المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1007 - بتاريخ: 20 - 10 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٠٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1007

- بتاريخ: 20 - 10 - 1952

ص: -1

‌قوة الكلمة

للأستاذ سيد قطب

في بعض اللحظات لحظات الكفاح المرير الذي كانت الأمة تزاوله في العهد الذي مات. . كانت تراودني فكرة يائسة، وتلح على إلحاحا عني. . أسأل نفسي في هذه اللحظات. . ما جدوى أن تكتب؟ ما قيمة هذه المقالات التي تزحم بها الصحف؟ أليس خيرا من هذا كله أن تحصل لك على مسدس وبضع طلقات، ثم تنطلق تسوي بهذه الطلقات حسابك مع الرؤوس الباغية الطاغية؟ ما جدوى أن تجلس إلى مكتب، فتفرغ حنقك كله في كلمات، وتصرف طاقتك كلها في شيء لا يبغ إلى تلك الرؤوس التي يجب أن تطاح؟!

ولست أنكر أن هذا اللحظات كانت تعذبني. كانت تملأ نفسي ظلاما ويأساً. كانت تشعرني بالخجل أمام نفسي. خجل العجز عن عمل شيء ذي قيمة!

ولكن هذه اللحظات لحسن الحظ لم تكن تطول. كان يعاودني الأمل في ورقة الكلمة. كنت ألقي بعض من قرءوا لي مقالا، أو أتلقي رسائل من بعضهم، فأسترد ثقتي في جدوى هذه الأداة. كنت أحس أنهم يتواعدون معي على شيء ما. شيء غامض في نفوسهم، ولكنهم ينتظرونه، ويستعدون له، ويثقون به!

كنت أحس أن كتابات المكافحين الأحرار لا تذهب كلها سدى، لأنها توقظ النائمين، وتثير الهامدين، وتؤلف تياراً شعبيا يتجه إلى وجهة معينة، وإن لم تكن بعد متبلورة ولا واضحة. . ولكن شيئا ما كان يتم تحت تأثير هذه الأقلام.

ولكنني مع هذا كنت أعود - في لحظات اليأس والظلام - لأتهم نفسي. كنت أقول: أليس هذا الإيمان بقوة الكلمة تعلة العجز عن عمل شيء آخر؟ ألا يكون هذا ضحكا من الإنسان على نفسه ليطمئن إلى أنه يعمل شيئا. وليهرب من تبعة التقصير والجبن؟

وهكذا كنت أعيش طوال فترة الكفاح الماضية. . حتى شاء الله أن يطلع الفجر الجديد، وأن تنكشف الغمة المعتمة، وأن يتنفس الناس الهواء النظيف الذي حملته الثورة، وأن يصبح هذا الصراع ذكرى يضمها التاريخ في ثناياه. .

واليوم خطر لي أن أرجع إلى بعض القصاصات التي تحو بعض ما كنت أكتب في ذلك العهد الرهيب. .

ص: 1

ولست أنكر أنني فوجئت مفاجأة شديدة. . إن قوة الكلمة شيء عجيب. إن أحلاما كاملة قد أصبحت حقيقة واقعة، وأن نبوءات قد صحت برمتها. . لكأنما كانت أبواب السماء مفتوحة والمكافحون الأحرار يكتبون ويتوجهون بكل قلوبهم مع هذه الكلمات. . وإلا فمن يصدق - حتى أنا - أنني كتبت منذ أكثر من عام مثل هذه الفقرات:

(لقد بدأنا في هذه المرة بدءا أكيد لأننا بدأنا بدءا صحيحا. لقد خر اثنان من الفلاحين مضرجين بدمائهما الطاهرة، أولهما في كفور نجم بتفتيش محمد علي. . والثاني في بهوت في تفتيش البدراوي.

(لقد سالت دماؤهما في هذه المرة لا في ثأر عائلي ولا في معركة انتخابية كما اعتادت سجلات البوليس أن تسجل، ولكنها سالت في معركة الأرض! الأرض الطيبة التي روى تربتها الملايين بالعرق والدموع، ولم ينالوا منها شيئا، ثم هاهم أولاء أخيرا قد بدءوا يروونها بالدماء. ولن تخونهم الثمرة في هذه المرة لأن بذرة الدم لم تخب يوما في التاريخ ولن تخيب.

(لقد خر أول شهيدين في معركة الأرض المقدسة أردتهما الأيدي الأثيمة. وسيتبعهما آخرون حتما. فهذا الإقطاعي المجنون لن يصير على أن يرفع العبيد رءوسهم. ولن يطيق أن يسوء أدب الرقيق في حق الأسياد. ولن يكف عن إراقة الدماء وإذن فلقد بدأنا!

(إن ملكية هذه الأرض الطيبة قد ردت على أصحابها الحقيقيين. إن وثيقة التملك السماوية قد كتبت ولن تفسخ أبدا. . لقد كتبت بالمادة التي لا تمحي. كتبت بالدماء، فإذا لم تكن ذات الأرض قد وردت بعد، فإنها منذ اليوم تعد مغصوبة والاغتصاب لن يدوم.

(إن هؤلاء الإقطاعيين الحمقى سيوقعون في كل يوم وثيقة بالتنازل عن الأرض المغصوبة. سيوقعونها في صورة رصاصة طائشة تخترق صدر شهيد، أو بلطة مجرمة تمزق جثمان بطل. ولكنها ستكون هي هي وثيقة التنازل عن الأرض ووثيقة التملك للآخرين المحرومين.

(لقد طال ليل الظلم وطال ارتقابنا للفجر الجديد. . ثم هاهو الفجر يلوح. . لقد تلألأت أشعته الأولى، تلألأت في هذه القطرات الزكية من الدم المسفوح. إنها ليست قطرات من الدم الرخيص في معركة انتخابية، إنها دماء عزيزة غالية لأن وراءها قضية طال عليها

ص: 2

العمر. قضية مرت بها القرون تلو القرون. قضية كانت في حاجة إلى مستند لا ينقض، وغلى حجة لا ترد، ولقد كتبت هذه الحجة الأزلية في كفور نجم وفي بهوت. كتبت وانتهت وليس إلى مرد من سبيل!

وستكتب في كل يوم وثيقة جديدة. ستكتب بفضل حماسة الحمقى الذين لا يؤمنون بالنذر، الذين تأخذهم العزة بالإثم، الذين مردوا على التكبر الفاجر والاستغلال القذر. الذين لا يطيقون أن تقف قامة واحدة منتصبة، ولا رأس واحد مرفوعا، الذين ألفت عيونهم رؤية الراكعين الساجدين في عشرات القرون.

إن هذه القطرات الطاهرة من الدماء العزيزة ستتحول نار مقدسة تحرق، ونورا سماويا يضئ، ولن تخمد الشعلة أبدا بإذن الله، ولن ينطفئ النور أبدا وهو من نور الله!

أللهم حمدا لك وشكرا. . أللهم حمدا لك وشكرا. . أللهم بارك نارك المقدسة التي أوقدت، ونورك السماوي الذي أطلعت ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. .)

قرأت هذه الفقرات التي كتبت منذ أكثر من عام مضى ثم عدت أسأل: أية قوة غير قوة الكلمة كانت تملك في ذلك الوقت الرهيب المظلم أن تشق حجاب الغيب، وأن تتجاوز العقبات والأشواك، وأن ترقم في السجل الخالد ذلك الواقع المشهود؟

ثم عدت أسأل من جديد: ما سر قوة الكلمة؟

إن السر العجيب ليس في بريق الكلمات وموسيقى العبارات، إنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات وما وراء المدلولات! أنه في ذلك الصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية، والمعنى المفهوم إلى واقع ملموس.

في هذا يمكن سر الكلمة وفي شيء آخر: في استمداد الكلمات من ضمائر الشعوب، ومن مشاعر الإنسان، ومن صرخات البشرية، ومن دماء المكافحين الأحرار.

إنه ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها، وتجمعها، وتدفعها. . إنها الكلمات التي تقطر دماء لأنها تقتات قلب إنسان حي. كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان. أما الكلمات التي ولدت في الأفواه، وقذفت بها الألسنة، ولم تتصل بذلك النبع الإلهي الحي، فقد ولدت ميتة. ولم تدفع بالبشرية شبرا واحداً إلى الأمام. . إن أحدا لن يتبناها، لأنها ولدت ميتة. والناس لا يتبنون الأموات!

ص: 3

إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا. ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم. أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم. أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق. . إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء، انتفضت حية، وعاشت بين الأحياء!

فإلى الذين يجلسون إلى مكاتبهم، يكدون قرائحهم، لينتقوا اللفظ الأنيق، وينقوا العبارة الرنانة، ويلفقوا الأخيلة البراقة. . إلى هؤلاء أتوجه بالنصيحة: وفروا عليكم كل هذا العناء؛ فإن ومضة روح، وإشراق قلب، بالنار المقدسة، نار الإيمان بالفكرة. . هو وحده سبب الحياة. حياة الكلمات وحياة العبارات!

ثم ماذا؟

ثم لا يقعدن القادر على العمل وهو يطمح أن يؤدي واجبه بالكلام. . ذلك خاطر أحب أن أحذر منه بعد ما أسلفت من الإيمان بقوة الكلمة، وإلى آثارها الملموسة في الحياة.

إنه في كثير من الأحيان يكون القول الفصل للشاعر الذي يقول:

السيف أصدق إنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

وفي كثير من الأحيان يصبح من العبث أن نظل نتكلم ونتكلم، ثم لا نفعل شيئا. إن الكلمات في هذه الحالة تكون استهلاكا للطاقة الكامنة وليست توليدا للطاقة.

ثم إن عددا نادرا من الكتاب الموهوبين هم الذين يملكون أن يحولوا الكلمات إلى طاقة. أما القاعدة فهي أن يعمل الناس، وأن يحققوا بالعمل ما يريدونه من مقدرات.

والكلمة ذاتها - منهما تكن مخلصة وخالقة - فإنها لا تستطيع أن تفعل شيئا، قبل أن تستحيل حركة، وأن تتقمص إنسانا. الناس هم الكلمات الحية التي تؤدي معانيها أبلغ أداء.

إن الفارق الأساسي بين العقائد والفلسفات أن العقيدة كلمة حية في كيان إنسان، ويعمل على تحقيقها إنسان. أما الفلسفة فهي كلمة ميتة، مجردة من اللحم والدم، تعيش في ذهن، وتبقى باردة ساكنة هناك.

ومن هنا كانت العقائد هي الحادي الذي سارت البشرية على حدائه، في درب الحياة المنعرج الطويل. تصعد الروابي وتهبط السفوح، وتردد حداءه في المتاهة المهلكة، فتنجو وتحيا، وترتقي وتثق في رسالتها، لأنها رسالة تنبع من أعماق الضمير، ويشتعل بها

ص: 4

الوجدان، ويتلألأ بها الشعور.

إنه لا بد من عقيدة. وقوة الكلمة إنما تبع من أنها ترجمان العقيدة. والعقيدة هي التي يغذيها الناس بحياتهم فتوهب لهم الحياة.

سيد قطب

ص: 5

‌دولة بلا دين!؟

ما هذا الكلام الفارغ الذي نقرأه في بعض صحف مصر؟ فمن دعوة إلى حذف النص على دين الدولة من الدستور. ومن انتقاد للدولة الدينية، ومن أمثال ذلك تفيض به الصحف، وتنطلق به الأقلام؟

والعجيب أن هؤلاء الذين يأتون بهذا الكلام، لا يعرفون الإسلام، ولا يعرفون علوم العصر؛ فهم يقررون بأن مصر هي الدولة الوحيدة التي نص في دستورها على أن دينها الإسلام، مع أن المثقفين الثقافة القانونية يعلمون أن على ظهر الأرض اليوم تسع عشرة دولة قد اشتمل دستور كل واحدة منها على مثل هذا النص هي: السويد والنرويج والدانمارك وأيرلندا والأرجنتين وبارغواي وبوليفيا وكولومبيا وبيرو وكوستاريكا وبناما وإيران وبولونيا ورومانيا ونيكاراغوا والأفغان واليونان وبلغاريا وسيام، حتى أن منها من نص دستوره على مذهب معين كاليونان وبلغاريا (الأرثوذكسية الشرقية) وبولونيا (الكاثوليكية الرومانية)، ورومانيا (الأرثوذكسية الرومانية)، ونيكاراغوا وبوليفيا والأرجنتين وبارغواي (الكاثوليكية الرسولية الرومانية)، وإيران (الجعفرية الاثنا عشرية)، والسويد (الإنجيلية السليمة على الصورة التي رسمتها طائفة أوغسبورغ الطاهرية وأقرها مجمع أو بسال سنة 1593)، ونروج والدانمارك (الإنجيلية اللوثرية)، وأيرلندا وبيرو (الكاثوليكية الرسولية الرومانية)، وبناما (الكاثوليكية).

ونحن نقول هذا لا لنكسب لقضيتنا دليلا، ونقيم على دعوانا بينة، بل لأننا نعلم أن هؤلاء الكتاب، الداعين إلى حذف النص على الدين من دستور مصر، لا يفهمون بالحجة والمنطق والبرهان، ولا يميزون بين الرأي والرأي، بمقدار ما فيه من حق وباطل، بل بالدمغة التي يقرؤونها عليه، فإن كان عليه دمغة أمريكا فهو عين اليقين، وإن كان عليه دمغة إنكلترا فهو حق اليقين فقط. وإن كان عليه دمغة فرنسا فهو اليقين، أما إن كان مصنوعا في الشرق فليس فيه إلا البطلان!

ولا تغرر كم أسماؤهم الكبيرة، فإنها طبول، وإنهم بلا عقول، أو إنهم لا يستعملون عقولهم. إني أقول الحق ولله لست أريد السباب.

وطالما ناظرت رجالا من هؤلاء فكنت آتيهم بكلمة معزوة لإمام من أئمتنا فيسخرون منها، فآتى بأخرى في معناها لعالم أو فيلسوف من أوربا أو أمريكا فيخضعون ويخشعون

ص: 6

ويسلمون.

والذي يثبت لكم أن كلامهم تقليد بلا فهم، هو أنهم سمعوا الإفرنج يقولون بفصل الدين عن السياسة، فقالوا بذلك وكرروه حتى صار من الحديث المعاد والكلام المملول، ولم يفهموا إلى الآن ماذا يريد الإفرنج بلفظ الدين.

الدين عند الإفرنج هو الذي يحدد صلة الإنسان بالله. لذلك قالوا: الدين لله والوطن للجميع، وقصروا الدين على الكنيسة.

ونحن لا ننازع في شيء من هذا، ولا نقول بأن للدين (بهذا المعنى) صلة بالسياسة، ولا نقول بأن له دخلا في الدولة، ولكن ماذا نصنع إذا كان الإسلام يختلف بطبيعته عن النصرانية وعن الأديان الأخرى، بأن كان فيه ما يحدد صلة الإنسان بالله وهو الدين (العبادات)، وكان فيه ما يحدد صلته بأهله وأسرته، (الأحوال الشخصية)، وكان فيه ما يحدد صلات الناس بعضهم بعض (المعاملات) وكان فيه حقوق عامة جزائية (العقوبات) ودستورية (أحكام البيعة وما يتصل بها من مباحث الفقه)، وكان فيه حقوق دولية عامة تحدد صلات الدولة بعضها ببعض، وخاصة تحدد صلات رعايا دولة بدولة أخرى، كل هذا في الإسلام وهو موجود في كل كتب الفقه، فهل يمكن أن نفصل بعضه عن الإسلام؟ هل يريد هؤلاء المجددون المقلدون أن نحذف سورة براءة مثلا من القرآن لأنها من الحقوق الدولية وليست من الدين، كما يفهم الإفرنج من كلمة الدين؟

نحن لا نريد أن ندخل الدين، الذي هو العبادات، أي - الصلاة والصوم - في الدولة، ولكن لا نستطيع أن نقيم دولة أو نضع قانونا، مخالفين أحكام الإسلام في إقامة الدولة، وفي موضوع هذا القانون.

هذا كلام واضح صريح مفهوم، صرت أستحي من إعادته ونشره، لكثرة ما قلناه ونشرناه. ولكن هؤلاء الناس لا يفهمونه أو هم لا يريدون أن يفهموه، وهو باطل في نظرهم وسيبقى باطلا إلى أن يقرؤوه باللغة الإنكليزية في مجلة تطبع في نيويورك أو سان فرنسسكو، أو في أي قرية من قرى أمريكا، هنالك يصير حقا ويهتفون له، ويعيدونه ويفخرون بأنهم كانوا منتسبين (بالمصادفة) إلى هذا الدين العظيم.

وإلا فهل يمكن أن تكون دولة بلا دين؟ لا أقول لكم اقرؤوا كتبنا ومباحث علمائنا. بل

ص: 7

أحيلكم على العلامة دوركايم ليثبت لكم أن ذلك ضد طبيعة الإنسان.

وماذا تكون حال مصر لو خلت لا سمح الله من الدين كما يتمنى هؤلاء (العقلاء)

إنه لا يبقى إلا القانون وازعا، والقانون يمثله الشرطي، فإن أنت لم يرك الشرطي فقد جاز لك أن تسرق وتزني وتعمل السبع الموبقات. وهذه كانت شريعة إسبرطة، كانت السرقة جائزة ما لم تكشف، فأين هذا من خوف الله وازعا؟ إن المؤمن له من إيمانه شرطي مرافق لا يفارقه، يمنعه من كل محرم. فهل من المصلحة يا حضرات العقلاء الكبار جدا، أن تمحوا هذا الوازع من النفوس؟

وماذا يضركم أو يضر النصارى أو اليهود أو الإنس أو الجن إن كان دين مصر الرسمي الإسلام؟ هل أمر الإسلام يوما بظلم أحد من الموافقين والمخالفين أو أذن به؟ هل دعا إلى فاحشة؟ هل حارب ثقافة أو علما؟ هل عارض إصلاحا أو تقدما؟

إن ذنبه أنه يحرم الزنا والفسوق والقمار والربا وسائر الفواحش والنفوس تحب هذه الأمور، وتود الانطلاق إليها بحرية كحرية المجنون الذي ينزع سراويله ويكشف عورته ويدخل المسجد، لا تريد من يقيدها ويحجزها.

إنها الخلاف بين الحرية المجرمة والقيد، بين الجنون والعقل فهل تريدون أن نترك العقل ونصير مجانين؟

ومن سيكون الضحية؟ نحن! لأن أكثر هؤلاء لا بيوت لهم ولا بنات ولا أخوات، وهم عزاب فساق يريدون أن نطلق لهم العنان، ليعيثوا في بناتنا وأخواتنا فسادا، فهل نكون رجعيين جامدين إن قلنا لهم: مكانكم إنا لا نستطيع أن نسمح لكم بهذا؟

إننا حين ندعو إلى الدين، وإلى الدولة الإسلامية، إنما ندافع عن أعراضنا وأموالنا، فهل علينا في هذا ملام؟

ثم إن الديمقراطية حكم الأكثرية، ونحن (المسلمين المتمسكين) الأكثرية في كل بلدان الشرق الأدنى، فهل تريد الأقلية المتجردة المنطلقة أن نحكمها فينا؟

أين الديمقراطية إذن؟

الديمقراطية مشتقة من ديموس باليونانية، وديموس هو الشعب، والشعب يريد الحكومة الإسلامية.

ص: 8

فهل بعد هذا كلام؟!

دمشق

(ع)

ص: 9

‌بين الشعر والسياسة

المنفلوطي الشاعر الجريء

للأستاذ محمد رجب البيومي

حين انتقل المنفلوطي إلى رحمة ربه قوبل أدبه بعاصفة شديدة من النقد، واتجهت المعاول الحادة إلى تحطيم بنائه الراسخ في دولة الأدب، حتى ظن الكثيرون أن هذا الصرح الناهض سيخر منهدما في أمد قريب، دون أن يجد الدعائم الواقية من السقوط، وكنت تجد من يقولون عن مصطفى أنه أديب يعني بالديباجة الصافية، والأسلوب الرائق، دون أن يقدم للقارئ فكرة حية أو معنى جميلا. فإذا قلت لهؤلاء إن مقالات الكاتب الكبير لا تعدم الفكرة الحية، والرأي الصائب غير أنها كسيت ثوبا جميلا من سلاسة اللفظ وإشراق التركيب، وجدتهم يواجهونك بنقد آخر فيقولون: إن الكاتب العاطفي قد وقف بأسلوبه عند تصوير البؤس والحرمان، وما يدفعان إليه من كآبة موحشة، ودموع وزفرات، وكان عليه أن يصور من الحياة جانبها الباسم الوضئ، فيرسم لقارئه لوحات مرحة توشيها البهجة والطري والابتسام!! كأنما كان لزاما عليه أن يتنكر لعواطفه الإنسانية فيضحك ويغرد في مجتمع بائس فقير مريض. . وربما تحذلق ناقد ثالث فادعى أن أدب الكاتب تافه ساذج رغم ما يسطع فيه من إشراق، لأنه إذا ترجم إلى لغة أجنبية فقد رونق اللفظ، وبهجة التركيب، وظهر المعنى هزيلا تافها يتسم بالضعف والسطحية والإسفاف، ونحن نعلم أن كل أثر يترجم إلى غير لغته - ولو كان كتاب الله الكريم - يفقد لا محالة بعض ما يتسم به من الروعة والتأثير، فلماذا نحاسب المنفلوطي العظيم على أمر لا حيلة له فيه، إلا أن تكون ممن يتصيدون المثالب تصيدا مغرضاً ثم يلصقونها جزافا بالبررة الأبرياء.

إن أكبر دليل على قوة المنفلوطي وإبداعه، هو خلود أدبه، فقد مر ما يقرب من ثلاثين عاما على وفاته، وما زالت كتبه ورواياته تطبع وتكرر طبعاتها الواحد تلو الواحدة، ومازال الشباب يجدون في (نظراته) ما يغذي عواطفهم الجائعة، ويروى مشاعرهم الصادية، كما يلمسون في رواياته البديعة سحراً أخاه يستولي على النفوس، ولا أكاد أعرف أديبا لامعا ممن عاصر المنفلوطي ومن جاء بعده لم ينتفع بأدبه، حتى وصل إلى القمة على نبراس بيانه، بل إن التلاميذ في المدارس والمعاهد والكليات، يضلون السبيل إلى الأدب الرائق

ص: 10

الجذاب، فتتعثر بهم الخطوات، وتصارعهم الركاكة والتفكك والإسفاف، فإذا اتجهوا إلى أدب المنفلوطي الخالد، قادهم بسحره الأخاذ إلى الروعة والقوة والصفاء.

لقد كنت أدرس بعض النصوص النثرية لأعلام الأدب المعاصر بإحدى المدارس الثانوية، فكنت أعرض نماذج متنوعة فرضت فرضا عليّ، وقد لاحظت أن الطلاب يهشون لأدب المنفلوطي، ويطلبون المزيد من إنتاجه، ويسارعون إلى حفظ دون أن يرقهم المدرس بالإلحاح قي ذلك، ولم أر من يشاركه هذه الحظوة لدى الطلاب غير الأستاذ الزيات والدكتور طه حسين، وهذا هو الحق الذي أعترف به دون مجاملة أو إطراء. وربما ظن بعض الناس أن المنفلوطي مختار معشوق لسهولة لفظه، وقرب معانيه من إفهام التلاميذ، كلا والله، فقد كنت أختار لغير من الأعلام قطعا يسيرة، قريبة المتناول، فتقابل بالإعراض والصدود. وكم من أديب عشق المنفلوطي يافعا، وما يزال حبه يتأكد ويعظم دون أن يهن على تعاقب السنين، واتساع المدارك والإفهام.

دعاني من نجد فإن سنينه

لبعن بنا شيبا وشيبننا مردا

وقد لا يعرف كثير من الناس أن المنفلوطي الكاتب قد بدأ حياته الأدبية شاعرا ينظم القصائد المجودة، ويرسل المقطوعات الطريف، فقد ساعدته نشأته الأزهرية على تصفح دواوين الشعراء ورزقه الله ذوقا سليما، وأذنا موسيقية، فعكف على استظهار الروائع الخالدة في الشعر العربي حتى اجتمعت له ثورة أدبية ممتازة في سن مبكرة، وكان الشعر في نهاية القرن السالف يتجه وجه تقليدية باليه، كما كانت الصحف لا تحفل إلا بالمدائح الخديوية المبتدئة بالغزل الصناعي الثقيل، وتتجه براعة كل ناظم إلى تصيد المحسنات المتكلفة من طباق وتورية وجناس على وجه ينبئ الإسفاف والافتعال، وقد استطاع مصطفى الناشئ أن يحتفظ في شعره التقليدي برونق صاف، وقوة مكتسبة من البارودي زعيم المدرسة الشعرية الأصلية لعهده، ومن أوائل شعره.

أردنا سؤال الدار عمن تحملوا

فلم ندر من فرط الأسى كيف نسأل

وهاج لنا الذكرى معاهد أصبحت

تعيث صباً فيها وتعبث شمأل

كما كان الناشئ المتأدب يحاكي شعراء العصر العباسي محاكاة تدل على بصر بالأسلوب، واعتناء بتجويده وإبداعه، ومحافظة على النهج الاتباعي العتيق. وقد نظم في مديح الأستاذ

ص: 11

الإمام الشيخ محمد عبده قصائد تنم عن إخلاص قوي، وتقدير عظيم، ثم سعى إليه فأسبغ عليه عطفه، واكتسب منه أدبا وعلما وخلقا، وقد أرشده الأستاذ إلى بعض الذخائر الثمينة من أمهات الكتب العربية فقرأها قراءة الدارس المتعمق، وزاد تعلقه بالشعر، فخاض بحوره ولهج بقوافيه، وزاد إنتاجه التقليدي قوة وصفاء حتى قارب البارودي في فحولة المطلع، ومتانة الأسر، وانسجام اللفظ، ووحدة الاتجاه، وإليك أحد مطالعه الرصينة في مديح الأستاذ الإمام:

سقاها وحياها ملث من القطر

وإن أصبحت قفراء في منزل قفر

طواها البلى طي الشحيح رداءه

وليس لما يطوي الجديدان من نشر

مسارح آساد ومثوى أراقم

تجاور في قيعانها الغيد بالحجر

لقد فعلت أيدي السوافي بنؤيها

وأحجارها ما يفعل الدهر بالحر

وقفت بها في وحشة الليل وقفة

أثار شجاها كامن الوجد في صدري

فأنشأت أبكي والأسى يتبع الأسى

إلى أن وجدت الصخر يبكي على الصخر

وكان الاحتلال الإنجليزي - إذ ذاك - حديث عهد بالبلاد، والمصريون في حسرة بالغة لما أصاب الثورة العرابية من فشل جره إليها الرشوة والخيانة وفساد الضمائر عند بعض الناس، والمنفلوطي كما نعلم سريع التأثر، رقيق الإحساس، قوي الشعور، فكان يفكر كثيرا في مصائب وطنه ورزاياه، ثم نظم قصيدة ثورية نشرها في كتاب خاص يندد فيها بالاحتلال وصنائعه من المصريين، كما عرض بالخديوي وحاشيته، ولم يذكر في نهايتها توقيعه الصريح، بل جعل الإمضاء رمزا غامضا لا يدل على إنسان!! وقد شاعت قصيدته فتناقلها الناس، وكان لها دوي بعيد، وبحث الطغاة عن القائل فلم يجدوه.

وواضح أن جمهرة المثقفين في مصر كانوا - ولا يزالون -

يبغضون الأسرة الحاكمة بغضا لا مزيد عليه، فهم يعلمون ما

جرع إسماعيل على البلاد من خراب هائل، نتيجة لديونه

الفاحشة التي استنفدها في ملذاته وشهواته، وبناء قصوره

وحدائقه، ومتعه وحريمه، واختلاس حاشيته، وجاء ولده توفيق

ص: 12

فناهض حريات الشعب، وخان وطنه وعرشه، وقدمه لقمة

سائغة للاحتلال، لينتقم من عرابي الزعيم البطل الناهض.

ولئن تظاهر عباس بعده بالوطنية والصلاح في مستهل حياته،

فقد كانت أطماعه تمتد إلى أموال الشعب وضياعه، فقد أراد

أن يأخذ الآلاف من أفدنه الأوقاف المثمرة الخصبة، نظير

صحراء مقفرة في أرضه الشاسعة لا تجود بشيء!! فوقف

أمامه الأستاذ الإمام وقفة رهيبة، قلمت أظافره، وحطمت

كبرياءه، وأنذرته بالفضيحة الطامة، وابتدأ العداء السافر بين

الرجلين، فأوعز الخديوي بمهاجمة الإمام على صفحات

الجرائد المأجورة، ودفع الأقلام الخائنة إلى ثلمه وانتقاصه،

وكان المنفلوطي من شيعة الإمام وتلاميذه المقربين، فهاجت

ثائرته على الباطل، ونشر في جريدة الصاعقة (4111897)

التي كان يصدرها الصحفي الوطني الجريء المرحوم الأستاذ

أحمد فؤاد قصيدة قاسية في هجائه، فأحدثت دويا تردد في

المحافل لما تضمنته من تنديد بعباس وأجداده الظالمين الطغاة!

وحسبك أن تسمع منها هذه الأبيات، وقد قيلت بمناسبة عودة

عباس من الآستانة إلى مصر:

ص: 13

قدوم ولكن لا أقول سعيد

وعيش وإن طال المدى سيبيد

علام التهاني، هل هناك مآثر

فنفرح، أو سعى لديك حميد

تمر بنا لا طرف نحوك ناظر

ولا قلب من تلك القلوب ودود

تذكرنا رؤياك أيام أنزلت

علينا خطوب من جدودك سود

رمتنا بكم مقدونيا فأصابنا

مصوب سهم بالبلاء سديد

فلما توليتم طغيتم وهكذا

إذا أصبح التركي وهو عميد

فكم سفكت منا دماء بريئة

وكم ضمنت تلك الدماء لحود

وكم ضم بطن البحر أشلاء جمة

تمزق أحشاء لها وكبود

وكم صار شمل للبلاد مشتتا

وخرب قصر في البلاد مشيد

وسيق عظيم القوم منا مكبلا

له تحت أثقال القيود وئيد

فما قام منكم بالعدالة طارف

ولا سار منكم بالسداد تليد

كأني بقصر الملك أصبح بائدا

من الظلم، والظلم المبين يبيد

ويندب في أطلاله اليوم ناعبا

له عند ترداد الرثاء نشيد

أعباس ترجو أن تكون خليفة

كما ود آباء ورام جدود

فيا ليت دنيانا تزول وليتنا

نكون ببطن الأرض حين تسود

وهذه القصيدة وثيقة تاريخية تبين ما ارتكبه الطغاة مما أغفله تاريخنا المشوه الممسوخ، فقد سفكوا الدماء البريئة إشباعا لشهواتهم، وحفروا القبور للضحايا من الشهداء، وملئوا البحار بجثث القتلى تأسيا بطاغوتهم الأكبر عبد الحميد، وفتحوا السجون على مصاريعها لغير المذنبين من ذوي الغيرة والإباء، وتلك فضائح يندي لها الجبين!! وقد ارتاع أولو الأمر أكبر ارتياع لنشر هذا الهجاء الصريح، فصودر ما بقي لدى الباعة من أعداد الجريدة، وقدم إلى النيابة رئيس التحرير، والشاعر الغيور بتهمة العيب في الذات المصونة!! ثم حكم عليهما بالحبس مدة طويلة ذاق المنفلوطي فيها أهوالا لم يتعودها من قبل، وعومل معاملة غادرة لا تليق بوطني يصدر رأيه عن عقيدة وإيمان، فتكونت لديه - في محبسه - من الشعر عقدة نفسية، جعلته يعاف قرضه وتجويده، فبعد أن خرج من السجن توجهت همته إلى الكتابة النثرية، فحلق في أجوائها الفسيحة، وسال نثره المترقرق مسيل الفرات العذب،

ص: 14

يروى النفوس الصادية، ويبد الجوانح الملتهبة، فهتفت باسمه الأصوات، ولهجت به أرواح الشبيبة، وأخذ القراء يترقبون مقالاته الإنسانية كما يترقب المدلج الحائر قبسا من ضياء.

أما القصيدة التي جرت عليه السجن والتشريد فقد ذاعت بين القراء ذيوعا عجيبا، ورغم مصادرة الجريدة فقد تداولها المتأدبون بالنسخ والتدوين، وبقي من لم يقف عليها متعطشا إلى قراءتها، متصيدا لها في مظانها بين مسودات الأدباء، وفي مطارح السمر، ومجالس الأندية، وقد احتال المرحوم الأستاذ سليم سركيس على إذاعتها بطريقة لبقة، فقد أوعز لبعض الأدباء أن يشطرها ويخمسها بما يغير اتجاهها، ثم طبع التشطير والتخميس في صحيفته، وبذلك أتاح لها أن ترى النور مرة ثانية دون أن تنالها الرقابة السياسية بمصادرة أو تحقيق، فقرأها من لم يكن وقف عليها قبل ذلك، وظلت عالقة بالأذهان إلى يومنا هذا، وأذكر أتي سمعتها قبل أعوام من شيخنا الراوية الأستاذ أحمد شفيع السيد الأستاذ بكلية اللغة العربية ثم قرأتها عقب الحركة الوطنية الأخيرة بصحيفة الأدب في جريدة الأخبار. . على أن المنفلوطي لم يترك الشعر مرة واحدة، بعد هذه القصيدة، فقد كان يدفعه إليه حنين جياش يغلبه على أمره، فينظم بعض المقطوعات الرقيقة والقصائد البارعة، كأشعاره في القلم وأسماء بنت أبي بكر وبول وفرجيني، ولكن طاقته الشعرية قد تحولت بلا شك إلى طاقته النثرية، فبدت كتابته سلسلة رقيقة، تتدفق فيها العذوبة وترن بها موسيقى الشعر وأنغامه، فتتفتح لها الأحاسيس، وتتوهج بها العاطفة، وتنفث في النفوس ما ينفثه الشعر من روعة فاتنة وتأثير وأعلامه، وكان يستطيع أن يصدر في تأريخه والتعريف به كتبا متنوعة كما فعل نظراؤه من الأدباء، ولكنه اقتصر على النثر الفني المبدع، ليفسح المجال لإنسانيته الحية، وشاعريته المتوثبة، فجاءت آثاره ترجمانا لما حوله من كآبة وشقاء، وأصبح المصور الأول لعبرات البائسين وهموم الأشقياء، وهل يبتعد الشعر عن هذا النطاق!! سواء كان مطلق الأعنة، أو مقيدا بالأوزان؟ سلام علي مصطفى في رحاب الخالدين من البلغاء!!

محمد رجب البيومي

ص: 15

‌الداء والدواء

للدكتور فضلو حيدر

محاضرة ألقاها في منتدى البردوني

بقية ما نشر في العدد الماضي

الشعب المزمن

كلنا نعلم أن العلم ضروري للحياة ونافه للجسد إذا لم يتعد حدود القوى الجسدية والعقلية والنفسانية. وكل تعب اعتيادي يجب أن يزول بعد راحة قصيرة وينبدل برغبة إلى العمل ثانية. ولذلك يحتاج العامل إلى الراحة. والنوم لا يكفي وحده لإعادة الراحة التامة؛ بل يحتاج الإنسان علاوة عليه إلى ما ندعوه التسلية والاستجمام. والتسلية تشمل كل الأفعال التي نصرف بها وقت الفراغ بلذة تؤدي غالبا إلى توازن العواطف وإزالة التعب الجسدي والضغط النفساني. فوقت التسلية ليس وقت (الفراغ) بل هو ثمين جدا فسويعاته تطيل العمر وتجدد القوى. أما إذا أسئ استعمالها فتنعكس الآية فتزهق القوى وتقصر العمر. ومن السبل المفيدة للاستجمام نذكر الرياضة الجسدية والمطالعة النافعة والموسيقى والرقص والفنون وتربية الحيوانات وغرس الجنائن والصيد وغيرها. وكم من المشاهير خلدوا اسمهم بأعمال كانت لهم نوعا من التسلية.

ومن أعراض التعب المزمن تهيج الأعصاب وقلة الشهية ونقص رغبة العمل بالرغم من الراحة الاعتيادية، فينهض المرء صباحا بدون نشاط. فالمتعب حاد المزاج، ضعيف المناعة للأمراض، يعيش تاعسا ويسئ إلى عيلته ورفاقه، شاذ السلوك، غير مرغوب به في الأعمال والمجتمعات.

ومن مسببات التعب المزمن الاحتكاكات النفسانية كالتردد في الرأي وعدم الثقة بالنفس وبالغير؛ فيستنزف المرء قواه في عراك داخلي بين الإقدام والإحجام وخوف الفشل. ومن أسباب ضعف الثقة بالنفس الجهل وإحجام الفرد عن بحث أعماله بأمانة كي يعلم أسباب الفشل والنجاح. ولو بحث المرء نتائج أعماله لبدل جهله بالمعرفة وخوفه بالثقة. كذلك إذا ساد الحسد والغضب ووخز الضمير والطمع وكثرة الطموح في سلوك الإنسان؛ ساد التعب

ص: 16

المزمن.

ومن مسببات التعب المزمن أمراض القلب والشرايين والسكري وسوء الغذاء وقلة النوم وفقر الدم والقلق والأقدام المسطحة.

فعلى المرء أن يوزع وقته بحكمة بين العمل والتسلية واليقظة والنوم والكد والراحة وأن يصغي جيدا إلى إنذار التعب المزمن ويتلافاه.

ومن مسببات الشيخوخة الباكرة تدهن الأوعية الدموية أي ترسب المواد الدهنية في الأوردة قبل أوانه، ويعقب ذلك عادة ترسب الأملاح الكلسية فتعيق مجاري الدم ويقل غذاء الأنسجة فيحدث من جراء ذلك ضعف القوى جسديا وعقليا وأمراض التجلط في القلب والدماغ.

وبالإمكان أن نكتشف تدهن الأوعية الدموية قبل استفحاله أو لربما نتلافى حدوثه، أو نؤخر سيره. وذلك بفحص القلب والأوردة والدم والكليتين وبوزن مادة دهنية في الدم تدعى كولسترول يرجح بأنها السبب الأول في تدهن الشرايين. وإذا كان الكولسترول فوق المعدل نلجأ إلى الوقاية بتخفيف وزن الجسم وتحوير الغذاء فتمنع أو تحدد المآكل الغنية بالكولسترول كالبيض والزبدة والأدهان. وعلاوة على ذلك تعالج الأمراض التي تؤدي إلى التدهن إذا وجدت في الفرد وأهمها السكري والتهاب الكليتين المزمن وإدمان الكحول والمهيجات وباستئصال البؤر الصديدية في الجسم، وفوق كل هذا تقنن الحياة بتخفيف الأعمال الجسدية وتربية روح التفاؤل والسرور والاقتصاد في أشغال القلب والكليتين.

4 -

الغذاء وطول الحياة

كلنا نعلم أهمية الغذاء في الحياة. فلا حياة بدون طعان. وإذا لم يكن كاملا فلا يكون النمو تاما ولا الجسم قويا ولا المناعة ضد الأمراض كافية.

وتقدر كمية الطعام تقريبا بحاسة الشبع ووزن الجسم. فلا تأكل أكثر من قابليتك اعتقادا بأن زيادة الأكل تؤدي إلى قوة الصحة. فالجسم يستهلك حاجته فقط وما نزدرده علاوة إما أنه يشوش الهضم أو يصبح عبثا على أعضاء الإفراز أو يترسب دهنا في الأنسجة، أو يعرض المرء إلى الصراع والدوخة وأمراض الجلد والألرجية والأوجاع العصبية.

والأفضل أن يكون الطعام منوعا لأن الجسم يحتاج لترميم أنسجته وللنمو إلى عناصر

ص: 17

متعددة يصعب أن تتوفر في أنواع قليلة من الأطعمة.

والغذاء التام يحتوي على المواد الآتية:

(1)

الزلاليات (اللحوم. الجبن. الحليب. الحبوب)

(2)

الأدهان (الزبدة. الزيوت. الشحم)

(3)

النشويات (الأرز. البطاطس. الحلويات)

(4)

الأملاح المعدنية (مركبات الحديد والنحاس والفوسفور واليود والمنغنيز وملح الطعام).

(5)

الفيتامينات على أنواعها (موجودة بكثرة في الحليب والزبدة والكبد والخضرة الطازجة والبيض).

(6)

الماء.

والطعام المركب من الحليب والجبن والبيض والكبد والخضر الطازجة والفاكهة يحتوي على كل ما يحتاجه الجسم، وقد لقبت هذه المواد الغذائية المذكورة بالطعام الذي يطيل العمر لأنه تام غذائيا.

والفيتامينات والمعادن لا تغني عن الطعام ألبتة، ولكنها تتممه، فهي ضرورية ولا غنى للحياة، حتى أن الأرض الفقيرة بالمعادن تنتج نباتا فقيرا بقيمته الغذائية. يسبب نقص المعادن أمراضا عديدة. فنقص الكلس يسبب مرض الكساح وضعف الأعصاب ويعرض إلى أمراض التشنج، ونقص الحديد يولد فقر الدم، وقلة اليود تضعف الغدة الدرقية فيتأخر نمو الجسم والعقل. ونقص الفيتامينات تسبب أمراضا عديدة. فالفيتامين ضروري للنظر والنمو والمناعة، وللغذاء والنمو والأعصاب للعظام والنمو والأعصاب للكريات الحمراء والأوعية الدموية واللثة والمناعة للتناسل ومرض السكر وهلم جرا.

ولا لزوم لشراء الفيتامينات والأملاح المعدنية من الصيدليات إذا كان الغذاء كالا والصحة جيدة.

5 -

وزن الجسم وطول العمر

ولوزن الجسم أهمية كبرى في إطالة الحياة. ومع أنه لا قانون تام لوزن الفرد الصحي فهو يساوي على التقريب كيلوات بعد السنتيمترات التي تزيد عن المتر في طول الشخص. ونقدر أن نقول إجمالا إن الوزن الأفضل لطول الممر هو ما كلن 10 كيلو فوق المعدل

ص: 18

المذكور في الشبان اتقاء لأمراض الصدر، وما كان 5 - 10 كيلوات تحت المعدل في من جاوز الخمسين من السن اتقاء لأمراض القلب والأوردة والكليتين، وما كان ضمن المعدل المذكور في من تتراوح أعمارهم بين 25 - 50 من السنين.

6 -

السلوك وطول الحياة

إن الإمراض التي ذكرتها - أي الميكروبية والسرطان والتعب المزمن والشيخوخة وتشوش الغذاء وزيادة أو نقص وزن الجسم ليست خاتمة الأسباب التي تفت من وقوانا وتهدم من عمرنا بل هي ضئيلة إذا قيست بعثراتنا اليومية أي هفواتنا السلوكية التي تدمي كل لحظة نفوسنا هما وغما وحسدا وندما.

لقد قيل (قبل الكسر الكبرياء وقبل الهبوط تشامخ الروح) وقال عنترة:

لا يبلغ الحقد من تعلو به الرتب

ولا ينال العلى من طبعه الغضب

وقال المتنبي:

والهم يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الشباب ويهرم

وكل منا يخاطب نفسه قائلا:

(كيف يجب أن اسلك في هذا العالم كلي أتبوأ مقامه مرموقا؟) أو (كيف أتغلب على معضلاتي اليومية كي أنجح اقتصاديا؟) أو (كيف أعدل وأصيب بين نوازع الإقدام وروادع الإحجام؟)

يرد سلوك المرء إلى ثلاثة أشكال رئيسية:

أولها السلوك البديهي وهو ما ربينا على علمه وتعودناه في أعمالنا اليومية والمواقف المألوفة. فهو إذن مرآة أخلاقنا وصورة شخصيتنا، هو حظنا وبختنا نراه في الرجل المهضموم أو الممقوت، في اللطيف أو الفظ، في الغيرى أو الأناني، في المتفائل أو المتشائم، في القدرى أو البحاثة. ولا بأس إذا أعدت مرارا وتكرار بأن مسؤولية الأبوين حيوية في تكوين سلوك أولادهم وخصوصا في السنوات الثلاث الأولى من العمر.

والسلوك التقليدي أو الإيحائي أو سلوك القطيع هو الشكل السلوكي الثاني. تسمع كل دقيق من يقول: (حط رأسك بين الروس ونادي يا قطاع الرءوس) أو (كل الناس تعمل هكذا) أو (اعمل مثل فلان تنجح).

ص: 19

ومعلوم عند الجميع أن الناس تسير كالقطعان في الموضة والعادات والتقاليد والحياة الاجتماعية؛ وهذا النوع من السلوك مفيد جدا إذا قلدنا المبرزين والصالحين وهو يمثل الشطر الأكبر من سلوك الإنسان في الحياة.

والثالث السلوك الواعي أو العقلي

تبرز أمامنا، في البيت والعمل والمجتمع، معضلات ومشاكل جديدة لم نتعودها ولا نعلمها، فالبت فيها على البديهة يؤدي اعتياديا إلى الفشل. فهي تستدعي إذن البحث والتفكير قبل الفصل.

فإذا نزلت بك كارثة، أو هبطت عليك ملمة، في صحتك أو أعمالك أو علاقاتك الاجتماعية، فماذا يجب أن تفعل؟

ابحث أولا معضلتك بحثا وافيا وأمينا. ومنى اكتشفت السبب فأزله مهما كلفك الأمر.

وإذا لم يكن بالإمكان إزالة السبب، ولم يكن من بد لوقوع المصيبة، وافق نفسك مع الحالة الجديدة مهما كانت بدون وجل أو هم أو حسد. فالانتصار لك يا أخي إذا رضيت بالواقع فعشت في الحقيقة دون أن تفقد صحتك ولذة عشيك تحرقا على ما فات، لأن لديك دائما متسعا من الزمن ومجالا للعمل وحافزا من الأمل.

ولكن إذا أظلمت الدنيا في عينيك، فاستحال عليك الفصل، واستوى لديك العقل والجهل، فخشيت الهبوط والاضمحلال فلا تنس عند لك ثلاثة تفزع إليهم في الملمات:

أولهم صديقك الصدوق - وما أثمنه - ولربما تجده بين رفاقك وذويك، أو بين كتبك، أو في عالم مجرب، فأصغ إليه بانتباه فلربما يكون في قوله السبيل السوي.

وثانيهم طبيبك، ليس كمستشار صحي فقط بل كرجل تثق به إلى أبعد حدود الثقة، تسر غليه المكتوم، وتفشي له الكروب وتلقي على عاتقه همومك.

وثالثهم عند اشتداد الملمات، وتلبد الظلمات وسيادة اليأس هو طب النفس، فإما أن تصغي إلى صوت الفلسفة يقول لك إن أشد همومك لا بل كلها من عبادة ذاتك. فأنت ذرة من ذرات هذا الكون تتمشى عليك نظاماته من مسيئة أو سار كما تتمشى على سائر أجزائه. فإنس بأنك من شعب الله الخاص وانظر إلى معضلاتك بعين البحث العلمي والتفسير الفلسفي وهكذا تخرج من عذاب أنانيتك، أو فاتبع الدين فتجد فرجك بالإيمان. فكم من

ص: 20

المرات فرج الإيمان عن المحزون والمغبون وشفى المقعد والأعمى وفتح قلب اليائس بالأمل فأنار ظلمات النفس بقبس قصر عن أدائه العلم.

وخلاصة القول أن العلل التي تقصر العمر تأتي إما من أسباب خارجية كالمكروبات والغذاء والفواعل الطبيعية، أو من أسباب داخلية كالسرطان والشيخوخة وأمراض السلوك.

وعلاجها مركب من ثلاثة عناصر - التربية والمعرفة والأمل - ومن ثلاثة نظائر لتلك العناصر - المحبة والحكمة والإيمان.

وسعيد من حظي بالتربية الصحيحة والعواطف السامية

ومن حاز المعرفة العالية والحكمة المبدعة

ومن نصب في وجدانه هدفا ساميا يؤمن به

فضلو حيدر

ص: 21

‌من رجال الفكر في تركيا:

أحمد آغا أوغلو

للأستاذ عطاء الله ترزي باشي

(يتابع الأستاذ أحمد مصطفى الخطيب على صفحات الرسالة نشر ترجمة الكتاب الموسوم (في بلاد الأحرار) للكاتب التركي أحمد أغا أوغلو. وبهذه المناسبة رأينا أن نقدم للقراء كلمة عن حياة هذا المفكر وعن قيمته الثقافية معتمدين في ذلك على أهم المراجع التركية. ويمكن لمن يجيد هذه اللغة مراجعة تلك المصادر وقد أنبتناها في نهاية هذا المقال) ع. ت

توطئة:

يعد آغا أغلو من طليعة المفطرين الذين خدموا في حقلي الصحافة والتعليم في تركيا. وهو من النوابغ المعروفين. لمع نجمه في الأوساط الغربية حين قام يعرف العالم الشرقي على صفحات الصحف الأوربية للأوربيين. ويوضح الفكرة الإسلامية المقدسة. مبيناً لهم قيمة المرأة في المجتمع الإسلامي والحقوق التي وهبتها لها الشريعة، رادا عليهم سفاسفهم واعتقاداتهم الخاطئة في الإسلام.

وكان يجيد اللغتين الروسية والفرنسية إجادة تامة، فنشر بهما أبحاثا قيمة في الصحف الغربية دفاعا عن الشرق والشرقيين والدين، كان لها الأثر البعيد في نفوس الغربيين. ولا بدع في ذلك فإنه كان عليما بمسائل الشرق وملما بدقائق الشرع. وهو قانوني ضليع امتهن التدريس في كليات الحقوق زمنا غير قليل، وألف كتبا في القانون الدستوري نال بها الإعجاب والتقدير.

ولم تنحصر خدمات آغا أوغلو في هذه الساحة تل تعدتها إلى ساحات أخرى. فقد خدم الإسلام بدعوته إلى ترك المشاحنات المذهبية الدائرة بين السنة والشيعة، وسعى إلى إزالة العداوة والبغضاء بين المسلمين، الناشئة عن الطائفية في ذلك الحين. فدعا بالمسلمين إلى الاتحاد والوئام بدل التفرقة والانفصام. وقد جاءت معالجته لهذه المسائل - بسبب إتقانه اللغتين العربية والفارسية - مصيبة مفيدة. ولا غضاضة في ذلك فإنه عالم بالأوضاع الاجتماعية القائمة بين الأمم الإسلامية، ومطلع على العادات والتقاليد السائدة بين الطوائف

ص: 22

والنحل.

ولا ينكر أن آغا أوغلو كاتب اجتماعي قدير يسحر الإنسان بأسلوبه القصصي الرائع، ومعروف بدقة اختياره المواضيع وصوغه إياها في قالب أبي بديع. فيستمتع القارئ بلذتها ويكاد يبدأ بقراءتها حتى يأتي إلى نهايتها دون أن يشعر بألم أو يحس بملل.

حياته:

ولد آغا أوغلو سنة 1869 م في مدينة (شوشة) الواقعة في سهل (قره باغ) من بلاد أذربيجان. وكان والده (ميرزا حسن) عالما فاضلا (خواجه). أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في مدارس بلدته؛ وأتم بعد ذلك تحصيله الإعدادي (الثانوي) في مدينة (تفليس) ومن ثم ذهب إلى (بطرسبرغ) وذلك بغية إكمال دراسته العالية. وقد نجح في امتحان القبول إلى المعهد الهندسي ولكنه أصيب برمد في عينيه فعاد إلى بلدته مضطراََ.

وفي سنة 1888 قصد إلى باريس والتحق بكلية الحقوق هناك فنال شهادتها (الليسانس) مع درجة وخلال وجوده في باريس تعرف بكثير من المفكرين واتصل برجال جمعية (الاتحاد والترقي العثماني) وبدأ ينشر مقالات عن الشرق في الصحف الفرنسية. وقد ظهر أول مقال له في صحيفة ولما يتجاوز من العمر عشرين عاماً.

وعاد إلى بلاده سنة 1894 م فعين مدرساً في مدارس (أذربيجان). وهناك سعى مع بعض زملائه وعلى رأسهم إسماعيل غاسبرنسكي وحسين زاده وعلي مردان في إحياء الحركة القومية وتنميتها. وتمكن من إصدار مجلتين تركيتين عالج فيهما كثيراً من المواضيع الاجتماعية الخطيرة. وكان يبغي من وراء ذلك إصلاحا عاما شاملا للأقوام التركية الساكنة في بلاد أذربيجان، والجماعات الإسلامية القاطنة في بقاع روسيا المختلفة. فاضطهدته الحكومة الروسية فجاء إثر الانقلاب العثماني في سنة 1908 إلى تركيا. فعينته الحكومة التركية مفتشاً في وزارة المعارف. ولكنه تخلى عن هذا المنصب بسبب انتمائه إلى حزب الاتحاد والترقي.

واتصل بعد ذلك بالمفكر التركيب الكبير (ضياء كوك آلب) وببعض الكتاب الآخرين واشتغل معهم في ساحة القومية، فأسسوا مجلة (تورك يوردي) لتكون لسان حالهم في معالجة المسائل الاجتماعية والوطنية.

ص: 23

وفي سنة 1910 عين أستاذاً في دار الفنون بالآستانة لتدريس مادتي (المدينة التركية) و (اللغة الروسية) وكان قد أخذ إلى عاتقه في نفس الوقت رئاسة تحرير صحيفة (ترجمان حقيقت).

وفي أثناء الحرب العالمية الأولى رشح نفسه فأنتخب في سنة 1951 نائباً عن ولاية (آفيون). ونال في عين الوقت عضوية الهيئة المركزية لحزب الاتحاد والترقي.

واختير في سنة 1917 مشاوراً سياسيا في الجيش التركي المحارب في جبهات قفقاسيا. وعلى أثر انتهاء الحرب عاد إلى الآستانة فنفاه الإنكليز إلى جزيرة (مالطة). ولبث فيها ثلاث سنين تمكن خلالها من تأليف كتابه الموسوم (المدنيات الثلاث) وعندما أطلق سراحه عين مديراً عاما للمطبوعات.

وبعد قيام أتاتورك بانقلابه المعروف وتأسيسه حزب الشعب الجمهوري انتسب آغا وأغلو إلى هذا الحزب ورشح نفسه للنيابة فأنتخب مرتين نائباً عن ولاية (قارص) الواقعة بالقرب من الحدود الروسية. وكان يشغل خلال هذا الوقت كرسيا في كلية الحقوق بأنقرة ويقوم برئاسة تحرير جريدة (حاكميت مليث).

وعندما أتاح أتاتورك لجماعة من النواب فرصة تأسيس حزب معارض في تركيا، كان أغا أوغلو في طليعة الزعماء الذين أسسوا حزب المستقلين المعارضين. ولقد رأى أتاتورك، بسبب المطاحنات التي دارت في المجلس والتي أدت إلى حدوث انشقاق بين صفوف الشعب، رأى أن العقلية السياسية في تركيا لن تنضج بعد، وأن قيام حياة ديمقراطية سليمة في البلاد أم رعسير، فأصدره أوامره بحل هذا الحزب. وعلى أثر ذل انصرف أغا أوغلو عن الحياة السياسية ورغب في التدريس. فانتدبته كلية دار الفنون بالآستانة أستاذاً لتدريس مادة (تاريخ التشريع التركي). وظل يدرس هذه المادة حتى أحيل في سنة 1933 إلى التقاعد.

وفي هذه السنة أصدر جريدته المسماة (آقين). وقد مضى سنواته الأخيرة من حياته في النشر والتأليف. وتوفي في اليوم التاسع عشر من مايو سنة 1939.

آثاره:

وندرجها بأسمائها العربية وفقا لتاريخ نشرها:

ص: 24

المذهب الجعفري ومصادره 1892، الإسلام وعلماء الشيعة 1900، المرأة في عالم الإسلام وفي نظر الشريعة 1901، المدنيات الثلاث1920، الهند وإنجلترا 1927، في بلاد الأحرار 1931، أتيكا (ترجمة عن كروبوتكين 1931، ماذا أنا 1939، التشكيلات الأساسية التركية (محاضرات)، تاريخ التشيع التركي (محاضرات) 1941، لا يخلو عن القلب، احتلال أم انقلاب 1942.

والمؤلفات الأربعة الأخيرة فقام بنشرها ولده النجيب معالي عبد الصمد آغا أوغلو الذي يحاول نشر بقية آثاره غير المطبوعة. ومنها: الأدب الروسي، مذكرات، الثقة بالدستور، الانقلاب التركي. . وغير ذلك.

المصادر:

(1)

سرور اسكيت: دائرة المعارف الشهرية جـ3، ص 784 طبعة سنة 1946. (2) إبراهيم علاء الدين: مشاهير الترك ص 17، ط 1946 (3) دائرة المعارف التكية (أينونو) جـ1 ص 225، ط 1945.

كركوك - العراق

عطا الله ترزي باشي

ص: 25

‌شلر

للكاتب الكبير توماي كلرليل

ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

- 3 -

وطبيعة الكتاب وما أيقظه من رغبة جامحة لفتت الأنظار إلى الأحوال الخصوصية للمؤلف، ولم تكن هذه المأساة وحدها هلي التي جلبت الانتباه؛ بل إن جميع ما كتبه ووجد له سبيلا إلى النشر والذيوع من الكراسات الدورية الأخرى أوضحت بجلاء بأن هذا الإنسان لم يكن شخصا عاديا. وقد أغاظت العواطف الحادة التي أبدتها مأساة (اللصوص) كثيراً من الأشخاص الرصينين، وقد كان لقابلياته التي لا تجارى وإكثاره في التعبير عن مكنونات نفسه أثرهما في تعكير القضية أكثر فأكثر. وأما ما يخص رؤساء شلر فلم تكن تهمهم مثل هذه الأشياء ولم يفهموا منها شيئا يذكر، وقد يكون شلر عبقريا ولكنه كان خادما خطرا لصاحب السمو دوق (فرتمبرك). ولم يقتصر الأمر على الناس الفضوليين في القضية؛ بل إن ذلك قد تعدى حتى إلى الرعاة في جبال الألب. وقد أصبح قضاة (كرسنز) بعد قراءتهم لهذا الكتاب يشعرون بماله من تأثير سيئ في الناس، مما حدا بهم أن يشكو من ذلك في جريدة (هامبورغ كورسبوندنت)، ثم أعقبوا ذلك برفع القضية أمام الدوق العظيم). (ولما اطلع الدوق على هذه الوضعية ساءه وعبر عن عدم استحسانه عن أعمال شلر بعبارات صريحة نابية جافة. وأخيراً قدم شلر أمامه، فما كان من صاحب السمو إلا أن شرح له سخطه على أخطائه الأخلاقية والسياسية كما استهان بقيمة مؤلفه الأدبية. ولكن رأى الدوق لم يلق رضاً من شلر، وقد انتهت المواجهة بدون جدوى بسبب إصرار الطرفين على رأيهما، وبعد ذلك أمر الدوق بأن ينصرف شلر إلى دراسته الطبية، أو على الأقل ألا ينظم شيئا من اشعر وينشره بدون الحصول على موافقته. ولم يقتصر الأمر على هذا فقط؛ بل إن كثيراً من التقريع كان في انتظاره. فكل جهوده في أداء واجبه على أحسن وجه كانت تفسر تفسيراً خاصاً.

وكان يعاقب على أبسط هناته أقسى العقاب. لقد انكمشت روحه، لما أصابها من إنهاك

ص: 26

ونزيف في النضال المرير ضد العوائق المثيرة المتمثلة في الاضطهاد اللانهائي من أناس لم يعرفوا عنه شيئاً ولكن سوء الطالع وضع مصيره بأيديهم القذرة. وقد طافت في ذهنه فكرة السجون والسجانين فعذبته تعذيباً مرا، كما أنه فكر كثيراً في الوسائل التي يتذرع بها للتخلص من عذاب السجن الذي كان ينتظره في كل يوم، فأراد نبذ الشعر الذي كان له بمثابة ينبوع السرور ومصدر الهموم في الوقت ذاته واعتزاله هذا - لو قدر له أن يقع - لاعتبر حكما بالإعدام على كل شيء سام ومفرح في نفسه وعلى القيم التي كان يعتز بها أشد الاعتزاز).

وقد دفع الشعور الطبيعي المؤلف اليافع على الجسارة للذهاب سرا لمشاهدة تمثيل مأساته في مانهايم. ولم يستره هذا التنكر، فقد ألقي القبض عليه بعد أسبوع من ذلك بسبب إساءته هذه، وما يمنعه العقاب الذي أنزل به من الاجتراء مرة أخرى وبالأسلوب عينه. وقد علم أن هناك خططا جديدة توضع ضده، وقد ألمح له بعضهم ببعض الوسائل الشديدة التي تنتظره إن هو أصر على غيه ولم يفق من غفوته.

ولم يفد في ذلك الموقف العون الذي قدمه له (البرغ) الذي كان أمله الوحيد في التخلص من هذه المضايقات. فرأى شلر نفسه محاطاً بالمصائب المختلفة والشرور المرعبة من كل جهة، وقد أثار ذلل غضبه أشد الإثارة ولكنه أضطر إلى السكوت وارتداء قناع الصبر، وأخيراً لم يطق احتمال هذا الضغط الجنوني أكثر مما تحمله. قد قرر أن يكون حرا مهما بلغ الثمن، وقرر كذلك أن ينبذ كل الفوائد المتأتية من جراء السكوت، فترك البيت الذي كان يعيش فيه، وهو بيت مربيته وخرج فريداً لا يلوى على شيء باحثاً عن عمل في سوق الحياة الكبيرة.

استغل شلر وصول أحد الأمراء والدوقات إلى مدينة ستتغار والضجة التي أثيرت في الترحاب به والحفاوة التي أسبغت على المدينة حلة من الزينة، وهكذا تمكن من التخلص وسط هذا الزحام من مراقبة العيون والأرصاد لانشغالهم بهذا الاستقبال، ففر من المدينة في أكتوبر سنة 1782 وكان عمره آنئذ ثلاثاً وعشرين سنة. وفي مثل هذه الظروف شب شلر عن الطوق وبلغ مبلغ الرجال من القوة والبأس.

وقد أثرت هذه العقبات والنكسات في سلوكه ولكن قوته الخاصة تمكنت من الغلبة في

ص: 27

النهاية. . . أما طفولته فقد كانت هانئة هادئة، كما سبق أن ذكرنا ذلك في حينه، لأن والديه أسبغا عليه جوا من المحبة والحنان، فجعلاه يشعر بالانشراح والشرور وبالسعادة الحق.

لقد قدر لهذه البذرة غير المرئية أن تنبت يوماً ما وأن تصبح شجرة التقى والفضيلة الرقيقة، ومن حسن حظه أن الهجوم العنيف الذي شن عليه لم يقع إلا بعد أن أكمل عدته لمواجهته بعد أن أجمع قوته. ويعود الفضل الأكبر في فوره النهائي في هذا النضال الهائل إلى أساتذة مدرسة ستغادر ودوقهم الأعمى. ومع ذلك لو كان النظام الذي اتبعوه أكثر مدنية وأقل تعصباً لما خسرنا شاعرنا أيضا، لأن بركان شعره كان كامنا في أعماق نفسه ولا يمكن أن يبقى مثل هذا الركان صامتا طويلا، بل إن انفجاره كان محتما في يوم لا بل في كل ساعة. وقد أثرت هذه المعاملة الخشنة في سلوك شلر فأججت حساسيته وزادت من رقته وإرهافه، وخصوصاً إذا عرفنا مدى اتصال ذك كله بطبيعته ذات الفعالية الذاتية، ولو كانت لديه ميول أقل تأججاً وأبد محبة، لرأينا في الوقت المناسب كيف ينتهي كل هذا إلى عزلة خانقة خائفة ووحشية، وحتى إلى مقت شديد للإنسانية. وإذا نظرنا عامة إلى شلر في مثل هذه المرحلة لظن لعض المتتبعين القصيري البصر أن شلر ضعيف لأن مثل هؤلاء المتتبعين يخلطون بين الرقة والضعف على اعتبارهما شيئا واحد. فعنصر القوة الذي يتمتع به وهو أصل كل تقديم يجعله يتصرف على رغائب نفسه، لقد كان له قصد وغاية فيما يعمل، وكان يحب الجمال الروح بكل جوارحه وبكل نفسيته، وهو مستعد في سبيل الوصول لمثل هذا الهدف إلى تقديم التضحيات. لقد ظهر هذا الهدف كغريزة جامحة، وتحت أشكال غامضة، وقد ازدادت قوة على قوة كما اتسمت بالوضوح في النضال والمقاومة فيما يجب الانتصار فيه. . إن لهذه النكسة في حياة شلر أهميتها في التاريخ الأدبي: وهذا التعذيب في سبيل الضمير، وهذا ما وقع للهرطقة والزنادقة في الدين أكثر مما وقع للهرطقة في الأدب. هذا النضال الأعمى الذي قصد إلى إخماد النور السماوي في الروح الإنسانية، وقد انتهى هذا النضال إلى البوار والفشل كما انتهى إلى ذلك في الأدب أيضا.

وما من شك أن ما فعله حكام محكمة التفتيش من أعمال مرعبة وجرائم نكراء لم يكن وحيداً في بابه وفريداً في نوعه. . لأن حكام محكمة التفتيش الأدبية قد خلفوا السابقين، ومع ذلك

ص: 28

فلم ينته أمرهم إلا كما انتهى أمر أسلافهم. . لأن تأثيرهم كان مؤقتا وعرضيا ولم يؤد إلى أية نتيجة تذكر.

وما كنا لنطيل النظر في هذه الإجراءات إلا لأن ذلك سيقودنا إلى أزمة شلر الكبرى ولأنها تظهر لنا لأول مرة إرادته وهي تؤكد نفسها، وتبين بصراحة القانون الذي سيسطر على مستقبل حياته، وقد قال هو نفسه في خصوص ذلك (لقد عشت فقيراً معدماً ويائساً) ومع ذلك فذهنه ظل في مكانه محافظاً على مواهبه كما أن موجوديته الحية ظلت صامدة كالطود الأشم، ومن هنا يجب اعتباره أديبا وهو سيبقى كذلك في سجيته وسلوكه وقد قال بهذه المناسبة:(لقد انحلت جميع اتصالاتي السياسية، وأصبح الرأي العام كله لي، أنه دراستي، أنه سيدي، أنه موئلي، وإلى الرأي العام فقط تعود حياتي ولن أقف أمام أية محكمة أخرى، وهذه المحكمة بالذات هي التي أعتبرها وأخشاها. يطوف أمامي الآن خيال من الخيال كلما قررت أن أصفد نفسي بقيود غير حكم العالم، ولن أستأنف حكمي إلا أمام محكمة روح الإنسان) وسنجد في حياته اللاحقة وحدة نبيلة متماسكة بما في ذلك من اختلافات خارجية، كما أن الهيام بالأدب والعزيمة التي تهزأ بالمخاطر لازمتاه طويلا ولم تتركاه وحيداً في نضاله الشريف. فنراه متجولا في العالم ناظراً إليه في مختلف الصور والأشكال والألوان، ونراه كذلك ممتزجا بمسرات الحياة الاجتماعية فيصبح زوجاً وأبا ويجرب مصائر الناس، ولكن الكوكب الساطع الهادي كان قائده الذي أرشده في متاهات شبابه وظل نور هذا الكوكب ساطعاً مدى حياته. وكان شلر في كل العلاقات والأحوال نقيا طاهراً لطيفاً حتى أنه كان قليلا ما يخطئ.

لقد كان هدفه الأعلى بعد الكمال الروحي هو الهيام بالشعر، وهذه العاطفة كانت من القوة والشدة بحيث أصبحت نقية طاهرة وعالية سامية، وكانت مصدر سلوكه الحسن وينبوع شعوره النبيل الفياض. وهذه العاطفة يجب أن تكون لدى الجميع نقية وسامية لأنها - في أي مظهر كان - هي وحدها هدف الإنسان الحق، وهي موبوءة لدى كل لإنسان، لأنها لا يمكن أن تطمس كلية، ولكنها تبقى سلبية عند كثير من الناس، أما البقية من الناس والذين تبلغ فيهم العاطفة هذه مبلغاً كبيراً من الفعالية فسيكونون شعراء قولا أو عملا، وقلما تكون الأهداف السامية بعيدة عن المطامح المبتذلة والأهداف الأرضية التي تشوه هذه المظاهر

ص: 29

كلية. فعند شلر إذن كانت هي الهدف الأساسي الذي تتجمع حوله جميع الأهداف الثانوية الأخرى، ولم تكن الشهرة نفسها والتمايز العالمي لعينيه في قليل أو كثير، فسلوكه اللطيف المخلص هو الذي كان يجذب إليه الأصدقاء، وقد كانت حياته المستقيمة المسالمة مدعاة احترام الجميع، والذين عرفوه خير المعرفة أحبوه أشد الحب.

علاقته بجوته

ولعل أهم ظرف أحاط بحياته الأدبية هي علاقته بجوته. . ولو استعملنا تعبيرنا السابق لقلنا: لو فرضنا أن شلر كان قسا لكان جوته مطرانا، وهذا الأخير هو الذي رسمه للكهنوت ومنه حصل على النور القدسي. لقد كانت علاقتهما حدثاً قل نظيره في تاريخ الأدب للأسف الشديد، وكانت علاقتها علاقة خالصة من كل زعل وبعيدة عن كل أنانية كما كانت الحالة بين (سوفت) و (بوب) اللذين كانا يتقاسمان السراء والضراء وتجمعهما رابطة الكبرياء. وقلما يتفق الناس بمثل هذه الأحوال ولأغراض من هذا النوع إذا وزنت في الميزان الاقتصادي ساوت وزن خيوط العنكبوت. ويظهر أن بعض العقبات الدولية وقفت في الطريق كما أن بعض التحامل من قبل الطرفين وقع وكان الواجب يقضي بالتغلب عليه. ولعدد من السنين يكن في الإمكان تقابلهما إما لسبب عرضي أو جوهري، وكانت مقابلتهما الأولى غير مشجعة. يقول شلر في هذه المناسبة:(هذا الاجتماع لم يقلل من الفكر العظيمة التي استحوذت والتي كنت قد كونتها مقدماً عن جوته. ولكنني أشك فيما كنا سنتصل في المستقبل مع بعضنا البعض الآخر اتصالا وثيقا فكثير من الأشياء التي تهمني لم يعد لها أي ذكر لديه، وطبيعته في جملتها وتكوينها في الأصل تختلف عن طبيعتي. كما أن عالمه ليس عالمي. ويظهر أن أساليب فهمنا للأشياء تختلف اختلافا بيناً. وطبيعي أن اتحاداً من هذا النوع لا يمكن أن ينتج ألفة وثيقة ثابتة) ومع ذلك فبالرغم من بعض التحامل الخطير من قبل جوته، إن لم نقل شيئاً من الحسد الوضيع الذي كان من الممكن سيطرته على أي شخص آخر في مثل هذه الظروف نفسها، نقول بالرغم من هذا كله فإن الذي لم يكن محتملا وقع وكانت النتيجة أن توثقت الصداقة بينهما واشتدت الألفة ولم يفرق بينهما غير الموت. وإذا نحن اعتبرنا الوضعية النسبية لكل من الطرفين وسلوكهما في هذه القضية فعلينا أن نعترف أن كلا منهما كانت لا تعوزه الفضيلة الاجتماعية كما أن حب الإيثار كان

ص: 30

مستحوذاً عليهما. والحال مع جوته خصوصاً بينة وواضحة، فهو كان أكبر سنا وأعظم الاثنين. . فهو لم ينتظر شيئاً بالمقارنة لما يعطي أما هذه الوحدة الأخوية فيمنعنا ضيق المجال من شرح طبيعتها وبيان تطورها، وهي ستعطينا دليلا آخر تأييداً لما قاله (يونغ ستيلنغ)(بأن قلب هذا الإنسان الذي يعرفه القليلون هو نبيل وصادق كعبقريته التي يعرفها الجميع).

للكلام صلة

يوسف عبد المسيح ثروت

ص: 31

‌4 - في بلاد الأحرار

للكاتب التركي الأستاذ آغا أغلو أحمد

للأستاذ أحمد مصطفى الخطيب

الحرية والجاسوسية

- ولكن أيها الأستاذ! أليس احترام الرجال العظام وتبجيلهم واجبا تقضي به رعاية الحقوق، والعرفان بالجميل؟

- بلا ريب! ولكن هناك حدودا بارزة بين خالص الاحترام والتبجيل. . ومحض التملق والرياء!

- كيف ذاك؟

- إن الاحترام والحب الحقيقيين يتطلبان الصدق والإخلاص، وشرطهما الأساسي أن تقول ما تفكر فيه أو تشعر به بغير زيادة أو نقصان. .

وعلى سبيل المثال أقول: ألا ترى لزاما عليك أن تصرح بما تراه من النقائص في أقرب الناس إليك، كابنك، أو أخيك، أو صديقك البار، وتواجهه بالنصيحة والإرشاد، بغية تقويم اعوجاه، وإصلاح عيوبه! قم ألا تعتبر مثل هذا العمل دينا عليك واجب الأداء تجاهه؟

والرجال العظام الذين تنجبهم الأمة، هم أعز وأغلى من الابن والأخ والصديق، لأنهم ينابيع الهناء، وأسس السعادة العامة المشتركة في الوطن

إذن أفلا يكون دينا علينا واجب الأداء أيضاً أن نون تجاه هؤلاء أصدق وأشد إخلاصا؟

ولكن المرائين والمنافقين لا يصنعون إلا نقيض هذا تماما. . فيخلعون على العظماء نعوتا زائفة، وينسبون إليهم مواهب وكفايات ليست لهم، ويظهرون جهلهم ونقائصهم وأخطاءهم بمظهر الفضائل العالية والمزايا النادرة، ويكتمون عنهم الصدق والحقيقة، ويدفعون بهم إلى الطرق الملتوية والمآزق. . ويرتبكون كل هذه الجرائم في سبيل الحصول على منافع شخصية محضة دنيئة فقط.

وفي الحق أن الرجل المتملق المتزلف لا يستطيع أن يكون صديقا حقيقيا لأي إنسان. . إذا أن فضائل سامية كالصدق والاستقامة والإخلاص ليست من نصيب ذوي النفوس المنحطة

ص: 32

السافلة.

ففي أول أدبار الحظ يقلب هؤلاء ظهر المجن للرجال العظام ويشرعون في التهكم ونكران الجميل، وشن الحملات الشعواء عليهم، ومن ثم يأخذون في الالتفاف حول السيد الجديد الحائز القوة.

- كم أنت محق في هذا أيها الأستاذ! لقد شهدت بعيني غير مرة مناظر مؤلمة من هذا التقلب الفاضح. . وكم من مرة ضغطت فيها على أعصابي لك لا ينقلب تعلقي بوطني مقتا وكراهية، وحبي لأبناء بلادي حقدا وضغينة. .

- أجل! إن الرياء والتملق هي الطريق الخطر الذي سيؤدي بالمجتمع أيا كان إلى الانحطاط والتدهور لا محالة. .

- إذن لماذا يميل إليهما الناس؟ ولماذا لا يرضون بهما بديلا؟

- لأنهم ضعفاء، ومع ذلك فالذنب كله يقع على عاتق المجتمع وحده لكونه هو المكلف بمنع انتشار الرذائل وبمكافحة الفساد والانحلال الخلقي أولا وآخرا. .

أما إذا تقاعس المجتمع عن أداء واجبه بهذا الشأن فسوف يكون هو نفسه الخاسر في النهاية بعير شك.

- لم أفهم أيها الأستاذ!

- إذن لأتبسط في القول. . إن الرجال العظام في المجتمع هم بمثابة الزهرة أو الثمرة من الشجر، فكما أن الزهر أو الثمر هما اللذان يبقيان على نوع الشجرة ويضفيان عليها صفة الخلود، فكذلك العظماء هم الذين يبعثون في عروق المجتمع دم الحياة، ويمهدون أمامه سبل العيش، ويفتحون أمامه أبواب الارتقاء والتقدم.

وفي الحق أن قوة كيان المجتمع وتماسكه لا يقاسان إلا بعادات وقيم بعض العظماء الذين تنجبهم الأمة في مختلف ميادينها الفكرية والأدبية والعلمية والعسكرية وغيرها.

وفي مثل هذه الحالة يكون العمل لتنشئة هؤلاء وإعدادهم، ثم الحرص على سلامتهم. . مسألة حياة للمجتمع ذاته ليس إلا. .

والمجتمع الرشيد هو الذي يحاول دائما أن يفيد لنفسه أعظم فائدة من عظمائه عندما تسنح له فرصة الحصول عليهم، ولا يدع أن تمر أي لحظة من حياتهم دون أن يستغلها لحسابه

ص: 33

أحسن استغلال، ويخلق منها مصدر خير وبركة للجميع بغير استثناء. . ذلك لأن العظماء لا يظهرون كل يوم أو في أي زمان، فقد يصادف أن الأمة الواحدة تحبل طوال عصور مديدة ثم لا تلد إلا واحدا من هؤلاء، وقد يتفق أيضاً أن عملية الولادة هذه تصبح قاسية ومخيفة جدا.

لهذا فالمجتمع الذي يعرف قدر نفسه يحرص على أمثال هؤلاء الأبناء كالحرص على بؤبؤ العين، ويبذل كل ما في وسعه لكي يفيد من حياتهم أعظم ما يمكن من الفوائد. .

وهذا هو السبب أيضاً في أن المداهنة والتلمق يعاقب المرء عليهما في بلاد الأحرار بعقوبة شديدة كالرجم بالأحجار، وذلك لكونهما من أفتك وسائل الإفساد والتخريب

- فهمت أيها لأستاذ! وقد أنار إيضاحكم هذا جوانب كثيرة من الماضي المؤلم القاتم أمام ناظري، فهل تتفضلون الآن بشرح المادة الرابعة من الدستور؟

- بكل ارتياح! تنص هذه المادة على أن الذين يشتغلون بالجاسوسية لا يستأهلون أن يكونوا من مواطني بلاد الأحرار، ذلك لأن الحرية والجاسوسية لا يمكنهما أن يجتمعا على صعيد واحد أو يأويا تحت سقف مشترك؛ فلا حرية حيث تسود الجاسوسية، ولا جاسوسية حيث تسود الحرية.

ولهذا ترى دوائر الاستخبارات وأوكار الدس والمؤامرات من أوقى الوسائل الفعالة التي يستند إليها الاستبداد في توطيد دعائم حكمه، وتثبيت أركان جبروته وطغيانه.

أما هدف الاستبداد الأوحد في هذا الخصوص، فهو أن تهون الروابط، وتفكك أواصر الثقة في نفوس أبناء الوطن الواحد، وتنفخ فيها روح الشك والارتياب، وليست ثمة وسيلة أقوى تمكنها من بلوغ هذا المأرب من الجاسوسية بلا مراء. .

ففي المكان الذي تنفق فيه سوق الدس والوقيعة لا نجد أحدا يثق يغيره؛ بل يجفل ويرتعد كل واحد من الآخر. . فيتلاشى بذلك الصدق، وتنتفي الصراحة بين المواطنين ليحل محلها الكذب والخداع والنميمة. . وهكذا يستحيل القيام بأي عمل اجتماعي تعاوني نافع، مهما كان نوعه أو كانت قيمته. .

والجماعات البشرية التي يصل بها الحظ العاثر إلى هذه المرحلة من الانهيار تكون أشبه شيء بقطعة مهلهلة من النسيج انحلت خيوطها، وتفككن أجزاؤها، فتفقد كل قابلية في نفسها

ص: 34

لأي نوع من أنواع الكفاح، وتصبح لا هي قادرة على منازلة الاستبداد، ولا هي مستطيعة السير موحدة القوى في مسالك العلوم والفنون، أو الضرب في آفاق التجارة والمعاملات وغرها من مقومات الحضارة الحقيقية في هذا العالم.

وطبيعي بعد ذلك أن لا تستطيع بلاد الأحرار الرضا بما هو من شأنه إلحاق كل هذا الأسى بكيان المجتمع، واستجلاب كل هذه الويلات والكوارث له. .

إننا نغرس في نفوس مواطنينا شعور الكراهية والبغضاء نحو هذا الداء الوبيل منذ نعومة أظفارهم وعهود طفولتهم، ولا ننظر نظرة ارتياح وتسامح إلى شكوى أبنائنا بعضهم من بعض، ونعاقبهم بقسوة متناهية على حوادث التهم والافتراءات التي تحدث بينهم، ونشهر بالصبي الذي يتجسس على أي عمل من أعمال زميله ردعا لغيره وزجرا.

وقصارى الكلام، أننا نبذل أقصى جهودنا قولا وعملا، لكي نبث شعور الكراهية والمقت في القلوب الفتية نحو داء الجاسوسية المرذول. وعندما يشب هؤلاء عن الطوق ويترعرعون، تتهيأ لهم فرصة الاطلاع على دستور البلاد وفهم مغازيه أيضا. . وحينئذ تكون الجاسوسية قد زالت بكلبتها من البلاد. .

- أيها الأستاذ. . إن إيضاحاتكم هذه قد أحدثت انقلابا في كياني، إنني أشعر بالحاجة إلى أن أخلو إلى نفسي وإلى أفكاري الآن، فهل تسمحون بأن نكتفي بهذا القدر اليوم!

- حسنا! سنحضر بعد يومين، ثم نهضوا لمصافحتي وانصرفوا

يتبع

أحمد مصطفى الخطيب

ص: 35

‌رسالة الشعر

ديوان مجد الإسلام

نظم الشاعر المرحوم أحمد محرم

وتعليق الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم

عزوة بدر الكبرى

كان عدد الغزوات ثلاثين غزوة، شهد النبي صلى الله عليه وسلم تعسا وعشرين منها، وغاب عن واحدة عي غزوة مؤتة، فأما التي شهدها فهي غزوة ودان - العشيرة - سفوان - بدر الكبرى - بني سليم - بني قينقاع - السويق - قرقرة - الكدر - ذي أمر - بحران - أحد - حمر الأسد - بني النضير - ذات الرقاع - بدر الآخرة - دومة الجندل - بني المصطلق - الخندق - بني قريظة - بني لحيان - ذي قرد - الحديبية - خيبر - وادي القرى - عمرة القضاء - حنين - الطائف - تبوك - فتح مكة - وقد استغنى الناظم عن هذه الغزوات فلا مجال فيها للقول، وفي هذا الجزء من الكتاب غزوة بدر الكبرى، وغزوة بني قينقاع، وغزوة السويق، وغزوة أحد، وغزوة حمراء الأسد، وغزوة بني النضير، وذات الرقاع، وبدر الآخرة، ودوة الجندل، وبني المصطلق، والخندق، وبني قريظة، ومع كل غزوة ما يتصل بها من العناصر البارزة فيها.

كان خروج المسلمين لغزوة بدر يوم السبت (الثاني عشر من رمضان) وهو الشهر التاسع عشر بعد الهجرة، وكان عددهم 313 وقيل 314 وقيل 315 رجلا، وكان عدد الكفار 950 وقيل ألف، قتل منهم 70 وأسر 70 رجلا، فأما المسلمون فقد استشهد منهم 14 رجلا، ستة من المهاجرين وثانية من الأنصار.

نعيم

ما للنفوس إلى العماية تجنح

أتظن أن السيف عنها يصفح؟

داويت بالحسنى فلج فسادها

ولديك إن شئت الدواء الأصلح

الإذن جاء فقل لقومك: أقبلوا

بالبيض تبرق والصوافن تضبح

ص: 36

أفيطمع الكفار أن لا يؤخذوا؟

بل غرهم حلم يمد ويفسح

أمنوا نكالك، فاستبد طغاتهم

أفكنت إذ تزجي الزواجر تمزح؟

لا يستحون، ولو تأذن ربهم

عرفوا اليقين وأوشكوا أن يستحوا

أملى لهم، حتى إذا بلغوا المدى

ألوى بهم خطب يجل ويفدح

من ناقض عهدا، ومن متمرد

يمسي على دين الغواة ويصبح

لما استقام الأمر لاح بشيرها

- غر سوافر من جبينك تلمح

ظمئت سيوفك يا (محمد) فاسقها

من خير ما تسقى السيوف وتنضح

فجر ينابيع الفتوح، فريها

ما تستبيح من البلاد وتفتح

الظلم أوردها الغليل، وإنه

لأشد ما تجد السيوف وأبرح

اليوم توردها الدماء، فترتوي

وتردها نشوى المتون، فتفرح

المشركون عموا، وأنت موكل

بالشرك يمحى، والعماية تمسح

خذهم بأسك، لا ترعك جموعهم

فلأنت إن وزنوا الكتائب أرجح

ضلوا السبيل، وفي يمينك ساطع

يهدي النفوس إلى التي هي أوضح

هفت العشيرة إذ نهضت تريدها

والعير دائبة تشط وتنزح

تمشي (مواقر) في غواربها العلى

(أموال مكة) فهي ميل جنح

عد باللواء، وقل (لحمزة) إنهم

رهن بمرزمة تسح وتدلح

تهوى غداة الروع في طوفاتها

مهج الفوارس، والمنايا تسبح

هذا الفتى الفهري أقبل جامحا

يغزو (المدينة) والمضلل يجمح

ولي يسوق السرح، ولو لم توله

سعة لضاق به الفضاء الأفيح

دعه، فإن له (بمكة) مشهدا

يرضيك والشهداء حولك تطرح

ذهب ابن حرب في تجارة قومه

ولسوف يعلم من يفوز ويربح

نسر مضى متصيدا، ووراءه

يوم تصاد به النسور وتذبح

بينا يحيد عن السهام، أصابه

نبأ تصاب به السهام فتجرح

بعث (ابن عمرو) ما لكم من قوة

أن مالكم أمسى بلم ويكسح

واهاً (قريش) أنه الدم فاعلموا

من دون بيضكم يراق ويسفح

ص: 37

تردون برد الأمن، والنار التي

أنتم لها حطب تشب وتقدح

إن كنت لم أفصح لخطب هالني

فسلوا (بعيري) أنه هو أفصح

وخذوا النصيحة عن قميصي إنه

لأجل من يعظ النيام وينصح

إني صدقتكم البلاغ لتعلموا

وجبال مكة شهد والأبطح

جفلت نفوس القوم، حتى مالها

لجم ترد، ولا مقاود تكبح

وأبى (أبو لهب) مخافة ما رأت

في النوم (عاتلة) فما يتزحزح

وأرى (أمية) وتأخر حينه

لرآه (عقبة) ثاويا ما يبرح

يرميه بالهذر القبيح يلومه

ويسومه الخلق الذي هو أقبح

غشاه (سعد) روعة ما بعدها

لذوي المخافة في السلامة مطمح

نفروا يريدون القتال، وغرهم

عبث اللواتي في الهوادج تنبح

غنت بهجو المسلمين، وإنها

لأضل من يهجو الرجال ويمدح

الضاربات على الدفوف، فإن همو

ضربوا الطلى فالنادبات النوح

يتبع

إبراهيم عبد اللطيف نعيم

ص: 38

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

تلقى الأدباء ذلك النبأ الذي أعلنته الرسالة في العدد السابق، بأنها ستتجدد، وبأن الرواية ستعود إلى الصدور، بالفرح والابتهاج، فقد كان طبيعيا أن تجري الرسالة في موكب النهضة، وهي التي حمل صاحبها القلم منذ ثلاثين عاما يدافع له عن الفلاح والعامل، وطالب بحقوق الفقراء والضعفاء، ولطالما كانت مقالاتها هي صرخة الحق في وجه الباطل عندما كان الباطل قويا، ومتسلطا.

ولا شك أن الأدب العربي في حاجة إلى (الرواية) حاجته إلى المجلة القصصية الفنية، بعد أن انتشرت تلك الألوان المتهافتة من القصص.

والذين طالعوا الأعداد التي صدرت من الرواية في سنيها الثلاث مازالوا يذكرون ذلك الفيض الرائع من القصص العربية والمترجمة، المنقولة في أسلوب رفيع، وعلى نسق يكرم الذوق، ويغير الخلق، ويضع قواعد السمو والرجولة.

ويتصل بهذا أن الأستاذ الزيات قد أخذ يفرغ لهذا العمل بعد أن ترك مجلة الأزهر، وقد كانت عودته إلى الرسالة حبيبة إلى القراء الذين كانوا يطمعون في أن يوحد كاتبا الكبير جهوده في ميدانه الأصيل، ولا سيما بعد أن رسم لمجلة الأزهر الخطة المثلى، وأصبح على القائمين عليها أن يمضوا على نفس المنهج.

الكتاب الذين آثروا الانزواء

لفت نظري ذلك الكتاب المترجم الذي صدر هذا الأسبوع للدكتور محمد أبو طايلة، فقد آثر الدكتور أن يختفي وقتا طويلا عن دنيا الصحافة والأدب. . بعد أن ظل اسمه وقتا من أبرز الأسماء في الصحافة المصرية.

وقد جدد هذا الذكر في نظري البحث عن الأدباء الذين اختفوا في السنوات الأخيرة وآثروا أن يعيشوا حياتهم الخاصة يقرءون ولا ينتجون، لقد كنت أعرف أن (عقدة) نفسية قد طغت على بعض هذه النفوس فدفعت أصحابها إلى إيثار تطليق الحياة الأدبية والتوقف عن الإنتاج!

تلك هي غلبة الأدب الذي يطلقون عليه كلمة (الخفيف) والذي لا أراه صالحا لأن يكون لونا

ص: 39

من ألوان الأدب. . . فقد مرت بمصر فترة، كانت الصحافة وهي التي تلمك زمام الإنتاج تحرص على أن تقدم للقراء تلك الألوان التي تتصل بالغرائز والرغبات الرخيصة.

وقد جندت لهذا اللون بعض كبار الكتاب الذين حرصوا على (القدر) الضخم من الأجر، متجاهلين تاريخهم القديم، وماضيهم المعروف.

ولاشك أن الأدب الرفيع قد تقلص تحت ضربات هذا اللون الجديد، وانزوى وآثر هؤلاء الأدباء الانزواء أيضا.

وقد حق لنا الآن أن نطالب هذه الأسماء بأن تستأنف جهودها وعملها مرة أخرى بعد أن بدأت بشائر النهضة الجديدة التي سيكون (الأدب الرفيع) من أول قواعدها.

السجل الثاني

نظرة واحدة في السجل الثاني الجديد عن سنة 1951 تعطي فكرة واضحة عن ضعف الإنتاج الأدبي خلال العام.

فعدد الكتب القوية التي يمكن أن يطلق عليها هذا الاسم قليل جدا، بل نادر، وإنما هي مجموعة من الكتب؛ صدرت على طريقة الصحف التي تطبع في سرعة وتكتب في سرعة. . والتي ليس فيها بحث عميق، ولا تأمل واضح، ولا دراسة رصينة.

إنما هي مجموعة من الأفكار، كتبت ونشرت، ولما تستوف عناصر الكمال. . فإذا نظرنا في الإحصائيات، وجدنا ظاهرة ضعف الإقبال على القراءة واضحة، غاية الوضوح.

فإذا كان القراء في مدينة كالقاهرة في خلال عام كامل لا يزيد عددهم على 192 ألف في جميع دور الكتب، الدار الرئيسية والدور الفرعية، أي بمعدل 524 قارئ في اليوم، فإن هذا يعطي صورة صحيحة لمدى (إقبال!) القراء على البحث والقراءة والدراسة، مع ملاحظة أن هناك عدد كبيرا - من هذا الرقم - من الطلبة الذين يعاودون التردد على الدار مرتين في اليوم الواحد! وخاصة أيام الامتحانات الأولى والملحقة.

القراءات: ضعف في الكم والكيف

. . وقد رأيت أن أعرف الألوان التي يقرأها شبابنا الذين يترددون على دور الكتب فوجدت في أيدي الشباب في سن السابعة عشر قصص: صورة دوريان جراي،

ص: 40

وراسبوتين، وبيرون، وكرمن، وعربة اللذة وروايات موريس لبلان، عن أرسين لوبين.

وليس في قصة من هذه القصص ما يرفع مستوى الشباب من ناحية الفن والذوق أو الخيال أو الأدب، وإنما هي قصص هائجة مائجة، كلها شهوة وإثم وفجور وسرقات.

أنا لا أعيب قراءة القصة الممتازة، كقصص شكسبير وبرناردشو وجوته ولامرتين. .، فهي تربي في الشباب روح البيان والإنشاء والكتابة.

وإذا كنا نعيب على الشباب البعد عن القراءة، بصفة عامة والقراء النافعة بصفة خاصة. . فإننا لا ننسى أن نذكر أن وسائل طلب الكتب في دار الكتب ما تزال معقدة، فإذا طلبت دوريات الصحف في الغروب قيل لك أنه ليس بالمخزن نور، وإذا طلبت أكثر من أربع كتب رفض طلبك، هذا فضلا عن عدم وجود مراجع كاملة واضحة.

. . أما إذا كان هناك أديب من الأدباء أو مفكر من المفكرين يريد أن يبحث فنا أو مادة. . أو علماء، فإنه لا يجد ما يعينه إذا لم يكن له صديق من موظفي دار الكتب وتلك ملاحظات خفيفة نهديها إلى الأستاذ الكبير توفيق الحكيم.

أدب الجيش وتاريخه

من الملاحظة أن تاريخ الجيش المصري لم يكتب بعد على وجه موسوعي أو كامل. . وذلك نقص، إن كنا قد قصنا فيه في الماضي، فإننا يجب أن نتلافاه اليوم.

الحق أن جيشنا له تاريخ مشرق، منذ عهد طويل، منذ الفراعنة عند طرد الهكسوس. . وعندما وقف وقفته في كوتاهية، ومواقفه في فتح عكا وبطولته في عين جالوت.

وهو الجيش المصري الذي رد الصليبيين، في المنصورة ودمياط، ورجاله الأبطال الذين أسروا قلب الأسد ملك إنجلترا، والقديس لويس إمبراطور فرنسا.

. . ونحن الآن نطالب بأن يكتب تاريخ الجيش من جديد على ضوء البطولة الرائعة التي سجلها منذ سبعين عاما عندما زحف عرابي على قصر عابدين، وبعد سبعين عاما عندما زحف محمد نجيب على قصر رأس التين وخلع الفاروق.

إن في تاريخ جيشنا، مواقف كثيرة مشرفة، جديرة بأن تكتب على طريقة الأدب والفن لا على طرقة التأريخ، وأن بعض هذه المواقف، جدير بأن ينقل إلى السينما. .، فقد رأينا الكثير من الأفلام السينمائية التي صورت أجزاء من تاريخنا في أوضاع مشوهة،. . وحق

ص: 41

لنا في عهد النهضة أن نرد عن كرامتنا ونذود عن تاريخنا بعض ما أصيب به في العهد الماضي من أخطاء، وإهمال!!

الأدب النسوي

يعرف قراء الصحف اليومية، ما قيل من أن الدكتورة (بنت الشاطئ) سترفع دعوى على بعض المخرجين السينمائيين لأنهم أطلقوا اسمها على فلم من الأفلام السينمائية.

وقد عادت الدكتورة في الأسبوع الماضي من رحلتها إلى أوربا هذه الرحلة الخامسة من رحلاتها السنوية التي جعلتها في السنوات الأخيرة جزءاً من برنامجها.

وقد كانت هذه الرحلات زاداً للكاتبة الكبيرة أضافت خبرتها، حين قرأت عن هذه البلاد، خبرة جديدة وتجارب واسعة زادت خبرتها سعة وتجاربها قوة وحيوية.

ونحن نطمع أن تخرج رسالة ضخمة عن هذه الرحلات.

وإذا كانت الدكتور (بنت الشاطئ) بصدد إخراج كتاب (صور من حياتهن) الذي سيظهر خلال هذا الشهر فإننا نتساءل الآن عما تقرأ المرأة!

والواقع أنه ليس هناك أدب نسوي بالمعنى المعروف، وكتابات أمينة السعيد، وبنت الشاطئ، وسهير القلماوي،. . كلها كتابات مسترجلة، ليس لها طابع نسوي بمعنى الكلمة!

ومن الناحية الأخرى فإن قراءات المرأة في مجموعها ضعيف ومشتتة، والمرأة المصرية المثقفة عندنا في - الواقع لا تقرأ. . إن تكن تكره زوجها إذا كان يحب القراءة. . - وإذا قرأت فهي تقرأ الاثنين وآخر ساعة والمصور!. .

ولا نعتقد أن مثل هذه القراءات تكفي لتربية الذوق الفني أو الأدبي في المرأة المثقفة!

ونحن نرجو أن يتيح العهد الجديد للمرأة إنشاء أدب نسوي. . له طابعه الخاص. . يجري مع النهضة الحديثة!! ويكون طابع المرأة الجديدة.

أنور الجندي

ص: 42

‌المسرح والسينما

المسرح المصري في عام

للأستاذ علي متولي صلاح

شغلتنا العلة والرحلة عن أن نسجل جهود المسرح المصري في العام الماضي، فقد كان عاماً خصباً موفور الإنتاج كثير النشاط يمتاز امتيازاً واضحاً ملموساً عن الأعوام القريبة السابقة، ولعل مرد ذلك إلى التنافس القوي الذي احتدم بين الفرقتين اللتين كانتا فرقة واحدة هي (الفرقة القومية المصرية) ثم انقسمت - كما ينقسم كل شيء عندنا - غلى فرقتين هما (الفرقة المصرية)(فرقة المسرح المصري الحديث)

أما الأولى فقوامها من رجال المسرح الأقدمين، وأما أخراهما فقوامها شباب جديد يدرجون على المسرح لأول مرة وهم أصحاب مذهب آخر واتجاه آخر يعاير كثيراً ما يذهب إليه رجال الفرقة الأولى.

والمسرح هو - كما يعلم القراء - الصورة المهذبة المشذبة للحياة، وهو أرفع أنواع الفن والأدب، بل هو على الأصح جماع عدد كبير من الفنون والآداب، فالحديث عنه إنما هو حديث عن الحياة والأدب والفن جميعا، وأرجو أن يأتي اليوم الذي أرانا فيه نقتتل ونتخاصم ونختلف حول رواية من الروايات كما بفعل الأوربيون في نواديهم وأحاديثهم وصحفهم.

ولقد دأبت الفرقة الأولى - وأعني بها الرقة المصرية التي كان يتولى أمرها الأستاذ يوسف وهبي - دأبت كشأنها دائما على تقديم ما خفت مؤونته من الروايات المترجمة التي رآها الناس أكثر من مرة فكان ذلك مها إفلاساً كبيراً وقصوراً معيباً، اللهم إلا عدداً آخر من الروايات كان الأستاذ يوسف وهبي فيها هو المؤلف والمخرج والممثل جميعا! وليس من عجب في ذلك ولا من غرابة فكلنا يعلم أنه.

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد!

نعم. . . كان الأستاذ يوسف وهبي دكتاتورا متصرفا في كل الأمور، بل إن دكتاتوريته امتدت في كثير من الأحيان إلى أعمال بعض المؤلفين الذين تتقطع نياط قلبه دون أن يبلغ شيئا مم بلغوه، وأشير هنا على سبيل المثال إلى الجرأة التي ارتكبها هذا الرجل في وراية

ص: 43

(سر الحاكم بأمر الله) للأستاذ علي أحمد باكثير، فقد عدا فيها على المؤلف عدواناً كبيراً وغير شخصية (الحاكم بأمر الله) - كما أرادها المؤلف - من النقيض إلى النقيض، وحمله من الرأي والفكر ما لم يحمله المؤلف، وقلبه من رجل قوي قادر ذي بطش وذي إرادة وقوة! إلى رجل ضعيف متهالك مهرج دجال، ولا ندري لذلك من حكمة إلا رغبة الأستاذ يوسف وهبي في أن يظهر على المسرح دائما مهرجا دجالا تفرح العامة لرؤياه وتدمى أكفهم بالتصفيق له!

أما تأليفه فهو مجموعة أمشاج وأخلاط ومسوخ شائهة! بل هي سوءات لا أدري كيف يعرضها على الناس، وأشر إلى واحدة منها مما قدمه في العام الماضي وهي التي سماها (70 سنة) فهي فؤوس تهوى على عقول النظارة، وهي صخور يجرها من هنا الميكرفون ومن هناك المناظر السينمائية لأنها لا تستطيع أن تنهض منفردة وأن تعيش مستقلة! وهذا خلط ليس من الفن المسرحي في شيء.

ولذلك فقد كان حسناً جدا أن ابعدوا هذا الرجل عن تلك الفرقة. . والله المسئول أن يهيئ لها من أمرها رشدا في عهدها الجديد.

وأما الفرقة الثانية - وأعني بها فرقة المسرح المصري الحديث - فهي مجموعة من الشباب الذين نالوا حظا غير قليل من الثقافة والمعرفة والدراية بشؤون المسرح، ودرسوا فن التمثيل والإلقاء والإخراج في المعهد العالي لفن التمثيل، فكانوا دما جديدا، وكانوا وثبة جديدة باركناها يوم ظهورها على صفحات (الرسالة).

ولقد سلخت هذه الفرقة عامين من عمرها، ونهضت فيها نهضة مشكورة، واستطاعت إلى حد كبير أن تثبت وجودها في عالم المسرح، وقدمت للناس عددا لا بأس به بين مؤلف ومترجم من أمثال (مسمار جحا)، (مريض رغم أنفه)، (حورية من المريخ) وسواها مما رآه الناس وحمدوا لها حسن اختياره، فإن اختيار الرجل دليل عقله، وإن الشاعر القديم ليقول:

قد عرفناك باختيارك إذا كا

ن دليلا على اللبيب اختياره

ولكن الحق يقتضينا أن نأخذ عليها أنها قدمت توافه خسيسة ضئيلة القيمة من أمثال (دنشواى الحديثة)، (كسبنا البريمو) مما سبق أن أفضنا في الحديث عنه.

ص: 44

ولقد استطاعت هذه الفرقة الناشئة أن تصرع الفرقة الأخرى القديمة التي يهيمن عليها الأستاذ يوسف وهبي بهيله وهيلمانه، وعندنا أن مرد الأمر في نجاح هذه الفرقة الشابة إنما يعود إلى المجهود الجبار العنيف الذي يبذله الأستاذ زكي طليمات في إخراج الروايات وتدريب أعضاء الفرقة تدريبا دقيقا على كل لفظة وكل خلجة وكل لفتة يؤدونها، وأشهد لقد رأيته وهو يتصبب عرقا في تدريبهم ويبذل في ذلك جهد المخلص الصبور، الأمر الذي جعلنا تأخذنا الدهشة والحيرة عندما سمعنا بأمر هذا الانقسام الذي يؤسف له كثيرا بين هؤلاء الأعضاء وأستاذهم زكي طليمات.

وليس المقام هنا مقام أن نخوض في أسباب هذا الخلاف؛ ولكننا نجد أن تمرد التلاميذ على أستاذهم وخروجهم عليه وتشهيرهم به أمر تأباه الأخلاق الفاضلة، فما بالك وهو ليس أستاذا عاديا ولكنه أستاذ يبذل لتلاميذه كل جهده ووقته، وينفق حياته في إعدادهم وإنهاضهم وإظهارهم للناس في أحسن صورة، ويحدب عليهم حدب الآباء على أبنائهم - ونحن نعلم من ذلك الكثير - ثم ينتهي الأمر بهذه النبوة المفاجئة وكيل التهم لأستاذ كان هو لحمة هذه الفرقة وسداها.

وعلم الله ما ندافع عن الرجل ما لقيناه وما سمعناه منه كلمة في هذا الصدد، ولقد كنا أول من حمل عليه لما اختاره من روايات سيئة، ولكننا نكون مع الحق دائما، والحق يقضي هنا بأن نقول إن فرقة المسرح المصري الحديث يعزى وجودها وكيانها ونهوضها إلى الأستاذ زكي طليمات، وإن كل تقدم ناله أعضاء هذه الفرقة أو سينالونه في المستقبل فإنما مرجعه إلى جهود هذا الأستاذ.

علي متولي صلاح

ص: 45

‌البريد الأدبي

ظاهرتان

طلعت علينا في العدد 1005 بظاهرتين تستوقفان الأنظار، فأولاهما في ص 1121 قصيدة بعنوان وحي البردة من أروع الشعر وأعذبه؛ استوحى فيها ناظمها هدى بردة البوصيري الخالدة. واسم الناظم أشبه بأسماء المسيحيين. فإن كان ذلك فلا عجب فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو نبي البشرية ودينه هو دين الإنسانية. . فللأستاذ ميشيل الله ويردى - خالص الشكر والقدير والتهنئة.

والظاهرة الثانية ما ذكره الأستاذ علي الطنطاوي في ص 1107 من أن البوصيري كفر كفرا صريحا يعد كفر المشركين من قريش إن قيس به إيمانا - وذلك في قوله:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

والأستاذ الطنطاوي في هذا يتابع محمد بن عبد الوهاب إمام حنابلة نجد - ورمى البوصيري بالكفر ليس بجيد! والإنصاف يقتضي بحث ظروف وملابسات البيت المذكور فهو يقع في أول الفصل العاشر من البردة عند الكلام على هول الزحام، وقد اتفق البخاري ومسلم وكثير غيرهما على حديث الشفاعة الطويل المتواتر وفيه أن الناس تأتي آدم ثم إبراهيم ثم عيسى ثم محمد (ص) فيقول أنا لها إلى قوله فيحد لي حدا. فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة (هكذا نص الحديث) فالبوصيري يريد بكلمة سواك سائر الرسل الذين يستعفون الناس من الشفاعة يومئذ، وهاب الناس إليهم كما يدل الحديث ليس بشك وهذا ما أوجزه البوصيري في بيته، وعبارة يا أكرم الخلق تشعر المنصف بشدة الإيمان. . فالخلق لا يوجدهم إلا الخالق سبحانه وتعالى فهو لم يؤله النبي وإنما جعله أكرم خلق الله.

واللياذ في البيت هو الإتيان للاستشفاع الذي ذكره حديث الشفاعة. والحادث العمم هو القيامة بداهة - والاعتراض على البوصيري هو إنكار لحديث اتفقت الأمة على تواتره ولم يطعن فيه أي محدث. . ونحن الآن في زمن مادي لا يحل لنا فيه النيل من السلف الصالح، وخيرنا اليوم من يكون فيه نصف صفاء البوصيري أو ربع يقينه.

وختاما أرجو تكرمكم بنشر هذا إنصافا للبوصيري وبردته المباركة؛ وتبرئة لطائفة كبيرة من الأمة ترمي بالشرك ظلما وعدوانا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 46

بعد السلام النجار

لا زار في شعر شوقي

جاء في الشوقية التي لم تنشر لشوقي قوله:

ود (لا زار) يوم أحياه عيسى

لو تذوق المنون طعم الفناء

ولا زار اسم عبري الأصل، هو اليعازر أو اليعازار ومعناه (الذي يساعده الله)، وهو بالفرنسية لازار، وبالإنجليزية لازاروس، وقد حرفه العرب قليلا عازر أو عازار، وأورده أبو الطيب المتنبي في قصيدته التي يمدح بها محمد بن زريق الطرسوسي ومطلعها (هذه برزت لنا فهجت رسيسا)، إذ قال:

أو كان صادف رأس (عازر) سيفه

في يوم معركة لأعيا (عيسى)

وحبذا لو استعمله المرحوم أمير الشعراء بهذا الشكل لكان أقرب إلى شكل العرب وإلى أصله العبري.

2 -

في كتاب معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع ضبطت قرية (ظبا) الواقعة على ساحل مدين بشمالي الحجاز بالطاء. والصواب كما أعتقد أن يكتب الاسم بالضاد (ضبا) لا بالظاء

وفي الباب ذاته قيل (جبة) عن المنهل المعروف في شمالي نجد بين (الجوف) و (حائل). لقد سمعت بنفسي قبائل (شمر) و (الشرارات) القاطنة في تلك القفار ينطقونه (الجوبة) بالواو والجيم والمضمومة. ولما كانت (الجوبة) بفتح الجيم هي الحفر، وما كانت الجبة بعيد عن المقصود، إذ لا جواز لأن تكون مؤنث (الجب)(وهو أيضاً الحفرة أو البئر الواسع)، فقد تكون (الجوبة) أقرب إلى الصواب، والله أعلم.

سامي

تحت مناظر النقد

نشرت الرسالة في عددها الصادر في (6101952) قصيدة

ميمة للأستاذ (ميشيل الله ويردي) بعنوان (وحي البردة)

ص: 47

وقد اضطر الوزن والقافية الشاعر إلى تحريف بعض الألفاظ أو حشوها حشوا بحيث لم تناسب معانيها التي سيقت من أجلها، فالشاعر يقول:

ومن يهم بعظيم يتحد معه

في الرأي والفكر قبل الوسم والأرم

والوسم بمعنى الجمال خطأ وصحتها الوسامة. . كما أن الأرم بمعنى الخلقة خطأ وصحتها الأرم بسكون الراء. (القاموس المحيط)

ويقول الشاعر:

وشرع أحمد بالقرآن وحدكم

وجد في أمركم بالحب والسلم

و (سلم) بالتحريك خطأ أيضاً وأصلها (سلم) بكسر وفتح السين وسكون اللام.

ويقول الشاعر:

فأربا بنفسك أن تنهار من ألم

واربأ بحسنك أن يكمد من سأم

و (يكمد) بتشديد الدال بمعنى (يستحب) خطأ والصحيح يكمد كما في المصباح المنير

ويقول الشاعر:

آياتك الغر إعجاز تنزه عن

ند وليس دعى الحب كاللدم

ويقول:

إن كان ينجح طب الناس في جسد

فأنت تفعل بالأرواح كالحسم

ويقول:

فاستجمعوا أمركم فالله وحدكم=والمكر فرقكم في حومة الجسم

فما معاني: اللدم والحسم والجسم التي يقصدها الشاعر والتي تتناسب مع المعنى؟ لا أدري ولا تدري قواميس اللغة. ولا شك أن القافية قد اضطرت الشاعر إلى حشو هذه الألفاظ. وفي القصيدة هذا البيت:

محمد رد من ضلوا وعلمهم

حق النساء اللواتي كن كالرمم

ولا شك أن تشيبه النساء بالرمم شيء لا يقره الذوق السليم. فإن من طبيعة الرمم أن تعافها العيون وتفر منها الأنوف. وليس هذا من طبيعة الجنس اللطيف. وإذا كان الشاعر قد أراد أن يبين مدى إهمال النساء بالجاهلية وأن يصور النظرة التي كان العرب ينظرونها إليهن فقد كان يجب أن يشبههن بشيء مهمل ولكن ليس قذرا بشعا كالرمم. وكان الأحرى أن

ص: 48

يقول:

محمد رد من ضلوا وعلمهم

حق النساء اللواتي كن كالبهم

أو كالنعم. فإن العيون لا تأبى أن تقع على البهم كما تأبى أن تقع على الرمم

عبد اللطيف محمود الصعيدي

1 -

تصويب

أخطاء في مقالتي في العدد (1005)

الصفحة

العمود

السطر

الصواب

1107

1

6

وأنه لا يكفي فيه

1107

1

13

وأنه لا يوحي أبدا

1108

1

5

(من مشايخ الطرق)

1108

1

ص: 49

17

وهذا كله وإن صح طريقه من أخبار الآحاد لا تثبت به عقيدة. ولا يبنى عليه علم

وأخطاء أخرى في الحروف وعلامات الوقف لا تخفى على القارئ

2 -

تصويب

وقع في قصيدة الأستاذ ميشيل الله ويردى هذه التطبيعات فالرجا من القراء تصحيحها

الصفحة

العمود

السطر

الصواب

1121

2

الأخير

ضلوا بدلا من خلوا

1122

1

قبل الأخير

الدم بدلا من اللدم

1122

2

14

تنابذهم بدلا من تنابزهم

1122

2

قبل الأخير

ما الدين بدلا من والدين

ص: 50

شطر (قوم إذا استخصموا) اقتباس يوضع بين وقوسين وقد كان هذا التقديم في مطلع القصيدة فتأخر نشره سهوا.

علي الطنطاوي

ص: 51

‌القصص

فلوريدور ومرغريت

أقصوصة فرنسية

- أحبك حبا ملأ جوانب نفسي وملك عليّ مشاعري

- لقد وهبتك قلبي عربونا لحب لا انتهاء له

- أحق ما تقولين، أم هذا صدى غرامي تردده الأوهام؟

- يشهد هذا البدر المنير، وهذا الروض النضير، ويشهد مبدعهما أنني لا أحب سواك، ولا أقف حياتي إلا عليك.

وسمع من بعد وقع أقدام فذعر العاشقان، وتواعدا إلى الغد. وتسلق الشاب جدران الحديقة العالية وتوارى مبتعدا في الشارع وهو يناجي نفسه قائلا: من تكون يا ترى هذه الفتاة التي تقف حياتها على، وما أنا إلا ممثل على المسارح العمومية؟ إن كل ما يتجلى لي فيها ينم عن محتد رفيع وثقافة عالية. لقد أرادت أن تخفي اسمها عني فقالت: ما دمت في مدرسة الدير تلميذة أتلقن العلم فما أنا إلا أسيرة لا أملك نفسي، فاقنع بما أعلنته لك من حبي الآن إلى أن أبرح هذا المكان فأطلعك على الحقيقة وأسلمك يدي أمام الله والناس.

وكان الفتى فلوريدور يستعيد ذكرى اليوم الذي رأى فيه لأول مرة هذه الغادة الفاتنة تطل من نافذة الدير وترسل إليه نظرة أو قدت جذوة الغرام في قلبه. وتابع السير حتى وصل إلى غرفته الحقيرة حيث تطرح على سريره أملا زيارة طيف الحبيبة في منامه.

وعاد الفتى في المساء التالي إلى مكان الملتقى، وبات ينتظر موافاة الحبيبة فأخفقت آماله؛ وعاود الكرة مرارا فما رأى في جنة غرامه غير أزهارها، وما نشق غير عبيرها. ومرت الليالي فتيقن العاشق أن سره قد افتضح، وتأكد أن الحبيبة قد غادرت الدير وعبثا فتش عنها فما عثر لها على أثر.

- 2 -

ومرت على العاشق أيام ساعاتها أعوام، وهو يشغل نفسه بالتمثيل على المسارح، وفي قلبه غصص من تذكارات الفتاة المجهولة وفي ذات ليلة كان فوريدور يقوم بتمثيل دور مؤثر

ص: 52

فحانت منه التفاته إلى مقاعد الطبقة العالية، فرأى حبيبته شاخصة إليه وقد ارتسم الحزن العميق على ملامحها وتساقطت من عينيها الدموع. وقف الممثل مشدوها إلى أن نبهه صوت الملقن الذي حسب أنه نسي دوره، فعاد إلى التمثيل بلهجة ملأها الحب روعة وهو يتبع على ملامح من يهوى تأثير إلقائه وإيمائه. وما انتهى من التمثيل حتى هرع إلى غرفته مغيرا أثوابه واندفع إلى مدخل المسرح لعله يرى خالبة لبه. فلم يوفق إلى لقائها؛ وتكررت هذه الحادثة والممثل يحاول عبثا مقابلة الفتاة عند نهاية عمله، إلى أن دخل عليه يوما وهو في لجج ن الأحزان شيخ مهيب تدل أثوابه على أنه من علية القوم، فاستقبله الممثل مستغربا هذه الزيارة، ولكن الشيخ مد يده مصافحا وقال: عفوا أيها الشيد؛ إنني أتيتك ولا معرفة بيننا، ولكن من الأمور ما يجيز تجاوز المألوف؛ ولدي مسألة هامة يتوقف عليها شرفي وسعادتي. أنا نبيل وأنت من كرام الناس فسوف أتناول الموضوع بلا توطئة.

- تكلم يا سيدي، فأنا مصغ

- هب أنك أمير ولك ابنة جميلة في ريعان الصبا وهي وارثة اسمك الوحيدة، وقد وجدت لها عريسا من أعاظم الدولة تحسده الملوك على أمجاده فلم تقبل ابنتك ما أعددته لها من سعادة فماذا تفعل؟

- أترك لها الحرية، وأجتهد أن أكتشف سر قلبها، إذا لعلها وهبت قلبها لمن امتلكها حبه فلا تستطيع مقاومة قضاء الله فيها.

- وإذا عرفت أنها عاشقة؟

- أطاوعها في إرادتها وأساعدها على الاقتران بمن تهوى، فليس بغير الحب من سعادة على الأرض.

- وإذا كان ما تشير به يفوت الإمكان؟

- ولماذا؟

- لأن الفتاة التي أتكلم عنها هي وحيدة الدوق بارسلان أحد نبلاء القصر، وهذا الدوق واقف أمامك الآن، ولأن الذي تهواه ابنتي رجل شريف ولا ريب، ولكنه ممثل.

- فهمت يا مولاي. إن في تنازل ابنة الدوق بارسلان إلى عشق من هو دونها نسباً لعارا تأباه الطبقة المميزة بالألقاب، ولكن ما تعني بهذا الكلام؟

ص: 53

- إذا كان الأمر لا يتضح لديك، فهاأنذا أصرح. إن الممثل الذي امتلك فؤاد وحيدتي هو أنت، أيها السيد فلوريدور.

وصعق الممثل وهتف قائلا - أنا؟

- عفوا، إن في هذا التصريح ما يمس عزة نفسك، ولكنني ألجأ إليك فلا تخيب أملي، فإنك على ما أرى لا تعرف ابنتي وما اجتمعت بها؛ فإذا ما تقدمت إليك بطلب ظاهره مستغرب يؤدي إلى إلزامك بتضحية فلن يصعب الأمر عليك، وعليه يتوقف الإيفاء على شرف اسمي وحياة وحيدتي وهي تعلن أنها لا تريد أن تقترن بغيرك.

- وما هي هذه التضحية؟

- إنك قادر على اقتلاع جراثيم حبك من قلبها

- وبأية طريقة أقتلع ما تسميه جراثيم حبي؟

- أصغ إلي. . . إن وحيدتي لم ترك إلا عن بعد وأنت على المسرح مرتديا أثواب الأبطال تنشد أجمل الأشعار، فمن السهل عليك أن تبدد أوهامها إذا أنت رضيت بالظهور إليها في مظهر الرجل العادي، بل الرجل المتهتك السكير البعيد عن كل تهذيب وثقافة، فتتأكد عندئذ أنها عشقت ثوبا، وأعجبت بما ليس منك بل من أقوال الشعراء. إن ما أكلفك به هو الظهور بهذا المظهر فتحتقرك وتشفى من دائها العقام؛ وهل من قاتل للحب غير الاحتقار؟

استغرق فلوريدور في التفكير. لو كان ما يعتقده الدوق صحيحا من أنه لم يجتمع بالفتاة وما عرفها، لكان هنالك واجب يسهل القيام به، ولكن أنى للقلب الذي ضم المحبوب إليه أن يستهل انسلاخه عنه: ولاحت الفتاة الشريفة الرفيعة المحتد لخيال الممثل واقفة من حبه على شفا جرف تكاد تنزلق عليه هازئة بقلب أبيها واعتقادات من تنتمي إليهم. وطال تفكيره وهو يقابل بين ضحيتها والتضحية التي يعرضها أبوها عليه، فإذا بصوت الشيخ والوقور يرتفع قائلا: لا تتردد، أيها السيد الكريم! إن ما يوجه إليك الآن إنما هو رجاء والد حصر في وحيدته كل ما في الحياة من سعادة ومجد وآمال؛ فما أنا إلا شيخ هاو ضعيف، بل أنا أحد أشراف وطنك أضرع إليك أن تحفظ اسم سلالتي من العار، فلا تدعني أذهب بواجبي إلى القسوة على ابنتي التي لم يترك لي الدهر سواها.

وأدمى كلام الشيخ قلب الفتى، فوعد بالقيام بما يطلب منه لاستئصال حبه من قلب الفتاة

ص: 54

الوحيدة التي ملكت لبه وملأت جوانب نفسه.

- 3 -

وفي اليوم التالي عند الظهر أعلن خادم القصر لسيده الدوق قدوم الممثل فلوريدور. فقال الدوق أدخله إلى البهو الكبير وهاأنذا آت إليه.

دخل فلوريدور البهو وجاء الدوق يصافحه؛ ثم ظهرت الغادة فقال الدوق:

أقدم إليك، يا ابنتي، الممثل فلوريدور الذي أعجبت بتمثيله وهو من كبار أهل الفن، ولذلك دعوته إلى مائدتنا ولعلك تسرين بذلك.

وطأطأ فلوريدور رأسه مفكرا بأية فظاظة يجب عليه أن يبتدئ بتمثيل دوره الذي عاهد الدوق على القيام له؛ ولكنه ما رفع بصره وشهد خالبة لبه حتى علا وجهه الاصفرار، وما مدت يدها لتصافحه وهي ترتجف من الشوق خيل إليه أنه يلصق شفتيه بشفتيها، ويغرق نور عينيه بأنوار عينيها. والتفت إلى ما حوله فارتعش أمام مظاهر الأبهة والبذخ في هذه القاعة تقف بينها فتاة حديقة الدير التي أقسمت له بالله ألا تحول عن حبه ولا ترضى بغيره رفيقا لحياتها، فرأى هاوية سحيقة تنفتح بين رجليه ولاحت له الحبيبة في معتصم من جبل لا قبل له ببلوغه، وتذكر وعده للأب الشيخ المتوسل الضعيف. فتمالك عواطفه وفيها ثورة وسعير.

وجلس فلوريدور إلى المائدة بين الدوق وحبيبته؛ فلما قدم الخدم أول لون من الطعام كان قد ملأ كأسه وأفرغها في جوفه دفعة واحدة، ثم ألحقها بكأس وكأس؛ ثم أخذ يمثل دوره متكلما بلهجة عوام الناس منتخبا ألفاظه السمجة، وما مرت نصف ساعة حتى كان فلوريدور يحملق بعينيه ويقسم ويلعن متدحرجاً تحت المائدة وقد سحب غطاءها معه فتدحرجت الأواني تتحطم بفرقعة أخفت الزفرات التي كانت تندفع من فم شهيد المروءة بالرغم عنه.

ونهضت ابنة الدوق بإشارة من أبيها وقد علا وجهها اصفرار الموت، فتقدم الدوق إلى الفتى قائلا: إن مروءتك تفوق إبداعك في التمثيل، لقد جبرت فؤادي الكسير، دعني أسد إليك الشكر الذي تستحق. ولكن ماذا أرى. . ما هذا الدموع المتدفقة من عينيك أيها السيد؟

ووجم الدوق إذ لم يجبه فلوريدور بكلمة؛ بل اندفع إلى خارج القاعة كأنه فقد رشده مرسلا ما كبته من زفرات وعويل.

ص: 55

- 4 -

ومر فلوريدور بعد أيام قرب دير راهبات الكرمل، فرأى جمعا محتشدا في الأسواق المجاورة، وسمع رنين الأجراس مؤذنة باحتفال كبير، وإذا بعربة مذهبة موسومة بشارات الشرف ووراءها عدد من العربات الأخرى، وكلها فاخرة تجرها الجياد المطهمة. فسأل أحد المتفرجين عن هذا الاحتفال فقال له: هذه عربة الدوق بارسلان تحمله وامرأته لحضور حفلة ابنتهما. .

ولم يقف فلوريدور ليسمع تتمة الحديث؛ بل اندفع راكضا نحو مسكنه الحقير وهو يقول في نفسه: أواه، لقد نجحت في تمثيلي، وهذه الحبيبة تتزوج اليوم بشريف من طبقة أهلها. ويلاه من ظلم الأقدار!

وما آوى إلى غرفته حتى رأى على الخوان غلافا باسمه، فافتض ختمه وقرأ ما يأتي:

(بالرغم من محاولتك اقتلاع حبك من قلبي لم يزل شخصك نصب عيني، فلن أنظر إلى غيرك حتى يواريني رمسي. ما فاتني الجهد الذي بذلته لإرضاء والدي. فقد كنت أقرأ في قلبك حقيقة نفسك وأنت تسدل عليها ستار تمثيلك؛ ولهذا أقسمت ألا اسلم يدي إلى سواك، ولكنك لن تتسلم هذه اليد، فكل شيء يفصلني عنك حتى إرادتك. فهاأنذا أنخرط في سلك الرهبنة لأبر بقسم أقسمته أمام الله في الحديقة بين ذراعيك وأقسمته أيضاً وأنت تخنق زفراتك، وتقضي على كرامة نفسك.

(اليوم أتشح السواد، وأسدل على وجهي النقاب. وهذا الكتاب وهو آخر فكر أوجهه إلى هذه الحياة، وحتى تطلع عليه تكون حبيبتك مرغريت دي بارسلان قد ماتت عن هذا العالم لتحيى بالله. . .)

الراهبة إيناس

ف. ف

ص: 56