الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 1008
- بتاريخ: 27 - 10 - 1952
رسالة وجوابها
كتب إليَّ السيد محمود عبد السيد حمزة يقول:
(سلام الله عليك
قرأت لك (ثورة فيها ريح النبوة)؛ والحق أنها ثورة مباركة أنعشت لمصر من الآمال ما أذواه العهد البغيض؛ ولكنك يا سيدي اختتمتها بثورتك على الأحزاب والنواب ومهازل الزعامة.
ولما كان لرأيك قدره عندي فهل يا ترى أفهم من كلامك أنك تقر حكم الفرد وأنت الذي فتح باب رسالته على مصراعيه للرأي والمشورة؟ لا تظلم الأحزاب يا سيدي ولا النواب، فمنهم من يزكيهم الله. وإذا أخذنا عليهم بعض الأوزار فوزرهم في عنق من وطد للفساد أركانه. أدع إلى الشورى يا سيدي ولا تيأس؛ فقد ذهب الفساد وعهده ولم يبق إلا الإصلاح فلرأيك قيمته وقدره).
وجوابي عن رسالة السيد الفاضل، أني لا أومن بحكم على نظام معين. وإنما أومن بأي حكم يقوم بنيانه على الشورى، وينبسط سلطانه على العدل. وليس للشورى نظام واحد لا يجوز غيره، ولا للعدالة منهج واحد لا يؤدي سواه. يجوز أن تصدق الشورى على لسان بكانة أو وزارة أو ندوه، كما يجوز أن تتحقق العدالة على إمام أو ملك أو رئيس. إن العبرة بالمعنى لا باللفظ، وبالروح لا بالنص، وبالفكرة لا بالصورة. كان على يستشير، وكان معاوية يستشير؛ ولكن ابن أبي طالب كان يستشير أهل الذكر من صحابة الرسول، وابن أبي سفيان كان يستشير أهل المكر من بطانة الملك. وكان عمر بن عبد العزيز يعدل ويظن لتقواه أنه يجور. وكان الحاكم بأمر الله يظلم ويظن لفجوره أنه يعدل.
إئتنا بمستبد كعمر أو بمشاور كالرشيد، نلق إليه مقاليد الحكم ثم نعيش في ظلاله حكمه بنفسه، أو حكمه بغيره، كما يعيش البنون في كنف الأب، أو المؤمنون في ظلال الله.
أما أن ننقل النظام البرلماني الأوربي من ورق باللغة الإفرنجية، على ورق باللغة العربية، ثم نطبقه على أمة ليس لها رأي عام ولا وعي تام ولا إرادة حرة، فذلك عبث لا ينشأ عنه إلا ملك يقول أنا الدولة وهو كومة من القذر، وبطانة تقول أنا القصر وهي مجموعة من الفحش، ووزارة تقول أنا الحكومة وهي عصبة من السماسرة، وأحزاب يقولون نحن الأمة وهم مناسر من اللصوص، ونواب يقولون نحن الشعب وهم جماعة من المرتزقة؛ ثم
يوهمون الناس بالقوة أو بالخديعة أن جملة هذه المخازي هي الدستور!
إن الدستور يا سيدي نظام في ذاته صالح. ولكنه في مصر حتى يراد باطل، أو انتخاب مزيف يؤدي إلى حكم مربح. والناس في الشرق يعبدون ألفاظ الحرية والوطنية والدستور من غير فهم، وفي الغرب يعبدون ألفاظ الديمقراطية والإنسانية والعدالة من غير إيمان. وعبادة الألفاظ كعبادة الأشخاص أولها جهالة وجمود، وآخرها ضلالة وكفر!
لا ينجح الدستور يا سيدي إلا في بلد يكون أهله جميعا مؤمنين بالله أو مثقفين بالعلم!
أحمد حسن الزيات
الإسلام في موكب الإصلاح
الحكم الوراثي
للأستاذ محمد عبد الله السمان
كانت وثبة الجيش المباركة إيذانا بنهاية حكم إقطاعي جائر. ظلت مصر السنين الطوال ترزح بسببه تحت أعباء ثقال من العنت والإرهاق والشقاء. وتتجرع كؤوسا فائضات من البؤس والأسى والعناء، ولم تكتب وثبة الجيش المباركة نهاية ذلك الحكمالإقطاعي المنقرض إلا وهي مؤمنة بفساده، وبضرورة هدمه من أساسه، لتقيم على أنقاضه نظاما صحيحا يعتمد على أسس سليمة تحقق الخير للشعب والوطن على السواء.
ومن الحقائق التي لا تحتاج إلى نقاش، أن الحكم الإقطاعي المنقرض لم يشد أزره في الماضي المنصرم سوى نظام الحكم الوراثي، الذي كان شرا كله على مصر وطنا وشعبا، فقد كان يخيل إلى الجالس على العرش أن مصر ضيعة له، وان شعبهاعبيد نعمته، كما قدر له أن يظل في جبروته مطمئنا، وفي عدوانه آمنا، لا يرهب الشعب ولا يخشى ثورته، لأن الشعب الذي لم يجلسه على العرش لا يقوى على خلعه عنه، ولأن الشعب الذي اغتصبت بلاده لتكون إقطاعية يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، لا يقوى على انتزاع السلطة من المفروضين على حكم بلادهم فرضاً.
ونظام الحكم الوراثي نظام إقطاعي محض، نكبت به بلاد الشرق، وفي مقدمتها مصر، فقد ضلت الأسرة العلوية تحكمها حكما وراثيا خلال قرن ونصف قرن، فنهبت ما نهبت من خيراتها، وسرقت ما سرقت من أراضيها، وحولت مجرى الثراء إلى أفرادها، حتى بلغوا القمة من الثراء بينما هوى الشعب إلى الدرك الأسفل من الفاقة، ولم تهب لهذا الشعب المغلوب على أمره لحظة من الحرية حتى يرى النور، ولا ذرة من الرخاء حتى يلمس السعادة، لأن الحرية كانت وقفا على الأمراء يجعلون منها حصنا لمجونهم وترفهم وعربدتهم، ولأن السعادة كانت حقا مقدسا لهم وحدهم، ينعمون بها، ويمرحون في ظلها، ويلتمسون بها حياة الدعة ودنيا الأرستقراطية البلهاء!
واليوم يرقب الشعب المصري، ويرقب العالم أجمع معه باهتمام ما جرت الأمور في مصر، وإلى أي نظام ستتجه في حكمها، ولم يعتقد الشعب المصري، ولا الدول المخلصة من دول
العالم، ولا الدول المخلصة من دول العالم، أن نظام الحكم الوراثي سينال لدى المسئولين شيئاً من العطف، وما قام الجيش الباسل بثورته إلا ليقوض أركان الفوضى التي كانت أثرا من آثاره. لقد كان كل من سبق (فاروقاً) إلى الجلوس على العرش طاغية، وسيكون - لا قدر الله - كل من سيخلف فاروقا طاغية أيضا، وكأن مصر لن تتفرغ إلا لمشاهدة الكفاح بين الشعب والطاغية المتربع على العرش، وهي في مسيس الحاجة إلى الاستقرار لتبلغ المكانة الجديرة بها، وليصل شعبها إلى حيث يعيش كريماً أبياً.
ولا ريب في أن القضاء على نظام الحكم الوراثي، خطوة موفقة يرحب بها الإسلام ويفسح لها صدره، لأنه نظام قائم على أسس متراقصة من الباطل، فهو يعتبر الملك في درجة الآلهة، ويعتبر الملك فوق القانون، ويخول لأسرته أن تعيث في الأرض فسادا دون أن يجرؤ القانون على مجرد سؤالها، وهو نظام يفرض على الشعب الوارث للملك ولو كان مخبولاً أو معتوهاً أو فاجراً أو عربيداً.
ولهذا كله ينكر الإسلام أشد الإنكار على هذا النظام المعتل لأن الإسلام أقوى وأعدلمن أن يرضى لإنسان - كائناً من كان - أن يكون فوق القانون، بل إنه يعتبر مسئولية الحاكم أشق من مسئولية العامة، لأنه راع لابد أن يسأل عن رعيته، ولا يعفيه القانون من العقاب ولا أسرته إذا فعلوا ما يستحقون عليه العقاب وهاهو ذا كتاب الله يخاطب محمداً (ص):
. . . (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلاً، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيرا)
وهاهو ذا محمد (ص) يخاطب من حوله في أحرج ساعات الموت:
(إلا من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد).
وهاهو ذا (ص) يخاطب أسامة حين جاءه يشفع في حد من حدود الله:. . لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!
والإسلام يعتبر الحكم من حق المسلمين جميعاً، يولون من يرضونه لدينه وخلقه، ولا يمكن أن يقر احتكار أسرة من الأسر له، ولم يكن في استطاعة محمد (ص) أن يؤثر بالخلافة من بعده واحداً من بني هاشم عصبيته، بل ولم يكن في استطاعته أن يوصي بالخلافة من بعده لأي إنسان. ولقد حدث حين عرض الرسول نفسه على بني عامر أن قال له أحدهم: (أ
رأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك. أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. .)
وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يستطيعوا أن يؤثروا بالخلافة من بعدهم أحدا من عصبياتهم ولا أن يفرضوا على المسلمين واحدا من ذوي رحمهم، لان إيمانهم يحول دون أن يخالفوا صاحبهم، أو يحدثوا حدثاً في الإسلام ليشعلوا الفتنة. وأي فتنة أكبر من الحكم الوراثي البغيض، والاستبداد بوضع هو من حق المسلمين على السواء؟
نعم، حدث أن أشار أبو بكر على المسلمين بعمر، كما أشار عمر على المسلمين باختيار واحد من ستة من كبار الصحابة. . مات رسول الله (ص) وهو عنهم راض، وهم (عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام) وان يشهد الانتخاب عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء، حدث هذا وذاك من أبي بكر وعمر، ولكن لم يكن إلا من قبيل النصح والإشارة، لا من قبيل الفرض والإكراه، ولولا أن أبا بكر لمس الموافقة من المسلمين بالإجماع لما كان عمر خليفة، ولولا أن عمر لمس الموافقة من المسلمين بالإجماع لما كان واحد من الستة خليفة، وقد كان يمكن التكلم في حق أبي بكر وعمر، لو أن واحدا منهما أوصى بالخلافة لواحد من أبناءه، ولكن لم يحدث شيء من هذا.
لقد زين المغيرة بن شعبة لعمر أن يستخلف ابنه من بعده فأبى وهو يقول: (لا إرب لنا في أموركم، وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد).
ولقد أشير علي كرم الله وجهه وهو يجود بنفسه أن يوصي بالخلافة فقال: (لا آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر بأمور دنياكم)
أما ما حدث في عهد معاوية من استبداده بالأمر وجعله وراثياً من بعده، فلم يكن من الإسلام في شيء، وليس من الحكمة الخوض في هذه المسألة الدقيقة، ولقد يكون معاوية قد تأول فأخطأ وقد يكون قد استبد بالأمر دون تأول، والمهم أن يفهم أن الإسلام يقرر النظم الصالحة، وليس مسئولاً بعد هذا عن استبداد ولاة الأمور ولا يلقي المسئولية إلا على عاتق الرعية المتخاذلة المستضعفة.
ولقد كان عمر بن عبد العزيز واحداً من عصبية معاوية، ولكنه لم يرض عن نظام الحكم الوراثي لأنه لا يعتمد على مشورة المسلمين، وحين آل إليه الأمر بالوراثة صعد المنبر ثم قال:
(أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي مني فيه ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعة، فاختاروا لأنفسكم) فتصارع من بالمسجد وقالوا بصوت واحد: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ولولا هذا الإجماع في الرضا ما قبل أن يكون خليفة بالوراثة، وهو يعلم أن في الحكم الوراثي خروجا عن نظم الإسلام.
وبعد - فإن باستطاعة مصر اليوم أن تتخلص من أوحال الماضي وأوزاره، ولم يصنع هذه الأوحال والأوزار إلا الملكية، التي أثبتت خلال قرن ونصف قرن من الزمن أنها أصل الفساد في كل ما أصاب مصر من التأخر، وأصاب شعبها من التقهقر، ولقد كانت هذه الملكية عقبة في سبيل الإسلام حتى لم يستطع من فوق أرض مصر أن يؤدي رسالته ويجهر بها، فهي التي قدمت للشعب المصري المسلم - وعلى أيدي فجرة بعض رجال الدين - إسلاماً زائفاً هزيلاً لا يمت إلى الإسلام الصحيح بصلة، إسلاماً زائفاً هزيلاً يترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ويدع ولاة الأمور يستبدون ويفجرون ويبطشون، ويقنع الشعب بالصبر والمصابرة، والتسليم والمسالمة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولاً.
نحن دولة مسلمة، ولا يمكن أن نتهاون في هذه الحقيقة ولو بذلنا آخر قطرة من دمائنا، ومن حق الإسلام علينا أن نجهر بالحق لا نخاف في الله لومة لائم، ومن الحق الذي يجب علينا أن نجهر به اليوم، هو أن الإسلام لا يقر الملكية الوراثية بحال من الأحوال، فليتدبر هذا جيدا المسئولون وغير المسئولين.
محمد عبد الله السماق
زوجتي
للأستاذ علي الطنطاوي
قال لي صديق، معروف بجمود الفكر، وعبادة العادة، والذعر من كل خروج عليها أو تجديد فيها. قال:
- أتكتب عن زوجك في الرسالة تقول أنها من أعقل النساء وأفضلهن؟ هل سمعت أن أحدا كتب عن زوجته؟ إن العرب كانوا يتحاشون التصريح بذكرها، فيكنون عنها بالشاة أو النعجة استحياء وتعففا، حتى لقد منع الحياء جريراً من رثاء زوجه صراحة، وزيارة قبرها جهاراً. وملك بن الريب لما عد من يبكي عليه من النساء قال:
فمنهن أمي وابنتاها وخالتي
…
وباكية أخرى تهيج البواكيا
فلم يقل وامرأتي. . وكذلك العهد بآبائنا ومشايخ أهلنا. ولم يكن يقول أحد منهم: زوجتي؛ بل كان يقول: أهل البيت وأم الأولاد، والجماعة، والأسرة، وأمثال هذه الكنايات. أفترغب عن هذا كله، وتدع ما يعرف الناس، وتأتي ما ينكرون؟
- قلت: نعم!
فكاد يصعق من دهشته مني، وقال:
- أتقول نعم بعد هذا كله؟
- قلت: نعم! مرة ثانية. أكتب عن زوجتي فأين مكان العيب في ذلك؟ ولماذا يكتب المحب عن الحبيبة وهي زوج بالحرام، ولا يكتب الزوج عن المرأة وهي حبيبته بالحلال؟ ولماذا لا أذكر الحق من مزاياها لأرغب الناس في الزواج؟ والعاشق يصف الباطل من محاسن العشيقة فيحبب المعصية إلى الناس؟
إن الناس يقرءون كل يوم المقالات والفصول الطوال عن مآسي الزواج وشروره، فلم لا يقرءون مقالة واحدة في وخيراته؟
ولست بعد أكتب عن زوجتي وحدها؛ ولكني كما هوجو يقول: (إني إذ أصف عواطفي أبا، أصف عواطف الآباء)
لم أسمع زوجا يقول أنه مستريح سعيد، وإن كان في سعيداً مستريحاً، لأن الإنسان خلق كفوراً، لا يدرك النعم إلا بعد زوالها؛ ولأنه ركب من الطمع، فلا يزال كلما نعمة يطمع في
أكثر منها فلا يقنع بها ولا يعرف لذتها. يشكو الأزواج أبداً نسائهم ولا يشكر أحدهم المرأة ماتت، وانقطع حبله منها أمله فيها؛ فإنه يذكر حسناتها ويعرف فضائلها. أما أنا فإني أقول من الآن - تحدثاً وإقرارا بفضله - إني سعيد في زواجي وإني مستريح.
وقد أعانني على هذه السعادة أمور يقدر عليها كل راغب في الزواج، طالب للسعادة فيه، فلينتفع بتجارب من لم يجرب وليسمع وصف الطريق من سالكه من لم يسلك بعد هذا أولها: إني لم أخطب إلى قوم لا أعرفهم، ولم أتزوج من ناس لا صلة بيني وبينهم. . فينكشف لي بالمخالطة خلاف عنهم، وأعرف من سوء دخيلتهم ما كان يستره حسن ظني، وإنما تزوجت من أقرباء عرفتهم وعرفوني، واطلعت على في بيتهم واطلعوا على حياتي في بيتي. إذ رب رجل يشهد له الناس بأنهم أفكه الناس، وإنه زينة المجالس ونزهة المجامع، وهو في بيته أثقل الثقلاء. ورب سمح هو في أهله سمج، وكريم في أسرته بخيل، يغتر الناس بحلاوة مظهره فيتجرعون مرارة مخبره. .
تزوجت بنتا أبوها ابن عمي لح، وهو الأستاذ صلاح الدين الخطيب شيخ القضاء السوري المستشار السابق والكاتب العدل الآن. وأمها بنت المحدث الأكبر، عالم الشام بالإجماع الشيخ بدر الدين الحسيني رحمه الله. فهي عريقة الأبوين، موصولة النسب من الجهتين.
والثاني: أني اخترتها من طبقة مثل طبقتنا. فأبوها كان مع أبي في محكمة النقض، وهو قاض وأنا قاض، وأسلوب معيشته قريب من أسلوب معيشتنا، وهذا هو الركن الوثيق في صرح السعادة الزوجية، ومن أجله شرط فقهاء الحنفية (وهم فلاسفة الشرع الإسلامي) الكفاءة بين الزوجين.
والثالث: أني انتقيتها متعلمة تعليما عاديا، شيئا تستطيع به أن تقرأ وتكتب، وتمتاز من العاميات الجاهلات، وقد استطاعت الآن بعد ثلاثة عشر عاما من صحبتي أن تكون على درجة من الفهم والإدراك، وتذوق ما تقرأ من الكتب والمجلات، لا تبلغها المتعلمات، وأنا أعرفهن وكنت إلى ما قبل سنتين ألقي دروسا في مدارس البنات، على طالبات هن على أبواب البكالوريا، فلا أجدهن أفهم منها، وإن كن أحفظ لمسائل العلوم، يحفظن منها ما لم تسمع هي باسمه. ولست أنفر الرجال من التزويج بالمتعلمات، ولكني أقرر - مع الأسف - أن هذا التعليم الفاسد بمناهجه وأوضاعه، يسئ على الغالب إلى أخلاق الفتاة وطباعها،
ويأخذ منها الكثير من مزاياها وفضائلها، ولا يعطيها إلا قشورا من العلم لا تنفعها في حياتها، ولا تفيدها زوجا ولا أما. والمرأة مهما بلغت لا تأمل من دهرها أكثر من أن تكون زوجة سعيدة وأما.
والرابع: أني لم أبتغ الجمال ولم أجعله هو الشرط اللازم الكافي كما يقول علماء الرياضيات لعلمي أن الجمال ظل زائل؛ لا يذهب جمال الجميلة، ولكن يذهب شعورك به، وانتباهك إليه، لذلك نرى من الأزواج من يترك امرأته الحسناء ويلحق من لسن على حظ من الجمال، ومن هنا صحت في شريعة إبليس قاعدة الفرزدق وهو من كبار أئمة الفسوق، حين قال لزوجه النوار في القصة المشهورة: ما أطيبك حراما وأبغضك حلالاً!
والخامس: أن صلتي بأهل المرأة لم يجاوز إلى الآن، بعد ثمن قرن من الزمان، الصلة الرسمية: الود والاحترام المتبادل، وزيارة الغب، ولم أجد من أهلها ما يجد الأزواج من الاحماء من التدخل في شؤونهم، وفرض الرأي عليهم، وقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كل زوجين ويسخطان، فما دخل أحد منهم يوما في رضانا ولا في سخطنا.
وقد نظرت إلى اليوم في أكثر من عشرين ألف قضية خلاف زوجي، وصارت لي خبرة أستطيع أن أؤكد القول معها بأنه لو ترك الزوجان المختلفان، ولم يدخل بينهما أحد من الأهل ولا من أولاد الحلال، لانتهت بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا الزواج.
والسادس: أننا لم نجعل بداية أيامنا عسلاً، كما يصنع أكثر الأزواج، ثم يكون باقي العمر حنظلاً مراً وسماً زعافاً، بل أريتها من أول يوم أسوأ ما عندي، حتى إذا قبلت مضطرة به، وصبرت محتسبة عليه، عدت أريها من حسن خلقي، فصرنا كلما زادت حياتنا الزوجية يوما زادت سعادتنا قيراطاً.
والسابع: أنها لم تدخل جهازاً، وقد اشترطت هذا لأني رأيت أن الجهاز من أوسع أبواب الخلاف بين الأزواج، فإما أن يستعمله الرجل ويستأثر به فيذوب قلبها خوفا عليه، أو أن يسرقه ويخفيه، أو أن تأخذه بحجز احتياطي في دعوى صورية فتثير بذلك الرجل.
والثامن: أني تركت ما لقيصر لقيصر، فلم أدخل في شؤونها في ترتيب الدار وتربية الأولاد؛ وتركت هي لي ما هو لي، من الإشراف والتوجيه، وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس المرأة عمامة الزوج وأخذها مكانه، أو لبسه هو صدار المرأة ومشاركتها الرأي في
طريقة كنس الدار، وأسلوب تقطيع الباذنجان، ونمط تفصيل الثوب.
والتاسع: أني لا أكتمها أمراً ولا تكتمني، ولا أكذب عليها ولا تكذبني، أخبرها بحقيقة وضعي المالي، وآخذها إلى كل مكان أذهب إليه أو أخبرها به، وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه، وتعود أولادنا الصدق والصراحة، واستنكار الكذب والاشمئزاز منه.
ولست والله أطلب من الإخلاص والعقل والتدبير أكثر مما أجده عندها. فهي من النساء الشرقيات اللائى يعشن للبيت لا لأنفسهن. للرجل والأولاد، تجوع لنأكل نحن، وتسهر لننام، وتتعب لنستريح، وتفنى لنبقى، هي أول أهل الدار قياماً، وآخره مناماً، لا تني تنظف وتخيط وتسعى وتدبر، همها إراحتي وإسعادي. إن كنت أكتب أو كنت نائماً أسكتت الأولاد، وسكنت الدار، وبعدت عني كل منغص أو مزعج. تحب من أحب، وتعادي من أعادي. إن حرص النساء على رضا الناس كان حرصها على إرضائي. وإن كان مناهن حلية أو كسوة فغن أكبر مناها أن تكون لنا دار نملكها نستغني بها عن بيوت الكراء.
تحب أهلي، ولا تفتأ تنقل لي كل خير عنهم. إن قصرت في بر أحد منهم دفعتني، وإن نسيت ذكرتني، حتى إني لأشتهي أن يكون بينها وبين أختي خلاف كالذي يكون في بيوت الناس، أتسلى به، فلا أجد إلا الود والحب، والإخلاص من الثنتين، والوفاء من الجانبين. إنها النموذج الكامل للمرأة الشرقية، التي لا تعرف من دنياها إلا زوجها وبيتها، والتي يزهد بعض الشباب فيها، فيذهبون إلى أوربة أو أميركا ليجيئوا بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في اليد وامرأة تحت الإبط، امرأة يحملونها يقطعون بها نصف محيط الأرض أو ثلثه أو ربعه، ثم لا يكون لها من الجمال ولا من الشرف ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح خادمة للمرأة الشرقية؛ ولكنه فساد الأذواق، وفقد العقول، واستشعار الصغار، وتقليد الضعيف للقوي. يحسب أحدهم أنه تزوج امرأة من أميركا، وأي امرأة؟ عاملة في شباك السينما، أو في مكتب الفندق، فقد صاهر طرمان وملك ناطحات السحاب، وصارت له القنبلة الذرية، ونقش اسمه على مثال الحرية. .
إن نساءنا خير نساء الأرض، وأوفاهن لزوج، وأحناهن على ولد، وأشرفهن نفساً، وأطهرهن ذيلاً، وأكثرهن طاعة وامتثالاً وقبولاً لكل نصح نافع وتوجيه سديد. وإني ما ذكرت بعض الحق في مزايا زوجتي إلا لأضرب المثل من نفسي على السعادة التي يلقاها
زوج المرأة العربية (وكدت أقول الشامية المسلمة، لعل الله يلهم أحدا من عزاب القراء العزم على الزواج فيكون الله قد هدى بي، بعد أن هداني!
دمشق
علي الطنطاوي
مع البائسين
عبد الحميد الديب
الأستاذ محمد رجب بيومي
كتبت في الرسالة (958) مقالاً عن الشاعر البائس المرحوم محمد إمام العبد، وقد خطر لي أن أتبعه بمقال عن زميله الشاعر البائس عبد الحميد الديب رحمه الله، وما زلت أترقب فرصة الحديث عن الشاعر حتى سنحت اليوم.
وقد لاحظت أن الرجلين متشابهان في أكثر من وجه، فكلاهما بائس معدم حاربه الدهر في رزقه، ووقف أمامه يسد السبيل عليه إلى الحظوة والسعادة والجاه.
وكلا الرجلين شاعر ملهم يصوغ خواطره وأشجانه مستلهماً واقع حياته، وظروف معيشته، فتأتي قصائده حارة ملتاعة، تنطق بالكآبة، وتتسم باللوعة والقنوط.
وكلا الشاعرين - رغم فاقته المدقعة - كان مجالا للفكاهة والتندر، فتارة يبتدع النكتة المرحة، والملحة العابثة، وتارة تدور عليه القفشات البارعة، ويتخذ منه أداة للترفيه، والترويح في المجالس والمنتديات.
وكلا الشاعرين قد اضطر اضطراراً إلى التجارة بالشعر، فكان يكتب القصيدة في أي موضوع يملى عليه، ويبيعها إلى المتشاعرين نظير مبلغ خاص يرتزق به، ثم تنشر في الصحف بعد ذلك ممهورة باسم المشتري المحتال.
وكلا الرجلين - أخيراً - دميم الخلقة، عبوس الوجه، ممزق الثوب يحمل رائيه على السخرية والعبث به، لولا ما يرفرف في أضالعه من روح عذبة لطيفة، تبعث في محضرها أنواعاً مرحة من الخفة والبشر والابتهاج.
نشأ إمام في كنف عبدين رقيقين، ونشأ عبد الحميد في ظل أسرة متوسطة بإحدى قرى المنوفية، كان عائلها يتاجر بالقطن فأصاب ربحاً جزيلا منه، ثم عصف به سوء الحظ فتحول إلى المتربة والإدقاع، وتقلب فتاه معه في حالتيه، فرفل في مطارف النعمة والسعادة حينا، ثم احترق في لهيب الفاقة والحرمان حينا آخر.
وقد كان هذا التناقض المفاجئ في حياته ذا أثر هام في شخصيته، فقد أورثه تناقضاً ملحوظاً في طباعه، فكان سريع الغضب والرضا معا، يضحك فجأة ويسخط فجأة، ويمدح
ويشتم، ويتفاءل ويتشاءم، ويلحد ويستغفر، كل هذا في آن واحد ومجلس واحد، مما جعل أصدقائه يتقبلونه ويألفونه دون أن يجدوا فيه موضعا للمؤاخذة والعتاب.
وقد نشأ إمام العبد في جيل لا يشجع الأدب والأدباء، فالأمية فاشية، والصحافة تسير بخطى متعثرة، والقراء هم الأدباء أنفسهم، إلا ما ندر من الأغنياء والموظفين، لذلك سدت أمامه سبل العيش ولم يجد في الشعر والأدب متجراً رابحاً يدر عليه الرزق والمال!! ولكن عبد الحميد نشأ في جيل يختلف عن جيل صاحبه فقد كثر عشاق والأدب والصحافة، وأصبح الأدباء يرتزقون بثمرات أفكارهم، وأسلات أقلامهم. وهنا نجد أنفسنا نواجه سؤالاً هاماً تتحتم الإجابة عليه، فهل كان عبد الحميد الديب يائساً حقا؟ أم أنه قد احترف البؤس احترافاً، وكان في متناوله أن يصبح سعيداً محظوظاً، كأصدقائه من الكتاب والشعراء؟ لقد سمعنا كثيراً ممن يبكون عبد الحميد، يتحسرون على شبابه الضائع في أمة لا تقدر الأدب، ولا تعترف بالمواهب، فهم ينحون يا للائمة على مجتمع يهمل النابغين، ويحتقر المواهب والكفايات!!
سمعنا ذلك، وقرأناه مرات ومرات، ولكنا قرأنا في مجلة الرسالة (796) رأياً آخر للكاتب الفاضل الأستاذ عباس خضر، يتهم به الشاعر باصطناع البؤس واحترافه، ويدفع عن مصر ما ينسب إليها - ظلماً - من احتقار المواهب والنبوغ، وسننقل هنا خلاصة هذا الرأي الفريد، ثم نعقب عليه بما نراه:
قال الأديب البارع الأستاذ عباس (إنما يأتي البؤس والحرمان من التعفف مع عدم القدرة على الارتزاق، وقد كان الديب على عكس ما يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، إذ كان من العفاة السائلين، وكثيرا ما هيئت له أسباب العمل، فقد وظف عدة مرات في التدريس بمجالس المديريات، وطالما دعا إلى التحرر بالصحف والمجلات، فكان يبدأ العمل، وينقطع عنه بعد قليل، وفي بعض الأحيان كان يحتال لأخذ المرتب مقدما ثم يذهب ولا يعود).
ويقول الكاتب الفاضل بعد كلام طويل يدور حول ذلك (هذه هي الحقيقة في حياة عبد الحميد كما يعرفها خلطاؤه، لا كما يحلو لبعض الناس أن يصورها، فلم يكن البؤس يأتي إليه قدراً لا يد له فيه، وإنما كان يصنع البؤس صنعاً، كان يحصل على المال فيبذره تبذيراً في أدنأ الوجوه، وأقذر البيئات، ثم يجوع ويعرى، بصنيعه، وكانت تعوزه الكرامة والإباء
والعفة، ليكون بائساً حقيقياً، وكان لا يتحرج من أية وسيلة للاستفادة المادية، ولا يتورع عن أي شتم، ولم ينجو من هجوه أحد من عرفهم سواء أعطاه أم منعه، فعلى الناعين على هذا الوطن جحوده وإهماله النابغين من أبنائه أن يلتمسوا المثال في غير عبد الحميد الديب، ويعفوا التاريخ من التزوير والتزييف).
هذا هو رأي الأستاذ عباس خضر! ونحن نخرج منه بنتيجتين، أولها أن المجتمع المصري قد قدر الشاعر، وفتح له أبواب الرزق فسدها بيديه، وثانيهما أن الديب قد اصطنع البؤس اصطناعاً وكان في مكنته أن ينعم بالمال والسعادة، لو سلك الطريق القويم!!
ونحن نوافق على النتيجة الأولى، فنبرئ المجتمع المصري من احتقار المواهب ممثلة في الديب، فقد مهد للشاعر سبيل الرزق، وأعد له الوظيفة اللائقة، ومنحه الزملاء والأدباء ما يكفيه من المال لو اعتصم بالحكمة والسداد. هذا حق لا مرية فيه، وعلى الناعين على الوطن إهماله وجحوده أن يلتمسوا المثال في غير الديب كما يقول الأستاذ عباس - كأن يلتمسوه مثلا في إمام العبد، الذي نشأ في جيل غير جيل عبد الحميد، فكابد من الجوع والحرمان ما أورثه التعاسة والشقاء!!
أملا النتيجة الثانية، فسنخالف فيها الكاتب مخالفة صريحة، فقد كان الديب ملتاث العقل، لا يعي ما يصنع، بل تضيق به نفسه فيترك الوظيفة، ويهيم على وجهه دون أن يستمع إلى منطق أو تفكير سليم، وهذا الذي لا يملك زمام نفسه. بل يهوي به الشرود والذهول إلى هوة مؤلمة، فيمزق ثوبه وحذاءه، ويتراكم الغبار على رأسه الأشعث، ووجهه الشاحب، وأسنانه الصفراء، ثم يرسل الضحكات بلا مناسبة، ويرفع الصوت عاليا دون مبرر، ويبكي ويضحك في آن واحد، هذا الذي يفعل ذلك كله، لا يكون ممتعاً بكامل قواه العقلية حتى يصنع البؤس ويحترفه، وكل ما يقال عنه أنه تائه شريد، لا يعي مصلحته، ولا يقدر نفعه، فهو - إذن - جدير بالرحمة والإشفاق.
لو كان الديب يصنع البؤس عامدا، ويتخيره عن رؤيا وتفكير، ما دفع به الحظ التعس إلى مستشفى الأمراض العقلية، فيقضي شهوراً مؤلمة بين عالمه الطبيعي المزدحم بالمرورين والمجاذيب، ولكنه جن جنوناً حقيقياً، فانحدر إلى هذا المهوى السحيق.
لو كان الديب يصنع البؤس عامداً ما قضى شهوراً مريرة في السجن، تكتنفه الظلمات،
وتتغشاه الغياهب، ويجاور السفلة من المجرمين والأوغاد، ويقول عنهم في حنق وآسف:
بنو آدم من حولنا أم عقارب
…
لها في الحشا قبل الجسوم دبيب
لقد كنت فيهم يوسف السجن صالحا
…
أفسر أحلاما لهم وأصيب
لو كان الديب يصنع البؤس عامداً، ما قطع الليالي الباردة في زمهرير الشتاء، هائما في الطرقات، تتقاذفه الشوارع والأزقة، وينهمر المطر فوق رأسه، وترتعش أضالعه، وتصطك أسنانه كالمقرور، ولا يدري أين يذهبويلتجئ، حتى يسمع صوت المؤذن في الفجر، فيعلم أن المساجد قد فتحت أبوابها للتائهين، فيهرع إليها محتمياً بجدرانها من السيول الدافقة، ويجد نفسه مدفوعا إلى الصلاة بدون رغبة سابقة، فيقول:
إذا أذنوا للفجر قمت مسارعا
…
إلى مسجد فيه أصلي وأركع
أصلي بوجدان المرائي وقلبه
…
وبئست صلاة يحتويها التصنع
لم كان الديب يصنع البؤس عامداً، ما ترك دار العلوم دون أن يتم سنواتها الدراسية، وقد كان قريبا من مؤهلها الذي يضمن له الهدوء والاستقرار، دون أن يتساقط على الفتات.
لو كان يصنع البؤس عامدا، ما كابد هذه الشرور والأهوال، ولكنه ذو عقل ملتاث يدانيه من المخاطر، ويباعد عن الأمن والاطمئنان، وأمثاله كثيرون ممن تضج بمآسيهم الحياة، ولا يجدون الراحة في غير المقابر الحالكة، بعد أن يطوفوا طويلاً بالسجون والمستشفيات؟! أليس هو القائل:
جوارك يا ربي لمثلي راحة
…
فخذني إلى النيران لا جنة الخلد
فماذا بعد الحنين إلى الموت والفزع من الحياة؟!
ولم يكن جنون الديب دائماً، بل كان متقطعا يواتيه الفينة بعد الفينة، وبذلك استطاع أن ينظم الشعر الرائع، وأن يخلد ذكره بين الأدباء، كما خلد المجنون الأكبر قيس حديثه بين العشاق.
ونحن لا نستطيع أن نحكم على شعره حكما صادقاً صريحاً، لأن عبقريته الفائقة تجلت في أهاجيه المريرة اللاذعة، وهي لم تنشر على الناس في كتاب، ولا يسمح من يحفظها من أصدقائه بتدوينها في صحيفة أو كتاب، لبشاعة ما تحمله من التجني، والإسفاف. فكيف نحكم عليها وهي ما تزال في طي الكتمان! على أني قرأت كثيراً مما نظمه في بؤسه
وحرمانه، فوجدته يتمتع بسلاسة اللفظ ووضوح المعنى، وصدق العاطفة، وكان يصور شجونه كما ترتسم في نفسه، دون أن تتعمق به الفكرة أو يطير بجناحه الخيال، وإنما يقتصر على الوصف الصادق، لشعوره المتألم، وإحساسه الملتاع، كأن يقول:
أفي غرفتي يا رب أم أنا في لحدي
…
ألا شد ما ألقى من الزمن الوغد
فأهدأ أنفاسي تكاد تهدها
…
وأيسر لمسي في بنايتها يردي
تراني بها كل الأثاث، فمعطفي
…
فراش لنومي، أو وقاء من البرد
أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها
…
فأرجله أمضى من الصارم الهندي
تحملت فيها صبر أيوب في الضنى
…
وذقت هزال الجوع أكثر من غاندي
أو يقول:
أرى الحوادث آسادا مقذفة
…
على دون الورى تعدو وتقتتل
فكم تصوح عودي بعد نضرته
…
وكم خبا في دياجي عمري الأمل
كأن حظي رحيق الدهر يشربها
…
بكراً معتقة، فالدهر بي ثمل
إذا تطلبت عيشي مت من كمد
…
وإن تطلبت حيني يبعد الأجل
جوعان، يا محنة أربت على جلدي
…
كأن ليلي بيوم البعث متصل
أو يقول:
أذله الدهر لا مال ولا سكن
…
حتى تزيد على أنفاسه المحن
إذا سعى فجميع الأرض قبلته
…
وإن أقام فلا أهل ولا وطن
مهاجر بين أقطار الأسى أبداً
…
كأنه بيد الأرزاء مرتهن
كأنه حكمة المجنون يرسلها
…
بغير وعي، فلا تصغي أذن
هذه بعض النفثات الحارة التي نفس بها الشاعر عن صدره، وهي قريبة من نفثات إمام العبد التي نشرنا بعضها بالرسالة. والشاعران كما يلاحظ القارئ متماثلان في الغرض والمعنى والصناعة، ولكن بيئة إمام الشعرية لم تكن تسمح بالابتكار والتنوع، كما سمحت بيئة الديب، فقد وجد من شعراء عصره ونقاده، عمالقة موهين ذهبوا بالشعر مذاهب مختلفة، وفتحوا لها آفاق شاسعة رحيبة. وطبيعي أن يتأثر بما يقرأ ويسمع، لذلك نجده يجنح إلى الشعر التحليلي في قصائده التي نشرها بالمقتطف، كما يميل إلى الشعر
القصصي فينظم منه قصيدتيه: (أحزان الأسد)، (ووفاة القمر) وفيهما طرافة وأناقة في المعاني والأساليب. وقد وفق توفيقا رائعاً في قصيدته (غنى الجار) فجاءت مثالاً جميلاً للتصوير الصادق، الموشى بحلة جميلة من الأناقة والسلاسة. وقد تغلغل الشاعر إلى أعماق جاره الثري الشحيح فرسم كبرياءه وغروره، وصور اشمئزازه المفتعل، وتعاليه الوضيع، وأضفى على أولاده من البهجة والأنس أفوافاً ناضرة، ثم انحدر به إلى أسفل دركات الإنسانية، حين جعله يجثو ذليلاً ضارعاً، أمام دريهمات حقيرة، يستلها من جيب مفلس محتاج!! وقد بلغت خطراته الشعرية من الجودة مبلغاً رائعاً، وهي جديرة بأن تكون ختاماً طيباً لهذا المقال
قال المرحوم عبد الحميد الديب:
على القرب مني كنز قارون ماثلاً
…
ولما أنل منه سوى حرقة اليأس
تكبر فالألفاظ منه إشارة
…
كأن عباد الله طرا من الخرس
وإن نطق الفصحى فمن طرف أنفه
…
كنفخة ذي جاه ريع من الفرس
له أسرة كالروض زهراً وصادحاً
…
فمن شمها ألفى ملائك فردوس
بنون بنات كالورود ملابساً
…
يمرون كالإصباح معتدل الطقس
يمر على سكناي في ذيل بيته
…
مرور عيون الموسرين على الفلس
صحوت على قصف الرياح وصوته
…
وما أحدث الطرق الشديد من الجرس
يطالبني بالأجر في غيض بائع
…
تصيده المحتال بالثمن البخس
وأسمعته صوت الدراهم فانحنى
…
يقدم أعذار اليهود من الوكس
وأخضع فقري كبره وثراءه
…
وأي غنى للحر غير غنى النفس
أبوتيج
محمد رجب البيومي
تركيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
دولة يثير اسمها في نفوس المصريين ذكريات وشجوناً
وأمة كان لها في التاريخ صولة وجولة وكان لها مركز عظيم ومقام كبير، ثم دار الزمن دورته فدالت دولتها وهانت وذلت إلى أن أصبحت كرة في يد اللاعبين من أمم الغرب.
وكان ساسة أوربا يتحدثون عنها طوال القرن التاسع عشر وينعتونها باسم الرجل المريض (المحتضر).
إلى أن جاءت سنة 1920 فنهض بطل من أبنائها وقائد من قوادها هو مصطفى كمال أتاتورك فأعاد إليها مجدها ورد إليها روحها وبث في أبنائها قوة وعزة فوقفت من جديد على أقدامها.
لكن تركيا الحديثة اتجهت في سياستها اتجاهاً جديداً؛ فولت وجهتها شطر أمم الغرب وحاولت أن تقطع صلتها بالشرق: عمدت إلى أزياءها فغيرتها وإلى مألوف عاداتها وتقاليدها فبدلتها. . وحتى الدين لم تحرص الدولة على أحكامه ولم يعد دينها الرسمي.
لقد وقع أتاتورك في خطأ جسيم إذ اعتقد أن ما أصاب تركيا من ذل وهوان وضعف واضمحلال إنما يرجع في أساسه إلى الخلافة، وفات هؤلاء إلى أن فساد الخلفاء لا يرجع إلى فساد الدين وإنما يرجع إلى أشخاص الخلفاء؛ وأن ضعف الخلفاء ليس مصدره الدين وإنما مصدره انحراف الخلفاء عن كنه العقيدة وعما يأمر به الدين. وهكذا وقع الكماليون في الخطأ. . ولكن الأتراك وإن أطاعوا ظاهرياً إلا أنهم احتفظوا بعقيدتهم سليمة كما وضح لنا أخيراً.
وقطعت تركيا علاقتها بالدول الشرقية إذ أرغمت بسبب هزائمها في الحرب العالمية على أن تنسحب من الدول الشرقية: من مصر وبلاد العرب وبلاد العراق وفلسطين والشام وغيرها. وقد اعتقد الأتراك خطأ أنهم نزلوا عن عبء باهض كانوا يحملون، والحقيقة أن هذه الأمم قد تنفست الصعداء حين زال عنها الكابوس التركي.
لقد نظرت هذه الأمم إلى علاقتها الماضية بتركيا وإلى تاريخ الحكم التركي فلم تجد فيه شيئا يسر أو يرضي. لقد قام الحكم التركي على الاستغلال والظلم. والطغيان والاستبداد.
لقد كان الحكم التركي يهدف أولاً وأخيراً إلى جمع المال لتنفق على موائد الخلفاء في ترفهم ولهوهم. وكان المال يجمع بطرق وحشية فيها غلظة وفيها تعذيب وفيها جلد وحبس إلخ.
ولم يكن الأتراك يهتمون بإصلاح حال رعاياهم ومن ثم شلت كل حركة للإصلاح وكانت جناية الأتراك على الشرق فظيعة قاسية.
وانزاح الكابوس التركي ولكنه ترك وراءه أمماً ضعيفة، تستطيع أن تدافع عن كيانها، ومن ثم سقطت هذه الأمم في يد الدولة الأجنبية فوضعت العراق وفلسطين تحت الانتداب الإنجليزي وسوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وأما مصر فكانت تحت الحماية البريطانية!! وهكذا كانت جناية الأتراك على الشرق.
على أن هذه الأمم جاهدت الاستعمار والمستعمرين وظفر بعضهم باستقلاله كاملاً وما يزال البعض الآخر يجاهد في سبيل استكمال أسباب استقلاله وسيادته عن قريب سيزول بأمر الله كل أثر للاستعمار البغيض في الشرق.
وقد كان يحز في نفوسنا نحن المصريين ما كان يترامى إلى أسماعنا من أن تركيا تعارض في جلاء القوات البريطانية عن أرضنا باعتبار أن مصر قاعدة ضرورية لحماية ظهر تركيا. وقد كان ذلك يؤلمنا أشد الألم، فقد كنا نتوقع أن تقف تركيا في صفنا لا ضدنا وكنا نتساءل إذا كانت تركيا ترغب في أن يحمي الإنجليز أرضها فلما لا تسمح لهم باتخاذ قاعدة في بلادها وحينذاك يكونون أقرب إلى حمايتها وأسرع إلى نجدتها وإنقاذها؟
وقد حدثتنا الصحف أخيراً أن تركيا تتجه الآن في موقفها السياسي إزاء مصر اتجاهاً جديداً يهدف إلى تأييدها في طلب الجلاء الناجز عن أرضها واعتبار القاعدة الإستراتيجية في منطقة القنال قاعدة ثانوية. . وكانت تعتبر من فبل ضرورية لحماية ظهر الجيش التركي.
ونحن نحمد لتركيا أن تعدل من سياستها وأن تقف بجانب أخواتها المكافحات في سبيل الحرية فإن ذلك خير لها وأجدى.
وجدير بي أن أذكر أن سياسة تركيا الخارجية إنما يمليها عليها موقعها الجغرافي، فهي تقع في ملتقى قارتين، أوربا وآسيا، وتفصل بين بحرين، البحر الأبيض والبحر الأسود، وتصل ما بينهما بواسطة بحر مرمرة وبوغازي الدردنيل والبسفور وبحر إيجه.
وقد نشأ عن هذا الموقع عدة مشاكل أهمها مشكلة البوغازات وما عرف في التأريخ باسم
المسألة الشرقية.
فأما مشكلة البوغازات فأساسها سيطرة تركيا على بوغازي الدردنيل والبسفور وتحكمها في الملاحة بين البحرين الأسود والأبيض، ذلك أن روسيا لها شواطئ على البحر الأسود وهي تسعى دائما للوصول إلى البحر الأبيض، وسفنها مضطرة على أن تمر ببوغازي الدردنيل والبسفور الواقعين بيد تركيا، وهكذا كانت السفن الروسية ولا تزال تحت رحمة الدول المسيطرة على البوغازات، ومن هنا نشأ الخلاف بين تركيا وروسيا وقامت بينهما الحروب.
وفي سنة 1809 كانت إنكلترا تناصب نابليون سيد أوربا العداء وفي الوقت نفسه كان نابليون حليف روسيا إذ ذاك، وكانت الحرب قائمة بين روسيا وتركيا، ومن هنا قامت صداقة بين إنجلترا وتركيا إذ كانتا عدوتين لروسيا ونابليون، فوقعت روسيا وإنكلترا معاهدة سنة 1809 عرفت باسم معاهدة البوغازات في وجه السفن الحربية الأجنبية، ومن البديهي أن المقصود بالسفن الأجنبية إنما السفن الروسية، إذ ليس ثمة صالح لإنجلترا أن تدخل البوغازات.
وقد انتهت حروب نابليون بهزيمته، وقام تحالف إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا ولكن معاهدة البوغازات ظلت قائمة.
وفي سنة 1830 قامت الحرب بين محمد علي وتركيا، وتدخلت روسيا للدفاع عن عدوتها التقليدية تركيا ضد محمد علي، ودبت عقارب الشك في نفس إنجلترا فتدخلت وانتهى الخلاف بين محمد علي والسلطان سنة 1841 ونصت المعاهدة الدولية على الاحتفاظ بالمبدأ السابق في معاهدة البوغزات.
وفي سنة 1853 قامت حرب القرم بين روسيا في جانب، وتركيا وإنجلترا وفرنسا في جانب آخر، وقد انتصر الحلفاء ضد روسيا. وفي معاهدة باريس سنة 1856 تقررت حيدة البحر الأسود ومنعت روسيا من إقامة حصون عليه وحرم عليها أن يكون لها به سفن حربية، وتقرر الاحتفاظ بالمبدأ السائد في معاهدة البوغازات وهو إغلاق البوغازات في وجه السفن الحربية الأجنبية.
ولكن روسيا مزقت نصوص المعاهدة في سنة 1870 منتهزة قيام الحرب بين فرنسا
وألمانيا، وفي سنة 1877 قامت الحرب بينها وبين تركيا وتدخلت إنجلترا وأنذرت روسيا بأنها إذا هاجمت القسطنطينية عاصمة تركيا فستضطر إلى التدخل، وأذعنت روسيا لتهديد إنجلترا ووقعت مع تركيا معاهدة سان استفانو التي عدلت في مؤتمر برلين سنة 1878 وعقدت معاهدات احتفظ فيها بمبدأ إغلاق البوغازات في وجه السفن الأجنبية.
وقد مزقت هذه المعاهدة أملاك تركيا في أوربا، فقد استقلت عنها رومانيا والجبل الأسود والصرب (يوغسلافيا) ونالت بلغاريا استقلالاً ذاتياً واسع النطاق، واستولت إنجلترا على قبرص وأخذت روسيا قارص وباطوم، وكان اليونان قد حصلت على استقلالها منذ سنة 1829، وهكذا تحطمت الإمبراطورية العثمانية في أوربا وجثمت الدول الأوربية الكبرى على صدر تركيا.
أحفظ ذلك تركيا فلجأت إلى ألمانيا وقامت بينهما علاقات صداقة، وقد وقفت تركيا إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية سنة 1914 - 1918.
ولما هزمت ألمانيا وحلفاؤها مزقت الدول المنتصرة أملاك تركيا خارج أوربا، بل أن أراضي تركيا نفسها كانت موضع النهب والتنافس بين الدول العظمى والدول الصغيرة، ولولا أن الله قد بعث لتركيا مصطفى كمال لضاعت إلى الأبد.
وفي خلال الحرب العالمية الثانية سنة 1939 - 1945 وقفت تركيا على الحياد فأفادت من ذلك كثيراً: أولا استطاعت أن تقوي جيشها وأن تجعله مستعداً للدفاع عن أراضيها إذا تعرضت لخطر. ثانيا: جنب هذا الحياد تركيا ويلات الحرب وكوارثها، وما الحرب في هذه العصور إلا الدمار والخراب والفناء والبؤس والشقاء.
وقد أعلن تشرشل أن العامل الوحيد في منع قيام الحرب الثالثة. هو الخوف من ويلات الحرب. وها نحن نرى بأعيننا آتون الحرب الملتهبة في كوريا ونلاحظ أن الدول تلقي فيه من الوقود بقدر مخافة أن تزداد النار اشتعالاً فتلتهم العالم كله.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية انقسمت الدول المتحالفة إلى كتلتين: إحداهما شرقية تتزعمها روسيا، والأخرى غربية تتزعمها أمريكا وإنجلترا. ولما كانت روسيا تطمع دائما في الاستيلاء على القسطنطينية والبوغازات لتتمكن من الوصول إلى البحر الأبيض، ولما كان هذا لا يتأتى إلا على حساب تركيا فقد انضمت تركيا إلى المعسكر الغربي حرصاً على
سلامتها.
ولكن خوف تركيا على سلامتها يجب ألا يدفعها إلى الوقوف في وجه الأماني القومية المصرية؛ فهناك القاعدة البريطانية العسكرية في قبرص وهي قريبة منها، وقد أخذت إنجلترا قبرص من تركيا سنة 1878 نظير تعهدها بالدفاع عن أراضيها.
للبحث صلة
أبو الفتوح عطيفة
من أدب التاريخ
أبو مروان الخرائطي
للأستاذ محمود عزت عرفة
في عام 229 من الهجرة حبس الخليفة العباسي الواثق كتاب دولته وألزمهم مغارم جسيمة، متهما إياهم بالخيانة واحتجان المال.
وكان بين هؤلاء: أحمد بن إسرائيل، وسليمان بن وهب كاتب إيتاخ القائد، وأخوه الحسن بن وهب، وأحمد بن الخصيب، وإبراهيم بن رباح، ونجاح بن سلمة، وأحمد بن خالد الملقب بأبي الوزير.
وقد تولى تدبير هذا الأمر محمد بن عبد الملك الزيات وزير الواثق. وكان ابن الزيات - على رجاحة عقله ووفور علمه وأدبه - ينطوي على أبلغ ما تنطوي عليه جوانح رئيس من القسوة والظلم والاعتساف.
وكان سليمان بن وهب من أشد هؤلاء المنكوبين تعرضاً للأذى، وإن كان قد خلص بنفسه من العطب تحت شروط ثقال ارتضاها وأقر بها. ويسجل الطبري ذلك في تاريخه فيقول:
(أمر الواثق بحبس سليمان بن وهب كاتب إيتاخ، وأخذه بمائتي ألف درهم - وقيل دينار - فقيد وألبس مدرعة من مدارع الملاحين، فأدى مائة ألف درهم. وسأل أن يؤخر بالباقي عشرين شهراً، فأجابه الواثق إلى ذلك، وأمر بتخلية سبيله ورده إلى كتابة إيتاخ، وأمره بلبس السواد).
ويروي القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة): بإسناد لسليمان بن وهب نفسه، قوله:
(كنت في زمن محمد بن عبد الملك في أيام الواثق لما صادرني عن كتابة إيتاخ على أربعمائة ألف دينار، وقد أديت منها مائتي ألف ونيفاً. فاستحضرني يوما وطالبني بالباقي، وحدني فيه وأرهبني، ولم يرض مني إلا أن أجبت أن أؤدي خمسين ألف دينار قاطعة للمصادرة، على أن يطلق ضياعي. .)
جلس محمد بن عبد الملك الزيات يوما يجد في مطالبة هؤلاء المنكوبين ويمعن في إرهابهم واحدا بعد الآخر. فلما كانت نوابه سليمان أعاد عليه المطالبة وأغلظ له في القول، وسامه أن يقر كتابا بقدر من المال جسيم. وقبل أن يأخذ خطه بما قرره عليه خرج من دار الحرم
خادم صغير ودس في يد الوزير رقعة مكتوبة، فلم يستوعب بنظره كليماتها حتى نهض في إثر القاضي معجلاً.
وكان من بين الحاضرين الحسن بن وهب أخو سليمان، وهو لا يزال موضع رضا الوزير، وإن كان ليخشى أن يتحدث إليه في شأن أخيه فهو يشهد ما يجري عليه وقد انطوت نفسه على أسف بالغ أسى كظيم.
. . كان قصارى جهد الحسن إذ حضر مجلس المطالبة - وهو يحضره غالبا بحكم موضعه من خدمة الوزير - أن يستقبل أخاه بنظرات التشجيع، ثم يشيعه وهو خارج يجر قيوده بنظرات ملؤها الأسف والإشفاق.
ولكن الحسن في ذلك اليوم كان على غير عادته، يلوح كمن يسر خبراً مفرحاً تكاد تنطق به قسمات وجهه. ولعل أخاه على شغله الشاغل بنفسه استشف من ذلك شيئاً، فبادله نظرات خفية فيها الحيرة وفيها التساؤل. ولم يمتد هذا الموقف بالأخوين كثيراً؛ فقد انتهز الحسن فرصة تغيب الوزير بدار حرمه وألقى إلى سليمان برقعة لطيفة استقرت في حجره، فراح يلمسها بأنامله في اضطراب ثم بسط ثناياها وقرأ هذه العبارة بخط أخيه:(جائني الخبر الساعة من دارك أنك قد رزقت ابناً، خلقاً سوياً، وهو جسم بغير اسم. فما تحب أن يسمى ويكنى؟)
واتجه سليمان بنظره إلى ناحية أخيه ثم همس: عبيد الله. . أبو القاسم!
وسرت في سليمان منذ هذه اللحظة روح جديدة، وتداخله فيما قرأ سرور وقوة نفس. وفي حلم خاطف من أحلام اليقظة رأى ابنه طفلاً رضيعاً، ثم غلاماً، ثم فتى يافعا، ثم رجلاً قوي الأسر كامل النفس موفور الحلم، يتبوأ المناصب الخطيرة، ويشد من أزر أبيه بماله وبجاهه.
وعاد الوزير بعد حين إلى مجلسه فأمسك قليلاً، ثم أقبل يعيد المطالبة على سليمان، ويريده أن يوقع على ما رضي الإقرار به. فما أدهشه إلا أن يرفض مرة، ويستمهل أخرى، ثم هو فيما بين ذلك يجادل ويدافع، ويدلي بالحجة وراء الحجة. .
كان سليمان بحال من انبعاث النشاط وتجدد الأمل لم يخطر للوزير أن تكون. فانعقد لسانه من فرط البغتة، وأقبل يرمق سليمان في حيرة ولإنكار، ثم قال له:
- يا أبا أيوب، ما ورد عليك بعدي؟ أرى عينيك ونفسك ووجهك بخلاف ما خلفتك منذ ساعة!
فأجاب سليمان: ما ورد علي شيء!
قال الوزير: والله لئن لم تصدقني لأوقعن بك من العذاب ما يستخرج منك الحق واضحاً.
فقال سليمان في غير مبالاة: ما عندي ما أصدقك عنه.
ونظر الوزير إلى الحسن بن سهل وقال: لتخبرني بشان أخيك.
ولم يطل بالحسن التفكير، فقد كان يعلم من عسف الوزير ومن زعارته أضعاف ما يترامى علمه إلى سائر الناس: فأخبره بالحديث على وجهه حتى سكنت نفسه، ثم قال:
أتدري لأي شيء قمت أنا؟
- قال: لا.
- كوتبت بأن ولداً ذكراً سوياً قد ولد لي، فدخلت فرأيته وأسميته باسم أبي، وكنيته بأبي مروان!
وبرقت في ذهن سليمان خاطرة، لم يلبث معها أن ينهض إلى موضع الوزير، فأكب على يديه ورجليه، وأقبل يهنئه بكلمات رقاق، ويدعو له ولمولوده، ثم قال:
(أيها الوزير، هذا يوم مبارك، وقد رزقت ابنا. فارحمني وارع سالف خدمتي لك، واجعل ابني موسوما بخدمة ابنك، يسلم معه في المكتب ويتعلمان وينشان في دولتك فيكون كاتبا له).
ولم يكن محمد بن عبد الملك ممن يطبيهم مثل هذا الحديث. . كان في قلبه لدادة وقسوة وجنوح إلى العسف والانتقام، مما جعل شعاره الذي لا يخل به، قولته المشهورة (الرحمة خور في الطبيعة).
فلم يزد على أن تشظت عروق جبينه قسوة وحرداً، ثم قال:
- يا أبا أيوب، أعلي تجيز هذا؟ وإياي تستغل وتخاتل؟ قد حدثتك نفسك بان ابنك هذا يبلغ المبالغ وتؤمل له الوزارة. . ورجوت في نوائب الزمان وقلت: أرجو أن يحتاج ابنه إلى ابني حتى يطلب منه الإحسان والفضل. فإني استحلفك بالله وأحرج عليك، إن بلغ ابنك هذا المبلغ، إلا وصيته إن جاء ابني لشيء من هذا ألا يحسن إليه!
وأعظم الحاضرون جميعاً هذا الخطاب العنيف، وخيم على مجلس الطاغية صمت ثقيل لم يقطعه إلا كليمات خافتة متعثرة من سليمان، تنصل بها مما أتهم به واعتذر مما قاله، ثم دعا للوزير وصمت.
وعاد سليمان بعد قليل إلى ظلمات محبسه وهو يحدث نفسه أن هذا غاية البغي، وان ما تحدى به هذا الطاغية القدر بعباراته المريرة، سيقع على وجه من الصحة يستخرج العبرة والعجب.
على أنه عاد بعد أيام فقبل ما قرر عليه، ورد عليه الواثق ضياعه وأقره على كتابة (إيتاخ).
ومرت سنين، أصبح بعدها وليد سليمان - الذي اختار له أبوه وهو رهن المحبس عبيد الله اسما، وبالقاسم كنية - أصبح فتى يافعاً، وشابا يتوسم فيه أهل الفراسة آيات النجابة وعلائم المجد، وطارت خلال ذلك لأبيه سليمان شهرة، وتأثل له مجد عريض.
ولما مات الخليفة الواثق تولى بعده أخوه المتوكل (بغير عهد منه) وكان يحمل أشد الضغينة لمحمد بن عبد الملك، ويحفظه عليه ما كان يجبهه به من المهانة زمن أخيه، ثم ما رامه يوم وفاة الواثق من تحويل الخلافة إلى أبن للمتوفى صغير. فلم يشف غليل نفس المتوكل إلا أن وثب على محمد بن عبد الملك وثبة سلبه فيها أسباب نعمته، ثم قتله بعد تنكيل وعاب (في صفر سنة 233هـ).
وعهد المتوكل في مستهل نكبته لمحمد بن عبد الملك، إلى سليمان بن وهب بمناظرته وإحصاء متاعه. فوافى داره في كوكبة من الجند، وهو لاهج اللسان بشكر الله على ما أولاه من نعمة، وبلغه في عدوه من رغبة.
ولقى في الدار ذلكم الابن الصغير - أبا مروان عبد الملك بن محمد أبن عبد الملك - يبكي ويتظلم. فاستدناه إليه وسأله عن قصته فقال:
- منعت كل مالي، وأدخل ما أملك كله في الإحصاء.
فقال سليمان: لا بأس عليك. ثم أمر أن يرد إليه كل ما كان له. وخر ساجداً لله على أن هيأ له أداء ذلك الصنيع.
وقص سليمان بعد حين على ابنه عبيد الله حديثه مع الوزير محمد بن عبد الملك، في يوم
مولده ومولد أبي مروان ابن الوزير، ثم قال لعبيد الله: يا بني، بالله - إن رفعك الله والزمان ووضع ابنه حتى يحتاج إليك - إلا أحسنت إليه!!
ووعى أبو القاسم عبيد الله بن سليمان عن أبيه هذا الحديث.
ولما تولى المعتضد الخلافة استوزر عبيد الله بن سليمان بن وهب (في رجب 279 هـ)؛ فكان من عادته أن يتخذ للمظالم مجلساً عاماً. وفي يوم من هذه الأيام المشهودة دخل عليه فيمن دخلوا رجل رث الهيئة عليه ثياب غلاظ فعرض عليه رقعة. وقرأها الوزير قراءة متثاقل عنها، ثم متفكر متعجب مما بها. ولما أتم استيعابها قال: نعم وكرامة، أفعل ما قال أبي لا ما قال أبوك. كرر هذا القول ثلاثا ثم قال له: عد إلي وقت العصر لأنظر في أمرك.
والتفت إلى خاصة صحبه فقال: إذا خلوت فذكروني بحديث هذا لأخبركم منه بعجب عجيب. فتشوقت نفوس القوم إلى هذا الحديث.
واصل الوزير عمله يأمر وينهي بقية المجلس ثم قام واستراح ودعا بالطعام فتناوله معه من حضر، فلما بلغوا من ذلك حاجتهم أو كادوا قال الوزير: ما أراكم ذكرتموني بحديث صاحب الرقعة ثم أقبل يسوق إليهم ما حدثه به أبوه حتى بلغ منهم العجب غايته.
ثم قال متمما حديثه: ولقد ضرب الدهر مضربه فما عرف لأبي مروان خبرا، حتى رأيته اليوم، فكان ما شاهدتم.
وأمر الوزير بإدخال أبي مروان عليه عند مقدمه. فلما قدم وهب له مالاً وخلع عليه وحمله. ثم قلده ديوان البريد والخرائط فشغل هذا المنصب ثلاثين سنة أو أكثر.
وكان يكتب إلى عبيد الله - عندما يكاتبه - متقلد هذا الديوان: (عبد الوزير وخادمه، عبد الملك بن محمد).
ولكن الوزير أراد أن يعفيه من هذه المخاطبة الذليلة فقال له: أنت ابن الوزير على كل حال، ولا أحب أن تتعبد لي فاكتب اسمك فقط على الكتب.
فقال أبو مروان: لا تسمح نفسي بهذا، ولكني أكتب (عبد الملك بن محمد خادم الوزير). فقبل منه ذلك، فلم يوقع بهذه العبارة إلى جميع الوزراء الذين كتب لهم حتى وافته منيته وزارة ابن الفرات الثالثة.
وكان أبو مروان كالمترتب على هؤلاء الوزراء جميعاً بما من ذلك عبيد الله، فلزم هذا
المنصب إلى أن مات.
وقد غلب عليه طوال هذه الفترة لقب أبي مروان الخرائطي حتى نسي الناس نسبه إلى ابن الزيات، إلا من كان يلم شأنه من جماعة الكتاب وغيرهم.
محمود عزت عرفة
6 - في بلاد الأحرار
للكاتب التركي الأستاذ أغا أغلو أحمد
للأستاذ أحمد مصطفى الخطيب
اجتماع - أقوال الخطباء
يالها من بلاد عجيبة؟ ما أصعب نيل الحرية؟. . لبت شعري هل أستطيع ألفة هذه الحياة؟. . لقد خيل لي الأمر في البداية هلا ميسوراً. . ولكن هاهي ذي المصاعب تتوالى وتتفاقم في النهاية. .
إن هناك رواسب في قرارات النفوس تركتها عهود التاريخ الماضية من ورائها، هي التي تستعبد الإنسان وتقيده أكثر من غيرها. .
وها إن الحال تتطلب الآن التخلص من نيرها وسلطانها دفعة واحدة. . . عليك أن لا تكذب، أن لا تداهن، أن تتحلى بالشجاعة، أن تدافع عن الحق، أن لا تعرف معنى التردد، أن تقول الحق!
يالها من شروط صعبة ثقيلة؟
كيف لا يخشى جانب الرجل ذو البأس والقوة؟ أو لا يجهر له بالصدق؟ أو لا يتحاشى التزلف إليه؟
إن المرء لتضطرب أحشاؤه وترتعد فرائضه عند رؤيته أحد هؤلاء الطغاة العتاة. . . ورأسه يدور، ورقبته تنحني ولسانه يباشر الحمد والثناء بغير إرادة منه!
ولا يمكن أن أنسى قط ما كان يحدث لصديق لي كلما أراد محادثة أحد الوزراء في التلفون فقد كان يشحب لونه، ويتلعثم لسانه ويأتي بحركات آلية مضحكة كما لو كان أمام الوزير نفسه بالذات لا أمام آلة صماء. . . وقد شاهدته ذات مرة وهو يردد هذه العبارات في ارتباك ظاهر وذعر شديد:
(. . . نعم يا مولاي. . . بفضل عطفكم السامي. . . هفوة الصغير عفو الكبير. . .)
ثم ألقى بالسماعة على الأرض بعنف وترامى على أحد المقعد لاهثاً وهو يقول:
- (آه!. . . كاد أن يقضى علي. . . لماذا كل هذا السخط والهياج؟. . كل ما في الأمر
أنني رفعت نهار أمس تقريراً إلى معاليه ذكرت فيه نبذة صغيرة عن سوء سلوك نجله في الدائرة وفساد أخلاقه. . . يا ويلي منه ومن ثورته وغضبه. . . ولكنني لحسن الحظ استطعت تهدئة الحالة. . . آه. . .).
ومع أننا كنا نسخر آنذاك من هذا الصديق المتخاذل الرعديد ونهزأ به إلا أننا في الحق لم نكن لنختلف عنه من هذه الناحية إطلاقاً.
والآن كيف نستطيع استئصال شأفة هذه العلل التي نفذت إلى عظامناً وجرت مجرى الدم في عروقنا؟
لم يغمض لي جفن في تلك الليلة من فرط تأثري. . بل ظللت أدور في غرفتي طوال الليل. . . وإذ طلعت تباشير الصبح، سقطت على الأرض كجثة هامدة من شدة الإعياء.
وحين فتحت عيني كانت الشمس في متوع النهار، وكان رأسي مثقلاً بالصداع. . فأحسست بحاجة شديدة إلى استنشاق الهواء النقي.
لقيت بنفسي إلى الشارع. . وقصدت إلى حديقة تجاور البيت الذي أقطنه. . . كان البستانيون هنا منهمكين في ري الحديقة. . وكان ثمة على بعد قليل ينهض تمثال شامخ.
اقتربت من التمثال وقرأت على أحد جوانب قاعدته هذه الكتابة:
(بطل بلاد الأحرار الأول)
ملت إلى أحد البستانيين وسألته عن اسم الحديقة وعن هوية البطل.
- هل أنت غريب عن هذه البلاد؟
- نعم!. . جئت حديثاً!
- يطلق على هذا المكان حديقة الحرية. . . وذلك التمثال يمثل أول وطني رفع لواء الحرية ضد الاستبداد. . فبلادنا تعبده وتقدسه.
وفي هذه الأثناء كان الناس قد أخذوا يتوافدون على المكان زمراً زمراً. . . ولم تمر سوى هنيهة حتى عقدت اجتماعات عديدة أيضاً في مختلف أنحاء الحديقة.
اقتربت من أحد هذه الاجتماعات. . فرأيت فتى يافعاً يلقي خطاباً حماسياً مؤثراً. . . أصغيت إليه فإذا هو ينتقد الحكومة، ويحمل عليها حملة شعواء لأنها تقاعست عن تنفيذ برنامجها بحذافيره، وترت عدداً من الوطنيين في الشوارع لا يجدون لأنفسهم عملاً. . ولأن
الإحصاءات الأخيرة دلت على وجوه اثنين في كل مائة أميين بين سكان المملكة، وذلك يعد عاراً كبيرا وصمة لا تمحى من جبين البلاد الحرة.
اقتربت من جماعة ثانية. . . فشاهدت رجلاً في منتصف العمر، ضعيف البنية، يتبسط في شرح النقائض التي يلاحظها على الجيل الجديد، ويؤاخذهم بشدة على انغماسهم في المادية، وانصرافهم عن المثل العليا، وإغفالهم أمر الصلات الإنسانية والوطنية الرفيعة، ويرى أن هذه حالة ستؤدي بهم لا محالة إلى أن تكون آثارهم هزيلة عديمة الحياة، ورؤوسهم فارغة جوفاء، وسجاياهم منحلة سائرة نحو التلاشي والاضمحلال.
وإذ كان الخطيب يبدي مخاوفه الشديدة من مغبة الأمر، كان لا يجد دواء لمداواة الوضع سوى المبادرة إلى إحداث تغيير شامل سريع في نظم التعليم وأهدافه وخططه التي تسير عليها الدولة في تنشئة الشبان وإعداد الجيل المقبل.
أما في الزمرة الثالثة فكان الخطيب سيدة بارعة الجمال تتحدث عن حقوق المرأة السياسية.
وفهمت من أقوال السيدة الخطيبة أن النساء في بلاد الأحرار يملكن نفس الحقوق التي يتمتع بها الرجال، ولا يضن عليهن بسوى منصب رئاسة البلاد فقط.
وقد كانت الخطيبة تشير إلى هذه الناحية في انتقاداتها وتقول:
- كيف يسوغ أن يضن بهذا المنصب على المرأة، ثم لا يضن به على الابن الذي تلده؟
إنهم يحدثونا عن الخواص الفيزيولوجية. . وكأن الرجال جميعاً في منجاة من النقائض الفيزلوجية.
اذهبوا إلى البيمارستانات، إلى السجون. . . ادرسوا إحصاءات الجراثم، فلا أظن النتيجة ستكون بجانب الرجال.
إن هذه المخاوف ليست سوى أعذار تافهة، لا تخرج عن كونها بقايا أسلحة تافهة استعملها الرجل منذ قديم الزمانلضمان استمرار سيطرته على النساء وبقاء استبداده بشؤونهن. . ولكن المرأة سوف تقضي على هذه البقية الباقية أيضا كما قضت من قبل على القيود الأصلية نفسها وحطمتها إلى الأبد، وذلكبفضل كفاحها المستمر ونضالها الدائم، وجهادها الذي لا يفتر ولا يني.
أجل سوف يعلم الرجال أن هذا الملجأ الأخير الذي يأوي إليه، يجب أن تفتح أبوابه على
مصاريعها أمام النساء نزولا عندما يقتضي به الشرف والكرامة. . . وإن وجود أقل تفاوت في الحقوق بين الأفراد في بلاد الأحرار ليس إلا وصمة عار جبين الحرية نفسها. وسوف تمحو المرأة هذه الشائبة مهما طال بها الأيام أو بعدت أمامها الشقة. . .)
كانت هنالك جماعات أخرى أيضاً. . غير أنني كنت أحسست بالتعب. . . فجلست فوق أحد الكراسي، وشرعت أفكر في جميع هذه المشاهد التي مرت أمامي ولأم أكن قد رأيتها أو سمعت بها من قبل.
وكان من أشد ما أثار عجبي أسلوب الخطباء ولهجتهم أثناء الكلام. . فقد كانوا يحصرون انتقاداتهم في دائرة الوقائع والحوادث، ويعنون عناية كبيرة بأن لا يظهر على حديثهم أية أثر للتذبذب أو الشكوك أو التردد، مسبغين عليه ثوباً من اللسان والوقار، متنكبين عن استعمال أية كلمة نابية فيها حر لعاطفة الشخص الذي يتصدون لانتقاده أو مس لكرامته من يشنون الحملات عليه. . .
وقد تراءى لي في الوقت نفسه من المعاني المتجلية في عيون المستمعين، وإمارات الجد اللائحة في وجوههم، أنهم يستسيغون هذا النقد ويرتاحون له ويؤثرونه على سواه، ويجدونه أضمن للفائدة وأبقى.
وقد ذكرني - بغير إرادة مني - ما شاهدته هنا من الصور الجديدة، ما في بلادي من أساليب النقد وفنون النقاش.
يا لهول الإسفاف الشنيع والتهور الجامح!. . ويا لهول السباب والشتائم المذقعة!. . أقوال مضطربة لا رابط بينها، إشارات غامضة، إيماءات مغلقة مستهجنة. . ولطالما حدث أن السامعين والقارئين سدوا آذانهم، وأغمضوا عيونهم تقززاً واستنكارا، ثم هبوا جميعا يطالبون بوضع حد لمثل هذا الجو الموبوء الخانق، فظهرت قوة طاغية كمت فواه المتكلمين وعصبت عيون الشاخصين معاً بشكل محكم، حتى عاد الناس في هذه المرة يشعرون بالاختناق من الصمت والظلام.
آه! ما أعظم كارثة الإفراط والتفريط! لقد اقتنعت الآن أن الحرية لا يمكن أن تنال بمجرد الرغبة فيها، أو المطالبة بتحقيقها. . . إن على الإنسان أن يربي شخصيته، ويخلق من نفسه سيداً قبل كل شيء. . .
- أجل! أجل! على الإنسان أنيكون سيدا!
- إلى من تتحدث يا عزيزي؟
استدرت قليلاً. . فوجدت أحد الضيوف الأخوان جالسا إلى جانبي، يرمقني بنظرات التعجب والحنان وأنا أحادث طيفي الماثل أمامي. .
فقلت معتذراً:
- كنت غارقا في التفكير وأنا أقارن بين ما شاهدته اليوم وما وقع لي بالأمس فبدرت تلك الكلمات من دون وعي. .
ابتسم ابتسامة رقيقة ثم قال:
- لا تحزن! هذه مرحلة قد تخطاها كل واحد منا. .
- إذن أنتم هنا منذ وقت طويل. .
- أجل!
أرجو أن تخبروني: هل تقصد هذه الاجتماعات هنا كل يوم؟
- كل يوم على وجه التقريب. . وتلك الساحة أشبه بمدرسة شعبية عامة يستطيع أي مواطن أن يطلع فيها على كل ما يعنيه أمره من شؤون بلاده:
- يالها من عادة حسنة!
حضر الأساتذة في اليوم التالي ثانية فقلت مخاطباً أحدهم:
تنص المادة العاشرة على أن التساند دين واجب الداء، فما معنى ذلك؟
- أجل! إن وجود التساند والمؤازرة شرط أساسي في بلاد الأحرار. . . انظر إلى الأقطار غير الحرة تجد فيها الأفراد والأسر كلاً مستقلاً بنفسه عن غيره، وليس بين ظهرانيهم من الصلات والروابط إلا النزر القليل. . ذلك لأن سيف الاستبداد المصلت على رؤوس هؤلاء لا يفسح المجال لهم بالتآزر والتآلف وتكوين جبهة واحدة وكيان واحد. .
فالشرط الأساسي في هذه المالك التفرق والتخاذل ووقوف (المواطن) موقف الأجنبي من أخيه المواطن وعدم اهتمام بعضهم ببعض. . .
وكما أنه من الميسور جداً سحق أفراد مجتمع كهذا وإفناؤه، كذلك من السهولة بمكان. . . أن يلعب المرء كما يشاء بهذا المجتمع نفسه كما لو كان خرقة بالية عديمة الدم والحياة. . .
أما في بلاد الأحرار، فالشرط الأول هو الاتحاد والإيثار والألفة التامة بين الأفراد والاهتمام بما يحدث ويقع للمواطنين. . . والكل هنا كحلقات الشبكة تتأثر من العطب الذي يصيب أي واحد منها. . .
وشؤون المجتمع ذاته لا تعتدل ولا تستقيم إلا إذا نجا أفراده جميعاً مما حاق هم من الأخطار وأصابهم من الألم والاضطراب.
هنا يتحتم على كل فرد أن يكفل بصيانة حقوق غيره وشرفه وكرامته. . وليس في معجم البلاد أقوال من قبيل: (إذا مت ظمآن فلا نزل القطر)(عش لنفسك)(هل أنا الذي أستطيع إصلاح العالم؟).
- آه أيها الأستاذ! إني مصغ إليكم بكل كياني وبكل لذة وشغف. . ولكن وا أسفاه. . إن جميع العادات التي ألفتها والتقاليد التي جريت عليهالهى على طرفي نقيض مما تفضلتم علي بشرحه وإيضاحه. . . ليت شعري كيف أستطيع أن أغير ما بنفسي. . . إلهي! ما أصعب أن يكون الإنسان حراً. . .
- نعم يا بني؟ ليست الحرية سهلة سائغة. . . والعبودية أسهل منها. . . فبينما العبد يسلم زمامه إلى غيره ليقوده كما يريد ويهوى نجد الحر مكلفاً بالتفكير في غيره. . .
إن كل مواطن هنا مكلف بحب الغير، ومعنى حب الغير هو أن يتحمل المرء في سبيل غيره المتاعب والمشاق. . وبهذه الوسيلة وحدها يستطيع المواطن أن يصون نفسه وغيره معاً في وقت واحد.
وحيث أنك قد سلكت طريقاً آخر حتى اليوم، فقد فتشت دائماً عن منافعك في خارج المجتمع، ولم تفكر إلا في نفسك. . . وقد أدى بك ذلك إلى أنك زدت ضعفاً على ضعف وانحطاطاً على انحطاط وعشت حياة كلها قلق واضطراب. .
أما وقد اعتزمت الآن أن تصبح حراً، فإنه يتحتم عليك أن تسعى لتهذيب نفسك وتتفقه في قوانين بلاد الأحرار وتعمل بمقتضاها. . .
يجب عليك أن لا تبقى في معزل عن الاهتمام بمصير المجتمع الذي أنت أحد أفراده، بل عليك الالتفات إليه والحفل بحقوقه، ورعاية مصالحه وشرفه وكرامته، والتفكر في الشؤون فقرائه وأطفاله، والانتساب إلى الجمعيات الخيرية التي تعنى ببذل المساعدة والمعونة
لهؤلاء وبالدفاع عن حقوقهم وبتعميم التعليم بينهم وغير ذلك من الأمور التي تكفل للجميع سعادتهم وهناءهم.
وعليك أن تعلم أيضا أنه ليس في هذه فرد واحد لا يتصل بمواطنيه الآخرين بأكثر من ست روابط وطنية واجتماعية في وقت واحد، وهذا هو السبب في أن مس الواحد منهم قيد شعرة يثير روابط الجميع، فيتحرك الكل وكأنهم شخص واحد. . .
- ياله من مجتمع سعيد!
(يتبع)
أحمد مصطفى الخطيب
شلر
للكاتب الكبير توماس كارليل
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
لقد ساعد جوته شلر في أمور المعاشية حتى قبل معرفته به وصداقته له، وذلك بتقديمه وترشيحه لخدمة ولاية (وايمر) وتوظيفه في أكادمية بمرتب معين. وقد أدت هذه المساعدة التي جاءت لا على اعتبار عون؛ بل على اعتبار خدمة متقابلة إلى نتائج ذات أهمية دائمة. وقد ارتفع شلر إلى أوج عظمة الفن وهو مطمئن إلى عطف ورعاية ونصح صديق واحد بين مئات الأعداء. وهكذا - اعتماداً على هذا التأييد من قبل صديقه - استمر شلر في تقدمه ونجاحه غير ملتفت يسرة أو يمنة، وكانت أيامه مخصصة جميعا لتأدية واجبه الأقدس.
وقلما نجد إنساناً يمكن أن يساعد الآخر مثل هذه المساعدة وان يفيد مثل هذه الفائدة، لأننا تعودنا - كما هو الحال في الواقع - أن يكون الإحسان مبتذلا فيه الذلة والفجيعة وقلة الذوق، لان منشآتنا التي تقوم بمثل هذه الأعمال الخيرية هي مؤسسات تافهة ومضرة ولو أنها تتحصن بأسماء وألقاب. وأكثر من هذا إذ تفضل أحد أصدقائنا بمديد العون إلينا بإخلاص واهتمام، فهو لن يعمل على تفهم مشاكلنا ومعرفة احتياجاتنا الحقيقية حتى يمكننا من السير قدماً في طريقنا، بل نراه على العكس من ذلك يصير ببساطة غريبة، ويريدنا أن نغير اتجاهنا ونتبع سبيله الذي اختاره لنفسه، وبذلك يجعل أمر إصلاحنا غير ممكن لأننا لا ولن نقدر على ذلك. وهكذا فالناس كل بعيد عن الآخر، وليس لأحد أن يساعده جاره، بل أن ينتبه من جاره كي يأمن شره ويتوقى خطره ويتقي شواظ ناره وهو أمر صعب التحقيق.
لقد تحدثنا سابقاً عن حماسة شلر التام للأدب واعتبرنا ذلك وحده وظيفة توجته مدى الحياة. وأوضح دليل على حميته وغيرته للوصول إلى هذا الهدف في كل أدوار حياته، هو مواظبته على هذا المسعى حتى أواخر حياته، بالرغم من إصابته بمرض عضال هد حيله وزعزع أركان قوته. ولم يتجل نبل سجيته في أية مرحلة من تاريخه، كما تجلت في هذه المرحلة - مرحلة المرض - فقد برزت البطولة غير المنظورة وهي في عنفوانها عندما
كان العدو الأسود يمزقه من الداخل، ولكنه كان قادراً على إبعاده بعض الشيء. وعندنا شواهد طيبة على الخمس والعشرين سنة الأخيرة من حياته لم تخل لحظة واحدة من الألم الممض. على أنه مع كل ذلك لم يتشك قط ولم يتضجر أبداً. نلاحظ ذلك في مراسلته مع جوته، فنراه بشوشاً مشغولاً ونادراً ما كان يتكلم عن أدوائه وأوصابه، وإذا ما تكلم عنها فبلغة شخص ثالث كأنه يعتز بأيامه التي بقيت في حوزته. على أننا نستطيع أن نقول إن أعظم أعماله الشعرية تعود إلى هذه الفترة؛ خصوصاً إذا تذكرنا كم وكم من أضراب روسو من الأدباء والشعراء السطحيين الذين نحلوا وذابوا أسى، على الرغم من المواهب التي أوتوها - لأنهم أصيبوا بأمراض عصبية انتهت بكثير منهم إما إلى الجنون وإما إلى التعاسة المهلكة، على أن شلر - وهو في مثل هذه الأوضاع نفسها - كتب أعظم تأملاته وأحسن رواياته من (ولنشتاين) إلى (وليم تيل).
يقال أن هذه المحن لا يمكن تحملها إلا بالاعتماد على ركيزة الدين وحده، ونحن نقول إن شلر كان له دينه الخاص. . وكان متعبداً وناسكاً. . ولذا فهو لم يحتج في آلامه الأرضية إلى دعامة سماوية تسنده، بل اقتصر على الدعامة المثالية في تحمل أوصابه في مثل هذا العالم البائس المريض.
هل لنا أن نتكلم عن سعادته؟ واأسفاه ماذا يعني سمو العبقرية غير معدة قوية وشهية ممتازة!. . أو تعني حتى كلمة روح معنى المعدة في بعض اللهجات السكالفونية؟ أليس الجلوس في راحة والتمتع بالمشهيات والروائح العطرية والاستمتاع بالماضي والحاضر والمستقبل والإخلاد إلى الأحلام واليقظة بين الفينة والأخرى ما يدل على الطمأنينة والسرور والحياة الهانئة والبهجة الدائمة والسعادة الكلية.
إن الأمر بالنسبة إلى العبقري المريض لا يتعدى كما يقول شلر (عالمه الذهني المثالي الداخلي الذي ينخره الداء المتباطئ ويستنزف جماله ويعصف به عصفاً شديداً، فلا يبقى منه إلا اليأس والقنوط والمرأة وغلا الحرمان الذي يلازمه حتى النهاية المرعبة) ولم يكتف شلر بهذا بل نراه يستطرد في ذلك فيقول (الويل لمن تضطرب إرادته وتخور عزيمته وتنحني رقبته أمام نير هذا العدو الجديد! لان البطالة والخيال المشوش يسيطر عليه وتطلق سراح ألوف الشياطين لتضايقه وتعذبه حتى تجننه. وا أسفاه! إن عبودية الجزائر تعتبر
حرية إذا قيست إلى الآلام التي يعنيها العبقري المريض الذي انهد قلبه ورزح تحت كابوس بالآلام. فمسكنه الطيني يصبح سجناً مظلماً كما تصبح أعصابه منازل للقرف والعذاب، وروحه موئلاً للعزلة السوداوية، ويظل فريسة لأشباح القنوط، ويغدو متحجراً من جراء ازدياد الألم، محكوما عليه بالموت في قيد الحياة وبالشعور بالوجود الأليم، لا حول له ولا قوة ولا حتى شعور بها، ومن المفزع أن يضع الموت أو فقدان الوعي التام حداً لمثل هذه التعاسة) ومهما تكن الحالة مثيرة فعلينا أن ننظر غليها نظرة عطف لا نظرة استخفاف وتجرد. وعلى كل حال نقول إنه من العار العبقري يتشكى. أليس في نفسه نور من السماء ليست عروش الأرض ببائها إلا ظلاماً بالقياس إليه والمقارنة به؟ والرأس الذي يلبس مثل هذا التاج يأبى أن يرقد بقلق. إذا كان هذا النور السماوي هو الذي أعان سيمون السوري على أن يصمد في أعلى عمود التعذيب دون أن يتزحزح إيمانه قيد أنملة، فكم بالأحرى أن يكون الأمر كذلك إذا كان هذا النور مباشراً ومضيئاً صافياً وخالصاً من كل شائبة؟ وإلا فدع حكيم العصر يتألم من الأوصاف والرزايا التافهة في صبر وأناة؛ أو يعترف بأن المتعصبين القدامى كانوا أصدق منه تعبداً وأصفى سريرة وأرهف إحساساً. وقد يحدث بين الحين والآخر أن يعرض في بعض المجالس الأدبية والنوادي الثقافية حديث السعادة، فينسى السادة المتناقشون شرابهم ليتكلموا في السعادة وعما إذا كانت هي الغاية الرئيسية من حياة الإنسان، وأغلبهم يوئيد رأي بوب القائل بأن السعادة هي غرض وجودنا وهدفه، ولكن المعارضة لا تكتفي بهذا بل تريد أن تفهم لماذا تكون الطبقة الجاهلية أسعد حالاً من الصفوة المختارة. ومع ذلك فنحن لا نريد أن نستبدل أما كننابهم؛ أليس مكتوباً أن زيادة في الحزن؟ أليس مكتوبا قولهم تعلموا الحكمة واستزيدوا من العرفان لان في هذا بداية الخير؟ فإذا كان تعليمكم صحيحا فلماذا نشقى في النضال بكل قوتناإذا لم يكن ذلك في سبيل الحصول على السعادة والنجاة من الآلام والاوصاب؟
وهكذا تظل السعادة بين الأخذ والرد بين هؤلاء المناطقة من دون الوصول إلى نتيجة قطعية مقنعة، وهذا ما يجعلنا مضطرين إلى تركها على ما هي عليه من ارتباك وتخبط. ولكن هناك بعض النفوس الجدية التي لا تعتبر الحقيقة لهواً ولعبا بل (ماهية) الحياة. وهم لا يعتبرون الأشياء الظاهرية الجامدة إلا اعتباراً تافهاً، بل يهمهم قبل كل شيء (النداء
الداخلي) هذا النداء الذي إذا توقف فان يفيده حتى استحسان الملايين من الناس. فإذا ما عثر هؤلاء على الحق الذي يبحثون للاهتداء إليه بكل تشوق وبكل قلق سعوا إليه جاهدين بغض النظر عن الخير والشر وأصبح الهدف الذي يسعى إليه الإنسان.
إن أصل هذه القضية ناشئ - كما هو الحال في كثير من القضايا تحت الشمس - من الاضطراب اللغوي، فإذا كانت السعادة تعني اليسر في العيش، فمن حق كل شيء أن يسعى تحقيق مثل هذا اليسر، ومن جهة أخرى، فإذا عنينا بالسعادة والاحساسات السارة، كما هو رأي الكثيرين من الناس، فعندئذ يظهر لنا شك من القضية من الأساس. أما إذا تبصرنا بدقة في الحقيقة القائلة بأن في الإنسان شيئاً أرفع من حب السرور، بأي معنى كان هذا السرور، فإننا نجد أن المعلمين والمبشرين كانوا يعيرون هذه المسألة ما تستحقه من التفات بالغ منذ بداية نشوء العالم، وسيستمر ذلك إلى نهايته، إن كانت له نهاية. وطبيعي أن لا يخلو عصرنا الحاضر من الأشخاص الذين يصرون على هذه الحقيقة ويؤكدونها. وماذا يفعل القارئ بهذه الجملة الصغيرة من (رسائل شلر الجمالية) وهي تخص تلك المسألة القديمة ومسألة تحسين الأنواع؟ انظر كيف يعالجها بهذا الأسلوب الطريف إذ يقول (إن أول المكاسب التي أحرزها البشر في مملكة الروح هو الخوف والقلق، وهما نتيجتان من نتائج التعقل وليس الإحساس؛ ولكن العقل أخطأ في هدفه كما أخطأ في طريقة التطبيق. وثمار هذه الشجرة بالذات هي السعادة سواء كان ذلك بالنسبة لليوم العابر أو لكل الحياة، وهذا لن يزيدهم ذرة من الاحترام مدى الأبد. فاستمرار الوجود اللانهائي والسعادة لفرض الوجود والسعادة بحد ذاتها يخصان الشهية وحدها، وهي عبارة عن كفاح الحيوانية التائقة إلى الخلود. وهكذا بدون أن يحرز هذا الإنسان أي شيء لإكمال رجولته الذهنية نتيجة هذا المجهود العقلي، نراه يخسر حيوانيته السعيدة، فيفقد الحاضر في محاولته اليائسة لكسب المستقبل اللامحدود الذي لم يقصد لذاته بل الذي قصد هو الحاضر إليه بذاته.
والظاهرة الوحيدة التي يتميز بها عصرنا هذا هو السعي في سبيل الخير الحسي والسرور الشخصي في أي شكل كان، وهي الغرض الذي يسيطر على عمل الإنسان وواجبه، وإذا كان في قطيع الإنسانية عبيد الشهوة والشهية من أمثال أبيقور، فإن هذه الإنسانية لن تعدم بعض الرجال ذوي الرسائل العليا لتحقيق القيمة الروحية للإنسان، وأن هذه القيمة ليست
ميزاناً تقاس فيه الحوافز المختلفة؛ بل إن الروح شيء حي ذو قوة وحرية وهي تقوم بخدمة الحق والفضيلة والخير. ولكن الأوضاع في الظروف الحاضرة تقاس بمقياس أقرب ما يكون إلى العقل والرزانة. فمن جهة نرى أن الطريق الهادي الذي يقوم بتعبيده كثير من الأخلاقيين، ومن جهة أخرى نرى الاضطراب سائداً في صفوف الجماهير في هذا السجن - الذي ندعوه بسجن الحياة - وزعماء هذه الجماهير يجعلون من المنفعة إله هذه الأيام، والبنتاميون يمثلون المجلس الروحاني الأعلى لهذه الطائفة التي ديدنها السعي لملئ بطونها وحسب، وبالرغم من أننا لا نملك موهبة التنبؤ، إلا أننا يمكن أن نقول إن هذه النار التي تتأجج في صدور الكثيرين من الناس ذوي النفوس المخلصة ستنتهي بمعركة حامية الوطيس حاسمة المصير، ومحور هذه المعركة سيكون بين العقل والمادة؛ ولكننا في هذا الذي نقوله خرجنا عن سواء السبيل. . وسنعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى إذا سمح لنا الوقت بذلك.
للكلام صلة.
يوسف عبد المسيح ثروت
ديوان مجد الإسلام
نظم الشاعر المرحوم أحمد محرم وتعليق الأستاذ إبراهيم عبد
اللطيف نعيم
تابع غزوة بدر
تلك المآثم، ما تزال ثقالها
…
تمشي الوئيد بها المطايا الطلح
أخذوا السلاح، وقد أغار لأخذهم
…
جند (بآيات الكتاب) مسلح
فيهم من الأنصار كل مشيع
…
يمضي إذا نكص اليراع الزمح
كانوا على عهد مضى، فأتمه
…
لإلههم عهد أبر وأسمح
(سعد) يهيب بهم و (سعد) قائم
…
تحت اللواء بسيفه يتوشح
ما أصدق (المقداد) حين يقولها
…
حرى، وبعض القول نار تلفح
إنا ورائك يا (محمد) نبتغي
…
ما الله يعطي المتقين، ويمنح
لسنا بقوم أخيك (موسى) إذ أبوا
…
إلا القعود، وسبة ما تضرح
هذا (علي) في اللواء و (مصعب)
…
والنصر في عطفيهما يترنح
حملا لوائه، فلو صدح الهدى
…
في مشهد جلل، لأقبل يصدح
هذا (رسول الله) من يك مؤمنا
…
فإليه، أن طريده لا يفلح
الموت في يده، وعند لوائه
…
ريح الجنان لمن دنى يستروح
إن يملك الماء العدو فقد همى
…
سيل جرى شؤبوبه يتبطح
هي دعوة (الهادي الأمين) ونقحة
…
ممن يسوق الغيث فيما ينفح
مكر (الحباب) بهم فغور مائهم
…
والمكر في بعض المواطن أنجح
نبئ (عمير) سراة قومك إنهم
…
زعموا المزاعم، والحقائق أروح
نبئهم الخبر اليقين، وصف لهم
…
يأس الأولى جمعوا لهم وتبجحوا
واذكر سميك إذ يقول (محمد)
…
إرجع (عمير) فدمعه يتسجح
أذن (النبي) له فأشرق وجهه
…
ولقد يرى وهو الأحم الأكفح
بطل من الفتيان، يحمل في الوغى
…
ما يحمل البطل الضليع فيرزح
قل يا (حكيم) فما (بعتبة) ريبة
…
مولى العشيرة للمهم يرشح
إبراهيم عبد اللطيف نعيم
رِسَالَة الشِعْر
فرحة الشعر في موكب التحرير
للأستاذ علي متولي صلاح
دعوا العر في أفراحه يترنم
…
فقد عاش دهرا في الأسى يتألم
طوته يد كانت على الناس نقمة
…
وكانت جحيما لا يبر ويرحم
وكانت على الأحرار في مصر محنة
…
تبدد من أنفاسهم وتكمم
ففي كل ما خور سلام ومحنة
…
وفي كل دار للأعزة مأتم
وكل أبي راسف في إساره
…
تقيده الأغلال والنار والدم
وكل مهين العرض. . ملق بعرضه
…
على قدم الطاغي. . يضم ويكرم
وهانت خلال البر، وارتفع الخنا
…
واجت لركب الشر سوق وأسهم
خلائق من وادي الضلال معينها
…
ومن نفثة الشيطان تسقى وتلهم. .
سقى الله يوماً كان في مصر فيصلا
…
يحف بجنبيه رضا وتبسم
أطل على مصر فأشرق ثغرها
…
وقد ظل دهراً ثغرها يتجهم
وألقى برأس البغي في اليم. . قائلا
…
مهادك هذا. . والمصير جهنم
وزلزل ما أرسى الطغاة وهيأوا
…
ودمر ما كانوا أعدوا وقدموا
فطاحوا وطاحت شاهقات أثيمة
…
وراحوا. . وراحت خلفهم تتهدم
وهبت على الوادي الكريم نسائم
…
تسوق إليه المكرمات وتنعم
أظلت ضفاف النيل منها برحمة
…
أفاء لها الحيرى. . وفي ظلها ارتموا
تساووا فما فيهم مسود وسيد
…
وعزوا فما فيهم سراة وخدم
وذلت أنوف كان صعباً قيادها
…
ولانت خدود كان فيها تورم
فسيرى إذن يا مصر في موكب العلا
…
ولا تتوانى. . . إن دهرك يبسم
خذي بسبيل الجد وامضي لمنزل
…
أرائكه يا مصر شهب وأنجم
تهيأت الأسباب للمجد كله
…
ولم يبق دون المجد إلا التقدم
عمادك فتيان أسود ضراغم
…
فعالهمو نار. . وأقوالهم دم. .
علي متولي صلاح
وثبة الجيش
للأستاذ عبد العزيز مطر
من ذلك البطل المغوار يتبعه
…
جيش من النجب الأبطال جرا
من ذلك الحر؟ قد قضت مضاجعه!
…
لإذ قيل ليس بوادي النيل أحرار
من قال للظلم (قف من أنت؟) يقمعه
…
فاهتز من خشية المقدام جبار
من فجر النور إذ عزت مطالعه؟!
…
من حطم القيد إذ للقيد أنصار
هذا هو السيف، أيدي الله تشرعه
…
على الطغاة، وسيف الله بتار
هذا نجيب، لواء الله، يرفعه
…
يعلى به الحق، إن الحق قهار
في مطلع الفجر هب الليث محتدما
…
غضبان، يزأر في النوام أن
هانت كرامتكم، ضاعت مهابتكم
…
فالعرض منتهك، والمال منت
أرواحكم أزهقت من بغي شرذمة
…
لا تعرف الحكم إلا أنه س
جاءوا بأسلحة للجيش فاسدة
…
ترتد ضاربة قلب الألى ضر
زادت مفاسدهم، فاضت مساوئهم
…
طالت علينا السنون السود والنو
كانت مقالته في الأفق سارية
…
وجنده النجب الأبطال قد وثبوا
قسددوا ضربة للظلم قاصمة
…
ترنح الظلم منها وهو ينتحب
فلن ترى الأرض اقطاعا ومفسدة
…
لن يسكب الدمع فيها مرهق تعب
لن ينهب الزرع منها متخم جشع
…
يرضي هواه ليردي غيره الس
فثورة العدل والإنصاف منطقها
…
لا يحرم الخير من يمسسهم النصب
تقبل الغرب بالإعجاب ثورتنا. .
…
واسبشر الشرق بل تاهت بها العرب
ولن أصور ما بالنيل من طرب
…
فكل شيء به قد هزه الطرب
عبد العزيز مطر
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
حقوق المؤلفين
أثار الأستاذ الدكتور طه حسين في مقاله بالأهرام في الأسبوع الماضي موضوع حقوق المؤلفين، وبين أوجه الصراع بين المؤلف والناشر.
ولا شك أن الذين عانوا طرفا من هذا الصراع، يذكرون مدى الجهد الذي تكبدوه من معاملة الناشرين، أو على الأصح مع بعض الناشرين.
فالمؤلف محتاج إلى أن يجد من أدبه مورداً ييسر له الحياة كما تيسر لرجال الصحافة والموسيقى والغناء. .
والمؤلف، إلى ذلك هو أقل زملائه من رجال الفكر والفن مكانا، فلم يعد الآن للأدب الرفيع والإنتاج الخصيب مكان مرموق بعد أن غلبت الألوان الصحفية والمكشوفة والخفيفة، وارتفعت أجورها وتقديراتها، حتى أصبح من غير المعقول أن يعيش أديب من سن قلمه.
وإني لأذكر كلمة قالها لي المرحوم الدكتور زكي مبارك سنة 1935 وكنت عولت على أن أنقطع الأدب. . قال (إن أديباً ما في مصر لا يستطيع أن يعيش من قلمه، ولو كان طه حسين أو الزيات. وإن كان كل أديب مهما كان من القوة أو الشهرة محتاج إلى عمل آخر إلى جوار أدبه يعيش به، وهو إما أن يكون الصحافة أو التدريس).
والحق أن أديباً من الأدباء لم يستطع بالأدب وحده أن يكون قوياً من الناحية المادية بحيث يستطيع أن ينصرف بالأدب عن غيره، أو يقصر عليه.
لقد استطاعت الصحافة أن تضع الأدب في الدرجة الثانية منها، وأن تغلب عليه السياسة وطرائف الأخبار والصور، ثم جاءت الإذاعة بألوانها المختلفة، التي تقصد لا إلى الترفيه والتسلية، قبل الثقافة والتوجيه، فأحلت الأدب درجة أخرى فأصبح في الدرجة الثالثة. .
وجاء اليوم الذي أصبح الأدب فيه غذاء فئة قليلة من الصفوة المختارة التي تحبه، لأنه فن رفيع، أولئك الذين يتسع وقتهم له. .
وكذلك العلم اليوم، وكذلك كل فنون التأليف - ما عدا التأليف المدرسي والجامعي - قراءه قلة، ومن ثم فقد حق أن يكون هناك قانون يحفظ لهؤلاء العلماء والأدباء حقوقهم، ويرد
عنهم طغيان الناشر الذي قلما يكون عالما بتلك الكنوز التي توضع بين يديه لإخراجها للناس، وهو لا يقدرها من هذه الناحية أبداً وإنما يقدر مدى إعجاب القراء لها، فهو يتخير منها الأنواع التي يراها صالحة للتجارة فحسب.
ومن قبل، مات الأدباء، فلم يجد أهلوهم ولا أبناؤهم من ورائهم شيئاً. . كانت أسماء هؤلاء الأدباء تملأ ما بين المشرق والمغرب، وكانت مؤلفاتهم المتعددة في كل الأيدي، ومع ذلك فلم يكن من وراء هذه المؤلفات مال كثير أو قليل يمكن أن يجده أبناء هذا الأديب. لقد باع المؤلف الضخم الاسم، الفقير، حق مؤلفاته للناشرين لقاء مبالغ تافهة قليلة كسب الناشر عشرات أضعافها بل لا أغلو إذا قلت مئات الأضعاف.
وقد أشار الدكتور طه حسين إلى المؤتمر الذي عقد في جنيف في أغطس الماضي، ليضيع حق المؤلف في صورة اتفاق دولي وإن كانت مصر لن تستطيع أن تشترك في هذا الاتفاق الدولي، إلا إذا أصدرت قوانين حماية المؤلف في مصر أولا. . وهناك قانون تنظيم حق المؤلف في مجلس الشيوخ، وهناك أخر في مجلس النواب، ناما منذ أمد في العهد الغابر. وفي إشراقة العهد الجديد الذي يضع الأسس الصالحة لغد أفضل، نرجو أن يتحقق للمؤلف وضعاً كريماً يمكنه من أن يتفرغ للإنتاج، ويتجرد للعمل الخالد الباقي.
بدء الموسم الأدبي
من الأسئلة التي ترددها دوائر الأدب: هل العام الدراسي هو عام الإنتاج الأدبي، أم العكس هو الصحيح؟ وهو أن موسم الأدب يبدأ عندما تنتهي الدراسة. والحق أن الصيف لم يكن حتى الآن - في مصر - موسما أدبيا، فلا بد أن يكون بدء الموسم الدراسي، وإقبال الخريف، هو علامة الفصل الذي تنشط فيه دوائر الأدب والفن. . وبعد قليل ستحفل الجرائد بباب (محاضرات اليوم)
ونحن نتوقع أن يكون الموسم هذا العام خصباً، وأن أصوات المفكرين ستتداعى إلى الإصلاح والإنشاء والبحث، في حرية وقوة وطلاقة، وقد أظلها العهد الجديد بعد أن رفع من كرامة (الإنسانية). . هذه الكرامة التي سيظهر أثرها في انطباعات نفوس الأدباء والمفكرين، ثم في إنتاجهم!
أدب الثورة
ولن يتأخر طويلا أدب الثورة. . فلا شك أن الحرية والكرامة. . التي هي طابع العهد الجديد ستعطي للمفكر مشاعر جديدة. . ستملأ نفسه بالقوة. إن كل مشروع، وكل إنتاج، وكل عمل صالح يدرس الآن بعناية، وتتلقفه أيد أمينة، ونفوس مليئة بالحيوية. . تريد أن تنشر الضياء على كل مرفق من مرافق الحياة. . فما بالك بقلب الحياة: الأدب والفكر.
لقد انتقلت مصر في لحظات من الهزال البغيض إلى الجد الصارم! هذا طابع العهد. . وهو طابع العهد.
العمل، الوقت، المشاريع، الإصلاح، الغربلة، التنقية!
سوف تختفي من النماذج الإنسانية صورة (المتواكل) و (اللص) و (الخطاف) و (الأثيم).
وسوف تختفي (المرأة) الجاسوسة، أو المسيطرة على الزعماء.
وسوف تختفي صورة (الخادم) الذي يملك من السلطان أكثر ما يملك الوزير!
ستكون النماذج الإنسانية الجديدة، قوية، حية، عليها سيماء النقاء والطهر، ستكون أهداف الأدب الجديد عالية، في سبيل الوطن والحق والمثل العليا.
لقد خلفت مصر وراءها روح الجمود، واليأس، والحقد، والصراع على المطامع، وبدأت صفحة جديدة من الوحدة، والتعالي عن الرغبات الشخصية، وسيمتد هذا الأثر ليس إلى الأدب والفكر وحده، ولكن. . إلى المسرح، والصحافة، والإذاعة، والنحت والموسيقى، ونحن نرى البواكير هذه الأيام في مسرحيات جديدة قد اختفت منها تلك الغرائز المهددة، والمناورات السخيفة، والنزوات الطائشة، ونرى قصائد وأغاني فيها روح الثورة. .
ونأمل أن نرى على الأيام فنا أقوى. . يتجه إلى السماء!
الأدب في سوريا
في مجلة (الوعي). . هذه المجلة الأدبية الإسلامية الأنيقة، في عددها الجديد الذي صدر هذا الأسبوع كلمة عن الأدب في سوريا بمناسبة العهد الجديد، رأيت أن أنقلها تسجيلاً لأثر العهد الجديد هناك، فقد كتب الأستاذ زكي المحاسني يقول (في سورية الحاضرة، أدباء وشعراء وأهل نقد، وفنون، بعضهم جامعيون، وبعضهم مدرسون، وبعضهم من أهل المجمع العلمي السوري، ويعدون من أهل الصحافة أو الوظائف، وفيهم أشياخ وشبان، وبعض
نسوة وفتيات، ويغلب على شيوخ هذا الأدب التوحد والتفرد والتحيز، وليسوا كثيراً، فهم أفراد معدودون، لكل منهم مذب في الحياة الخاصة والعامة، غير أنهم يتجهون (لأدب الشباب) إذ يؤثرون أن يكون (أدب الشباب) قويا نزاعاً إلى اللغة الحرة والبيان الراقي.
من أولئك الشيوخ شعراء، لم يستطع شعرهم بعد شوقي وحافظ ومطران أن يحلق في أجواء هؤلاء الخالدين. أما أهل النثر منهم فمنطوون على أنفسهم ينفس الواحد منهم عن أدبه بين السنة والسنة بمقال، ولم ينشطوا إلا قليلا إلى نشر المؤلفات النافعة، ولكن أولئك الجدد المنطلقين من قيود الماضي، وهم رعيل الكهول والشباب يأخذون في (بناء) أدب سوري جديد يرجى نفعه، وإن لهم نزعات نحو أدب الشعب قد تكون صالحة لزماننا هذا أكثر من صلاح أدب الأبراج العاجية) اهـ
إن سوريا هي الأخرى قد انتقلت إلى الجد الصارم.
وكذلك لبنان.
ولذا فنحن نتوقع للأدب العربي جميعاً فجراً جديداً.
أنور الجندي
البريد الأدبي
(الله ويردى)
حضرة الأستاذ رئيس تحرير مجلة (الرسالة)
قرأت في الرسالة الغراء ما كتبه الأستاذ عبد اللطيف محمود الصعيدي عن (ميشيل الله ويردى) ناظم (وحي البردة) ويقول الأستاذ عبد السلام إن (اسم النظم أشبه بأسماء المسيحيين). وعائلة الله ويردى هي عائلة أرمنية مسيحية كاثوليكية لها صلة قريبة بعائلة المرحوم يعقوب أرتين باشا ابن المرحوم أرتين بك الذي كان من وزراء محمد علي الكبير.
علمت ذلك من المرحومة كريمة أرتين باشا عندما أرادت أن توقف أملاكها قبل وفاتها، إذ استدعتني ذات يوم وطلبت مني أن أتولى تحرير مشروع عقد الوقف وطلبت النص على تعيين حصة لإحدى السيدات سمتها بسم (الله ويردى) فسألتها ومن هي هذه السيدة؟ فقالت إنها سيدة مقيمة في باريس ومن ذوي قرابة والدتها (بنت عمة أو بنت خالة) على ما أذكر. فهل هذا الشاعر ميشيل الله (ويردى) ينتسب إلى هذه العائلة؟ الله أعلم فليسأل!
عزيز خانكي
إلى الدكتور أحمد فؤاد الأهواني
عندي سؤال تحيرني الإجابة عنه، وقد رأيت أن أعرضه على صفحات الرسالة لعل الأستاذ الدكتور الأهواني أو أحد زملائه من أساتذة علم النفس يتفضلون بالإجابة عنه في وقت سريع.
وخلاصة ما أود أن أقوله: أنني مدرس أديب، أقرأ جيدا، وأكتب جيدا، معبرا عن خواطري في دقة ووضوح، وقد
أخذت أشعر منذ عام بحدث غريب يقطع علي متعة القراءة؛ فما أكاد أطالع بضع صفحات من كتاب أو صحيفة، حتى يأخذني النوم ويقع الكتاب من يدي، مع ما أشعر به من وضوح المعنى المقروء والتمتع به تمتعا زائدا، صباحا كان ذلك أو مساء. فمن يرشدني إلى التخلص من هذا النوم المفاجئ، مع أني أنام يوميا مدة طويلة تناسب سني، وتطابق الوجهة الصحية. أرجو أن تحمل لي الرسالة ردا سريعا في وقت قريب.
(متألم)
عتاب
نشر صديقنا الشاعر الأستاذ كمال نشأت مقطوعة جميلة بعنوان (حياة جديدة) بمجلة الأديب اللبنانية عدد أكتوبر لم نستسغ منها قوله:
أمشي وفي عيني
…
(آلام المسيح على الصليب)
فإن الله يقول (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) يا أخي:
نحن مسلمون في بلد مسلم! والفن ينبع من المجتمع، ورسالته حتماً للمجتمع، وليس الفن للفن كما يزعمون. . .
عبد المنعم أبو سيف
رد ونقد
خطأ أحد الباحثين استعمال (تعاهدنا على تحقيق أهدافنا) وأقول أن الاستعمال صحيح وإليك النصوص اللغوية:
جاء في المصباح المنير: الغرض الهدف الذي يرمى إليه، وتقول غرضه كذا على التشبيه أي مرماه الذي يقصده اهـ.
وجاء في لسان العرب: الغرض هو الهدف الذي ينصب فيرمى. . . وغرضه كذا أي حاجته وبغيته، وفهمت غرضك أي قصدك ا. هـ.
وجاء في مستدرك شرح القاموس: ويقال: غرضه كذا أي حاجته وبغيته.
قال شيخنا: قد كثر حتى تجوزوا به عن الفائدة المقصودة من الشيء وهو حقيقة عرفية بعد الشيوع لكونه مقصداً وقبل الشيوع استعارة أو مجاز مرسل ا. هـ.
وجاء في أساس البلاغة: ومن المجاز فلان هدف لهذا الأمر وغرض له ا. هـ.
من هذا يتبين للقراء أنه لا فرق بين الهدف والغرض في جميع المعاني الحقيقية والمجازية، وأنت تقول: حققت غرضي أو مطلبي، وتحققت أغراضنا ومطالبنا، وقد أجاز الكاتب الفضل استعمال (تعاهدنا على تحقيق مطالبنا) فإذا كان هناك فرق بينهما فليبينه وقد خطأ استعمال (يهدف إلى كذا) وأقول أنه صحيح أيضا كأصله السابق لأن المعنى يتجه
ويقصد ويدخل ويسرع إليه كما يتجه السهم أو المقذوف إلى هدفه.
وأرشدنا الأستاذ إلى الاستعمال الصحيح الوارد في اللغة؟! وهو (استهدفه) ولم أجد استهدفه متعديا في جميع المراجع التي بين يدي. . .
علي حسن هلالي
(الرسالة) أقر المجمع اللغوي هذا الاستعمال.
جناية الحزبية على الأدب
إن الحزبية الباغية في مصر شر كلها، بل هي مزيج مركب من شرور لا حصر لها. وحسب مصر من شرورها أنها مزقت الوحدة، وفرقت الكلمة، وأصابت روابط الأخوة والمودة بالوهن، وبذرت في النفوس بذور الإحن والفرقة والبغضاء، وفي الصدور بذور الحقد والعداوة والشحناء، وغرست في تربة مصر الأنانية الممتزجة بالجهل، والمهاترة المشوبة بالتوتر.
أما جناية الحزبية البغيضة على الأدب فهي أجل من أن توصف؛ فالشباب هو التربة الصالحة للأدب والبيئة التي يجب أن تهيأ له، ومن أين لمصر الشباب الذي يتجه في حياته نحو الأدب، والحزبية البغيضة المشوهة لم تدع له فرصة للاشتغال به، ولسلوك نهجه، وللاغتراف من منهله.
وقد كان من الممكن للأدب أن يكسب أنصاراً من طلبة الجامعات العلمية وهم أجدر بنصرته، ولكن الحزبية البغيضة تسللت داخل أسوار الجامعة ولم تدع قليلا ولا كثيراً إلا ساقته في موكبها، وضمته إلى شيعتها، اللهم غلا النادر الذي لا يعتد به، والذي لا حكم له بجانب الكثرة الساحقة، التي اتخذت من الحزبية البغيضة مهنة تمتهنها، وحرفة تحترفها، وأصبحت لا تقدم لمصر إلا المهارة والمناوشة والثرثرة على ضوء التعصب للأحزاب والزعماء، وعلى حساب مصر المنكوبة في شبابها وهم عصبها وعدتها وأملها في المستقبل القريب والبعيد.
نعتقد أن حركة الجيش تعتبر نهاية للحزبية البغيضة القائمة على غير مبادئ أو أهداف، والتي يجب لأن تكون اليوم في ساعات الاحتضار الأخيرة، لتلفظ أنفاسها غير مأسوف
عليها، والفرصة سانحة لأن يكفر شبابنا - ولا سيما طلبة الجامعات والمعاهد العلمية - بالحزبية البغيضة، ويودعها بألذع ما تستحقه من اللعنات، ويقبل من الآن على الأدب، وينضر إلى شيعته، فما عاشت دولة بغير أدب، وما وصلت دولة إلى نهاية المجد إلا بالأدب!
وها نحن أولاء في الانتظار. .
نفيسة الشيخ
لقد دالت دواتهم
لو حاول الإنسان أن يحصي الأمثلة على جحود الإقطاعيين واستهتارهم لأعجزه الحصر. . وحسبنا أن نسوق اليوم قصة إقطاعي بلغ الاستهتار حد الكفر - والعياذ بالله - وتلك نقمة الغنى يدفع يصاحبها أحيانا إلى حد الجنون، أو الكفر. . وكلاهما لا يرضاه إنسان لنفسه!
فقد سمعت أنإقطاعيا كان تدعو إليه فلاحا من فلاحيه ويأمره أن يدعو الله أن يهبه بقرة. . ثم يسأله الإقطاعي الأحمق في تهكم:
هل وهبك الله بقرة!؟ إذن أنا أهبك البقرة. . فيدعو الفلاح فيأمر له بالبقرة!
هذا منتهى الإجرام في حق الخالق العظيم، الذي بسط له في الرزق، إلى حد أنساه النعمة، يذكرنا بما قاله (موسى عليه السلام عن فرعون وقومه:
(ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم).
ويذكرنا يوسف القرآن الكريم:
(ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم، كذلك نجزي الظالمين).
وبعد. . لقد دالت دولة الإقطاع، كما دالت من قبلها دول أقامت عروشها على الظلم والطغيان، فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم. . . وتلك قصورهم خاوية على عروشها. . ينعق على أطلالها اليوم. . . فاعتبروا يا أولي الأبصار.
عيسى متولي
القَصَصُ
الكذبة
للقصصي الروسي بانتليمون رومانوف
كانت الغرفة مبعثرة الأثاث؛ وكان هو جالسا إلى مكتب قد انتثرت عليه الصحف والكتب في غير نظام ولا ترتيب، وكان ممسكاً بيده غطاء محبرة قد كان رفعه عنها بحركة غير إرادية، وبصره مثبت في نقطة أمامه يحدق فيها.
وكان من عادته أن يجد صاحبته بانتظاره مشتاقة في صبر، ولكنه لم يجدها على عادتها في الدار. . . لقد قالت له فتاة الجيران إن (ماريا سير جيفانا) خرجت بغير أن تترك ورائها خبراً.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي لم تنتظره فيها منذ أن تعارفا حتى اليوم. لقد كان أخبرها بالتلفون أنه ربما استطاع لقياها اليوم ساعة واحدة، ولكنه استطاع أن يتحرر بغتة طوال هذا المساء، إذ كانت زوجه قد خرجت لزيارة بعض الأصدقاء.
ومضت الساعة الحادية عشر وتلتها الثانية عشر وهو ما يزال منتظراً. وأخيرا أزفت الساعة الأولى ولما تأت! وكان كلما طال انتظاره تشتد فيه الرغبة في البقاء حتى تعود فيعرف أين كانت.
وأخيراً وقبيل الساعة الثانية دق جرس الباب ففتح لها فطرق أذنيه وقع أقدامها؛ وما هي إلا أن فتحت الباب ودخلت فلم يكن له متسع من وقت يصلح به هيئة وجهه للقياها.
كان الثلج قد غطى كمي معطفها وكتفيه، وكان خداها قد توردا من لفح الرياح المحملة بالثلج، وعيناها السوداوان مشرقتين بوميض من الغضب والهياج. كان أول من ابتدرته به من الكلام قولها:
- أهلاً بك، أنت هنا؟
وكان في صوتها نغمة فرح ودهش بينه التكلف. ثم استأنفت قائلة:
- ولكنك قلت إنك لن تستطيع المجيء!
وكانت تقول ذلك وهي تلقي على الغرفة نظرة فاحصة، فأجابها:
- كلا، لقد قلت إني ربما جئت ولكني لم أكن واثقاً تماماً من هذا. قال هذا وهو يعيد غطاء
الدواة إليها، ثم قام فمشى حتى جاء فوقف قبالة صاحبته.
- إنك على حق، غير أنك قلت إنك إن جئت فلن تظل أكثر من ساعة.
- حسبت أن لقاء ساعة عندك تفضل الخروج مساء. . . إلى حيث لا أدري.
فأجابته بسرعة قائلة:
- (أوه. . . إنما كنت ذهبت إلى الملهى)، ونزعت قبعتها فنفضت الثلج الذي كان يغطيها على البساط. ثم إنها بدأت تزيل الثلج الذي كان قد تراكم على كمي معطفها في أناة ظاهرة واعتناء. فهز صاحبها كتفيه وبدأ يعينها على خلع ملابس الخروج التي كانت ارتدها محتفظا بصمته، ذلك الصمت الذي كثيرا ما كان يشاهد في مناظر الشجار والمنازعات، ولم يخف ذلك منه على صاحبته ولكنها اعتصمت بالصمت العميق مثله، غير أنها بعد أن ألقت عليه نظرة جانبية بدا لها أن تغير وضعها - فجأة - فقالت تكلمه في صوت لطيف:
- أجائز أنك لا تصدقني؟ واقتربت من حبيبها بجو تشم فيه رائحة الهواء الطلق البليل الذي كانت فيه منذ برهة قصيرة، فوضعت يديها - ولم يكن ليخفى عليه جمالها - على كتفيه، غير أنه أحس ثانية أن هذا التبدل لسريع من وضعها الأول إلى هذا الوضع الأخير اللطيف مما تقسر عليه نفسها، إنه متكلف أيضا! ثم قالت له:
- وفي استطاعتي أن اعدد لك كل حركاتي هذا المساء؛ كان أحد أصدقائي ومعه خطيبته ينويان الذهاب إلى الملهى، وكانت عندهما بطاقة دخول زائدة فاستدعياني معهما إلى الذهاب ففعلت، وذلك كل شيء تم
فمجيئك من الملهى إذا في هذه الساعة؟
- نعم.
ثم رفعت يدها عن كتفيه - وما كان قد مسهماً - وذهبت إلى مرآة الصوان وكأنها تريد أن تصلح شعرها، ولكن عينيها عادتا إلى ما كانتا عليه من النظر إلى الغرفة نظرة عجلى فعل العائد إلى داره يجد فيه ضيفا غير منتظر ليطمئن على أنه ليس في المكان بعض ما لا يجب أن تقع عليه عين ضيفه من أشياء:
وكان هو يلحظها أثناء ذلك من طرف خفي ويتتبعها في كل ما تصنع، أما هي فكانت تخفي شعورها بمراقبته هذه وتدقيقه وتتظاهر بهيئة من ناله تعب أو مسه جهد، بينما كانت تمشط
شعرها وتعيده إلى نظامه أمام المرآة.
. . . لقد بدا له من الغريب أن تكون لشخص تصحبه إلى الملهى خطيبته بطاقة دخول زائدة!
. . . قالت: (وقد خاب ارتقابي مقدمك عند المساء تماماً)، ثم جلست على كرسي كبير بقرب المكتب قبالة صاحبها. واسترسلت قائلة:
(. . . فوعت بغض أخطاء أخرت الرواية عن موعد بدئها، فضاق المتفرجون بذلك ذرعا وعلت أصواتهم وسمع تصفيقهم. . . ألم تر هذه الرواية من قبل؟).
ومع أن الرجل كان ما يزال واقفاً في مكانه، وعلى وجهه سيماء من يستمع إلى كذبة مدبرة حازمة صادرة من شخص كانت له بصحة ما يقول ثقة قوية - منذ قليل من الزمان فقط - مع هذا، فإنها استمرت تتم حديثها وكأنها غير شاعرة بحالته الغريبة التي كان فيها.
قالت: (وكانت الرواية غاية في السخف، مملة، بينة التكلف والتصنع، وكان الممثلون يقومون بأدوارهم وما في نفوسهم شوق إليها، وكان أحسن ما هناك فتاة ممثلة جودت في دور لها متوسط)
وهناك أدار صاحبها عينيه نحوها وقال لها:
- إنه ليس ثمة سبب يدعوني إلى الشك في أمر ذهابك إلى الملهى.
فردت عليه قائلة: (عزيزي، إن شئت أريتك البطاقة) وفتحت حقيبة يدها وأخرجت له البطاقة بدون بحث ولا عناء بل كان في حركتها أثر الاطمئنان. فاخذ الورقة المطوية منها بحركة آلية ثم أردف قائلاً:
- إني لا أدري ما هذا الذي حدث بالضبط ولكني لحظت من زمن يسير أن علاقتنا قد طرأت عليها شائبة من الخداع
- وماذا تعني بالخداع؟
وكانت جالسة على كرسيها. فرفعت مرفقيها علامة السؤال والاستغراب.
فأجابها: (لا أدري تماما ولكن هناك شيئاً مما أقول على أني أطلب منك شيئاً واحداً، ذلك أن لا تضطري الواحد منا إلى الكذب على الآخر. لقد كانت بيننا عاطفة ود قوية، وفي أمثال هذه العواطف التي بيننا لا يستحسن الكذب أبداً. فلا تحدثيني الليلة بشيء، ودعي ذلك إلى
الغد. خابريني بالتلفون وإذ ذاك تستطيعين التحدث بكل شيء. إن كلا منا حر مطلق التصرف في نفسه، فإن لم يبق بيننا (حب) فلا حرج ولا بأس. . لنفترق.
ثم وضع قبعته على رأسه مهتاجا وارتدى (سترته) وخرج دون أن يودعها.
. . كان يسير إلى داره مستعداً في ذهنه حركاتها وصوتها فبدا له كل ذلك صورة من مكر وخداع بغيضة! لقد كانت تحدثه عن الملهى حديث المضيف إلى زائر طرقه، وذلك فعل المرأة إذا تريد كذباً، وكانت تتحدث عن الملهى حديثاً عاماً مبهماً بالطريقة التي يتكلم بها المرء عن حوادث قدم عليها العهد، وكان عليها - إلى هذا - أن تبتدع كذبة تأخير الرواية ساعة عن ميعادها المعين لتبرر تأخرها عن موعد انتهاء أوقات الملاهي عادة!
أما البطاقة. . فمن يدري؟ لعلها ابتاعتها. . . وهي تستطيع ذلك. بل ربما دخلت الملهى حقا وشاهدت الفصل الأول. . ثم. .؟
غير أن فكرة - آخر الأمر - اعترضته فوقف تحت مصباح الشارع وأخرج من جيبه البطاقة التي كان قد وضعها في جيبه بغير شعور منه.
فلما فتح البطاقة الصغيرة الخضراء ليتبين التاريخ عليها وجد أنها قديمة، مؤرخة بتاريخ أول الشهر، وهم اليوم في الثامن عشر منه! فيالها من كذبة دنيئة!
كان أول ما دار بخلده أن يمزق قطعة الورق البغيضة تلك. . غير أنه أعادها إلى جيبه ثانية لسبب خاص. .
إنها حقا كذبة إنسان صفيق الوجه! فيالها من زلة! إنها كفيلة بأن تخجل الإنسان من نفسه. .
ولما وصل إلى بيته لم يجد في شبابيك طابقه أنوارا! كأن زوجه لم تعد، وكان ذلك له خيراً، ففي استطاعته أن يزعم - الآن - لها أنه كان في الدار طوال المساء فقضاها أمسية وحيدة على مضض منه. . غير أن ضوءاً بدا في غرفة النوم - بغتة - لقد سبقته زوجته إلى الدار! منذ خمس دقائق فقط!
فصعد إلى الطابق الخامس بسكون مفكراً فيما عسى أن ينتحل من الأعذار؛ ثم تسلل إلى الردهة في ارتقاب وحذر في حين أن زوجته كانت خارجة من غرفة النوم مسرعة وهي تشد وسطها بحزام فستانها البيتي، فلما وقع نظرها عليه ابتدرته سائلة في استغراب:
- ماذا حصل أيها العزيز فأخرك؟ لقد ظللت في الدار طوال المساء هذا، ذهبت إلى بعض الجيران، وكان عندهم أقاربهم فلبثت عندهم ساعة ثم عدت وفي أملي أن أقضي هذا المساء معك فأجابها:
- غير أني كنت أحسب أنك ستكونين خارج البيت الليلة، وذلك الذي دعاني إلى الذهاب إلى الملهى! فغن ذلك ولا شك خير من بقائي في الدار وحدي!
- ولكن لم أراك متأخراً للآن؟
- أوه. . إنك تعرفين كيف يسير هؤلاء في أعمالهم. . لقد وقعت بعض أخطاء أخرت الرواية عن موعد بدئها ساعة، فضاق المتفرجون بذلك ذرعا، وعلت أصواتهم وسمع تصفيقهم! ثم أخرج تلك الورقة المطوية وألقاها على الطاولة بحركة تدل على تعبه، ثم استطرد قائلاً:
(وكانت الرواية غاية في السخف، مملة، بينة التكلف والتصنع في كل شيء من مظاهرها. وخير ما كان في الرواية كلها فتاة ممثلة أجادت في دور لها متوسط، ولو دريت أنك ستكونين في الدار الليلة، إذا لتركت الرواية بعد فصلها الأول!
ف. س