الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 1006
- بتاريخ: 13 - 10 - 1952
الثورة فيها ريح النبوة
كل نبوَّة كانت ثورة. ومن أخص ما ميز ثورات النبوات أنها كانت للسلام العام والصلاح المطلق. فلا تجد نبينا دعا إلى عرض الدنيا، ولا رسولا سعى إلى سلطان الحكم. إنما كان الأنبياء والمرسلون جند الله، يعملون بوحيه، ويهتدون بهديه. عقيدتهم الحق، ودعوتهم الصدق، وعدَّتهم الصبر، ووجهتم الخير، وطريقتهم التضحية. فلما ختم الله رسالاتهم برسالة محمد كتب على نفسه الرحمة أن يرسل إلى الناس في كل حقبة مصلحا يؤدبه بأدب الأنبياء، ويجريه على منهاج الرسل، ليجدد ما درس من نهده، ويبيّن ما طمس من طريقه. وشأنه سبحانه في إعداد المصلحين كشأنه تعالى في إعداد النبيين، يصنعهم على عينه، ويطبعهم على دينه، حتى إذا ضعف سلطان العقل، واختل ميزان العدل، وعميت على الناي وجود الرشْد، أظهر هذا المصلح من بين رجال السيف في أكثر الحالات، لأنهم بحكم تنشئتهم أصحاب فداء ومضاء، وألاّ ف نظام وعمل، وأحلاف شرف مجد. يطلبون الحياة بالموت، ويرحضون الرجس بالدم، ويقرنون الرأي بالعزيمة. ولم تجتمع هذه الصفات لأحد قبل اللواء محمد نجيب وصحبه. وسر ذلك أنهم نشئوا في طبقة الفلاحين الكادحين فعرفوا كيف يكون الحرمان، وعملوا تحت إمرة المستكبرين المستهترين فعلموا كيف يكون الطغيان، وأضاءت قلوبهم النقية إشراقة من نور الله، فرأوا من تحت الظلام الكثيف المخيف عرش مصر يرتطم في الذر، وجيش مصر يضطرب في الفساد، وشعب مصر يتمرغ في الذل، فشبوا شبوب النار الهادئة تقتل المكروب ولا تحرق المريض، وهبُّوا هبوب الريح اللينة تدفع الشراع ولا تغرق المركب. ثم عالجوا أمر هذه الأمة بعلاج الرسول الكريم، فحطموا الأوثان كما حطم، وكرموا الإنسان كما كم، وأزالوا الفروق بين الناس كما أزال، وأدالوا الفقير من الغني كما أدال، وقيدوا الحق بالواجب كما قيد، وأيدوا الحجة بالسيف كما أيد. ثم أذاقوا الناس لأول مرة في تاريخ مصر نعمة الحرية والكرامة والمساواة، ثم ظلوا كما كانوا قانعين متواضعين، يظهرون في المجامع من غير أبهة، ويمشون في الشوارع من غير حرس، ويختلطون بالسواد من غير حرج. ثم لا يمدون أعينهم إلى نعيم، ولا يبسطون أيديهم إلى ثراء. فهل يجوز بعد أولئك كله أن يعيدونا إلى ثرثرة الأحزاب وسمسرة النواب ومهزلة الزعامة؟
لا يا سيد محمد نجيب! إن الله جعل في يديك أمانة هذه الأمة فلا تلق
بها إلى من خانوها من قبل! إنك تريد (الاتحاد) وهم يريدون الفرقة.
وإنك تريد (النظام) وهم يريدون الفوضى. وإنك تريد (العمل) وهم
يريدون الكلام! فهل يستوي الوفي والغادر، أم هل يستوي البر
والفاجر؟
احمد حسن الزيات
الإسلام في موكب الإصلاح
الطلاق وتعدد الزوجات
للأستاذ محمد عبد الله السمان
انقرض العهد البائد إلى غير رجعة. وقد كان عقبة كأداء في سبيل أية حركة إصلاحية كان ينشدها أو يلوح بها المخلصون لهذا البلد، واصبح السبيل اليوم ممهدا لكل وثبة إصلاحية. بعد أو وهب الله لأمور هذا البلد ولاة تمتزج أحاسيسهم بأحاسيس الشعب. وعواطفهم بعواطفه؛ وترحب عقولهم بنزعات الإصلاح وبرامج المصلحين، وتستجيب قلوبهم لكل حركة إصلاحية من شأنها أن تنهض بالمجتمع وتسعده.
والذي لا شك فيه أن الإسلام الصحيح الذي رضيه الله لعباده دينا يرحب بالإصلاح ويبارك موكبه، لأنه دعوة إصلاحية شاملة تهدف إلى إقامة مجتمع نظيف مستقر على أسس متينة صالحة، وتسعى جادة إلى إسعاد البشرية قاطبة في هذا الوجود، ولسنا في حاجة إلى دليل بعد أن أوضح كتاب الله الهدف من الرسالة المحمدية حين قال:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) - وإن كان ثمة فريق من المسلمين مريض بالتزمت في غير فقه، وبالجهل في حمق وسفه، يأبى إلا أن يجعل من الإسلام عقبة في سبيل الإصلاح، فليس من الإنصاف أن يعتبر هذا الفريق حجة على الإسلام - وجهله المطبق مدعاة لتجريح إسلام، والنيل منه، والصد عن سلوك مناهجه والاستخفاف بها!
يدفعني إلى هذا التمهيد مشكلة الطلاق وتعدد الزوجات التي تظهر اليوم من جديد على
المسرح، وقد نادى المصلحون من قبل بعلاجها، وكان المسئولون السابقون يصمون آذانهم عن هذا النداء متذرعين بالجبن، خشية أن يثير الإصلاح جيوش التزمت من رجال الدين وأدعياء الدفاع عن الإسلام - أما الآن فلا نظن أن حكومة الثورة تخشى في سبيل الإصلاح ثورة تلك الجيوش الراكدة، وقد أخذت المشكلة طريقها إلى الجد لعلاجها، وهنك في وزارة الشؤون الاجتماعية دراسات بشأنها، نرجو أن تظهر في القريب العاجل ثمراتها، مما يحقق لمجتمعنا الإصلاح الذي ينشده كل وطني يبغي الخير لوطنه.
والمشغولون بهذه المشكلة طوائف ثلاث: طائفة مغالية تنادي بتقييد الطلاق تقييدا صريحا حاسما، والقضاء على تشريع التعدد قضاء مبرما، وهذه الطائفة مسرفة إسرافا يجعلنا لا نسلم مطلقة بمشروعها، ولا نطمئن إلى تفكيرها، إلا إذا رضينا المهانة لشريعتنا وحاشا أن نرضاها لها، فما جاءت به هذه الشريعة الغراء من تشريعات لابد أن يكون في جميعه مصلحة البشر، وإلا كان البعض حشوا لا جدوى من وجوده. . وطائفة ثانية تشاطر الأولى الغلو والإسراف، فهي تأبى إلا أن يظل الطلاق وتعدد الزوجات مباحين مطلقين، حتى ولو أساء الجهلة استغلالهما، فأصبح ضررهما أكثر من نفعهما، وأرسينا بناء المجتمع على قواعد مضطربة متراقصة، ونحن أيضاً لا نقر هذه الطائفة على تزمتها لأنها بتفكيرها تحكم على الإسلام الجمود، ويسيء إلى شريعته التي لم تكن إلا لصالح البشر. . أما الطائفة الثالثة فمعتدلة متزنة، ناضرة الفكر، تعمل على أن تحقق للإصلاح حسن ظنه بالإسلام، وتثبت للعالم أن الإسلام يقر الإصلاح لأنه هدفه، ويتطور معه لأنه دين حنيف، يسر لا عسر، ومرن سهل لا جمود فيه ولا تعقيد، وهذه ترى إزاء فوضى أشياع الطلاق والتعدد - ألا يقدم جاهل على الطلاق إذا لم يكن هناك باعث عليه، ولا على تعدد الزوجات إلا إذا كانت هناك حاجة ماسة إليه، وبذلك يمكن وضع حد لاستخفاف المستخفين بشرعة الله عز وجل.
إن الإسلام يعتبر كلا من الطلاق وتعدد الزوجات رخصة فحسب، يأخذ بها ويأتيها المضطر، كالرخصة للجائع بتناول المحرمات متى لم يجد سواها. وقد جاء في سورة البقرة:(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم) كما جاء في آية أخرى من سورة المائدة:
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنخنقة والموقوذة. . . . فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم.) فإذا اضطر الإنسان إلى أن يفارق زوجه فارقها بالمعروف، وإذا كانت هناك حاجة ماسة تضطره إلى أن يعدد في الزواج عدد محققا العدالة بين أزواجه، والشرع لم يبح له الرخصة إلا ليخلصه من الحرج في حياته، ويضمن له العيش الهادئ المستقر.
والإسلام لم يجعل من الطلاق معولا لهدم كيان الأسرة، ولا سلاحا لتمزيق أواصر الزوجية، وهو الذي وضع للأسرة من التشريع ما يصون بناءها، وللزوجة ما يقوي رابطتها. وأنت إذا تدبرت بعض آيات القرآن الكريم وجدتها تقدس الرابطة الزوجية بوجه خاص، حين تشير إلى أن هناك امتزاجا بين الزوجين أزليا قديما منذ آدم وحواء. . وهذا الامتزاج سيحل بكل زوجين ليعتز كل منهما بالرابطة المقدسة التي ربطت بينهما، ويعمل على صونها من العبث الذي يطوح بها:(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها. .) - (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها. . .) - (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.)
إذن فما كان الإسلام، وهذا شأنه - ليجعل من الطلاق معولا لهدم الأسرة، ولا سلاحا يشهره الجاهل والأحمق على رابطة الزوجية المقدسة كلما دفعه جهله وحمقه، ولكنه جعله أبغض الحلال إلى الله في قوله عليه الصلاة والسلام:(إن أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق) ونهى عنه إلا من ريبة تحوم حول الزوجة في قوله عليه السلام: (لا تطلقوا النساء من ريبة، فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات.) والإسلام ليحرص على بناء الزوجية وضع كثيرا من العراقيل في سبيل الطلاق الذي يفرق بين الزوجين، فقد جعل الطلاق مرتين ليوجد فرصة للصلح، ودعا إلى تأليف حكمين من أهله وأهلها حين يدب الخلاف ليعملا على الصلح بينهما
وكما أن الإسلام رخص بالطلاق لضرورة تقتضيها مصلحة أحد الزوجين، أو كليهما، كذلك رخص للزوج بتعدد الأزواج لحاجة تقتضيها مصلحته هو، أو مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه، فإذا انتفت الحاجة في الحالين لم يكن ثمة لزوم للرخصة، وإذا أسيء استغلال
الرخصة فأثمرت الضر والضرار، كان هذا أدعى إلى أزالتها وألغاتها.
وحين يرى المصلحون اليوم وجوب إصدار تشريع يقضي بتحريم الطلاق إلا لضرورة تقتضيها المصلحة. لا يكونون بما يرون متجنين على الشريعة الإسلامية، وهم لا يرغبون إلا في أن تتدخل المحكمة أو ما إليها في مسألة الطلاق، حتى تقتضي على عبث العابثين وطيش الطائشين، والقرآن نفسه دعا إلى تأليف حكم من أهل الزوج وحكم من أهل زوجة إذا دب شقاق بينهما، ليتدخلا في الأمر حتى يصلحا بينهما (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) وذلك ليحول الحكمان بينهما وبين الضرار الذي قد يلحقهما، ومن حقهما أن يقرر الصلح إذا رأيا الخير فيه، أو الفراق لمنع الضرر والضرار. وقد كان رسول الله (ص) حكما في قضية حبيبة بنت سهل وزوجها ثابت بن قيس وفرق بينهما، كما كان حكما في قضية زينب بنت جحش زوجها زيد، وحثهما على التوافق حتى قضى الله أمرا كان مفعولا، وبعث عثمان بن عفان أبن عباس ومعاوية حكمين بين عقيل بن أبي طالب وزوجته فاطمة بنت عتبة، وقال لهما:(عليكما إن رأيتما أن تفرقا بينهما فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما. . .)
وحين يرى المصلحون أيضاً وجوب إصدار تشريع يقضي بتقييد الرجل بزوجة واحدة، إلا إذا كانت هناك حاجة ماسة، لا يكونون بما يرون متجنبين على الإسلام، لأن الإسلام قصد بهذه الرخصة مصلحة الفرد أو المجتمع، فإذا لم تتحقق المصلحة لم يكن هناك داع إلى إتيان هذه الرخصة، ولا يعتبر هؤلاء المصلحون بما يرون داعين إلى هدم شرائع الله عز وجل، فقد نهى رسول الله (ص) أن تقطع الأيدي في الغزو، خشية أن يترتب على إقامة الحد ما هو أبغض إلى الله من تعطيله، ولم يكن رسول الله (ص) هادما لشريعة الله بالطبع، وقد أوقف عمر حد السرقة في عام المجاعة، وحذف سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات وهو ثابت لهم في كتاب الله، ولم يكن عمر في هذين الإجراءين هادما لشرع الله، وهو يبغي إزالة الضرر والضرار أو تحقيق المصلحة العامة، بل إن عمر لما رأى الناس يسرفون إسرافا بغيضا في النطق بالطلاق الثلاث في لفظة واحد، مطمئنين إلى أنه لن يقع إلا طلاقا واحدا، كما كان على عهد الرسول وأبي بكر - أمضاه ثلاث طلقات حتى يرتدع الناس ويتحرجوا، ولم يكن هادما لشرع الله وهو يبغي الحد من الإسراف في الطلاق، وقال في
هذا: (إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؟) ثم أمضاه
إن الجهلة قد استغلوا رخصتي الطلاق والتعدد أسوأ استغلال حتى شوهوا شريعة الله، فوجب أن تحرما عليهم كما يحرم على السفهاء استغلال أموالهم، وأسهموا بأكبر قسط في اضطراب المجتمع بوثيقة من الإسلام زوروها بجهلهم وسفههم وحمقهم، فوجب أن تنتزع من أيديهم - إن طوعا وإن كرها - حتى يعود للمجتمع استقراره من جديد، فلم يكن الطلاق في الإسلام وسيلة من وسائل الهدم - ولكنه إجراء محظور يلجأ إليه المضطر ولا يمنح الجاهل والسفيه، وقد قال أبن عابدين من فقهاء الحنفية:(وأما الطلاق فالأصل فيه الحظر - أي الحرمة - والإباحة لحاجة إلى الخلاص، فإذا كان بلا سبب أصلا لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقا وسفاهة رأي، ومجرد كفران للنعمة) ولم يكن المقصود من إباحة التعدد أن يكون ذريعة إلى الإخلال بالمجتمع، ولا فرصة للجاهل والسفيه يلهوان ويعبثان، إنما المقصود منه أن يحقق مصلحة الفرد أو المجتمع، فإذا انقلبت الأوضاع بإساءة استغلال الإباحة، كان لزاما على ولاة الأمور أن يصونوا رخصة التعدد حتى يصونوا شريعة الله عز وجل. وللإمام محمد عبده كلام في هذا الصدد، فبعد أن عدد المآسي الناتجة من فوضى التعدد، قال:
(أما الأمر على ما نرى ونسمع فلا سبيل إلى تربية أمة مع فشو تعدد الزوجات فيها، فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصا الحنفية منهم الذي يبدهم الأمر وعلى مذهبهم الحكم، فهم لا ينظرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم، وأن من أصوله منع الضرر والضرار، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيها قبله، فلا شك في وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحالة الحاضرة: يعني على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. .) اهـ من تفسير المنار جـ3
وبعد - فإن الإسلام الصحيح ليساير الإصلاح حيثما حل، وفي استطاعة علمائه ذوي الأفكار الناضرة أن يجعلوا الإسلام يتزعم الإصلاح ويقود موكبه، ونحن اليوم في الطريق إلى تكوين مجتمع نظيف سليم مستقر ينعم بحياته وتعتز بها، ويفخر به الإسلام لأنه ثمرة من ثمرات تربيته وتنشئته وتوجيهه!
محمد عبد الله السمان
الداء والدواء
للدكتور فضلو حيدر
محاضرة ألقاها في منتدى البردوني
مهما اختلفت مشاربنا السياسية واعتقاداتنا الدينية ومعارفنا العلمية فأهداف الإنسان واحدة تنحصر كلها بحفظ الذات وضمانة الحياة والتمتع بمقام اجتماعي مرموق.
ويحول دون الوصول إلى هذه الأهداف عقبات جمة أقواها وأضرها الجهل. فجهل المرأة مثلا يعني جهل النشء وانحطاط التربية والثقافة في الأمة. ويصح أن تكون ثقافة المرأة قياسا للمدنيات نظراً لما للأم من التأثير في نشوء الأمم.
ومن الأمثلة التي توضح جهل الجماعات معدل العمر في الشعوب. لقد كان معدل عمر الأوربي في القرون الوسطى تسع عشرة سنة تقريبا. أما اليوم فقد ناهز السبعين من السنين. أما في الشرق الأدنى فلا يزال معدل عمر الإنسان نحو الثلاثين. وكلنا نعلم بأن هذا الاختلاف المخيف في الأعمار بين الغرب والشرق، أي بين السبعين والثلاثين، لا ينطبق تماما على قول الشاعر العربي:
يقرب حب الموت آجالنا لنا
…
وتكرهه آجالهم فتطول
بل بعود إلى الوعي الصحي في الأمة وإلى المعارف الطبية. فليقدر كل منا الخسارة الهائلة التي يضرب بها الشرق بموت أطفاله وشبابه قبل الأوان.
وبما أن وقت المحاضرة محدود فسأحصر حديثي الليلة في المعارف الصحية
فماذا يجب أن يعلم كل منا عن العيلة؟
العيلة أساس المدنيات. وغايتها القصوى ضمانة النسل وحقوق الأولاد الاجتماعية وتربيتهم تربية صحيحة صحيا وسلوكيا ومعرفيا.
ولذلك يجب أن بفحص الطالب قبل زواجه ضماناً لحياته وسلامة للنسل. ومع أن روابط العيلة مقدسة في الأديان وتضمنها نظامات اجتماعية في الأمم المتمدنة، فإن العيلة لن تثبت واقعيا على أسس متينة إن لم ترتكز على صفات نفسانية مغروسة غرساً صالحا بالتربية الراقية والواعية. وذلك يشير إلى تربية الأنانية والجنسية. أي يجب أن نحول الأنانية والجنسية من نوازعها الفطرية إلى الحب والاحترام بين الجنسين. فتوجه الأنانية من (ليتك
تموتين قبلما أعطس أنا) إلى عاطفة التعاون والمشاركة وإنكار الذات ضنا بسلامة العيلة وسعادتها وتقديسها لغايتها القصوى. فكسف يمكن أن تثبت العيلة في المجتمع إذا كان هم كل من الشريكين محصوراً في فرض سلطته وإبراز رأيه. وكم من الشبان يجهلون غاية الزواج وماهية الأب والأم في العيلة والمجتمع. وكم ينتج عن هذا الجهل من التعاسة والإجرام في المجتمع.
ومن أقدس واجبات الوالدين تنبيه أبنائهم وتدريبهم على الأساليب الصحيحة النافعة في الحياة، ورعايتهم إلى أن تصبح تلك الأساليب عادات ثابتة يسير النشء بموجبها بديهيا كالغرائز لمنفعته الصحية والاجتماعية والعملية. فاتقاء الأمراض مثلا يصبح بالتربية عادة تعمل يوميا بدون تفكير أو تفسير. . كغسل اليدين قبل الطعام وبعده، وتنظيف الفم بعد الأكل وقبل النوم، والاستحمام يوميا، وقس على ذلك كل العادات والتقاليد من اجتماعية ودينية، والأعمال والحرف اليومية كسياقه السيارة وآداب المائدة والرق والموسيقى والمحافظة على النظام والمواعيد واحترام حقوق الغير - كلها تكمل متى أصبحت عادة.
ومن واجبات الوالدين الاهتمام بحواس الأولاد كالسمح والبصر لأنها مداخل المعرفة، وأي نقص فيها يؤدي إلى تأخر الولد في نموه العقلي والسلوكي في البيت والمدرسة والمجتمع. وكذلك يجب أن يعالج أي تشوش كان في النطق والحركة وهي سبيل النجاح في البيئة كي لا يصبح الولد أضحوكة بين رفاقه.
وعلى الوالدين أن ينتبهوا إلى سلوك البنين في اللعب والدرس والعمل؛ إذ كم من المرات يكون فشل الولد وبكاؤه وكسله وحزنه ناتجا عن ضعف صحته أو نقص غذائه أو فقر دمه أو تشوش في حواسه.
واعوجاج السلوك يستوجب علاج النفس بسبل علمية، لا بالانتهار والقصاص والضرب، لأن هذه العلاجات تؤدي إلى زيادة إدماء الوجدان واعوجاج السلوك في الكبر.
وضروري أن يفحص الولد طببا في فترات متعددة وطبعا كلما دعت حالته الصحية، كي لا يداوي ألم البطن بشربة وهو من التهاب الزائدة، ولا القيء بلزقة وهو من مرض السحايا الدماغية (مننجيت).
ويفحص الطفل في الحول الأول مرة كل شهر يدون فيها وزنه ونموه الجسدي والعقلي
والعاطفي.
فالتربية أي السلوك الحسن والقبيح هي حظنا في الحياة من لطفاء أو ثقلاء، وناجحين أو حابطين. وفي الصغر يمكننا أن نربي مثلا ورح التعاون بتعويد الأولاد أن يلعبوا ويعملوا جماعات أو العكس بالعكس، أو أن نربي الخوف بزيادة الإرهاب والتعذيب، أو أن نربي الخمول والقناعة في التفكير والتفسير بانتهار الولد كلما سأل مستعلما، وبإعطائه تفسيرا سخيفاً يغلق في ذهنه باب الحشرية، والتطاول بدلا من إنعاش روح اشك والبحث والتحري بحسن التفسير والتشويق والمكافأة والتشجيع والمساعدة. وقس على ذلك تربية طابع الحسد والغيرة والنقمة، أو خلق عمل الواجب واحترام حقوق الجماعة وكلها أمور فعالة في مستقبل النشء ونجاحه أو إخفاقه.
والخلاصة أن صفاتنا من حسنة أو قبيحة ومعارفنا من عالية أو سافلة لم تولد معنا. وما يتبجح به المتمدن من ثقافة راقية على الهمجي والأمي لم يولد معه؛ بل اكتسبه في البيت والمدرسة والمجتمع.
وسأنتقل الآن بكم من الصغار إلى الكبار. فماذا يجب أن يعلم كل منكم عن إطالة العمر.
(1)
الأمراض السارية
لا مفر من الموت. ولكن من الممكنات أن يعيش الإنسان مدة قرن متمتعا بصحة جسدية وعقلية ونفسانية لا بأس بها بقد كانت الأمراض السارية كالطاعون والجدري والكوليرا والسل في الماضي القريب من أكثر مسببات الوفيات. أما اليوم فقد تغلب عليها الطب تقريباً في كل العالم. فبعضها قد زال والبعض الآخر قد ضعف فتكه. كذلك قد زالت تقريباً أمراض الأطفال التي كانت تحصد الأرواح في السنين الأولى من العمر بفضل انتشار المعارف الصحية بين الشعب، وتقدم العلوم الطبية في الغذاء والدواء والوقاية.
والوقاية خير من العلاج. فالوقاية العمومية من واجبات الحكومات ومنها الحجر الصحي وتجفيف المستنقعات وتصفية مياه الشرب وتقنية المراحيض وتعقيم أو حرق فضلات المدينة فالوقاية العمومية أراحت الإنسان المتمدن من البرغش والذباب والهواء وغيرها من ناقلات المكروبات؛ وبفضلها تلاشت في العالم الملاريا والحمى الصفراء والكولرا والتيفوئيد.
ومن سبل الوقاية في بعض الأمراض القتالة التطعيم؛ فهو يولد في الجسم مناعة تامة في الجدري والكلَب، وجزئية ومؤقتة في الخناق (ديفتريا) والتيفؤيد والشهقة وغير مقررة في السل
ومن طرق الوقاية العابرة حقن المصول في الخناق والكزاز، ونقل دم الإنسان الصحيح أو مصل دمه أو غلوبيولينه إلى الأولاد المعرضين في حميات الأطفال القتالة كالشاهوق الخبيث والحميرة السوداء.
ومن سبل الوقاية المؤقتة الابتعاد عن المرضى. ولرب سائل يقول: هل الأفضل إبعاد الأولاد عن إخوانهم المرضى في (مواسم) الحميات أو تركهم على الطبيعة؟ أقول: إن الأفضل تركهم إلا إذا كان الوافد شديد الوطأة. وعدا ذلك لا خوف على حياتهم. فلا فائدة من الإبعاد لأن تلك الأمراض ستعودهم كباراً حيث تكون أشد خطراً كالحميرة الألمانية مثلا؛ فإنه مرض بسيط للغاية في الصغار ولكنه في الحبالي يسبب أحيانا تغيرات عصبية في الجنين تظهر فيه بعدئذ عاهات عقلية. وكذلك مرض أبو كعيب فإنه سهل في الأولاد وكلنه يسبب في البالغين أحيانا العقم والاختلاطات الدماغية والكلوية.
ولا يزال السل من الأمراض القتالة بالرغم من (الستربتومسين) و (الباز) ومركبات (الايزونكتنيكو) كا (ليميفون) و (النيدرازيل) والجراحة. والوقاية منه تكون بحسن التغذية والحياة الصحية والتطعيم. ومن الضروري اكتشافه باكرا لمنع العدوى وسهولة الشفاء. ولذلك كان من الواجب فحص التلاميذ والعمال با (لتيوبركولين) والأشعة والفحص الطبي العادي مرة كل سنة على الأقل في الأحوال الصحية.
(2)
السرطان
وماذا أخبركم عن السرطان؟ فقد زاد عدد ضحاياه في هذا العصر. ومع أننا نجهل سببه فإننا نعلم شيئا عن بعض العوامل التي تهيئ حدوثه أو تحبذه كالتحريش المزمن (مثلا بين اللسان والأضراس النخرة) والالتهابات المزمنة، والقروح القديمة والبثور الطويلة العهد. ويزعم بعض الأطباء أن اختلالا ما في إفرازات الغدد التناسلية يوقظ بعض الخلايا العادية أو الامبريولوجية فيسرطنها.
والوقاية منه تكون بمنع الأسباب المحبذة حدوثه، كمعالجة الأسنان النخرة، والالتهابات
المزمنة والثآليل المعرضة لفرك والاحتكاك، وباتباع نظام صحي بأن يزور الإنسان طبيبه مرتين سنويا بعد الخمسين من العمر في حالته الصحية.
والسرطان قابل الشفاء إذ اكتشف باكرا؛ أي عندما يكون محصوراً أي قبلما ينتشر بالأنسجة المجاورة أو البعيدة. والسرطان الخارجي - الجلدي مثلا - يشفى بمعدل 90 بالمائة لسهولة اكتشافه. وكلما بعد وقت تشخصيه نقص، لسوء الحظ، الأمل بشفائه.
وأهم علاجاته إلى اليوم الجراحة والأشعة والمعادن المشعة ونزع الغدد التناسلية (الخصى الجراحي) وحقن الخلاصات التناسلية من جنس مخالف لجنس المريض. وعلماء السرطان تبحثه ليل نهار، وأملنا كبير بأنهم سينتصرون قريباً على هذه الآفة القتالة.
(3)
الشيخوخة
وهنالك مصائب غير الأمراض المعدية والسرطان تقرب الأجل؛ تحدث من تغيرات عضوية في القلب والشرايين والكبد والكلى ندعوها أمراض الشيخوخة.
ومع أن طول العمر وراثي فإنه يتراوح فزيولوجيا حول المائة من السنين. ولكن لا يصل الإنسان عادة إلى هذا الحد لأسباب طارئة من متاعب الحياة فتتبخر السنون قبل أوانها. فكيف نتمكن من إبعاد حلول الشيخوخة.
للكلام بقية
فضلو حيدر
من سير الخالدين
نابليون. . وجنوده. . وقواده. .!
للأستاذ عبد القادر حميدة
شرع الكتاب في هذه الأيام أقلامهم. . بعد أن غمسوها في مراجع التاريخ. . ينقلون عن صفحاته وسطوره سيرا ملوثة لملوك غابرين. . فيعددون مساوئ هذا. . ويرددون هفوات ذاك. . وعلى الجملة فهم يقدمون إلى القراء حياة تضج بالشهوة. . وتزخر بالفسق. . وتحفل بالفجور. .!! حياة لا تهدف إلا للمتعة. . ولا تنشد إلا البعث. . وفي اعتقادي أن مثل هذه النقائض المنتقاة من كتب التاريخ. . التي تعرض اليوم على الأعين. . وتلقي على الآذان. . لا تحط إطلاقا من قيمة الملك السابق. . ولا تصيب منه مرمى. . لأنه سيشعر - على الأقل - بأنه لن يقترف هذا الجرم وحده. . بل سبقه ملوك سالفون. . لم يبلغوا ما بلغه من الترف والأبهة. . وتلك لعمري مؤهلات العربدة. .!! كان الأحرى بالكتاب. . أن يتخذوا من صفحات الجرائد لوحات يسيطرون عليها أمثلة من. . الشرف. . والعفة. . والكرامة. . والنزاهة. . وكراهية. . الذات. . والحنو على الشعب.!! لأناس دستورهم هذا، ولدينا كتب التاريخ حافلة، وبهذا يدرك الملك السابق كما يطمئن جمهرة الناس إلى أنه طرق باب النزاوت وحده، وسلك دروب الشيطان بمفرده، وانساق أمام تيار جارف من النشوة الزائلة، لا تحوطه إلا حاشية لم تكن تريد إلا تحقيق أطماعهم الشخصية. . ولو على حساب تلويث صفحة تاريخية.!
وحين يدرك فاروق أنه وحده نشز عن طبيعة الخلق - بعد أن يدرك القراء أيضا - سيتضاعف شعوره بالألم - إن كان لديه بقية من ضمير - ويحس بالوخز أشد إيلاما، وأحد نصلا! وإني إذ أقدم اليوم إلى قراء الرسالة جانيا من حياة نابليون إنما آمل أن ينهج إخواننا الأدباء هذا النهج، ويسيروا على ذلك الدرب:
. . . كان نابليون شديد الانتباه إلى أصاغر جنوده لاعتقاده أن الجندي الصغير قد يكون ذا قلب كبير، وأن حسن المعاملة مدعاة لزيادة الإخلاص، قال دوق فيسالس (إن تلك الشوارب القديمة (يعني رجال الحرس) لم يكونوا يجسرون على مخاطبة أصغر ملازم في الجيش بمثل ما كانوا يخاطبون ذلك القائد الأكبر الذي كانت هيبته تملأ نفس الجيش كله)، وقال
دون باسانو: (إني رأيت الإمبراطور مائة مرة ينتقل ليلا من معسكر إلى آخر، ويقف هنا وهناك لدى النيران ويسأل عما يغلي في القدر ثم يقهقه من الأجوبة المضحكة التي كان يسمعها من الجنود)، وقال القومندان كلود بزجيه في تاريخه (يا الله، ما أعرف نابليون بالجندي الفرنسي، وما أقدره في مخاطبته والضرب على أشد الأوتار تأثرا في قلبه أعني وتر الشرف) ولقد وصف نابليون نفسه الجندي الفرنسي في صفحة جميلة قال فيها: (إن الجندي الفرنسي رجل مفكر قاسي الحكم فيما يتعلق بشجاعة ضباطه ومواهب رؤسائه، وهو يجادل رفيقه في شأن الخطط والأساليب الحربية، ويستطيع القيام بأي عمل من الأعمال إذا كان لرؤسائه حرمة في نفسه وإذا كان هو يستحسن مجرى الأحوال الحربية، أما إذا كان الأمر على العكس فلا يمكن الاعتماد على الفوز. وابن فرنسا هو الجندي الوحيد بين جنود أوروبا الذي يستطيع القتال ويقوم بجليل الأعمال وهو ضامر البطن مطوي الأحشاء على الطوى، ومهما طال زمن المعركة فهو ينسى الأكل في سبيل الفوز، حتى إذا انتهى القتال صارت مطالبه أكثر من مطالب غيره. والجندي الصغير من الفرنسيين أشد اهتماما بإحراز النصر من ضابط بروسي، وهو يدعي أن الفضل الكبر في كل نصر يرجع إلى فيلقه، وجملة القول أن جنود الأمم الأخرى تصبر يوم الوغى بحكم الواجب، والجندي الفرنسي يحارب إجابة لصوت الشرف. . فإذا أصابه فشل شعر بأن نفسه ذليلة. . وإذا فشلت الجنود الأخرى عادت غير مكترثة).
وربما كان رأس الأمور التي حملت نابليون على تسمية الوسام الذي أحدثه (بوسام جوقة الشرف) ما كان يعرفه من رسوخ ذاك الشعور في نفس الفرنسي، وإذا رجعت إلى الأوامر العسكرية وخطب التحريض التي كان يلقيها عليهم أبصرته يحاول فيها كلها أو جلها أن يظهر للجندي ما يحرزه من الشرف والفخر هو وآله إذا عاد وإكليل النصر يزين جبينه، ولقد كان الأعداء أنفسهم يعرفون أن قوة الجندي الفرنسي إنما هي بعواطفه ومشاعره، لا بقوة ساعديه وعرض كتفيه، قال أحد القواد البروسيين بعد معركة يانا: (لو كان علينا أن نقاتل الفرنسيين بسواعدنا فقط لأدركنا النصر في وقت قريب، لأن الجندي الفرنسي صغير ضئيل يستطيع أملاني واحد أن يتغلب على أربعة مثله، ولكن هؤلاء الجنود الصغار ينقلبون إلى طبقة فوق طبقة البشر تحت النيران ويندفعون بنخوة لا نستطيع إيضاحها ولا
نرى لها مثيلا في جنودنا) ولا شك في أن هذا الإقرار من ضابط بروسي كان من أجمل الشهادات التي تسطر للجنود الفرنسيين.
وكان نابليون لا يكتفي بإظهار الاحترام والميل إليهم من أجل تلك الفضيلة، بل كان يحبهم حبا صادقا، قال بعض المؤرخين: إن جنوده كانوا أولادا له بالمعنى الصحيح؛ يشرف على أمورهم ويسهر عليهم كما يسهر الأب على بنيه ويحضر توزيع المأكل عليهم ويتناول الحساء معهم.! وكان نابليون يضع اللين في محله والقسوة في موضعها، فيعفو عن الجندي المذنب إذا رأى وجها لعذره أو ما يخفف ذنبه، ولا يتسامح إذا وجد التسامح مضرا بالمصلحة الحيوية، وإليك أقصوصة تدلك على شيء من خلقه:
حدث أيام المعارك بروسيا أن الجنود الفرنسيين ضربت مضاربها لتستريح بعد السهر المضني ثلاث ليال متتالية، ولما جاءت العتمة خرج نابليون يتفقد أحوال الحراس في أطراف المعسكر جريا على عادته في كثير من الأحيان ولا سيما في الأوقات العصيبة، فاتفق أنه رأى حراسا برج به الوصب وتسلط عليه الكرى بعد السهر الطويل فهوى إلى الأرض، ونام، تاركا بندقيته إلى جانبه، فأراد نابليون أن يوقظه ولكنه أبصر في تلك الدقيقة طوافة من الضباط قادمة نحوه فأخذ بندقية الحارس النائم ووقف مكانه حتى لا يدع الضباط يبصرون به ويعاقبونه، ولما طلب الطوافة سر الليل أجابها نابليون فسارت في طريقها لإتمام التفتيش، وفي تلك الأثناء استيقظ الحارس النائم فوجد بندقيته بيد رجل غيره فأسرع نحوه فإذا هو قائده ومولاه، ولكن نابليون سرى عنه قائلا: لا تخف، ثم سأله: كم مضى عليك من الزمن بلا نوم؟، فقال: ثلاثة أيام، ومع ذلك كنت لأنام لولا ما أصابني من الجروح! ثم أبصر نابليون أن الجندي كان مصابا بجرحين فأعجب به، ومنحه وساما، ثم قال وهو يبتعد عن ذاك البطل:(لا ريب أني أستطيع فتح العالم بهؤلاء الرجال. .) وكان نابليون يعرف وجه الضعف في رجاله، فيأخذهم به ويضرب على الوتر الحساس من أوتار قلوبهم، فمن شأنه المعروف أنه كان مع شدته في المحافظة على النظام العسكري يسمح لرجال الحرس القدماء الذين حضروا المعارك وأبلوا البلاء الحسن بأن يخاطبوه بصيغة المفرد بعكس ما يقضي به أدب الحديث في اللغة الفرنسية، ولاسيما إذا كان المخاطب كبيرا والمخاطب صغيرا، فإن استعمال صيغة الجمع في الكلام واجب لا يصح
إغفاله، على أن نابليون كان يعلم أن عادة أولئك الأبطال التي تدل على انتفاء الكلفة صارت إليهم من روح الجمهورية، وأنها تنطوي على همة واحترام يسهل في سبيلها بذل المهج الغالية.
وكان نابليون قبيل عرض الجنود يدعو الكولونيل ويسأله عن أسماء الذين امتازوا في المعارك الماضية ويطلب بعض أخبار عن أهله، ثم يمر وقت العرض بأولئك الجنود الممتازين فيذكر لكل منهم اسم المعركة التي امتاز فيها والمكافأة التي أخذها ويسأله عن أمه العجوز إن كانت حية. . أو عن غيرها من آله الأقربين. . فيطير الجندي منهم فرحا وطربا حين يرى قائده الأعظم يتذكر خدمته ويعنى بأمره، ثم يصبح نابليون حديث النهار وسمر الليل بين الجنود كلهم. . فيأخذ كل منهم يحكي حكاية عن ذاكرته العجيبة ومعظم تلك الحكايات من بنات المخيلات!
وكان من أكبر العوامل في تفاني الجنود أن كل واحد منهم بات يحسب نابليون منصفا للشجعان وذوي الكفاءة الحربية، وكان كبار القواد أقوى البراهين الحية لديهم على صحة ذلك الاعتقاد، فإنهم خرجوا من الجيش وبعضهم استوى على العروش مثل المارشال مورات الذي عين ملكا لنابلي، وبرنادوت الذي استوى على سدة أسوج، ومعظم الجنود كانوا يرون الرقي إلى أحد العروش رتبة عالية من الرتب التي كان نابليون يمنحها لرجاله فيقولون مثلا، (فلان صار ملكا. . كما يقولون. . فلان رقي إلى رتبة كولونيل) مع مراعاة النسبة بين الرتبتين.! وهناك أمر آخر كان نابليون يعني به عناية خاصة وهو تعزيز ما يسمونه (روح الفيلق) في الجيش، ومعناه بعبارة أخرى أن يفرغ القائد جهده في زيادة التنافس بين فيالق جيشه. . فتتسابق في مضمار الشجاعة والبأس، ولقد نجح نابليون نجاحا باهرا في هذا السبيل حتى صار كل فيلق من فيالقه بل كل آلاي من آلاياته يعد نفسه في مقدمة الجيش. . ومما يذكر عن سمو الأساليب التي كان يتبعها نابليون لبلوغ المقصد أنه كان إذا رأى النصب والجوع ينهكان تلك الجنود الفولاذية كما كانوا يلقبونها، نزل هو وسار مع الجنود، فأخذ كل واحد من هؤلاء يقول (الإمبراطور. . الإمبراطور) وتغيرت مشية الفيلق كله كأنما تيار كهربي سرى إليه من أوله إلى آخره.! هكذا كان نابليون وهكذا كانت جنوده. وكل فريق منهم خليق بالآخر. .
كان نابليون ينظر إلى الجيش كما ينظر الصانع العالم إلى آلة عظيمة يقتضي تركيبها تدقيقا شديدا وفكرا سديدا، ولذلك كان يفكر في كل ما قل وجل من أموره حتى انتقاء الخيل وشراء المؤونة اللازمة لها كما تدلنا رسائله المدهشة، وليس بنا حاجة إلى القول أن اختيار قواده كان له الشأن الأكبر لأنهم القطع الرئيسية التي تتركب منها تلك الآلة العظيمة.! ولم يكن في وسع نابليون منذ مائة وثمان وستين سنة أن يختار قواده من الضباط الذين قضوا سنوات عديدة في درس القواعد العسكرية لأن التعليم العسكري لم يكن شيئاً مذكورا في ذاك الوقت، والفضل في كثير من القواعد الحربية الباقية حتى اليوم يرجع إلى نابليون نفسه، وما كانت عظمة هذا البطل الذي لم تحط مثله أصلاب البشر قائمة ببسالته وانتصاراته فقط. . بل كانت تقوم بها وبنظاماته ومبتكراته وعبقريته العجيبة الشاملة، وعليه فإن نابليون لم يكن له مندوحة - وتلك حالة التعليم العسكري في زمانه - من أخذ أولئك القواد الذين خلد التاريخ ذكرهم من صميم جيشه، أي أفراد الشعب الذين قاتلوا في سبيل الدفاع عن حريتهم وحرية وطنهم وصدوا دول أوروبا في سبيل التي هبت لإذلالهم. وكان نابليون قوي الفراسة صادق النظر في الرجال. . فاستطاع أن يقدر قدر كل واحد من الذين خدموا تحت إمرته ونوع الخدمة التي كان يمكنه أن يتفوق فيها. مثلا أنه رأى (مورات) فأدرك أنه خير رجل يقود كوكبات الفرسان ويقدم لها المثل الأعلى بنخوته وحميته وشجاعته، وقرأ على جبين (ناى) أنه الرجل الذي يطير إلى الحمام في صدر المشاة، وما أخطأ ظنه في أن (ناى) كان يسحر رجاله بالقدوة الحسنة وهو الذي أخذ بندقية في معركة (واترلو) وصاح (تعالوا انظروا كيف يموت مارشال من مارشالية فرنسا. .) وهو الذي قال فيه نابليون:(ما هذا رجل إن هو إلا أسد من الأسود. .) وليس مجال كاف لنذكر ما أبداه كل قائد من القواد العظام فحسبنا أن نذكر مع (مورات) و (ناى). . (بسيير) و (سول) و (لان) و (سوشيه) و (برتييه) و (دافو) و (جوفيون سان سير) و (أو جيرو) و (جونو) و (ماكدونالد) و (مسيينا) و (لازال) و (كولنكور). . فهؤلاء وعدة من الأبطال كانوا أسودا لا تقهر، ولكن نابليون كان يخضعهم بنظرة وهو في ذروة مجده الحربي!
وذكر نابليون خطة سلوكه مع قواده: (كنت أحر الرأس البارد. . وأبرد الرأس الحار) أو بعبارة أخرى أنه كان يكسر من حدة الحديد ويثير حماسة البليد مراعاة لمقتضى الحال،
وهي خطة بسيطة في ذاتها ولكن تنفيذها مع قواد نابليون كان يقتضي عقلا كعقل نابليون.
وكان من مزايا الرجل أن يزن حسنات كل قائد؛ فإذا رجحت سيئاته حاول أن يصلحه بحذق ومهارة فمن الحوادث المعدودة من هذا الطراز أنه شرع يوما في تعنيف ضابط في رتبة كولونيل لأن جنوده أضروا بمصالح إحدى الدساكر. . فشق على الضابط أن يسمع الكلام المر من قائده وأراد أن ينفصل. . فقال نابليون همسا: (أنا صدقتك فاسكت) وفي اليوم التالي دعا نابليون الكولونيل وقال له: (كن مستريح الفكر فقد كنت أعنف في شخصك بعض الجنرالية الذين كانوا بجانبك. . لو وجهت إليهم التعنيف مباشرة لأوقفتهم في موقف يستحقون في التحقير أو ما هو أبلغ منه. .) وإذا اتفق أنه جرح في حديثه قائد كبيراً. . حاول بعد الحديث أن يضمد جرحه. . فمن ذلك أنه انتقد انتقادا شديدا الجنرال (مارمون) على بعض الأعمال الحربية في معركة (واجرام) فسخط (مارمون) من هذا الكلام وعاد إلى منزله كسير القلب. . شديد الكرب. . فما وصل حتى جاءه رسول إمبراطوري يحمل إليه البشرى. . بترقيته إلى رتبة. . مارشال!
ولما أخذ العدو بلدة مونترو سنة 1814 رأى نابليون أن تأخر المارشال فيكتور كان السبب في ضياعها وأصدر إليه إذنا في ترك الجيش. . ومعلوم من هذا الإذن أنه لم يكن له من معنى إلا سخط الإمبراطور عليه. فجاء المارشال فيكتور وعيناه مغروقتان بالدموع فقابله نابليون وهو يتميز من الغيظ وعيره بالخطأ الذي ارتكبه واستحق من أجله الإبعاد عن الجيش. . فلم يتمالك المارشال أن رفع عقيرته وأكد إخلاصه وذكر خدماته في إيطاليا فسكن غضب نابليون لذكر تلك الخدمات ثم صافحه قائلا: (لا بأس من أن تبقى في الجيش يا فكتور ولكني لا أستطيع أن أعيد إليك فيلقك بعد أن عقدة لواءه (لجيرار) وإنما يمكنني أن أولئك قيادة فرقتين من الحرس فاذهب واستلم قيادتهما ولا تذكر بعد اليوم شيئا مما جرى. .)
ولو شئنا أن نذكر ما لدينا من هذا الطراز لاستغرق مجالا واسعا وتجاوز بنا الغاية المقصودة في هذا المقال. . فحسبنا أن نقول - ومذكرات (مارمون) الذي خان نابليون في أواخر عهده - خير شاهد. . أن نابليون كان في معظم الأوقات يجرح باليمين ويضمد باليسار. . ومما قاله الخصوم في تفسير هذا السلوك الحميد (أن مصلحته الخاصة. . وقلة
الرجال الأكفاء حملتا نابليون على مداراة رجاله) وهو تفسير لا يذهب بفضل نابليون. . ولا يحد من قدر سلوكه. . بل هو يدل على حسن سياسته وأصالة رأيه، وليس بمنكر على الرجل أن يفعل الخير ويحسن الصنع لأنه يتفق مع مصلحته. . أو لأن مصلحته كانت تدفعه إليه. . فإنما الأمور بنتائجها. . وكل من يذم هذا المنهج يكون مثله مثل من يطعن على رجل ينقذ آخر من الغرق لأنه أراد الحصول على وسام الإنقاذ أو مكافأة أخرى. .!!
وإذا طالعنا المذكرات الخاصة وجدنا فيها ما يدل على شدة حبه لقواده. قال (كونستان) بعد النصر الباهر الذي أحرزه نابليون في مارنجو: (إنه مع النصر الفاصل الذي أوتيه القنصل الأكبر (أي نابليون) كنت أرى الحزن يملأ نفسه وأسمعه يردد (إن فرنسا فقدت بفقد (دسكيس) فتى من خيرة أبنائها. . وفقدت أنا صديقا من أبر الأصدقاء)
ولما استوى نابليون على العرش الإمبراطوري لم يتغير شيء من عواطفه نحو قواده، بل لبث يسمح للمارشال (لان) بأن يخاطبه بصيغة المفرد. . ولما بلغ نابليون خبر إصابته بجرح قاتل تولاه حزن عظيم وأخذ يزوره صباحا ومساء. . واتفق أنه وصل في عيادته الأخيرة بعد أن لفظ المارشال روحه الطيبة. . فتقدم نابليون وقبله وبكى ثم أخذ يهمهم (يا لخسارة فرنسا. . يا لخسارتي) ولما حاول (برتييه) أن يبعده عن رؤية ذلك المنظر الأليم قاومه نابليون نحوا من ساعة.
وفي اليوم التالي كتب نابليون إلى أرملته يقول: (أيتها النسيبة مات المارشال على أثر الجروح التي أصابته في ساحة الشرف فخلف لي من الحزن ما يضارع حزنك. . ولا غرو. . فإني فقدت بفقده أفضل قائد للجيش وخير رفيق وصديق لزمني منذ ست عشر سنة. . إن أسرته وأولاده لم كل حق في طلب حمايتي ورعايتي) ثم كتب إلى الإمبراطورة (إذا أمكنك أن تساعدي في تعزية أرملة المارشال فافعلي) ولما أصيب (ديروك) بقنبلة عند (درسد) ذهب إليه الإمبراطور نابليون وضمه إلى قلبه مرارا ثم عاد خائر القوى لفرد الأسى. . هو يقول: (يا للهول. . أيها العزيز ديروك ما أعظم خسارتي فيك) وكانت دموعه تسيل على خديه وتسقط على ملابسه
ثم أمر الإمبراطور بشراء أرض وبإقامة تمثال لذلك القائد العظيم وبكتابة العبارة الآتية تحت التمثال (هنا يرقد الجنرال ديروك دون فريول وأحد مارشالية نابليون العظام أصابته
قنبلة فمات ميتة مجيدة بين ذراعي الإمبراطور). . ولم يكتف نابليون بإكرام هذا الفقيد بل صرف عناية كبيرة على عائلة ديروك ومنح أرملته وابنته دوقية فريول (وكان ريعها وقتذاك لا يقل عن مائتي ألف فرنك).
على أن هذا الشعور الجميل الذي كان يبديه نابليون في مثل تلك الظروف لم يكن يحول دون استقلال فكره وإرادته، فقد كان عند الضرورة شديدا قاسيا. . وثبت أنه كان في إيطاليا ومصر حين كان جنرالا كبير المطامع. . أشد وأقسى في معاملة القواد والجنود مما كان عليه بعد استوائه على السدة الإمبراطورية واستلامه مقاليد الحكم المطلق واتساع شهرته وسطوته في العالمين. . قال خصوم نابليون أنفسهم في مذكراتهم:(إن هذا الجنرال الصغير كان يخيف قوادا مثل)(أوجيرو)(وماسينا) وغيرهما سنة 1796 ولما جاءه الجنرال (ديبنوا) سنة 1797 بقصد التملق والتزلف قال له نابليون: (عرفتك لما كنت قائدا في لومبارديا وعرفت أنك قليل النزاهة. . عاشقا للمال. . على أنب كنت أجهل أنك جبان) فاخرج من الجيش ولا تظهر أمامي مرة أخرى. . وكتب نابليون إلى (برتييه) يقول: (اكتب إلى الجنرال (جاردان) أن شكاوي عديدة انتهتا إلى من إحراجه لأهل البلاد وأن الواجب عليه أن يسلك سلوكا يتفق مع كرامة الجيش فلا يسمعني بعد اليوم شكوى واحدة من تصرفه) وكتب إلى الأميرال (تروجيه): يحق لي أن أنتظر محاسن الأفعال بدلا من المواعيد والأقوال).
وكان نابليون لا يحابي الوزراء. . ولا الكبراء. . حتى في سنة 1814 أي بعد أن مال نجمه إلى الأفول. . وهذا يدلنا على صحة ما قاله أحد المؤرخين وهو: أن نابليون لم يكن ذئبا ولا خروفا. . بقي أن نعرف أن نابليون. . نشأ من أعماق الشعب. .
عبد القادر حميدة
شلر
للكاتب الكبير توماس كارليك
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
- 2 -
كانت حياة شلر حياة أدبية بكل معنى الكلمة، حياة شخص عاش قصد التأمل، وكان مرشده في هذا المسعى لا يتعدى المثل الأعلى، وقد وجد في مثل هذه الحياة سعادته التي كان يرنو إليها. وقد امتازت هذه الحياة بالبساطة الفريدة كما اتصف بالابتعاد عن امتهان ما يتعيش به، وقد نما مقته للعمل الآلي ولم يبال بنتائجه جنباً لجنب مع نموه الروحي سنة بعد أخرى. لم يحتل شلر منصباً معينا اللهم إلا منصب الأستاذية في الجامعة، ولم يرغب في التقدم المادي ولم يكن لديه مال يذكر، ولم يظهر - طيلة حياته - عدم رضائه عن هذه الأوضاع.
وبالرغم من الآلام الجثمانية والأمراض المستمرة التي احتاطت به أن انشراحه لم يكن يفارقه وكانت الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته هي أحسن سني حياته، لأنها كانت أنقاها وأصفاها وأكثرها إنتاجا، فحياته كانت تشبه حياة الرهبان مع اختلاف بسيط في طراز المعيشة والمحيط، وإذا نحن عرضنا الإيمان الكاثوليكي بمثل الفن الأعلى، والقوانين الكنيسية بالقوانين الأدبية والجمالية فسيؤدي ذلك إلى اعتبار حياته أقرب ما تكون بحياة الدير، ومع أنه لم يرتبط بعهود الرهبنة الثلاثة إلا أنه ارتبط بعهود أخرى أرفع شأنا وأعلى قدرا وأثقل وطأة، وقد تحمل عناء شديدا في تنفيذها والتقيد بها والالتزام بملتزماتها.
وقد كانت هذه العهود - على شدة ثقلها - شغله الشاغل ومبعث سعادته الدائمة، فبلاد من أن يحصر نفسه في رواق الكنيسة الصخري، نراه يحصر نفسه في أروقة العقل، فاصلا بذلك نفسه من الأمور السطحية ومغرقا نفسه فيما يمكن أن ندعوه بالأمور الأهلية، فكلامه وأعماله وتأملاته وتنزهاته وكل ماله علاقة بحياته اليومية تتجه نحو تلك الوجهة. . . فكما أن مرحلة اتخاذ الرجل الديني للعهود المقدسة هي أهم مرحلة في حياته. . كذلك الحال مع شلر فيما يخض عهوده الأدبية، وبهذا لعمل يمكنه أن يتخلص من مشاغل العالم المحيرة
ويكرس كل جهوده في مستقبل أيامه للحكمة والتأمل. والفترة التي تقع بين هاتين المرحلتين تمتاز بميزات مختلفة. فالأولى هي دنيوية ذات انهماك في صروف العالم. . والثانية روحية ذات اتجاه هادئ عميق الغور قصي المعاني، وقد امتاز الاتجاه الثاني بنموه الروحي وازدهاره الفكري وبالثمرات السلمية التي قدمها إلى العالم، وسنوجه هنا نظرنا بصورة رئيسية إلى المرحلة الأولى.
يمكن اعتبار شلر سعيدا بالنسبة للظروف التي أحاطت بأعوامه الأولى وخصوصاً فيما يتصل بوالديه. لم يكن والداه غنيين أو مستقلين في شؤونهما المعاشية، إلا أنهما مع ذلك لم يكونا فقيرين فقرا مدقعا، فالمحبة الحارة والأخلاق الصريحة التي تبلغ مبلغ التدين، يضاف إلى ذلك قابلية ذهنية منفتحة خاصة للمعرفة، مع ثقافة عقلية جيدة تجعل في الإمكان إصلاح أي خلل قد يقع بينهما.
وقد كان في سلوكه ما يبشر بمستقبل عظيم، طبيعة هادئة قابلة لكل الإرشادات، يزينها عقل وقلب وومضات من الحيوية والنشاط تظهر بين الحين والآخر، وليس أدل على ذلك من حكاية الصاعقة التي نأمل أن تكون واقعية:(حدث أن عاصفة صاعقية اجتاحت المنطقة التي يسكن فيها وكانت من الشدة والقوة بحيث أثارت الخوف والرعب في جميع الناس، وكان الكل داخل بيوتهم، وقد افتقد أبو فرتز أبنه، وقد كان في دور الطفولة، فخرج الأب لا يلوي على شيء باحثا مفتشا عن ابنه، وفجأة عثر عليه قابعا بكل هدوء وسط هذه العاصفة الهوجاء في رأس شجرة وهو ينظر بدهشة واستغراب لاحتراب الطبيعة، فما كان من والده إلا أن عنفه أشد التعنيف. ولكن الولد بدلا من إصغائه إلى هذا التعنيف أجاب (إن البرق جميل جدا ولكنه يريد أن يرى من أين أقبل هذا البرق). . .)
درس شلر الكتب الكلاسيكية باعتناء زائد ولكن بدون رغبة، إلا أنه درس الكتاب المقدس بلذة بالغة في البيت، وقد شغف حبا بالأنبياء العبرانيين وبجلال كتاباتهم الرمزية، وقد كان لطبيعته الورعة - مضافا إليها تقوى والديه - تأثير في دفعه إلى الكهنوت، ولكن الكنيسة التي أراد التعلق بها كانت الكنيسة الشاملة الحقيقية وليست الكنيسة الرومية المزيفة. وفي سن التاسعة شاهد بدهشة مفرحة ولأول مرة (عجائب مسرح لودفيكزبرغ) وقد كان لهذه المشاهدة تأثير عميق في ذاكرته. وبذا يكون قد ألقى أول نظرة على العالم الذي قدر له -
عرضا أو بعامل الطبيعة نفسها - أن يظهر فيه عبقريته ويحرز أنبل انتصاراته بارزا بذلك أقرانه ومعاصريه جميعا.
وبعد نهاية عهد صباه بدأت فترة قاسية مريرة، اختلفت فيها تربيته وتطورت قابلياته تطورا خاصا، وذلك بتحمله للاضطهاد ومعاناته العزلة وبتحطيم أجل أيام حياته وتشويهها تشويها شنيعا. ومع ذلك فإنه استفاد في هذه الحالة فوائد جمة، فقد حولت سيمياء عبقريته المعادن التافهة إلى ذهب إبريز، واستخلصت من التألم قوة ومن الخطأ حكمة وضاءة من كل شيء أحسنه وأرقاه.
أسس دوق ورتمبرك مدرسة عالية حرة لبعض فروع التعليم المهني في (سولتيرد) في مركز إقامته في الريف، ثم حولها إلى (سنتغارد) بعد أن أدخل عليها بعض التحسينات، وقد سماها مدرسة كارلز. وقد رأى الدوق أن يعطي الأفضلية في الدخول إلى هذه المدرسة لأبناء الضباط، ولما كان لدى الدوق فكرة حسنة عن شلر وأبيه طلب من الأول اهتبال هذه الفرصة السانحة.
وقد صاف هذا العرض حيرة لأول وهلة من قبل الشاب والوالدين على السواء؛ لأن الأخيرين كانا راغبين في إدخال الشاب إلى حظيرة الكنيسة، ولما اطلع الدوق على رغبتهما الخاصة طلب منهما التأني قبل إعطاء القرار النهائي، وأخيرا قبل هذا الطلب بعد إحجام ونتيجة للخوف. وهكذا سجل شلر نفسه في هذه المدرسة سنة 1773 وبذا انتقل من الحرية والآمال العريضة إلى اليونانية والعزلة والقانون.
وقد أثبتت الوقائع أحقية مخاوفه، فالسنوات الست التي قضاها في هذه المؤسسة تعتبر أشد السنين مضايقة لنفسه وإزعاجا لمواهبه، ويظهر أن نظام التربة في ستنغارد لم يعن مبدئيا بتربية الطبيعة البشرية وإصلاح أخطائها، بل عمل على استئصال هذه الطبيعة ووضع شيء أحسن منها في محلها. وقد كان نظام التعليم سائرا والحياة وفق خطة عسكرية شكلية جافة، كل شيء كان يجري حسب الخطة المرسومة ولم يكن ليعطي أي مجال لحرية الإدارة، ولا لإمكانية لاختلاف الطبائع والمشارب والعادات. وقد يكون لبعض الطلبة إمكانيات ممتازة، إلا أن هذه الإمكانيات كانت مجردة على السير وفق الخطة الأساسية والانصهار في البودقة ذاتها بدون تفريق أو تمييز، لأن الأوامر كانت تصدر من سلطة
عليا، وهي واجبة التنفيذ على أية حال. وقد عين لكل طالب منهاج دارسته مقدما، ولم يكن ليسمح بالقراءة الخارجية مطلقا، وإذا حدث أن قرأ أحدهم كتابا خارجيا فلم يكن ذلك إلا خلسة. أما معيشتهم فكانت تدار بالأسلوب ذاته الذي تدار به حياتهم الروحية، وقد كانت هذه الحياة لا تحتوي على شيء يمكن أن يقارب المتعة أو حتى ممارسة الحرية. وقد أبعد الطلاب عن المحادثة أو حتى رؤية أي شخص ماعدا أساتذتهم. ولهم يجسر أحدهم على تخطي نطاق العبودية المضروب حولهم، ونزهتهم، فسها كانت مقيدة بالكلمة الآمرة.
يمكننا أن ندرك بسهولة كم كان مفجعاً كل هذا بالنسبة للطلبة، وكم كانت الفجيعة هائلة بالنسبة لشلر، لما امتاز به من طبيعة حساسة وشعور مرهف. فتراه وقد طغى عليه التبرم ولكن حياءه منعه من أن يظهر ذلك قولا أو فعلا. وقد أوقع سجنه هذا به ألماً عميقا ولكنه كان يأنف من الشكاة. وقد حفظت بعض رسائله في هذه الفترة، وفيها نجد النضال غير المثمر لذهن متحمس مشغول وهو يحاول ستر الركوب تحت غطاء الصبر الخائف وهو يظهر ألمه على أشده. لقد انكب على قواميسه وكتب النحو وواجباته العقيمة برصانة مصطنعة، ولكن روحه كانت كروح الأسير تحن إلى العالم الحر البهيج، وتستعيد ذكريات حنان الوالدين والآمال والمتع المثيرة للسنين الخالية. إن الشباب هو فضل الحياة الزاهي، وهو كذلك ليس بما يناله أو يتخلص منه بل بما يأمله ويرجوه. وقد يظن بعضهم أن لآلام شلر أمثلة كثير فيقول: (أو ليس في قصة كل طالب من طلاب أيتون مثال حي لمثل هذه الآلام أو ليس كل هؤلاء قاسى الفرقة الجارحة والمصائب الفادحة والاضطهادات المبرحة والعزلة القاتلة؟ ولكن الصعوبات التي أضنت شلر كانت أعمق من كل هذا. . . إن أسوأ اضطهاد عاناه هو الاضطهاد الأدبي، كل هذه الأصفاد تقيد الرغائب فقط، بل إنها تعدت إلى تقييد الإرادة الحرة العاقلة، فزيادة على آلامه الخارجية أبعد ذهنه عن الهدف الذي شعر بأنه الهدف الحق وحول إلى هدف آخر مزيف ليس فيه من معاني الحياة شيء يذكر. ولم يجد في الحقوق ولا في الطب الذي اضطر على الاستعاضة به عن الحقوق ولا في أي عمل رتيب مهما علا قدره وارتفعت منزلته ما يرضي روحه وما يشعره بالسعادة والهناء، ولكن الذي كان يسعى إليه هو فعالية عاليا لم يجد لها اسماً حينذاك والتي تخليها يوما ما في الانضواء تحت لواء الكنيسة وأخيراً وجدها وكانت هي الشعر بالذات. ولم تكن هذه الرغبة
رغبة صبيانية طارئة، بل كانت شوقاً ملحا عميق الجذور أخذ عليه مجامع فليه وتمثل في هدفه الذي كرس حياته للوصول إليه. مع ذلك فإن أساتذته اعتبروا ذلك منه رغبة صبيانية ليس إلا. . . فعالجوها كما يعالجون أمثالها، ولم يتمكن شاعرنا من الانتصار إلا بعد معركة ضارية ونضال عنيف انتهى بفوزه، ولم يحدث ذلك إلا بعد أن أصيب بأول لسعة فشتتت ذهنه وكادت تبعثر مستقبله لأنه فقد العون في تعاسته وشقائه، فتألم وجاهد في سبيل قضية خاسرة، وقد قال شلر نفسه فيما بعد بخصوص ذلك:(لقد جمعت الطبيعة - بسوء تقديرها - بين ميولي الشعر وبين مكان ولادتي. فكل رغبة في الشعر كانت تصطدم بقيود المدرسة التي تعلمت فيها وتناقض خطة مؤسسها. فبحماستي لمدة ثماني سنوات ناضلت ضد النظام العسكري، ولكن هيامي بالشعر كان أحد حده الحب الأول. والشيء الذي أراد النظام أن يطغيه زاده تأججاً وضراما، وقد وجدت قلبي في عالم الأفكار ملجأ للتخلص من الأوضاع التي عذبتني كثيراً، بعد أن عزلت من عالم الحقائق بالأصفاد والأغلال).
وما من شك أن حكمة شلر الخاصة علمته التوكيد على الحياة قبل توكيده على الحياة الشعرية، وقد عبر عن ذلك بقوله:(يجب أن أترك مناخ يندس واستبدله بالأرض الخضراء ذات المناخ المتجمد في النصوص العلمية المخيفة) وحالما يقضي الله أمراً كان مفعولا يصبح عمل شاعرنا الرتيب منتهياً وأمله محققاً، فوقت الفراغ الذي سيحصل عليه نتيجة لذلك سيكرس للشعر أو أي شيء آخر، وفي الحقيقة (أن بقاءه مقيداً بغزوات معلميه القساة كان أمراً غير محتمل ومهينا له، فلا عجب أن فكر شلر يائساً في وضعه، ولكن ما العمل؟ وهذا مما اضطره على أن يضع خططاً عديدة للنجاة، وقد كان يتوسل أحيانا بالهروب خلسة ليلق نظرة على العالم الحر الحي، هذا العالم الذي كان محظوراً عليه التقرب منه، وأحياناً أخرى كان يضع بعض الخطط لنبذ المكان الذي كرهه هذه الكراهية مؤملا أن ينقذه القدر). ولكن كان صغيراً، عديم التجارب، لا مساعد له ولا معين، فليس هنالك إلا تحمل ما هو واقع بصبر وأناة. يقول كاتب سيرته (إن أي روح تحيا تحت مثل هذه الظروف المنهكة والغضب المستعر، مكتوب عليها الغرق حتما في النهاية والتخلص من المطامع الدنيا والانهماك المعيب والخضوع لربقة النير والتعثر في هذا الوجود متكسر، تعباً، ومتبرما وملقياً نظرة تائقة إلى أحلام شبابه التي ليس له القوة على تحقيقها. ولكن شلر لم
بكن من هذا الطراز الاعتيادي من الناس ليفعل مثل ما يفعلون. وتحت ستار المظهر الخارجي البارد الذي ليس فيه جاذبية مفتعلة، ولطفه الذي شوه نتيجة العوائق والعزلة والفاقة المؤلمة التي قاساها في حياته، أقول، تحت مثل هذا المظهر تختبئ نار متأججة ليس للعوائق قابلية على إخمادها. والظروف القاسية التي أحاطت بمستقبله عرقلت نمو ذهنه نموا طبيعيا وقلصت قابلياته ووجهتها وجهة خاطئة. على أن هذه العقبات جمعت قواه وجعلته يعتمد على نفسه. أما أفكاره التي لم يكن لها مرشد يهديها سواء السبيل فقد انحدرت إلى أعماق نفسه وفتحت مغاليق مصيره، وقل مثل هذا عن مشاعره وعواطفه التي تجمعت في أغوار ذاته حتى أصبحت كحمم البركان يحترق وينصهر ويتجمع يعنف وبقوة هائلتين استعداداً للانفجار المروع الذي لا يرد ولا يصد وذلك واقع حتما في ساعة معينة.
(يمكن اعتبار شلر لحد الآن صبيا متبرماً ضجراً وغير نافع ولكن الوقت أزف لكي يصبح هذا الصبي رجلا يمزق القيود شر ممزق بقوة امتد تأثيرها في طول أوربا وعرضها، ولم يعد للقيود المدرسية أي تأثير في تشويه قابليته وإضعاف قوة شخصيته الجبارة. إن نشر (اللصوص) يعتبر فتحاً جديدا ليس في تاريخ شلر بل في الآداب العالمية، وليس من شك أن الفضل في ذلك يعود إلى نظام مدرسة ستنغارد المشوه، ولولا هذا النظام لما رأينا هذه المأساة. بدأ شلر هذه المأساة المختلفة بصورة جلية واضحة.
ولم تمض مدة قصيرة على نشر هذا الكتاب حتى ظهرت تراجم له في جميع لغات أوربا تقريبا، وقرئ من قبل الكثيرين بمزيج من المقت والإعجاب، وذلك بالنسبة للحساسية والانطباع الوجداني لكل من درس الكتاب. لقد هبط المؤلف الصغير كشهاب على العالم مما جعله مبهوتا لا قبل له بالنقد الهادي الرصين.
وفي ضجيج النقاش الحاد الذي شمل العالم في خصوص هذا الموضوع مدح المؤلف بأكثر من قابليته الطبيعية، كما أنه ذم ذما فادحا، إلا أن الحكم العام كان في صالحه، وطبيعي أن يتعدى كل من الطرفين حدود الاعتدال ويتجاوز جادة الحق.
ولكن مأساة اللصوص أحدثت عواقب لمؤلفها من نوع أشد حساسية من هذا الحكم، لقد دعونا ظهور هذا الكتاب نقطة البدء لنجاة شلر من جور المدرسة والضغط العسكري ولكن فعلها في هذا الخصوص لم يكن مباشراً. . لقد أنهى شلر المودة الأصلية في سنة 1787
ولكن خوف الأذى اضطره أن يحفظها سرا دفيناً حتى إكمال دراسته الطبية، هذه الدراسات التي تابعها باجتهاد كاف حتى حصل على درجة الشرف سنة 1780 وأصبح جراحا في فرقة (أوجى) إحدى فرق جيش (فرتمبرغ). وهذا التقدم ساعده إلى إكمال مشروعه في طبع (اللصوص) على حسابه الخاص بعد أن حار في إيجاد من يقوم بذلك من ناشري الكتب وأصحاب المكتبات.
للكلام صلة
يوسف عبد المسيح ثروت
3 - في بلاد الأحرار
للكاتب التركي الأستاذ أغا أغلو أحمد
للأستاذ أحمد مصطفى الخطيب
الحرية وردة
عاد إلى الأستاذ بعد يومين وسألني أحدهم فقال:
- هل قرأت الدستور؟ أحفظته استظهارا؟
- قرأته وحفظته. . غير أنني أرجو منكم شرح بعض مواده لتعسر علهما عليّ. . هل لكم أن توضحوا لي قبل كل شيء الحكمة العامة لهذا الدستور؟ لماذا وضع؟ ولأية غاية أحدث؟
- بكل سرور. . يجب أن تعلم أن الحرية مسألة ثقافة وتهذيب ليس إلا
- لم أفهم أيها الأستاذ، ألا تتفضلون بشرح أوفى؟
- حسناً. . هل سبق لك أن اشتغلت في أعمال الحدائق؟
- نعم!
- إذن سهل الإيضاح. . لابد من أنك قد لاحظت في خلال تعهدك الحديقة أن شجرة، أو وردة، أو زهرة، أيا كانت لا يمكن أن تنبت وتنمو وتترعرع إلا إذا توفرت لها الشروط التي تتطلبها طبيعة الشجر أو الورد أو الزهر. . وعليك أن تعلم الآن أن الحرية كالوردة أو الزهرة. . سواء بسواء. . فنموها وازدهارها يستلزمان توفر شروط تلائم طبيعتها وخصائصها الذاتية. .
- وما هذه الشروط؟
- هل استظهرت نشيد البلاد؟
- نعم!
- لقد جاء في ذلك النشيد. . (أن الحرية جوهر الشعور، وأن الشعور هو الإنسان) فلذا يجب الاعتناء الكافي بالإنسان عند (تطعيم) هذا الجوهر لكيما يؤتي ثماره المبتغاة. .
أما البيئات التي سرت عليها الأحقاب الطويلة وهي ترسف في قيود الذل والاستعباد، وضاعت عنها معالم الكيان الحر فليس تطعيمها بإكسير الحرية من الأمور السهلة
الميسورة، يتراءى لأول وهلة. . وذلك أن الاستبداد لا يتخذ لنفسه موطناً من الإنسان إلا الروح والقلب فحسب. . فهناك يبذر بذوره ويتأصل، وهنالك يؤسس عرشه ويضع على رأسه تاجه المروع.
وقد يخيل إليكم في بعض الأوقات أن الاستبداد قد تهدم صرحه، وتقوضت دعائم بنيانه، وقضى على آثاره ومعالمه ويساعدكم على اصطناع هذا الظن زوال ظواهره وعلاماته، يرى الحقيقة، لو تأملتم مليا، أنه ما يزال حيا في كل جانب، مضطرب هواه في كل فرد.
وعلى سبيل المثال أقول: إنكم تجدون أناسا يطالبون بالحرية بأعلى أصواتهم ويتحمسون لها غاية الحماسة، ولكنهم في الوقت نفسه لا يحترمون حرية الجار مثلا. . فعند أول اصطدامهم بهذه الحرية تجدهم يرغون ويزبدون، ويودون لو أتيح لهم سحق الشخص الذي أمامهم سحقا تاما، والقضاء عليه بأي وسيلة.
وذلك لأن عرش الطغيان لهم يهدم، وروح الاستبداد لم تقتل ولم تنبذ بعد من الأرواح والقلوب.
وهذا هو السبب أيضاً في أن الحرية في مثل هذه الأحوال قد تنقلب إلى فوضى ماحقة، لا تبقي ولا تذر، ذلك أن الاستبداد المتجمع سابقا في الفرد الواحد، يأخذ في هذه المرة طريقه إلى الظهور عند كل فرد على حدة، بعلائمه البارزة المستديمة، فيتعاظم أثره في النفوس على التدريج، ويشرع البعض في استمراء التحكم والعبث بحقوق البعض الآخر باسم الحرية ذاتها. . غبر أنه قبل أن يمكن استمرار هذا الحال طويلا تظهر الحاجة ثانية إلى كتمان أنفاس الكل، وإلى قبوع كل واحد في جلد باسم الحرية ذاتها من جديد. .
وهكذا تضطر البيئات التي لم تستأصل بعد جذور الاستبداد المعنوية من دواخلها، ولم تقض على لآثارها في نفوس ظهرانيها إلى التقلب على الدوام بين عهدين من الفوضى وفقدان الحرية، الأمر الذي يعد بلادة مجهولة العواقب لهذا المجتمع بطبيعة الحال.
لهذا فإن دستور بلاد الأحرار قد وضع لإرشاد مجتمع كهذا إلى الطرق المثلى التي يصون بها نفسه عن الوقوع في مهاوي مردية كهذه، حيث فيها القضاء الأخير على البقية الباقية من حياته وكيانه أمر محتوم أكيد.
أما ما يهدف إليه هذا الدستور فهو القضاء على روح الاستبداد في النفوس، وهدم عرشه
وتاجه في القلوب، وإقامة عرش وتاج الحرية عوضا منهما.
- لقد فهمت أيها الأستاذ. واطلعت على قيمة الدستور الحقيقية، فهل تسمحون بأن ننتقل إلى نصوص المواد ذاتها الآن.
تنص فاتحة مواد الدستور على تهجين الكذب وتحريمه. . فهل يعني ذلك أن لهذه الجريمة أهمية خاصة بها؟
- نعم!
- لماذا؟ وهل يستطيع إنسان أن لا يكذب إطلاقاً؟
- الرجل الحر لا يكذب أبداً. والكذب شعار الضعاف الأذلاء الجبناء. . . في حين أن تتطلب أن يمون الإنسان قوياً، شجاعا، ذا عزيمة ماضية. . ثم إن الكذب وسيلة لإخفاء الحقيقة وسترها، وحيث تختفي الحقيقة، تكون السيادة للباطل وحده. . ولا خير في موضع يسوده الباطل ويحكمه. . إن المجتمع الذي يعرف قدر نفسه لن يسمح بذلك بحال من الأحوال، وهذا هو السبب في أن بلاد الأحرار تهتم اهتماماً خاصا بهذه الجريمة.
- لقد فهمت أيها الأستاذ! واستنارت في نظري الآن جوانب كثيرة من الماضي الغابر. . ولكن كيف يمكن القضاء على شائبة الكذب في أرجاء مجتمع كبير؟
- هذه مسألة تربية وتهذيب ليس إلا. . تبدأ في الأسرة والمدرسة وتنتهي في المجتمع. . ذلك أن الأسرة والمدرسة هما وحدهما اللتان تضعان الأساس الروحي الأول للأطفال. . وأن الطفل ليس إلا مخلوقا يقوم بتأثر أمه وأبيه ومعلميه ومحاكاتهم فحسب. . ثم لا تنس أيضاً أن الطفل الذي ينشئه أب وأم ومعلم كاذبون لا يسعه إلا أن يكون كاذباً. . لهذا وجب على كل من الأب والأم والمعلم أن يبذلوا أقصى ما عندهم من جهد للحيلولة بين الطفل والكذب على الدوام وليس ثمة وسيلة أبعد أثراً واضمن لتحقيق النتائج المرجوة من اجتناب هؤلاء أنفسهم الكذب قبل كل شيء.
أجل! على هؤلاء أن لا يسمحوا للأطفال بأن يلجئوا إلى الكذب أبداً، كما عليهم أن لا يقروا أي نوع من أنواعه مهما بدا في مظهره تافهاً بريئاً.
وموجز القول يجب أن يكون الطفل عند مغادرته الأسرة والمدرسة وانتقال إلى المجتمع مقتنعاً في أعماق نفسه اقتناعا تاماً بأن الكذب إن هو إلا داء قذر مرذول يجب تحاشيه
والابتعاد عنه بأي ثمن.
أما المجتمع ذاته فهو أيضاً، لو أعد من جانبه الوسائل اللازمة لتأييد هذه الجهود الأولية، وعبئت قواته النشيطة لدعمها بغير تراخ (كان تطرد الكذابين مثلا من حظيرته كما هي الحال في بلاد الأحرار) لاختفى الكذب بلا مراء من أوساطه، ولذهب أثر بدداً من نفوس ظهرانيه إلى غير رجعة.
ولكن المجتمع الذي ينتهج عير هذه الخطة، فيعتبر البراعة في الكذب عبقرية ونبوغا، وينظر إلى النجاح الذي عماده التدليس نظره الإعجاب والإكبار، ويحترم الرجال الذين تحقق لديه كذبهم ونفاقهم، أجب! إن مجتمعاً كهذا ليضطر اضطراراً إلى الإذعان لكل ما يورثه إياه داء الكذب من الذل والهوان، ويجلبه له من الكوارث والنكبات.
ففي مجتمع كهذا لا يثق إنسان ولا يعول البعض على الآخر كما لا يبغي أي مجال للمشاركة في أي عمل يقوم على أساس سليم، أو تنفيذ أية خطة بطريقة اشتراكية ناجحة. . وهكذا ينعدم الأمل في ضمان أي نوع من الرقي والازدهار، فيتردى المجتمع شيئا فشيئا، ويأخذ طريقه إلى الهاوية والاضمحلال.
- آه أيها الأستاذ! إنني كنت أيضاً أشاهد هذه الحالات منذ مدة بعيدة. . ولكني لهم افهم عللها ودواعيها إلا في هذه اللحظة. . والآن هل لكم أن تتفضلوا بشرح حكمة المادة الثالثة؟
- حبا وكرامة!
- تقضي هذه المادة بفرض عقوبة قاسية كالرجم بالأحجار على مرتكبي جريمة الرياء والتملق. . وفي الحق أنني لم أفهم الباعث على استعمال مثل هذه القسوة الشديدة وهذا العنف الزائد، ألا يسوغ امتداح ذوي المراكز العالية، والقابضين على صولجان الحكم، والإشادة بمآثرهم؟
أليس لكل هذه القصائد الرنانة التي تملأ رحاب الأدب أي قيمة؟
ثم هناك مسألة أخرى، وهي أن جميع منابع السعادة، ومصادر النعيم موضوعة تحت تصرف، ذوي القوة والسلطان! بل وكثيراً ما يتوقف المصير وميزان الحظ على نظرة واحدة يرسلها أحد هؤلاء عفوا ومن دون قصد.
ألا يجوز في مثل هذه الحالة أن يتملقهم المرء ويأتي بما ترتاح إليه عنجهيتهم وعجرفتهم؟
- يلوح لي أن نظم هذه البلاد تبدو غريبة لمن كانوا على شاكلتك ممن ألفوا الخنوع، وترعرع في أحضان الاستبداد ولكن قل لي بربك هل وطنت النفس حقيقة على أن تكون حرا طليقا؟
- نعم!
- إذن عليك أن تقوم بتغيير ما بنفسك تمام التغيير. . لأن كل ما ذكرته الآن إنما يعود عهده إلى الزمن الذي كنت تقاسي فيه مرارة العبودية، وتعاني أوصاب الأسر. . وما دمت قد حطمت سلاسلك وقيودك وعزمت على أن تكون حرا كريما فلا مفر من أن تعلم أن المداهنة إنما هي عمل العبيد والأسرى، كما هي دليل أيضاً على ضعة الروح وهو أن النفس، وإن الرجل المتملق يكون دائما فاقداً لشرفه وكرامته.
إن رجلا كهذا يفسد حتى أخلاق من يتحدث إليه وتملقه ويتمرغ في تراب حذائه إذ يوقظ في نفسه شهوات سيئة كالغرور والعجرفة وعدم تحمل الحق والحقيقة.
ومن الأمراض والوبيلة التي ابتليت بها الجماعات الشرقية، حتى لتكاد تجهز الآن على البقية الباقية من حياتها، داء المداهنة والتملق بصفة خاصة. . وليس ثمة ما يداني هذا الداء في نتائجه المروعة وإمعانه في التهديم.
فهو ينفذ من الإنسان في خلايا الدماغ وشغاف القلب وتسرب كسموم الثعابين القاتلة بعينها فيوهن الجسم ويبليه ويشله شللا تاما.
إن الشعراء الشرقيين الذين دبجوا القصائد الطوال في المديح والثناء كانوا - بغير علم ولا هدى - من أكبر الجانين على أمتهم ووطنهم. . وبنسبة روعة القصيدة كان الدمار المعنوي مروعا مخيفاً فضلا عن التخريب الذي أحدثه المقلدون والناسجون على منوال الأوائل.
ووجه الغرابة في الأمر أن هناك كثيرا من المجتمعات التي تنشد الحرية وتتوق إلى تحقيقها لنفسها تفرض أمثال هذه القصائد نماذج أدبية على مدارسها ومعاهدها.
ليت شعري. . أيقدر هؤلاء عظم الجرم الذي يجنونه، وضخامة الجناية التي يقترفونها؟ أم ترى أنهم لا يعرفون مدى التأثير الذي يحدثه الشعر والموسيقى في القلوب الغضة والأدمغة الناشئة؟
ولكن مهما يكن من شيء فإن عمل الأمة الطامحة إلى الحرية لا يقل شأناً في هذا
الخصوص عن عمل الفلاح الذي يبذر في حقله البذور ثم يذر فوقه الكبريت.
لقد حرم القانون الإنكليزي منذ القرن الخامس عشر مدح الملك، كما حرم ذمه أيضاً.
وهكذا تكون خطة الأمة الراغبة في الحرية.
للكلام بقية
أحمد مصطفى الخطيب
رسالة الشعر
الوجود السجين
للأستاذ محمد فوزي العنتيل
في ضباب الأحزان. . واللهب القائم ينشق بين قصف الرعد. .
وبكاء الحنين. . بالأدمع الخرساء. . في وحدتي، سجنت وجودي:
نغماً تائهاً. . يحن إلى الحب. . إلى عالم قصي. . بعيد. .!
وبروحي من العواصف ليل. .
…
أبدي الظلام. . جهم النشيد
ولهيب الأشواق يجتاح صمتي
…
بجنين. . معذب. . عربيد. .
والفراغ المخيف يأكل أيامي. . وينداح في ضباب شرودي
للهيب المجنون. . بين ضلوعي
…
والدموع الحمراء تحرق خدي
وسجون الظلام. . حولي بحار
…
عصفت في هديرها المستبد
وشراعي الرهيف. . في لجة الشك غريق في موجها الممتد
ولحوني مخضبات. . وقلبي
…
نعم ظامئ، يعذب سهدي
وصباحي يطل من أفقه الدامي. . غريبا في ليله المربد
وأنا طائر شقي الأغاريد. . حزين الرؤى. . أرفرف وحدي
كلما قلت: قد كسرت قيودي
…
أبدلتني الأيام قيدا. . بقيد. .
أنت يا من أشرقت في ظلماتي
…
وزرعت الأنوار في حقل أمسي
وبعطر الصباح نضرت روحي
…
وتفجرت في مباهج عرسي
ثم ألهبت بالجمال شعوري
…
وتجليت في ارتعاشات نفسي
وسكبت الحنين في مزهري الحالم، فاهتز في خفوت. . وهمس:
قد دعاني روح السماء. . فأطلقت، جناحي. . وعانق النور هجسي
فلماذا تركتني. . لليالي. .؟
…
ولماذا تحطم اليوم كاسي.؟. .!
فحرام على الذي يهب الحب. . أن يحرق القلوب بنوره. .
والذي يسكب العبير لتشقى
…
شفة لزهر من لهيب عطوره. .
هذه الوردة الحيية أغفت
…
في حنين الربيع بين طيوره
وجراح الهوى. . على وجنتيها
…
تتلظى بشوقها. . من سعيره
وابنة النور بين عرس الروابي
…
ترد النهر في ارتعاش خريره
هي روح تطير في شاطئ الرو
…
ض، وتطفو على غمام عبيره
ثم تهوي بين الزهور. . وتفنى
…
في ارتعاش الصباح بين هديره
أترى موكب الحياة. . اجتواها
…
فطواها الفناء بين سطوره. .؟
يا لها شقوة. . تعذب نفسي
…
في غموض الظلام. . في ديجوره
لهفة للحياة. . تغمر روحي. .
…
بأسى خافقي. . بنار شعوره. .
الضباب الكثيف أغرق أمسي
…
وغدى تائه. . بليل مصيره.!
محمد فوزي العنتيل
الملوثون!
للشاعر الشاب محمد مفتاح الفيتوري
وكان مصر تاريخ. . وكانت
…
لهذا الشعب أمجاد عظيمه
فمن رد الملاحم وهي يرح
…
تولول حول مقبرة قديمه
ووطأ تاج فرعون فداست
…
على أقداسه جيف رميمه؟
ومن زرع الخيانة في زبانا
…
وذوب في شواطئنا سمومه
وغطى فجرنا بالسحب حتى
…
نسينا في غياهبنا رسومه؟
وقالوا: الاحتلال، فقلت كفوا
…
فتلك جناية الأيدي الأثيمه
تحرر غيركم بالموت حينا
…
فما لكم قنعتم بالهزيمة
ولو طهرت داؤكم لعاشت
…
بلادكم مسودة كريمه
وقالوا: الحاكم الجبار فينا
…
فقلت وفي دمي حمم أليمه
ألم تصنعه أيدكم؟ ألما
…
تكونوا مضغة الشاة السقيمة
كفاكم أنكم كنتم دخانا
…
يظلل وجه من صنع الجريمه
فخلوا قائد التاريخ يمشي
…
بموكبه لغايته الحكيمه!
ولا تقفوا أمام السيل كيلا
…
تمزقكم عواصفه الرجيمه
لقد طلع الصباح على حديد
…
فواروا هذه الجثث القديمه
محمد مفتاح الفيتوري
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
عودة العميد
عاد الدكتور طه حسين إلى القاهرة، بعد أن أمضى فترة الصيف في أوربا كعادته من كل عام، ومثل مصر في مؤتمر الفنانين بالبندقية، هذا المؤتمر الذي عقد في 26 من الشهر الماضي.
وكان هذا المؤتمر من أهم الأسباب التي عوقت عودة الدكتور الذي كان حريصا على أن يعود إلى مصر بعد حركة البعث الجديدة مباشرة.
وقد زرنا عميد الأدب وقضينا معه بعض الوقت، واستمعنا خلا لذلك إلى أحاديث متعددة الجوانب حدث بها الكثير من زواره وأصدقائه وتلاميذه، ونحن نوجزها فيما يلي، ونرجو ألا يخل إيجازها بالمعاني العليا التي اشتملت عليها، والتي نثرها العميد على مريديه.
قال: منذ ترامت إلينا أنباء حركة الجيش ونحن في شوق إلى مصر، وما رأيتني مرة من المرات وأنا عائد من أوربا أكثر فرحا بالعودة إلى وطني مني هذه المرة. .
وقال: لقد زرت الأستاذ أحمد لكفي السيد - أمس - بعد عودتي من أوربا، فوجدت هذا الرجل الذي ارتفعت به السن فرحا ومتحمسا للثورة الجديدة، حماسة ولا تدانيها حماسة الشباب؛ فلما هنأته بالحركة الجديدة وقلت له إنها من ثمار غرس طويل شاركت فيه أنت وتلاميذك بقدر ليس بالقليل، قال لطفي السيد: أي فخر ذلك الذي أحرزته مصر في نظر العالم كله؛ أن يقف ضابط مصري هو محمد نجيب ويقول لابن محمد علي: عليك قبل الساعة الثانية عشرة أن تتنازل عن الهرش، وعليك قبل الساعة السادسة أن تغادر البلاد. . أي مجد هذا في أن يتحقق لمصر هذا الأمل الكبير، ويصل فيها الوعي إلى هذه الدرجة من القوة!
وتحدث عميد الأدب إلى كثير من الأساتذة والمعلمين والمدرسين في مختلف أنواع التعلم الجامعي والثانوي والابتدائي. . من زواره وضيوفه، فقال لهم: إن هذه الثورة من أهم ما نعتز به ونفخر. . ولابد أن تبلغ الثورة أهدافها، وعليكم أن تكونوا أداة عون أكيد لتحقيق هذه الأهداف، وأن تكونوا في مختلف دور العلم رسل السلام والخير ودعاة الإيمان الصادق
بالنهضة الجديدة. وعليكم كذلك أن تضحوا في سبيل هذه الغاية، تضحوا بكل شيء، وألا تجهدوا العاملين في الوقت الحاضر بمطالب أو طلبات، وأن يكون رائدنا التجرد الكامل للعمل الوطني، دون أن نلتفت إلى رغباتنا الخاصة، فهذه يجب أن تؤجل أو تنسى خلال هذه الفترة الحاسمة من تاريخ الوطن.
وقال الدكتور العميد: إن الثورة في مصر، منذ ترامت أنباؤها إليه، قد شغلته عن كل شيء، ولذلك فهو لم ينته من كتابه الجديد عن الإمام علي، ولد كان يطمع في أن يعود بن كاملا.
وجرى الحديث حول مقالات الدكتور التي كان يكتبها في العهد الماضي، بذلك الأسلوب الذي يغلب عليه الإيماء والرمز، والتي كان يفهمها كل من يقرأها، ويعرف ماذا يرد أن يقول كاتبها، مقالات الهلال، و (رسالة يكتبها الجاحظ)، و (جنة الشوك). . وغيرها مما كانت تحمل بذور الانتقاض ومعاول الهدم لذلك الطاغوت. . والعهد البغيض.
الأعداء الثلاثة. . مفخرة الجيل
ما أريد أن أجامل الأستاذ الزيات أو أنملقه حين أكتب هذه الكلمة في (الرسالة). . حقا! كان خليقا بي أن أكتبها في أي مكان آخر، ولكن هذا باب في عودنا قراءنا أن نسجل لهم فيه أهم أنباء الأدب. . وليس شك أن من أهمها هذا الأسبوع تلك الاستقالة التي بعث بها صاحب الرسالة إلى شيخ الأزهر من رئاسة تحرير مجلة الأزهر!
ولقد كنا نتنبأ بهذه الاستقالة قبل أن تقع، فقد قبل الأستاذ الزيات هذه المهمة على غير رغبة منه. كان يعلم مشقة هذا العمل، مشقة تجديد مجلة درجت على طريقة معينة فترة من الوقت. . ثم ليخرجها من حيزها (الأزهري) المحدود، كتابة وطباعة وإخراجا. . لكي تستطيع أن تقف في صف المجلات العالمية التي تشرف اسم (الأزهر) في كل بلد يقرأ أهلها العربية.
وعلى الرغم منه، قبل الزيات، وعمل. . . وتحمل الكثير من المشاق والمتاعب التي لا تتناسب مع صحته أو سنه. . ولكنه ضحى بكل شيء في سبيل العمل الباقي، وظل الناس فترة من الوقت يتساءلون: ماذا سيعمل الزيات في مجلة الأزهر وكيف سيخرجها؟
وهمس الأزهريون، لعله سيكتب مقالا شهريا ويمضي!
ثم ظهرت مجلة الأزهر، فكانت آية الفن والعلم والإخراج والبحث. . .
وكان العدد الثاني أقوى من الأول، وقد بدا فيه الجهد كبيرا وواضحاً.
وظهر العدد الثالث فكان تحفة أدبية وفنية رائعة، جمع فيها أبرز كتاب الدنيا والدين، على موضوع هو أعظم موضوعات الإسلام جميعا ذلك هو (الفتح). . الفتح في الحرب والعقيدة والتشريع واللغة والنحو والفلسفة والعلم والعمارة والموسيقى.
وكأنما كان الأستاذ الزيات يوحي إليه بظهر الغيب، إذ يروي في هذا العدد الأخير من مجلة الأزهر قصة المجلة، وتحس في أسلوبه المرارة، والشعور بأنه يريد أن يتنحى، قال في تعقيبه على مقال:
(توليت إدارة هذه المجلة وليس فيها محرر ولا مترجم ولا موظف يعين على التحرير والترجمة، فلم أجد بدا من الاستعانة بالكتاب الذين حملوا أمانة العلم وفهموا ثقافة الإسلام. وكان من أول هؤلاء وأولاهم كتاب الأزهر، ولكن معرفتي بأكثرهم قليلة، وهم يتكرموا بالتعارف ولم يتقدموا بالمعونة، فلجأت إلى من أعرفه من الأزهريين والجامعيين والمجمعيين
وخرج عدد (رمضان) على النحو الذي عرفت، ولم يتغير الحال في عدد شوال فصدر على الوضع الذي رأيت.
وفي عدد المحرم - الذي بين يديك - اختلف الأمر بعض الاختلاف. لم أجد ثلاثة أشهر مسوغا لانتظار التعارف أو التعاون، ففزعت إلى لجنة من صفوة الأصدقاء في الأزهر، ومعي خطة لهذا العدد الخاص مبيته المعاني، معينة الأغراض، وسألتهم أن يختاروا لهذه الموضوعات كتابها من رجال الأزهر، فاختاروا طائفة من أعيانهم كتبت إلى كل منهم رسالة بموضوعه وموعده. ثم انتظرت ونظرت فإذا الأساتذة جميعا لا يكتبون ولا يعتذرون ما عدا الأستاذ محمد عرفة، وكان الوقت قد ضاق عن استكتاب غيرهم ممن يكتبون أو يعتذرون، فنزلنا مضطرين على حكم الواقع. . .
ورأيي قبل هذا أن الأزهر فكرة، فكل من أخذ بها وعبر عنها ودعا إليها فهو أزهري، وإن لم يخرجه الأزهر. أما رأيي بعد هذا فهو أن العبء باهظ، والجو خانق، والعدة ضعيفة، والمعاونة قليلة، والسن متقدمة، والصحة متأخرة، وما أطعت فضيلة الشيخ الأكبر الإمام عبد المجيد سليم في تولي هذه المجلة إلا لأرسم الخطة وأضع النموذج. وفي اعتقادي أن
في الأعداد الثلاثة التي صدرت على علاتها ما يكفي)
وقد صدق الزيات، فقد رسم الخطة ووضع النموذج لمجلة عالمية، تصدرها أكبر جامعة عالمية عي الأزهر، وهذه الخطة من وجهة نظر المثقفين من خارج الأزهر - وهم الغالبية التي يكتب لها الأزهر ويواجهها ويدعوها إلى ثقافته - غاية في القوة.
ونحن نعتقد أن هذه (الأعداد الثلاثة) هي خير ما أخرجت هذه المجلة في تاريخها كله، وأن مجلة الأزهر يجب أن تكون مثلا عاليا للثقافة، حتى تستطيع أن تجري مع تيار النهضة العالمية المتدفق.
ولست أنسى أن أذكر أن من أجود ما أعجبني في مجلة الأزهر - في الأعداد الثلاثة الأخيرة - تلك الخلاصات المركزة من العلم والأدب المبثوثة في الفصول الأخيرة، فهي وحدها جهد جدير بالإعجاب والتقدير.
وإن بكن الله قد شاء أن يدع الزيات مجلة الأزهر، فقد كتب الله له أن يسجل أضخم صفحة في تاريخها.
أنور الجندي
الكتب
عصر سلاطين المماليك المجلدان: الثالث والرابع
تأليف الأستاذ محمود رزق سليم
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية
للأستاذ محمد رجب البيومي
يعتقد صديقي وأستاذي الجليل محمود رزق سليم أن العصر المملوكي لم يأخذ حقه من البحث العلمي الدقيق، فهو حافل بالمؤلفات العلمية في شتى المواضيع الثقافية، ذاخر بأعلام اللغة والفقه والأدب والتاريخ الذين حفظوا التراث الإسلامي بعد سقوط بغداد في يد التتار، ملئ بالأحداث السياسية والتاريخية التي كتبت مستقبل مصر والإسلام، وحولت اتجاه الشرق العربي إلى مأمن يعصم من الكوارث والخطوب، ومع ما لهذا العصر من الأهمية الخطيرة فأكثر من كتبوا عنه من المؤرخين والباحثين يقابلونه بوجه عابس، ويواجهونه بنقد حاد.
وقد كرس الأستاذ المؤلف جهوده للدفاع عن هذا العصر وتسجيل مفاخره العلمية السياسية، وتعداد ما أنتج للأدب والعلم من ثروات غالية يعتز بها تراثنا النفسي، ولم يقصر المؤلف جهوده في هذه الناحية على ميدان واحد، بل شعبت به الميادين، وانفسحت أمامه الطرق، ووجد لديه من الموهبة والكفاءة والمثابرة وما حفزه إلى ارتياد الطرق المتشعبة، والصيال في الميادين المختلفة، مهما أرهقه السير والتجوال، وأضناه لتجمع والوثوب.
فهو في كلية اللغة يوجه تلاميذه إلى كنوز هذا العصر، ويعرض أمامهم أساطينه وأعلامه محللا ناقدا، ومؤرخا مستوعبا، ويفسح مجال المقارنة بينه وبين العصر العباسي والأندلسي دون أن يتعصب لناحية أو يتشيع إلى فريق.
وهو في مجلة الرسالة الغراء يطالع قراءها الأفاضل بطرائف منتخبة عن العصر المملوكي، فيلجو صفحات رائعة عن سماته البارزة في النقد والحرب والفكاهة، ويبحث عن خصائصه التورية والجناس والزجل والتشطير، ويدرس جوانب هامة حيوات أعلامه البارزين.
وهو في جامعة فؤاد يقدم رسالة علمية عن النثر الفني في العصر المملوكي، فتجلو عناصره ومقوماته، يزن آثاره بميزان النقد الحديث، ويعقد صلة واضحة بين الطريف والتليد.
وهو في ميدان القصص، يخط عدة أقاصيص تاريخية ينتزع أبطالها وحوادثها من هذا العصر الملئ، ويسوقها للقراء أسلوب طلي، وحوار جميل، وقد وقف - على بعضها - قراء الرسالة، فطالعوا ما كتبه الأستاذ عن قانصوه الغوري السلطان الشهيد.
ثم هو أخيرا في ميدان التأليف العلمي يكتب ثمانية مجلدات ضخمة تكون موسوعة شاملة لأهم ما حفظه التاريخ هم هذا العصر العجيب، وإذا كان المؤلف قد رجع في مصادره إلى مئات المخطوطات العتيقة، يكشف عنها في خزائنها المكنونة، وينبش في أضابيرها البالية باحثا منقبا، ليؤيد رأيه بالدليل الملموس والحدة المعترف بها، حتى سود آلاف الصفحات، وأرهق جسده وعقله وعينيه. . . أقول إذا كان المؤلف قد فعل ذلك فإنه جد بالإعجاب والتقدير، ولن يقدر مجهوده حق قدره غير من كتب أن يقوم بدوره الشاق في الرصد والتسجيل.
ويذكر قراء الرسالة أني كتبت بالعدد (788) كلمة عن المجلدين الأول والثاني من هذه الموسوعة الضخمة، وهاأنذا أكتب كلمتي الثانية عن المجلدين الثالث والرابع بمناسبة ظهورهما الآن، فقد آثرت أن أتابع هذه الحلقة المباركة، لأعلم ما لم أكن أعلمه عن مصر العزيزة، وتاريخها النفسي، ولن ألخص للقراء مواضيع الكتاب ومحتوياته في هذا العرض السريع، فذلك متيسر من يمر بالفهرس مرورا خاطفا، ولكني أتجه إلى نقطة هامة سبق أن أشرت إليها في مقالي السالف، وبقيت تتطلب المزيد من الإيضاح والتعليق.
لقد عزم المؤلف أن يجعل من المجلدات الثمانية موسوعة حافلة بالهين والجليل من أنباء العصر الملوكي، فسود مئات الصفحات في تسجيل وحوادث وأنباء لا يحتاج إليها القارئ في شيء فهو يكتب قوائم حافلة بأخبار الفيضان وأرقام الصعود والهبوط، ويتحدث عمن زار مصر من الأضياف ويسرد فهارس متتالية للكتب المختلفة في الفقه والتفسير واللغة والتاريخ والأدب والمنطق مما أخرجه علماء العصر المملوكي في ميدان التأليف، ولم يسمع بأكثره لتلاشيه في رحاب السنين، كما يتتبع كل خليفة أو مملوك أو وزير أو عالم أو قاض
ورد ذكره في الموسوعات الحافلة كالضوء اللامع أو النجوم الزاهرة أو حسن المحاضرة أو السلوك أو الشذرات أو التذكرة أو بدائع الزهور أو الدرر الكامنة فيخصه بترجمة موجزة مما كان سببا في إرهاق الأستاذ بلا مبرر، وقد خالفت المؤلف في هذا الرصد العجيب فقلت في مقالي السالف بمجلة الرسالة - العدد 788 ما نصه:
(على أني أخالف الأستاذ في ناحية هامة تشيع في مؤلفه، فقد حرص كل الحرص، على أن يترجم لكل من ولي السلطنة أو ناب عنها، وكذلك من تحدث عنهم فيما بعد من القضاة والخلفاء، وفي هؤلاء جميعا من لا يستحق أن يكتب عنه سطر واحد، حيث كان فردا عاجيا لم يخلف أثر هاما أو تحدث في عهده من المفاجآت ما يدعو إلى الحديث عن زمن ولادته أو مدة حياته أو آونة وفاته، وإنما ولي وعزل، وكأنه لم يولد، يكيف نتعب أنفسنا في تراجم أصنام آدمية، قذف بها الزمن في قرار سحيق).
أقول، لقد سبق أن قلت ذلك على صفحات الرسالة، واعتقدت أن المؤلف الفاضل قد اقتنع برأي المتواضع، ولكن ظهور المجلدين الثالث والرابع، قد اثبت نقيض ذلك، حيث حشد الأستاذ فيهما تراجم عديدة لنكرات مهملة نقب عنها المؤلف في شتى الموسوعات! وحسبك أن المجلد الرابع قد ضاع 90 % منه، في هذه التراجم العجيبة، حيث شغلت (247) صفحة طويلة مزودة بالمراجع والأسانيد، وبلغ عدد من ترجم لهم نحو الخمسمائة والخمسين من العلماء، وكان الأجدر أن يقصر الأستاذ تراجمه على النابهين الأفذاذ من بين هؤلاء، وهم لا يتجاوزون المائة على أكثر تقدير!
ولعل المؤلف قد شعر أنه بذل مجهودا كبيرا دون حاجة ملحة إليه فعمد إلى تبرير صنيعه، وقال في مقدمة المجلد الرابع - وكأنه يرد على -
(وتستغرق التراجم الموجزة لمشاهير العصر جزءا فسر قليل من صفحات الكتاب، وهي في الحق ضئيلة بالنسبة إلى كثيرة عددهم، وواسع فضلهم، ونظرة يسيرة إلى كتب أعلام هذا العصر وطبقاتهم تدل على صواب ما نقول، وقد بدت فيها عناية مؤلفيها نأبناء عصرهم وأنبائهم، وفي الحق أننا وجدنا فيها خضما واسعا بعيد الغور، فلم يكن لنا حاليه إلا حسن الالتقاط والنظم، على أنا مرحلة في هذا الكتاب لا بد من اجتيارزها، ولا سيما أن المؤلفات التي أشرنا إليها جمعت فأوعت، ونوهت بالمشاهير وغير المشاهير).
فالأستاذ محمود رزق يقتدي بكتاب العصر المملوكي في حشد التراجم من كل صوب، وقد نسي أنه يكتب مجلداته في القرن الرابع عشر، لا في المائة الثامنة، أو القرن التاسع، ولكل عصر خصائصه في التأليف واتجاهه في البحث، فقد كان السخاوي وابن إياس والمقريوي يؤمون الجهات المختلفة، ليسجلوا تراجم من يقابلونهم أو يسمعون عنهم من علماء المساجد، وأساتذة المدارس، ومشايخ الزوايا، وقضاة المحاكم، ثم يسودون صحائفهم العديدة بما يجمع الطيب والخبيث، والصالح والطالح، والسمين والغث، والتافه والجليل، وقد عفى الزمن على هذه الطريقة البالية، وأصبحنا نختار ما نكتب عن دقة وتمحيص، فإذا أراد مؤرخ معاصر أن يسجل هذه الحركة العلمية في وقتنا هذا، فليس عليه أن يتتبع التراجم في شتى المظان ثم يرصدها لقارئه في إيجاز واقتضاب، ولكن عليه أن يدرسها في مطالعته الخاصة، ثم يأخذ منها ظواهر معينة وأدلة ثابتة يقيم عليها بحثه التاريخي الكلي، ويجعل منها أسساً متينة لآرائه وقضاياه، وما ينتهي إليه من نتائج وأحكام.
وهل يستسيغ الأستاذ الفاضل - إذا أراد أن يكتب عن عصرنا الحديث مثلا - أن يترجم لجميع من يقع على مؤلفاتهم من أساتذة الكليات ومدرسي المعاهد والمدارس، ومع أنهم جميعا يتسمون بالعلم والفضل والإنتاج، أو أنه يختص أولي الأثر البارز في توجيه الحركة العلمية والأدبية بالنقد والتمحيص؟ أكبر الظن أنه يتجه الوجهة الثانية دون نزاع، ولا يقبل أن يقلد السخاوي والمقريزي والسبكي وأبن حجر فيما صنعوه منذ عدة قرون!! ولعل اهتمامه الكبير بأن يجعل كتابه موسوعة حافلة ذات كتب وأجزاء، قد فعه إلى هذا الرصد والاستقصاء، وهو بعد يعلم مناهج البحث التاريخي وما طرأ عليه في العصر الحديث من ضوابط وقيود، ولن يحتاج إلى من ينبهه إلى ذلك، وفي الأبواب العامة التي يفتتح بها المواضيع الرئيسية لكتابه، ما يدل على إحاطته الشاملة بالتيار الفكري الحديث. . .
وقد خص أستاذنا الفاضل طائفة من أعلام الفقهاء بتراجم تحليلية مسهبة تحتل مكانا فسيحا من المجلد الثالث، وقد صاغها في نسق علمي دقيق، فهو يذكر المعالم البارزة في حياة من يترجم له، ويعرض شيوخه وتلاميذه وآراءه الفكرية والمذهبية، ثم يعنى بتحليل مؤلفاته، وعرضها عرضا يكشف عن ذخائرها الدفينة، ومكانتها المستترة، وبذلك استطاع أن يحلل طائفة من الكتب العلمية التي تعتبر بحق مصادر مستوفاة في الفقه واللغة والأدب والتاريخ،
ولم يكتف بذلك بل أفسح المجال في المجلد الرابع لعرض مؤلفات أخرى لا تنقص عن سابقتها في شيء كوفيات الأعيان، وعجائب المقدور، والضوء اللامع، وبدائع الزهور، وكانت هذه الموسوعات العلمية في حاجة ماسة إلى من يتحدث عنها بإسهاب فيبين ما اشتملت عليه من معارف جزيلة النفع، ويكشف هما اهتز في غصونها من ثمار يانعة، وغرد على أفنانها من طيور صادحة، ولعل المؤلف بذلك يلفت الأذهان إلى ضرورة الاعتناء بإحياء هذه الكتب، وإخراجها للناس من جديد في نسق علمي يعتمد على المراجعة والتحقيق.
ومع أن الكاتب الجليل قد نقد بعض هذه المؤلفات نقدا علميا سليما ونبه إلى ما تجمعه من محاسن ونقائض، إلا أننا نلاحظ أنه يغمض العين عن بعض المآخذ الهامة، بل ريما تلمس لها من التصويب ما يتعذر التسليم به، وقد دفعه إلى ذلك هيامه بالعصر المملوكي، وموقفه منه موقف المدافع الذائد، وهو يصرح في مقدمة المجلد الثالث بأن النقد ليس غرضا أصيلا في تحليله وعرضه، وإنما يرسم صورة هادئة خالية من صخب النقد والحمد معا، كما يقول أنه يأمل أن يجد للنقد الصريح مجالا غير هذا المجال، وأنا لا أوافقه على هذا المسلك، فالفكرة العلمية لا تكون كاملة مستوفاة إلا إذا أخذت دورها الكامل في التمحيص الشامل، والنقد الدقيق.
وقد لاحظت أن الأستاذ قد كتب تراجم موجزة لبعض العلماء ثم أعادها بإسهاب مطيل، وهذا لا يكون إطلاقا في كتاب يحمل اسما واحدا، وكان الأجدر أن يترك المؤلف تراجمه الموجزة ويحيل القارئ إلى ما كتبه أو سيكتبه من التراجم المطنبة ذات العرض الشامل الفسيح، وهناك أمر ثان يتعلق بهذه التراجم الطويلة، فقد لاحظنا أن المؤلف قد أختار من الفقهاء عدد كبيرا كالنووي والعز بن عبد السلام وأبن تيمية وأبن القيم وزكريا الأنصاري، ومع الحظوة البالغة بالفقهاء فقد أغفل النحاة واللغويين فلم يكتب ترجمة مسهبة لرجل كابن منظور أو أبن هشام أو أبن مالك، وكان الأولى في التراجم التفصيلية أن توزع وفق العلوم المختلفة، فلا يطغى الفقهاء والمؤرخون على اللغوين والنحاة مثلا، فيكون في هذا التنويع تاريخ ضمني لجانب مختلف من العلوم، ولعل الأستاذ قد حاول ذلك، فتزاحمت لديه الشخصيات، وتقاتلت أمامه الأسماء، وصدق عليه قول القائل.
تكاثرت الظباء على خراش
…
فما يدري خراش ما يصيد
محمد رجب البيومي
البريد الأدبي
إلى صاحب الفضيلة وزير الأوقاف
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد؛ قرأت في أسرار استقالتكم من جماعة الإخوان المسلمين التي نشرت في الصحف ما جعلني أرى فيكم ما لم أكن أراه من قبل، إذ كنت أظن ولا أخفي عليكم أنك شيخ أزهري من هؤلاء الذين نراهم عمائم وصوراً! فقد آنست في أقوالكم وآرائكم روحا ذكرتنا بأئمة النهضة الحديثة؛ فحمدت الله كثيرا وزاد في حمدي أن تكون الآن في أقطاب وزراء الثورة الذين أخذوا على أنفسهم إنقاذ هذه الشركة المثقلة بديون الفساد والفوضى، وإني لأنتهز هذه الفرصة الطيبة لأفضي إليكم ببعض ما أراه في الإصلاح الديني الصحيح.
إن سيدي الأستاذ يعلم ولا ريب أننا الآن قد حق علينا قول رسول الله صلوات الله عليه (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع) وأننا لا نصلح إلا بما صلح به أولنا، وقد شاب ديننا من البدع والخرافات ما ذهب ببهائه وأخر سير أهله، وكل صلاح لا يقوم أساسه على تطهير العقائد وتحرير العقول فهو إصلاح باطل، وقد استعلنت بذلك بلساني وقلمي منذ ربع قرن ولا زلت أستعلن به مادمت حيا.
تقولون إنكم تريدون أن يعود المسجد إلى مكانته الأولى. . ولكن يجب قبل كل شيء أن يطهر من الوثنية حتى يعود إلى طهارته الأولى ويكون لله وحده (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا).
وكذلك نقضي على وصمة أخرى بالمساجد تلك هي صناديق النذور بعد تمزيق اللائحة التي وضعوها لها. ومن يرد أن يتصدق فأمامه وجوه الصدقات التي أمر بها الله وهي كثيرة.
وبعد أن تتطهر المساجد وتصبح لله وحده تعدون من سيقومون بأداء رسالتها إعدادا صحيحا حتى يستطيعوا أن يؤدوا ما عليهم للحياة وللناس أداء حسناً.
ومما نطلبه منكم كذلك أن تستبدلوا بكتاب الفقه على المذاهب الأربعة مختصراً في العبادات يحمله كل مسلم. تقتبس أحكامه من الراجح مما في كتب السنة وعمل السلف الصالح بغير تقييد بأي مذهب من المذاهب، لأن الله تعالى لم يطلب من عباده أن يعبدوه على مذاهب
معينة. . والعامي لا مذهب له والعالم له أن يختار.
هذا ما نريده منكم وقد سبق لنا أن طلبنا ذلك كله من المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرزاق حينما تولى وزارة الأوقاف أو مرة. . ولكن يبدو أن مشايخنا عفى الله عنهم قد وقفوا في سبيله - ونرجو أن يتم هذا الإصلاح على أيديكم إن شاء الله.
المنصورة
محمود أبو رية
1 -
التربية والتعليم معا
إن نظرة خاطفة إلى أخلاق التلاميذ في المرحتلين الأولى والمتوسطة تجعلك في يحزن عميق وألم ممض، وأخلاقهم هذه تظهر جليا في الميادين والشوارع، وفي الحدائق ودور اللهو، وفي المركبات العامة وغيرها، ولا تختفي بوادرها المؤسفة حتى حلال ذهابهم إلى دور العلم ورجوعهم منها.
الطلبة الصغار يعاكسون المارة، ويعاكسون خلق الله، ويتعلقون (بالترام) من الجهة اليسرى معرضين حياتهم للخطر، وكرامتهم لألسنة السائق (والكمساري) شأنهم في هذا الشأن الصبية المشردين - إذا رأوا عجوزا سخروا منه بعبارات نابية، وإذا أبصروا ذا عاهة صاحوا وتصايحوا عليه، ودعك بعد هذا من تراشقهم بالألفاظ البذيئة، وتقاذفهم بالحجارة والحصى، وتضاربهم بالأكف والعصي!
والطلبة الكبار يصطفون في الصباح وبعد الظهر أمام مدارس البنات لمعاكستهن ومضايقتهن، ويروحون ويجيئون في الشوارع متعرضين لهن غير مبالين باستفزازهن، وغير مكترثين للوم المارة ولا لمراقبة الشرطة، وقبيل الأصيل ينتشرون في الشوارع أيضا، ولا مهمة لهم إلا الجري والقفز، والتندر بأشكال الغاديات والرائحات.
إن هؤلاء الطلبة المعوجين في أخلاقهم، قد أساءوا إلى المدرسة حتى فقدت ثقة الناس فيها، وأصبحت مقياسا لسوء الأخلاق وأنحطاطها، ولابد من أن يتيقظ ولاة الأمور لهذه الهوة السحيقة، فلقد شغلتنا برامج التعليم، وخطط الدراسة، ونظم الثقافة، عن أهم جانب في حياة الأمم وهو التربية.
ليس البيت وحده المسئول عن التربية، وإنما المسئولية بجانبه واقعة على المدرسة بوجه عام - وعلى مدرسي الدين بوجه خاص، فالمدرسة مسئولة عن تعليم التلميذ، ولا يستقيم تعليمه إلا إذا استقامت تربيته، ومدرس الدين هو المختص، وكعبة الأمل المنتظر في توجيه التلميذ وطبعه بطابع الخلق الحسن، وصياغته في قالب من الخصال الحميدة والصفات النبيلة.
لسنا في حاجة إلى جبل متعلم مثقف إلا إذا كان مؤدبا مهذبا، وهذه النهضة الجديدة في مسيس الحاجة إلى جبل صالح يرفع قدر مصر، ولن يكون إلا إذا عني ولاة الأمور بالتربية كعنايتهم بالتعليم، وسارت التربية والتعليم جنبا إلى جنب. .!
2 -
نحو مجتمع سليم
نرجو - وكلنا أمل في أن يحقق الله رجاءنا - أنت تعمل ثورة الجيش الإصلاحية على أيجاد مجتمع نظيف سليم في مصر يرفع شأنها ويعلي قدرها، ويعز جانبها ويصل بها إلى المكان اللائق بالأمم المتقدمة الناهضة.
إن المجتمع النظيف السليم عنوان الأمة الراقية الناهضة، ولن يوهب لأمة من الأمم ذرة من الهيبة والتقدير إلا إذا كانت تتمتع بمجتمع سليم حي، ولو بلغت هذه الأمة مبلغا كبيرا من القوة والنفوذ - والدول الغربية ذوات السلطان والجاه، إنما تربعت فوق هامة المجد والعزة لأن المجتمع في جميعها يظفر بأكبر قسط من الرقي وسلامة التكوين ونضارة الفكر.
إذن فمصر اليوم في مسيس الحاجة إلى هذا اللون من المجتمع، ولن يتيسر لها هذا إلا إذا أخذ المصلحون على عاتقهم تكوين المجتمع تكوينا سليما، يقوم على دعائم ثابتة قوية من الرقي والأخلاق والإشراف على التوجيه الذي يصلح من شأنه، وبث المثل العليا بين أفراده حتى يأخذوا بأسبابها وينشئوا عليها.
ولكي نضمن تكوين المجتمع النظيف السليم، يجب علينا أن نعني العناية الكبرى بالشباب لأنه عصب المجتمع ودعامته - والذي يتطلع إلى أحوال الشباب - ولا سيما المثقف - في مصر لا يسر بحال من الأحوال، لأن غاية معظمه إن لم يكن جميعا تنتهي عند ارتياد الملاهي وركوب الدراجات، والسير في الشوارع لمنافسة الفتيات ومعاكسة خلق الله.
وفي استطاعة مصر أن تخلق لهذا الشباب من المغريات ما يجذب إليها وبما يعود عليها بالفائدة، كالإكثار من الأندية الرياضية على اختلافها، وخير لهم أن يستنفذوا أوقات فراغهم بين جدرانها من أن يستنفذوها في الشوارع والميادين والملاهي وروب الدراجات.
إن العناية بالشباب من أوجب الواجبات، لإيجاد شعب حي نظيف، ومجتمع راق سليم، فإن مصر اليوم في بدء التحول من حياة أرستها ردحا من الزمن على تراب الحضيض، إلى حياة جديدة ناهضة سترسيها إن شاء تعالى - على قواعد من الرقي والتقدم، فهي في حاجة إلى المجتمع السليم النظيف حتى تصل القافلة إلى غايتها.
الإسكندرية
نفيسة الشيخ
تحية. . وإعجاب
أعجبت أيما إعجاب بجريدة الأستاذ ميشيل الله ويردي المنشورة بالعدد 1005 من الرسالة؛ وهي التي يحي بها ذكرى هجرة لرسول معارضاً بردة البوصيري.
ولئن أعجبت بالقصيدة في قوة سبكها ومتانة نظمها فإني أكثر إعجاباً بأن أرى غربيا مسيحيا يمدح الرسول (ص) بشعور صادق لا يقل عن شعور صاحب البردة ومن سبق الشاعر إلى معارضته من الشعراء المسلمين.
لقد اثبت الأستاذ الشاعر أن محمداً (ص) هو للعرب جميعاً مسلمين وغير مسلمين. . ولا غرو فمحمداً أول زعيم وحد الأمة العربية وسدد خطاها في طريق المجد والعظمة.
إني لأكبر في الشاعر هذه الروح القومية العالية وأحيي في فنه وحدة العرب على تعدد الديار واختلاف الأديان.
والأستاذ (الله ويردي) وإن كان عربي الروح فهو تركي اللقب وتعريب لقبه (عطية الله) لأن (ويردي) معناها (أعطى)!
ولكم في الختام فائق التحية وللأستاذ الشاعر خالص الإعجاب.
جمال مرسي بدر
القصص
العش الخالي
عن الإنكليزية
انتهى يوم العرس وسافرت آخر بنت كانت في الأسرة مع عريسها الجديد، وذهب آخر فريق من المدعوين وهم يضحكون ويمرحون فرحا بالعرس، وأصبح المنزل هادئاً هدوءا فوق العادة كأنه خال. فالأب والأم وحدهما في منزلهما الكبير، وكان كل منهما يتجنب النزر إلى وجه الآخر وينظر إلى الموائد التي عليها بقايا الوليمة، فمن زجاجات الشمبانيا إلى أطباق الفاكهة فأنواع الحلوى المختلفة.
وقال الزوج لزوجته: (أليس بالمنزل غرفة لم يدخلها هؤلاء الضيوف؟) فقالت: (غرفة مكتبك).
قال: (تعالي نذهب إليها) ثم نظر إلى الساعة وقال: جاء وقت العشاء فلنبدل ثيابنا للمائدة).
قم أبدل وإياها ثيابهما، وتذكر وهو خجلان أنه منذ سنوات كان ينتظر هذا اليوم؛ يوم تتزوج بناته وتركن له المنزل وأمهن معه.
وقد كان بغار من بناته فقد كن يشغلنها عنه بمطالبهن الكثيرة ولم يجرؤ على الاعتراف حتى أمام نفسه بغيرته منهن، وإنما كان يشعر بذلك ويخجل من شعوره، ولكي يكفر عن هذا الشعور كان يقوم بواجباته نحو أبنائه خير قيام فلم يهمل قط واحداً من هذه الواجبات، ولكنه كان دائماً يشعر بتلك الغيرة من كل شيء يحول بينه وبين زوجته. وقد ظل كذلك إلى هذا اليوم. ففي العام السالف تزوجت بنتاه (كتلين) و (كلير) وفي بداية هذا العام تزوجت جيرالد واليوم تزوجت الأخيرة وهي فرانسين، وقد كان يحبهن ولكنهن كن عقبة في سبيله.
واليوم لن تحدث بالمنزل الضجة التي كان يثيرها البنات وصاحبهن، وكانت الأم تصرف كل وقتها في خدمتهن ومرضاتهن وزوجها لا يثق بأنهن السبب في ابتعادها عنه؛ بل كان يخطر له في اكثر الأحيان أنها تجعلهن ستاراً لتخفي وراءه منه، وكانت تفتنه بجمالها ويزيده شغفا بها اشتغالها عنه، وقد تزوج منها ولكنه لم يأنس بزواجها فقد كانت دائما في حالة تشبه العزلة، وكانت تهرب منه فلما رزق منها ببناته الأربع زاد ابتعادها عنه
واستمرت حياتها الزوجية خمسة وعشرين عاماً وهو ينتظر، وكان ينظر إلى المرآة ويبتسم ابتسامة مرة حينما يذكر أنه تزوج منذ ربع قرن، وهو مع ذلك لا يتقدن إلى زوجته إلا كما يتقدم الشاب إلى فتاة صغيرة.
وكان جميلا قوي البنية، وكانت زوجته لا تزيد معي مرور الأيام إلا جمالا. وكانت شجاعتها تزيد مه هذا الجمال.
نظرت إليه الآن وقالت وهي تشير إلى زجاجات الخمر والأطباق التي على المائدة: (ما هذه الفوضى التي تركت لنا يا برانينو)
وكان هذا الاسم هو الذي ينادى به في الطفولة، فنظر إليها وقال بهدوء:(إن اسمي هو جون)
فابتسمت أمام هذا التقريع الهادئ. وتناولت معه الطعام العشاء؛ فقال وهو يتنهد تنهد الرضى: (منذ كم سنة لم نتعش وحدنا؟) فقالت: (منذ سنوات طويلة. مسكينة فرانسين! لقد كان التعب الشديد بادياً عليها).
قال: (ولكن من أجمل المصادفات أنها تزوجت في هذا التاريخ)
فقالت: (لماذا)
ونظرت إليه بعينيها الجميلتين الزرقاوين فأجاب (إلا تذكرين أن هذا هو تاريخ زواجنا؟)
قالت: (آه! لقد تذكرت. إنني كنت ناسية)
فعض شفته وبدا عليه الغضب لنسيانها ذلك اليوم. ثم ملك روعه. وشعر بخيبة الأمل في السعادة التي كان يرجوها لأن زوجته لا تشعر بمثل شعوره هذا. وذهبا إلى غرفة المكتب بعد العشاء وكانا يسمعان من الغرفة حركة الخدم وهم ينقلون ما على الموائد من الأطباق، وكانت الزوجة واقفة بجانب النافذة تنظر في الظلام إلى أعالي الأشجار وما عليها من أعشاش العصافير وعلى الممرات المظلمة في الحديقة الجميلة التنسيق. وكان الزوج جالساً أمام مكتبه، وقد أسند ذقنه أصابعه.
وكانت الزوجة تتذكر خلو المنزل من الموسيقى والغناء والضحك واللعب والحديث فقالت: (ألا يبدو المنزل كأنه غير مأهول؟)
فهز رأسه وعادت هي إلى الكلام فقالت: (أظن جيرالد ستأتي في العام المقبل)
كانت دائماً تفكر في بناتها، ولم يستطيع حملها على التفكير فيه، فشعر الآن بخيبة أمله، لأنه حتى في هذا الوقت لم يستطع الوصول إلى قلبها. ولكنه سكت فلم يجبها وعادت إلى الكلام فقالت:(وأظن كلير تستطيبه أن تأتي شهراً في الخريف. . . مسكينة فرانسين! إنني أرجو لها السعادة).
عاد إليه شعوره بالغيرة من بناته ولكنه كتمه كعادته وسكت، فقالت:(لقد سمعت من بنت عمي دوليس في الأسبوع الماضي - ولم أستطيع إخبارك إلا بعد انتهاء العرس - سمعت أنها تدير الآن نادياً للفتيات في جنوب لوندار)
فخفق قلب جون وقال: (ثم ماذا)
قالت: (وقد اقترحت على أن أنضم إليها فهي في أشد الحاجة للمساعدة. وقالت إنني سأكون منفردة هنا مستوحشة بسبب غيبة البنات وهي ترى أن أقيم معها وآتي إلى هنا يوما في الأسبوع. وأنت تتغيب عن المنزل طول النهار وفي إمكانك قضاء بقية الأسبوع في غيبتي وحدك)
دارت الدنيا أمام عينيه وشعر بالذل. ولكمن عزته المجروحة أبت إظهار ذله فقال: (افعلي ما ترينه)
قالت: (وإذا كنت تريدني فإني مستعدة لأداء واجبي)
فقال: (الواجب لا دخل له هنا)
فقالت: (إننا سنقرر الرأي في هذا الموضوع فيما بعد) فرأى الزوج أن أي قرار خير من الشك وأن عليه أن يواجه الليلة مالا بد من واجهته فيما بعد. وهو يريدها ولكن على غير هذا الشرط فقال: (إنني أرى أن تقرري الرأي الآن).
فالتفتت ونظرت إليه في صمت. ولكنه لم يطق أن ينظر إليها. وارتكن على ظهر الكرسي وكانت أمامه رزمة من الخطابات فأخذ يقلبها بصورة آلية ويقرأ العنوانات فأجابته: (سأذهب إلا إذا كنت في حاجة إلى)
فكان رده المختصر: (لست في حاجة إليك)
فتركت الغرفة في الحال وتركته بين أنقاض أحلامه
وبعد أسبوع كان الزوج جالسا وحده. وكانت الزوجة قد ذهبت في اليوم التالي للعرس إلى
بنت عمها. وكانت نفس الزوج لا تزال متألمة من جرح عزتها. وشعر بالتعاسة لاعتقاده أنه كان من الحماقة أن يتركها تذهب دون أن يقاوم، فهو يشعر بأن الحياة بدونها لا تطاق.
وقف أمام النافذة التي وقفت أمامها منذ أسبوع وفكر فيها وفيما تعمله الآن. وكانت صورتها المكبرة على الحائط فقال في نفسه: (ترى كيف حالتها الآن؟ لعلها في خطر!)
وإنما أتى بهذه الكلمة إلى ذهنه أن أعصابه كانت شديدة الاضطراب. ولم يكن يطيق النظر إلى صورتها.
وكانت الغرفة مملوءة بصور أخرى لبناته فنظر إلى تلك الصور وهو يبتسم ابتسامة مرة وقال: إنها انتصرت عليّ طول الخط وإنني هزمت على طول الخط كذلك.
ونظر إلى الساعة، وكان الليل قد انتصف وتشبثت بذهنه فكرة الخطر، وفكر في مقدار المسافة التي قطعها إذا أراد زيارتها، ولكنه شعر بأن ذهابه في مثل هذه الساعة ليسأل عن صحتها لا يمكن أن يكون إلا حماقة. واختصم في ذهنه العقل مع الغريزة فكانت الأخيرة هي الغالبة.
وكان الكل قد ناموا، ولكن فتحه جراج السيارة لا يستغرق إلا دقائق، ثم يخرج السيارة ويوقظ السائق، فيخبره بأنه ذاهب إلى جنوب لوندرا، وأنه ليس في حاجة إليه.
وفعل ذلك، واخترقت السيارة الطرق، وهو يزيد السرعة قبل فوات الوقت. ولم يكن قد زار من قبل النادي الذي تقيم فيه زوجته ولكنه كان يعرق عنوانه، وكانت الغريزة وحدها هي التي تقوده الآن. ثم تلاشى حكمها، وتحكم العقل فأسند ظهره إلى الكرسي، وأخذ يضحك من حماقته، وهو يخترق الشوارع الخالية. . إلى أين يذهب؟ لا إلى شيء!
وأخذ يدق الجرس. . فلو رآه حد في الطرق الخالية لخاله سكران!
ووصل إلى النادي، فنزل من السيارة ونظر إلى النوافذ فلم ير إلا دخانا يتصاعد. وأصغى فسمع أصواتا ندل على وجود حريق في النادي، فوضع يده في فمه، وصفر ليدعو الجنود، وأخذ يحاول كسر النافذة بالآلات التي يصلح بها السيارة. وفي الوقت الذي كان يصيح فيه باستدعاء المطافئ استطاع الدخول من الفتحة التي أوجدها في النافذة فجرح رأسه ويداه، وكاد الدخان يخنقه فتراجع حتى تمكن من وضع منديل في فمه، ثم دخل مقتحما وأخذ يصيح (يا هيلين! يا هيلين!) فخرجت إليه سيدة قال لها:(إن المكان يحترق! أين زوجتي؟)
قالت: (أنها نائمة في الطابق الأعلى).
ثم صعدت معه وصاح باسمها فخرجت ودهشت وقالت (لماذا جئت ياجون؟)
فقال: (أسرعي بقليل من الماء)
فأسرعت وعند عودتها تذكر أنه لم يشرح لها سبب مجيئه فقال: (إن النار في البناء! لا ينبغي أن نضيع الوقت) ثم وضع منديلا مبلولا آخر حول فمها وبل المنديل الذي حول فمه ونزل معها في وسط الدخان المتصاعد، فلما رآها يكاد يغمى عليها حملها بين يديه، وكانت الحرارة شديدة حتى يكاد يغمى عليه أيضا، وخرج بها من النافذة.
كانت الساعة الثالثة صباحاً عندما عاد الزوجان إلى منزلهما ولم يتبادلا إلا كلمات قليلة وكانت الزوجة شديدة الشحوب وقالت: (لقد جئت إلى هنا يوم العطلة السالفة. ولكنك لم تجئ فيه).
قال: (نعم هذا هو الواجب علي في الظروف)
قالت: (أي ظروف؟) فلم يجب. وقالت
(ما الذي جعلك تأتي في هذه الساعة وكيف علمت؟)
قال: (لا أعلم ولكن كان مستوليا على شعور غريب بأنك في خطر فأتيت وأنا أعرف أن إطاعة هذا الشعور حماقة، ولكني لم أستطيع منع نفسي. وما كنت أصدق القصص التي من هذا القبيل وكنت أسمع صوتا يقول لي إن زوجتك المحبوبة في خطر).
فسكتت مدة طويلة ثم قالت: (لم أكن أعلم أنك تحبني إلى هذا الحد)
قال: (إنني رجل محتجز يا عزيزتي وقد كنت أعتقد أنك تدركين حبي لك. ولكنني لم اكن أستطيع الوصول إليك لأنك تهربين مني).
فقالت: (نعم لأني خائفة)
قال: (خائفة!! من أي شيء؟)
فقال: (خائفة من إظهار محبة أكبر من المنزلة التي وضعتني فيها. إن لي عزة نفس وذلك كنت أجعل بناتي ساترا حتى لا تراني)
قال: (وكيف عرفت المنزلة التي أضعك فيها)
فقالت: (عرفتها من ذهابك بعد العشاء مباشرة إلى مكتبك كأنك لا تريد أن تكون معنا)
قال: (إنني كنت أفعل لأني لا أريد أن أرى صواحب بناتي ولا تلك الضجة التي تحول بيني وبينك)
فقالت: (وكيف لا تسر عندما أكلمك عن بناتنا؟)
قال: (كيف عرفت ذلك؟)
فقالت: (إنك خير من يقوم بواجبات الأب. ولكني عرفت ذلك من ملاحظتي ما يبدو على وجهك أثناء الحديث عنهن. وفي يوم الأربعاء الماضي أردت أن أمتحن شعورك وكان الخطاب بنت عمي قد وصل إلى. ولكنني لم أعره عناية. وقد جربتك بالتكلم عنه وقلت في نفسي إنك إذا سمحت بذهابي فإن ذلك سيسحق قلبي. وأنا لم أكن أريد الذهاب إلى بنت عمي)
فقطب حاجبيه وقال: (إنك تذكرت عزة نفسك ولم تتذكري عزة نفسي! وقولك دلني على أنك تريدين الذهاب. وقد كنت في غيابك تعسا للغاية) ثم وقف فجأة وقال: (لقد كنا مغفلين)
وتناول كفها بين كفيه وقال: (أظنني وجدت نفسك بعد هذه السنوات ولن أتركك تفلتين بعد الآن).
فقالت هامسة: (إنني أحبك كما لم أحب أحدا في الوجود)
ثم وضع ثغره فوق شعرها الناعم اللامع وقال: (لك أن تتكلمي عن بناتنا الآن فما دمت أنك كنت تتخذينهن ساترا بيني وبينك. فإني لا أغار منهن).
فابتسمت وقالت: (لقد أدركت نفسك أيها الطفل الكبير)
ع. ن