الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 101
- بتاريخ: 10 - 06 - 1935
ذكرى المولد
ذكرى مولد الرسول هي ذكرى قيامة الروح وولادة الحرية ونشور الخلق؛ فكأن مولده كان البعث الأول الذي طهر النفس وعمر الدنيا وقرر الحق للإنسان، كما أن البعث الأخير سيخلص الروح ويبتدئ الآخرة ويعلن الملك لله
كان العالم يومئذ يضطرب في رق المادة، وعبودية الشهوة، وسلطان القوة، فلم يكن للمثل الأعلى وجود في ذهنه، ولا للغرض النبيل أثر في سعيه، ولا للشعور الإنساني مجرى في حسه، ولا للسمو الإلهي معنى في نفسه؛ إنما كان حيواناً شهوته الغلب، مادياً غايته اللذة، أنانياً شريعته الهوى؛ ثم أسرف في البهيمية حتى جعل كل أنثى مباحة لكل ذكر، وفي المادية حيث اتخذ إلهه من خشب أو حجر، وفي الأنانية حتى قتل أولاده خشية الإملاق والضرر. فلما أتى النبي العربي فتح في غار حراء، باباً إلى السماء، تنزلت منه الملائكة والروح على هذا الهيكل المنحل والجسد المعتل، فنفخت فيه سر الحياة ومعنى الخلود وحقيقة الله. وحينئذ شعر سليل الأرض أن له أسباباً إلى السماوات رثت على طول غفلته، وأن له حياة خيراً من هذه الحياة استسّر علمها في جهالته؛ فتشوف إلى الأفق البعيد، واستشرق إلى السمت العالي، وأرسل نظره وراء النظر النبوي من فوق الجبل، في صمت حراء المفكر، وفي سكون الوادي الملهم، وفي غيابة الفضاء الرهيب، يفكر في الملكوت الدائم، ويسبح للجلال القائم، ويفنى في الوجود المطلق
كانت العقيدة قبل محمد أن تموت الروح أو يموت الجسم، وأن يحكم الله أو يحكم الإنسان، وأن يظهر الدين أو تظهر الدنيا، أما تقرير الصلة بين المعنى والذات، وبين المصباح والمشكاة، وبين الحياة الأولى والحياة الأخرى، وبين الإرادة السفلى والإرادة العليا، فذلك هو القصد الإلهي من رسالة محمد، والتنفيذ المحمدي لإرادة الله
وكان العالم قبل يوم محمد يرسف في عبودية عقلية تقتل التفكير، وعبودية جسمية تعقل التصرف؛ فلم يكن للأسرة نظام، ولا للقبيلة قانون، ولا للأمة دستور، ولا للعقيدة شريعة؛ إنما هو طغيان عاسف يتحكم في الفرد ويسيطر على الجماعة: فالأب يملك على بنيه الموت والحياة بحكم الطبيعة، والشيخ يفرض على عشيرته الأمر والنهي بمقتضى العرف، والملك يخضع نفوس الشعب باسم الدين، والكاهن ينسخ عقول الناس بقوة الجهل، والناس أجمعون عدا هؤلاء الأربعة أتباع وأوزاع وهمل
فلما بعث الرسول الكريم رحمة للعالمين بعث الحرية من قبرها، وأطلق العقول من أسرها، وجعل التنافس في الخير، والتعاون على البر، والتفاضل بالتقوى، ثم وصل بين القلوب بالمؤاخاة، وعدل بين الحقوق بالمساواة، ودخل بين النفوس بالمحبة، حتى شعر الضعيف أن جند الله قوته، والفقير أن بيت المال ثروته، والوحيد أن المؤمنين جميعاً اخوته؛ ثم محا الفروق بين أجناس الإنسان، وأزال الحدود بين مختلف الأوطان، فأصبحت الأرض كلها وطناً مشاعاً، والعالم كله أسرة متحدة، لا يهيمن على علائقها إلا الحب، ولا يقوم على مرافقها إلا الإنصاف، وليس فيها بين المرء وخليفته حجاب، ولا بين العبد وربه واسطة
يا رعى الله ذكراك المقدسة يا غار (ثور)! لقد كنت مبعث الحرية، كما كان غار (حراء) مبعث الروح! فأنت في جبل الخلاص وهو في جبل التجلي!!
وكان العالم قبل مولد محمد يعاني تفكك الخلق وتحلل الرجولة وتقلب الأثرة وتحكم السفاهة؛ فسطوة اليد تسرف على العدل، وعصبية الدم تبغي على الحق، وسلطان المال يجني على الإنسانية، وسورة الترف تتعدى على المروءة؛ فالتجارة بخس وتطفيف، والعهود نقض وتسويف، والناس يعيشون عيش الوحش، تنافر وتدابر واحتيال واغتيال وشهوة!! فلما ظهر البطل العظيم والإنسان الكامل كانت شمائله وأفعاله رسالة أخرى في الخلق: كان تطبيقاً لقوانين الدين بالمثل، وتعليماً لآداب النفس بالعمل، وتنظيماً لغرائز الحياة بالقدوة؛ ثم فعلت شخصيته ودعوته في نفوس رويت بالدماء، ونغلت بالعداء، وعاشت على الفرقة، فألفهم على المودة، وجمعهم على الوحدة، ثم جعل لهم من كتاب الله نوراً، ومن سنته دستوراً، ورمى بهم فساد الدنيا فأصلحوا الأرض، ومدنوا العالم، وهذبوا الناس
ذلك ما تلقيه ذكرى مولد الرسول في روع المؤمن العقول الذاكر! فليت شعري ماذا يجد في نفسه وفي قومه من روح محمد وحرية محمد وخلق محمد! ألسنا نعيش اليوم صوراً كقطع الشطرنج، وأتباعاً كعبيد الأرض، وهمجاً كهمج الجاهلية؟ وهل كان ذلك يكون لو أننا اتخذنا من أحكام الله منهاجاً، ومن كلام رسوله علاجاً، ومن حياة السابقين الأولين قدوة؟
إن ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام، وطغيان الحكام، وسلطان الجهالة، فما أجدر القلوب الواعية الحرة على اختلاف منازعها ومشارعها أن تخشع إجلالاً
لذكرى رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وداعية السلام والوئام والمحبة!
أحمد حسن الزيات
ورقة ورد
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
(وضعنا كتابنا (أوراق الورد) في نوع من الترسل لم يكن منه شيء في الأدب العربي على الطريقة التي كتبناها بها في المعاني التي أفردناه لها، وهو رسائل غرامية تطارحها شاعر فيلسوف وشاعرة فيلسوفة على ما بيناه في مقدمة الكتاب. وكانت قد ضاعت (ورقة ورد)، وهي رسالة كتبها ذلك العاشق إلى صديق له، يصف من أمره وأمر صاحبته، ويصور له فيها سحر الحب كما لمسه وكما تركه. وقد عثرنا عليها بعد طبع الكتاب فرأينا ألا تنفرد بها، وهي هذه:)
. . . كانت لها نفس شاعرة، من هذه النفوس العجيبة التي تأخذ الضدين بمعنى واحد أحياناً؛ فيسرها مرة أن تحزنها وتستدعي غضبها، ويحزنها مرة أن تسرها وتبلغ رضاها، كأن ليس في السرور ولا في الحزن معان من الأشياء ولكن من نفسها ومشيئتها
وكان خيالها مشبوباً، يلقي في كل شيء لمعان النور وانطفاءه؛ فالدنيا في خيالها كالسماء التي ألبسها الليل، ملئت بأشيائها مبعثرة مضيئة خافتةً كالنجوم
ولها شعور دقيق، يجعلها أحياناً من بلاغة حسها وإرهافه كأن فيها أكثر من عقلها؛ ويجعلها في بعض الأحيان من دقة هذا الحس واهتياجه كأنها بغير عقل
وهي ترى أسمى الفكر في بعض أحوالها ألا يكون لها فكر ألبته؛ فتترك من أمورها أشياء للمصادفة، كأنها واثقة أن الحظ بعض عشاقها. على أن لها ثلاثة أنواع من الذكاء، في عقلها وروحها وجسمها: فالذكاء في عقلها فهم، وفي روحها فتنة، وفي جسمها. . . خلاعة
وكنت أراها مرحة مستطارة مما تطرب وتتفاءل، حتى لأحسبها تود أن يخرج الكون من قوانينه ويطيش. . .؛ ثم أراها بعد متضورة مهمومة تحزن وتتشاءم، حتى لأظنها ستزيد الكون هماً ليس فيه!
وكانت على كل أحوالها المتنافرة - جميلة ظريفة، قد تمت لها الصورة التي تخلق الحب، والأسرار التي تبعث الفتنة، والسحر الذي يميز روحها بشخصيتها الفاتنة كما تتميز هي بوجهها الفاتن
وكان حبي إياها حريقاً من الحب. فمثّل لعينيك جسماً تناول جلده مس من لهب، فتسلّخ هذا
الجلد هنا وهناك من سلخ النار، وظهر فيه من آثار الحروق لهب يابس احمر كأنه عروق من الجمر انتشرت في هذا الجسم. إنك إن تمثلت هذا الوصف ثم نقلته من الجلد إلى الدم - كان هو حريق ذلك الحب في دمي!
والحب - إن كان حباً - لم يكن إلا عذاباً؛ فما هو إلا تقديم البرهان من العاشق على قوة فعل الحقيقة التي في المعشوق، ليس حال منه في عذابه، إلا وهي دليل على شيء منها في جبروتها
ولقد أيقنت أن الغرام إنما هو جنون شخصية المحب بشخصية محبوبه، فيسقط العالم وأحكامه ومذاهبه مما بين الشخصيتين، وينتفي الواقع الذي يجري الناس عليه، وتعود الحقائق لا تأتي من شيء في هذه الدنيا إلا بعد أن تمر على المحبوب لتجيء منه، ويصبح هذا الكون العظيم كأنه إطار في عين مجنون لا يحمل شيئاً إلا الصورة التي جنّ بها!
وتالله لكأن قانون الطبيعة يقضي ألا تحب المرأة رجلاً يسمى رجلاً، وألا تكون جديرة بمحبها، إلا إذا جرت بينهما أهوال من الغرام تتركها معه كأنها مأخوذة في الحرب. . . تلك الأهوال يمثلها الحيوان المتوحش عملاً جسمياً بالقتال على الأنثى، ثم ترق في الإنسان المتحضر فيمثلها عملاً قلبياً بالحب
أحببتها جهد الهوى حتى لا مزيد فيه ولا مطمع في مزيد، ولكن أسرار فتنتها استمرت تتعدد فتدفعني أن يكون حبي أشد من هذا؛ ولا أعرف كيف يمكن في الحب أشد من هذا؟
ولقد كنت في استغاثتي بها من الحب كالذي رأى نفسه في طريق السيل ففر إلى ربوة عالية في رأسها عقل لهذا السيل الأحمق، أو كالذي فاجأه البركان بجنونه وغلظته فهرب في رقة الماء وحلمه؛ ولا سيل ولا بركان إلا حرقتي بالهوى وارتماضي من الحب
أما والله إنه ليس العاشق هو العاشق، ولكن هي الطبيعة، هي الطبيعة في العاشق
هي الطبيعة، بجبروتها، وعسفها، وتعنتها. إذا استراح الناس جميعاً قالت للعاشق: إلا أنت. . .!
إذا عقل الناس جميعاً قالت في العاشق: إلا هذا. . .!
إذا برأت جراح الحياة كلها قالت: إلا جرح الحب. . .!
إذا تشابهت الهموم كالدمعة والدمعة، قالت: إلا هم العشق. . .!
إذا تغير الناس في الحالة بعد الحالة، قالت في الحبيب: إلا هو. . .!
إذا انكشف سر كل شيء، قالت: إلا المعشوق؛ إلا هذا المحجب بأسرار القلب. . .!
ولما رأيتها أول مرة ولمسني الحب لمسة ساحر، جلست إليها أتأملها وأحتسي من جمالها ذلك الضياء المسكر الذي تعربد له الروح عربدة كلها وقار ظاهر. . . فرأيتني يومئذ في حالة كغشية الوحي، فوقها الآدمية ساكنة، وتحتها تيار الملائكة يعّب ويجري
وكنت ألقي خواطر كثيرة، جعلت كل شيء منها ومما حولها يتكلم في نفسي، كأن الحياة قد ضاقت وازدحمت في ذلك الموضع الذي تجلس فيه، فما شيء يمر به إلى مسته فجعلته حياً يرتعش، حتى الكلمات
وشعرت أول ما شعرت أن الهواء الذي تتنفس فيه يرق رقة نسيم السحر، كأنما انخدع بها فحسب وجهها نور الفجر!
وأحسست في المكان قوة عجيبة في قدرتها على الجذب، جعلتني مبعثراً حول هذه الفتانة. كأنها محدودة بي من كل جهة
وخيل إلي أن النواميس الطبيعية قد اختلت في جسمي إما بزيادة وإما بنقص؛ فأنا لذلك أعظم أمامها مرة، وأصغر مرة
وظننت أن هذه الجميلة إن هي إلا صورة من الوجود النسائي الشاذ، وقع فيها تنقيح إلهي لتظهر للدنيا كيف كان جمال حواء في الجنة
ورأيت هذا الحسن الفاتن يشعرني بأنه فوق الحسن، لأنه فيها هي، وأنه فوق الجمال والنضرة والمرح، لأن الله وضعه في هذا السرور الحي المخلوق امرأة
والتمست في محاسنها عيباً، فبعد الجهد قلت مع الشاعر:
(إذا عبتها شبهتها البدر طالعاً. . .!)
ورأيتها تضحك الضحك المستحي؛ فيخرج من فمها الجميل كأنما هو شاعر أنه تجرأ على قانون. . .
وتبسم ابتسامات تقول كل منها للجالسين: أنظروها! أنظروها. . .!
ويغمرها ضحك العين والوجه والفم، وضحك الجسم أيضاً باهتزازه وترجرحه في حركات كأنما يبسم بعضها ويقهقه بعضها. . .
وتلقي نظرات جعل الله معها ذلك الإغضاء وذلك الحياء، ليضع شيئاً من الوقاية في هذه القوة النسوية، قوة تدمير القلب
وهي على ذلك متسامية في جمالها حتى لا يتكلم جسمها في وساوس النفس كلام اللحم والدم؛ وكأنه جسم ملائكي ليس له إلا الجلال طوعاً أو كرهاً
جسم كالمعبد، لا يعرف من جاءه أنه جاءه إلا ليبتهل ويخشع
وتطالعك من حيث تأملت فكرة الحياة المنسجمة على هذا الجسم، تطلب منك الفهم وهي لا تفهم أبداً؛ أي تريد الفهم الذي لا ينتهي؛ أي تطلب الحب الذي لا ينقطع
وهي أبداً في زينة حسنها كأنها عروس في معرض جلوتها؛ غير أن للعروس ساعة، ولها هي كل ساعة
أما ظرفها فيكاد يصيح تحت النظرات: أنا خائف، أنا خائف!
ووجهها تتغالب عليه الرزانة والخفة، لتقرأ فيه العين عقلها وقلبها
وهي مثل الشعر، تطرب القلب بالألم الذي يوجد في بعض السرور، وبالسرور الذي يحس في بعض الألم
وهي مثل الخمر، تحسب الشيطان مترقرقاً فيها بكل إغرائه!
وكلما تناولت أمامي شيئاً أو صنعت شيئاً خلقت معه شيئاً؛ أشياؤها لا تزيد بها الطبيعة، ولكن تزيد بها النفس
فيا كبداً طارت صدوعاً من الأسى. . .!
ورأيتني يومئذ في حالة كغشية الوحي، فوقها الآدمية ساكنة، وتحتها تيار الملائكة يعب ويجري
يا سحر الحب! تركتني أرى وجهها من بعد هو الوجه الذي تضحك به الدنيا وتعبس وتتغيظ وتتحامق أيضاً. . .
وجعلتني أرى تلك الابتسامة الجميلة هي أقوى حكومة في الأرض. . .!
وجعلتني يا سحر الحب؛ وجعلتني يا سحر الحب مجنوناً. . .!
(طبق الأصل)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
في الجبانة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قالت لي أمي - رحمها الله - مرة:
(ألا تنوي أن تزور أباك في هذا الموسم؟)
وكنا قد أوشكنا أن ندخل في رجب، وكانت حريصة على زيارة موتاها في كل موسم، بل في كل خميس وجمعة، لا تهمل منهم أحداً، فتطوف بهم جميعاً وتقرأ لهم الفواتح، ولا تأكل فاكهة جديدة حتى (تفرق) منها على قبورهم، وكان ذلك يثقل علي، ولكني كنت أكلها إلى رأيها فيه، إيثاراً لمرتضاتها
فقلت - بلهجة من ضاق صدره: - (كيف أزوره وهو ميت وأنا حي، وهو تحت الأرض وأنا فوقها، فلا يسمع مني ولا يراني ولا يحسني؟)
فقالت: (إني أراك مغتراً بالحياة ومعتزاً بها، ولا أستحسن لك هذا) ولم تزد، فأقصرت أنا أيضاً وقد شعرت أني آلمتها بسخافتي وحماقتي، وكرت الأيام، فما يقف الدهر، وماتت - كما يموت كل حي - فكان أوجع لي من موتها أنها ذهبت وهي موقنة أني لن أزور قبرها، وكأنما أردت أن أغالط نفسي فيما تحسه من الوخز والندم، فجعلت أزورها من حين إلى حين، ولكني كنت أتسلل كاللص، وأتخير أوقاتاً غير أوقات الزيارة المألوفة، فلا يعلم بذلك أحد، ولا يراني مخلوق، ثم كففت لأني أنكرت هذا كله من نفسي، وكبر علي أن أذهب إلى المقابر على رجلي، وقلت لنفسي:(إذا كان المراد بالزيارة الذكر، فإنها به أبداً بين العين والقلب، وإذا كان صحيحاً ما يقال من أن الميت يموت مرة أخرى كلما نسيه واحد من الأحياء، فإني لن أجني ميتة جديدة على أمي ما دمت حياً)
ولم يفتر ندمي مع ذلك، فظل دائراً في نفسي، فتشددت، وحملت نفسي على مكروهها، ومضيت إلى قبرها في ليلة سوداء - أعني مظلمة - وفتحت الباب ودخلت المقبرة وقلت (السلام عليكم) كأنما أردت أن أونس نفسي بصوتي في هذه الوحشة، فما راعني إلا صوت يقول:(وعليكم السلام! من تراك تكون؟)
فذعرت، وهممت بالجري، ولكني استحييت، فما يمكن أن يرد السلام غير حي، ولعله مسكين أوى إلى هذا المكان الموحش من الفاقة، وما أكثر من رأيتهم يفعلون ذلك! فما
خوفي من رجل يقول: (وعليكم السلام)؟؟ ولو كان امرءاً سوء لاستخفى، فتشجعت وأدرت عيني في المكان فلم تأخذ شيئاً في هذا السواد، فقلت:
(من عساك تكون أنت يا صاحبي؟)
فقال الصوت: (وما سؤالك هذا؟ لن تعرفني على كل حال. فإني قديم - قديم، ولكن تعال ساعدني واحتقب شكري)
فدنوت منه - أعني من مصدر الصوت - وسألت: (على أي شيء تريد أن أساعدك؟)
قال: (على حمل هذا الحجر - فقد وهن عظمي جداً)
قلت: (ولماذا تريد أن تحمله؟ دعه حيث هو، فإنه من حجارة المقبرة وليس لأحد أن يزحزحها عن مكانها أو ينقلها)
قال: (إنك معذور)
قلت: (كيف؟ ماذا تعني؟)
قال: (هذا قبري. وهذا من سواه - عليه اسمي مكتوباً. . . تستطيع أن تقرأه إذا شئت)
فكان من دواعي عجبي بعد ذلك أني لم أذعر ولم أول هارباً، بل أقبلت عليه أسأله وأستخبره فقال: (لقد هجرنا جميعاً هذه المقبرة المهملة - لم يبق لنا فيها مقام. وكيف المقام في قبور متهدمة؟؟ لقد كانت جديدة حسنة البناء يوم جئنا، وكان أهلنا - الباقون منا على قيد الحياة - يعنون بها ويرشون أرضها بالماء ويحملون إليها الزهر والرياحين، فكان نشرها يفوح ويتضوع، فإذا جن الليل خرجنا من القبور مسرورين وأقبلنا عليها نشمها وننعم بشذاها، وكان القراء يتلون على أجداثنا القرآن فيندى على قلوبنا وترف له نفوسنا ونحس أن عظامنا قد طريت. أما الآن. . .!؟ لا يا صاحبي، لم تعد هذه المقبرة صالحة للإقامة! وقد هجرناها، وجمع كل منا كفنه وحمل من له حجر حجره، ورحلنا، وكيف كان يسعنا غير ذلك؟ إنها لم تعد جبانة. . . هذه هي مساكن الأحياء أراها من مكاني هنا. . . فهل هذه مقبرة؟ لقد زحف الناس ببنائهم وغزوا أرضنا وجاروا علينا، وجاورونا، فبالله كيف نطيق جوارهم؟ كيف نحتمل لغطهم وضجاتهم التي لا تنتهي؟ ما عسى صبرنا على حركاتهم التي لا يعقبها سكون؟؟ لكأنا ما متنا ولا استرحنا إذن!؟ وأقول لك الحق لقد بدأنا نأسف على أنّا متنا. . . لا يا صاحبي، لم تبق هذه الأرض للموتى، ولم يعد ثم مفر من
الرحيل عنها. . . لقد تعبنا جداً هنا واضطررنا إلى ما لم يكن لنا في حساب. ومن لطف الله بنا أن هذه البلاد قليلة المطر، ومع ذلك كنا إذا أمطرت ينفذ إلينا الماء من سوء حال القبور، وتبتل أكفاننا فنضطر إلى الخروج وننشرها بين أيدينا أو على هذا السور حتى تجف وتعود صالحة للبس. وعلى ذكر ذلك أقول إني لا أدري ماذا جرى للدنيا؟ لقد كانت حفيدة لي مدفونة هنا، وكان عليها كفن من الحرير الغالي، فسرقه لص! تصور هذا؟ ولا أعلم هل سرقه واحد من الأحياء، أو تغفلتها ميتة أخرى وسرقته؟ فإن كان السارق من الموتى فلابد أن يكون من جيراننا فما في أسرتنا هذا السوء. وقد شكت إلي ما صارت إليه من العري، فلم أدر أول الأمر ماذا أصنع؟ وكيف أكسوها؟ وخطر لي أن أنتظر حتى يجيئنا ميت جديد، أو يموت ابنها فآخذ من كفنه لها، فإن الميت الجديد يلف في أكثر مما يحتاج إليه، ولكنه لم يمت مع الأسف، فلم أجد حيلة إلا أن أجعلها دقة بدقة، والبادئ أظلم، فذهبت أرتاد هذه الجبانة حتى رأيت كفناً من الحرير لا أشك في أنه الكفن المسروق، فجئتها بشق منه وتركت شقاً)
وضحك - أعني أنه أخرج صوتاً سألته عنه لأني حسبته كلاماً فقال إنه كان يضحك، فسرت في بدني رعدة، واستأذنته في الانصراف
فقال: (ألا تعينني؟ إن الحجر ثقيل، وأنا هرم، وقد فتر نشاطي من طول الرقاد)
فتناولت الحجر من ناحية، وتناوله من طرفه الآخر، ووضعناه معاً على ظهره، وذهب يخطو، وكانت عظامه تقرقع وهو يمشي، فلما بلغ الباب سألته:
(ألم يبق هنا أحد منكم؟)
قال: (لا. . . ماذا نصنع هنا؟ كلا ليبن فوقها الأحياء إذا شاءوا)
قلت: (وأين ذهبتم، فقد نحب أن نزوركم)
قال: (أين ذهبنا؟ وأين تنتظر أن نذهب؟ انتشرنا في فضاء الله، فإن أرضه ما زالت واسعة، ولن نعدم فيها منأى عن مساكن الأحياء. . . وعلى ذكر ذلك أسألك: ألستم تموتون في هذه الأيام؟)
قلت: (يا له من سؤال؟ كيف لا نموت؟)
قال: لماذا إذن هذا الزحف علينا كأن الدنيا تضيق بكم وكأنكم تزيدون ولا تنقصون؟ لماذا
لا يكفيكم ما كان يكفينا؟ كل الجبانات المشهورة صارت أحياء عامرة بالسكان فكيف هذا؟)
فسألته: (وجلا عنها الموتى؟)
قال: (بالطبع! وهل يمكن أن يحتملوا الناس؟ إذن لماذا ماتوا؟)
قلت: (هل تفزعكم الحياة إلى هذا الحد؟)
قال: (كما يفزعكم الموت - كلا. لا يطيق الحياة من نجا منها. . . والآن عم مساء يا صاحبي! هل لك في مرافقتي؟ لا؟ لا بأس! كل شيء مرهون بوقته. . .)
فلم أطلق أكثر من ذلك، وخرجت من الجبانة أعدوا. . .
إبراهيم عبد القادر المازني
3 - لوكريسيا بورجيا
صور من عصر الأحياء
للأستاذ محمد عبد الله عنان
وينكر بعض الباحثين المحدثين هذه الروايات المثيرة، ولا يرون فيها سوى حديث خرافة أو على الأقل أحاديث مغرقة لا تؤيدها أدلة مقنعة؛ ويستبعدون بالأخص أن تمثل لوكريسيا بورجيا في مثل هذه الحفلات العاصفة الشائنة إلى جانب أبيها وأخيها
ولكن الرأي الغالب يميل إلى الاتهام؛ ويرى في أقوال بوركارت ما يؤيد تهمة مخزية أخرى تنسب إلى لوكريسيا هي عشرة المحرم التي أشرنا إليها؛ والتي تزعم أنها كانت خليلة أبيها، خليلة اخوتها
وإليك واقعة خطيرة يستشهد بها الاتهام. في أول سبتمبر سنة 1501، أصدر البابا اسكندر السادس مرسومين مازالا يحفظان حتى اليوم في محفوظات مودينا؛ في أولهما يعلن البابا بأن أبنه شيزاري قد رزق غلاماً غير شرعي يدعى جوفاني في نحو الثالثة من عمره، وأنه يبرئه من عيب هذا المولد غير الشرعي، ويباركه ويعتبره أبناً شرعياً لولده شيزاري، يتمتع بكل حقوق الوراثة الشرعية، وينعم عليه بلقب دوق نيبي؛ وفي المرسوم الثاني يقرر البابا، أنه وإن كان يبرئ هذا الغلام ويرفعه إلى مرتبة الولد الشرعي، فإنه يقرر بأن عيب هذا المولد لا يرجع إلى ولده شيزاري بل يرجع إليه هو (أي البابا) وسيدة حرة (من قيود الزواج)، وإن كان ما يؤول إليه من الحقوق والمزايا طبقاً للمرسوم السابق يؤول إليه أيضاً بصفته ولد البابا وليس ولد ولده شيزاري؛ أو بعبارة أخرى يعترف البابا في هذا المرسوم بأن هذا الطفل هو ولده وثمرة غرامه
فمن هي أم هذا الطفل (الروماني)؟ ومن هي هذه السيدة الحرة، حظية البابا أو حظية ولده شيزاري أو حظيتهما معاً؟
يقول المؤرخ الكبير أميل جبهارت في الرد على ذلك: إن مولد هذا الغلام الروماني (جوفاني) الذي تولت لوكريسيا فيما بعد، حين غدت دوقة فيرارا تربيته، باعتباره أخيها، هو اشد ما في حياة اسكندر السادس وحياة شيزاري غموضاً وإيلاماً. والواقع أن لوكريسيا قد وضعت في سنة 1498 ولداً يتفق مولده بالضبط مع تفاصيل المرسومين البابويين،
وتوجد مراسيم أخرى في محفوظات الفاتيكان تنسب هذا الولد إلى شيزاري. يقول جبهارت، فهذا الاعتراف المزدوج بالأبوة، وهذا التناقض، مما يسمح لنا بالإشارة إلى عناصر هذه المسألة المحزنة دون أن نحاول بسطها
وبعبارة أخرى يرى جبهارت أن هذا الغلام هو ولد اسكندر السادس من أبنته لوكريسيا، أو ولد شيزاري من أخته؛ وأن ما كان ينسبه جان سفورزا إلى زوجته عندئذ من أنها كانت خليلة أبيها، خليلة أخيها، إنما هو حق صراح
بيد أن العلامة فوك برنتانو يعترض على هذا الإيضاح بشدة، ويقول أن بوركارت الذي يعني في مذكراته بكل ما يتصل بالفضائح البابوية وبالأخص بفضائح لوكريسيا لا يشير إلى مولد هذا الغلام بشيء؛ وليس معقولاً أن تعنى لوكريسيا بتربية غلام غير شرعي ينسب إليها في بلاط زوجها دوق فيرارا، وهو أمير رفيع الجلال والكرامة؛ وكيف تفعل ذلك، وقد تركت ولدها الشرعي رودريجو لعناية جده؟ ويرى هذا العلامة أن مصدر الشنائع كلها هم سفراء البندقية لدى الفاتيكان، وقد كانت مهمتهم الحقيقية أن يشهروا بإسكندر السادس وأسرته وكل ما يتصل بها
ويرى بعض الرواة المعاصرين أن هذا الغلام إنما هو ولد البابا من خليلته جوليا فارنيسي؛ ويرى آخرون أنه ولد لوكريسيا من وصيف البابا المدعو بيروتو، وقد عاقبه البابا بأن زجه إلى ظلام السجن
وعلى أي حال، فإن في هذه الروايات والشواهد كلها، ما يسبغ أشد الريب على خلال لوكريسيا بورجيا؛ تلك الفتاة الطروب الفاتنة، التي كانت تخوض بلا انقطاع حياة فياضة بالفتنة والغواية، والتي كان جمالها الساحر يثير حولها ضراماً من الشهوات الخطرة؛ وما يسبغ اشد الريب على علائقها بأبيها الحبر الفاسق الذي يسحق تحت قدميه كل مبادئ الأخلاق والحشمة، وأخيها الطاغية الذي كانت الجريمة وسيلته الوحيدة إلى كل غاية
ننتقل الآن إلى صفحة جديد وفي حياة لوكريسيا بورجيا
لم يكد يزهق زوجها الثاني الفونسو دي بزيليا، حتى وضع مشروع جديد بزواجها. وكان المرشح هذه المرة الفونسو ديستي ولد دوق فيرارا وولي عهده؛ وكان الترشيح لنفس البواعث السياسية التي ما زالت تملي على اسكندر السادس وشيزاري تلك المشاريع
الزوجية المتعاقبة. وقد تردد الدوق وولده في قبول هذه المصاهرة بادئ بدء لما يعلمانه من غدر البابا وولده، وما توصم به لوكريسيا من شنيع التهم؛ ولكن سفراء فيرارا قدموا عن لوكريسيا تقارير حسنة وصفت فيها بالحشمة والتواضع والتحفظ وبأنها ضحوك يغلب عليها المرح. وتمت الصفقة على أن يدفع البابا لابنته مهراً قدره أربعون ألف دوقة، وأن يتنازل لدوق فيرارا عن بعض الحصون والجهات، وأن يخفظ إتاوته للكنيسة إلى أدنى حد. وتم العقد في فيرارا في أول سبتمبر سنة 1501؛ وفي اليوم الخامس احتفل البابا بإشهار زواج ابنته في كنيسة القديس بطرس احتفالاً شائقاً
وفي أواخر ديسمبر قدم وفد حافل من أمراء فيرارا وأعيانها وعلى رأسه فرديناند ديستي أخو الزوج لينوب عنه في استقدام زوجه، وشهدت رومة مدى أيام سلسلة من الحفلات والمأدب الباذخ والليالي الساطعة المرحة؛ وفي السادس من يناير (سنة 1502) أجريت مراسيم الوداع؛ وغادرت لوكريسيا رومة في ركب فخم من الأمراء والفرسان إلى وطنها الجديد فيرارا فوصلت إليها في الثاني من فبراير بعد رحلة باهرة، واستقبلت بأعظم مظاهر الفخامة والتكريم
وكان مقامها الجديد في قصر قاتم موحش لا يتناسب مع مقامها الفخم في رومة، ولكنها اعتادت حياتها الجديدة بسرعة، وعاشت في هدوء وبساطة، ولم تفقد شيئاً من مرحها وبهجتها؛ وكان هذا المرح الفياض يسحر أهل فيرارا ويجذبهم إليها، وكان زوجها الفونسو ديستي فتى متين الخلق والخلال كثير الخطورة والجد، يؤثر الاهتمام بالشؤون الحربية، ولكن رقيق الشمائل وافر الثقافة، يعشق الفن ويحميه؛ وكانت لوكريسيا تعيش معه في وفاق، يحيط بها حب الأسرة الجديدة واحترامها
بيد أن هذه الحياة الهادئة كانت تكدرها عن بعد مشاريع شيزاري وأعماله؛ وكان شيزاري يومئذ يخترق أواسط إيطاليا بجيشه، ويمزق العدو والصديق معاً، ويحاول بتلك الوسائل الدموية الغادرة، التي أثارت إعجاب مكيافيللي وجعلته يعتبر شيزاري مثله الأعلى للأمير البارع - أن ينشئ مملكة رومانية كبرى؛ وكانت لوكريسيا تقاسي في عزلتها من التبعة المعنوية التي تلحقها من جراء هذه المشاريع والأعمال المثيرة
ثم نزل بها مصاب فادح، ذلك أن ولدها رودريجو الذي كان يربى في بابل في أسرة أبيه،
توفي في الثالثة من عمره (أغسطس سنة 1502) فحزنت عليه أيما حزن، وأثر الحزن في هيكلها الدقيق، فلزمت فراشها مدى حين وجداً وأسى؛ ولكنها لقيت من عطف زوجها ووفائه في محنتها ما خفف لوعة وجدها وعاونها على استكمال صحتها
وهنا يحمل بعض المؤرخين على لوكريسيا، ويتهمونها بالقسوة والنذالة لأنها لم تعن بتربية ولدها بنفسها في حين أنها عنيت بتربية (الطفل الروماني) الذي أشرنا إلى قصته
وكانت لوكريسيا في تلك الفترة تعنى بالقراءة؛ ولم تلق في فيرارا شيئاً من تلك الحفلات المرحة التي كانت كل حياتها في الفاتيكان، بيد أنها كانت قد عافت هذه الدنيا الصاخبة، وارتاحت إلى حياة العزلة والسكينة
ولم يمض عام آخر حتى فقدت لوكريسيا أباها اسكندر السادس؛ وكانت وفاته في 18 أغسطس سنة 1503 في سن الثالثة والسبعين
ويصف لنا المؤرخ جيشاردينو وقع وفاته في روما فيما يأتي: (هرعت روما بأسرها، وقد غمرها فرح لا يوصف، إلى كنيسة القديس بطرس، تتأمل ذلك الميت؛ ذلك الشيطان الذي يضطرم طمعاً ويفيض غدراً؛ ذلك الذي سمعت قسوته الوحشية، وفجوره المروع، وجشعه، وجرأته المثيرة في إدارة الشؤون المدنية والدينية، جو العالم كله)
ووقع النبأ كالصاعقة على لوكريسيا. ذلك أنها كانت تحب أباها رغم رذائله وآثامه، حباً جما؛ وكانت تشعر بأن هذا الحنان الفياض الذي كان يغدقه عليها دائماً، هو ملاذ حياتها وعزها، فغمرها الحزن مدى حين. ولكن زوجها وأسرته استقبلا النبأ بارتياح؛ ولم تر لوكريسيا أباها مذ غادرت رومة عقب زواجها، لأن زوجها كان يأبى دائماً أن تزور رومة أو يزورها أبوها في فيرارا
وقد كانت وفاة اسكندر السادس خاتمة ذلك السلطان إلى تبوأ آل بورجيا في إيطاليا مدة ثلاثة عشر عاماً، وكان نكبة حقه لولده شيزاري. ذلك أن مشاريعه انهارت في الغداة كانهيار قصر أسس على الرمال أن فقد ذلك العضد القوي الذي كان مصدر كل قوته وبطشه؛ فالتجأ إلى جونزالفو دي كردوفا قائد الجيوش الإسبانية في نابل، ولكنه اعتقله وسلمه إلى ملك إسبانيا فردياند الكاثوليكي؛ فزجه إلى السجن معتزماً أن يحاكمه على جرائمه التي أصابت كثيراً من أفراد أسرته؛ ولكن شيزاري استطاع أن يفر من سجنه بعد
خطوب جمة، وان يلتجئ إلى حمية ملك نافار؛ وهناك جرح في إحدى المعارك، وتوفي في سنة 1507؛ واختتمت بذلك حياته المدهشة التي اتخذها الفيلسوف ماكيافيللي مادة لشرح كثير من آرائه من خلال (الأمير) الأمثل
في يناير سنة 1505 توفي هرقل ديستي دوق فيرارا، فخلفه ابنه الفونسو في الحكم، وغدت لوكريسيا بورجيا دوقة فيرارا
وكانت فيرارا تجمع في ذلك العهد طائفة من أكابر الكتاب والشعراء والفنانين بظلهم الدوق برعايته، أسوة بباقي القصور والعواصم الإيطالية الزاهرة؛ وكان ذلك السحر الذي تنفثه لوكريسيا أينما حلت يجذب إليها هذه الصفوة، فتجتمع حولها في ذلك البلاط الزاهر؛ وتشملهم الدوقة المستنيرة النابهة بعطفها وحمايتها
وكان من هؤلاء الشاعر الشيخ شتروتسي وولده هرقل شتروتسي وهو شاعر أيضاً، وأنتونيو تبالديو، وكالكانيني؛ ونيكوليو كوريجيو وهو من اعظم شعراء العصر؛ وجاكوبو كافيشيو أسقف فيرارا، وهو كاتب قاص؛ ثم الشاعرين الفتيين لاريوستي وبيتروبمبو
وكانت هذه الصفوة المفكرة تتغنى بسحر الدوقة الحسناء وتشيد بخلالها ومواهبها في نثرها وشعرها؛ وتهدي إليها كتبها وقصائدها. ومما يذكر أن شتروتسي الشيخ وصفها في بعض قصائده بأنها (مجمع عجائب الأرض والسماء كلها، وليس يوجد لها نظير في العالم كله)
وكانت لوكريسيا تبادلهم القريض أحياناً، وتنظم باللاتينية قصائد ساحرة، فتذكى بذلك إعجابهم وهممهم
بيد أن هذا الجو الأدبي الزاهر كانت تكدره سحب الريب والظنون، وكان اشد أولئك الشعراء تأثراً بسحر لوكريسيا بيتروبمبو؛ وكان بمبو من سادة البندقية، فتى جميلاً، بديع الخلال والمواهب، بارعاً في التاريخ والشعر، وكان من شعراء بلاط فيرارا، ومن أخصاء الدوق، يضطرم نحو الدوقة الحسناء إعجاباً وحباً؛ وكان يوجه إليها كثيراً من الرسائل والقصائد في مختلف المناسبات؛ ومن ذلك تلك القصيدة التي نظمها باللاتينية للإشادة بمعبودته
إلى لوكريسيا بورجيا
(أيتها الحسناء، أنت أجمل من أوربا، أنت ابنة ملك آجنور، ولست مثل هيلانة الإسبارطية
التي اختطفها باريس التروادي، تسمحين لجمالك أن يطغى على عبقريتك. وإذا قلت الشعر بالإيطالية فأنت ابنة الأرض الإيطالية. وإذا تناولت القلم لتكتبي القريض بنفسك، فإنه لقريض يجدر بوحي الشاعر؛ وإذا راق لك أن تهزي أوتار القيثارة، فإن أمواج نهر بو ترتجف في مجراها سحراً من غنائك، وإذا راق لك أن تستسلمي إلى الرقص بقدمك الطائر، فآه! إني لأخشى أن تلفتي نظر إله ما، فيأتي لاختطافك من قصرك، ويحملك إلى السماء، ويجعل منك أيتها الحسناء الرائعة، إلهة كوكب جديد)
كان بمبو يشعر نحو لوكريسيا بأكثر من الإعجاب والحب، كان يشعر نحوها بهيام مبرح؛ وكان هذا الهيام يبدو في قصائده ورسائله مع شيء من التحفظ تمليه عليه الظروف واتقاء الريب. ذلك أن الفونسو ديستي كان أميراً صارماً عنيف الأهواء، وكان يحب زوجه، وإن لم تكن كل شيء في حياته الغرامية؛ وكان يحيط الدوقة بسياج منيع من غيرته وصرامته، ويرد العواطف المتوثبة إلى سحرها وجمالها في مهادها
بيد أن الروايات المعاصرة تقول إن لوكريسيا كانت تقابل حب بمبو بمثله، وأن علائقهما الغرامية اتصلت مدى حين أثناء إقامة الشاعر في فيرارا حتى سنة 1506؛ وقد كان طبيعياً أن يتفتح قلب لوكريسيا في مثل هذه الظروف؛ فقد كان الفونسو ديستي مشغولاً عن حب زوجه بمشاريعه السياسية والعسكرية، وكانت لوكريسيا تتأثر بجمال الشاعر ورقة شمائله وفيض هيامه؛ وكانت تبادله الرسائل؛ وما زالت رسالة منها تحفظ في مكتبة امبرواز بميلان ومعها خصلة من شعرها، ذلك الشعر الذهبي الأشقر الذي كان يبث من حولها النور والسحر. وقد كانت نفحة الوداع. ذلك أن بمبو رأى أن يغادر فيرارا فجأة (سنة 1506) بعد أن أقام بها ثلاثة أعوام؛ وقد كان ذهابه نوعاً من الفرار، ولعله كان اتقاء لريب الدوق وبطشه، وربما رأى المحبان أن الفراق خير وسيلة للسلامة من عواقب غرام خطر
ولقد لبث بمبو يكاتب معبودة قلبه من أوربينو مقامه الجديد حتى وفاته في سنة 1519. وهناك من يرى أن علائق لوكريسيا بالشاعر لم تتعد الصداقة الحميمة، وأن هيامه بها لم يكن سوى نوع من عبادة الجمال والحب الفلسفي
ولا ريب أن بمبو كان فتى حريصاً فطناً حين خشي نقمة الدوق. ذلك أن زميله الشاعر الفتى شتروتسي وجد ذات يوم قتيلاً مخضباً بدمائه (يونيه سنة 1508). وطارت الإشاعة
في الحال بأنه ذهب ضحية لغيرة الدوق وبطشه، ذلك أنه كان يهيم بالدوقة، ويشيد بجمالها في شعره دون تحفظ. ولكن رواية أخرى تقول إن لوكريسيا لم يكن لها في تلك المأساة شأن، وأن الدوق كان يهوي فتاة حسناء هي بربارة توريللي، وقد تزوجت من شتروتسي، فقرر الدوق موته لكي يزيله من طريق هواه
وعلى أي حال فإن الرواية تقرن اسم لوكريسيا بكثير من مآسي الحب الخفية التي وقعت يومئذ ببلاط فيرارا.
للبحث بقية
محمد عبد الله عنان المحامي
استدراك وتصويب
قرأت في العدد 99 من (الرسالة الغراء) مقال الأستاذ المغربي (بين الفقه الإسلامي والروماني) فرأيته تلطف في الرد على الخواجه ميشيل عند قوله:
(إن أبا حنيفة لم يعترف إلا بسبعة عشر حديثاً) وهي غلطة ظاهرة لا يسوغ لأحد أن يغتر بها، لأن روايات أبي حنيفة على تشدده في شروط الصحة لم تكن سبعة عشر حديثاً فحسب بل أحاديثه في سبعة عشر جزءاً يسمى كل منها بمسند أبي حنيفة، وقد خرجها جماعة من الحفاظ بأسانيدهم إلى الإمام ما بين مقل منهم ومكثر حسبما بلغ إليهم من الأحاديث التي يرويها، وليس بين تلك الأجزاء جزء أصغر من سنن الإمام الشافعي رواية الطحاوي ولا من مسند الشافعي رواية أبي العباس الأصم اللذين عليهما مدار أحاديث الإمام الشافعي. وقد عنى أهل العلم بتلك المسانيد جمعاً وتلخيصاً وتخريجاً وقراءة وسماعاً ورواية؛ فهذا الشيخ محدث الديار المصرية الحافظ محمد بن يوسف الصالحي صاحب الكتب الجليلة في السير وغيرها يروي تلك المسانيد السبعة عشر عن مشايخه ما بين قراءة وسماع ومشافهة وكتابة بأسانيدهم إلى مخرجيها، وذلك في كتابه (عقد الجمان). وكذا يرويها بطرق كثيرة محدث الديار الشامية الحافظ شمس الدين بن طولون في (الفهرست الأوسط) عن شيوخه سماعاً وقراءة ومشافهة وكتابة بأسانيدهم كذلك إلى مخرجيها، وذانك الحافظان هما زينا القطرين في القرن العاشر الهجري، وكذلك حملة الرواية إلى قرننا هذا ممن لهم عناية بالسنة. وما تلك المسانيد والكتب ببعيدة عن متناول أهل العلم، بل بعضها مطبوع في الهند. . . إلى غير ذلك مما تراه مفصلاً في (شروط الأئمة الخمسة للحازمي المطبوع سنة 1346)
أبو أسامة
هراقليوس في المعبد
البطل
للأستاذ معروف الارناءوط
كاتب (سيد قريش) وصاحب (فتى العرب)
تتمة المنشور في العدد الماضي
كان معبد القديسة هيلانة غارقاً في الصمت، فليس في نواحيه أثر من صلاة، ولا تنير محارمه ومناسكه هذه الشموع الكثيرة التي تنير أروقة كنيسة القبر المقدس؛ وقد جفاه المرتلون والعازفون، فما يسمع هراقليوس في عزلته صوتاً يحرك في نفسه شعور التقي والورع، بل ليس في هذا الرمس الذي انحدر إليه، قسيس يطمئن إلى لباسه أو يستريح إلى إرشاده ونصحه، ولو كان هنالك تقي لخف إليه وسأله أن يترع نفسه بالعزاء الذي يحبه ويشتاقه
ثم عاف هراقليوس الهيكل وأقبل على الجدر يتجسسها ويتفحصها ويستند إليها، وهو يحاول الخروج من المعبد؛ وأنه ليمشي في لين ورفق حذر السقوط إذ صافحت عيناه نزلة أخرى صورة ذلك الأعمى، فوقف ينظر إليها على ذلك النور الضعيف الذي يرسله القمر من صدوع في القبة الفيحاء، فلما حدق إليه ارتد به الخاطر في خفة الوميض إلى الحياة (موريس) التعس الذي سوغ الظالم (فوكاس) قتله مع بنيه في ليلة من ليالي الخريف الحافزة. وقد كان (موريس) قيصر الرومان وسيد هذه الدنيا طولا وعرضا، فألب (فوكاس) عليه الغوغاء وهاجمه وهو نائم في قصره، ففر إلى جزيرة (انتيغون) على الساحل الهادئ في بحر (مرارا) ولحق به بنوه وصحبه، فما تريث الطاغية (فوكاس) في اللحاق به حتى أدركه وقتله شر قتلة بعد أن غمس يده في دماء بنيه الخمسة، ولم يفلت من هذا الموت الكريه غير فتى صغير اسمه (كريستيا)، وغير فتاة صغيرة اسمها:(سافو) ومعهما تلك الإمبراطورة التعسة (تيوفانو)، ثم ثار الشعب على (فوكاس) الذي لبس التاج، وكان (هراقليوس) زعيم هذه الثورة وبطلها، وكان شعاره وشعار الثائرين الذين صحبوه إلى قصر الطاغية اسم الصغير:(كريستيا)، وكان ينبغي لهراقليوس بعد ظفره بالقاتل السفاح أن يضع على رأس الفتى تاج أبيه. فما فعل إرضاءً لمطامعه ونزواته، ثم كان من أمر (كريستيا) أن توارى عن الناس خشية أن يفتك به أنصار هرقليوس، وطويت الأحاديث عنه وما عاد رفاق أبيه يذكرون من أمره وأمر أخته وأمه شيئاً!
لقد كانت خيالة الفتى الأعمى في الصورة المائلة تشبه خيالة كريستيا، فهتف هرقليوس
وهو ينظر إليها: (كريستيا! كريستيا!) ثم وضع يده على عينيه كأنما هو يحاذر أن لا ينظر إلى الصورة نزلة أخرى، ولكن الذكريات المؤلمة التي تعاورت نفسه في المعبد المقدس، ظلت على عنفوانها وعنفها، فما كان يستطيع أن يفلت منها، ثم زحمته هذه الذكر الطاغية وانقلبت به إلى تلك الليلة الصادرة التي ابتعث فيها بعض رجاله على الذهاب إلى (نيكوميديا) تحت الودق المنهمر، فذهبوا وبعد قليل عادوا ومعهم فتاة حسناء احبها قيصر حتى شغفه حبها، ثم جاءوا بضحيتهم إلى القصر والقوا بها إلى سرير في غرفة ينام فيها هراقليوس وعلى حوائطها صور الصالحين والرسل!
لقد ناشدته تلك الفتاة انتصاراته لعله يستبقي عفافها فلا يدنسه، فلما لم تنجح في استمالته أو مضت بيدها إلى صور الصالحين والرسل، وسألته بحق هؤلاء ألا يعبث بطهارة فتاة يتيمة كان أبوها من احسن المنافحين الذائدين عن حياض النصرانية، فما أمالته ذكريات انتصاراته عن أهوائه، ولا ثنته صور الصالحين والرسل عن منازعه، فراح يحتبس الفتاة العانية بين ذراعيه المشبوبتين غير ذاكراً فضل أبيها النبيغ البطل في تأثيل انتصاراته وتوثيق غاراته!
اسم هذه الفتاة (بليتزا) واسم أبيها الغطريف (تيوفان)، ذكر هراقيليوس هذا كله فيئس وابتأس وترجف ورعد، ورأى إلى كوارث حياته كأنها تجتمع في حضيض البيعة الصغيرة، فأدرك وهو الذكي الألمعي لماذا لم تستقبله الأماكن الطاهرة بمثل تلك الحماسة البالغة التي لقيها في معابد الوثنية، فصاح صيحة أليمة وخرج على شفتيه اسم (بليتزا)، فردد هذا الاسم فضاء المعبد الساكن! وراح الرجل الذي دخل بيت المقدس في حاشية من بطاريق الجيش وبطاريق الكنيسة يغمس يده في صدره، فيمزق ثوبه القيصري ويرمي بدرره وذهبه إلى حضيض المعبد، وشفتاه تتحركان بذلك الاسم الذي ما كان يفكر فيه قبل هذه الليلة:
بليتزا، بليتزا!
كان هذا الاسم أول ألحان هراقليوس في الأماكن الطاهرة، ولكن هذا اللحن الشجي لم يلبث أن استحال إلى نواح مذيب، فجعل الرجل المنتصر على الوثنية ينشج ويده تتجسس العمد الرخامية، ثم جلس على الأرض ووارى عينيه حتى لا يرى إلى هذه الصور!
ولما فتح عينه وردد نظراته في الجدار القائم إلى يساره أخذته صورة جديدة لم ينظر إليها من قبل فحدق فيها على زهده في الصور وابتعثته هواجسه الثائرة على الوقوف حيالها وفمه لا يزال ندياً بذلك الاسم الذي ألقى به إلى جوف الكنيسة الكبرى ثم ترعد وترجف وانفلت من صدره صياح اليم وارتد القهقري مسفوعاً عانياً، وأخذت الصورة التي أبصرها قائمة إلى يساره تتحرك وتهتز. ثم جفت الجدار ومشى ناسها في صف واحد إلى ناحية هراقليوس، فكان كلما تراجع أمام أشباحها أخذته هذه الأشباح أخذ عزيز مقتدر ومنعته أن يشق طريقه!
فأي صورة هذه؟ وكيف قدر لأشباحها أن تترك مكانها على الحائط لتمشي في حضيض المعبد كما يمشي الناس، وتنظر بعيون فيها من وميض الحياة وإشراقها ما في عيون الأحياء من وميض وإشراق!
ولما أوشكت هذه الطيوف الخرساء أن تزحمه حدق فيها عن كثب فإذا هي أربعة أشباح أحدها مشوه الخلقة، محمر الصدر، تضطرب في وجهه عينان غائرتان وإلى جانب هذا الشبح ثلاث نساء، فيهن امرأة عمياء على وجهها الصبيح شيء كثير من النعماء، وكانت العمياء تلبس السواد، وقد سدرت شعرها الأشقر على كتفيها وراحت تستند إلى ذراعي فتاة ما تزال حديثة عهد بالحياة، فما قدر هراقليوس أن يتعرف إلى خيال المرأة الثالثة، فصدف عنه وتهافت على العمياء ينظر إليها في خوف وإشفاق، واخذ فمه يردد اسم (بليتزا) بينما ضياء القمر لا يزال يتسرب من صدوع في القبة إلى الحوائط والجدر، وبينما ملابس الأشباح قد حاكت في حمرتها وصفرتها وزرقتها ألوان الفسيفساء التي أخذت تخطف على العمد والأقواس والقناطر، ولقد خيل إلى هراقليوس أن الصورة التي خرجت من الحائط الشمالي ما عادت تمعن في اللحاق به فسخر من هذا الجنون الذي تولاه، وتضاحك حتى لقد سرى ضحكه إلى أنحاء المعبد وأدرك أن قيصر الرومان قد افرط في مخاوفه، وما ينبغي له أن يفرق من صورة تراءت له على الرخام، ولما اطمأنت نفسه جعل ينظر إلى يده فإذا عليها ذلك الدم الذي تسايل من جبينه، وللمرة الأولى أخذته عزة الزعيم الغطريف، فأزرى بالشعور الذي رافقه في مطافه، وهو شعور يشعر به الدهماء، ولا يشعر به الزعيم تحت اللواء
وفيم هذا الخوف؟ ولماذا تميد نفسه لذكريات الماضي، وليس في هذه الذكريات ما تنكره السلائق والشيم؟ نعم، لقد احب في مواضي أيامه امرأة اسمها (بليتزا)، وأحب القياصرة من قبل نساءً من الشعب، ثم ماتوا، ولم يقرض نفوسهم المخاوف، وحيث قد احب هراقليوس فتاة من بنات الشعب فأولى له أن يطمئن إلى هذا الحب ثم أولى له أن يطمئن إلى غده، لان (بليتزا) التي احب صارت في الغابرين
ولما رفع رأسه شامخاً مستكبراً، وأنحى ناحية الباب يريد الإفلات من هذه الهوة الراعبة، لحق به الأشباح في صف واحد، فما حفل بهذا المشهد، وخيل إليه أن اهتزاز الصورة ما كان غير وليد تصوراته وسبحه، ولكن المرأة العمياء أدركته عند الباب وهتفت باسمه (هراقليوس!)
وفي هذه الفينة لم تفته الحقيقة الراعبة فعضض يده من جزع وإشفاق وسرى جرس العمياء إلى نفسه كالصليل، فتلفت فإذا التي تصورها خيالاً تقبض على يده فتناديه: هراقليوس! هراقليوس! انظر إلى وجهي ملياً وقل لي ماذا رأيت عليه؟
وأخذت (بليتزا) تجذبه إلى ناحيتها فشعر بحرارة أنفاسها ينظر إليها مبهوتاً حائراً ثم أطبق عينيه كأنما هو يريد ألا يرى إلى صورتها الشجية، وظلت (بليتزا) تستجيشه وتحركه وتذكر له الماضي حتى أفاق وفتح عينيه على الصورة الجاهمة سائحاً:
- بليتزا! بليتزا! قالت:
- نعم بليتزا، تلك الفتاة التي جئت بها من حجرتها في (نيكوميديا) إلى حجرتك في القصر ورحت بها إلى سريرك، فتوسلت إليك ألا تعبث بعفافها عن كثب من صور الصالحين والقديسين والرسل! نعم أنا بليتزا، ولست خيالاً كما توهمت، فإذا كنت لا تزال في ريب من أمري، فهاك يدي فجسها، ودونك صدري فاستمع إلى وجيبه، وقل بعد ذلك إذا كنت لا تزال تحلم أم انك تؤمن بهذا الذي ترى!
لقد كان البرد الشديد، وهذا الخوف الذي تولاه، وذكريات الماضي التي تجددت في نفسه، وانبعاث بليتزا في المكان النابي المليء بأوجاع النصرانية وآلامها، وهذه الأشباح التي رافقته في مطافه، كان هذا كله مثار أحزان جديدة في نفسه، فما عاد يستطيع أن يجنب عينيه النظر إلى رفاق بليتزا، فرأى إلى (نفتالي) ثم إلى (بنيامينا) ثم إلى (مارية)! وفتح
فمه ليتكلم فما خرج لسانه على شفتيه، فأومض بيديه كأنه يريد أن يسأل العامدة عن رفاقها ففطنت إلى أمره وقالت له:
- هذه الصغيرة التي ترى هي ابنتي وقد أسميتها (مارية) تحبباً إلى مريم والدة السيد المسيح، ولقد تسألني عن أبيها، ألا فاعلم يا مولاي أن أباها هو هذا الرجل الذي سألت نفسه على حوائط الكنيسة في هذه الليلة القمراء! واسمه هراقليوس ومكانه في قصر (الشالسيه) عند شاطئ البحر الأزرق في القسطنطينية! فانطلق لسانه ساعة رن في سمعه اسم مارية وأثنى صائحاً:
- ابنتي! ابنتي! فقالت العمياء:
- ابنتك وابنتي معاً!. . . فقال:
- وهذا؟ فصاحت العمياء:
تقدم أيها السيد نفتالي وقل له أي رجل أنت، واحسر له عن أمر هذه الفتاة التي هي ابنتك، فتقدم ذو القروح من قيصر وكشف عن صدره سائحاً:
لعلك أيها المولى الذي تفيأ أعلام الحرب، واستمع لأناشيد النصر من شواطئ أفريقيا إلى شواطئ البحر الزاخر في بيزنطية، لم تنس ذلك الرجل السري الذي كان يجوب شطآن البحر الأحمر باسمك، ثم يفيء إلى دار ملكك وقد ملأ سفنه بطيوب الهند ونفائس عدن
كان الناس يعيدون ذكرى ليلة الميلاد، وكنت في جملة الذين آمالهم التقى والورع إلى الصلاة، وكان الناس يرون في (نفتالي) وذلكم هو اسمي البغيض الكريه، سيد بلاد الجليل في ثرائه وترفه، فحسدني الجميع، وأخذتهم الغيرة من ذيوع أمري، فلما صليت مع المصلين راحت عيناي تنظران إلى صورة للسيد الناصري، فالتقيت إليها بنجوى القلب، وسألت الرجل الذي طربت جبال الجليل لصوته أن يباركني، ثم رجعت إلى منزلي لأمضي ليلة العيد حيال طفلتي وامرأتي، وفي الصباح أحاط الجند بمنزلي وتبارى الناس في سبي ولعني، ثم خرج بي الجند إلى الميادين، وقرئ علي أمر قيصر بإحراقي، لأنني نظرت في صلاتي إلى صورة السيد، ولان هذه الصورة وجدت مطروحة على أديم المعبد، ثم استبدل قيصر التحريق بالتغريب، وألقى بي رجاله في القفرة النائية بجوار البحر الميت، وماتت امرأتي من الألم والغم، وعاشت ابنتي عيشة لا تشرف حياتها!. . . هذا هو
كل أمري فما أظنك نسيت نفتالي، ولا أراك نسيت (بنيامينا) ابنته التعسة
لقد جئت هذا المكان الطاهر من مكاني السحيق البعيد، لأرى إليك وأسمعك دعاء وعيته وحفظته، ثم علمته ابنتي لتجهر به أمام السيد الذي رد إلى المحزونين والماحلين وما هم في حاجة إليه من شباب وعافية، وطلاقة وبشر. انظر يا مولاي إلى ابنتي! لقد كانت في عفافها ونقائها كهذه الصورة التي تمثل السيد في طفولته، فعبث بها رجالك، هؤلاء الذين جابوا العالم كله باسم النصرانية، فلما رجعوا إلى مهدها رجعت إليهم سلائق الوثنية فقتلوا البريء واضطهدوا البريئات!
ولما سكت (نفتالي)، قالت (بليتزا):(لقد حرمني الألم والنفي والسهد ضياء عيني فما نعمت بالنظر إلى محيا الطفولة التي انبثقت من دمي، وعشت في (عين كارم) عيشة راعبة لا تليق بمن كانت ابنة لتيوفان البطل! وكانت آلامي تنمو بجانب نمو ابنتي حتى كرهت الحياة ومللت مقامي بين الأحياء، ولكن صوت الطفلة التي أحببت جنبني موتاً ما كنت أجد في غيره راحة لنفسي، ثم نذرت لأمضين إلى المسيح في مهده فاسمعه بثى، فإذا لم يسمع انطلقت إلى لحده وأيقظت رفاته
وكنت عالمة بوصولك الوشيك إلى الشام فرجعت أسأل عنك فإذا قيل لي أنك بلغت في زحفك شواطئ الفرات، حلق وهمي في فضاء النهر الزاخر، وطغت هواجسي، فلعنتك وأسرفت في اللعن، وإذا قيل لي أن قيصر وطئ البوادي سرب خيالي على الرمال وقذف فمي البغض والحقد وإني لأقسم لك أن بغضي في احتدامه وثورته مقتبس من سموم الرياح الهوج ساعة ترتمي على الرمل فتذروه في كل فضاء! فإذا قيل لي انك نزلت في منازل عدوك عند المدن الوارفة الظل نزل بي شعوري حيث أنت ورفعت صورتي لأمنعك من غناء جندك الظافر، وهكذا كنت اتبع ظلك وأترسم خطوك وأنا في القرية المتواضعة فالحق بك إلى الأنهار والرمال وإلى المدن حتى اطل شبحك على المدينة المقدسة وسمعت عزيف أبواقك ولم يفتني صليل سلاحك فجفوت مكاني في (عين كارم) وجئت (بيت لحم) فدعوت عليك ورافقت موكبك إلى الكنيسة (القبر المقدس)، وما زلت ارقب خطوك حتى خلت الكنيسة من المصلين والزائرين، وحتى رأيتك تنحدر إلى محراب القديسة هيلانة فسبقتك إليه ووقفت مع رفاقي في الألم والعذاب انظر بعيني قلبي إلى نفسك السائلة على الحوائط
والجدر! هراقيليوس! هراقيليوس! كيف أنت؟ كأننا لم نفترق وكأن الأيام لم تفصل بيني وبينك وكأن تلك الحجرة التي ازدانت بتصاوير الصالحين والرسل، وما زالت تحتوينا معاً! ولكن مصاير الناس تعاورها الحذف والتبديل فقد كنت لسنين خلت ذلك الرجل المزهو بانتصاراته، وكانت (بليتزا) التي فزعت إلى الناصري في الليلة الليلاء تنظر في كثير من الزهو إلى مصرع ذكائك!. . هراقيليوس! ناشدتك الله أن تقول لي كيف أنت؟
لم يكن في ميسور هراقليوس أن يرفع عينيه إلى هذه الأطياف فلقد برح الرعب به تبريحاً أليماً، وأيما بأسه وشجونه خيال بليتزا، وخيال ابنتها واستجاش جواه ذلك الصدر القريح الذي حسر نفتالي عنه، فتقاصر وتصاغر وراح جاثياً على قدمي العمياء مستغفراً تائباً، فسمعت مارية ابنته صلاته الهامسة، فدلفت إليه وقالت: أبي! أبي! فما سمع ندائها الرفيق الشجي، بل ظل يتخافت بصوته، بينما كان نفتالي وبنيامينا يصليان في زاوية المعبد صلاة لم يخالطها كثير أو يسير من البغض، وبينا ماريا الصغيرة تنظر إلى أبيها الدميع بعينين رحيمتين بريئتين
وكان ضياء القمر لا يزال يتسرب من صدوع في القبة إلى أرض المحراب، فينير الصور التي على الحوائط والجدر. ثم ينثر أشعته الخفيفة على وجوه الأربعة الذين أتموا نذورهم في الليلة الرهيبة التي أرادها هراقيليوس خاتمة صومه وحجه!
رزح قيصر تحت وقر هذه الصور القائمة، فأغفى على الحجارة، وسبحت نفسه في عالم قصي بعيد، فلما استوثق نفتالي من إغفاءته تلفت إلى بليتزا وقال لها:(لنذهب يا سيدتي قبل أن يستفيق، فلقد قضينا نذورنا ولم يبق لنا ما نعمله في الأماكن الطاهرة! فقالت بليتزا: (أترجع إلى البحر الميت أيها السيد نفتالي، قال: نعم سأرجع إلى منفاي مع ابنتي، قالت: فإذا أبصرك الحرس فماذا تقول؟ فقال: لن يبصرنا الحرس يا سيدتي، لأننا سنخرج من باب خفي، وما اكثر الأبواب الخفية في هذه المحاريب! فقلت: افعل ما تريد فعله حماك الله ورعاك! ثم نظرت إلى هراقيليوس النائم نظرة راثية وألقت بنفسها بين ذراعي ابنتها هامسة: لقد عفوت!. . .) فبرقت أسارير الصغيرة من الفرح وقالت:
- إن الله قد عفا يا أماه!
ولم يشأ نفتالي أن يكون في معزل عن هذه الرحمة التي خالجت قلبي الأم والبنت، فاخذ
بذراع ابنته وقال لبيتزا:
- لقد عفوت يا سيدتي وعفت ابنتي!
وفي خفة البرق صعد الأربعة سلم المحراب فاستقبلتهم جميعاً سدفة فاحمة تغشى الكنيسة الكبرى!
دمشق
معروف الارناءوط
تطور الحبشة
لكاتب مطلع
الحبشة بلد المتناقضات إلى أقصى حد، فهي تجمع بين مناخ المنطقة الاستوائية ومناخ جبال الألب، وبين الخشونة والرقة؛ وهي أفريقية الموقع، ولكنها وليدة التقاليد العريقة التي تعاونت على إيجاد أوربا. والإمبراطور يحمل فوق رأسه تاج سليمان ويحكم أقواماً حربيين يعيدون ذكرى رجال الإقطاع في العصور الوسطى، وفوق ذلك كانت الحبشة موطن قبائل الجالا أثناء حكم الأسرة الثامنة عشرة الفرعونية، كما أنها غزت مصر قبل المسيح بثمانية قرون
ولقد ساعد اختلاف الجو وتراوح ارتفاع الأرض عن سطح البحر بين 4000 ، 900 متر على اختلاف الأجناس. ولعل هذا الاختلاف في الأجناس كان السبب في إطلاق العرب على هذه البلاد لفظ الحبشة، ويعنون به (تعدد الأقوام)، فإن الواقع أنك تجد كل أنواع الأجناس البشرية فوق هذه الهضبة العالية المنفصلة عن العالم بأسوار شامخة وصحار سحيقة. والأحباش يتكونون في الأصل من قبائل الجالا والصومال، ثم كان نتيجة اكتظاظ القصور بالجواري السود أن نشأ جنس ضارب إلى السواد. أما قبائل الوالوس فهم يهود يدعون أنهم من نسل أصحاب ملكة سبأ ومن التجار الذين كانوا يتاجرون أيام سليمان. وكل هؤلاء الأقوام يتكلمون لغات مختلفة تقرب من ستين لغة فصيحة ومائتي لغة دارجة. على أن أكثر اللغات تداولاً هي اللغة الأمهاريكية وهي لغة اليهود الأولى بعد اللغة العربية، واللغة التيجربة المسماة (لغة المسيحيين)، أما اللغة الجيزية فهي اللغة الأدبية التي ترجمت إليها التوراة. على أن من يحسنها من أبناء الشعب لا يتعدى عدداً يسيراً. ويجب أن نفهم من هذا الاختلاف الظاهر تاريخ هذه الأمة التي استطاعت حتى الآن أن تحافظ على استقلالها بفضل استعدادها الحربي والمنافسات القائمة بين أعدائها
إن الأحباش على رغم اختلافهم يشتركون جميعاً في الاستعداد الحربي الذي هم مدينون به لطبيعة بلادهم. فالجبل يخلق أجناساً أقوياء البنية، ولقد روى مسيو مونفريد أنه كثيراً ما أرسل سعاة يحملون رسائل إلى دير داؤوا حيث كان يسكن تشرشر، وكانت المسافة ثمانين كيلو متراً خلال الجبل والوديان المحرقة (فكان الرجل يرحل عند الصباح حاملاً خطابه في
عصا مشقوقة، ويعود بالجواب في مساء اليوم التالي، فكأنه قطع مسافة 160 كيلو متراً في ست وثلاثين ساعة. وفي المرة الأولى كنت عظيم الدهشة والحيرة، إذ بينما كنت أنتظر من الرجل أن يلهث أمامي من الإعياء إذا بي أراه بعد ساعة يشترك في الرقص دون أن تظهر عليه دلائل التعب. ومما يبعث على العجب أن أولئك الرجال يقومون بهذه الرحلات الشاقة وطعامهم حفنة من القمح وسيقان من الذرة يقتلعونها أثناء الطريق ويأكلونها أثناء جريهم، أما نساء بعض الأقاليم فهن يقطعن كل يومين مسافة 35 أو 40 كيلو متراً تقريباً حاملات على ظهورهن حملاً يبلغ خمسين كيلو، وذلك لقاء ثمانية أو عشرة قروش، أو ما يعادل فرنكين وخمسين سنتاً تقريباً، وعندما يعرض عليهن في منتصف الطريق شراء ما يحملن بالثمن الذي سيبعن به في دير الداؤوا يرفضن خشية أن يفقدن بذلك نصف قرش. وأولئك التاجرات اللواتي لا يتعبن هن اللواتي يصحبن الجنود في غزواتهم، فالجيش تمده ذخيرة من النساء فيسهلن له أكلاف الحياة الضرورية، ويحملن أدوات المنازل المتنقلة. وحالة الجيش المعنوية تكون دائماً على جانب عظيم من القوة، والجندي لا يعرف نظام المعسكرات، وهو يحيا حياة كاملة الحرية، فينزل في أي مكان كأنه في داره الخاصة؛ والإنجليز والطليان يعرفون بالتجربة القيمة الحربية للشعب الحبشي: يعرفها الإنجليز منذ الاستيلاء على مجدلة وإخلائها عام 1868، ويعرفها الطليان منذ هزيمتهم في دوجالي عام 1887، وفي عدوه عام 1896)
وعواطف هذا الشعب من نوع شجاعته أثناء العمل وأثناء القتال، وهي ترجع إلى تمسكه الشديد بالعوائد والمعتقدات، وقد دخلت البلاد مع الديانة المسيحية منذ القرن الرابع. ويروي أن القس فيليب الذي كان من أوائل المبشرين المسيحيين هو الذي نصر رئيس خدم أميرة حبشية (ففتح بذلك في الحبشة السبيل للديانة المسيحية). ومن المعلوم أن القرن الخامس كان شديد الاضطراب بسبب المسائل الدينية، إذ قامت المناقشات حول مريم إن كانت أم الله أو أم المسيح فقط. كما أن مجلس إفيز الديني طرد نسطورياس الذي دامت هرطقته وانتشرت حتى يومنا هذا. وفي نفس ذلك الوقت أعلنت عدة مجالس دينية على التوالي إيمانها أو إنكارها لطبيعة السيد المسيح الواحدة أو المزدوجة. وقد أعلن مجلس ال451 عداوته لفكرة طبيعة السيد المسيح الواحدة، واستند المعلنون في قرارهم إلى الكنيسة
المسيحية في مصر التي استطاعت خلال القرون أن تحافظ على استقلالها تحت اسم الكنيسة القبطية. والعلاقات بين مصر والحبشة ترجع إلى زمن بعيد مما كان سبباً في أن تصبح الكنيسة الحبشية فرعاً من الكنيسة القبطية في مصر، فرئيس الكنيسة المسيحية في الحبشة الملقب بالأب (أب السلام) إنما يعينه بطريق الإسكندرية الذي يقيم في القاهرة؛ ولقد فشلت محاولة البابوية ضم كنيسة الحبشة إليها. وقد تمكن البرتغاليون في أوائل القرن السادس عشر أثناء كفاحهم مع المسلمين في سبيل السيادة على طريق الهند من إرسال بعثة كاثوليكية، ولكن سيطرة الجزويت لم تدم، واستعادت الكنيسة القبطية في الحبشة علاقاتها مع بطريق الإسكندرية عام 1633. على أن حوادث جديدة قامت فدلت على أن السياسة لا تترك مطلقاً الفرصة لاستغلال العواطف الدينية مما أحدث تغييراً في أفكار البلاد الحبشية. إذ في 2 يونيو من عام 1929 استطاع أخيراً بطريق الإسكندرية بعد إجازة دامت ثلاثين شهراً أن يرسم الأب كيرول سيداروس، وكان عليه في الوقت نفسه بالرغم منه أن يرسم خمسة أساقفة حبشيين، فكان في هذا الحادث الذي لم يسبق له مثيل تحديد لتقدم الاتجاه القومي في الحبشة، فتوترت العلاقات بين النجاشي والبطريق، وكان الدليل على ذلك تلك الرحلة التي قام بها الأب إلى الإسكندرية في مارس من عام 1931، وقيل يومئذ إنها التمضية مدة النقاهة بعد الإبلال من مرضه. وهناك حادث آخر عظيم الخطر هو زيادة نفوذ الفاتيكان، فقد قامت محاولات منذ سنين طويلة لفصل إرتريا عن الكنيسة القبطية الحبشية. وبطريق الإسكندرية يواصل رسم القسس في هذه البلاد، على الرغم من أن قسس إرتريا يستمدون الأوامر الدينية من رومة لا من أديس أبابا. ولا شك أن الدعاية الدينية تصحب التقدم الاقتصادي وتقوية
وللقس حق التزويج مرة واحدة. وهم على العموم على جانب عظيم من الجهل. ومعلوماتهم لا تكاد تتعدى أمور العبادة، وللقسيسين والرهبان سلطان عظيم على الجماهير الجاهلة التي كان يحتم عليها سلطانها المدني الذي نالته منذ القرن الثالث عشر الدفاع عن حقوقها ومصالحها. ولقد أصبح رئيس الأديرة الأكبر - وكانت مهمته في البداية التفتيش على الأديرة - الرئيس الحكومي للأب والكنيسة. والأب يكون دائماً أجنبياً يعينه بطريق الاسكندرية، ورئيس الأديرة الأكبر يكون دائماً حبشياً تعينه السلطة المدنية. وسلطان رجال
الدين شديد النفوذ عظيم القوة، حتى أنهم يمتلكون جزءاً كبيراً من الأرض المزروعة وقرى بأكملها، وعلى حسب العرف الجاري في البلاد ينال المالك خمس محصول الأرض، ومن ذلك يستطيع المرء أن يتصور المعارضة التي يصادفها مشروع يرمي إلى تغيير نظام مضت عليه أجيال طويلة. وكل حياة الأحباش تقوم على الأيمان بالمعجزات وتقديس القديسين والملائكة وعلى الفرائض الدينية: كالاعتراف بالخطايا والصيام القاسي والغفران، والحج إلى بيت المقدس واجب يكفر عن الذنوب. وقد أخذت الديانتان المسيحية والوثنية يؤثر تدريجياً بعضهما في بعض، فديانة قبائل الجالا الأفريقية الأصل قد تأثرت بالمسيحية. ومع ذلك فقد تأثرت أيضاً الديانة المسيحية القبطية بالخرافات والسحر، وقد امتزج الإيمان بآله إبراهيم والمسيح بضروب الإيمان التي كانت شائعة قبل التاريخ، كتعظيم الماء والأمواج والغابات والأشجار المقدسة والشمس، وفي الوقت الحاضر يتقدم الدين الإسلامي في الحبشة كما يتقدم في كثير من البلاد الأفريقية
وهكذا نرى الحبشة تبدو حكومة من حكومات القرون الوسطى التي كان يحكمها الكهنة نيابة عن الله. فهناك لا يمكن أن يحدث شيء لا يريده رجال الدين، والحاكم الذي يأمل في السلطة العليا يجب أن يتأكد قبلا من تأييدهم ومعونتهم. على أن الدهماء ورجال الدين الجهلاء يستفيدون من تلك المدينة القديمة التي يمكن أن يقال إنها بدائية وفي نفس الوقت مهذبة. فمبدأ الصدقة المسيحية قد تغلغل في أعماق الغشاء الكثيف الذي يغشى القلوب. حتى أن فضيلة إعطاء الصدقات التي كانت واجباً أضحت غريزة. وهذه المدينة الدينية القديمة تنتج رجالاً أكفاء. ولقد روى مسيو دو مونفريد فقال: (عندما بلغنا قمة الهضبة قدم إلينا رجل حبشي تغطى رأسه عمامة بيضاء كالتي يلبسها الرهبان. كان وجهه دقيق التقاطيع عليه مخايل المهابة والهدوء. وكان هذا الوجه طويلاً مسنوناً تطفر منه نظرة تائهة شاردة. وقد تناول يدي بحركة لا شعورية كأنه أحد أصدقائي. لقد كان ذلك الرجل هو الراهب حنا ممثل الكنيسة والحارس للأمير المخلوع. وكانت عباءته من الكتان الغليظ، وكان عاري القدمين، لكن يده كانت ناعمة رقيقة. وكان يتكلم بصوت منخفض لكنه مؤثر. ونظراً لأني أعرف إلى أي حد يتمتع رجال الدين الأحباش بقوة تختفي وراء ما للأباطرة من مظهر السلطان، فقد دهشت دهشة عظيمة لذلك المظهر المتواضع الذي يبدو به ذلك الرجل
الضئيل ذو العمامة البيضاء المصنوعة من القطن. ولم يكن يتبعه حاشية ولا حرس خاص، إذ لم يكن في حاجة لذلك، لأنه أينما ذهب انحنى أمامه كل من صادفه مظهراً الإجلال والاحترام. وجاء في ذلك الوقت ددجاز جوبانا يرى الأعمال الجارية. وكان راكباً بلغته السوداء الموشاة بالفضة، وكان يحف من حوله خمسون جندياً، وهو رافع بندقيته على كتفه. حقاً لقد كان منظره رهيباً وهو ينظر نظرة النسر ملتحفاً بردائه الرمادي. ها قد اجتمع الراهب وقائد الحرب. وقد يقول قائل: قد اجتمع عدوان في مكان واحد. على أن رجل الكنيسة هو أعظم الاثنين رهبة وأشدهما خطراً. وهو نفسه يشعر بذلك، فكان يبتسم ابتسامة هادئة. ومستقبل الحبشة يقف على هذين الرجلين، وشقاؤها يرجع إلى أن كلا منهما يستخدم الآخر ويستعين به. فرجل الحرب يستعين برجل الدين على الاستيلاء على عرش ملك الملوك، ورجل الدين يستعين برجل الحرب على الاحتفاظ بسيطرته على النفوس وبثروته العقارية. على أن وحدة البلاد المعنوية أثناء ذلك تتفكك. والأجنبي رابض أمام جميع أبواب البلاد
وتاريخ الحبشة السياسي يكاد ينحصر في حروب دائمة بين كبار رجال الإقطاع في سبيل الفوز بتاج سليمان. وفي اللحظة التي تقاسمت فيها أوربا القارة الأفريقية، وجدت الحبشة في مينليك الرجل الذي استطاع صد أول هجمة على البلاد. ولقد عرف ذلك الإمبراطور العظيم كيف يفرض سلطته على الجميع بفضل نشاطه الحربي وحنكته السياسية وكان أول همه تأييد سلطته في الداخل وإغلاق أبواب البلاد في وجه الغزاة. على أنه وقف عند ذلك الأمر ولم يتعده. إذ كان من الواجب الاستفادة من الانتصار المزدوج لينظم البلاد على الطريق الحديثة في الإنتاج والتبادل. ولكن الإمبراطور العظيم لم يستطع أو لم يرد ذلك. وقد يكون الموت عاجله قبل أن يتم ما أراد. ولقد حدثت قريباً حوادث عدة تبين أن النجاشي ليست له على بعض الأقاليم البعيدة إلا سلطة اسمية، وأن هناك كثيراً ممن يدعون الحق في عرش ملك الملوك. ويقال إن النجاشي يفهم تماماً حقيقة الموقف ويعرف ما يجب أن يفعله. على أن هناك عقبات تقف في طريقه، ذلك أن من الواجب اليوم أن يبذل جزءاً من قواه في سبيل المحافظة على سلطته، وأن يطلب مساعدة كل أولئك الذين يشلون حركته في كل مشروع إصلاحي، وذلك في الساعة التي تهدد فيها مملكته بغزوة استعمارية جديدة.
ومنذ عصر مينليك، أي منذ خمسين عاماً، تغيرت في العالم وفي الحبشة نفسها أمور كثيرة. فدخلت أفريقيا كلها في تيارات التجارة العالمية الكبرى، وصحب ذلك كل ما يلزم من الضرورات والآراء الجديدة. فالسيارات والطيارات زادت في طرق المواصلات، ولم تعد هناك قوة إنسانية نستطيع أن تطيل تلك العزلة التي ملكت الحبشة عدة قرون، إذ كان لزاماً عليها أن تستعد لتأخذ مكانها بين سائر الشعوب. وكل ما في المسألة هو معرفة ما إذا كانت تستطيع ذلك بمفردها مستعينة بوسائلها الخاصة، أم هي - نظراً لشدة شبهها بمراكش - في حاجة إلى دولة تحميها
إن استقلال كل دولة من الدول يقف من جهة على الدولة نفسها، ومن جهة أخرى على الدول المجاورة. ولقد كان لينليك الحظ في استطاعته الاستفادة من المنافسات الاستعمارية في الوقت الذي كان يوجد فيه كثير من الأراضي الأفريقية القابلة للاستعمار. والآن انتهى التقسيم. وبدلا من البحث في هذه لم يبق إلا الابتداء في استغلال الحبشة. ويضاف إلى ما سبق أن المنافسات على هذه البلاد يلوح عليها الهدوء، وأن الاتفاق بين الدول المتنافسة محتمل الوقوع. ومن هنا يعظم الخطر على الحبشة
وهذا الخطر الأجنبي يجعل المهمة الواجب القيام بها فيما يتعلق بالسياسة الداخلية تفوق قدرة رجل فرد مهما كان نابغاً. إن من الواجب إزالة الفوارق القائمة بين المدينة البدائية الدينية الساذجة والمدنية الغربية المادية. والواقع أن الحياة في الحبشة قد تطورت، إذ من العسير أن يعيش شعب بأكمله عيشة الزهد والتقشف. ومن المحال إقامة روابط طبيعية دائمة بين الأفراد والجماعات من غير وجود مبادئ مشتركة بين الجميع. من الحق أن المدنية الغربية تتضمن كثيراً من الرياء، فالرق على شكله الذي نراه في الحبشة ليس أفظع من العمل الذليل في الصناعة الكبرى، إلا أن في الحبشة نظماً معينة هي تراث الماضي العتيق يجب أن تختفي من الوجود. وسواء دخلت الحبشة عصبة الأمم أم لا فهي لا تستطيع في العالم الحديث الإبقاء على قانون التعذيب وعلى السطو والنهب والرق. على أن المرء يتساءل: على أية قوة منظمة يستطيع أن يستند ملك عظيم للقيام على خير ما يرام بالإصلاحات الضرورية إذا كان السكان لا يشعرون بالحاجة إليها قبله؟ إن رجال الطبقات العليا الذين يملكون الأرض والسلطة لا يرغبون في تغيير يظنون أنه سيفقدهم كل
شيء ولا يربحهم شيئاً. ذلك أنهم لا يطلبون إلا أن تزيد ثروتهم يوماً بعد يوم. وليس عند الطبقات العاملة في مختلف الأقاليم فكرة ما عن إمكان تحسين حالهم. واستغلال القوي للضعيف كأنه قانون طبيعي لا يجب أمامه إلا الاستسلام والخضوع. أما رجال الدين والرهبان وهم أصحاب السلطة العليا فأية مصلحة سيجنونها من نظام جديد؟ بقيت الشبيبة المتعلمة القليلة العدد التي تطلب العلم في جامعات أوربا وأمريكا، إنها تعود إلى بلادها خشنة الطباع كارهة للأجانب. على أن الفكرة القومية وحدها لا تكفي، إذ يجب أن تستخدم هذه الفكرة في تحقيق أمر من الأمور أو مبدأ من المبادئ. على أن المظنون إن استخدام هذه الفكرة في سبيل خدمة الحبشة سيكون أقل من استخدامها في سبيل الاحتفاظ بالحالة الراهنة من اقتصادية واجتماعية ودينية. وأمام هذه الحالة، فإن حدوث حرب ولو انتصرت فيها الحبشة، سوف لا ينتج إلا نصراً مؤقتاً. ليس في الحبشة فلاح واحد يقارن بين ما يحدث في أسواق بلاده وطرقاتها وبين الحالة التي يستطيع أن يراها وراء الحدود. أما حال العقيدة الدينية فمن المحقق أن الكنيسة القبطية في مصر تسودها الآراء الحديثة، وأن المعتقدات القديمة تفنى شيئاً فشيئاً تحت تيارات العقل المستنير. ومن المحتمل أن هذه التيارات والاتجاهات ستظهر أخيراً عند مسيحي الحبشة نظراً لموقع البلاد الجغرافي
(لموا)
ترجمة ع. ك
الأدب العربي في المغرب
أبو العباس أحمد المقري
1041هـ - 1631م
بقلم عبد الهادي الشرايبي
- 1 -
إننا نشاهد، بملء الأسف، كثرة مفكرة من شباب المغرب ورجاله، يساور نفوسهم ضعف الثقة وارتياب مؤلم من ماضيهم القومي وتراثهم الجليل. فنجدهم لذلك يتأففون ويضجرون كلما عرضت عليهم صورة من ذلك الماضي الزاهر، ويكيلون للمغرب والمغاربة عواصف من النقد اللاذع والسخط الشديد
ولعل منشأ ذلك، فيما نرى، هو الجهل بما للمغرب في عصوره الغابرة من روعة وسمو يفوقان كثيراً ما يتخيله أولئك في تاريخ المغرب
ولو أنهم عمدوا إلى الوقوف على بعض من تلك الآثار الجليلة، واستعراض النماذج المتناثرة في ثنايا الكتب، لوجدوا في سجل المغرب من الصور الطريفة الرائعة ما يكون غذاء لروحهم المجدبة، ورياً لنفوسهم الظمأى!
ولعلهم إن فعلوا فتذوقوا من ذلك الجمال الحي الخالد، ونهلوا من تلك المتع اللذيذة، فسوف يجدون فيه المرهم الشافي لنفوسهم المريضة بداء اليأس، ويستبدلون بتشاؤمهم القاتل تفاؤلاً
- 2 -
وها نحن أولاء نجلى لهم اليوم صورة حية من ذلك التراث المجيد، وينتزع لهم من بين الصور الكثيرة مثلاً سامياً لنهضة الأدب العربي في المغرب في القرن الحادي عشر:
شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني المالكي الأديب الكبير، الشاعر المؤرخ، ولد في تلمسان، ونشأ بها في بيت علم وأدب، وثقف كثيراً من الفنون على عمه أبي عثمان سعيد المقري الأديب العالم الشهير، وأتقن اللغة العربية وآدابها، وبرع في معرفة أخبار العرب وأنسابها. وكان له ميل شديد واطلاع واسع على الآداب العربية وتاريخها في مختلف العصور، وأولع من لدن نشأته بالمطالعة والتنقيب عن أحوال الدولة
الإسلامية، واستظهار آثارها، وبصفة خاصة ما كان متعلقاً منها بدولة العرب في الأندلس، والوقوف على سر عظمتها، وتطورها بين صعود ونزول، وكيف عبثت يد الزمان بتلكم الآثار الحافلة التي خلدها العرب في أوربا
شب الفتى، خصب الفكر، متقد الذهن، واسع الذاكرة. يتقلب في فنون من الحديث، ويحلق في جو رائع من الخيال. ينتقل بين قصور قرطبة ومغانيها، ويقلب نظره الحائر في بدائع الحمراء ومجاليها، ثم يعود فيسترحم القدر إشفاقاً على مجالس أدبها الممتعة ونواديها
وقد حدثته نفسه الطموح إلى مشاهدة آثار الفن الأندلسي الجميل بالذهاب إلى (فاس) وريثة الحضارة الأندلسية، ورؤية هذه الآثار عن كثب، إذ هي صورة مصغرة من الحياة الأندلسية، بما فيها من مبان وآثار، ومجالس علمية وأدبية تضم أئمة الأدب وفطاحل العلم. فقصد فاس سنة 1009 وملأ بها وطابه، وأخذ عن جلة العلماء كالشيخ القطار، وابن أبي النعيم، وأحمد بابا السوداني التمبكتي وغيرهم؛ وأقام بفاس ميمون الحظ بين مظاهر الإجلال والاحترام إلى أن صار مفتى فاس وخطيب (جامعة القرويين)؛ ثم رحل إلى مصر والشام، وتردد على الحجاز كثيراً، وألف بالقاهرة كتابه (نفح الطيب). وله مطارحات ومساجلات مع أدباء مصر والشام
- 3 -
آثاره الأدبية: أبو العباس المقري متشعب النواحي كثير المباحث لمن شاء دراسته. له آثار قيمة في الفقه والكلام والأدب والتاريخ، وشعر متناثر في ثنايا كتابيه الجليلين:(نفح الطيب، من غص الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب) و (أزهار الرياض، في أخبار القاضي عياض)
وقد قصرنا هذا البحث على الناحية الأدبية، إذ كانت هي البارزة في حياته، فهو (حافظ المغرب وجاحظ البيان) شاعر رقيق العاطفة، يصطبغ شعره بلون الأدب الأندلسي في الرقة والجزالة، والسهولة والامتناع
ولا بدع، إذا وجدنا ذلك الطابع بارزاً في آثاره الأدبية، فقد رأيناه كلفاً بالفن الأندلسي وآثار العرب في الأندلس منذ النشأة إلى حد التوهم أنه كان يعيش في ذلك الوسط الخصب المشبوب العاطفة
وقد قال في أكثر أغراض الشعر: في الغزل، والشوق، والمدح، والوصف، والحكم، والعتاب، والذكرى المؤلمة، والقصص الشعري
وإذ كان الشطر المهم من حياته قد أمضاه في الشرق بعيداً عن الأهل والوطن، نائياً عن معاهد الصبى ومسارح الطفولة الأولى التي لم يبق في ذهنه منها إلا الذكريات المرة الممضة، فنستطيع أن نكشف كيف كان الشوق والحنين أبرز صفة في شعره؛ ولنسق لك مثلاً من ذلك. فمن قوله وهو في الشام يتشوق إلى بلاد المغرب:
كساها الحيا بُرد الشباب فإنها
…
بلاد بها عق الشباب تمائمي
ذكرت بها عهد الصبي فكأنما
…
قدحت بنار الشوق بين الحيازم
ليالي لا ألوي على رشد ناصح
…
عناني، ولا أثنيه عن غي لائم
أنال سهادي من عيون نواعس
…
وأجني مرادي من غصون نواعم
وليل لنا بالسد بين معاطف
…
من النهر ينساب انسياب الأراقم
تمر إلينا، ثم عنا، كأنها
…
حواسد تمشي بيننا بالنمائم
وبتنا، ولا واش نخاف كأنما
…
حللنا مكان السر من صدر كاتم
وأسمعه يقول:
شربت حميا البين صرفاً وطالما
…
جلوت محيا الوصل وهو وسيم
فميعاد دمعي أن تنوح حمامة
…
وميقات شوقي أن يهب نسيم
ويثور كامن عواطفه كلما سمع ترجيع حمامة بصوتها الشجي، فيصف لك حاله عند سماعها بهذه القطعة الرقيقة:
رُب ورقاء في الدياجي تنادي
…
إلفها في غصونها المياده
فتثير الهوى بلمس عجيب
…
يشهد السمع أنها عواده
كلما رجَّعت توجعت حزناً
…
فكأنا في وجدنا نتبادَه
ثم يحاول أن يطفئ غلة ذلك الشوق المضني بالصبر، ويتخذه شعاراً وسلوة، فيسير على سنن غيره من الشعراء، ولكنه يخفق إذ يجد أن الصبر معناه إلهاب نار الشوق:
وإني لأدري أن في الصبر راحة
…
ولكن إنفاقي على الصبر من عمري
فلا تُطفِ نار الشوق بالشوق طالباً
…
سلواً، فإن الجمر يسعر بالجمر
ويعاوده الأمل في أن يلمس غرة من الدهر، فيلتقي بعد طول البين، ويجتمع بعد أليم الفراق
فنلتقي، وعوادي الدهر غافلة
…
عما نروم، وعقد البين محلول
والدار آسنة والشمل مجتمع
…
والطير صادحة والروض مطلول
ولو أنا ذهبنا في هذا الباب نقتطف قطعاً من زهراته المتناثرة، لاقتضى ذلك منا وقتاً أوسع مما افترضناه لهذا البحث من الإيجاز
وفي الوصف نجتزئ بهذه القطعة:
ورياض تختال منها غصون
…
في برود من زهرها وعقود
فكأن الأدواح فيها غوان
…
تتبارى زهوا بحسن القدود
وكأن الأطيار فيها قيانٌ
…
تتغنى في كل عود بعود!
وكأن الأزهار في حومة الرو
…
ض سيوف تُسَلُّ تحت بنود
ويبهره ما يرى في جنة الدنيا (دمشق) ضريبة الأندلس والمغرب في بساتينها، وأنهارها، وجداولها، فتعاوده الذكرى ويقول:
ذكرتني الورقاء أيام أنس
…
سالفات فبت أذرى الدموعا
ووصلت السهاد شوقاً لحبي
…
وغراماً، وقد هجرت الهجوعا
كيف يخلو قلبي من الذكر يوما
…
وعلى حبهم حنيت الضلوعا؟
كلما أولع العذول بعتبي
…
في هواهم، يزداد قلبي ولوعا!
ثم يقول في وصفها:
محاسن الشام أجلى
…
من أن تحاط بحد
لولا حمى الشرع قلنا
…
ولم نقف عند حد:
كأنها معجزات
…
مقرونة بالتحدي
ويقول:
قال لي ما تقول في الشام حبر
…
كلما لاح بارق الحسن شامه؟
قلت ماذا أقول في وصف قطر
…
هو في وجنة المحاسن شامه!
(البقية في العدد القادم)
عبد الهادي الشرابي
النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
وجهت أجدى المجلات الكبيرة في مصر إلى بعض الكتاب هذا السؤال: (إلى أي حد يجب الاقتداء بتركيا في نواحي نهضتها الأخيرة)، فحفزني هذا إلى الكتابة في موضوع تجنبته زمناً طويلاً، لا استهانة به فهو جد خطير، ولكن إشفاقاً مما يثور بالنفس حين تعالجه
- 1 -
الترك العثمانيون إخوان لنا، نشأنا على حبهم، ومنحناهم قلوبنا فتمكن بها ولاؤهم، وشببنا نعدهم على المسلمين الخفاف في زمن تنكست فيه أعلامهم، وجيشهم المجاهد على حين تفرقت الأجناد، وتخاذلن الأعضاد. كنا نعد مفاخرهم مفاخرنا، ومثالبهم مثالبنا، ونرى صلاحهم صلاحنا، وفسادهم فسادنا، ونفرح كما فرحوا، ونبتئس كلما ابتئسوا. وكلما نزلت بهم نازلة نصرناهم جهد العاجز بألسنتنا وأموالنا وأيدينا وسع الأيدي المغلولة، والأعضاد المغلوبة. ولا يزال التاريخ الحديث يدوي بحادثات المدرعة (حميدية)، وحروب طرابلس والبلقان، وقدوم الطيارين العثمانيين إلى مصر، وغير هذا مما يشهد بالحب الصادق، والمودة المخلصة
ولقد نشأت على هذا الحب، لا يطربني إلا ما أطرب الترك، ولا يسوؤني إلا ما ساءهم؛ وفيهم تعلمت الشعر فشدوت به في حروب طرابلس والبلقان، وكتبت في الحرب الأخيرة أعطف عليهم القلوب، وأستحث الهمم على الإمداد بالمال. ولست أمن عليهم بذلك فقد كان فرضاً علي وعلى غيري
ولما قذف جنود الترك الأنجاد بجيش اليونان في البحر كاد الناس في مصر وغير مصر يجن جنونهم فرحاً وزهواً
- 2 -
ثم وقعت هذه الواقعات التي تسمى (النهضة التركية الأخيرة)، فخاجت من الناس الظنون، وتحطمت الآمال وتصدعت القلوب، ووقفوا وقفة من أصيبت آماله في أخ صميم أو صديق حميم، يراه قد ركب رأسه، واشتط في هواه، يقطع أواصر الأخوة، ويصرم حبال المودة،
لا يستطيع أن يغضي عن سيئاته وهي وخيمة العواقب، ولا تطيب نفسه أن يسمع به ويذيع عيوبه على مسمع من الأعداء
قومي همُ قتلوا أميم أخي
…
فإذا رميت يصيبني سهمي
فوقف يلومه حيناً، ويجادل عنه حيناً، ويرد مقالة الخصماء، ويحذر شماتة الأعداء، ويلتمس له المعاذير، ويتربص به الأفاقة من غيه، والإياب إلى رشده، ويدعو الله أن يلهمه السداد، ويهديه سبيل الرشاد. وها نحن أولاء ندعوا ونرجوا وننتظر
- 3 -
وبعد فما هذه الأحداث التي تسمى (النهضة التركية الأخيرة)؟ نستعرض الحادثات لنرى ما هي:
فأما ذود الترك عن حياضهم، ودفعهم عن استقلالهم، وإيثارهم الموت الحر على العيش الذليل فشنشنة أعرفها من أخزم، عرف الترك بها في كل زمان، وامتازوا بها في كل ميدان، وكان لسلفهم فيها غرر مشهورة، وأعمال مأثورة، يدوي بها التاريخ ويشهد بها العدو والصديق. فلا ينبغي أن يعد هذا من (النهضة الأخيرة). فقد كان السلف فيه خيراً من الخلف. كان ميدانهم أوسع، وعدوهم أكثر، وخطبهم أفدح، وعبثهم أثقل. وتلك، على كل حال، محامد ينبغي أن تتقيلها الأمم، ويتنافس فيها أولو الهمم
وأما عكوف الحكومة التركية الحديثة على إصلاح البقعة التي أبقتها الأحداث في أيديها، وتركتها النوائب من الميراث العظيم - عكوفهم على الإصلاح والتعمير والتنظيم فأمر محمود، وسعي مشكور، وفرض تأخر عن وقته، إذ حالت دونه الخطوب الكارثة، والمصائب المتوالية؛ وهم في هذا الإصلاح ليسوا مبتدعين ولا سابقين، فهم يحتذون على مثال الأمم التي سبقتهم في الغرب والشرق. هم في ذلك مأمومون لا أئمة، ومقتدون لا قدوة. والأئمة في ذلك أمم أوربا، عنها أخذوا وبها اقتدوا. وعملهم في هذا التقليد، عمل حميد. والله يهيئ لهم في ذلك رشداً، ويهديهم إلى الخير أبداً
- 4 -
وبعد ذلك أمور نجمل الكلام فيها واحدة واحدة، ثم نلق عليها نظرة جامعة لنتبين أين مبدؤها
ومنتهاها، ومصدرها وموردها، ونرى مكانها من الاختراع أو المحاكاة، وسنعترف لهم في هذا بحسناتهم، ونأخذ عليهم سيئاتهم، أخذ الصديق الناصح لا العدو الشامت، آملين أن يزدادوا من الإحسان، وينزعوا عن الإساءة
ونحن إذا خاصمنا القوم في هذه الأمور فليس خصمنا الأمة التركية جميعها بل الحكومة التركية، يشاركنا في رأينا كثير من رجالات الترك الذين حملت كواهلهم أعباء الحرب الأخيرة، ومهدت أعضادهم لهذا النصر المجيد، ويشاركنا كثير من العلماء وأولى الرأي، وكثير من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً
ونبدأ بمسألة الخلافة، إذ جعلوها فاتحة هذه الأمور، ومفتاح هذه النهضة، قانعين بالقول الموجز واللمحة الدالة في هذا الموضوع الواسع:
مهما يقل القائلون في صحة الخلافة العثمانية وفسادها، وجدواها وضررها، ومهما يفتن المجادلون في تبيان ما جلبت على الدولة من مصائب، ورمتها به من عداوة أوربا، فلا ريب عندي أن الخلافة ما أضرت بالدولة العثمانية قط بل نفعتها أحياناً.
ما حاربت أوربا العثمانيين بما كانوا دولة الخلافة، بل بأنهم دولة مسلمة شرقية. وقد ثارت الحروب منذ نشأت الدولة قبل أن يلقب الخليفة العباسي في مصر بيزيد الأول بلقب (سلطان الروم)، وقبل أن يفتح السلطان سليم مصر ويحمل إلى استنبول الخليفة المتوكل على الله. ولم يكن مكان الترك في الخلافة الإسلامية واضحاً في معظم أطوار حروبهم، بل استقرت لهم الخلافة عند المسلمين ودول أوربا أثناء هذا الجلاد المديد، والحروب المتوالية، إذ اعترف المسلمون أن رأسهم هو هذه الدولة القوية المجاهدة، واعترف الأوربيون في العصور الأخيرة أن للترك أن يتكلموا عن المسلمين كما يتكلم الروس عن المسيحيين. فلم تكن الحروب نتيجة الخلافة، بل كانت الخلافة نتيجة الحروب، وهي على هذا لم تكن واضحة ولا ادعاها العثمانيون صراحة إلا في العصور الأخيرة. . . لو أن أوربا شنت على الدولة العثمانية غاراتها من أجل الخلافة فلماذا قضت على الدولة التيمورية في الهند، ودولة الأشراف السعديين في المغرب وغيرهما؟ ووالت غاراتها على المسلمين في المشرق والمغرب
والحق أن انتحال الخلافة نفع الدولة العثمانية حين ضعفها، وكساها هيبة وجلالاً في الشرق
والغرب؛ وقد أدرك ذلك السلطان عبد الحميد فاجتهد أن يمكن هذه الخلافة في نفوس المسلمين كافة ليرهب بهم أوربا
وإن يكن المسلمون قصروا في الدفع عن الدولة، وإمدادها بالمال والجند، فماذا عسى أن تستطيع الأمم المغلوبة على أمرها، الذليلة في أسر أعدائها. وقد خاف الأوربيون أثناء الحرب الكبرى أن يلقوا الدولة برعاياهم المسلمين فاحتالوا لذلك حيلاً شتى: كان الفرنسيون يأخذون جنود أفريقيا يوهمونهم أنهم سيدافعون عن الخلافة والإسلام، ولم يستطع الإنكليز، بعد تمرد الرديف المصري وإبائه أن يحارب الترك، أن يرسلوا إلى القتال جندياً من المصريين، فاحتالوا عليهم وأخذوهم عمالاً وراء الجيش. وقد تطوع كثير من المسلمين لنصرة الدولة في الحرب والسياسة، ولو كان أمر المسلمين بأيديهم لكان لهم موقف آخر. وقد سمعنا من كبار الساسة الترك وغيرهم أن إنكلترا أشفقت من أن تقف بجانب اليونان جهرة، وتنصرهم بكل قواها في الحرب الأخيرة، حين ثار المسلمون الهند وطلبوا منها الإبقاء على دولة الخلافة، وأن هؤلاء المسلمين على ضعفهم عاونوا على إنقاذ البقية الباقية من الدولة العثمانية. ولا تنس معاونة أمثال السيد السنوسي وطوافه في الأناضول وكردستان لتأليب الناس وإثارتهم للجهاد. وقد رأيت بعيني صورة الغازي مصطفى كمال باشا في قلعة سنوسية أهداها إليه السيد أحمد فلبسها تبركاً
ثم هذه الخلافة العثمانية على وهنها وغموضها كانت في هذا الزمن العصيب علماً ينظر إليه المسلمون إن لم ينحازوا إليه، وتنضوي إليه آمالهم إن لم تنله أيديهم، وتعتز به نفوسهم وترى في خفقانه ذكرى الماضي العظيم، وتباشير المستقبل العزيز
ولقد كان إلغاء الخلافة في هذه الخطوب المكفهرة كحل رباط حزمة من القصب في ريح عاصف بلغت من المسلمين أسوأ مبلغ، وبلغت أعداءهم أبعد غاية. لا ينكر هذا إلا جاهل بطبائع الأمم أو غبي عن تاريخ المسلمين. وأحسب أن الإنكليز - مثلاً - كان يهون عليهم أن يبذلوا ملايين الجنيهات ليبلغوا الغاية التي بلغهم إياها الكماليون بغير ذل ولا كد
ولا ريب أن الترك حين دفعتهم نشوة الظفر على اليونان إلى إلغاء خلافة الإسلام قد أخروا دولتهم من صف الدول العظيمة إلى صف الدول الصغيرة، فهم اليوم في صف دول البلقان، وإن دول العالم العظيمة كانت تتمنى أن تشتري مكانة الترك بين المسلمين بالجهد
الطويل، والمال الوفير، طيبة نفوسهم بما بذلوا وما نالوا
يقال إن للثورة آثارها، وللمحنة أعذارها، وما كان إلغاء الخلافة ضرورة اقتضاها الإصلاح، ولكن إفراطاً أدت إليه الثورة. ونحن نقول مهما يكن السبب فذلك شر أصاب المسلمين لا محالة، وإن عجز عن إدراكه الثائرون في غبار الثورة، فقد أدركه البعيدون يقيناً، وبكوا من أجله طويلاً. على أن عمل الكماليين من بعد دل على أن إلغاء الخلافة لم يكن نزوة ثورة، بل كان الحلقة الأولى في سلسلة مصنوعة، والخطوة الأولى في خطة موضوعة. ويعتذر بعض المعتذرين بأنه كان لابد للنهضة الأخيرة من جمهورية، وكان لابد للجمهورية من إلغاء الخلافة، وهذا عذر أشبه بالذنب. ويعتذر آخرون بأن الصلة بين الروس والترك وحاجة هؤلاء إلى معونة أولئك اضطرتهم إلى إلغاء الخلافة، فهل يرضى الكماليون أن يعد عملهم في الخلافة وما بعدها خطة أملاها الروس عليهم؟ ما أحسبهم يرضون من أصدقائهم أن يقفوهم هذا الموقف ليدافعوا عنهم: وهذا بعد لا يخفف المصيبة التي أصابت المسلمين بإلغاء الخلافة
له بقية
عبد الوهاب عزام
15 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
بستور
صلة حديثه
وصل الفائت: ذهب بستور إلى شرقي فرنسا يبحث فساد الخمور فأصلحها، ثم ذهب إلى أواسط فرنسا على نداء الخلالين واستغاثتهم فأصلح ما فسد من صناعة الخل. وما كاد يستقر في معمله بباريس حتى جاء القدر يدق بابه، جاءه أستاذه القديم (دوماس) يتطبب لدود القز المريض في جنوب فرنسا
- 6 -
فأجابه دوماس: (إن إقليم الحرير في الجنوب هو مسقط رأسي، وقد حضرت تواً من هناك. وقد رأيت، ويا هول ما رأيت! رأيت بلدي المسكين، قريتي (ألياس) المنكودة، تلك البلاد التي كانت ثرية بالأمس، زاهية بشجر التوت حتى أسموه الشجر الذهبي، تلك البلاد أصبحت عراء بلقعا، وتلك العراص الخضر أصبحت غبراء ذابلة، وأهملها وهم أهلي أصبحوا لا يجدون القوت). وكان صوت الشيخ فيه حزن وضيق حتى كاد يتندى بالدمغ
وكان بستور يقدر نفسه ويعضها فوق الرجال، وكان قليل التقدير للغير، إلا أنه حفظ في قلبه إجلالاً خاصاً لدوماس. واعتزم أن يبذل المعونة لهذا الأستاذ الشيخ الحزين. ولكن كيف؟ فبستور في هذا الوقت لم يكن يستطيع على الأرجح أن يميز دود القز من دود الأرض. بل لقد حدث بعد ذلك الوقت أنهم أعطوه شرنقة حرير فرفعها إلى أذنه وهزها وصاح:(ما هذا! كأن داخلها شيء!). جهل مطبق بالشرانق والدود
وكره بستور السفر إلى جنوب فرنسا ليفحص مرض هذا الدود، لأنه كره أن يخيب، والخيبة كانت أبغض الأشياء إلى نفسه. ولكن الجميل فيه أنه برغم كبريائه، وبرغم اعتداده المرذول بنفسه، استبقى من صباه حب الطفل واحترامه لعلمه القديم. فقال لدوماس: (أنا ذا
طوع يديك، فمرني بالذي تريد، وارم بي حيث شئت من الأرض)
وحزم أدواته ومكرسكوباته، وحزم ثلاثة أعوان نشيطين من خلصائه ومريديه، وحزم كذلك أولاده، ومدام بستور - تلك المرأة الصبور التي لم تكن تشكو أبداً - وسافر بهذه الحمولة كلها إلى حيث الوباء يفتك بالملايين من دود القز، ويفقر الألوف من الخلق في جنوب فرنسا. وبلغ (ألياس) فأخذ يتعلم هناك أن دودة الحرير إن هي إلا دودة كالديدان تغزل حول نفسها ثوباً من الحرير يعرف بالشرنقة، وأنها تتحول إلى يرقة داخل الشرنقة، ثم إلى فراشة ترفض ثوبها الحريري فتخرج عنه فتتسلق الشجر وتبيض البيض، وهذا يتفقس في الربيع التالي عن جيل جديد من دود جديد. واستاء رعاة الدود من جهله الفاضح. وذكروا له أن المرض الذي يصيب دودهم يعرف بالندوة، وأنه يتراءى على الدود في صورة بقع صغيرة سوداء كالفلفل. ووجد بستور هناك مئات من النظريات تدعى كلها تفسير هذا المرض، ولم يجد من الحقائق الثابتة غير اثنتين، أولاهما تلك البقع السوداء التي تظهر بظهور المرض، وثانيتهما كريات صغيرة تتكون داخل الدودة، صغرت حتى لا ترى إلا بالمجهر
وقبل أن يستقر في مهبطه الجديد، وقبل أن تستقر أسرته في بيتها الجديد، كشف عن مجهره وأخذ يحدق في باطن هذا الدود المريض، ولا سيما في تلك الكريات، وخرج سريعاً على أن هذه الكريات عرض ثابت من أعراض الداء. وبعد خمسة عشر يوماً من حلوله بـ (ألياس) دعا إليه أعضاء اللجنة الزراعية وقال لهم: (عندما يحين أوان اللقاح، ضعوا كل أنثى وذكر وحدهما، ثم اتركوهما لينسلا وتبيض الأنثى، فإذا خرج البيض فافتحوا بطنيهما وأخرجوا من تحت الجلد شيئاً من شحمه، وانظروا إليه بالمجهر، فإذا هو خلا من تلك الكريات فاعلموا أن هذا الزوج من الدود سليم، وأن بيضه سيفرخ في الربيع المقبل دوداً سليماً
ونظر الريفيون إلي المكرسكوب وهو يلمع وقالوا: (نحن الزراع لا نعرف كيف نعالج مكنة كهذه). وكان في قلوبهم ارتياب وكان فيها قلة إيمان بهذه البدعة الجديدة، فعندئذ تراجع عنهم بستور العالم، وتقدم إليهم بستور الداهية الخبير بأهواء الرجال، فقال لهم: (حسبكم! حسبكم! واخفتوا أصواتكم حتى لا يتناقل الناس هذه الفضيحة عنكم! كيف تعجزون يا
رجالاً ضخاماً عن استخدام المكرسكوب وعندي في معملي بنت لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات تعالجه في لباقة، وتكشف هذه الكريات في سهولة؟!). وقررت اللجنة شراء مكرسكوبات وانصرفوا يعملون بنصائحه
وذهب بستور يبذل من نفسه لحركة لا تعرف السكون، فطاف بالمناطق المصابة بالداء وألقي المحاضرات، ويسأل الأسئلة، ويعلم الفلاحين استخدام المجاهر. ثم يعود في رجعة الطرف إلى معمله يوجه مساعديه ويزودهم بالنصائح في تجارب لم يستطع هو أجراءها حتى ولا ملاحظتها. ثم يملي في المساء على مدام بستور أجوبة كتابات وخطباً ومقالات، ولا يطلع الصباح حتى تراه عاد إلى مناطق الوباء يروح عن الزراع البائسين، ويخطبهم ويبشر فيهم بالفرج القريب
ولكن عاد الربيع بغير الفرج والبشرى. وجاء الوقت الذي يبدأ الدود يصعد فيه إلى أفرع التوت لينسج عليها الشرانق فعجز عن الصعود. وقعت الواقعة وخابت الآمال وأنفقت الجهود في غير طائل! أنفق هؤلاء القوم الطيبون أيامهم على المكرسكوب حتى نال الكلال من عيونهم وأوجع ظهورهم، يطلبون الفراش السالم الصحيح ليخرج لهم البيض الخالي من تلك الكريات اللعينة، فلما حصلوا على هذا البيض السليم، أو الذي حسبوه سليماً، فرخ فخرج منه دود سقيم، قل نماؤه، وضعفت شهيته فقل طعامه، وذهب نشاطه، فأخذ يدور حول عيدان التوت عاجزاً عن تسلق أطرافها، زاهداً في الحياة وفي أطوارها، غير آبه لهوى الغواني الحسان في مفوفات الخز وجوارب الحرير
وا رحمتاه لبستور في تلك الخيبة! جمع المسكين كل همه لتخليص صناعة الخز مما دهاها، فسار ودار وخطب، ولم يبق لنفسه وقتاً يقبع فيه في معمله هادئاً ساكناً يتعرف كنه الداء الذي أصاب الدود. أغراء المجد فخدعه عن العلم، وأغواه الصيت فصرفه عن الحقيقة، والحقيقة لا يفوز بها إلا ساخر بالمجد، عازف عن الصيت، صبور على العمل، جلد على التجربة المسئمة الطويلة
ودفع البأس بعض أصحاب الدود إلى السخرية به والضحك منه، ودفع بعضهم إلى السخط عليه والنيل منه. واسود بياض أيامه، وطلب الخلاص في العمل فزاد انهماكاً فيه، ولكنه كان الغريق ينهمك في العوم يرجو النجاة ويبغي الساحل، ثم يقف هنيهة بعد إجهاد ليحس
الأرض عله يجد قراراً فلا يجد قراراً. واختلط عليه أمر هذا الدود، فقد كان يقع أحياناً على نسائل تسرع في تسلقها عيدان التوت وتأخذ في نسج شرانق جميلة فيأخذ منها أفراداً للتشريح وينظرها تحت المجهر فيجدها مليئة بتلك الكريات التي كان يحسبها دليل الداء. وأحياناً أخرى كان يقع على نسائل أخرى من الدود سقيمة لا تكاد تهم بالصعود إلى أفرع التوت، حتى يعتريها إسهال غازي ثم تنضمر فتموت، فهذه أخذ منها أفراداً للتشريح ونظرها تحت المجهر فلم يجد فيها من تلك الكريات شيئاً. فأخذ بستور يتشكك في اعتبار هذه الكريات عرضاً من إعراض الوباء. وزاد الطين بلة والحالة سوء أن دخلت الفئران إلى دوده الذي كان يجري عليه تجاربه فاستطعمته فالتهمته، وأخذ أعوانه الثلاثة المساكين (ديكو) و (مايو) و (جرنيه) يسهرون الليل بالتناوب على حراسة الدود واصطياد الفئران. وقد يطلع الصباح فلا يكاد ينصرف كل إلى عمله، حتى تظهر السحب في الغرب قائمة، فيترك كل عمله ويهرول إلى شجر التوت يغطيه من المطر. وكنت ترى مدام بستور في أعقابهم والأطفال في أعقابها. وبستور المتعب المجهود كان لا يستقر في المساء في كرسيه الكبير المريح حتى يأخذ في إجابة رعاة الدود المناكيد الذين خسروا كل شيء باتباعهم طريقته في تصنيف البيض
ومضت أشهر طويلة ثقيلة على هذه الحال، جاءته بعدها غريزته تحضه على التجريب، والقدر يمهد له سبيل الخلاص، قال لنفسه:(أنا على الأقل نجحت في الحصول على بعض نسائل من الدود صحيحة سليمة، فإذا أنا غذيتها على ورق التوت بعد تلويثه بإفرازات الدود المريض، فهل يا ترى تموت هذه النسائل السليمة أم تمرض وتذهب؟!). وفعل هذا فماتت النسائل يقينا. ولكن غاظه أن التجربة لم تأت بكل الذي حسبه، فبدل أن يتغطى الدود بنقط كالفلفل سوداء ويموت بطيئاً في خمسة وعشرين يوماً كما يفعل الدود المريض بهذا الوباء، إذا به يتقوس وينضمر ويقضي في اثنتين وسبعين ساعة. واغتم بستور وناله اليأس فأوقف التجربة، وخاف عليه إخوانه الخلصاء مما هو فيه، وودوا لو أنه يعيد هذه التجربة مرة أخرى
(تبع)
أحمد زكي
مراجعات
1
السكر والمبرت
كتب الأستاذ عبد الوهاب حمودة في العدد (100) من (الرسالة) كلمة طيبة حقاً عن الجزء الثاني من (ضحى الإسلام) للأستاذ أحمد أمين. ثم أعترض على عبارة وردت في الكتاب. وقد استغلق على فهم الاعتراض فأحببت أن أناقش فيه الأستاذ عبد الوهاب، عله يجلو لنا وجه الصواب
قال: (ذكر الأستاذ - أحمد أمين - في ص245 أن من نتائج الاختلاف بين القبائل كثرة المترادفات في اللغة العربية، ثم ساق مثلاً لذلك فقال إن السكر اسمه المبرت بلغة اليمن؛ ولي على هذا اعتراضان: الاعتراض الأول أن لفظ السكر ليس بعربي، بل هو تعريب للفظ شكر الفارسية، وهي قريبة جداً من لفظها في اللغة راجع. . . والاعتراض الثاني هو أنني. . . . الخ) وهذا الثاني ليس في موضوع المناقشة
ولقد رأيت أن الأستاذ أحمد أمين لم يقل أن كلمة سكر عربية، ولا يمكن أن يفوته أنها معربة، ولا سيما وقد سردها في الكلمات التي أخذها العرب الفاتحون من الفرس في ص248 من الجزء الثاني من (ضحى الإسلام)
لهذا لم أخرج اعتراض الأستاذ عبد الوهاب إلا على وجه أنه ينكر الترادف في اللغة العربية بين لفظين أحدهما معرب والآخر عربي
وقبل الإفاضة في هذا البحث أرى أن أضع أمام القارئ نص العبارة التي وردت في (ضحى الإسلام)، والتي وجه إليها الاعتراض لتكون على بينة في فهمها وفهم الاعتراض. وها هي ذي:(وكان هذا الاختلاف أيضاً أهم الأسباب في كثرة المترادفات في اللغة العربية، فإحدى القبائل تضع اسماً لشيء، وتضع قبيلة أخرى اسماً آخر، وقد وردت أدلة على ذلك فقالوا: - مثلاً - إن السكر اسمه المبرت بلغة اليمن. . . ولهذا كثرت المترادفات كثرة غريبة، فقالوا إن للعسل ثمانين اسماً و. . . الخ). وعبارة الأستاذ أحمد أمين على هذا الوضع لا تفيد أن السكر لفظ من وضع إحدى القبائل، إنما هي تفيد أن المبرت من وضع أهل اليمن، وأن المبرت والسكر قد أصبحا مترادفين. والترادف على ما عرفه الإمام فجر
الدين هو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد، كذا من الجزء الأول من المزهر للسيوطي ص238. وهذا ينطبق على سكر ومبرت، فلا خلاف في أن كلمة سكر وإن كانت معربة قد اندمجت في العربية واستقرت بين ألفاظها وجرت في كلام فصحاء العرب (وأصبحت ذات حق بمضي مدة طويلة عليها تجري على أسلات الأقلام، وتجيء في أفصح الكلام، وقد عربها العرب فجرت مع الألفاظ العربية في عنان)
هكذا يقول الأستاذ الجارم في ص 326 من مجلة المجمع اللغوي الملكي. وقد ذكر عدة ألفاظ من هذا القبيل من بينها سكر ومبرت. وإن كان الأستاذ الجارم قد عبر عن هذا بأنه ترادف متوهم فقال: (وهناك أسباب دعت إلى توهم الترادف: منها دخول كلمات في العربية من لغات أخرى. . . الخ) إلا أنه عد هذا التوهم من مذهب المتشددين ثم استدرك بما يفيد جواز الترادف فقال: (نعم إن المتشدد لا يعد هذه الكلمات من المترادفات لاختلاف اللغة، ولكن ما الحيلة وقد شاع استعمالها وأصبحت ذات حق بمضي المدة الطويلة. . . الخ) العبارة التي اقتبسناها. وهناك دليل آخر على صحة إطلاق الترادف بين لفظين أحدهما عربي والآخر معرب نجده في كلام الأستاذ الجارم الذي استند إليه الأستاذ عبد الوهاب في اعتراضه. بل هو دليل على صحة إطلاق الترادف بين لفظين أحدهما عربي والآخر أعجمي خالص. ذلك قوله في ص314 من مجلة المجمع: (والمثل الذي نختاره لذلك هو ما أورده السيوطي في المزهر للعسل من الأسماء؛ وقد وردت على أنها من باب الترادف. . . فمن مرادف العسل الدستفشار - والمستفشار. وهو العسل الذي لم تمسه النار؛ وليست واحدة منهما عربية. . . إلى أن قال. . . ونستطيع مما سقناه من مرادفات العسل أن نقيس عليه غيره). فلعل الأستاذ عبد الوهاب يرى بعد هذا جواز إطلاق الترادف بين لفظين في لغة أحدهما عربي والآخر أعجمي أو على الأقل معرب وللفظ السكر بين المعربات مكان وطيد في العربية
اليوزباشي أحمد الطاهر
2
التربية الخلقية والاجتماعية في المدرسة
إلى الأستاذ فخري أبو السعود
قرأت يا سيدي مقالك الذي دبجه براعك تحت هذا العنوان في عدد (الرسالة) السابق، فخطر لي أن أعلق عليه هذا التعليق
كلنا متفق على أن الأخلاق في مدارسنا ليست مما يشرف ولا ينبئ بخير. ولكن الشيء الذي بلبل بالي وشرد خيالي هو طبكم لهذا الداء: هو نصحكم بفصل طبقات الناس في المدرسة، حتى تستقيم أخلاق الطلبة فيها، إذ يقولون في وصف الداء (قبولها - أي المدرسة - الطلاب من جميع الطبقات ووضعها أبناء الطبقة المحترمة بجانب أبناء الطبقة الوضيعة في المدرسة الواحدة بلا تميز) ثم قولكم في مكان آخر تصفون الدواء (فيجب أن تراعى طبقة الطالب الاجتماعية قبل أن يقبل في المدرسة، وأن يكون لهذا شأن في توزيع الطلاب على المدرسة بل الفصول وتخصيص مدارس في البلدان المختلفة لأبناء الطبقات الممتازة والأسر الطيبة)
أين يا سيدي هذه الطبقات الاجتماعية التي تعنيها؟ وعلى أي قاعدة نقسمها؟ أفنتراجع إلى القرون الوسطى نستلهم هذا التقسيم فنضع فواصل ومتاريس بين الأشراف والعامة؟ وإن كان ذلك يا سيدي، فأين طبقة الأشراف هذه أو الطبقة المحترمة كما تسميها؟ وأين طبقة العامة أو الطبقة الوضعية في رأيك؟ كيف نعرفها؟ وبم تميز إحداها من الأخرى؟
أجل أجبتم يا سيدي عن هذا السؤال فقلتم: (الطبقات المحترمة التي تستطيع دفع المصروفات العالية)
إذن يا سيدي كل غني في هذا البلد شريف عالي المكانة سامي الأخلاق، لا يجوز أن يجلس في معهد علمي إلى جانب الفقير الذي يجب أن يكون من (طبقة وضيعة فاسدة تعم فيها رذائل الكذب والغش والقحة وجرأة اللسان)
إذن كل من يستطيع أن يدفع مصروفات عالية يعد من طبقة الأشراف، وكل من يقصر عن ذلك يعد من الطبقة الوضيعة
فأين شرف أكثر الأغنياء في مصر يا أستاذ، ومن الذي يعترف بذلك الشرف؟ أمن الشرف هذه الفضائح الخلقية التي تنتشر عن بعضهم كل يوم؟ أمن الشرف هذه الفضائح المستورة
بين جدران (الفيلات) التي لا يسكنها إلا الأغنياء، وفي قيعان (الصالات) التي لا يؤمها إلا الأغنياء؟
ما رأيك يا سيدي في أنني ما رأيت أفسد أخلاقاً ممن (يستطيع دفع المصروفات العالية)، وممن يستطيع أن يخرج لك من بطانة ثوبه من المال ما يسيل اللعاب ويغري الأفئدة، ومن يعلن في صوت كالرعد أنه اغتنى غناء لا يجاريه في غناه أحد. . ثم ما رأيك في أن أغلب من (لا يستطيع أن يدفع مصروفات عالية) ومن يطرد من المدرسة كل يوم لعجزه عنها هو المثل الكامل للخلق الكامل. . .؟
ثم أراك يا سيدي تشبهنا في ذلك بالإنجليز. . . ولست بالطبع في درايتكم حتى أتحدث عن إنجلترا حديث عارف، ولكن ترامى إلى علمي أن الإنجليزي كلما زاد غناه عظم خلقه، والأمر هنا على النقيض، فالارتفاع هناك بالخلق، والارتفاع هنا بالمال، حقيقة مرة ولكن لا شك فيها
ولكم أود مع ذلك يا سيدي لو تفصل طبقات الطلاب في المدرسة على هذه القاعدة قاعدة الجاه والغنى حتى يتسنى لكل فقير مؤدب أن يحتفظ بأدبه ويستقيم على خلقه
زكي شنودة جندي
ذكرى سيد الوجود محمد
للأديب محمد البزم
نبيُّ حبَا عدنان فضلاً وسُؤْدَداً
…
فٌعَّمتْ جميع العالَمينَ مواهبُهْ
أخُو هِمَمٍ لا يُدرِكُ الدهرُ شَأْوَها
…
ويجهلُها أعداؤُهُ وأقارِبُهْ
رأى الكَوْنَ في تيهٍ من الجهلِ أسفَعٍ
…
تَشُقُّ عُبَابَ الداجِيَاتِ مراكبُهْ
فأطلَعَ في آفاقِهِ فَرْقَدَ الهدى
…
إلى أن أصاب الحقَّ في الليلِ حاطِبُهْ
وَقِيدت له الدنيا مَقادَةَ طائعٍٍ
…
ذَلولٍ فكانت في سواها مآرِبهْ
مُحَمَّدُ إني من مَدِيحِكَ عاجِزٌ
…
وَشَأْوُ بياَنَي دون ما أنا طالبُهْ
أتَيتَ وقد شاخَ الزمانُ فَرَدَّهْ
…
نداكَ فَتِيَّا بعد ما ارْبَدَّ حالبُهْ
سطعْتَ وَلَيلُ الغَيّ مُلْقٍ جِرَانَهُ
…
على الكونٍ تَهْمي بالرزايا سحائبٌهْ
يؤتيكَ وَحْيٌ لا يُرَام ومنطقٌ
…
بوادِرُهُ مَحْمُودةٌ وعواقُبهْ
فجِئْتُ بقُرْآنٍ حوى كلَّ حِكْمَةٍ
…
أنارتْ دياجي الكائناتِ كواكبُهْ
يُنَصُّ فَتُصْمي الظالمينَ حُدُودُهُ
…
وَيُتْلَى فَتُرْدِى المارقينَ ثَوَاقبُهْ
وَقَوَّمْتَ من زَيغِ الأعارِيبِ فاستَوَوْا
…
على مَنْهَجٍ لِلْعَدْلِ يَأْمَنُ راكِبُهْ
وَرُضْتَ جِمَاحَ المُستبِدِّينَ راكباً
…
من الحقِّ متنْاً يُوضِحُ السمْتَ لاحِبُهْ
تلطفتَ بالغاوِي فَطَوْراً تُلِينُهُ
…
وحيناً تُصَاديهِ وآنًا تُغالبُهْ
َجَلوْتَ عَمَاياتِ القلوبِ فأبَصَرتْ
…
وزِيحَتْ عنِ الُّلبِّ السليمِ غيَاهبُهْ
ودافَعْتَ عن ذاتِ الإلهِ بِعَزْمَةٍ
…
متى رامتِ الجبَّارَ صاحت نوأدبهْ
وأوصيتَ خيراً بالكنائِسِ مانعاً
…
ذَوِيها، وجيْشُ الحقِّ تمضي قَوَاضِيُهْ
صَقَلْتَ حواشي الدهرِ فانْصَاعَ طَيِّعاً
…
وأذْعَنَ لا تَسْرِى بِشَرٍّ عقارِبُهْ
وَقلَّمتَ أظْفَارَ الزمانِ فأعرَضَتْ
…
عن الضارِعِ المسكينِ تَنْأَى مصائبُهْ
وذي أَشَرٍ أنَعْمتَ بالخيرِ قَلبَهُ
…
وقد أُنعمَتْ بالشَّرِّ قَبْلاً تَرَائبُهْ
وذي دُرْبَةٍ رازَ الزمانَ تَركْتَهُ
…
كَذِي الجهل ما أجدَت عليه تجارِبُهْ
وَغَضْبَةِ حقٍّ في عُلَى العُرْبِ غادرتْ
…
عدوُّ بني عدنانَ سُفْلا مراتِبُهْ
وَفيْلَقِ ظُلمٍ سَارَ كالبحرِ زاخراً
…
يَجْرٌّ بهِ ذَيلَ الغوايةِ ساحبُهْ
بَعثت به جيشاً من الرُّعْبِ فارْعَوَى
…
تضيقُ بهِ أجْوَاؤُهْ وسباسِبٌهْ
يخِفُّ إليك الدارعونَ مخافَةً
…
وقد أمنَتْ أطفالُهُ وكواعِبُهْ
تحوطُكَ من عُلْيا قُرَيْشٍ عصابةٌ
…
لها الفَلَكُ الدوَّارُ تعنُو ذوائبُهْ
جَرَرْتَ بهم ما بين شَرْقٍ ومغرِبِ
…
كتائِبَ عزمٍ نائيات رغائبُهْ
إذا مرَّ منْهُمْ موكِبٌ لاحَ موكِبٌ
…
تمُجُّ زُعَافَ الموتِ صِرْفاً مَقَانبُهْ
بكلِّ َفتى ماضِي العَزَائِمِ لَهْذَمٍ
…
إذا اعتَزَّ شَأْنُ العُرْبِ يعتَزُّ جانبُهْ
يرُومونَ مَجْداً لا تنى عزَماتُهُمْ
…
عن المجدِ حتى يدرِكَ المجدِ خاطِبُهْ
دفعتَ بهم في وَجِه كلِّ عظيمةٍ
…
فخاضوا إليها الموْتَ دُهْماً مسارِبُهْ
فأَسْأَرْتَ للأَقْوَامِ في كل وِجهَةٍ
…
جَداً لم تَشُبْهُ بالأذَاةِ شَوائبُهْ
وغادرْتَ للإسلام صَرْحاً مَمرِّداً
…
تُناطحُ أعنانَ السَّماء مناكِبُهْ
فلا زَالَ مِنْ قُرْقانِكَ البرِّ للوَرَى
…
مناهِلُ هَدْىٍ صافيات مشارِبٌهْ
دمشق
محمد البزم
تأبين الكاظمي
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
صدق النعيُّ ومات عبد المحسن
…
يا شعر أَبّنه ويا نفس احزني
يا شعر أنت ومحسنٌ قد كنتما
…
عمراً رفيقيْ غربةٍ وتوطّن
قد عشتما في كل منزلة معا
…
كالفرقدين اللامعين وأحسن
أو زهرتين ولا أراني داريا
…
أشغفتُ بالنسرِين أم بالسوسن
حتى احتوته يدُ المنايا بغتة
…
بمخالبٍ معقوفةٍ كالمحجن
لمن الزعامة في القريض ومن لها
…
بعد الحفيّ الشاعر المتفنّن
ملأت قصائدُه القلوبَ حماسةً
…
من بعد ما شغلت جميع الألسن
شعرٌ يكاد يسيل منه لفظٌه
…
مثل الندى من رقةٍ فيهزّني
شعرٌ إليه بفعل مغناطيسه
…
في السمع تنجذب القلوب وتنحني
العبقريةُ فيه مُعتَرَفٌ بها
…
من ذا يسئ ظنونه في المحسن؟
شيخ القريض قضى فكان عليه لي=حزنٌ بعيدٌ غورُه قد مضّي
في كل قطر أبّنته عصبةٌ
…
ما كلٌ من لاقى الردى بمؤبّن
بكت العروبة في الجزيرة محسناً
…
ما موتٌ شاعرها الكبير بهيّن
فقدت فأوجع قلبَها فقدانٌها
…
منه فتىً شهماً كريم المعدن
مات الذي كانت به معتزَّةً
…
يا رب إن الخطب جلّ فهوّن
قد كان في كل المواقف واثقاً
…
بالنفس شأن الشاعر المتمكن
دفنوه في ملحودة وخياُله
…
في أعيني فكأنه لم يُدفن
ما كان للآداب إلَا روضةً
…
ما شَئت من زٍهر حوته تَجتَني
مَن للغريب قضى وكان مولّيا
…
للطرف عند الموت شطرّ الموطن
قدودّ لو أن المنيّة أمهلت
…
وإليه عبدَ به قريرَ الأعين
لكنها قد أعجلته بضربةٍ
…
من كفّها في وثبةٍ من مكمن
الشعرُ أسمع شاجياً خفقانَه
…
فكأنهّ أنات قلبٍ مٌثْخَن
يا شعر أنت من الفجيعة مؤلَمٌ
…
وأرى الأسى بجبينك المتغضّن
بيني وبينك في الحياة وشيجةٌ
…
وجميعٌ ما هو محزنٌ لك محزني
يا شعر بعد الناثرين دموعَهم
…
إن كان عندك ما تبثّ فبيّن
ما أكبر الأخلاق في نفس امرئ
…
إن خاشنته الناسُ لم يخشوشن
قد عاش عيشاً والحياةُ مُلَّحةٌ
…
ما كان بالمْغنى ولا بالمسمن
من ديدن الشرق احتقار دوى النهى
…
والشرق ليس مُغّيراً للديدن
الكاظميّ قد اعتني ببلاده
…
وبلاده بحياته لم يعتن
لو كان يحظى في العراق ببلغةٍ
…
ما سار يقصد مصرَ عبد المحسن
بلدُ به بخلاف ما في غيره
…
شبع الدخيلُ وأَسغب ابن الموطن
للمرء في الأرض الفضاء مساكنٌ
…
أنّي مضى والقبرٌ آخر مسكن
والموت فوق جنادل وصفائح
…
كالموت حُمَّ على فراشٍ ليّن
لا تسألوني عن مصير مَن انطووا
…
أنا بالعواقب لستُ بالمتكهّن
قالوا وراء الموت أهوالٌ ولم
…
أحفل بما قالوا ولم أتيقّن
ولعل هذا الموت مبدأ رحلةٍ
…
للروح خالدةً وراء الأزمن
تبنى الحياة لها الصروحَ من المنى
…
والموت يهدم كلّ ما هي تبتني
في الكون هذا كلُ شيء ممكنُ
…
إلا البقاء فذاك ليس بمكمن
وكأننا صور الخيال لبرهةٍ
…
نبدو ونخفى عن شعاع الأعين
الكون عن ماضيه لم أك راضياً
…
والكون عن آتية لستُ بمأمن
فرحُ بجانبه همومُ جمةُ
…
هذا منيحةُ دهرك المتلوّن
لابد من موتٍ لمن هو عائشُ
…
فاشجُع إذا قابلَته أو فاجبن
إن المنون لرابضٌ مُتحيّنٌ
…
ماذا مرادُ الرابض المَتَحيّن
أرَبابُ إن الحزن يقتل أهلَه
…
أرَبابُ يا ابنة محسنٍ لا تحزني
أرباب صبراً فالحياة فريسة
…
والموت ذئبٌ إن سطا لا ينثني
يا بلبل الشعراء مالك صامتاً
…
من بعد تغريد بشعرك مُشجِن
قد سرتَ قبلي للردى متعجِّلاً
…
ولعّلني بك لاحق ولعلَّني
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي
أبو الطيب المتنبي
للأستاذ معروف الرصافي
كان أبو الطيب امرأ قُوَلَهْ
…
يبتكر الشعر مذكياً شُعَله
صاحب نفس كبيرة شرفت
…
فشرَّفت حله ومرتحله
كان هو الشاعر الذي انتشرت
…
أشعاره في البلاد منتقله
أوجد للشعر دولة عظمت
…
به فعزت من غيره دُوَله
من كل معنى أغر مؤتلق
…
في لفظه كالعروس في الحجَله
وربما رق لفظه فبدت
…
في شعره كل كِلْمةٍ ثمله
وربما لم تَبن مقاصده
…
لأنها فيه غير مبتذله
فسائلن عن قريضة حلبا
…
كم قطفت منه زهرة خَضِله
خلد ذكراً لسيف دولتها
…
أيام وشَّى بمدحه خلله
فاعجب لسيف لم تَبْل جدته
…
وشاعر بالمديح قد صقله
ولو حاز موسى مضاء عزمته
…
ما تاه في التيه عندما دخله
وهو الذي اجتازه بِعْمُلَةٍ
…
تحمل منه الهمام لا التُكَلَه
قد بات كافور من جراءتها
…
على الموامي بمهجة وجله
إذ أعجزته بالسير عن طلب
…
لا خيله تخشى ولا إِبله
فسل به النيل يوم ناقتُه
…
تغمرت منه وانتحت جبله
كيف أتى مصر كالعقاب لكي
…
يبلغ فيها بشعره أمله
وكيف أحيا بالمدح أسودها
…
ثم وشيكا بهجوه قتله
في شعره حكمة مهذبة
…
وروعة بالذكاء مشتعلة
ونغمة بالشعور صادحة
…
وصنعة بالفنون متصله
قدرته في البيان واسعة
…
يتيه فيها السؤال والسَّأله
إذا المعاني بذهنه ازدحمت
…
ما ربكت في انتقائها حيله
كم شاعر قد قفا له أثراً
…
وناقد راح يبتغي زلله
فأخفقوا عاجزين عن درَك
…
لبعض ما كُلُّلهُ تيسر له
قل لابن عباد أي منقصة
…
من أجلها كنت مكثراً عذَله
أطبُعه بالذكاء متقداً
…
أم نفسه بالإباء مشتملة
أم شعره والعصور ما برحت
…
تسعى بكل استجادة قِبَله
لكنما رمت من مدائحه
…
ما لم تكن سالكاً له سبله
طَمَاعة منك غير واعية
…
وهي لعمري حماقة وبَلَهْ
أكبر من أكبر القريض به
…
وأكبر القائلين من قتله
يا قاتليه لو تعلمون به
…
إذن قتلتم نفوسكم بدله
لكنكم تجهلون رتبته
…
ماذا فعلتم يا أجهل الجهلة
قتلتم الشعر والإجادة والإ
…
بداع فيه يا الأم القتلة
لستم بذا القتل من بني أسد
…
بل انتموا فيه من بني ورَله
لم يزل الدهر بعد مقتله
…
يضرب في الشعر للورى مثله
كان له عند كل بادهة
…
بدائع في القريض مرتجله
يصطاد في الشعر كل شاردة
…
من القوافي بفطنة عَجِله
فلا تقسه بغيره أدباً
…
وهل تقاس العطار بالتفله
كم شاعر يدعى وليس له
…
من شعره غير منطق الجهلة
إن أنت أنشدت شعره هزؤا
…
رجعت منه كآكل البصله
ورب شعر إذا لفظت به
…
من هجنة فيه تأنف السبلة
الشعر معنى ألفاظه حسنت
…
فنسقت في بلاغة جمله
وكلما قصرت قوالبه
…
عن حسن معناه أوسعت خلله
حسن المعاني بلفظها شوه
…
كحسن حسناء ثوبها سمله
من ذاق في الشعر طعم معجزه
…
فاحمد الشاعر الذي أكله
أي مقام هيجاؤه احتدمت
…
بالشعر يوماً ولم يكن بطله
كان عزيزاً يأبى الهوان فما
…
قر عليه يوماً ولا قبله
معروف الرصافي
القصص
من أساطير الإغريق
هيرو وليلندز
المأساة الغرامية المؤلمة
للأستاذ دريني خشبة
أرسلوها إلى الدير، طفلة بريئة النفس، طاهرة القلب، بسامة الثغر، وضاحة الجبين؛ كلما وضعت إبهامها في فمها تمصه، تمثلت فيها سذاجة الطفولة وجمالها ودعتها
ونذروها لفينوس، فكانت ربة الحب تنسرق في القمراء الصافية لترعى طفلها، ولتنفث فيها من رقى السحر ما تعدها به لمستقبل غرامي ملئ. وكان الكهنة يتفرسون في شفتي هذه الوديعة الصغيرة ألغازاً لا يدركون لها كنها، وأسراراً لا يفقهون لها معنى، إلا كنه الصبابة الحمراء تنثال فوق الثنايا الأربع البراقة، وإلا معنى القبل الناضجة يختلسونها كلما افترنا عن ابتسامة، أو انفرجتا لدغدغة أو تخميش
وشبت هيرو
وتفتح الورد في خديها الناعمين، واستيقظ النرجس في عينيها الناعستين، وضحكت فينوس في شفتيها الحمراوين، ونبت الخمل الحريري يطري صباها الغض، وشبابها الفينان! وعينت راهبة لفينوس في سيستوس، المدينة الخالدة، التي تربض على شاطئ الهلسنت الأوربي، قبالة أبيدوس، مدينة الأحلام، على الشاطئ الأسيوي
ولبثت الراهبة الرائعة تؤدي الطقوس والشعائر الدينية لربة الجمال والحب، في برج مشيد مشرف على البحر في قصر أبيها، ولبثت الشهرة تذيع محاسنها في المدينة الكبيرة، والصيت الرنان يتحدث عن جمالها بين الأهلين كما يتحدث الشذى عن ورده، والأرج عن رنده، حتى أصبح اسمها أغنية كل فم، وهتاف كل لسان
وسمع لياندر، فتى أبيدوس وأشجع شبابها، والذائد عنها في كل حومة، بهبرو الراهبة، فعجب أن تكون حقيقة كما يصفها الناس، وحسب أن المبالغة هي التي نفخت في شهرة هيرو، فلم يهتم لما سمع عن مفاتنها، وصرف ذهنه الشاب الفتى عن هذه الطوبى التي
سلبت ألباب الفتيان، وغدت حلماً ذهبياً لكل مدله ولهان
ولكنه كان يزداد تذكراً للفتاة كلما بالغ في نسيانها أو تناسيها، وإذا صح أن الأذن تعشق قبل العين أحياناً، فلقد كانت أذن لينادر عاشقة وامقة، وما برحت تلح على قلب صاحبها بالعشق والمقة، وما برح يعرض عنها ولا يصغي لها، حتى أعلن في سيستوس عن حفل ضخم يقام في هيكلها تكريماً لفينوس وتقديساً، وأن الشباب من الجنسين مدعوون للمشاركة في الاحتفال بربة الجمال والحب، وليس أولى من الشباب بتكريم الجمال والحب!
وترامى خبر الاحتفال حتى بلغ الشاطئ الأسيوي في أبيدوس وحتى سمع به لياندر، فابتسم، وشعر في سويدائه بأول قبس من نار الحب، فألهب إحساسه وأشتعل قلبه، وملأ ضالعه شوقاً إلى هيرو وتحنانا
واعتزم المشاركة في الاحتفال، لا تقديساً لفينوس، ولكن لينظر إلى الراهبة الحبيبة التي ملأت خياله، وأصبحت مثله الأعلى الذي ينجذب دائماً إليه، مدفوعاً بالقوة الخفية الخارقة، خاضعاً للسحر المطوي العميق
وإذ كان اليوم المنشود، ارتدى الفتى أبهى ملابسه، وانطلق يحدث نفسه أماني الحب، ويتغنى أغرودة الجمال، وظل يحلم في طريقه إلى سيستوس بهذا الأمل اللماح، الذي يشبه في تحجبه في ثنايا المستقبل، قمر ليلة مكفهرة قمطرير، ما يفتأ يتخايل في تضاعيف السحب!
وعبر الهلسبنت في زورق أبيض جميل، مخسر ما بين العدوتين في ساعة كانت في فؤاد العاشق المشتاق أطول من أحقاب وأحقاب!
وقصد إلى الهيكل، وطفق يدافع الجماعات، ويزاحم الجماهير، حتى كان بين يدي هيرو
وكانت باقات الورد تتناثر من هنا وهناك تحت قدمي الراهبة الصغيرة التي استوت على منصة ترتفع قليلاً عن مقاعد المدعوين، مشرقة مؤنقة، كأنها زنبقة، ملتفعة بردها الحريري الأبيض، مكتثة بذراعها اللدنة الجميلة على سنادة المنصة، مقلبة عينيها الدعجاوين في الجماهير المتكببة حولها تلتمس البركات. . .
وكانت فينوس قد أقبلت من مملكة الأولمب تشهد المهرجان الحاشد، وتشبع خيلاءها باستملاء الشباب الهاتف باسمها، المترنم بعبادتها؛ وكان معها أبناؤها الغر الميامين، وفيهم
كيوبيد وهرمونيا، فاختبأ في أبراج الهيكل، ولبثوا ينظرون إلى الملأ ويعجبون.
وأرسلت فينوس عينها الفاحصة في الملأ، فرأت لياندر العاشق يرنو إلى هيرو الراهبة، وتكاد عيناه تلتهمانها التهاماً؛ ولاحظت أن هيرو منصرفة عن الفتى المسكين لا تكاد تعيره نظرة، ولا تمنحه التفاتة، وهو مع ذاك مشرئب إليها، ينظر نظرات كلها عبادة وعيناه مغروقتان بدموع تكاد تنهمر
وتحرك حنان الحب في فؤاد ربة الحب، وأقسمت لتعاونني في هذا المشروع الغرامي العظيم!!
وذلك أن فينوس لم تكن تجيد الحب لنفسها فقط، بل كان يثلجها ويملؤها غبطةً أن ترى إلى عبرات المحبين، وتسمع إلى رنين القُبل في شفاه العاشقين؛ فأشارت إلى ولدها كيوبيد - رب الحب، وصاحب السهام الذهبية والقوس ذات الوتر العُرد - فأقبل عندها، وألقت إليه أوامرها. . .
فوتر كيزبيد قوسه، وتخيّر واحداً من سهامه، وأنتهز فرصةً من هيرو كان نظرها متجهاً فيها إلى لياندر، وأرسل إلى قلبها السهم الذي يحمل رسالة الحب، فدخله غير مستأذن، وملأه لوعةً وصبابة. . . وجُنَّت للحظتها بالفتى. . .
وتخبر كيوبيد سهماً آخر، وأرسله هدية حارةً، دامية، إلى فؤاد لياندر. وما كاد يستقر فيه، حتى أحس الفتى أنه لم يغد واحداً من هذه الأجسام الفانية الهالكة بعد، بل هو قد صار طيفاً نورانياً؛ وأحس مع ذاك بحب غمرٍ لم يكن له به عهد من قبل، جعله يفنى فناءً تاماً في هيرو الراهبة، التي نظر فألفاها تلتهمه هي الأخرى بعينيها وقلبها التهاماً!!. . .
لله يا حب ما أجملك، وما أبر فينوس بعبادتك!. . .
ودلف لياندر نحو المنصة، وتمتم بكلماتٍ خافتةٍ، (كأنما هي بَثُّ الورد للمطر!) يفهمها المحبون وحدهم، حين يتكلمون بأطراف الشفاء والعيون؛ فعلمت هيرو أن حبيبها يُقرئها حبه، ويسرُّها هيامه، ويرجو منها أن تمنحه ميعاداً يلقاها فيه على حدة، ويعبدها خلاله على انفراد.
وارتبكت هيرو، وتصارع في نفسها الخوف والحب؛ الخوف من أن يلحظ أحد راهبة فينوس تصبو، وبذلك يهوى احترامها إلى حضيض السخرية، والحب الذي تكتمه في
صميمها للياندر، والذي أثاره فيها سهم كيوبيد، ولم إلا أن تنهر العاشق الملّح لينصرف، ولكنه ما يزداد إلا تعلقاً بها، وتشبثاً بما طلب إليها، ورجاها فيه، وتكون هيرو قد بلغت حالةً بين الهيام والإشفاق لا تحتمل، فتهمس إليه أن ينتظر حتى ينصرف الناس؛ فإذا انصرفوا، خلت إليه، وحدثته حديثاً موشى بالورد، مبللاً بدموع الحب، يختلط فيه أنين الآهات برنين الموسيقى. وتذكر له أن اتصالهما سيظل حباً في حب، وبكاءً في بكاء، ولوعةً في إثر لوعة، وزورة مختلسة تعقبها زورة مختلسة:(لأني راهبة كما تعلم، وأنا خادمة هذا لهيكل الفينوسي المقدس، وسأظل عذراء أبد الدهر، فلن ينتهي حبنا إلى هذا الزواج الذي أوثره وأتشهاه. فإذا كان الغسق يا حبيبي، وتألق النجم في كبد السماء يردد أنَّاتنا، فاقصد إلى شاطئ البحر عند أبيدوس، وأخلع ملابسك، ثم خض عباب الهلسبنت حين أعطيك إشارة من مصباحي، حيث أكون في برج قصرنا المشرف على البحر عند أقصى حدود سيستوس. فإذا وصلت، وستصل سالماً في رعاية فينوس، فهلم إليَّ فير البرج نلتذ آلام الحب، ونتغنّ أشجان الهوى، واضعة رأسي على صدرك أو واضعاً رأسك على صدري، شاكيين إلى الآلهة ما بنا من برحٍ حتى يطلع الفجر فنفترق، وتعود أدراجك إلى الشاطئ الأسيوي سابحاً، فإذا كان غد، عدت إليَّ لأفني فيك وأغمرك بالقُبل ولأ قرأ نفسك، وتقرأ في نفسي، كتاب الحب وآي الطهر. . . وبوركت فينوس!).
ولقد آثرت هيرو خطة الحذر في صلتها الغرامية بلياندر، لأن شطئان الهلسبنت كانت حرماً على السفائن والزوارق وسائر الجواري بعد ساعة من غروب الشمس، فلو قدر كب زورقاً وعبر به البوغاز، لعرَّض نفسه لأخطار جسام من بينهما عقوبة الإعدام دون محاكمة! لذلك لم يكن بد من أن يقطع البحر سابحاً كما رسمت له هيرو
(معبودتي! سأخوض العباب في سبيلك)
(وأطوي بحار الجحيم لو أنها تحجزني عنك)
(فلا الموج جياشاً باللهب، ولا الأعماق تقذف باللحم)
(ولا الفزع الأكبر في الأرض أو في السماء؛ ولا هذا ولا)
(ذاك يحول دون لقائنا يا معبودتي!)
فلما كان غد، وتوارت الشمس بالحجاب، وأقبل ليل العاشقين بشكواه ونجواه، يم لياندر
شطر البحر، ووقف فوق رمال الشاطئ كأنه يعدها، ولبث يرقب البرج على العدوة الأخرى، وفي قلبه أمل مضطرب، وفي نفسه قلق مستمر، وملء يديه منى تملأ العالم بأسره!
وظل يذرع الشاطئ جيئة وذهوباً، وهو حين يروح أو حين ينثني، يحملق في البرج المشيد لا تريه عيناه عنه. وكانت الرياح تدمدم في جنبات الآكام الممتدة على الساحلين، والموج يزخر في غيران طوروس الشامخة، والبحر يقذف سراطينه على الكثبان البعيدة النائية، والسحب تتجمع وتتفرق كأنها موج الظلماء في خضم السماء. . .
وفجأة لمح لياندر بصيص النور في كُوى البرج الشاهق، فانفلت من ثيابه كأن الشعاعة تجذبه، ولم يعنه أن يمزق هذا الكم ويشق ذاك الجيب، ولم يبال أن يقذف بالقميص هنا وبالبرد هناك؛ ثم ينقذف في الماء ويأخذ في سباحته، ترفعه موجه حتى يحسب أنه يمسك النجم ويلمس السماء، وتخفضه موجة حتى ليخال البحر ينشطر بحرين، وهو في أعماق يؤانس التريتون، ويجالس الأوسايند!!
وكانت فينوس تنظر من علياء الأولمب وتلهو. . .
وما برح يصارع البحر والبحر يصرعه، وما برح يتقدم إلى أمام ويسحبه التيار إلى الوراء، وكلما خانته قواه نظر إلى البرج يتزود من بدره قوة، ومن القُبل الحارة التي تنتظره ثمة دفئاً ونشاطاً مجدداً!
وبلغ الشاطئ. . .
ووجد هيرو تنتظره كأنه الأمل المرتقب، والمُنية المرتجاة، فهرعت إليه استقرت في حضنه، ولبثت تتسمَّع إلى دقات قلبه الواجف الذي يخفق لأول مرة بموسيقى الحب!. . .
(وأمتد فم الفراشة المرتجف، يرشف رحيق القُبلة الأولى من الثغر الحبيب الذي تفتحت عنه جلنارة الحب)
وتمزقت السحب وتكشفت السماء، وأطلت النجوم ترنو إلى العاشقين المدلهين يتباثان ويتشاكيان، ويأخذان في لذة الهوى الطاهر، ونعيم الحب البريء. . .
وكانت فينوس تنظر من علياء الأولمب وتلهو. . .
ونسمت في الأفق الشرقي أنفاس الفجر، فنهض الحبيبان يودع أحدهما الآخر، ويتزودان
للنهار الطويل من زاد الهوى نظرات وقبلات!!
وفصل لياندر، وأطلت هيرو من الكوَّة الصغيرة تنظر إليه وهو يداعب الموج والموج يداعبه، والزبد يلبسه ويخلعه. .
وفينوس تنظر وتلهو. . .
أشرقت الشمس وتوارت، وأقبل الليل وتنفس الفجر؛ وعصفت الريح أو هبت رُخاءً، والتمعت الشعلة تضيء للعاشق ظلمات العباب. . . واطمأن البحر إلى صاحبه حتى خاله أيسر من ظهر الأرض، فكان يطويه إلى مُنية نفسه وهويَّة قلبه في كلُّ موعد منتظر، ثم يؤوب على متنه حين ينصدع عمود الظلماء، وكأنه يمتطي من ظهور الموج الصافنات الجياد. . .
وكان فجراً شاتياً يكاد سنا برقه يخطف الأبصار، وزمزمة رعوده تهد جوانب الأفق، وكان البحر يتقلب ويرتعد كأنه زلزلة تأخذه من أعماقه، فأوجست هيرو خيفة على حبيبها، وتعلقت به، وراحت تغمره بالقُبل متوسلة ضارعة، ترجو منه أن يبقى بجانبها ولا يجازف بحياته في هذا اليم المصطخب، وهي تدبر له مخبأ يأويه ذلك اليوم، حتى تسكن العاصفة، وينام الماء. . .
وثارت النخوة في نفس لياندر، وشاعت الكبرياء في جسمه القوي المفتول، وأنف أن يجبن أما الطبيعة الساخطة الضبى، فطمأن هيرو واحتملها كالحمامة في يديه الجبارتين، وطبع على شفتيها المرتعشتين قبلة تجمعت فيها روحه كلها؛ ثم انفتل من بين ذراعيها الضعيفتين، وهرع إلى البحر فخوض فيه، ملتفتاً بين برهة وأخرى البدر الصغير المشرف عليه من الشاطئ. .
وفينوس البارة تنظر من الأولمب وتلهو. . .
وأحس في منتصف الطريق برعشة وإعياء، ولكنه كان يهتف باسم هيرو مرة، وباسم فينوس أخرى، فتنشط الثمالات القليلة الباقية من قوته الفانية. . . ورثت لحالة ربة الحب، فنفخت في ذراعيه المجهودتين حتى وصل إلى شاطئ ابيدوس مهدوداً محطماً. . . وتهالك على نفسه، فوصل إلى منزلة، وأوى إلى فراشه ليحلم بالموت المحقق الذي نجا منه منذ ساعة. . .
وغابت الشمس؛ ولكن العاصفة ما برحت تزداد شدة وعنفواناً، والبرق ما فتئ يطوي السماء، وكان كلُّ شيء ينذر لياندر بسوء المنقلب؛ ومع ذاك فقد نهض غير مستيئس، وقصد الهلسبنت فوقف بشاطئه يبتسم للأهوال التي يضطرب بها بطنه، ثم لمح الضوء ينبعث من كوى الكوخ. . . فخلع ملابسه، وبدأ رحلته. . .
وكانت فينوس لا تنظر ولا تلهو. . .
لأنها كانت عند حبيبها أدونيس الراعي الجميل تستمتع به، بعد إذ فضحها أبوللو في حبيبها مارس.
ولم يبل لياندر من البحر ما بلا هذه الليلة. . . فلقد كان الموج كأنه ألواح من الثلج تتكسر على ظهر الفتى المسكين، وتصدع ذراعيه، وترتطم برأسه. . .
ولقد كان الماء هذه الليلة كأن شيئاً من الصبر قد ذاب فيه؛ بعد إذ كانت ملوحته تستحيل شهداً في فمه، وعسلاً مصفى!
ولقد كان البرد ينهمل من السحب القاتمة والصقيع يساقط كندف القطن الأبيض، فيعلق بشعره لياندر، وينسج فوقه قلنسوة - ولا نقول تاجاً؟. . - من برودة الموت. . .
وجاهد العاشق. . .
وسبح باسم هيرو بين موج كالجبال، وليل كله ظلمات وا أسفاه!!
لقد نظر المسكين إلى البرج يتزود من نوره، ولكنه لم يرَ الشعاعة تتألق كما عوَّدته. . .
لقد أطفأنها الرياح الهوج فأطفأت في قلبه بصيص الأمل. . واستولى عليه خور الفجر السابق، ودهاه القنوط في عضلاته، فيئس منها جميعاً. . . وضاعف النكبة شرقة بالماء حين أراد أن يهتف باسم هيرو. . .
فغاص!. . .
ولفظه أيم جثةً هامدة. . . ثم ابتلعه ثم لفظه. . .
ثم انتصف الليل، وهيرو المشوقة حاملةٌ مصباحها الخافت، بعد إذ أشعلته ثانية، ولكن الساعات تمضي. . . ولا يصل لياندر. . .
وتنفس الصبح، فسارعت الراهبة الهيمانة إلى البحر، وحملقت في الماء. . . فأبصرت الجثة الحبيبة ترتطم بأصل البرج، كأنه حنين الجسم إلى أحلام الروح. . .
وصعقت هيرو. . .
ودارت بها الأرض، وانطفأت في عينيها مباهج الحياة بانطفاء أملها المشرق وبدرها البسام! فألقت بنفسها في الأعماق.
وما هي إلا لحظة، حتى كان الحبيبان مسجَّيين على سرير الماءُ مُلفَّفين في حرير الزبد!!
دريني خشبة
من الأدب الإيطالي
الليالي العشر
ترجمة اليوزباشي الأديب أحمد الطاهر
2
قصة حب سيمون وأيفيجينا
قال: سمعت من القصص شيئاً كثيراً وكان أحبها إلى نفسي قصة الحب التي ستسمعون. هي قصة تريكم متا للحب من قوة وبأس بالغين الغاية في العجب، موفيين على النهاية في الغرابة
كان يسكن جزيرة قبرص في الزمن الخالي رجل عظيم القدر بين الرجال، واسع الثراء بين أصحاب المال، وكان أسمه (استيبوس)؛ غير أن الرجل لم يكن مكتمل الحظ من السعادة، فقد كان له ابن طويل القامة وسيم الطلعة، ولكنه ضعيف الإدراك سقيم الفهم مطبق الغباء. ولم يكن في وسع أبرع الأساتذة والمهذبين أن يوقظوا غفلته، أو يصقلوا طبيعته أو يهذبوا غلظته، فلم يجد الوالد بداً من أن يقصى هذا الفتى المنكود عن مرآه، ويبعده عن موطنه. فأرسله إلى منزل له في الريف يعيش فيه بين الأتباع والعبيد. ولقد كان الفتى أميل إلى طباع أولئك وأقرب: ففيه خشونتهم وجفاؤهم وغلظة طباعهم
- كان الفتى يوماً يمشي في المزرعة وقد أسند عصاه إلى كتفيه، واعتمد على طرفيها بذراعيه، فلقي فتاة بارعة الجمال مستغرقة في نوم عميق، قد اطمأنت إلى الحشائش الخضراء فراشاً وثيراً، ونام عند قدميها امرأتان وخادم. لم يكن لسيمون - وهذا أسم الفتى - عهد بوجوه النساء فاتكأ على عصاه، وحدق ببصره في وجه الفتاة، أن كانت بارعة الجمال في نومها، ساحرة الحسن في غمضها، هاج مرآها من نفسه شعوراً وإحساساً لا عهد له بهما ولا بأقل منهما، وكلما أمعن في النظر أزداد هذا الشعور وأسرف عليه هذا الأحساس، وإنهما ليغريانه بإطالة الوقوف وإمعان النظر فهو لا يريم، وينفرج جفنا الفتاة
عن عينين يقرأ فيهما هذا الغبي في طلاقه وسهولة معاني الجمال، ومن معانيه الحلاوة والرفق والبشر. ثم هذا فمها الصغير ينفرج عن كلمات يدرك الفتى الأبله ما صيغت فيه من جمال في اللفظ وعذوبة في الجرس:
- (لم ترمقني هكذا؟ أرجو أن تنصرف عني. يفزعني مرآك)
- قال الفتى: (لا أتنحى، بل لا أستطيع)
ودار بينهما حوار أنتهي عند الفتى فلم يغادرها حتى أبلغها دارها.
ثم أرتد إلى أبيه وقد فهم اليوم معنى من أدق معاني الحياة. ولم يكن قبل اليوم يفهم أن للحياة معنى. قال: (يا أبتِ إنني أود أن أحيا حياة الرجل المهذب، ولقد برمت بحياة المتأبدين)
كان عجباً للوالد أن رأى أبنه يفكر ويصيب في التفكير، ويريد ويحسن الإرادة، ويتكلم ويجيد التعبير، في صوت رقيق، ولفظ رفيع
وألبسه ثياباً تليق بقدر أسرته ومكانتها وبعث به إلى المعلمين والمهذبين فقضى بينهم أربعة أعوام كان الحب فيها قوام تهذيبه وعنصره المستساغ، فما أوفى الفتى على نهاية الأعوام الأربعة حتى كان أكمل فتيان الجزيرة أدباً وأحسنهم خلقاً
وخطب الفتاة إلى أبيها وكانت تدعى (ايفيجينا) ولكن أباها أعتذر أن كانت الفتاة مخطوبة إلى الفتى (باسيمونداس) من أشرف أسر رودس وأعرقها مجداً وإنهما نجز الزفاف.
وجم الفتى وضاق الكون في عينيه، وأصرها في نفسه ليصرحن للفتاة بحبه، وليشهدنها على هذا الحب وفعله في نفسه، وليطعنها على ما خلق الحب منه من خلق جديد، وما يستشرف إليه من سعادة ترفعه إلى مقام الآلهة وعظمتهم إذا نعم منها بالزواج؛. .
(إما أن تكون الفتاة لي أو أكون من الهالكين)
وسار إلى أترابه من الفتيان الأشراف الأوفياء وائتمر معهم على أن يصنعوا سفينة قد استكملت عدتها من آلات الحرب والقتال، وتربص بها للسفينة التي تقل الفتاة إلى رودس مع زوجها باسيمونداس. فما أشرفت هذه عليها حتى رمى عليها مجذاباً ضمها إلى سفينته، وكان أول من ألقى بنفسه بين أعدائه وساقهم إلى الحرب ورداً حتى ألقوا سلاحهم واستسلموا خاضعين. قال لهم الفتى: (ما قصدت إليكم أبغي سلابكم ولكن لأنال هذه الفتاة
النبيلة التي أحبها حباً لا يعادله حب ولا يتطاول إليه محب. فإن أسلمتموها إليَّ ألقيت إليكم السلم، وما لي عليكم سبيل، وإلاّ فلن تجدوا عن الهلاك محيصاً)
فتقدمت إليه الفتاة وفي مآقيها دموع. قال: (لا تبكي يا فتاتي، فلقد ساقني إليك حبي ومناك. ولن يعدل هذا الحب ما يسوقه إليك باسيمونداس من أعز ما يساق إلى الأزواج). وفصلت عن وجه الفتاة ابتسامة شقت طريقها إلى قلب الفتى من بين الدموع. وأخذ بيدها إلى سفينته واتخذ سبيله في البحر سرباً، حتى أشرف على جزيرة كريت أن كان له فيها أخوان وخلان، ولكن تنكرت له الأقدار ولم ينعم بهذا النصر طويلاً. فما أقبل الليل حتى أقبلت معه عاصفة نكباء، ترسل حسباناً من السماء، وطوحت بالسفينة بين شطى اليأس والرجاء، حتى ألقت بها في أحضان خليج صغير ينفرج عنه جزء من ساحل رودس على مرمى قوس من مستقر السفينة الرودسية، وما كادوا يستقرون حتى قدم باسيمونداس في فئة من أصحابه وفي أيديهم السلاح وهاجموا الفتى سيمون ومن معه وساقوهم أسرى إلى قاضي القضاة في رودس
وحوكم الفتى على ما أقترف فحكم عليه قاضي القضاة بالسجن خالداً فيه أبداً وقيد إلى السجن ذليلاً حسيراً
هنا فتانا تبرح به الآلام، وتمزق جلده الأغلال، وهناك باسيمونداس غارق في بحار الآمال ينعم بتحقيق المنى، ويعد العدة لزفافه إلى ايفيجينا. ولنترك الخصمين الآن، أحدهما يشقى بآلامه، والآخر ينعم بآماله
وكان لباسيمونداس أخ أصغر منه (هرمسداس) وكان يعلل النفس بالزواج من فتاة موفورة الحظ من الجمال أسمها (كسندار) أغرم بحبها وأخذت بشغاف قلبه. وكان ينازعه في الحب قاضي القضاة قضى على فتى هذه القصة يسجن أبداً. ولقد حسب الأخوان أن سينعمان بزفافهما إلى عروسيهما في ليلة واحدة، وأعد العدة في ثقة واطمئنان لهذا الغرض. ولكن قاضي القضاة لا يهدأ له بال، ولا يزال يحتال للأمر من كلُّ وجوهه وقد عقد العزم صادقاً على أن يحظى بالفتاة دون هذا الفتى (هرمسداس). ولكن كيف السبيل؟ أيختطفها؟ وهو قاضي القضاة؟ هذه عزة منصبه، وهذا شرف مكانته، يأبيان عليه هذه الفعلة النكراء، أم يقهر في نفسه سلطان الحب ويكظم الغيظ ويصبر على الكمد؟ إن سلطان الحب لقوي، وإن
بأسه لشديد، وإنه لغالب، وانتهى به التفكير إلى حيث لم يعصمه الشرف المغلوب من سرف الهوى الغالب، ومضى ينفذ عزمه باختطاف الفتاة
ولم يعوزه النصراء في هذه الفعلة الهوجاء، إذ ظهر سيمون مرة أخرى على مسرح القصة. وليس أيسر على القاضي من أن يصطنعه بإخلاء سبيله وفك إساره لينال غرضه على ساعديه القويين فيختطف الفتاة، وليس أحب من ذلك إلى نفس سيمون فهو سينال حريته المسلوبة - لا شك في ذلك ولا مراء - وهو سينتقم لنفسه بنفسه من قرنه العنيد وخصمه المناجز بفجيعة أخيه في محبوبته واختطافها من بين أحضانه
وجيء إلى قاضي القضاة بسيمون وأصدقائه فوضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وزودهم بالسلاح وآلات الكفاح وأخفاهم في مسكنه حتى تحين ساعة العمل
وأقبل يوم الزفاف: زفاف باسيمونداس إلى ايفيجينا وزفاف هرمسداس إلى كاسندار وأقبلت معه ساعة الانتقام وإشباع الشهوة: انتقام سيمون من باسيمونداس خصمه ومزاحمه، وإشباع شهوة قاضي القضاة من الفتك بهرمسداس مناوئه ومناجزه
وأحكم قاضي القضاة التدبير: فقسم أعوانه إلى فئات ثلاث: فئة اتخذت سبيلها إلى الشاطئ واجتسرت البحر بسفينة، وثانية كمنت عند باسيمونداس، وثالثة كانت تحت إمرة سيمون وقاضي القضاة اندفعت إلى مقصورتي العريسيين الأخوين فقتلتهما واختطفت الفتاتين وولت بهما الفرار
وكانت الفتاتان تبكيان، ولكنه كان بكاءً لا يدل على الأسى ولا على الحسرة فعيونهما كانت تنم عن رغبة ورضى
وسار الجماعة منتصرين مهللين إلى كريت وتزوج قاضي القضاة بفتاته كاسندار، وتزوج سيمون بمحبوته ايفيجينا، وأقبل عليهم أصحابهم وأوفيائهم يهنئون
وعاد سيمون بفتاته المحبوبة إلى قبرس، وحمل قاضي القضاة فتاته إلى رودس، وعاشوا في نعيم ورخاء، حتى أدركهم الفناء
(عن الإنجليزية)
اليوزباشي أحمد الطاهر
البريد الأدبي
نابغة عربي
المرحوم حسن كامل الصباح
في أول يوم من هذا الشهر احتفل في بيروت باستقبال جثمان الشاب العالم العربي النابغ حسن كامل الصباح، وقد علقته المنون بمدينة مالون بالولايات المتحدة يوم 31 مارس سنة 1935 في حادث طيارة. كان قد أشترها ليرحل بها إلى البلاد العربية. فكان فقده خسارة للعلم والاختراع وفجيعة للعرب الذين يرجون بمثل هذا النبوغ البارع أن يثبتوا للناس أن حيويتهم لا تزال فاعلة، وأن خصائصهم لا تزال كاملة، وأن مكانهم من المدينة الحديثة لا بد أن يشغلوه:
ولد الفقيد بالنبطية من جبل عامل في 16 أغسطس 1894 من أسرة تمت بنسبها لابن الصباح أمير الكويت، وشب مولعاً بالحساب والشعر والفلك، فدرس الجبر والهندسة بنفسه وهو في اليفاعة من سنه. ثم دخل المدرسة السلطانية ببيروت ثم الجامعة الأمريكية بها ولم يتم دراسته فيها لأنه دخل الجندية ونقل إلى الآستانة فعمل في قسم اللاسلكي تحت قيادة ضابط ألماني درس عليه الألمانية، وكان قد درس من قبل الفرنسية والإنكليزية، وظل يتبع دروس الرياضة في تلك اللغات حتى انتهت الحرب فعاد إلى دمشق وعين معلماً للرياضيات في المدرسة السلطانية، وفي عام 1921 تولى تدريس الحساب في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم بد له أن يهاجر إلى الولايات المتحدة فالتحق بمؤسسة (ماساتشوستس) الفنية وهي من أرقى مدارس الهندسة في العالم، ثم أنتقل إلى جامعة (النيويس)، ثم خرج إلى الحياة العاملة فعين في شركة الكهرباء العامة في (سكسنكندي) نيويورك، وهنالك أثمر نبوغه وأنتجت عبقريته، فأخذ يدهش الفنيين بابتكاره وإبداعه، فخصصت له الشركة مختبراً ومكتباً وجعلت تحت يده مهندسين يعملون بإرادته، وإرشاده، وتوالت عليه - حين دوى ذكر اختراعاته في المقامات العلمية والشركات الكهربائية - شهادات العلماء وتهاني العظماء كرئيس المؤسسة الكهربائية في بوسطون، والأستاذ كاستلو فرانش أستاذ الكهرباء بجامعة ميلان، والأستاذ موريس لبلان العالم الفرنسي الكبير، والمستر هوفر رئيس الولايات المتحدة السابق؛ وسجلت شركة الكهرباء العامة جدول
اختراعاته في دائرة السجلات في واشنطن، وقد بلغ ما سجل منها ثلاثة وأربعون اختراعاً أنفقت الشركة في تسجيلها مائة ألف ريال، أنفقت على اختراع واحد من تلك الاختراعات ربع مليون ريال، وهو اختراع في التلفزة يحول أشعة الشمس إلى نار وقوة كهربائية، وكان يطمع بهذا الاختراع أن يسخر أشعة الشمس المحرقة في الصحراء العربية لإنارة المدن والقرى، وفي سبيل ذلك اشترى الطيارة كانت من أسباب وفاته.
ومن اختراعاته المسجلة:
1 -
طريقة لضبط القوة الصادرة من المقوم الكهربائي رقم الباتنت 1669502
2 -
حوافظ وضوابط لحماية المقومات الكهربائية رقم الباتنت 1776189
3 -
طريقة لمنع حدوث هزات عالية في القوة الكهربائية في المقومات الزئبقية 1817312
4 -
ملتقط حديث لمنع حدوث انفجار كهربائي منعكس محول للعزائم الكهربائية العظيمة رقم الباتنت 1852205
5 -
جهاز للتلفزة يحول أشعة الشمس لنار وقوة كهربائية هائلة 174962
6 -
جهاز للتلفزة يستخدم الكهارب المنعكسة بفعل النور رقم الباتنت 169466
7 -
جهاز للتلفزة يستخدم النور كضابط للتيار الكهربائي رقم الباتنت 1706165 الخ
ومما ذكره مدير شركة جنرال الكتريك في رسالته إلى والد الفقيد الجملة الآتية:
(لقد برهن الأستاذ كامل الصباح أثناء خدمته لشركتنا على أنه من أعظم المفكرين الرياضيين في البلاد الأمريكية، وأن وفاته خسارة كبيرة لعالم الاختراع)
وقد صرح جهابذة الفن الكهربائي الذين كانوا يلقبونه بأديسون الصغير أنه أو نسأ الله لعُد من أعظم المخترعين
كتاب عن ستالين
ستالين طاغية روسيا السوفيتية من أعظم وأغمض الشخصيات المعاصرة، إن لم يكن أعظمها وأغمضها جميعاً؛ فهو يمثل في شخصه أمة عظيمة وجيلاً بأسره، ورسالة اجتماعية جديدة. وقد صدر أخيراً كتاب عن ستالين بقلم الكاتب الفرنسي هنري باربيس، وهنري باربيس كاتب ثوري، بل من زعماء كتاب الثورة الاشتراكية، ومن أعرف الناس
بشؤون روسيا السوفيتية وزعيمها ستالين؛ منذ أكثر من عشرة أعوام لينين منشئ روسيا السوفيتية، واستمر يقودها حتى ذلك الوقت، ولكن شتان بين القائدين، فأن لينين ذهن غربي درس الماركسية (الاشتراكية) كمبدأ وعقيدة، وتلقاها في أجواء غريبة؛ ولكن ستالين أسيوي محض، فهو من بلاد الكرج، ولم يعرف الثورة ولا الاشتراكية قبل الحرب، ثم أن لينين ذهن المبادئ والمنطق؛ ولكن ستالين ذهن عملي خشن فقد تلقى تراث لينين وعمل على حمايته واستمراره بحماسة؛ ولكنه لم ير بدا من مسايرة الظروف؛ فارتد إلى النظم (البرجوازية). (غير الاشتراكية) يأخذ منها يروق له وما يعتقد أنه معين له على توطيد النظم القائمة. وقد كان ستالين في حياة لينين يمثل الجانب العملي للتجربة الجديدة، وكان لينين يعجب بآرائه العملية على الرغم معارضتها لمبادئه؛ ولما توفي لينين واستأثر ستالين بالأمر ثارت بينه وبين أقران لينين وحملت تراثه أمثال تروتسكي وزينوفييف وغيرهما معركة شديدة؛ ولم يستطع ستالين أن يبطش بهؤلاء الخصوم الذين ينعون عليه سياسته العملية بادئ بدء، ولكنه استطاع بعد عامين أو ثلاثة أن يضع يده عليهم، وأن يشتتهم، وأن يباعد بينهم وبين الثورة.
ويصف لنا ميسو باربيس هذه المراحل في كتابه، ويدرس خلال شخصية ستالين تاريخ روسيا السوفيتية، وأطوار الثورة الاشتراكية؛ وهو يرى أن ستالين بعد لينين هو الشخصية التي تتمثل فيها روسيا السوفيتية؛ ويذيل عنوان كتابه العبارة:
(عالم جديد يدرس في شخص رجل).
جائزة الرينصانص
اختتم موسم الجوائز الأدبية الكبرى في فرنسا بتخصيص جائزة (الرينصانص) لمسيو فرنان فليريه الكاتب الشاعر النرماندي؛ وفليريه من طبقة الكتَّاب والشعراء الكهول، وأصله من نورماندي، من ذلك الجيل الأدبي الخشن الذي يمتاز بقوة في أدبه؛ وقد ظهر قبل الحرب بكتاب اشترك في وضعه مع الشاعر (الكولس) ولوي برسو، عنوانه (جحيم المكتبة الوطنية) وفيه يدلل على اطلاع شاسع. بيد أنه مال إلى القريض بعد ذلك، وأخرج عدة قصائد ومنظومات قوية ساذجة تدل على تأثره بروح وطنه. ثم عالج القصة بعد ذلك فكتب منها:(ثلاث أقاصيص تاريخية)، (في عصر الحبيب)، (الملاذ الأخير)، (جيم كليك). بيد
أن أعظم قصصه هي (قصة السعيدة راتون، الفتاة الطروب)، وهي قصة فتاة زلت، صورت بقوة ومهارة. وعنى فرنان فليريه أيضاً بالمسرح، وكتب له؛ فاشترك مع (روجيه ألار) في وضع (سلسلتين) و (مدرسة الأساتذة) ومع أمادوليجا في إخراج (كارافا كا، فنان ومصور)، وغيرها من القطع المسرحية؛ واشترك أيضاً لوي برسو في كتابه عدة قصص أخرى؛ ونشر في مجلة (مركير ده فرانس) عدة فصول وصور نقدية قوية؛ وقد روعي في منحه جائزة (الرينصانص) عمله الأدبي كله، ولم يمنحوه إياها من أجل كتاب معين
الكتب
أبو بكر الصديق
تأليف الأستاذ علي الطنطاوي
نشرته المكتبة العربية بدمشق في 360 صفحة من القطع
المتوسط
الأستاذ علي الطنطاوي، أو الشيخ علي الطنطاوي كما يجب أن يُدعى، ثمرة ناضجة من ثمار الثقافة العربية الحديثة: ثقف علوم الدين وعلوم اللسان ثقافة محيطة، ثم درس القانون دراسة فقهيه عميقة، وشارك في إيقاظ النهضة الفكرية والدينية والاجتماعية في سوريا مشاركة منتجة؛ فله في قيادة الشباب محل، وفي توجيه الآداب طريقه، وفي سياسة الإصلاح مذهب؛ وهو نفر من صحابته يمثلون في سورية الناهضة الحلقة الواصلة بين عقيدة التنكر القديم، وعقلية تنكر التجدد. وليس الأستاذ الطنطاوي مجهولاً لدى قراء الرسالة، فهو يطالعهم الحين بعد الحين بالفصول الممتعة في الأدب والتاريخ والقصص، ينقله عن فكر خصب، واطلاع واسع، ومنطق سليم، وإيمان صادق، وعاطفة نبيلة
رغب إليه أصحاب المكتبة العربية بدمشق أن يكتب تاريخ الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فتوفر على قراءة مائة كتاب في موضوعه بين مطبوع ومخطوط أثبت أسماءها في ثبت المصادر، ثم جمع منها أخبار هذا البطل العربي، وعارض بعض هذه الأخبار ببعض، ثم جمع ما صح عنده من الروايات الكثيرة وجعلها كالحديث الواحد منبهاً إلى مصدر كلُّ رواية ودرجة كلُّ حديث. وتلك هي الطريقة السلفية التي تعتمد على الحشد والرواية، أكثر مما تعتمد على التحليل والرأي، فهي تعطيك أسباباً من غير حكم ومادة من غير صورة، وقد ركب الأستاذ هذه الطريقة الوعرة على قصد وعلم، فهو يقول: (وكان عليَّ أن أسألك في هذا الكتاب سبيل الدراسة التحليلية فأصف الحياة العقلية والاجتماعية والسياسية للعصر الذي عاش فيه أبو بكر رضي الله عنه والبيئة التي نشأ فيها، وما كان لذلك من الأثر فيه، وأدرس أخلاقه وسجاياه، وأبحث العوامل التي عملت في تكوينها، وأبين أثر الإسلام فيها، وأثرها في التاريخ الإسلامي، وما إلى ذلك من عناصر الدراسة
التحليلية. ولكن (المكتبة العربية) ترى أن هذا الأسلوب لا يمثل إلا رأي صاحبه، وأن الرأي قد يخطئ الحقيقة وقد يصيبها، وهي لا تحب أن تخرج للناس (درساً) فيه الخطأ وفيه الصواب، بل تاريخاً صحيح السند مضبوط الرواية. . . . .
(وقد كرهت بادي الرأي هذا الأسلوب. . . فكيف أجوز أصعب الشقتين، فأجمع المواد وأفحصها وأنقحها وأسكبها وأؤلف بينها، ثم أثبتها في الكتاب كما هي فيأتي (آخر. . .) فيأخذها هينة لينة، فينشئ منها كتاباً تحليلياً تكون فاتحته انتقاصي وذمي بأني لم أنشأ منها كتاباً تحليلياً. . .
(ثم بدا لي فقلت لا بأس، فأنه مهما يكن للأسلوب التحليلي من المزايا، ومهما يكن للأسلوب العربي من العيوب (عند بعضهم) فأن الصحة ليس بغير الأسلوب العربي، وليس لأمة من الأمم ما للأمة العربية من الضبط في الرواية والتحقيق فيها والتثبت منها؛ ولا يدري أكثر من نعرف من الشبان من أمر هذه الراوية شيئاً، بل إنهم لا يجهلونها لمرة واحدة وينبزونها حماقة وجهلاً (بالكتب الصفراء) لما وضعوا في نفوسهم من أن الخير لا يكون خيراً لذاته، ولكن للطابع الغربي الذي يشترط أن يكون عليه. . . وإن الشر لا يكون شراً لذاته، ولكن للسمة الشرقية التي يتسم بها. . . وذكرت أن أتباع الأسلوب العربي - على ما سينالنا من لوم على اتباعه - خير لشبابنا (وهم جمهرة القراء) وأجدى عليهم، وأنه في طوق كثير من الشبان أن يكتبوا التاريخ التحليلي لأبي بكر إذا وجدوا الصحيح من أخباره مجموعاً في كتاب واحد، ولكنه يعجز الكثير منهم أن يجمعوا هذه الروايات ويفحصوها ويرتبوها. . .)
ولا ريب أن الأستاذ قد بلغ أقصى ما أراد في الجهة التي اختارها أو أختارها له الناشر، فقد أستوعب كتابه كلُّ ما أتصل بحياة الخليفة العظيم من الآيات والأحاديث والأخبار في سياق مطرد وترتيب محكم وأسلوب جذاب. ولكن من يقرأ تصدير الكتاب ويقف على أسلوب الكاتب في حسن التعليل، وصدق الوصف، وبراعة العرض، يتمنى لو أن الأستاذ كان قد وفق بين الطريقتين، فيجمع بين المزيتين، ويسلم من نقد القارئ المتعقب، واستغلال الكاتب الجحود
الشاطئ المجهول
نظم الشاعر سيد قطب
للأستاذ محمود الخفيف
في ذهني، عن شعراء الشباب عندنا فكرة عامة، تزداد وضوحاً، وأزداد بها تعلقاً كلما نشر أحدهم مجموعة شعره، ولقد أتيح لي أن أقرأ عدداً من تلك المجموعات في الأيام الأخيرة، فزادتني يقيناً بأن الشعر في مصر يسير الآن لي غير قصد، أو بعبارة أخرى لم تنشأ بعد عندنا في الشعر (مدرسة) لها لونها، ولها غايتها، ولها سبلها المختلفة، التي تنتهي بها إلى تلك الغاية. وعلة ذلك أن شعراءنا إلا أقلهم مقلدون، وقل أن تلمح لأحدهم أصالة أو تتبين له جهة، وكأني بالشاب منهم يتناول القلم والورق، ويجلس لينظم، لا لأن قلبه يخفق بمعنى يريد أن يفصح عنه، بل لأن شهوة النشر تملك زمامه، والرغبة في المحاكاة تصرفه في ذلك عن الصواب، ففي نفسه بقية مما قرأ ولم يحسن فهمه من المسائل، فهو يتطلع إلى التجديد والغموض والرمز والبحث عن المجهول والتشاؤم وما سوى ذلك من معانِ يرددها دون أن يدري كنهها أو المقصود منها، وليت شعري، كيف نسمي إنتاجاً كهذا شعراً؟ وهل كان الشعر إلا الإحساس القوي ثم الإفصاح عنه في صورة تلائم الفن وترضي الذوق؟
وانك لتلتمس الدليل على ما أقول في هذا الديوان المسمى بالشاطئ المجهول، فأني على الرغم من عثوري فيه على بعض قطع أبهجتني قراءتها، قد عجزت تماماً عن استجلاء ما يريد الشاعر بما جاء في قسمه الأول الذي من أجله سماه بهذا الاسم
بيد أني أحب أن أبدأ الكلام عن هذا الديوان من الناحية الشكلية، فقد استوقفتني فيه ظاهرة أمضتني بقدر ما تولاني منها الدهش، ذلك أن الشاعر (سيد قطب)، قد مهد لديوانه بمقدمة نقدية بقلم الناقد (سيد قطب)، وراح في هذه المقدمة يمدح نفسه، ويطنب في هذا المدح في صورة يعروني لمجرد الإشارة إليها كثير من الخجل والحياء! ففي الديوان نظريات علمية وفلسفية، والشاعر ملم بها. والشاعر متصل بالعوالم المجهولة، تربط قواه الروحية بالوحدة الكونية الكبرى. وللشاعر إحساس متيقظ بالزمن ومروره، ويملأ الشغف بكشف المجهول والحديث عن السر حيزاً كبيراً من ديوانه، والشاعر في هذا الديوان يقف موقف المصور في كثير من القصائد وفي الديوان ظاهرة تستحق التسجيل، وذلك أن لوناً من ألوان
الموسيقى يتفشى فيه كله، كذلك تبدو في هذا الديوان صورة واضحة للتعبير الدقيق المصور للأفكار إلى ما سوى ذلك مما استحى لذكره من عبارات المدح والإطراء: وتالله لقد ترددت كثيراً أن أصدق أن الشاعر والناقد شخص واحد، واكتفي أن أقول له في احترام: إن مثل هذا أن أجاز في شيء فهو لا يجوز في الأدب وعلى الأخص في الشعر
وبعد فهل رأيت في الديوان ما يتفق مع هذه المقدمة؟ الحق أني إذا أردت الأنصاف مضطر إلى أن أخالفه في كثير مما قال بل في معظمه! فالجزء الأول من ديوانه المسمى (ظلال ورموز) عبارة عن سلسلة من الأفكار الغامضة يشملها جميعاً ذلك التعبير الذي شغف بتكراره الشاعر وهو (الوجوم الكئيب) فتلك الكآبة تخيم على معظم قصائده وعلى الأخص (الشعاع الخابي) و (خراب) و (في الصحراء) حيث (يطل الليل كالشيخ الكئيب) و (في خريف الحياة)، و (غريب). وليتنا نخرج بشيء من هذه الكآبة أو نتبين فيها شيئاً من فلسفة الحياة جديراً حقاً بهذا الأسم، ولست أدري لم أضطلع الشاعر هنا ببعض الموضوعات (كالإنسان الأخير) و (الشاعر في وادي الموت)، وهو لم يخرج منها بطائل، بله العجز عن التصور والتعبير في مثل هذه المواقف الغريبة!
أما بقية ديوانه فيشتمل على بعض قصائد ريفية، وقصائد غزلية، وقصائد وطنية، هي في الجملة جيدة، تحس أنها صادرة حقاً عن القلب، فليس فيها من تكلف والتعمل والتقليد مثل ما في سابقتها؛ ولقد أعجبني بنوع خاص قصائده (توارد خواطر) و (سر انتصار الحياة) و (المعجزة) و (الليلات المبعوثة) وطربت لها كثيراُ. ولو نظر الشاعر أو الناقد سيد قطب معي نظرة حق لفهم السر في نجاحه في تلك القصائد التي يستحق من أجلها أطيب الثناء، ولولا هنات في بعض تعبيراته لعدت هذه من عيون الشعر
والشاعر في قصائده الحديث أقوى على التعبير وأسلس عبارة منه في قصائده القديمة، ولقد لاحظت عليه كجمهرة شعراء الشباب مغرم ببعض الصور الغريبة. لا يتحرج في كثير من تعبيراته، ولا يتوخى فيها البلاغة والسير في مألوف التشبيه والاستعارة، وإلاّ فكيف يتفق مع الذوق مثل قوله (يدوي حوله صمت الفناء) والكون (مفقود القطيم) و (الهول الواجم) و (الرعب الحائم) و (الفناء الجاثم) و (ركام الفناء) و (شخوص الوهم) و (الحياء الوديع) و (الخشوع الوقور) و (العيلم المسجور) و (الصرخة الملتوية) و (الصمت في ظل الوجوم) و
(وقف الكون شاخصاً في سكون) و (الذهول الشريد) و (القنوط العقيم) و (الدلال الشرود) و (الرشاد الرزين) و (الفتور الشغوف) وغير ذلك من الصور الذهنية الغريبة وهي مع الأسف كثيرة في الديوان
هذا إلى أنه قليل العناية بانتقاء اللفظ وتجويد القوافي، وأنا على يقين بأني حين أصارحه بهذا أحسن إليه؛ فواجبنا جميعاً أن نتضافر على رفع مستوى الشعر بعد أن نحدده ونتبين وجهته، ولا سبيل لنا إلى ذلك إلا إذا توخينا الصراحة والصدق والإخلاص في كلُّ ما نقول
الخفيف