الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 1013
- بتاريخ: 01 - 12 - 1952
في ظلال مولد الرسول
تفسير آية
للأستاذ سيد قطب
(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم من كلمهم الله، ورفع بعضهم درجات. وآتينا عيسى ابن مريم البيات، وأيدناه بروح القدس. ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد).
(تلك الرسل). . لا هؤلاء الرسل. . إنهم جماعة خاصة، ذات طبيعة خاصة. ثم يجيء التفضيل والتفاضل في دائرة هذه الجماعة، أو هذه الطبيعة.
فما الرسالة؟ ما طبيعتها؟ كيف تتم؟ لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلاً وبماذا؟
أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعاني لا أجد لها كفاء في العبارات. ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعني بالعبارات!
إن لهذا الوجود سننا أصيلة، يشير إليها هذا القرآن فيقول:(سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا) هذه السنن هي القوانين الكونية التي أودعها الله في الوجود، ليسير على وفقها، ويتحرك بموجبها، ويعمل بمقتضاها.
والإنسان يكشف عن أطراف من هذه القوانين، كلما ارتقى في سلم المعرفة، يكشف عنها - أو يكشف له عنها - بمقدار يناسب علمه المحدود، المستمد من الملاحظة والتجربة، وهما وسيلتان جزئيتان في طبيعتهما؛ ولكنهما تقودان أحياناً إلى أطراف من القوانين الكلية، في آماد متطاولة من الزمان. ثم يظل هذا الكشف جزئياً لأن سر التناسق بين تلك القوانين كلها، الناموس الأزلي الخالد الذي بين القوانين جميعاً، ذلك السر يظل خافياً لا تهتدي إليه الملاحظة الجزئية، ولا التجربة الجزئية مهما طالت الآماد.
هنا يجيء دور الرسالة. دور الطبيعة الخاصة التي آتاها الله الاستعداد اللدني لتتجاوب في أعماقها - بطريقة ما نزال نجهل ماهيتها وإن كنا ندرك آثارها - مع ذلك الناموس الخالد الذي يسير الكون كله على هداه. . هذه الطبيعة الخاصة هي التي تلتقي الوحي، فتطيق تلقيه، لأنها مهيأة لاستقباله. أنها تتلقى الإشارة الإلهية التي يتلقاها هذا الوجود، لأنها متصلة
اتصالاً مباشراً بناموس الوجود. . . كيف تتلقى هذه الإشارة، وبأي جهاز تستقبلها؟ نحن في حاجة - لكي نجيب - أن تكون لنا نحن هذه الطبيعة التي يهبها الله من يشاء من عباده. و (الله اعلم حيث يجعل رسالته).
كل الرسل أدركوا حقيقة (التوحيد). وكلهم بعثوا بها. ذلك أن إيقاع الناموس الواحد في حسهم كله هداهم إلى مصدره الواحد الذي لا يتعدد - وإلا لتعدد الناموس وتعدد إيقاعه في حسهم، وهم المتصلون اتصالاً مباشراً بالناموس الكوني في أعماقهم - وكان هذا الإدراك في فجر البشرية، قبل أن تنمو المعرفة الخارجية، وقبل أن تتكشف بعض القوانين الكونية. . وكلهم دعا إلى عبادة الله الواحد، لأن هذا المنطق الفطري، الناشئ من إيقاع الناموس الواحد، في الفترة الواصلة، المتصلة بناموس الكون الواحد.
ويوماً بعد يوم تكشفت أطراف من قانون الوحدة الأزلي الخالد في نظام الوجود. . . وحدة التكوين، ووحدة الحركة، وأخيراً - في هذه الأيام - وحدة (الذبذبات) لكل أنواع الذرات التي يتألف منها الكون المعروف. . . لقد تكشف أن الذرة - وهي طاقة - هي أساس تكوين جميع القوى والأجسام، ثم تكشف أن عدد (الذبذبات) الكهربائية واحد في جميع الذرات. . إنه طرف من قانون الوحدة يكتشف بمقدار ما تطيق الملاحظة والتجربة أن تبلغ. . أما الطبائع الخاصة الموهوبة فقد أدركت القانون كله في لمحة، لأنها تتلقى إيقاعه وتطيق وحدها تلقيه.
إنهم لم يجمعوا الأمثلة والشواهد على تلك الوحدة عن طريق التجارب العلمية؛ ولكنهم وهبوا جهاز استقبال كامل مباشر، فاستقبلوا إيقاع الناموس الواحد استقبالاً داخلياً مباشراً، فأدركوا إداركاً مباشراً أن الإيقاع الواحد لا بد من مبعث عن ناموس واحد، عن مصدر واحد. . واليوم تنبئ وحدة عدد الذبذبات الصادرة من جميع الذرات التي تلقتها أجهزة العلم الحديثة وسجلتها. . تنبئ على أن ذلك الجهاز اللدني في تلك الطبائع الخاصة الموهوبة، كان أسبق، وكان أدق، وكان أشمل وأكمل؛ لأنه أدرك ما وراء وحدة الإيقاع، من وحدة المصدر، ووحدة القدرة، ووحدة المشيئة.
ترى قد بلغت شيئاً في تصوير تلك المشاعر والمعاني، التي تفعم حسي تجاه الرسالة؟ أرجو. وإلا فليكتف القراء مثلي بتلك المشاعر والمعاني!
و (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض). . والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول. كأن يكون رسول أمة، أو جيل، أو أجيال، أو جميع الأجيال. كما يتعلق بالميزات التي يهبها لشخصه أو لأمته. أو بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الكونية والإنسانية.
وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى؛ وأشار إشارة عامة إلى سواهما: (منهم من كلم الله - ورفع بعضهم درجات - وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس).
ولم يذكر محمداً صلى الله عليه وسلم في صدر الأمثلة، لأن الخطاب موجه إليه، وهذا إخبار له عن غيره من الرسل فقد سبق هذه الآية قوله تعالى:
(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين)
وحين ننظر إلى مقامات الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - من ناحية الاستعداد لإدراك الوحدة الكبرى، ومن ناحية شمول الرسالة لكل جوانبها، ومن ناحية محيطها وامتدادها نجد محمداً صلى الله عليه وسلم في القمة العليا - فالإسلام هو أكمل تصوير لتلك الوحدة: وحدة الخالق الذي ليس كمثله أحد، ووحدة الإدارة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة:(كن). ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإدارة، ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود، ووحدة الحياة في الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق، ووحدة البشرية من آدم إلى آخر أبنائه في الأرض، ووحدة الدين الصادر من الإله الواحد إلى البشرية الواحدة، ووحدة الرسل المبلغين لهذه الدعوة، ووحدة المؤمنين الذين لبوا دعوة الدعاة، ووحدة النفس البشرية جسماً وعقلاً وروحاً، غزيرة وميلاً وشوقاً، ووحدة العمل والعبادة ما دام كلاهما متجها إلى الله، ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء.
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أطاقت روحه التجارب المطلق مع الوحدة الكبرى، كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها.
كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني.
ومن ثم كان هو خاتم الرسل، وكانت رسالته خاتمة الرسالات، وهذا ما يعني أن أبرزه هنا،
تفسيراً لانقطاع الوحي بعده. فلقد ارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى وأعلن الناموس الخالد الذي لا يتبدل ولا يتحول. ومن ثم لم تعد إلا التفصيلات والتطبيقات، التي يستقبل بها العقل البشري، ولا تحتاج إلى رسالة إلهية أخرى.
وبعد فلقد اقتتل أتباع (تلك الرسالة) ولم يغن توحد طبيعتهم، وتوحد طبيعة الرسالة التي تجمعهم، عن اختلاف اتباعهم من بعدهم: حتى ليقتتلون من خلاف!
(ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد).
ولكن هذا الاختلاف لم يقع مخالفا للمشيئة الإلهية؛ بل وقع وفق سنته المقررة، مشيئته المقدرة.
إن اختلاف الطبائع والمشاعر والأفكار سنة من سنن الخالق لتنويع الخلق - مع وحدة الأصل والمنشأ - وما كان الله ليجعل عباده جميعا نسخا مكررة، كأنما طبعت على ورق (الكربون)!
لا بد إذن لتكون للحياة قيمتها، وليكون الاختلاف والتقابل وسيلة للتكامل والتنوع، أن يكون هنالك اختلاف في الطباع والمشاعر والأفكار. ومتى وجد الاختلاف على هذا النحو فإنه يستتبع نتائجه؛ وإحدى نتائجه الاقتتال، الذي وقع بين أتباع الرسل. . فهو إذن وفق المشيئة، بمعنى أنه جار على السنة.
(ولو شاء الله ما اقتتلوا) لو شاء أن يجعل التماثل هو الناموس لا التنوع، لما وقع الاختلاف، ولما وقع الاقتتال.
(ولكن الله يفعل ما يريد). . ولقد أراد أن تجري السنة بما جرت؛ فوقع في الكون ما يقتضيه جريان السنة في طريقها المرسوم، وفق المشيئة الكبرى، لتحقيق حكمة خاصة تجري بها هذه المشيئة.
سيد قطب
من أحاديث الإذاعة
أيها الإنسان. . اعرف نفسك
للأستاذ علي الطنطاوي
إنكم تسمعون كل يوم أحاديث في الجد وفي الهزل، وفي الخير وفي الشر. أحاديث تدعو إلى الوطنية، وأحاديث تسمو بالخلق، وأحاديث فيها متعة وفيها تسلية؛ ولكن حديثي الليلة أهم من هذه الأحاديث كلها، لا لأني أنا كاتبه، أعوذ بالله من رذيلة الغرور، بل لأنه أمس الموضوعات بكم، وأقربها إليكم، ولأنه دعوة لكم لتعرفوا أنفسكم.
لا تضحكوا يا سادة ولا تظنوا أني اهزل، ولا تقولوا: ومن منا لا يعرف نفسه؟ فإنه مكتوبا على باب معبد أثينا كلمة سقراط: (أيها الإنسان اعرف نفسك) ومن يوم سقراط إلى هذه الأيام، لم يوجد في الناس (إلا الأقل الأقل منهم) من عرف نفسه!
ومتى تعرف نفسك يا أخي، وأنت من حين تصبح إلى حين تنام مشغول عنها بحديث أو عمل أو لهو أو كتاب؟
ومتى تعرف نفسك وأنت لا تحاول أن تخلو بها ساعة كل يوم تفكر فيها لا يشغلك عنها تجارة ولا علم ولا متاع؟
ومتى. . وأنت أبدا تفكر في الناس كلهم إلا نفسك. . وتحدثهم جميعا إلا إياها؟
تقول (أنا) فهل خطر على بالك مرة واحدة أن تسأل: (ما أنا)؟ هل جسمي هو (أنا)؟ هل أنا هذه الجوارح والأعضاء؟
إن الجسم قد ينقص بعاهة أو مرض، فتبتر ساق، أو تقطع يد، ولكن (أنا) لا يصيبني بذلك النقصان!
فما (أنا)؟
ولقد كنت يوماً طفلاً ثم صرت شاباً، كنت شاباً فصرت كهلاً، فهل خطر على بالك أن تسأل: هل هذا الشاب هو ذلك الطفل؟ وكيف؟ وما جسمي بجسمه، ولا عقلي بعقله، ولا يدي هذه اليد الصغيرة. فأين ذهبت تلك اليد. ومن أين جاءت هذه؟
وإذا كانا شخصين مختلفين فيهما أنا؟ هل أنا ذلك الطفل الذي مات ولم يبقى في من جسده ولا فكرة بقية؟ أم أنا الكهل الذي يلقى هذا الحديث؟ أم أنا الشيخ الذي سيأتي على أثره
بجسمه الواني وذهنه الكليل؟ ما أنا؟
وتقول: (حدثت نفسي، ونفسي حدثتني) فهل فكرت مرة، ما أنت؟ وما نفسك؟ وما الحد بينهما. وكيف تحدثك أو تحدثها؟
وتسمع الصباح جرس الساعة يدعوك إلى القيام - فقد حان الموعد، تحس من داخلك داعيا يدعوك إلى النهوض، فإذا ذهبت تنهض ناداك منك مناد أن تريث قليلا واستمتع بدفء الفراش، ولذة المنام - ويجذبك الداعيان: دعي القيام وداعي المنام. فهل فكرت ما هذا؟ وما ذاك؟ وما أنت بينهما؟ وما الذي يزين لك المعصية ومن يصور لك لذتها، ويحرك إليها؟ وما الذي يفرك منها، ويبعدك عنها؟ يقولون: إنه النفس العقل. فهل فكرت يوما ما النفس الأمارة بالسوء، وما العقل الرادع عنه؟ وما أنت؟
وتثور بك الشهوة، حتى ترى الدنيا كلها مخدع الحبيب، والحياة كلها متعة الجسد، وتتمنى أماني لو أعطيها شيطان لارتجف من فظاعتها الشيطان، ثم تهدأ شهوتك فلا ترى أقبح من هذه الأماني، ولا أسخف من ذلك الوصال!
ويعصف نفسك الغضب حتى ترى اللذة في الأذى، والمتعة بالانتقام. وتغدو كأن سبعا حل فيك، فصارت إنسانيتك وحشية. . ثم يسكت عنك الغضب،، فتجد الألم فيما كنت تراه لذة، والندم على ما كنت تتمناه.
وتقرأ كتاباً في السيرة، أو تتلو قصة، أو تنشد قصيدة، فتحس كأنك قد سكن قلبك ملك فطرت بغير جناح إلى عالم كله خير وجمال، ثم تدع الكتاب، فلا تجد في نفسك ولا في الوجود إثارة من ذلك العالم.
فل تساءلت مرة ما أنا من هؤلاء؟ هل أنا ذلك الإنسان الشهوان الذي يستبيح في لذته كل محرم ويأتي كل قبيح؟ أم ذلك الإنسان الباطش الذي يشرب دم أخيه الإنسان، ويتغذى بعذابه ويسعد بشقائه؟ أم ذلك الإنسان السامي الذي يحلق في سماء الطهر بلا جناح؟ أسبع أنا أم شيطان أم ملك؟
أتحسب أنك واحد وانك معروف. وأنت جماعة في واحد وأنت عالم مجهول. كشفت مجاهل البلاد، وعرفت أطباق الجو، ولا تزال أنت مخفياً، لم يظهر على أسرارك أحد. فهل حاولت مرة أن تدخل إلى نفسك فتكشف مجاهلها؟
نفسك عالم عجيب، يتبدل كل لحطة ويتغير، ولا يستقر على حال: تحب المرء فتراه ملكاً، ثم تكرهه فتبصره شيطاناً، وما ملكاً كان قط ولا شيطاناً، وما تبدل، ولكن تبدلت حالة نفسك. وتكون في مسرة فترى الدنيا ضاحكة، حتى أنك لو كنت مصورا لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان، ثم تراها وأنت في كدر، باكية قد غرقت في سواد الحداد. وما ضحكت الدنيا قط ولا بكت، ولكن كنت أنت الضاحك الباكي.
فما هذا التحول فيك؟ وأي أحكامك على الدنيا أصدق؛ وأي نظرتيك أصح؟ وإذا أصابك إمساك فنالك منه صداع، ساءت عندك الحياة، وأمحى جمال الرياض، وطمس بهاء الشمس، اسود بياض القمر، وملأت الدنيا فلسفة شؤم إن كنت فيلسوفاً، وحشوت الأسماع شعر بؤس إن كنت شاعراً. فإذا زال ما بك بقدح من زيت الخروع، ذهب التشاؤم في الفلسفة، والبؤس في الشعر. فما فلسفتك يا أيها الإنسان وما شعرك إن كنت مصدرهما فقد قدح من زيت الخروع؟
وتكون وانياً، واهي الجسم، لا تستطيع حراكاً، فإذا حاق بك الخطر، أو هبط عليك فرج. وثبت كأن قد نشطت من عقال، وعدوت عدو الغزال، فأين كانت هذه القوة كامنة فيك؟ هل خطر على بالك أن تبحث عن هذه القوة فتحسن استغلالها؟ هل تساءلت مرة عندما تغضب أو تفرح فتفعل الأفاعيل - كيف استطع أن تفعلها؟
إن النفس يا أخي كالنهر الجاري؛ لا تثبت قطرة منه في مكانها، ولا تبقى لحظة على حالها، تذهب ويجيء غيرها، تدفعها التي هي وراءها، وتدفع هي التي أمامها. في كل لحظة يموت فيك واحد ويولد واحد، وأنت الكل؛ أنت الذي مات وأنت الذي ولد، فابتغ لنفسك الكمال أبداً، واصعد بها إلى الأعالي، واستولدها دائماً مولودا اصلح واحسن، ولا تقل لشيء لا أستطيعه فإنك لا تزال كالغصن الطري، لأن النفس لا تيبس أبداً، ولا تجمد على حال، ولو تباعدت النقلة، وتباينت الأحوال. . إنك تتعود السهر حتى ما تتصور إمكان تعجيل المنام؛ فما هي إلا أن تبكر المنام ليالي حتى تتعوده فتعجب كيف كنت تستطيع السهر! وتدمن الخمر حتى ما تظن أنك تصبر عنها، فما هي إلا أن تدعها حتى تألف تركها وتعجب كيف كنت تشربها. وتحب المرأة حتى ما ترى لك الحياة إلا بها، فما هي إلا أن تسلوها حتى تعجب كيف كنت تحبها. فلا تقل لحالة أنت فيها، لا أستطيع تركها، فإنك في
سفر دائم، وكل حالة لك محطة على الطريق، لا تنزل فيها حتى ترحل عنها.
فيا أخي. اعرف نفسك، وأخل بها، وغص في أسرارها. وتساءل أبداً: ما النفس؟ وما العقل؟ وما الحياة؟ وما العمر؟ والى أين المسير؟
ولا تنس أن من عرف نفسه عرف ربه، وعرف الحياة، وعرف اللذة الحق التي لا تعدلها لذة. وأن أكبر عاقب به الله من نسوا الله أنه أنساهم أنفسهم!
علي الطنطاوي
5 - على هامش الدفاع عن الشرط الأوسط
للدكتور عمر حليق
1 -
الصراع العقائدي وعلاقته بفكرة الدفاع في الشرق
الأوسط
ضرورة التعرف على جوهر سلوك السوفيتي
المنطق الرئيسي الذي تلجأ إليه الحكومتان الأمريكية والبريطانية معها بقية الحلف الأطلنطي لإقناع الدول والشعوب العربية بالتعاون معهما في نظام الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط يستند إلى خطر تعتقد دول الحلف الأطلنطي أنه كامن في مطامع روسيا السوفيتية للتوسع في الشرق الأوسط ورابض في صميم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية (والسياسية كذلك) التي تعيش عليها شعوب الشرق العربي وبعض الشعوب الإسلامية المجاورة.
وفي اعتقاد كاتب هذه السطور أن من أهم الأمور التي يجب أن يشغل بها صناع السياسة والمصلحون الاقتصاديون والاجتماعيون في الشرق العربي هو محاولة التعرف على دقائق السلوك السياسي والفكري للشيوعية العالمية ممثلة في مركزية الاتحاد السوفيتي وفي الحركات الشيوعية المحلية وفي مختلف البقاع - حركات تدين لموسكو بالولاء وتستوحي منها الإرشاد والتوجيه.
فإن ابرز ما في هذه الاتجاهات السياسية والفكرية في حاضر الشرق إجمالاً والعالم العربي على وجه الخصوص هي البلبلة السياسية والفكرية التي تعتري القادة والمواطنين حتى يحاولوا مخلصين صادقين في تحديد موقفهم السياسي ومبادئهم الاقتصادية والاجتماعية إزاء التنافس الحاد الذي يشهده الشرق العربي (بل العالم بأسره) بين المعسكرين المتطاحنين الشيوعي وحلف الأطلنطي.
ولقد وجد الشرق العربي نفسه ملما بكثير من دقائق السلوك البريطاني والأمريكي والفرنسي وهؤلاء هم دعامة المعسكر الغربي وذلك بفضل هذه التحارير القاسية المرة التي تكشفت عن ألوان الثقافة الغربية التي تجد سبيلها إلى الثقافة العربية وعن الحاكم بالمحكوم
والتاجر بالمشتري والقوي بالضعيف سواء في استعمار بريطانيا السابق لأجزاء هامة من عالم العرب أم صهيونية أمريكا ومصالحها الاقتصادية والدبلوماسية أم في استرقاق الفرنسيين لعرب المغرب الأحرار.
ولكن يندر أن تلمس في تجارب العرب السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية احتكاكاً مباشراً مع الروس توفر للمواطنين العرب وزعمائهم السياسيين فرصا نافعة تعرفوا فيها على دقائق السلوك الروسي على ما عرفوه من سلوك الأمريكان والأوربيين في تجاربهم الطويلة معهم.
وإن من غير الصواب أن نحلل الفكر والسلوك لروسيا السوفيتية على ضوء موجات الدعاية أو بما نلمسه من سلوك العناصر الشيوعية المحلية التي تدين بالولاء لموسكو، فالفكر السوفيتي خصائص فريدة زرعت ونمت وشبت في طبيعة المجتمع الروسي، وإن ما يصدر إلى الخارج من هذه الخصائص السوفيتية عن طريق الحركات الشيوعية خارج الاتحاد السوفيتي لا يتعدى نماذج مصطنعة اختيرت لتلائم وضعاً إقليمياً معيناً، وهذه النماذج تختلف باختلاف الأوضاع الإقليمية وباختلاف الشعوب التي يجري فيها النشاط الشيوعي. فالبضاعة التي تروجها الشيوعية المحلية في الشرق العربي مثلاً تختلف عن النماذج التي يروجها الشيوعيون في إيطاليا أو فرنسا مثلاً. وكل هذه النماذج ليس صورة صادقة لحقيقة الأهداف التي تطمح موسكو لتنفيذها في المراحل النهائية.
والمهم أن ندرك أن الوضع الجغرافي والمركزي الدولي للعالم العربي يفرض علينا يقظة حساسة لمراقبة دقائق السلوك السياسي والفكري لكلا المعسكرين المتطاحنين السوفيتي والغربي. ولما كانت علاقتنا السياسية والثقافية مع المعسكر الغربي متواصلة مستمرة توفر لنا وسيلة طيبة للتعرف على تفكير هذا المعسكر ونواياه وأهدافه وسلوكه، وحيث أن صلتنا الفكرية والسياسية بالاتحاد السوفيتي بعيدة متقطعة، فإن المصلحة الجوهرية لكياننا القومي تفرض علينا سبر غور هذا اللغز السوفيتي خصوصاً وأن في العالم العربي أوساطاً واعية ذات مكانة ونفوذ تؤمن بأن كثيراً من مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية مرتبطة (بالورقة الغامضة) التي يحملها الاتحاد السوفيتي إزاء الشرق الأوسط في هذه المقامرة السياسية والعسكرية التي يلعبها المجتمع الدولي في هذه الأيام.
وبعد فإن كاتب هذه السطور لن يحاول في هذا البحث أن يقارن بين أهداف الطرفين (الروس وحلفاء الغرب) وسلوكهما، ولن يطمح في أن يربط قضايا العالم العربي بهذا أو ذلك. وإنما هي محاولة للتعرف على بعض الحقائق الجوهرية للفكر والسلوك الروسي في إطاره العام، فلعل في هذه المحاولة نفعا للمواطن العربي الذي يقف بين حجري الرحى وقدراته العامة والخاصة في يديه يحاول أن يجد الخلاص من هذا المأزق المحرج الذي فرضه عليه صراع فكري وسياسي واقتصادي بين كتلتين سياسيتين تتنافسان اليوم على السيادة الدولية.
ليس المهم في هذا النوع من البحث أن يحلل الكاتب المبادئ لفكرية (الأيديولوجية) التي تستند إليها الدعوة الشيوعية السوفيتية بقدر ما يهمه أن يتعرف على الأساليب التي تتميز بها السياسة السوفيتية عند قيامها بتنفيذ هذه المبادئ في روسيا نفسها وفي العالم الخارجي.
فالاقتناع بالعقائد والنظم الفكرية (شيوعية كانت أم غير شيوعية) اصبح أمراً ثانوياً إزاء سياسة توازي القوى التي تشوب سلوك المعسكرين الكبيرين الروسي والغربي. فقد اصبح كلا الطرفين أميل إلى توطيد نفوذه في المناطق الحساسة (كمنطقة الشرق العربي) في أساليب تبتعد في كثير من الحالات عن جوهر المبادئ والمعتقدات الفكرية التي تستند إليها نظم الحكم في كل من الاتحاد السوفيتي ودول حلف الأطلنطي. فالعالم اليوم في حالة حرب (باردة) حالات الحرب تستلزم خدعه في السلوك ومناورة في أساليب الفكر والفن الدبلوماسي. وعلى ذلك فإن حاضر الوضع الدولي يتطلب اهتماماً بدقائق هذا السلوك اكثر من اهتمامه بالمعالجات لجوهر النظم الفكرية والسياسية التي تبشر بها الدول الكبرى التي لها القول الفصل في مصير السلم والحرب.
ولقد أشرنا في فقرة سابقة إلى أن الشعوب العربية قد اختبرت عن كثب كيف أن سياسة الدول الديمقراطية الغربية في العالم العربي لا تتمشى في كثير من الحالات مع المبادئ الديمقراطية التي يستند إليها الفكر العربي وأنظمة الحكم القائمة في أوربا وأمريكا. فمأساة فلسطين علم على ذلك وتراث الاستعمار الغربي في دنيا العرب مثل حي من أمثلة هذا التناقض بين العقائد والسلوك.
أفليس من الصواب إذن أن نسعى لمعرفة ألوان التناقض بين العقيدة الشيوعية السوفيتية
وبين سلوكها السياسي مع العالم الخارجي، ونحن في منطقة حساسة يتوقف كيانها السياسي وبقاؤها على خريطة الأرض على ما يتمخض عنه من صراعات الدول الكبرى المتنافسة. ألم يصرح الجنرال أيزنهاور كبير القادة العسكريين في دول الحلف الأطلنطي بأن الشرق الأوسط هو أهم ميدان عسكري في خريطة العالم العسكرية.
وبعد فإن التعرف على دقائق السلوك يتطلب معرفة بخصائص العقلية السوفيتية. ويجب أن نميز بين العقلية السوفيتية وبين العقلية الروسية؛ فالأولى إطار فكري يعيش على تراث ماركس ولينين - وستالين وهو تراث راسخ في ثقافة رجال الحكم وصناع السياسة الذين يسيطرون على مقدرات روسيا اليوم. والثانية عقلية (شعبية) تراثها الثقافة الروسية التقليدية والمقومات التاريخية والأدبية والعاطفية وطبيعة المناخ والإقليم وسائر ألوان النشاط الإنساني التي تتميز بها الشعوب من بعضها. ولا شك أن هناك تشابكا بين العقلية السوفيتية وبين العقلية الروسية بحكم أن رجال الحكم المسؤولين عن روسيا اليوم هم من صلب الشعب الروسي. وهذا التشابك بين العقليتين ينقطع في كثير من الحالات والأحداث الخطيرة الهامة. ففي عقول البلاشفة السوفيتيين طبقات كثيفة من فلسفة ماركس ولينين وستالين والمدارس الفكرية المنبثقة عنها ترقد فوق تراثهم ومقوماتهم الخلقية الروسية التي ورثوها بحكم كونهم من إنتاج الشعب الروسي، ولكن هذه الطبقات الكثيفة جامدة متحجرة تنفرد في التأثير بسلوك رجال الحكم السوفيتي بصور قد تتناقض في بعض الحالات مع طبيعة العقلية والمقومات الخلقية للشعب الروسي. وليس هذا التناقض بشيء جديد في سلوك الأفراد والجماعات؛ فالبريطاني في بلده إنسان يختلف في عقليته وسلوكه عن مواطنه الذي يتولى حكماً في مستعمرة أو ينفذ سياسة معينة درب نفسه على تنفيذها مسلحاً بثقافة استعمارية خاصة، فرجال السلك الخارجي البريطاني مثلاً حين ينتدبون للخدمة في المستعمرات والمحميات والانتدابات يمرون في تدريب خاص في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن مثلاً، وما اكثر ما خلقه هذا التدريب من سلوك شائن بعيد عن أوصاف العقلية البريطانية التقليدية.
وبمثل هذا المقياس يجب أن نوازن بين رجال الحكم السوفيتي في موسكو وبين المواطنين الروس من غير رجال الحكم والإدارة. فنصف رجال الحكم بأن لهم عقلية سوفيتية
(والسوفيت كلمة اشتقت بعد توطد الحكم الشيوعي في روسيا).
ولنعرج الآن بعد هذه المقدمة على صلب البحث ونحاول أن نتعرف على بعض خصائص السلوك السوفيتي وعقلية الذي يوجهونه
نيويورك
للكلام بقية
عمر حليق
5 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
لماذا استسقم العرب بالأزلام؟
كان العرب في الجاهلية على حيرة من أمرهم: أديان شتى، وقبائل شتى؛ لا نظام لهم يجتمعون عليه، ولا حكومة موحدة يرجعون إليها، ويقفون عد الحدود التي ترسمها، والقوانين التي تضعها فتكون موضع التنفيذ. والصحراء التي يضطربون فيها فتغتالهم حينا وتبسط عليهم جناح الأمن حيناً، وكذلك حال الفزع التي كانت تصاحبهم من أشباح الحرب والغارات التي تصبحهم وتمسيهم، وتفاجئهم في ساعة من ليل أو ساعة من نهار. وكذلك حالتهم المعيشية التي تصيبهم بالبؤس المدقع والجوع القاتل أحياناً لاضطراب الحياة الاقتصادية. وكثرة حوادث القتل والاغتيال التي يتعذر عليهم إصدار حكم فيها. كل أولئك جعلهم في حيرة من أمرهم، وألقى عليهم ظلا ممتداً قاتماً من التردد والحيرة، والشك والاضطراب. فكان لا بد لهم مما يذهب عنهم هذه الحيرة القاتلة، فلجئوا إلى وسائل شتى ظنوها تجلب إليهم شيئا من الروح والطمأنينة وإن صارت عليهم حربا فيما بعد ذلك. لجئوا إلى التفاؤل والطيرة فحكموا الطير والحيوان في أمورهم، أيقدمون أم يحجمون. وتفاءلوا بالأصوات والكلمات يلتمسون فيها المعنى الذي يبسطهم فيمضون فيما هم بسبيله، والمعنى الذي يقبضهم فيرتدون إلى حيث الأمن والسلامة.
قال الجاحظ: ويدل على أنهم يشتقون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون قول سوار بن المضرب:
تغنى الطائران ببين ليلى
…
على غصنين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى
…
وفي الغراب اغتراب غير داني
فاشتق كما ترى الاغتراب من (الغرب) والبينونة من (البان) وقال جران العود:
جرى يوم رحنا بالجمال نزفها
…
عقاب وشحاج من البين يبرح
فأما العقاب فهي منها عقوبة
…
وأما الغراب فالغريب المطوح
فلم يجد في العقاب إلا العقوبة، ووجد في الغراب معنى الغربة واستخبروا الجماد، فكانوا يضربون بالحصى ليحكم بينهم في امرهم، يطيعون حكمه وهو الجماد الذي لا يسمع ولا
يبصر ولا يغني شيئاً.
كان يفعل ذلك دهماء العرب ذوو النفوس اللينة الضعيفة.
ويذكرون أن النابغة الذبياني كلن من أولئك. زعم الأصمعي أن النابغة خرج مع زيان بن سيار يريدان الغزو، فبينما هما يريدان الرحلة إذ نظر النابغة وإذا على ثوبه جرادة تجرد ذات اللون، فتطير وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجه! فلما رجع زيان من تلك الغزوة غانما سالما قال:
تخبر طيره فيها زياد
…
لتخبره وما فيها خبير
أقام كأن لقمان بن عاد
…
أشار له بحكمته مشير
تعلم أنه لا طير إلا
…
على متطير وهو الثبور
والبيت الثاني من هذه الأبيات يدلنا على مقدار إيمان بعض العرب بالطيرة، وخضوعهم التام لسلطانها كما أن البيت الرابع يدلنا على نظرة العقلاء منهم إلى الطيرة، وأنها من صميم الاتفاق لا غير. وكان زيان من دهاة العرب وساداتهم.
وممن كان لا يرى الطيرة شيئاً المرقش من بني سدوس، إذ يقول:
إني غدوت وكنت لا
…
أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا
…
من والأيامن كالأشائم
فكذاك لا خير ولا
…
شر على أحد بدائم
فالعرب في جاهليتهم كانوا يضطرون إلى ذلك ليجتلبوا قوة العزيمة فيما ضعفت عزيمتهم فيه، وليقطعوا الشك قطعاً بذلك الحكم الحاسم الذي يخضعون له خضوعاً كاملاً.
1 -
فكان العربي إذا أراد السفر والنقلة من موضعه استسقم بالأزلام، ففي السفر مخاطر كثيرة، مخاطر الطريق أن يضل به أو تعترض لله من جباته السباع، أو تطيح به العاصفة الهوجاء، ومخاطر الرحلة التي يعتليها فقد تهلك راحلته فتستبد به مشقة السفر. وتحدثه نفسه بعد ذلك، أيؤوب سالما غانما، أم يغتاله الهلاك وتطويه الخيبة، فلا بد له أن يقوى عزمه باستشارة الأزلام فهي التي تأمره، وهي التي تنهاه.
2 -
وكان العربي إذا ابتغى تجارة وليس التجارة أمراً هيناً عند العرب، فلا بد للتجارة في اغلب الأمر من رحلة إلى شرق البلاد أو غربيها، أو شمالها أو جنوبها، وفي ذلك التعرض
للسلب والنهب والعداوات القبلية. فهو قبل أن يضع رجله في غرز ناقته يستفتي الأزلام لتبشره بالفوز وتؤيد رأيه في القيام بهذه الرحلة، أو لترده عما عسى أن يكون قد كمن لله في ثنيات الطريق من مخاوف وأخطار.
3 -
وكان العرب يلقون بالاً كبيراً إلى الانساب، يتحرجون أن يدخل الأجنبي في انسابهم، مبالغة منهم في حصانة القبيلة وتماسكها، فإذا شكوا في نسب مولود أو رجل فليست لهم وسيلة تذهب عنهم ذلك الشك إلا أن يحتكموا إلى الأزلام لتخبرهم بصحة نسبه أو بطلان ذلك.
4 -
وكانوا إذا في حرب عرجوا قبل ذلك على أمين الأزلام ليكشف لهم بالأزلام عما يخبئ الغيب لهم من فوز وغنيمة، أو خيبة وإخفاق فيمضون أو يرتدون.
5 -
وإذا حصل بينهم (مداراة) أي خلاف وخصومة، فإن الحكم فيها هو الأزلام.
6 -
وإذا أرادوا استنباط المياه وأرادوا أن يحفروا بئراً ضربوا بالقداح يستأمرونها في ذلك.
7 -
وكذلك الأمر إذا عزم أحدهم على الزواج، أو على ختان ولده، أو على بناء قبته، وسائر شؤون الحياة التي يطرأ عليه فيها الشك والاضطراب.
أزلام الاستقسام
وأزلام الاستقسام هذه شبيهة بقداح الميسر، فهي عيدان تسوى مثل ما تسوى عيدان قداح الميسر. وإنما سميت هذه القداح بالأزلام لأنها زلمت، أي سويت. ويقال: رجل مزلم وامرأة مزلمة، إذا كان خفيفا قليل العلائق. ويقال: قدح ملزم، وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعه. وما احسن ما زلم سهمه، أي سواه. ويقال لقوائم البقر أرلام، شبهت بالقداح لطاقتها.
وقد أسلفنا القول أن قداح الميسر تحز فيها حزوز، أو ترسم برسوم تميز بعضها عن بعض. ولكن أزلام الاستقسام كانت تعلم بعلامات خر تتفق مع الغرض الذي أعدت له، وذلك بكتابة خاصة تسجل عليها، كما سيأتي.
ويختلف الرواة في عدد هذه الأزلام فيبلغون بها الثمانية عداً. كتب على واحد منها: (أمرني ربي)، وعلى واحد منها:(نهاني ربي) وعلى واحد: (منكم)، وعلى واحد:(من غيركم) وعلى واحد: (ملصق) وعلى واحد: (العقل) أي الدية. ويضمون إلى هذه الستة قدحاً غفلاً
لم يكتب عليه شيء، فإن خرج الغفل مرة أعيد الضرب إلى أن يخرج غيره من القداح.
وذكر ابن حبيب في المحبر أنه قد كتب على أحدهما (افعل) وعلى الثاني (لا تفعل) وعلى الثالث (نعم) وعلى الرابع (لا) وعلى الخامس (خير) وعلى السادس (شر) وعلى السابع (بطيء) وعلى الثامن (سريع). وذكر أيضاً أنه كتب على بعضها (صريح) وعلى الآخر (ملصق). كما ذكر أن قداح (المداراة) التي سبق الكلام عليها كانت بيضاء ليس فيها شيء. وذكر أيضاً أنه كان للحضر والسفر سهمان فيأتون السادن من سدنة الأوثان فيقول السادن: (اللهم أيهما كان خيراً فأخرجه لفلان). فيرضى بما خرج له.
وذكر ابن كلب عند الكلام على (هبل): (وكان في جوف الكعبة، قدامه سبعة أقدح مكتوب في أولها (صريح) والآخر (ملصق) فإذا شكوا في مولود اهدوا له هدية ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج (صريح) ألحقوه، وإن خرج (ملصق) دفعوه. وقدح على الميت، وقدح على النكاح، ثلاثة لم تفسر لي على ما كانت. فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفراً أو عملاً أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه).
قال: (وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله) وسنذكر هذا الأمر بتفصيل عند الكلام على العامل الديني.
وذكر أيضاً في الكلام على ذي الخلصة: (وكانت له ثلاثة اقدح: الآمر، والناهي، والمتربص).
وقال ابن هشام: (وكانت عند هبل قداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب. قدح فيه (العقل) - أي الدية - إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله. وقدح فيه (نعم) للأمر إذا أرادوه يضرب به في القداح فإن خرج قدح نعم عملوا به. وقدح فيه (لا) إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه (منكم)، وقدح فيه (المياه) إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح فحينما خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً، أو ينكحوا منكحاً، أو يدفنوا ميتاً، أو شكوا في أحدهم ذهبوا به إلى هبل).
وقال الجاحظ: (واستعملوا في القداح الآمر، والناهي، والمتربص. وهن غير قداح
الأيسار).
وفي صبح الأعشى: (افعل، لا تفعل، نعم، لا،، خذ، سر، سريع). وقال: (وإن كان بين اثنين اختلاف في حق سمى كل منهما سهما وأجالوا القداح، فمن خرج سهمه فالحق له).
واختلاف الروايات في ذلك يدلنا على أن العرب ما كانوا يلتزمون في صناعة الأزلام نهجا معينا يقسرون عليه أنفسهم، وإنما كان لكل كاهن من كهانهم، ولكل حكم من حكامهم طريقة خاصة فيما يكتب على أزلامه من الإشارات، كما يدل على أن لكل قضية من قضايا الاستفتاء أزلاماً خاصة بها تناسبها وتنهض لها.
للكلام صلة
عبد السلام محمد هارون
3 - تركيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
مؤتمر برلين 1878
لا أستطيع أن أتحدث عن تركيا دون أن أشير إلى أهمية مؤتمر برلين وأثره في تاريخ تركيا وفي السياسية الدولية العالمية فإن هذا المؤتمر يعتبر مفترق الطرق في السياسة الأوربية الحديثة بل وفي السياسة العالمية.
وقبل أن أتحدث عن هذا المؤتمر يحسن بي أن اصف الظروف الدولية التي أدت إلى انعقاده.
في 1875 قامت الثورة ضد الحكم التركي ومظالمه في ولايتي البوسنة والهرسك، وسرعان ما اشتعلت نيران الثورة في جميع أنحاء البلقان في بلغاريا وفي الصرب وفي الجبل الأسود وفي رومانيا، وقام القتال بين الأتراك وبين شعوب البلقان.
وإذا عطست شعوب البلقان اضطربت أوربا فإن شبه الجزيرة هذه تعتبر مخزون البارود في أوربا، ولذا سرعان ما تدخلت الدول: تقدم الكونت اندراس وزير النمسا باقتراحات لإنهاء الثورة قبلها السلطان ورفضها الثوار، وعقدت الدول مؤتمر القسطنطينية 1877 لحل المشكلة، ولكن السلطان فاجأ الدول فأعلن الدستور وبمقتضاه اصبح أمر الحاكم متروكا للشعوب، وأعلن أن الدول بمقتضى معاهدة باريس 1856 لا يحق لها أن تتدخل في شؤون تركيا الداخلية، وانقض المؤتمر ولكن الثورة زادت اشتعالاً.
وأخيراً جاءت روسيا لمساعدة شعوب البلقان ولتحقيق مآربها، فأعلنت الحرب على تركيا 1877 وتقدمت جيوشها حتى وقفت على أبواب القسطنطينية في يناير 1887، وحينئذ طلب السلطان الصلح وأمرت إنجلترا أسطولها في الوقت نفسه بالتقدم إلى مياه القسطنطينية وبضرب الروس إذا حدثتهم أنفسهم بدخول القسطنطينية.
وأمام الهزيمة اضطر السلطان أن يقبل ما عرضته عليه روسيا وأن يوقع معاهدة سان ستفانو في مارس 1878 وبمقتضى هذه المعاهدة تقرر أن تستقل رومانيا الصرب والجبل الأسود استقلالا تاما وأن تمنح البوسنة والهرسك استقلالاً إدارياً وأن تأخذ روسيا باطوم وقارص وإرزن وأن تنشأ بلغاريا العظمى التي كانت حدودها تمتد من البحر الأسود إلى
بحر إيجة ومنه إلى البحر الأبيض. وكان مفروضاً أن بلغاريا العظمى هذه ستقع تحت حماية روسيا وبذلك يتحقق الحلم الروسي وهو الوصول إلى البحر الأبيض.
لكن الدول وخاصة إنجلترا ثارت ضد هذه المعاهدة التي تضع البلقان تحت حماية روسيا وطلبت عرض المعاهدة على مؤتمر يعرض في برلين.
وقد اجتمع هذا المؤتمر في برلين في يوليو 1878 تحت رئاسة بسمارك منشئ ألمانيا الحديثة ورئيس وزرائها إذ ذاك وكبير دهاة الساسة وقطب السياسة الدولية حتى إن الفترة من 1870 - 1890 تسمى بعصر بسمارك. وقد عبر بسمارك عن السياسة التي انتهجتها بقوله (لقد كنت سمساراً شريفاً). صحيح أن ألمانيا لم تأخذ لنفسها شيئا ولكنها أعطت ومنعت وأرضت وأغضبت فأثارت والبغضاء وأقامت الصداقات مما جعل هذا المؤتمر بحق مفترق الطرق في السياسة الدولية.
أخذت النمسا البوسنة والهرسك فرضيت وتوطدت صداقتها مع ألمانيا لأن المداد النمساوي كان أغلى من الدم الروسي، وغضبت روسيا وكان ذلك تمهيدا لانسحابها من تحالفها مع النمسا وألمانيا وقيام التحالف بينها وبين فرنسا ثم إنجلترا فيما بعد.
وأما إنجلترا فقد حققت ما كانت ترنو إليه إذ قضى المؤتمر على بلغاريا العظمى فأعيدت مقدونيا إلى تركيا وبذلك حرمت بلغاريا من شواطئ على بحر إيجة والبحر الأبيض، وجعلت بلغاريا الحقيقية إمارة مستقلة استقلالاً داخلياً وجعل الرومللي الشرقي إمارة يحكمها وال مسيحي فوافق السلطان على تعيينه.
وأخذت إنجلترا جزيرة قبرص ورضيت وعاد رئيس وزرائها دزرائيلي إلى بلاده يقول (لقد حققت السلام وجئت بصلح مشرف).
وجدير بي أن اذكر أنه في ذلك التاريخ لم يكن هناك ما يدعو إنجلترا إلى أن تعادي ألمانيا، ولكن ظهور مطامع ألمانيا الاستعمارية فيما بعد هو الذي إلى قيام العداء بينهما؛ وهو الذي محافظة العداوة التقليدية بين فرنسا وإنجلترا وأدى إلى قيام الصداقة بينهما؛ تلك الصداقة التي تجلت في وقوف جيوشهما جنباً إلى جب في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وأما فرنسا فقد كانت جريحة كسيرة إثر هزيمتها في حرب السبعين وانتصار ألمانيا عليها واحتلالها لبلادها، ولذلك لم يكن لها نصيب يذكر فقد كان المؤتمر تحت رئاسة بسمارك
عدوها الأكبر.
وقد كان بسمارك يعمل دائماً على عزلة فرنسا ويحاول جاهداً إلا تجد لنفسها أصدقاء؛ وكان يؤمن بأن فرنسا لن تجرؤ على الوقوف في وجه ألمانيا طالما كانت وحيدة لا حليف لها.
على أن سخط روسيا على ألمانيا بسبب موقفها منها في المؤتمر كان الدافع الأول إلى أن تمد روسيا يدها إلى فرنسا 1893 وقد انضمت إليهما إنجلترا 1907.
وأما إيطاليا فقد غضبت لأن فرنسا استولت على تونس 1882 وكانت إيطاليا تطمع فيها وبذلك انضمت إيطاليا إلى ألمانيا والنمسا، وهكذا انقسمت أوربا إلى معسكرين: إنجلترا وفرنسا وروسيا في جانب، وألمانيا والنمسا وإيطاليا في جانب آخر.
والصرب غضت لأن النمسا انتزعت منها ولايتي البوسنة والهرسك وهي تعتبرهما جزءاً منها وبذلك انضمت إلى جانب فرنسا وروسيا وإنجلترا، ولقد كان اغتيال طالبين صربيين لولي عهد النمسا في 28 يونية 1904 سبب قيام الحرب العالمية الأولى.
وتركيا غضبت على أصدقائها لأن هؤلاء الأصدقاء كانوا في الواقع أعداء، كانت مصالحهم سبب صداقتهم، كان أهم هؤلاء الأصدقاء إنجلترا وفرنسا. أما إنجلترا فقد أخذت قبرص 1878 واحتلت مصر 1882، وأما فرنسا فقد استولت على تونس 1882.
وكان مسلك إنجلترا فرنسا هذا سببا في إغضاب تركيا مما دفعها إلى أن تتجه شطر ألمانيا، وكانت ألمانيا قد بدأت تغير من سياستها وتعمل على اتخاذ مناطق نفوذ لها فرحبت بصداقة تركيا وعملت على مد يد المعونة إليها وشرعت في ربط تركيا بألمانيا وإنشاء سكة حديد برلين - بغداد مما أثار مخاوف إنجلترا.
وقد وقفت تركيا بجانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، أما إيطاليا فبرغم أنها كانت حليفة لألمانيا وقت على الحياد في أول الحرب، حتى إذا تجلى لها كفة الحلفاء (إنجلترا وفرنسا) راجحة نكثت بعهدها ونقضت سابق تحالفها وانضمت إلى الحلفاء 1915.
وقد بذل الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى 1914 - 18 جهودا جبارة في الدفاع عن بلادهم وانزلوا بالإنجليز خسائر فادحة في موقعة غاليبولي 1916 وردوهم عن بلادهم، وكذلك قضوا على عدة حملات بعثت بها إنجلترا إلى العراق، ولكن تلك الجهود لم تؤثر في نتيجة الحرب فسرعان ما سقطت العراق وفشلت حملة فلسطين ومصر وتقدم الجنرال
أللنبي فأحتل فلسطين 1917 وتقدمت قواته فاحتلت سوريا 1918 وساءت حالة تركيا فاضطرت إلى قبول الهدنة في 31 أكتوبر 1918، واحتلت إنجلترا القسطنطينية وقلاع الدردنيل والمواقع الحربية الهامة، ونزل الفرنسيون والسنغاليون باستنبول واحتل الإيطاليون (بيرا) وخطوط السكك الحديدية. وهكذا أصبحت تركيا تحت سيطرة الحلفاء.
وفي 10 أغسطس 1920 أرغم مندوبو حكومة الآستانة على توقيع معاهدة سيفر وبها فقدت تركيا العراق ومصر وبلاد العرب وفلسطين وسوريا وتراقيا في أوربا.
وهكذا كانت معاهدة برلين 1878 معاهدة انحلال الإمبراطورية العثمانية في أوربا، وكانت معاهدة سيفر معاهدة انحلال الإمبراطورية العثمانية في آسيا وإفريقيا.
بل اكثر من هذا لقد أصبحت تركيا ذاتها موضع إذلال محتليها وكانت الشعوب الصغيرة التي طالما خضعت لحكمها تطمع في تقسيمها والاستيلاء على أراضيها. أما كيف تخلصت تركيا من متاعبها وكيف انتصرت على قاهريها فذلك ما سنفصله في حديث قادم إن شاء الله.
أبو الفتوح عطيفة
عن سير الخالدين
حياة المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب).
(المازني)
عهد الطفولة
لم يعش المازني طفولته، أو هو جاهزاً مسرعاً، بأسرع مما يجوزها الأطفال في مثل سنه. وكأنما كانت طفولته، في قصرها واقتضابها، أشبه بالحلم الجميل بددته صحوة مفاجئة وروعه نذير غير منتظر. فقد كبرت عليه الحياة بأحزانها وآلامها، وحملته في ذلك العمر الغض تبعاتها التي تؤخرها عن غيره عادة إلى ما بعد مرحلة الشبيبة والنضج.
قضى أبوه وهو بعد طفل التاسعة. فأرادت أمه أن تكون عليه معتمدها بعد أبيه - وكان اكبر ابنيها وإن لم يكن أكبر اخوته - وصارت تعامله كأنه رب الأسرة وسيد البيت، وأخذت توطنه على احترام النفس واحتمال العبء ومواجهة الحياة. وقد وسعها ذلك فقد كانت رزاناً حصيفة عاقلة، (صارمة الجد، حادة قاطعة كالسيف، غالبة كالقدر) أو كما أوجز هو وصفها حي قالا عنها أنها كانت (رجلاً). ووسع الفتى الناشئ يوم ذاك أن يفهم عن أمه. . ويوم سمعها تقول له في شيء من الصرامة المغتصبة يخالطها فرط الحنو:
(اسمع يا إبراهيم! إنك لم تجاوز العاشرة، ولكني احب لك أن تعد نفسك من الآن، رجلنا. . فتسلك سلوك الرجال لا الأطفال).
في ذلك اليوم، أو في تلك اللحظة منه، قطع الطفولة كلها وثباً.
كان مولد المازني بالقاهرة (1890) في أحد الأحياء الوطنية التي ظلت، إلى عهد قريب، محتفظة بطابعها القديم. وفي القاهرة درج المازني ثم شب ثم جاوز الشباب إلى الرجولة فالكهولة. ولعل هذا سر تعصبه لها وإيثاره إياها. ولقد عدها بلدته وإن لم تكن بلده آبائه وأجداده كانوا يستوطنون بلدة (كوم مازن) من أعمال تلا بمديرية المنوفية.
ويذكر المازني أن ولادته كانت في دار لزوج عمته، وإن كانت مشاعاً لمن شاء أن يتخذها
سكنا من ذوي قرابته. وقد خصصت بعض (المناظر) - وهي الغرف الواسعة - التي تقع على جانبي الفناء من تلك الدار، مكتبا يستقبل فيه أبوه موكليه من أصحاب الدعاوى والأقضية، وكان أزهري الثقافة فاشتغل زمنا بتدريس اللغة العربية بالمدرسة الخديوية، ثم هجر التدريس واحترف المحاماة إلى آخر أيامه. وكان على الحالين مبسوط الرزق موفور الدخل، ولكنه كان كذلك متخرق اليد بالنفقة والعطاء، مسرفاً في تحقيق رغائبه وتلبية أهوائه، ولعله لهذا السبب كان مزوجاً يكثر من البناء بالتركيبات الخصوص. وكانت طبيعة عمله في المحاماة تقتضيه أن يلم بالقسطنطينية بي حين وحين، فكان كلما سافر إليها عاد مناه بزوجة جديدة، لا يلبث أن يعود بها أدراجه إلى بلدها فيسرحها بإحسان ويبني بسواها. على أنه كان، فيما عدا ذلك، حليما طويل البال قليل الكلام ساك الطائر. لعله استفاد مزية الأناة والحلم من كثرة ما راض فسه على احتمال ما كان يتعرض له، من الجفوة والمعتبة، من أبيه الشيخ أو من زوجته الشابة المصرية أو أولاده، كلما استجد عليها بإحدى تركياته الحسان.
وكان، كما هو المعهود في أصحاب هذا الطبع، قليل الاستقرار فهو لا ينفك ينتقل بأهله من دار إلى دار. وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع المازني الطفل أن يحتفظ في ذاكرته بالصورة الغالبة على تلك الدور. وأبقى ما بقي منها منظر الفناء الرحيب الذي كان صفة مشتركة بينها، والذي كان على هيئة الصحن تقعي في وسطه أحيانا شجرة جميز عتيقة عظيمة كثيفة الغصون، وربما قامت في موضعها نافورة ماء تروي الحديقة المترامية الأطراف من حولها.
وقد قضى المازني سني الطفولة الباكرة في بيت من بيوت المماليك - وكانت تعرف ببيوت (الغز) - في درب الجماميز، ويصفه المازني فيقول (كان البيت عجيب الطراز، له بوابة ضخمة تصلح أن تكون لقلعة، ومع ذلك لا تغلق في ليل أو نهار، ثم مدخل طويل ضيق على جانبيه الغرف وهي أبداً موصدة الأبواب والمرء لا يستطيع في النهار أن يبصر كفه من شدة الظلمة، وكنا نضع مصباحاً ولكنه لم يكن يضيء شيئا، بل كان كل ماله من النفع هو أن يرينا شدة السواد ويزيده وقعاً في النفوس).
وكان الصبيان من لداته وأترابه يقضون أيامهم في اللعب البريء، فيجتمعون في فناء أحد
الدور، أو يخرجون إلى الطريق - أو (الحارة) كما يسمونها - يصرفون نهارهم كله فيما يتعلقون به من فنون اللهو. وكان المازني الطفل أشوقهم إلى اللعب وأرغبهم فيه وأجزلهم حظاً منه، وقد تميز من بينهم بحب للدعابة وميل إلى الفكاهة. وكانت فيه دفعة وجرأة تغريانه بالتقحم والمغامرة وطلب الشجار أو (جر الشكل) كما يقول، وإن كان مع ذلك ضعيفاً نحيفاً، ولقد اعتاض من ضعفه سعة الحياء والدهاء، فصارت له بفضله منزلة بين لداته الصبيان.
على أنه لك يكن يهنأ بهذه الرغبة الطبيعية فيه أو يأخذ بحظه منها؛ فقد كان يدفع دونها ويحلأ عنها، فلا يهم باللعب مرة إلا زجره أهله ونهوه عنه كأنما كان يقترف منكراً ويقارب معصية، حتى لخيل إليه - وهو يدير عينه في تلك الأيام - أن وظيفة الآباء والأمهات (كانت صرف الأبناء عن النظر والتفكير، وإلزامهم الجمود ونهيهم عن كل حركة جسمية أو عقلية).
ولا غرابة بعد ذلك أن تضيق نفس الطفل بالبيت وبالحياة فيه، وأن يراه أشبه بالجحيم. فهو لا يكاد يقبل إلى الدنيا، غريباً عنها مأخوذا بجدتها مشوقا إلى معرفتها؛ يحفزه إلى ذلك فسه المتفتحة وطبعه المتوثب؛ حتى يطالبه الكبار بأن يكون له، وهو الطفل الغرير، (عقل الكبار واتزانهم وفهمهم).
وربما بدا عصياً على التصديق أن تكون هذه نظرة الطفل إلى البيت في ذلك العهد. ولكن الأمر لا يتعاصى على التحقيق، إذا عرفنا أن المازني نشأ في بيت من بيوت الورع والتقوى، فأبوه وجده من علماء الأزهر، وقد طرقت مسامع الطفل الناشئ آنذاك عبارات الثناء على جده من أفواه تلاميذه وعرف منهم منزلة مرعية للشيخ. وكذلك كان هذا البيت ببنيانه فضلاً عن سكانه؛ فكان يقوم في فنائه مصلى أو مسجد صغير (عامراً أبداً بالمصلين ليلاً ونهاراً)، ويختلف إليه المريدون والاتباع يعقدون حلقات الذكر التي كانت تمس قلب الطفل الصغير وتملك عليه نفسه، فينغم إليهم، ويأتي بمثل ما يأتونه من صوت وحركة فكانت نشأته اقرب إلى النشأة الدينية التي يغلب عليها المحافظة والتوقر ومجافاة ما عساه يكون مظنة شك أو مدعاة ريبة، مع التشدد في التقاليد المرعية والعرف السائد، والذهاب في ذلك كله إلى حد المغالاة والإسراف. ومن طرائف ما لقيه الطفل في هذه النشأة، أنه
درج يسمع عن شخصين في البيت ولا يراهما أبداً؛ (وإن كان ذكرهما على لساني أبي وأمي؛ وهما (الست) و (الأفندي)، فأبي يقول للخادمة مثلاً، قولي كذا أو كذا (للست)، ويتحدث في أوقات شتى ولا سيما حي يكون معه رجال من أقربائنا عن هذه (الست). وأمي لا تفتأ تقول، (الأفندي) قال أو (الأفندي) أتى أو الأفندي) خرج. فاعجب أين هما؟ ولماذا لا أراهما؟ واصعد إلى السطح باحثاً عنهما فلا أجدهما، وادخل كل غرفة فلا اهتدي إلى أثرهما، وانزل إلى فناء الدار فلا التقي بهما. أين ينامان يا ترى؟ ماذا يأكلان؟ ألا يظهران أبداً؟). . . وظل يجهل شخصيهما حتى قدر لهذا اللغز أن يحل على يد جده الذي قال له (لقد اخطئوا معك يا بني، وكان حقهم أن بدلوك).
ونحسبنا في غنى عن القول بأن هذين الشخصين لم يكونا أحدا غير أمه وابيه، يذكر كل منها الآخر، ويتحدث عنهما الآخرون، فعلا يعدي في الإشارة أليهما عن تلك الصفتين، وكانت النتيجة هي ذلك الازدواج الساذج في وهم الطفل الصغير.
على هذه الحال، دفعوا بالطفل، وهو لم يعد الخامسة، إلى كتاب من كتاتيب القاهرة لذلك العهد، على مقربة من الدار. . ويقول المازني (ويصبح الصباح فأحمل إلى الكتاب حملاً، وهناك توضع قدماي في (الفلقة) ويهوى عليها (سيدنا) - فقيه الكتاب - بالجريدة (المقرعة) ويكل ذلك إلى مساعدة (العريف)، وبهذا يبدأ النهار. .).
على أن عهده بالكتاب لم يطل. فقد أصرت أمه على المدرسة وألحقته - عن طريق إحدى معارفها - بمدرسة للبنات. ولم يلبث أن هرب منها - أو من قسوة ناظرها - إلى مدرسة أخرى كانت تقع وقتذاك في شارع تحت الريع - أو في درب سعادة - وعلم أبوه بذلك فنقله إلى مدرسة (القرشوللي) في شارع محمد علي، على مقربة من القلعة. وبقى به هذه المرة حتى أدى الامتحان في آخر العام، ومع ذلك فقد أبى الناظر أن ينقله إلى فرقة أعلى لصغر سنه، ولعله بقي في هذه المدرسة عاما آخر، استقر بعده في المدرسة القريبة.
ويقول المازني (كنت أعود عصر كل يوم إلى البيت، فأرمي كتبي وكراساتي واخرج إلى الشارع لألعب مع أقراني، فأزجر عن اللعب، فأصعد واطل على اللاعبين من الشرفة، وبي حسرة ولهفة. واسمعهم يصفونني بالعقل والهدوء، فألعن العقل وأذم الهدوء).
وقد كان في حياة أبيه لا يعدم الوسيلة إلى اللعب والاحتيال له بما يدخل في وسعه؛ فقد كان
على أبيه جرأة لا يجدها على سواه. فلما مات أبوه وهو يشرف على التاسعة أرادت أمه أن تصرفه عن اللعب وأن تنأى به عنه، وألقت إليه فيما يشبه الإيحاء أن يعد نفسه - قبل الأوان - رب الأسرة ورجلها ووحدها، وأعدت من ناحيتها للأمر عدته، فكان إذا انتهى العام الدراسي وحل الصيف، بعثت بابنها إلى كتاب في الأزهر ليحفظ القرآن فلا يجد الطفل لعبه من الوقت إلا الهين اليسير.
ولقد كان المازني خليقاً أن يستوفي حظ طفولته من رغد العيش وخلو البال وعدم الاشتغال بأمر نفسه فضلاً عن أمور غيره، لولا أن الأقدار كانت تهيئ له أمراً، فكتبت عليه أن يحمل في تلك السن المتقدمة أعباء الرجال المسئولين، بما أوحى إليه من ضرورة الاعتماد على النفس والكدح في سبيل ما ينتظره من أهله في المستقبل. نعم، لم يكن الطفل ملتزماً مطالب العيش لمن خلفهم أبوه بعده، وإنما كان عليه أن يعرف أن عهد الطفولة، أو عهد اللعب، قد مضى، وأن يقصر نفسه على غير ما تتهيأ له طاقتها في سنه. وعندما فرغت البقية الباقية من مالا أبيه، وقد كفل ذلك سرف أخيه الأكبر؛ كان عليه أن يوطن نفسه على الفقر وأن يستعد له. . ولقد عرف المازني الفقر في ذلك العهد من حياته، وخبره عن كثب، وامتحن به، حتى وصفه بأنه أستاذه، ولكنه كان يلقي على دروسه كما تهوى العصا على أم الرأس!).
محمد محمود حمدان
كرامة الأخيار
للأستاذ محمد منصور خضر
لله در هؤلاء العلماء الأخيار الذين اكرموا العلم فأكرمهم الله وجعل لهم منزلة تتصاغر دونها منزلة الملوك، وفروا إلى الله فحفظوا حدوده ولم يرضوا بالظلم لأن الراضي بالظلم كالظالم في الإثم - وهذا أمر قل من ينتبه إليه في هذا الزمان - فلا بد من إظهار الغضب والسخط على الظالم حتى يشهد بذلك له الخلق فيكون ذلك حجة له يوم القيامةوهو ما لم نسمع به من العلماء في عصرنا. وهناك أيها القارئ بعض أخبار العلماء الذين نصحوا لله ورسوله (فحفظهم وأعلى ذكرهم):
كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول: لما أرسل إلى أبو جعفر المنصور دخلت عليه فرأيت النطع بين يديه والسيوف مسلولة وهو يعاتب ابن طاووس على أمور ثم قال له: ناولني الدواة فأبى؛ فقال له ما منعك؟ قال خشيت أن أكون شريكاً لك فيما تكتب. قال: فضممت ثيابي مخافة أن يصيبني دمه ثم قال له: اذهب إلى حال سبيلك. فلم أزل اعرف ذلك لأبن طاووس!
هذا وقد طلب أبو جعفر المنصور أيضاً صحبة ابن أبي ذئب فقال له بشرط أن تقبل نصحي. فقال له أبو جعفر نعم فصحبه. فقال له أبو جعفر يوماً: ما نقول في؟ فقال له: لا تعدل في الرعية ولا تقسم بالسوية. . فتغير وجه أبي جعفر فولى عن ابن أبي ذئب ولم يطق صحبته.
ومن ذلك أن هشام بن عبد الملك كان بمكة وطلب الاجتماع بطاووس اليماني فلم يجبه طاووس إلى ذلك. فعمل عليه الحيلة حتى اجتمع به. فلما دخل عليه طاووس لم يسلم عليه بسلام الخلفاء وإنما قال: السلام عليكم يا هشام! كيف حالك؟ وخلع نعليه بحاشية البساط وجلس بجانبه. فغضب هشام لذلك حتى هم بقتله. فقال له الوزير أنت يا أمير المؤمنين في حرم الله عز وجل. فقال هشام ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال ماذا صنعت؟ فقال خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تجلس بي يدي ولم تقبل يدي ولم تقل السلام عليكم يا أمير المؤمنين كما يقول غيرك، وسمتني باسمي ولم تكنني. فقال طاووس: أما ما فعلت من خلع نعلي بجانب بساطك فإني افعل ذلك كل يم خمس مرات بين يدي الله في بيته فلا
يعاقبني ولا يغضب علي. وأما عدم تقبيلي يدك فإني سمعت علي بي أبي طالب بنهى عن تقبيل يد الملوك إلا من عدل، وأنت لم يصح عندي عدلك. وأما عدم قولي لك يا أمير المؤمنين حين سلمت عليك فليس كل المسلمين راضين بإمرتك عليهم فخشيت أن أقع في الكذب. وأما أني لم أكنك فإن الله سبحانه وتعالى قد كنى أبا لهب لكونه عدوه، ونادى أصفياءه بأسمائهم المجردة لكونهم أحباءه، فقال ي داود يا يحيى يا عيسى. وأما جلوسي بجانبك فإنما فعلته اختبار لعقلك فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول يختبر عقل الأمير بجلوس آحاد الناس بجانبه فإن غضب فهو متكبر من أهل النار. فأخذت هشاماً الرعدة وخرج طاووس من عنده بغير استئذان فلم يعد إليه:
ويقال إن عبد الملك بن مروان خطب يوما بالكوفة فقام إليه رجل من آل سمعان فقال مهلاً يا أمير المؤمنين؛ اقضي لصاحبي هذا بحقه ثم اخطب. فقال وما ذاك؟ فقال إن الناس قالوا له ما يخلص ظلمتك من عبد الملك إلا فلان فجئت به إليك لأنظر عدلك الذي كنت تعدنا بهد من قبل أن تتولى هذه المظالم. فطال بينه وبينه الكلام فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتعظون، أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم أم نطيع أمركم بالسنتكم؟ فإن قلتم أطيعوا امرنا واقبلوا نصحنا فكيف ينصح غيره من غش نفسه! وإن قلت خذوا الحكمة حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها فعلام قلدنا كم أزمة أمورنا وحكمناكم في دمائنا وأموالنا! أو ما تعملون أن منا من هو اعرف منكم بصنوف اللغات واحكم بوجوه العظات؟ فإن كانت الأمانة قد عجزت عن إقامة العدل فيها فخلوا سبيلها وأطلقوا عقالها يبتدرها أهلها الذين قاتلتموهم في البلاد وشتتم شملهم بكل واد. أما والله لئن بقيت في يدكم إلى بلوغ الغاية واستيفاء المدة لتضمحل حقوق الله تعالى وحقوق العباد! فقال له وكيف ذلك؟ فقال لأن من كلمكم في حقه زجر ومن سكت عن حقه قهر! فلا قوله مسموع، ولا ظلمه مرفوع ولا من جار عليه مردوع، وبينك وبين رعيتك مقام تذوب فيه الجبال حيث ملكك هناك خامل وعزك زائل وناصرك خاذل الحاكم عليك عادل. فأكب عبد الملك على وجهه يبكي ثم قال له: فما حاجتك؟ فقال عاملك بالمساواة ظلمني وليله لهو ونهاره لغو ونظره زهو، فكتب إليه بإعطائه ظلامته ثم عزله!
وحكى الكلبي عن رجل من بني أمية قال: حضرت معاوية ابن أبي سفيان في خلافته وقد
أذن للناس إذناً عاماً فدخلت عليه امرأة وقد رفعت لثامها عن وجه كالقمر الذي شرب من ماء البرد ومعها جاريتان لها فخطبت للقوم خطبة بهت لها كل من هناك ثم قالت: وكان من قدر الله تعالى انك قربت زياداً واتخذته أخاً وجعلت له في آل سفيان نسبا ثم وليته على رقاب العباد فسفك الدماء بغير حلها ولا حقها، وينتهك المحارم بغير مراقبة فيها، ويرتكب من المعاصي أعظمها! لا يرجو لله وقارا ولا يظن أن له ميعاداً وغداً يعرض عمله في صحيفتك وتوقف على ما اجترم بين يدي ربك، فماذا تقول لربك يا معاوية غداً وقد مضى من عمرك أكثره وبقى أيسره وشره؟ فقال لها من أنت؟ فقالت امرأة من بني ذكوان وثب زياد المدعي أنه من بني سفيان على وارثتي من أبي وأمي فقبضها ظلماً وحال بيني وبين ضيعتي وممسكة رمقي؛ فإن أنصفت وعدلت وإلا وكلتك وزياداً إلى الله تعالى وأن تظل ظلامتي عنده وعندك، فالمنصف لي منكما الحكم العدل. . فبهت معاوية منها وصار يتعجب من فصاحتها ثم قال: ما لزياد لعنه الله مع من ينشر مساوينا، ثم قال لكاتبه اكتب إلى زياد أن يرد لها ضيعتها ويؤدي إليها حقها.
وحكى أن سليمان بن عيد الملك قدم إلى المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. فقال: يا أبا حازم كيف القدوم على الله؟ قال: يا أمير المؤمنين: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لي عند الله؟ قال أبو حازم اعرض نفسك على كتاب الله حيث قال: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال قريب من المحسنين، ثم قال سليمان: يا أبا حازم أي عباد الله أكرم؟ قال أهل البر والتقوى، قال: فأي الأعمال افضل؟ قال أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: فأي الكلام اسمع؟ قال قول الحق عند من تخاف وترجو، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها. قال فأي الناس أخسر؟ قال رجل حط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره.
فهكذا كان دخول أهل العلم على الملوك وهم بحق علماء الآخرة. فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم فيدلونهم على الرخص، ويستنبطون لهم بدقائق الحيل وطرق السعة
فيما يوافق أغراضهم، ويأخذون الهدايا المنوعة ويباهون الناس بها لأنها هدية ملكية ولم يراقبوا الله فيهم فلم يعظوهم أو يخوفوهم من عذاب الله ومقته. ثم يكون بعد ذلك زوال الملك والعذاب الشديد يوم القيامة.
شطانوف
محمد منصور خضر
شلر
للكاتب الكبير توماس كارليل
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
تتمة
مور: من فوضني بهذا؟ - إن الظلام مخيم على كل مكان، متاهات شائكة، لا منفذ، ولا نجم هاد، يل ليتني تخلصت من هذا النفس، وكل شيء منته كمهزلة مؤسفة، ولكن ما مصدر هذا العطش الشديد للسعادة! ما مصدر فكرة الكمال الذي لا يمكن التوصل إليه! هذا الاستمرار في وضع الخطط الفاشلة، إذا كان الضغط الطفيف على هذا الشيء التافه (ممسكاً المسدس) يجعل من الحكيم والأحمق، والجبان والشجاع، وعزيز النفس وذليلها سواسية كأسنان المشط، وإذا كان الانسجام الإلهي موجوداً في الطبيعة غير العاقلة، فلم هذا النشاز في الطبيعة العاقلة؟ - كلا! كلا إن هناك شيئاً خلف كل هذا، لأنني لم اعرف العادة مطلقاً إلى الآن. أتعتقدون بأنني سأرتجف يا أرواح الذين أهلكتهم!؟ لا لن ارتجف (يرتجف بعنف) - فأنينكم الحافت الميت ووجوهكم المختنقة السوداء، وجروحكم الفاغرة المرعبة ما هي إلا حلقات في سلسلة القدر، ومصيرها في النهاية يتوقف على ألاعيبي الصبيانية وعلى نزوات مربياتي ومعلمي، وعلى مزاج والدي (مرتجاً من الرعب) لماذا جعلني بريلوس عجلاً نحاسياً لأشوي الإنسانية المسكينة في معدتي الملتهبة؟ (محدقاً في المسدس) الآن يمكن ربط الزمان والخلود في لحظة واحدة! - أيها المفتاح المرعب الذي يغلق خلفي سجن الحياة، ويفتح قدامي مسكن الليل الخالد - آه، قل لي! قل لي - إلى أين - إلى أين ستقودني؟ أإلى الأرض الغريبة التي لم يعد منها إنسان. انظر، إن الرجولة تنهار أمام هذه الصورة ويستسلم الإنسان لهذا المنظر المورع، والوهم الذي هو مسخ الشعور النزق يلعب بنا بصورة غريبة. كلا! كلا ليس من شأن الرجل أن يتأرجح ويخور في ساعة الحرج. كن من تشاء، إنني احتفظ بذاتي معي. أنا جنتي وأنا ناري. وإذا أردت أن ترسلني وحيداً فريداً شريداً طريداً إلى ركن مشتعل من أركان الكون. هذا الركن الذي أقصيته عن ناظريك، هذا المكان الموحش المظلم والصحراء المخفية التي لا حراك فيها ليصبح ذلك كل ما أمله والى
الأبد. إني سأعمر هذا القفر الصامت بهواجس، وسأتخذ من الخلود مجالا للكشف عن سورة البلاء اللانهائي.
أو انك ستقودني من ولادة لأخرى، ومناظر أخرى للألم المفجع قدما إلى الفناء. أليس في مكنتي قطع أسباب الحياة كما اقطعها هنا والآن؟ هل لي أن أموت في سبيل حياة تعسة؟ هل سأمنح الشقاء نصراً علي؟ - كلا - إنني سأحتمل هذه الحياة (يرمي المسدس بعيداً) ولتثلم التعاسة نفسها على صخرة كبريائي. إنني سأسير محتملاً إياها.
وفي مؤلفه (عذراء أورليانس) نجد تالبوت، ذلك المحارب القديم، الأشهب، الملحد، الذي لا يقهر، وهو يمر مفكراً بأرض العدم، مستهزئاً حتى بالقدر الواقف له بالمرصاد، وهذا المنظر هو المنظر السادس من الفصل الثالث و (في زحام المعركة).
(يتغير المنظر فيصبح فسحة منبسطة محاطة بالأشجار. وفي أثناء عزف الموسيقى يرى الجنود وهم يهربون من ساحة القتال) تالبوت، متكئاً على فاستولف، يرافقه بعض الجنود. يقبل ليونيل بعدئذ بسرعة.
تالبوت: ضعني هنا، تحت هذه الشجرة، واعمدوا إلى المعركة: أسرعوا أنا لا أريد مساعدة كي أموت.
(يدخل ليونيل) فاستولف ياليوم الشؤم! انظر، ليونيل، ماذا ينتظرك، إن قائدنا الجريح يموت.
ليونيل: لا سمح الله: آه يل تالبوت الجليل، إن هذا ليس وقت الموت، لا تستسلم للموت، واجبر الطبيعة المترددة بقوة روحها حتى لا تفارقك الحياة.
تالبوت: عبثاً: عن يوم القضاء قد حم، هذا القضاء الذي يسوي جيروت فرنسا بالرغام. وعبثاً ما ضحيت بأعز شيء لدي للصمود في هذا التصادم الضاري وفي هذه المعركة اليائسة. لقد أصابت في الصاعقة مقتلا فتحطمت. وها أني مضطجع لا قومة لي بعد الآن. لقد خسرنا (ريمز)، فأسرعوا لإنقاذ باريس.
ليونيل: إن باريس بيد الدوفان، وقد وصلتنا الآن الأنباء السيئة بأنها استسلمت.
تالبوت: (يمزق ضماداته) وإذن تدفقي يا سواقي الحياة، إن هذه الشمس أصبحت ممقوتة لدي.
ليونيل: فاستولف! انقلوه إلى المؤخرة: إن هذا الموقع يمكن أن يصمد لحظات أخرى، إن الخبثاء الجبناء يتراجعون، لقد أقبلت الساحرة التي لا تقاوم، يحيط بها الدمار والخراب.
تالبوت: أيها الجندي، انك تنتصر وأنا استسلم؛ إن الآلهة أنفسهم ضعاف أمام البلادة والخرق، وأنت يا آلهة العقل، يا ابنة الإله الأكبر، يا مؤسسة نظام الكون، وقائدة النجوم، من أنت إذا كنت مربوطة بذيل الحصان الأخرق، حصان الخرافة، إنك ستدفعين بعيونك المفتحة صراخك المدوي إلى الهوة السحيقة مع ذلك الحيوان السكير؟ ملعون من يربط مصيره بمصير العظماء والأشراف المبجلين، إن هذا العالم ملك السلطان أحمق.
ليونيل: آه، إن الموت قريب، ففكر في إلهك وصل، ولو أن القدر هو الذي نصر الشجعان على أمثالنا المغاوير لما اهتممنا قيد انملة، ولكن إن تسحقنا مثل هذه الأضحوكة الوضيعة فأمر لا يستحق منا كل هذا التعب وكل هذه المخاطر.
ليونيل: (يمسك بذراعه) وداعا، تالبوت! سأبكيك بملء دموعي إذا بقيت حيا بعد انتهاء المعركة. ولكن القدر يدعوني الآن إلى ساحة المعركة. . وداعاً! إلى الملتقى وراء الشاطئ غير المنظور، وداعاً مبتوراً لصداقة طويلة وليكن الله معك (يخرج).
تالبوت: إن كلل شيء سينتهي آجلاً، وسأسلم إلى الأرض والى الشمس الأبدية هذه الذرات الفانية التي امتزجت، إن خيراً أو شراً، لتكوني. أما تالبوت الجبار الذي ملأ صيته العالم فلن يبقى منه إلا كومة من التراب السافي. وهكذا يقبل الإنسان إلى نهايته، وكل نضالنا في الحياة هو معرفتنا أنها عدم في عدم، وما علينا إلا أن نسخر من هذه الصورة الجوفاء التي كثيرا ما نقشناها وعبدناها.
- الفصل الرابع -
(يدخل شارل، برغندي، دونوا، دو شاتيل، والجنود)
برغندي: لقد نسفت الخندق
دونوا: مرحى! إن المعركة في صالحنا
شارل: (ملتفتا إلى تالبوت) من هذا الذي يودع النهار بمثل هذا الوداع الحزين المكبوت، فمظهره يدل على أنه إنسان اعتيادي، اذهبوا فساعدوه، إن كانت المساعدة جدية.
(جنود من حاشية الدوفن يتقدمون إلى الأمام).
فاستولف: إلى الوراء، ابتعدوا لا تقتربوا من الراحل البطل، الذي كنتم تخشون التقرب منه في الحياة.
برغندي: ماذا أرى؟ تالبوت الجليل متخبطاً في دمه.
(يذهب برغندي إليه، تالبوت ينظر إليه في تمعن وتفرس ويموت).
فاستولف: ابتعد يا برغندي. لا تقلق آخر لحظة من حياة البطل بمنظر خائن.
وقلما نجد في هذا الكتاب تلك (الكلمات النارية القوية) كما يدعوها الألمان كالتي نجدها غالباً في (اللصوص) لأن الهياج البركاني قد خف، فبدلاً من الحمم والدخان والشظايا المتطايرة نجد أشعة الشمس والعالم الزاهي. وهناك أمثلة مثيرة على هذا التبدل اللطيف في مناظر كثيرة من مؤلفه (وولنشتاين) وكل كتبه الدراماتيكية التي أعقبت ذلك، وخصوصاً في (وليم تيل) التي هي آخرها. وهذا التغير يمكن العثور عليه في الكيان الشعري في كل هذه المؤلفات، هذه المؤلفات التي تعتبر قصائد كاملة، وكان أملنا أن نوفيها حقها في الشرح، ولكن ضيق المجال منعنا من ذلك.
وأملنا كبير في القراء المتمكنين والشرح المعنيين بأن يلتفتوا إلى هذا. واهم المؤلفات الشعرية التي نظمها شلر هي (ليدر وبركلوش) و (رترتو غنبرغ) و (نشال التنيرة) و (الغواص) و (كراكي - يبكي) وكلها تمتاز بالروح الإغريقية الصميمة كأنها نفحة عطرية من نفحات قيثارة اخليوس العبقة، أو كأنها أغان ملائكية.
فلسفته وعقيدته الكونية
أما موهبة شلر الفلسفية وما توصل إليه في هذا المجال الحيوي فأمر يحتاج إلى كثير من الجدل وكثير من التفكير، وهذا ما لن نطرقه الآن بإسهاب. وقد سبق أن أشرنا إلى أنه كان يمتاز بقابليتين: فلسفية وشعرية. وكان تفكيره معروفاً بهاتين الصفتين، وكان عقله قوياً، نفاذاً، نظامياً ومدرسياً اكثر منه بدهياً، وكان هذا الميل واضحاً في جميع البحوث التي عالجها وفي أسلوب معالجته لها. وقد أثرت فلسفة التسامي التي ظهرت في عصره فيه تأثيراً كبيراً: وقد درس باعتناء زائد منهج (عمانوئيل كانت) الفلسفي، ويظهر أنه لم يعترف به وحسب، بل إنه اعتنق تعاليمه الرئيسية، ولكنه مع ذلك صاغها بأسلوبه الخاص لدرجة أنها أصبحت فلسفته الخاصة وخرجت عن كونها فلسفة (كانت). وكثير ممن لا
يعرفونه معرفة حقيقية يعتقدون بأن هذه التأملات لم تنفعه في شيء. ولكن شلر كان راضيا كل الرضى بفلسفته التي اعتنقها بعد أن صرف في ذلك جهداً شاقاً. وفي هذه الفلسفة - التي انسجمت مع شعره - تمكين لقوته الفطرية والخلقية. يقول شلر بخصوص ذلك ما يلي: (أنا لا انتظر من أعداء هذه الفلسفة الجديدة شيئا من التسامح، كالذي أظهروه تجاه الفلسفات الأخرى، التي لم يعرفوا عنها شيئا كما انهم لم يعرفوا هذه! لأن الفلسفة كانت - في قضاياها الإنسانية - لا تحتمل أي تسامح، وهي تحمل صفة جدية لا تفسح مجالا لأية تسوية. وهذا - في نظري - يشرفها لأنها لا تحتمل العبث بالحق. إن هذه الفلسفة لا تناقش بمجرد هز الرأس. ففي حقل البحث الصريح الواضح الذي يمكن التوصل إليه تبغي هذه الفلسفة ومنهجها - فهي لا تتظلل بأي ظل - ولا تبحث عن أية تحفظت تتستر بها، وهي تحب أن تعامل كما تعامل هي جيرانها، وهذا يجعلنا نغتفر لها عدم اعتدادها بغير البراهين. ولن أخشى من التفكير في أن قانون التغيير - الذي يأتي على كل شيء - الهي سيسري على هذه الفلسفة أيضاً، وسينال منها منالاً شديداً، إلا أنه سيحافظ على جوهرها، لأن النوع البشري منذ بزوغ شمس العقل اعترف بمثل هذه المبادئ الأولية وعمل بها.
إن إنجازات شلر الفلسفية تخص قضايا الفن والأدب بصورة رئيسية، وهي لا تخلو من نظرات مهمة في مجالي التأمل: لا بل إن الفن نفسه - كما تصوره - يستند على أساس متين من مصالح الإنسان وهو بنفسه (أي الفن) يتضمن تسوية انسجامية بين هذه المصالح. لقد أخذنا على أنفسنا من مدة أن نقدم إلى قرائنا خلاصة (الرسائل الجمالية)، هذه النتف المتماسكة العميقة من الجدول الذي قلما نجد مثيلا لها، وبهذه الواسطة نتمكن من دراسة الصفةالبارزة لشلر كفيلسوف، وفي الوقت نفسه فالفقرتان القصيرتان الآتيتان ستقدمان دليلا على وجهة نظره في جميع القضايا الفلسفية بدون الاحتياج إلى أي تفسير أو إيضاح. ليتكلم شيلر في هاتين الفقرتين عن (وليم مايستر) و (اعترافات القديس الجميل) التي تحتل الكتاب السادس من ذلك المؤلف فيقول: (إن الانتقال من الأديان البدائية إلى الديانة المسيحية بتجربة الخطيئة مفهوم بصورة جيدة - إنني في الواقع - أجد في النظام المسيحي أصول الفكرة السامية، ولكن الصور المشوهة المختلفة لهذا النظام في الحياة الواقعية، تجعل هذه الفكرة مؤذية ووضيعة، لأنها تمثل تمثيلاً سيئاً الفكرة الأصيلة التي
تبناها واضع المسيحية الأولى. وإذا أنت درست الصفة البارزة في المسيحية تجد أن ما يميزها عن الأديان التوحيدية الأخرى هو قضاؤها على (القانون) والتوكيد الكانتي، وبدلاً من ذلك تسعى المسيحية لتحقيق الميول الحرة، وهكذا تراها في شكلها الفني تمثال الجمال الخلقي أو تجيد ما هو مقدس، ولهذا المعنى يمكننا أن نعتبرها الدين الجمالي الوحيد (البعيد ع التشريعات السياسية والأنظمة الدنيوية).
وعلى هذا الأساس يمكن تفسر نجاح هذا الدين في الطبائع النسوية (والدليل الواضح على ذلك هو أن أول مبشر بهذا الدين كانت امرأة: هي مريم المجدلية التي نسج المسيحيون حولها هالة من القداسة ووضعوها في منزلة الأصفياء والأولياء المختارين من قبل السيد المسيح). ويقول شلر مستطرداً (ولكن بصورة جدية، وهل يمكنك أن تجد إنساناً متثقفاً بدون أن يلتجئ في ساعاته الحرجة إلى الفلسفة؟ أما أنا فإنني مقتنع تماماً، بأنه إن وجد إنسان من هذا النوع فهو مجبر على مسايرة الاتجاه الجمالي، لأن المزاج الجمالي لا يحتاج إلى الاقتناع الذي هو وليد التأمل والتفكير، ولا يحتاج إلى العقل المجرد إلا متى اصطدمت الاحساسات الطبيعية بالقانون الأخلاقي. والطبيعة الشاعرية السليمة لا تحتاج إلى مثل هذا القانون الصلب، أو حتى حقوق الإنسان أو الميتافيزيقية السياسية كما تدعوها أنت (يقصد جوته)، ويمكنك أن تضيف إلى ذلك أيضاً، بأن هذه الطبيعة لا تحتاج إلى الآلهة ولا إلى الخلود، وما هذه النقاط الثلاث (وهي الآلهة والخلود والقانون الأخلاقي) التي تدور حولها كل المناقشات والتأملات الفلسفية بأكثر من تسلية لمثل هذه الطبيعة الشاعرية وهي لهذا السبب ليست أموراً ضرورية مطلقاً).
وهذه الفقرة الأخيرة غريبة في مدلولها، لأنها إن كانت صحيحة فهي تعتبر طبيعة شلر بالذات (طبيعة شاعرية غير سليمة) لأننا نجد هذه النقط الثلاث بارزة في مؤلفاته وبحوثه - وقبل أن ننهي موضوعنا هذا علينا ألا ننسى ملاحظة لها علاقة وثيقة بموضوعنا، وهذه الملاحظة تتلخص في السؤل الملح الذي يوجهه كل من درس الآداب الألمانية وهو: أيهما أشعر جوته أو شلر؟ ولنا إذا سمح لنا أن نقول: إن هذا السؤال تافه وغير ذي موضوع لسنين: فأولاً أن شلر وجوته يختلفان في مواهبهما اختلافاً كلياً سواء كان ذلك في مساعيهما أو في المجالات الثقافية العامة. ثانياً: إذا كان السؤال يعني - على العموم - المفاضلة
بينهما في عظم الشأن وأهمية كل منهما بالنسبة للأدب الألماني أو الآداب العالمية، فجواب هذا السؤال واضح كل الوضوح وهو لا يحتج إلى تفسير مسهب، ولو وضعنا هذا السؤال أما شلر الحي الخجول لانتفض متعجبا من ذلك.
ولم يعرف أحد خيراً منه بأن جوته ولد شاعراً، بينما هو اصبح كذلك بتأثير المحيط (والفرق شاسع بين الطبع والتطبع). فكما كان الأول بديهياً بروحه وانطباعاته وإيقاعه الجميل، كان الثاني مدرسياً، وعامل التكلف بين نغماته. زد على ذلك بأن جوته عاش حتى اكمل رسالته الشعرية بعد أن صقلت موهبته وتهذبت ألفاظه حتى بلغت مبلغ الكمال في الإيقاع الموسيقي وفي الأداء الشاعري، بينما نرى الثاني تخطفه يد المنون وهو لم يزل غض الإهاب شاباً في روعة الرجولة وازدهارها: ولهذا السبب اثر بالغ في تقصيره عن اللحاق بجوته وعذره واضح جلي.
يوسف عبد المسيح ثروت
رسالة الشعر
رباعيات
للدكتور عبد الوهاب عزام
لا يبالي الأخيار في هذه الأر
…
ض بباغ ومفتر وحسود
لو يباولون لم يشقوا طريقاً
…
بين هذي الآفات نحو الخلود
علماء الزمان في درجات
…
لا من العلم بل من الأموال
إنما هذه الوظائف أثمان
…
بها قومت قدور الرجال
قد تهاوى إلى الحضيض رجال
…
وخزوا يوم حوسبوا بالظواهر
ليت شعري فما يكون رجال؟
…
ما يكونون (يوم تبلى السرائر)
ينضح الناس حين يكشف سر
…
عن عيوب وخلفه أستار
كيف لو تكسف القلوب عن
…
الخبء وتبلى الغيوب والأسرار
في جهاد الحياة خسر وربح
…
وصروف ما بين سعد وحس
لكن الشهم من يول بحق
…
(صنت نفسي عما يدنس نفسي)
قلت: ماذا الهيام في شهوات؟
…
قيل: هذي حياتنا في الصميم
لت: زيدوا حياة عقل وروح
…
إن صدقتم، إلى حياة الجسوم
كلمات بقين لي من صديق
…
من دموع تألفت وشجون
لهف نفسي يبقي الحنين على الطرس
…
وتفنى القلوب ذات الحنين
زهرات قطفن منذ سنينا
…
ناضرات عواطر قد بقينا
لم تزدها الأيام إلا ازدهاراً
…
وغصون قطفن منها بكينا
ذلك الخط ناضر كالزهور
…
لم يغير شذاه مر الدهور
يملأ الأذن والفؤاد حديثاً
…
أين أين الصديق رب السطور
قال نسر محلق لأخيه:
…
أي سر في خلقه الإنسان
ملأ البر والبحار فساداً
…
ثم وافي مدمرا في العنان
عبد الوهاب عزام
من شعر الوطني
بين عهدين
للأستاذ محمد عثمان الصمدي
صار هزل الأمور في مصر جداً
…
رب هيئ لها سداداً ورشدا
لم تزل تعرك النوائب حتى
…
جعل الله للنوائب حدا
قيض الله للظلوم رجالاً
…
صدقوا مصر أن في مصر جندا
يا لها لحظة تذبذبت الأقدار
…
فيها بالقوم نحسا وسعدا
لم تكن غير جولة إثر أخرى
…
جد فيها النضال أخذا وردا
ثم أجلت عن خلعه خلع نير
…
لم يجد حاملوه من ذاك بدا
لا تظنوا به الظنون وقولوا
…
: ظالم مهدوا لها فاستبدا
كم أراد الخنا إليهم فألفى
…
كل شيء كما أراد معدا
وكم استلهموا فنون هواه
…
حسبه عنده ودينا يؤدى
طالما قربوا القرابين زلفى
…
منه واستنفدوا التسابيح حمدا
ما يبالون حين يدنون منه
…
نضب النيل أو جرى النيل شهدا
ليت قوما مصوا الدماء عناهم
…
أن يصح الجريح عرقا وجلدا
شد ما استنزفوا الدماء وأبقوا
…
بعدها في الفؤاد جرحا ممدا
أهدروا قوة البلاد فأرضوا
…
سيدين المحتل والمستبدا
ليس يعيهم من الشعب إلا
…
أن يسوسوه سادة وعبدى
جعلوه صفين يرقب كل
…
بأخيه ريب الزمان الاشدا
بئس ما اذكوا العداوة فيه
…
بين صفيه والخصم الالدا
ويمينا لم يؤثروا الحكم إلا
…
ليفيدوا جاها ومالا ومجدا
واسألوا الشعب كم أباحوا حماه
…
واستخفوا به عوقا وجحدا
سلبوه قوام كل حياة
…
كيف يحيا وما عن الخبز معدى
ولعمري ما أعوز الخبز شعباً
…
وهو يرجو التحرير إلا وأكدى
أي ولاة الأمور فيما بلونا
…
كم وأدتم من النوابغ وأدا
ما غناء النبوغ إن ظل يسعى
…
ناشداً قوته دؤوباً مجدا
وإذا استأثر المعاش بجهدي
…
كله فالخمول لا شك أجدى
أي شعب يا قوم حقق مسعى
…
في المعالي ولم يكن مستعدا
إن أقوى الشعوب في الأرض شعب
…
عاش عيش الكريم فراداً ففردا
لم يفرق أبناءه حاكموه
…
وفق ما يشتهون مولى وعبدا
وليقل لي المرتاب ماذا استردوا
…
من حقوق أحرى بأن تستردا
أم تراهم أجلوا عن النيل رهطاً
…
كم جهدنا أن يطردوا منه طردا
ودع الغاصبين يا صاح وانظر
…
كيف عاثوا في الحكم حلاً وعقدا
يبتنون الدعام حتى إذا ما
…
لم تقهم انحوا عليهن هدا
آية الرأي عندهم أن يدوروا
…
حيث دار الدخيل جورا وقصدا
ما لقطب داروا عليه زمانا
…
لم يدع برهة ولم يخل عهدا
نزلوا عند أمره واستمدوا
…
منه عونا هيهات أن يستمدا
وهو فيما يدور يمنى ويسرى
…
لم يرغ غير وكده ذاك وكدا
قد تواصوا بالبغي حتى حسبنا
…
أن نص الدستور ينميه بندا
فتراهم يجرون جرى المذاكي
…
في المخازى حشدا يسابق حشدا
ليت من يستدر ضرعاً حرماً
…
كلأ الشاة مشفقاً أن تندا
أخمدوا جذوة النفوس فبعدا
…
لألاء القوام بالأمر بعدا
واستذلوا السواد بالبؤس حتى
…
بايعوهم أن ينفد العمر كدا
أيهذا اللواء إياك نعني
…
قد وجدنا فيك اللواء المفدى
إنما أنت يا نجيب شعاع
…
تجتويه العيون إن كن رمدا
أي زعيم البلاد نحن انضوينا
…
تحت ظل اللواء له جندا
أنت أنت الزعيم ماد دمت تسعى
…
هكذا في البلاد لم تأل جهدا
قد نبذت الإقطاع فانبذ بنيه
…
لا تدع والدا ولا تبق ولدا
يا له ماردا قضى وتراه
…
نابضا في ذيوله ليس يهدا
في شرايينه ذماء سيبقى
…
رغم فرط البلى مغيظاً مغدا
وسم العصر بالتسلط فانظر
…
كيف تخلى المعد مما أعدا
وأرى المرء ليس يبلغ سؤلا
…
جل شأنا أو دق حتى يجدا
وبحسب الراقين أن قد اعدوا
…
رقية تصرع الطواغيت لدا
ساسة النيل إن بالنيل شوقاً
…
لزوال الفساد عنه ووجدا
فسد الأمر كله في حمانا
…
ليت شعري هل يعقب الجزر مدا
وثب الجيش حيث توعد مصر
…
حقها في المعاش خفضاً ورغدا
فقوانين ماتني إثر أخرى
…
تعد الخفض أو تفي فيه وعدا
ولعل القانون ليس بمجد
…
وحده في البلاد ما لم تعدا
فأعدوا الحمى لما سوف يلقى
…
بعد حين يمرد على الوعي مردا
إن أعصى الأشياء ما في السجايا
…
من عناد أدى بها حيث أدى
صار هزل الأمور في مصر جداً
…
رب هيئ لها سداداً ورشدا
وأجنب الشعب أن يضل هداه
…
واجعل الجيش واقفاً منه ردا
محمد عثمان الصمدي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
الموسم الثقافي
ومرة أخرى يفتتح (طه حسين) الموسم الثقافي لنادي الخريجين المصري بمحاضرة عن (الثقافة الوطنية، والثقافة العالمية).
ولنا قبل أن نلخص المحاضرة عتاب على نادي الخريجين الذي يرأسه الدكتور العميد، لأنه لم يوفر للعدد الضخم الذي حضر ليسمع (طه حسين) الأماكن. . وإذا كان النادي لا يتسع، فقد كان في الإمكان أن يختار أي قاعة من القاعات الواسعة: نقابة الصحفيين، أو يورت، أو الشبان المسلمين. .
لقد ذهبنا قبل موعد المحاضرة بنصف ساعة فلم نجد مكاناً واضطررنا أن نقف في تلك الطرقة العتيقة محشورين على وجه غاية في القسوة، فترة تزيد على ساعة ونصف الساعة. .
وبعد. فهل أستطيع أن ارسم خطوطاً عامة لهذه المحاضرة الممتعة؟ أرجو. .
تحدث الدكتور عن الثقافة، وقال أنها ليست شيئا يمكن تحديده، وأنها وسيلة من وسائل التقارب بين الناس والأجناس، وأنها الأداة الوحيدة لمنع الحرب ونشر السلم. .
رسم العميد صورة للمثقف في العصر القديم، قبل الإسلام وبعد الإسلام، وكيف كان الشاعر يسعى من باديته إلى الحاضرة، يحمل قصيدة يمتدح بها الخليفة أو الأمير، فإذا وصل إلى الحاضرة أعجبته ورضي عنها فاستقر بها طويلاً. . وأفاد من اتصاله بالناس في خلال رحلته الطويلة وفي خلال مقامه في الحاضرة، فإذا عاد بعد ذلك إلى البادية، عاد ومعه ثقافة واسعة جديدة. .
وقال الدكتور طه حسين إنه ليس هناك ثقافة وطنية وثقافة عالمية، وإن التفريق بينهما خطأ واضح، إذ أن الثقافة عالمية قطعا، وإنه لا سبيل لأمة الآن أن تعيش منفصلة عن غيرها، ولا أن يعيش شعب على الثقافة العربية وحدها، لعاشوا بعيداً جداً عن الحياة الحاضرة.
وليست مصر وحدها هي التي تستطيع أن تتخلف عن الثقافة العالمية، بل إن الأدب الفرنسي والأدباء الفرنسيين، لا يستطيعون أن يقولوا إنهم عاشوا دون أن يقرئوا الأدب
الإنجليزي أو الألماني أو الروسي أو اليوناني. . وكذلك الشأن في الآداب الأخرى.
وعاد الدكتور بعد ذلك فقال: غير أن الأدب في كل وطن يصور البيئة وروحها، ذلك أن الثقافة بالرغم من عالميها فأنها تتأقلم وتتبلور في صور النفس التي تكتبها. .
ورسم الدكتور صورة المثقف، فقال إنه ليس ذلك الذي يحفظ النصوص ويلقيها في كل مناسبة أو غير مناسبة، إنما هو القادر على أن يهضم كل ما يقرأ من فنون الأدب والثقافة، ويحولها في كيانه إلى قوة وتصنع فنونا جديدة.
وقال إن المثقف في عصرنا الحديث لا يستطيع أن يعد نفسه مثقفاً، إلا إذا ألم إلماماً وافياً بكل الآثار التي تنتجها القرائح في عصره. . وأن يواصل دائماً هذه القراءة، ويدأب على الدرس الدائم!
وفي نهاية المحاضرة تحدث (طه حسين) عن التعليم، وهاجم الرأي القائل بالتحفظ في إذاعته وتيسيره للناس جميعاً، وحمل على نظرية التعليم للتوظف، هذه النظرية التي قامت في العهد البائد ويجب أن يقضي عليها العهد الجديد، واستقبل المستمعون حملته هذه بالإعجاب والتصفيق. .
ومع الأسف فإن الصحف اليومية لم تذكر شيئاً عن هذه العاصفة الضخمة التي أثارها عميد الأدب!
الأدب النسوي والشعر المنثور
في رسالة مطولة وردت إلينا من الكاتبة الثائرة (ليلى مسلم) تقول: (إن حملتك على الأدب النسوي يا سيدي قاسية، إنك تنكر أن هناك أدب نسوي، وقد رددت هذا أكثر من مرة وقلت إنه ليس هناك شاعرات). .
ووقفت من الشعر المنثور الذي كتبته (هند سلامة) موقف المعارضة. . لست أدري إن كن ذلك منصباً على اللون الأدبي نفسه أم على المعاني التي تضمنه الشعر. . إنني أرسل إليك طي هذا بعض القصائد والقصص وأنا متحدية وواثقة من أنك ستغير رأيك في الأدب النسوي والشعر المنثور.
إن هناك كاتبات يا سيدي يكتبن لأنفسهن، ويعشن في برجهن العاجي ليقرأن. . ويتبن. . إنهن - وأنا منهن - يعرفن أن الصحف لا تعرف غير الوجوه، ولا تعرف غير اللواتي
يتصلن بهذا الكاتب أو ذاك.
أما أولئك اللائى ينتجن في صمت، فهن لا يردن أن يعرفهن أحد. . غير أنه عز علي أن تقول إنه ليس هناك أدب نسوي، ولذلك أرسلت لك هذه الصورة من كتاباتي).
والحق أنني أعجبت بهذه الرسالة لأن كاتبتها مركزة الأسلوب، ولأن القطع التي أرسلتها إلى توحي بالثقة بأننا سنطالع فجر الأدب النسوي الجديد. . سنطالعه على يد أمثال ليلى مسلم. . وغيرها من الشابات المجددات، اللواتي لم تتألق أسماؤهن بعد. .
وأسارع فأعرض قطعة من شعر (ليلى مسلم) المنثور:
بيني وبينك. . خفي مجهول
سمه عبادة، أو سمه حنينا
سمه ما شئت مما تعرفه وحدك، ويخفى على من دونك
إنه موجود، باق لا يزول
يسرى فجأة في بدني فيرتجف له. .
ثم يدب على أرضي. . فأقف في ثبات
. . أقف أمامك، وقفة موسى عند الطور الأيمن
ويجري بينك وبين عتاب. . حار
وتنتصر أنت، وأتواري أنا خجلاً. .
ويحزنك أمري. .
فتبعث إلى. .
تبعث إلى من ذلك الينبوع الذي لا يجف، ينبوعك!
وترطب جفاف روحي بآياتك الحسان
ولكني من فرط خجلي لا أستجيب. .
فتنتظرني قليلاً. . ولا تهجرني. .
وتفتش عني في كل مكان. .
فلا تترفع عن ارتياده، مهما كان، لتهمس في أذني: عودي يا ضالة!
عنك المؤمنون الأبرار. . راكعين، ساجدين
ولكنك لا تلبث أن تجيب دعوة الداعي. . إذ دعاك. . فأنا أدعوك. .
وحق على أن أنشر هذا الشعر المنثور. . فهو غاية في السمو والنقاء. .
إنهن يرسم صورة لنفس (صوفية) تحلق وتصعد في السماء. فارق بعيد بين هذا اللون (الروحي)، وبين ذلك اللون (النفسي) الذي عارضناه، وإن كنا نحتفظ برأينا في الشعر المنثور بصفة عامة.
(هند سلامة) تصور الحياة وتغوص في معالمها. . وتجري في تيارها. (وليلى مسلم) تسمو وتتحرر، وتتجه إلى الله، وترسم النفس الإنسانية وهي تتعالى وتندفع إلى الخلود.
وبعد فكلمة أهمس من وراء النقد، ونجدنا على استعداد لأن. نغير رأينا في الأدب النسوي، إذا برزت فنون من الأدب جديدة يمكن أن تملأ هذا الفراغ.
إننا يا سيدتي ننحني للأدب الرفيع. . ونحيي الروح الجديد. . و (الرسالة) يا سيدتي لا تعرف الوجوه، ولكنها تعرف الفن الخالص. . فقدمي إليها إنتاجك، وسترين أنها تحفل به ما دام متسقاً مع مستواها وروحها.
أنور الجندي
البَرِيدُ الأَدَبِي
اقتراح بإنشاء (مجمع فكري) بمناسبة إنشاء وزارة الإرشاد
لعل أمة من الأمم سواء في التاريخ القديم أو الحديث لم تكن أحوج من
مصر في يومها الحاضر إلى التوجيه والإرشاد القوميين - وليس
ازدياد حاجتها لذلك نتيجة عيب أو نقص.
ولكن كثرة ما توارثته من عناصر الحضارة واختلافها الشديد مع كثرتها في الوسائل والغايات؛ ولأنها وهي وسط بين أمم مختلفة المذاهب متباينة المشارب قد تشبعت فيها وجوه الرأي في حديثها مع تهيئتها بحكم اختلاف الوراثات لهذا التشعب واستعدادها لمرونتها إلى الأخذ من كل شيء بطرف.
في مصر لا يزال أثر من وجوه النظر التركية إلى جانب آثار عميقة من التقاليد العربية وأخرى من العادات الفرعونية. وهي في اليوم الحاضر ملتقى ثقافات غربية متنوعة العناصر، وأخرى شرقية مختلفة الأصول. وبعض هذا وذاك قد تلقته من الآباء والأمهات والمصلحين، والبعض مدسوس عليها من المستعمرين والغاصبين والحكام الطاغين.
وفي مصر دوامة من آراء وأحاسيس ومشاعر، ولقد بذلت في العصور الأخيرة محاولات تلقائية لا نقول من الزعماء ولكن دفع إليها الزعماء من إحساس باطن في الأمة إلى وجوب توحيد الهدف وتوحيد الوسائل إليه. ولقد استجاب إلى هذا الإحساس من أصاخوا إلى صوته في الضمائر أو سمعوه من أعالي المنابر أو من آثار الأقلام والمحابر. ولكن الاستجابة لم تكن شاملة ولا كاملة لانتشار الأمية ولأن الزعماء كانوا أحرص على الظهور بشخصياتهم منهم على بث المبادئ في البيئة.
صيحة النهضة الحاضرة بالاتحاد والنظام والعمل إنما بدأت بما يجب البدء به نتيجة إحساس عميق بالافتقار إليه. وما احتاجت مصر إلى هذه الصرخة المدوية إلا لتعدد آثار الثقافات. واختلاف ألوان الحضارت، وإن شئنا الإنصاف فلتعدد ألوان الطامع واختلاف آثار المظالم أيضاً.
أدبنا العربي تراث عظيم الضخامة ولئن لم يرتو منه الكل بسبب انتشار الأمية فلقد تأثر به
الكل كما تتأثر الأرض بالمياه الجوفية. وفيه من المتناقضات لطول عهده ولأنه وإن كان أدب لغة واحدة فهو جماع آداب لأمم مختلفة في عصور متباينة تحت ظروف لا تكاد تتشابه. ولم ينقد هذا الأدب الطويل العريض نقدا مميزاً.
وأدب الأمم الأخرى المعاصرة نشأ في عهد أقرب وفي بيئات أكثر اندماجاً وظروف اكثر تشابها فلم تحتج كحاجتنا إلى التوجيه والإرشاد.
ابتعدت الأمم الأخرى في عصورها القريبة عن محنة الاستعمار وتعدد المستعمرين واختلاف آثارهم - كل ذلك كون لكل دولة شخصية اكثر تماسكاً وأكبر استقلالاً. وتلك مزية فيهم والمزية كما يقولون لا تقتضي الأفضلية؛ ففينا مقابل هذه مزايا من عمق الأيمان. ومن الصبر والاطمئنان. ومن المرونة الاستعداد للتطور. ولكننا بما لنا وعلينا في حاجة اكبر إلى إلغاء أهداف وإلغاء وسائل. والتخلي عن آراء وهجر عادات ومحاربة تقاليد الاندماج بعد ذلك في موكب واحد نحو هدف واحد.
ذلك كان إحساس الأمة التي عبرت عنه بصيحتها في فجر نهضتها إذ تهتف قلوبها على السنة قادتها بالاتحاد والنظام والعمل.
ولقد كان إنشاء وزارة جديدة للدعوة والإرشاد وسيلة لتحقيق هذا الاتحاد، لكنه ليس بمأمون مع ذلك أن تتشعب وتتفرع وتنداح وتنساح فكرة تبدو اليوم موحدة وتجري عليها سنة الخلق من توالد وتكاثر.
وليست الوزارات بالعمل الذي ينشأ من أجل ليلة وضحاها، وإنما هي للغد البعيد وما يليه. وضمانا للتوحيد في كل ما تقدم مما اختلف على طول العصور يجمل أن توضح البرامج الواسعة النطاق - ما كان منها صالحا للتنفيذ اليوم وما كان منها منظما للآمال والغايات البعيدة.
وسبيل ذلك التأليف بين رجال الفكر الدارسين ورجال الفن الحساسين. ونحسب هذا لا يكفل إلا بإنشاء الأكاديمية المصرية التي طال انتظارها (مجمع فكري).
ومجمع اللغة العربية والمجمع العلمي لم يكونا إلا خطوتين في سبيل هذه الغاية. ووزارة الإرشاد خطوة ثالثة. وإنما ينظم هذه الخطوات مجمع من رجال الفكر يكون كل رجاله من المؤلفين والدارسين فهؤلاء أكفل لحياة الوزارة الجديدة من مديرين ووكلاء وموظفين. إن
يكونوا اليوم بحكم جدة النهضة من لامس أغراضها فإنهم في الغد لن يكونوا كسائر الموظفين.
نحن ندعو إلى مجمع من مجامع الخالدين ليكون على رأس المصالح التي ضمتها الوزارة الجديدة.
الإسكندرية
احمد عوض
الأزهر. . والثورة
لقد أحدثت الثورة المباركة انقلاباً خطيراً في كل مرافق الدولة، وخطت خطوات موفقة في سبيل الإصلاح. وقطعت شوطاً بعيدا في سبيل التطهير وقطع دابر المفسدين، وكان لهذا الانقلاب الخطير أثر في نفوس الشعب كافة، وما دامت الثورة قد أحدثت هذا الانقلاب العظيم فما لنا نرى الأزهر لا يزال متمسكا بجموده، متشبثا بالماضي العقيم؟ إن الأزهر يحتاج إلى انقلاب عام شامل في كل ناحية من نواحيه وفي كل شأن من شؤونه.
اجل: فإن الكتب الأزهرية التي الفت في عهود غابرة وبأسلوب عقيم - لا يتفق مع عقول الطلاب - لا زالت هي التي تدرس إلى اليوم، وأنها لمحشوة بالأساليب المعقدة والمسائل التافهة، ومع ذلك فهي بعيدة كل البعد عن حياتنا العامة. . فالطالب الأزهري يقضي زهرة شبابه بين هذه الكتب البالية ثم يخرج بعد أن نبت الشيب في رأسه ليرى الحياة حوله لا تتفق وهذا الجمود الذي يتصف بها الأزهر، إن الحياة تسير والنظم تتغير والأساليب البالية تزول، وذلك حسب سنة التطور ولكن التطور لم يدخل الأزهر بعد، لذلك يحتم الأزهر على الطالب الذي يريد الالتحاق به أن يكون حافظاً للقرآن كله، وقد كان هذا الشرط يجوز ويكون مقبولاً منذ ربع قرن مضى. . أما الآن وقد انتشرت المدارس الابتدائية في كل قرية فلم يعد هذا الشرط مقبولاً أبداً، وغير ذلك يجب أن تدرس إحدى اللغات الأجنبية في معاهد الأزهر، ويجب أن يوحد زي الطلبة فوراً، فقد أصبحت مسألة الزي هذه مهزلة المهازل! فهناك من يرتدي الزي الأزهري ومن يرتدي الزي الإفرنجي ومن يكتفي بالجلباب أو (البيجاما). كل هذه أمور من شأنها أن تحتل المكان الأول من اهتمام المسئولين في
الأزهر، وذلك حتى يتجاوب الأزهر مع روح العهد الجديد، وهي أمور كلها تجيش من آن لآخر أردت أن أضعها نصب أعين ولاة الأمور في لأزهر على سبيل الذكرى. فالذكرى تنفع المؤمنين.
محمود حمدي زقزوق
حضرة
قرأ كلمة لأحد الباحثين قال فيها إن (حضرة) بمعناها الحالي كلمة تركية دخيلة وهذا ليس صحيحا وإليك النصوص اللغوية:
جاء في شرح القاموس ما نصه: حضرة الرجل قربه وفناؤه، ووفي حديث عمرو بن سلمة الجرمي (كنا بحضرة ماء) أي عنده، وكلمته بحضرة فلان أي بمشهد منه، قال شيخنا وأصل الحضرة مصدر بمعنى الحضور كما صرحوا به ثم تجوزوا به تجوزاً مشهوراً إلى مكان الحضور نفسه ويطلق على كل كبير يحضر عنده الناس كقول الكتاب أهل الترسل والإنشاء. الحضرة العالية تأمر بكذا، والمقام ونحوه - وهو اصطلاح أهل الترسل كما أشار إليه الشهاب في مواضع من شرح الشفاء هـ
وجاء في (صبح الأعشى ج6 ص498) في مبحث الألقاب:
الثامن: الحضرة والمراد بها اللقب. . وهي من الألقاب القديمة التي كانت تستعمل في مكاتبات الخلفاء وكان يقال فيها الحضرة العالية والحضرة السامية وتستعمل الآن في المكاتبات الصادرة من الأبواب السلطانية إلى بعض الملوك ويقال فيها الحضرة الشريفة العالية والحضرة الكريمة العالية والحضرة العلية بحسب ما تقتضيه الحال الخ. . وكثير من كتاب الزمان يظنون أن هذه الألقاب الأصول أو أكثرها أحدثها القاضي شهاب الدين أبن فضل الله وليس كذلك. . الخ. وجاء في (محيط المحيط) المولودون (المحدثون والمتأخرون) يستعملون الجناب لأكابر الناس بمعنى الحضرة فيقولون: ننهي إلى جنابك مثلا أي نلقي كلامنا بين يديك وذلك في الأصل؛ ثم توسعوا حتى بلغوا الجناب لغوا يراد به مجرد التعظيم، فيقولون هذا غلام جنابك أي غلامك ا. هـ.
من هذا يتبين أن (حضرة) عربية صحيحة ولكنها تطورت، والاستعمالات المجازية
صحيحة بل فصيحة.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
القصص
الزوجة الحسناء
للكاتب النمساوي هيرمان بار
. . . ولاقيت صديقي بول دوران بعد غياب طويل فاندفعت إليه في شوق قائل: (كيف حالك يا عزيزي؟ لقد احتجبت عنا طويلاً، أفتزوجت حقاً؟ لم يكن ليضطرب في خيال واحد من رفاقك أنك تتزوج فتزل على بعض ما فيك من عبث ومرح ولكن المرأة. . المرأة يا بول!).
وابتسم بول في رقة واخذ بذراعي يجرني اليه، أفكان لبول أن يتزوج وقد عرف في صحابته المجون والعبث؟ إن هذا خيال ما يستطيع الإنسان أن يثق به!
وتناول سيكارة في هدوء وقار، وحدجته بطرف عيني فآلمني أن أرى فيه الرزانة والسكون! لا ضير،، فهو زوج! ثم. . . ثم قلت:(لقد أبدلت طبعاً بطبع يا بول بعد أن تزوجت. . تزوجت من فتاة جميلة) فترك ذراعي في غضب وهو يقول: (دع عنك المزاح وإلا كان هذا فراق بيني وبينك!) وأزعجني حديثه فاندفعت أسأل: (ماذا يا صديقي؟)
قال: (حقاً، أنها حسناء فاتنة. . ولعمري إن البلاء في الزوجة الحسناء، فأنا ادفع الثمن غالياً! نعم إنني أحبها ولكن أتعلم ما يثقل زوج المرأة الحسناء؟ إذا غاب عنك هذا فلا تتحدث عن شيء بعده. إن الزواج من حسناء يتطلب صبراً كصبر أيوب ثم يصفر صفيراً مزعجاً وفي وجهه العبوس والتهجم؛ وخيل إلى أنني سموت إلى الغاية متى يريد فقلت: (أفرأيت يا بول، أن خطاياك تنحدر إليك من صبب! هذا هو الجزاء! إن الغيرة تكاد تعصف بك) ونظر إلى في دهشة وهو يقول: (يا للغباء! أي غيرة؟ فيم تفكر؟ وأسفت على أن رميته بتهمة هو منها براء، فقلت: (أفلا تستشعر الغيرة؟) قال: (لا. لا. إن الزوجة الحسناء هي خير ما يتمنى المرء ما لم يستعبده جمالها) قلت: (لقد قصر عقلي عن أن أستشف ما تريد) قال: (سأضرب لك الأمثال لأكشف لك عن بعض ما عمي عليك).
وبدا لي أنه يتنفس عن كربته حين ينشر على عيني أمره، وأنا صديق قديم حبيب إلى نفسه، فتعلق بصري به وهو يتناول سيكارة أخرى فيشعلها وهو يقول:
إن النشوة التي سيطرت علي - يوم زوجنا - كادت تستلبني عقلي. لقد انطلقت إلى ميونخ
برفقة زوجتي، وخيالي يصور لي أننا نستطيع أن نجول في أنحاء المدينة في لذة وسعادة؛ نزو معا بعض أصدقائي ثم نطير إلى مروج بافاريا ننعم بالخلوة، ونقطف الثمرة الحلوة. ووجدت السعادة في ميونخ، وعلى حين فجأة بدأ القلق يضطرب في ناظريها، فجلست إليها أستطلع الخبر، فقالت:(لا شيء! إنني أرى الجمال هنا، ولكن. . ولكنني أرى الناس غلظة وجفاء!) وحدثتني نفسي: (يا لله! لا ريب أن في سكان ميونخ البطيء الهدوء، أما الغلظة والجفاء. . .!) واندفعت هي في حديثها: (حقا، إن فيهم غلظة وجفاء! إن المرء ليضرب في الطرقات والشوارع ساعات فلا يرى إنساناً واحداً يرفع بصره فيحدق في الآخر. هذه هي النقطة التي رأيتها فيهم).
أفرأيت يا صديقي؟ لقد زلت زوجتي، فهر تريد الشوارع تموج بالناس بين معجب بها وعاشق لها، وهي لا تجد بغيتها في ميونخ. لعلك تنفجر ضاحكا من هذه السخافة، ولكنك ستجد فيما أقص عليك متعة وسلوى.
وفي الصباح التالي انطلقت أجلس في ندى مكسمليان أنتظر زوجتي لأصحبها إلى المعرض. لقد تركتها في الفندق ترتدي ملابسها تتزين. ولبثت طويلاً أنتظرها. ودقت الساعة عشراً وأنا جالس إلى نضد أردد بصري بين المارة وأحدق في دار الأوبرا وهي قبالتي؛ وابتدأ الناس يتصدعون عن المكان والنذل متكئون إلى الجدار في كسل وفتور. وخلا المكان إلا من شرذمة من الطلبة يحتسون الجعة ويلعبون؛ وهدأ المكان إلا من بعض كلمات تنفرج عنها شفاه الطلبة بين الحين والحي؛ وبذر الانتظار في نفسي غراس القلق والضيق. . ثم جاءت عند الظهر. . جاءت ترف رفيفاً جميلاً، حسناء جذابة، فاتنة خلابة، تسير الهوينى في خيلاء وصعر، وعلى ثغرها ابتسامة عذبة. . ومالت إلى النادلة تسألها ثم دلفت إلى في أناة وتؤدة، وحين صارت بازاء الطلبة تركت مظلتها تسقط من يدها فاندفعت النادلة إليها والطلبة في شغل.
وسألتها عن بعض ما تحب من أصناف الطعام لتتناول طعام الإفطار فلم تعر سؤالي التفاته وراحت تقول: (أنا لا أريد أن أجلس إلى هذا الشباك فهناك في الشارع وعلى جدار الملهى أشياء تبعث في النفس الضيق والملل. . خبر لنا أن نتنحى عن هذا المكان. ثم انطلقت تختار نضداً إلى جوار الطلبة؛ وحين سحبت إليها كرسياً هزت الآخر فانتثر ما عليه من
صحف فتناولتها والطلبة في لهوهم ما ينظرون. واستقر بنا المقام فسألتها مرة أخرى عما تتطلب من طعام، والشوق يدفعني إلى المعرض؛ غير أنها قالت في تؤدة وهي تضع نظارتها على عينيها:(خبرني، أفلا يجد هؤلاء الطلبة عملاً سوى شرب الجعة ولعب الورق؟) وأمسكت بصحيفة أصرف بها عن نفسي السوء وأكفكف بين سطورها نزوة تضطرب في قلبي، ولكنها لم ترض أن تتنزل عن رأيها في سهولة، فاندفعت تتحدث إلى:(يا لتعس آباء هؤلاء الطلبة! إنهم يبذلون آخر فلس في جيوبهم في سبيل أبنائهم وهم يبددون المال في المقاهي! أين المعلم وعصا المعلم؟) وانطويت عنها أردد بصري في سطور الصحيفة في إغضاء وإهمال؛ ولكنها قالت: (أنظر إلى كؤوسهم. . إلى رؤوسهم! يا عجبا! إنهم كحمالي المحطة!).
وتأجج الغضب في رأسي وأنا أهدئ من ثورتي خشية أن يتثلم شرفي في هذا الندي، ثم قلت في هدوء:(لا، بل أستطيع أن أرى أن ميونخ تبعث في نفسك الضيق والضجر، وأنا لا أجد بداً من أن ننطلق إلى شليرسي بعد ساعتين، فهو مكان هادئ جميل، وهناك دريتشر صديق قريب إلى نفسي) ثم رجعنا إلى الفندق نتأهب. . .
وأبرقت إلى صديقي. . وبلغنا شليرسي عند الساعة الرابعة، فألفيت صديقي لدى المحطة ينتظر. وانطلقنا جميعاً إلى فندق جميل على شاطئ البحيرة وحللنا غرفة واسعة أنيقة جميلة، تتراءى أمامها البحيرة وما حولها من مباهج. وأضنى التعب زوجتي - أجاتا - فانطرحت في فراشها في سبات عميق، أما أنا فقد انطلقت على دراجتي أطوف بالبحيرة والقرية وأستحلي رواء الريف الجميل، ثم عدت عند الثامنة فإذا هي في الحديقة، وفي يدها كتاب ما تستقر عيناها بين سطوره، وعلى خطوات منها بعض الريفيين، وقس يجلس إلى الحارس. وأخذتني روعة المكان فأحببت أن أقضي بعض وقتي هناك؛ واندفعت إليها وهي جالسة في ثوبها الأبيض الحريري الجميل، يتأرجح العطر منها عبقا طيبا؛ غير أنه لم يلتفت إليه أحد، وقفت بازائها أقول:(ما رأيك يا عزيزتي؟) فحدجتن بنظرة قاسية وقالت: (أهذه هي شليرسي؟ أنا لا أستطيع أن أمكث هنا أكثر من يومين فهذا مكان لا يلذني) قلت: (إنه هادئ. . . والبحيرة. . .).
فقاطعتني (والبحيرة صغيرة عابسة) قلت: (والوادي الجميل. . .) فقاطعتني ثانية:
(والوادي الجميل غير صحي) قلت: (والجبال. . .) فقاطعتني مرة أخرى: (والجبال، أنا لا أحبها!) ثم نظرت إلى في ازدراء وهي تقول: (والطعام رديء الطهي والجعة البافارية تملأ الجسم شحما، أنا لا أريد أن أبدو عبلة كالفلاحات. إنني أبتغي حياة هادئة. لقد كان من الخير لي أن أسجن في دير ولا أتزوج من رجل لا يحبني) قلت: (لا بأس، سنرحل إلى بلد آخر إن لم تجدي اللذة هنا)، واضطرب قلبي، ن وانتفض فؤادي، واستولى علي الأسى والحزن، فأنا لا أطمئن إلى حياة قلقة لا أستطيع فيها أن أستقر في مكان جميل جذاب أجد فيه السكون والراحة، ولكن ماذا أفعل وأجاتا ما تهدأ ولا تطمئن. لا ريب فهي تريد أن تنطلق إلى فينا حيث تطوقها الأنظار في كل مكان، لأنها إن افتقدت من يعجب بها حارت حيرة من اعتاد التدخين ثم لا يجد إلى الدخائن سبيلاً. تلك حقيقة مروعة، فخير للإنسان ألا يتزوج من حسناء!
وفي الصباح التالي بكرت إلى البحيرة، إلى الوادي، إلى الغابة أمتع نظري وأشيعها جميعاً بنظرات الوداع، فنظرات فيها الألم والحسرة، والخواطر المتناقضة تصطرع في خيالي. أما هي. . . هي أجاتا فما تزال في مخدعها تنعم بالنوم الهادئ. . إنني أتعشق هذه الناحية من الأرض، ولكن. .
ولمع في خاطري رأي، انفجرت له شفتاي ع ابتسامة فيها الرضا والاطمئنان، فانطلقت أعدو في لهفة إلى صديقي دريتشر، وهو ممثل بارع، وهو رئيس فرقة التمثيل الأهلية في بافاريا يستمتع بشهرة عالية؛ وهو أيضاً شاب فيه المرح والطرب والفكاهة والرأي النافذ والقريحة الوقادة. . وهو صديق فيه الإخلاص والوفاء.
وحين ضمنا المجلس اندفعت أقول: (دريتشر، إنني أطلب إليك شيئاً وارجوا ألا تجادلني فيه. إنك تعرف كل إنسان في هذه الناحية، أفتستطيع أن تمدني بشاب أنيق وسيم يمثل دور عاشق؟) قال في دهشة (ليمثل ماذا؟) قلت (ليمثل دور عاشق. إنني أريده يجلس ويحدق. . يحدق في زوجتي ساعة من نهار. إن زوجتي قد اعتادت هذا النوع من الغزل فهي تفزع من كل مكان تفتقد فيه بغيتها. وسأدفع له ثلاث ماركات في اليوم ثمنا لجلوسه في الحديقة يردد بصره بي الفنية والفنية في زوجتي، وأدفع له ثمن شرابه) قال: (لا ضير، لا ضير. . .!) ثم نشرت الخبر أمامه، فقال: (نعم سأفعل غير أني لا أستطيع أن أستغني
عن واحد من زملائي، ولكن. . . آه، نعم، إن في الفرقة عاملا شاباً فيه الأناقة والظرف و. . . دع عنك هذا، سأحدثه الحديث كله الآن؛ وفي المساء نبتدئ العمل. .) قلت (أشكرك يا صديقي. ولكن أفتطمئن إلى العامل؟) قال (وماذا يعنيك أنت؟ إن المرأة لا تعني بنظرات من يعشقها بقدر ما تعني بنظراتها هي؛ وسترى. . .)
وعند المساء انطلقت إلى مكتب البريد وخلف أجاتا وحدها في الحديقة. . . وجاء العامل في ثوب أنيق. . جاء ينفذ أمر سيده في براعة وإتقان. . . ورجعت أحدثها: (لقد ذهبت إلى المحطة. . فراقني أن نسافر على قطار الساعة العاشرة صباحاً) قال في لهفة: (ماذا؟ ماذا تعني؟ أفلا تستطيع أن تستقر في مكان؟ إنني أميل إلى هذا المكان، إلى البحيرة. . .) فقاطعتها قائلاً: (ولكنها صغيرة!) قالت: (هذا هو موضوع الجمال فيها) قلت: (والجبال من حولها) قالت (لا ضير، فأنشد الهواء العليل في أعاليها. سنبقى هنا حيناً من الدهر فما يرضيني أن نضطرب في أنحاء العالم. . .)
ومكثنا هناك ثلاثة أسابيع دفعت فيها الثمن غالياً. ولا ريب أن أجاتا لن ترضى بهذا المكان بديلا. . .
ك. ح