الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 1010
- بتاريخ: 10 - 11 - 1952
نصيب قريتي من الثورة
قريتي الصغيرة الفقيرة هي إحدى القرى الخمسين التابعة لمركز طلخا؛ ومركز طلخا هو أوحد المراكز جميعاً في فحش النظام الإقطاعي وفجوره. كل ما يملك فلاحه من أرضه أمتار ينام فوقها وهو حي، وأشبار يرقد تحتها وهو ميت. أما ملاكه فهم آل طوسون، وآل البدراوي، ومحمد علي، ووحيد يسري، وسرسق، ووزارة الأوقاف! لذلك كانت جملة الأرض التي نزعها قانون الإصلاح الزراعي من كبار ملاكه، ليوزعها على صغار زراعه، اثنين وثلاثين ألف فدان في السنة الأولى من سني التوزيع الخمس! وهذا الرقم الأولي الضخم يشعرك ولا شك بالحياة الأليمة التي كان يحياها أولئك البائسون التعسون في ظلال الأسرة العلوية الكريمة!
كانوا يعملون العام كله دائبين ليل نهار، لا تختلف امرأة عن رجل، ولا يتخلف صغير عن كبير، ولا تفترق ماشية عن آلة. حتى إذاآتت الأرض الطيبة أكلها فحصدوا القمح، وضموا الرز، وجمعوا القطن، وقطعوا الذرة، ذهب أولئك كله إلى المالك المرهوب، إما عيناً في مخازنه، وإما نقداً في خزائنه! أستغفر الله! لقد تدرك الرحمة أحياناً قلب الباشا أو الأمير، فيترك للفلاح أو للأجير، أرغفة من الذرة يتبلغ بها كل يوم، وجلباباً من القطن يرتديه طول السنة، وأرطالاً من اللحم يتذوقها كل عيد! أما نصيبه من ثمن قطنه ورزه، فيقول له ناظر البدراوي: أخذناه لأن أباك أو جدك كان مديناً لنا في الماضي! ويقول له مفتش طوسون: حجزناه لأن إجارتك ربما تخسر في المستقبل! فإذاهم بأن يشكو، حجز الناظر ماشيته عن الغيط، ومحصوله عن البيت. وإذاجرؤ على أن يحتج، أمر المفتش (مأمور البوليس) أن يعتقله أياماً ليسلمه إلى جنوده فيصبحوه بالعصا ويمسوه بالكرباج!
في قرية من قرى هذا المركز البائس نشأت؛ وفي غمرة هذا البوس الذي لا حد له ولا حيلة فيه رأيت الباشا كيف يطغي وينسى الله، والمفتش كيف يبغي وينسى العدل، والفلاح كيف يذل وينسى الحرية، والأجير كيف يهون وينسى الحياة!
وفي (وحي الرسالة) في مجلداته الثلاث وصفت مآسي هذه الأمة من الناس، وهذه القرية من القرى، وصفا كان مداده الدمع، وكانت كلماته الأنين! فإذاعرفت أمرهم على الوجه الذي عرفت، وأدركت حالهم من الوصف الذي وصفتهم، تبينت في جلاء ويسر نصيبهم من نهضة الجيش. لقد كانوا أذلاء فعزوا، وكانوا أرقاء فسادوا، وكانوا أجراء فملكوا ثم
كانوا أداة إنتاج لغيرهم فاصبحوا عامل استغلال لأنفسهم وكانوا رعاية الباشاكالدواب فاصبحوا رعاية الدولة كالناس! وجملة أمرهم أن الله انتقم لحرمانهم من الحارم، وداول الأيام بينهم وبين الظالم فكانت البؤسى لمن بغى، وكانت النعمى لمن صبر!
احمد حسن الزيات
الإسلام في موكب الإصلاح
توحيد الزي
للأستاذ محمد عبد الله السمان
حين وثب الجيش المصري الباسل وثبته المباركة، رجونا الله عز وجل أن يهب فقهاً في عقليته، حتى يهضم معانيهاويساير خطواتها، فتؤتي أكلها، وتقدم للوطن من ثمراتها الطيبات ما ينهض به، ويعلي كلمته، ويرفع قدره
ولقد أتاحت وثبة الجيش المباركة فرصة طيبة للإصلاح حتى يقوم على أسس ثابتة؛ ومهدت للنهضة حتى ترتكز على أصول مستقرة، وكان يحدوها الأمل في أن تجد الفقهاء من المصلحين حتى يضعوا أسس الإصلاح، والفقهاء من المشرعين حتى يضعوا أصول النهضة؛ ولكن يظهر أن الفقهاء من المصلحين يضنون بفقههم على مصر، والفقهاء من المشرعين يدخرون فقههم لبلد غير مصر، أو أن الفقهاء من المصلحين والمشرعين لم يزل اليأس الذي أورثهم إياه العهد البائد يجثم على صدورهم، فاثروا الدعة على النشاط، والانزواء على النهوض، وتركوا الميدان خاليا إلا من شراذم تتصنع الثرثرة في توافه المسائل، والجلبة في سفساف الأمور، والرغاء في كل ما من شانه أن يثير الجدل والمراء!
ولعل في مهزلة (توحيد الزي) التي تمثل اليوم المسرح دليلا على ما قدمت. فأي معنى لان يرتفع سعرها وتروج سوقها في وقت لا حاجة لنا بها، نحن في مستهل عهد جديد مشرق نريده جداً لا هزلاً، وحقاً لا عبثاً، ونرجوه مقوضا أركان العهد البائد وماحياً آثاره، ومحققاً لأمال الشعب وأماني الوطن! أي معنى لان يرتفع سعر المهزلة وتروج سوقها اليوم، وهي لا تعود على البلد بذرة واحدة من الخير؟ إنها لا تدفع جوعاً عن بطون أعياها الجوع، ولا تستر أجساداً أضناها العرى، ولا تهدئ نفوسا أثقلها الفقر، أنهكها الشقاء، أفزعها الحرمان!
البلد ما زال مسيس الحاجة إلى الانتعاش الاقتصادي حتى تهدا النفوس، والبلد في مسيس الحاجة إلى كثير من نواحي الإصلاح حتى تستقر الأوضاع، والبلد ما زال في مسيس الحاجة إلى الخطوات العمرانية حتى تستقيم الأمور، وشعب هذا البلد في شدة الحاجة إلى بعثة من جديد، وخلقه خلقاً آخر حينها يكون جديرا ببلد يبغي الإصلاح في شتى صورة، ويبغي النهضة في اكمل منازلها، ويبغي الرفعة في اسمي درجاتها، وليس البلد في حاجة
إلى توحيد الزي، ومعظم الشعب يجهد في سبيل الحصول على رقعة تغطي سؤته، وتستر عورته، وتدفع عن رزايا الشتاء!
كان الأجدر بهذه الشرذمة الداعية إلى توحيدالزي أن تتجه اتجاهاً يمس الإصلاح الحقيقي في صميمه. وما اكثر نواحي الإصلاح التي يحتاجها البلد اليوم ويحن إليها ويهيم بها، حتى لا تضيع جهودها سدى، وتضيع أوقاتها في غير جدوى وتتبخر هممها في سماء النقاش الممل، والجدل المتعب. كان الأجدر بها أن تتجه نحو إصلاح القرية حتى تليق بسكن الآدميين، أو نحو إصلاح الفلاح حتى يليق بالآدمية التي أكرمها اللهتبارك وتعالى، أو نح وإصلاح العامل حتى يثمر الثمرة المرجوة في العهد الجديد، وكان الأجدر بها انه تتجه نحو إصلاح المجتمع فتهب له أوقاتها، وتجود عليه بجهودها حتى ينهض فتنهض مصر بجانبه، وحتى يسعد فيسعد الشعب في ظلاله.
لتذهب هذه الشرذمة إلى الريف لترى بأعينها من الماسي ما تشيب من اجلها النواصي، ولتذهب إلى بلد الصعيد لتقضي بنفسها على الآلام التي تحطم الأعصاب وتهز القلوب، لتذهب إلى القرى لترى كيف يعيش الفلاحون هناك في حظائر تزاحمها عليها مواشيهم، وكيف يأكلون طعاماً تزاحمهم عليه كلابهم وكيف يحيون بعد هذا حياة لا وزن لها إلا في دنيا التعامل والشقاء. . لتذهب هذه الشرذمة إلى أية جهة من هذه الجهات لتوقن بان جهادها في بدعتها هذه عبث، وبان أوقاتها في سبيلها لهو، وبان حملتها لتحقيق هدفها ضرب من ضروب التسلية التي لا تليق بهذا الفجر الجديد.
إن هذه المهزلة خلقت جواً من الجدل كنا في غنى عنه فقد ولدت (القبعة) وجعلت منها مشكلة معضلة، أثاره مواكب التزمت والجمود الراكدة التي تعودت أن تتحرك في التوافه والسفاسف، لتثبت وجودها وتأكد بقائها في مسرح الحياة. ولوإنها ثارت باسم عقليتها وأفكارها لما القينا لها بالاً ولما حسبنا لثرثرتها وضوضائها حساباً، لان ثورتها مصيرها إلى التلاشي، وثرثرتها وضوضائها مصيرها إلى التبخر، ولكنها تحرص على أن تثور باسم الإسلام وكان الإسلام آمن من كل جانب فهي تخشى عليه القبعة وعزيز في كل ناحية فهي تخاف عليه انتشارها، ولو فقهت مواكب الجمود هذه لناقشت المهزلة قبل أن تعرض بالإسلام وتزج به، وتصوره للشرذمة الداعية إلى توحيد الزي كمنهج إصلاحي، بصورة
مشوهة تجعل منه عقبة في سبيل كل إصلاح. فإذاكان توحيد الزي وسيلة من وسائل الإصلاح فالإسلام يؤيده ويؤازره ويباركه ويدعو له، لان الإسلام لم يحتم على الناس زيا خاصا، ولا يتحكم في أزيائهم، بل يتركها لتطورات الزمن واختلاف البيئات فقد كان الرسول (صلوات الله عليه) يلبس القميص والجبة والقباء والحلة والبردة وما إلى ذلك وكان يلبس العمامة وتحتها القلنسوة، والقلنسوة بغير عمامة، والعمامة بغير قلنسوة، ولبس العمامة الخضراء والبيضاء والسوداء، ولبس الصوف والقطن والكتان، وكان هديه في هذا أن يلبس الإنسان ما تيسر له. .
تثور مواكب الجمود على القبعة لأنها من أزياء الكفار. . . ومن تشبه بقوم فهو منهم. . . ولا بد أنها لا تفقه أن رسول الله (ص) ارتدى (مستقة) - وهي نوع من الثياب - أهداها له ملك الروم، وانه (ص) ارتدى (القباطي) وهي نوع من الثياب أيضاً كان يصنعه أقباط مصر. فانظر كيف تؤول حديثه الشريف تأويلاً فاسداً، وتفسره تفسيراً يتفق مع جمودها وجهلها وتزمتها
والإسلام لا يعيب على المسلمين أن يتبعوا سنن من سبقهم إلى الإصلاح، ولكنه يعيب عليهم أن يقفوا إزاء الإصلاح موثوقي الأكتاف أو يقفوا في طريقة عقبة كأداء. والإسلام مرة أخرى لا يتحكم في الأزياء ولا يزج نفسه فيها، لان الأزياء مرتبطة بتطورات الزمن وأمزجة الشعوب وهو أيسر من أن يعوق تطور الزمن، أسمى من أن يحجر على أمزجة الشعوب.
وبعد. . فنحن مضطرون إلى أن نهمس في إذا ن دعاة مهزلة توحيد الزي حتى يعلموا إلى أي واد هم مسوقون. وليدركوا أن العهد الذي كان يشجع أشغال الرأي العام بسفساف الأمور قد انقرض إلى غير رجعة، وان الوعي الجديد لن يسمح بعد اليوم بان يستغل استغلالاً سيئاً يشينه ويشين البلد معه، وخير لها أن تعلو بهمتها إلى ما يفيد الوطن والمجتمع، من أن تبعثر جهودها لتتلاشى في مهب الريح؛ ومضطرون أيضاً إلى أن نهمس في إذا ن مواكب الجمود حتى تفيق من جمودها، وتعلم أن الإسلام ليس سلعة رخيصة تلقى بها في كل سوق، وليس مطية هينة تحترففوقها الدجل والشعوذة، وتصطنع الجدل والثرثرة؛ لانالإسلام اكرم على الله وعلى المسلمين من أن يكون شيئاً من هذا أو ذاك وخير
للإسلام أن يرسم خطط الإصلاح، ويضع أسس النهضة، ويشرع نظم الاستقرار، من أن يزج به في توافه الأمور وصغائرها!
محمد عبد الله السمان
2 - على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
للدكتور عمر حليق
سياسة توازن القوى
تشهد السياسة الدولية اليوم بحثاً جديداً لمبدأ (توازن القوى) وهو مبدأ دبلوماسي قديم اتبعته الدول الكبرى في القرن الثامن عشر وحققت به فترة هدوء نسبي في العلاقات الدوليةتختلف عن الفترة التي مر بها القرن العشرون بحروبه وثرواته ومشاكله العويصة التي تفوق حرب القرون السالفة مشاكلهافي العدد والخطورة.
ومبدأ (توازن القوى) كان ولا يزال علما على أسوء ما في الدبلوماسية الدولية من قسوة وانتهازية. ففي ظل هذا المبدأ استطاعت الدول الكبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن تتقاسم النفوذ وان توطد لنفسها فترة الهدوء النسبي ساعدها على إخضاع الشعوب المستضعفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية واستغلالها استغلالاً سياسياً واقتصادياً الاستعمار علم عليه.
ويبدو أن موجات التحرر والانطلاق التي جاءت نتيجة لازدياد الوعي السياسي والفكري الذي اجتاح العالم في أوائل القرن العشرين - هذه الموجات استطاعت أن تزعزع أركان مبدأ (توازن القوى) وان تفصم عرى هذا التواطؤ الذي هيمن على سياسة الدول الكبرى التي كانت تتكتل في مجموعات سياسية وعسكرية لتقتسم النفوذ في الميدان الدولي وتضل كل كتلة رقيبة على مطامع الأخرى لئلا يضيع على أي منها جزء من هذا النفوذ سواء في الدبلوماسيةالدولية أم في مجال الاستعمار والتوسع الاقتصادي.
ولما وقعت الواقعة وانفكت عرى هذا التكتل وخرجت روسيا القيصرية والإمبراطورية من ميدان التنافس واختل ميزان القوى الدولية بين الدول الكبرى وطمحت ألمانيا القيصرية أولاً والهتلرية بعد ذلك لان تنافس الكتلة الانجلو فرنسية في مجال السياسة الدبلوماسية على العالم الحر وعلى العالم المستعبد؛ وأخذت العلاقات الدولية تمر في طور السياسةالانفراديةالتي تحاول فيها كل دولة أن تحقق لنفسها اكبر قسط من النفوذ على حساب أي دولة أخري ولو كانت هذه الدولة تشاركها الأهداف وتشاطرها مبدأ الاستعمار وتجاريها في السلوكالتجاري والأيديولوجية السياسية.
وفي المرتين اللتين حاولت فيهما الكتلة - الانجلوفرنسية أن تقضي على النفوذ الألماني كانت عوامل الشقاق بين الإنكليز والفرنسيين تلعب دوراً هاماً في توجيه السياسة العالمية وقد برز هذا الشرق في أعقاب الحرب العالمية على اشده في قضية سوريا ولبنان وفي مستقبل المستعمرات الإيطالية السابقة التي كانت سياسة بريطانية إزاءها تختلف الحد بعيد عن سياسة الفرنسيين.
ولما أن دخل الاتحاد السوفيتي دخول العملاق إلى المجتمع الدولي في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة أخذت العلاقات الدوليةتمر في طور جديد كان مشجعها على إحياء مبدأ سياسة توازن القوى وبعثها من جديد. فالأيديولوجية السوفيتية وإن كانت لا تنص على مبدأ توازن القوى إلا أنها تحتوى على مبادئ ابعد من هذا المبدأ - مبادئ تؤكد بان لا مجال للوطن الشيوعي الأم (وهو الاتحاد السوفيتي) إذ أراد أن يعيش سالما معززاً إلا إذاتم تحويل العالم بأسره إلى النظام الشيوعي.
ومهما حاولنا أن نعلل الأسباب الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية التي دعت إلى زيادة التوتر بين روسيا السوفيتية وحلفاء الغرب في عام ما بعد الحرب العالمية الأخيرة فلا سبيل إلى الإنكار بان مبدأ التوسع الشيوعي يستند إلى هذه النقطة الجوهرية في تعاليم ماركس وشرح لينين وستالين عليها - هذه النقطة هي ضمان السلامة والاستقرار للاتحاد السوفيتي بتوطيد الشيوعية في العالم بأسره على أن يتم ذلك بالتدريج. وفعلا لم يجد الاتحاد السوفيتي صعوبة في السعي لتحويل المناطق الجغرافية المجاورة له إلى حصون شيوعية كما تشهد بذلك مجموعة الدول الشيوعية شرقي أوربا في البلقان وفي الشرق الأقصى (في الصين وكوريا الشمالية ومنغوليا والتبت). وبذلك استطاع الاتحاد السوفيتي إيجاد كتلة سياسية شديدة البأس والحول لا يواجههافي المجتمع الدولي كتلة مماثلة في القوة والنفوذ.
وكانت هذه الوضعية في حد ذاتها بعثا لمبدأ (توازن القوى) الذي أرغم به سياسة القرنينالثامن والتاسع عشر - وسواء جاءت ميلاد هذه الكتلة الشيوعية الجديدة عفوا أم كان أمراً مدبراً فالذي يعنينا منه انه استدعى ميلاد كتلة دولية قوية الدعائم شديدة الحول لها في ميزان القوة العالمية اعتبار هام.
وهنا يجب أن نستذكر بان العائلة الدولية في المرحلة النهائية في الحرب العالمية الأخيرة
وجدت نفسها موجوعة الضمير مثخنة الجراح مثقلة بالأعباء الإنسانية والاقتصادية والسياسية والمشاكل العاطفية والفكرية التي تعتري المجتمع الإنساني في أعقاب الحروب الكبرى. ولذلك ساد تفكير صناع السياسة والحرب في الدول الكبرى والصغرى على سواء اتجاه جديد يحاول أن يوطد دعائم السليم في عالم ما بعد الحرب الثانية على أساس التكتل الجماعي - تكتلاً حاولت عصبة الأمم المتحدة أن تحققه في عالم ما بعد الحرب الأولى أنها فشلت، وذلك لان أفكار الدول وقلوبها لم تكن مهيأة بعد لهذا التجربة في العمل المشترك والثقة المتبادلة في تنسيق العلاقات الدولية على أساس الضمانالمشترك وتسيير دفة الشؤون العامية على بوصلة القانون الدولي كما عبر دستور عصبة الأمم المنحلة ولوائح أعمالها الداخلية.
وقال الناس أن ويلات الحرب العالمية الأخيرة ومشاكلها كانت اعظم واعقد من الذبول التي جاءت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وان هذه الويلات والمشاكل تقتضي إعادة التجربة التي فشلت في عصبة الأمم المنحلة. ومن ثم ولدت فكرة هيئة الأمم المتحدة ووضع ميثاقها ولوائحها على أساس جديد حاول أن يتفادى العقبات التي كانت تعترض دستور عصبة الأمم المنحلة وإجراءاتها الداخلية.
ولقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن القصور الذي صاحب أعمال الأمم المتحدة في المجال السياسي وعن المساوئ التي نتجت عن نشاطها مساوئ أصاب العرب منها طرف خطير في مأساة فلسطين ولكن هذه المساوئ لم تقض قضاء مبرماً على مكانة الأمم المتحدة في العلاقات الدولية، ولا تزال لهذه الهيئة أهمية قصوى في تسيير الشؤون الدولية خيراً أم شراً. . والمهم أن لا نحكم على هيئة الأمم المتحدة بصلاح البقاء أم بعدمه. . . إنما المهم أن ندرك نواحي الضعف في الدوافع التي تستند هذه الهيئة إليها.
ويطيب لي في هذه المرحة من البحث أن استنجد بطبيب اجتماعي كبير جمع بين الثقافتين الشيوعية والغربية واستطاع أن يعالج السياسة الدولية من زاوية فريدة في هدوء العالم وثقته وترفعه عن الدجل والتهريج. هذا العالم هو البروفسور برميتيف سوركون أحد أقطاب الحركة السوفيتية سابقاً ورئيس دائرة العلوم الاجتماعية الآن في جامعة هارفاردكبرى جامعات الولايات المتحدة الأمريكية.
قال البرفسور سوركون - يجب أن لا ينظر إلى الأممالمتحدة كمحكمة عليا للقانون الدولي، وهي نظرة يخطئ كثير من الناس في اللجوء إليها عند معالجة أعمال الأمم المتحدة وما ينتج عنها من ذبول، فلا ميثاق الأمم المتحدة لا الدول الأعضاء تعتبر اختصاص محكمة العد العليا في لاهاي.
إنما هيئة الأمم حلقة للدبلوماسية المفتوحة وهي نمط جديدللمفاوضات الدولية التي كانت في الماضي تجري بعيدة عن رقابة الصحفيين وعدسات المصورين وأشرطة السينما وعيون الزوار في قاعات الاجتماع. ومع أن هيئة الأمم لا تقيد الدول الأعضاء بقراراتها وتوصياتها إلا أن في القصور عن تنفيذ هذه التوصيات والقرارات مسؤولية أدبية تؤثر خيراً أو شراً في انطباق الرأي العام العالمي عن سلوك الدول الأعضاء وأهمية ذلك في تقرير سمعتهاالدولية عل أساس هذا السلوك وما يستتبع ذلك من علو أو انخفاض في المكانة المالية للدول واثر ذلك على نفوذها في السياسة الدولية وثقة الناس بها وفي المعداتالدولية والاتفاقيات التجارية وما إلى ذلك من أوجه النشاط الدولي، ففنلندة مثلا بلد ضعيف الحول لا قيمة له من حيث الأهمية السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، إلا انه بلد عرف بتقييده بالالتزامات الدولية (سواء داخل المؤسسات العالمية أم خارجها) وترتيب عن ذلك أن حظيت فنلندة بسمعة رفيعة في المجتمع الدولي اكسبها مكانة فريدة في الجو السياسي من حيث إنها استطاعت أن تحفظ رأسها عالياً فوق الماء رغم أن التيارات القوية تهب عليه من كل طرف من جارها الاتحاد السوفيتي ومن مغريات مشروع مارشال ودول حلف الأطلنطي ووضعية السياسة الأوربية والدولية وإجمالاً. وقد نتج كذلك عن السمعة التي تحظى بها فنلندة أن استطاعت ضمان التبادل التجاري القديم مع الشرق والغرب في فترة تتوتر فيها العلاقات التجارية توتراً شديداً.
ولكن هيئة الأمم المتحدة قصرت حتى في أن تحتفظ بهذه الناحية من أهميتها الدولية - هذه الناحية هي اعتبار جزء كبير من الرأي العالمي أن الأمم المتحدة هي (المحكمة العليا للضمير الإنساني).
فهيئة الأمم مؤلفة من مندوبين يمثلون دولاً. وهذا التمثيل يفرض على المندوب أن لا يقيس قضية من القضايا بضميره الخاص أو باجتهاده الشخصي، وإنما عليه أن يتقيد باعتبارات
قومية محضة تفرضها عليه المقومات السياسية والاقتصادية والعاطفية وأسس السلوك السياسي الذي تتميز به الدول على بعضها. وهذه الاعتبارات إما أن تكون إطاراً فكرياً يستمد منه المندوب الوحي على معالجة قضية من القضايا في حظيرة الأمم المتحدة بالنفي أم بالإيجاب أم بالامتناع عن التصويت، وإما أن تكون في شكل تعليمات ترسلها إليه حكومته في ساعات الفصل وتقيده بشكل قد يوافق ضميره واجتهاده وقد لا يوافق. ويجب أن لا تفسر هذه الإشارة على إنها حط من خلق المندوبين أو انتقاد لأشخاصهم. فالواقع أن من الصعب أن لم يكن من المستحيل على المندوب أن يفرض شخصيته الفردية على الطابع السياسي الذي يلائمه ويهيمن عليه بوصفه ممثلاً لحكومة سلوكها السياسي مقيد بعوامل عديدة ومعقدة، وعقدها ناجمة عن شذوذ السياسة وتطور الأوضاع وتساير الحوادث.
ولما كان جوهر السلوك في حظيرة الأمم المتحدة على ما هو عليه من التعقد والتناقض فقد كان من الطبيعي أن يتطاحن في هذا السلوك اتجاهان:
أحدهما يتوخى التقيد بميثاق الأمم المتحدة والمبادئ والأهداف القويمة التي يخدمها ويجعل بذلك هيئة الأمم (محكمة عليا لضمير الإنساني). والآخر سعي الدول الأعضاء للتوجيه الأمم المتحدة توجيها يتمشى مع المصلحة الفردية لكل دولة - أو لمجموعة من الدول تتوافق وتتناسق فيها هذه المصالح. وقد ساد الاتجاه الأول في مستهل عهد الأمم المتحدة فساد (الضمير الإنساني) في قضية سوريا ولبنان وفي سعي الاتحاد السوفيتي قلب الحكم في إيران بتحويل القطاع الشمالي في أذربيجان الإيرانية إلى دولة منفصلة عن الدولة الإيرانية المركزية.
وما لبث الاتجاه الثاني أن اثبت وجوده قوياً فعالاً فطوح (بالضمير الإنساني) وتكتلت الدول ذوات المصالح المشتركة وباع بعض المندوبين والدول الذين يمثلونها ضمائرهم فاتخذوا من القرارات ما يخالف ابسط مبادئ العدالة و (الضمير الإنساني) كما تشهد بذلك مأساة فلسطين
ولا يزال هذا الاتجاه الثاني سائدا إلى الآن - بعد أن مر في مرحلة هامة جعلت القول افصل للكتل الدولية لا للدول الأفراد - وهذا التكتل هو في الواقع بعث لمبدأ (توازن
القوى) الذي أشرنا إليه في مستهل هذا البحث.
فلا غرابة إذن أن يصرح المستر ايدن وزير خارجية بريطانيا في افتتاح الدورة الثانية لمجلس الحلف الاطلنطي. (ان الدول الغربية لم تكن راغبة في الاندفاع في التسلح (بعد الحرب العالمية الأخيرة) إلا بعد أن اضطرت إلى ذلك لتحفظ ميزان القوى في حاضر العالم)
توازن القوى في هيئة الأمم
جوهر ميثاق الأمم المتحدة هو ضمان التعاون الدولي لصيانة السلم وهو بمعنى آخر اللجوء إلى مبدأ الدفاع المشترك ضد من وما يخل بأمن العالم وسلامته، فهذا الجوهر إذن على طرف النقيض مع مبدأ (توازن القوى) وقد وجدنا كيف اندفعت الوفود في هيئة الأمم في اتجاه التكتل ومعالجة المشاكل والقضايا وصياغة التوصيات والقرارات على ضوء المصلحة المشتركة للدول المتكتلة.
وكان من الطبيعي أن يزداد التوتر بين الكتل السياسية داخل هيئة الأمم عاكسا بذلك تساير الحوادث والمشاكل وازدياد التوتر بين المعسكرات السياسية المتطاحنة خارج حظيرة الأمم المتحدة.
ولا تسألن من هو الملوم عن ميلاد هذا التوتر - هل هو سوء نية الرأسمالية الأمريكية إزاء الدعوة الشيوعية أم هو طبيعة تعاليم الماركسية وسعيها من وراء الستار - عن طريق الجماعات الشيوعية المنظمة في كل بلد، فقد تفاعلت في تساير العلاقات الدولية في سنوات ما بعد الحرب عوامل عديدة أدت إلى نمو سياسة التكتل داخل هيئة الأمم.
ووجد كلا الطرفين في مستهل عهد الأمم المتحدة أن لهذا التكتل أثماناً وشروطاً لا تتوفر في بعض الحالات الهامة. فهيئة الأمم ليست منظمة رأسمالية ولا هي مؤسسة شيوعية. ورغم أن القول الفصل في أعمالها ونشاطها مقيد باتجاهات الدول الكبرى صاحبة القول الفصل وحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن؛ إلا أن للدول الصغرى أكثرية عددية كفيلة بأن تعاكس (الفيتو) وتشاكس الدول الكبرى في نفوذها في صياغة القرارات ووضع التوصيات وفي التصويت عليها.
وحاضر السلوك السياسي اليوم في هيئة الأمم المتحدة يشهد بان الحالات التي استطاعت
فيها الدول أن تظفر بأكثرية الأصوات على مشروع من المشروعات أو قرار من القرارات. . وهذه الحالات جاءت نتيجة لمساومة مستمرة مع وفود الدول الصغرى - إما في أروقة هيئة الأمم أو عن طريق البعثات الدبلوماسية في عواصم الدول وعروشها.
ولما كان للكتلة الانجلوسكسونية نفوذ تقليدي دبلوماسي واقتصادي، في كثير من عواصم العالم - نفوذ يفوق نفوذ الاتحاد السوفيتي - فقد كان من المتوقع أن ترجح كفته الكتلة الانجلوسكسونية على الكتلة السوفيتية.
وحشرت الوفود الشيوعية في ركن ضيق من أركان هيئة الأمم فازداد صراخها واشد وعيدها وأخذت تعد العدة لمواجهة الموقف بوسائل جديدة بعضها ينفذ داخل هيئة الأمم والبعض الآخر خارجها.
ونشطت موسكو فأعادت في عام 1947 تأسيس قيادة الحركة الشيوعية العالمية (الكومنترن) بعد أن كان قد وضع على الرف مؤقتا في سنوات الحرب العالمية الأخيرة ووضعت لهذه القيادة خططاً جديدة وأطلق عليها كذلك اسم جديد هو (الكومنفورم) ووجهت موسكو نشاطها توجيها عملياً، والعقلية الشيوعية عملية إلى ابعد حد، فعززت روسيا سيطرتها على شرقي أوروبا ودبرت انقلاباً سياسياً ناجحاً في تشيكوسلوفاكيا وأوت الميدان الصيني اعتباراً خاصاً حتى تحقق للشيوعيين الصينيين السيطرة على هذه القارة الصينية الواسعة الأرجاء.
وفي حين أن الكتل السوفيتية في هيئة الأمم كانت ولا تزال ضعيفة احول بالمقارنة إلى الكتلة الانجلوسكسونية أصبحت موسكو بعد انقلاب تشيكوسلوفاكيا وتوطيد النظام الشيوعي في الصين زعيمة لكتلة تتساوى في القوة والنفوذ العالمي مع الكتلة التي تزعمها واشنطون.
ومرة أخرى عاد ميزان القوى الدولية إلى نوع من التعادل وأخذت اكثر الدول الصغرى في آسيا وأفريقيا تعاند شيئاً فشيئاً في الانسياق مع الكتلة الانجلوسكسونية ومجاراتها في القرارات والتوصيات الخاص ببعض القضايا الخطرة التي يشغل بها هيئة الأمم وأصبحت المساومة مع الدول الآسيوية في هيئة الأمم اشد صعوبة مما كانت عليه في السباق وساد تفكير هذه الدول اتجاه (الحياد).
(للكلام صلة)
نيويورك
عمر حليق
2 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
الجزور:
1 -
إذا كان للميسر موضوع كما يقولون، فهو (الجزور). والجزور يقع على الذكر والأنثى من الابل، ولكنهماكثر ما ينحرون النوق.
2 -
وليست كل ناقة ولا كل بعير بصالح للميسر، وإنما كانوا يتخيرون أسمنها وأنفسها واعزها عليهم، فكأنما ألهموا من وراء الغيب (ن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون). وفي ذلك قول لبيد:
وجزور أيسار دعوت لحتفها
…
بمغالق متشابه أجسامها
أدعو بهن لعاقر أو مطفل
…
بذلت لجيران الجميع لحامها
يقول: رب جزور تصلح لتقامر الأيسار عليها دعوت لدمائي لنحرها لتلك المغالق المتشابهة، وهي سهام الميسر يشبه بعضها بعضا. وأراد بها هنا سهام القرعة يقرع بها بين إبله أيها ينحر لندمائه. فهو يدعو بتلك السهام لنحر ناقة عاقر أو أخرى مطفلوإنما ذكر (العاقر) لأنها أسمن وأحمل للشحم ، و (المطفل) نفاستها عليهم وعزتها
3 -
وكان إذا أرادوا أن يسيروا ابتاعوا ناقة بثمن مسمى يضمونه لصاحبها، ولميدفعوا ذلك الثمن حتى يضربوا بالقداحعليها فيعلموا على من يجب الثمن
وسيأتي فيما بعد أن الثمن يدفعه من خابت سهامهم متضامنين في ذلك بحسب أنصبتهم لو فازوا.
4 -
وكانوا قبل أن يضربوا بالقداح يجعلون بينهم عدلاً يأخذ من كل امرئ منهم رهنا بما يلزمه من نصيب قدحه أن خاب، مقدار كل الاحتمالات التي يتعرض لها الغارمون، ويسمون هذا العمل (التأريب) وهو التشديد في الخطر.
وأحياناً يتغالى الياسرون فيجعلون مكان أعشار الناقة أعداداً من الإبل، كان يجعلوا موضوع الميسر عشراً من النوق لا ناقة واحدة يقسمونها عشرة أجزاء. . . وكذلك إذاأرادوا أن يضربوا على اكثر من هذا العدد جعلوا مكان العشر من أعشار الجزور بعيرين، ومكان عشرين أربعة، ومكان ثلاثة الأعشار ستة، فان أرادوا على ذلك فعلى هذا السبيل
6 -
وهناك ميسر آخر غريب، ذكره طائفة من العلماء، وهوان يكون موضوع الميسر إنساناً. وقد أنشدوا في ذلك قول سحيم بن وثبل الرياحي:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني
…
ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم
أي ألم تعلموا أني ابن صاحب الفرس المسمى (زهدم).
قال صاحب اللسان (كان قد وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام. وقوله: ييسرونني، هو من الميسر، أي يجزئونني ويقتسمونني).
وهذا تفسير ساذج، من الصعب أن يتصوره عاقل إلا أن يريدوا اقتسام رقه وعبوديته فيما بينهم، كما أن يكون العبد ملكا عدة أشخاص يملك كل منهم شخصاً منه. ونجد ابن سيده يفسر البيت تفسير أشنع من تفسير صاحب اللسان إذ يقول:(وييسرونني من الميسر، أي يجتزرونني ويقتسمونني) وهولا ريب تفسير خاطئ.
وقد فسره ابن قتيبة تفسيراً عاقلاً بقوله: (فمن زوى ييسرونني، أراد: يقتسمونني ويجعلونني اجزاء، احسبه أراد ومن رواه ياسرونني جعله من الأسر.
الجزار
ويسمونه (القدار) على وزن همام. ولذلك القدار خبرةخاصة بتقسيم الجزور، فهويقسمها عشرة أقسام:
فإحدى الوركين جزء، والورك الأخرى جزء، والعجز جزء والكاهل جزء، والزور - وهو ما ارتفع من الصدر إلى الكتفين جزء، والملحاء - وهو وسط الظهر بين الكاهل والعجز - جزء ، والكتفان جزء، والذراعان جزء، وإحدى الفخذين جزء، والأخرى جزء.
ويبقى بعد ذلك (الطفاطف) وهي أطراف الجنب المتصلة بالأضلاع، و (فقر الرقبة) فتقسم وتفرق على تلك الأجزاء بالسواء، فإن بقى عظم أو نصفه بعد القسم فذلك الريم، وكانوا يجعلون ذلك الريم للجازر، فان بخلوا به ولم يجعلوه له كان ذلك مسبة لمن لم يجعله.
وأما نصيب بائع الناقة فهو الأطراف والرأس غالباً.
وذهب الأصمعي في ذلك مذهباً غريباً، وانهم كانوا يجزئون الجزور على ثمانية وعشرين جزءاً، ذهب في ذلك إلى حظوظ القداح، وهي ثمانية وعشرون، للفذ حظ، وللتوأم حظان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس اربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، فجميع هذه
ثمانية وعشرون.
قال ابن قتيبة: (ولو كان الأمر على ما قال الأصمعي لم يكن هنا قامر ولا مقمور، ولا فوز ولا خيبة، لأنه إذا خرج لكل امرئ قدح من هذه فاخذ حظ القدح اخذوا جميعا تلك الأجزاء على ما اختار كل واحد منهم لنفسه، فما معنى إجالة القداح؟ وأين الفوز والغرم؟ ومن القامر والمقمور؟)
عدد الأيسار
والأيسار: المتقامرون، واحدهم (يسر) بالتحريك.
وكان الحد الأقصى للأيسار أن يكون سبعة، على عدد قداح الميسر، لا يتجاوز عددهم ذلك، وليس لهم حد أدنى يقفون عنده. فإذاكان عددهم سبعة قالوا: قد توحدت القداح أي اخذ كل رجل قدحاً، وإنما يكون ذلك في المجاعات الشديدة وغلاء اللحم، فيحتاج الأمر في التكافل إلى هذا العدد الكبير وإذا نقص عدد الأيسار فلا بد أن ينبر واحد منهم أو أكثر ويأخذ اكثر من قدح واحد ويتأهب للمغامرة، ويسمون ذلك الأخذ (متمم الأيسار) وهم يعدون ذلك التتميم مفخرة وفضيلة قال النابغة:
أني أتمم أيساري وامنحهم
…
مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدمة
قداح الميسر
1 -
يقال للواحد من قداح الميسر بالكسر، وسهم وزلم، وقلم وأكثرها استعمالاً في ذلك هو (القدح).
2 -
والقداح: عيدان تتخذ من النبع، وهو شجر تصنع منه القسي والسهام، ينبت في قلة الجبل، معروف بالمتانة واللين.
3 -
تنحت هذه العيدان وتملس وتجعل سواء في الطول، وإنما تختلف في العلامات والوسوم.
4 -
وهي صغيرة القدر، قال ابن قتيبة: وتسميتهم لها بالحظاء دليل على إنها كصغار النبل).
5 -
ولهذه القداح راس صغير، قال ابن قتيبة (ووجدت الشعر يدل على أن له رأساً احسبه
ناقصاً عن مقدار جسمه، حديد الطرف) واستشهد لذلك بقوله الراعي:
بدا عائداً صعلاً ينوء بصدره
…
إلى الفوز من كف المفيض المورب
والصعل: الصغير الرأس، ولذلك قيل للظليم، وهو الذكر من النعام (وصعل) لدقة رأسه.
6 -
ولونه اصفر، لأنه من نبعوما شاكله، ولأنه ايضاً قد يقدم فيصفر كما تصفر القوس العتيقة.
7 -
ويصفونه بالاعوجاج والأود، دلالة على كرم عوده ولينه.
8 -
وكثيراً ما يكون ذا سفاسق، أي طرائق وخطوطا مستقيمة أو منحنية تكون في لون العود، كما تكون في الخلنج دأعواد السروج وأشباه ذلك.
9 -
وهو مدور أملس كالسهم
10 -
ويصفونه بالحنين والرنين إذاضرب به، وذلك لرزانته وسلامة عودة من القوادح والسوس فإذا ضرب به حن ورن كما يطن الصفر والحديد.
هذا ما أمكن الإمام ابن قتيبة أن يستخرجه من الشعر العربي لينقل إلينا ذلك الوصف الدقيق لقداح الميسر.
عدد القداح وأسماؤها
هذه القداح التي مضى وصفها في الفصل السابق ليست كلها على نمط واحد، بل هي نوعان:
النوع الأول: القداح ذوات الحظ، وعددها سبعة، وهذا العدد يقابل الحد الأقصى لعدد المتقامرين.
النوع الثاني: القداح التي لا حظ لها، وعددها ثلاثة.
قداح الحظ
1 -
الفذ، وله حظ واحد.
2 -
التوأم، وله حظان اثنان.
3 -
الرقيب، وله ثلاثة حظوظ.
4 -
الحلس، وله أربعة حظوظ.
5 -
النافس، وله خمسة حظوظ.
6 -
المسبل، ويسمى أيضاً المصفح، وله ستة حظوظ.
7 -
المعلي، وله سبعة حظوظ.
وهذا السهام السبعة متشابهة الأجسام، لا يمتاز بعضها عن بعض إلا بعدد الفروض، أي الحزوز التي تحز فيها لتبين قدرها. فلفذ حز واحد، وللتوأم حزان اثنان، وللرقيب ثلاثة. . وهكذا.
وربما كانت هذه العلامات بالنار، يسمونها بالوسم والوسمين والوسوم، بدلاً من تلك الحزوز.
وقد نظم أبو الحسن علي بن محمد الهمداني أسماء سهام الحظ في قوله:
يلي الفذ منها توأم ثمبعده
…
رقيب وحلس بعده ثم نافس
ومسبلها ثم المعلىفهذه ال
…
سهام التي دارت عليها المجالس
وانشد الراغب الأصفهاني أبياتاً لعروة بن الورد يذكر فيها أسماء القداح الفائزة، واراها من مصنوع الشعر ومولده، وهي:
أنت بالمعلى عند أول سورة
…
وبالمسبل التالي وبالحلس والتوم
وجاءت بفذ والضريب يليهما
…
وبالنافس المعلوب في الرأس والقدم
فراح بها غنم وتعزم ما جنت
…
وقد يغرم المرء الكريم إذااجتر
وأنت منيح باليدين متى تعد
…
تعد صاغراً لا مال نال ولا غرم
وهذه الأبيات المهلهلة لم ترد في ديوان عروة، وليست من شعره بسبب، وهي أشبه ما يكون بشعر ابن مالك في الفية النحو، أو بشعر أبي الحسن على بن محمد الهمداني الذي سبق الإنشاد له، كما أن ما فيها من الخطأ الفني ينطق ببطلان نسبها إليه، فان هذه القداح لا يمكن أن يخرج جميعاً في ميسر واحد كما سيأتي القول عن الكلام على (مجلس الميسر).
وكان العرب في بعض الأحايين يستعيرون قدحاً ميموناً، أي قدح كان من السبعة ذوات الحظوظ، قد جرب من قبل فوجد سريع الخروج في الميسر، يستعيرون من غيرهم ويجعلونه في قداحهم بدلا من آخر مثله، تيمنا به وبما يجلبه من الظفر، ويسمون ذلك القدح
(المنيح)، وهوغير المنيح الذي سيأتي ذكره في القداح التي لا حظ لها.
وكانوا يأخذون من هذه القداح على قدر احتمالهم، فاقلهم حالاً هو اخذ (الفذ) لأنه أن ربح غنم حظاً واحد وان خاب غرم حظاً، ويليه في القدرة اخذ (التوام) أن فاز فاز بحظين، وإن خاب غرم حظين، وأقدرهم وأعلاهم شرفاً هو صاحب (المعلى) لأنه أن خاب غرم سبعة حظوظ فاحتملها.
القداح التي لاحظ لها
وهناك قداح لا حظ لها، وهي قداح الحظ، ولكنها مجردة من السنات والعلامات، وتجعل مع القداح الحظ ليكثر بها العدد، ولتؤمن بها حيلة الضارب فتختلط عليه فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً، وليكون ذلك أنفى للتهمة وابعد من المحاباة وتسمى هذه القداح (الإغفال) جمع غفل، بالضم، واصله في الدواب ما لا سمت له، ومن الأرضيين ما لا علم فيها.
وهذه القداح ثلاثة في اصح الأقوال:
1 -
الوغد.
2 -
السفيح.
3 -
المنيح.
وقد نضم أسماؤها بعضهم في قوله:
لي في الدنيا سهام
…
ليس فيهن ربيح
وأساميهن وغد
…
وسفيح ومنيح
وقيل: وهذا قول شاذ -: إن عددها أربعة:
1 -
المصدر.
2 -
المضعف.
3 -
المنيح.
4 -
السفيح.
للبحث صلة
عبد السلام محمد هارون
العزوف عن القراءة
للدكتور احمد فؤاد الأهواني
سألني (متألم) على صفحات الرسالة، فقال انه مدرس أديب يتذوق القراءة، ويهوى الاطلاع، ولكنه أصيب منذ عام بداء يقطع عليه سبيل هذه اللذة العقلية، وهو (النوم) حين يشرع في مطالعة كتاب أو صحيفة.
وقد فرحت بهذا السؤال، لأني وجدت شخصاً يحب القراءة ويجد في الاطلاع لذة، وقد طال العهد - في الزمن السابق - بمن كانوا يلتمسون اللذة في المتع الرخيصة المبتذلة. ومقياس رقي الأمم اخذ أهلها ب الأدب الرفيع، والإقبال على ارتشاف العلم، ودوام النظر في صفحات الكتب، والاستماع إلى حلقات الدرس والمحاضرة، مما لم يكن معهوداً في العهد السابق، أو مألوفاً في سياسة الملك السابق، بل كان العهد عهد إسفاف، تنتشر فيه الخلاعة والتهتك، ويقبل الناس مع ملكهم على الإثم والفجور.
وآية ذلك هذه الصحافة الصفراء التي كان همها أن تطلع على القراء بالسيرة المفضوحة، وأخبار (الطبقة الراقية) في حلبات الرقص وميادين السباق وموائد الميسر وعلى شواطئ البحار، مع عرض صورهن في ثياب تكشف عن الفتنة وتبتعد عن الحشمة.
وأصبحت عناية الصحف والمجلات نشر الصور للممثلات وهن شبه عاريات، وتسابقت جميعاً في هذا المضمار تنشد اجتذاب الشباب بالفتنة، واستهواء الشيوخ بالخلاعة، وتوجيه العواطف وجهة دنيئة، والتلاعب بالغرائز الجنسية تبعثها وتثيرها من مكامنها. فأصبح القارئ العفيف كأنه راهب انقطع في الصحراء، أو سابح ضد تيار الماء.
وكان التيار جارفا يحمل المجتمع نحو الأغلال والفساد، ويبتعد به عن الجد والوقار. فإذاأخذ أحدنا بسبيل الجد والمثالية شعر كأنه غريب عن المجتمع الذي يعيش فيه. ولعل عزوف (المتألم) عن القراءة راجع أي شعوره بالانفصال عن الجماعة حين يقبل على القراءة والاطلاع.
قد يقول قائل، ولكن صاحب السؤال يحتاط للأمر ويقرر أنه يهوى القراءة ويشتاقها ويرغب فيها، فكيف تزعم أنه غير راغب فيها، وأن ميله إلى النوم دليل على صدوفه عنها؟
ونقول في الجواب عن هذا الاعتراض أن النفس الإنسانية أمرها شديد العجب، فهي تبدي خلاف ما تبطن، وتصدر عنها أفعال تباين ما يشعر به صاحبها. فهل نصدق الأعمال ونكذب المشاعر، أو نصدق المشاعر ونكذب الأعمال؟
واعلم أن اتجاه المحدثين في علم النفس هو الأخذ (بالسلوك) والأعمال الظاهرة، وليس لهم شأن بما يجري داخل النفس من ظواهر شعورية. وهناك مدرسة كبيرة على رأسها الأمريكان، ويتبعها بعض العلماء في أوربا، تبحث في علم النفس بغير شعور. ونحن إلى هذا الاتجاه اميل، فنقدم العمل ولا نقبل الشعور، ونصدق السلوك ونفسر به النزعات الباطنة.
وعلى هذا الأساس يسهل علينا تفسير هذه الظاهرة التي يذكرها صاحبنا، فهو يمسك بالكتاب ولا يكاد يقرأ منه بضع صفحات حتى تأخذه سنة من النوم. هذا هو الواقع المشاهد الذي لا سبيل إلى إنكاره. فما العلة في ذلك؟
وسوف نبين العلة الصحيحة بعد أن نستبعد ما يذكره عن مشاعره الباطنة، من انه يتمتع بما يقرأ تمتعاً زائداً. فهذا الشعور غير صادق، بل هو تمويه من النفس. فلا يستقيم أن تكون المتعة حقيقية ثم ينصرف عنها نائماً، بل العكس هو الصحيح
والنوم عند القراءة دليل لا يخطئ على عدم الرغبة فيها. وقد يعبر الإنسان تعبيراً آخر يفصح عن هذا الصدوف، كأن ينسى الموضع الذي ترك فيه الكتاب، أو ينسى اسمه وموضوعه، أو يجد في عينيه تعباً، وقد يصاب أحدنا بظهور (الذبابة الطائرة) وهي نقطة سوداء تعاكس الرؤية، وهذا إنذار بالتعب من القراءة، وفي بعض الأحيان يصاب الشخص بعمى تام، فلا يبصر شيئاً، لا لعلة في العين، بل لشدة الإجهاد العقلي في القراءة والرغبة اللاشعورية في الابتعاد عنها.
الحق أن القراءة ليست شيئاً في طبيعة البشر، فقد ركب الله العين في الإنسان ليبصر بها الأشياء الخارجية فيعرفها في المناظر من جمال هو الذي يبعث المتعة في جوانب النفس.
والأصل في التفاهمبين الناس السمع لا البصر، وذلك قيل الإنسان حيوان ناطق. فالألفاظ التي يتألف منها الكلام تنتقل من الفم إلى الاذن، ويتم عند ذلك الإدراك ويحصل العلم. حتى إذا اخذ الإنسان يتحضر عرف التدوين والكتابة، وسجل الألفاظ المنطوقة في رموز مكتوبة
رسمها رسماً. واتسعت الكتابة مع الرقي، وكثرت الكتب، وأصبحت مرجع الناس في تحصيل العلوم، مع أن الأصل أن يستمد المرء العلم سماعاً ويتلقاه من أفواه العلماء. ولعلكعندئذ تعلم لماذا امتنع سقراط عن التدوين، ولماذاكان يلقي دروسه إلقاءً.
الكتب - وقاك الله شرها - فيها منافع وفيها مضار. فمن منافعها أنها تلخص لك أفكار العلماء الذين افنوا أعمارهم في بلوغها في حيز ضيق، تستطيع أن تحصله في ساعات قليلة. ومن منافعها أن العلم ينتقل إليك في دارك فتطلع على آرائه وأنت مضطجع، بدلاً من شد الرحال إليه. ومن منافعها إنها صديق تأنس إليه وقت الشدة فيفرج همك ويسري عنك ويبعث في نفسك المتعة حتى إذاسئمته ألقيته جانباً.
ومن مضارها إنها كالجثة الهامدة لا حياة فيها، لأن حياة الأفكار في حياة قائلها، ولذلك كان الاستماع إلى حديث العالم أمتع للنفس وارسخ في الذهن.
ومن مضارها الذهاب بقوة البصر، لأن التحديق في الحروف السوداء ساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم؛ وعاماً بعد عام، يجهد العين ويضعفها.
وكل قارئ تمر به فترات من الضيق فيسأم الاطلاع في وجوه الكتب، ويصدف عنها، ولا علاج لذلك إلا تركها مدة من الزمن، والترويح عن النفس بقراءة (كتاب الطبيعة).
وهذا شئ قل أن يفعله القراء في الشرق، نعني الخروج إلى الحدائق العامة والتأمل في مباهج الطبيعة. وكان عادة أرسو أن يلقي دروسه في بستان وهو يجوس خلال مماشيه، ولذلك سمي اتباعه بالمشائين.
فلا تتألم أيها السائل لأنك تنام عند القراءة، واسترح قليلاً، وخذ العلم من المجالس ومن أفواه العلماء ومن قراءة كتاب الطبيعة - أما النوم الذي تشكو منه، فان لم يكن لعلة جسمانية وضعف طارئ، فهو رد فعل طبيعي لإرغام نفسك على ما لا تحب وتشتهي.
والابتعاد عن الأشياء غير المرغوب فيها يتخذ أشكالاً مختلفة؛ فشخص يلقى الكتاب من يده، وآخر يمزقه، وثالث يبيعه. اعرف ناساً كثيرين حين ضاقوا بالقراءة باعوا مكتباتهم التي اقتنوها على مر الزمان، فلما ذهبت فترة السام والملل ندموا على ما فعلوا.
وقد لا تنصرف الصورة في إبعاد القراءة إلى الكتاب، بل إلى الشخص، فيشعر بالفتور، أو التثاؤب، أو الرغبة في النوم، أو ينام فعلاً.
ولكن الدخول في النوم يحتاج إلى تفسير آخر يضاف إلى العزوف الباطني اللاشعوري عند القراءة. ذلك أن كثيراً من الناس يعتادون القراءة وهم مستلقون على ظهورهم كأنهم نائمون، ليكون الوضع بالنسبة إليهم مريحاً، وهذا الوضع بالذات يهيئ إلى النوم. ولذلك ينبغي على مثل هؤلاء إذاأرادوا التخلص من النوم أن يتخذوا لأنفسهم عادة أخري وهي الجلوس في هيئة جادة، ويحسن إلى جانب ذلك إلا يخلعوا الملابس الرسمية التي يخرجون فيها، وإلا يلبسوا ملابس البيت. هذا إلى أن النظر في حروف الكتابة مع وضع الرأس إلى الخلف في حالة أن يكون القارئ مضطجعاً يتعب العين ويجهدها، فيكون مثل هذا الشخص مثل الوسيط الذي ينوم تنويما مغناطيسياً.
فلا بد من تغيير الهيئة.
وفي بعض الأحيان لابد من تغيير المكان، كالخروج من حجرة إلى أخري، أو الخروج من الدار إلى الحديقة، أو الخروج من حديقة الدار إلى خارج البيت.
وقد يعالج الإنسان نفسه بأن ينتقل من كتاب إلى آخر، إذ من شأن النفس أن تسأم الطعام الواحد.
وقد يكون الكتاب ثقيلا مملا يبعث كاتبه السأم إلى النفس؛ ومثل هذه الكتب إذاقسر المرء نفسه على قراءتها هي التي تجلب النوم.
فعليك باختيار النوع من القراءات الذي لا يدفعك إلى النوم، ولا تقبل على الاطلاع الشاق الجاد إلا حين تكون في يقظة تامة وصحة جيدة
احمد فؤاد الاهواني
في افتتاح العام الدراسي
المعلم في عهد التحرير
للأستاذ محمد رجب البيومي
أشرق على مصر فجر جديديبعث الضوء والأمل، ويطرد الظلام واليأس، وقد أحس كل مصري انه بدأ يعيش لوطنه ونفسه، بعد أن كان يعيش غريباً لغيره، فأخذ يفكر في مهمته، ويبحث عن خير مصر، ويعمل على رفعتها بين الأمم بعد أن تمهدت الصعاب، واستوى السبيل الواضح أمام السائرين.
والمعلم ذو رسالة سامية في امته، فهوالذي يخط سطور المستقبل، ويبني صرح الحياة، إذ يتعهد الناشئ بالتربية والصقل والتقويم، ويبعث في رجال الغد قوة عاتية تحطم الأغلال والسدود، ويخلق فيهم يقظة واعية تتفهم الأمور وتدرك الأسباب، وقد حرص على أن يقوم بمهمته الشاقة في دأب وكفاح، دون أن تعوقه المدافع والحوائل، ليرضي ضميره المتيقظ في أحنائه، ويقضي حياته مثلوج اصدر، هانئ البال.
وقد وفق المعلمفي أداء رسالته إلى حد كبير، ففي العهد الماضي حينما كان الظلام الدامس يرين على الآفاق في كل مكان فالصحف مكمممة الافواه، لا تسطر غير ما يرضي الباطل ويغضب الحق، والألسنة المخلصة معقولة حبيسة، تحاول النطق فلا تستطيع، الأحرار في كل ناحية يلاقون من البلاء والعنت، ما يوهي العزائم ـ ويفت في الاعضاء،!! حينما كان ذلك كله، كان المعلم يجد في ميدانه متسعاً فسيحاً لإيضاح الحق وإزهاق الباطل، فهو يتحدث إلى تلاميذه كما يتحدث الوالد إلى أسرته، كاشفا ما يرتكبه الآثمون من ضروب الخيانة والرشوة والطغيان، وقد يضطر إلىالتلميح حينما يخشى المغبة المخفية، ولكنه لا يني عن أداء رسالته المخلصة لوطنه وأمته ودينه، لذلك كان التلاميذ في كل مدرسة من مدارس القطر أول من هتفوا بسقوط فاروق وهو في شوكته وسلطانه وجنده، بل انهم حاصروا وقصوره اسمعوه من السباب والتهكم ما اقض مضجعه، وشرد النوم عنعينيه، وبذلك أتيح للمعلم أن يخلق واعيا يعرف الخائن والمخلص، ويميز الطيب من الخبيث.
ولقد اجتهد النفاق الآثم في تزييف الحقائق، وتشويه الوقائع، فامتلأت الكتب المدرسية بالثناء الكاذب على الأسرة العلوية، وجعلت كل طاغية فاسق من أبنائها الفجرة ملاكاً
طاهراً، يراقب ربه، ويعمل جاهداً لرفعه وطنه ودينه، وتعاونت معها الصحف والمجلات في رفعة أناس لا يستحقون غير الضعة والهوان، فكانت الجرائد اليومية تظهر مكدسة بصورهم الضخمة، ومتخمة بالأكاذيب الفاضحة تختلق اختلاقاً، عن مرؤتهم وفضائلهم في كل ذكرى تمر، أو مناسبة تحين، اجل! كانت الكتب المدرسية، والصحافة الخادعة تقوم بمجهودها الفاشل في هذا المضمار، والمعلم من وراء ذلك كله يقف بين تلاميذه ليدحض الأكاذيب المنمقة، ويميط اللثام عن الحقائق الفاضحة، حتى سطع الحق في الأذهان وضيئاً لامعاً، وعرف كل مصري تاريخ بلاده، كما كان لا كما أريد له أن يكون، وأمامك الثورة العرابية، مثال صدق لما نقول، فقد تواطأت الأقلامالآثمة، على إبراز زعيمها المجاهد في صورة المبهور الجاهل، الذي لا يقدر العواقب، ولا يتبصر الامور، واجتهدت الصحافة المتملقة في إخفاء كل مقال يكشف وجه الحق في هذه الثورة الشعبية المجيدة، فإذا حانت مناسبة ملحة للحديث عنها وجدت ضروبا بشعة من التلفيق والتضليل، ورغم ذلك كله فقد استطاع المعلم أن ينشئ أجيال متعاقبة تهيم بعرابي الخالد، وترى فيه رمز البطولة والتضحية والإيمان، وجاءت حركة الجيش المباركة فأتاحت لهذه العواطف المشبوبة نحوه أن تجد متنفساً على الأوراق ـوبين أمواج الاثير، فانطلقت الأقلام في الصحف، وانبعثت الأصوات في الإذاعة، تهتف بذكرى عرابي الخالد، وترتفع به إلى أوج البطولة والتقديس.
لقد أدى المعلم في العهد البائد المنصرم، وبقي عليه في عهد التحرير واجب شاق مرير، فهو مطالب بان ينشئ الأجيال القادمة على حب الحرية والعزة والاستقلال، ومكلف أن يحمي الأذهان الغضة مما يغيم في سمائها من الأباطيل، إذ أن حركة الجيش المباركة تصطدم في وثوبها بمن يروجون الإشاعات المغرضة، ويرجفون بالمفتريات الخادعة، فقد دأبت الرأسمالية الحاقدة على نشر السموم في كل مكان، وانحاز إليها فريق من ذوى الأغراض الخبيثة كالمحتكرين من التجار، والمطرودين عن مناصبهم اللامعة لما علق بهم من الشبه، والمآثم، وهؤلاء وأشباههم يتأوهون في مضاجعهم حسرة على ما انتهوا إليه من مذلة وهوان، ويحاولون الثار فلا يجدون غير الإشاعات والمفتريات، وان من المؤسف اللاذع انه يجدوا آذاناً تسمع، ونفوساً تصدق! ولو لم يكن ذلك: ما استطاع إقطاعي آثم في مغاغة، أن يقود شرذمة من الجهلة والرعاع، وليعلن عصيانه وطغيانه على رؤوس
الأشهاد، وما اندفع عامل ابله في كفر الدوار إلى قيادة عصابة تحطم المصانع وتحرق المنسوجات، ولو عقل هؤلاء الجهلة من الطغأم لعلموا أن حركة الجيش لم تبعث من مرقدها إلا لتمهد لهم سبيل الكرامة والسعادة والثراء، ومن هنا كان واجب المعلم خطير شاقاً فهو مطالب - فوق واجبه التعليمي - بإزالة الشبه والمفتريات، ولن يقول قائل انه يتدخل بذلك في السياسة، وهي محظورة على التلاميذ، إذ أن السياسة الحزبية التي تقوم على الأشخاص وتغفل المبادئ، هي المحظورة الممنوعة، أما السياسة القومية التي تسعى لخير الوطن واستقلاله، فلن يستطيع عاقل أن يحرمها على الطلاب، ولاسيما أن كل أسرة من اسر الوطن العزيزة تبعث بأفرادها إلى المدارس والمعاهد، فإذا عرف التلميذ من معه وجه الحق فيما يدور على مسرح السياسة المصرية استطاع أن يقنع أهله وذويه بما يقوم العهد الجديد من إصلاح، فيقطع السبيل على الشائعات المغرضة ويأمن الوطن ما يهدده من الزلزلة والانشقاق.
إن دراسة الأحداث الجارية من سياسية واجتماعية، تأخذ نصيبها الأوفر من مدارس الغرب ومعاهده، ولكنها لا تجد في مصر من نظر إليها نظرة جدية، بل يكتفي في بعض المدارس المصرية، بكتابة موجز يومي لأهم الأنباء السياسية، على سبورة توضع في الفناء، واكثر المدارس لا تلتفت إلى ذلك، وتراه عبر لا يفيد التلاميذ في شيء!! وهذا خطا يجب أن يلتفت إليه فالأحداث السياسية هي التي تؤلف تاريخ الدولة، ويترتب على مستقبل البلاد، ولن تكون غير حلقات مشتبكة من سلسلة الحياة، فالمدارس حين يوجه إليها اهتمامه إنما يبصر الأذهان يمثل في الوطنمن أدوار، وقد يقول قائل أن انشغال المعلم والطالب بالأحداث الجارية في مجتمعه يحول دون أداء الرسالة الثقافية التي تضطلع بها المدرسة، إذ أنها ستزاحم المواد الأخرى من رياضة وعلوم ولغات، وقد تكون سبباً فعالاً في هبوط المستوى العلمي هبوطاً لا تحمد عقباه، ونحن نقول أن دراسة الأحداث الجارية في الدولة، والعالم أيضاً، لا يكون بتخصيص أوقات خاصة تقتطع اقتطاعاً، من اليوم المدرسي للتلميذ، ولكن مدرسي المواد العلمية يقومون بهذا الواجب في دروسهم المختلفة دون أن يشعر التلاميذ انهم قد انتقلوا من موضوع لموضوع؛ فمدرسالتعبير مثلا يستطيع أن يجعل مواضيعه الإنشائية تدور حول الاصطلاحات الهامة التي تشغل الاذهان، كتحديد الملكية
الزراعية، ومحاربة الغلاء الصحراء، وتأميم الطب، وتشجيع الإنتاج القومي، وإلغاء الرتب والألقاب، وعلى المعلم أن يفسح لتلاميذه مجال النقاش بالحصة الشفوية في جو من الحرية والاخلاص، كما يستطيع أن يعقب على كل رأي بما يعن له من توجيه وتصحيح، وبدراسة هذه الموضوعات الهامة يلم الطلاب بمشاكل مجتمعهم وأحداثه الهامة، ويتقبلون ما يدور من الإصلاح بنفس راضية، وصدر منشرح، بل يصبحون من دعائه وحملة لوائه في كل مكان.
وقد كنا في العهد البائد ندرس التربية الوطنية دراسة مضحكة فنكتفي بالمذكرات الموجزة عن البرلمان والدستور والملك ومجالس القرى والمديريات، تاركين للطلاب أن يستظهروا ما يدونونه من القشور الجافة دون أن يتشبعوا بالروح الديمقراطية الصحيحة التي يجب أن تغمر البلاد، وكان من المؤسف أن يحفظ الطلاب فيما يحفظون أن الأمة مصدر السلطات، ويرون بعد ذلكما نعرفه من تزييف الانتخابات وتمزيق الدستور، والعبث بالحريات، كان ذلك في العهد البائد لن يكون في عهد سطعت فيه أضواء الحرية، وعرف كل مواطن حقوقه وواجباته، واصبح المعلم ملزما بدراسة التربية الوطنية تخلق النفوس، وتعرض الواجبات، وتقدس الحرية والعدل والمسأواة، وتجعل كل تلميذ يشعر بكرامته الإنسانية، وينشد وطنه الحرية والاستقلال.
لقد لاحظ بعض الباحثين ما يشيع لدى شبابنا المثقف من جهل بالأحداث الجارية، خارجية وداخلية، حتى أصبحنا نواجه مشكلة دقيقة، اصطلح الكتاب على تسميتها بمشكلة (أمية المتعلمين) فأنت ترى الشاب الجامعي يحمل مؤهلاً عالياً، فتظنوه يلم بما يلم به المثقف عادة من حوادث العالم وشؤونه في وقت كثرتفيه الصحف وتنوعت الإذاعات، ولكنك تناقشه في أمر ذائع فلا تظفر بشيء مما فطن، فترجع باللائمة على الدراسة الجافة التي عكف عليها في مدرسته وجامعته، ونحن لا نريد أن نستمر على هذا النهج المعوج فننشئ شباباً غلف العقول والقلوب، بل لا بد أن نعيد دراسة المنهاج من جديد، فنظم إلى كل مادة ما يخلع عليها الجدة والطرفة ويجري في شرايينها دماء الحياة، نريد أن نبتعد عن التوافه الحقيرة التي لا تفيد الطالب في شيء غير ازدحام الذاكرة بكل مشوه بال، نريد أن نبعد عن التاريخ أرقام الميلاد والوفاة لبعض اللامعات من السلاطين والوزراء، نريد أن ندرس
الوثبات الاجتماعية والسياسية للشعوب ونغفل ما كل الملوك، وهدايا الأفراد، وتحف الخلفاء، نريد أن تبتعد عن الشكلية الضيقة في تدريس الجغرافية التقليدية، فلا نقف بها عند الحاصلات والمناخ والتضاريس، بل ننتهز ما يجد من الأحداث الخارجة، فنكشف عن أسبابها ثم نتطرق إلى الدولة التي كانت مسرحا لهذه الحوادث، فنتحدث عن مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي ذلك من التشويق ما يبعث الرغبة ويولد الاهتمام، ولن يقف المنهج الرسمي عقبة معترضة، إذ لا يتعذر على الوزارة إيجاد منهج مرن يدرس الدول الهامة ذوات السيطرة والتأثير في شتى البقاع.
إن المعلم يستقبل مع تلميذه عهداً نظيفاً طاهراً، ترفرف عليه ألوية الحرية والعدالة والمساواة، فعليه أن يبذل جهده الجهيد في إنارة الأذهان، وتقويم النفوس، والتشبع بمبادئ الأخلاق، وبذلك يخلع عن وطنه نير العبودية والهون، ويحقق رسالة مصر الخالدة في موكب الحضارة والعمران.
(أبو تيج)
محمود رحب البيومي
سليمان العبسي
في ديوانه (مع الفجر)
للأستاذ احمد الفخري
خلني أصهر الحياة شيدا=وأذيب الوجود في إيماني
ربما مزقت أناشيدي الحم_راء بعض القبةدعن أوطاني
أنا لو أستطيع أرسلت أنفا_سي شواظا من مارج ودخان
أهكذا تنصرم الأيام كاللمحة الخاطفة؟ أحقاً تسع سنين قد مضت على لقائنا الأول؟ تاالله لكان ذلك كان بالأمس. . ولئن استطاع أن يفرق الزمانشملنا فهو اعجز من أن يهزم الذكريات. . ذكريات تلك اللحظات الحالمات. . وهل هن من حلم الحياة إلا يقظةالعمر!
يا لحظة النشوان لا تعبري
…
ما أنت إلا عمري السرمدي
في صالة الاستراحة في دار المعلمين العالية ببغداد كانت عيون منجذبة إلى فتى جالس وحده، كانوا يحدقون النظر به ثم يتهامسون فيما بينهم حتى رابني أمره فسألتهم ما شأنه؟ فقالوا - وملؤهم إعجاب - هذا فتى نابغة من لاجئ (الإسكندرونة) رحمها الله، وهو شاعر جبار، فزاد اهتمامي به، وتأملته فإذا شاب هزيل الجسم، كليل البصر يضع على عينيه منظار لا يلائم شبابه الغض، ونظرت إلى عينيه فبدتا أول وهلة زجاجتين زرقاوين خابيتين لا تعرفان الاستقرار، فلما أمعنت النظر لمحت من ورائهما بريقا عميقا لم تستطع النظارة ولا قصر النظر إطفاءه.
ذلكم وهو سليمان العبسي شاعر الشباب الرقيق وشاعر الفتوة العربية بحق، ذلكم الذي صهرته عواطفه وإذا بته مآسي هذا الوطن المتلاحقة، سليمان الذي يقول:
ألقيت في الإعصار روحي
…
وسقيت من قلبي جروحي
أنا لست أغنية الهوى
…
بل صرخة الأمل الذبيح
والذي يقول:
أنا لو أنني خلقت جماداً
…
كنت أولى قذائف البركان
وبعد فعسير على أيها القارئ أن انقد شعر سليمان نقدا علميا منظما لأني لا أستطيع أن
اجرد حديثي من عاطفتي وأي عاطفة هي! لقد مزجتنا الآلام ووحدت سيرنا الآمال وعشنا بضع سنين نحيا حياة واحدة تحمل من صميمها من حاضرة شكوى مشتركة وتطل بنا على المستقبل من منظار واحد.
ومجمل ما يجب ذكره أن أقول إنا بتنا نمقت الأقوال نود لو بالأعمال اعتضنا عنها أو كما يقول سليمان في مقدمة ديوانه (ما زلت أوثر أن أحيا على أن أسجل) فكانت حياته شعراً وكان شعرا هذه الحياة الفنية الفتية الغنية بحب الوطنيين (القلب) وطننا الأصغر (والأمة العربية) وطننا الاكبر، وهولا يرى الأول إلا صورة مصغرة من الثاني، وهي ممهدة ومغذية. . ولهذا فأنت لا تفتا تجد في ديوانه انتقالاً رائعاً من الغزل إلى الحماسة تفسره لك هذه العقيدة النبيلة، اسمعه يقول في موشحه (لمن أذوب ألحاني):
لو كنت حراً لأسكرت الوجود على
أنغام حبي. . . وأفنيت الصبا قبلا. . .
استسمج الحسن، بل أستغفر الغزلا
ماذا؟ أأرقص فوق النعش قد حملا
جثمان شعبي فيه، ضاحكا، جذلا؟
أأستحيل كغيري نحوه خشبا؟
وأسخط الله، والتاريخ، والعربا!
لي من هواك. . . جناح سوف أقتحم
برج النضال به، والهول يحتدم. . .
هذى (القيود) التي حولى ستنحطم
لا قدس للحب في أرض ولا حرم
ما نقلت فوقها (مستعمراً) قدم. .
قولي لمن تنكر (الذوبان) ما ارتكبا. . .
هل تأمن النمر المطعون أن يثبا؟
وبعد أن يقول من موشحه (جنة الفن) في أسمهان:
يؤثر الفن لو نسينا (المكانا)
واختصرنا. . . بقبلتين (الزمانا)
ما وهبنا الشباب؛ والعنفوانا
لنداري جراحنا، وأسانا
لن تراني يا قلب أشكو سنانا
خضبته كف الهوى بوريدي
لن يراني اللهيب غير وقود. . .
أسمعه بعد ذلك يقول:
حرقة أنت في فؤاد الغناء
أن تنامي عن الكؤوس الظماء
قبل أن تشهدي مع الصحراء
يوم عرس الحرية الزهراء
قبل أن تصدحي بلحن (الجلاء)
وتهزي به رفات الحدود
يوم نمشي على حطام القيود
وليس أصدق في تمثيل فكرته هذه وشدة تعلقه بها واعتزازه من وصيته في نشيده لشبله (معن)، وهل اشد إخلاصاً من نصيحة الكبد بضعة منها؟
وعدا. . . إذاعبق الجما
…
ل ورفت الغيد الحسان
وتموجت شعل الشبا
…
ب وصاح فيها العنفوان
ولويت أعطاف الحني
…
ن فطار من يدك الغنان
فاشرب على نخب (الحيا
…
ة) فإن ظامئها جبان
وأحب ملء الروح من
…
طلقا. . وللحذر الهوان
وإذاتفجرت الحقود. .
…
وزمجر البلد المهان
ورأيت أرضك ها هنا
…
(ناب) وثمة (أفعوان)
وتكلم الأحرار فالآفا
…
ق نار أو دخان
فأخضب طريقك باللهي
…
ب وأنت في يده سنان
ذلكم سليمان: قلب ناضر ملؤه الحب والجمال، وشباب ثائر تتقاذفه الآلام والآمال، فهو بين يأس (أو شبه يأس) لولا جلال التاريخ ووقدة العزيمة لذهب بالأمل، وأمل لولا عزة الماضي وعمق جذوره لخبت جذوته واستحال رماداً، وروح قرارته خضم مائج لا يستقر، وكيف يستقر وفتوة الشباب تذكية ونكبات الضاد تمر به إعصاراً أهوج!
وهو من بعد أن سار سددت خطاء حماسة الشباب وحرارة الحياة، وهوان تكلم نطق الحب، حب تلكم الحياة الفتية المتدفقة المتألمة في كلامه، فما الحياة وما الحب إلا للوطنين القلب والضاد، وحسبه في هذين الغرضين - وقد أسراه - أن ينتقل بين أفنان لا حدود لرياضها وأن يضرب في لج لا ساحل لعبابه: الحب والبطولة - يا أخي القارئ - وقد أهدى إليهما ديوانه لأنه استوحاه منهما - الحب والبطولة حسب الشباب شبابا فهما الحياة بأجمل وأوسع وأقوى معانيها؛ وهل الفن إلا تعبير حساس عن الحياة؟
(لمحة هزت نشيدي فانطلق
…
رعشة حيناً وحيناً زلزلة)
والحياة الخالدة هي أمنية كل حي فان وفقدانها سر شقاء الخيام. . ولكن سليمان خلد نفسه في خالدين. . وهل أروع من أن يخلد الإنسان ذاته في وطنه الصغير (القلب) وفي وطنه الأكبر (أمته)؟ وهل أحر لوعة من أن يشكو الإنسان مصيبته في أحدهما إلى الآخر؟
عروس الشعر. . . ما انفسح الخيال
على دنيا. . . هي السحر الحلال
ولا نديت على الظمأ الرمال
ولا غنى فم. . . لولا الجمال
قصيدة الكون أنت. . . وما أخال
ربابا في يمين الآلهات
يصاغ بها لرقته مثال
عروس الشعر معذرة القصيد
إذا ما جن في وتري نشيدي
تمرد أن ينام. . . على (القيود)
فراح يهز أجفان (العبيد)
ليفتحها على ذل السجود. . .
فإذ شعبي موات في موات
وإذ وطني: همود في همود
وهو في هذين المضمارين قد أرضى جميع نقاد الفن وإن لم يعتمد ذلك لأنه لم ينصت إلا إلى أوتار قلبه، أرضى في حبه أرباب الفن للفن كما أرضى معارضيهم في سمو توجيهه (وحرية) أوتاره.
أنا ما نظمت الشعر بل
…
ذوبت رنات القيود
وعصفت. إذ هتف الهوى.
…
ناراً على شفة الجليد
فأما الحب، وأما دفقات الشباب؛ وأما خفقات الفؤاد، فما أعرف شابا أديبا مثل سليمان أحسن نجواهن فسحر، وغنى بألحانهن فأطرب وأسكر، وهل الحياة إلا الحب؟
هي الدنيا، وهل فيها
…
- إذالم نهو - ما يسبى
إذا رضى الغرام عليك فأمن جانب الرب
وهل عمر الشباب إلا: -
عمر الورد قصير. . . فلندع
كل ما في الروض يغرق في المراح
ليس في ثغر الأقاحي متسع
لسوى القبلة من ثغر الأقاح
وإن هذا الغناء وإن شابهت أنغامه أنغام الخيام إلا إنها أشد اتصالاً بينبوع الحياة، وليس وراء مرحها وإغراقها في اللذة جمرات يأس، بل هي نقية صافية لأنها من معين الخلود:
علمتني طرق السما
…
ء فجن شعري بالسماء
وهتفت بي - والأرض تجذب ناظري: - إلى العلاء
فهوت على قدمي، خلف السحب، أشباح الفناء
وإذاالخلود. . . على فمي
…
كأس تفجر بالغناء. . .
لا تحذري. . . لم يحطمنا سوى الحذر
لا تحسبي غير لقيانا من العمر. . .
ألقي بروحك في أرجوحة القدر
وعانقيني على إطلالة القمر. . .
أنقل على شرفات الخلد أقدامي
وأسكر الملأ الأعلى بأنغامي. . .
لا تأسفي للدجى إما تريه فني
في تمتمات النشاوى مصرع الزمن
دعي هواجس هذا الكون في كفن
يخلو لهن ذوو (الآراء) والفطن
واستنشديني فقد باتت تعذبني
أنشودة لم أتممها ولا عجبا
صدري يضيق بألحاني وإن رحبا. .
إذن فلينهل من هذا الكوثر قبل أن يفقده، وليمنع منه أحياناً ليشعر بألم الحرمان فما هذا الألم إلا صورة من اللذة الخالدة. .
أقفلت أنفاسي على جمرة
…
لفاحة. . . تلهب ما تلهب
ورحت أستعذب آلامها
…
والألم الخلاق يستعذب
في غد تخبو رؤانا الزاهية
…
لم لا نشعلها قبل الغد؟
في غد. . تمضي الأماني الحالية
…
والأغاني بددا في بدد
سنبسم للجراح على الجراح
ونسقيهن ألحان المراح
ويحملنا الشباب بلا جناح
إلى أحلامنا الخضر الفساح
إلى دنيا منضرة النواحي. . .
هناك إذاافترشت النيرات
غفوت على أغاريدي وراحي
البقية في العدد القادم
أحمد الفخري
شلر
للكاتب الكبير توماس كارليل
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
- 6 -
إننا نجد شلر في تصادمه مع مواطنيه المثل الأعلى في سموه الخلقي، وهذا السمو هو الرابطة الوحيدة التي كانت تشده بمجتمع زمانه، وقد اظهر كل النبل مع أعدائه وأصدقائه على حد سواء، وعلى انه لم يدخل قط في مجادلات وترهات عصره، وبالرغم من مشاهدته واسفه على إسفافالأدب في زمنه لم يشهد حربا مكشوفة عليه وإنما يلمح إلى ذلك عن بعد كما هي الحال في كتابات (متون) ولذا نراه لا يتطرق إلا إلى السماء عدد قليل من معاصريه، لأنه لم يقصد الناس في هجومه وإنما كان يقصد الأفكار المعوجة والآراء الفجة. وفي كتابه (دراسة عن برغر) - هذا الكتاب الذي أسهب الناس فما الحديث عنه وعلقوا عليه شتى التعليقات، والذيانزل اشد الضربات في الشاعر المسكين (برغل) إلا أن شلر لم يقصد منه إثارة أي عداء ضد برغر - بل على العكس حاول أن يظهر فيه احترامه لفن الشاعر وتجربةلفهمه، لأنه لم يعن بالمنازعة مع برغر أو اي شخص آخر لم يقصد أي كسب رضا الجمهور، وقد كان حائزاً عليه بدرجة عالية لأنه لم يقدر هذا الرضا الجمهور، وقد قال في المعنى في فقرة جلية يعرفها قراء الإنجليز (إن الفنان في لحقيقة هو ابن عصره، لكن وارحمتاه له أن هو اصبح تلميذ هذا الفكر، فخير له لو اختطفته يد إحدى الآلهة وهولا يزال رضيعاً من حضن أمه لتربية في عصر آخر احسن فيشب ويبلغ مبلغ الرجال تحت سماء الإغريق القصية، وحالما يدرك هذا المبلغ فله أن يرجع إلى بلاده غريباً في سيمائه ليس ليسرها بوجود، بل يطهرها كأحد أبناء اغاممنون المرعبين) وعلى كل، فشلر لم يكن عنده اثر من آثار الغرور أو حتى الكبرياء لان شعوره الذاتي المتواضع كان أهم ميزة من ميزات عبقريته التي كانت ضمنية غير ظاهرة عليه، فلم يكن للمقت أو للغضب محل في نفسه اللهمإلا ضد الخرافات والإسفاف، وعنده تصبح الكراهية شيئا مقدسا، كما أن الزهو العاتي لم يكن له اثر في نظرته، أما تجهمه فكان يشبه تجهم أبولو
الذي كان يقضي على الأفعى بنظرة واحدة من نظراته وكلمة أخرى يمكننا أن نقول في شلر ما نقوله في أفراد قلائل من أي قطر كان: لقد كان خادم من خدام معبد الحق وقد قام بمثل هذا الواجب خير قيام، ووليكن وحدها كافية للشادة به. ولقد اتفق سلوك شلر العقلي مع سلوكه الأخلاقي اتفاقاً دائماً؛ فكان بسيطاً في عظمة، سامياً في عدم تكبر، تقياً في عدم إسفاف، غيور في عدم حسد. وكانت الحساسية النبيلة والمشاركة المخلصة مع الطبيعة في جميع تقلباتها تنعشه فيه ميت الرجاء؛ إلا أن ذلك لم يكن مدعما بقابلية إبداعية. ولكن الطبيعة بما فيها من معنى وجمالكانت محدودة بصور قليلة لدى بصيرته، وكان اهتمامه يتركز في نوع خاصمن الصور، هي اقرب إلى العاطفة القاسية الشجية، وهذا ما كان يمكنه أن يمثله خير تمثيل كشاعر وكمفكر. ويمكننا أن نقول: أن موسيقاه كانت موسيقى سماوية حقة، لكن في نغمات رتيبة غير متنوعة وفي إيقاع بسيط، ولكن الانسجام في الترتيل مفقود فيها. ولا نكران بان شلر في أيامه الأخيرة، على الأقل، أدراك أسلوباً شعرياً باهراً صافياً في المجال الخالدة من الفن، ولكن هذه الموهبة ظلت جزئية، لأنها كانت نتاجاً لبعض قابلياته المكدودة أكثر من كونها نتاجاً ذاتياً لطبيعته الكلية، فعلى قمة المحرقة يوجد لهيب ابيض ولكن المواد ليست كلها ملتهبة إذا لم نقل غير مشتعلة. لا بل يظهر لنا أن الشعر إجمالاً لم يكن موهبته الرئيسية، كان عبقريته كانت منهمكة في التأملات الفلسفية والبيانية اكثر من الشعر. وإلى النهاية كانت هناك خشونة فيه مما يجعل عدم انصهاره في بودقة الشعر أمراً لا مفر منه. وهكذا لم تكن عبقريته قيثارة (بولية) تعزف عليها الرياح كما تشاء تصنع لحناً حراً، بل آلة موسيقية علمية إذا ما عزفت عزفاً فنياً أنتجت نغمات بديعة ولو بصورة محدودة. ومن المحتمل أن جزءاً يسيراً من مواهبه انكشف لنا، لأننا يجب أن نعلم بأنه لم يحظ بما حظي به إلا بعد جهد جهيد وتعب شديد، وانه استدعى إلى العالم الآخر وهو لما يبلغ منتصف العمر. وعلى كل حال، فنحن على قدر ما نجد فيه من المواهب مجبرون على الاعتراف بان أهم هذه المواهب كان هذا الإدراك العميق الدقيق الذي نجده في كل مؤلفاته. لقد كان لديه خيال ذهني واسع الأفق وقابلية فلسفية إدراكية عميقة، ومع ذلك فان البساطة وعدم الشمول ظاهران في كل هذا.
وكان شلر ينظر إلى الأعالي بدلا من أن يحدق فيما حوله. وكان يهتم اهتماما خاصا
بالأمور الفلسفية البعيدة والتأملات الفنية وقيمة الإنسان ومصيره. ولم يعن بمصالح الإنسان وأعماله الآتية. ومع ذلك فهذه الأخيرة - كما تظهر لنا - ذات قيمة لا محدودة، لان ابسط مظهر من مظاهر الطبيعة، وخصوصا الطبيعة الحية، ما هو إلا نموذج ومطلع من مطالع الروح غير المرئية التي تعمل في الطبيعة. وليس من شئ تافه في الكون، بل أن اصغر شئ يمكن أن يعتبر نافذة نظر من خلالها إلى إلا محدود. ولم ينظر شلر كمفكر وكشاعر اكثر من نظرة عابرة إلى مثل هذه الأشياء، سواء كان ذلك في مناقشته أوفي عرضه للطبيعة وتصويره لها. فالشيء العادي ظل عادياً بالنسبة إليه، وإذا نظر إليه نظرة مثالية فذلك بصورة ميكانيكية ليس للوحي فيها أي مكان، وليس عن طريق التطلع الفلسفي الشعري، هذا الطريق الذي يفتح مجاهل الجمال في كل صفة من صفاته، بل عن طريق استنتاج هذه الصفات بانتقاء ما هو وضاء بارز منها وترك الباقي تذروه الرياح.
وفي هذا يختلف شر اختلافاً بينا عن الشعراء العظام وخصوصاً عن معاصره العظيم جوته، وهذه العظمة الفكرية - على ما هي عليه من قيمة وأهمية - عظمة بسيطة تسحر البصر لأول وهلة ولكنها لا تلبث أن تفقد الكثير من جلالها. فليس النظر إلى المجردات العلوية صعباً بمقدار الصعوبة التي نواجهها في النظر بعطف إلى مشاكلنا الاتية، والحكيم هو من يرشدنا ويساعدنا في أمور حياتنا اليومية، وقد يجوز أن يكون حكيما كذلك من يرشدنا إلى النظر إلى الحقائق القديمة نظرة أكاديمية شكلية، ولكننا نريد أن نرى الحكمة في أشكالها المكشوفة البينة، لأننا قد نجد في الأمثال كثيراً من الحكمة الواقعية أكثر من مما نجد في النظم الفلسفية والمدارس الأدبية. فكتاباته المبكرة وكل كتاباته تقريباً تمتاز بهذا الترف الأرستقراطي وهذا الزهو المجرد. فهو إما أن يكون تجريدياً أو نظامياً في تأملاته أو نراه متعلقاً ببعض الأفكار المعترف بها، غير عابئ بالنظر إلى ما يحيط به أو بالنظر إلى نهر الحياة المتعدد الألوان، وإذا نظر إلى ذلك فمن خلال كوة ضيقة. ففلسفته في التاريخ تستند على اعتبار كمال الإنسان نتيجة من نتائج التنظيمات الاجتماعية والمؤسسات الدينية، يستبين ذلك في شعره، فهو يدور في نطاق الأمور القديمة المعروفة من أمثال جنون الحب ، والعظمة العاطفية، والحماسة في الدفاع عن الحرية وما شابه. نجد ذلك في كتابه (دون كارلوس)، هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره مرحلة انتقال ونقطة تحول بين
فترتين من حياته: المبكرة والمتأخرة، وفي هذا الكتاب نجد البطلة المحبوبة (بوزا) تظهر محلقة في الأجواء، مضيئة صافية نقية وباردة وجافة كالمنارة البحرية. وقد عرف شلر نفسه بان العظمة لا تكمن هنا. وبجهد لا كلل فيه ولا ملل تمكن شلر من التخفيف من غلواء تحليقه وتوسيع رقعة منطقته الأرضية بالهبوط إليها، وقد حدث ذلك في بنجاح منقطع النظير، كما تشهد بذلك أشعاره وأكبر دليل على ذلك قصيدته (نشيد الأجراس)، وهي قصيدة عظيمة بلغت مبلغ الإعجاز في بلاغتها وفي عرضها. ما مأساته (وليم تل). وهي آخر مؤلفاته - فهي في أسلوبها وروحها من احسن ما كتب في الدراما. أما قصوره الوحيد - كما قلنا سابقا - فهو عدم تنازله واختلاطه بالمجتمع، ومما له علاقة وثيقة بهذا القصور سبباً ونتيجة، هو فقدانه روح المزح والملاطفة، هذه الروح التي تعبر عن المشاعر العامة، فينظمها الشعراء شعراً عذباً مستساغاً، فالشاعر المازح يرى الحياة العامة وحتى الوضيعة منها بمنظار المرح والحب، لان كل شئ موجود له سحره الخاص.
للكلام صلة
يوسف عبد المسيح ثروت
ديوان مجد الإسلام
نظم الشاعر المرحوم أحمد محرم
وتعليق الأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم
تابع غزوة بدر
أودى (بعتبة) و (الوليد) و (شيبة)
…
و (أمية) القدر الذي لا يدرح
وهوى (أبو جهل) و (نوفل) وارعوى
…
بعد اللجاج (الفاحش المتوقح)
لما رأى (الغازي المظفر) رأسه
…
أهوى يكبر ساجدا ويسبح
في جلده من رجز ربك آية
…
عجب تفسر للبيب وتشرح
تلك السطور السود ضم كتابها
…
أبهى وأجمل ما يرى المتصفح
إن لم يغيب في جهنم بعدها
…
فلمن سواه في جهنم يصرح؟
أدركت حقك يا (بلال) فبوركت
…
يدك التي تركت (أمية) يشبح
واف المطار ووال يا (ابن رواحة)
…
زجل الحمام، إذا يطير ويسجح
هذا (ابن حارثة) يطوف مبشراً
…
بالنصر يخزي الكافرين ويفضح
لما تردد في البلاد صداكما
…
أمست قلوب المسلمين تروح
فكأن كلا معرس، وكأنما
…
منه ومنك مهنئ ومرفح
قل يا (أبا سفيان) غير ملوح
…
فالنصر يخطب، والسيوف تصرح
بيض على بلق، تساقط حولها
…
سود مذممة تساف وترمح
ذهبوا، وأخلفهم رجاء زلزلوا
…
فيه، فزال كما يزول الضحضح
أكذاك تختلف الزروع، فناضر ضافي الظلال، وذابل يتصوح؟
القوم غاظهم الصحيح، فزيفوا
…
ومن الأمور مزيف ومصحح
خطأ الزمان فشا، فلذ بصوابه
…
وانظر كتاب الخلق كيف ينقح؟
جاء (الإمام العبقري) يقيمها
…
سنناً مبينة لمن يستوضح
صدى الوقعة في مكة
لما ترامت أبناء الوقعة إلى مكة فرح المسلمون كثيرا، وحزن المشركون حزناً شديداً،
فأقيمت المآتم وجز النساء شعورهن، وكان ممن عاد إليها من بدر أبو سفيان ابن الحارث بن هشام، وقد تقدم ذكره في الملحمة الحائية، فلما أنبأ عمه أبو لهب بما رأى قال: لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، قال أبو رافعمولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك والله الملائكة، فضربه أبو لهب في وجهه ضربة شديدة، ثم احتمله وضرب به الأرض وبرك عليه، وأخذت السيدة لبابة عاموداً فضربت به رأسه فشجته شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب سيده؟ فولى ذليلا، ولم يعش بعد هذه الضربة سوى سبع ليال ثم مات:
وضح اليقين لمن يرى أو يسمع
…
ولقلما تجدى الظنون وتنفع
النصر حق، والمنبئ صادق
…
والويل للمغرور، ماذا يصنع؟
إخشع (أبا لهب) فإن تك ذا عمى
…
فجبال مكة، والأباطح خشع
(مولى رسول الله) يضرب ما جنى
…
ذنبا، ولم يك كاذباً يتشيع
هي يا (أبا لهب) كتائب ربه
…
نزلت، تذل الكافرين وتقمع
أخذت (لبابة) للضعيف بحقه
…
ومضى الجزاء، فأنت عان موجع
وشفته منك بضربة ما أقلعت
…
حتى رمتك بعلة ما تقلع
قالت بغيت عليه، واستضعفته
…
أن غاب (سيده) وعز المفزع
ما (بالعمود) ولا برأسك رببة
…
إن الغوي بمثل ذلك يردع
حييت (أم الفضل) تلك فضيلة
…
فيها لك الشرف الأعز الأمنع
الله أهلكه بداء ما له
…
شاف، ولا فيه لآس مطمع
تمضي البشائر جولاً، وتجول في
…
دمه السموم، فجلده يتمزع
أمسى المكاثر بالرجال مبغضا
…
يجفي على قرب المزار ويقطع
أكلته صاعقة العمود، وإنما
…
أكلته سبع بعد ذلك جوع
هم غادروه ثلاثة في داره
…
لا الدار تلقطه، ولا هو ينزع
تتجنب الأيدي غوائل دائه
…
فيدع بالخشب الطوال ويدفع
رجموه، لوكره السفاهة فارعوى
…
ما ساء مهلكه، وهال المصرع
ما أكثر الباكين ملء جفونهم
…
للجمع بالبيض البواتر يصدع
جز النساء شعورهن، وغودرت
…
للحزن منهن الدموع الهمع
رجعن مكروه العويل على أسى
…
و (البيت) يشهد و (الحطيم) يرجع
والمسلمون بنعمة من ربهم
…
فيها لكل موحد مستمتع
الله اكبر، لا مرد لحكمه
…
هوربنا، وإليهمنا المرجع
يتبع
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
. . . والمسرح أيضاً
ما تزال (البندقية) تتصدر الحركة الأدبية والفنية في هذه الأيام فهي بعد أن فضت مؤتمر الفنانين الذي عقد في شهر سبتمبر الماضي، جمعت مؤتمر المعهد الدولي للمسرح خلال الشهر المنصرم، واشتركت فيه 16 دولة أوربية وآسيوية وأمريكية وعنى المؤتمر بعلاج المشكلات والعقبات التي تقف دون تقدم الفن المسرحي، على أساس مطالبة الدولة بمساعدة مالية دون أن تفرض رقابتها سواء من الناحية السياسية والفكرية والفنية، كما نظر المؤتمر في ضرورة مقاومة الاستقلال الذي يقوم بين الوسطاء بين المسرح والجمهور، وصون حقوق المخرجين والفنيين الذين يقومون بإعداد المسرح وترتيبه.
وبينما كان هذا المؤتمر منعقداً في البندقية، انعقد في باريس اجتماع اليونسكو لدراسة (حق الإنسان في المساهمة في الحياة الثقافية) بعد أن عهد إلى مجموعة من المربين بدراسة هذه المشكلة وإيجاد حل إيجابي لها.
حق الأديب في الحياة الكريمة
في هذا الوقت الذي توقع فيه اتفاقية حقوق المؤلفين في البندقية، تدور في الصحف العربية معركة، مشتركة، لا ادري كيف تلاقت الأفكار حولها دون سابق ارتباط.
ففي صحيفة (العمل) التي تصدر في لبنان مقالة بعنوان (الموهوبون) يقول فيه كاتبه الأستاذ راجي الراعي:
(منذ خلقالأدب والفن والأديب والفنان مظلوم محروم، ونحن نعلم أن الآلام هي القيثارة التي تحمل أوتار الأديب، والدواة التي يغمس فيها قلمه، والعرائس التي تأتيه بالروائع، وأن بين الرعشات والتنهدات والعبرات والجراحات تهبط الآيات الخالدات، فلا نريد أن نخرجه من دنياه، ولكننا نريد له جوا فسيحاً مريحاً يتسع لجناحه، وبيتاً يملكه وفيه القليل الذي لابد منه ليلد الكثير الذي يتمخض به خياله، وحديقة ينتشق فيها الورود ليأتيك بورود. ونريد له ما يبتاع به الضمادة والرداء، وما تتطلبه المعدة القاهرة التي لا تعرف الهدنة والعياء. وما يقيه
قيظ الصيف وزمهرير الشتاء. . شر الظلم هذا الذي يعانيه صاحب الوحي والقلم، ولقد حان لنا أن نرفع الموهوب إلى المكانة التي تليق به وأن نريحه من الأئبار التي تدميه. . .).
الرصافي أحد الضحايا
وفي نفس الوقت تنشر جريدة (النبأ) في العراق مقالاً للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري يقول:
(أرأيت كيف يعيش الرصافي؟!)
اشك بأنه مات من سوء التغذية! وانه كان لا يجد بعض الأحايين ثمن الدواء الذي يقرره له أصدقاؤه الأطباء!
أهكذا يجب أن يعيش العباقرة لمجرد انهم شعراء بينما غيرهم من الجهلة واللصوص يسكنون القصور الفارهة والبيوت الشامخة.
قد تقول. . . لم لم يجار السلطات الحاكمة ليعيش برفاه، وهنا بيت القصيد وعله العلل. الرصافي كرجل وكشاعر في زمن وصل فيه الظلم الاجتماعي إلى التدهور، وليس من العدالة أن لا يدخل في حلبة السياسة ليذب عن المظلومين وينافح عن المنكوبين من أبناء الشعب، ولو إنه ترك السياسة في سبيل العيش الرغيد والمنصب الرفيع كان مجرما بحق رسالته التي كافح من اجلها راضيا صابرا رغم بوسه وجوعه وعذابه.
وإذا اشتغل الشاعر بالسياسة وكان ضد الحكومة والسلطة الحاكمة، والرجال الذين بيدهم الأمر والحل والربط، فيجب أن يموت جوعاً لأنه لا يمشي في ركابهم).
الألم العبقريليس ألم الجوع
في عدد آخر من جريدة (النبأ) يقول الكاتب (أن الأديب الشاعر لا يمكنه أن يبدع ويخلق وينتج ما هو خالد وجدير بالبقاء ما لم يتنعم على الأقل بمباهج الدنيا لأنني اختلف مع الذين يقولون أن الجوع يخلق، ولا ادري كيف يمكن الإنسان الجائع أن يفكر تفكير صحيح، إذاكانت معدته خاوية! واضن أن شوقي عندما قال:
تفردت بالألم العبقري
…
وانبغ ما في الحياة الألم
لم يك يقصد بالألم العبقري ألم الجوع.
ومعنا هذا أن القضية واحدة، ومتصلة، ولكنها قضية الشرق كله واعتقد أن الذي آثار هذا الحديث في مختلف صحف البلاد العربية هو ما ذكره الدكتور طه حسين في مؤتمر البندقية عن حق الأديب في الحياة.
ألوان. . .
من أخبار هذا الأسبوع الأدبية الإفراج عن كتاب (المعذبون في الأرض) وقد سعدت بلقاء الأستاذ العميد مساء الخميس، وحضر الاجتماع كاتبين من كتاب الشباب.
وقد تحدث الدكتور مع أحدهما عن رأيهفي أسلوب الشباب الأدبي، معلق على كتاب من الكتب. . . فقال انه يكره جداً للشباب هذا الاتجاه نحو العامية فيما يكتبون، وان في اللغة الفصيحة ما يمكن الكاتب من أن يبلغ نفوس القراء إذا كان يريد الحديث إلى أدنى طبقاتهم واقلها ثقافة.
وذكر في هذا المجال عبارة الفيلسوف اليوناني القديم (قبل كل شيء يجب أن تتكلم اليونانية).
وجاء ذكر الأستاذ محمد السباعي فقال العميد أن ممن استفدت منهم حقيقة، وممن لهم الفضل الأول في إعطائي صورة عنالأدب الإنجليزي، وأن أول شيء قرأته عن سبنسر كان عن طريق ترجمة السباعي. . وأضاف الدكتور أن من خير ما أعجبه من إنتاج السباعي كتاب الصور.
ومما يذكر في هذا المجال أن مكتبه المعارف قد أخرجت للعميد كتاباً جديداً ضخماً اختار له اسم ألوان. . . وهو خلاصة حية لفنون الأدب العالمي المعاصر (وألوانه).
بين الرافعي وشوقي
أشار الأستاذ (كمال النجمي) في كلمة له في (الجمهور المصري) عن خصومات شوقي بين الرافعي والعقاد وجملة رأيه في هذا أن الرافعي غير رأيه في شوقي، وان العقاد ضل مصر على رأيه فيه إلى النهاية. . وهذا الرأي بعد أن تبين للأستاذ النجمي، أن ما كتبه الأستاذ شفيق منصور عن الكتاب (الذي لم يصدر عن شوقي، كان مجرد مداعبة للكاتب
في مناسبة ذكرى أمير الشعراء.
ومما يذكر في هذا المجال أن الرافعي قال في كلمته التي نشرها المقتطف بعد وفاة شوقي أن السر في عبقرية شوقي انه لم يكن (مصريا). . وقد أزعجت هذه العبارة المرحوم الشيخ عبد الله عفيفي ففتح بابا أسبوعياً في جريدة البلاغ عنوانه (مصر الشاعرة) ظل يختار في كل أسبوع لمحات من قصائد الشعراء المصريين طوال العصور الماضية تعزيزاً لهجومه على رأي المرحوم الأستاذ الرافعي.
ومن الذين غيروا رأيهم في (شوقي) الدكتور هيكل. . فبعد أن كتب مقدمة الشوقيات كتب فصولاً في السياسة في مهاجمة شوقي.
حول الأدب النسوي
أرسلت إلى الكاتبة (ل. س) قصائد من الشعر المنثور ترغب في نشرها في الرسالة. . . فقد هاجمت الرأي الذي أعلنته في إحدى المقالات السابقة (عنالأدب النسوي).
تقول: أدهشني يا سيدي انك تتجنى على المرأة بغير شفقة ناسيا أو متناسي تلك القطعة النثرية الرائعة التي كتبتها (ابنة الشاطئ) والتي مطلعها
(شاقني أن ارفع إليك نجواي. . . وقد فصلتني عنك قطعة من الزمان. .)
. . والحق إنني لا اعرف أن للسيدة الدكتورة بنت الشاطئ شعراً منثوراً. . أما أنني أتجنى على المرأة. . فلا وألف مرة لا
أنا على ثقة بان (الأدب النسوي) لم يكتب بعد، وان كل ما يكتب الآن ما هو إلا لمحات عامة، لم تأخذ بعد الصورة النهائية الواضحة. . الجديرة بان يطلق عليها هذا الاسم.
صحيح أنني اقرأ هذه الأيام لأسماء جديدة:
. . . الزهرة، الزهراء، نعمات احمد فؤاد، نفيسة الشيخ، ولكني لا زلت أرى هذه البراعم ما تزال في طريق النضوج، ولا يمكن الحكم عليها.
قائمة سوداء
. . أما قصيدة الشعر المنثور، (قائمة سوداء) التي تفضلت السيدة بإرسالها إليَّ فان في روحها معاني لامعة حية، تدل على نفسية مجربة خبيرة، قاست من الحياة وعانت. . فما
المانع أن تصاغ هذه التجربة النفيسة النفسية في قصة. إنها إذن تكون غاية في القوة والروعة، ولم تتردد الرسالة في نشرها.
وأني لأرجو أن تتفضل الكاتبة (ل. م) بان ترسل إليَّ عنوانها لأرد على المسائل التي سألتني عنها رداُ خاصاً لها، فهو مما لا ينشر على صفحات مجلة الرسالة. ولها تحياتي وإعجابي.
أنور الجندي
البريد الأدبي
قيس بن ذريح أم قيس بن الملوح؟
منذ أيام كنت اقرأ في كتاب (أبحاث ومقالات) للأستاذ احمد الشايب الذي صدر سنة 1946، فوجدت في مقاله السادس عن الغزل في تاريخالأدب العربي صفحة 283 قصيدة:
تكاد بلاد الله يا أم مالك
…
بما رحبت يوما علي تضيق
(للمجنون) كما نسبها الأستاذ الفاضل في كتابه، ووجدت أن هذه القصيدة ما زالت عالقة بذهني ورأيت أنني كنت قد نقلتها عن (الأغاني) لأبي الفرج. فرجعت إليها وتحققت أنها لقيس ابن ذريح لا لقيس العامري والتي من أبياتها ما يثبت صحة نسبها إليه:
سلي هل قلاني من عشير صحبته
…
وهل ذم رحلي في الزمان رفيق
تكاد بلاد الله يا أم معمر
…
بما رحبت يوما علي تضيق
تكذبني بالود لبنى وليتها
…
تكلف مني مثله فتذوق
ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني
…
لكم والهدايا المعشرات صديق
أزود سوام الطرف عنك وهل لها
…
إلى أحد إلا إليك طريق
تتوق إليك النفس ثم أردها
…
حياء ومثلي بالحياء حقيق
فإني وإن حاولت صرمي وهجرتي
…
عليك من أحداث الردى لشفيق
إلى آخر القصيدة. ولست اقصد من وراء هذا أنني اشك في قيمة مقالات الأستاذ وإنما أود التحقق من صحة نسب هذه القصيدة بالذات مع خالص اعتذاري للأستاذ احمد الشايب. . فالرجاء التفضل بالشرح والتوضيح.
ل. م
أوامر مهملة
أن الشعب الذي لا يستجيب لنزعات الإصلاح بل يتمرد عليها، ولا يتمشى مع خطوات النهضة بل يسخر منها، هو شعب لا يستحق الحياة، ولا يصلح للعيش الكريم الذي يليق بالشعوب الكريمة.
والأوامر التي تصدرها الدولة عادة تكون في صالح الشعب، فكان أحرى بالشعب أن
يستجيب لها ويرحب بها وينفذها بدقة، واجدر به أن يجعل من نفسه حارساً لها من العبث والاستخفاف بها وقد كان العهد البائد رزءاً ثقيلاً على عبء الشعبالمصري، جعلته لا يلقى لأوامر الحكومة إقبالاً حتى ولو كانت في خدمته أو صالحه، أما وقد انقرض العهد البائد إلى غير رجعة، فالواجب على الشعب أن يفتح أعينه من جديد ليدرك أي عهد يعيش، وليدرك أن العهد الجديد يتطلب شعباً جديداً يتعاون مع نزعات الإصلاح ويتمشى مع خطواته.
واعتقد انه من أهم الخطوات الإسلامية الإصلاحية إيجاد شعب قوي يتمتع بصحة جيدة، وعافية وافية، ولم يتيسر وجود هذا الشعب إلا إذا كان للأوامر الصحية لديه ترحيب وتقدير لا سخرية واستخفاف.
واليك مثلاً واحداً لأمر واحد من الأوامر الصحية المهملة في هذا البلد، وهو أمر نلمسه جميعاً صباح ومساء وفي معظم أوقات اليوم فأنت حين تركب (تراما) أو سيارة عامة لا بد أن تقع عيناك على لافتة بارزة وواضحة للجميع كتب عليها (البصق والتدخين ممنوعان بأمر وزارة الصحة)، كل منا قرأها مراراً وتكراراً، ولكن هل هناك اهتمام لهذا الأمر؟ كلا وألف كلا. . أن الركاب ولاسيما الطبقة المثقفة - ويا للأسف - يصرون على تدخين لفائف التبغ داخل المركبات العامة ويكاد الدخان المتصاعد منها يطمس أحرف اللافتة، ويصرون على البصق وهم يرمقون اللافتة بنظرات تنم عن السخرية والاستخفاف؟ هذا مثل واحد للأوامر المهملة، واعتقد انه لا يكفي أن تدون الأوامر في لافتات إذا لم يكن ورائها قوانين قاسية تؤدب المخالفين وإلا فلن يكون مصيرها إلا الإهمال والاستخفاف؟
نفيسة الشيخ
مهرجان الشعر
تحدث الأستاذ أنور الجندي في العدد (1009) من الرسالة الزاهرة عن مهرجان الشعر الذي دعت إليه جمعية الشبان المسيحية بالقاهرة، احتفالاً بيوم الجيش. . وقد استوقفتني أشياء عديدة في حديثه، إحداها انه كان يود أن يسمع قصيدة عصماء من الأستاذ خالد الجرنوسي: وهذا القول يدل على أن الأستاذ الجندي لم يشهد المهرجان؛ لان الأستاذ
الجرنوسي ألقى فعلاً إحدى قصائده؛ اللهم إلا إذا كان الأستاذ الجندي لا يرى فيها إنها قصيدة عصماء!؟ ويعجب الأستاذ الفاضل من أن الذين تحدثوا كانوا من الشعراء الجدد، ثم يتحدث عنهم بكثير من العطف، اعتقد أنا، ويعتقدون معي انهم في غنى عنه.
وارى انه من الطبيعي أن يتحدث الشعراء الشبان، انهم يمثلون - أصدق تمثيل - تطور العقلية الأدبية في مصر، وانهم أحسوا أكثر من غيرهم الأم وطنهم المكبد، فاهتزت عواطفهم ووجداناتهم الجائشة معبرة عن انفعالاتها، وأيضاً لان أقلامهم الفتية لم تلوث بمداد الذلة والابتهال إلى الطغاة.
وأخيراً احب أن أقول إلى الأستاذ أنور الجندي، انه من الملاحظ على كتابته بصفة عامة. . انه يصدر أحكاماً سريعة، دون أن يتعمق فهم المؤثرات المختلفة التي توجه التيارات الأدبية، وتحدد ألوانها. . لاحظت ذلك في حديثه عن الشعر المنثور، وعن ما يسميه مذهب الفن للفن وفي حديثه عن الشعراء الجدد، وغير الجدد، وفي طريقة تناوله وفهمه للأدب المعاصر. .
محمد فوزي العنتيل
رد على نقد
طالعت في عدد الرسالة الغراء رقم (1005) القصيدة العصماء البردة للشاعر المبدع للأستاذ ميشيل الله ويردى مؤلف فلسفة الموسيقى الشرقية، وقد تناقلتها صحف كثيرة وقرضتها اجمل تقريض ثم قرأت في العدد (1007) من الرسالة نقداً للسيد عبد اللطيف محمود الصعيدي يتعلق بكلمات في القصيدة يظهر أن معانيها خفيت عليه وضنها حشواً، مع انه لا يعقل أن يلجأ إلى الحشو شاعر فحل كصاحب هذه القصيدة. ولعل للسيد الصعيدي بعض العذر لأن القصيدة نشرت بدون شكل كما انه جاء فيها بعض أخطاء مطبعية فإيضاحاً للحقيقة ونفعاً لمن يمكن أن تخفى عليه معانيها الجميلة رأيت أن أرد على نقد السيد الصعيدي مستنداً أي قواعد اللغة واحدث المعاجم كالبستان والمحيط واقرب الموارد.
أولا - ليس الوسم بمعنى الوسامة، بل هو مصدر وسم الشيء أي طبعه بطابعه، أما الأرم
فهو العلم، ومن معانيها العلامة والأثر، وأرم الشيء أرماً، شده وضم بعضه إلى بعض، كضرب ضربا، أو بفتح الراء كطلب طلباً، ومنه الأرومة التي تضم الجذوع، وتستعار في الحسب، والمعنى في الحالين أن الاتحاد الفكري أهم من الشكلي.
ثانيا - السلم بفتح اللام بمعنى السلام، محيط ص 988 وقد وردت هذه الكلمة في قصائد كثيرة ولا مجال لإيراد الشواهد.
ثالثا - ليست (يكمد) بتشديد الدال بمعنى يستحب، بل بمعنى كمد الشيء أي تغير لونه، على وزن افعل مثل اربد واصفر الخ. والمعاجم لا تذكر الأفعال المزيدة إذا لم تغير الزيادة معناها ولا سبيل لنقد كلمة تجيزها القاعدة والذوق السليم.
رابعا - اللدم خطأ مطبعي، وصحتها (السدم) بتشديد السين المفتوحة وكسر ادال، وهوالشديد العشق وقول الشاعر (ليس دعي احب كالسدم) من الناحية المعنوية كمعنى قول المتنبي (ليس التكحل في العينين كالكحل) من الناحية المادية.
خامسا - الحسم بضمتين الأطباء (البستان ص 513) وهي جمع حسوم أي الذي يقطع في الأمر ويتممه على احسن وجه ويطرد وزن فعل بضمتين في جمع فعول.
سادسا - الجسم بضمتين الأمور العظام، (البستان ص 361) وهي جمع جسيم، كقضيب وقضب بضمتين
سابعا - الرمم بضم الراء المشددة، الجواري الكيسات، وهي جمع رامة، وقد ظنها الناقد بكسر الراء فكتب ما كتب دون أن يعود إلى المعاجم، والمعنى أن النساء على ما فيهن من كياسة وظرف، كن يعشن كالجواري والإماء قبل عهد الرسول (ص) فلما اشترع حقوقهن كان أول من نادى بهذه المأثرة الاجتماعية، ونصيحتي إلى السيد الصعيدي أن يعيد قراءة هذه الدرة النفيسة بعد استبدال عدسة منظاره بعدسة ناصعة، فالإنصاف واجب في مثل هذه الحال، والسلام
دمشق
حمدي بابل
القصص
أرملة
عن الفرنسية
كان ذلك في أوان الصيد في قصر بانفيل، والخريف مطير حزين، والأوراق المنتثرة ذابلة محمرة لا يسمع لها تقصف تحت الاقدام، بل تعطن في السكك بمدارج العجلات تحت شآبيب الذيم الهطالة.
وكانت الغابة وهي جرداء إلا قليلا تشبه الحمام من الرطوبة. فإذا أوغلت فيها تحت أفنان الدوح العالي يصفقه وابل المطر شملتك رائحة مخمة وهبوه ماء من العشب المخضل والأرض المبتلة.
والصيادون حناة الظهور يدبون تحت هذا الفيض الهتون، والكلاب محزونة ذيولها مرسلة، وشعرها ملتصق بآطالها، والغانيات الصائدات في أثواب الصوف المفصلة لاصقة مشربة بالبللل، وهم كل مساء يؤوبون من الصيد أنضاء جسم وعقل أجمعين.
وفي البهو الكبير بعد العشاء يجتمعون إلى لعبة الورق متقارعين، من غير انبساط ولا لذة. وللريح في الخارج هبات مدوية تدفع في مصاريع الشبابيك المغلقة، وتبتدر دوارات الهواء فوق الأبراج فإذا هي من دوران كالخروف المدوم.
فأرادوا أن يسمروا بالحكايات كما تروى في الكتب، ولكن الله لم يفتح على واحد منهم بابتداع حكاية مسلية. ومضى الصيادون يقصون ما وقع لهم أثناء صيدهم بالبنادق وتقتيلهم للأرانب، وجعلت الغانيات يكدون أذهانهن ويتقصين في ثناياها فلا يجدن خيإلاً كخيال شهرزاد يسعفهن بحكاية من أمثال حكايات ألف ليلة. وكادوا يكفون عن الأحاديث. وكانت إحدى الغانيات تعبث خالية البال بيد عمتها العجوز، وهي عانس لم تتزوج، فلحظت خاتماً صغيراً من شعرات شقراء طالما وقع ناظرها عليه من غير أن تفكر لحظة فيه.
فسألتها وهي تديره في إصبعها بلطف: (ألا قلت لنا يا عمتي ما هذا الخاتم؟ لكأنه شعر غلام يافع. . .) فاحمر وجه العانس ثم اصفر، وأجابت بصوت متهدج: (إن الأمر محزن جدا، محزن جدا، حتى لست أحب الكلام عنه. وكل ما في حياتي من الشقاء فهذا مصدره. لقد كنت في غرارة الشباب وقتئذ، وما زالت تلوعني الذكرى حتى يغلبني البكاء كلما
خطرت في نفسي)
فتلهفوا إلى سماع الخبر، وأبت العمة ذلك عليهم، فما زالوا بها حتى رضيت في آخر الأمر:
(كثيراً ما سمعتموني أتحدث عن أسرة سانثيز، وقد انقرضت اليوم جميعا، وقد عرفت الثلاثة رجال الأخر من هذا البيت، والثلاثة ماتوا ميتة واحدة وهذه شعرات الأخير، وكان في الثالثة عشرة من عمره حين انتحر من اجلي. لقد يبدو لكم الخبر غريباً، أليس كذلك؟
آه. قد كانوا معشراً عجيباً من المجانين، أن شئتم هذه التسمية، ولكن مجانين ظرفاء، مجانين غرام. فهم جميعاً - أباً عن جد - أصحاب عواطف عارمة جامحة، تدفعهم من كيانهم كله دوافع قوية إلى ابعد السبحات وإلى التفاني وفرط التحمس، بل تذهب بهم إلى حد ارتكاب الجرائم؛ وهذا منهم بمقام فرط التدين في بعض النفوس. وشتان في الطبيعة والمزاج بين أهل العبادة وبين رواد المجالس أزيار النساء، وكان يتردد في أوساطهم وبين ذوى رحمهم:(عشق كعشق بني سانثير)، وحسبك أن تراهم فتجد هذا على سيماهم. فكلهم شعره ذو خصل منسدلة على الجانبين ولحيته جعدة وعينان واسعتان ينفذ شعاعهما في نفسك فيبلبلك ويشغل خاطرك دون أن تعرف لذلك سبباً.
وكان جد الغلام - الذي رأيتم في إصبعي تذكاره الوحيد - له مغامرات عدة ومبارزات وسبى واستباحه للحريم. وقد هام بعدها وهو في نحو الخامسة والستين بابنة مؤاجر ضياعه. وأني لأذكرهما. وكانت شقراء شاحبة اللون، حسنة السمت والشارة، تتكلم متئدة وفي صوتها لين وترطيب، ونظرتها حلوة غاية في الحلاوة كأنها نظرة في صور الرسامين. فأخذها السيد الكهل عنده، وسرعان ما اصبح متيماً بها لا يطيق البعد عنها لحظة. وكانت ابنته وامرأة ابنة المقيمتان في القصر يجدان الأمر طبيعيا لطول ماقر الحب في تقاليد الأسرة. فالموضوع ما دام محور العشق فليس فيه ما تنكرانه وتتعجبان منه. وإذادار الحديث أمامهما عن هوى قامت الموانع دون قضاء لباناته، أو عاشقين فسد ما بينهما، أو وقائع الانتقام من الخيانة أو نقض العهد قالتا معا في لهجة شجية:(له الله! أو (لها الله) شد ما قد تألم ولا ريب حتى بلغ الأمر هذا المبلغ!) ثم لم تزيدا على ذلك. وانهما لترقان لماسي الحب، ولا تنقمان قط على أصحابها ولو أجرموا.
إلا انه في ذات خريف كان بين المدعوين للصيد شاب في عنفوان الشباب، هو المسيو دي جراديل فاختطف الفتاة. وظل المسيو سانثيز هادئا كان لم يحدث شئ. وإذا هم يصبحون ذات يوم فيجدونه مشنوقاً بمرقد الكلاب وهى حوله وقد مات ابنه مثل هذه الميتة في فندق بباريس في أثناء رحلة سنه 1841، على اثر خيانة إحدى مغنيات الأوبرا له. وترك بعده ولدا في الثانية عشرة وأرملة هي أخت أمي. وجاءت السيدة ومعهاالصغير للمقام عندنا بأرضنا في بريتون. وكنتوقتئذ قد بلغت سبعة عشر ربيعاً.
ولا يسعكم أن تتصوروا كيف كان هذا الصغير سانثيز مدهش باكر النضوج قبل الأوان. وانه ليخيل إلى المرء أن جميع صفات أسلافه من رقة عاطفة وسبحات نفس جائشة قد اجتمعت فيه ونزلت به، بهذا العقب الأخير. وكان على الدوام حالما، يتمشى وحيدا ساعات كاملة في ممشى رحيب بين أشجار الدردار الممتدة من القصر إلى الغابة. وكنت ارقب من نافذتي هذا الصبي الرقيق الوجدان وهو يسير وقور الخطى ويداه خلف ظهره مطرقاً إلى الأرض، وأحياناً يتوقف ويرفع طرفه كأنه يرى ويدرك ويحس أشياء ليست لمن كان في سنه.
وكثيراً ما كان يدعوني للخروجبعد العشاء في الليالي المقمرة قائلاً: (هلمي يا ابنة الخالة نحلم. .) فنمضي سوياً إلى الروض. وكان يتوقف فجأة في الفجوات بين تفاريج الشجر حيث تطفو تلك الهفوة البيضاء مثل نديف القطن يبطن بها القمر فجوات الغاب. ويقول لي وهو يشد على يدي: (انظري إلى هذا انظري إلى هذا! ولكنك لا تفهمينى؛ اني لأحس ذلك. لو انك تفهمينني لكنا سعداء. لابد من الحب لمن شاء المعرفة). وكنت اضحك واقبله، اقبل هذا الصبي الذي يحبني مستهلكاً في حبي. وكان أيضاً بعد العشاء كثيراً ما يجلس على ركبتي أمي قائلاً لها:(إيه يا خالة، قصي علينا شئ من قصص الحب) فتحكي له أمي على سبيل الدعابة أساطير أهل بيته كانوا وجميع ما وقع لآبائه من الوقائع الغرامية، والناس يرددون منها الألوف بعد الألوف من صحيحة ومفتراة. أن هؤلاء القوم؛ أضاعتهم شهرتهم، فقد كانوا يستجيشون لها ثم تملكهم العزة أي يكذبوا سمعة بيتهم وما اشتهر به.
وكان الصغير يهتز لهذه الحكايات: لطيفها وفظيعها، وكان في بعض الأحيان يدق بيديه مرددا:(وأنا ايضاً، واني لاحق بالحب منهم جميعاً). ثم جعل يتحبب إليَّ متغزلاً في
استحياء وحنان عميق كانا مثاراً للضحك لشدة غرابة الأمر. وكان كل صباح يقطف لي جني الزهر، وفي كل مساء قبل صعودي إلى مقصورتي يلثم يدي هامسا:(أنا أهواك!)
لقد اذنبت، وركبني اعظم الذنب. وما زلت على هذا نادمة باكية لا يرقا لي دمع. وأني لفي التكفير عن هذا طيلة حياتي، وقد بقيت بعده عانساً لا أتزوج، بل بقيت كالخطيبة المترملة، أجل أنا له الأرملة. كنت ألهو بهذا الحب الصبياني بل كنت اعمل على إذكائه. فكنت المرأة الخلوب ذات الدلال، وكأني إلى جنب رجل ألاعبه وأخاتله. لقد فتنت هذا الغلام ودلهته بحبي. وكان الأمر عندي لعباً ومعابثة، وعند أمي وأمه تسلية وترويحا. قد كانت سنه اثنتي عشرة سنة، فتأملوا! من كان يأخذ مأخذ الجد هذا الغرام الدري! فكنت أقبله ما شاء، بل كنت أكتب رسائل العشق إليه وأقرئها أمي وأمه قبله؛ وكان يجيب عليها بكتب مسطورة كتب من نار، وقد احتفظت بها. وكان معتقداً أن صلتنا الغرامية كانت سراً مكتوماً، وكيف لا وهو يعتد نفسه رجلاً والأمر في عرفه الجد كل الجد. وقد غاب عنا انه من بني سانتيز.
ودامت الحال على هذا المنوال عاماً أو قرابة عام. وفي ذات مساء ونحن في الروضة خر جاثياً عند قدمي ولثم حاشية ثوبي في اندفاع المهتاج مردداً: (أنا أهواك، أهواك، أنا ميت في هواك. وإذا خنتني في يوم من الأيام، أسامعة أنت - إذاهجرتني إلى سواي فإني صانع مثلما صنع أبي. . .) وأردف في صوت عميق يقشعر له البدن: (أنت عليمة بما صنع).
ولما وجمت ولم أحر جواباً نهض وشب على أطراف قدميه ليبلغ إلى أذني - وكنت أفرع منه طولاً - ودعاني باسمي، اسمي الأول، (جنفييف) بنغمة حلوة جميلة رقيقة شملتني منها قشعريرة سرت من فرعي إلى أخمص قدمي.
فغمغمت: (لنرجع، لنرجع إلى الدار). فلم ينبس بكلمة وسار في أثري، فلما هممنا بصعود درج السلم استوقفني قائلاً:(أتعرفين؟ إذاهجرتني فإني قاتل نفسي).
فعلمت هذه المرة أنني تماديت حيث لا يجب التمادي وتكلفت معه التحفظ. ولما أن كتب ذات يوم يعتب علي أجبته: (أنت اليوم اكبر من عبث المزاح واصغر من جد الحب. أني في الانتظار). وحسبتني بهذا قد أبرأت ذمتي.
وفي الخريف عهدوا به إلى مدرسة داخلية فلما عاد في الصيف التالي كنت مخطوبة. فأدرك الأمر في الحال، والتزم مدى ثمانية ايام هيئة المفكر الغارق في التفكير. فأهمني ذلك وساورني منه قلق شديد.
وفي صبيحة اليوم التاسع استيقظت من نومي فوقعت عيناي على رقعة صغيرة مدسوسة من تحت الباب. فتناولتها وفتحتها وقرأت فيها: (لقد هجرتني، وأنت تعلمين ما قلته لك. لقد قضيت على نفسي بالموت. وأني احب إلا يعثر بي أحد غيرك، فتعالي إلى الروض في نفس الموضع الذي قلت لك فيه أني أهواك وتطلعي في الفضاء) فكدت أن اجن. وأسرعت بارتداء ثيابي وهرولت على عجل اجري واجري وأكاد أتساقط إعياء إلى المكان المعين. وإذاقبعته الصغيرة المدرسية ملقاة على الأرض في الوحل. فقد كانت الليلة مطيرة. ورفعت طرفي فأبصرت شيئاً معلقاً يترجح بين الورق، وكان يوم ريح، ريح شديدة.
ولا ادري بعد ذلك ما صنعت. قد صرخت أول الأمر ولا ريب، ولعلني سقطت بعدها مغشياً علي، ثم عدوت هائمة على وجهي إلى القصر. وثبت إلى الرشد في فراشي وأمي إلى جانبي.
فخيل إليَّ أني رأيت ما رأيت كله في هذيان حلم فظيع. فغمغمت: (وهو، هو، جون تران؟) فلم يجبني أحد. إنها الحقيقة.
ولم اجرؤ على طلب رؤيته. فطلبت إليهم خصلة طويلة من شعره الأشقر. وهذي. . . وهذي. . . هي. . . .).
ومدت العانس يدها الراجفة بحركة القانط المقطوع الرجاء وأخرجت منديلها ومخطت مرات ومسحت عينيها الدامعتين واستأنفت تقول: (ونقضت الخطوبة دون إبداء سبب. . . وبقيت. . . العمر كله أرملة. . . أرملة. . . هذا الصبي ابن الثلاثة عشر ربيعا). ثم مال رأسها على صدرها وبكت طويلا بدموع الذكرى.
ولما انصرف المدعوون إلى حجراتهم للرقاد، مال صياد غليظ الجسم قد أفسدت عليه الحكاية صفوه إلى أذن جاره هامساً: إلا ترى أن رقة الوجدان إلى هذا الحد بلاء وشر بلاء.
ع. ص