمد لها. . ونفيد منها بمقدار محدود. . حتى لا تتغير معالم الحياة في بلادنا. . ولا يجرفنا التيار إلى سبيل لا نعرف نهايته

ففي الغرب نرى تحاملاً متأصلاً في النفوس ضد الدين الإسلامي وعلة هذا التحامل جهل القوم بتعاليم دين لا يعتنقونه. . فليس غريبا إذن أن ينكروا على الدين كثيراً من حقائقه الثابتة، ويحاولوا أن يشوهوا الكثير من مبادئه وأهدافه

ولكن الغريب حقا أن يردد بعض المسلمين ما يقوله الغربيون، عن جهل وتعصل، دون أن ينظروا إلى هذه الآراء نظرة فاحصة مدققة، وقبل أن يزنوا الأمور بميزان دقيق، فيه شيء من الحكمة والعدل. . فبالأمس القريب: كتب الأستاذ محمد عبد الله عدنان مقالاً بمجلة الثقافة طالب فيه بتنحية الدين عن الحكم والحياة. . وقال إن مصر إذا كانت دولة إسلامية فليس معنى هذا أنها دولة دينية

وقد رد عليه الزميل الفاضل (محمد رجب البيومي) رداً كافياً لم يستطع معه الأستاذ عنان أن يعقب عليه بشيء

واليوم قرأت مقالاً جريئاً. . تمادى فيه قاتله إلى حد أن طالب

بإلغاء الإسلام كدين رسمي للدولة، وقد جاء هذا المقال

ص: 16

المنشور بجريدة الشباب الصادر بتاريخ 2781952 ما يلي:

(إن مصر هي الدولة الوحيدة فيما نعلم التي لها دين. . فالمفروض أن الدين لله يعتنقه الأفراد. . والمفروض أن الدولة تجمع عديداً من الأفراد ذوي العديد من الأديان. . فتخصص دين واحد، وربط الدولة به هو الأمر العجيب. . والواقع أن أسطورة الدين الرسمي للدولة هي بقية من عهود الطغيان والإقطاع. وهو فوق هذا سبة في جبين مصر. . فقد اندثر هذا النص من كل دول العالم إثر الثورة الفرنسية، لأنه نص مخجل ومعيب، ولن نتوقع لمصر ارتقاء ما دام باقيا ذلك النص بما يستتبعه من تهريج واضطهاد، ومن تفتيت لوحدة الأمة، فيجب فوراً على العهد الجديد الجريء أن يلغيه بجرة قلم، فإن التخلص من سوءات الماضي لا يحتاج إلى ذرة من التأني والتفكير)

وإن التأمل في هذا القول، يرى أنه ليس صادراً عن قلب يعمره الإيمان، أو نفس تشع فيها أضواء الفضيلة، وأنوار الهداية واليقين، كما أنه من ناصية أخرى لا يقوم على أساس ولا يستند إلى دليل

يقول الأستاذ النجار:

(إن مصر هي الدولة الوحيدة التي لها دين، والمفروض أن الدين لله) وليس الأمر كما يرى الأستاذ الفاضل، فمعظم البلاد الشرقية تنص دساتيرها على أن الإسلام دين الدولة الرسمي، فإن كانت دول الغرب لا تأخذ بهذا النظام ولا تنص عليه، فذلك لخلاف في جوهر الدين نفسه، فقد تركت المسيحية (ما لقيصر لقيصر. . وما لله لله) وانصرفت إلى التهذيب الروحي، والتطهر الوجداني، بينما تركت للقوانين الوضعية تنظيم المجتمع وتسيير الحياة. .

نشأت المسيحية في مجتمع منظم متكامل تسود فيه قوانين الرومان التي تعبر من أعظم القوانين التي ظهرت في العالم حتى عصرنا هذا، فلم تكن هناك حاجة لأن تتجه إلى وضع أساس الحكم، وتشييد بناء الدولة، وإنما كان عليها أن تهذب البناء وتصقله وتعدله دون أن تغيره. . أما الإسلام فقد نشأ في مجتمع غير متكامل، ضاعت فيه القيم الأخلاقية والروحية، وتلاشت منه مبادئ العدالة والحرية والمساواة، فكان عليه أن ينظم المجتمع، ويعيد بناء

ص: 17

الدولة من جديد

قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)

بهذا نرى أن الإسلام يخالف المسيحية من ناحية الحكم، فإن كان للمسيحيين أن يعزلوا الدين عن الحياة، فليس لنا أن نقلدهم في ذلك، ونهمل كل تراثنا الروحي، وجميع مقوماتها الفكرية والاجتماعية

يرى الأستاذ النجار بعد ذلك أن ربط الدولة بدين واحد أمر عجيب لأن في الدولة عديدا من الأفراد ذوي العديد من الديانات

وأحب أن أرد على الأستاذ في ذلك بأن الدولة وإن كان بها العديد من الأفراد، إلا أن الغالية العظمى منهم يدينون بالإسلام، فإذا نص الدستور على أن الإسلام دين الدولة الرسمي، فذلك يعتبر تمشياً مع عقيدة الغالبية العظمى، وهو في الوقت ذاته يمنح جميع أفراده الحرية الشخصية وحرية العقيدة، ولا يجبر أحداً على أن يتخلى عن دينه، أو يترك عقيدته. .

وقد نزل القرآن الكريم داعياً للحب، مبشراً بالتسامح، منفراً من إكراه الناس على اعتناق الإسلام بقوله تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وليس لأحد من رجال دينه على أحد سلطاناً (لكم دينكم ولي دين)

يرى الأستاذ النجار بعد ذلك أن الدين أسطورة من عهود الطغيان) والواقع التاريخي لجميع الأديان السماوية يناقض ذلك، فلقد قامت المسيحية - مثلاً - لتقاوم طغيان الأباطرة الرومان، ولذلك لاقى داعتها الكثير من ضروب القسوة والاضطهاد على أيدي نيرون، ودقلديانوس وتراجان وغيرهم

فقد أمر نيرون بإحراق روما ليستمتع بمرآها، ولبثت النار تضطرم في المدينة وتأتي على من فيها ستة أيام كاملة، ثم ألقى تبعة إحراقها على عاتق المسيحيين، فأشعلت فيهم النيران بعد أن طليت أجسامهم بالقار، وأقيمت حفلة ألعاب في بستان هذا الطاغية، وكان هؤلاء الضحايا هم المصابيح التي تضيء البستان!

وأراد الإمبراطور دقلديانوس أن يؤلهه المسيحيون في مصر فأبوا الإذعان لإرادته، والخضوع لمشيئته، فتولاهم بالسجن والإحراق، وأمعن في تعذيبهم والتنكيل بهم حتى سمي

ص: 18

عصره (بعصر الشهداء) وكذلك قام الإسلام ليحقق العدالة الاجتماعية ويحارب طغيان القوى، ويحد من سطوته وبطشه، ويقضي على نزعة الجاهلية التي تمجد الظلم والتي وصفها الشاعر بقوله:

لنا الدنيا ومن أمسى عليها

ونبطش حين نبطش قاردينا

بغاة ظالمين وما ظلمنا

ولكنا سنبدأ ظالمينا

قد يقول قائل: إن هذه الأديان قد استغلت في بعض عصور التاريخ، لتسخير الجماهير، واستغلال أفراد الشعب، ولكن العيب في ذلك لا يقع إلى الدين، وإنما على القائمين بأمور الدين

فلقد دعت الأديان إلى المحافظة على الكرامة الإنسانية. ودعت إلى مقاومة الظلم. . والوقوف في وجه المعتدين، ولو أدى ذلك إلى الهجرة، قال تعالى:(إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا. .)

ولقد تمادى الأستاذ بعد ذلك في تهجمه على الدين، فنسب إليه التهريج والتأخر والاضطهاد، والإسلام برئ من هذه الصفات، منزه عن هذه العيوب، فالإيمان بدين لا يستلزم التعصب والاضطهاد إلا عند من صدئت قلوبهم، وأظلمت عقولهم وأكلت الأحقاد صدورهم، والإسلام. . كما ذكرت سابقاً. . يدعو إلى التسامح والمساواة. . وينهى عن التعصب والتزمت. . .

وبعد: فإن الدين الذي ينهض بالمجتمع العربي، ونقله من الضعف إلى القوة. . ومن الظلمات إلى النور. . لا يزال هو الدين لم يتغير منه شيء. . وإنما تغير معتنقوه، والقائمون على أمر

ونصيحتي للأستاذ النجار. . ألا يتحدث في شؤون الدين. وهو على ما يبدو من كتابته. . جاهل بأبسط قواعد الدين. وعليه أن يتعمق في فهم تعاليم الإسلام الخالدة، ومبادئه المثالية السامية. . قبل أن يصدر عليه أحكاما خاطئة. . منافية لأبسط قواعد العلم والمنطق

عبد الباسط محمد حسن

ص: 19

‌شلر

دراسة تحليلية

(للكاتب الإنجليزي الكبير توماس كارليل)

ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

لا شك أن دارسي الأدب الألماني أو الأدب بصورة عامة سيقابلون بكل ترحيب الكشف عن العلاقات الخصوصية بين أديبين عظيمين في هذا الحقل بذَّ أقرانهما في عصرهما وكانت لهما اليد الطولي في إعلاء شأن الأدب، لأن كل ما كتبه جوته أوشلر في أي موضوع كان له أهميته الخاصة. والذي سنقدمه في هذا الشأن هو الرسائل الخصوصية التي تبودلت بين الأديبين العظيمين. هذه الرسائل التي لها علاقة وثقي بهذه الفترة الهامة من التاريخ الروحي ليس للفرقاء المعنيين بالأمور وحسب بل وببلادهما كذلك. هذه البلاد التي كانت تعج بالبحوث الصغيرة منها والكبيرة، وعلى الرغم من أن الذين عالجوا هذه البحوث كانوا أناساً أحط موهبة وأقل قدراً من الأديبين الكبيرين، إلا أن هذه المعالجات كانت ذات أهمية غير يسيرة. (لأنها كشف النقاب عن الحوادث التي اعتورت البلاد في تلك الفترة)

لقد سمعنا وعرفنا كثيراً عن هذين الأديبين الفذين، وعن صداقتهما وتعاونهما في أعمال نبيلة عديدة، وكانت ثمرة ذلك لكل إنسان. ونستطيع في معرض بحثنا هذا - على الظروف الخافية التكوينية لكل هذا ونتتبع أثر النتيجة (المثالية) ونشرح علاقتها بجذورها الأصلية، وكيف كانا يعيشان ويعملان سوية في هذا المحيط التافه من العالم وكيف كان يكتب (فاوست) و (وليم تيل) على الورق المتهري كما تكتب ورايات منيرفا أو أغنيات رجل ينتسب إلى خاصة الناس! إن المختصين في الأدبيات لهم ولعهم المعروف في البحث والتنقيب والتمحيص. . ولكن دعنا نبتعد قليلاً عن الاختصاص أو أي موضوع شكلي آخر. . فليس لهذه الأشياء أي تأثير في حي الاستطلاع الذي يجمعنا كلا شاملا في صعيد واحد كبشر. والدليل على أن عطفنا فيما بيننا غير محدود هو هذا البحر الهائل من توافه الشائعات التي تجعلنا نشعر بالرابطة الشائعات إلا ترجمة غير كاملة). ولا ريب أن الجنس

ص: 20

البشري يستوعب ويلفظ يومياً هذه الشائعات بصورة استمرارية، وإذا كان حب الاستطلاع مسيطراً علينا هذه السيطرة التامة فيما يخص الشائعات العادية، فكم بالأحرى تكون لأحاديث حوته وشلر أهميتها الكبرى التي تغارينا النزاهة نفسها على الإنصات إليهما فيما لو كنا عائشين في عصرهما، ولكن من سوء الطالع أن تمر هذه الأحاديث لتوها في الساعة التي شهدتها. ولنعد الآن إلى الرسائل والردود المتبادلة بينمها، فإنها على ما هي عليه من حيوية وصراحة ومحبة، لم تتركا غير الرموز والخلاصات المقتضبة. . فالحركة الدراماتيكية التي كانت تمثل على مسرح الحياة لا تخلف شيئاً غير النتائج التاريخية الباهتة وهي كل ما يتبقى لدينا. . ومن الحق القول أن كل رسالة خصوصية تبين نوعا مت شخصية الكاتب، ولكن التصوير عاجز كل العجز عن تشخيص الطبيعة الروحية. فالهرم يمكن قياسه ورسمه من قبل مهندس بارع بحيث يصبح واضحاً للعيان، وكذلك يمكن رسم جبل (مونت بلانك) بألوانه وأشكاله وفي متاحفنا صور طبق الأصل لكل ذلك. أما تشخيص الرجال العظام وتصوير هذا الطراز من الرجال، وهكذا. . فالصور التي في حوزتنا تظهر من خلال سجف التاريخ باهتة ضعيفة غير واضحة المعالم، وهي بعيدة كل البعد عن سحرها الذي امتازت به، وقوتنا كلها عاجزة عن تجسيدهم كما هم رجالاً أحياء ينبضون بالقوة والحيوية الدافقة وكل الذي نتمكن أن نفعله الآن لا يتعدى تصوير أشخاص أشبه شيء بأشباح أوسيان في ظلال الغبش، فسقراطنا ولو ثرنا - بعد كل هذا الذي قيل عنهما - ليسا في الحقيقة سوى شخصين غير مرئيين، فليس حكيم أثبنا ولا راخب ايسلبين شخصين بالمعنى المعروف وإنما هما لقب ليس إلا. ومع ذلك فهؤلاء الرجال، وليس الألب أو (الكوليسيوم) هم من عجائب الدنيا وهؤلاء أنفسهم هم الذين نسعى جاهدين لطبع أفكارهم في ذاكرتنا. إن الرجال العظام هم أعمدة النار التي تقود حجيج الإنسانية، والتي تنتصب كبشائر سماوية وشواهد على ما حدث وأدلة ناطقة على ما سيحدث من شؤون تقرر مصير العالم بأجمعه، وهم في الوقت نفسه الإمكانيات المتجمدة الظاهرية للطبيعة الإنسانية المغلقة بالألغاز والأحاجي، وهم بهذا الاعتبار يمثلون العظمة غير المنظورة وغير المدركة عقلا حتى من قبل أنفسهم كبشر. على الرغم من أنهم يحبونها أشد الحب ويحترمونها أكبر الاحترام، ولكنهم يضطرون، تحت الظروف القاهرة، على أن يظلوا غير مدركين لهذه

ص: 21

العظمة في هذه الحياة. كم من الأسباب الوجيهة وكم من المغريات البريئة تجتذب حي استطلاعنا إلى مثل هؤلاء الأشخاص الأفذاذ. سنحاول التعرف عليهم ورؤيتهم عيانا كما نرى أنفسنا، فكل ملاحظة وكل إشارة تخصهم تهمنا بالغ الأهمية. . . والنفوس العظيمة التي مضت لحال سبيلهم لم يبق منها صور مجردة، أما مميزاتها الخارجية، لا. . بل وحتى الداخلية - في بعض الأحوال - والتي كانت تتصف بها فقد ذهبت إلى العالم الثاني هي الأخرى، ولم يبق إلا أن نعتمد على التاريخ في تصوير بعد الذكريات البسيطة التي لها أقل علاقة بها ومع ذلك فهذا التاريخ - على ما فيه من نواقص وعيوب - هو الكنانة التي احتفظت ببعض الذكريات والتي لو لاها لأضحت في خبر مكان. إن الرسائل المتبادلة بين شلر وجوته تمتاز بميزة ثمينة للغاية وهذه الميزة هي الحقيقة بالذات، وهي تتجلى في كل الظروف والأحوال، سواء كان ذلك من جهة أصالة الحقيقة الواقعة أو الرأي الخاص بهذه الحقيقة، أما الإخلاص فبين بكل وضوح في مثل هذه الأسلوب، واللطف الطبيعي لا يمكن أن يعرقل حق حرية الكلام أو الفكرة في مثل هذه الأحوال، ولم تكن الغايات إلا غايات شريفة. وكان الإخلاص المتبادل بين الطرفين من الوضوح لدرجة أنه كان يتعذر على أي ستار مهما بلغ سمكه على إخفائه، وعلى هذا فكلا الصورتين الذاتيتين تشبه الحقيقة الأصلية وتماثلها أحسن المماثلة. وقد يرغب بعض القراء أن يرى مزيجا مما يمكن أن ندعوه بالشؤون المنزلية مختلطاً بالآمال والمخاوف والمشاعر التي كانت تساور الشاعرين العظيمين، لما للأول من علاقة متينة بالحياة الإنسانية الاعتيادية، ولكن بالرغم من بحثنا المرهق الطويل لم نعثر على شيء من ذلك، مع علمنا الأكيد أن هذا النقص نادراً ما يحدث في المراسلات الحديثة، وعلى هذا فإنه يتبق لدينا في هذا الخضم الواسع في الخير والشر والحالة المعاشية والعاطفية كالفقر والغنى والفرح والحزن، قلنا لم يتبق لدينا إلا النزر اليسير وإلا ما شح وقل، ولعل رغبة القراء الذين يعيشون في بلاد هذين الشاعرين في ذلك أقل لأنهم؛ على اتصال بالحياة اليومية التي واكبت حياة الشاعرين، مع اختلاف في الزمن وبعض العادات التي تغيرت تبعاً للتطور بخلاف الأجانب الذين يرغبون رغبة ملحة في استطلاع شؤون البلد الذي ترعرع فيه الكاتب والشاعر والأديب، وهذا جلي وواضح، وعلى أي حال يجب ألا ننسى أن شلر وجته أديبان، وأن حياتهما الاجتماعية ما هي إلا

ص: 22

هيكل الوجود الفاني، وليس لهذا الهيكل علاقة بالوجود الروحي إلا كما تكون علاقة الخضوع والتبعية، وهذا بحد ذاته لا يحتاج إلى ذكر مستفيض. زد على ذلك أن الناس المثقفين - نظراً لمزاجهم الطبيعي - ينفرون من الخضوع للعواطف الهائجة، ولا يظهرون ما يعالج في نفوسهم حتى إلى أقرب المقربين إليهم. وهذا ما يخفف من حرارة المراسلات ولكنه في الوقت نفسه يزيد من سعادتهم الخاصة، لأن من يحمل قلبه في ردته لا يأمن عليه من نقر الغربان كما يقول المثل السائر، وعلى الرغم من أننا لا نبحث اعترافات رو سو حقها في الإفصاح عن مكونات قلب الكاتب؛ إلا أننا لا نجد شيئاً من هذه لاعترافات الجريئة في هذه المراسلات موضوع البحث

وفي الوقت ذاته هناك بعض الآثار ذات الطابع المنزلي منتشرة هنا وهناك نتقبلها ونحن مسرورين ولا نؤاخذها بشيء غير ندرتها، ولكن هذه المراسلات تحتفظ بصورة ذات أهمية قصوى، إذا اعتبرناها حق اعتبارها، وهي التي تشغل بالنا أكثر من تلك القسمات المنزلية. فهي تظهر لنا عقليتين مبدعتين شاعريتين، تنميان ثقافتهما بصورة منظورة، وتتقدمان من درجة إلى أخرى في القوة والجلاء والاستعلاء، وهما لا يسيران في طريق واحدة بل في اتجاه واحد. ومن هذا التقدم يمكن لكل شخص - مهما بلغت درجة ثقافته - أن يستفيد فائدة نفسية كبرى من هذه الدروس الغنية بمحتواها الأدبي. والقيمة الكامنة في هذه الدروس تزداد كلما تقدمت المراسلات، مع اختلاف في التطور، وتظهر على الخصوص على سيماء شلر، الذي يختلف عن صاحبه بصغر سنه وتأثره به، وهذه السنوات الإحدى عشرة تعبر أهم فترة من حياة شلر الروحية. وفي الحقيقة إن هذه الفترة يمكن اعتبارها التأريخ التقدمي منذ عثوره على الطريق المستقيم الذي نهجه في مستقبل أيامه

ولا يعنينا الآن التطرق إلى صفات عذع الوسائل ولا إلى محاسنها سواء كان منها العرضية أو الجوهرية، على ما هي عليه من قيمة كبيرة. أما العلاقة المتقابلة الشريفة الصريحة التي تظهر بين المراسلين وأسلوبهما وأهمية كل ذلك وما يتصف به هذا العمل من وجهة النظر الفلسفية والبيوغرافية، فنأمل أن نوفيها حقها جميعا في مناسبة مقبلة. ومع ذلك فبعض التأملات المجردة والاستنتاجات الأخرى ستبرز من تلقاء نفسها، وستظهر في بحثنا هذا،

ص: 23

على الرغم من أن القراء الإنجليز لا يهتمون بالرسائل قدر اهتمامهم بشخصية الكاتبين الشاعرين. فالرأي العام له بعض الإلمام بجوته، ولكن غبته في التعرف على شلر أكبر؛ لأن معرفته به قليلة جداً، وعلى هذا فإن رغبتنا الآنية تتلخص في تقريب شلر على نفوس القراء. كان يجب أن نذكر شيئاً عن شلر في مجلتنا، ليس لأهميته في الآداب الألمانية وحسب؛ بل في الآداب الأوربية كذلك، وهذه خطيئة نأمل أن نكفر عنها الآن وفي بحثنا هذا. أثبت الرجل عبقريته الشعرية والفلسفية بسلوكه وبسلسلة كتاباته التي أبانت ذلك للجميع، يتجلى ذلك في إعجاب أمته به في أثناء حياته وشهرته التي طبقت الخافقين خلال الخمسة والعشرين سنة التي أعقبت وفاته، هذه الشهرة التي استمرت في النمو والتوسع وتثبيت نفسها، وهذا ما لم ينله إلا ذو حظ عظيم. وليس بخاف أن عدم ذكرنا له ليس مرده إلى عدم إعجابنا به، بل لأن هناك كثيراً من الآداب الأجنبية تحتاج إلى الشرح والتفسير بخلاف شلر الذي يفسر نفسه بنفسه. تمتاز عظمة شلر ببساطتها، وأسلوبه في عرض هذه العظمة مفهوم من قبل كل شخص. ومن بين الكتاب الألمان الذين يمكن اعتبارهم من درجته، باستثناء كلوبستوك، يعتبر شلر أبعد ما يكون عن الوطنية بمعناها الضيق، اللهم إلا إذا اعتبرنا كلمة ألماني بما تعنيه من صدق وإخلاص ونبل وشهامة. أما أسلوبه في التفكير والنقاش فهو أوربي ما في ذلك ريب. وعليه فليس غريباً أن نلاحظ أن أي كاتب ألماني آخر لم يقابل بمثل هذا القبول الحسن لدى الأجانب، ولم يحظ بمثل ما حظى به بصورة دائمة. فجعله الفرنسيون قبلة أنظارهم ومطمح مقاصدهم، يتبين ذلك من ترجمتهم لمؤلفاته وشرحهم لها وتمثيلهم لرواياته على المسرح، واحترام أكثر النقاد له احتراما بالغاً. وهكذا أصبح شلر لدى الرومانيين الأستاذ الأكبر والمثل الأعلى والسفير الوسيط بين المدرستين القديمة والحديثة، وغدت مؤلفاته جسراً ذهبياً يصل حدائق فرسايل بأرض العجائب. وكذلك الحال معنا، نحن الذين لا نعير أهمية للرومانسية ولا للكلاسيكية، وخصوصاً بعد أن ذهبت ريح المشادة التي أثارها (باولز) بخصوص الشاعر بوب، على أن ذلك لا يمنعنا مطلقاً من أن نشعر بالاحترام العميق له؛ واحترامنا هذا لا يقتصر علينا وحدنا؛ بل يتعدانا إلى كل شخص له اقل ميل شعري. فقراء الألمانية، وهؤلاء يزدادون باطراد مستمر يعتبروت شلر باكورة الدراسات، وحتى ثقلاء الفهم منهم مجبرون على الاستمتاع بجمال كتاباته. أما

ص: 24

الأشخاص الذين لا يعرفون الألمانية فعندنا لهم تراجم كثيرة ومتعددة، ولو أن هذه التراجم تفقد كثيراً من رونق الأصل، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون سدا حائلا بينهم وبين التمتع بأشعة نور الشمس الأصلية. وهذه التراجم ستوقظ الحب في القلوب الحساسة والنفوس المرهفة مما سيدفعها حتماً على الإدراك المباشر. . .

وأهم جزء من واجبنا الآن هو الدفاع عن شلر وتوكيد قيمته ووضعه في المكانة اللائقة به. إن التعريف بكتاباته مستمر بسرعة وبالطريقة الصائبة التي يمكن إحرازها بالدراسة القريبة للقلب وبالمحبة التي تعمر قلوب الذين أوتوا الفهم النزيه وروح التطلع التي لا تني تبحث وتفكر وتعمل على الحصول على أعلى درجات الكمال. أضف إلى ذلك أن مؤلفات شلر لا تحتاج إلى أقل الشروح، فهي تشرح نفسها بنفسها كما ذكرنا سابقاً. فقيمة مثل هذا النوع من العظمة وشاعرية من هذا الطراز تظهران سافرتين مكشوفتين، فكتاباته لا يمكن أن يصل إلى مستواها أحد لما تمتاز به من صراحة قل أمثالها وعزت على منال الكثيرين

وما من شك أن واجب النقد يقتضينا أن نوفي حق مثل هذا الشاعر الذي فسر مداهمات المجهول. وكل شاعر يجد نفسه مولوداً في محيط تافه، وعليه أن يجادل ويناضل للتخلص من قيود صغار العالم الواقعي إلى حرية العالم المثالي اللامحدود. . وتأريخ مثل هذا النضال يعتبر في الوقت ذاته تأريخ حياته نفسها، ومن هذا يمكننا أن نستمد عبراً ذات أهمية كبرى. ولم يجز سعيه الشاق هذا - على سموه - أي جزاء اللهم إلا إذا اعتبرنا الجزاء ذاتيا. ولكن قانون وجوده بحد ذاته، اضطره إلى قبول مثل هذه العمل الشاق والاستمرار في أدائه وتحمل أعبائه، وإلا كان البديل لذلك التعاسة بعينها، وقد تخلق التعاسة نفسها مواهب وكفايات، وكثيراً ما كان الأمر كذلك في معظم الأشخاص الذين ابتلوا بهذه التعاسة. . .

أما اضطراب شبابه فهو (اضطراب العبقرية) التي كانت تظهر أحياناً وكأنها سجية جامحة. . وكأنها تكهن بالرسالة الخفية القوية التي أرادته لها السماء، لكي يطهر نفسه من أدران الحياة ويستعد لما أريد له من واجب مقدس وأمر عظيم، هذا الأمر الذي يندر من ينفذه أو حتى يلتفت إليه، أما ما يخص المتحذلقين ومن لف لفهم فأمر عبث لا طائل تحته. . وأما أصوات ضجيجهم وعجيجهم فتذهب مع الساعة التي يقضون فيها. . وطبيعي ألا

ص: 25

يعنى الكمال الروحي لعامة الناس شيئاً إلا كما تعني الهمسة العابرة الغارقة في ضجيج العالم

والحال كذلك حتى مع (بايرون) و (برنز) اللذين أوتيا أذناً حساسة لالتقاط الرسالة السماوية (هؤلاء الذين ينطقهم الوحي السماوي) فيصعب عليهم التخلص من الارتباط بالجسد والدم، وبدلا من العيش والكتابة عن القوم الذين يحيون بين ظهر انهم يكتبون عن الخلود الذي يبقي على الزمن والذي يظل ملازماً لهم، وبدلاً من أن يعيشوا مرضيا عنهم (يعيشون في الكل في الخير وفي الحق) ولا شك أن هذه النفعية وهذا التأرجح بين الفكرتين والتوسط الفاشل المؤلم بين الحق والباطل هو الخطيئة المقلقة والشقاء الرئيس للإنسانية في كل أدوار حياتها. وتعمدت النصفية هذه في هذا الوقت تعميداً جديداً واتخذت اسماً غير اسمها وهو الاعتدال وأصبحت هذه فضيلة وطريقاً وسطاً. إن حالة كثير من المنصفين الذين وهبوا طبيعة شريفة وفاضلة لتدعو إلى الأسف المؤلم

والآن دعنا نفتش عن سفينتنا ذات الحمولة الغنية بن هذه السفن التي تحطمت في خضم الحياة ونسأل ربابنتها عن أحوال سفرتهم. وما من شك أن شلر يمثل في نظرنا هذه السفينة الناجية، وأنا نتساءل: كيف تمكن هذا الرجل من النجاة؟ ومن أية جهة حاول اختراق سر الطبيعة الروحية؟ ومن أية منطقة تمكن من التحليق في مساء الشعر؟ وتحت أي الظروف الخارجية وبأي القابليات الداخلية؟ وبأي الوسائل وأية نتيجة؟ بديهي أنه ليس في مكنتنا ولا مكنة الظروف المحيطة بالقراء في هذا الخصوص الإجابة الشاملة القطعية على مثل هذه الأسئلة. ومع ذلك فيجب أن نشرع بالبداية الناقصة حتى نتمكن من الحصول على النتيجة الكاملة. ونظرة شاملة على سلوك هذا الإنسان كما كان يظهر وكما كان يحيا، سواء كان ذلك في مجال العمل أو في الشعر، كافية لقبوله لدى من يعرف الشيء القليل عن شلر، وذلك يعتبر فتحاً في طريق المعرفة الحقة، أما الذين هم على اتصال به فينفعهم ذلك كشاهد على أحقية ما فكروا ويفكرون به، لدينا بيانات عديدة منتشرة هنا وهناك للتعرف على حياة شلر الشخصية، وهذا ما يجعلنا نغضي عن ذكر قصة حياته التي تعتبر معروفة الآن. والذي لا يزال حب الاستطلاع متمكناً منهم يمكنهم أن يشبعوا مثل هذه الرغبة بالاطلاع على كتاب (حياة شلر) المطبوع بالإنجليزية أو (حياة شلر) في مقدمة الطبعة الفرنسية

ص: 26

لرواياته الدراماتيكية أو في مقدمة الطبعة الإنجليزية لمؤلفات (حرب الثلاثين سنة). وفي دراستنا هذه نرجو أن نوفق في شرح الناحتين العملية والتأملية من حياته، أما الوقائع التي تدخلت في تاريخه العرضي فستظهر في معرض هذه الدراسة

للكلام بقية

يوسف عبد المسيح ثروت

ص: 27

‌خاطرة

أين السلف الصالح؟

للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر

قد تباده المرء أمور فيها من العجب ما يبعد المبادهة، والعلم نور الله في الصدور وهو لا يهدي لعاص، ولا يهتدي به ضال، ولا يسير في هديه مضل!

وللعلم (كرامة) يجب أن ترتفع عن الشهوات، وتخاصم الأهواء والنزعات، لكنه أرخص في مرتخص المنافع واتضع باتضاع الخصاصة النفسية، فأصبحت لا تجد إلا أنقاضاً على هيئة شخوص لهم أناقة المظهر، وشناعة المخبر، وفيهم بروق النفاق، ومروق الرياء، وبقلوبهم شح الوفاء، وكرم القدر، يلبسون لكل حال لبوسها، ويسيرون في كل ركب، وقد أزالوا عن نفوسهم توقر المحافظة، وتوقي المؤاخذة، واندفعوا مع تيار الحياة، يحتالون عليها وتنافسون في أسلابها، حتى سلبوا المهابة، وأضاعوا معاني القناعة!

أين السلف الصالح؟ وأين مجد العلم؟ وأين قوة الروح لدى العلماء؟ لقد كانت بطونهم جوعي وأرواحهم شبعى! وكانت حلوقهم ظمئ وعقيدتهم ريا! تسابقوا في الفضل، ولم يتنافسوا على الفضالة! وانطلقوا مع الملائكة ولم يلحقوا في ركاب الشراهة

كانت يدهم رخصة ولم تكن رخيصة، وكانت رغباتهم معتزة ولم تكن ملتذة!

رحم الله عهدا تنوسيت فيه آمال ومطامح، واتصلت فيه وشائج العلم في أروع صوره! أين ذهب هذا العهد ولم يتغير الزمان؟

لقد كان لي جد يدرس في معهد ديني، ويدرس العلم في مسجد، ثم يتقاضى ستين قرشاً وهو عالم ممتاز؛ ثم وثب راتبه إلى عشرة جنيهات في مدى ثلاثين سنة!

إن الشيخ أحمد بدر العالم الدمياطي الذي قابل الإمام محمد عبده في أخريات حياته، وأطلعه على كتاب في (المنطق) جعله حسبة للراغبين، وأخفى عليه أمر راتبه حتى علم؛ فجازاه هو راض قانع!

إني لأبصره بعد خمس وثلاثين سنة - وأنا ابن سبع سنين - يجتمع في حلقته جمع يأخذ عنه، ويقبس منه؛ وأكاد أتبين معنى ما يقول لأن علمه مشرق الروح، وأنس القلب، وراحة النفس؛ فأين ذهب هذا كله اليوم؟

ص: 28

لست مقصدا بهذه الإشارة المباهاة، وإنما هادف إلى المقايسة وهل ينفع القياس؟ لقد انصرف هم العلم إلى التعالم، واتجهت همة العالم للمغانم؛ وذهب نور الهالة الذي كان يلمع في الوجوه المؤمنة الآمنة؛ فتغضي منها الأبصار!

في الأمس القريب كانت الدعوات تتري فتهتز أعواد المنابر بالدعاء للملك الصالح المخلص في طاعة ربه؛ ثم بدا دليل الفساد وانطوى العهد؛ فسكتت الألسنة بعد أن أسكتتها المباغتة وألجمتها المفاجأة، فما الذي حال بينها وبين التلميح وهي التي تقود العامة

إن النفاق داء وبيل، ولكنه في قلوب العلماء آفة!

نريد أن يكون العلم ذا قرار في القلوب، تحصنه الهيبة، وترفعه الكرامة ويحفظه الوقار!

نريد ترك التشدق بالألفاظ، والتفصح في العبارة، والتكلف في القدرة. نريد علما نابغاً من الإيمان، فيه لغة الوجدان الطاهر والروح الصافي!

إن زياد ابن أبيه كان على ما كان عليه وقد قال: أيها الناس لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا؛ فإن الشاعر يقول:

إعمل بعلمي وإن قصرت في عملي

ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري

فهل يريد العلماء أن يكونوا على مذهب زياد في أداء الرسالة!

اللهم إن العلم في الصدور لكن العمل به فيه قهر للنفس وزجر للهوى وقتل للشهوة، ومغاضبة الشيطان، واقتداء بالسلف الصالح، فمتى يفيق من امتلأت رءوسهم وقلوبهم هواء؟

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 29

‌ملك وشعب.

. .

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

ذكرتني حوادث مصر الأخيرة يوم ثار قائدها الجبار وحواريوه المخلصون بوجه الطاغية فأزاحوه عن عرشه وأطاحوا به بعيداً عن البلاد التي نكب أهلها في أرزاقهم وحرياتهم، وأخرجوه ذليلا مهانا بعد ما استردوا الحرية التي فقدوها طيلة سنوات الظلم والرشوة والفساد، وبعدما شبع ذلك الملك الخليع من أكل اللحوم البشرية وروى نهمه بشرب الدماء، وبعدمات فجر ما شاء له الفجور وفسق ما شاء له هواه أن يفسق، وقامر بأموال الشعب الذي ائتمنه فخان، ووعده فماطل وأخلف، بقصيدة قالها شاعر يكاد أن يكون منسياً؛ منبها الملوك الذين يهزؤون بمصالح الرعايا فتكون خاتمة حياتهم الفاجعة كخاتمة (فاروق) الذي صح فيه قول الشاعر البغدادي:

لأعطيت ملكا فلم تحسن سياسته

كذاك من لا يسوس الملك يخلعه

أو قول غيره

ابك مثل النساء ملكا مضاعا

لم تحافظ عليه مثل الرجال

وهذا الشاعر هو المرحوم داود بك عمون وقد نشره في مجلة (الزهور) التي كان يصدرها في مصر المرحومان أنطون الجميل وأمين تقي الدين، سنة 1914 (هو شاعر مقل ولكن قليلة رفعه إلى منزلة قصر عنها الكثيرون من المكثرين. ويمتاز نظمه بمتانة السبك وفخامته وسمو المعنى وجدته، ويدل دلالة واضحة على توقد ذهن وشدة عارضة وعزة نفس، أما نفسه فجاهلي عصري معاً)

ولما كانت الحالة الآن تستوجب الاطلاع على ما كان يعتلج في قلوب الشعراء آنذاك من شر مستطير ينال الشعوب من جراء ظلم الملوك لها - والشعراء أنصاف أنبياء - أحببت أن أعرض على قراء (الرسالة) الزاهرة تلك الجريدة العصماء التي ما كانت إلا صرخة في وجه الظلم ولكمة في صدر الملوك الطغاة الذين بلغوا منزلة من الضعة تشمئز منها جتى الذئاب في ذلك الزمن، فكيف بالشعوب الآن وقد أزاحت عن ناظرها براقع الغفلة والجهل وفتحت قلوبها إلى الخير والحق والجمال

اللهم اهد ملوك الشرق وساسة الشرق إلى ما فيه صلاح الشعوب ورقيها لتتواكب الحرية

ص: 30

ولتأخذ حقها من الحياة، ولا أن تسد آذانهم عن سماع صراخ المتوجعين وشكوى البائسين الجائعين. . وها هي ذي رائعة عمون اللبناني المولد. . قال:

عذيري من خلق باسل

أحد وأمضي من الذل

صليب على القسر لا يلتوي

إذا غمرته يد الناقل

إذا شاقني الأمر صعب المنال

مضيت ولو أنه قانل

ولو حال من دون حال

مشت إخمصاي على الحائل

حديد قوى النفس ذوهمة

تضايق في جسد ناحل

وأورثنها فتى أمثل

وأورثها لفتى ما

بلوت الزمان، وأهل الزمان

فخذ رأى مختبر عال

رأيت (الملوك) إذا أطلقوا

أضر من الجارف الغال

نفوس الرعايا، وأعراضها

، وأرزاقها، أكلة الآكل

وعودهمو برقها خلب

وأقسامهم ضحكة الهازل

ولو عقلوا قيدوا نفسهم

ومن لك بالمطلق العال

فتلك القيود، ضمان العروش

توطدها في المدى القابل

حقوق (الملوك) بتقديسها

دعاوى على الحق للبال

همو الأجراء وإن توجوا

عليهم لنا عمل العال

وما ميز الله أشخاصهم

بشيء ولكن رضى الخال

بني الشرق هبوا فقد طالما

زحفتم إلى الدرك السافل

إلامَ تنامون عن حقكم

وتعبث فيكم يد العامل

ويظلمكم رجل واحد

وأنتم عداد الدبي النازل

فدونكم العلم فهو المح

رر، والرق لازمة الجاهل

وخلوا الديانات طي القلوب

وكونوا عن الخلف في شاغل

ألم تنظروها غدت آلة

لتفريق جمعكمو الحافل

ولا ترهبوا الموت فالموت لا

يؤخره وجل الواجل

تلك هي الصاعقة التي انشقت عنها سماء فكر الشاعر فكانت والحق يقال نذيراً لتكون

ص: 31

شاهدا على أن الظلم الذي نحسه الآن كان يشعر به قبلنا أحرار الفكر والعقيدة. . هلا يتعظ السادرون في غييهم من ملوك الشرق!

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 32

‌رسالة الشعر

وحي البردة

للأستاذ ميشيا الله ويردي

أنوار هادي الورى في دارة العلم

رفت على ذكر جيران بذي سلم

وأرسلت نغم التوحيد عن ملك

كالروح منطلق، كالزهر مبتسم

فمزج روحك بالروح التي ازدهرت

يغنيك عن مزج دمع سأجم بدم

وشمك العطر فواحاً بروضتها

أأألذ من عشق ريم القاع والاكم

ومن يهم بعظيم يتحد معه

بالرأي والفكر قبل الوسم والأرام

والحب صنوان حب الروح خيرهما

فلا تكن للهوى الفاني بملتزم

يا ليت أحلام عمري لم تضع بددا

بحب قصر من الأوهام منهدم

وليتني لم أهم إلا بمن عرفوا

برقة القلب لا بالظلم والعقم

فكم حبيب إذا خالفت فكرته

جازاك بالصد قبل البحث في التهم

ومن يساق حبيباً صد خمرته

وسحر ألحانه يندم وينفطم

فاربأ بنفسك أن تنهار من ألم

واربأ بحسنك أن يكمد من سأم

وأجعل هواك رسول الله تلق به

يوم الحساب سفيعاً فائق الكرم

هذا رسول الهدى فارشف على ظمأ

من ورده العذب عطفاً شاق كل ظمي

كأنما قلبه ينبوع مرحمة

مستبشر بالرؤى جذلان بالنسم

يا أيها المصطفى الميمون طالعه

قد أطلع الله منك النور للظلم

وحدت ربك لم تشرك به أحداً

ولست تسجد بالإغراء للصنم

وكيف تشرك بالرحمن آلهة

لا يستطيعون رد الروح للرمم

عاديت أهلك في تحطيم بدعتهم

من ينصر الله بالأصنام يصطدم

كأن ربك لم يخلق لدولته

سواك من مرسل بالحق معتصم

أدى الرسالة حتى ضج من سأم

أجناد إبليس واشتد الأسى بهم

وأفلست بعد إقبال جهنمهم

ولم تجد حطبا في الأشهر الحرم

كأن أحمد بالأصفاد كبلهم

فارتد جيشهم المقهور بالسدم

ص: 33

شرع على أقوم الأركان أسسه

للعالمين مبي طاهر الشيم

غذي عقول الورى حتى أتاح لهم

عيش النعيم ونقاهم من الآثم

وعلم العرب حتى ساد نسلهم

هام الممالك وارتاحت لعدلهم

كأنما الشرع جزء من نفوسهم

فإن هم وعدوا استغنوا عن القسم

قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة

فإن هم قسموا أرضوك بالقسم

وخلدوا ملكهم ريان مؤتلقاً

وكل ما شادت الأطماع لم يدم

إن الممالك إن شيدت على جشع

تفرس، ولا خير في الحيتان للبلم

وقد يمل الفتى بالشيب من أرب

ولا يمل عبيد المال من بشم

أتون نار زفور جد محتدم

والمال يهوى بخلق جد مزدحم

لو أدرك المرء أن المال تاركه

لمل صحبة خوان الوداد عمى

ولو درى العاشق الموتور كيف سلا

أحبابه لم بيت يوماً بقربهم

كفاك هما فأهواء الدني غصص

نودى بصفوك مثل السم في الدسم

والزهد راحة فكر من متاعبه

فإن دعانا وأهملناه ينتقم

همنا بفان فأغرانا وأذهلنا

وأي قلب بحب الأرض لم يهم؟

يا أزهد الناس في الدنيا وفي يده

خزائن الملك والأنصار كالخدم

عجبت كيف تعاني الجوع مرتضيا

حظ الفقير ولم تلتذ بالتخم

ولم تبال بتجيان مرصعة

ولم تكن للآلي خلوا بمرتسم

تقول ربي أجرهم من عميتهم

وتصرف النفس نحو المورد الشبم

فاستضحك القوم هراء واستبدلهم

وهم فصيرهم لحماً على وضم

كأن أفكارهم من طول ما شقيت

ألقت بأرواحهم في وهدا الحطم

والنار حرقة نفس من ندامتها

يا بؤس من لم يحد عن شر مغتنم

فاسلم بنفسهم أن الروح يعوزها

رضا الذي علم الإنسان بالقلم

فلا طعام من البأساء ينقذنا

ولا لباس يقينا شدة الضرم

وهل تفيدك أبراج مشيدة

والموت في القصر مثل الموت في الخيم

والمرء يفنى إذا لم يبق مأثرة

تحيا إذا باتت الأجساد في الرجم

ص: 34

والعمر إن طال يوم لا رجوع له

فهيئ الزاد قبل الشيب والهرم

أسلمت لله أمري فهو يكلؤني

كالزهر في الحقل والأطيار في العلم

ألست يا أيها الإنسان أفضلها

وبارئ الكون قد حلاك بالحكم

فإن يغب عنك أن العيش مرحمة

فكيف تدرك أن الفوز بالألم؟

وكيف تسمو بروح بالثرى علقت

وكيف تعلو على الأسياد في الأجم؟

أقول للمصطفى أعظم بما ابتدعت

آيات برك من خير من نعم

لو يتبع الخلق ما خلدت من سنن

لم يفتك الجهل والأعوز بالأمم

ولم ير الناس أحكاماً وفلسفة

في الاجتماع ستلقاهم إلى العدم

مذاهب أحدثت في الأرض بلبلة

وأورثتنا بلايا الحرب والإزم

أين الزكاة وأين العشر يحمله

أهل الغنى للآلي ماتوا من السقم

هل كنت تبصر ما أودي بعالمنا

من قبل أن فاض بالويلات والنقم

أم هل تنبأت عما تم في زمن

سادت به فكرة الإلحاد والنهم

نبوة حارب الجار منكرها

وروع الناس بالتعذيب والحمم

فيا نبي الهدى حييت من علم

بالطهر متسم بالعدل مدعم

أحببت دينك لما قلت أكرمكم

أتقاكم، وتركت الحكم للحكم

وقلت إني هدى للعالمين ولم

تلجأ إلى العنف بل أقنعت بالكلم

في دينك السمح لا جنس ولا وطن

فكل فرد أخ يشدو على عم:

الله أكبر والأكوان فآتيه

ومن يلذ بجلال الله لا يضم

سبحان من بيديه الملك أجمعه

ويرجعون إليه يوم بعثهم

يا عبقري الورى الأمي هل سمعت

من قبلك العرب وحياً جد منسجم

آياتك الغر إعجاز تنزه عن

ند، وليس دعي الحب كالدم

كأنما الناس آلات مبعثرة

أخرجت منها جميل اللحن والنغم

من علم الجاهلي الغر مكرمة

وأد البنات أم البالي من الظلم

محمد رد من ضلوا وعلمهم

حق النساء اللواتي كان كالرمم

يا فخر أمتنا في الأرض قاطبة

وسيد المصلحين العرب والعجم

ص: 35

عززت كل فتاة حين صحت بنا

ما أولد العز غير السادة الحشم

فأنت أول من نادى بمأثرة

يظنها الغرب من آلاء بعضهم

خاطبت كل ذكي حسب قدرته

ولم تكن بغبي القوم بالبرم

وكنت أرأف بالمسكين من دول

رأت بأمثاله سرباً من الغم

إن كان ينجع طب الناس في جسد

فأنت تفعل بالأرواح كالحسم

ترعى اليتيم وترعى كل أرملة

رعى الأب المشفق الباكي من اليم

فارع النفوس التي ذلت ويتمها

فقد الكريمين: حب الخير والشم

وهب لنا مبدأ حيا وتضحية

بها أفردت بين الناس من قدم

ليت الإخاء الذي في يثرب انتشرت

راياته ظل فينا غير منفصم

إن القلوب إذا ألفتها ائتلفت

والود حبل فإن تصرمه بنصرم

ماذا يطهر قومي من تنابزهم

والصد يعلق بالأرواح كالرشم

أجفوه ورعاة غرهم طمع

كأنهم عن نداء الحق في صمم

أسمعتنا فنسينا واستقل بنا

هوى، فأمسى عزيز القوم كالخصم

فانفخ بنا نخوة تجمع أواصرها

وابعث بنا همة يا باعث الهم

أبناء بابل أفنتهم مآتمها

وآل فرعون ما شادوا سوى الهرم

وتدمر ومغانيها غدت خرباً

والذكر بالخير غير الذكر بالآرام

يا ليت من شيدوها للفناء رأوا

عقبى المباني فأغنتهم عن الندم

زالوا وزالت مع الآثار عزتهم

فإن تجادل سل التاريخ واحتكم

والمصطفة خالد في الناس ما بزغت

أم النجوم وممدوح بكل فم

يا أيها العرب المأثور مجدهم

ما فاز بالمجد شعب شبه مختم

أيصبح الخير شرا من تخاذلنا

ونغتدي نهبة الغربان والرخم

إن الكرامة تأبى أن نذل ولم

نهضم حقوق الورى كالهائج الضرم

فاستجمعوا أمركم فالله وحدكم

والمكر فرقكم في حومة الجسم

وشرع أحمد بالقرآن هذبتم

وجد في أمركن بالحب والسنم

يا أيها المسلمون الفخر فخركم

ونحن إخوانكم بالنطق والعم

ص: 36

فأيدوا بالفعال الغر دينكم

فقيمة الحب عندي أعظم القيم

والدين إلا هوى في نفس عاشقة

ومن يبح بالهوى يوم النوى يم

سيان يا قوم من يقضي بلا أمل

ومن ينال المنى في عالم العدم

صوفية أدركتها المفس فانصرفت

عن الدنايا ومن يهو العلي يصم

فاستهد بالروح في الأفلاك أهوكما

تهوى الملائكة وجه الله واستقم

وقل لمن أدمت الأهواء مهجته

أما اكتفيت من الدنيا بحبهم؟

رمت فؤادي بسهم الحسن فاتنة

فاعجب لصب جريح ثابت القدم

ندت أناشيده نيران لوعته

ففجرت عن عليل بالجمال رمى

إن لم يخلد فؤادي الحب فالتمسي

يا نفس كهفا ببطن الأرض واعتصمي

عل المنية تنساني كما نسيت

عرائس البحر صيد النسر في القمم

يا نفحة من جنان الخلد سارية

كالورد يلثم في الأسحار من أمم

إني محب ومحبوب ولو زعموا

أن المحبة بالأنساب والرحم

فالناس من آدم بالمصطفى اجتمعوا

وشرعة الحب أم الناس فأتمم

يا أجمل الخلق سيماء وأظرفهم

طبعاً وأوفاهم بالعهد والذمم

عشقت منك صفات جل مبدعها

كالغيد تفتن لب الشاعر الفهم

يرنو فيمنحنه وحياً يخلده

ورب حب مثير جاء بالعظم

ورب نجم منير يستضئ لكم

(فأنتم الشمس لم تدرك ولم ترم)

وحسن شعري لكم من شمسكم قبس

والنبع ما سال لولا صيب الدم

فإن أجدت بهذا الطل مدحكم

فكل معنى بكم كالهاطل العرم

حياك ربي بآيات مفصلة

والناس أعجز عن إدراك ربهم

لكنها صورة بالشعر أرسمها

لأستجير بها إن بت كالحلم

يا هادي الفكر أهداه الإله إلى

عباده منة من فضله العمم

إن يمدحوك بأبيات منقمة

فأنت تفرق قلبي عن قلوبهم

تبارك الله لو شاءت مراحمه

لشع نورك بين الناس كلهم

إن لم تكن بوكيل فاشفعن لنا

بحق ترديدنا التوحيد في الحرم

ص: 37

صلى الإله على محياك في مهج

تحيا بها كحياة النور في الدم

صلى الإله على مثواك ما صدحت

ورقاء أو هينمت عطرية النسم

صلى الإله على ذكراك ممتدحاً

حتى تؤم صلاة البعث بالأمم

ميشيل الله ويردي

ص: 38

‌طيف الهجرة

للدكتور زكي المحاسني

سكنوا الديار وبغتة برحوا

والنور يسطع حيثما نزحوا

ذهبوا مع الريح الغداة وما

عادوا فليت بوصلهم سمحوا

أترى على يطحائهم بطلا

متلثما وكأنه شبح

ماجت عليه البيد في نفر

جابوا الرمال وبالسرى سبحوا

غنوا فرد القفر لحنهمو

فحداؤهم بالبيد منطرح

قف بي على آثارهم فهمو

شغلوا الفؤاد وبالهوى جرحوا

شاق الأولى قبلنا طلل

وقفوا عليه ودمعهم سفحوا

بأبي المهاجر وهو ذو فرح

يسري؛ وكل مهاجرة ترح

من فارق الطغيان حق له

أن يستخف فؤاده المرح

ورعاه نجم منذ مولده

هو نجمه ذاك الذي لمحوا

آكام يثرب ضاحكته دجى

فلأهلها بطلوعه فرح

تركوا الغبوق لبشر طلعته

وبوجهه دون الطلى اصطبحوا

أمهاجراً والبغي يتبعه

وصاحبه الأبرار ما رزحوا

من كان للفتح المبين سما

لم يثنه الأعداء أن فدحوا

يا صاحب الصديق وارفة

ذكراك، منها القلب منشرح

عادت، وهب العرب من رمم

ولعودة الأمجاد فد طمحوا

كان الطغاة بأرضهم فجلوا

متعسفين وفي الهدى جمحوا

لا تدعهم يوما إلى خجل

فيما بغوا، لا يخجل الوقح

ويحا صلاح الدين هل رجعت

حرب الفرنج وهل بها لفحوا

خدعوا الشعوب بسلمهم ولكم

غالوا السلام وباسمه ذبحوا

إنا جنحنا للوفاء وهم

لريائهم ومطالهم جنحوا

نصراً رسول الله إن لنا

قوما لكل جليلة كدحوا

صبروا على مر الخطوب وفي

يوم الوغى أرواحهم منحوا

ص: 39

مرت بي الذكرى كطيف هوى

والذكريات مرورها ملح

فطرقت باب الوالهين وبي

شجن يناديهم فهل فتحوا

أسمعتم بأحبتي هتفوا

ويذكرهم في حيهم صدحوا

روحي تطيف بأفقهم ولها

عبر الفضا والغيب منسرح

نار تسعرني وتبردها

أنفاسهم هلا بها نفحوا

إن عزني الكتمان بعد همو

فأخو الهدى المشبوب مفتضح

أنبت في الشكوى فحق لهم

هجري فليت على النوى صفحوا

زكي المحاسني

ص: 40

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

مصر في مؤتمر الفن العالمي:

تردد أسم مصر هذا الأسبوع في جميع أنحاء العالم، وتناقلته وكالات الأنباء في كل مكان على أثر الكلمة التي ألقاها الدكتور طه حسين في المؤتمر الدولي للفنانين الذي عقد في قصر الدوج بمدينة البندقية وأشرفت هيئة اليونسكو على تنظيمه وكان المؤتمر قد بدأ جلساته يوم 22 سبتمبر سنة 1952

وكانت (الرسالة) في أحد أعدادها السابقة قد نشرت بعض الأفكار التي صمنها عميد الأدب خطابه الذي أعده لإلقائه في هذا المؤتمر

وهذه خلاصة ما جاء في كلمة الدكتور طه حسين

إذا كانت الأسلحة والنيران والدماء قد غيرت (وجه الأرض) فكم غيرت هذه الأشياء من (نفوس) الناس التي تعرضت بسبب ذلك كله إلى هزات عنيفة

القرن العشرون هو عصر الشك الفلسفي أو التشكك فيما وراء الطبيعة

سجل الدكتور ظاهرة قلة الإقبال على الأدب ومطالعة الكتب

أشار إلى جهود الكتاب لتبسيط آرائهم وجعلها في مستوى إدراك أغلبية القراء وأثر ذلك في الآراء الأصلية ذاتها

المعركة بين الكاتب والناشر، يريد الكاتب من الناشر أن ييسر له من الوسائل المادية ما يكفل له العيش الكريم

من العسير الكتابة بكل أمانة وحرية دون مراعاة أي اعتبار مادي له علاقة بالاحتياجات اليومية

يدل التاريخ على أن الأدباء والفنانين في كل بلد، وفي كل عصر، لم يعتمدوا قط على أدبهم وفنهم في اكتساب قوتهم، بل كانت دوماً لهم مهن أخرى

إن ما يصل الكاتب من مكانة في المجتمع الذي يعيش فيه يفرض عليه واجبات معينة إزاء المجتمع، ويكون لذلك أثر أخلاقي في تصرفاته وكتاباته يمس ما له من حقوق وما عليه من واجبات

ص: 41

والواقع أن هذه النقاط التي تناولها الدكتور طه حسين في بحثه والتي تصور حالة الأدب في العالم الآن، إنما هي مستمدة من صميم الحياة الأدبية في مصر، بل تكاد تكون صورة واضحة لما يعانيه الأدب في مصر

ومعنى هذا أننا نقاسي نفس التجربة الأليمة التي يعانيها الأدب والأدباء في العالم كله، وأن الظواهر التي ننقدها في محيط الأدب المصري، ليست وقفا عليه وحده وإنما هي (ظواهر) طبيعية عامة

ويرجع كثير من النقاد والباحثين هذا إلى أثر الحرب العالمية الثانية، فقد انتعش الأدب بعد الحرب العالمية الأولى وأخذ طوراً من القوة والحيوية والجد، واستطاع الأدباء ف خلال تلك الفترة إنتاج طائفة من الأعمال الأدبية والفنية الخالدة

فلما جاءت الحرب العالمية الثانية واستمرت ست سنوات كاملة، كان من الضروري أن تكون هذه المرحلة الحرجة بعيدة الأثر في اتجاه التفكير العالمي، فقد ذاق الناس في جميع أنحاء العالم - في لا البلاد المحاربة وحدها - ذلك اللون الخانق القاتل من الحياة المضطربة المزعزعة، مما أدى إلى تحول خفي في النفسيات كان من أثره الإقبال على لون جديد من القراءة ليس دائما هو اللون الجاد، وليس أبدا هو الأدب الرفيع

ومن هنا نشأت هذه (الأزمة) التي تكتنف الحياة الأدبية والفكرية في الشرق والغرب، والتي تلخص في عجز الأدب الرفيع عن أن يكون مورداً خالصاً، وأن تظهر تلك الحيرة في محاولة الكتاب تبسيط آرائهم حتى تكون في مستوى أغلبية القراء، وكذلك قلة الإقبال على الأدب

مجلس عالمي للفنون والآداب

وقد القي الدكتور جيم توريس بودبت المدير العام لهيئة اليونسكو كلمة تضمنت النقاط الآتية:

أن وظيفة الفنان لا تقوم أساساً إلا على الاختيار ومن ثم وجب أن نوفر لها الحرية، ولا يكون لهذه الحرية من معنى إلا إذا اقترنت بواجبات عميقة

عبودية الفنان تكون على نوعين: الأول أن يكون الفنان ملزماً بالأخذ بتوجيهات خارجية عن فنه يمكن تغافلها وإلا نزل به العقاب. والنوع الأخر هو أن يتصور الفنان - وهو

ص: 42

يساير أهواءه الخاصة - أنه يتمتع بقسط أوفر من الحية فيكفر بقواعد فنه بأكمله ولا يكون مصيره إلا فشلاً فنيا

ليس عمل الفنان على الإطلاق عملاً تجريدياً، فالفنان ينتمي إلى بيئة بعينها، وتقليد بعينه، وعصر بعينه، وبلد بعينه، وكل هذا يجعل العمل الفني على صلة وثيقة بالتطور الفكري والنظم السياسية والاجتماعية

وقد طالب مدير اليونسكو بضرورة إنشاء مجلس عالمي للفنون والأدب يناط به توفير المساعدة والتعاون بين الفنانين المبدعين من الدول جميعا وله الآن أكثر من نواة، مثل نادي القلم والمعهد الدولي للمسرح والمجلس العالمي للموسيقى، وجمعيات المهندسين، ولا ينقص هذه العناصر إلا جمعية للفنون البصرية واليدوية

أرستقراطية الثقافة

تقوم دار الكتب المصرية بطبع عدد كبير من المؤلفات الأدبية القديمة، التي تعد من أمهات الأدب العربي

كما تقوم الإدارة الثقافة بالجامعة العربية بتصوير ألوف المخطوطات العربية النادرة في العالم

وكانت بعض البعثات قد قصدت في العام الماضي إلى سانت كاترين في شبه جزيرة سينا لتصوير المخطوطات الأدبية والفكرية هناك

إن هذه الهيئات لا تعترف إلا بعدد من كبار الكتاب وكبار الباشوات السابقين فتهدي إليهم هذه المؤلفات لتوضع كحلية بين مجموعات الكتب المجلدة الموجودة في مكاتبهم وينتهي الأمر عند هذا الحد

ولارتفاع ثمن هذه المؤلفات، وعدم وجود طبعات شعبية منها لا يتيسر مطلقاً لشباب الأدباء - وهم على كثرتهم فقراء لا يملكون قوت يومهم - أن يحصلوا على هذه المؤلفات أو يقرءوها!

وهذا ولا شك لون من أرستقراطية الثقافة، نرجو أن نتخلص منه في العهد الجديد، وأن نعمل على تيسير هذه الثقافة وهذه الألوان الأدبية حتى نجعل في ميسور كل مثقف الحصول عليها

ص: 43

من 8 إلى 14 أكتوبر

في خلال هذا الأسبوع تتجدد ذكرى ثلاثة من عباقرة رجال الفن والأدب في الشرق والغرب هم:

عبد الله نديم

المتوفى في 11 أكتوبر 1896

أناتول فرانس

المتوفى في 13 أكتوبر 1924

أحمد شوقي

المتوفى في 14 أكتوبر 1932

ولا شك أن أناتول فرانس سيحظى بالكثير من التقدير من الصحافة الفرنسية ومن المجلات الأدبية

ستتناوله هذه الصحف من جميع نواحيه، شخصيته، أدبه، حياته، مبادله، غرامياته. .

أما عبد الله نديم وأحمد شوقي فسيمر ذكرهما مرور الطيف، لأنهما من الشرق، الشرق الذي ما زال جاحداً لبناته ورجاله ومجهديه

لقد كافح عبد الله نديم الظلم يوم كان كفاح الظلم أقسى ألوان الحياة، واشترك في الثورة العرابية، وهرب، واختفى وطال به الاختفاء، وظل ينتقل تحت جنح الظلام ويغير مظهره، حتى لا يقبض عليه

واستطاع أخيراً أن يذهب إلى الآستانة وهناك وقع في القفص الذهبي الذي كان الخليفة عبد الحميد قد أعده للرجال الأحرار الذين كان يستدعيهم إليه ثم لا يطلقهم مرة أخرى

إن حياة عبد الله نديم هي صورة من الكفاح المرير في سبيل مصر في الوقت الذي كان لا يستطيع أي صوت أن يرتفع بكلمة الحق

. . ولا شك أن من حق عبد الله نديم علينا أن نكرمه ونحترمه، ليس لهذه الوطنية وهذا الكفاح وحده، ولكنه لأنه ابتدع في الصحافة المصرية لوناً جديداً. . ذلك اللون القائم على السخرية والتبكيت، وهو الذي حور أخيراً في صور الكتابات النقدية السياسية التي تقوم عليها معظم المجلات الأسبوعية!

ص: 44

أما شوقي فالحديث عنه طويل. . بقدر ما أدان العربية والشعر من دين وصفه أستاذنا الكبير الزيات عندما قال إن شوقي كان تعويضاً عادلاً للعربية منذ قضى المتنبي. . ولكننا ونحن الآن نسمع قصائده تغنى، وشعره يتردد على كل لسان، ونذكر فضله في ابتداع المسرحية الشعرية في الأدب الحديث. . . ندهش حين نرى أن عملاً ما - يدل على التقدير - لم تقم به أي هيئة أو طائفة. . أين مثلاً كرسي شوقي في كلية الآداب، أو اين مكانه في دار الكتب، أو تمثاله في ميدان يطلق عليه اسمه!! أو الكتاب الضخم الذي وضع عن فنه وشعره

أما (أناتول فرانس) فلسنا في حاجة إلى الحديث عنه فإن المؤلفات والآثار الأدبية التي تناولته في جده وهزله وفنه. . أكثر من أن تحصى

أنور الجندي

ص: 45

‌الكتب

مواكب الناس

تأليف الأستاذ نقولا يوسف

للأستاذ منصور جاب الله

الأستاذ نقولا يوسف كاتب مصور من الصفوة المختارة ومن الرعيل الأول الذي اقتحموا مجمعان القصة المصرية فمهدوا طريقها وسلكوا حزونها وألفوا ضروبها وطامنوا أشتاتها، وأنا لنجد هذا القاص الممتاز يضرب في هاتك المهامه البيد منذ حقبة تزيد على ثلاثين عاماً لا يربع على شيء ولا يتعثر ولا يتلبث

ونقرأ في صدر كتابه الجديد جريدة بمؤلفاته التي أصدرها منذ عام 1922، فنرى فيه المكافح المثابر الذي لا يبغي جزاء ولا شكوراً، فهو لا يلجأ إلى الناشرين أو الوراقين لطبع كتبه، وإنما ينشرها لحسابه الخاص ويوزعها هدايا على الصدقان والصحب وما بقي منها بعد ذلك لا يكاد يأتي بجزء ضئيل من تكاليف الإنتاج

ولكن عزاء الأستاذ نقولا يوسف أنه يؤلف حباً في التأليف وتنفيساً عن رغبة مكبوتة في ذات نفسه، ومن ثم فإنه لا يضر أن سبقه في منادح الشهرة والمجد القصصي تلاميذ له وحواريون درسوا عليه أواسط العلم أو أعاليه، فهو بهذا مغتبط أن تهيأ لها النفر من الشباب المتوثب طريق شقه لهم فساروا فيه

ولا على المؤلف الفاضل هذه النفقات الطائلة التي يخرج عنه لطبع مؤلفاته، فإنما هي ضريبة المجد والخلق الفاضل الذي طالما غرسه في نابتة هذا الجيل

وبعد هذه التوطئة التي لم يكن منها بد، يطالعنا الأستاذ نقولا يوسف بمؤلفه الجديد (مواكب الناس) وإذ نتصفحه ونمضي في قراءته إلى خاتمة المطاف يبدو لنا أن هذا الرجل ذا القلب الكبير يطوي بين جوانحه مأساة، فقد ضربه القدر في ابنته التي كانت ملء نفسه وريحانة عينيه فأظلمت الدنيا في وجهه وأخذ الرعد من كل مكان فإذا به يعمد إلى مسلاته الواحدة، وينشي (الصورة) تلو (الصورة) ثم يلزمها جميعاً في قرن، حتى إذا أقبل الصيف بهجره لم يرق له أن يستمتع بإجازته الطويلة كما استمتع سائر أنداده من المدرسين! وإنما

ص: 46

عكف على تنفيذ هذه (الصور) وإزجائها إلى المطبعة فهو غاد ورائح بين آلة الطباعة وباعة الروق وتصحيح التجارب وهكذا، وما صرف صيفه الأطول على ذلك النمو إلا ليصرف عن نفسه أحزانها وأشجانها

ولقد كررنا كلمة (الصور) التي احتواها (مواكب الناس) عن عمد، ذلك لأن هذا المؤلف الأخير مختلف تمام الاختلاف عن مؤلفه السابق (دنيا الناس) الذي قدمناه لقراء (الرسالة) قبل عامين فذلك كان أقاصيص فيها (حبكة) القصة ولها (عقدتها) تنساح بين أرجائها (المؤامرات) ويرين عليها عنصر (المفاجئات) بيد أن الكتاب الذي بين أيدينا قد صدق فيه مؤلفه إذا أطلق عليه عنوانه، فهو (مواكب) للناس تتلاحق، وتتسابق، ثم تسير على وتيرة واحدة حتى تفترق بها الطرق وتفرق عن سبيله، وهو في هذا يقول: لما فرغت من هذه (الصور) التي تحتويها هذه المجموعة، استرضتها جملة فاتضح لي أن أصحابها شخصيات حقيقة، عاشت وعرضت لي في الحياة فعرفتها، ولهذا لم يكن لي كبير فضل في ابتكارها، وإنما الفضل لمن خلقها على هذا النحو، تارة على بساطة وبراءة وأخرى على شيء من الغرابة والتعقيد، فكان عملي - والحالة هذه - مقصوراً على نقلها من دنيا الواقع إلى دنيا الفن دون أن أبدي إعجاباً هنا أو زراية هناك

انتهى كلام المؤلف في كتابه الجديد في حين أنه يحاول الاحتراس في كتابه السابق بقوله (كل ما ورد في هذا الكتاب من أسماء الأماكن والأشخاص خيالي ولا يصف شخصية معينة بالذات؛ فنرجو المعذرة إذا وقع تشابه غير مقصود بين الأسماء أو الصفات أو الحوادث)

فالكاتب الفاضل إذن قد حدد النهج في كتابيه وفصل بينهما بحجاز، ومن هنا نتقبل (مواكب الناس) على أنه طائفة من الصور الأخلاقية الاجتماعية أعمل المؤلف ذوقه وفنه في اقتناصها وتجليتها على القارئين، فبدت كواسطة العقد تختال للناظرين

وإن قارئاً من القراء ما يستطيع إذ يستطلع (مواكب الناس) أن ستريب في أن صورة أو أكثر من صورها شكت بصره أو ضربت أذنه في زمن من الزمان أو مكان من المكان، ولكن ليس لكل إنسان تلك الطبيعة النقية المتساوقة التي جعلت الفن القصصي طيعاً ليناً بين أنامل السيد نقولا يوسف، فهو يصور الواقع بريشة الفنان الذي يرى ويسمع ويتذوق ثم ينقل إلى القرطاس صوراً لا يكاد يتلوها القارئ حتى يرى فيها نفسه لا تريم ولا تتحلحل!

ص: 47

والطريف في المؤلف أنه نقل صوره نقلاً (مصرياً) إن صح التعبير، فعلى أنه يتقن أكثر من لغة أوربية، لم يشأ في كل هذه الصور - حتى التي وقعت له في أوربا - لم يشأ أن يصورها تصويرا أوربيا، وإنما صورها كما يفهمها (أولاد البلد)! وقد بلغ من هذا القمة في التصوير والنقل الأمين

وليس لدينا في الحق نقد على هذه الصور إلا أننا بصرنا في بعض الأحيان بالكاتب يتحامل قليلاً على بعض أبطاله، ولعل ذلك ناجم من أنه رجل مثالي رغم أنه خب في القصص الواقعي ووضع، وأنه لم ينس مثاليته وإن تضاربت مع الفن الذي سلكه من زمان!

وأنا لنرى الكاتب بعد ذلك يحلق - في بعض الصور - بأسلوب عال، ثم يهبط بعد ذلك - في صور أخرى - غلى أسلوب عادي، ولعل مرد هذا أن الكاتب الفاضل عصبي المزاج لا يلقي أهمية كبيرة للأسلوب القصصي كما أومأ في مقدمة كتابه الفريد

منصور جاب الله

ص: 48

‌النيل في ضوء القرآن

تأليف الأستاذ أحمد الشرباصي

للأستاذ سعد الدين موسى كله

وهذا كتاب جديد فريد يحتل مكانته اللائقة به في صفوف المكتبة العربية الخالدة! أجل هو جديد في نوعه - فريد في بحثه وعرضه! ولم لا وقد تعرض في صفحاته الرائعة الممتعة إلى قضية النيل ودراسة هذا النهر (المبارك الروحات، الميمون الغدوات) كما قال (عمرو) على ضوء القرآن الحكيم بعد أن قدم له بمقدمات تمهيدية، من جهة اللغة العربية والتاريخ، كما لم يفته أن ذكر لنا (النيل) عند الشعراء وفي مخيلتهم، وكيف أجادت تصويره قرائحهم فافتنوا في ذلك افتنانا عجيباً؟! وليس غرضي من هذه الكلمة العجلى التدقيق والتحقيق أو التفصيل والتحليل (فلذلك موعد آخر) إنما هو العرض السريع والسير الحثيث مع المؤلف أرجو أن أوفق فيه إلى جذب أنظار قراء الأدب ومحبي الحكمة وعاشقي الثقافة لمطالعته لنفاسته وللإفادة منه خاصة، وهو نفحة عاطرة من نفحات (القلم الشرباصي) الرشيق الرقيق الذي ما فتئ كل يوم يطلع علينا بلآلئه ويواقيته العذارى الأبكار، وغرره ووروده الزواهر المشرقات كفلق الصبح أو وضح النهار!

والكاتب اللبق، والأديب الحق في رأيي - هو من يغوص في أعماق الحقيقة فيبتكر لنا من أخيلته الشاعرة وذهنه الولود أفكاراً وآثاراً، واقتباساً وأنوارا، ناقضا بقدرته وعبقريته تلك النظرية القديمة البالية. (لا جديد تحت الشمس)! وكذلك فعل الشرباصي هنا فبدأ ببيان اشتقاق كلمة النيل في اللغة ومصدر النيل في زوايا التاريخ، منتقلاً بنا إلى ندوة شعرية جميلة، ناقلاً لنا مختارات مجيدة فذة - تدل على ذوقه البليغ - واختيار المرء قطعة من عقله! ويطوي الحديث سريعا ليخلص إلى السنة والكتاب، مستعرضا بعض الأحاديث والآيات في براعة ولباقة وتعقيب ودقة، ويبدع الشرباصي أيما إبداع حينما يتحدث عن مصر وفرعون في القرآن ثم عن بعض الرسل في مصر كيوسف وموسى عليهما السلام، مطعماً حديثه بآثار وروايات عن الصحابة والأئمة والمؤرخون في تمجيد (النيل)(ومصر) التي هي هبة (النيل) كما جاء عن (هيردوت) المؤرخ اليوناني القديم. . وهذا فصل من فصول الكتاب تحت عنوان - خيرات الوادي - يستعرض فيه غلات مصر وزهورها

ص: 49

وحبوبها ونتاج أرضها المباركة الخصيبة بفضل هذا الشريان الطاهر المقدس الذي يجري في أوصالها وأعراقها منذ فجر التاريخ، وفصل آخر يعقده المؤلف عن ميزات النيل وواديه وهو مليء بالنوادر الفردة والآثار التاريخية والنصوص الأدبية والروائع الممتعة مما أنتجته عقول الأدباء والكتاب والرواة - وددت لو نقلته لك بأكمله - ولكن من الخير لك أن تنفرد به وحدك فتتذوقه بنفسك وتتملاه بذوقك (ومن ذاق عرف!)

وبعد فهذه صفحات أخرى تسير بك في إبداع وإمتاع، وفيها إهابه ببني مصر أن يهبوا، فقد طال بهم الرقاد! - إن النيل يفي لنا في كل عام، لا ستخلف عن الجريان مرة! - أفلا نكون معه أوفياء! و (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان!) قد يسمك النيل فيضه قليلاً أو رويداً، ولعله يراد بذلك أن تتنبهوا وتعتبروا، وتقدروا النعمة حق قدرها؛ وقد يزداد فيضه ليحذركم وينذركم، ويخوفكم من انقلاب النعمة نقمة! فأين الاعتبار يا أولي الأبصار؟!

أي ما أبلغ هذا الكلام وأجمله! أما واجبنا نحو النيل فيجليه لنا يراع الكاتب الموفق جلاء واضحاً في بنود عدة بلغت (الثانية عشرة)! وأخيراً. . نجد أمامنا (ملحقات): النسل في القرآن، أساس الوحدة هو الإسلام (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وهي ثلاث خطب منبرية عصرية، جمعت فأوعت من الحديث الواعي الحصيف، والاطلاع الوفير، والأدب المستنير الغزير!

ألا حيا الله أستاذنا الشرباصي، ووفقه دائما لخدمة الإسلام والقومية والعروبة، وجزاه عن دينه ووطنه وأمته ولغته خيراً!

سعد الدين موسى كله

ص: 50

‌البريد الأدبي

الطلاق الثلاث بلفظ واحد

يقول الأستاذ محمد أبو زهرة في (لواء الإسلام 4 - 6): لا يقع الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث ثلاثاً ولكن يقع طلقة واحدة. . لذلك قرر كثير من العلماء. . أنه يقع واحدة. وقد روي ذلك عن بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبد الله ابن مسعود والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف

وقال الأستاذ محمد زاهد الكوثري (ألا شقاق 23 - 53) أسند ابن حزم (في المحلى) إلى على أنه قال لمن طلق ألفاً: ثلاث تحرمها عليك، ومثله في سنن البهيقي. راجع المجموع الفقهي للإمام وزيد بن علي، وأسند ابن حزم كذلك إلى عبد الله بن مسعود أنه قال بمثل ذلك، كما في مصنف عبد الرازق وسنن البيقي وغيرهما

وأما الزبير فابنه عبد الله من أعلم الناس به، وهو لما سئل عن طلاق البكر ثلاثا في للسائل: مالنا فيه قول فاذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فسلهما ثم ائتنا؛ فأجابا بأن الواحدة تبينها والثلاث تحرمها، كما في موطأ مالك. فلو كان عنده عن أبيه أن الثلاث واحدة في المد خول بها لما تأخر عن ذكر ما عنده، لأن غير المد خول بها أولى بذلك الحكم.

وأنى يصح عن عبد الرحمن بن عوف خلاف ما فعله هو في طلاق امرأته الكلبية (المحلى 10 - 220) وكان طلاقه إياها ثلاثاً: حتى أن من يرى أنه لا إثم في الجمع بين ثلاث يستدل بفعل ابن عوف هذا، كما في فتح القدير لابن الهمام

ومن الدليل على وقوع الثلاث بلفظ واحد في عهد النبوة حديث الملاعنة الذي في (صحيح البخاري) حيث قال عويمر العجلاني في مجلس الملاعنة: كذبت عليها إن أمسكتها يا رسول الله؛ فطلقها ثلاثا. ولم يرد في رواية ما أنه صلوات الله عليه أنكر عليه ذلك. . قال ابن حزم: لولا وقوع الثلاث مجموعة لأنكر ذلك عليه

وفهم البخاري كذلك من هذا الحديث ما فهمته الأمة جمعاء من الوقوع حيث ساقه في صحيحه في (باب من أجاز طلاق الثلاث)

أمين سراج

ص: 51

أكاذيب كلوب باشا

نشرت مجلة (العصبة) البرازيلية في عددها الثاني من سنة 1952 مقالا للصحفي الفرنسي (رينيه برانليك) الذي أوفدته مجلة (فرانس ألستراسيون) بعد مقابلته لكوب باشا قائد الجيش العربي في المملكة الأردنية الهاشمية لفت نظري التصريح الكاذب التالي:

قال كلوب باشا ردا على سؤال وجهه إليه الصحفي الباريسي: (وللفرقة العربية - يقصد الجيش العربي - في الشرقيين الأدنى والأوسط مقام خطير، حتى أن الاعتقاد الذي كان سائداً هو أنها كانت احتلت (تل أبيب) لو لم تتوقف الحرب بين العرب واليهود، ولكن الكثيرين لم يترددوا في القول أن للإنجليز يداً في ذلك رغبة منهم بإرضاء الولايات المتحدة في سياستها مع إسرائيل

إن الذين زعموا ذلك يجهلون حقيقة الموقف ويجهلون حالة الفرقة العربية في ذلك الحين، فقد كانوا يعدونها جيشاً حديثاً ذا قوة عظيمة، والحقيقة أن الفرقة العربية كانت كذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن كثيراً من جنودها انسحبوا منها بعد توقف القتال، فلما بدأنا الحرب الفلسطينية لم يكن لنا من المحاربين غير ستة آلاف رجل بينما كانت الصحف تجود علينا كرهاً بثلاثين ألف مقاتل، ولم يكن الوقت مناسباً للتذكيب. . والذي كان يفت من عضدنا هو عدم تمكننا من سد ما كان يحدث في فرقتنا من فراغ، وكان ينقصنا المال، ولم تكن لدينا قوى احتياطية، أما ذخائرنا فلم تكن تكفي لأكثر من (15) يوما أو (20) يوما فيما لو جابهنا فيما حربا حقيقة متواصلة. أضف إلى ذلك أن القوى اليهودية انصبت في شهر الحرب الأول على مدينة القدس حيث كنا نناضل. . وكان ذلك من حسن الطالع! ولما كان المصريون والعراقيون والسوريون لم يشتركوا بعد في القتال. . كان علينا أن نتحمل وحدنا هول الصدمة. . والحقيقة أن أعداءنا اليهود لم يكونوا مدربين على القتال لتعذر ذلك عليهم بسبب وجودهم تحت الانتداب البريطاني في فلسطين، ولكن عددهم كان يفوقنا بثمانية أضعاف. . . ولأنه لم يكن لديهم غير القليل من المدافع فقد كانوا مسلحين مقابل ذلك بكميات عظيمة من الأسلحة الخفيفة

ويتضح من هذا التصريح الذي أدلى به كلوب باشا وهو يلف ويدور في الإجابة أنه يريد

ص: 52

أن يغطي الحقيقة المعروفة من أن سبب نكبة فلسطين هي وجود كلوب باشا على رأس الجيش العربي، إذ لولاه ولولا مصالح بريطانيا في سبيل إرضاء أمريكا واليهود على حساب العرب لتمكن الجيش العربي وجيش الإنقاذ من طرد اليهود وإرغامهم على ترك البلاد لأهلها خاصة بعد جلاء البريطانيين منها، أما تمسكه بقلة الجيش العربي وذخائر الحربية فهذا محض اختلاق، ولو رجعنا إلى الواقع لعلمنا أن جيوش الدولة العربية التي أرسلت لتحرير الديار المقدسة كانت قادرة على التطهير لو لم يهددها كلوب باشا بمهاجمتها من الخلف إذا ما تقدمت خطوة واحدة لاسترداد الأراضي التي احتلتها الجيوش الإسرائيلية، فإذا كان كلوب باشا يريد بمثل هذه الأكاذيب المفضوحة أن يطمس الحقائق التاريخية فيلعلم العرب أن أمثال كلوب باسا ما كانوا ولن يكونوا في يوم من الأيام في خدمة القضية العربية ما دام هو من عبيد أسياده الإنجليز وما دام هو والمستر فليبي يريدان تكملة المهمة التي قام بها لورنس ولم يتمها، فإذن كيف جاز له أن يخدع الرأي العام الأوربي بمثل هذه التصاريح المشوشة؟ هذا ما أتركه إلى كتاب العرب الأحرار للتعليق عليه. وسلام على فلسطين التي أضاعها الساسة الموالون لكلوب باشا الذي كان نفسه السبب في إقصاء الملك طلال عن عرش أبيه والذي كان لا يأتمر إلا بأمره

2 -

في قصيدة الفيتوري

قرأت قصيدة السيد محمد مفتاح الفيتوري المنشورة في العدد (1001) من مجلة (الرسالة) الزاهرة بعنوان (العائدون من الحرب) فاستوقفني فيها البيت التالي:

نجرجر خلفنا التاريخ أشلاء وأكفانا

والجرجرة كما في لسان العرب ما يلي:

الجرجرة الصوت، والجرجرة تردد هدير الفحل وهو صوت يردده البعير في حنجرته قال الأغلب العجلي يصف فحلا:

وهو إذا جرجر بعد الهب

جرجر في حنجرة كالحب

وهاجه كالمرجل المنكب

وجرجر ضج وصاح، وفحل جراجر كثير الجرجرة، وهو بعير جرجار كما تقول ثرثر الرحيل فهو ثرثار. . وفي الحديث (الذي يشرب في الإناء الفضة والذهب إنما يجرجر في

ص: 53

بطنه نار جهنم) أي يحدر فيه، والجرجرة صوت البعير عند الضجر

ولا أظن الأستاذ الفيتوري يقصد الجرجرة بمعناها المعروف ولكنه يقصد الجذب أو السحب وكان عليه أن يقول (نجرجر خلفنا التاريخ) أليس كذلك؟

وأوقفني البيت التالي من القصيدة نفسها

لقد عدنا. أجل عدنا. .

ولكن عودة المقضور

وقد فتشت القواميس فلم أجد معنى لكلمة (المقضور) فما معناها يا أستاذ!

عبد القادر رشيد الناصري

إلى الأستاذ علي الطنطاوي

أنت - يا سيدي قاض أجمع محبوه ومبغضوه على أنه عادل فهما، ورزقه إيماناً ما أشد اعتزازه به وحرصه على النهوض بتبعته، واختصه ببيان ساحر كتب أو خطب لم يختص بمثله إلا قليلاً. . . ومع ذلك فهو لا يؤدي حق ما أنعم الله عليه، أو أصبح الآن لا يؤديه فقد طالما طالعنا في الماضي من أدبه المفيد والرائع والباقي. . .

وأنا أعرف لماذا سكت أو (أسكت) فلم يعد يخطب أمر لماذا كف عن الكتابة فلا أعرف، هل علم الناس حتى استغنوا عن العلم؟ واهتدوا حتى استغنوا عن الإرشاد؟! وآمنوا حتى استغنوا عمن يقف في أنفسهم ومجتمعهم في وجه الإلحاد؟! الخ)

كلا، ثم كلا فالناس ما يزالون في جهلهم بحاجة إلى العلم، وفي ضلالهم بحاجة إلى الهدى، وفي شكلهم بحاجة إلى القين، وفي إسفافهم بحاجة إلى أجنحة الأدب الرفيع، ولكن أديبنا الكبير لا يلبي حاجتهم ولا يؤدي واجبه نحوهم ولا نحو قضية العلم والإيمان والأدب على العموم

نعم أنه يكتب هذا المقال الذي نقرؤه له كلما أوشكنا أن نقطع الأمل من وقوعنا عليه ولكنه ليس يكفي، ولا يسداجة، ولا يؤدي واجبا، هذا كله على قدرة فيه نادرة، وغيرة عنده لا يتطرق إليها الشك

فهل تلك - يا سيدي القاضي - أن تنظر في هذه القضية المرفوعة إليك ضد الأديب الكبير (الذي أظن أنك عرفته أوثق المعرفة) وإله أن تحكم عليه الحكم العادل الذي يرده إلى ميدان

ص: 54

الجهاد ولا يحوجني إلى أن أستأنف القضية عند شيخ الأدباء (الزيات)

دمشق

محب الدين

ص: 55

‌القصص

القلب المحطم

للكاتب الإنجليزي واشمحطون ارفنج

اعتاد الذين تقدمت بهم السنون وتخطت بهم حدود الشباب فلم يعودوا يتأثرون بما يأثر به الشباب لم يعودوا يتأثرون بما يتأثر به الشبان من عواطف، والذين درجوا على الخلاعة وشبوا في جوها الزاهي حيث لا مقام لشعور أو قرار لعاطفة، أن يهزءوا بأخبار الحب جملة ظانين أنها لا تعود أن تكون صورا وأقاصيص من نسج خيال القصصيين والشعراء، إلا أن خبرتي بدخيلة النفس الإنسانية تحملني على ألا أرى رأيهم، فقد هدتني التجارب إلى أن المرء قد يبدو فاتراً بارداً لشواغل الدنيا وهمومها، وقد يطالع الناس هاشا باشا مراعاة لمراسم المجتمع وآدابه، إلا أن وراء خذات الظاهر الهادئ نيراناً كامنة ترقد في أعماق أبرد الصدور، وهي نيران إذا أثارها مثير احتدمت احتداما لا يعرف مداه، وقد تسوء عقباه. الحق أني مؤمن قوي الإيمان بذلك السطان الأعمى، ذاهب مع تعاليمه إلى أقصى حدودها. إني مؤمن بالقلوب المحطمة إيماني بأن خيبة المحب في رجائه قد تعجل بفنائه، ولكني لا أرى الحب مرضاً كثير الفتك ببني جنسي، في حين أني أؤمن الإيمان كله بأنه المرض الذي يصيب كثيراً من النساء اللطيفات فيزعجهن ويذهب بهن وما زلن في مقتبل العمر وشرخ الشباب

إذ أن الرجل له مصالح وأطماع، وطبيعته تدفعه إلى ولوج ميدان الحياة، والكفاح في معمعانها الصاخب، والحب عنده ألهية في مقتبل حياته، أو أنشودة ينشدها في أوقات فراغه، وذلك لأنه في شغل عنه بما يطمح إليه من شهرة، وما يسعى وراءه من ثروة، وما يروم تحقيقة من فكرة، فهو لا يفتأ مشوقاً إلى بلوغ ما يصبو غليه من سؤدد بين أنداده من الرجال؛ أما المرأة فكل حياتها نهب العواطف، وما سيرتها إلا التاريخ لنوازع القلب؛ فالقلب دنياها إلى تطمع فيها إلى فرض سلطانها وإقرار مكانها، وفيه تنقب عما تتمناه بكل روحها مع سفين العواطف، فإن غرقت سفينتها فقد خاب الرجاء فيها؛ إذ معنى ذلك إفلاس قلبها ودوال دولتها

قد تسبب خيبة الحب للرجل آلاما ممضة، وقد تجرح بعض مارق من أوتار قلبه، وتعصف

ص: 56

ببعض معالم هناءته، إلا أنه مخلوق عامل يستطيع أن يبدد أفكاره ويصرفها بالاندماج في دائرة الأعمال المنوعة، كما أن في وسعه أن ينغمس في الملاهي والمسرات، أو يبدل مقر سكناه إذا رأى أن المسرح الذي مثلت عله فصول مأساته محاط بملابسات لا قبل له بتحمل ما تسببه له من غصص وآلام، فيرحل إلى حيث يشاء متخذ أجنحة الصباح طائراً إلى أقاصي البلاد حيث يخلد إلى الراحة والسكينة

أما حياة المرأة فهي بالنسبة إلى حياة الرجل حياة استقرار وعزلة وتأمل، وهي أكثر اصطحابا لأفكارها وعواطفها؛ فإذا ما استحالت هذه إلى رسل ودواع للألم والحزن فإلى أين النجاء، وأين تلقي العزاء؟ إن حظها من الحياة أن تحب وأن تنال، فإذا ما ساء حظها وخاب فألها في حبها فمثل قلبها في ذلك مثل القلعة تقع في أيدي الأعداء فتنهب وتسلب وتترك خواء

كم من عين متألقة خبا ضياؤها! كم من خد أسيل غداً شاحباً! كم من وجه جميل ذوى وطواه الردى دون أن يدري امرؤ السبب الذي أودى بتلك النضارة! فمن طبيعة المرأة أن تخفي عن العالم آلام عواطفها المجروحة كما تضم الحمامة جناحيها إلى جانبيها تخفي بهما السهم الذي يوغل في مقاتلها. وحب المرآة الحساسة هادئ خجول؛ ومهما أصابت في حبها من توفيق فقلما تهمس به لذات نفسها؛ أما إذا خاب رجاؤها في الحب أودعته طيات صدرها وتركته هناك في هم واصب بين طلول أمسها الذاهب، فقد أخفقت آمال قلبها، وانتهت بهجة الحياة الكبرى عندها، فهي عندئذ تعاف الألعاب البهجة التي تعيش الفؤاد وتسرع النبضات وتدفع تيارات الحياة والصحة في العروق، وهي في حالها تلك تقلقها الأحلام السود وتفرغها في نومها، ويمتص الأسى دماءها حتى ليمسي جسمها من الوهن والهزال ينقص ويتهدم تحت أضعف مؤثر خارجي. فإذا ما سألت عنها بعد قليل وجدت الأصدقاء يبكون على قلبها وقد عاجلتها المنية في وفرة صباها، فتعجب ما شاء لك العجب كيف هبطت إلى عالم الظلام والديدان تلك التي كانت تشع منها إلى عهد قريب ضياء الصحة والجمال! فيقال لك أصابها برد أو مرض شائع فتوفاها، وما يدري أد منهم ذلك المرض الفكري الذي سبق فاستنزف قواها وتركها فريسة لأدنى المؤثرات

مثلها مثل الدوحة الفنانة تزهر الغابة بها وتزدان، تقف رشيقة القد مياسة الأغصان وريفه

ص: 57

الأفنان بينا ينهش الدود لبها فيسرع إليها الذبول حين يرجى إشراق نضرتها وازدياد توريقها؛ وعلى غرة نراها وقد مالت بأغصانها إلى الأرض وأخذت تتساقط أوراقها ورقة ورقة إلى أن تضمحل وتموت فتهوي في سكون الغاب. فإذا ما تأملنا هذه الأرواح الجميلة أخفقنا في تعليل ميتتها، محاولين عبثاً أن نذكر تلك العاصفة التي عساها أن تكون قد أطاحتها، أو تلك الصاعقة التي لعلها تكون قد صعقتها

لقد لاحظت بعض النساء وهن منحدرات بخطى سريعة نحو الذبول وقد أهملن شأنهن فاختفين من الوجود على مهل كأنهن تبخرن في الهواء. ولقد ظننت مراراً أني أصبت الحقيقة حين عزوت وفاتهن إلى آلام السل المهلكة تارة، وإلى البرد تارة، وإلى الهزل مرة وإلى الأحزان مرة، ولكني وجدت في النهاية السبب الحق وهو يأس الحب وضيعة الأمل

كل يذكر ولا ريب قصة ذلك البطل الأيرلندي الشاب (ا. .) فهي قصة كان وقعها أليما بحيث لا يمكن أن تنسى سريعا؛ فقد حوكم إبان الاضطرابات الأيرلندية متهماً بالخيانة ونفذ فيه حكم الإعدام بالشنق، وكان لخاتمة حياته الفاجعة صدى عميق في قلوب الجمهور، إذ كان شابا في معية الصبي وزهرة الشباب، متوقد الذهن، كريم النفس، شجاع القلب، كمل فيه كل ما يجب في الفتى من كريم السجايا وحميد الصفات، كما كان سلوكه أثناء المحاكمة سامياً تجلت فيه بسالته وإقدامه؛ وكان لغضبته النبيلة في دفع تهمة الخيانة عن نفسه، ولدفاعه الرائع عن اسمه، ولندائه الحار للأجيال المقبلة وهو في موقف الاتهام وساعة اليأس. . صدى مدو في أعماق كل صدر كريم، حتى أن أعداءه أنفسهم نددوا بتلك السياسة النكراء التي قضت عليه بالقتل

ولكن قلباً واحداً بين هذه القلوب فاقت حسرته ولوعته كل وصف، ذلك هو قلب تلك الفتاة الجميلة ابنة أحد مشاهير المحامين الأيرلنديين التي كان قد نال حبها أيام سعده وتوفيقه، وكانت هي قد أحبته لأول ما أحبت بتلك الحماسة التي تحب بها المرأة حبها الأول في مقتبل أيامها. لقد كانت تحبه أيام محنته، أيام تألبت عليه أقاويل الناس وأحكامهم، أيام عصفت العواصف بماله، وتهدد العار والدمار اسمه، وأحاط به السوء من كل جانب. ولقد كان يزيد حبها له معاناته لتلك الآلام، فكيف بها اليوم وكيف ألمها وهي التي كانت تهيم بطيفه وتشغف بخياله. وقد حرك المصاب نفوس عداته، سل عن ذلك من سدت أبواب

ص: 58

القبر بغتة في وجهه، وفرقت بينه وبين من لم يعدل به وبحبه أحداً، وقد جثا على حافة القبر كالمطرود في دنيا باردة موحشة ذهب عنها ما هو محبوب وكل ما هو جميل

يا لهوله من قبر! كم هو مهين! وقد خلت الذاكرة مما عساه أن يخفف غصة الفراق. ولم تستطع تلك الملابسات الوديعة وإن خالطها الغم، أن تذيب ذلك الحزن في تلك الدموع المباركة التي تنزل كالظل من السماء برداً وسلاماً على القلب في ساعة الفراق الممضية

ترملت، وزاد في وحشة حياتها أن تلك الصلة قد أثارت غضب والدها وسخطه فنفاها من بيته. ولو أن صديقاتها روعت نفوسهن ومنعهن الخوف أن يهبنها عطفهن، لما أعوزها العزاء؛ فالأيرلنديون قوم حساسو النفوس كريمو الشعور. ولقد مدت إليها بيوتات كريمة يد المعونة وأحطنها برقيق الرعاية وقدمنها للمجتمعات، وحاولن الترفيه عنها بشتى الملاهي والمسرات ليزول عنها حزنها ولتبعد عن فكرها ذكرى مأساتها، إلا أن ذلك كان عبثاً في عبث، فإن من النكبات ما يتلف النفس ويذويها وينفذ إلى منبت السعادة فيسحقه سحقاً فلا يعود إلى إنبات. أما هي فلم تأب التردد على منتديات السرور، ولكنها كانت فيها منفردة بنفسها موكولة إلى أساها، فكانت تسير في وجوم يغيب فيه الشعور بالدنيا التي تموج حولها، وكانت تحمل في نفسها على الدوام هما دفيناً يسخر بمداعبات الصديقات، ولا تحفل بسحر الغناء ولا بجمال الرقص

لقد رآها من روى لي قصتها في (كرنفال) وقد أخبرني أنه لم ير منظراً للبؤس أكثر إيلاما للنفس من رؤيتها في هذا الحقل الحافل تمشي كالخيال الضارع وحيدة كئيبة؛ بينما كل ما حولها زاه بهيج، وقال لي أنه رآها تلبس حلل المرح في حين تسير ساهمة الوجه ممتقعة اللون يغمرها الأسى كأنما تحول عشا أن تخدع قلبها لحظة تنسيه فيها حزنه المقيم. وعد أن طافت بالحجرات الفاخرة وجالت بيم ذلك الحشد الصاحب شاردة اللب جلست على درج منصة الموسيقى؛ وبعد أن نظرت إلى الفضاء برهة وهي شاخصة الطرف يبدو عليها عدم الشعور بجمال المناظر من حولها، أخذت تغني، شأن القلب العليل في تقلب أطواره، فكان شدوها باكيا، لقد كان صوتها رخيما إلا أنه في هذه المرة كان مؤثرا بسيطا، فتنفست عن نفس بائسة، والتف حولها الجميع وساد السكون، فأذابت النفوس وأدمعت العيون

لقد أثارت قصتها شغف الناس؛ إذ أن قصة سيدة على ذلك الإخلاص وهذا التفاني لا بد أن

ص: 59

تثير إعجاب الناس في بلد عرف أهلوه بالحماسة والوفاء، فأحبها وأغرم بها ضابط باسل خطبها وهو يحدث نفسه بأن من كانت تظهر هذا الإخلاص للميت، تظهر ولا شك مثل هذا الإخلاص للحي، إلا أنها خيبت أمله في ذلك إذ لم يكن في وسعها أن تصرف فكرها عن ذكرى حبيبها الأول! على أنه أصر على طلبه قائلاً: أنه يكفيه منها التقدير بديلاً عن الحب. وساعده عليها اقتناعها بجدارته وعوزها واعتمادها على الغير إذ كانت تعيش على ما تجود به الصديقات، فنجح في النهاية في الحصول على يدها مع تأكيد رهيب بأن قلبها ما زال ملكاً لغيره ولا سبيل إلى صده عن هواه

سافر بها إلى صقلية لعل تبديل المناظر يمحو ذكرياتها القديمة، ولقد كانت رقيقة القلب مثال الزوجة الصالحة؛ فحاولت أن تسعد بزواجها، إلا أن هذا الهم الساكن وذلك الحزن الكامن لم ينجح فيهما علاج

فذبلت رويداً رويداً، وأخذ منها الهزال مأخذه، فسارت وشيكاً إلى انحلال لا أمل في البرء منه وهوت أخيراً إلى قبرها ضحية القلب المحطم

وقد نظم فيها مور الشاعر الأيرلندي الشهير أبياته الآتية:

بعيدة عن الأرض التي بها مثوى بطلها الحبوب،

يلتف حولها المحبون وهم يصعدون الزفرات،

إلا أنها تشيح عنهم بوجهها وتأخذ في النحيب،

فقد علق قلبها بالثرى الذي ضم الحبيب،

تنشد أغني الفطرة عن مواطنيها السذج الأعزاء،

مؤثرة ما كان يحبه من بين تلك الأنغام.

آه ليس يدرس أولئك المعجبون بألحانها

كم يتمزق قلبها وهي تشدو بأنغامها!

عاش لحبه ومات في سبيل بلاده،

وكان هذان كل ما يعنيه من دنياه؛

وسوف لا تجف عاجلاً دموع بلاده عليه.

ولا أمل لمن أحبه أن يعيش طويلاً من بعده

ص: 60

ابنوا قبرها حيث تستقر أشعة الشمس،

حين تؤذن بغيابها بدنو غدٍ موموق،

حتى تضيء عليها في ضجعتها كبسمة من المغرب

من جزيرة الأحزان التي أحبتها وعلقت بها

ح. ك

ص: 61