المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1009 - بتاريخ: 03 - 11 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٠٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1009

- بتاريخ: 03 - 11 - 1952

ص: -1

‌عدونا الأول: الرجل الأبيض

للأستاذ سيد قطب

في أمريكا يتحدثون عن (الرجل الأبيض) كما لو كانوا يتحدثون عن نصف إله. ويتحدثون عن (الملونين) من أمثالنا المصريين والعرب عامة كما لو كانوا يتحدثون عن نصف إنسان!

فالذين يعتقدون أن الأمريكان يمكن أن يكونوا معنا ضد الاستعمار الأوربي هم قوم إما مغفلون أو مخادعون، يشتغلون طابوراً خامساً للاستعمار الأمريكي المنتظر لبلاد الشرق الأوسط!

إن مصالح الاستعمار الأمريكي قد تختلف أحياناً مع مصالح الاستعمار الأوربي. ولكن هذا ليس معناه أن يكون في صف استقلالنا وحريتنا. إنما معناه أن يحاولوا زحزحة أقدام الأوربيين ليضعوا هم أقدامهم فوق رقابنا. وفي الغالب هم يجدون حلا لخلافاتهم مع الاستعمار الأوربي على حسابنا.

إن الرجل الأبيض هو عدونا الأول. سواء كان في أوربا أو كان في أمريكا. . وهذا ما يجب أن نحسب حسابه. ونجعله حجر الزاوية في سياستنا الخارجية، وفي تربيتنا القومية كذلك.

إن أبنائنا في المدارس يجب أن تربى مشاعرهم وتفتح أذهانهم على مظالم الرجل الأبيض وحقارة الرجل الأبيض. ويجب أن تكون أهداف التربية عندنا هي التخلص من نفوذ الرجل الأبيض وحقارة الرجل الأبيض. وجشع الرجل الأبيض. ويجب أن تكون أهداف التربية عندنا هي التخلص من نفوذ الرجل الأبيض. لا سياسي فحسب، ولا اقتصادياً فحسب، ولكن اجتماعياً وشعورياً وفكرياً كذلك.

ولكن الذي نفعله هو عكس هذا على خط مستقيم. . عندنا في وزارة المعارف عبيد للرجل الأبيض. عبيد يعبدون هذا الرجل كعبادة الله. بل إنهم ليلحدون في الله ولا يلحدون في أوربا أو أمريكا. سراً وعلانية!

وعندنا في معاهدة التربية التي تخرج المدرسين، فتؤثر في ذلك بعقلية أجيال بعد أجيال. . عندنا فتات آدمي ينظر إلى الرجل الأبيض نظرة التقديس، ويطبع مشاعر الطلبة الذين

ص: 1

سيصبحون مدرسين بطابع الإعجاب والقداسة لأولئك المستعمرين القذرين، الذين يحتقروننا ويهينون كرامتنا، فنتلى ذلك منهم بالشكر والثناء وهذه جناية قومية، وجناية إنسانية. . جناية قوميةلأن الرجل الأبيض يستغلنا ويستغل أوطاننا استغلالا شنيعاً، ومن واجبنا أن نعبئ أعصابنا ومشاعرنا ضده، لنسترد حقوقنا المسلوبة. وجناية إنسانية لأننا بتمجيدنا للأوربي والأمريكي إنما نمجد مثالاً مشوهاً للإنسان، ونقيم تمثالاً للجشع والطمع والسلب والنهب والاحتيال. ثم نضع تحت أقدامه أكاليل المدح والثناء!

أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة جريدة مصرية صباحية يتحدث كاتبها فيها عن مأساة تونس مع فرنسا فيقول مخاطباً رئيس الدولة الفرنسية:

(أما إذا كان يقصد شق الطرق وإنشاء السكك الحديدية، وتشييد الأبنية وزيادة الرخاء الاقتصادي. . فلعله يعرف أن هذا كله تم لفائدة المستعمرين من الفرنسيين. أما أهل البلاد الأصوليون فيعيشون كالغرباء. لا يزالون جهالا حفاة عراة. وقد ساومت أمريكا على أرض مراكش، فأعطت أمريكا امتياز إقامة المطارات والاستحكامات الحربية على الشاطئ في مقابل أن تنصرها أمريكا، وتمهد لها السبيل لتنفيذ سياستها).

ولكن الكاتب يقول مع هذا عن فرنسا إنها (البلاد التي علمت الدنيا مبادئ الحرية والإخاء والمساواة)!

وهذا هو الاستعمار الروحي، الذي يقيد مشاعرنا حتى ونحن ثائرون على الاستعمار السياسي!

هذا هو الاستعمار الروحي الذي ينطق الكاتب بهذه الخرافة حتى وهو يستعرض تاريخ فرنسا الأسود، ومساومات أمريكا الاستغلالية.

هذا هو الاستعمار الذي في أرواحنا المدرسة المصرية التي تنفذ أهداف الاستعمار إلى اللحظة الحاضرة. بل يقوم على رأسها وزير كان من عباد إنجلترا، ثم أضحى من عباد أمريكا ومعه معاهد تربية تتعبد أمريكا من دون الله في الأرض!

هذا هو الاستعمار الذي بثته في أرواحنا كتاب خانوا أماناتهم للوطن، وخانوا أماناتهم للإنسانية، فوقفوا أقلامهم طويلاً على تمجيد فرنسا. ومع ذلك فغن بعضنا لا يزال يهتف لهم، وبعدهم رواداً للفكر في الشرق!

ص: 2

إنني أفهم أن تهتف لهم فرنسا، أو أن تهتف لهم إنجلترا، أو أن تهتف لهم أمريكا. . أما أن نهتف لهم نحن العرب فهذا هو الهوان البشع، الذي لا يقدم عليه فرد وله كرامة!

إن مكان هؤلاء اليوم كان ينبغي أن يكون مكان الجواسيس والخونة والطابور الخامس، لا مكان التمجيد والتقدير والاحترام.

كل رجل غمس قلمه ليمجد فرنسا أو يمجد إنجلترا أو يمجد أمريكا. . هو رجل منخوب الروح، مستعمر القلب، لا يؤتمن على النهضة القومية، ولا يجوز أن يكون له مكان في حياة هذه البلاد بعد نهضتها.

إنني لا أكاد أتصور أن هناك إنسانا له مشاعر الإنسان يرى (الرجل الأبيض) يدوس بأقدامه على أعناقنا في كل مكان ثم يجد نفسه قادراً على تمجيد هذا الرجل، أو حتى مصادقته إنني أشك في آدمية هؤلاء الكتاب، وهؤلاء الوزراء، وهؤلاء الأساتذة. نعم أشك في آدميتهم لأن أول مميزات الإنسان أن يحس بكرامة الإنسان.

أفهم أن تكون هناك ظروف اضطرارية تلجئنا إلى تبادل التمثيل السياسي والقنصلي، وإلى المبادلات التجارية والصلات الاقتصادية مع هؤلاء المستعمرين القذرين. . أما أن يتبادل العواطف والمشاعر، وأما ن نتحدث عن المآثر والمفاخر وأما أن نفتح قلوبنا وصدورنا. . فدون هذا ويعجز خيالي عن تصور المهانة، وتصور المذلة، وتصور المسخ الشعوري الذي يصيب الفطرة البشرية، فيهوي بها إلى ذلك الدرك السحيق من الهوان.

من الذي يسمع عن وحشية الفرنسيين في الشمال الأفريقي ثم لا يمزق كل ما هو فرنسي، إن لم يكن بيديه وقدميه، فعلى الأقل بمشاعره وقلمه ولسانه؟

من الذي لا يحتقر أمريكا ويحقر معها آدمية الأمريكان وهو يجد المعدات الأمريكية والدولارات الأمريكية تشد أزر الاستعمار الأوربي في كل مكان. . لقاء مساومات اقتصادية أو استراتيجية أو عسكرية؟

من الذي يملك أن يقف على الحياد في معركة الحرية بين الاستعمار الغربي وبين البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها ثم لا يكتفي بموقف الحياد بل يمد يده بالمصافحة والمحالفة لهذا الاستعمار القذر، الذي تلعنه الأرض والسماء؟

إن الاستعمار لا يغلبنا اليوم بالحديد والنار. ولكنه يغلبنا قبل كل شيء بالرجال الذين

ص: 3

استعمرت أرواحهم وأفكارهم، يغلبنا بهذا السوس الذي تركه الاستعمار في وزارة المعارف، وفي الصحف، والكتب؛ يغلبنا بهذه الأقلام التي تغمس في مداد الذل والهوان الروحي لتكتب عن أمجاد فرنسا، وأمجاد بريطانيا، وأمجاد أمريكا.

ولن نستطيع التغلب على هذا الاستعمار، إلا إذا حطمناه في مشاعرنا، وحطمنا معه لأجهزة التي تستحق إيماننا بأنفسنا. هذه الأجهزة الممثلة في وزارة المعارف ومعاهد التربية، والأفلام الخائنة الممسوخة التي سبحت يوما وما تزال تسبح بحمد فرنسا أو إنجلترا أو أمريكا.

وأنا لا أطمع في الجيل الذي شاخ أن يصنع شيئاً. هذا الجيل قد انتهى. جيل منخوب مهماً بدا كالطود الشامخ. جيل مزيف لأنه لا يؤمن بنفسه، ولا يأنف من تقبيل الأرجل التي تركل قومه ووطنه وإنسانيته أيضا. جيل لا بأس أن تكرمه فرنسا، وأن تكرمه إنجلترا، وأن تكرمه أمريكا؛ لأنه يعمل لحسابها ويؤدي لها خدمات، لا يؤديها جيش مسلح كامل.

كلا! لست أطمع في هذا الجيل الذي شاخ. إنما أنا أطمح في جيل الشباب المتحرر. الذي يحترم رجولته، ويحترم قوميته، ويحترم إنسانيته. .

أطمع في جيل الشباب أن يخرس كل صوت يرتفع في مدرسة أو معهد أو كلية بتمجيد الرجل الأبيض، الذي خان أمانة الإنسانية.

أطمع في جيل الشباب أن يحطم كل قلم ينغمس في مداد الذل والعار، ليمجدوا الرجل الأبيض الذي يدوس أعناقنا بحذائه

أطمع في جيل الشباب أن يحتقر كل رجل يصادق الرجل الأبيض، طائعا مختارا، بدون ضرورة ملجئة تحتمها الأوضاع الدبلوماسية!

ويوم ننقض الاستعمار على هذا النحو من أرواحنا وعقولنا. .

يوم تغلي دماؤنا بالحقد المقدس على كل ما هو أوربي أو أمريكي. .

يوم نسحق تحت أقدامنا كل من يربطنا بعجلة الاستعمار. .

عندئذ فقط سننال استقلالنا كاملا؛ لأننا نلنا الاستقلال من داخلنا: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا). .

سيد قطب

ص: 4

‌1 - على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط

للدكتور عمر حليق

يخيل إلى أن أكثرنا يميل إلى بحث المسائل الدولية بعقلية قانونية. وأصالة الرأي في معالجة السياسة الدولية تقتضي عدم التقيد بالنظرة القانونية في تحليل حاضر أو مستقبل مشكلة من المشاكل الدولية. فالقانون الدولي نظام فكري مرن مطاط يتحمل ألف تفسير وتفسير وألف مخرج ومخرج. والقانون الدولي فلسفة سياسية جوهرها الغموض وعمادها الدبلوماسية المرنة، وأبرز دعائمها اجتهاد لبق ذخيرته عناصر متشبعة من التحليل الدقيق للعوامل السياسية والاقتصادية والفكرية الطارئة، والتيارات الهادئة أو العاصفة التي تعتري حاضر قضية من قضايا الساعة، والأهواء والنزعات وخفايا الأمور التي تكتنف هذه التيارات وتوجهها إلى هدف معين. وكل هذه الحقائق على قسط كبير من التعقيد والتشابك يقصر جوهر القانون الدولي ودساتيره المدونة عن تنفيذه وشرحه وتطبيق حرفية ذلك القانون عليه.

ولذلك فإن من غير الصواب أن نعالج المسائل الدولية على ضوء القانون الدولي وحده، بل علينا أن نذهب أبعد من ذلك ونؤكد مع كثير من المراقبين للسياسة الدولية بأن الحصافة تقتضي أن وضع القانون في زاوية بعيدة من مائدة البحث، حتى إذا انتهينا من تحليل مسألة من المسائل الدولية على ضوء السياسة العملية والتيارات المعقدة المتشابكة (الاقتصادية والعسكرية والعاطفية والتاريخية) التي يكتنفها، جلبنا القانون الدولي (أو بالأحرى هذا التراث من النماذج والسوابق والشروع والتعليقات التي تؤلف ما يسمى القانون الدولي) وطلينا الصيغة النهائية لاجتهادنا في السياسة العملية بطلاء قانوني قشرته حساسة مطاطة تفسح المجال للكر والفكر وللتعديل والتنقيح.

ومثل هذه الحصافة توفر لصناع السياسة والمعقبين على السلوك السياسي مرونة يستطيعون معها أن يقبلوا على معالجة حدث من أحداث الساعة في عقل حذر واجتهاد فطن لا يضرم أن يرفض أو أن يساوم على منفعة عاجلة في سبيل نصر مرتقب، أو أن يقبل ما يبدو أنه قبول نهائي، بينما هو يضمر هدفا همه المصلحة الجوهرية الآجلة للمسؤولية التي يتولاها صناع السياسة بالنيابة عن الأمة التي انتدبوا لتسيير شؤونها وخدمة مصالحها

ص: 6

العامة.

وقد يقرأ بعضنا في ثنايا هذه السطور دعوة إلى الخداع وضرب من الغش ولكن الخديعة والغش أن تكتم عن الناس الحقائق. والحقائق في السلوك السياسي تؤكد أن جوهر هذا السلوك صراع حاد قد يكون طابعه الصدق مرة والمراوغة مرة أخرى، واللباقة آناً والتهديد آونة أخرى، ومثل هذا الصراع يفترض الخديعة والغش فإذا اعتصم فريق بالصدق وحسن النية والمثالية المجردة وهو عالم بان الفريق الآخر يتسلح بغير الصدق والمثالية والنية الصادقة فالفريق الأول يخدع نفسه ويضر بالأمانة القومية التي وكلته الأمة بالدفاع عنها وبصيانتها عن عبث العابثين.

والدبلوماسية (وهي تعريف لهذا الاجتهاد الذي يحاول به صناع السياسة أن يصونوا الأمانة القومية التي وكلهم الشعب بها) جزء لا يتجزأ من سياسة السلم والحرب. والحد بين السلم والحرب خطر نظري لا وجود له إلا في مخيلة الناس. وقد قال حكماء العرب الأقدمون (الحرب خدعة) فإذا فسرنا هذه الحكمة تفسيرا صحيحا فإن لنا أن نعتبر أن (السياسة خدعة) كذلك، والعبرة في الحكم والأمثال أن تتجاوز المتعة العقلية وأن تطبق على جوهر السلوك الإنساني.

وبعد فإن موضوع البحث هو مسالة (الدفاع عن الشرق الأوسط) وهي مسالة لها وضعية فريدة فوق إنها قضية خطيرة - فريدة لأنها تمس صميم الأمانة القومية التي يهتم بها كل مواطن عربي ويحمل لواء الدفاع عنها قادة الرأي وأولو الأمر من صناع السياسة في بلدان العرب. وعلى ذلك فإن الحديث عن مسالة الدفاع عن الشرق الأوسط هو الحديث أبرز ما يعترض حاضر السياسة العربية من أحداث لا تقتصر على الأوضاع الداخلية للدول العربية فحسب، بل تتصل اتصالا مباشراً بمستقبل الكيان العربي بأسره كمجموعة إقليمية وكدول منفردة، كما تمس مستقبل هذا الثعلب اليهودي الذي يكمن في عقر دارنا ومستقبل العلاقات التي تربط دول الجامعة العربية بالعالم الخارجي - في الشرق والغرب.

والحديث عن الدفاع عن الشرق الأوسط يختلف باختلاف الجهة التي يصدر عنها الحديث، فالعرب تنظر إليه نظرة خاصة، وتركيا تنظر إليه نظرة أخرى، وللبرطانين فيه اجتهاد منفرد، وللأمريكان رأي خاص، وللفرنسيين كذلك تفسير معين، وموقف إسرائيل منه

ص: 7

يختلف عن هؤلاء جميعاً.

ولكن المحافل العامة إجمالاً حين تتناول مسألة الدفاع عن الشرق الأوسط تفكر في أمور معينة تشترك فيها الأوساط المعنية بالأمر.

هذه الأمور هي: -

(1)

- المركز الاستراتيجي للشرق العربي في خطط الدفاع عن الميدان الأوربي - كلا المعسكرين الروسي والغربي، وهذه الاستراتيجية تشمل قناة السويس والمطارات الجوية الصالحة لخطط حلفاء الغرب وما قد يفكر فيه الروس من خطط عسكرية مماثلة.

(2)

- الثروة البترولية في هذا الشرق وأهميتها لعصب الجهاز الحربي لأي من المعسكرين المتطاحنين.

(3)

- كون الشرق العربي نقطة القفز إلى القارة الإفريقية التي لها في مستقبل الاقتصاد الأوربي والأمريكي مكانة بارزة.

(4)

- أهمية الشواطئ الشرقية للجزيرة العربية وخليج العجم في الخطط البحرية لأساطيل الحلفاء في المحيط الهندي وفي الرغبة القديمة الكامنة في روسيا للوصول إلى منافذ مائية إلى هذه البحار الآسيوية وإلى البحر الأبيض المتوسط.

وقد كثر الحديث عن هذه الأمور - أو عن بعضها - لدرجة أصبحت معالجتها من قبيل الكلام المعاد، وأصبح تحليل أوضاعها من قبيل الابتذال في الاجتهاد الفكري.

ولكن الواقع أن معالجة الناس لهذه الأمور - وفي الشرق العربي خاصة - كانت ولا تزال مشوبة بطابع السطحية والنظرة الركنية التي لا ترى الحقائق إلا من جانب واحد، وهذا شيء طبيعي مبعثه العوامل القومية العنيفة التي تتفاعل في تفكير العرب هذه الأيام؛ وقصور الصحافة العربية وألسنة الرأي العام عن الأسباب في معالجة الشؤون الدولية عامة والناحية العربية في الشؤون الدولية على وجه الخصوص - معالجة دقيقة مسهبة.

وكل ما يطمع كاتب هذه السطور لتسجيله هنا هو جمع أكبر قسط مستطاع من الآراء والتعليقات والتصريحات وما تنطوي عليه سياسة بعض الدول (المعنية بشؤون الشرق الأوسط) من مادة فكرية خاصة بموضوع الدفاع عن الشرق الأوسط، وتنسيق هذه المادة بحيث تعين الباحث في هذا الموضوع على تكوين فكرة شاملة عنه تكون ذخيرة نافعة للذين

ص: 8

يهمهم التدقيق في مسألة الدفاع عن الشرق الأوسط على ضوء المصلحة الجوهرية للحكومات والشعوب العربية؛ وعلى ضوء البرامج التي وضعها كلا المعسكرين المتخاصمين - السوفيتي والغربي - لاكتساب الشرق الأوسط إلى الحظيرة.

وإن من الطبيعي أن يتسرب إلى معالجة هذا الموضوع الآراء الشخصية التي يحملها كاتب هذه السطور، فمهما تعمد الكاتب التجرد في تحليله لمسألة من المسائل فلا مفر له من أن يبث في ثنايا السطور أطرافا من تفكيره الخاص.

والعذر الصحيح الذي يبرر لكاتب هذه السطور إقدامه على دراسة مسالة الدفاع عن الشرق الأوسط كونه قد شغل بهذا الموضوع وتتبعه بدقة في مراحله العديدة، وحاول أن يلم بخفاياه وظواهره، وأن يجمع أكبر عدد ممكن من الوثائق، وأن يزن مسألة الدفاع عن الشرق الأوسط بميزان التحليل المقارن لمسائل الدفاع عن مناطق جغرافية أخرى كالحلف الأطلنطي والجيش الأوربي وميثاق الدفاع عن الباسفسكي والتحالف الروسي - الصيني في الشرق الأقصى ومكانه الشرق الأوسط في كلا المعسكرين السوفيتي والغربي.

وعلى ضوء هذا التمهيد فاشرع في استعراض هذا الموضوع في شيء من الإطالة.

(للكلام صلة)

نيويورك

عمر حليق

ص: 9

‌1 - الميسر والأزلام

للأستاذ عبد السلام محمد هارون

هذه الحكومة الرشيدة التي جاد بها الدهر وهو الضنين بأمثالها، هذه الحكومة التي ثارت ونهضت لتصرع البغي وتقضي على الفساد، وخطت في ذلك الخطوات الواسعة السريعة، جدير بها أن تسرع الخطى إلى مفسدتين استشرى داؤهما وكاد يقضي على البقية من الخلق والدين، هاتان المفسدتان هما: الخمر والميسر.

(ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس)(البقرة 219).

(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)(المائدة 90).

(إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر)(المائدة91).

فهذه الآيات القرآنية التي تقرن الخمر بالميسر، وتجمع بينهما في شرورهما وآثامهما، وخضوعهما للشيطان وقى الإفساد، هذه الآيات لا ريب أنها ستجد من أولي الأمر فينا آذانا صاغية، وإصغاء واعيا لأمر الله وأحكام دينه.

وقد بادرت حكومتنا فاتجهت في سبيل سن العقوبات الرادعة لمدخني (الحشيشة) والاتجار بها، وليست الخمر والميسر بأقل في أضرارهما المادية والخلقية والصحية والاجتماعية والسياسية من (الحشيشة). فعلى موائد الشراب والقمار تضيع الأموال، وتفسد الأخلاق، وتعتل الأبدان، وتنحل الروابط الاجتماعية، ويتسلل العدو إلينا فيما بين ذلك غانما رابحا. وقد قرأنا في أثناء ثورة الشعب الأخيرة أن الأموال تتدفق من المصريين إلى خزائن الدول الأجنبية ثمنا للخمور يزيد على خمسة ملايين من الجنيهات كل عام.

حقاً إن الدولة قد حظرت لعب الميسر على موظفيها، ولكن موظفيها ليسوا كل شيء في الدولة، فإن الميسر يأخذ صوراً شتى صغيرة في مقاهي القرية والمدينة، ويبتز أموال الفقراء الكادحين، ويوقع العداوة والبغضاء إيقاعاً يترجم فيما بعد بالقتل وسفك الدماء وارتكاب كثير من جرائم السرقة والسطو والاغتصاب، فأولى بالحكومة أن تعمم تحرمه فتقطع بذلك دابر أجناس شتى من جرائم الأخلاق وجرائم النفوس.

هذه الرغبة الاجتماعية لدعاة الإصلاح في هذا البلد هي التي أوحت إلى أن أكتب هذا البحث الديني التاريخي، الأدبي اللغوي، الذي رأيت حوله ظلاماً أردت تبديده، ورأيت أن

ص: 10

لدى الكثير من الأدباء رغبة في تجليته وإظهار أسراره، فإن قليلاً من الباحثين هم الذين تعرضوا للكلام على الميسر، ومن هؤلاء القلة:

1 -

برهان الدين البقاعي، المتوفى سنة 885 كتب في تفسيره المسمى (نظم الدرر، في تناسب الآي والسور) فصلا كبيرا ممتعا، وقد أفرد المستشرق السويدي (لندبرج): ، ، يسمي نفسه (عمر السويدي) وطبعه في مجموعة (طرف عربية) في ليدن 1303 وسماه (لعب العرب بالميسر في الجاهلية الأولى) وتشتمل الطرفة الأولى على أربعة مؤلفات عدد صفحاتها 191 وفيها هذه الرسالة، ورسالة أخرى هي (رسالة التنبيه، على غلط الجاهل والنبيه) لابن كمال باشا. والثالثة (نشوة الارتياح) للسيد مرتضى الزبيدي. والرابعة (ديوان أبي محجن الثقفي) رواية أبي هلال العسكري.

2 -

السيد مرتضى الزبيدي، شارح القاموس، المتوفى سنة 1205، ألف في ذلك رسالة سماها (نشوة الارتياح، في بيان حقيقة الميسر والقداح) ضمنها شرح عبارات البقاعي، مع إيضاح ما أغفله.

3 -

العلامة السيد محمود شكري الآلوسي، كتب فصلاً مسهباً في الجزء الثالث من كتابه (بلوغ الأرب). وقد صنف في ذلك أيضا كتابا سماه (المسفر، عن الميسر) وهو مخطوط لم يتسن لي أن أطلع عليه.

4 -

ابن سيده الأندلسي المتوفى سنة 458 كتب فصولا لغوية في الميسر والأزلام، في المخصص (13: 20 - 23).

5 -

وهو أهم أثر تاريخي يعتمد عليه، لقدم عهده وجلال مؤلفه، وهو كتاب (الميسر والقداح) لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213 - 276) الذي نشره الأستاذ المحقق السيد محب الدين الخطيب، الذي أدين له بفضل اتجاهي إلى جهاد النشر العلمي، حفظه الله وأبقاه.

وترجع أهمية هذا الأمر التاريخي إلى الطريقة العلمية التي نهجها ابن قتيبة، وهو استقراء الآثار العربية الأدبية، لاستخلاص هذا البحث النادر، على قلة ما وصل إلينا من تلك الآثار التي يذكر فيها الميسر، وفي ذلك يقول ابن قتيبة مخاطبا من كلفة تأليف الكتاب:

(قد كلفت رحمك الله شططاً، وحاولت عسيراً، لان الميسر أمر من أمور الجاهلية قطعه الله

ص: 11

بالسلام، فلم يبق عند الأعراب إلا النبذ منه اليسير، وعند علمائنا إلا ما أدى إليه الشعر القديم، من غير أن يجدوا فيه أخباراً تؤثر، أو روايات تحفظ، والشعر يضيق بالأوزان والقوافي عما يتسع له الكلام المنثور. على أني لم أجد في أشعارهم شيئا في جلالته عندهم وعظيم نفعه، هو أقل منه، إنما يعرض في شعر المكثرين من ذكره البيتان والثلاثة، وأكثرهم يضرب عنه صفحا. وليس ذلك مذهبهم في وصف الإبل والخيل والحمير، والنعام والظباء والقطا، والفلوات والحشرات. ولم أجد فيهم أحداً ألهج بذكر القداح من ابن مقبل، ثم الطرماح بعده. ولو جمعت ما في شعر أحدهما من ذكره لم تجد ما فيه من وصف حمار أو بعير).

فمن هذا يتضح مقدار الجهد الذي بذله ابن قتيبة، وكشف به الدستور الذي كان يتبعه العرب في الجاهلية في لعب الميسر

على أن ابن قتيبة كتب هذا البحث بلغة معاصريه، وقارب منهجهم الذي لا يسوده النظام الكامل، ويشيع فيه الاستطراد والحشو.

وني لمحاول هنا أن أبسط البيان في هذا بلغة معاصرة، وبأسلوب أحسبه منظماً، راجعاً في ذلك إلى شتى المصادر التي تعين في هذا البحث الشاق الوعر، وبالله التوفيق.

لفظ الميسر ومدلوله

لا ريب أن عرب الجاهلية كانوا يطلقون لفظة الميسر غالباً على المقامرة بالأقداح لاقتسام الجزور بطريقة خاصة نذكرها فيما بعد، وهو ما يعبر عنه أبو حيان في تفسيره بأنه (قمار أهل الجاهلية).

فالميسر على هذا مصدر ميمي، كالمرجع من رجع، والموعد من وعد.

ويطلقون الميسر أيضا على الجزور نفسه، فهو اسم موضع من اليسر، بفتح الياء، واليسر: التجزئة، ولذلك سموا الجازر ياسرا لأنه ييسر اللحم ويجزئه.

قال غبن قتيبة: (هذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح المتقامرين على الجزور: ياسرون، لأنهم أيضاً جازرون، إذ كانوا سببا لذلك، وكان الجزور إنما يقع بضربهم، والجازر يفصل اللحم لهم بأمرهم. وكل من يأمر بشيء ففعل فهو الفاعل له وإن لم يتوله بيده). فالإطلاق الأول إطلاق مجازي، والإطلاق الثاني هو الإطلاق الحقيقي.

ص: 12

وقد ذهب مقاتل إلى أن اشتقاق (الميسر) من اليسر، لأنه أخذ لمال الرجل بيسر وسهولة، من غير كد ولا تعب.

وقال الواحدي: إنه من قولهم يسر لي هذا الشيء ييسر يسراً وميسراً، إذا وجب.

وقال أبو حيان في تفسيره: إن السهام التي يقتسم بها يقال لها أيضا (ميسر) وذلك للمجاورة. والوجه فيما ذكره أبو حيان أن يقال إن مجازها من أنها آلة الميسر.

على الإسلام فيما بعد أطلق (الميسر) على جميع ضروب القمار.

1 -

روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم). فقد جعل رسوله الله صلى الله عليه وسلم لعب (النرد) ضربا شبيها بميسر العرب في اقتسام الجزور. والكعبة في هذا الحديث هي الفص من فصوص النرد، يقال له (كعب) و (كعبة) أيضاً.

2 -

وفي الحديث أيضاً أنه (كان يكره الضرب بالكعاب).

3 -

وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء: (كل شيء فيه خطر - وهو ما يأخذ الغالب في النضال والرهان ونحوهما - فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز).

ولا يزال اللعب بالجوز ونحوه من البندق والفول السوداني وقصب السكر متعارفا بين صبياننا إلى هذا العهد، يزاولون لك بطرق مختلفة.

فالتابعون والفقهاء قد ألحقوا بميسر الجاهلية كل ما يمت إليه بسبب من مختلف ضروب القمار، قاسوا هذا بذاك، ولم يستثنوا من ذلك شيئاً إلا السبق في الخف والحافر. قال الفخر الرازي:(أما السبق فبالاتفاق ليس من الميسر، وشرحه مذكور في كتاب السبق والرمي من كتب الفقه).

وأما الشطرنج والنرد ونحوهما فكراهتهما لما فيهما من شبهة القمار. قال الفخر: (قال الشافعي: إذا خلا الشطرنج عن الرهان، واللسان عن الطغيان، والصلاة عن النسيان، لم يكن حراماً). قال: (وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال أو أخذ مال، وهذا ليس كذلك فلا يكون قماراً ولا ميسراً).

وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، فمنه النرد والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار وهو ما يتخاطر الناس عليه.

ص: 13

وقال ابن قتيبة بعد أن ذكر الميسر الذي حرمه الله في الكتاب، وهو ضرب القداح على أجزاء الجزور قماراً:(ثم يقال للنرد ميسر على التشبيه، لأنه يضرب عليها بفصين كما يضرب على الجذور بالقداح، ولأنهما قمار كما إن الميسر قمار، ولا يقال للشطرنج ميسر ولا من الميسر، لأنها فارقت تلك الصفة وتلك الهيئة إنما هي رفق واحتيال).

ويفهم من هذا النص إما أن لعبة الشطرنج في عصر ابن قتيبة لم تكن مجالا للمقامرة، أو خفي على علمه أن لاعبيها كانوا يقامرون عليها، ولكن معرفته بأن النرد كان مجالا للمقامرة يرجح أن الشطرنج لم تتخذ في عصره موضعا للمقامرة.

وكان القوم ينفرون من الشطرنج ولاعبيها نفوراً شديداً. روى الراغب الأصفهاني أن أهل المدينة كانوا ينظرون إليه من نقص دينه، ولأنهم كانوا يزعمون أن الشطرنج (إحدى الضرتين)، وذلك لما يشغل صاحبه شغلا عن أهله وبنيه.

لفظ القمار ومعناه

والقمار لفظ أعم من الميسر، إذ يطلق على جميع أنواع المراهنة. يقال: قامره مقامرة وقماراً، إذا راهنه؛ وقمره قمراً، إذا غلبه في ذلك. وفي حديث أبي هريرة:(من قال تعال أقامرك فليتصدق بقدر ما أراد أن يجعله خطراً في القمار). ويقال تقمر الصياد الظباء والطير بالليل، إذا صادها في ضوء القمر فتقمر أبصارها في ضوئه، أي تعشى وتتحير فتصاد. والتقمر: الاختداع. فمرجع القمار إنما هو الخداع. وكذلك يفعل لاعب القمار، فإنه يحاول إختداع صاحبه لتكون له الغلبة عليه.

لفظ الأزلام ومعناه

والأزلام جمع زلم بالتحريك وبضم ففتح. والزلم، والسهم، والقدح بالكسر مترادفة المعاني، تدل كلها على قطعة من غصن مسواة مشذبة.

وأكثر ما يستعملون (الزلم) في (الاستقسام)، وهو ما سنفرد له قولا خاصاً. وأكثر ما يستعملون (السهم) في سهم القوس الذي يرمى به، وأكثر ما يستعمل القدح في قداح الميسر التي تجال لقسمة الجزور، وكل من هذه الألفاظ الثلاثة ينوب عن الآخر في الاستعمال.

زمان الميسر

ص: 14

لم يكن الميسر عند العرب لهوا يلهون به، ولعبة يلعبونها، إنما كان نظاماً اجتماعياً دعتهم إليه ظروفهم الاجتماعية، وساقتهم إليه طباعهم البدوية، فالباعث الحقيقي عليه كان (الكرم) وكان التباهي بالكرم، وهذا الأخير هو الذي أظهر الدين كراهته فيما بعد، كرهه الدين وكره معه أيضاً ما كان يصحب هذا الصنيع من نزاع وجدال وخصومة في سبيل الظفر بأوفى نصيب، هذا إلى ما يقارنه من المخاطر بالمال والتعرض للفقر.

ومن بواعثه أيضاً إعانة الفقراء فيما بينهم، إذ كان الفائز منهم بنصيب لا يتناول منه شيئاً، بل يلقيه إلى المحتاجين والمعوزين من ذويه، ليسد رمقهم.

قال أبو حيان: (وأيهم خرج له نصيب واسى به الفقراء، ولا يأكل منه شيئاً، ويفتخرون بذلك). ثم قال: (وربما قامروا لأنفسهم) أي أن ذلك أمر نادر.

والحاجة والعوز - وهما المتطلبان للكرم والجود - إنما يشتدان في وقت الشتاء عند العرب، وذلك عندما جدب البلاد وتقشعر الأرض، ويتعذر القوت على طالبه، وحينما يكلب الومان وتضن البلاد بخيراتها، والنوق بألبانها.

وليس في طوقك أن تتصور حال البؤس وشظف العيش الذي يتعرض له الأعراب في باديتهم ي ذلك الزمان، ومقدار الحاجة الملحة التي كانت تنزل على الأرامل والأيتام في تلك المجدبة والمسغبة.

فالوقت الطبيعي للميسر عند العرب هو فصل الشتاء، وهم يختارون الليل في ذلك الفصل، لأن الليل وقت طروق الضيف، وحين اشتداد البرد، فيقودون النار ليهتدي بها الضيف، وليستطيعوا أن يزاولوا هذا العمل في يسر.

وكان الرجل من العرب يخشى الصيف، أن يحضر الصيف ولم يكن قد صنع له في شتائه مفخرة تذكر له حين تذكر المفاخر، فهو يخشى أن يعير في الصيف بنكوصه عن المشاركة في هذا لجهد الاجتماعي، وإمساك يده عن مساعدة القبيلة

إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم

فواحش ينعى ذكرها بالمصايف

وذلك أنهم يخصبون في الصيف فيتذاكرون ما كان من الناس في الشتاء، فيعير كل امرئ بسوء فعله.

وقد سجل الشعر العربي أن الميسر يكون في الشتاء، فقال الأعشى:

ص: 15

المطعمو الضيف إذا ما شتوا

والجاعلو القوت على الياسر

وقال متمم بن نويرة:

ولا برما تهدي النساء لعرسه

إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا

البرم: الذي لا يدخل معهم في القداح، ويسمونه أيضاً (المغزال). وإذا كان الرجل كذلك لم يدخل اللحم بيته إلا بأن يهديه نساء الحي إلى امرأته.

وقال طرفه:

وهم أيشار لقمان إذا

أغلت الشتوة أبداء الجزر

. . الأبداء: جمع بدء، وهو النصيب من الجزور

وقال عنترة:

ربذ يداه بالقداح إذا شتا

هتاك غايات التجار ملوم

وقال لبيد:

وبيض على النيران في كل شتوة

سراة العشاء يزجرون المسابلا

قال ابن قتيبة: يريد أنهم يضربون بالقداح فيصيحون بها ويزجرونها إذا ضربوا، كما يفعل المقامرون بالنرد.

(للبحث بقية)

عبد السلام محمد هارون

ص: 16

‌في توديع الرئيس ترومان

تمثال البيت الأبيض

الدكتور علي شرف الدين

في البيت الأبيض - حيث يقيم الرئيس ترومان - أبدع ما أخرج الفن الحديث من معجزاته الروائع، فيما يرى الناظر من التماثيل القائمة في مداخل القصر وحدائقه، وفي أبهائه وتحت شرفاته. طراز جديد من فن المثالة الحديثة، يكاد يسبق هذا الآيات الخالدة التي حفظها لنا التاريخ عن أيدي الإغريق. وإذا كانوا يقولون أن الفن الإغريقي قد سبق الطبيعة، وكأنه في سبقه لها، وتجاوزه لصورها، يقيم لها مثالا يتحدث إليها في صمت: بأنه كان يجب أن تكون على غراره - فإن تماثيل البيت الأبيض لا توحي بهذا إلى النفس فقط، ولكن كل واحد منها ينطق مفصحاً عما يريد، حتى ليرن صدى صوته في الأذن، وحتى لتكاد أسارير وجهه تأخذ بين الفينة والأخرى مسحة جديدة تعبر عن عواطفه، وحتى ليكاد الرائي يسمع خفقات قلبه بين ضلوعه الصخرية الجامدة.

وهم يقولون أن الرئيس ترومان كثير النظر إلى هذه التماثيل طويل الوقوف إلى جانبها، وإنه - على أن السياسة تأخذ حياته من أقطارها - له لحظات يخلو فيها إلى الفن، حيث تسبح نفسه إلى عالم الخيال ساعة من نهار، وإن انغمست بقية يومها في متاعب الدولار.

ولعل أبلغ هذه التماثيل أثراً في نفس الرئيس ترومان، هو تمثال الوطن، وهو يتألف من صخرة طبيعية قد اتخذ المثال من جانبها الممتدين في أنحاء درجاً يصعد يمنة ويسرة، حيث يلتقيان عند سطح مستو ينهض فيه تمثال أم حنون، تستقبل أطفالها عند الغروب، وهم يصعدون إليها في جانبي الدرج متدافعين متعثرين، ولكن جباههم على تعثرهم تتجه نحو الأم دائما، بينما تمد الأم يديها نحو الجانبين جميعا، لا يليها أحد عن الآخر، في إقبال كله العطف والرحمة والوفاء.

قالوا أن الرئيس ترومان قد ألف الوقوف إلى جانب تمثال الوطن، وإن جواره للتمثال أمر لا مفر منه في حياته اليومية لأنه تمثال الوطن - مع أنه يقع خلف البيت الأبيض وفي جانبه لذي تكاد أبوابه تغلق طوال العام - هو طريق وحيد يدلف منه المار إلى ربوة صناعية تحتشد فيها مواكب من الزهر النادر؛ تآزر فيها جمال الطبيعة مه ألوان التطعيم

ص: 17

الصناعي، يختلف إليها الرئيس من حين لآخر، ينشد عندها نشاط نفسه وإشراقها، كلما أرهقتها مظالم الحضارة.

ولكن المتصلين بالرئيس ترومان قد رأوا منه ما أثار الدهشة في نفوسهم. فقد أخذ وقوفه إلى جانب التمثال يقصر عن ذي قبل، ولم يعد سكونه إليه يحفه هذا الحلم الجميل يشيع في أقطار نفسه، ثم يستحيل في جبهته وعارضه ضياء مشرقاً. لم يعد سكون الأحلام والطيوف، ولكنه ذهول عميقتكتسي فيه صفحة وجهه فنوناً من الألوان تضطرب دائماً بين الشحوب والسواد. ولم يمض غير يسير من الزمن حتى هجر الرئيس تمثال الوطن، ولم يعد يختلف إلى هذه الربوة من النوار، يصطنع فيها ما يصطنعه الفنانون وأصحاب العاطفة، حين يقرءون كتاب الوجود في المروج والزهر. وللرئيس مع تمثال الوطن ما نسميه مجرى العادة المكبوتة - إذا صح التعبير - لا يكاد يتجه نحوه عن غير قصد، حتى يدور على عقبه في حركة عصبية لا تخلو من ألم، والتفاتة مفاجئة لا تخلو من حزن، وسرعان ما يجري في تضاعيف وجهه سحابة ليست هي الألم والحزن، ولكنها شيء أمر من النسيان تصرخ في جوانبها المغالطة، يضطرب فيها الرئيس أشد الاضطراب وأعنفه وقد خذله النسيان كلما مر بتمثال الوطن.

ويؤرخ المراقبون لحياة الرئيس اليومية هذه الحركة لا تخلو من حزن مرير يخالطه الألم والخوف واليأس جميعا بعام سنة 1948 بعيد خروج العرب من فلسطين عنوة، بأمر الرئيس ترومان وتدبيره، ويقولون أنه غالب شعوره في أول الأمر بفنون من رباطة الجأش المصنوعة، وضروب من الجمود لا تجديه فتيلاً، ومع أن الرئيس ترومان معروف بإصرار مرهق مبعثه الجمود، ومشهور بجمود طبيعي مبعثه الإصرار سواء في الحق أو الباطل. . . فإن جموده الطبيعي قد خانه في موقفه مع التمثال، فلا تكاد عينه تقع عليه حتى تمضي في أعصابه هزات عنيفة هي هذه الصواعق المهلكة من الحزن والألم والخوف جميعا، وحتى تمضي بنفسه خواطر صارخة قاتلة، تحمل في بروقها شريطاً متصل النكبات على نفسه الإنسانية، فيما يتمثل له في الجوع والعرى والبرد والفقر. . .

ولو أن ما تحمل الذكرى إلى نفس الرئيس ترومان كان مقصوراً على الفقر والعرى والجوع والبرد، لهان أمرها وغالب ضميره بشيء من الجمود هو فيه طبيعي، واستطاع أن

ص: 18

ينسى إنسانيته في ساعات الذكرى، لأن الفقر والعرى والجوع والبرد هي محن مادية مهما بلغ أثرها، تصيب الجسم فتسبغ عليه النعمة والرقة، أو تذيقه الشقاء والألم. مصابه ليس إذن ماديا، ولكنه مصاب روحي يتجاوز هذه الكلمات اليسيرة فيما نسميه الظلم والنعرة والطغيان. مصابه أنه أوضح للخليقة، وكتب بيده في سجل التاريخ، أنه رجل لا يدرك ما معنى الوطن، ولا يستطيع أن يحس هذه الروابط المقدسة الحبيبة بين الإنسان ووطنه، على سهولة إدراكها، ويسر الشعور بها - حتى عند الحيوان - لأنها من أوليات الشعور.

أما لك أيها الرئيس منزل بالريف، ورثته عن (أبوك) مثلاً، متواضع أشد التواضع، حتى ما تحب أن تستقبل فيه ضيفك، ولكنه على تواضعه، وعدم أهليته لاستقبال الضيف تحب أن تراه من آن لآخر؟ فتهجر البيت الأبيض، وما أقامت لك في فيه أمريكا من مجد مغصوب زائف، إلى حيث هذا المنزل المتواضع، حيث تحس في قربك منه برد الراحة، يرد إلى نفسك الشفاء والعافية، وقد أثقلتها مظالم الحضارة، وحيث تشعر بجمال الصدق والبقاء على الوفاء في موطن هجرته إلى خير منه، فما تغير عليك إذا فارقته، ولا تنكر إذا هجرته، ولكنه ظل صادقا في استقباله لك، وفياً مخلصاً يحمل إلى قلبك خير الذكريات حتى أصبح جزءاً من حياتك، أو هو الحياة نفسها في أسمى معانيها الروحية.

لقد سمعت أن الدكتور فاضل الجمالي معنى أشد العناية بعرب فلسطين الذين طردهم ترومان عنوة من ديارهم قبيل الانتخابات (النظيفة) التي أعطته مكانه في البيت الأبيض. لقد عرض عليهم ترحيب البلاد العربية بقدومهم، وأنهم منها ومن صدور أبنائها في المكان الرحب الكريم، فماذا كان جوابهم؟ لقد أجابوا: لا نريد بغير وطننا بديلاً. ليس هناك جواب اصدق وأروع من جوابهم: (لا نريد بغير وطننا بديلاً). وإني أؤكد - وهم العرب الخلص - لو كانوا قد نشأوا في سبيريا وفي أصقاع الشمال الباردة، ما ألهتهم عروبتهم الخالصة عن نسيان وطنهم في سيبريا ذات البرد القاتل، ولكان جوابهم: نحن عرب، ولكننا لا نريد بغير وطننا بديلاً.

إن الشعوبية أو العصبية الجنسية لها أواصرها القوية، وروابطها المقدسة، ولكن روابط الأوطان تظل أبدا أقوى وآكد، لأن روابط الشعوبية تقوم على الدم واللغة وطراز الحياة، وهي في جملتها روابط روحية بحتة في جملتها وتفصيلها، إنها الروابط الرفافة ذات

ص: 19

الإشراق بين الوطن وقلوب بنيه، تضيء وتضيء، وتلطف وتلطف، حتى تسبق في ضيائها ولطفها خواطر المتصوفة، وأروع ما فيها أنها قد تكون روابط ذكريات كلها دموع وشجن، ولكنها مع هذا حبيبة إلى النفس، وهي سلوتها في حياة تزدحم بالشرور واللام، ولكن من أين للرئيس ترومان أن يدرك هذه الروحيات؟

قل لي أيها الرئيس: ماذا يستطيع عرب فلسطين الذين أخرجتهم عنوة من وطنهم أن يصنعوا إذا أرادوا دعوة فيصل لزيارة وطنهم كما دعوته أنت لزيارة وطنك؟ ماذا يستطيعون أن يصنعوا وهم أحق منك بهذه الدعوة لأسباب كلها الصدق والوفاء: لأنه عربي مثلهم، ولأنه سيد شعب، وسليل بيت، وأثر نبوة. فهم حين يدعونه إنما يقيمون دعوتهم على دعائم كلها المودة والصدق الخالص الصريح. وأغلب الظن أنك ما دعوته إلا بعد أن أمسكت بقلم الحاسب الذي يعتمد على الأرقام والأعداد من يدري؟ لعلك قد خرجت من هذه (الحسبة) بنتيجة خاطئة، فتوهمت أنها قد تعطيك (جالونا) من بترول العراق!

من سوء حظ العرب أن يموت روزفلت، وقد نهضوا لاسترداد حقوقهم. لقد كان روزفلت رجلاً جهيد الجسم، ضخم الأعطاف، بعيد المناكب، ومثل هذا الجسم الكريم هو صورة لكوم النفس وسخائها وتأثرها، وهو إذا جاع أو برد كان إحساسه بالجوع والبرد أسرع وأبعد من غيره من الأجسام الضنينة، لأن الشعور بالحاجة في الجسم الكريم السخي أكثر منه في الجسم البخيل بأصله، الجائع بطبعه. والرئيس ترومان له جسم ككل الأجسام، ولكنه ضنين بخيل. وهو في بخله وضنه ليس على استعداد لان يحس الجوع والبرد - فضلاً عن أن يحس الحزن لفقد الوطن - لأنه جسم جائع من قبل أن يناله الجوع، بارد من قبل أن يصيبه البرد. ومهما بلغ الجوع والبرد من الشدة فلن يكون لهما أثر ملحوظ في جسم ينقصه الشبع، ونفس ما عرفت الوفاء، وماذا يصيب الفقر من الفقير؟

عقب تولي الرئيس ترومان سأله كثير من الصحفيين: (أما يفكر الرئيس في أن تقبل الولايات المتحدة استقبال بضعة آلاف من يهود أوربا؟ - وكان ذلك قبل أن ينفذ نيته التي بيتها للعرب - وكان جواب الرئيس: (نه لا يفكر الآن في تغيير قوانين البلاد. . .).

إنه لا يفكر في تغيير قوانين بلاده الموضوعة، فهو يحترمها ولا يأذن بالهجرة إليها على ثروتها واتساعها. ولكنه يفكر في إخراج الناس من أوطانهم لقاء أصوات الناخبين من

ص: 20

اليهود!

حين تولى الرئيس ترومان ذكرت بعض الصحف حديثاً لكاتب يصف فيه الرئيس الجديد بهدوء الأعصاب، ورباطة الجأش، وقد بالغ الكاتب في وصفه حتى قال: إنك لو ضربته بقبضة يدك على أرنبة نفه على حين غفلة منه ما تحرك هدب عينيه. .) وقد تكون قوة الأعصاب محمودة في الرجال عند الحوادث التي تصيبهم، أما الرباطة والهدوء في كوارث ينسجون لغيرهم حوادثها، ويعقدون فيها المؤامرات فليس ذلك مما قصد إليه الكاتب، لأن فرقاً واضحاً بين الرباطة والقسوة، وبين الهدوء والجمود، وبين قوة الأعصاب والبلادة، وإذا كانت السياسة تقوم على الخدعة والمناورة، فليست (الثعلبة) من معانيها في أي قاموس إنساني، يصطنعها الأقوياء للسرقة والسطو، فإن كانت السرقة عنوة وفي النهار الضاحي من معانيها، فهي ليست لسياسة إذن، ولكنها صناعة الوحل، وإن سماها الظالمون (حق المهنة).

قالوا أن جماعة من خلصاء ترومان سألوه وألحفوا في السؤال (ما بال الرئيس لم يقدم في الانتخاب الحاضر لرئاسة الجمهورية المتحدة؟) وظل الرئيس ساكتاً لا يجيب، مع إلحافهم وكثر سؤالهم، وظل الجواب مجهولاً، حتى عند الخاصة من خلصاء ترومان، حتى أبصره خدم البيت الأبيض في لحظات خاطفة يهرع إلى تمثال الوطن، يطيل النظر فيه، وتجري في لسانه مناجاة خافية مضطربة، يتهدج في خلالها صوت جريح مخنوق:(يسألونني: لماذا لم أتقدم في الانتخاب الحاضر لرئاسة الدول المتحدة؟ لأني لم أعد أحب أن أكون رئيساً في انتخاب ملوث أشتري فيه أصوات الناخبين بأوطان الناس).

(باريس)

علي شرف الدين

ص: 21

‌أدب التاريخ أو التاريخ الشعري

للأستاذ خليل رشيد

ليس الغرض من مقالنا بيان فضل التاريخ وما يحدثه من أثر طيب بتربية الذوق الأدبي. إنما غرضنا الحديث عن فن أدب التاريخ أو كما يسميه صديقنا المرحوم النقدي عضو مجلس التمييز الشرعي ببغداد، بضبط التاريخ بالأحرف.

وسأقدم لك لوحة فنية من مبدعات هذا لفن الخالد بخلود التاريخ، وقد أضفت إليها ريشة الفنان برد الفن ولبوسه، وأسبغ عليها قلم المؤرخ أبدع روائعه. وسأقدم لك جهبذا من جهابذة هذا الفن وغريدا تغنى على فن الشعر، وصدح في رياض الأدب منذ نصف قرن أو تزيد قليلا، هو الحاج مجيد المشهور بالعطار نور الله مرقده.

والحاج مجيد سريع النكتة، حاضر البديهة، شاعر بما يريد أن يقول، يغذي شعره عصارة فكره ودم قلبه. عميق الفكرة، متين القول، سلس الأسلوب، فإذا حلق في سماء الفكر خرت التواريخ أمامه صاغرة ليختار الجيد الجميل منها، ويرجع بغنيمة الظافر المنتصر، وقد ضمن التاريخ نكتة أدبية رائعة، تبهرك إعجاباً بعظمة الفكر وسرعة الخاطر. في شعره جزالة القديم ورقة الحديث، وفيه دقة المعنى وروعة التصوير. وليس هذا النوع من الأدب سهل المأخذ، بل هو صعب جموح، يخضع لقواعد ونظم قد لا يخضع لها غير أدب التاريخ من الفنون الأدبية الأخرى منها: ما يحسب من التاريخ على الطريقة المألوفة في علم الخط لا ما يكتبه المؤرخ حسب رأيه، فالمعتل بالياء سواء كان اسماً كموسى، أو فعلاً كرمى، أو حرفاً كإلى لا يحسب آخره في التاريخ ألفاً، وإنما يحسب ياء، فالأول كقول أحد الفضلاء في تاريخ وفاة أحد العلماء الأعلام:

مضى الحسين الذي بحسد من

نور علوم من عالم الذر

قدس مثوى منه حوى علماً

مقدس النفس طيب الذكر

أوصافه عطرت فأنشقتنا

منهن تاريخه شذى العطر

والثاني كقوال عبد الغفار الأخرس، يؤرخ وفاة السيد عبد الرحمن النقيب وفي الشاهد للثالث أيضاً:

يوم به قيل أرخ

مضى إلى ربه النقيب

ص: 22

سنة 1291هـ

وفي الثالث قول عبد الباقي العمري، يؤرخ تعيين المشير رشيد الحوزكلي لبغداد:

بشرى لبغداد فقد أرخوا

إلى رشيد أب قطر العراق

سنة 1269هـ

وقد أهمل المد في آب. . والصحيح عدم إهمالها.

ومنها: اختلافهم في بعض ما يكتب، كالتاء التي تكون في الوقف هاء، كفاطمة. والهمزة الواقعة في آخر الكلمة، كهمزة، جاء. وداء. ورجاء. وأمثالها. . والألف من لفظ الجلالة، والألف التي يوضع لها علامة المد.

أما التاء التي تكون في الوقف هاء فقد عدها جماعة من الأدباء هاء والصحيح أنها متى تحركت بانت تاء. وتعد بأربعمائة؛ وإذا وقف عليها كانت هاء وعدت بخمسة، وكذلك الهمزة من جاء وأمثالها، عددها واحد عند الحساب كأختها الألف كما قول عبد الباقي العمري يؤرخ دار العلامة الآلوسي صاحب تفسير روح المعاني.

بنورك يا شهاب الدين أرخ

أضاء مقامك المحمود حسنا

سنة 1252 هـ

أما الألف الساكنة مع واو الجماعة فإنها تحسب لأنها تكتب. . . وكذلك واو عمرو، وأما الألف التي على الهاء من هذا فإنها تحسب أيضاً لأنها تكتب منفصلة من الذال ومتصلة، والانفصال خط الأكثر، والاتصال خط المصحف، وكذلك الألف التي يبدأ بها لفظ الجلالة. . أما المد فقد استقر الرأي أنه مع احتياج الكلمة إليه، في الاستقلال يحسب، وإذا استقلت الكلمة بدونه وأمنت اللبس فلا يحسب، فالأول كالمد في آل. فإن الكلمة لا تستقل بدونه لأنها تلتبس بأل وأمثالها. . وأما المد في آب ومنه قول الشيرازي في وفاة الخليعي:

بشره بالخير واعذر من يؤرخه

فللخليعي لما آب أفنان

سنة 1127 هـ

والثاني كالمد في لفظ الجلالة، فإن الكلمة لا تلتبس بغيرها، لشهرتها واختصاصها. . وأما المد الواقع في آخر الكلمة الدال على معنى مقصود. كهاء وتاء وباء وأشباهها فهو يحسب عند الجميع.

ص: 23

ومنها: إفراز مادة التاريخ أرخ أو يؤرخ أو أرخت أو أرخوا ومثالها، أو ما يفيد معنى هذه لألفاظ. . ومثل ذلك كقول بعضهم في تذهيب قبة الإمام علي عليه السلام:

يا طالبا عام إبداء البناء لها

أرخ تجلى لكم نور على نور

سنة 1155 هـ

وقول الشيخ حسن الشامي في ولاية حسن باشا لمصر:

ولسان الحال يؤرخه

كملت مصر بجمال حسن

سنة 1014 هـ

وقول العمري عبد الباقي يؤرخ وفاة العلامة شهاب الدين الآلوسي صاحب روح المعاني:

حور الجنان به حفت مؤرخة

جنات روح المعاني قبر محمود

سنة 1820 هـ

وربما تزيد مادة التاريخ أو تنقص، فيجوز الإكمال أو التنقيص بنكتة أدبية. . فالأول كقول بعضهم في تعمير مسجد صاحب الجواهر:

تم بأقصى اليمن تاريخه

شيد على أسس التقى ركنه

سنة 1351 هـ

أشار بأقصى اليمين إلى إضافة خمسين، وفيه النكتة الأدبية. . والثني كقول بعضهم أيضا في تزيين قبة الإمام علي عليه السلام بأمر أحمد خان النواب:

فأنخ والق عصاك وادع مؤرخا=الخير وفق أحمد النواب

سنة 1198 هـ

إشارة إلى إلقاء واحد من المجموع وهي نكتة أدبية لطيفة.

وقد تفنن الأدباء في هذا الفن. فمنهم من نظم القصيدة وجعاً كل شطر من شطراتها تاريخاً كما فعل النحلاوي بمدح الشيخ عبد الغني النابلسي. . ونمهم من جعل معجم كل شطر منها تاريخاً كما فعل عبد الباقي العمري في مولد حفيده وسماها الجوهرة. . ومنهم من جعل من معجم كل بيت ومهمله تاريخاً كما فعل الشيخ ناصيف اليازجي. . كما عرفنا عليه أستاذنا الجليل أحمد حسن الزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي ص 458 فقال (وشعره على طول معالجته له، وقوة طبعه فيه، أسبه بشعر الحريري وأضرابه، وبخاصة تلك القصائد

ص: 24

التي تكلف فيها لتاريخ الشعري، فقد غالى في ذلك وأسرف، حتى كان يضمن البيتين ثمانية وعشرين تاريخا، أو ينظم القصيدة، فيلزم كل شطر من شطراتها تاريخا، كقصيدته في تهنئة إبراهيم باشا في فتح مكة.

تعجبني لباقة الأستاذ الزيات ولفتته الأدبية في تعريف الأدباء وتحليل نتاجهم الأدبي. هو كصيدلي بارع، يزن الدواء بمقدار. .

لنعد لمجرى الحديث عن أديبنا الحاج مجيد، فهو أديب عرفته الأوساط الأدبية في القرن التاسع عشر بالعبقرية والنبوغ وسعة الفكر والخيال والدين، ويكاد رحمه الله يختص بأدب التاريخ، وهذه الملكة الفنية عنده من السهولة بمكان. وقد حدثني عنه صديقي الأستاذ اليعقوبي، عميد جمعية الرابطة الأدبية في النجف، أحاديث من الغرابة بمكان، بحيث يؤرخ في بيت واحد من الشعر تواريخ عدة، لا يستطيعها غيره من الأدباء، وغير من أرشدنا إليه الأستاذ الزيات:

عاش شاعرنا وقضى باكورة شبابه والشيء الكثير من شيخوخته بين الزاغ والدياغ، وما تتطلبه مهنة العطارة وتقتضيه، كي يحصل على قوته ويوفر لأهله الخبز الحر الذي يستسيغه ويستطيبه من كده وكدحه. وهو من المؤمنين بحكمة المثل القائل: من عجز عن زاده اتكل على زاد غيره. . وكان رحمه الله مثالاً صادقاً من أمثلة المسلم الصحيح، ذا نسك ودين، كما ينبئ بذلك قوله:

ما شاقني قرب الحمام وإنما

أشتاق قرب الواحد المنان

لأشم ريح العفو عند لقائه=وأذوق طعم حلاوة الإحسان

وقوله مناجيا ربه:

أمحصلاً ما في الصدور بموقف

لا عذر فيه لنا من العصيان

أتقيم فينا العدل يحكم وحده

وأمرتنا بالعدل والإحسان

ومن ظريف ما يروى عنه رحمه الله أن شاعرنا مكثراً استحسن بيتين لشاعرنا فشطرهما. فصار البيتين والتشطير أربعة أبيات، ثم شطر الأربعة أبيات فصارت ثمانية، ثم شطر هذه أيضاً فصارت ستة عشر بيتاً، ثم شطر الستة عشر بيتاً، فصارت اثنين وثلاثين بيتاً، كتبها وقدمها إلى صاحبنا العطار.

ص: 25

فلما رآها نظر إليه وقال، صديقي الشيخ! أتسكب أربع قرب من الماء على قدح صغير من عصير الليمون؟ فعل الله بك وفعلب. . .

ولسنا الآن بصدد هذا كله، وإنما نحن بصدد الحديث عن أدب التاريخ. . وإليك بعض أعاجيب هذا الشيخ في هذا الباب: هذان بيتان أرخ فيهما زواج السيد أحمد بن السيد مرزا القزويني، محتوية على ثمانية وعشرين تاريخا وهي:

أكرم بخزان علم أم وارده

منكم لزاخر بحر مد آمله

زفت إلى القمر الأسنى بداركم

شمس لوار وزان البشر حامله

وهذان بيتان آخران، أرخ فيهما مقام الإمام علي عليه السلام في الحلة، على نفقة العلامة السيد محمد القزويني ره، وهي:

بباب مقام الصهر مرتقباً نحا

أخو طلب بالبر من علم براً

مقام برب البيت في منبر الدعا

أبو قاسم جر الثنا عمها أجراً

1316 هـ

والتواريخ هذه على النمط التالي:

(1)

صدر الأول (2) عجزه (3) صدر الثاني (4) عجزه (5) مهمل البيت الأول (6) معجمه (7) مهمل صدر الأول مع معجم عجزه (8) معجم صدر الأول مع مهمل عجزه (9) مهمل البيت الثاني (10) معجمه (11) مهمل صدره مع معجم عجزه (12) معجم صدره مع مهمل عجزه (13) مهمل الصدرين (14) معجم الصدرين (15) مهمل صدر الأول مع معجم صدر الثاني (16) معجم صدر الأول مع مهمل صدر الثاني (17) مهمل العجزين. . . (18) معجم العجزين (19) مهمل عجز الأول مع معجم عجز الثاني (20) معجم عجز الأول مع مهمل عجز الثاني (21) مهمل صدر الأول مع مهمل عجز الثاني (22) معجم صدر الأول مع معجم عجز الثاني (23) مهمل صدر الأول مع معجم عجز الثاني (24) معجم صدر الأول مع مهمل عجز الثاني (25) مهمل عجز الأول مع مهمل صدر الثاني (26) معجم عجز الأول مع معجم صدر الثاني (27) مهمل عجز الأول مع معجم صدر الثاني (28) معجم عجز الأول مع مهمل صدر الثاني.

فجعل كل شطر برمته تاريخاً، والحروف المعجمة من كل شطر شطرين تاريخاً، ومثلها

ص: 26

الحروف المهملة؛ فيتجمع من ذاك ستة عشر تاريخاً، وكذلك المعجمة مع المهملة، والمهملة مع المعجمة، فيتجمع اثنا عشر تاريخاً. فيكون المجموع ثمانية وعشرين تاريخاً.

ونحن نكتفي بهذا القدر من هذا البحث، وعن هذا لشاعر، لقلة المصادر الموجودة لدينا عنه، وقلة من كتب عنه، أظن أن في بحثنا هذا الكفاية بعض الشيء عن هذا البحث وعن هذا الشاعر، وأخذ الفكرة عنه، ومن الله نستمد المعونة والتوفيق

العمارة - العراق

خليل رشيد

ص: 27

‌2 - تركيا

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

(حققوا للشعوب حريتها فإن قلوب الأحرار خير حصن ضد

الطغيان والاستبداد والاستعمار) غلادستون

موطن نزال

تشغل تركيا مكاناً يمتاز بأهمية موقعه الدولي. . فهي تضع قدما في آسيا وتضع قدمها الأخرى في أوربا وتتحكم في الملاحة بين البحرين الأبيض والأسود.

وقد كانت أرضها ميدان النزال بين الفرس واليونان في التاريخ القديم، وموطن الصراع بين المسلمين والروم في العصور الوسطى، وكانت طريق الصليبيين إلى الشرق أثناء الحروب الصليبية، وهي الحروب التي شنها الغرب على الشرق وانتهت بانتصار الشرق وخذلان الغرب.

وفي العصور الحديثة كانت تركيا وما زال ميدان صراع دولي عرف في التاريخ باسم المسالة الشرقية.

المسألة الشرقية

في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي نزل الأتراك العثمانيون في آسيا الصغرى وأسسوا دولتهم التي بدأت صغيرة ثم أخذت تنمو وتتسع حتى شملت آسيا الصغرى، ثم عبروا البحر إلى أوربا ونزلوا بشبه جزيرة البلقان واستولوا على القسطنطينية عام 1453 واتخذوها عاصمة لدولتهم الكبيرة.

واستمر الأتراك في فتوحاتهم ففتحوا بلاد الشام والعراق وفلسطين وبلاد العرب ومصر وشمال أفريقيا؛ وفي أوربا استمر جندهم في فتحهم حتى قرعوا أبواب مدينة فينا عاصمة الإمبراطورية النمساوية.

في ذلك الوقت لم تكن هناك مسألة شرقية وإنما كان يوجد ما يمكن أن يسمى بالمسألة الغربية. ما هو مصير غرب أوربا أمام الزحف التركي وما الذي سيؤول إليه أمر غرب أوربا في حالة استمرار انتصار الأتراك؟؟

ص: 28

لكن الأتراك ردوا عن فينا ثم ما لبثوا أن استقروا في البلاد الشاسعة التي فتحوها وأصابهم الترف ونزل بهم الوهن وتجلا ضعفهم شديداً شنيعاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين وظهرت المسألة الشرقية واتخذت مكانا بارزاً في التاريخ الحديث.

وكانت روسيا أكبر عدوة لتركيا: ذلك أن روسيا نهضت على يد بطرس الأكبر وبدأت تحتل مكاناً بارزاً في التاريخ منذ أوائل القرن الثامن عشر. وكانت روسيا تريد الوصول إلى البحرين الأسود والأبيض وكان هذا لا يتأتى إلا على حساب تركيا ومن أجل هذا قامت الحروب بين الدولتين ووضعت روسيا يدها على شواطئ البحر الأسود الشمالية والشرقية.

لكن روسيا كانت ترنو دائماً إلى الوصول إلى القسطنطينية وهذا هو محور سياستها، ويتجلى لنا واضحاً جلياً في جميع حوادث التاريخ منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم.

وقد ساعد روسيا على تنفيذ سياستها أن تركيا لم تعمل على إدماج رعايا البلقان في رعاياها؛ بل تركت لهم حريتهم الدينية وحكومتهم الذاتية ولغتهم القومية واكتفت منهم بما قدموا لها من جزية وضرائب.

واستغلت روسيا الروابط الدينية والجنسية التي تربطها بسكان البلقان، وعملت دائماً على خلق المتاعب في وجه السلطان، وسارعت إلى نصرة الثائرين بقواتها وأملت على تركيا شروط الصلح لفائدتها.

وكانت النمسا العدوة الثانية لتركيا، فقد اقتطع الأتراك جانباً كبيراً من أملاكها في البلقان وفي الدانوب، ولما ضعفت تركيا عملت النمسا على استرداد ممتلكاتها ونجحت في ذلك إلى حد كبير في القرن الثامن عشر.

أما فرنسا - وكانت عدوة للنمسا - فقد أقامت علاقات ودية مع تركيا منذ القرن السادس عشر.

ولكن إنجلترا في الفرن الثامن عشر كانت تجد في روسيا حليفاً طبيعياً؛ فقد كانت روسيا سوقا هامة للتجارة الإنجليزية وكانت إنجلترا ترى أنها بحاجة إلى صديق وحليف ليعاونها ضد عدوتها التقليدية إذ ذاك وهي فرنسا.

لكن حملة نابليون على مصر نبهت إنجلترا إلى الخطر المحدق بها من جراء مطامع روسيا، فقد كانت روسيا تطمع للاستيلاء على القسطنطينية والوصول إلى البحر الأبيض

ص: 29

وكان ذلك خطراً يهدد مصالح إنجلترا في الشرق. ثم أن روسيا كانت تستطيع الوصول براً إلى الهند.

وهكذا وجدت إنجلترا في مطامع روسيا خطراً عليها ومن ثم وقفت بجانب تركيا وأخذت تعمل على المحافظة عليها ولكنها لم تر بأساً من اقتطاع كثير من أملاكها في الوقت المناسب.

ويتجلى اهتمام إنجلترا بمصير تركيا في وقوفها بجانبها هي وفرنسا أثناء حرب القوم 1853 - 1856 وهي الحرب التي شنتها روسيا على تركيا وانتهت بانتصار إنجلترا وفرنسا وتركيا عليها وكان سببها مطامع روسيا في تركيا.

في 1844 زار قيصر روسيا نقولا الأول إنجلترا وتحدث مع لورد أبردين وزير خارجيتها حديثا عبر به عن سياسة روسيا إزاء تركيا: (إن تركيا رجل مريض يحتضر ويخشى أن يموت فجأة وحينئذ يحدث خلاف بين الدول حول تقسيم تركيا ولذلك فمن الأجدر أن تتخذ الدولتان إنجلترا وروسيا الاهبة لمواجهة الموقف وخير لهما أن يتفقا على تقسيم لأملاك تركيا) وقد كرر القيصر حديثه هذا مرة أخرى مع سفير بريطانيا في روسيا 1853 وكان ذلك من أهم الأسباب التي دعت إنجلترا إلى الدخول في حرب القرم ضد روسيا، فقد كان بلمرستون رئيس وزراء إنجلترا يؤمن بأن ما يقال كل يوم من أن تركيا رجل مريض يحتضر كلام فارغ لا يؤبه له؛ وأنها لو أعطيت وقتا كافيا بدون قلاقل أو متاعب لاستطاعت أن تصلح من شأنها وأن تستعيد مجدها كدولة قوية لها وزنها في السياسة الدولية.

وفي معاهدة باريس 1856 أعطيت تركيا الفرصة الملائمة وحرم على روسيا أن تنشئ قواعد حربية على شواطئ البحر الأسود إذ أن يكون لها فيه أسطول حربي وأعلن حيادالبحر الأسود.

لكن تركيا لم تقم بالإصلاح المطلوبولم تنزل شعوب البلقان عن مطالبها القومية فقد كانت تريد الاستقلال عن تركيا. وكانت الدول تخشى أنه في حالة استقلال هذه الدول: رومانيا والصرب والجبل الأسود وبلغاريا. . أن تقع في يد روسيا

ولكن غلادستون زعيم الأحرار في إنجلترا صرح قائلاً:

ص: 30

(حققوا للشعوب حرياتها فإن قلوب الأحرار خير حصن ضد الطغيان والاستبداد والاستعمار).

وفي 1876 ثارت شعوب البلقان ضد تركيا وتقدمت روسيا لمساعدتها وهزمت تركيا ووقف الجند الروس أمام القسطنطينية. . وهنا تقدمت إنكلترا وأمرت أسطولها بدخول ميناء البسفور ومقاومة الروس إذا دخلوا القسطنطينية، وأمام تهديد إنجلترا وقفت روسيا ووقعت مع السلطان معاهدة سان ستفانوا 1878. لكن إنجلترا لم توافق عليها ودعت الدول إلى عقد مؤتمر دولي لبحث المشكلة؛ وقد اجتمع المؤتمر في برلين في يوليو 1878 ووقعت الدول معاهدة برلين وبها تحقق استقلال رومانيا والجبل الأسود والصرب وأعطيت بلغاريا حكومة ذاتية وأخذت روسيا قارص وباطوم واستولت إنجلترا على جزيرة قبرص وبعدها بسنوات احتلت مصر. وتحقق لإنجلترا ما تبغيه من إبعاد روسيا عن القسطنطينية.

وتتجلى أهمية القسطنطينية في نظر روسيا في الحديث الذي دار بين القيصر إسكندر الأول ونابليون الأكبر إمبراطور فرنسا، وكان نابليون يطمع في صداقة القيصر ليتمكن من هزيمة عدوته اللدودة إنجلترا.

قال القيصر (القسطنطينية هي مفتاح بيتي ويجب أن يكون في حوزتي).

فرد نابليون (القسطنطينية! من المستحيل. . إن هذا معناه تكوين إمبراطورية عالمية).

وهكذا لم يستطع القيصر والإمبراطور الاتفاق بشأن القسطنطينية، وكان ذلك من أهم أسباب اختلافهما وانضمام روسيا إلى إنجلترا ضد نابليون مما كان له أكبر الأثر في القضاء على نابليون. وهكذا نرى أن المسألة الشرقية كانت عاملا كبيرا في سقوط نابليون وفي تحويل مجرى التاريخ.

وفي 1939 عقدت روسيا مع هتلر ميثاق دم اعتداء مما كان له أكبر الأثر في نشوب الحرب العالمية الثانية، وفي اعتقادي أنه لولا هذا الميثاق لما نشبت الحرب.

اطمأن هتلر إلى روسيا وقام يحارب، وأحرز جنده النصر في كل مكان، وسرعان ما سجدت أوربا تحت أقدامه واحتل البلقان، وهنا تقدمت روسيا تطلب أن تعطى ميناء على البحر الأبيض، ولكن هتلر رفض، فانضمت روسيا إلى إنجلترا، وكانت الدولة الأوربية الوحيدة التي بقيت صامدة أمام هتلر وإلى أمريكا. وكان انضمام روسيا إلى إنجلترا وأمريكا

ص: 31

أكبر أسباب هزيمة هتلر وسقوط دولته.

وانتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وانقسم حلفاء الأمس إلى كتلتين متعاديتين: إحداهما شرقية وهي روسيا، والأخرى غربية وتضم إنجلترا وأمريكا وفرنسا.

ومن الطبيعي أن تنضم تركيا إلى الدول الغربية، فهي تعلم أن روسيا لم ولن تتخلى عن مطامعها في أراضيها، ولعل في انضمامها إلى المعسكر الغربي ما يحفظ كيانها ويبقي على سلامتها.

أبو الفتوح عطيفة

ص: 32

‌شلر

للكاتب الكبير توماس كارليل

ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

- 5 -

في تصويرنا لشلر كإنسان له أخلاقه الرفيعة، لا يمكن لوصفنا - على أي حال - إلا أن ينتقص من كمال حياته، لأن أقلامنا تعجز عن وصفها الوصف اللائق بها. لقد نال هذا الرجل ما يأمله بصورة عجيبة. وحياته - على الأقل - من مرحلة رجولته لم تزل حتى الآن غير مشوشة وذات أسلوب واضح. وقد أخفى انتصاره الكامل عنا عظم النضال الذي خاضه ببسالة نادرة. يمكننا - إجمالاً - الاعتراف بأن سلوكه لم يكن عظيماً بمقدار قدسيته وربما لا يصفه شيء مثل وصفنا إياه بالراهب، بما يمتاز به اللقب من سمو روحي ونقاء وعزلة، على أن هذا الوصف لا ينطبق على مظهره الخارجي في شيء. لقد استحوذ على طبيعته حماس منقطع النظير وفي هذا تكمن قوته وفي هذا يتضح الواجب الذي عاهد نفسه على أدائه، وقد عاش في سبيل هذا.

لم تقم الميول الاجتماعية بأي دور فعال في حياته، وكابن وزوج وأب فهو دائماً حنون ومخلص ولطيف ولكن نادراً ما كانت تؤثر فيه الأشياء الخارجية تأثيرا يشبه في شيء العطفة العارمة. فهو لم يمتلك من الحرارة والحب المستعر والنحيب مثلا ما كان يمتاز به من معاصره الإسكتلندي (برنز)، وفي الحقيقة فإن اتجاهه وأمله كانا مصوبين نحو المثل الأعلى لا لما هو واقعي أرضي. وكانت سعادته العظمى لا تعني في شيء بالشرف الظاهري أو الأبهة أو اللهو أو التسلية الاجتماعية أو حتى الصداقة نفسها. . بل كان همه الأكبر منحصراً في مملكة الشعر ومدينة العقل الفضلى حيث الحياة النبيلة الحقة. وكذا الحال مع عاداته فإنها كانت أميل إلى العزلة لأن شغله الشاغل وسروره البالغ لم يتعديا نطاق التأمل الصامت، يقول أحد شراحه:(إن عدم تساهله مع اللذين يقاطعونه ويعيقون أعماله هو الذي اضطره إلى اللجوء إلى الدراسة ليلاً، على ما في هذا العمل المؤذي من إغراء ومن تعب. وقد شرع بهذه الممارسة في (درسدن) ولم يتركها قطعاً بعد ذلك. وقد

ص: 33

كانت تسليته الوحيدة هي العزلة، فكانت سواحل نهر (الإيلب) ملجأه المحبب صباحاً، وكان هناك يتجول في وحدته بين الكروم والمروج والخمايل الجميلة تاركاً ذهنه يسرح في الخيال العذب، أو متأملاً في مواضع الفتنة من الطبيعة الساحرة أو منغمسا في دراساتهً التي كانت تشغله دائماً وأبداً، أو كان يرى جالساً في بعض الأحيان في الجندول الطافي على صفحات النهر الناصعة، وكان يسره كثيراً أن يكون هناك عندما كانت العواصف تهدر والرياح تزمجر حتى يجد لنفسه المضطربة راحة في اضطراب الطبيعة! وكان الخطر يعير شيئاً من السحر لوضعيته وكان يشعر بالانسجام التام بالمنظر الثائر، عندما كانت العاصفة تجتاح السماء، وكانت الغابات تردد صوت هذا الاجتياح، كما أن النهر كان يشارك السماء في هذه الثورة الجامحة فيهتز ملتويا بتأثيرها وترتطم أمواجه بعضها بالبعض الآخر فتحدث ضجيجاً هائلاً وفي هذه الأثناء اشترى له حديقة في ضواحي (ينا) بالقرب من دار (ويسلهوفت) التي كانت مركز إدارة مجلة (الكيمانية ليتراتور زايتنغ) وهي المجلة الذائعة الصيت في ذلك الوقت، وأن نظرنا إلى المكان في سوق (ينا) فهو يقع في الجنوب الغربي من المدينة بين (انكليكاتر) و (بنوثور) في الممر الضيق حيث يجزي فرع نهر (لوتراباخ) حول المدينة.

بني شلر بيتاً من طابوق واحد في قمة المرتفع الذي يشرف على منظر غاية في الجمال وادي (سال) بما يحيط به من غابات الشربين. وكان هذا المكان مسكنه الحبيب إليه أثناء ساعات كتابته؛ وأكثر مؤلفاته التي دبجها يراعه في ذلك الوقت كتبت هنا. وكذلك الحال في الشتاء فإنه كان يعيش بعيداً عن ضجيج الناس وجلبتهم وذلك في دار آل (كرسباغ) خارج خندق المدينة. وكان عند جلوسه بالقرب من المنضدة يحتفظ دائماً بقهوته الجاهزة أو الشوكولاته، وغالباً ما كان يقتنى قنينة من شراب الراين أو الشمبانيا لينعش نفسه المتعبة، وكثيراً ما كان الجيران يسمعونه وهو ينشد بعض الأناشيد العذبة في هدأة الليل. وكل من استغل فرصة مراقبته في مثل هذه الأحوال - وكان ذلك في غاية البساطة - بسبب المرتفعات الواقعة مقابل حديقته من الجانب الآخر من الوادي - كان يمكن أن يراه متكلماً مرة بصوت عال أو ماشياً بسرعة جيئة وذهاباً في غرفته أو رامياً نفسه على كرسيه ليكتب ثم يراه يقف ليشرب من القنينة التي بجانبه. وكان يظل بجانب منضدته شتاء إلى

ص: 34

الساعة الرابعة أو حتى الخامسة صباحاً، أما في الصيف فكان يسهر إلى الثالثة فقط. ومن يذهب إلى الفراش ليستيقظ في التاسعة أو العاشرة.

ويقول الشارح مستطرداً (وكانت حياته في وايمر حياته السالفة في رينا) وكان شغله هو الدراسة والكتابة. وكان يتسلى في محيط عائلته، حيث كان لنفسه حرية التمتع بمسرات الحياة ومباهجها بصراحة مع قليل من أصدقائه الخلص. وقد جمع هؤلاء الأصدقاء في ناد وجعل من هذا النادي مكانا للمتعة والتسلية البريئتين. وكان مع ذلك يحب النزهة المنفردة في متنزهات وايمر وكان يرى غالباً متجولاً بين الخمائل والأروقة المرمرية البديعة، وبيده دفتر ملاحظات وهو يسير ببطيء أو يقف هادئاً متأملاً، وأما إذا رأى أحداً فيمرق مسرعاً إلى طريق آخر لئلا تنقطع سلسلة أحلامه وتأملاته، وكان ملجأه المحبوب هو الطريق الصخري الكثيف المؤدي إلى بيت (رومش) وكان هذا البيت محل نزهة الدوق وقد بني بإرشاد جوته، وكان يجلس هناك بجانب الصخور الشامخة المظللة بأشجار السرو والبقس وأمامه الأيك المعشوشبة على مقربة من جدول صغير يتدفق ماؤه في قناة مبلطة ملساء حيث توجد بعض أشعار جوته منحوتة على لوح أسمر من الحجر مثبت في الصخر). ولو أن هذه العزلة قللت من أهمية سلوكه الشخصي إلا أنها دلت على فضيلة كبرى من فضائله، ألا وهي التجرد من ترهات الحياة وابتعاده من مباذلها، فالإنسان لا يولد إلا ويجد أمامه مجالا من الرغبات العالمية الطموحة، ولا يكون الانتصار عليها كاملاً خصوصاً لإنسان مثل شلر. فوجد أن واجبه يقتضيه أن يساير مثل ذلك المسلك من الحياة، أعني بذلك مسلك العزلة، وقد جاهد بكل ما يملك من قوة وبأس على تأدية مثل هذا الواجب على أحسن صورة بعد أن اكتشفه لنفسه، ولم يكن مصدر هذه العزلة ابتعاده عن مصالح الناس بل لاهتمامه بهم، ويمكننا من بعض الإشارات والعلامات أن ندرك بان واجب الشاعر بالنسبة لشلر فيما يخص الإنسانية هو أعظم قدراً وأكبر قيمة وأعلى دلالة من واجبه الشخصي تجاه نفسه، ومع ذلك، فقد تبين لديه بأنه كان يرمي (بمواهبه في الماء لينتظرها في وقت آخر). وعندما تضمحل ضوضاء الغزاة والمشعوذين والمصلحين السياسيين تظهر الحكمة العلوية التي كانت كامنة فيه وتبقى بين الناس ليعترف بفضلها وتقدر قيمتها حق قدرها، وعليه ولو نه مات إلا روحه الخالدة لا تزال حية طافحة بالقوة والجلال. وقد حدثنا

ص: 35

الكثيرون عنه فقالوا (إنه كان رقيقاً شفافاً بشوشاً عطوفاً لأقصى درجة، ولم تستحوذ عليه رغبة أشد من رغبة إسعاد الناس أجمعين) ولم يكن في إمكان أي شخص آخر أن يتحمل ما تحمله شلر في سبيل أداء واجبه، فقد كان هذا الواجب أغنيته في المساء وصلاته في الصباح. . لقد عاش ومات في سبيله مضحياً - كما يقول جوته - بحياته في سبيل تصوير الحياة.

للكلام صلة

يوسف عبد المسيح ثروت

ص: 36

‌ديوان مجد الإسلام

نظم الشاعر المرحوم أحمد محرم وتعليق الأستاذ إبراهيم عبد

اللطيف نعيم

تابع غزوة بدر

نصح الرجال فردهم عن نصحه

نشوان يملأه الغرور فيطفح

رب اسقه بيد (النبي) منية

بعذابك الأوفى تشاب وتجدح

إيه (أبا جهل) نصرت بفارس

يلقي المنية منه أغلب شيح

أراده (حمزة) عند حوض (محمد)

فانظر أتقدم أم تحيد وتكفح

رام الورود، فما انثنى حتى ارتوى

من حوض مهجته المنايا القمح

جد البلاء، وهب إعصار الردى

يرمي بأبطال الوغى ويطوح

نظر (النبي) فضج يدعو ربه

لاهم نصرك، إننا لك نكدح

تلك العصابة، ما لدينك غيرها

إن شد عاد أو أغار مجلح

لولا تقيم بناءه وتحوطه

لعفا عفا كما تعفو الطلول وتمصح

لا هم إن تهلك، فما لك عابد

يغدو على الغراء، أو يتروح

جاشت حميته، وقام خليله

دون العريش يذود عنه وينضح

وتغولت صدر القتال فأقبلا

والأرض من حوليهما تترجح

في غمرة ضمن الحفاظ لقاحها

فالحرب تسدح بالكماة وتردح

استبق نفسك يا (أبا بكر) وقف

أن ضج في دمك الزكي مصيح

أعرض عن ابنك إن موتك للذي

حمل الحياة إلى الشعوب لمترح

صلى عليه الله حين يقولها

والحرب تعصف والفوارس تكلح

الله، لا ولد أحب ولا أب

منه، فأين المنتآى والمترح؟

أفما رأيت (أبا عبيدة) ثائراً

وأبوه في يده يتل ويسطح؟

بطل تخطر، أم تخطر مصعب

صلب القرا ضخم السنام مكبح

أرأيت إذ هزم (النبي) جموعهم

فكأنما هزم البغاث المضرح

ص: 37

هي حفنة للمشركين من الحصى

خف الوقور لها وطاش المرجح

مثل الثميلة من مجاجة نافث

وكأنما هي صيب يتبذح

الله أرسل في السحاب كتيبة

تهفو كما هفت البروق اللمح

تهوي مجلجلة تلهب أعين

منها وتقذف بالعواصف أجنح

للخيل حمحة تراع لهولها

صيد الفوارس، والعتاق القرح

(حيزوم) أقدم، إنما هي كرة

عجلى، تجاذبك العنان فتمرح

(جبريل) يضرب، والملائك حوله

صف ترص به الصفوف وترضح

تلك الحصون المانعات بمثلها

تذرى المعاقل والحصون وتذرح

للقوم في أعناقهم وبنانهم

نار تريك الداء كيف يبرح

جفت جذور الجاهلية، والقوى

هذا النبات الناضر المسترشح

طفق الثرى من حولها لما ارتوى

من ذوب مهجتها يجف ويبلح

ومن الدم المسفوح رجس موبق

ومطهر يلد الحياة ويلقح

يتبع

ص: 38

‌رِسَالةُ الشِعْرِ

نشيد

الاتحاد - النظام - العمل

للأستاذ علي متولي صلاح

مصر هذا عهدك الزاهي فسيري

لا تبالي أي صعب في المسير

كالصعب صار سهلا لينا

وغداً كل شديد هينا

فانهضي في عهدك الزاهي وباهي

واجعلي كل دعاء في الشفاه

محق الظلم فشكراً ياً إلهي

مصر هبي لاتحاد وعمل

ونظام. . تبلغي كل الأمل

وكفى يا مصر تفريقاً كفى

وعفا الله عن الماضي عفا

فانهضي في عهدك الزاهي وباهي

واجعلي كل دعاء في الشفاه

محق الظلم فشكراً يا إلهي

أنت يا مصر من الساعة حرة

لن تضامي بعدها يا مصر مرة

قد تحررت من القوم الطغاة

وتجاوزت عهود الظلمات

فانهضي في عهدك الزاهي وباهي

واجعلي كل دعاء في الشفاه

محق الظلم فشكراً يا إلهي

لو دعا الداعي لبذل وفداء

قسماً أبذل روحي والدماء

أي شيء هو من بلادي

هي داري وعتادي ومهادي

فانهضي في عهدك الزاهي وباهي

واجعلي كل دعاء في الشفاه

محق الظلم فشكراً يا إلهي

علي متوليصلاح

ص: 39

‌ثورة ضمير

للشاعر محي الدين فارس

فرغت كأسي. فمن يملأ كأسي

وسجا الكون وثارت من لهيب الشوق نفسي

وطوتني في شعاب الليل إطراقة بؤس

وأنا زورق أحلام، وأشواق، وعرس!

في يد الأمواج، والإعصار كم يضحي ويمسي!

إن أكن أسكرت بالألحان أسماع الوجود

وتغنيت مع الأطيار في الصبح الوليد

وسكبت الفن لحنا في مزامير الخلود

فأنا قلب شقي مل من أسر القيود

في صحاري العمر والنسيان. في دنيا العبيد!

غربت شمس فلم أبصر سوى ليل توالي

وتلاشى الحلم من أفق خيالاتي وزالا

وأنا في عالم النسيان أستاف الزوالا

ريشة في ثورة الأنواء لم تدرك مجالا

لفها الإعصار في أجنحة الليل وغالا

عذبتني في شعاب الوهم ألحان شكاتي

كم يثير الليل أشباح هموم طاغيات!

وخبت شعلة آمالي، وجفت صبواتي

وتهاوت. . . من سماواتي طيور الأمنيات!

لم يعد قلبي خفاقا بأحلام الحياة!

حدقت في صمتي الخالد أبصار الليالي

وجرت خلف نعوش العمر أسراب ظلال

لم أعد أبصر في دنياي أطياف الجمال

ص: 40

كل شيء هامد كالموت في كهف الليالي

كم قصور شدتها للفن من وهم خيالي

واسنى ياليل، يانبع خيالاتي وشعري

واسني ياليل، هل تدرك ما يحمل صدري

أنا كالبحر شقي عشت في مد وجزر

أنا طير قصت الدنيا جناحيه بغدر

لست أدري فيم أبكي. . وأغني لست أدري

إن أكن أذنبت في الدنيا فغفرانك ربي

جئت أبكي بدموعي ناشدا إخفاء ذنبي!

ناسكا في معبد الإيمان. . هيمان كصب

طهرت نفسي صلاة. . نضرت صحراء قلبي

فارحم اللهم نفسا عذبت في كل درب!

محي الدين فارس السوداني

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

مهرجان الشعر

دعت اللجنة الثقافية بجمعية الشبان المسيحيين بالقاهرة إلى مهرجان للشعر في يوم الجيش عقد بدار الجمعية مساء الجمعة 17 أكتوبر سنة 1952. وقد قدمه الأستاذ خالد الجرنوسي، وعقب عليه الأستاذ كامل أبو العينين، وكانت ضيفة الشرف فيه السيدة أمينة السعيد.

إلى هنا ليس لنا اعتراض على أي شيء؛ غير أن الذي لوحظ أن جميع الشعراء الذين قدموا في المهرجان كانوا من الأسماء الجديدة. . وكان في الاستطاعة دعوة شعراء آخرين معروفين للإشتراك في هذا المهرجان، ولا ندري هل المسؤول عن ذلك جمعية الشبان نفسها، أم الأستاذ خالد الجرنوسي. .

لا اعتراض لنا أيضاً على الشعراء الجدد، فنحن ندعو إلى إعزاز الأدب الجديد، وفتح المجال أمام أصحابه لياخذوا امكانهم ليتسابقوا إلى الغاية. . ولكنني أعتقد موقنا أن قصر المجال على طائفة دون طائفة، لا بد أن يكون له سبب يبرره. .

لماذا لم نسمع في هذا المهرجان محمود حسن إسماعيل أو عبد الغني حسن أو علي الجمبلاطي أو قاسم مظهر أو العوضي الوكيل، أو علي متولي صلاح أو غيرهم وغيرهم.

وفي الميدان النسوي. . لماذا اقتصر على الآنسة روحية القليني؟ إنني مع الأسف لم أقرأ للآنسة الشاعرة. . وأرجو أن أقرأ لها في وقت قريب؛ ولكنني أسأل لماذا لم يدع إلى ندوة الشعر أمثال: جميلة العلايلي أو أماني فريد، أو غيرها من الشاعرات. .

. . وإني لأتساءل، لماذا اكتفى الأستاذ خالد الجرنوسي الإشراف، ولم يقدم قصيدة من قصائده العصماء في هذه المناسبة!

إن مهرجان الشعر في يوم الخميس عمل أدبي مشكور، وهو نافذة من نوافذ الشعور، أعطت هؤلاء الشعراء الشبان فرصة التعبير عن مشاعرهم في هذه المناسبات الفذة. .

. . ولكنها كانت تكون أعظم أثراً وأبعد قوة في محيط الأدب لو أمكن أن تنفذ على نطاق واسع، وفي جو أكثر استعداداً وأخصب إنتاجاً. . وإننا لنرجو أن تعود جمعية الشبان المسيحية الكرة، وأن توسع نطاق الدعوة حتى نسمع قصائد أخرى، وإنا لنرجو أن يشترك

ص: 42

فيها شعراء وشاعرات من الأسماء اللامعة المعروفة!

حول تطهير الأدب

أرسل إلي الأستاذ عبد اللطيف فأيد الخطاب التالي:

(في هذه الآونة التي تتنفس فيها البلاد من شر ما جثم على صدرها في العصور الغبرة، تمتد يد التطهير المباركة إلى كل مرفق من مرافق الدولة لتغسله من الأدران التي علقت به حتى يغدو نظيفا، يؤدي واجبه بدقة وأمانة.

. . أرى مرفق الأدب قد وضع في زاوية مهملة، وقد أغفله الأدباء ولم ينظروا إليه نظرة تعيد شامخ مجده!

وأنت تعلم يا سيدي أن الدخلاء على الأدب كثيرون، احترفوا الإمساك بالقلم، وهم لا يعرفون كيف يضعونه بين أناملهم ويوجهونه التوجيه الصحيح الذي يرسم العبارات في استقامة ونضوج، واتخذوا من بعض الصحف والأوراق الرخيصة ميدانا يعرضون فيه عملتهم الزائفة.

وقد راجت هذه العملة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. . وأقبل عليها طلاب المدارس والمعاهد والجامعات وكثيرون من أبناء الشعب، فتغذوا بلبانها، وأصبحت عمادا لهم في الإنشاء والتعبير!

ولأنك لتجد الحسرة والألم يغمران قلبك ونفسك وكيانك كله حينما تفتش عن روح أدبي بالمعنى القيم في المحيط التعليمي! لأنك سوف لا تعثر لا على أشخاص يصفون الكلمات في غير تناسق، ويخلقون عبارات ميتة خالية من الحياة، مما صير الذوق الفني في خطر!

ولولا البقية الباقية من السلف الصالح والشبيبة المتوثبة ممن تفتحت عيونهم وعقولهم، لأصبحت سوق الأدب في انهيار تام

أليس من واجب علماء القلم، وشيوخ الأدب، وحملة المشاعل، أن يجعلوا من أنفسهم قوامين على التراث الذي امتدت إليه يد العبث والضياع!).

هذه كلمات تفيض بالإيمان والحماسة، وتكشف عن روح أدبية خالصة، نحن ننشدها في شبابنا الجديد في العهد الجديد

وها أنت ترى يا صديقي أن (الرسالة) تواصل رسالتها، وتحتمل في سبيلها كل عنت. .

ص: 43

وأنت ترى الناس وقد تحولوا عن الأدب الرفيع إلا قلة من أصحاب الذوق الرفيع، ومع ذلك فإن (الرسالة) قد أعلنت أنها ستزداد قوة في الأيام القريبة على أداء رسالتها التي آمن بها صاحبها أصدق إيمان، وجرد نفسه له خالصاً مخلصاً لا يبتغي إلا رضوان الله. .

إن الأدب الرفيع سيخلد ويعيش ويبقى. . وكل هذه التفاهات المزخرفة، والفقاعات الملونة التي تعجب بعض ذوي الأهواء. . ستموت وتنطوي. . وتذهب أدراج الرياح. . فلا تضيق يا صاحبي إذا لم يعجبك أمر الناس. وإنا لنعتقد وقد اعتدلت الموازين في الحياة السياسية والاجتماعية. . أن تعتدل قريباً موازين الأدب، وقد غلبت نزعة الجد في أمور الحياة، فلا بد أن يستجيب الأدب لها.

عود إلى الشعر المنثور

تفضل أخي الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم فأرسل إلى كتابه (في الضباب) مع كلمة قال فيها (إنه وقف طويلاً أمام كلمتي عن الشعر المنثور).

وقد كتب صديقي كتابه هذا سنة 1941. . أي منذ اثني عشر عاماً.

كان أيامها في سن الحب والهوى. . تلك السن التي تتفق مع هذا اللون من الأدب، أما اليوم نراه وقد تحول عن هذا اللون

وكل شاب من الأدباء أحب هذا اللون يوماً كان السن وكانت العاطفة، وكانت وعمل متعددة تدفعه لان يقرأه، أو يعبر عن مشاعره بأسلوبه.

. . الضباب. . والظلال. . والأضواء الخافتة. . تلك هي مظاهر الحياة في سن الشباب، وهي مظاهر الأدب أيضاً، وفي هذا المعنى أقرأ للأستاذ إبراهيم في كتابه:

. . وفي عينيك رأيت الأسى والمرح

. . ورأيت اليأس والأمل

. . ورأيت الحيرة والاطمئنان

هذه صورة النفس في سن الشباب الباكر، عندما تتراءى الصور ولا تثبت، وتتبدى الأحلام كالخيال البعيد!

إن رأيي يا سيد إبراهيم في الشعر المنثور، هو أننا في عصر نهضة. . عصر بناء. . عصر الأعمال الضخمة. . عصر الجد الجاد؛ كل منا يستطيع أن يحمل حجرا كبيرا

ص: 44

ليضعه في هذا لبناء الضخم.

أما الشعر المنثور فإنه لون من ألوان (الطرافة) يأتي بعد الجد الصارم، ومن ألوان (الترف) يأتي بعد الحاجة الماسة، ومن فنون (المتعة) يأتي بعد المتعة الفردية.

فأنا لا أحب أن نعود إليه ونحن على أبواب حياة جديدة. وما أقوله عن مصر أقوله عن سوريا ولبنان وبلاد النهضة جميعا

هذا فضلاً عن أنني عرضت لشعر شاعرة. . أنثى؛ إن من حقها أن تصور مشاعرها، ولكن ليس من حقها أن تطلعنا على صفحة مثيرة. . ما أحراها أن تكون صفحة خاصة بها، إن شاءت أن تنظر لها من حين إلى حين.

إن الأدب اليوم لا يؤمن بمذهب الفن للفن. . ذلك هوس كان يقول به بعض ذوي الشذوذ من الكتاب. . وكانوا يصدرون هذا الرأي عن هوى صارخ. فما احرنا وقد أخذت أوربا اليوم تعيد النظر في مذاهبها الأدبية، وفي قواعد الحضارة ذاتها أن ننكر ما يتنافى مع طابعنا في الشرق. . ولا سيما في أدب المرأة.

إن أوربا اليوم لم تعد تؤمن بمذهب الفن للفن، ولن تجد كاتباً واحداً يوافق عليه إلا إذا كان من أنصار سارتر! وهو من هو في علم الفحشة والضلال، وإني لأشكر لأخي الأديب هديته، وأتمنى أن أقرأ له كثيراً. . في غير مجال الشعر المنثور

أنور الجندي

ص: 45

‌البَرِيدُ الأَدَبِي

حديث لا يستدل به

يقول الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين (الأهرام

27101952): (في سنن أبي داود من حديث عائشة أن أختها

أسماء دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب

رقاق، فأعرض عنها وقال: يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض

لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى وجهه وكفه).

قال الحافظ المنذري: فيه حديث منقطع وخالد بن دريك لم يدرك عائشة. وقال القرطبي: فيه انقطاع. وقال الكوثري: في سنده سعيد بن بشر وهو ضعيف، وفيه أيضا عنعنة بغض المدلسين. ولو صح لكان ترك عائشة العمل به علة قادحة تمنع من الأخذ به عند جمهور السلف، لأنه صح عنها تفسير (الأدناء) في الآية الكريمة، بإبداء عين واحدة وستر سائر الوجه، كما صح مثل ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني - وارث علوم علي ابن أبي طالب وابن مسعود، والذي كان يخضع لعلمه وفهمه مثل القاضي شريح الذي استمر على قضاء الكوفة ستين سنة من عهد عمر رضي الله عنهم. . ويقول عبيدة هذا أخذ جمهور السلف.

واحتج الأستاذ الأكبر بحديث في تفسير جرير. وليس كل خبر في تفسير الطبري بصحيح. فمن المقرر أن المؤلفين السالفين إذا رووا خبراً وذكرواً رجاله سقطت التبعة عنهم بذكر رواته. وعلى العلماء نقد رجاله والاحتجاج به إذا سلموا من الجرح، وطرحه ومنع الأخذ به إذا لم يسلموا من ذلك.

محمد محمد الحيدري

جلوب والجيش العربي وحرب فلسطين

اطلعت على الكلمة الأستاذ الفاضل عبد القادر رشيد الناصري المنشورة في البريد الأدبي

ص: 46

عدد 1005 من الرسالة الغراء، وبما أني أعتبر نفسي من جنود العرب الأحرار الذين شهد معركة فلسطين واطلعوا على مؤامرات جلوب، فإنني أرى من واجبي أن ألبي نداء الأستاذ الناصري وأعلق على كلمته بالكلمة التالية:

دأب الجنرال جلوب على الإدلاء بتصريحات عسكرية إلى المراسلين الأجانب فقط، وذلك لتضليل الرأي العالمي وطمس الحقيقة عن أعين الغرب. ولطالما زعم وافترى أن الجيش العربي كان قليل العدد ضعيف العدة، مع أن الجيش كان عشرة آلاف مقاتل، يملكون من الأسلحة والذخائر ما نريد على ما كان بحيازة الجيش اليهودي بأسره. والجنرال جلوب كقطب كبير من أقطاب الاستعمال في العالم العربي لا يجرؤ على ذكر العوامل التي دفعته إلى رفع علم الهجوم والسير في طليعة الجيش العربي عندما زحف إلى الرطبة وبغداد وطعن الجيش العراقي من الخلف عام 1941، في حين أنه قبع في قيادته بعمان وأحجم حتى عن زيارة جبهات القتال في معركة فلطين إلا بعد انتهاء الحرب وتوقيع الهدنة المشؤومة، ثم لا نسمع منه أبدا أي تعليق على الخسائر التي مني بها الجيش العربي الذي - بحسب ادعائه - تحمل العبء وحده، مع أن الحقيقة الثابتة أن 60 % من خسائر الجيش العربي وقعت في منطقة القدس التي كان لي شرف إدارة الحرب فيها بكتيبة واحدة بغير إرادة جلوب، مما أدى إلى انتصارنا على اليهود وحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية، في حين أن بين كتائب الجيش كلها لم تخسر سوى40 % من الإصابات، والسبب واضح جلي، وهو أن قادتها كانوا من الضباط الإنجليز الذين نفذوا أوامر جلوب ولم يشتركوا بكتائبهم في حرب جدية في أية معركة.

أما المدفعية التي يتحدث عنها جلوب في تصريحه، فقد كانت

قوية في الجيش العربي، ولم يكن لدى اليهود مدفع واحد حتى

وقوع الهدنة الأولى؛ غير أن هذه المدفعية كانت تحت قيادة

مساعدة (لاش) الذي حال دون اشتراكها معنا في المعركة

لاحتلال المناطق اليهودية من القدس الجديدة، مما أدى إلى

ص: 47

استنجاديباللواء مصطفى راغب قائد الجيش العراقي في

فلسطين فزارني في قيادتي بالقدس في 881948، ووعد

بتزويدي بالمدفعية اللازمة مع لواء مشاة كامل لاحتلال القدس

الجديدة، ولكنه لم يتمكن - لأسباب سياسة - من تحقيق وعده.

. فاستقال وعاد العراق.

ويتناسى جلوب مؤامراته التي كان يدبرها وينفذها (ميجر لوكث) ضد الجيش المصري في منطقة بيت لحم والخليل، وخطته الجهنمية للقضاء على القوات المصرية في الفلجة. إن لهذا القطب الاستعماري الحق في أن ينفذ أوامر حكومتهالصادرة إليه من لندن، ولكن الشيء العجيب حقا أن يخرج في عمان، وخاصة في الجيش العربي، بعد كل الذي وقع بسببه من كوارث في الماضي القريب!

عبد الله التل

حاكم القدس سابقاً

وعود الأمس. . ووعود اليوم

كم من وعود وعدها الفلاح في الماضي السنين، ولم يتحقق منها كثير ولا قليل!

كان نوابه يعدونه بمختلف الإصلاحات، ليظفروا بصوته، حتى إذا أخذوا مكانهم تحت قبة البرلمان لم يروه. . ولم يراهم!

وكانت الحكومات المتعاقبة، والوزارات المتتابعة، تعده بالكثير. . . فلطالما سمع أن الحكومة ستعمل على رفع مستوى المعيشة في القرى، والنهوض بالفلاح.

ولطالما سمع أن الحكومة ستعمل على تعميم مياه الشرب النقية في القرى. . . وأن الحكومةستعمل على تخفيف أعباء الضرائب عن كواهل الفلاحين!

وانقضت السنون والفلاح هو الفلاح. . والقرية هي القرية! الفلاح هو الفلاح، يعيش في

ص: 48

ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها.

والقرية هي القرية، أهملت مرفقها، وعاشت عيشة البؤس والحرمان.

وإذا بكل تلك الوعود وعود عرقوب!!

هذا في العهد البائد، أما في العهد الجديد فقد أفاق الفلاح على دعوة الحرية، فإذا بالحال غير الحال، وإذا بأرضه تعود إليه، فيعود معها الخير واليمن. . وإذا بالملاك الذين كانوا يمتصون دما يهوون من فوق عروشهم أذلة صاغرين!

لقد وجد الفلاح من ينصفه، ويرد إليه حقه المسلوب. . فما أبعد الفرق بين وعود اليوم ووعود الأمس، التي لم تكن إلا كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاء لم يجده شيئاً.

عيسى متولي

تعقيب

في (البريد الأدبي) للرسالة الغراء في العدد (1005) كتب صديقنا الشاعر البغدادي الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري كلمة يخطئ فيها لفظة (جرجر) في بيت الشاعر الأديب الفيتوري في قوله:

(نجرجر) خلفنا التاريخ أشلاءً وأكفاناً

ويشير إلى أن اللفظة تومئ إلى غير المعنى الذي أراده الأستاذ الفيتوري وهو الجذب والسحب؛ وإنما هي بمعنى الهدير يردده الفحل أو البعير. . الخ

وأقول: من المعلوم في نشوء اللغة وتطورها أن المفردات نشأت على هجاء واحد - أي على حرفين - محاكاة للطبيعة أوله متحرك وثانيه ساكن ثم جاء المصاعف الثلاثي والرباعي. وأنت تقول (صر) محاكاة لصوت صرار الليل. ولما كان الحرف الأخير على الوقف - أي ساكناً - لا يستبينه السامع بعد أو قرب؛ قلت: صر بتحريك الساكن الثاني في الأصل. ولما أردت أن تفهم السامع أن الصرار كان يكرر صوته ويرجعه ويردده مرة بعد مرة قلت: صرصر فأسكنت الراء الأولى على الأصل وضاعفت.

وعليه فلفظة (جرجر) في أصلها صحيحة على المعنى الذي أراده الشاعر وهو الجذب

ص: 49

والسحب أو بمعنى أصح الجر المتكرر المتثاقل الطويل المبعدة.

ويقول الأستاذ الناقد في قول الفيتوري:

لقد عدنا. أجل عدنا. . ولكن عودة (المقصور)(وقد فتشت القواميس فلم أجد معنى لكلمة (المقصور)، فما معناها يا أستاذ؟).

ص: 50

‌القَصَصُ

كل لنفسه

للقصصي الكبير اسكندر دوماس (الأب)

كان بالقرية فولى منذ سنوات فلاح فقير يدعى (جيوم مونا)

وكان هناك دب يسطو على بستانه كل ليلة فيصطفى من شجر الكمثرى ألذها طمعا وأكثرها عصيراً رغم أن هذا الحيوان يستسيغ كل شيء، فمن يشك إذن في أن هذا الحيوان له من حاسة الذوق ما للإنسان وإلا لما اختار هذا الصنف من الكمثرى التي غرم بها ذلك الفلاح الذي ظن بادئ الأمر أن ذلك من فعل الأطفال الذين يسطون على بستانه مما جعله يحشو غدراته بحبات كبيرة من ملح الطعام وينتظر هؤلاء الفتية.

وعند الساعة الحادية عشرة تقريبا سمع زئيراً يدوي في الجبل فقال لنفسه (آه. إن دباً غير بعيد).

وبعد عشر دقائق دوى عواء آخر قوي وقريب حتى ظن جيوم أنه لن يستطيع الرجوع أدراجه فانبسط على الأرض وليس لديه أمل إلا أن تكون الكمثرى هي مقصد الدب لا هو!

وظهر الدب فجأة في ركن الحديقة وتقدم نحو شجرة الكمثرى مارا على بعد عشر خطوات من جيوم ثم قفز على الشجرة فأنت من ثقله فروعها وأخذ يلتهم الثمار بشره حتى أنه لم زار هذه الشجرة مرتين أخريين لكانت الثالثة عبثا!

ولما بشم الدب هبط من الشجرة ببطيء كأنه يأسف لمفارقتها وعاد أدراجه مارا بصاحبه (الصياد) الذي لم تكن غدارته المحشوة ملحا لتغني عنه فتيلاً.

استغرق كل هذا حوالي الساعة ولكنها كانت طويلة جداً على الصياد كأنها عام في حين أنها مزت على الدب كأنها لحظة

ومع هذا فقد كان الرجل شجاعاً إذ أنه همس والدب يعود أدراجه (حسن، اذهب. ولكن هذا لن يمر هكذا بل سترى).

وفي اليوم التالي مر أحد الجيران فوجد جيوم منهمكاً في قطع أسنان مذراة حديدية فقال له:

ماذا تفعل؟

- أتسلى.

ص: 51

فأخذ الجار قطع الحديد وقلبها في يده وأخذ يفكر برهة ثم أردف:

- لو كنت صريحا يا جيوم لاعترفت لي بأن هذه الشظايا إنما تعدها لاختراق جلد أقوى من العنز البري.

- ربما.

فاستطرد فرنسوا (وهذا اسم ذلك الجار).

- أنت تعلم أنني نعم الفتى، فلو شئت أن يكون الدب لنا سويا، فإن اثنين خير من واحد.

- المسألة تتوقف على الظروف.

قال ذلك جيوم واستمر في قطع القطعة الثالثة.

- سأترك الجلد لك وحدك ولن نقتسم سوى الجائزة واللحم.

- إني أفضل الكل.

- ولكنك لن نستطيع أن تمنعني من أن أقتفي أثر الدب في الجبل ومن أن أكمن له في الطريق.

- أنت حر.

وانتهى جيوم من عمله وعمد إلى إعداد مقدار مضاعف من البارود.

فقال فرنسوا:

- كأنك ذاهب إلى ساحة القتال.

فلم يجب جيوم بل قال:

- ثلاث قطع من الحديد فيها ضمان أقوى من قطعة من الرصاص.

- ولكن ذلك يشوه الجلد.

- إنما فيها الموت الزؤام.

- ومتى تذهب للعمل؟

- غداً تعلم.

- مرة أخرى. . . ألا توافق؟

- كلا.

- أنذرك بأني سأقتفي أثره.

ص: 52

- هذا لا يضرني.

- لنا سوياً؟. . . قل!

- كل لنفسه،

- إلى اللقاء يا جيوم.

- أتمنى لك أسعد الظروف.

فانصرف الجار وهو يرى جيوم يحشو غدارته بالبارود وقطع الحديد.

وفي المساء وهو مار بالمنزل رأى جيوم جالساً على أحد المقاعد بالقرب من الباب وهو يدخن غليونه بهدوء. فذهب إليه ثانية وقال:

- لست آسفاً ولا مكتئباً. لقد وجدت آثار ذلك الحيوان فلم أعد في حاجة إليك مطلقاً. ومع ذلك فقد جئت أعرض عليك أن يكون لنا سوياً.

فقال جيوم بلهجة المصمم:

- كل لنفسه.

لم يستطع فرانسوا أن يعلم ماذا فعل جيوم بعد ذلك في تلك الليلة. ولكن امرأة هذا رأته في الساعة العاشرة والنصف يحمل غدارته وقد طرى تحت إبطه كيساً رمادياً، ولكنها لم تجرؤ أن تسأله إلى أين يذهب لأنه كان من الرجال الذين لا يفضون إلى نسائهم بشيء.

وأما فرنسوا من جهته فقد عثر حقيقة على الأثر الذي انتهى به إلى حديقة جيوم، ولما لم يكن له حق في أن يكمن على إحدى أشجار الحديقة فقد أخذ مكانه في غابة تقع بين منتصف سفح الجبل وحديقته جيوم.

ولما كانت الليلة قمراء فقد رأى فرانسوا جيوم وهو يخرج من بابه الخلفي، ثم تقدم إحدى الصخور الرمادية التي تدحرجت من الجبل، وكانت تبعد عن شجرة الكمثرى عشرين خطوة، ثم وقف وأدار طرفه ليرى ما إذا كان هناك من يراه ثم تناول الكيس ووقف بدخله بحيث لم يدع من جسمه خارجاً إلا رأسه وذراعيه. وارتكز على الصخرة فأصبح من غير المستطاع تمييزه عنه نظراً لاتحاد لون الصخر والكيس وثبات جيوم في موضعه.

مر من الساعة ربعها في انتظار الدب، وأخيراً أعلن مجيئه زئير متتابع وبعد خمس دقائق رآه فرانسوا.

ص: 53

لم يأخذ ذلك الحيوان طريقه العادي الذي سلكه بالأمس إما لدهائه وإما لأنه أحس بالصياد الآخر. وبدلا من أن يأتي عن شمال جيوم ارتسم لنفسه طريقاً منحنياً وأتى عن يمينه بحيث لا يمكن أن يصل إليه سلاح فرانسوا، ولكن على بعد خطوات من غدارة جيوم الذي ظل ساكناً حتى ليظن أنه لم ير ذلك الحيوان وهو يمر قريباً منه كأنه يتحداه. ويظهر أن الدب يشعر بعدوه إذ أن الريح كانت متجهة منه إليه ولذا استمر في طريقه نحو الشجرة.

ولم يكد يرتكز على رجليه الخلفيتين وقد حوط بهما الأماميتين ودفع بصدره إلى الأمام استعداداً للقفز حتى دوى في الوادي صوت هائل وسرى في الفضاء بارق من نار أعقبه أنين جرح مميت.

انقلب الدب راجعا ماراً على بعد خطوات من جيوم دون أن يراه فقد أدخل ذراعيه ورأسه داخل الكيس فاستتر في الصخرة من جديد.

كان هذا المنظر على مرأى من الجار الذي ركع على ركبتيه ويده اليسرى، قايضاً باليمنى على غدارته وقد اصفر لونه وهو يكتم أنفاسه وتمنى في ذلك الوقت لو كان نائماً في سريره بعيداً عن هذا الموقف.

كانت مفاجأة سيئة لفرانسوا حين رأى الدب الجريح بعد أن دار دورة طويلة قد أخذ سبيله عن يمينه حتى أسلم نفسه لبارئه، وتحقق من غدارته ليتأكد أنها محشوة. كأن الدب على بعد خمسين خطرة يئن من الألم ويقف ليدور برأسه فيعض على موضع الجرح ثم يتابع السير حتى صار على بعد ثلاثين خطوة.

ولكنه وقف فجأة وتنسم الريح التي تأتي من جهة القرية وزأر زئيرا مرعبا ثم قفز داخل البستان.

- خذ حذرك يا جيوم! احترس!

تفوه بها فرانسوا وهو يتبع الدب وقد نسي كل شيء إلا صديقه لأنه اعتقد تماماً أنه لن ينجو من الدب إذا لم يكن قد استطاع أن يحشو غدارته من جديد؛ ولكنه لم يكد يخطو خطوة واحدة حتى سمع صرخة ولكنها كانت صرخة آدمية، صرخة رعب، بل صرخة النزع الأخير. ثم تلتها صرخة استجمع فيها صاحبها كل ما بقي فيه من قوة ومن رجاء في الله:

ص: 54

(أدركوني!) لم يعقب ذلك أي صوت ولا تأوه.

لم ينكص فرانسوا على عقبيه؛ بل تقدم حتى اقترب من مصدر الصوت، فتبين له بوضوح ذلك الحيوان الهائل منكباً على جيوم يمزقه بمخالبه.

كان فرانسوا على بعد أربع خطوات منهما ولكن الدب كان ثائراً على عدوه لدرجه أنه لم يكترث لغيره. لم يجرؤ فرانسوا أن يطلق غدارته خوف أن تقتل جيوم إن كان لم يزل حياً. فالتقط حجرا وقذف به الدب.

فالتفت الدب نحو عدوه الجديد. لقد كانا متقاربين جداً، حتى أن الدب انحنى إلى الوراء استعداد للمهاجمة؛ ولكن بحركة آلية ضغط فرانسوا على الزناد فخرج الطلق الناري وانقلب الدب على ظهره لان الرصاصة قد اخترقت صدره وكسرت عموده الفقري.

تركه فرانسوا يتخبط في دمائه وأسرع إلى جيوم، فلم يجده بشرا ولا جثة؛ بل وجده عظاماً ولحماً ممزقاً قد التهم الدب رأسه بأكمله تقريباً.

رأى فرانسوا الانوار تتحرك وراء النوافذ فعلم أن كثيراً من فلاحي القرية قد استيقظوا فأخذ ينادي ويستغيث ويحدد المكان الذي هو فيه.

فخف إليه بعض الفلاحين بأسلحتهم وما لبثت القرية أن تجمعت بتمامها في حديقة جيوم، وكانت امرأته من بين الحاضرين

وقد كان المنظر رهيباً مرعباً إذ أخذ كل الحاضرين يبكون كالأطفال.

اكتتب أهالي المنطقة بأكملها لأرملة جيوم بملغ سبعمائة فرنك، وتنازل لها فرانسوا عن الجائزة وباع لحسابها جلد الدب ولحمه.

وأخيرا اقتنع الجميع بوجوب التعاون والتآزر!

ع. م

ص: 55