المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1012 - بتاريخ: 24 - 11 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠١٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1012

- بتاريخ: 24 - 11 - 1952

ص: -1

‌الإسلام في موكب الإصلاح

دولة الألقاب

للأستاذ محمد عبد الله السمان

كانت الألقاب الملغاة دولة داخل مصر، لها سلطانها وصولجانها، ولها جلالها ونفوذها، ولها كلمتها المسموعة، وارتدادها التي لا ترد، ولكنها كنت دولة هزيلة لم يقم العقلاء لها وزن، ولم يلق الحكماء لها بالاً.

وكان الملك العربيد - الذي الغي لقبه من الوجود قبل أن تلغى دولة الألقاب - يجعل منها دمية يلهو بها، ويشغل بها الطبقة المترفة من هواة الألقاب الجوفاء، وغواة المظاهر الكاذبة، وأشيع الفوضى والعربدة، ليتخذ الجميع منها ستاراً يحجب مخازيهم، وحصانة تدفع عنهم سيف العدالة وسلطان القانون، ومطية للاستغلال الممقوت على حساب الشعب المكدود. وكان لهذه الدولة الهزلية سماسرة يعرضونها في الأسواق، ويساومون عليها طلاب الغرور وعشاقه من أثرياء الحرب المفتونين، وأرباب العصبيات الفاجرة، وغيرهم ممن يجيدون استغلال الألقاب، وتكييف سلطانها ونفوذها.

لقد لبثت دولة الألقاب في مصر عمراً طويلاً، دعمت خلاله صرح الفروق بي الشعب واحد، تقله ارض واحدة، وتظله سماء واحدة. وثبتت دعائم الطبقات في وطن واحد، لا ينتسب إليه زائف، ولا ينتمي إليه دخيل؛ وبذرة بذور الفوضى بين أرجاء الكنانة حتى أثمرت الأحقاد في الأفئدة، والعداوة في النفوس، والبغضاء في الصدور، وبثت جراثيم الهمجية حتى أنتجت الجرائم في شتى صورها، والشرور في مختلف ألوانها.

ولقد جاء إلغاء دولة الألقاب في مصر خطوة صلاحية لها قدرها. واعتقد أنها ليست بأقل قدراً من خطوة تحديد الملكية فإذا كان تحديد الملكية خطوة مادية في سبيل توازن الطبقات، فان إلغاء الألقاب خطوة أدبية في سبيل المساواة الأدبية، التي لا غنى عنه لشعب يبغي حياة أدبية كريمة، واعتقد أن تفاوت الطبقات المادي لم يكن إلا ثمرة من ثمرات دولة الألقاب، ففي ظلها أستغل أشياعها مورد البلد وخيراته، وسخروا الدولة بأسرها لحسابها، حتى تكدس الثراء لديهم تكدساً أتخمت منه خزانتهم فعمدوا إلى الأرض يبتاعونه بأفحش الأثمان وأبهظ الأسعار، حتى أوشكت جميعها أن تكون ملكاً لعصاباتهم، فيتحكمون في

ص: 1

أرزاق الشعب وأقواته لولا أن الله سلم.

ولسنا في حجة إلى أن نقول: إن هذه الخطوة لمباركة، خطوة إصلاحية محضة يرحب بها الإسلام لأنها اصل من أصوله، وهل يوجد من ينكر على الإسلام أنه لم يقم بناءه إلا على دعامة المساواة المطلقة؛ وأنت حين تتدبر أول آية نزلت من كتاب الله تجدها لم تهمل قاعدة المساواة، ففيها وضح أن الناس جميعا متساوون، إذ انهم خلقوا جميعاً من مادة واحدة:(أقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. .) ونزلت بعد هذه الآية آيات لا حصر لها، مؤكدة هذه القاعدة، وذلك حين تشير إلى أن الناس جميعا مخلوقون من نفس واحدة، أو من ذكر وأنثى وما إلى ذلك:(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة. .)(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى).

والإسلام الذي أقام بناءه على قاعدة المساواة لا يمكن أن يقر هذا الألقاب، أو يتعرف به كمقياس لتقدير ذويها، ودليل على استحقاقهم للتقدير، لأن للإسلام مقياساً وحداً لإخلاص المخلص، وإنتاج المنتج، ومثابرة المثابر، واجتهد المجتهد، وهو:(إن أكرمكم عد الله اتقاكم. .).

ولا يمكن أن يقر الإسلام هذه الألقاب، وهي التي تميز بعضها من الناس على البعض لآخر، وتملأ أنوف أصحابها تكبراً وغروراً وصلفاً، بل إن الإسلام، وقاعدته السماوات المطلقة بي الناس جميعا، لم يشاء أن يلقب بين إنساناً - كائناً من كان - بأي للقب يميزه على غيره، وقد يقول قائل: لقد كانت هناك ألقاباً مثل: أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، والأمير، ونحن نقول له: إن هذه ليست ألقابا بالمعنى الذي نراه، إذ أنها ألقاب عائدة على المناصب أصحابها لا على أشخاصهم، كما نسمي رئيس الوزارة، والوزير، والمدير، والمأمون ومن إليهم، وهذه ليست بالألقاب التي نرمي إليها.

إن الله تعالى اختار رسله من خير البشر، ليقوموا بمهمات شاقة مضنية وهي الرسالات، ومع هذا فلم يمنحوا لقباً واحداً يميزهم على سائر البشر، اللهم إلا الأسماء التي تشير إلى مناصبهم كرسل أو أنبياء، ولقد أفاض القران الكريم بذكر أسماء الرسل مجردة من الألقاب، لتأكيد قاعدة الإسلام التي قام عليها وهي المساواة: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. . - محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفر رحماء بينهم. . - ما كان

ص: 2

محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين. . - قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك. . - وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وما تلك بيمينك يا موسى؟ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض. . - يا زكريا إنا بشرك بغلام اسمه يحيى. . - يا يحيى خذ الكتاب بقوة. . - إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك. .).

والرسول (ص) عنى كل العناية بهذه القاعدة - قاعدة المساواة - فطالما صاح في آذان صناديد قريش، منبت العصبية الجامحة والعنجهية الكاذبة، والغرور الممقوت:(كلكم لآدم وآدم من تراب - الناس سواسية كأسنان المشط).

بل لقد كان رسول الله (ص) يكافح الغرور في النفوس فكرة أن الإنسان اسم يهب له الغرور والكبرياء، حتى لا يهوى من غير أن يشعر، قال أبو هريرة حديث رواه البخاري: إن زينب كان اسمها برة فقيل تزكي نفسها فسماها رسول لله صلى الله عليه وسلم (زينب) وقد روى البخاري أيضاً عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك وبعد - فلقد جاء إلغاء الألقاب خطوة موفقة في سبيل الإصلاح الاجتماعي الذي لله خطره وله قدره، فحطمت الفوارق ومحت دولة الطبقات، وأذكت في النفوس الشعب نخوة الاعتزاز بقدره، وبقى أن تتم الخطوة بالإتيان على فلول دولة الألقاب من الإمارات والبالة والسمو، فهي أولى بالإلغاء من الباشوية والبكوية وما إليهما، واجدر بأن تمحو لا ثر بعده فقد كانت أسس الفساد، وأصل الشقاء، في بلد أحسن إليها فقابلت إحسانه بالإساءة، وفضله بالنكران!

محمد عبد الله السحاق

ص: 3

‌علي هامش الدفاع عن الشرق الأوسط

للدكتور عمر حليق

جوهر السلوك الاقتصادي في أمريكا

عندما ألمت بالعالم أزمة سنة 1929 وما بعد، وعانى العالم من شرها ما عانى، كانت نفسية الشعب الأمريكي ودوافعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية غير مهيأة لقبول هذه الصدمة العنيفة. وكتب الأدب والاجتماعوإحصاءات الاقتصاد وصحف التاريخ مليئة بأوصاف الهزة العنيفة التي أصابت المجتمع الأمريكي من جراء هذه الأزمة العالمية الخانقة.

وهيأت الأقدار للولايات المتحدة الأمريكية - رجلان: زجل يفكر وآخر ينفذ، وانطوى تحت لوائها المتطوعون من الاقتصاديين ورجال الأعمال والكتاب والمثقفون والجهلة - والمجتمع الأمريكي بأسره. ورغم أن أزمة سنة 1929 وما بعد زعزعت كيان الاقتصادي الأمريكي زعزعة عنيفة؛ إلا أنها لم تقوضه، يولي الكثير من المراقبين تلك الفترة والمعقبين عليها الفضل للمستر فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وللبروفيسور جون مينارد كينز الاقتصادي البريطاني الذي استوحى روزفلت من نظرياته الاقتصادية برنامج (العهد الجديد) الذي طبقه روزفلت على الاقتصاد الأمريكي القومي في سنوات 1929 - 1940 والذي هو اليوم الدستور السياسة الاقتصادية للشعب وللحكومة لأمريكية والمجال هنا لا يسمح بالانزلاق إلى بحث النظريات الاقتصادية، ولكن وصفا قصيرا لعقلية (كينز) تلقي ضوءاً نافعاً على فلسفته الاقتصادية وعلى جوهر السلوك لاقتصادي للحكومة وللاقتصاد القومي في الولايات المتحدة الأمريكية.

قال مترجم حديث لهذا الاقتصادي الشهير (إن كينز لا يرى الأمور في حالها الراهنة، وكان همه أن يثبت الفكرة التي يحملها لتخدم هذه الحالة الراهنة ولا يجد ضراً في أن ينفى ما أثبته في حالة سابقة أو أن ينشط غداً لينفى ما أثبته اليوم. وكان يستجمع الجهد والنشاط والمنطق والدهاء والحصافة ليثبت فكرته عن الحالة الراهنة، وأن يعتبر الماضي والمستقبل تواقة لا قيمة لها، ومن ثم فإن أفكاره عن الحقائق والأوضاع كانت وليدة الساعة وعلى ذلك فإنها - أي الأفكار - في تطور مستمر لا يتقيد بالأمس ولا يعبأ بالمستقبل

ص: 4

البعيد.

ويخيل إلى هذا الوصف لشخصية البر فسور كينز البريطاني وصف واقعي مطبق للعقلية الأمريكية في نشاطها الاقتصادي والسياسي وكذلك. فلا غرابة أن تتصل أسباب التلمذة العقلية والتعاون العلمي بين رئيس الجمهورية الولايات المتحدة فراكلين روزفلت وبين هذا العالم (الاقتصادي البريطاني).

شغل كينز في أعقاب الحرب العالمية الأولى بمعالجة المشاكل الاقتصادية الناتجة عن هزيمة ألمانيا القيصرية، وطال تفكيره وتدريسه لفنون الاقتصادي النظري والتطبيقي، وخرج بنتيجة مستحدثة فحواها أن شر المساوئ الاقتصادية هو في خط النظام النقي المعمول به في العالم المتمدن؛ أو على الأقل في الدول التجارية والصناعية الكبرى صاحبة القول الفصل في تسيار الاقتصاد العالمي.

كان ذلك في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة وبريطانيا موطن كينز تعاني أزمة بطالة وضائقة اقتصادية لعينة. ووجد كينز أن تقيد النقد المتبادل، أي الجنيه الإسترليني في بريطانيا وأنواع العملة الأخرى في بقية أقطار العالم - تقيد النقد بأسعار الذهب شيء يخنق التجارة الدولية ويزيد من ضائقة العالم الاقتصادي.

لم يقل كينز بالقضاء على معدن الذهب كأساس للنقد الرصين، بل انه دعا إلى تحرير النقد من استعباد معدن الذهب وجعل الذهب ملكا دستوريا للعملة الصعبة - كملك بريطانيا سلطته صورية اكثر منها فعلية.

وقال (كينز) إن الذهب معدن واحد من المعدن الثمينة وصنف واحد من أصناف الإنتاج الثمين؛ فهنالك مواد اثمن منه في خدمة الناس والتجارة الدولية، وإن من الجنون أن نربط أسعار كل شيء بسعر معدن الذهب - وهو معدن إنتاجه محدود والحصول عيه صعب شاق، وإن من غير الأنصاف أن نقيد النشاط الاقتصادي لشعب ماله إمكانيات واسعة في كثير من المواد الصالحة والإنتاج النافع لمجرد أن هذا الشعب لا يملك حصة وافية من معدن الذهب، فهذا التقيد مسؤول عن انتشار البطالة وانقطاع رزق الناس وتفشي الفوضى الاقتصادية بين الشعوب التي لا يتوفر لها معدن لذهب؛ بينما يتوفر لها إنتاج اقتصادي قيمته الفعلية تعادل قيمة الذهب إن لم تفقه.

ص: 5

وبمثل هذا المنطق نشر (كينز) هجومه على معدن الذهب كأساس للنقد الثابت الرصين، متهماً إياه بأنه (من مخلفات العهود الإقطاعية المتوحشة) ودهش الناس لآراء هذا العالم الشهير! وكانوا بين شاك في اتزانه العقلي وبين ومنتظر لميلاد فلسفة عملية جديدة للسياسة النقدية.

ثم سرعان ما نشر كينز في سنة 1930 تفاصيل مشروعه لاستبدال معدن الذهب بشيء آخر يصون النقد ويثبته على أساس محترم مضمون، وشرح هذه الفكرة الجديدة في (بحث عن المال) في أهم الكتب في علم الاقتصاد الحديث.

وفي نهاية استعراض دقيق ممتع عن النقد والشؤون المالية - والحديث عن المال ممتع في جميع المناسبات - اقترح (كينز) إنشاء سلطة نقدية دولية تتحكم في تقدير أسعار الذهب بحيث لا يصبح هذا المعدن الأصفر متحكماً في رقاب النقد المحلي لكل دولة ولكل شعب، واقترح صاحبنا أن تقوم هذا السلطة الدولية التي تضم جميع الدول الراغبة في الانضمام بتنسيق أسعار العملة لكل دولة، وتحديد أسعار المواد الأولية وما إلى ذلك من اوجه الشؤون المالية التي يهم بها أهل الاختصاص.

وأشار كينز كذلك أن يكون من ابرز (أهداف سلطة النقد الدولية) بعد تنسيق أسعار النقد في كل دولة تشجيع استثمار الأموال الحكومية والخاصة في داخل البلد وفي البلدان الخارجية ضمن ترتيبات وإجراءات معينة تحددها سلطة النقد الدولية هذه بالتشاور مع الدول والهيئات المعنية بالأمر.

وأخذت بريطانيا بمشورة كينز فتخلت في سنة 1931 عن اعتبار القيمة التقليدية لمعدن الذهب أساساً للجنيه الإسترليني.

ثم أغرم رئيس الجمهورية الأمريكية فرانكلين روزفلت في ذلك الحين بآراء كينز واقتبس منها جزءاً كبيراً وطبعه على سياسة أمريكا المالية في داخل الولايات وفي خارجها.

وفي كلتا الحالتين - في بريطانيا وأمريكا - كانت مشورة كينز وآراءه عاملاً قوياً في الإفراج عن ضائقات البلدين في الشؤون المالية والاقتصادية أجمالاً.

وجدير بنا أن نستذكر بأن عقلية (كينز) كما وصفها كاتب سيرته وسجلناها في مستهل هذا الفصل - هذه العقلية كان همها معالجة حالة راهنة غير مقيدة بأحداث الأمس ولا مترقبة

ص: 6

خفايا الغد.

وهنا سر إغرام الأمريكان بنظريات (كينز) وعودتهم إليها بين آونة وأخرى كلما استعصى عليهم أشكال عاجل بينما تعمد البريطانيون - أهل كينز ومواطنوه - تجاهل جزء كبير من مشورته ونظرياته. فالعقلية البريطانية تحتسب الأمور ولا ترى في الحالة الراهنة كل شيء! بينما يميل الأمريكان إلى معالجة مشاكل الساعة بالمسكنات وحبات الأسبرين والأقراص الكيماوية المنومة.

وتطورت فكرة (كينز) عن النقد فأصبحت برنامجاً تطبيقياً عملياً. فقد شغل هذا العالم في سنوات الحرب باستثناء المشاكل الاقتصادية والنقدية العويصة التي تأتى عادة في أعقاب الحروب، وخرج من تحليله لمستقبل الاقتصاد العالمي ببرنامج (لاتحاد دولي للقضية النقدية) على أساس عالمي. ونشر هذا البرنامج في عام 1943 عندما كانت رحى الحرب لا زالت دائرة. وهدف هذا البرنامج تنسيق المعاملات النقدية على أساس عزم الدول جميعها على ضمانة هذا التنسيق ضمانة رسمية، وأن تقوم هذه الدول في نفس الوقت على توسيع تبادلها ونشاطها الاقتصادي والتجاري على أفسح مجال ممكن. فهذه الضمنة النقدية وهذا التوسيع الاقتصادي سيجعل نقد الدولة مستندا إلى نشاطها التجاري والاقتصادي لا إلى سعر الذهب فحسب.

واقترح (كينز) في برنامجه عن (الاتحاد الدولي للتصفية النقدية) أن يقوم الاتحاد بجمع اكبر عدد ممكن من الضمانات النقدية للدول الأعضاء، وأن يوضع هذا المبلغ المجموع تحت تصرف الدول الأعضاء تقترض منه إذا شاءت بقدر ما يراه الاتحاد ضرورياً لها وبنسبة متمشية مع حصة الدولة في ميزانية الاتحاد، على أن يقوم الاتحاد باتباع سياسة سمحة تعين الدول في الحصول على النقد العزيز حتى لو كان الميزان التجاري لهذه الدولة تعترضه بعض النكبات.

واقترح على الاتحاد كذلك أن يشجع الاستدانة والإقراض بين الدول الأعضاء على أساس المسؤولية الحكومية المتبادلة. أما تحديد أسعار النقد لأي دولة فأمر لا لزوم له في برنامج هذا الاتحاد، ويترك أمر هذا التحديد للتطورات ولمدى النشاط الاقتصادي في تلك الدولة على أن يكون ذلك خاضعا لرقابة دولية نزيهة.

ص: 7

ووافقت بريطانيا فوراً على هذا البرنامج. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية تقاعست أول الأمر عن قبوله بحذافيره، وادعى الأمريكان أن هذا البرنامج يفرض على أمريكا دفع اكبر حصة من ميزانية الاتحاد، فالحصص في الاتحاد تتناسب مع سعة النشاط الاقتصادي في الدول المشتركة فيه. ولما كانت أمريكا أعظم بلدان العالم نشطاً في المجال الاقتصادي فأن حصتها في الدفع لميزانية الاتحاد ستكون اكبر حصة. ورأى الأمريكان فضلاً عن ذلك أن اشتراك جميع الدول في هذا الاتحاد ودفعهم نقدا محلياً (دعائمه غير ثابتة في كثير من الدول) ثم تخويلهم سحب القروض من الاتحاد بالعملة التي يشاؤونها (ومعظمهم راغب في اقتراض الدولارات الأمريكية) - هذا التخويل يشجع الدول الهزيلة الكسولة في النشاط الاقتصادي على الاقتراض في غير وعي وحساب، ويكون ذلك الاقتراض على حساب الدول الصناعية الفنية الكبرى وفي طليعتها أمريكا.

ولم يرفض الأمريكان فكرة (الاتحاد الدولي للتصفية النقدية) وإنما اقترحوا تعديلات جوهرية عليها. وفي مؤتمر (بريتون وودز) الذي عقد في الولايات المتحدة الأمريكية في عقاب الحرب العالمية الأخيرة مباشرة اقنع الأمريكان المستر (كينز)(الذي من ابرز المشرفين على هذا المؤتمر) بتعديلاتهم - أقنعهم كينز ببعض نظرياته التي كانت موضوع جدل، ونجح الأمريكان في ذلك المؤتمر بتقييد عملية الاستدانة والإقراض للدول الأعضاء التي تنضم إلى الاتحاد النقدي الدولي. وغضب (كينز) لهذه القيود الشديدة التي وضعها الأمريكان على برنامجهم العالمي ولكنه رضى بها وكان من نتائج هذا الرضى أن استطاعت (بريطانيا التي كان المستر كينز يمثلها في مؤتمر بريتون وودز) في الحصول على أول قرض وهبات سخية من الدولارات الأمريكية.

وذهب الأمريكان إلى ابعد من ذلك، فلما تبلورت فكرة الاتحاد الدولي للتصفية النقدية في مؤتمر (بريتون وودز)(وتأسس صندوق النقد الدولي التابع لهيئة الأمم المتحدة) بعد المؤتمر بقليل أصرت الحكومة الأمريكية أن يكون لها إدارة هذا الصندوق مع أنه اصبح وكالة فنية خاصة تابعة لهيئة الأمم. وعارض (كينز) في ذلك وقال بما أن للأمريكان تحفظات شديدة في هذا البرنامج فإن إدارتهم لصندوق النقد الدولي (الذي وكل بتنفيذ البرنامج) ستؤثر تأثيراً شديداً في مستقبل الفائدة المطلوبة من هذا الصندوق الدولي. ولكن

ص: 8

الحكومة الأمريكية أصرت على أنها إذا كانت ستدفع اكبر حصة في هذا الصندوق فأن من حقها أن تفرض النغم الذي يطيب لها عزفه.

وانزعج كينز من هذا ووجد في إصرار الأمريكان على إدارة هذا الصندوق الهام رغبة الحكومة الأمريكية في أن تفرض رقابة شديدة على الأوضاع النقدية في جميع الدول الأعضاء.

وسلم (كينز) للأمريكان واكتفى بتحذير المسؤولين عن وخيم العواقب، ثم عكف عن التأمل في وضعية العالم الاقتصادية في عالم ما بعد الحرب ونشر ذلك في سفر اقتصادي نفيس هي آراؤه العلمية.

وخرج كينز من تأمله العميق وخبرته العملية والتطبيقية الواسع بنتائج اقتصادية عظيمة الخطورة في التعرف عليها اليوم لبعض دقائق السلوك الاقتصادي (والسياسي) للأمريكان حكومة وشعباً.

وكان هم (كينز) أن يضع العلاج للمساوئ التي تكتنف الاقتصاد الحر الذي تعيش عليه الدول الاقتصادية الكبرى في أمريكا الشمالية وبريطانيا، وأن يثبت بأن تنبؤات كارل ماركس الشيوعي عن إفلاس النظم الرأسمالية هي تنبؤات خاطئة لو تيسر لهذا الاقتصاد الحر أن يتبع أساليب مستحدثة في نشاطه الاقتصادي وسياسته المالية والتجارية.

وقد وجد كينز أن عهد الاستعمار المباشر قد انتهى وأن السياسة الاقتصادية الصائبة تقتضي جعل حرية التبادل النقدي أساسا للرخاء الاقتصادي بدل أن تكون السيطرة الاستعمارية على الأسواق التجارية هي عماد الرخاء في البلدان الصناعية الكبرى كأمريكا وبريطانيا، فحرية التبادل النقدي كفيلة بأن تضمن استقرار للأوضاع الاقتصادية وإصلاحا للمساوئ السياسية والاجتماعية التي ترافقها.

وكان الفكر الاقتصادي والتقليدي المعمول به في بريطانيا وأمريكا يؤكد بأن النظام الرأسمالي كفيل بأن يصون نفسه إذا استطاع أن يحقق العمالة الكاملة. فإذا توفر العمل لجميع الأيدي العاملة تولدت حلقة اقتصادية سليمة. فالعمل المستمر يحقق دخلاً مستمراً للناس ويزيد الإنتاج ويتوفر الدخل يزداد الاستهلاك المنتجات، أما استقرار أجور الأيدي العالمة وأسعار المنتجات المستهلكة فسيتوقف على طبيعة المنافسة الحرة في الاقتصاد الحر

ص: 9

وعلى مدى إدراك الناس لفضائل الادخار والاستثمار والإقبال على رفع مستوى معيشتهم وترك النقد المتداول جاريا مجرة سليم.

وتعمق كينز في هذه النظرية الاقتصادية القويمة على ضوء الأضرار الواسعة التي جلبتها الحرب على اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى وعلى مصانعها وموارد إنتاجها، وعلى ضوء التقلبات السياسية والاجتماعية التي ألمت بجزء واسع من آسيا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا (إلى حد ما) وهو جزء كان فيما مضى أجزاء من إمبراطوريات استعمارية واسعة. وخرج كينز بعد هذا التعمق بنتيجة مخالفة لهذه النظرية الاقتصادية القديمة فوجد:

أن العمالة الكاملة ليست أساس كل شيء، ففي استطاعة الدول أن تعيش على اقتصاد سليم إذا توفر فيها الاتزان - عمالة معتدلة لا هي بالكاملة ولا هي بطالة متفشية.

يجب على الدول الصناعية الكبرى التي تعيش على الاقتصاد الحر أن تدرك من أن النكسات الاقتصادية الخطيرة التي تصيبها بين آن وآخر - ليست عوارض تأتى وتزول - بل إن من الممكن لهذه النكسات أن تتطور فتولد إفلاساً تاماً لهذه الدول.

ويهمنا هنا أن نتعرف على موقف الأمريكان من نظرية (كينز) الجديدة؛ فقد استمر (كينز) يدخل تعديلات وإصلاحات على نظريته مما لا مجال لذكره هنا، وكان لا يجبن عن أن يناقض نفسه في رأي كان قد قرره سابقاً ثم وجد أنه مخالف لحقائق اكتشفها الآن. فهذه المرونة وجدت قبولاً حسنا لدى العقلية الأمريكية التي وجدناها طلقة لا تتقيد بحدث مضى ولا تترقب خفايا الغد البعيد.

فقد وجد الأمريكان أن كينز يعطي أهمية فائقة للاستهلاك الفعال في النشاط الاقتصادي. فقال إن علة القلق الاقتصادي الذي يعتري النظم الرأسمالية هو في الاستعمال الخاطئ للدخل والدخل على أنواع: دخل ينفق ودخل يدخر ودخل يستثمر في المشاريع المربحة. وأمر كينز ضرورة الاهتمام الرئيسي بالنوعين الأخيرين من أنواع الدخل وهما الدخل المدخر والدخل المستثمر في المشاريع المربحة. وقال إن ثروة الشعوب لا تقدر بكمية ما تملكه من مال مدخر بل بكمية الاستهلاك الفعال المستمر الناتج عن سياسة الاستثمار النافع الواسع النطاق.

وحذر كينز الدول الرأسمالية الكبرى بأنها يجب أن تتبع النصائح التالية إذا شاءت لنفسها

ص: 10

البقاء عزيزة سالمة.

(1)

يجب أن تسرع في تنفيذ الأساليب المستحدثة على ضوء التطورات الاقتصادية والسياسية الجديدة وألا فإن على النظام الرأسمالي السلام.

(2)

إذا ظل الدخل قاصراً عن استهلاك المنتجات التي تنتجها الصناعة والزراعة وسائر ألوان النشاط الاقتصادي فإن عجل الحياة الاقتصادية ستتوقف؛ فالدول الصناعية الكبرى بما لها من تفوق واستعداد فني حديث ستظل تنتج إنتاجاً هائلاً قد لا يوقى استهلاكه الشعبي في تلك الدول بسبب التفاوت بين مبلغ الدخل الفردي وبين كمية الإنتاج الهائلة وبسبب اكتفاء الناس بحاجات معينة تجعل لاستهلاك الفرد حداً لا مزيد عليه. ولك تتفادى الدول الصناعية الكبرى وقوف عجلة الحياة الاقتصادية فإن عليها أن تشجع سياسة الاستثمار - استثمار الأموال المدخرة للفرد وللمؤسسات المالية والصناعية - فهذا الاستثمار سيزيد من الدخل الفردي والدخل القومي ويشجع بالتالي على زيادة الاستهلاك ويوفر لعجلة الحياة الاقتصادية (الصناعية والزراعية) أن تتابع سيرها في أمن وسلامة.

وللاستثمار أوجه عديدة: منها استثمار محلي نافع خصوصا في الدول التي لها إمكانيات واسعة في الموارد الطبيعية والصناعية كأمريكا مثلاً، واستثمار في المشاريع المربحة في البلدان الخارجية.

(وجدير بالذكر أن الاقتصاد المنظم في الدول الشيوعية والاشتراكية إلى حد ما؛ يفرض على عجلة الاقتصاد خطوط السير ويحاول أن يقيد الإنتاج الصناعي والزراعي بحيث يعادل الإنتاج مع مقدرة الناس على الاستهلاك والشراء. وهذا التقييد يكون عادة على حساب حرية النشاط الاقتصادي ويأتي عن طريق مركزية حكومية صارمة تضع للنشاط الاقتصادي برامج لخمس أو لعشر سنوات أو لأكثر من ذلك أو اقل).

ولما كان النظام الاقتصادي الحر في الولايات المتحدة الأمريكية ينفر من المركزية الحكومية في التقييد والتوجيه الصارم؛ لذلك ولما كان شبح أزمة 1929 الاقتصادي يتراءى للأمريكان من بعيد في عالم ما بعد الحرب العالمية الأخيرة، وجدت نظرية الاستثمار - استثمار الأموال المدخرة أو الأموال الفائضة - التي جاء بها كينز - مكاناً عزيزاً في تفكير الأمريكان حكومة وشعبا.

ص: 11

وعلى ضوء هذه الحقائق يجدر بنا أن ننظر إلى (مشروع مارشال) وما استتبعه من خطوات أمريكية أخرى (كمشروع النقطة الرابعة)(ومشروع الضمان المتبادل) وبقية النواحي في سياسة أمريكا الخارجية في مجالها الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري - بما فيها الدفاع عن الشرق الأوسط.

وقبل أن نستعرض ذلك دعنا نتعرف على أهمية العنصر الأيديولوجي على المبادئ والعقائد والأسس العاطفية التي تكمن وراء فكرة الدفاع المشترك التي يبشر بها الأمريكان.

نيويورك

للكلام بقية

عمر حليق

ص: 12

‌الميسر والأزلام

للأستاذ عبد السلام محمد هارون

هل بقي الميسر في الإسلام

كان لأهل الجاهلية الكثير من العادات والنظم الشنيعة التي جاء الإسلام من بعد ونص على تحريمها، ونهى عن مزاولتها ومن ذلك وأد البنات وما كان فيه من شناعة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومنها نكاح المقت، وهو نكاح زوجة الأب. ومنها توريث الذكر دون الأنثى. من ذلك شن الحروب فيما بينهم للسلب والتهب، ومنها الميسر، والاستقسام بالأزلام، وشرب الخمر، وكثير غيرها من عادات الجاهلية.

وقد قضى الإسلام على معظم هذه المفاسد قضاءً مبرماً، فلم نسمع بأن شيئاً منها حدث في الإسلام إلا ما كان من شرب الخمر، فإن غلبتها لضعاف النفوس من المسلمين كانت غلبة متصلة الحلقات، لم يسلم عصر ولم يسلم بلد ممن كان يشرب الخمر ويحد فيها، ويلقى جزاء الشارب.

ولكنا لم نسمع ولم نقرأ أن قوماً من المسلمين اجتمعوا لمزاولة الميسر الجاهلي على نحو ما كان يصنع العرب قديماً، فلم تكد تظهر شمس الإسلام على ذلك الباطل حتى أزهقته وقضت عليه قضاء، ومحت معالمه، حتى تعذر على بعض الرواة القريبي العهد بالجاهلية أن يعرف حقيقته أو يظهر على كنهه، وحتى وجدنا إماماً كبيراً من أئمة العربية - وهو الأصمعي - يخطئ في ذلك خطأً ظاهراً، كما أسلفنا القول في المقال الأول.

وحرم الإسلام القمار - وهو ضروب شبيهة بالميسر الجاهلي كما قدمنا - ولكن القمار ظل إلى عصرنا هذا يقترفه الآثمون في صور شتى، ولعل أفشى صوره أظهرها اليوم هو (لعب الورق) الذي صار إثما دولياً يلتقي عليه المصري والأوربي والآسيوي والأمريكي في يسر، وصارت قوانينه عرفاً عاماً بين المتقامرين على شتى أجناسهم وبلدانهم.

والاستقسام بالأزلام

أما الاستقسام فهو طلب القسم، أي ما يقسم للإنسان ويقدر. والأزلام: جمع زلم، بضم ففتح، أو بالتحريك، وهو القدح، بكسر القاف، أو السهم من سهام الاستقسام.

ص: 13

والأزلام ذكرت في كتاب الله مرتين:

أولاهما قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام، ذلكم فسق).

والأخرى قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من علم الشيطان فاجتنبوه).

وقد اختلف المفسرون في هذه الأزلام، هل هي أزلام الميسر وقداحه، أم هي أزلام أخرى معينة؟ والراجح المعتمد أن المراد بالأزلام في الكتاب العزيز ضرب آخر من القداح يستعمل في أغراض أخرى غير الميسر، سنبسط القول فيما يلي. ويرجح ذلك:

1 -

أنها ذكرت في الآية الأولى بعد (النصب) فهاك علاقة بين هذه الأزلام وبين الأنصاب.

2 -

وفي الآية الثانية ذكر الميسر، ثم ذكرت الأنصاب ثم الأزلام؛ ولو كانت الأزلام والاستقسام بها شيئاً هو الميسر لما ذكرت في الآية مرة ثانية، أو لذكرت بعد الأزلام مباشرة على طريق الترادف أو نحوه.

3 -

قال الأزهري: (وقد قال المؤرخ وجماعة من أهل اللغة إن الأزلام قداح الميسر). وقال: (وهو وهم).

4 -

وقال الفخر الرازي: (قال المؤرخ وكثير من أهل اللغة: الاستقسام هنا هو الميسر المنهي عنه، والأزلام قداح الميسر. والقول الأول اختيار الجمهور). يعني بذلك طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح.

5 -

ومما يؤيد أن المراد بالأزلام في القرآن غير أزلام الميسر ما روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة). فالاستقسام في هذا الحديث مقرون بالتكهن والتطير. وهذا يدل على أنها أزلام الاستخبار والاحتكام لا أزلام الميسر.

6 -

وجاء في اللسان رواية عن الأزهري: (ومعنى قوله عز وجل: وأن استقسموا بالأزلام، أي تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم. ومما يبين ذلك: أن الأزلام التي كانوا

ص: 14

يستقسمون بها غير قداح الميسر ما روي عن عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو أبن آخي سراقة بن جشعم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة يقول:

جاءتنا رسل كفار قريش يجعلون لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتلهما أو أسرهما. قال: فبينا أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم فقام على رءوسنا فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل لا أراها إلا محمداً وأصحابه. قال: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بغاة. قال: ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتي أن تخرج لي فرسي وتحبسها من وراء أكمة، ثم أخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخفضت عالية الرمح وخططت برمحي في الأرض حتى أتيت فرسي فركبتها ورفعتها تقرب بي حتى رأيت اسودتهما، فلما دنوت منهم حيث اسمعهم الصوت عثرت بي فرسي، فخررت عنها وأوهيت بيدي إلى كنانتي فأخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضيرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره: أن لا أضيرهم. فعصيت الأزلام وركبت فرسي فرفعتها تقرب بي حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي وخررت عنها. قال: ففعلت ذلك ثلاث مرات إلى أن ساخت يدا فرسي في الأرض).

قال الأزهري: (فهذا الحديث يبين لك أن الأزلام قداح الأمر والنهي، لا قداح الميسر).

الأزلام في الشعر العربي

1 -

وقد نطق الشعر الجاهلي بأزلام الاستقسام، إذ يقول طرفة:

ففعلنا ذلكم زمناً

ثم دانى بيننا حكمه

أخذ الأزلام مقتسماً

فأتى أغواهما زلمه

عند أنصاب لها زفر

في صعيد جمة أدمه

دانى، أي أقارب. ويعني بالحكم الغلاق بن شهاب السعدي، أنفذه النعمان الأكبر ليصلح بين بكر وتغلب فأصلح بينهم محتكما في ذلك إلى الأزلام. الزفر من العطايا: الكثيرة. يعني بها ما يهدي إلى الأنصاب من قرابين. ووعني بالأدم جلود ما ينحر عندها من الإبل ونحوها.

2 -

ونطق الشعر الإسلامي بذلك الاستقسام. قال الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري:

لم يزجر الطير أن مرت به سنحاً

ولا يفيض على قسم بأزلام

ص: 15

يريد أنه لا يتطير من السانح والبارح، ولكنه يمضي متوكلاً على الله عز وجل، ولا يستسقم بالأزلام كما كانت تفعل الجاهلية.

وقال آخر:

هم المجيرون والمغبوط جارهم

في الجاهلية إذ يستأمر الزلم

3 -

ونلمح في الشعر العباسي أيضاً وميضاً من الإشارة إلى الأزلام أو أقداح الاستقسام فيما رواه أبو الفرج من القصة التالية، ن عن محمد وهيب الشاعر قال:

لما ولي الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك قلت فيه شعراً وأنشدته أصحابنا دعبل بن علي وأبا سعد المخزومي وأبا تمام الطائي فاستحسنوا الشعر وقالوا: هذا لعمري من الأشعار التي يلقى بها الملوك فخرجت إلى الجبل، فلما صرت إلى همذان أخبره الحاجب بمكاني فأذن لي فأنشدته الشعر فاستحسن منه قولي:

أجارتنا إن التعفف بالياس

وصبرا على استدرار دنيا بإبساس

حريان ألا يقذيا بمذلة

كريماً وألا يحوجه إلى الناس

أجارتنا إن (القداح) كواذب

وأكثر أسباب النجاح مع اليأس

فأمر حاجبه بإضافتي. فأقمت بحضرته كلما وصلت إليه لم أنصرف إلا بحملان أو خلعة أو جائزة حتى أنصرف الصيف، فقال له: يا محمد، إن الشتاء عندنا علج فأعد يوماً للوداع فأنشدنني الثلاثة الأبيات، فقد فهمت الشعر كله. فلما أنشدته:

أجارتنا إن (القداح) كواذب

وأكثر أسباب النجاح مع اليأس

قال صدقت فلم يزل يستعيدني هذا البيت وأنا أعيده عليه، ثم قالوا عدو أبيات القصيدة فأعطوه لكل بيت ألف درهم، فعدت فكانت اثنين وسبعين بيتاً، فأمر لي باثنين وسبعين ألف درهم.

للبحث صلة

عبد السلام محمد هارون

ص: 16

‌تاريخنا العربي

دعوة إلى دراسته وإعادة كتابته من جديد

بمناسبة المؤتمر الثقافي للإدارة الثقافية في جامعة الدول

العربية المنعقد قي عمان

للأستاذ كمال السوافيري

نشرت مجلة الرسالة الزاهرة في العدد 995 البيان الذي أذاعته الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية عن سعيها لخلق جيل عربي يعتز بقوميته العربية ويقدس تراثه المجيد، وتحقق الإدارة من أن علم التاريخ هو أهم الوسائل التي تحقق هذه الاهداف، ودعوتها إلى تأليف لجنة من الخبراء في التاريخ لوضع قواعد عامة، يسترشد بها في تأليف كتب التاريخ المدرسية في البلاد العربية وتقرير مناهج موحدة في هذه المادة في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي.

واتجاه الإدارة الثقافية هذا الاتجاه القومي أمر محمود الأثر جليل الخطر، إن يكن لنا اعتراض عليه فهو تأخره حتى اليوم.

وإننا إذا نتمنى للإدارة الثقافية، وللجنة الخبراء في التاريخ المنبثقة عن الإدارة التوفيق في مهمتها، نرجو ألا يقتصر الأمر على بحث توحيد المناهج التاريخية في الأقطار العربية؛ بل يتجاوز ذلك إلى النظرة الفاحصة والدراسة الشاملة الدقيقة للكتب التاريخية المنبثة في المكتبة العربية.

ولست أعدو الواقع إذا قلت إن تاريخ العرب لم يجد منهم العناية اللائقة به، والدراسة المنظمة لإحداثه ووقائعه، وتنقيته من الرواسب التي علقت به منذ عصر تدوين العلوم. والتبعة في هذا واقعة على كواهل أعلام الفكر وأقطاب البيان في الأمة العربية.

ولسنا نريد أن نرجعإلى الوراء لنغوص في أعماق الماضي البعيد ونوضح الخلط الذي وقع فيه المؤرخون حين تحدثوا عن العرب في الجاهلية وما وقعوا فيه عند الحديث عن هذه الفترة من اخطاء؛ ولكنا نقصر كلمتنا عن التاريخ العربي بعد أن بزغ الإسلام على الجزيرة العربية وأرسل نوره الوهاج إلى آفاق المعمورة فبدد ظلامها، وأضاء جوانبها. مستعرضين

ص: 17

المراحل التي مر بها تدوين ذلك العلم وما وجه إلى طريق تدوينه وجمع أخباره من نقد وما أبدى عليه من ملاحظات. لقد مر تدوين التاريخ بعد الإسلام على وجه التحديد في أوائل العصر العباسي الأول بمرحلتي الأولى تدوين الأحداث حسب الترتيب الزمني الذي لها، وربطهم بالسنين وروايتها بطريقة السلسة؛ وممن سار على هذه الطريقة المؤرخ المشهور ابن جرير الطبري. حاكاه فيها - خلفه العظيم ابن الأثير بعد أن اسقط سلاسل الرواة. ومن قبلهما ابن اسحق والواقدي. . الأول في السيرة والثاني في ألفتوح. والمرحلة الثانية هي التدوين على غرار الأسر أو الدول والأشخاص كتاريخ الخليفة عمر بن الخطاب أو الدولة الأموية أو الطولونية حيث يترجم المؤرخون للخليفة أو الحاكم ويستعرض ما حدث في عهده من الأحداث وقد يتطرف إلى ذكر بند عن حالة البلاد المجاورة في ذلك العهد ومن الذين ساروا على هذه الطريقة كل المؤرخين الذين كتبوا عن الأمم والأشخاص والبلدان كابن طيفور صاحب تاريخ بغداد ويوسف ابن الداية والكندي والعتبي وغيرهم.

وفي هاتين المرحلتين لوحظ على تدوين التاريخ أن الأخبار كانت تروى في المرحلة الأولى على علاتها دون بحث أو تمحيص وفي الثانية يسقط منها ما لا يرضى الأسرة الحاكمة أو الدولة أو الخليفة. ولوحظ أيضاً أن التدوين في المرحلتين لم يعد النواحي السياسية والحوادث التاريخية المرتبطة بحروب الخليفة مع غيره أم المتعلقة بشخصه؛ حتى ليكاد القارئ يظن أن تاريخ الأمة العربية كان جملته حياة ولاة وخلفاء، ووحدة منازعات ومخاصمات، لا تاريخ أمة ولا حضارة شعب. ويبدو ذلك جلياً في استعراض المؤرخين للأحداث السياسية الجارية في أزمانهم وإبرازهم ما يتصل منها بالقادة والخلفاء، وإهمالهم النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للشعب. ومما لا ريب فيه أن التاريخ ليس هو الجانب السياسي المحض للامة، ولكنه الوحدة القائمة على تفاعل الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد ظل هذا التشويش يسود تدوين التاريخ إلى أن ظهر الفيلسوف الاجتماعي المؤرخ العلامة ابن خلدون في القرن الثامن وألف مقدمته فألقى أضواء متألقة على تدوين التاريخ، ولم يفته أن يطلع على المراجع التاريخية التي ألفت في العهود السابقة لعهده وما نقله المؤرخون من الأخبار التي لا سد لها من الحقيقة فهاجمهم وأنكر عليهم تخبطهم ورسم لهم الطريقة المثلى وابرز المطاع المأخوذة

ص: 18

على بعضهم إذ قال: وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز وهو معرف عند الإثبات ومشهور بين الحفظة والثقات.

وكان أهم ما أخذه ابن خلدون على المؤرخين القدامى اعتمادهم في الأخبار على مجرد النقل دون تحكيم أصول العادة وطبيعة العمران ومبادئ الاجتماع.

إن الأخبار إذ اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسية وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبورها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ومع أننا لا نوافق ابن خلدون في كل ما جاء في مقدمته وخصوصاً في تحامله على العرب نرى أن طريقته في تدوين التاريخ كما جاءت في المقدمة هي الطريقة العلمية. ويغلب على ظننا أنه كتبها بعد أن انتهى من تأليف كتابه لأنه لم يجر على المنهج الذي رسمه لنفسه فيها.

ولا نريد أن نضرب الأمثال على تخبط المؤرخين القدامى في الحوادث فقد سرد أبن خلدون عدداً منها وناقشها مناقشة علمية، ولكنا نورد حادثتين على سبيل التمثيل لا الحصر يؤيدان ما ذهبنا إليه؛ هما: فتك المنصور بابي مسلم الخرساني وتنكيل الرشيد بالبرامكة وفيهما يتضح التخبط في تعدد الأسباب واختلاف الآراء.

وهناك ناحية أخرى لها أهميتها البالغة وهي الشعوبية المدمرة التي أطلت برأسها في العصر الأموي ثم استعمل في خطرها في العصر العباسي فلم تترك خليفة من الخلفاء العرب أو قائداً من عظام قوادها إلا حاولت أن تغض من قدره وتحط من شأنه باختلاق الأكاذيب وابتداع الأقاويل التي لا ظل لها من الحقيقة. لذلك أرى أن تمتد رسالة اللجنة المؤلفة لتوحيد مناهج التاريخ إلى النظرة الفاحصة في تاريخ الأمة العربية والعمل على إعادة كتابته من جديد. ولا بأس من أن نمهل اللجنة حتى تفرغ من مهمة توحيد مناهج التاريخ المدرسية.

ص: 19

وعلى الإدارة الثقافية وأعلام الفكر في دنيا العروبة أن يوجهوا عنايتهم إلى التراث العربي المجيد المبعثر في شتى المراجع ومختلف المصادر تختلط فيه الحقائق بالأساطير، ويختلف، فيه مؤرخي الإفرنج، ويوجه إليه المستشرقون غمزات النقد والتجريح، فينقوه من الشوائب ويصفوه من الرواسب ويخرجوه إخراجاً جديداً في إطار جميل تبرز فيه جوانب العظمة وأمجاد الماضي ومناهل العلم وأنوار الحضارة مع توجيه النظر إلى المآثر الغر والأيام الخالدة في تاريخ العرب والإسلام التي تهز المشاعر وتحرك العواطف، ليقف العربي المسلم على مجد أمته حين اتسعت رقعتها وترامت أطرافها فضمت معظم أجزاء آسيا وأفريقيا وجزر الروم ثم وثبت على أوربا فأنشأت حضارة في الأندلس استضاءت بنورها دول أوربا وظلت تدرس في جامعات الغرب حتى عصور متأخرة. ويبقى بعد ذلك أن نقرر أننا لا نريد أن يفهم القراء من دعوتنا هذه مفاخرة العرب لغيرهم من الأمم بالماضي أو الاعتزاز بعظام نخرة وقبور دارسة؛ بل نهدف إلى أن يطلع الشباب العربي والإسلامي على الماضي ليربط العرب والمسلمون بين ماضيهم وحاضرهم فيستلهموا من الماضي العزة والبطولة ويعلموا أنهم ليسوا اقل شأناً من اعظم الأمم المعاصرة، مثل هذا الشعور إذا نفذ إلى مسار النفس ملأها ثقة وطمأنينة، وحفزها للوثوب والنهوض، ولدى الأمة العربية اليوم من الوسائل ما يمكنها من أن تنهض بحاضرها على ضوء ماضيها المجيد.

كامل السوافيري

ص: 20

‌هل كان النبي يعلم الغيب؟

للأستاذ احمد محمد جمال

هل كان النبي محمد عليه السلام يعلم (الغيب) كلياً، ومطلقاً، ودائماً؟

أما أنا: فأقول: لا. وإنما كان يعلم (الغيب) بإيحاء الله له - متى شاء - في أزمنة، وأمكنة، وقضايا محدودة غير مطلقة. وليس الحجاب مكشوفاً له دائماً، بحيث يرى (غيب) ملكوت السموات والارض، ويعلم كل ما حدث أمس، وكل ما يحدث بعده. . وإن لم يرهما.

ولكن الأستاذ ناصر سعد - من العراق - كتب في مجلة الرسالة الغراء (العدد - 998) مقالا يجزم فيه بقوله: (إن النبي - ولا شك - كان يعلم الغيب فيخترق بعقله أو بروحه الحجب، ويعرف حقائق أسرار الكون. . . ولا مجال لتكذيب هذا الأمر اليوم، بعد أن اقر علم النفس الحديث قراءة الأفكار وإحضار الأرواح ومحادثتها) الخ.

وذهب الكاتب الفاضل يضرب الأمثال على ما زعم فذكر:

(1)

إخبار النبي عليه السلام لعمار بن ياسر (إنما تقتلك الفئة الباغية).

(2)

تحديثه بأشقى رجلين: أحمير ثمود عاقر الاقة، وعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

(3)

تحديثه عمير بن وهب بما جاء من اجله إلى المدينة، وهو ما تآمر عليه هو وصفوان بن أمية، في الحجر باليمامة، من اغتياله عليه السلام.

(4)

إخباره لعمه العباس يوم أسر في واقعة بدر، بما خبأه عند أم الفضل بمكة من مال.

(5)

ما حدث به سلمان الفارسي أثناء حفر الخندق، عنده لمعت برقات ثلاث تحت معوله عليه السلام الذي كان يضرب به صخرة اعترضت الخندق، فقال عن الأولى إنها بشار فتح اليمن، والثانية فتح الشام والمغرب، والثالثة فتح المشرق،

وقد صحت هذه البشريات، فتمت هذه ألفتوح.

(6)

حديثه عن العاصفة التي هبت في طريقه إلى غزوة بني المصطلق، بأنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، فلما وصل المسلمون إلى المدينة وجدوا رفاعة بن زيد اليهودي قد هلك في ذلك اليوم. . .

(7)

قصة حاطب بن أبي بلتعة، وعلم النبي بالمرأة التي حملت حاطب رسالة إلى مشركي

ص: 21

قريش ينبئهم فيها بمقدم النبي إليهم.

(8)

إخباره لوفد أهل جرش - باليمن - بما أصاب قومهم من تقتيل صرد بن عبد الله لهم.

إلى غير ذلك من الحوادث - ذكرها الكاتب أم لم يذكره - مما اتخذها أدلة على علم النبي (بالغيب)، وهي - إن كثرت أو قلت - لا تغني في تقوية ما زعم، ولا تكفي لتصحيح ما ادعاه.

وأول ما نريد نقضه من قواعد زعمه ما زين له من الاحتجاج بما اقره علم النفس الحديث من (قراءة الأفكار) و (إحضار الأرواح ومحادثتها).

فليس ما كان يوحى إلى النبي عليه السلام من (غيوب محدودة معدودة من قبيل قراءة الأفكار، وإحضار الأرواح. وإن فما الفرق بينه وبين الناس العاديين الذي يحترفون هذين العملين الوهمين - على الصحيح -؟

إن الحجة يجب أن تكون من جنس المحتج عليه. وعرف النبي ببعض (الغيوب) كان وحياً إلهياً، لا أكثر ولا أقل وهذان العلمان أو الوهمان ليسا كذلك بلا مراء، ثم إن علم النبي ببعض (الغيوب) لا يصححه لدينا أو يصوبه ويؤكده لنا شيء من هذه التجارب والمعارف الحديثة؛ وإنما نؤمن به، كما نؤمن بالقرآن الذي يذكر لنا أن محمداً عليه السلام أوتى بمعجزات عديدة، كما أوتى النبيون من قبله معجزات أيضاً. ولا نزيد.

وهذا (القرآن) الذي نؤمن به، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونؤمن بما ذكره عن معجزات الأنبياء جميعاً - يذكر في آيات صريحة فصيحة مكررة مؤكدة: أن النبي عليه السلام كان لا يعلم الغيب كلياً، ومطلقاً ودائماً.

- (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله).

من سورة النمل

(قل لا أملك لنفسي نفعاً أو ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. .)

من سورة الأعراف

- (قل ما كنت بدعا من الرسل، وما ادري ما يفعل بي ولا بكم. .) من سورة الأحقاف

- (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب. .)

ص: 22

من سورة الأنعام

اجل لو كان النبي عليه السلام يعلم الغيب كله، لاستكثر من الخير، ولما مسه سوء أعدائه ومكائدهم، ولاتخذ من كل أذى حمى، وحسب لكل هزيمة من المعارك التي هزم فيها المسلمون حساباً، ولما أسف على كفر من كفر، وما حزن على مسارعة من يسارع إلى الكفر، أو على قول من يقولون له لست مرسلاً. . أو من يطلبون منه مطالب الإعجاز والإعنات، لأن من يعلم ما سيحدث له لا يبالي به إذا حدث، لأن نفسه قد استقرت على تلقيه استقباله. .

ولكن النبي - كما يذكر القرآن في عدة مواضع - كان بأسف وكان يحاول أن يبخع فسه، وكان يضيق صدره، بما يفاجأ به من أحداث.

وبعد فما كان همي أن اقرر ما قررت من عدم علم النبي بالغيب مطلقاً، في ردي من زعم هذا العلم. فذلك واضح في القرآن والسنة، ولكن همي أن افرق بين علم النبي ببعض الغيوب، وبين قراءة الأفكار وإحضار الأرواح وغيرهما من تجارب العصر الحديث، التي لم تصل بعد إلى درجة اليقين، أو التي لا تعد علما بالغيب - بالمعنى الصحيح - وإنما تعتبر من قبيل التفهم والتفرس واشتداد قوتهما عند بعض الأذكياء من الناس.

وهمي كذلك ألا يتخذ بعض المحترفين ما زعمه الكاتب حجة لهم فيما يحترفون من قراءة أفكار، وإحضار أرواح. . .

وشتان بين معجزات الأنبياء، وترهات الأدعياء.

مكة المكرمة

احمد محمد جمال

ص: 23

‌خاطرة

نداء الفلاح. . .

للأستاذ احمد عبد اللطيف بدر

يا صباح النور!

أشرقت على طلعتك، وكنت غريقاً في ظلام الحيرة! تائها في متاهات الظلم! يا صباح النور!

في مشرك إشراق الأمل بقلبي؛ فقد عشت طويلاً أرى أشباحاً تجمع الغيم على عيني، وتحول بين وضاءتك وبيني!

يا صباح الخير!

كنت مخفقاً في حياتي، ولكنك خفقت بأضوائك فخفق فؤادي لسنا سنائك! فيك - يا صباح الخير - نور الحياة، وشرف المبدإ.

كانت الحبات تساقط على جبيني؛ فتلمع في وهج الشمس؛ ثم تروي ارضي الطيبة وتخرج اللؤلؤ الذي ارقبه من بعد، لأعد حبات الحصى!

يا صباح النور!

طال ليلي، وزاد ويلي، واستحب استعبادي حتى ذهب رشادي!

اخرس اللسان بعد أن أسكتته الحاجة، وذل الجنان بعد أن أخضعته الشراهة، وانحنى الرأس على الفأس لكن بقيت الكرامة!

يا صباح النور!

زعم السادة خلود السيادة؛ فورمت انوفهم، وانتفخت أوداجهم، وطغت أهواؤهم، حتى جئت بالأمر الجلل الذي جدع الأنوف، وقدمت الوعيد الذي قطع الوريد، وأرهبت الشيطان فتناثرت الأهواء!

يا صباح النور!

كنت اجمع الخير من حقلي لأطعم أخوتي الذين يرقبون نتاجي، لكن تأبى خليقة الجشع إلا أن تضن أو تمن، والأرض الطيبة ضاحكة ساخرة!

يا صباح النور!

ص: 24

كنت أتطلع إلى مطلع الشمس! وارى أشعتها تباكر بالتحية؛ فأخفض الجناح، لأن الخالق قد أودع فيها سر النماء.

وكنت أتسمع إلى زقاء الديك الذي يردد تسابيحه في مشرق اليوم الجديد فأسبح القادر الذي أودع هذا المخلوق تلك القدرة الفائقة!

يا صباح النور!

لقد تطلعت في مولدك إلى بهاء الحياة بعد أن رسمت في الأقل أشعت الحرية، والعدل، والمساواة!

وصحوت على زأرة الأسد التي أرهبت الذئاب، فذهبت على ظهور الملق والخداع والرياء، تظهر العطف على الحملان!

يا صباح النور!

لم تعد سحب تطغي هذه الأشعة الوضيئة؛ فأنر القلوب لتزول عتمتها وتذهب احقادها، وتتألف وحدتها!

يا صباح النور!

عشت قانعا فلن اخرج عن قناعتي، بل أعطي لذي الحق حقه، غير أني لا اخفض رأسي لغير فأسي!

يا صباح النور!

أنت أمل مترقب، بعد يأس مخضع، فأشرق على الوادي ليرى فيك سر السعادة، وجمال الحياة!

بور سعيد

احمد عبد اللطيف بدر

ص: 25

‌شلر

للكاتب الكبير توماس كارليل

ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

اعتبر المزاج في الشعر أول دليل من دلائل عذوبته ولطفه وخفته. والذي يعوزه هذا، ولو كان يمتلك جميع المواهب الاخرى، يمتلك نصف ذهن لأن نظره لا يفارق الأشياء العلوية ليرى الأشياء الدنيوية المحيطة له. وينفرد شيلر من بين جميع الشعراء العباقرة بمثل هذا القصور. لأنك لن تجد في كل كتاباته دليلاً واحداً على هذه الروح ولا حتى محاولة في هذا الاتجاه. لأن طبيعته نفسها خالية من ذلك. وكانت مشاعره جدية لدرجة لا تسمح لنفسها باتخاذ أي أسلوب في أي نوع من المرح أو المزاح. وهكذا لا يمكن الكشف على أي نوع من الهزل أو الكاريكاتور أو السخرية. هذا الأشياء التي هي جوهر المزاح - في أي شيء كتبه شيلر. فمؤلفاته مفعمة بالجد المكدود ولذا يعتبر أرصن كاتب. ولكننا مع ذلك نجد في بعض بحوثه النقدية وخصوصاً كتابه (الرسائل الجمالية) ما يدعي (بالنازع الرياضي) وهو يعتبر أعلى هدف في ثقافة الإنسان. وهذا يدل دلالة بينة على أنه عرف معنى الهزل وأهميته بالنسبة إلى فكره، ولو أن ذلك كان غريباً عنه وبعيداً منه. . . ومع ذلك فهو لم يدرك هذه الذروة التي رآها بكل هذا الوضوح والجلاء. فالروح الرياضية ظلت معه مجرد نظرية إلى الأخير. وباستثناء كتابه (ولنشتاين لاغر) - الذي يظهر فيه الهزل باهتاً ضحلاً - فإن محاولاته في هذا الخصوص - على قلتها - كانت ثقيلة جامدة. وميزاته في كل شيء كتبه لا تعدو الشدة الصارمة والغيرة الحماسية الجدية، والفخامة البعيدة عن الرشاقة، بينما نرى الخفة والمرح الرياضية معدومة فيه تماماً. وربما يرجع ذلك إلى إخلاصه واستقامته في استخدام فطنته، وانصبابه على تبيين العلائق العميقة بي الأشياء بدلا من ملاحظة تصادماته الوقتية. زد على ذلك أنه كان يقصد (الإثبات) لا (النفي) - أي أنه كان يعتبر ما هو موجود أنه احسن ما هو موجود - وفي النفي وحده يظهر عامل الفطنة الهازلة، لقد وضعنا هذه الملاحظات للإشارة إلى حدود عظمة شلر والفرع الذي اختص به. وهذا لا يعني نكران حقيقة هذه العظمة. أما شعوره بالحقيقة تأملاً وعملاً وإدراكه البهيج العميق للطبيعة والانسجام الحي الذي بواسطته يتمكن من تصوير ما هو جليل وعظيم في

ص: 26

الطبيعة، فأمور يعرفها كل من قرأ كتبه، وعليه فليس من حاجة لتذكيرهم بها. وهو يعد في طليعة الشعراء الذين كتبوا في البطولات التراجيدية الشجية، إذا لم يكن أعظمهم إطلاقاً. وهناك أما دارسي شلر المثابرين جهاد شاق قبل التعرف على آرائه، لأن الكنوز الخفية من الفكر الشعور لم تزل مغطاة بغطاء النسيان. وهناك غمة في بعض كتبه الأخيرة فيها لحن العوالم العليا مجسداً في الفن. وعليه فليست النواقص الطبيعية والعرضية التي عرضنا لها في عبقريته، بمانعة من اعتباره من أعاظم الشعراء، وهذا ليس غريباً في شيء لأن كثيراً من الشعراء العظام كانت لديهم هذه الهنات. ولنضرب لذلك مثلاً، ملتون، فهو يقاسمه في كثير من معايبه، لأنه كان يركن إلى الجزالة في اللفظ والفخامة في الاداء، ويتطلع إلى الأعلى والى كل شيء جدي، أما ما يخص شؤون الحياة الأرضية فتراه قاصراً على فهمها وإدراكها. وهو كذلك ليس لديه من المزاح إلا القليل. وأسلوبه خشن في الهجاء مع توكيد على السخرية والتهكم وابتعاد من المرح والروح الرياضية اللعوب. أما من الناحية الإيجابية فهناك تشابه اكبر بين هاتين الشخصيتين، ولو أن شلر عاش في ظروف اخرى، ولم يمتلك تلك القوة الروحية العنيفة ولا تلك القابلية الضخمة، ولكنه كان يشبه ملتون في شدته وتركيزه على ما هو سام في الطبيعة والفن. وقد عشق - كل على طريقته الخاصة - ذلك السناء السماوي - وعبد عبادة قلبية صادقة. ولكن طبيعة شلر يعوزها الانسجام الفني الذي امتاز به ملتون. وقد عرف ملتون بعقمه وعذوبة موسيقاه المترابطة. ومع ذلك، فعند شلر شيء من القوة النقية المتفجرة والنغمات العذبة التي تشبه في جلالها وعمقها وفخامتها نغمات ملتون الخالدة.

امتاز شلر في العالم كمؤلف دراماتيكي، وغالباً ما نشعر بأن القدر وليس الميل الطبيعي هو الذي قاده في هذا الاتجاه، لأن موهبته كانت غنائية أو بطولية اكثر مما كانت دراماتيكية. لقد عاش منطوياً على نفسه، وهذا ما جعل عمله في تصوير العالم الخارجي أمراً صعباً. لا بل إن كثيراً من شعره - كما أشرنا من قبل - هو خطابي اكثر مما هو شعري. ومع ذلك، فالنار النقية الوهاجة ظلت مستعرة في أعماق روحه، هذه النار التي لا تجد متنفساً إلا في الشعر. أما بقية سجيته فكانت أميل إلى الصرامة العادية، مما جعل تطور قابليته الشعرية أمراً في غاية الصعوبة والإجهاد. فهذا العنصر المسيطر النقي لم يكن يتطور التطور

ص: 27

المطلوب، لأنه كان كالنهر البطيء الجريان في وسط صخور ناتئة كبيرة. لقد تكلمنا كثيرا عن حمية شلر غير المجزأة في التثقيف الذاتي وفي التقدم الذي أنجزه بالرغم من الصعوبات التي تخطاها. يتجلى لنا ذلك بكل وضوح إذا نحن قارنا بين مؤلفاته المبكرة والمتأخرة. وبهذه الواسطة سنقدم لقرائنا الذين لم يتعرفوا على شيلر فكرة واضحة عن شخصيته الشعرية، لأن الوصف وحده غير مجد في ذلك. دعنا نأخذ (اللصوص) لأنها أول إنتاجه، هذا الإنتاج الذي يدعوه شيلر (بالعملاق الذي ولد في التزاوج غير الطبيعي بين العبقرية والعبودية)؛ ولا شك في أن النار المتأججة في هذه القطعة حتى في الفقرات المنفصلة. وللمنظر الآتي معجبون حتى في ترجمتنا الإنجليزية العادية المائعة وهي المنظر الثاني في الفصل الثالث.

(اللصوص)

منظر ريف على الدانوب

اللصوص مجتمعون في المرتفع تحت الأشجار الوارفة؛ الخيل ترعى في سفح التل.

مور: لا اقدر على السير اكثر (يرمي بنفسه على الأرض). إن أطرافي تؤلمني وكأنها سحقت سحقاً. إن لساني لافح من العطش (يتسلل شفارز خلسة). ارجوا أن تجلبوا لي قليلاً من الماء من الساقية؛ ولكنكم متعبون حتى الموت.

شفارز: وكذلك الخمر موجودة في الأدنان.

مور: انظر ما أجمل موسم القطاف! إن الأشجار تتكسر تحت أثقالها التي تنوء بها. والأمل في الكروم كبير.

كرم: إن السنة سنة خير.

مور: أتظن ذلك؟ وإذن فمتاعب الإنسان في هذا الموسم ستجازى. ومع ذلك فقد تدهمنا عاصفة برد فتدمر كل شيء.

شفارز: هذا محتمل تماما. قد يدمر كل ذلك قبل الحصاد بساعتين.

مور: وهكذا أقول أنا. سيتدمر كل شيء. لماذا الإنسان. فيما يتعلمه من النملة، بينما هو يفشل فيما يجعله بالآلهة. أهذا الهدف الحق من مصيره؟

ص: 28

شفارز: أنا لا اعمل ذلك.

مور: لقد قلت حسناً، وأجدت عملاً، إذ انك لم تحاول أن تعرف ذلك! - أخي - لقد نظرت إلى الناس ومخاوفهم التافهة ومشاريعهم العظيمة وخططهم الإلهية ومشاغلهم الوضيعة ومسابقاتهم المدهشة لإدراك السعادة؛ فمنهم من يعد على قدميه، وفلك الحظ دائر بسرعة جنونية، ومثل هذا الذي يقرر مصير كثير منهم. كل يسعى لاهثاً للحصول على الجائزة ولكن البطاقات كلها فاشلة. إنها، يا أخي، مأساة تستحق الدمع الدامي ولو أنها تستثير الضحك.

شفارز: أن غروب الشمس رائع جداً.

مور: (متوارياً عن الأنظار) وهكذا يموت البطل.

كرم: يظهر إن هذا أثارك.

مور: عندما كنت صبيا، كانت فكرتي الحبيبة أن أعود كذلك وأموت كذلك (بألم دفين) لقد كانت فكرة صبى.

كرم: آمل أن يكون ذلك حقا!

مور (ينزل قبعته على وجهه) يوم كنا ولا تسل كيف كان دعوني. وحيدا، أيها الرفاق.

شفارز: مور! مور! ماذا؟ يا للشيطان! كيف تغير لونه.

كرم: ها! ماذا يؤلمه؟ أهو مريض؟

مور: مرت أيام لم اكن أستطيع أن أنام فيها إذا أنا نسيت صلاة المساء. . .

كرم: هل أنت مجنون؟ هل تترك مثل هذه التخيلات والوساوس لتهذيك من جديد!؟

مور: (يضع رأسه على صدر كرم) أخي! أخي!

كرم: تعال! لا تكن طفلا، أستعطفك بالله. . .

مور: آه لو كنت طفلاً! آه لو كنت وحيداً!

كرم: بوه! بوه!

شفارز: مرحى. تطلع إلى المنظر البديع والمساء الجميل.

مور: نعم أيها الأصدقاء، إن هذا العالم بديع حقاً.

شفارز: نعم، هذا حق.

ص: 29

مور: إن هذه الأرض رائعة.

كرم: حقا، حقا، وهو كذلك.

مور: (مستلقياً على ظهره) ولكني بشع الخلقة في هذا العالم الجميل وغريب الشكل في هذه الأرض الرائعة.

كرم: دعنا من ذلك.

مور: سذاجتي! سذاجتي! انظر، إلى الأشياء كيف تضحي تحت أشعة الربيع الهادئة: لم يجب علي أن أتنشق عذاب الجحيم من مسارب مسرات الحياة؟ والناس كلهم مسرورين تربطهم رابطة الإسلام؛ والعالم عائلة واحدة ترعاها عين الأب الحدب في الأعالي، ولكنه ليس أبي! وأنا وحدي طريد شريد، وبعيد عن مجتمع الاخيار، ليس لي ولد يلغ باسمي، وليس لي أمل في نظرة واهنة. ممن احب، ولا رجاء في عناق صديق حميم. أنا محاط بالقتلة، والأفاعي تفح حولي، أنا مندفع إلى خليج الفناء على تيار الإثم المتدفق

شفارز: (إلى الآخرين) ما هذا؟ لم أره هكذا قبلا أبداً.

مور: (بحزن مثير) آه، لو كان في إمكاني الرجوع إلى بطن أمي! - آه، لو ولدت متسولاً! كلا! أيتها السماء أنا لا اجرؤ أن اصلي كي أكون واحدا من العمال حتى اعمل طول نهاري.

اعمل حتى يتفطر صدغي دماً، لأشتري لنفسي راحة نوم ظهيرة واحدة. وعزاء دمعة واحدة.

كرم: (إلى الآخرين) صبراً لحظة واحدة، لأن النوبة عابرة.

مور: لقد فات الزمان الذي كنت أتمكن من البكاء فيه.

آه على أيام السلام، يل قلعة والدي، أيتها الوديان الخضراء! واها على مناظر طفولتي! ألا تعودين إلى مرة أخرى بتأوهاتك المسكرة العاطرة لتهدئ روع قلبي المستعر. اندبي معي أيتها الطبيعة. إن هذه الأيام لن تعود مطلقاً لتطفئ النار المشتعلة في صدري. إنها ذهبت! ذهبت! ولن ترجع.

(أو خذ مثلاً مناجاة مور في موضوع الانتحار، في غابة في منتصف الليل بين اللصوص الراقدين).

ص: 30

(يترك القيثارة جانبا، ويسير صعودا ونزولا في تفكير عميق).

للكلام صلة

يوسف عبد المسيح ثروت

ص: 31

‌سليمان العبسي في ديوانه (مع الفجر)

للأستاذ احمد الفخري

تتمة

ليس بإمكان النفس المطمئنة أن تستريح والزمن يمضي سريعاً، والجديدان كل يوم في شان، فما بالك بالشاب العربي الجريح، الذي ينتظر بحماس نافذ الصبر يوماً يمسح بعزته ذلة كلومه فلا تزيده الأيام إلا كلوماً. . . والذي يترقب، فارغ الصبر نشيد الحرية والنجاة فلا يسمع إلا نشيد الوهن والخيبة والهزيمة. . . ويل لهذا التعس المفؤود. . . إذا هو اغمض عينيه هزمت عنهما الرقاد ذكريات المآسي، وإن هو منحهما فلا يلمح فيهما إلا ما يحز قلبه وينكأ جراحه.

أين ألقيت ناظري فعلى نصل

مميت يحتل صدر بلادي

وطن الضاد. يا شهيد الأفاعي

كل يوم جريمة واعتداء. . .

ويل لهذا الشاعر المسكين. . . ما الذي بمقدوره أن يفعله لهذا الوطن المسكين. . .

ما الذي يستطيع إنقاذه من

ك قصيد ودمعة خرساء؟

إنه لا يملك إلا نفسه وإلا هذه الأماني. . . فلتهب رفافة ندية تروي هذا القفر تارة، ولتعصف ملتهبة منتقمة تارة أخرى. . .

أإذا ذبت كالندى لأروي

كل شبر من قفرنا الظمآن؟

أإذا ما أفنيت في ميعة العمر

انتفاضاً على الاذى، والهوان؟

أإذا ما أحرقت روحي لأهدي

بسناها مسالك الاظعان؟

هل يعود الربيع والطير يا روض

هنئ وتغدو الحياة مثل الجنان؟

ليتني كنت في يمين الليالي

خنجراً. . . ما لشفرتيه أرتواء!

ليتني في صميم كل فؤاد

أضمر الغدر. . طعنة نجلاء!

ولكنها لا تزال أمنيات

على أنها لو عاشت في خيال

شاعر غير عربي لحققها له زعماؤه، فلنسأل زعماء العرب، وهذا صف قرن يصولون فيه ويجولون. . . لنسألهم هل استطاعوا أن يحققوها؟ أو فرطوا فيها وساعدوا على فقدانها؟ ويل لأكثرهم من سخرية التاريخ! وويل لهم من حساب هذه الأمة إذا انفجر بركانها. . . آه

ص: 32

يا فلسطين.

أوليت أمرك خادعين يمزقونك كيف شاءوا. .

هم داؤك الفتاك لا البؤس الملح. . . ولا الشقاء. .

بدمارك افترشوا النعيم وماج حولهم الثراء. .

بدم الجياع. . . ودمعهم شيدت قصورهم الوضاء. .

مهلا. . سينتهك الستار إذا تكلمت الدماء. .

ماذا؟ أترتقبين خيراً من (جنانك) أو فلاحاً!

يكفيك إغضاء على البلوى. . ويكفينا جراحاً. .

عرفوا القيادة (منصباً) يعلى. . وتضليلاً صراحاً. .

وتجارة يتقاسمون بها دم الشعب المباحا. .

في صدرهم. . يا أمتي - إن تشهري يوماً سلاحا

قالوا: فلسطين فقلنا: دونها وخز القتاد. .

شرف العروبة لن يكون على الأذى سلس القياد

أسمعت أبواق (العبيد) تصم آذان الجهاد؟

وتهز بالخطب الشداد دعائم السبع الشداد؟

وتصيح ناذرة دماها للمعارك والجلاد

أين الجهاد؟ وأين أبواق البطولة. . يا بلادي. .

لفظت فلسطين الحياة (ومجرموك) على الحياد

أو لك يزالوا (يلتقون) على الخيانة والفساد؟. .

أعلمت أين ممزقوك ومسلموك لكل عادي؟

أجل. . . هؤلاء الزعماء هم الذين مزقوا البلاد، وأضاعوا فلسطين. . . كما أضاعوا من قبلها لواء (الإسكندرية) وإذا يزاحوا فستصبح البلاد العربية و (في كل زاوية فلسطين مدينة التراب) وإذا لم يحاسبوا.

ف: خل اللواء فإنهم لن يخجلوا

أن يجعلوا كل البلاد

يل لهذا المسكين. . ويا لرفاقه الشبان المساكين. . . ويا لهذه البلاد المسكينة. . . أفلا

ص: 33

تكفيها مخالب الغاشم المستعمر ليتعاون الزعماء على تمزيقها؟ مهلا أمتي مهلاً. . . فالنهاية لن تطول

ضمدي أمتي جراحك وأمضي

لك يوماً. . . مع (الجناة) لقاء

سيوافيك من خلال المنايا

والأعاصير. . . فجرك الوضاء. .

ويا وطني:

قل (لصهيون): دون أحلامك السو

داء عض الشجا، ولسع القتاد

لم تهن - مثلما ظننت - على الصياد

يوماً فريسة (الصياد)

لا يغرنك الهدوء على الغا

ب وتطمعك هجعة الآساد

يعلم الناهلون من دمنا المه

دور أن الثرات بالمرصاد

ويا شباب العرب:

قولوا (لسيدة البحا

ر) الموج و (ظلها) من حاكمينها

قولوا لها: ليس الخضم كما أرادته. . . سكونا

إني لألمح خلف

صمت الموج إعصاراً دفينا

وزعازعاً. . قد تحطم ال

ربان يوماً والسفينا

إني لألمح في العبا

ب تمرداً. . . لا بل جنونا

ويا وطني لا تخدعنك الفرحة البتراء. . ولا يغرنك الاستقلال إذا لم يكن شاملا ولم تتم فيه الوحدة: -

أبلغ الشام وهي مائجة الأف

راح نشوى من فجرها المتهادي

وأغاني (الجلاء) تلعب بالعو

د كما تشتهي، وبالعواد

لم يحن بعد موعد العرس (فيحاء)

ولا جر عاطر الأبراد. .

لا تقيمي الأعياد فالفرحة (البت

راء) شوك في جبهة الأعياد. .

أتغضين عن فجيعتك الطر

ف أيبقى (الأسير) من غير فادي؟

أفتنسينا؟ ولم ننس يوماً

أننا نذر فكرة، واعتقاد؟

أتنامين على (ضحيتك) البكر

أهذا عهد الكرى والرقاد؟

وطني كل بقعة يتجلى

فوق غبرائها محيا (الضاد)

ص: 34

هذا هو العربي الصميم، وهذه هي الوطنية الصادقة التي إذا غشى عليها اليأس قبست من التاريخ الحي في أعماقها ما يجلو الدجى ويزيح الظلام؟

أرأيت أحر من هذا الفؤاد؟ أسمعت أروع من هذا الزئير؟ هذا هو سليمان. . . شعلة متأججة بالوطنية، وشباب يتدفق حماسة، وروح مرهف تدميه هذه المآسي والنكبات وفكر وقاد يرى ويدرك، وخيال خلاق يتصور ويصور، ولسان ماض أتته اللغة منقادة طيعة فصاغ بها تلك الآلام أناشيد دامية تهز الموتى، وأنطق بها تلك الفواجع زفرات مشبوبة تلسع الجماد. . ثم مضى يستوحي التاريخ العربي المجيد أسياده ويوقظ من نام كتابه، حتى ماج ديوانه بالعباقرة والأبطال، وزخر بالبناة الخالدين والقادة المراد. . . بعثهم في أروع صورة، وأنطقهم بأبلغ لسان:

لا تلمني إذا بكيت على الما

ضي؛ على عربي، على عنفواني

أنا أحيي التاريخ في كل ومضي

من خيالي، وخفقة من جناني

ثم عاد يصور أقزام هذا العصر تصويرا دقيقا شفافاً أظهر ما أسن في قراراتهم، وبين ما أحتقن في أعماقهم من خور وطمع، وجشع وجبن، ثم عرج على الشعب المخدر يوقظه ويصور له هول مآسيه وجمال ماضيه تصويراً يستفز الجماد ويلهب الجليد.

أتلمست نفساً أحر من هذا النفس؟ وزفرة أطول من هذه الزفرة؟ إنها الأمة حاضرها وماضيها. . لقد انصهرت في عواطفه فصاغها آلاماً وأمالاً. . وسيظل يسقي من هذا المعين الذي في فؤاده، والذي لا ينضب. . وهل تنضب الأمة العربية من إيحاء؟

أما أني - علم الله - لم اسمع مثل هذه الملحمة، ولم تهزني مثل تلكم الأناشيد. . وبقدر ما أنا معجب بها وبصاحبها أتألم له ولها. . وأتمنى لو تحققت آمالها لتحقق آماله ليخف الألم، وليسكرنا سليمان بأناشيد الشباب المرحة الخالدة: -

شعل الحب والصبا والرغاب. .

لست حراً. . لتعصفي بشبابي. . .

إهدئي الآن. . . واقذفي بركاني

في الأعاصير، في لهاة العباب

أنا لو حقق الزمان طلابي. . .

ص: 35

عشت وقفاً على العيون السود

وأذبت الحياة عنقود. . .

احمد الفخري

ص: 36

‌رسالة الشعر

قصر شمبرون. .!

للشعر الكبير عزيز أباظة

في الصيف الماضي زار الشاعر الكبير عزيز أباظة قصر شمبرون بمدينة فينا عاصمة النمسا، والذي شهد أروع أمجادها واجل احداثها، وقد طاف الشاعر بغرف ملوكها ومقاصيرهم، هؤلاء الملوك الذين حكموا اكثر من خمسمائة سنة، ثم زالت دولتهم، وانطوت أيامهم على صحوة الشعوب. . .

اضطربت هذه الخواطر في نفس الشاعر الكبير، وأثار مشاعره الطغيان الذي كان مضروبا على وطنه.

وقد نظم الشاعر هذه القصيدة في العام الماضي، وهو يتوقع لمصر نفس المصير الذي كتب على النمسا، ثم ظلت القصيدة حبيسة عهد كريه طوته حركة الجيش الباسل، حتى أذن الله لها أن تجد سبيلها إلى الناس.

قال حادي القطار، هذي فيّنا

فنشطنا من أسرنا وهبطنا

واحتوتنا سيارة تنهب الأرض

فقلت اخطري الهوينى الهوينى

إنما تسبيحن في سمة التاريخ

رفت هنا جمالاً وفنا

خصها الله بالرواء فما تبصر

إلا حسنا يناغم حسنا

روعة إن شهدتها وهي يقظى

وفتون إن جئتها وهي وسنى

ما لها جهمة المعارف حسري

أدلال الصدود قبل الوصال؟!

ومن الغيد، من ترى وهي غضبى

آية من سماحة وجمال

أين ثغر يفتر عن ألق الخلد

وهدب يخفى جنون الليالي؟!

أين عزف كأنه من لحون الله

طهر الأهزاج والأرمال؟!

ما لفينانها ذوى؟ ما لشمس

آذنت عند صحوة بزوال؟

أين حور كأنهن اللآلي=إن أطاقت صيد القلوب اللآلي؟

أين ليل ينهل صبحا فما ينماز

إلا بهجعة الأطفال؟

أكلت فتنة الليالي الليالي

فأمحت كالرؤى العذاب الخوالي

ص: 37

ووقفنا في (شمبرون) فهاج النفس

ذكرى الأقيال من (شمبرونا)

غرف خر فوق أنماطها الدهر

وإن فض سترها المكنون

ومقاصير شب فيها، وشاب المجد

ضخم الاسناد حتى بلين

نسق من قياصر، لم يروع

بدخيل، ولم يقل هجين

عترة الكابرين من (هبسبرج)

أين هم في الكواكب الآفلينا

قال لي رائدي الذي يحفظ القول

ويزهي به على الزائريناا

هذه حجرة الذي اعتبد الدهر

وثل العروش (نابليونا)

واصطفاها ابنه، فأينع فانهار

فأودى فيها ذليلا سجينا

ومضى في الذي يدير من القول

ولم يلفني سميعاً أذِينا

ملت عنه إلى مناجاة نفسي

إي دنيا هذي، وأي مقا

هتكت حرمة الملوك، ودكت

برحاها الطحونِ تاج القياصر

وطوتهم صرعى، كما ينطوي الليل

وطاحت بعادل وبجا

أفنهج الزمان هذا؟ يشيد الصرح كالطود فوق أنقاض آخر

أم هفا الناس للجديد من الحكم، فخاضوا له فجاج المخاطر

ظلم الناس، ليس كل جديد

بشهي الجنى، ولا كل دا

إن حكم الملوك، إن كان عدلا

وعزوفاً عن الهوى والكبا

والتماساً لطاعة الله في الناس

ببث الشورى، ودعم المنا

واحتفاء بهم، وعطفا عليهم

في جدا صابر، ورمة قاد

واقتضاء من المياسير للمحروم

حتى يأتمهم غير صاغرينا

وانتصافاً من الجبابر للضعفي

فلا يصطلون نار الجبا

فهو ضرب من حكم أربعة الأشياخ تسنى به الدنا وتفاخ

قال لي رائدي، أتسمع؟ قلت السمع ملآن، والجهود قواص

عزيز اباظة

ص: 38

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

استهل نادي الاتحاد الثقافي موسم محاضراته هذا العام، بمحتضرة لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عن مهمة الأديب في مصر.

وقد غصت حجرات النادي وشرفاته وأبهائه بجمهرة كبيرة من الزوار والوافدين وكبار الشخصيات.

وكان في مقدمة هؤلاء السيدة كرمة السعيد وبعض فضليات المربيات والأساتذة محمد صلاح الدين وحسين هيكل وأحمد زكي وكامل كيلاني وسعيد العريان وأنور احمد.

وكان الدكتور محمد عوض محمد يشرف على النظام العام بروحه اللطيفة ومداعباته البارعة

وتحدث الدكتور ساعة كاملة. . . فعرض موضوعه في لباقة وبراعة. . واستطاع أن يخرج لنا صورة حية لهذا الموضوع الدقيق تناولت جوانبه الفياضة بالعرض الدقيق.

تحدث عن الأدبي العربي القديم: أيام الجاحظ والمعري. . وتحدث عن الأديب الحديث في الشرق والأديب الحديث في الغرب. . . وعرض لمؤتمر البندقية.

وصور مسئولية الأديب الإجماعية في هذا الزمن، وكيف أنه لا يستطيع أن يجمع بينه وبين عمل آخر. ذلك لأن الأدب الآن يتطلب جهدا جبارا، ويتطلب من الأديب ألا يشرك به، وأن يتجرد له، يقرأ ويدرس ويستقصي. . ويلم بكل جديد من الآراء؛ وهو إذا قصر في هذا، عجز أن يجري في ركب الحضارة.

وقال إن الدولة ملزمة بأن توفر للأديب أسباب الحياة حتى يستطيع أن ينتج.

ثم عرض لحرية الأديب فقال إن الأديب لا يستطيع أن ينتج إلا إذا أحس بأنه حر في أن يكتب ما يوحي به ضميره وتهجس به نفسه. وأنه مسئول كعضو من أعضاء المجتمع عما يذيع بين الناس وعليه تبعة ما يكتب.

ومن تبعاته أن يوجه وأن يهدي إلى الخير والحق والجمال.

وعليه ألاينزل إلى الناس ولا يرضى أهواءهم، وإنما عليه أن يرفعهم إليه وأن ينقلهم من الحياة العامة التي يحبونها إلى حياة فكرية ممتازة.

ص: 39

وصور عميد الأدب اثر الصحافة والسينما والإذاعة بالنسبة للأدب والكتاب المطبوع وقال إن الأدب قد تحرر من سلطة الملوك والأمراء. وأنه لن يقبل بحال أن يعود إلى هذه العبودية.

وعرض لقضية (أدباء الشباب) فكان غاية في الإنصاف. وطالب بضرورة تهيئة الوسائل الكفيلة بإعانتهم على الإنتاج والتبريز.

وقد أولى هذا هو الموضوع مقالاً من مقالاته في الأهرام، كما بدا في هذا الأسبوع ينقد إنتاج الأدباء الشباب، وقد تناول قصة (إني راحلة) ليوسف السباعي. وهي ظاهرة جديرة بالتسجيل لعميد الأدب.

ولم يكن الدكتور طه حسين في محاضراته جافاً، ولا متكلفاً، بل كان شعبياً منطلقاً، وكان لا يترك مناسبة دون أن يدخل عنصر الفكاهة اللطيفة الممتازة، في حديثه، ومرتين أثار عاصفة من الضحك. عندما عرض للأدباء الذين يعملون في المصالح الحكومية ومعاملة رؤسائهم لهم، في تعنت وصلف. وعندما أشار إلى أن كل أديب من شأنه أن يذهب إلى السينما لأن أهله يفرضون عليه هذا الذهاب. ولذا لا يستطيع أن يتخلف ليقرأ كتاباً من الكتب مثلاً! وأثار الدكتور عاصفة من التصفيق الحاد عدما عرض لتحرر الأدب من سلطان الملوك والأمراء، وعندما صور الحياة الأدبية التي يمكن أن تستقبلها مصر في ظل العهد الجديد.

نقابة الأدباء

وكان الدكتور طه حسين قد اجتمع بأعضاء نادي القصة في الأسبوع الماضي، هذا النادي الذي يخرج الكتاب الذهبي الشهري. . . وقد تحدث الدكتور في هذا الاجتماع عن مشروعه الذي يوشك أن يتقدم إلى الجهات الرسمية لإنشاء نقابة للأدباء ترعى إنتاجهم وحياتهم ومستقبلهم وتهيئ لهم حياة كريمة.

على أن تكون موارد هذه النقابة بعض حصص على المؤلفات القديمة والمؤلفات الحديثة.

ولا شك أننا في حاجة إلى أن نقرأ تفصيلات وافية عن هذا المشروع فهو يهم جميع الآباء الآن، وبخاصة الذين يعملون في الوظائف الحكومية، والذين قد يخيرون بين العمل الأدبي، أو العمل الصحفي، وبين وظائفهم الحكومية.

ص: 40

فعسى أن يتفضل الدكتور العميد بنشر تفاصيل هذا المشروع.

النشاط الثقافي

افتتحت في هذا الأسبوع ندوة الجامعة الأمريكية بمحاضرة للرئيس السابق علي ماهر عن (فلسفة الثورة المصرية الجديدة) كما افتتح النشاط الثقافي لنادي ضباط الجيش بمحاضرة للدكتور مصطفى الحفناوي المحامي عن قناة السويس.

كما استجابت جمعية الشبان المسيحيين لملاحظة الرسالة فعقدت مهرجاناً شعرياً عن أهداف الثورة ودعت إليه بعض الشعراء الذين وردت أسماؤهم في باب (الأدب والفن).

وقد علمت أن شباب القراء الذين دعوا إلى الندوة الأولى قد ظنوا على اثر كلمتي التي طالبت فيها بدعوة القدامى من الشعراء أن هذا انتقاص لحقهم، وما أردت هذا، ولكي رجوت التنويع وربط الأواصر، وضم الكفايات المختلفة، وأحببت أن تنمحي تلك النزعات القديمة التي كان يحرص أصحابها على دعوة فريق من الشعراء، متجاهلين العناصر الأخرى.

وإذا اتجهنا نحو المسرح أو السينما لاحظنا سمة (فن الثورة) أيضاً. . فهناك فيلم مصطفى كامل ومسرحيات نزاهة الحكم ونهاية الأندلس غيرها. وهكذا أخذت روح الثورة الجديدة تبرز في الإنتاج الثقافي بصفة عامة.

هل عندنا شعراء أو شاعرات:

لفت نظري في محلة (القلم الجديد) التي يصدرها في عمان الأديب الكاتب السيد عيسى الناعوري مقالاً للدكتور زكي أبو شادي عن (أبو القاسم الشابي) تحدث فيه الشاعر المهاجر عن الشاعر الذي ودع الحياة وهو في ريق الشباب.

واهتززت فعلاً عندما وقع نظري على مفتتح قصيدته (صلوات في هيكل الحب).

. . هذا المطلع الذي قرأته مرة إلا أحسست بأن الشابي كان يعيش في غير دنيانا. . وأنه لا يصدر عن نفس يمكن أن تكتب لها الحياة الطويلة. .

(عذبة أنت كالطفولة، كالأحلام، كاللحن، كالصباح الجديد)(كالسماء الضحوك، كالليلة القمراء، كالورد، كابتسام الوليد).

ص: 41

وعجبت كيف لا نجد مثل هذا الشعر اليوم عند شعرائنا الشباب، هذا الصدق، هذه الحيوية الفياضة، التي تدل على أن الشابي عاش تجربة شعورية كاملة، كان مزيجا من الصدق والوفاء. . وكانت غاية في السمو والنقاء.

وبينما اقلب صفحات المجلة، وقع بصري على شعر آخر كتبته الشاعرة العراقية نازك الملائكة.

. . . ولفت هذا الشعر نظري أيضاً. . لقد قرأت شعر لأكثر من شاعرة عندنا هنا في مصر. . ولكني لم أحس وقدة الحياة فيه كما أحسستها في شعر نازك الملائكة أو فدوى طوقان. .

فلماذا تنقص شاعراتنا هذه (الأنوثة) والحيوية. . اعتقد أن السبب واحد، وأن النقص مصدره واحد في شباب القراء والشابات.

إن شعراءنا وشاعراتنا - إن صح أن عندنا شاعرات - يتكلفون ويتكلفن، إنهم لا يعيشون في الحياة الصادقة، التي تمنح الوحي الصادق أو تمد بالإلهام!

وهذه لمحة من شعر نازك الملائكة

استرحنا. . كشف اللغز ومات المبهم

وتلاشت حرقة الأحلام في لون العيون

استرحنا. . هدأ الشوق وواراه السكون

استرحنا نحن وارتاح الزمان الفهم

وغدا ينهزم الماضي بعيداً

وترى أعيننا شيئا جديداً

ولا زلت احسن بأننا لم ننشأ الأدب النسوي بعد. . ولا الشعر النسوي بالطبع!

وإذا كنا نحن اليوم في مطلع نهضة جديدة، فإننا نحب من الشعراء أن يكونوا روح هذه النهضة. . نريد ذلك الشعر الذي نحس أن الحب فيه يصعد إلى السماء. . ويرف مع الملائكة!

نريد تلك الروح النقية الصافية الخالصة التي لا يشوبها الفاحشة والمجون!

فمتى نرى هذا الشعر! عندها يحق لهؤلاء وأولئك أن يقولوا إنهم شعراء!

ص: 42

أنور الجندي

ص: 43

‌الكتب

آن لهذا الشعب أن يفهم

تأليف الأستاذ عبد المغني سعيد

للأستاذ احمد عوض

هذا الكتاب من بواكير التأليف بعد النهضة الكبرى، فهو يهدف إلى مراميها وتتمثل في طبيعتها. وهو مثلها شعور طال كبته ثم تدفق فجأة عند أول فرصة لتدفقه كما ينفجر البركان عندما تقترب متفجراته الحبيسة من طبقة أرضية ضعيفة.

ولقد تسبق التفجر إرهاصات منبهة به كما سبقت النهضة أزمات حادة، وكما تلجلج هذا الكتاب فحاول الخروج قبل أن تخرجه المطبعة على الصورة التي أخرجته بها الآن. في سنة 1942 حاول مؤلفه السيد عبد المغني سعيد أن ينفس عن شعوره الجياش وأن يخرج جانباً من الكتاب باسم (تيارات الإحلال وتيارات الحرب في مصر)، وحاول إذ ذاك أن يوضح خفايا فترة الانحلال، ويحلل اتجاهات الإصلاح، ويرسم المحاولات الارتجالية التي كادت تتمثل إذ ذاك في الأحزاب، وأن ينبه إلى ما شابها من خطأ، وما يصيب البلاد من ضرر لو لم يفسح للثورة الفكرية المحسوبة في الصدر مجال الظهور.

لقد بدت هذه المحاولة، ولكن لم يكن الوقت قد آن لنشوب الثورة في مصر. ولا لصدور التعبير عنها بمثل هذا المؤلف، فلم يفلت مشروع كتابه من مقص الرقيب.

واضطر إلى انتزاع أجزاء منه وتقسيم فكرته، بعد تهدئتها على فصول نشرت في الصحف، ولكن كذلك لم يكفه، فأعد من كتابه نسخا معدودة على الآلة الكاتبة، بعد أن أعاد كتابة ما نشر وزاد فيه من التوسع والصراحة.

لكن هذه الثورة لم تكن لترضيه، ولم يكن في الإمكان نشر الذي يرضي، فهرب النسخة الكاملة من معتقله في ألمانيا.

وهكذا كانت الثورة نفسها تحاول الظهور ثم يحول دون ظهورها ما حال دون ظهور الكتاب وأمثاله من رقابة، إن تشبهها بشيء فبقشرة الأرض الغليظة فوق ثورة محبوسة في صدر بركان.

ص: 44

وحدثت الثورة وظهر الكتاب (آن لهذا الشعب أن يفهم)؛ هذه في شهر يوليو سنة 52، وهذا في شهر سبتمبر سنة 52، ولكن تأليفه كما تقدم يسبق صدوره بكثير.

وليس الكتاب تاريخاً للثورة ولا شرحاً لمبادئها؛ ولكنه صورة منها. هو انفعالات قوية في اتزن. ثائرة ثورة العقل المقتنع لا الشعور الصاخب.

لم ينسج على منوال الكتب التاريخية ولا الأدبية. ولكن المنطق الذي يسوده منطق الثورة، منطق هذه الثورة بالذات لا أية ثورة اخرى؛ ففيه حكمتها ورصانتها، فيه صفوة التجاريب التي أنضجت مصر في ألوف السنين.

تترسم في خطى النهضة في محاولتها الفرار من محبس الكبت، بادئة بالمظهر العسكري في عهد محمد علي، ثم بالمظهر الأدبي من خطابة وكتابة، ثم بالمظهر القانوني من جدل ونقاش ومفاوضة إلى أن تتبلور فتجمع كل الخصائص والمزايا، وتتحرر من كل وجوه القص، فتقذف بالحواجز التي رقت وشقت ثم تدفعت فتهاوت.

في أسلوب السيد عبد المغني كما في أسلوب النهضة، اثر من تلك الاساليب؛ غير أنه كالنهضة سيد لما يستخدمه من وسائل التعبير.

ليست عسكريته وسيلة عامة لغاية خاصة. وليست لهجة استنهاضه دعاية للنوم في أجفان طفل يراد إيقاظه. وليست قانونيته مغالطة يقصد بها إخضاع الحق لمنطق تشريعي.

ولكن عسكريته صراحة، ودعوته الوطنية فكرية تذاوبت فيها العاطفة، فهي إقناع يجر الإرادة لا وخز يهيج الشعور. وليست قانونيته جدلا ولكنها حكم.

(آن لهذا الشعب أن يفهم) والذي آن له أن يفهمه هو ما احتواه الكتاب من صورة للثورة يحدد اهدافها، لا مشيرا إليها عن بعد ولكنها متجها نحوها.

فلمن شاء أن ينتقل إلى أهداف الثورة أن يقرأ هذا الكتاب ليخلص من اثر الماضي عليه من جدل لا يراد به الإقناع، واهتياج لا يراد به الاستقرار، واضطراب لا يقصد به إلى الهدوء هو ثورة ولكنها منطقية، وهو منطق ولكنه ثائر.

احمد عوض

مستقبل الإسلام

ص: 45

تأليف الأستاذ محمد عبد القادر العماوي

للأستاذ عبد السميع المصري

هذا هو الكتاب الثاني الذي يتحدث فيه الأستاذ محمد عبد القادر العماوي عن إمكانيات هذا الدين الحنيف. أما كتابه الأول الذي أصدره في العام الماضي فكان عنوانه (هذا هو الإسلام) ولقد تحدث الأستاذ العماوي في (مستقبل الإسلام) طويلاً عن أسباب الجمود الذي أصاب الدين خلال عصور التاريخ، والعوامل التي أدت إلى ذلك؛ كما تحدث عن تطور الأديان وقارن بين العقيدة في مختلف الأديان مقارنة مبنية على أسس من العلم والتاريخ، وبين كيف أن الإسلام نظام عالمي مرن متطور وفق حاجات الزمان والمكان، وما كان له أن يصل إلى هذه النتيجة قبل أن يعرج على نشأة الفرق الإسلامية والعوامل التي أثرت في تاريخها وأسباب ما رميت به من تعصب أعمى وأودى بالكثير من جمال تعاليم بعضها والأسباب الخفية لنشوء معظم الفرق الإسلامية.

ثم يخلص من كل هذا البحث التاريخي العلمي إلى النتائج الطبيعية له وأثره في الإسلام ووجوده كقوة عالمية ثالثة وإمكانيات هذه القوة ومستقبلها بين الكتلتين الشرقية والغربية التي تتنازعان اليوم، لكنه في هذا المكان من الكتاب وقد جعله خاتمته يختصر القول اختصارا ويجمله إجمالاً ويكتفي بالتلميح دون التصريح وهو لب الكتاب وأس موضوعه. . وكأني به يخشى الإفصاح عما في نفسه أو يتهيب الرقيب الحسيب ويخشى مغبة آرائه الحرة، ويقيني لو أن الأستاذ العماوي تأخر في إصدار كتابه أياماً لكان له شأن غير الشأن ولأجرى القلم بما يشاء وأفاض فيما يريد، ولعله فاعل ذلك في الطبعة الثاني إن شاء الله تعالى.

ومن أمثلة هذا الاختصار المخل ما جاء في الصفحة 209 من قوله (لكن الإسلام لم يكتف بذلك وإنما يريد أن يقضي في صراحة وقو على ميكروب النظام الطبقي الذي ينشأ عادة من سوء التوزيع الاقتصادي للدولة فيوجب ضرورة التوازن في دخل الأفراد وبذلك يقضي على كل العوامل التي ينشأ في ظلها الربا والاحتكار).

هذا كلام جميل يحتاج إلى كثير من التفصيل ويحتاج إلى أن يبين لنا الأستاذ العماوي

ص: 46

الوسائل العلمية التي لا تتعارض مع روح التشريع الإسلامي وتحقق هذه الأهداف الجليلة؛ ويكون بذلك قد أدى خدمة لله والوطن. وفي مكان آخر (ص213 يعرض الأستاذ المؤلف لنظام الإسلام في صورة اشد غموضا وأبهم فيقول. . (إننا لا نحب أن نخدع أنفسنا فنتمسك بالقشور على اللباب فإذا كنا حقيقة نحرص على بلوغ ما رسمه الإسلام من غايات فالسبيل إلى ذلك الانتقاض عن هذه النظم التي تسير على حياة العالم وما يتحمله من أساس العدالة ومن نظام في الحق والسياسة والاجتماع لا يبتعد كثيراً عما شرعه الإسلام للعالم وكان بودي لو أن المؤلف أوضح لنا النظام الذي يراه موفقاً ما شرعه الإسلام والنظم الغربية القائمة؛ أو ما يحقق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولا يتعارض مع روح الإسلام ولا روح العصر! أما ترك الأمر للحدس والتخمين فلا والطريق العلمي الذي اخذ المؤلف به نفسه.

والكتاب بعد ذلك مجهود قيم وخطوة جريئة موفقة الأستاذ العماوي نرجو أن تتبعها خطوات إن شاء الله.

عبد السميع البصري

ص: 47

‌البريد الأدبي

الدراسات العليا لكلية اللغة العربية

ليس هناك شك في أن الدراسات العليا لا غنى عنها للحياة الدراسة في

مختلف الكليات، ذلك أنها تخلق طبقة من المفكرين والباحثين والعلماء

ونحن بحاجة ملحة اليهم، وبخاصة في هذا العهد الجديد الذي يعتبر

التجديد من أهم خصائصه ومقوماته.

وموضوع الدراسات العليا شائك أو هكذا اخذ ودرس على أنه من الصعوبة بحيث لا ينبغي له أن يمر بسهولة ولا يرى النور إلا بعد تمحيص وبحث من نوع جديد.

لقد مرت هذه الدراسات بأدوار مختلفة، واصطدمت بآراء متضاربة، وأخيراً قدر لها أن تخرج إلى عالم الحياة، كان ذلك في العام الماضي، وأسرع (الخريجون) فقدموا أوراقهم إلى قسم الدراسات العليا بالكلية، واطمأنوا إلى أنه ستتاح لهم دراسات عليا تقوم على أسس جديدة صالحة تتمشى مع روح العصر، وتحذو حذو مثيلاتها من الجامعات.

ولكن لأمر ما، أو لأمور كثيرة، لا ادري! اجل افتتاح هذه الدراسات، ووضع مشروعها على الرف كما يقولون إلى اجل غير مسمى؛ وهكذا يصل التهاون بصوالح الطلاب ومقتضيات التعليم الجامعي إلى هذا الحد المقيت.

ونحن هنا لا نريد أن نتناول موضوع الدراسات العليا الذي قدر له أن يقبر في مهد - لا نريد أن نتناوله بالنقد والتشريح، فالكلام فيه لا داعي إليه، وربما نضطر إليه في وقت قريب.

والذي نريده من أولي الأمر أن يكون هدفهم صالح الأزهر دون أن يسمحوا للرغبات الشخصية بأن تثبت وجودها في هذا الميدان الذي يتطلب صفاء القلوب وإخلاص النيات نريد دراسات عليا تكون صورة مماثلة لما يتبع في الجامعات المصرية، ويلتحق بها كل طالب تتوفر لديه الشروط المرسومة من حيث التقدير العام في السنة الرابعة.

ولا يفوتني هنا أن اقرر حقيقة واضحة، فالدراسات العليا تعتبر حقاً لطلبة الكليات، ومن الواجب على كل إنسان ألا يتغاضى عن حقه، لذا كتبت كلمتي هذه أطالب بتحقيق رغبة

ص: 48

هي الحق الصراح، فلن يحمد لإنسان أن يعقد لسانه فلا ينطق بما يراه حقا؛ ومما يبشر بالخير أن العهد الجديديحتم علينا أن نعرف حقوقنا وواجباتنا، وبذلك نكون جنودا مخلصين للحركة المباركة.

ويضطرني الاستطراد إلى أن اذهب بعيدا فأدعو أولي الأمر إلى أن يعملوا على إلحاق أبناء كلية اللغة العربية بالدراسات العليا في كليات الآداب المصرية، ولنعتبر هذه الخطوة بعثات داخلية يستعاض بها مؤقتاً عن البعثات الخارجية.

وحرصا على مستقبل أبناء كلية اللغة أرى لزاماً على أن أشير إلى وجوب تذليل الصعوبات التي تحول دون انتساب طلبة الكلية إلى معهد اللغات الشرقية، ما داموا يدرسون هذه اللغات في كليتهم وإلا فلا فائدة ترجى منها.

وبعد فهذا إيجاز وتركيز لبعض الرغبات التي نأمل أن تتحقق في أسرع وقت في ظل العهد الجديد إن شاء الله، ولنا عودة.

أزهري عجوز

بدعة اليوم الكامل

لا زال وزير المعارف مصرا على اليوم الدراسي الكامل، برغم ثورة الرأي العام على هذا الاتجاه المعتل، وفي مقدمته المسؤولون عن سير الدراسة من المعلمين والمعلمات.

ولو كان لهذا الاتجاه حسنة واحدة لاحترمنا إصرار الوزير الذي اصبح غير قابل للتغيير، ومستحيلاً عليه التخاذل والتقهقر، وقد يرى الوزير نفسه لهذا النظام حسنات كثيرة، ولكنه لا يجد من يقره عليها، اللهم إلا شرذمة من بطانته وحاشيته، لأنه لا رأي لها مع أي وزير، فمهمتها قاصرة على التصديق والتأمين ليس إلا.

يقول وزير المعارف: إنه يهدف من وراء هذا النظام إلى إلصاق التلميذ بالمدرسة حتى ينجذب اليها، ويصقل بين جدرانها وينشأ التنشئة الصالحة فوق تربتها، ويهدف أيضا من وراء هذا النظام إلى إيجاد فسحة كبيرة ليستجم خلالها الطالب، ويتخلص من الإرهاق الذي كان يعانيه من جراء تكديس الدروس دفعة واحدة دون راحة أو استجمام.

أما إلصاق التلميذ بالمدرسة، ودفعه إلى الاجتذاب إليها وصقله بين جدرانها، وتنشئته

ص: 49

التنشئة الصالحة فوق تربتها، فهو من الخيال الرائع المحكم، إذ ليست المدارس في مصر مهيئة ولا مستعدة لتحقيق هذا الخيال الرائع المحكم، فهل في مدارس مصر حدائق غناء يستجم الطلاب بين أشجارها؟ وهل في مدارس مصر من المسليات الكافية لجذب التلاميذ إليها؟ يستطيع الوزير الهمام أن يجيب عن هذين السؤالين بسهولة، ولا سيما وأنه قد زار مدارس الأقاليم التي هي اقرب إلى الأكواخ والقبور.

أما الفسحة الكبيرة التي أطالت حياة اليوم الدراسي، فإن الطلبة يقتطعون منها خمس دقائق فحسب، يتناولون خلالها (السندوتش) من الباعة المتجولين، أما الباقي مناه، فإن البعض منهم يجري خلالها في الفناء، والبعض الآخر يفترش الأرض ليمرق بعينه الجدران والأبواب!

لنعمد إلى خلق المدرسة المصرية خلقا آخر، ولنقلب أوضاعها من جديد، ولنهيئها حتى تصبح مستعدة لاستقبال الطالب يوما كاملا، وليكن بعد ذلك الإكرام والتقدير لهذا الاتجاه - أما أنحتم على الطالب أن يظل من مطلع الشمس إلى مغربها بين جدران أربعة، فلن يكون إلا من قبيل العناد، والعناد - كما يقول الرسول عليه السلام كاد أن يكون كفراً ،.

نفيسة الشيخ

إلى الأستاذ علي الطنطاوي

يا سيدي لي بنات طالبات أجهدت نفسي في سد ما بينهن وبين الفساد فلم اتركهن للمجتمع المنحل، والملهى الرخيص، والكتاب الداعر.

ولكن فساد المجتمع ما لبث أن نفذ إلى (برضا) من جهاز الراد ومن رفيقه المدرسة، ومن مثيرات الطريق.

. . وبدأت أنكر أن بناتي ومن أوضاعهن ما ينكر الرجل الغيور من بنات العصر وأوضاعهن وإن لم يصل الأمر إلى هذا الحد الكريه.

وحاولت أن أقوم ما اعوج واصلح ما فسد بالمنطق الواضح والحجة البينة فكان رأيهن مع رأيي ولكن بقيت عواطفهن منفصلة عن هذا الرأي متصلة بالفساد المستشري إلى أن شاء الله لي الرحمة ولهن الستر فاتصل ما بينهن وبين رسالة (الزيات) جزاه الله عنا كل خير.

ص: 50

وفي الرسالة لقينك يا أستاذ فقرأن معجبات أول الأمر ثم متأثرات.

لق استطعت يا أستاذ بأدبك البارع، وروحك القوية ما عجزت عنه أنا، استطعت أن تنفذ إلى ما وراء الفكر، إلى أعماق الشعور فتكونهن تكويناً وجدانياً جديداً وإذا هن في طريق جديد نهايته - إن شاء الله - التقاء الفكر والشعور على الفضيلة والخير.

وقد قلت كتابتك في الرسالة أخيراً وتركت ذلك النوع من القصص الذي كان يقطع ما بيننا وبين هذه الدنيا ليضعنا في دنيا ثانية لا سبيل إلى وصفها.

فهل لك يا أستاذ إن تتابع الكتابة وفي هذا الصنف من القصص خاصة. . إنك لو دريت كم تبني من نفوس وكم تجنح من همم وكم تنقذ به أرواحاً من الإسفاف لقبلت أن تحمل في سبيله أقسى المشقات.

القاهرة

أب غيور

هي مسالة خلافية

قال الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر (في الأهرام 27 - 01 - 1952) بعد أن أورد حديثين ضعيفين في إباحة الوجه واليدين: وعنى هذا أن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تظهر لغير محارمها إلا بمثل ما تكون عليه في صلاتها هذا هو الدين.

وقال الإمام القرطبي في تفسيره (ج 12 ص 237): اجمع المسلمون على أن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيها وقال في تفسيره سورة النور: ثم استثنى ما يظهر من الزينة، واختلف الناس في قدر ذلك، قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء، فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك.

محمود مصطفى عليبة

عطارد

يصدر أول ديسمبر العدد الأول من مجلة (عطارد) التي يصدرها لفيف من الشباب المثقف

ص: 51

ويشترك فيها الأستاذ أنور الجندي. وستكون شاملة لفصول حارة جريئة من السياسة والأدب والاجتماع.

ص: 52

‌القصص

السفينة السوداء

عن الإنجليزية

كانت تحب الأطفال حبا ملك عليها قلبها فلم تر صغيراً إلا وجدت من نفسها دافعا قويا إلى حمله بي يديها ومداعبته، وكانت تعلو ثغرها عند ذلك ابتسامة مؤلمة.

وكانت (لينا) على الرغم من سعادتها الزوجية لما بينها وبين قرينها من الحب المتبادل تشعر بأنها تعسة لأنها لم ترزق قط مولودا يملأ عليها منزلها مرحاً وسروراً. وكانت تتمنى لو أنها فقيرة معدمة تتوسد التراب وتأكل خبز الصدقات على أن يكون بجانبها طفل ينظر إليها نظرة احن من نظرات الملائكة.

وكانت تفكر في ذلك تفكيراً يستغرق الساعات الطوال ولحظها في هذا الأثناء معقود بنقطة من أرجاء الغرفة.

ولقد يحسبها من رآها على هذه الحال تمثالاً لولا أن لونها الدائم التبدل يدل على أنه مستغرقة في التفكير. لكنها كانت حريصة على إلا يطلع زوجها على اشتغال بالها وعلى وجهة تفكيرها، فهي أمامه تضحك وتلعب وتقترح التنزه والتلهي وتزعم أنها سعيدة.

وكانت تدعي أنها لا تميل إلى النسل ولا تبالي أن تقضي بقية العمر كما هي الآن.

وللقد كان صواحبها يقلن لها في السنوات الأولى من الزواج إنها سترزق الأبناء في الوقت المناسب. وكانت تعلل نفسها بذلك. ولكن لما انقضى العام بعد العام وكاد يجف عودها ولم يثمر دب في نفسها دبيب اليأس وظلت في وحدتها تعاني ألمها الخفي. وكانت في بعض الأحيان تأنس بالوحدة لتستمتع بلذة هذا الألم. ولكنها في أحيان أخرى تهرب إلى الضجيج والزحام من الآم الوحدة وكان ملجؤها الأول في الحالات الأخيرة في الحفلات الراقصة ففيها لا يسمع القلب مناجاة نفسه.

وكان زوجها يسر من مرافقتها إلى تلك الحفلات لأنه يحب أن يراها سعيدة. وكانت تقدر له هذا الشعور نحوها وتتمنى لو تستطيع أن تخلي له قلبها من كل حب لولا أن حب النسل كان مالئا فراغ هذا القلب.

والأطفال إن لم يوجدوا فهم معان. ولا بد لتعلق القلب أن يكون بشيء ملموس. ولا بد لكل

ص: 53

إنسان من تعليق قلبه بإنسان أو بشيء آخر. ولكن (لينا) كانت ترى حولها من الرجال بلداء وما يحيط بها من الأشياء لا يطاق. فبعد أن جالت جولة في ميدان الطرد انتهى بها المطاف إلى حب نفسها، وأخذت تعامل نفسها كأنها تعمل طفلا مدللا فهي تهدي إلى نفسها الهدايا من الجواهر إلى الأزاهير.

وكانت تجلس الساعات الطوال أمام المرآة تبادل وجهها النظرات، وتقبل صفحة المرآة حيث يرتسم ثغرها. وبودها لو تستطيع تقبيل خدها في المرآة. وكانت تناجي نفسها بأعذب الكلمات وتفزع عندما تسمع بعض الاصوات، ثم تفكر في أيام الدراسة وفي الأشهر الأولى من عهد الزواج فتحس بحاجة قوية للبكاء.

وكانت نتيجة هذا التطور في عهود حبها أنها رأت جسامة الفروق بين طفولتها اللاهية وبين شبابها الحزين، فبدأت نفسها المعشوقة تخاف من نفسها العاشقة.

وبدأت كذلك تشعر أنها بعد ازدواج نفسها صارت اكثر وحدة واكثر وحشة، ولجأت من حب نفسها إلى حب زوجها فوجدت فيه ذلك المهذب الذي لا ينسى واجبه والذي يفهمها حق الفهم ويعطف عليها ابلغ العطف.

ولكنه بعد مدة لم يعد يستطيع التفرغ لها فقد كان محامياً واشتغل أخيراً بالسياسية وسعى لترشيح نفسه للعضوية في مجلس النواب. وكان لذلك كثيراً ما يتخلف عن منزله أسبوعا أو أسبوعين. وكان الزوجان في ذلك الوقت يقيمان في مغنى صيفي مجاور للبحر؛ وقد أنست الزوجة بالسكنى في هذا المكان طلباً للوحدة فيه وفراراً مما تشعر به في المدينة من الإغراء، وكان الهواء الخالص في ذلك المصيف يهدئ من أعصابها، ولكن مشغول البال بخاطر واحد لا يمكن أن يستريح سواء أقام في جوار البحر أو في ذروة الجبل.

وكان لا يزورها في هذا المغنى إنسان ولا تزور إنساناً، ولولا زوجها الذي يأتي بين فترات انقطاعه لكانت في هذا المسكن في وحدة كاملة.

واعتادت أن تقضي أوقاتها في هذه الوحدة جالسة في حديقة المنزل وفي يدها كتاب تمر بنظرها فوق سطوره ولا تقرأ شيئا منه أو ماشية في الأدغال المجاورة تقطع الوقت الذي لا تشعر بمروره أو جالسة شاردة الذهن في خواطرها وأمانيها. وكانت ترى بين حين وحين سفينة سوداء فيها صياد شاب تتمنى أن يكون الابن الذي ترزقه مخلوقاً على مثاله.

ص: 54

وكانت تطرب إلى الصوت الذي يحدثه مجدافه في الماء، لكنها إلى جانب هذا الطرب كانت تشعر بشيء من الخوف وتسرع بالعودة إلى منزلها كأنما رؤية هذا الصياد الفرد تضيع عليها سرور الوحدة.

وكانت كثيراً ما تفكر في معيشته فتقول: إن صياداً وزوجته لا يكاد رزقهما المحدود يكفيهما؛ ولكن إذا كان بينهما ابن صغير فقطعة من الخبز عندهما ألذ مأدبة، والكوخ الضيق أرحب بها من ملكوت السماء. . . ثم تذكر حظها وتتنهد. وكانت في كل ليلة يتلو رؤية الصياد تصاب بالأرق وتشتد عليها وطأة الهم حتى تكاد تلقي بكل أثاث المنزل من النافذة في البحر لتكون حياتها بسيطة كحياة الصيادين. وكانت تشعر في هذا الحين كأن إنساناً ينتظرها أو أنها على موعد؛ فهي لذلك تترقب وهي لا تعرف مدى ترقبها، ولا من هو الطيف الذي تنعكس أحلامها عليه.

وكان شعورها جلياً صريحاً فهي تدرك كنهه وإن كانت تجهل سببه. وكانت تدرك أن ذلك الإنسان الذي يصوره لها الشعور مرتبط بها من عهد بعيد وأنها قضت كل هذا العمر في انتظاره.

وكانت في ساعات وحدتها تخاطبه بأعذب الجمل وارقها، وتخال أنها تسمع من فمه السحر الحلال. وأي ضرر في التمادي في حبه؟ أليس شخصاً خفيا يحبها سراً فما يشعر بحبه إنسان؟

وسواء قضت ليلها ناعسة الطرف، أو مؤرقة، فقد كانت تقوم في الصباح مبكرة، فتسقي أزاهير الحديقة، وتتعهد أحاديث النبت منها كأنه مولود جديد. وتهش إلى الفراش الطائر. ثم تجلس في الظلال بين الألوان الزاهية، والروائح العطرة. . .

وفي يوم من هذه الأيام، سمعت طلقة عيار ناري. ثم وقع تحت قدمها عصفور مصاب بهذه الطلقة. ففزعت ووقفت في مكانها، وقد امتعق لونها. . . وبعد لحظة جرى نحوها كلب من كلاب الصيد فاختطف العصفور وظهر على الأثر ذلك الصياد صاحب السفينة السوداء. فلما رآها رفع قبعته محيياً، وهم بأن ينطق بكلمات الاعتذار. . . ولكن ألفاظه اختنقت!. . . فنظرت إليه نظرة طويلة دون أن تتحرك. ومشى نحوها الشاب وقال: (إنني آسف يا سيدتي! لأني ما كنت احسب هذا المفنى معموراً وقد كنت اصطاد في الأدغال المجاورة

ص: 55

فأصابت طلقتي طائراً هنا، ولولا اعتقادي أن المكان خال لما دخلته. ولو كنت أستطيع عقاب نفسي على إزعاجك لعاقبتها. .).

فلم تجبه (لينا)! ولكنها أشارت إلى باب الحديقة. . . فأحنى الرجل رأسه ومشى نحو الباب! فلما وصل إليه التفت مرة وأحنى رأسه.

وكانت في هذه الأثناء قد عادت إلى الجلوس، وتظاهرت بأنها تقرأ، ولكن نظرها لم يرتفع عن الصياد، وقد أعجبتها صوته الرخيم الذي لم تسمع مثله قبل الآن، والذي دلت عذوبته على انسجامه مع حسن منظره.

وكانت توازن بين هذا المنظر وبين الرجل الذي تتوهمه وتشعر بأنها مرتبطة به من سالف السنين فلا تحد في الموازنة إلا انطباقاً؛ فخرجت من الباب الذي خرج منه باحثة عنه وقضت في البحث طوال النهار فلم تجده وكانت تسائل فسها: هل يعود؟ وتجيب عن هذا السؤال بأنه لا يمكن أن يعود بعد طردها إياه عندما طلب إليها العفو. وكنت تخجل كلما فكرت في لقائه مرة أخرى لشعورها بأنها ستلقاه، وستعتذر إليه لأنه ليس غريبا عنها ولأن لقاءه كان هو الموعد المنتظر.

وفيما هي تفكر على هذا النحو إذ سمعت صوت مجدافيه في الماء وهو يمر بسفينته أمام المغنى فأطلت من النافذة ورأته يقف لحظة لينظر إلى الحديقة، وأحست بأن السنة تصيح في قلبها بصوت مفرح:(هذا هو! هذا هو!).

ووقع نظره عليها فحدق فيها، وكان هو الآخر كان يحلم بها مثلما حلمها به. وكان يشعر بضعة مكانته وسمو مكانها فلم يجرؤ على مطالبتها بأن تحبه ولكنه تشجع فطلب إليها أن تفصح عنه.

وجرت بينهما جملة صغيرة يسمع الناس مثلها كل يوم ولكن (لينا) تبينت في لهجة هذه الكلمات حباً خالصاً وهوى مشبوباً، ونسيت في هذه اللحظة كل الماضي بل نسيت الحاضر أيضاً.

وسكت كلاهما،، ولكن نظراتهما كانت ابلغ في الخطاب من كل بيان. وقرأت في عينيه تضرعه في الاعتذار فقالت:(لقد عفوت عنك).

ثم ذهبت بعد ذلك منهوكة القوى فألقت نفسها على السرير وبعد تلك الليلة كنت السفينة

ص: 56

السوداء تأتى كل يوم إلى المنزل فتنزل لينالاستقبال الصياد في الحديقة وتترك يدها البيضاء بين كفيه وثغره يقلبها كيف يشاء. ولم تعده بشيء آخر ولكنها سمحت له بأن يؤمل أنه قد يجوز في المستقبل أن. . .

وفي أحد الأيام وصل الزوج بعد غيبة طويلة. وكان مهتاجاً مشغول القلب والذهن لأن الوزراء سيزورونه في المساء في معناه وسيكون للوليمة التي سيقيمها لهم شأن عظيم يدنو به من مجلس النواب.

وجرى الاستعداد للحفلة على قدم وساق. وأُضيئت المصابيح على شاطئ البحر وعلى جوانب الحديقة. وجاء الوزراء واشتركت لينا في الجزء الأول من الحفلة. . . فلما دب دبيب الخمر في بدنها وأبدان الزوار غادرت المغنى إلى الشاطئ وركبت في السفينة السوداء مع الصياد للتنزه ساعة أو بعض ساعة تاركة زوجها والزوار. . .

ولما عادت إلى المنزل كانت أضواء الحفلة قد خمدت وأوشك الصباح أن يبزغ. وكان الزوج نائماً يحلم بأنه صارً عضوا في البرلمان فنامت لينا وهي تحلم بالسفينة السوداء وبمولود جميل ستضعه بعد تسعة اشهر.

ع. ن

ص: 57