الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 1011
- بتاريخ: 17 - 11 - 1952
يا لجراحات الوطن الإسلامي!
للأستاذ سيد قطب
تمثل فرنسا على مسرح الشمال الأفريقي في هذه الأيام أبشع مآسي (الرجل الأبيض) حتى إذاتحركت الكتلة العربية الآسيوية لتحول بين فرنسا وبعض صناعاتها في هذه الرقعة من العارض، وقف موسيو روبير شومان وزير الخارجية الفرنسية ينذر وزير الخارجية الأمريكية بأن فرنسا سترفض التصديق على معاهدة الصلح الألمانية وتوقيع ميثاق الدفاع عن غرب أوربا، كما ستنسحب من حلف الأطلنطي إذا أيدت الولايات المتحدة التونسيين والمراكشيين في الأمم المتحدة وحق لفرنسا أن تهدد أمريكا، فهي تعلم أمريكا غير جادة في نصرة قضية تونس ومراكشي، ولكنها تضحك على ذقون العرب المسلمين حينتتظاهر بتأييدهم في قضاياهم ضد الاستعمار الأوربي. ولو كانت جادة لوجدت الوسيلة، فإن فرنسا وإنجلترا تعيشان عالة على أمريكا. ولو أمسكت عنهما المدد لأفلستا. فهي تملك أذن أن تصنع شيئا لو أرادت، ولكنها لا تريد
واللعبة الأمريكية في موقفها هذا مكشوفة. . . إنها تدع فرنسا تهدد وتخضع لهذا التهديد الوهمي، الذي ما كانت فرنسا تقدم عليه لو أنها تعلم أن أمريكا صادقة النية. . وكذلك تستخدم دول أمريكا اللاتينية للغرض نفسه فتوحي إليها أن تعارض آي نص قاطع يؤكد حقوق التونسيين والمراكشيين في الاستقلال. ليكون ذلك تكأة لأمريكا في التراجع!
قد صرح رئيس الوفد الإندونيسي بأن أعضاء الكتلة العربية الأسيوية التي تعمل لوضع مشروع قرار بتشكيل لجنة معظم أعضائها منهم، قد تخلوا عن الفكرة الأولى التي تقتضي بأن يتضمن مشروع القرار فقرة تؤكد حقوق التونسيين والمراكشيين في استقلال وذلك خشية عدم تأييد دول أمريكا اللاتينية للقرار، إذا قدم متضمنا هذه الفقرة. . .
ووراء هذا كله أمريكا. فقد صرح مسطر فليب جيسوب رئيس الوفد الأمريكي في هيئة الأمم بأن الولايات المتحدة تحاول إقناع الكتلة العربية الآسيوية يعدم التطرف في عداء فرنسا وأنه (سعيد) لأن أعضاء هذه الكتلة قد بدءوا يتراجعون عن موقف التطرف الشديد في عدائهم لفرنسا. وقال كذلك: أن الولايات المتحدة تريد أن يكون مشروع إقرار الذي سيقدم إلى الأمم المتحدة معتدلا بحيث يقتصر على مطالبة الفريقين باستئناف المفاوضات!
هذه هي المأساة التي تمثل في هذه الأيام على مسرح هيئة الأمم بمعرفة أمريكا والاستعمار الأوربي. ومع ذلك فنحن ببلاهة منقطعة النظير نقف ننتظر العون الأمريكي الذي يخلصنا من الاستعمار الأوربي!
إننا ننسى أن العالم الأوربي والعالم الأمريكي يقفان صفا واحد بازاء العالم الإسلامي. والروح الصليبية القديمة هي هي ما تزال. إننا ننسى هذا لأن فينا مغفلين كثيرين ومغرضين كثيرين يضللوننا، وينشرون دعاية مغرضة عن رغبة أمريكا في أنصاف الشعوب المستبدة، ومساعدة الشعوب المتأخرة. . ومع أننا ذقنا الويل من أمريكا في فلسطين، فإن أجهزة الدعاية الأمريكية تعمل. و (جمعية الفلاح) تظهر في الميدان، وتقوم بواجبها!
إن جراحات العالم الإسلامي تنبض بالدم في كل مكان وأمريكا واقفة تتفرج. بل تساعد المستعمر الأوربي القذر. ومع هذا توجد صحف ويوجد ناس. ناس مصريون ومسلمون، ويتسمون أحمد، وحسين، وحسن، وعلي. . . يتحدثون عن تمثال الحرية في ميناء نيويورك، وعن فرنسا أم الحرية!
وأحيانا يسألك بعض المتخاذلين أو بعض المدسوسين: وماذا نملك أن نصنع؟ إذا لم نستطع ونحن ضعفاء؟
ماذا نصنع؟ إذ لم نستطع أن نحطم الكف التي تمتد إلينا بالسوء، فلا يجوز أن نقبلها. ونحن نقبل الكف التي تصفعنا!
إذا لم نستطع أن نصنع شيئا، فلنحتفظ على الأقل بأحقادنا المقدسة، ولنورثها أبناءنا، فقد يكونون في ظروف تمكنهم من رد الجميل للرجل الأبيض!
إن الرجل الأبيض يدوسنا بقدميه، بينما نحن نحدث أولادنا في المدارس عن حضارته ومبادئه العالية ومثله السامية!
إننا نغرس في نفوس أبنائنا عاطفة الإعجاب والاحترام للسيد الذي يدوس كرامتنا ويستعبدنا!
فلنحاول أن نغرس بذور الكراهية والحقد والانتقام في نفوس الملايين من أبنائنا. ولنعلمهم منذ نعومة أظفارهم أن الرجل الأبيض هو عدو البشرية وأن عليهم أن يحطموه في أول
فرصة تعرض. ولنكن واثقين أن الاستعمار الغربي سيرتجف حين يرانا نبذر هذه البذور
إن هذا الاستعمار هو الذي حاول أن يغرس في نفوسنا حبه واحترامه. فلما خشي اليوم أن تستيقظ اخترع حكاية (اليونسكو) ودعا هذا (اليونسكو) إلى حذف كل ما يثير الأحقاد القومية في دراسة التاريخ. وذلك باسم الإنسانية والإخاء البشري!
وهذه لعبة استعمارية جديدة يجب أن نتنبه أليها. إننا إذا اتبعنا تعاليم اليونسكو فسنخدر كل شعور قومي ناهض. ولن يستفيد من هذا التخدير سوى الاستعمار. وهذا ما تقصد أليه هيئة اليونسكو!
إن أوربا وأمريكا دول مستعمرة. فماذا عليها من حذف كل ما يثير الأحقاد القومية في دراسة التاريخ؟ إنها تكسب بهذا ولا تخسر شيئا. أما نحن فأن الاستعمار يخنقنا. فإذا لم ننبه شعور الحقد عليه فقد خسرنا السلاح الأول وخسرنا المعركة كلها. . .
ومع هذا فإن عندنا مصريين مسلمين يتسمون: أحمد، حسين، وحسن، وعلي. . . يعملون في مصر باسم (اليونسكو) وينشرون الأضاليل، ويخدعون أمتهم، ويحامون تنويمها باسم الإخاء الإنساني!
إن جراحات الوطن الإسلامي دامية في كل مكان من أن نحتفظ بالكراهية والحقد لمن يدميها. أما مبادئ اليونسكو الجميلة فنحن على استعداد اعتناقها يوم يتقلص ظل الاستعمار الأسود عن أوطاننا الدامية الجريحة
لقد عرفنا نحن مبادئ الأخطاء الإنساني قبل اليونسكو بأربعة عشر قرنا. عرفناها وطبقناها، على أنفسنا وعلى سوانا. ولم نجعلها خدعة ولا فخا، كما يجعلها الرجل الأبيض، فهذه المبادئ ليست جديدة علينا. ولكن ديننا الذي جاء بها مبكر جدا: علمنا كذلك أن نقاتل من يعتدي علينا، والانا من له ولا نستنيم، وأن لا نسالم أحدا يعتدي على شبر واحد من الوطن الإسلامي، أو يناهض العقيدة الإسلامية ويؤذي معتنقيها
(إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين أخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم. ومن يتوله منكم فأولئك هو الظالمون)
والرجل الأبيض - سواء كان ذلك في أوربا أو أمريكا أو روسيا - يقاتلنا في الدين، ويخرجنا من ديارنا، ويظاهر على إخراجنا، ومع هذا يوجد ناس مسلمون يتسمون: أحمد،
حسين، حسن، أو علي. . . يوالونهم، ويروجون دعاياتهم، ويمكنون لهم في رقابنا. ثم يحاولون أخيرا أن يخدروا أحقادنا المقدسة حتى هذه الأحقاد التي يجب أن نورثها أبناءنا على الأقل مع العار الذي سنورثهم إياه، وتركنا جراحات الوطن الإسلامي تدمى في كل مكان، ونحن لا نصنع شيئا
إن فرنسا تمزق جسم الوطن الإسلامي في تونس والجزائر ومراكشي، وإنجلترا تقوم بدورها في مواضع أخرى، وأمريكا من خلفهما تبدو تارة وتتواري. . . هذا ما يجب أن نذكره صباح مساء، وما يجب أن نلقنه أبناءنا بكرة وعشيا
سيد قطب
بمناسبة الذكرى الثالثة
علي طه وبيرون
للأستاذ أنور المعداوي
هكذا كان ينظر إلى حياته فيما قبل الثلاثين. لقد كانت تلك الحياة في رأيه أو رأى شعوره هذرا وتفاهات، لأنها قد خلت مما يبهج القلب ويؤنس الروح وغدت وهي دموع وزفرات؛ وجوهر شخصيته كما قلنا لك أنه لم يخلق للقيود وإنما خلق للحرية، ولم يخلق للدموع وإنما خلق للبسمات. . . وما كان أشبهه بالشاعر الإنجليزي (بيرون) في هذه الناحية النفسية أو في هذا المجال؛ لقد كانت الفكرة السائدة عند بعض كتاب التراجم عن هذا الشاعر هي هذه الفكرة المنحرفة حين يقولون:(لقد كانت طبيعة بيرون الحق أنه إذا حزن وتألم فاض بالشعر قلمه في سهولة وقوة وعذوبة، وأنه إذا سعد وهدأت ثورته هدأ الوحي بهدوء نفسه وبضعف ثورته، وأنه قد ظل على هذا الحال طوال حياته فسجلت أيام الشقاء أروع قصائد وأجدرها بالخلود!)
ولقد صححنا تلك الفكرة المنحرفة في الصفحة الثالثة والأربعين من كتابنا (نماذج فنية) حيث ورد في معرض السؤال هذا الجواب: (هذه الفكرة تنطبق كل الانطباق على طبيعة شاعر مثل هنري هايني وتبعد كل البعد عن طبيعة شاعر مثل لورد بيرون. إن الألم في حياة الشاعر الإنجليزي لم يكن ألما بالمعنى المفهوم عند الشاعر الألماني، ولكنه كان لونا من السخط على الحياة يزول وينقضي حين تفسح الحياة طريقها للفتى المدلل ليمضي إلى غيه وهواه! وما أكثر ما تنحت الحياة عن طريقه وهيأت له كل ما يصبو إليه من تحرر وانطلاق، وفي رحاب هذا التحرر كانت تنبعث أغانيه حلوه عميقة صادقة. لقد خلق بيرون وفي دمه طبيعة بلبل لا يجيد التغريد إلا إذ رأى النور خلف حجب الضباب سمعت منه بعض الغناء، ولكنه الغناء المختنق ينبعث من أوتار حنجرة ساخطة، ثائرة، تشكو هذا الظلام الذي لا يتيح لها أن تصدح كما تشاء!
من هذه الكلمات الموجزة تستطيع أن تضع يديك على مفتاح هذه الشخصية التي لا غموض فيها ولا تعقيد، يقول بيرون: لقد هببت من نومي ذات صباح فألفيتني مشهورا يتردد اسمي على كل لسان. قالها بعد أن دفع بديوان شعره الأول إلى الناشرين فدفعوا به
إلى السماء، وكان ديوانه هذا الذي حقق له أسباب الشهرة والمجد والخلود هو (تشايلد هارود) وإنه في رأي الفن لخير أعماله الأدبية على الإطلاق! لقد جادت قريحته بهذا الشعر في لحظات الصفاء، هناك حيث قضى بيرون في ربوع الشرق اجمل أيامه واسعد لياليه: كأس خمر معتقة، وقلب غادة خفاق، وذهب يسيل بين يديه، وزورق يمخر به العباب إلى أثينا وأزميل ومالطة واستنبول، وهذه هي الحياة. . الحياة التي كانت تفجر الشعر في أعماقه تفجيرا، وتهدي إلى عشاق الأدب والفن أروع ألحانه وأعذب أغانيه، هناك في (تشايلد هارود) إن الطبائع الفنية معادن: بعضها يتوهج في ظلال الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحابالفاقة والحرمان، وبعضها يخبو بريقه أو يسطع إذا ما انتقل من حال إلى حال!)
في هذه الناحية النفسية تتفق طبيعة شاعرنا المصري وطبيعة الشاعر الإنجليزي على التحقيق. . كلاهما سخط على الألم كل السخط، وعشق اللذة كل العشق، ووزن أيام الحياة بما فيها من متعة الحس والنفس حيث تقوم الحياة في رأيه بكل عيد من أعياد الشعور. . . تتفق الطبيعتان هنا ويلتقي المزاجان، لكن خط السير نحو الغاية المنشودة ويختلف عند علي طه عنه عند بيرون،، تبعا لاختلاف البيئة والنشأة وأثر الوراثة في تكوين الشخصية الإنسانية! لقد كانت المرأة مثلا تشغل حيزا كبيرا من حياة الشاعرين وفنهما على حد سواء. ولقد طاف كلاهما بالجسد الأنثوي ذلك الطواف الذي يطالعك من شعره في صورته القوية العارمة، حتى ليخيل إليك أن مفاتن هذا الجسد كانت هي الكوى الشعورية التي نفذ منها إلى تذوق الحياة. . . كان شعورهما نحو المرأة هو هذا الشعور، ولكن شتان في الإعجاب بها بين نظرة ونظرة وفي الوصول إلى حقيقتها بين طريق وطريق!
لقد أنحدر بيرون من صلب آسرة ورث فيها الشذوذ في النفس والخلق أبناء عن اباء، حتى لقد خرج إلى الدنيا وفي دمه مزيج من شرور الوراثة وانحراف النشأة. . . كان جل همه أن ينشد متعة النفس ولذة الجسد ونزوة العاطفة، ثم لا يعنيه من دنياه غير اللحظة التي تعيش فيها وتعود عليه بكل ما يشتهيه الفتى الجميل المدلل لا يمد عينيه أبدا إلى الأمام؛ الفتى الذي لا يتحرج عند جموح الشباب وسطوة الغريزة من أن يحطم في سبيل شهواته كل ما تعارف عليه المجتمع من حدود وقيود! كان إذا ما تردى في هوة الآثم والفسق
والفجور سعدت نزواته وسعد عشاقهذا الفن ومريدوه. . أنها لحظات الصفاء بالنسبة إلى رجل يرى السعادة في إشباع رغبات الجسد، ولو تركزت هذه الرغبات الشريرة الجامحة في شخص (أوجستا) أخته من أبيه! ومن هذه النزوة المحرمة في شرع العرف والسماء يتدفق إبداع بيرون (عروس ابيدوس) وهي القصة الشعرية التي تصور طبيعة الهوى الآثم بين (زليخا) وأخيها (سليم) أو حقيقة الهوى الآثم بين (أوجستا) و (بيرون) كما نقلتها إلينا أصدق الأخبار والروايات. . صحيح أنه سجل ألمه المنبعث من وخز الضمير على ما اقترف من آثم في بعض شعره، ولكن الحقيقة التي بقيت لنا من شعره وحياته تؤكد لدراسته أنه لم يكن يفرغ من آلامه العابرة حتى يعود إلى لذاته الدائمة، فيسهب ويبدع هنا ويوجز ويفتر هناك؛ يسهب حيث تطول اللذة ويوجز حيث يقصر الألم، وما الفن إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور!
ولم يكن علي طه في علاقته بالمرأة أو في نظرته إلى الجسد الأنثوي من هذا الطراز. لقد كان طراز أتخر بلا مراء، أو صورة أخرى ستعرف على التحقيق ألوانها النفسية فيما يلي هذا الفصل من دراسة تحليلية. . . إن هذا المثال المستخلص من حياة الشاعر الإنجليزي، قد قصد به الإشارة إلى اختلاف خط السير عند الشاعرين تبعا لاختلاف لبيئة والنشأة كما قلت، أو تبعالاختلاف اثر الوراثة في تكوين الشخصية الإنسانية. وتبقى بعد ذلك نقطة الالتقاء بين علي طه وبيرون في زاوية واحدة تحددها المشابهة بين طبيعتين؛ تلك المشابهة التي تضع بين أيدينا المفتاح الحقيقي لجوهر الشخصيتين في لقاء الحياة، وهو أن كليهما لم يخلقللألم وإنما خلق اللذة، ولم يخلق للدمعة وإنما خلق للابتسامة، ولم يخلق للقيد وإنما خلق للتحليق شأن كل طائر طليق!
ولقد عاش علي طه فترة من حياته في ذلك الجو الرومانسي الذي تلوذ فيه النفس بالوحدة وتأوي إلى العزلة وتستشعر قسوة الاغتراب، تلك الفترة التي عاشها شاعرنا كانت في حساب الزمن نصف ما قدر له من أيام الحياة. . ولقد مرت على بيرون من ذلك الجو الرومانسي لحظات؛ لحظات وإن كانت عابرة إلا أنها عكست على بعض فنه خصائص ذلك الجو كما تبرزها في الأعم الأغلب أشعار الرومانسيين. قد عرف علي طه في حياته تلك الرومانسية الوجودية التي استحالت في شعره الأول إلى رومانسية فنية وكذلك عرفها
بيرون، ولكنها على اتفاقها في هذه الظاهرة يختلفان في التعرض لها والتأثر بعض الاختلاف، سواء كان ذلك في مجال الشعور أو معرض التعبير. . وهنا كما كان هناك، يلتقي الشاعران في الغاية ولكنهما يفترقان في خط السير نحو هذه الغاية حيث يمضي كل منهما في طريق!
ارجع في باب (الدراسة الفنية) لشعر علي طه أي قصيدة (الله والشاعر)، لترى أننا قد سجلنا حول تلك القصيدة هذه الكمان. . (هذه الواقعية النفسية الوجودية التي تسير فيها لفتة الفكر جنبا إلى جنب مع خفقة القلب، هي التي تطالعنا من قصيدة (الله والشاعر). . وهي واقعية تمثل القسط المشترك من الحقائق الكبرى المتبادلة تبادل كوني بين الله والإنسان، وهي حقائق أشبه بالرواسب الفكرية والنفسية المتخلفة في قرار الذهن البشري وبأقدم العصور؛ منذ أن بدأ الركب الإنساني يفكر في واقع هذا السير الطويل في طريق الحياة، ويناقش علة وجوده وغاية بقائه وما بعد فنائه، هناك حيث ينتظره الجزاء الحق أو غير الحق ممثلا في عالمي الثواب والعقاب. . ونقول الجزاء الحق أو غير الحق، ما دامت هناك صيحتان تؤمن إحداهما بأن الإنسان لا يملك أمام القوة العليا شيئا من أمر نفسه ولا من أمر دنياه، وإنما هو يدفع فيندفع ويوجه فيتجه ويسير فيسير، وأنه تبعا لهذه القدرة المسلوبة والحرية المفقودة لا ينبغي أن يجزي على سيئاته إذا أساء، فإن جزى عليها فهو جزاء غير عادل! أيمان بهذا كله تفصح عنه هذه الصيحة التي تقابلها صيحة أخرى عمادها أيمان أخر، هو أن الإنسان يملك أمام القوة العليا كثيرا من أمر نفسه ومن آمر دنياه، فهو قابض على الزمام لا يفلته إلا برغبته، مبصر للطريق لا ينحرف عنه إلا بإرادته، عليم بالحقائق لا يحيد عنها إلا بمحض هواه؛ فهو مخير تركت له الحرية فإذا أساء فهمها فعليه أن يتقبل ما أعد له من جزاء، وإنه لجزاء يتسم بالحق ويتصف بالحق ويقترن بالأنصاف!
وإذا أنت بحثت عن مكان علي طه بين أصحاب الصيحتين الخالدتين فإن مكانه هناك مع الفريق الأول. . هو معهم في اتفاق النظرة واتجاه الفكرة ولكنه يفترق عنهم في احتفاظه بإيمانه الذي لا يودي به كل تلك العواصف والأعاصير. إنه يتناول هذه القضية الوجودية الكبرى من زاويتين الأولى ليدافع عن الكيان الإنساني أمام سطوة القدر وحكمة القضاء، مستخدما في دفاعه منطق الشاعر الفيلسوف الذي يعرض المقدمات عرضا شعريا ترتضيه
النفس يخرج منها بنتائج فلسفية يرتضيها الفكر. الثانية ليعبر عن حريته البالغة وحيرة القافلة الإنسانية وهي تتخبط في صحراء الوجود تلتمس الظل الظليل في رحاب الواحة الإلهية، فرارا من وطأة القيظ ولفح الهجير! وهو بعد ذلك متأرجح بين البث والشكاءة، وبين الأنين والحنين وبين العذاب المهذب والخضوع العميق. . وهو أخر الأمر معذب لا يدري أين يستقر ولا إلى أي وجه تمضي به قدماه. . خطوة يأس تقذف به إلى الخلف وخطوة أمل تدفع به إلى الأمام، ولكنه في غمرة تلك التيارات النفسية المتباينة ضارع مبتهل لا يشك أبدا في رحمة الله)!
هذه الأفكار والمشاعر التي طاف حولها عقل شاعرنا وعقله هي في حقيقتها أثر من آثار ذلك الجو الرومانسي الذي عاش فيه؛ وهي نتيجة مباشرة لظروف الوحدة النفسية والعزلة الروحية والانفراد الذاتي كما بعهدها في حياة الرومانسيين، هنا حيث يدفع الإنسان دفعا إلى إطالة التأمل فيما حوله من حقائق الكون وغاية الوجود ومصير الركب الإنساني بعد انتهاء الحياة؛ ومثل هذا التأمل لا بد آن يفضي بصاحبه آخر الآمر إلى التعرض لموقفه وموقف الإنسانية جمعاء إزاء الخالق العظيم، هكذا فعل علي طه في قصيدة (الله والشاعر) وهكذا فعل بيرون في مسرحية قابيل. . إن شخصية قابل في تلك المسرحية الشعرية ما هي إلا إحدى شخصيات بيرون التي كان يصور معالمها بصدق وأصالة ليعبر بها عن حالة خاصة من حالات نفسه وهي معرضة لهزات الوجود! اتفاق والتقاء، ولكن خط السير هنا مختلف كما قلت بعض الاختلاف عن خط السير هناك، لأن هذه الشخصية (البيرونية) في مسرحية (قابيل) ثائرة على الخالق ساخطة على القدر متمردة على السماء، تريد أن تبري الإنسان من كل شر وفساد عرفتهما الأرض، ومحاولة إن ترد كليهما إلى تلك القوة العليا التي تسيطر على الكون وتوجهه إلى مصير معلوم تحاول هذا ثم تدفعها الثورة العاصفة والعصيان الجامح إلى حد التخيل بأنها (إبليس جديد)، جاء لينتقم للإنسانية المظلومة من خالقها الذي لا تلقى منه غير الظلم والعذاب وهي بعد ذلك تنتظر على يديه ألوان من الحساب والعقاب!
ثورة عند بيرون ينقصها التهذيب ويعوزها التبصر وتتشح بثوب التجديف، وحيرة عند علي طه لتبلغ هذا المدى من التهور والتنكر والاندفاع، لأنها حيرة لا تنتهي بصاحبها إلى
التمرد ورفع راية العصيان، وإنما تنتهي به إلى راحة نفسية مصدرها الخضوع والإذعان!
ولقد قلنا في سياق الحديث عن قصيدة (الله والشاعر) إن تلك القصيدة تمثل الواقعية النفسية خير تمثيل، فكيف يتفق هذا مع القول بأنها من نتاج ذلك الجو الرومانسي الذي قضى فيه علي طه أول العهد بالشباب؟ كيف تجتمع (واقعية) و (رومانسية) في أثر واحد من أثار الفن دون آن يكون هناك شئ من التعارض والتناقض والشذوذ، مصدره أن موازين النقد في أدب الغرب قد وضعت حدود فنية (فاصلة) بين هذين اللونين من ألوان الأدب؟ سؤال مقصود لأن الجواب عنه كذلك مقصود، ومن وراء السؤال والجواب نهدف إلى الكشف عن حقيقة المشكلة كما ينطق بها الواقع الملموس!
هل قرأت (آلام فرتر) لجيته، و (رفائيل) للامرتين، و (رينيه) لشاتو بريان، و (ادولف) لكونستان؟ هذه القصص الأربعة يضعها النقاد في (خانة) القصة الرومانسية وهم يقسمون ألوان الأدب ومذاهبه تبعاً لما يتسم به هذا الأدب من خصائص ومميزات، يردونها عادة إلى شتى العوامل النفسية التي طبع بها العصر وتركت آثارها في كتابه، بعد اتفاقهم على أن الأدب نتاج مجتمعة وثمرة بيئة المرأة جيله التي تعكس على صفحتها معالم ذلك الجيل. وتبعا لهذا التقسيم الفني الذي انتهى إليه النقد عرف الناس إن هناك أدبا رومانسياً أخر واقعياً في عرف التسمية المذهبية، وإن لم يستطع النقد (واقع الأمر) أن يفصل فصلاً تاماً بين خصائص كل لون من ألوان الأدب وهو في خانته الفنية. . . لم يستطع النقد أن يوفق إلى تلك التفرقة الكاملة لأنه نسى إن بيئة الأدب في عصر من العصور لا يمكن أن تكون (خالصة) لطابع نفسي بعينه، يلقى ظله الخاص على وجه ذلك الأدب دون إن يفسح مكاناً لظل سواه! لو فطنت موازين النقد إلى تلك الحقيقة لما وجدت أبدا من التعديل في وضع الحدود الأخيرة للمصطلحات الفنية وتقدير خط السير لاتجاهات الأدب تقديراً نهائياً لا رجعة فيه! إنك قد تقرأ قصة تمثل اتجاه رومانسياً في عرف النقاد وهي لا تخلوا في بعض مواقفها من اتجاه واقعي هنا أو هناك، ثم لا تجد في هذا شئ من الغرابة إذا ما وضعت نصب عينيك هذه الحقيقة المادية، وهي أن عصر من العصور ينتج فناً من فنون الأدب لا يمكن أن يتسم بسمة شعورية واحدة تترك آثارها التعبيرية الواحدة التي تندرج في جملتها تحت عنوان! هل نريد بذلك أن نلغي تلك المصطلحات الفنية التي اتفق عليها النقاد الأدب
محددين بها اتجاهاته ومراميه كلا. . وإنما نريد أن نصحح وضعا هو على التحقيق يحتاج إلى تصحيح، عندما نقرر مطمئنين أن تلك التحديات المذهبية يعوزها شئ من التعديل، عماده أننا إذا قلنا عن طابع عصر من العصور أنه رومانسي فيجب أن يفهم أننا نعنى الطابع الغالب لا الطابع العام، ونقصد المظهر البارز لا المظهر الشامل، ونشير إلى السمات الرئيسية لا السمات الكلية؛ وفي ضوء هذا التحديد يجب آن ينظر إلى ما كتبناه عن (طابع العصر) الذي قضى فيه علي طه أول العهد بالشباب!
ونعود مرة أخرى إلى تلك القصص الرومانسية الأربع في ضوء هذا التحديد؛ نعود إليها لنقرر أيضا في خانة الواقعية دون أن يكون شئ من التناقض والشذوذ. . هي (رومانسية) إذا نسبت إلى الجو النفسي القاتم الذي كتبت فيه أو إلى الخصائص الفنية التي اصطلح عليها النقد وهي (واقعية) إذا نسبت إلى واقع الحياة التي كان يحياها أصحابها في ذلك الحين؛ الحياة الذاتية التي تسجل حقيقتهم الإنسانية والتي قد تنطبق على غيرهم من الناس. أليس هذا هو واقعهم النفسي في فترة من فترات العمر سجلتها في تلك القصص سطور وكلمات؟ هو كذلك بلا جدال، وإنه لواقع عصر في صورته الغالبة لا في صورته العامة تبعا لما سبق من تحديد. . وفي هذا كله ما يفسر لك انتفاء التناقض في الجمع بين كلمتين: هما الواقعية النفسية والرومانسية الوجودية!
وفي معرض المقارنة بين شاعرنا المصري والشاعر الإنجليزي نقدم هذا السؤال: هل تأثر علي طه في شعره في ذلك الاتجاه الرومانسي الذي نلمحه عند بعض الشعراء الغربيين ومن بينهم بيرون؟ سؤال مقصود أيضا لأن الجواب المنتظر عنه مقصود؛ حين نفتح الصفحة الرابعة والستين بعد المائة والصفحة التي تليها من الجزء الثالث من (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين فنجد هذه الكلمات: (ومن الكتاب من يقول أن شاعرنا تأثر بأبي العلاء ثم يضيق بهذا التأثر. ولست أدري أثأر شاعرنا بأبي العلاء حقا أم تأثر ببيرون أم تأثر بهما جميعا وبقوم آخرين غيرهما أم لم يتأثر بأحد، وإنما لقى من لقى من الشعراء مصادفة وعلى غير قصد ولا عمد. وأحس أنا في قصيدة أخرى اسماها (غرفة الشاعر) روحا (لموسييه)، ولكني لا أدري أهو روح الذي قرأ فتأثر أم هو روح الذي أحس فتألم، فشكا فلقي موسييه في هذا كله أو في بعضه. ولست أتردد في الرضى عن هذه القصيدة
والحب لها والإعجاب بها، ولست أكره أن تشاركني في هذا الرضى وأن تشاطرني هذا الحب والإعجاب، فاقرأ معي هذه القصيدة وقف معي عند بعض أبياتها وقفات قصارا. . . هذه الصور المتتابعة المختلفة حسان كلها، ولكنها بعيدة إلى حد ما عن المألوف من حياة شعرائنا الشرقيين إلا أن يكونوا مترفين قد ألفوا حياة الغرب وكلفوا بالسهاد في غرفة يطرب فيها نور ضئيل شاحب، وتفنى فيها بقايا الجذوة في الموقد، وكل هذا يألفه الغربيون، وهو يذكر بموسييهتذكير قويا. وبعض الناس يعيب شاعرنا (بتغريب) الشعر، أما أنا فأحمد له هذا النوع وأراه تشريف للشعر العربي ورياضة للذوق الشرقي وللغة العربية على أن يسيغاه ما لم يتعودا أن يسيغاه من قبل. وإذا كان لي أن آخذ الشاعر بشيء فهو ما قدمته من أن الأمر يختلط في شعره على القارئ فلا يدري ألقي زملاءه الغربيين والشرقيين مصادفة أم عن تعمد وسعي)!
إن السؤال مقصود هنا لأن اسم الشاعر الإنجليزي بيرون قد ورد في سياق الحديث الذي دار به الدكتور حول قصيدة (الله والشاعر) أما آثار بيرون الفنية التي لا (يدري) الدكتور هل لقيه فيها شاعرنا المصري مصادفة أم عن تعمد وسعي! أما تلك الآثار فلم يشر إليها بكلمة واحدة تفصح عن حقيقتها حين يطلب إلى الدارسين مثل هذا الإفصاح. . ولا ندري نحن هل كان يقصد مسرحية (قابيل) التي ذكرناها عند المقارنة بين الشاعرين أم كان يطلق القول إطلاقا بغير تحديد! إن غاية ما يقال هنا أننا قد تعرضنا لقصيدة علي طه ومسرحية بيرون، وانتهينا إلى أنهما متفقتان في الهدف ولكنهما تفترقان في خط السير حتى ليذهب كل من الشاعرين في طريق. وما أبعد الشقة في بينهما حساب النقد الذي يلمس الفارق بين فكرتين قد اختلفت حولهما القيم الشعورية والتعبيرية!
لقد أدار الدكتور المفتاح مرة أخرى في ثقب الباب ولم يفتح؛ أما ذلك المفتاح فلم يكن غير تلك العبارة التي ساقها وهو يفترض وجود شيء من التجاوب الفني بين علي طه وموسيه. . ترى أهو روح الذي قرأ فتأثر، أم هو روح الذي أحس فتألم، فشكا، فلقي موسيه في هذا كله أو في بعضه؟ أن الدكتور هنا أيضا لا (يدري) ولا يستطيع أن يقطع برأي لأنه لا يملك الدليل. . والدليل الذي يعوز الدارسين كما قلنا ونحن نتحدث عن هذه القصيدة في باب الدراسة المذهبية مرجعة إلى عدم الإحاطة بظروف الحياة التي تنتج الفن، وتضع بين
أيديهم أداة الربط بين شخصية الكاتب وما كتب أو بين شخصية الشاعر وما نظم وتحول بينهم وبين السؤال الذي يبقى بلا جواب! لو رجع الدكتور إلى حياة شاعرنا فيما قبل الثلاثين كما استعرضناها في الفصلين السابقين، لأدراك أن الشعور بالحزن في (غرفة الشاعر) أو الشعور بالحيرة في (الله والشاعر) كان طبيعيا لا أثر فيه للتقليد والمحاكاة، وأن ذلك الروح الذي أحسه في هاتين القصيدتين كان روح الشاعر الذي تحير في صدق فالتقى في حيرته عن غير قصد مع بيرون، وتألم في صدق فالتقى في آلمه عن غير عمد مع موسييه
. . إن التشابه بين إنتاج الرومانسيين أمر لا غرابة فيه ولا موضوع للدهشة وافتراض الفروض، لأن الأجواء النفسية التي حلقوا فيها بالمشاعر وجالوا بالخواطر كانت متشابهة أو كان التوافق بينها جد قريب؛ ومن هنا لا يجوز لنا أن نسأل عن تلك العلاقات التأثرية بين أصحاب الآثار الرومانسية، ألا إذا استطعنا إن نثبت وجود شيء من تلك العلاقات بين جيته في (آلام فرتر) ولامرتين في (رفائيل)، وكونستان في (ادولف) ، وشاتوبريان في (رينيه)!
ولقد قلنا أن مشكلة التفكير الإنساني في المصير وما يتعلق بها من بحث حول (شرعية) الثواب والعقاب مشكلة قديمة، ومما لا شك فيه أنها قد سبقت بقدمها أفكار هؤلاء الذين تعرض لهم الدكتور في حديثه وخص منهم بالذكر شاعرين هما بيرون وأبو العلاء. . . وإذن فلا مبرر للتساؤل عنا إذ كان علي طه قد تأثر بهذين الشاعرين في قصيدة (الله والشاعر) لأن الأمر واضح من إن يحتاج إلى سؤال!
إن المشكلة قديمة وجديدة في وقت واحد لأنها مشكلة الأمس واليوم والغد القريب والبعيد، مادامت هناك فترات قلق تمر بحياة الإنسانية المفكرة الشاعرة وتدفعها إلى إطالة التفكير فيما وراء الحياة. . هل نحن مسيرون؟ هل نحن مخيرون؟ هل نحن أصحاب إرادة فيما نقدم عليه من عمل أم إننا مجرد أدوات بين يدي قوة خفية توجهها كيف تشاء؟ أسئلة تعرضت لها الأجيال الماضية وتتعرض لها الأجيال الحاضرة وسوف تتعرض لها الأجيال المقبلة ما بقى هناك فكر يبحث في المصير وما يرتبط به من جزاء! وإذن فلا عجب إذا ما التقت أفكار الشعراء الثلاثة حول هذا المعنى الكبير في بعض ما خلفوا من أثار أدبية؛ آثار
تتفق في جوهر المشكلة ولكنها تفترق في صب التجربة الشعورية في القالب ألفني تبعا لاختلاف المعدن النفسي وما يقترن به من تفاوت في معدن التعبير. . . إنه اتفاق في جوهر المشكلة كما قلنا وعامل الإثارة واحد لا اختلاف عليه ونعني به القلق الذي يهز النفوس والعقول ويدفعها دفعا إلى محاولة الغوص في أعماق المجهول. قلق عند بيرون وقلق عند علي طه وقلق عند أبي العلاء، ولكن مصدر هذه الظاهرة النفسية يختلف عند الشاعر الأول عنه عند الشاعرين الأخيرين، حين تفسره عند بيرون بأنه فراغ الحياة من العطف والعاطفة. . . لقد عاش بيرون في مجتمع حرم فيه عطف الناس فثار حينا على الله والناس، وعاش أبو العلاء كل حياته وهو محروم من نعمة الشعور بالعطف الإنساني وبالعاطفة الأنثوية، وكذلك كان الآمر بالنسبة إلى علي طه ولكن في فترة محدودة من فترات الحياة، ومثل هذا الحرمان كفيل بأن يهز سكينة النفوس والعقول!
أنور المعداوي
3 - على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
للدكتور عمر حليق
العوامل الاقتصادية في سياسة توازن القوى
ألمت بالوضع الدولي إبان بعث سياسة توازن القوى عوامل اقتصادية هامة وللاقتصاد في توجيه السياسة العالمية شأن كبير
ففي أعوام 1947 - 1949 أخذ الاقتصاد الأمريكي خاصة والاقتصاد الأوربي (خارج الاتحاد السوفيتي) يمر في نكسات وضائقات اقتصادية لعينة. ففي أمريكا كان الاقتصاد القومي في سنوات الحرب قد توسع بصورة هائلة. فازداد عدد المصانع وتضاعف إنتاجها إلى أرقام فلكية وأصبحت مقدرة السوق الأمريكي على استهلاك المنتجات الأمريكية محدودة مقيدة والسوق الأمريكيهو المستهلك الرئيسي للإنتاج الأمريكي
وكانت الوضعية الاقتصادية في شعوب أوروبا الغربية مزعزعة بسبب الخراب الواسع الذي ألم بذلك الجزء من العالم من جراء الحرب العالمية الأخيرة
وفي آسيا وأمريكا اللاتينية أخذ الوعي الاقتصادي يزداد نموا ويدفع الحكومات والشعوب لأن تلجأ إلى سياسة الاستكفاء الذاتي لتتفادى عودة الاستعمار بألوانه العديدة الاقتصادية والسياسية، ولذلك أصبحت مقدرة الشعوب الآسيوية واللاتينية على استهلاك المنتجات الأجنبية محدودة مقيدة، وذلك لأن الميزان التجاري في دول آسيا وأمريكا اللاتينية يعتمد على تصدير المواد الخام إلى الدول الصناعية في أوربا وأمريكا الشمالية ليحصل مقابلها على عملة أجنبية تعينه على استيراد السلع والمنتجات الصناعية وأصناف التبادل التجاري الأخرى. فإذا أصيب النشاط الصناعي في أوروبا وأمريكا الشمالية بنكسة فإن حاجته من المواد الخام ستضائل، ومن ثم يتضاءل مورد الدول المصدرة للمواد الخام (ومعظمها في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية)، والاقتصاد الدولي الحر حلقة متشابكة الأطراف إذا وهن بعض أجزائها تعرض الكل إلى الوهن
ولم تكن النكسة الاقتصادية العالمية مقتصرة على أوربا الغربية وأمريكا الشمالية - وبالتالي على آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية - بل إنها شملت الاتحاد السوفيتي نفسه ومنطقة النفوذ السوفيتي كذلك. ومثال ذلك سعي روسيا للسيطرة على الاتحاد اليوغسلافي وسعي
يوغسلافيا للتحرر من هذه السيطرة وما أدى هذا الصراع إلى قطيعة سياسية تامة بين البلدين
إلا أن أخطار الضائقات الاقتصادية العالمية تختلف باختلاف المناطق والشعوب والنظم الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الشعوب والحكومات
ففي ظل الحكم المطلق - خصوصا إذا كانت التعاليم الاشتراكية وفلسفة الاقتصاد المنظم ديدنه يسهل على الدولة أن تضبط التيارات الاقتصادية العاصفة وأن كان ذلك على حساب الحرية الفردية للكثيرة الساحقة من الشعب
وفي البلدان الآسيوية والإفريقية واللاتينية التي لم يكتمل بعد نموها الاقتصادي تكون أضرار الضائقات الاقتصادية مقصورة إلى حد بعيد على برامج الإنشاء والتعمير، فاقتصاديات هذه البلدان اقتصاديات غير معقدة، مستوى المعيشة بها زهيد على مستوى ضئيل، ومهما ألمت أضرار النكسات الاقتصادية العالمية بهذه البلدان فإنها لن تؤثر إلا تأثيرا محدودا في مستوى المعيشة، ولما كان هذا المستوى ضئيلا ممعنا في الضالة فإن هذا التأثير لن يزيده ضالة، فليس في ذلك المستوى بعد مجال للتضاؤل، إذا استثنينا حالات المجاعات والقحط في بلدان كالهند والصين مثلا فان معظم المجتمعات الزراعية (كالمجتمعات الآسيوية مثلا) تستطيع في فترات الضائقة الاقتصادية العالمية أن تحفظ برؤوسها عائمة فوق الماء
أما وضعية المجتمعات في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية خلال النكسات والضائقات الاقتصادية الشاملة فإنها تكون معرضة لأخطار جسيمة
ففي إبان النكسة الاقتصادية الخطيرة التي ألمت بالولايات المتحدة الشمالية وبأوروبا الغربية في أعوام 1948 - 1949 كان علىالدول والشعوب هناك أن تختار وحدا من الاحتمالات معينة لصيانة نفسها من الفوضى الاقتصادية والإفلاس التام
وأحد هذه لاحتمالات أن تسرع الدولة فتسن التشريعات وتطبق رقابة شديدة على الإنتاج الصناعي والنشاط الاقتصادي بأسره، وأن تحدد الإنتاج وتعين الأسعار وتقيد التصدير والاستيراد بشكل يحول الدولة الديمقراطية إلى نظام اشتراكي لأولى الحكم فيه سلطة واسعة قد تتسع فتصبح نوعا من الحكم المطلق. وهذا ما حاولت حكومة العمال في بريطانيا
تطبيقه فلم تفلح طويلا بسبب طبيعة السلوك السياسي للشعب البريطاني وتأصل الوعي الديمقراطي فيه، وبسبب تعقد المشاكل الاقتصادية في بريطانيا بشكل لا يسمح بتطبيق برامج الاقتصاد المنظم والاحتفاظ بالحرية الديمقراطية في آن واحد
وثاني هذه الاحتمالات تخفيض مستوى المعيشة بين السكان بتخفيض الدخل القومي للعامل ولصاحب العمل والرجوع بألوان الحضارة المادية القهقري ووضع حد للتقدم الآلي وتوجيه الشعب نحو التقشف والتخلي عن أسباب الترف والمتعة التي أصبحت جزءا أساسياً من طبيعة المعاش الذي يعيش عليه الناس في العالم الغربي إجمالاً وفي الولايات المتحدة على وجه العموم. وقد استطاعت بريطانيا أن تطبق جزءاً من هذا الاحتمال فيما يتعلق بمسألة الدخل القومي ومسألة التقشف إلا أن حكومة العمال البريطانية فشلت في ذلك لأن السياسة الاقتصادية التي اتبعتها في بريطانيا كانت تواجه عقبات جسمية بعضها راسخ في صميم الوضع الاقتصادي البريطاني والبعض الآخر ناتج عن المنافسة الشديدة التي لقيتها بريطانيا في أسواقها التجارية التقليدية سواء جاءت هذه المنافسة من أمريكا أم من سياسة الاستقلال الاقتصادي والاستكفاء الذاتي التي أخذت تتبعها البلدان الآسيوية والإفريقية واللاتينية التي كانت فيما مضى منطقة نفوذ اقتصادي لبريطانيا
أضف إلى ذلك كله أن أي دعوة إلى تخفيض مستوى المعيشة سيتطور إلى سلاح في يد الحركة الشيوعية التي تتخذ تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية دلالة على فشل النظم الديمقراطية (الأوربية والأمريكية)
وثالث هذه الاحتمالات تجديد الحروب الاستعمارية وقيام الدول الصناعية الكبرى بغزو البلدان المتخلفة والسيطرة على الأسواق التجارية الرابحة في الشرق والغرب، وهذا الاحتمال بعيد المنال نظراً ليقظة الشعوب وتيقظ القوميات وحيوية التحرر من الاستعمار في كل مكان
ورابع هذه الاحتمالات إن تتكتل الدول الصناعية الكبرى تكتلا اقتصاديا تاما شاملا وتوزع فيما بينها الأسواق العالمية توزيعا يستند إلى اتفاقات ثابتة بين الدول المتكتلة، وقد نجح الاتحاد السوفيتي إلى حد بعيد في سياسة التكتل الاقتصادي في منطقة نفوذه في أوروبا الشرقية والبلقان والبلطيق وبعد ذلك في الصين وآسيا الوسطى - منغوليا وسينكيانغ
أما دول أوروبا الغربية فقد وجدت نفسها لا تستطيع إن تجهر بهذه الرغبة لأسباب عديدة منها تفوق أمريكا الصناعي الهائل على بريطانيا وفرنسا وخسارة هولندا لجزر الهند الغربية (إندونيسيا)، فمصانع أوروبا الغربية القديمة المنهوكة لعب أطفال بالقياس إلى المؤسسات الصناعية الأمريكية، وجودة الإنتاج الأمريكي وتنوعه ورونقه إعلاناته شيء لم تعرف الصناعات الأوروبية في بلادها له مثيلا. ومقارنة السيارات الأمريكية بالسيارات البريطانية والفرنسية مثل على ما نحاول به شرحه هنا
ولذلك فلم يكن لدى الصناعة الأوروبية ما تستند إليه لتساوي أمريكا على اقتسام الأسواق العالمية - هذا فضلا عن أن الأمريكي تاجر لا يرحم، والمنافسة هي عماد النشاط الاقتصادي في أمريكانموذج راسخ في السلوك الأمريكي رسوخ عادات الأكل والشرب والنوم
ويبدو أن الاحتمال الأخير (وهو توزيع الأسواق العالمية) صادف هوى في نفوس الأمريكان ولكنهم احتاطوا له بشكل دقيق بحيث يوفر لهم حصة الأسد في أية مساومة يقومون بها مع دول أوروبا الغربية
وفعلا شهدت السنوات الأخيرة توسعا اقتصاديا أمريكيا حجم النشاط ولكنه في أغلب الحالات على حساب دول أوربا الغربية وعلى الأخص بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا، وقد ساعد أمريكا على هذا التوسع الاقتصادي كونها مسيطرة على مقدرات ألمانيا واليابان وهما عنصران هامان في ميدان التنافس التجاري الدولي وفي الشرق الأقصى حلت أمريكا محل اليابان وهولندا في سوق إندونيسيا والفلبين ومحل بريطانيا إلى حد ما في أسواق الملايو وأصبحت المشترية الرئيسية للمطاط والقصدير هناك
وفي الشرق الأوسط قصة التوسع الأمريكي في البترول معروفة للجميع، وكان من المقدر لبريطانيا إن تحقق هذا التوسع لنفسها لولا قوة المنافسة الأمريكية والظروف الأخرى التي صاحبت الوضع الاقتصادي في عالم ما بعد الحرب في بريطانيا
وفي أمريكا اللاتينية تلاشى تدريجا نفوذ بريطانيا التجاري هناك بعد إن تلاشى قبله نفوذ ألمانيا وأصبحت هذه القارة منطقة نفوذ تجاري وسياسي للولايات المتحدة الأمريكية
وفي شمال إفريقيا العربية توطد للأمريكان نفوذ اقتصادي طويل عريض بلغ من الأهمية
بحيث اضطرت فرنسا أن تخاصم أمريكا عليه أمام محكمة العدل العليا
وفي أواسط إفريقيا تسرب رأس المال الأمريكي إلى مستعمرات بلجيكا الغنية بالمعادن الثمينة ومنها معدن الأورانيوم الصالح لإنتاج الطاقة الذرية
واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية بفضل هذا النشاط الاقتصادي الواسع أن تدفع مؤقتا عن نفسها أخطار النكسة الاقتصادية الأخيرة التي ألمت بالاقتصاد الأمريكي في أعوام 1947 - 1948 - 1949
وكان لابد لهذا التوسع الاقتصادي الهائل من أن يفرض على الولايات المتحدة الأمريكية مسؤوليات سياسة ودبلوماسية من النوع الدقيق والخطير
ومع أن فكرة التكتل الاقتصادي بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين دول أوروبا الغربية لم تتبلور في شكل قانوني (سري أو علني) إلا أن انسياق الأموال الأمريكية الخاصة والنشاط الاقتصادي الأمريكي إلى مناطق النفوذ البريطاني الفرنسي والهولندي والبلجيكي قد فرض على أمريكا مسئولية فعلية في صيانة النظم السياسية التي تعيش عليها هذه الدول الأوربية أضف إلى ذلك صيانة أوروبا الغربية من أخطار الانقلابات الشيوعية سيضمن لأمريكا حلفاء أوفياء يكونون سنداً للمبادئ والأيديولوجية السياسية التي يعيش عليها المجتمع الأمريكي؛ ففي تعزيز النظم الديمقراطية لدول أوروبا الغربية تعمير لأسواق تجارية حسنة تستهلك من الإنتاج الأمريكي أضعاف ما تستهلكه البلدان المتخلفة التي لم يكتمل بعد نموها الاقتصادي كبلدان آسيا وإفريقيا وأمريكيا اللاتينية - فهذه البلدان المتخلفة هي على العموم مصدر للمواد الخام وليست مستهلكة ألا كجزء محدود من المنتجات الأمريكية الجاهزة
ومن هذه الصور الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية الشاملة تكونت فكرة المساعدات الأمريكية المالية للدول الأوربية التي عرفت بمشروع مارشال
ولخير أن تفكر ملياً في مشروع مارشال لأن صلته بتطور فكرة الدفاع المشترك وحلف الأطلنطي ومسألة الدفاع عن الشرق الأوسط صلة وثيقة
مشروع مارشال
يقول البروفيسور جون وليامز أحد كبار الاقتصاديين (في البلدان التي لم يكتمل بعد نموها
الاقتصادي في آسيا وإفريقيا الأمريكان ورئيس الجمعية الاقتصادية الأمريكية ومستشار البنك الأمريكي المركزي ومندوب حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في عدة مؤتمرات دولية: إن الهدف الرئيسي لمشروع مارشال هو تنفيذ برنامج عملي لاستثمار رؤوس الأموال. وهدف هذا المشروع ليس فقط بناء ما دمرته الحرب في أوروبا وإنما زيادة الإنتاج والنشاط الاقتصادي في أوروبا الغربية والشمالية بحيث تتمكن دولها من أن تحفظ الميزان التجاري مستقيماً وهذا يعني مساعدة دول أوروبا الموالية للولايات المتحدة الأمريكية على زيادة الدخل الحقيقي للفرد وللدول الأوربية، وهذه الزيادة تشجع الفرد والحكومة هناك على مضاعفة استهلاكه للمنتجات والسلع وتوفر للشعب وللدولة فرصة لادخار رأس المال اللازم لاستثمار الاقتصاد المحلي (في الدولة الأوربية وفي الاقتصاد الأجنبي وأمريكا اللاتينية)
وهذه الأهداف تتمشى مع الصورة التي رسمناها عن الوضعية الاقتصادية في أمريكا وأوروبا وبقية أجزاء العالم (خارج الاتحاد السوفيتي) وهي صورة تشير إلى اختمار فكرة التكتل الاقتصادي بين الدول الصناعية الكبرى تحفظ للأمريكان حصة الأسد وتساعد الدول الأوربية على ملاقاة نكساتها الاقتصادية مستعينة بزميلة كبرى الولايات المتحدة الأمريكية
وجدير بالذكر أن فرنسا كانت أكثر الناس حماسة لمشروع مارشال، بل الواقع أن فرنسا كانت أول من نال مساعدات مالية سخية من الولايات المتحدة الأمريكية وذلك في عهد ليون بلون اليهودي رئيس وزراء فرنسا في السنوات الأوائل التي أعقبت الحرب العالمية الثانية
ومن الطبيعي أن تتحمس فرنسا لهذا المشروع، ففرنسا هي الدولة الوحيدة من دول أوروبا الغربية التي فرضت اتباع أي احتمال من الاحتمالات العديدة التي واجهتها دول أوروبا الغربية في عالم ما بعد الحرب، فهي لم تقتد ببريطانيا فتنفذ لونا من برنامج الاقتصاد الاشتراكي المعتدل، ولم تتبع سياسة التقشف والمراقبة الدقيقة التي فرضتها بريطانيا بالاستمرار في استغلال الأسواق المتوفرة لهم في المستعمرات الفرنسية - ولفرنسا اليوم ممتلكات خارجية تفوق ما لأي دولة استعمارية أخرى
ولتعلق بأذهاننا هذه الحقيقة - وهي حماس فرنسا الشديد لمشروع مارشال وما استتبع هذا
الحماس من نشاط فرنسي لتنفيذ الحلف الأطلنطي والاتحاد الأوربي للنقد ومشروع مارشال ومشروع بليفان للجيش الأوربيكما سنأتي على استعراضه فيما بعد
وهنا يجدر بالباحث أن يفسر حماس أمريكا لمشروع مارشال ولفكرة المساعدات المالية للدول الخارجية أجمالا. وهذا التفسير لا يكون إلا بالتعرف على الفلسفة الاقتصادية النظرية والعملية التي يعيش عليها الشعب الأمريكي. وهي فلسفة (جورج مينارد كنيز) الاقتصادية منذ عام 1930 حتى الآن
(للبحث صلة)
نيويورك
عمر حليق
3 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
الخريطة:
وتسمى أيضا (الربابة) بكسر الراء، وهي وعاء من الجلد مثل كنانة سهام الرمى، توضع فيها القداح. وهي واسعة ليمكن استدارة القداح فيها واستعراضها، ولها فم ضيق بقدر أن يخرج منها قدحان أو ثلاثة، أو بعبارة اصح يمكن أن يضيق ويوسع بخيط يشد فيه، بحيث لا يسمح في حالة التضييق بخروج أكثر من ثلاثة أقداح
الحرضة
بضم الحاء، ويسمى أيضا (المجيل) و (المفيض) و (الضارب)، وهو الرجل المكلف بتقليب السهام في الخريطة ثم دفعها من فم الخريطة. وكانوا يلفون يده بقطعة من جراب، لئلا يجد مس قدح يكون له مع صاحبه محاباة. ويشدون عينيه بعصابة ليحولوا بينه وبين رؤية القداح
والحرضة هو الذي يستل السهم بعد أن يبرز وينشز، ويسلمه للرقيب دون أن يراه
ولا يكون الحرضة إلا ساقطا برما، يدعونه بذلك لرذالته وسقوطه
قال أبو الهيثم: الحرضة: الرجل الذي لا يشتري اللحم ولا يأكله بثمن ألا أن يجده عند غيره
الرقيب
ويسمى أيضا (رابئ الضرباء). ويختار في العادة من الأمناء الموثوق بهم من الرجال، وواضح أن مهمته هي مراقبة (الحرضة) وإدارة رحى الميسر. ويكون مجلس الرقيب خلف الحرضة، ليتمكن من مراقبته. وهو الذي تسلم إليه السهام بعد خروجها ليعلم من صاحبها ويعلن اسمه حينما يفوز كما انه يرد السهام الإغفال أن خرجت مرة ويعيدها إلى الربابة ويأمر الحرضة بجلجلة الأقداح وإفاضتها حتى يخرج سهم أخر من قداح الحظ
وإفاضة الأقداح: أن يدفعها دفعة واحدة إلى الأمام ليخرج منها قدح أو أكثر
مجلس الميسر
هو نادي القوم يجتمعون فيه في ليل الشتاء، وقد أوقدوا ناراً واحضروا جزورهم ونحرها الجازر وقسمها عشرة أجزاء، بعد أن ترك لصاحب الجزور (الثنيان) وهو ما استثنى لنفسه من الرأس والأطراف في غالب الأمر، وبعد أن حفظ لنفسه (الريم)، كما سبق القول عند الكلام على الجزار
1 -
ويحضر الحرضة ومعه الخريطة والقداح، حينئذ يتبارى رؤوس القوم وأشرافهم في أخذ القداح، فأعلاهم قدراً هو من يأخذ المعلى ذا الحضوض السبعة، وأقلهم شأناً هو صاحب (الفذ) الذي له حظ واحد
وذلك أن نظام الميسر مبني على قاعدة الغنم بالغرم، أي أن من يتعرض لأخذ أكبر السهام حظاً يكون لديه استعداد أن يغرم أكبر الغرم حينما يخيب حظه إذ أن الغرم يتناسب تناسبا مطردا مع الغنم وأما صاحب الفذ فهو إن فاز بحظ واحد، وإن خاب تحمل مغرم حظ واحد
2 -
وبعد أن يختار القوم سهامهم ويسجلها عليهم الرقيب توضع هذه السهام ذوات الحظ في الخريطة ومعها السهام الإغفال الثلاثة التي لا حظ لها
3 -
ويؤتى بالحرضة، وهو المكلف بإجالة القداح في الخريطة، ثم يأخذ ثوب شديد البياض فيلف على يده، ويسمى ذلك الثوب (المجول). وإنما يجعل ذلك الثوب على يده ليعشى بصره ولا يعرف قدح زيد دون عمر. هذا بعد أن تلف يده بقطعة من جراب، مبالغة في الحيطة. وأحيانا يعصبون عينيه ويلفون يده. وتعصب الخريطة على يدي الحرضة
4 -
ويجلس خلفه الرقيب وقد استدار الأيسار حوله، ومن خلفهم جمهور النظارة يشهدون ما يكون من ذلك، وفي هذا الجمهور طائفة الفقراء، الذين يحملون بؤسهم بجهل وعناء تدور أعينهم فوق كومات اللحم، وتشرأب أعناقهم وأسماعهم نحو الحرضة والرقيب
5 -
وبعد أن يكتمل المجلس يصدر الرقيب أمره إلى الحرضة أن يجيل القداح وأن يجلجلها في الخريطة، فيفعل ذلك مراراً، فان فعل أمره أن يفيض القداح، أي أن يدفعها إلى فم الخريطة
6 -
وحينئذ يبرز أحد القداح فيستله الحرضة، وهو أن كان غير معصوب العين لم ينظر إليه في هذه الحالة، ثم يناوله الرقيب، وتحدث عندئذ ضجة من الرقيب يعلن فيها اسم الفائز، يصيح بأعلى صوته: هذا قدح فلان، أو فاز قدح فلان. ذكر ذلك الخليل في تفسير
قول أبي ذؤيب:
وكأنهن ربابة وكأنه
…
يسر يفيض على القداح ويصدع
7 -
فإذا فاز أحدهم اخذ نصيبه واعتزل القوم فأفاض الباقون على بقية الجزور فإن شاء ذلك الفائز أن يعود بقدحه سألهم ذلك، فان احبوا أجابته أجابوه وردوا قدحه معهم واستأنفت الإفاضة. ويعد هذا العمل مكرمة لصاحبه الفائز الذي يأبى أن يظفر ذلك الظفر السهل، ويأبى إلا أن يعرض نفسه للغرم الذي جانبه في أول الأمر
ويسمون هذا العمل (التثنية)، وهو الذي عبر عنه النابغة الذبياني بمثنى الأيادي في قوله:
أني أتمم أيساري وأمنحهم
…
مثنى الأيادي واكسوا الجفن الأدما
8 -
وإذا ظهر سهم من السهام الإغفال أمر الرقيب الحرضة بإعادته في الخريطة ومعاودة الجلجلة والإفاضة حتى يظهر سهم ذو حظ
ولا يكف الحرضة والرقيب عن هذا العمل حتى يكون مجموع أنصباء السهام الخارجة عشرة أنصباء على الأقل
الغنم والغرم
ليس نظام الغنم والغرم في الميسر نظاما ساذجا، بل هو نظام محكم يدل على ما كان يتمتع به أسلافنا العرب من ذهن وقاد وفكر ناضج
وإليك بعض النماذج من أقضيه الميسر، وأحكام العرب في مغانمها ومغارمها، وسأعيد هنا ذكر قائمة المغانم والمغارم ليسهل لك عرض تطبيق الأحكام عليها:
أ - صاحب الفذ، ونصيبه في الغنم والغرم (1)
ب - (التوأم، (((((2)
جـ - (الرقيب، (((((3)
د - (الحلس، (((((4)
هـ - (النافس، (((((5)
و (المسبل، (((((6)
ز - (المعلى، (((((7)
(القضية الأولى)
خرج قدح (أ) ثم قدح (ب) ثم قدح (جـ) ثم قدح (د) ومجموع أنصباء هذه القداح عشرة، وبذلك يكون الميسر قد تم فكل واحد من أصحابها يأخذ نصيبه، فيأخذ (أ) عشرا، و (ب) عشرين، و (جـ) ثلاثة أعشار، (د) أربعة أعشار، ويعتزل كل منهم الميسر غانما، ويبقى الثلاثة الغارمون الذين يضمنون ثمن الجزور، وهم (هـ)، و (و)، و (ز). ولنفترض أن ثمن الجزور 72 دينارا، فتفرض عليهم بالتناسب العددي، أي بنسبة 6: 5: 7 فيغرم (هـ) 20 دينارا، و (و) 24 دينارا، و (ز) 28 دينارا
(القضية الثانية)
خرج (ب) و (جـ) و (هـ) فائزين ومجموع حظوظهم 2، 3، أي عشرة حظوظ، وبذلك تم الميسر، فيأخذ كل منهم نصيب ويعتزل، ويبقى الغرم على (أ)، (د)، (و)، (ز) ونسبة مغارمهم 7: 6: 4: 1
ولنفترض أيضا أن ثمن الجزور 72 دينارا، فيغرم (أ) 4، (د) 16 دينارا، (و) 24 دينارا، (ز) 28 دينارا
(القضية الثالثة)
خرج في أول الإفاضة قدح صاحب (المعلى)، ونصيبه 7 فاستولى عليه واعتزل، ثم خرج قدح صاحب (المسبل) وحظه 6 مع أنه لم يبق من أجزاء الجزور بعد المعلى إلا 3 تتمة العشرة، فيأخذ صاحب المسبل الثلاثة الأجزاء الباقية بعد نصيب صاحب المعلى، ويغرم له القوم الذين لم تخرج سهامهم ثمن ثلاثة أعشار الجزور، استكمالا لحظه، وتكون غرامتهم في ذلك متناسبة مع نسبة أنصبائهم في الغنم لو غنموا
ويغرم القوم الخائبون أيضاً ثمن الجزور، متناسبة غرامتهم مع نسبة أنصبائهم أيضاً
وهذا الحكم السهل في أمثال هذه القضية الأخيرة، هو الذي ذكره أبن قتيبة. وإنما يلجئون إليه ويرتضونه إذا لم يمكنهم نحر جزور ثانية
فإذا أمكنهم نحر جزور ثانية فإنهم ينتظرون بسائر القداح لا يخرجون منها شيئا بعد أن ظفر صاحب المعلى، لأنه إن خرج المسبل لم يجد له حظا كاملا، لأن حظه ستة أجزاء، مع أن الباقي من الأجزاء ثلاثة
وحينئذ يقفون الإخراج ويعدون جميع الايسار خائبين، إلا صاحب المعلى، ويلزمونهم الغرم في الجزور الأولى بحسب أنصابهم من جهة، ثم يخلقون لهم جميعا فرصة في جزور أخرى، فينحرونها أعشار، ثم يضربون عليها بالقداح، فإن خرج (المسبل) أخذ صاحبه ستة أجزاء: ثلاثة منها هي الباقية من الجزور الأولى، وثلاثة من الجزور الثانية. فإن استوى ثمن الجزورين كان صاحب المسبل كأنه لم يغرم شيئا ولم يغنم شيئا لأنه غرم ستا وغنم ستا، فتعادل ماله وما عليه
وبقي من الجزور الثانية بعد المسبل سبعة أجزاء، تضرب عليها سائر القداح، فإن خرج (النافس) اخذ صاحبه خمسة أجزاء من السبعة الباقية، فبقى جزءان
وفي هذه الحالة بقي حظه أكبر من الجزءين، وهو (الحلس)، وله أربعة أجزاء، فيعدون صاحبه خائبا في الجزور الثانية يلزمه الغرم فيها بمقدار حظه متضامنا مع سائر الخائبين، فيتيحون له فرصة في نحر ثالثة، فإن خرج غنم أربعة أجزاء: اثنان من الثانية، واثنان من الثالثة، فإن استوى الجزورين كان كأنه لم يغنم شيئا
وبقي من الجزور الثالثة ثمانية أجزاء، يضرب عليها بالقداح من بقى حتى تخرج قداحهم موافقة لأجزاء الجزور، وحتى لا يحتاجون إلى نحر جزور أخرى، استكمالا لنصيب متوقع لأحدهم
هذا الدستور الذي سنه العرب لنظام الميسر، هو كما ترى وليد طباعهم وعاداتهم، ووليد حاجاتهم البدوية
ولا ريب أن (الميسر) كان نافعا للعرب، كان نافعا لذوي الحاجة منهم، لأن العرب في أكثر ما يقامرون إنما يبغون بذلك نفع الفقراء، والتوسع على المحتاجين المعوزين، وقل أن يطعم الايسار من لحم الميسر، وإنما كانوا يفرقونه في البائسين. إلى ذلك ما كان يحدثه الميسر من رواج في سوق الإبل وبيعها وشرائها
ذكر الواقدي أن الواحد منهم ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير، فيحصل له مال من غير كد وتعب،، ثم يصرفه إلى المحتاجين فيكتسب منه المدح والثناء
ولا ريب أيضا أن الميسر كان ضارا للعرب، فهو أكل مال بالباطل، وهو كان يدعو المقامرين كثيرا إلى السرقة واغتصاب الأموال والنفوس، للحصول على فوز رخيص في
ذلك المضمار، وهو كان مجلبة عظيمة للعداوات والحزازات بينهم، التي تثيرها المنافسة وحب الذات. وكانت مجالس الميسر مجالا فسيحا للمنازعات والمهارات، وميدانا خصبا للهجاء والشتم والاقذاع هذا إلى ما يكون من أنفاق زمانهم في سخاء ظاهر، فيما يشغلهم عن غيره من جلائل الأمور، والسعي لاكتساب الرزق من شريف الأبواب
ومفاسد الميسر في عصرنا الحاضر واضحة وضوحا بينا مهلكة إهلاكا للنفوس والضمائر، قاضية على هناءة الأسرةوترابط الجماعة
وصدق الله العظيم إذ يقول: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس)، وإذ يقول:(وأثمهما أكبر من نفعهما)
وقد أتى الإسلام في ذلك بعلاج ناجح، علاج يبحث البؤس من أصله، ويقتلعه من أرومته، هو نظام (الزكاة) تؤخذ من الغنى في رضا من دينه، وتعطي للفقير في كرامة من نفسه
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم). (وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون)
للكلام بقية
عبد السلام محمد هارون
محنة الأدب في مصر
للأستاذ منصور جاب الله
إن محنة الأدب في مصر إنما تتجلى في هذه الضائقة التي يكابدها الأدباء، والأدباء المصريون بوجه خاص، فلقد أتى على مصر حين من الدهر كانت فيه ملتحدا لأدباء العروبة وملاذا للناطقين بالضاد في سائر الأقطار
ولقد أينعت شجرة الأدب في مصر، وتشابكت أغصانها وتهدلت أفنانها ورفت ظلالها حتى كادت تسع الناس جميعا، ثم إذا بهذه الشجرة الفينانه تذوى أغصانها وتتزايل ظلالها فإذا نحن من الأدب في صحراء جرداء
ومنذ بضعة عشر عاما سألنا شيخا من شيوخ الأدب هو المرحوم السيد مصطفى صادق الرافعي عن سبب تمسكه (بوظيفته) الصغيرة في محكمة طنطا، قلنا له: هلا احترفت الأدب وحده؟ أذن لجنيت من ورائه الذهب النضار وضحك الأديب العظيم وهو يقول: هيهات ذهب ما هنالك. . لو اقتصر عملي على الأدب وحده أذن لمت جوعا، ولما كان لي هذا الاسم المدوي الذي يطالعك في الصحف صباحا ومساء!
ولقد حسبنا الأستاذ الرافعي يومها جانحا إلى المغالاة، أو مائل إلى ناحية المزاح حتى قام على ما يقول من صميم الواقع شهيد وبصرنا بأدباء من الفحول قصروا جهدهم على الأدب فكان الجوع لهم مشربا وأداما
وقلنا مرة لشيخنا الأستاذ عبد العزيز البشري رحمه الله وهو في أوج شهرته ومجده: أن أمهات الصحف تتراكض خلفك تستكتبك المقال بكذا وكيت، وعملك الحكومي يحول بينك وبين كثير من وجوه الرأي التي قد لا تأمن حين إبدائها جوانب الزلل، فإذا أنت تنحين عن المنصب الحكومي، أمنت ما كنت تخاف، وأقبلت عليك جميع الصحف مشتاقة تجرر أذيالها
وأطال الشيخ البشري الصمت ثم اقبل علي يقول في مرارة: يا بني إن الصحافة إنما تقبل علي لأنني في غنى عنها، فإذا ما احتجت إليها فسوف تزول عني ازورارا وتنفر مني نفارا. إن الصحافة - مثلها مثل الدنيا - تقبل على من لا يريدها، وتطوي كشحا عن مريدها!
والله لقد صدق صديقنا البشري فيما قال! وإن كاتب هذه السطور لم يتعظ بنصح الخريت المجرب فوقع في المحظور ودفع الثمن باهضا غاليا
وتحرير الخبر أنني حين كنت (موظفا) حكوميا استكتبتني صحيفتان كانت لهما مكانة وكان لهما قراء، وكان الأجر الذي أتتقاضاه منهما مجتمعتين يفوق اجري من الوظيفة فطوع لي ذلك أن أهجر العمل الحكومي - بإغراء من إحدى الصحيفتين - فهل يعرف القارئ ماذا حدث بعد ذلك؟
أدركت الجريدة الأولى أنه لم يعد لي عمل حكومي، وأن ظهري اصبح غير مسنود، فحملتني على ترك العمل بها، ولم آس على ذلك كثيرا لقد كان الأجر الذي أخذه من الصحيفة الأخرى كافيا، بيد أنه لم يمض على هجري الصحيفة الأولى إلا بضع اشهر حتى بدا للجريدة الأخرى أن تستغني عن (خدمتي) وكذلك أصبحت فارغا من العمل في فترة لا تبلغ العام منذ أن استقلت من الوظيفة الحكومية. أدركت عند إذ مبلغ نصيحة الشيخ عبد العزيز البشري من الصدق، وأن الصحافة بالنسبة للأديب إنما هي كالدنيا بالنسبة لرجل الدنيا
وأتلفت اليوم حوالي فأرى جهابذة الأدب أقلامهم معطلة وكان ينبغي أن يغترفوا الذهب من الإناء الذي يضيق دونهم ويتسع لصعاليك الصحافة على حد تعبير المرحوم الأستاذ مصطفى الرافعي، أو هلافيت الصحافة بتعبير الأستاذ العقاد!
ولو كان للأدباء حظ، أو لو كان للأدب ذاته كيان مادي لاعتمد على هذا الكيان أمثال العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم فإن الأدب الصحيح كان خليقا أن يحمل على متنه هذا الثالوث العظيم فلا يحتاج الأول لأن يكون عضوا في الشيوخ ولا يحتاج الثاني لكي يكون وزيرا ولا يحتاج الأخير لكي يكون مديرا لدار الكتب،
إن الأدب لم يستطع أن يحمل هؤلاء الأدباء الأفذاذ في سفينته الجارية، بله أدباء الدرجة الثانية، وأدباء الطبقة الثالثة ومن دونهم
والصحافة الآن هي الوسيلة لنشر الأدب، ذلك لأن الجريدة اليومية أو المجلة الأسبوعية تكون عادة في متناول العامة لرخص ثمنها، وليس كذلك الكتاب الذي لا بتداوله في العادة إلا خاصة المتأدبين، ولكن الصحافة جنت على الأدب، أو جنت على (فنيته) كما قال
الرافعي، فلم يعد الأديب هو الذي يوجه القارئ كما كان الأمر من قبل، وإنما صار القارئ وصاحب الصحيفة هو الذي يوجه الكاتب الأديب، فقد أمست الصحف مثل حوانيت البادلين والبزازين يقبل عليها (الزبائن) بمقدار ما فيها من تزويقات ومظاهر خلابة لا غناء فيها ولا طائل من ورائها، ذلك لأن قارئ اليوم لا يحب الدسم ولا الطعام المركز، وإنما هو يقنع بالشطائر الخفيفة وإن كان ضررها على الصحة بليغا، ونقصد بالصحة صحة العقل والذهن ذلك لأن جيل هذه الأيام إنما يعني بصحة الأجسام ويطرح صحة العقول؟
وكذلك انحطت الصحافة بالأدب والأديب الناجح هو الذي يجاري الجمهور ويتملق غرائزه، فإذا عدمت الجريدة هذا النوع من الأدباء فإنها لا تعدم (المخبر) الذي يجيء كل يوم بأبشع أحداث الجنايات، وأطرف أخبار الطلاق
أني لأذكر أن أديبا نابها انتسب إلى إحدى الصحف، وسمعت أحد المعلقين يقول: إنه لا يصلح لهذا العمل، فتساءلت لماذا؟ فقيل لي: لأنه أديب - كذا والله! - فهتفت: يا قوم أفيكون المقتضى مانعا؟ ولقد كان الأمر كذلك في الواقع، فلم تمض إلا بضعة أشهر حتى استغنت الصحيفة عن الأديب المشهور واستعاضت عنه بشاب أُمي لا يحسن القراءة والكتابة ولكنه أخصائي في أنباء الفضائح والتشهير والتشنيع!
ومنذ أشهر أتصل بي أن أديب لامع الاسم موفور الكرامة سوف يعين رئيسا لتحرير إحدى الجرائد، فاستبعدت الخبر قياسا على ما علمته من التضاد بين الأدب والصحافة، وصح حدسي، فإن أديبنا سئل في ذلك فأجاب ونعم ما أجاب (أن الصحيفة التي أكون رئيسا لتحريرهالم تخلق بعد) ذلك لأن الصحافة لا تبغي أن يديرها الأدباء، وإنما تريد أن يكون الأدباء تبعا لها وصدق حدسي مرة أخرى حين اختارت هذه الجريدة لرياسة تحريرها صعلوك من صعاليك الصحافة!
أما بعد، فإن الأدب في مصر يعاني اليوم محنة بالغة الشدة. ولست في هذا متشائم، ولا أحب أن يشيع الشؤم، وإنما أريد أن ابصر رعاة العهد الجديد المجيد بحال الأدب الذي هو عماد كل أمة، فالأدب هو ضرام الثورة وشعارها، ولو بقيت سوق الأدب على كسادها، وانصرف الأدباء عن غشيانها، فقل على الأمة العفاء ثم العفاء!
منصور جاب الله
ذكرى الشاعر
صالح علي شرنوبي
للأستاذ محمد صبري علي سليم
كان لزاما علي أن اكتب هذه الكلمات بعد أن صرنا على بعد عام من مصرع شاعرنا الشاب صالح علي شرنوبي. . ففي مثل هذه الأيام عام مضى، صعدت روح صالح إلى بارئها أثر حادث أليم
. . . كان صالح رحمه الله شاعر مرهف الحس، مشبوب العاطفة، قوي الإحساس، ولقد عرفته طالبا بالقسم الثانوي بمعهد طنطا - وإن لم أره - وكنت حينئذ طالبا بالقسم الابتدائي في نفس المعهد. عرفته من قصائده الحماسية التي كان يطالعنا بها في مجلة (الفكر الجديد) وكان يصدرها في ذلك الوقت الأستاذ حلمي المنياوى. وذات يوم بحثت عن المجلة فلم أجدها، ولما تساءلت عن احتجابها علمت أن الرقابة صادرتها لأنها نشرت قصيده ثائرة لصالح. وبعد ذلك بأيام توقفت المجلة عن الصدور، لأن ولاة الأمور وقتذاك زعموا أنها تحض على المبادئ الهدامة. . وظللت بعد ذلك أقرا لصالح في مختلف الجرائد والمجلات، وكان إعجابي به يزداد كلما قرأت له. . ذلك لأنه لم يكن شاعرا كبقية الشعراء، بل كان له مذهب خاص في الشعر. استمع إليه في قصيدة (أختي) حينما يصور لك حياة أخته البلهاء التي جنت عليها الأقدار فحرمتها نعمة الإدراك:
وتقول أمي حين تلقاك
…
يا ليت قلبي ما تمناك
أو ليت مهدك كان مثواك
لك في بنات الحي أتراب
…
عرسانهن لهن أحباب
فأقول والمقدور غلاب
قد خانك أنت الحظ يا أختي
فهل رأيت شاعرا بلغ في دقة التصوير والتعبير ما بلغه صالح؟ لقد كان ذات ليلة في نقابة السينمائيين، ونظر حواليه فرأى امرأة في خريف العمر تجلس وحدها مطرقة مفكرة. ولما سأل عنها قيل أنها كانت في ربيع عمرها تلعب بقلوب الرجال، أما اليوم فليس فيها ما يسر العيون. وراقبها صالح مدة، ثم كتب قصيدة (أطلال راقصة) التي يقول في مطلعها:
أطرقي أطرقي فقد ضمك اللي
…
ل وألقي عليك ثوب ظلامه
إلى أن يقول:
لم يعد فيك ما يسر العيونا
…
فاعذري العابثات والعابثينا
وإذا أيقظت شجونك حورا
…
ء وأوحت بقبحك الشامتينا
فاسخري من جمالها وصباها
…
واحقريها بكثرة العاشقينا
أو عظيها فرب شيطانة منكن قالت فأبكت الواعظينا
وفي قصيدته (أشواق الربيع) تراه يخاطب تلك المجهولة ويسألها أن تعود إليه، فهو غريب القلب والدار فيهتف:
تعالي يا ابنة الأحلام يا مجهولة الذات
تعالي يا ضياء لم ينور أفق ليلاتي
تعالي نجمع الماضي الذي راح إلى الآتي
تعالييا غراما تاه في دنيا الصبابات
تعالي طهري بالحب آثامي وأوزاري
تعالي فأنا وحدي غريب القلب والدار
طريدا مثل أحلامي شريدا مثل أفكاري
ويلح عليها أن تسرع بالعودة إليه، فقد يخنقها الترب ولم يتمتعا بالحياة، فيكرر هتافه:
تعالي نخلق الحب فقد يخلقنا الحب
فقد يخنقنا الترب ولم نعشق ولم نصب
وتراه ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضا، ويلغ بعضهم في دم بعض، فيشمئز ويتألم ويثور، وتتمثل ثورته في قوله من قصيدة (السراب الخالد):
وحوالي من بنى الطين أشباه قطيع مشرد في يفاع
دمهم ماؤهم وراعيهم الذئب وأعراضهم سفوح المراعى
ويحزنه من بنى الطين أنهم لا يحسون الجمال ولا يتذوقون الحسن فيقول:
كلما رن مزهر أو شدا شاد أعاروه ميت الأسماع
ألهذا القطيع أنفق أيامي وتفنيني الليالي الحزينة
ألتلك الأيام أسحق عمري وأغنى ألحاني المفتونة
وهو يذكر بالخير جميع الناس، حتى أولئك الذين التفوا حوله يوم أن ابتسمت له الحياة فاخلص لهم، ثم تنكروا له وانفضوا من حوله عندما تنكرت، له فهو متسامح أبدا لا يعرف قلبه البغضاء، يتجلى ذلك في قوله:
أيها الراحلون عني رويدا
…
فمن الهجر ما يكون حراما
كنت يوما وكنتمو ثم شئتم
…
ما أراني قبل الختام الختاما
لم يعد لي من حبكم غير أحلام صداها يشتت الأحلاما
ذكريات أبكي لها وأغني
…
وهي لي بعدكم هوى وندامى
سوف أحيا لكم فإن مت يوما
…
فاحفظوني فقد حفظت الزماما
فبوركت يا صالح إنك فنان ملهم. .
لقد عشت مخلصا لفنك كل الإخلاص، وفيا له كل الوفاء. . ففي سبيل الله تلك النفس الطاهرة الكريمة التي ما حملت في حياتها حقدا لإنسان. . ويا دولة القريض العزاء
أخي. . عزيز علي أن أكتب في يوم ذكراك، وقد كنت أود أن أكتب في يوم زفافك ولكن. . ولكن هكذا شاءت الأقدار. . على أن مما يعزيني أن شعرك سيظل خالدا على ممر الأيام، ينير الطريق للمدلجين الحائرين
أخي. . طبت في مثواك، وسقى الله ثراك، وسلام عليك في الخالدين
محمد صبري علي سليم
سليمان العبسي في ديوانه (مع الفجر)
للأستاذ أحمد فخري
هذا البلبل الصداح في جنائن الهوى يشدو تارة ويشكو طورا، ولكنه في كلتا الحالين لا يستطيع إلا أن (يغني) ألحان الحياة، وما الحياة أن لم تكن نشوة حب، وخفقة قلب، أو لوعة تبعثها اللهفة إلى تلك النشوة، والحنين إلى ذلك الخفقان؟
أنا أهوى الألحان نبض حياة
ودموعاً. . . طروبة العبرات. .
وجراحاً. . . تلف بالبسمات
لا نواحا ميتا. . . على أموات
لا عيوناً تسيل فوق الرفات
أنا أهوى على رنينك عودي
أن أحس اختلاجه الجلمود
ولو شئت أن أطوف بك في رياض هذا الهوى - رغم صغر حجم الديوان - لطال بنا المطاف ولتحيرت والله أين أقف بك، ولكن حسبنا هذه البقة ففيها من الشذى والحسن ما يدلك على نضارة رفيقاتها وجمالهن. ولقد رأيت معي كيف نسقها صاحبها وكيف رسم فيها من (الحضري) العف صورة لأنبل العواطف وأرقها وأعنفها وأوسعها حتى لكأن الكون كله محب وحبيب. . .
وهذه سمة الشاعر العبقري الذي يتصل في وجدانه بأرحب ما في العالم ويحلق بخياله إلى أعلى ما في السماوات، ينهل من معين جمالها ويرشف من خمر ثنائها ويبادلها حبا بحب، فيسكب عليها من فؤاده من ينطق الجامد منها حتى لكأن هذا الوجود كله قلب ينبض وكبد تهفو وعاطفة تتأرجح، وهو يجيد تصوير الطبيعة ولكن لا بالألفاظ الجوفاء والصور الجامدة وإنما هي في ريشته إنسان يحس ويحب، ويسعد ويتألم. . وستخلد الطبيعة وستخلد معها صورها الرائعة هذه. .
أنشد معي هذه الأبيات:
الصخرة الغرقى بأحلامها
…
تحس مثلي وحدة قاتلة
هذي خطانا لم يزل وقعها
…
وشوشة في سمعها ماثلة
تسألني الصخرة يا طفلتي
…
عنك وترتد معي ذاهلة
ألم نكن نرسو على شطها
…
طفلين مثل النغم الشارد
في قبلة حالمة إن أضع
…
وإن تضيعي فعلي ساعدي
تبارك الحب فكم أرعشت
…
يمناه. . قلب الحجر الجامد. .
واسمعه يرثي العندليب ويشكو مع الروض فقدانه. .
الوردة الحمراء. . . يا طائري
…
تشكو إلى الأنسام أشواقها
عاشت على ترجيعك الساحر
…
قد فتحت للنور إحداقها
تلك شظايا قلبك الشاعر
…
تخضب بالحمرة أوراقها
على دم المبدع والثائر
…
تركز أورد الربى ساقها
سلها أتحلو رقصة أو يطيب
…
بعدك لحن للهوى والنسيب؟
ستهمس الوردة: أين الحبيب
…
ويهتف الغصن وما من مجيب. .
ما ضر لو غنيت حتى المغيب
…
يا شاعر الأطيار يا عندليب؟
كنت إذا ما الفجر لف الظلام
…
بالشفق الوردي. . فوق الربى
رقرقت في سمع الزهور النيام
…
من اللحون. . المعجب المطربا
فاستيقظ الوجد، وأج الغرام
…
في كل قلب نابض بالصبا
أين الأغاريد وأين الهيام
…
إني أرى روض الهوى مجدبا
أعد إلى هذا الوجود الكئيب
…
بنغمة، برد الشباب القشيب
ما حطمت لغز الوجود الرهيب
…
إلا يد الفنان، يا عندليب
ما ضر لو غنيت حتى المغيب؟
هذا هو حب سليمان، وهذا هو غزله. نفس مرهفة الشعور، وعواطف كريمة يصوغها بأرق أسلوب وأمتنه، وذلك من الصعوبة بمكان! إذ لا تكاد تتيسر هذه السلاسة وهذه العذوبة في هذه القوة ألا لقليل من كبار الشعراء. . . .
وأما المعاني والصور الفنيةوالتجارب النفسية فما أخالك إلا معي في الإعجاب بهذا الخيال الخلاق الذي صورها فاحسن تصويرها. ولكأنه والله حين يستعمل الكلمة يخلق لها معنى
جديدا أخاذا، يزيده روعة هذا الجرس الموسيقي الساحر، هو بحق من أكثر الأدباء سيطرة على اللغة وقدرة على التلاعب بالألفاظ، حتى لكان اللغة - كما يعبرون - قد أسلمته قيادها فلحنها أنغاما طروبة افتن ما تكون في (موشحاته) المرقصة التي انفرد بها وحقق للأندلسيين ما كانوا يرنون إليه. . . ولا حاجة بنا إلى الاستشهاد ففي ما عرضنا الكفاية. ولنختم حديثنا عن هذا (الغرض) بهاتين الصورتين القريبتين البعيدتين لتدرك كيف تمر الحقائق الجانحة بخيال الشاعر فيخرجها حية ناضرة مفعمة بالحرارة، مترعة بالظرافة الخفيفة الفطرية التي لم تستطع تلكم العواطف الصاخبة رغم تأججها، أن تخفي حلاوتها ومرحها: -
أين حقل مائج الزهر ظروب
…
نتخطاه وقد مال الغروب؟
ونسيم الريف مغناج لعوب
…
يلمس الغيمات لمساً فتذوب!
طفرت بين الشجيرات القلوب
انبرت تملي على الزهر كتابا
…
من سرور. . وهو يفتر جوابا
حسناء. . إن تبعدي عني فما غربا
…
صوت طروب، وثغر باسم، وصبا
وخفة من فؤادي. . خلتها لعبا
…
حتى إذا أفهمتني أختها السببا
أيقنت أن الذي غالبته غلبا!
وأما المضمار الواسع الثاني، والذي استأثر بأكثر اهتمام شاعرنا الفتى فهو مضمار البطولة، مضمار الوطنية المشبوبة
صبى صغير، يرتع ويلعب على ساحل الأبيض المتوسط، تدغدغه الأمواج، وتداعبه النسمات، ثم لا يلبث فجأة أن يجد الغاصب المتعسف ينهب وطنه، ويستأثر بملاعب صباه، ويشرد أهله ويسلبهم أملاكهم. . ويتشرد هذا الصبي مع المتشردين. . ويترك وطنه مع اللاجئين. . وفي فؤاده نار. . وفي عينيه دمعة أبت عليها حرارة الزفير أن تسيل. . هذا الصبي الملتاع يشب وتشب معه مآسي وطنه فهو أينما تلفت فعلى لواء مسلوب أو وطن موطوء، وهو أين ألقى بطرفه - فعلى نصل تغذيه (صلة) رقطاء
ليت شعري بعد هذا كيف تخبو هذه الشعلة في فؤاده وكيف يلطف هذا السعير في عروقه؟ لقد صهرته النكبات أذابته النوائب، وصاغته الأعاصير نشيدا عاصفا ولحنا ملتهبا، ويهتف
بالضاد ليله ونهاره، ولا يعرف مللا. . ولا يكاد يشغله عن مآسيه فيه مؤاس حتى ولو كان حبيبه ومالك قلبه
هذا هواي. ولن أفنى به شغفا
…
مهما استبد ومهما في دمي عصفا
قد كان حسبي. . لولا أن لي هدفا
…
عاهدت يوما عليه النبل والشرفا
حسناء. . قد سارت الدنيا وقد وقفا. .
شعبي تمزقه (أطماعهم) شعبا. .
…
فهل تلومين ذا روح إذا غضبا؟
فما هو ألا زفرة موتور يريد الانتقام والآثار، وهو لو حبسها لأصلته سعيرا: -
ما أردت القريض، إن هي إلا
…
عاصفات جنت على قيثاري
ثورة. . لو حبست عودي عنها
…
حطمت أضلعي مع الأوتار. .
وأين لليأس في هذا القلب الثائر مكان؟ وهو كلما اشتدت به الزعازع فحسبه أن يلقي نظرة على الماضي وأن ينصت إلى دمه النقي ليتفجر بركانا يكتسح اليأس ويضيء أملا. .
لفتة يا خيال. . نستلهم الماضي
…
ونسكر على صدى التذكار
لفتة نشهد (الجزيرة) نشوى
…
من سلاف الرسالة المعطار
أنفضي الموت. . أنت أخصب من أن
…
تقفري من مواكب الأحرار. . .
وافتحي للصباح جفنك يا صخراء. .
…
هذي زماجر (الثوار). . .
سيعود الوجود يوما إلى الرشد
…
على صوت لجك الهدار. . .
وسيظل يهزج حتى تتحرك الصحراء وينتفض الرمل: -
وأهزج يا صحراء حتى تحركي
…
وحتى تهز الليل أنشودتي البكر
كفى ألماً أن تحمل القيد أمة
…
ولا يشتكي سوط العذاب بهاجر
قوافل تمضي من مهازيل أمتي
…
يسيرها ناب، ويحدو بها ظفر. .
يمر بنا التاريخ غضبان ساخرا!
…
ويمضي بنوه خاطفين، وننجر
قوافل من بيض العبيد كأنما
…
على روحهم قفل، وفي سمعهم وقر
إذا أنت ناشدت المروءة فيهمو
…
تملكهم من طيفك الرعب والذعر
سأهزج يا صحراء ولتمض صيحتي
…
إلى كل رمس بات يرقبه الحشر. . .
أيغمض كف الموت جفني وليس في
…
بلادي شبر لم نحرره أو متر؟
وأي لوعة مشبوبة في هذا البيت الأخير؟ ولكنها ما إن تشتكي حتى يهدهدها الأمل ويطمئنها الشباب:
شباب يغذيهم هوى، وعقيدة
…
ويجمعهم هم، ويخفرهم ثأر
لنا المجد، إن نرقد عيون حماته
…
فمن دم أحفاد الحماة له مهر
إذا لم نعش للرائعات من العلى
…
فلا خط في سفر الحياة لنا سطر
أرى وطن الأحرار قد طال ليله. .
…
غدا يشرق الصبحان: ألبعث والفجر
البقية في العدد القادم
أحمد الفخري
رسالة الشعر
شعب يتحرر
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
مرت على تحريرك الأيام
…
وغداتمر بذكرك الأعوام
يا أيها الوطن العزير تحررت
…
بالجيش فيك مواكب وزحام
كانوا على ظلم الطريق جماعة
…
قد هدها الإعياء والإظلام
يتخبطون على ظلام دامس
…
لم تتضح في ليله أعلام
مشت المظالم فيه وهي كثيفة
…
وسرى الفساد إليه وهو قتام
واندك من صرح الفضائل حائط
…
وانهد من أركانهن دعام
وجرت أمور بالبلاد عظيمة
…
ومشت خطوب بالبلاد جسام
ضاقت بأحرار النفوس صدورهم
…
وتحطمت بمدادها الأقلام
فالهجس حتى في الضمير محرم
…
والهمس حتى بالشفاه حرام. .
وبدا الصباح على البطاح مضوئا
…
فإنجاب منه عن البلاد ظلام
هي آية لله وهي رعاية
…
قدسية قد حفها الإكرام
هي ثورة بيضاء لم يهرق دم
…
فيها ولم تسكب بها آثام
تركت بناء البغي وهو مصدع
…
دكت قواعده فليس يقام
دهمته وهو يظن أن مناله
…
فوق الظنون فما له استسلام
أرخت له الأيام في طغيانه
…
يا ويل من أرخت له الأيام
ظن الحوادث عنه نائمة ولم
…
يعلم بأن الله ليس ينام
وبنى على الإفساد حائط ملكه
…
هل للبناء على الفساد دوام؟؟
يا مطلع التحرير وجهك ضاحك
…
والصبح مؤتلق به بسام
بك أنقذ الله البلاد فلم يعد
…
في حكمها ظلم ولا إجرام
تمشي العدالة فيك وهي حقيقة
…
ويسود فيك الحق وهو قوام
ومضى بموكبك الفساد وعهده
…
وتحطمت بقيامك الأصنام
وعنت وجوه الظالمين لواحد
…
تعنو الجباه له وتحنى الهام
الله جل جلاله متجبر
…
والحاكمون بأمرهم أقزام. . .
ولى زمان الطامعين ولم يعد
…
يا مصر للإقطاع فيك زمام
لا عاد عهد لم تكن تجري به
…
بالعدل أرزاق ولا أقسام
قد أتخمت فيه بطون جماعة
…
مصوا دماء الكادحين وناموا
رقدوا على شهواتهم وتنبهوا
…
فكأن ذلك كله أحلام
أعمتهم الشهوات عن أقدارهم
…
فهم الأناس وغيرهم أنعام
يا أيها النوام في غفلاتهم
…
الجيش قام فأوقظ النوام
واعشوشب الأمل الجديب وأخصبت
…
أرض بها قعد الطغاة وقاموا
وتفتحت آمال شعب مثلما
…
يفتح النوار والأكمام
وتصححت أوضاع جيل ناهض
…
جارت على آبائه الأحكام
وبدت على الوطن المريض نضارة
…
من بعد ما فعلت به الأسقام
تمشي الكرامة فيه وهي عزيزة
…
ويرد فيه لأهله الإكرام
يا عهد تحرير البلاد وطهرها
…
منا إليك تحية وسلام
لك في الضمير مكانة مرموقة
…
لك في النفوس رعاية وذمام
عهد تميزه الفعال فلم يعد
…
فيه لتزويق الكلام مقام
يزدان بالتنفيذ في أفعاله
…
ويشده التصميم والإقدام
قل الكلام به، وخير حكومة
…
ما قل فيها بالوعود كلام
مشت الخطى فيه سراعا مثلما
…
تمضي إلى غاياتهن سهام
بوركت من جيش تبارك خطوه
…
وتحركت برجاله أعلام
قاموا على أعقاب ليل هادئ
…
والحاكمون الظالمون نيام. .
غضبوا فضج الكون من غضب لهم
…
واهتزت الأفلاك والأجرام
وتهدمت للظالمين منازل
…
وتقوضت للمفسدين خيام
وجلا الصباح الكون أعظم جلوة
…
وعلا النشيد كأنه أنغام
والجيش سباق إلى أهدافه
…
متحرر برجاله مقدام
فيه الشباب الملهمون كأنهم
…
يحدوهمو في الثورة الإلهام
خطواتهم يصغي الزمان لوقعها
…
ويسجل التاريخ والأهرام
يا جيش مصر ويا محرر نيلها
…
لك في النفوس الحب والإعظام
أنقذت مصر من الفساد فلم يعد
…
فيها لدولات الفساد قيام. .
محمد عبد الغني حسن
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
الأدب الرمزي
يزور مصر الآن السيد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية علماء الجزائر. وقد اجتمعنا به ندوة الشورى مع طائفة من الشخصيات العربية والمصرية منها السيد القضيل الورتلاتي والكولونيل عبد الله التل والسيد الوزاني الزعيم المراكشي والأستاذ الشافعي اللبان والسيد محمد علي الطاهر صاحب الشورى ودار الحديث حول ما تقوم به جمعية علماء الجزائر من نشاط في سبيل نشر العلم والثقافة بالوسائل الشعبية في الجزائر، وقال السيد الإبراهيمي إن هناك 400 مدرس هم مجندون لتثقيف الشعب، وإنهم أشبه بالعباد المتجردين في سبيل أداء هذاالواجب المقدس
ومما يذكر أن جمعية العلماء التي أنشأها السيد علي عبد الحميد أبن باديس وخلفه على قيادتها السيد الإبراهيمي بعد وفاته، هي إحدى الدعامات الضخمة القوية التي أفزعت الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا وأقضت مضجعه
فقد عملت هذه (الحركة) منذ فجر نشأتها على مقاومة البدع التي انتشرت في المغرب وأعان عليها الاستعمال، ودعت إلى العودة إلى الإسلام في متابعة الأولى؛ ووقفت للطرق الصوفية بالمرصاد على أساس أنها مصدر الشر والستار الذي يخفي خلفه الاستعمار ويتخذ منه سبيله إلى تفسير بعض الآيات القرآنية التي تدعو إلى طاعة الله ورسوله وأولي الأمر تفسيرا خاطئا
ولقد تطرق الحديث إلى (الوسائل) التي يستطيع بها رجال جمعية العلماء إعلان آرائهم دون أن يقف الاستعمار في وجههم، فقال لنا السيد البشير الإبراهيمي إن الأدب الرمزي هو الوسيلة الوحيدة لهذا وإنه قد ابتدع لونا من فنون الأدب هو (سجع الكهان). . . استطاع عن طريقه أن يفصح عن كثير من آرائه الجريئة الحرة في الكثير من المسائل والأشخاص. وكانت جريدة البصائر التي تصدر في الجزائر ميدانا لهذا اللون الجميل من الأدب
وقد روى لنا أكثر من أرجوزة من هذا السجع، صور فيها رأيه من كثير من القضايا
العربية والإسلامية ما كان من المستطاع الإشارة إليها عن طريق الكتابة العادية
وليس من شك أن اللغة العربية كانت خلال حياتها الطويلة ظهيرا لأصحاب الآراء الحرة في إذاعة آرائهم وتسجيلها عن طريق الأدب الرمزي في الأوقات التي كان يحال فيها بين الأحرار وبين إعلان آرائهم عن طريق الكتابة الصريحة. .
وليس قصائد اللزوميات التي أنشأها المعري، وليست رسالة الغفران والفصول والغايات جميعها إلا من هذا الأدب، وقد كان صاحبها لا يستطيع أن يقول للناس كل شيء في صراحة فكان يضمن شعره هذه المعاني ويدعها ليفهمها من يفهمها على الوجه الذي يريد
وليس كتاب البخلاء وغيره من آثار الجاحظ إلا (أدبا رمزيا) قصد به الجاحظ إلى تصوير بعض الشخصيات التي كانت تعيش في عصره، لم يكن يستطيع أن يجهر بهجائها وإعلان الخصومة لها فوجد في هذا الأدب الرمزي كثيرون من الكتاب في عصرنا الحديث في مقدمتهم الدكتور طه حسين وهو يقول في مقدمة كتابه (المعذبون في الأرض) الذي صدر أخيرا
(هذا الأدب الجديد الذي أنشأته حكومات الطغيان إنشاء حين اضطرب الكتاب إلى العدول عن الصراحة إلى فنون من التعريض والتلميح. ومن الإشارة والرمز، حتى استقل هذا الأدب بنفسه وتنافس القراء عليه تنافسا شديدا، وجعلوا يقرءون ويؤولون، ويناقش بعضهم البعض في التأويل والتحليل واستخراج المعاني الواضحة من الإشارات الغامضة. وأنظر إلى ما نشر صاحب هذا الكتاب من جنة الشوك وجنة الحيوان، ومرآة الضمير الحديث، وأحلام شهرزاد فلن ترى ألا رمزا لمظاهر كنا نبغضها ولا نستطيع أن نتحدث عنها في صراحة أثناء تلك الأيام السود: فكنا نؤثر الغموض على الوضوح، والرمز والألغاز على تصريح، والإشارة والتلميح على تسمية الأشياء بأسمائها وكانت حكومات ذلك العهد ورقابتها تقرا فلا تفهم فتخلى بين الكتاب وما يكتبون، وتخلي بين القراء وما يذاع فيهم من ذلك الأدب الجديد)
اللهجات العربية
ومما دار من حديث في ندوة (الشورى) ما أثاره الأستاذ الشافعي اللبان من أنه كان خلال فترة الصيف في جينيف لا يفهم كثيرا اللهجات العربية المغربية، ومما قاله في هذا أنه
استمع إلى بعض أهالي المغرب وهم يتحدثون، فوجد أنه لا يستطيع أن يفهم منهم كثيرا مع أنهم يتكلمون باللغة العربية وكان يسأل في هذا السيدين الوزاني والفضيل
وقد أجاب الأستاذ الفضيل على هذا بأن في اللغة العربية كلها حوالي 150 كلمة هي التي تحول دون فهم أهالي البلاد العربية بعضهم بعضا وهي ليست كلمات عربية بالطبع، وإنما هي كلمات عامية أو لهجات
وبينما يعتبر المغربيون أنفسهم يتكلمون اللغة العربية الخالصة، لا يجد المصريون الذين هم في مثل ثقافة الأستاذ الشافعي اللبان قدرة على فهم الكثير من أحاديث أهل المغرب، ومثل هذه المشكلة تقع بالنسبة للمغربي والشامي أو بين المصري والعراقي
ومما قاله السيد الفضيل الورتلاني: أنه أحصى أثناء أقامته في بيروت حوالي 60 كلمة (لبنانية - سورية) هي الحائل بين فهم المغاربة للهجات الشوام. وكذلك في لغة المغاربة حوالي 40 كلمة؛ فلو أن كتابا وضع في بيان هذه الكلمات وشرحها والتقريب بين المتشابه منها في اللهجات المختلفة لامكن تضييق شقة هذا الخلاف اللغوي ولأصبح العراقي مفهوما في المغرب والمغربي مفهوما في مصر
محمد فريد (المؤرخ)
في الأسبوع الماضي، كان موعد ذكرى محمد فريد (قديس الوطنية المصرية) كما أطلق عليه ذلك الأستاذ عبد الرحمن الرافعي المؤرخ الكبير، وفريد خليق حقا بهذا اللقب فقد ضحى في سبيل بلاده بكل شيء وكان علما خالدا على التضحية في تاريخ مصر والشرق جميعا
. . . ولكن (محمد فريد) يدخل في هذه الصفحة أيضا من باب الأدب، فقد كان كاتبا من أعلام الكتابة والبيان، ومؤرخا غاية في القوة والتثبت والوضوح وهي أبرز علامات الكاتب الناضج والمؤرخ المنصف
حدثني أول أمس الأستاذ محمد علي الطاهر المجاهد العربي وصاحب الشورى، وقد رأيت معه كتابا ضخما يعني بتجليده، وتغليفه ويبذل في ذلك جهدا كبيرا؛ فلما سألته عنه قال هذا كتاب قرأته في خلال ثلاثين عاما، مرتين. . وأنا أقراه اليوم للمرة الثالثة
قرأته سنة 1922 في طبعته الأولى وسنة 1935 في طبعته الثانية وأنا اليوم إقراء طبعته
الثالثة، إنه كتاب الدولة العثمانية الذي آلفه قديس الوطنية المصرية محمد فريد وهو من أوفى الكتب التاريخية في هذا الباب
وذهب الأستاذ الطاهر يصور الكتاب ومؤلفه في صورة رائعة حية، تدل على مدى تقديره لهما
وإذا ذهبنا اليوم نسأل عن محمد فريد في محيط الحياة المصرية لم نجد له اثر! فها هي ذكراه تمر، لم يكتب فيها ألا فصل واحد في جريدة اللواء الجديد
وإذا أخذنا ننظر إلى مجموعة التماثيل المنثورة في أنحاء القاهرة لم نجد بينها مع الأسف تمثالا لهذا الزعيم الوطني، بينما نجد تماثيل لآخرين كانوا ولا شك أقل منه وطنية وبطولة وتضحية
وإنا لنرجو في هذا العهد الجديد أن يتاح لهؤلاء الأبطال أن يستردوا ما فقدوه خلال عهود الظلم القديمة. . . من مكانة هم جديرون بها وخليقون أن يوضعوا فيها بعد أن اعتدلت الموازين
أنور الجندي
البريد الأدبي
ضيف كريم
يزور القاهرة اليوم الكاتب العالم الخطيب شيخ علماء الجزائر ورئيس تحرير البصائر الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي وهو في طريقه إلى أقطار الشرق الإسلامي ليلقى رجاله ويدرس أحواله. وقد تفضل الأستاذ فزار إدارة الرسالة فانسنا بلقائه ونعمنا بحديثه والرجل أحد الآحاد الباقين الذي يكتبون لغتهم بأسلوب رصين، ويبرزون فكرتهم في صورة أنيقة، وهو عميد جمعية العلماء الجزائريين وطريقتهم إلى الإصلاح والجهاد بما أوتي من صدق أيمان وقوة بيان ووفرة علم. ولولا هذه الجمعية لفتنت الجزائر عن دينها ولغتها ووطنها، فهي في جانب والاستعمار في جانب، والجانبان يتنازعان الأمة الجزائرية كل إلى جهته. وليس بين المتنازعين تكافؤ في المادة والوسيلة. فإذاقبضنا أيدينا عن مؤازرة هذه الجمعية ساعدنا المستعمرين على أن ينصّروا المسلمين ويبربروا العرب. ولعل الأستاذ الفاضل يكتب كلمة عن هذه الجمعية في الرسالة؛ فإن أكثر الناس عنها شيئا
إلى الأستاذ رئيس التحرير
قرأت في نشوة (نصيب قريتي من الثورة) وكنت من قبل قد قرت في وحي الرسالة نصيبكم من الإصلاح، ففي (وصف مآسي قريتكم من القرى، وأمتكم من الناس، وصفا مداده الدمع وكلماته الأنين) وإن فيما حفزتم به المستنم على اليقظة، والتوكل على العمل، والجازع على الصبر، والقلق على الاطمئنان، أن في كل ذلك وفي غير ذلك من آثار قلمكم - لخيوطا من سدى الثورة ولحمتها
ولئن لم ترى العين اليوم من الثورة غير جملتها فإن نسيجها كان بأيد مختلفة قدر لها أن تأتلف، وفي المأمول أن لا تعود فتختلف، ومن ثم كانت ثورة الجيش ثورة الأمة وكان لكل ذي نفس حساسة فيها نصيب
ولئن كنا في البداية من ثورة، نصيبكم فيها المساهمة في إعزاز الذليل وسيادة الرقيق وتمليك الأجير، فأحر بكم أن تدأبوا
- وقد حثثتكم على الدأب - ولا تحرموا الرسالة في بعض أسابيعها من بسمات في مكان سوابق الدمع. وضحكات في موضع سوالف الأنين
لقد كان لانقطاعكم أحيانا عن الكتابة عذره العاذر فليس بالمغري وصف المفاسد والمخازي، وليس بالمشجع أيقاظ النيام. ولقد وعدتم مع بداية النهضة بتجديد الرسالة في الشكل والموضوع والتحرير والحجم لتساير العهد الجديد الذي بدأته مصر في الثقافة والحضارة، كما عدتم بعودة الرواية أقوى مما كانت عليه - جمال أسلوب - وحسن اختيار - فهل ينطوي تحت هذا الوعد استمراركم على موالاتها بما ينتظره القارئ منكم. وما يرجوه لكم من صحة وعافية
وبعد فلغيركم يقال
علام أقول السيف يثقل عاتقي
…
إذا أنا لم أنزل إذا الحرب شبت
أما انتم فقد شبت الحرب وأنتم في ميدانها صائلين جائلين معقودا لكم لواء من ألويتها
وما انتهت بعد المعارك ومعاذ الله أن نرى ولو في خلال أسبوع من بين أسابيع من ينجو برأس طمرة ولجام - ولو أن رأسه رميت بأشقر مزيد)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإسكندرية
أحمد عوض
(الرسالة) اشكر للسيد الفاضل جميل رأيه وحسن توجيهه، وأدعو الله على أن يعينني على تنفيذ ما أراد، وتحقيق ما أمل
ضبة - جبة
علق كاتب حذر - في العدد 1007 الصادر في 30 محرم سنة 1372 من مجلة (الرسالة) النيرة على علمين من أعلام الأمكنة في بلاد العرب وردا في مقالي عن كتاب (معجم ما استعجم) يطلق أحدهما على بلدة واقعة في شمال الحجاز على بحر (القلزم) باسم (البحر الأحمر) والثاني منهل من أعرف مناهل نجد بين بلدتي حائل والجوف (دومة الجندل) في الرمل المعروف قديما برمل (عالج). فقال ذلك الكاتب الذي لم يشأ ذكر اسمه الصحيح
1 -
(ضبطت قرية (ظبا) بالظاء والصواب - كما أعتقد - أن يكتب الاسم الضاد (ضبا) لا بالظاء)
وأقول الصواب أن تكتب بصيغة ثالثة مخالفة للصيغتين المذكورتين - هي (ضبة) بضاد فباء فهاء، قال ياقوت الحموي في معجم البلدان ج 5 ص 424 الطبعة المصرية: ضبة بلفظ واحد الضباب أما الحيوان وإما الضباب - اسم أرض وقيل قرية بتهامة على ساحل البحر مما يلي الشام وبحذائها قرية يقال لها (بدا) وهي قرية يعقوب النبي عليه السلام بها نهر جار بينهما سبعون ميلا ومنها سار يعقوب إلى أبنه يوسف عليه السلام بمصر - انتهى كلام الحموي، وضبة القرية هي المقصود وكل الأوصاف التي ذكرها الحموي تنطبق عليها فهي - 1 - قرية بتهامة على ساحل البحر مما يلي الشام - 2 - و (بدا) بفتح الباء والدال المخففة (وقد ضبطت في تاريخ الإسلام السياسي الدكتور حسن إبراهيم حسن ص33 ج 1 بتشديد الدال خطأ) لا تزال معروفة باسمها هذا بقرب ضبة وبقربها أيضا (شغب) قرية المحدث المعروف محمد أبن مسلم أبن شهاب الزهري - أول من دون الحديث النبوي - وفيهما يقول كثير الشاعر:
وأنت التي حببت (شغبا) إلى (بدا)
…
إلي وأوطان بلاد سواهما
حللت بهذا حلة بعد حلة
…
بهذا فطاب الواديان كلاهما
وفي الواديين مياه كثيرة وزروع. وقد كنت أثناء إقامتي في (ضبة) أسمع أهلها ينطقونها بالظاء لا بالضاد ويقولون أن اسمها القديم وأدى الظباء فكتبت في مجلة (المنهل) أصوب كتابة الاسم بالظاء بدل الضاد وكتبتها في كلمتي عن معجم البكري بها - ولكنني بعد أن اطلعت على كلام الحموي ظهر لي خطآن اثنان - بل ثلاثة - أحدها ما ذهبت إليه من كتابتها بالظاء وثانيها: كتابتها بالألف بدل الهاء، وثالثها: ضبط ياقوت لها بالتشديد كما يفهم من كلامه - والصواب في رأيي التخفيف مع ضم الضاد (ضبة) وكذا ينطقها أهل نجد إلا أنهم يسكنون الحرف الأول كعادتهم في كثير من أوائل حروف الأسماء
2 -
وحاول الكاتب أن يخطئ استعمال كلمة (جبة) اسم المنهل المذكور - لعلتين أبداهما - 1 - سماعه من قبيلة الشرارات كلمة (الجوبة) - 2 - حكمه بعدم جواز أن تكون مؤنث (الجب). وفات حضرة المصحح المخطئ أن قبيلة الشرارات لا تسكن تلك الناحية وأنها تقصد بكلمة الجوبة - هي وغيرها من قبائل العرب - الأرض المنخفضة الواسعة أيا كانت، وفاته أيضا - الرجوع إلى معاجم اللغة والأمكنة - ولو رجع إليها لوجد اسم (جبة)
يطلق على هذا المنهل وعلى عدة مواضع في العراق وفي الشام وغيرهما (أنظر هذه المادة في القاموس المحيط وهو من أسهل القواميس تناولا أتكثرها تداولا - مثلا) وإما الحكم بعدم جواز تأنيث (الجب) فأمر خارج عن موضوعنا - وهو - في حد ذاته - لم يصادف المحل ولم يستوف الشروط فصار باطلا - كما يقول السادة الفقهاء. وبعد فالرسالة الزاهرة يد بيضاء لما تنشره من كتابات لا تخلو من فائدة ولحضرات القراء تحية طيبة
حمد الجاسر
حول البوصيري
مجلة (الرسالة) هي مجلة العرب جمعاء - يجد كل باحث ومحقق عالم وأديب ميدانا واسعا لنشر ما يمتع ويفيد القراء وإذن فليأذن لنا الأستاذ الكبير الزيات بأن نعلق على ما جاء في العدد 1007 منها حول البوصيري بهذه الكلمة المجملة التي لا نريد بها إلا بيان الحق المجرد من كل غرض
قال القاضي الفاضل السيد علي الطنطاوي كلمة الحق حينما قال أن شرك المشركين الأولين أقل من شرك بعض المسلمين المتأخرين - لأن أولئك يدعون الله في الشدة - وهؤلاء يدعون غيره فيها؛ والدعاء من أنواع العبادة التي خلق الله الخلق ليصرفوها خاصة له (وما خلقت الجن والأنس آلا ليعبدون). ولكن الحق لا يرضي كل أحد فالأستاذ عبد السلام النجار يرى أن قول البوصيري
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العم
جائز ولا يتناقض مع شيء من أمور الدين بدليل حديث الشفاعة - وللأستاذ المحترم أن يعتقد ما شاء ولكن ليس له أن يرمي طائفة من المسلمين بما هم منه براء! فهو يقول (إن الطنطاوي تابع في تكفير البوصيري محمد بن عبد الوهاب أمام حنابلة نجد) فالأمام المجدد ابن عبد الوهاب رحمه الله وحنابلة آهل نجد بل كل المسلمين - لا يكفرون إلا من اتصف بالكفر - ولم يثبت عن واحد منهم تكفير البوصيري. وغاية ما يقولون ويعتقدون هو:
(1)
أن البوصيري دعا الرسول والرسول ميت، ودعاء الأموات شرك (ولا تدع من دون
الله ما لا ينفعك ولا يضرك)
(2)
لا ينكر أحد من المسلمين شفاعة الرسول (ص) تلك الشفاعة التي أوضحها الله سبحانه وتعالى في القران الكريم وبينها الرسول (ص)(من ذا الذي يشفع عنده ألا بأذنه؟)(ولا يشفعون ألا لمن ارتضى). وقال (ص) مجيبا لسائل سأله من أحق الناس بشفاعتك؟ فقال من قال لا اله آلا الله خالصا من قلبه. . فالآذن والرضا من الله وإخلاص العبادة له لا بد منها في الشفاعة
(3)
تكفير المعين لا يجوز إلا من أن ارتكب شيئا من المكفرات وأصر على ارتكابها بعد إيضاح الحق له ومات على ذلك، وكل مسلم يبرأ إلى الله من إن يصف البوصيري بهذا الوصف - إذ لا يمكن الجزم بخاتمته. وليكن حسن الختام كلمتنا هذه تحية - من ربي نجد مضخمة بأريج شيحة وعراره للأستاذين الجليلين الطنطاوي والنجار - وشكرا عطرا للقائمين على هذه المجلة الغراء
عبد الرحمن بن رويشد
القصص
مجنون
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
أبي مس من جنون؟ أم أن ما بي فيض من غيرة فحسب؟ لست أدري من أمر ما بي شيئا، ولكنني أكابد مر العذاب، ومض الألم. لقد أجرمت يداي أثم طيش، طيش أهوج مجنون، إن هذا لحق. ولكن ألا تكفي هذه الغيرة الرابية المبهورة، وذلك الحب الثائر الخائن الملعون، وهذا الألم الباهظ الممقوت - ألا يكفي كل هذا لأن نأتي إثما من الأمر وسخفا دون أن ينزع منا إلى هذا السخف أو ذاك الإثم عقل أو فؤاد؟ أواه أنى لآسي وآلم. . . من عذاب دائم حاد مفرط. لقد أحببت تلك المرأة حبا سليطا طاغيا. لكن أكان حبها حقا؟ أعلقتها؟ كلا ثم كلا! لقد ملكت علي حسي، وحالت بيني وبين نفسي. . أسرت وصرعت، فكنت في يدها - وما أزال - دمية. كنت ملك النظرة الخاطفة، واللحظ الرهيف؛ أسير الغلالة والقد الدقيق؛ عبد التبسم والشفاه. . . وكنت الهث إذا ما تسلط علي هيكلها وتأمر. . . ولكنها هي، صاحبة كل هذا، وكائنة هذا الجسد، امقتها أحقرها والعنها. فقد كانت كديره غادرة، وكانت دنسة ماكرة، وكانت محط الفساد ومهبط السوء، إنها لحيوان فاسد مثير تخلى عن الروح فتخلت عنه ولم تعد بعد فيه؛ ولم يعد يسير عقله كما يسير نسيم منعش متطلق. إنها البهيم الآدمي، بل هي أحط من هذا واقذر. أنها ردغة مستوحلة. هي آية من آيات الجمال البض الغريض سكنت دار الخزي والعار
كان اتصالنا في أول الأمر غريبا جميلا. وكان يقتلني - بين ذراعيها المفتوحتين أبدا - جنون الرغبة الملحة العاتية. وعيناها كانتا تفغران فمي كأنما ألهب حلقي العطش. كانتا سنجابيتين حين الظهيرة، ومشوبتين بخضرة وقت دلوك الشمس، وكانتا زرقاوين أبان الشروق. ليس بي مس من جنون، فإني لأقسم أن كان لعينيها هاته الألوان الثلاثة. فهم في أحايين الحب زرقاوان ثاقبتان، يتوسطها إنسانان كبيران مضطربان، وشفتاها تقلصهما رعدة محمومة، فلربما انفجرتا عن طرف لسان ريق احمر يتحرك كلسان الافعوان، وجفناها الغضيضان الناعسان تشرعهما في وناء وهينة، فتكشف عن نظرة مضطرمة وآرية، كانت تزيدني جنونا. وكنت احتدم غيظا إذا ما رأيت نظرتها هذه لدى العناق،
وارتجف حنقا ورغبة أن اقتل هذا الحيوان الذي تلحف الضرورة في بقائه
وكان فرعي يهتز لوقع خطاها وهي تتخطر في حجرتي؛ وكان قلبي يثب لحفيف ثوبها إذ تأخذ في خلع ثيابها فتدع ثوبها يقع. وتخرج منه عارية مخجلة، وكنت أحس من ريح غلالتها الملاصقة انحلالا رخيا يسري في أعضائي وأطرافي جميعا. . .
وشعرت بأنها ملتني فجاءة واجتوتني. إذ رأيت ذلك في عينيها يوما حين أصبحنا، فقد كان من دأبي أن أحنو عليها كل صباح ارقب نظراتها الأولى. . . وكنت انتظر - وصدري يدور به الخنق ويحرجه الكره والاحتقار معا - انتظر مترقبا نظرات ذلك البهيم النائم الذي يهيمن علي فأنا له عبد ذليل، ولكن ما تكاد تبدو لعيني حدقتاها الشاحبتان كليلتين سقيمتين إثر الأحضان الأخير، حتى تتقد حواسي ويضطرم كياني فكأنما نار تلهبني فتستنزف كل عزمي وقواي. لكنها حين ذلك اليوم طالعتني بنظرة مختلفة حزينة بائسة لا ترجو من العالم شيئا
آه! حقا رأيت ذلك وعلمته، ولقد شعرت به للتو وفهمته، إذ انتهى كل شيء؛ انتهى كل ما ترجو إلى الأبد، وعندي على ذلك الدليل يقوم في كل ساعة وأخرى؟
فإذاما عانقتها صدفت قائلة (هلا تركتني أذن؟) أو قبلتها فتقول (إنك لبغيض) أو تقول (أفلن اجلس حينا وادعة؟!)
حين ذلك غرت، ولكن كما يغير الكلاب. . . أثارت ما أثارت من ارتياب وكتمان وحيلة. علمت حقا أنها ما عزفت عني ألا لتفسح مجالا لآخر تذكي عواطفه وتلهب حواسه. .
غرت غيرة هادرة طائشة مجنونة، ولكني لم اكن مجنونا كلا! حقيقة كلا! وانتظرت، أه! ثم حنوت عليها ولم يخب ظني ولم تخدعني عيناها إذ ظلتا باردتين مثقلتين، وقد تقول حينذاك:(إن الرجال لتوذيني وتسئمني) وكان ذلك حقا غدوت حينئذ غيورا منها نفسها، ومن عزوفها ونفورها؛ غيورا من فراغ لياليها ووحدتها؛ غيورا من حركاتها وإشاراتها ومن عقلها الذي استشعر دائما عاره؛ وغيورا من كل ما آتوهم وأحدس ورى. وقد تلقاني صبح ليلة من ليالينا المضطرمة، بنظرة رضية ناعمة، كأنما خالطت روحها شهوة فحركت من رغباته. . . حينئذ يحتدم قلبي حنقا فتختنق أنفاسي في صدري المتحرج، وتصرخ رغبة في نفسي أن أخنقها، وأهشم عظمها تحت ركبتي، وأنشب في جيدها أظفاري، حتى
تقر بمخازيها المخلة وتفضح أسرار فؤادها المرذول
أبي مس من الجنون؟
- كلا!
فهاأنذاقد انتعشت في إحدى الليالي وانتشيت واستشعرت إحساسا جديدا يخالطها، وكنت واثقا من هذا تمام الثقة؛ فقد كانت تتمم كما تفعل بعد العناق عادة، ونظراتها توقدت واضطرمت وذراعاها قد شاع فيها الدفء والحميا، واضطرب كيانها اجمع إذ تتحكم فيه الرغبة الثائرة الجموح. وضاعت منه البصيرة
وتغابيت، ولكن أحاط بها انتباهي كالشرك، ومع ذلك فما كشف لي منها عن شيء
وتريثت أسبوعا، فشهرا، ففصلا. والآن رأيت جهومتها قد زالت وتدفقت فيها حميا مبهمة، ثم استراحت إلى حياة قوامهم عناق، وعمدتها قبل
وفي لحظة وامضة أدركت! فما بي مس من جنون! وإني لأقسم أن ليس بي مس من جنون!
كيف أقص ذاك عليك! كيف فهمت؟ كيف أبين لك الشيء المبهم الممقوت؟!
إليك ما نبهني إلى كل شيء: في تلك الليلة التي حدثتك عنها كانت عائدة من نزهة على صهوة جواد فسقطت عنه. وقد جلست ليلتئذ أمامي في مقعد وثير متوردة الوجنتين، مخمشة العينين مرضوضة الساقين، صدرها يعلو ويهبط مثل أمواج المحيط. لقد أدركت كل شيء حين رايتها. إنها تحب! ولم استطع أن أخادع نفسي!
حينذاك فقدت شعوري وكرهت أن أنظر إليها. فتحولت إلى النافذة وهناك بصرت بخادم يقود جواد من عنانه يشب ويثب. . . أما هي فقد نظرت الجواد الفتي الشابي واتبعته بصرها حتى غاب فاستلقت وغفت. . .
وطفقت ابحث طول الليل في ذلك. وخيل إلى آني أوغل في غموض ما كنت أتوقعه من قبل. ومن زعم أنه عجم عود النساء الأعوج، وسبر رغباتهن المتضاربة؟ ومن ادعى أنه فهم تقلباتهن الغادرة ورغباتهن السافلة؟
كانت تخرج صباح كل يوم على صهوة جواد إلى الغاب والسهول، ثم تعود لاغبة مكدودة في كل مرة، كما تفعل عادة بعد أن تسكت عنها نوبة من الحب الطائش. الآن قد فهمت
فغدوت غيورا من الجواد النهد الكريم، واجداً على النسيم العاشق إذ يحتضنها بينما تنطلق في شوط سريع أهوج؛ وغدوت حاقدا على أوراق الشجر إذ تقبل أذنيها عرضا، حاسد لأشعة الشمس إذ تلثم جبينها من بين الغضون، ولذلك السرج إذ يحملها ويلمس فخذيها البضتين
كان هذا كل ما يسرها ويغويها، ويطلق أسارير محياها ويغريها، وكان هذا كل ما يكدها ويضنيها، فتلقاني متعبة لاغبة إلى حد الإغماء. .
وأزمعت الانتقام لنفسي. وكنت أتلطف معها في الخطاب متلطفا مدللا، وكنت أمد إليها يدي لتعتمد عليهما حين تقفز عن صهوة الجواد بعد أشواطها الهوجاء المضنية. وكان الجواد يرمقني ثم يفحص الأرض صبوة وفتوة. وكانت تدلله وتربت على كتفيه، أو تحتضن أنفه اللاهث. ولا تنسى أن تمسح على رأسه وأصداغ فمه المزبد. وكان ريحها العطر يضوع من جسد تصيب منه عرق اعرف أريجه وسط الليل. وكان هذا العطر يختلف في أنفي بريح الجواد الأصهب
وطفقت أتحين الفرص أتربص الدوائر. لقد كانت تسير كل صباح في إحراج من السدر توغل في الغاب. . ففي يوم غدوت مع الفجر، وفي يدي حبل متين الفتل، وفي صدارى مسدسان محشوان كأني ذاهب إلى مباراة
وعدوت نحو الطريق التي تحب، وربطت الحبل في جذعي شجرتين متقابلتين، ثم تعقبتها في الإحراج
وكثيرا ما خبرت الأرض بسمعي. والآن سمعت وقعا رتيبا من بعيد. وبصرت بشيء من الأغصان يسبح في الهواء سبحاء اه!. . . لم أخدع فقد كان هو الجواد فقد كان النهد الأصيل. وإما هي فقد كانت نشوى من فرط السعادة محمرة الوجنتين. وتبدلت نظرات عينيها فهي الآن طروب لعوب، وتطلقت أعصابها من الهم واستراحت إلى تلك القسوة المنعزلة
ولما أن كبا الحصان بمقدمه تهشمت عظامه، وطرح بفتاتي بعيدا فلقفتها بين ذراعي القويتين حينذاك على حمل ثور سمين. وبعد أن وضعتها على الأرض في هينة ورفق دنوت منه (هو) وقد كان يحملق فينا حينذاك ويحاول أن ينهشني، فأطلقت عليهالرصاص
في الأذن فخر صريعا يشحط في دمائه الثرة وقتلته. . .
كما يقتل الغريم!
ولكني أنا نفسي سقطت على الأرض ووجهي قد أدمته جلدتا سوط كان في يدها. ولما أن تأهبت لأن تلهبني بالثالثة أفرغت في جوفها الرصاصة الأخرى. .
فخبرني بربك أكان ما بي مس جنون؟!
س. م