الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 1014
- بتاريخ: 08 - 12 - 1952
القرآن والدستور
نشرت إحدى الصحف ذات يوم أن بعضا من علماء الأزهر قد اجتمعوا ليستنبطوا مما شرع الله في الإسلام قوانين تحكم بها الدولة. فصادف هذا اخبر هوى في نفوس قوم، ونفورا في نفوس آخرين؛ وهتف أتباع هؤلاء في بعض الحفلات قائلين: القرآن دستورنا! واستطار النبأ في أجواء الأرض ففزع أصحاب الأموال في أوربا، واستراب رجال الأعمال في أمريكا، وقال مرضى الهوى أو الجهل منهم: نكسة الداء، ووثبة إلى الوراء! فلم يسع السياسيين إلا أن ينتفوا من هذا الخبر، ولا الأزهريين إلا أن يبرءوا من هذه التهمة!
أمر عجيب! إلى هذا الحد بلغ جهل الجهال بحكم القرآن فيصوروه هولة يفزعون بها الناس حتى أهله؟ إن كانوا من الذين يؤمنون بأنه من وحي الله فالله سبحانه لم ينسخه ولم ينسه، ولم يأت بخير منه أو مثله. وإن كانوا من الذين يزعمون أنه من وضع الإنسان فماذا يخشون منه وقد جربوه؟ لقد حكم الدنيا القديمة وهي همجية وفوضى، يتولاها الهوى، ويقودها الضلال، ويسوسها الجهل؛ فردها من الشرود المهلك، وأقامها على الطريق المؤدي: وأذاقها رخاء العيش المطمئن، وكفل لها من الحرية والعدالة والمساواة والكرامة ما كفل بعضه الدستور. وما الدستور؟ أليس هو في حقيقته وجوهره معنى من معاني القرآن ينبثق عنه كما ينبثق الشعاع عن الشمس؟
أعطوا الدستور ذوي الرأي من الراسخين في علوم الدين أمثال عبد المجيد سليم ومحمود شلتوت بحدوا قرآنا كأول ما أنزل الله. وأعطوا القرآن أولى الرأي من المتضلعين من علوم القانون أمثال عبد الرزاق السنهوري وعبد الحميد بدوي تجدوه دستورا كآخر ما وضع الناس.
أما القرآن الذي تخشونه فليس قرآن الله، إنما هو قرآن مسيخ فسره جهال العلماء على قدر ما في عقولهم من قصور وزيغ، وما في نقولهم من خطأ وحشو؛ فضيقوا سعته، وحددوا شموله، وعوقوا تقدمه، وزيفوا صحيحه، وشابوا صريحه، ووقفوا به عند عصر معين، فلا يقبلون إلا قوله، ولا يجيزون إلا فعله، ولا يعلمون أن عموم الرسالة المحمدية يقتضي أن تساير الزمن وتجاري الطبيعة، حتى لا ينقطع ما بينها وبين ركب الحياة.
وأما الدستور الذي تنكرونه، فهو الدستور المهين العاجز الذي يرضى أن تقوم باسمه
دكتاتورية حزب، وأن يقضى على حكمه طغيان ملك؛ ثم لا يأنف أن يفسره عابث على هواه، وأن يطبقه فاجر على مشيئته. فإذا لم يكن للدستور سند من روح الله يجعل الخروج عليه مروقا من الدين وفسوقا عن الإيمان، وإذا لم يكن للدستور حام من إرادة الشعب يعصمه من جور الحاكم وبغي السلطان، كان ضرره أكبر عن نفعه، وعدمه خيرا من وجوده.
آمنوا بالقرآن تجدوا الدستور الحق، وآمنوا بالدستور الحق تؤمنوا القرآن!
أحمد حسن الزيات
على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط
2 -
الصراع العقائدي وعلاقته بفكرة الدفاع عن الشرق
الأوسط
للدكتور عمر حليق
هل لروسيا مطامع استعمارية
لعل أولى ما يجب أن نتساءل عنه ونحن في صدد الحديث عن الدفاع عن الشرق الأوسط ما إذا كان للاتحاد السوفيتي مطامع (استعمارية) توسعية في العالم الخارجي؛ أم أن الخوف من عدوان المعسكر الغربي هو الذي يدفع روسيا إلى احتلال بعض المناطق في شرق أوربا احتلالا مباشرا وقيام الحركة الشيوعية في الدول المجاورة كما حدث في الصين وتشيكوسلوفاكيا واليونان؟
هذا سؤال اختلف في تحديد الجواب الصائب عنه دراسات المعنيين بالشؤون الروسية والمعلقين السياسيين وأخصاء علم النفس الاجتماعي وتقارير البعثات الدبلوماسية الأجنبية المقيمة في موسكو.
- وكل هذه مواد استند إليها كاتب هذه السطور في هذا البحث.
فالمستر جورج كنان سفير أمريكا في موسكو حاليا وأحد كبار الخبراء الأمريكان في الشؤون الروسية يعتقد بأن ما لجأت إليه موسكو في عالم ما بعد الحرب من توسع شمل شرق أوربا وتسرب إلى الصين فاكتسحها وبنى له وكرا في فرنسا وإيطاليا وغيرها - هذا التوسع ما هو إلا مغامرة سياسية استنبطتها العقلية السوفيتية ورجال الحكم السوفييت في موسكو لخوفهم من أن يتركوا حدود الاتحاد السوفيتي معرضة لنفوذ الدول الرأسمالية التي يعتقد السوفييت بأنها لا بد من أن تشن على الاتحاد السوفيتي حربا تقوض النظام الشيوعي القائم في روسيا. ومن رأى هذا الخبير الأمريكي كذلك أن الشعب الروسي (على نقيض رجال الحكم السوفييت) لا يرغب في توسع إقليمي.
ومن ثم اقترح المستر كنان على حكومته لكي تضع حدا لهذا التوسع السوفيتي بأن تنشئ قواعد عسكرية قوية على حدود البلاد السوفييتية وتعزز دعائم الاستقرار الموالية لأمريكا
في الدول المجاورة للاتحاد السوفييتي كتركيا واليونان، ومحاربة الأوكار الشيوعية القويمة في فرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول المعرضة لانتشار الشيوعية. ثم كان مشروع مارشال لمعونة الدول الحليفة لأمريكا، ومن ثم تمت بسرعة فائقة إقامة القواعد العسكرية الأمريكية في شرقي الجزيرة العربية وفي مطار الملاحة في ليبيا والقواعد الهامة الأخرى في شمالي أفريقيا العربية؛ وبذلك يثبت الأمريكان لرجال الحكم السوفيتي بأنهم لن يهنوا أمام أي حركة توسعية سوفيتية جديدة وإنما يقاومونها بالسلاح (كما حدث في كوريا) لعل رجال الحكم في موسكو يعدلون عن مغامرتهم السياسية.
ولما كان المستر كنان ومن يشاركه في الرأي من خبراء الشؤون الروسية في أمريكا وبريطانيا مؤمنين بأن الشعب الروسي لا يرغب في توسع إقليمي فقد اقترح السفير على حكومته بأن تخصص الأموال اللازمة لبث الدعاية في روسيا نفسها وفي المناطق الشيوعية الأخرى ضد رجال الحكم السوفييت في مغامرتهم التوسعية هذه. وأخذت الحكومة الأمريكية بهذا الاقتراح وخصصت في الميزانية العسكرية الأمريكية لعام 1951 مبلغ100 مليون دولار لهذه الغاية. وقد احتجت روسيا على هذا وعرضت الموضوع على الجمعية العامة لهيئة الأمم في دورة سنة 1951.
والفريق الآخر من خبراء الشؤون الروسية في المعسكر الغربي يعتقدون بأن التوسع السوفييتي في أوربا الشرقية وفي الصين وفي سائر بقاع العالم ليس وليد العقلية السوفييتية فحسب؛ بل أنه وليد العقلية الروسية الشعبية الكامنة تحت الطبقة الماركسية الكثيفة التي تشبع بها صناع السياسة في موسكو. وهذه العقلية الروسية هي الآن كما كانت في أزمنة التاريخ الروسي السابقة في عهود القياصرة والحكام التتر والمغوليين راغبة في التوسع الإقليمي خارج حدودها، لا لأنها تخاف العناصر المعادية لها في العالم الخارجي فحسب؛ بل لأن التوسع الإقليمي غريزة في العقل الروسي. فهذا التوسع إذن من الخصائص الثقافية للخلق الروسي وليس وليد النظام الشيوعي السوفييتي القائم الآن في روسيا.
ومن الطريف أن نستعرض التحليلات التي يستشهد بها أصحاب الرأي من خبراء الشؤون الروسية.
الشخصية الروسية
ويقول هؤلاء بأن الشخصية الروسية منطوية على نفسها عاطفية تتضارب فيها الأزمات الروحية وفيها نزعة إلى الجدل الغامض والرغبة في الراحة والطمأنينة التامة. ومرجع ذلك إلى النكبات التي حلت بالشعب الروسي تحت سيطرة القياصرة (وقبلهم تجولند وجنكيزخان) وجبروتهم وعبوديتهم واسترقاقهم لأفراد الشعب الروسي. فهذه النكبات قد أوجدت في الشخصية الروسية رغبة ملحة في الاستقرار والطمأنينة، وأولد فيها حبا عميقا للوطن الروسي، وأذكى في الروس قومية عنيفة لا تتوانى عن الموت في سبيل الدفاع عن الوطن وصيانة حدوده من أطماع الخصوم. وهذه الرغبة في توطيد الاستقرار والطمأنينة والدفاع عن الوطن الروسي تتطور في حالات معينة بتأثير الأحداث السياسية فتميل إلى التوسع على حدود الوطن الروسي كوسيلة لضمانته وحراسته. ومن الصعب على العقلية التي من هذا القبيل أن تحدد المدى الجغرافي الذي ينته عنده توسعها الإقليمي خارج الوطن الروسي. وأصحاب هذا الرأي من خبراء الثقافة والتاريخ وعلم النفس الاجتماعي يعتقدون بأن الفلاح الروسي واسع الخيال - وخياله مستمد من هذه السهول الشاسعة الواسعة التي تهيمن على جزء كبير من الوطن الروسي - من حدود فنلده إلى مياه بحر الصين - سهولا لا نهاية لها يتصور العقل الروسي أن في نهايتها أسرارا رهيبة، فمن السهول الآسيوية - خففت جحافل التتر والمغول، ومن السهول الأوربية شن نابليون وهتلر غزواتهما. وكم شط الخيال بالشخصية الروسية فدفعها إلى الرغبة الملحة في سبر غور هذه المجاهل البعيدة واكتشاف أسرارها؛ ولكن طبيعة المعاش وقساوة المقادير وصعوبة المواصلات لم تحقق لمعظم الحالات للشخصية الروسية هذا الحلم. فإذا عادت إلى الحياة الواقعية ثارت على هذه الأسرار ثورة الناقم؛ فإذا ناداها منادي ضد هذه الأسرار الغامضة - ضد هؤلاء الأعداء الذين يكمنون وراء الأفق البعيد ويضمرون للوطن الروسي شرا - لبت الشخصية الروسية النداء في حماس مندفع تشهد له بطولة الجندي الروسي في ميادين القتال.
والأدب الروسي ملئ بوصف هذه السهول والأسرار الغامضة الرهيبة التي تكمن في أفقها البعيد، ففي إنتاج (ترجنييف) الأدبي مادة غريزة عن هذا وأوصاف متعددة له.
كتب (ترجنييف) إلى مدام فيادون في عام 1850 يقول:
(دعى روسيا بسهولها المترامية الأطراف الهادئة الساكنة الصامتة صموت أبي الهول
تنتظره فإنها ستبتلعني فيما بعد. وإني لأرى نظراتها القاسية العميقة تحذق بي في حدة كما لو كانت عيونها من الصخر الأصم).
والواقع أن هذه العيون القاسية التي تخيلها (ترجنييف) تحدث فيه في عمق وقساوة ليست إلا هذا الأفق البعيد الذي يهيمن على السهول الروسية الشاسعة التي لا نهاية لها - نهاية غامضة محاطة بالأسرار لم تقو الشخصية الروسية ممثلة في الفلاح ورجل الشارع أن تقهرها، ولذلك تولدت في هذه الشخصية خصائص اندفاعية قاسية تستميت في الصراع (العسكري والسياسي) لتفرج عن الشخصية الروسية هذه الأزمنة النفسية التي تنتابها بين حين وآخر من الحوادث والملمات. ومن هنا يفسر علماء النفس الاجتماعي تقبل العقلية الروسية للمبدأ الفوضوي (النهلستي) فهذه الكلمة من اشتقاق المفكر الروسي المعروف نيقولاي شرنيشيفسكي الذي وصف للشعب الروسي في كتابه (ما الذي يجب عمله (فردوسا)(فوضويا) تنعدم فيه المسؤولية ويسود الرخاء والحرية التامة، فلا يشتغل فيه أمرؤ إلا بمحض مشيئته، وينعم فيه الفلاح براحة تامة يستطيع معها أن يسترخي مرتاحا وبجانبه قدح النبيذ ويداعبه النسيم الهادئ الرقيق فلا يعبأ بالأحداث الطارئة والقيود الثقيلة التي يتقيد بها المجتمع التقليدي للأفراد والجماعات. وهذا الوصف كما ترى تعبير يلائم كثيرا مقومات الشخصية الروسية ورغبتها في الراحة والاستقرار والطمأنينة وتجنب النكبات التي حاقت بها من غزوات التتر والمغول إلى طغيان القياصرة ومذابح نابليون وهتلر.
وحين تعتقد الشخصية الروسية بأن هذا الفردوس لا يتحقق إلا إذا أمن شر ما رواء هذا الستار البعيد الذي يحد أفق السهول الشاسعة تنفعل فيتولد فيها عند الحاجة جماح عنيف ورغبة ملحة في اختراق هذا الستار، ومن ثم فليس من حرج على الشخصية الروسية أن تتقبل فكرة التوسع سواء تحت قيادة القياصرة أم بزعامة ستالين.
ولقد سبق الثورة الشيوعية التي استولت على الحكم في روسيا عام 1917 ميلاد الحركة النهلستية التي برزت قوية ذات بأس في عام 1870 والتي يعتقد بعض مؤرخي الحركة السوفييتية بأن البلشفيك قد تأثروا بها. فقد اعترف لينين فيلسوف الشيوعية السوفييتية بدينه الفكري لبعض تعاليم (ناشايف) زعيم الحركة النهلستية التي من مبادئها التحلل من القيم
الأخلاقية واعتناق مبدأ (الغاية تبرر الواسطة).
وعلى ذلك فإن طابع الصراع المسلح والحروب الروسية (الداخلية والتوسعية) مليء بالعنف والتدمير الساحق. والتاريخ الروسي يسجل مذابح أهلكت فيها الأنفس بالآلاف ودمرت بها قطاعات بأكملها. فلا غرابة أن يقول الشاعر الروسي ألكسندر بلوك في عنفوان الصراع السوفييتي الدامي للسيطرة على الحكم في روسيا (إن ما نواجهه اليوم من مذابح ليس إلا صورة جديدة لمنظر قديم).
وحين نمى إلى (إيقاف المخيف) إبان هجومه على (لنغوغرود) بأن هذه المدينة تتفاوض سرا مع أعدائه، لم ينتظر ليتحقق من صدق هذا التفاوض؛ بل أسرع فضرب ضربته القاسية فأهلك 60 ألف نسمة قتلا وحرقا وتنكيلا، ولما تبين له خطأ حسابه لم يعتذر ولم يساوم ضحيته، وتقبلت العقلية الروسية هذه الفظاعة على أنها أمر لا مفر منه وجزء من السلوك الروسي الذي لا يرحم في الملمات.
وبمثل هذه السلبية تقبلت العقلية الروسية فضائع الخان التتري الذي زحف من شبه جزيرة القرم متعقبا (إيقاف المخيف) إلى موسكو فلم تسلم هذه المدينة القاسية إلا بعد أن أهلك الخان التتري نصف مليون من أهلها.
وسلبية العقلية الروسية إزاء القساوة والعنف لا تقتصر على الصراع الداخلي والحروب الأهلية. فالتاريخ يسجل على نابليون قساوة رهيبة في حملته الروسية، وعلى جحافل هتلر فظاعة أهلكت النسل في أوكرانيا وروسيا البيضاء، ومع ذلك فلم تجد العقلية الروسية وسلبيتها، ومع ذلك فلم تجد العقلية الروسية وسلبيتها إزاء الأحداث الدامية غرابة في أن تعود إلى مصادقة الألمان كما تدل على ذلك سياسة روسيا السوفييتية اليوم الداعية إلى الوحدة الألمانية. وسبب ذلك أن طبيعة الروس كثيرا من المرونة والانتهازية تتلون حسب الحاجة فتتلاءم مع الظروف والمناسبات.
وثمة أمر آخر يتصل بسلوك العقلية الروسية إزاء العالم الخارجي؛ فإذا كنت متفقا مع أصحاب الرأي القائل بأن العقلية الروسية مدفوعة في رغبتها بالتوسع واختراق الستار القائم في أطراف الأفق البعيد - مدفوعة بالخوف مما يكمن وراء هذا الستار من أعداء شداد - إذا كنت على وفاق مع أصحاب هذا الرأي فإنك لن تنتظر من العقلية الروسية
(والسوفييتية أيضا) - وهي ما هي عليه من مقومات خلقية - أن نكتفي بالتحصن على حدودها الطبيعية وتقبل الالتزامات الدولية والمعاهدات القانونية مع العالم الخارجي على أنه ضمان لهذا التحصن.
ويقول لك أصحاب هذا الرأي بأن من الصعب على العقلية الروسية أن تتحصن في حدودها الجغرافية وتترك العالم الخارجي وشأنه. فالرغبة في التوسع ليست مدفوعة بنزعة استعمارية كامنة في العقل الروسي بقدر ما هي تلبية لشعور عميق بالخوف مما وراء الأفق. فذكريات الحروب النابوليونية والهتلرية في روسيا الأوربية، وفظاعة الحروب المغولية اليابانية في روسيا الآسيوية لا تزال حية في التفكير الروسي شعبيا كان أم سوفييتيا.
ومما لا ريب فيه أن استعداد روسيا السوفييتية اليوم عسكريا قد بلغ من القوة والمهارة بحيث يضمن الحدود الروسية الجغرافية إذا قيست الحروب بمقاييس الدفاع لا بمقاييس الهجوم. وامتلاك روسيا للقنابل الذرية وتفوقها في السلاح الجوي والغواصات على خصومها في المعسكر الغربي لم يمنع عن العقلية الروسية (والسوفييتية) الخوف من هذا الخصم المخيف الذي يجثم وراء الأفق البعيد بقنابله الذرية يضرب بها موسكو والمدن الروسية فيعيد إلى الذاكرة تاريخ الغزوات النابوليونية والهتلرية والمغولية. ومن الطريف أن الوفد الروسي في هيئة الأمم المتحدة يرفض باستمرار أن يبحث مشاريع خفض التسلح ومراقبة القنبلة الذرية قبل أن يأخذ وعدا قاطعا بتحطيم القنابل الذرية الموجودة حاليا لدى الدول الكبرى قبل الشروع في التفاوض على مشاريع خفض التسلح ومراقبة الإنتاج الذري؛ فهذا الإصرار مدفوع بهذه الخاصة - خاصة الخوف مما يكمن في الأفق البعيد - التي هي جزء من مقومات الخلق الروسي القومي.
وثقة الروس في المعاهدات الدولية ثقة ضعيفة. فالواقع أن جوهر الخلاف بين المعسكرين المتطاحنين السوفييتي وحلف الأطلنطي هو أزمة في الثقة، فلا الروس واثقون من أن خصومهم سيتقيدون بالمعاهدات الدولية فيحترمون حدود الوطن السوفييتي ومنطقة نفوذه، ولا الأمريكان واثقون من أن الحكومة السوفييتية تحترم المواثيق العالمية وتعكف عن التوسع الإقليمي والسياسي والفكري في آسيا وأوربا.
ولعل الأمريكان صادقون حين يعرضون في هيئة الأمم المتحدة على الروس مشاريعهم لخفض التسلح ومراقبة القنابل الذرية وحل الخصومات السياسية بين الدول عن طريق المفاوضة السلمية واحترام الحدود الجغرافية والمواثيق الدولية وما يوفره القانون الدولي من معاول لصيانة السلم وإبعاد شر الحروب بواسطة الأمم المتحدة أو عن طريق المعاهدات الثنائية والمتعددة الأطراف، وذلك لأن الأمريكان قد عاشوا في عزلة عن العالم الخارجي طوال تاريخهم القصير فلم يسبق أن اعتدى عليهم عدو قاس كنابليون وهتلر وتيمورلنك. فحروب الأمريكان كانت حروبا خارجية في ميادين تفصلها عن أمريكا قارات ومحيطات.
ولكن من الصعب على العقلية الروسية والأوربية إجمالا أن تمد يدها إلى الخصوم بمثل هذا الصفاء، وأن تأخذ المعاهدات الدولية لصيانة السلم في طيبة قلب وثقة تامة. فقد مر بالشعوب الأوربية (روسية وغير روسية) أحداث خرقت فيها العهود وأصيبت هذه الشعوب من جراء ذلك بالأحداث والويلات والكوارث.
فلا غرابة إذن أن تلمس اتجاها ملحوظا بين دول أوربا الغربية في مخالفة الأمريكان في سياستهم نحو الاتحاد السوفييتي. فحين قدمت موسكو في الآونة الأخيرة عروضا جديدة لحلفاء الغرب لتسوية المشكلة الألمانية وتفادي إحياء البأس العسكري الألماني. وجدت هذه العروض الروسية صدى حسنا في أوربا الغربية بينما أصر الأمريكان على رفض هذه العروض الروسية. فذكريات الحربيين العالميتين الأخيرتين والحروب الأوربية السابقة لا تزال تؤثر في عقلية الرجل الأوربي فتجعله أميل إلى مساومة الروس منه إلى الدخول معهم في حرب طاحنة. أما الأمريكي فلا تزال في باطنه (انعزاليا) يعتقد بأنه مستطيع أن يربح أي حرب جديدة يشترك فيها دون أن يجعل الوطن الأمريكي ميدانا. ومن ثم نستطيع أن نفسر حماس الأمريكان لإنشاء القواعد العسكرية في أوربا وآسيا وأفريقيا وبذل المال والجهد لتقوية الجيوش الأوربية الحليفة وتنظيم الدفاع عن الشرق الأوسط وإعادة البأس العسكري لليابان على احتساب أن اليابان خصم تقليدي للاتحاد السوفييتي.
نيويورك
للكلام بقية
عمر حليق
من سير الخالدين
حياة المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب)
المازني
- 2 -
بداية الشوط
انتقل المازني إلى مرحلة جديدة، أو منتظمة، في الدراسة عندما دخل المدرسة (القريبة) على مقربة من داره. وكانت على عهده كما يصفها:
(مثلما ضمت سبيل
…
من صنوف الخلق وفدا
أو كيوم الحشر، أو وقفة عرفات على الأقل). وكان ناظرها جارا وصديقا لأبيه. فأفادته هذه الصداقة اهتمام الناظر به ورعايته لشأنه، كما أنزلته بين أترابه التلاميذ منزلة مرموقة، فجعلوه رسولا بينهم وبين الناظر يتصلون به إلى إجابة مطالبهم وتحقيق رغائبهم.
وكان الطفل أعلم بموطن الضعف في نفس ناظره، فما كان يأتيه من ناحية صداقته لأبيه وكفى، بل يتحرى في مخاطبته أن ينعته دائما بلقب (البكوية)، وكان حديث عهد به، فلا يقصده مرة ويكرر على سمعه هذا اللقب مرات، حتى يرتد مطيب الخاطر مقضي الرغبة مستجاب الرجاء.
ويذكر المازني أنه كانت في هذا الناظر سذاجة عجيبة، وأنه كان جاهلا وإن تظاهر بالعلم بكل شيء. ومن نوادره التي يرويها أنه دخل يوما إحدى الفرق وكان الدرس ترجمة. . (وكان المعلم غائبا، ولم يكن هو يعرف ذلك وإن كان فيما يزعم إداريا حاذقا. ولكنه سمع ضجتنا العالية فسأل فقيل له إن هذه الفرقة ليس فيها معلم، فلم يندب غيره بل جاء هو إلينا بنفسه - وبطوله وعرضه - وسألنا (ما لكم يا أولاد؟) قلنا (يا سعادة البك المعلم غائب). قال (الدرس إيه؟) قلنا (ترجم يا سعادة البك). فأنشرح صدره واغتبط وأيقن أنه سيظل
يسمع منا ما يسره فقال (طيب، وإيه يعني؟). فقلنا (يا سعادة البك لم نفهم الدرس السابق يا سعادة البك). فسأل عن هذا الدرس السابق الذي استعصى علينا فقلنا له أنه كان يحاول أن يعلمنا النفي في اللغتين العربية والإنجليزية ولكن لم نفهم عنه. فأعرب لنا بعبارات صريحة عن دهشته وتعجبه بوزارة المعارف التي تعين مدرسين لا يحسنون تفهيم التلاميذ، وأكد لنا أنه يعطف علينا لأننا نؤدي للوزارة أجور التعليم كاملة ولا نتعلم مع ذلك شيئا. ثم قال إن المسألة بسيطة وإن النفي سهل جدا وإن أدواته في اللغة العربية معروفة وهي (لا ولم ولن الخ) والأمثلة سهلة ومعروفة، وشرع يسوق الأمثلة فلما بلغ (لم) قال (مثلا. . لم كتب. لم ضرب. لم ذهب) فانفجرنا ضاحكين ولنا العذر. فلما سكنت العاصفة بعض السكون قال يوبخنا ويزجرنا ويعظنا (تضحكون؟ إبكون. . إبكون) فلم يبق منا طفل على مقعده من شدة الضحك. ولم يسكتنا الخوف منه وإنما أسكتنا الألم الذي صرنا نحسه في بطوننا من الضحك الطويل).
ومن معلميه في هذه المدرسة شيخ كاتوا يسمونه فيما بينهم (الأسد) وكان قاسيا غليظ الكبد سريع الغضب، ومن لوازمه (خيزرانة) قصيرة يدسها في طيات ثيابه. . (وقد أطعمنها مرارا كثيرة، وذاقتها كفتي وذراعاي وساقاي وظهري وعرفت طعمها كلها بالخبرة الطويلة والتجربة المعتادة).
وإلى هذه المدرسة، أو إلى معلم الخط فيها، يعزو المازني رداءة خطه، وحكاية ذلك ما نرويه هنا عنه.
(كان الشيخ الذي يعلمنا الخط وحشا، أعني أنه لم يكن وحشا حقيقيا، وإنما كان وحشا آدميا غليظ القلب منحوس الضريبة، وكان بناء المدرسة عتيقا متداعيا، والأبواب ذات مصراع واحد وكانت إذا فتحت تنسد بالحجارة. فكان هذا الشيخ لا يعاقب التلميذ إلا بشيء واحد. يضع الواحد راحته على المكتب، ويجيء الشيخ بحجر الباب ويدق به عقل الأصابع. وكان هذا عقابه الوحيد على رداءة الخط، وعلى كل خطأ أو ذنب يرتكب فكيف يرجى ممن تدق أصابعهم بالحجارة أن يحسنوا الخط ويجيدوا الكتابة؟ فهذا سبب أن خطي رديء).
وأتم الطفل دراسته الابتدائية. وجاء أخوه الأكبر إلى أمه يشير عليها بأن تكتفي من تعليمه
بهذا القدر. على أنها أبت ذلك وأصرت على إبائها حين ألح عليها، حتى أنذرها ذلك الأخ أنه مانع عنهما بعد ذلك معونته وقابض يده. ولعل هذه الحادثة زادت المازني الطفل شعورا بوطأة الفقر وحنقا عليه، ودفعته إلى ذبل الجهد في سبيل تحقيق رغبة أمه في أن يتم تعليمه إلى نهايته. وكانت الأيام قد أنضجته وتقدمت به فساعده ذلك على أن يصمد لتجارب الحياة وأن يستوعب جيدا دروسها القاسية.
ودخل المازني المدرسة الخديوية وهو على أعتاب الشباب. ولعل هذه الفترة - فترة الدراسة الثانوية - كانت بداية التكوين الحقيقي للرجل الذي صاره من بعد. ولعلها كذلك كانت بداية ميله إلى القراءة والأدب، فما كانت الدراسة الابتدائية لتسمح بإظهار مثل هذا الميل، فضلا عن أن سنه لم تكن تهيؤه قبل ذلك للقراءة لواسعة أو الصبر عليها.
ولا يشير المازني كثيرا إلى فترة دراسته الثانوية فيما كتب عن ذكريات طفولته وصباه، فلعلها قد تقضت في الجد الصرف من ناحية مشقة التحصيل، وفي محنة قاسية من شظف الرزق والمعيشة. على أنه يحدثنا أنه أخريات هذه الفترة_وكان قد بلغ السادسة عشر اعترضت الحمى طريقه وألحت وطأتها عليه، وقضى طيلة صيف ذلك العام وهو يعاني وقدتها. ويقول (في إحدى الليالي ثقلت علي وطأة المرض جدا، حتى جزعت أمي على ما أخبرتني بعد ذلك، وكادت توقن إني هامة اليوم أو غد، لولا أن الأم لا تفقد أملها. وكنا في بيت كل غرفة فيه تصلح أن تكون ساحة أو ملعبا، وكانت نوافذ الحجرة التي أرقد فيها تطل على فناء البيت وفيه شجرة جميز عظيمة، تصل أغصانها الذاهبة في الهواء إلى النوافذ، وكنا نضع قليل الماء على أحد هذه الشبابيك لتبرد، فحدث أن مدت أمي يدها إلى قلة تريد أن تشرب، ففلتت القلة من بين أصابعها وهوت إلى أرض الفناء ففزعت أمي واضطربت جدا، وكبر في ظنها أن هذا نذير بموتي، وخطر لها أن تنحدر إلى الفناء في فحمة الليل لترى أسلمت القلة أم تحطمت. . ومن العجائب أن القلة لم يصبها سوء، ولعل ذلك لأنها وقعت على أرض رخوة طرية كثيرة البلل تحت ظل الشجرة. وقد حدثتني أمي بعد ذلك وهي تروي لي هذه القصة أنها بكت وأنها عجزت عن القيام، فظلت قاعدة على الأرض غير عابئة بالبلل، والرطوبة والوحل، وفي يدها القلة، والدموع تنهمر من عينيها؛ دموع الأمل والاستبشار. وقضت ساعة فيما تحس، ثم نهضت فصعدت، ودنت مني وأنا
نائم، ولمست وجهي بكفها، مترفقة محاذرة، مخافة أن توقظني، فإذا أنا أتصبب عرقا، وإذا بثيابي كلها - كما قالت - عصرة. وأصبحت وقد ذهبت عني وقدة الحمى وأخذت أتماثل).
ويتحدث المازني عن الفرق بين الدراستين الابتدائية والثانوية فيقول: (إن التعليم الثانوي كان انتقالا أدق المعاني، فقد صار كل ما في المدرسة إنجليزيا - الناظر والمدرسون والتعليم - ما عدا اللغة العربية، ولم يكن تدريس اللغة العربية خيرا من تدريسها في الوقت الحاضر، ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان - لا أدري لماذا؟ - وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلا طيبا ووقورا مهيبا، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده فيدعو له الشيخ، ولا نستغرب نحن شيئا من ذلك، بل نراه أمرا طبيعيا جدا. وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس في نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فإني أراني إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعني إلا إكبارهم حين ألتقي بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئا يستحق الذكر).
وللمازني مع الشيخ حمزة فتح الله حادثة طريفة لا تخلو من دلالة. وكان يؤدي الامتحان الشفوي في الشهادة الثانوية، والشيخ رئيس لجان اللغة العربية. وندع المازني يروي بقلمه قصته مع الشيخ:
(لما جاء دوري اتفق أنه كان موجودا، فلما انتهت المطالعة وجاء دور المحفوظات وكان لها مقرر مخصوص سألني ماذا أحفظ؟ وكنت في صباح ذلك اليوم قد قرأت خطبة قصيرة للنبي صلى الله عليه وسلم فعلقت بذهني وألهمني الله أن أقول إني أحفظ خطبة للنبي، ففرح الشيخ جدا وخلع حذاءه وصاح (قل يا شاطر، قل يا شاطر فتح الله عليك) وسترني الله فلم أخطئ، واكتفى الشيخ بهذا وأعفاني من النحو والصرف والإعراب).
وقد التقى المازني بالشيخ مرة أخرى. وكان اللقاء في هذه المرة عاصفا، تجلى فيه غضب الشيخ الحليم وتحفز الطالب الطلعة. ولا بأس أن نورد هنا حديث ذلك اللقاء وإن كنا نسبق بذلك ترتيب الحوادث قليلا؛ فقد كان المازني يوم ذاك في آخر عهده بمدرسة المعلمين، وكان يؤدي الامتحان النهائي للتخرج، وكانت لجنة الامتحان الشفوي في اللغة العربي برياسة الشيخ حمزة ومن أعضائها الشيخ عبد العزيز شاويش والأستاذ عاطف بركات. .
(فقال أحد إخواني بعد خروجه من الامتحان أن الشيخ حمزة يفتح كتاب النحو والصرف ويطلب من الطالب أن يتلو الفصل الذي يقع عليه الاختيار. ولم نكن ندرس لا نحوا ولا صرفا في المدرسة لأن الدراسة كانت مقصورة على الأدب. فأيقنا بالفشل وجاء دوري فدخلت وأنا واثق من الرسوب وجلست أمامه فناولني كتاب مقدمة ابن خلدون فقرأت. ولا أزال أذكر فاتحة الكلام وهي (إعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها) إلى آخره، فقال ضع الكتاب فوضعته. فسألني عن العدوان والفعلين عدا واعتدى وانتقلنا إلى الصيغ المختلفة التي يكون عليها الفعل (اعتدى) مثل (اعتديا) للماضي المثنى و (اعتديا) للأمر، فسألني لماذا كان الماضي بالفتح والأمر بالكسر فلم أعرف لهذا سببا وقلت أنه لا سبب هناك سوى أن العرب نطقوا بها هكذا. فدهش لهذا الجواب وقال ولكن لهذا سببا. قلت إن اللغة سبقت النحو والصرف، وكل هذه القواعد موضوعة بعدها، وما دمت أنطق كما كان العرب يفعلون فإن هذا يكفي ولا داعي للبحث عن سبب مختلق. فغضب وظهر هذا على وجهه فلم أبال بغضبه، وحدثت نفسي أنه خير لي وأكرم أن أسقط بخناقة من أن تكون علة سقوطي الجهل. وأصررت على رأي وكاد يحدث ما لا يحمد، لولا أن المرحوم الشيخ شاويش تدارك الأمر، فقد نظر في ساعته ثم التفت إلى الشيخ حمزة وقال (العصر وجب يا مولانا) فنهض الشيخ وهو يقول (إي نعم) وذهب للصلات ونسيني فكان في هذا نجاتي).
للكلام بقية
محمد محمود حمدان
6 - الميسر والأزلام
للأستاذ عبد السلام محمد هارون
العامل الديني:
كان (هبل) أعظم صنم لقريش في مكة، وكان مكانه في جوف الكعبة وفيه يقول ابن الكلبي:(وكان فيما بلغني من عقيق أحمر، على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب). وهو الذي قال له أبو سفيان بن حرب حين ظفر يوم أحد:
أعل هبل!
- أي أعل دينك - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الله أعلى واجل!!
عند هذا الصنم الجليل القدر لديهم كانت توضع (الأزلام)، ويقوم الكهان أو السدنة بإجالتها وإفاضتها لمن يريد الاستقسام، إعظاما للأمر الذي يبتغونه، فهم يختارون موضع القضاء في أقدس مكان لهم، وإعظاما للحكم الذي يرتضونه، فإن الذي حكم به هو سادن الكعبة أو أحد كهانهم.
فكانوا يذهبون إلى (هبل)، ومعهم (مائة درهم) و (جزور)، ويعطونها لصاحب القداح الذي يضرب بها، ثم يقربون صاحبهم الذي يريدون الحكم في نسبه إن أرادوا، ثم يقولون:(يا إلهنا، هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه!) ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب! فيجيل القداح ويفيضها، فإن خرج (منكم) كان منهم وسيطا، وإن خرج (من غيركم) كان حليفا، وإن خرج (ملصق) كان على منزلته، لا نسب له ولا حلف.
وإن استشاروه في أمر يقتضي (نعم) أو (لا) فخرج (نعم) عملوا به، وإن خرج (لا) أخروا الأمر عاما كاملا ثم أتوا مرة أخرى يستقسمون بالأزلام.
بهذا العامل الديني، وبهذا الشعور الروحي الوثني استقسم عبد المطلب بن هاشم مرتين:
1 -
في حفر بئر زمزم، حينما أمر في منامه عدة مرات بحفرها، وقام ليقضي ما كتب عليه في منامه، فحفر في البئر - ولم يكن له من الولد حينئذ إلا الحارث بن عبد المطلب - فلما تمادى به الحفر وجد فيما حفر غزالين من ذهب خالص، ووجد أسيافا قلعيه
وأدراعا، فقالت له قريش: يا عبد المطلب، لنا معك في شرك وحق!! قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج له قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له. قالوا: أنصفت! فجعل قدحين (أصفرين) للكعبة، وقدحين (أسودين) لعبد المطلب، وقدحين (أبيضين) لقريش، ثم أعطوا تلك القداح لصاحب القداح التي يضرب بها عند (هبل)، فضربها على الغزالين فخرج (الأصفران) فكانا من نصيب الكعبة، ثم ضربها أخرى على الأسياف والدروع فخرج (الأسودان) فكانا من نصيب عبد المطلب، وتخلف قدحا قريش لم يظفرا بشيء. فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فأرضى بذلك نفسه وشعوره الديني العميق، وحسم الخلاف بينه وبين قومه بما حكم به (هبل)، وهو الذي لا يرد له قضاء!!
2 -
والمرة الثانية حينما نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر بئر زمزم واستخفافهم به لقلة ولده: لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة!! فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني. فغفلوا ثم أتوه، فدخل بهم على (هبل) في جوف الكعبة، وكان منصوبا على بئر يجمع فيها ما يهدي إلى الكعبة. فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها قام عبد المطلب عند (هبل) يدعوا الله جاهدا، ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على (عبد الله) وهو أعز ولده عليه، فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، وكذلك قام بنوه، فقالوا: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه! لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا؟!
وكان أن لجئوا إلى عرافة في (خيبر) يسألونها في ذلك، فقالت: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل. قالت، فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم!
فرجعوا إلى مكة وضربوا بالقداح بين عبد الله وبين عشر من الإبل، فخرج القدح على
(عبد الله)! فزادوا عشرا وضربوا، ثم زادوا عشرا وعشرا حتى بلغت مائة، فضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب فزعموا أن عبد المطلب: قال لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات! فضربوا ثلاث مرات توثيقا للأمر، كل ذلك يخرج القدح على الإبل المائة. فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع.
فهاتان الحادثتان تدلان على مقدار خضوع سادة العرب وأشرافها لحكم الأزلام، ومبلغ اضطرارهم وتقديسهم لأحكامها.
تقديس الأزلام
وبلغ من تقديسهم للأزلام أنهم جعلوا في البيت الحرام صورة لإبراهيم عليه السلام، وفي يده الأزلام التي يستقسم بها.
وفي حديث فتح مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت فرأى إبراهيم وإسماعيل بأيدهما الأزلام.
قال ابن هشام: (وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام؟ ما شأن إبراهيم والأزلام؟! ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست).
وفي مسند أحمد برقن 3093 عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل. عليهما السلام، في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم الله! أما والله علموا ما اقتسما بها قط).
الأزلام في التاريخ الديني القديم
نص القرآن الكريم على حادثين اثنين كان للأزلام فيهما نصيب، ولكنها لم تكن على ما كانت عليه عند العرب من التقديس الوثني، بل كانت بمثابة القرعة التي سيأتي الكلام
عليها:
الحادث الأول أشار إليه الكتاب الكريم في قوله تعالى: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) آل العمران 44
والحادث الثاني أشار إليه قصة يونس: (فساهم فكان من المدحضين). الصافات 141
1 -
أما الأول فهو ما كان من أمر زكريا عليه السلام. روى أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجة في الكعبة - فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة! فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، وكانت بنوا ماثان رءوس بني إسرائيل وملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها. قالوا: لا حتى نقترع عليها. فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر الأردن فألقوا فيه (أقلامهم)، فأرتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكلفها.
واختلف المفسرون في هذه الأقلام فقال بعضهم: هي أقلام الكتابة كانوا يكتبون بها التوراة، فاختاروها للقرعة تبركا بها وقال بعضهم: الأقلام هنا الأزلام، وهي القداح.
وقال أبو مسلم: كانت الأمم يكتبون أسمائهم على سهام عند المنازعة، فمن خرج له السهم سلم له الأمر. وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بها الجزور.
وقال ابن قتيبة: وكانوا تشاحوا في كفالتها، فضربوا بالقداح، وهي الأقلام، فخرج قدح زكريا فكفلها.
2 -
وأما الثاني فما كان من أمر السفينة التي ركب فيها يونس عليه السلام فرارا من قومه، حين ذهب مغاضبا، فلما أبعدت السفينة في البحر ويونس فيها ركدت، فقال أهلها: إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه فلنقترع. فأخذوا لكل منهم سهما على أن من طفا سهمه فهو، ومن غرق سهمه فليس إياه. فطفا سهم يونس، ففعلوا ذلك ثلاثا تقع القرعة عليه، فأجمعوا على أن يطرحوه، فألقى بنفسه فلتقمه الحوت.
وقصة يونس هذه - وتسمية كتب العهد القديم يونان - مذكورة بتفصيل في سفر (يونان) جاء في الإصحاح الأول:
(فقام يونان ليهرب إلى (ترشيش) من وجه الرب، فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب. فأرسل الرب
ريحا شديدة إلى البحر فحدث نوء عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر. فخاف الملاحون وصرخوا كل واحد إلى إلهه وطرحوا الأمتعة التي في السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم. وأما يونان فكان قد نزل إلى جوف السفينة واضطجع ونام نوما ثقيلا. فجاء إليه رئيس النوتية وقال له: ألك نائما. قم اصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك. وقال بعضهم لبعض: هلم نلقي قرعا لنعرف بسبب من هذه البلية. فالقوا قرعا فوقعة القرعة على يونان. فقالوا له: أخبرنا بسبب من هذه المصيبة علينا. ما هو عملك ومن أين أتيت؟ ما هي أرضك ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبراني وأن خائف من الرب إله السماء الذي صنع البر والبحر. فخاف الرجال خوفا عظيما وقالوا له: ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا. لأن البحر كان يزداد اضطرابا. فقال لهم: خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم لأنني عالم أنه بسببي هذا النواء العظيم عليكم). . (ثم أخذوا يونان في البحر فوقف البحر عن هيجانه، فخاف الرجال من الرب خوفا عظيما وذبحوا ذبيحة للرب ونذروا نذورا: وأما الرب فأعد حوتا عظيما ليبتلع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال).
وبعد أن يسرد سفر (يونان) صلوات (يونان) في جوف الحوت يقول: (وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر).
فهاتان القصتان على ما فيهما من حمل المفسرين الأقلام فيهما والمساهمة على معنى أزلام الجاهلية، لا ريب أن ما فيهما من صنيع هو بعيد كل البعد عن صنيع أهل الجاهلية فيما كانوا يجعلون لتلك الأزلام من قداسة ومن شرائط دينية وتقاليد خاصة، وإنما هاتان ضرب من (القرعة) لا يزيدان عن تلك شيئا ولا ينقصان شيئا.
والنص الذي سقته من سفر يونان مؤيدا أنها قرعة بعيدة عن الاستقسام الوثني.
التمرد على الأزلام
وقد بدت ظاهرة من ظواهر التمرد على تلك الأحكام الدينية في ما رواه بن الكلبي من أن أمرؤ القيس بن حجر أقبل يريد الغارة على بني أسد، فمر بذي الخلصة - وكان صنما بتبالة - وكانت العرب جميعا تعظمه، وكانت له ثلاثة أقداح: الآمر، والناهي، والمتربص. فاستقسم عنده ثلاث مرات فخرج (الناهي) فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم وقال:
(عضضت بـ. . . أبيك! لو كان أبوك قتل ما عوقتني!).
ثم قال في ذلك:
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا
…
مثلى وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
ثم غزا بني أسد فظفر بهم
قال ابن لكلبي: (فلم يستقسم عنده بشيء حتى جاء الله بالإسلام، فكان امرؤ القيس أول من أخفره)
للبحث بقية
عبد السلام محمد هارون
المسلمون
للأستاذ محمد عبد الله السمان
إن من ألزم اللوازم للمسلمين - كأمة في مجموعهم - صحيفة تنطق بلسانهم، وتعبر عن مشاعرهم وعواطفهم، وتدعو إلى مبادئهم وتوضح أهدافهم، وترسم الطريق إلى الخلاص من آلامهم، وتحمل بصدق وعزيمة رسالتهم إلى الدنيا مشرقها ومغربها. .
أجل! إن المسلمين - كأمة في مجموعهم - في أمس الحاجة إلى هذه الصحيفة التي تبعث الشعوب الإسلامية المبعثرة الممزقة من مرقدها، فتربط بينها برباط وثيق من الأخوة الصادقة، والتي تثير خواطرها، وتستفز همها، حتى تزيح عن أعناقها أرباق العبودية والمسكنة، وعن كواهلها أعباء المذلة والهوان، والتي تعرض الإسلام من جديد، دينا خالصا، وإسلاما مصفى، لا دخن ولا دخل.
وقد أدرك حاجة المسلمين إلى صحيفة تنطق بلسانهم، الحكيم الثائر (جمال الدين الأفغاني) وصنوه (الإمام محمد عبده) فأخرجا إلى الوجود (مجلة العروة الوثقى). وكانت تنشر في باريس حيث كان المجاهدان قد اتخذاها وطنا ثانيا لهما، أو اتخذها الاستعمار منفى لهما؛ ولم يقد لهذه المجلة الثائرة الملتهبة أن تعمر طويلا، بعد أن لاقت ما لاقت من عنت الاستعمار واضطهاده.
ثم قام بعدهما بهذه المهمة الدقيقة الثقيلة تلميذهما (السيد محمد رشيد رضا). فأخرج إلى الوجود مرة ثانية مجلة (المنار) سار بها على نهج سلفيه الصالحين، فكانت بحق شعلة متقدة، وجذوة ملتهبة، استطاعت أن تلفت إليها أنظار المسلمين في كل بقعة إسلامية. كانت سياسة متطرفة تحمل على الاستعمار الأجنبي في أية أرض إسلامية، وتناهض حكومات الشعوب المسلمة الإقطاعية، منددة بها، ومنذرة إياها بأوخم العواقب، ولقد توقف ظهورها بعد أن لحق صاحبها ومنشئها بالرفيق الأعلى وإن كان جهادها ظل متواصلا بما تركته من أثر فعال في نفوس الأغيار من المسلمين، وبما تركته مجلداتها الضخمة من آثار علمية ستبقى خالدة ما خلدت السماوات والأرض إن شاء الله تعالى.
ثم مرت فترة طويلة حرم المسلمون خلالها لسانهم الناطق، حتى أخرج لهم الشهيد الأعزل (حسن البنا) مجلة (الشهاب) فكانت شهاب يضيء ويحرق، يضيء السبيل نحو الحياة
الصحيحة التي تليق بالشعوب المسلمة، ويحرق الطواغيت التي تعترض هذه السبيل، وما أن ظهرت هذه المجلة حتى تلقتها الأيدي المسلمة في كل مكان، وحرص على أذخارها الشبيبة المثقفة والطليعة الناضجة، ولقد اتجه منشئها رحمه الله حين أراد إصدارها إلى أن يتولى تحرير موضوعاتها المبرزون المسلمون من كل قطر إسلامي، لتكون صدى لدعوته الجامعة التي لا تعترف بالمركزية بين الشعوب الإسلامية، ولم يعمر (الشهاب) أيضاً طويلا، فتوارى عن الأعين، حين اختبرت دعوة الإخوان بمحنة قاسية، خرجوا منها وهم أرسخ عقيدة وأثبت إيمانا.
ثم بدأ الفراغ يتخذ أفق أوسع من جديد، وحرم المسلمون للمرة الرابعة صحيفتهم، ولم يطل حرمانهم في هذه المرة، إذ برز في الميدان الأستاذ (سعيد رمضان) ليملأ الفراغ بمجلته (المسلمون) ولتنهج منهج الشهاب وتنسج على منواله، وتكون امتدادا لمنهجه، والأستاذ سعيد رمضان شاب في نضرة الشباب، مثقف بالثقافتين المدنية والدينية، فقد تخرج في كلية الحقوق، كما تخرج في جامعة حسن البنا الدينية وأكرم بها من جامعة، ويعتبر خليفة حسن البنا الأول في الخطابة والإلمام بدقائق المسائل والمعاني الإسلامية الحية.
طاف الأستاذ سعيد رمضان بجميع البلاد الإسلامية بلدا بلدا، ومعظم الممالك الغربية، وأعانه على هذا تغيبه عن مصر خلال محنة الإخوان، فقد أصدرت الحكومة وقتذاك الأمر باعتقاله، وهو يطوف بالبلاد العربية داعيا إلى الله تعالى، واستطاع أن يصل إلى الباكستان خشية أن تستجيب الحكومات العربية إلى رجاء الحكومة المصرية فتسلمه إليها، وفي الباكستان نال مكانة مرموقة في ميدان السياسة الإسلامية، ولم يعد إلى مصر إلا بعد أن انجلت المحنة وتلاشت السحب.
ومما لا ريب فيه أن الأستاذ سعيد رمضان أفاد خبرة واسعة من جولته التي استغرقت بضع سنين، فقد اتصل بالشعوب الإسلامية كلها، وتعرف على آلامها وآمالها، ودرس وناقش قضاياها، وألم إلماما دقيقا بشؤونها وأحوالها، ووقف على الكثير من أسرارها وخفايا أمورها، كما اتصل بزعماء المسلمين، وسبر أغوارهم، وخبر جهادهم ومطامعهم، فإذا أضفت إلى خبرته هذه تمكنه من دعوة الإخوان المسلمين، وإسهامه بنصيب ملموس وجهد مشكور في مجلة الشهاب، أيقنت بأنه جدير كل الجدارة بأن يخرج للمسلمين مجلته
(المسلمون).
لقد مضى على (المسلمون) عام، وهاهي ذي قد بدأت منذ أيام عامها الثاني، وأمسكنا القلم طيلة العام الماضي والأول من حياتها حتى تكمله، فنستطيع أن نحكم لها أو عليها، غاضين الطرف عن الأخوة التي تربطنا بصاحبها ومؤسسها، لأن النقد البريء الخالص يجب أن ينسى حياله كل عاطفة، وتهمل كل محسوبية.
اتضح لنا أن (للمسلمين) هدفين: الأول تقديم زاد إسلامي مصفى، من موارد موثوق بها، وثقافة إسلامية عذبة مطمأن إليها، وتاريخ صادق معتمد لا زيف ولا شائبة فيه. والهدف الآخر احتضان قضايا الشعوب المسلمة ومشكلاتها، وتحليل آلامها وأوجاعها. أما الهدف الأول فقد وفقت فيه توفيقا كاملا تغبط عليه، وأما الهدف الآخر فلم تزل تسير نحو تحقيقه بخطى وئيدة، وكان المنتظر أن توفق (المسلمون) التوفيق الكامل في الهدف الآخر. وفي حقائب الأستاذ سيد رمضان من المواد والمعلومات التي جمعها من جولته، ما تضيق عن استيعابها الأسفار الضخام، وقد سبق أن ناقشته هذا النقص فأبدى من الأعذار ما أعتقد اليوم زوال أسبابها، وفي العدد الأول من السنة الثانية لمسنا عناية ملموسة بالأوطان الإسلامية وقضايا شعوبها، نرجو أن تزداد في المستقبل إن شاء الله تعالى.
وفي المجلة موضوعات يمكن الاستغناء عنها مؤقتا، لأن حالة المسلمين لا تستدعي هذه البحوث الجدلية التي لا صلة لها بحاجتهم، وهم أحوج ما يكونون إلى المعاني الجديدة الحية، التي تضيء أذهانهم، وتثقف أفكارهم، وتنمي ملكات التفكير ملكات التفكير فيهم، وتصون عقائدهم مما شابها من الدخل، وكتابها من المبرزين المعدودين في الشرق الإسلامي والحمد لله.
وبعد فيمكننا أن نقول - غير محابين - إن مجلة (المسلمون) قد ملأت الفراغ الذي تركته العروة الوثقى والمنار والشهاب، وإن الداعية الكبير الأستاذ سعيد رمضان جدير بأن يكون ربانها، ليقطع بها المراحل، فتصل إلى الشعوب المسلمة على اختلافها، لأنها غذائها الطيب الشهي، ولسانها المعبر عن مشاعرها وعواطفها.
محمد عبد الله السمان
4 - تركيا
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
طاغية
وعدت القراء في نهاية المقال السابق أن أحدثهم عن الحركة المجيدة التي أنقذت تركيا من الحرج الذي كانت فيه 1920 ومن الأزمات والنكبات التي حلت بها في ذلك التاريخ، ولكني أرى لزاما على أن أشير إلى العوامل الداخلية التي كانت سبب تلك الكوارث بعد أن تحدثت عن أسبابها الخارجية، وبذلك نضع أمام القراء صورة انحلال تركيا الداخلية والخارجية ثم بعد ذلك نتحدث عن الحركة الكمالية أو حركة الإنقاذ.
كانت أوربا تتحدث جميعا منذ القرن الثامن عشر عن قرب انحلال تركيا، وأكثر من هذا قامت بعض الدول بمفاوضات بقصد تقسيم تركة تركيا. والواقع أن ضعف تركيا كان يرجع إلى عوامل متعددة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي.
ولعل من أهم العوامل الداخلية كثرة الشعوب والأجناس التي كانت تركيا تحكمها، فقد كانت تحكم إمبراطورية واسعة يسكنها البلغاريون واليونانيون والصربيون والجبليون والرومانيون والسوريون والعراقيون والمصريون والعرب والمغاربة وغيرهم، وكانت هذه الشعوب تختلف في الجنس واللغة والدين والعادات والتقاليد، وتختلف أيضاً عن الدولة الحاكمة في تلك النواحي الأمر وذلك ما جعل الإمبراطورية العثمانية معرضة للانحلال بمجرد ضعفها.
وكان أهم أسباب ضعف تركيا فساد الحكم التركي في تركيا ذاتها وفي أملاكها، فقد كان الخليفة أو السلطان رأس الدولة موطن الفساد والانحلال وسبب السوء والضعف.
صحيح أن بعض المحاولات للإصلاح قد قامت فعلا ولكنها فشلت. . أولا لأن الدولة كانت حريصة على أن تظل تركيا ضعيفة منحلة تستطيع الدول أن تقتطع لنفسها من أملاكها ما تشاء حين تحين الظروف أو تواتي المناسبات. وثانيا لأن العقلية الرجعية كانت تسيطر على الخلفاء والأتراك وحاشيتهم ووزرائهم مما جعل هذه الحركات الإصلاحية عديمة القيمة.
وتناهت الأمور إلى السلطان عبد الحميد 1876 الذي تولى العرش على أكتاف الأحرار
من أبناء حزب تركيا الفتاة الذي كان يتزعمه مدحت (باشا) وقد كانت الحياة النيابية أهم أماني مدحت الذي كان يرى أن الحياة الدستورية الصحيحة هي السبيل الوحيد لإنقاذ تركيا.
وقد كانت تركيا إذ ذاك في موقف لا تحسد عليه، فالشعوب البلقانية ثائرة والدول تتدخل لإنهاء الموقف فوجد لسلطان عبد الحميد خير وسيلة للخروج من هذا المأزق هي إصدار الدستور فهو كفيل بإسكات الأحرار من الأتراك والثوار من رعاياهم؛ بل أكثر من هذا أنه سيقضي على محاولات الدول للتدخل في شؤون تركيا.
أصدر عبد الحميد الدستور 1877 ولكنه كان غير مؤمن به ولذلك لم يلبث طويا أن قضى عليه فحل البرلمان ونفى مدحت (ذلك المجرم الذي أحتل الناس وساقهم في طريق الغواية) وشتت أنصاره وأتباعه وأصبحت تركيا سجنا للأحرار من الرجال.
وأقام عبد الحميد من نفسه طاغية جبارا يتحكم في الرقاب وينشر الظلم والذل والاستعباد وملأ الحكومة برجال لا أخلاق لهم ولا مبدأ ولا عهد ولا دين، غايتهم الوحيدة الإثراء وجمع المال بأي طريق (هذا هو العهد الذي كان فيه المال والثروة غرض الحياة الأعلى، وما كان ذلك الغرض يستدعي سوى أن يتبرأ الإنسان من قومه ويتجرد من شخصيته ويضحي ابنه وأمه وأخته وأصحابه وذمته وكل العواطف الوطنية والمبادئ البشرية).
وحتى لا تتسرب بذور الحرية إلى تركيا منع عبد الحميد الأتراك من السفر إلى الخارج وشدد الرقابة على الصحف والكتب ومنع الصحف التي تصدر في أوربا من دخول تركيا؛ وانتشرت الجواسيس وراقبوا الناس وانتهكوا حرمة المنازل وعاش الأتراك تحت نير هذا العسف ثلاثين عاما.
ومنع الأئمة والخطباء في المساجد من ذكر الأحاديث أو الآيات التي تحط من قدر الطغاة والتي تذكر الظالمين بسوء العاقبة، وكان حديث الجمعة الثابت (إن الله جميل يحب الجمال) أما الأحاديث التي تشير إلى العدل أو تذكر الوالي بمسئوليته نحو رعيته فكانت ممنوعة منعا باتا.
وكشأن الملوك الطغاة المفسدين كان قصر عبد الحميد يعج بالنساء والجواري. ويذكر المؤرخون الأجانب أن عبد الحميد حين ولي العرش وعد بأن يقضي على تقاليد الخلفاء الذميمة ومنها الإكثار من النساء في قصورهم كما وعد بأنه سيقتصر على زوجة واحدة
ولكن لم يمض عام واحد حتى كان عدد الحريم بالقصر السلطاني قد بلغ تسعمائة!
ومدحت (باشا) زعيم الأحرار نفي إلى الطائف حيث قضى بقية حياته على الفجل والماء! إلى أن مات شهيدا في سبيل الحرية.
وكان الطاغية ضعيفا أمام الأجانب وللوقوف في وجههم عمد إلى إذكاء روح الجامعة الإسلامية وكان يهدد الأجانب بمحاولة إثارة المسلمين ضدهم وكان التهديد سلاحه الأول والتسليم سلاحه الأخير.
ثورة يوليو 1908
حين عطل عبد الحميد الدستور 1878 ونكل بالأحرار هاجر كثيرون منهم إلى الخرج. وفي 1891 اجتمعوا في جنيف وأسسوا جمعية الاتحاد والترقي وظل هؤلاء الأحرار يعملون على قلب حكومة لطاغية التي أنزلت بالبلاد المصائب وذاقت على يد الأجانب الذل والهوان.
وفي ديسمبر 1907 قرر هؤلاء الأحرار بدأ العمل وتقرر أن تكون مقدونيا مركز الحركة.
وعمد أعضاء الجمعية إلى نشر دعوتهم في صفوف الجيش فأنضم أغلب رجاله إليهم وحدد يوم 3 يولية 1908 لإعلان الثورة على يد أركان الحركة أمثال نيازي (بك) وأنور (بك) وصلاح (بك) أولئك الفدائيون الذين حملوا أرواحهم في أيديهم وخرجوا إلى البلاد لهدم كيان الظلم ومحو آثاره.
ووصلت أنباء الحركة إلى السلطان فأنزعج وأمر أحد رجاله شريف (باشا) بسحق الثورة ولكن الثوار قضوا على تلك المحاولة. واستنجد السلطان بقوات من الأناضول ولكنها سحقت أيضاً وبدأت البلاد تسقط تباعا في يد الثائرين. وأنذر الثور السلطان بوجوب إعلان الدستور فورا وأسقط في يد الثعلب الماكر عبد الحميد واضطر إلى إعلان الدستور وتأليف حكومة دستورية، ولام مستشاريه على أخطاء الماضي ومظالمه ثم ألغى الجاسوسية وأعلن ترحيبه باستقبال زعماء الثوار فعاد أنور ونيازي على رأس قواتهما إلى سالونيك واستقبلتهم هناك جموع حاشدة متحمسة من اليونانيين والأتراك واطمأن الجميع إلى أن عهد الإرهاب قد زال!
وتدفقت جموع من المنفيين السياسيين الأتراك في تركيا وانضم أكثرهم إلى الضباط الشبان
واشتركوا في جمعية الاتحاد والترقي ثم هرعوا إلى القسطنطينية ينشدون الظفر بنصيب من الغنيمة ويتآمرون للاستئثار بالحكم!
لكن الدول لم تدع الفرصة: فالنمسا أعلنت ضم البوسنة والهرسك إليها نهائيا، وبلغاريا أعلنت استقلالها، وقامت الثورات في ألبانيا وفي بلاد العرب.
ونشط أعوان السلطان والرجعيون فرشوا بالمال جنود القسطنطينية فقتلوا ضباطهم وأعلنوا ولاءهم لدين الإسلام! وللسلطان ظل الله في أرضه وخليفة الرسول!
لكن الاتحاديين تقدموا من سالونيك وقضوا على تلك الحركة الرجعية وعزلوا عبد الحميد وسجنوه في سالونيك وتولى لسلطان محمد الخامس.
لكن نهضة تركيا لم تكن ترضي الدول ولذلك عمدت إلى تحقيق أطماعها فيها، فإيطاليا استولت على طرابلس 1911، وفي البلقان قامت الدول البلقانية ضد تركيا واستطاعت جيوشها أن تنزل بجيوش تركيا الهزائم واضطرت إلى طلب الصلح.
لكن شعوب البلقان المتحالفة ضد تركيا وهي بلغاريا والصرب والجبل الأسود واليونان لم تلبث أن انقسمت على نفسها وقامت الحرب بينهما؛ فأنتهز الأتراك الفرصة واسترجعوا بعض أراضيهم في شرق ووسط تراقيا بقيادة أنور (بك) فخلص هذا النصر شرف العثمانيين.
ولم يمضي عام حتى اشتعلت نار الحرب العظمى ووقفت تركيا بجانب ألمانيا. وكانت نتيجة الحرب وبالا على تركيا ففقدت أملاكها واحتل الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون عاصمتها، وأشرفوا على مرافقها ونزل اليونانيون بأرض الأناضول يطمعون أن تكون تلك البقعة الخصيبة حول أزمر ملكا لهم.
وسط تلك الأزمة الخانقة جاء مصطفى كمال لإنقاذ تركيا.
أبو الفتوح عطيفة
نكسة في دار العلوم!
للأستاذ الطاهر أحمد مكي
كان المستشرقون أول من عني بالبحث في اللغة العربية وأخواتها من اللغات السامية في مطلع العصر الحديث، دراسة منتجة مثمرة، تعتمد على العقل والفكر والاستنباط، وتتخذ مادة درسها من الكتب والآثار والمقارنة، ومن ثم بدأ علماؤهم يجوبون الأقطار العربية وما اتصل بها قديما من أمم، وذهب كثيرون منهم شهداء العلم، اغتالهم الجهال، أو أضناهم العمل، أو أفناهم المرض، أو فتكت بهم الأوبئة!
وقد انتهت هذه البحوث إلى أن اللغات السامية نشأت من أصل واحد، ثم تنوعت بفعل البيئة أو تطورت بعامل الزمن فنشا ما بينها من تفاوت لا يمس أصولها، ولا يقطع ما بينها من رحم، وأن على الباحث في واحدة منها، أن يستهدي أخواتها الأخريات.
فلما تقدمت الحياة العقلية في مصر، رأى الذين يهمهم أمر الثقافة العربية، أن مجال التقدم والابتكار فيها، والكشف عن كنوزها، وتبيان غامضها، ما زال ضيقا، وأن الشرق في تفهمه لآثاره عالة على الغرب، يتابع خطواته، ويتلمس طرائفه، ويتلقى ما انتهى إليه من نتائج قضايا مسلمة!
وكان واضحا أن نقطة الضعف في التفكير العربي المعاصر، أن الذين يتصدون للبحث في شتى أنواع المعارف القديمة، يجهلون اللغة العربية ولا يلمون بدقائقها، مما ينتج عنه سوء فهم لتلك الثقافات، أو خطأ في الإلمام بقضاياها، وكان مخجلا أن يدرس التاريخ الإسلامي أو يؤلف فيه من لا يعرف أصول اللغة وتاريخها ومادته جلها نصوص لغوية وأدبية، أو يتصدى للفلسفة الإسلامية شارحا أو مؤرخا، وهو يجهل التطور الذي أصاب اللغة، فجعل للفظ معناه حين يكون في القاموس مغايرا لمعناه إذا ورد في أساليب الفلاسفة، فكان الخلط والاضطراب والتعثر، ملحوظا لكل من يطالع النتاج المعاصر في الفلسفة أو التاريخ أو الشريعة، وغيرهما من التراث العربي القديم، إذا استثنينا القليل!
ولم يكن هذا الخلط وقفا على الثقافة التي تبعد عن اللغة قليلا أو كثيرا، ب امتد أثره حتى إلى اللغة نفسها، ذلك أن تقدم الإنسانية وسع من إمكانيات الدارسين والمؤلفين، وانتشار الطباعة والتخصص جعل مهمتهم سهلة لينة، وتقدم منهاج البحث العلمي والاستعانة
بالمقارنة جعل من الممكن ملء الفجوات التي تبدو بين معالم الثقافة القديمة، والاهتداء إلى الأصول المجهولة، والتي كانت تعترض القدماء، فيعللونها بالفرض، أو يصلونها بالخيال، أو ينحرفون بها إلى الخرافة!
ومسايرة لهذا المنطق، بدا أن دارس العربية لكي يستفيد منها ويتبين حقائقها، وينير قضاياها، عليه أن يكون عارفا ما استطاع بأخواتها من الفصائل السامية، كالعبرية والسريانية واليمنية القديمة والحبشية، وما جاورها من لغات أخرى، كالفارسية والآرية والتركية، في حدود القدرة والتخصص.
روعي هذا النهج عندما أنشئت كلية الآداب بالجامعة المصرية القديمة، ودعا إليه الدكتور طه حسين دار العلوم العليا في حرارة وقوة عام 1935، عارضا عليها أن تضم إلى الجامعة، على أن تحتفظ باسمها التاريخي المجيد، لتكون معهدا للغة العربية واللغات الشرقية، ولم يقف بدعوته عند هذا الحد، بل اقترح أن تبدأ العناية بهذه اللغات من التعليم الثانوي، لمن يريدون أن يتخصصوا فيها، لكي تكون دراستهم منتجة مثمرة.
ولم يتح لدعوة الدكتور طه حسين أن تجد سميعا إذ ذاك، فطواها على مضض وإن لم ييأس منها، ومضى يهيئ لها الأذهان حتى اختمرت، وأذن لها أن تؤتى أكلها عام 1946، حين ضمنت دار العلوم إلى جامعة القاهرة، لتنتفع بالنهج الجامعي وحريته، ولتأخذ في ركب الحضارة وجهة جديدة، توائم التطور الثقافي الذي انتهى إليه العالم ومصر عقب الحرب العالمية الأخيرة.
أجل، كانت دار العلوم المدرسة قد أدت رسالتها في تنقية الفصحى من أوشاب العامية، وتحرير الألسنة من اللكنة الأعجمية، وفي إعداد المدرس الصالح لأدائها، والكتاب الطيب الملائم للقراءة، وفي تطوير اللغة لتصبح مرآة ناصعة، تنعكس عليها مظاهر الرقي المتعددة، وتتسع ألفاظها للتعبير عن أسمى المشاعر والأفكار. . . . وبقى الشق الآخر من الرسالة، وهو البحث والتقصي والعكوف على القديم لدرسه ونقده وتمييزه، وتتبع مساربه ومجاريه، بعد أن هيئت الوسائل وأكملت الأداة!
ومن ثم شفع ضمها إلى الجامعة إفساح المجال فيها للدراسات السامية والشرقية على الخيار بين واحد منهما، وأحس الطلاب أن شيئا جديدا من الثقافة بدأ يأخذ طريقه إلى أذهانهم،
ليساعدهم في تفهم كثير من المشكلات، كانت تبدو أمامهم معقدة غير واضحة، وكانت هذه العلوم أداة ليصبح عندنا نحو مقارن يرفع الستر عن قصة النحو العربي، متى نشأت، وكيف، وعلى يد من؟. . . ولأي المؤثرات تعرضت. وقل الأمر نفسه عن البلاغة وفقه اللغة، وعن الأدب أيضا.
ولكن البلاغة والنحو والصرف وفقه اللغة والأدب، ليست هي كل التراث الإسلامي، فهناك الفلسفة، وهناك التاريخ، وهناك الشريعة، وما يتصل بهذه العلوم أو يتفرع عنها، وهي علوم محور التبريز فيها أن يكون الدارس لها عارفا باللغة العربية أولا. ولسد هذا الفراغ وتهيئة المجال أمام الراغبين في هذا النوع من الثقافة الإسلامية، رؤى أن تتولاه دار العلوم تبعا، لتحرير بحثه ومادته من سلطان المستشرقين بعد أن ظل وقفا عليهم، مع الانتفاع بنهجهم ومذهبهم في التقعيد والاستنتاج، على أن يتخصص الطلاب في واحدة منهما؛ لتكون إفادتهم كاملة، فكانت شعب التاريخ والفلسفة والشريعة، بجوار الثقافة العربية الأخرى. ولتثبيت هذا المعنى في أذهان الطلاب وتقويته، وليأخذ صبغته القانونية، رؤى أن تكون براءتهم إذا تخرجوا (الليسانس في اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية).
ومضى الركب في طريقه. . .
ثم أذيع أن عميد كلية دار العلوم الأستاذ إبراهيم اللبان، دعا مجلس جامعة القاهرة، إلى تدعيم (معهد اللغات الشرقية) التابع لكلية الآداب، بجعله مستقلا على أن يكون للدراسات الشرقية كلها، أدبا ولغة، تاريخا وحضارة، واستبشر الطلاب والدارسون من وراء دعوته خيرا حين تلقفوها من أفواه الصحف ولكن. . . سرعان ما أعجلتهم الحقيقة، فأخبتت فيهم الأمل، وغاضت البشرى، ذلك أن العميد سبب دعوته، بأن مفتشي اللغة لعربية في وزارة المعارف، يشكون ضعف خريجي دار العلوم الكلية في النحو والصرف، وعزى ذلك إلى مزاحمة اللغات السامية والشرقية فدعا إلى إلغائهما، بل وارتأى ألا حاجة إلى دراسة التاريخ والفلسفة أيضاً ففكر في استبعادهما!
لن أرفع عن زملائي وأندادي تهمة الضعف، فنحن، ما زلنا طلابا رغم التخرج. ولن نزعم لأنفسنا العلم أبدا، فنحن في أول الطريق ومن سار على الدرب وصل. ولن نقول للعميد إن التدريس لتلاميذ الابتدائي والثانوي لا يحتاج إلى مزيد علم، ولا يصلح مقياسا لقوة أو
ضعف، وإن المسائل موضع الخلاف لا تعدو (همزة الوصل والقطع) والإعجام، واختلاف النظرة إلى الكلمة الواحدة، حين تكون العامية خفيفة سهلة، ومثيلتها العربية ثقيلة موحشة. . . لن نقول له إن المدارس اليوم تموج بأناس حظهم من الثقافة متواضع، وجهدهم في التحصيل ضعيف، ونظرتهم إلى التعليم مادية، وإيمانهم بالرسالة معدوم، وإن خريجي دار العلوم وسط هذه الأخلاط، قلة لا يسمع لها صوت، ومواهب لا يترك لها مجال!
لن نقول له شيئا من ذلك كله، لأن رسالة دار العلوم الجامعية يأتي فيها التدريس تبعا لا أصالة كما يقول الأصوليون، وإنما رسالتها أن تنير للطالب الطريق. . . طريق الكشف عن مجاهل الحضارة والثقافة، ثم تقول له سر على بركة الله، ليكتشف ويتأمل ويقنن، مشكورا أخطأ أم أصاب، ونحن جد سعداء، لأن دار العلوم الجامعية أمسكتنا أكثر من مشعل. وأنارت أمام عقولنا أكثر من طريق!
لقد جارينا العميد فيما ارتآه من أننا ضعفاء في النحو، لا تقريرا للواقع بل إسهاما في حل المشكلة، فليسمح لنا أن نخالفه أشد المخالفة، في أن مبعث ذلك هو اللغات السامية أو الشرقية أو التاريخ أو الشريعة، أو تزاحم مختلف المواد، ذلك أن واحدا من هذه العلوم، ليس جديدا في تقريره، وإن تطور في منهاجه، وأن محاضرات اللغة في نحوها وأدبها وفقهها لم تنزل عن المستوى الذي أنشئت عليه منذ أن كانت دار العلوم، بل إن منها ما استحدث كالأدب المقارن، أو خص بعناية في الوقت والدرس والمنهج كفقه اللغة، وإن الذين يطاولنا بهم في النحو من أساتذتنا في الدار وخارجها، كان نصيبهم من الدراسات السامية مضاعفا، فدرسوا العبرية والسريانية، على حين يدرس طلاب اليوم الأولى وحدها، ولم يمنعهم ذلك، إن لم يدفعهم، إلى أن يبرزوا في الميدان، وأن يسدوا إلى الفصحى خدمات جلى!
لقد توسعت دار العلوم في دراسة هذه المواد، ولكن هذا التوسع لم يكن على حساب اللغة أو قواعدها، وإنما كان على حساب علوم دست على الدوار لدوافع استعمارية، كان على حساب الطبيعة والكيمياء والهيئة والصحة والرسم والحساب والجبر والهندسة والجغرافيا، والأشغال اليدوية (!!) وهي علوم كان مؤسفا ومخجلا أن تدرس في معهد عال يعد المتخصصين في اللغة العربية، وأن يشغل بها الطلاب، على حين أن مكانها في المرحلتين
الابتدائية والثانوية!. ويستطيع العميد أن يراجع برامج دار العلوم منذ عام 1872 حتى اليوم، فلن يجد حيفا من اللغة أو علما عدا عليها.
حتى ولو جاريناه في دعوته ونظرته لدار العلوم، وتفهمه لرسالتها على أنها تزويد المدارس بعدد صالح من المعلمين (فإن معلم اللغة العربية محتاج أشد الحاجة إلى أن يكون قادرا على أن يفهم الصلة بين مادة اللغة العربية وأصولها السامية الأولى، فيجب أن يدرس اللغات السامية درسا حسنا، وأن يتقن بعض اللغات الأجنبية الحديثة، وبعض اللغات الشرقية الإسلامية الحية، في شيء من التنويع والتخيير بين هذه المواد)، (فدراسة اللغات السامية دراسة قران، أصبحت الآن ضرورية لكل من يريد أن يلم بتاريخ اللغة العربية إلماما يشمل نشأتها وعوامل انتشارها، واللغات التي أثرت فيها وتأثرت بها، ولكل من يريد أن يدرس فقه اللغة عامة، وفقه اللغة العربية بوجه خاص، دراسة علمية دقيقة. إن طالب دار العلوم في حاجة إلى التزود بمعلومات كافية عن بعض اللغات السامية التي لها علاقة وثيقة باللغة العربية، أسوة بما هو متبع في أوربا، حيث تدرس اللغتان الإغريقية واللاتينية لاتصال اللغات الأوربية الحديثة بهما).
لقد استقبلت دار العلوم حياتها الجامعية من سبع سنوات مزهوة بماضيها، مؤملة في غدها، مقدرة لرسالتها، وكان اندماجها في الحياة الجامعية موضع فخار وإجلال، وتطورها السريع موضع تقدير وإكبار، رعت الأفذاذ من أبنائها فاستردتهم معيدين، وأرسلت بهم وراء البحار دارسين وباحثين، وهيأت لهم من حياتهم العلمية رشدا. . .
ثم، ماذا أقول!. . . إن الحسرات لترعى قلبي، وإن الحزن ليغشي جوانحي، ويكاد الألم يقتلع من عقلي ذكريات علمية عزيزة عليه، لأن الكلية التي شهدتها زاهرة ناضرة، واختزنت لها في حنايا نفسي أروع الذكريات وأنبلها، نكصت على عقبيها، فتراجعت القهقري، لتنطوي على نفسها بعيدا عن الحياة والناس، وأخشى أن يفوتها الركب. . .
لم يعد للنابهين من أبنائها فيها نصيب، فتوقفت عن تعيين المعيدين، وكل جريمتهم أنهم صغار السن شباب، وتوقفت عن إرسال البعثات، لأن سياسة (ليس في الإمكان أحسن مما كان) عادت تطل برأسها من جديد!
ثم أسلمت مكتبتها، مكتبة أعرق كلية تدرس العربية في الشرق - وللجامعة مكتبة - وبها
كثير من النفائس والذخائر، إلى أمين كل مؤهلاته أن يحمل الشهادة الابتدائية، وفي بقية الكليات الأخرى، تنال المكتبة أعظم رعاية وأبلغ اهتمام، ويشترط في أمينها من المؤهلات ما يشترط في هيئة التدريس.
وبعد. . . إني أناشد الذين في دار العلوم - وأنا أعرف من هم علما وفضلا - ضمائرهم وعقولهم، أناشد فيهم تاريخ دار العلوم وحاضرها وغدها. . . إذا لم تستطيعوا السير إلى الأمام فلا ترتدوا.
لا تنقصوا مواد الدراسة، بل زيدوها إذا أحببتم، أنشئوا معهد الدراسات الشرقية، لكن لا تمسوا هذه الدراسة في دار العلوم، خرجوا شبانا يدرسون ويفهمون، أصحاب ثقافة منوعة تسمو بهم عن المحلية، وتحلق بهم في أجواء عالمية فسيحة، أيان توجهوهم يأتوا بخير كثير. . .
إني أناشدكم بكل مقدساتها، ألا تعودوا بها (مصنعا) للمدرسين من جديد!
الطاهر أحمد مكي
رسالة الشعر
الرؤيا الصادقة
بمناسبة الذكرى النبوية
للأستاذ محمد بهجة الأثري
من لحر بات يشكو الوصبا
…
زافرا أنفاسه كاللهب؟
هاجت (الذكرى) شجاه فصبا
…
وانثنى يندب حظ العرب
رب ليل بت موصول الأنين
…
يتنزى شجنى مضطرما
باكيا مجد الشموس الأولين
…
وزمانا بالمعالي معلما
أمة عزت بدنيا وبدين
…
كيف ذات واستحالت أمما؟!
سامها ما سام أقوام (سبا)
…
في الليالي زمن ذو ريب
مثلما تعصف ريح بدبي
…
عصف الظلم بها في الحقب
صحت لما ذقت ذرعا بالشجا
…
أرقب الليل برقراق الدموع:
أيها الليل! أما فيك رجا؟
…
أو ما للصبح من بعد طلوع؟
ثم أغفيت على هم رجا
…
بفؤادي وأنا معي جزوع
فعراني مثل أحلام الصبا
…
طائف في النوم قد طوف بي
هز أشواقي إليه طربا
…
ليته في الصحو يحيي طربي
وتنورت مع الفجر سنا
…
طبق الشرق وجاز المغربا
أطلعته البيد منها موهنا
…
مشرقا بين (حراء) و (قبا)
ساطعا يغمر آفاق الدنا
…
باهر الحسن يروع الغيهبا
فاض يهدي في طريق موكبا
…
يتلألأ في الفلا كالشهب
سالت البيد به مصطخبا
…
جائشاً فوق وهاد وربى
تارة يعلو أهاضيب الصخور
…
لا يبالي ما يلاقي من صعاب
ويخوض الرمل حيناً كالبحور
…
مثلما تمخر فلك في عباب
كلما جد وأضنته الوعور
…
يمتلي عزماً شديداً واصخاب
وإذا رامت رجال مطلبا
…
ذللت كل عصى منصب
وإذا استحلى هواها مأربا
…
وجدت لذتها في النصب
لجب راع فؤاد الملكوت
…
وثنى الشمس إليه والقمر
لم تشاهد مثله في العظموت
…
هذه الدنيا، ولم تسمع خبر
كربت من ذعرها منه تموت
…
قبل أن يأخذه منها النظر
راعها حتى إذا ما اقتربا
…
فرعى أحوالها في حدب
وجدت أنبل قوم رغبا
…
ينشد الخير كريم الرغب
سار يطوي الأرض خفاق اللواء
…
كلما مر بقوم عظما
وهو في كل صباح ومساء
…
يفتح المدن ويهدي الأمما
كاد لما ضاقت الأرض الفضاء
…
يبتغي بالفتح آفاق السما
وإذا حل بواد أخصبا
…
منبتاً أزكى نبات طيب
أمرعت منه البرايا أدبا
…
وحياة حرة المضطرب
وتبينت فتى صلت الجبين
…
لامع الغرة يجلي من بعيد
حف بالبيض بأيدي الدارعين
…
فوق جرد تحتها الأرض تميد
قلت: من ذا؟ قيل لي: ليث العرين
…
قلت: من تعنون؟ قالوا: ابن الوليد
قلت: والأبطال راعت بالطبا؟
…
قيل لي: صحب النبي العربي
قلت: ما يبغون؟ قالوا: أربا
…
جل عن قصد الهوى والغلب
صاح كالضيغم: يا خيل اهذبي
…
ورمى الشرق بلحظ أشوس
قال: هيا، أبلغيني أربى
…
أربى تطهير (بيت المقدس)
فاستطارت في الفضاء الأرحب
…
تنهب الأرض لعز أقعس
واستطارت في فؤادي لهبا
…
لهفة للمشهد المستغرب
ثم شيعت بطرفي الموكبا
…
وبنفسي منه كل العجب
قلت للنفس، وفي النفس جراح
…
كلما ذكرتها نضت دما
وخيول الله تعدو في البطاح
…
، بين عيني، تعض اللجما
فوقها كالقدر العاتي المتاح
…
كل جبار علا مستلئما:
انظري يا نفس هذا العجبا
…
أترين القوم أصحاب النبي؟
كيف لا بست زماناً غربا؟
…
كيف عادت سالفات الحقب؟
وعلا التأذين في الفجر الرهيب
…
موقظاً تهداره كل نؤوم
فتيقظت وفي قلبي وجيب
…
كحبيس الطير في كف ظلوم
مطبقا عيني على الحلم العجيب
…
بالتذاذ أتمنى لو يدوم
خلتني يقظان حتى أكذبا
…
حاضر أبصرته عن كثب
صحت لما بان لي منقلبا:
…
إن هذا أسوأ المنقلب!
حاضر أقبح به من حاضر
…
وثبت فيه على الأيد القرود
قد تجلى عن خؤون غادر
…
دغل النبات جياش الحقود
أخضع العرب لحكم جائر
…
قد قضى أن يستنيموا لليهود
لعب اليوم بهم ما لعبا
…
ولكم جد يرى في اللعب
شقهم لا دولا بل عصبا
…
ثم أشقاهم بحرب العصب!
فيم هاجت بينكم (حرب البسوس)
…
يا معيدي نكبة (الأندلس)؟
أعلى الميراث أحقاد النفوس؟
…
أم على تسليمه المختلس؟
أم بقايا من رمال وضروس
…
هيجت من شهوات الأنفس؟
أخجلوا يا قوم صرتم عجبا
…
في الدنا، بل لعنة في الكتب
ما أضعتم وطناً، بل حسبا
…
أين من يحمي لرد الحسب؟
أمة قد أنسيت أوطارها
…
فأدارت في المناحات الكؤوس
وأثارت للهوى أوتارها
…
والأعادي في مغانيها تجوس!
فمتى ترحض عنها عارها؟
…
ومتى تعبس في يوم عبوس؟
إنما يلعب حر غلبا
…
لا حريب مبتلى بالنوب
أو عزيز سيم خسفا فأبى
…
لا الذي أضحى وطئ المركب
لا تلمها، إنما خذلانها
…
جره التضليل من قوادها
جار عن نهج الهدى ركبانها
…
إذ جروا فوق خطا روادها
كل من تبصره يختانها
…
لا يبين الصدق في إرشادها
في سبيل المال. . من قد كتبا
…
جاذب الساسة حبل الكذب
وانثنى الشاعر عما وجبا
…
ومضى ينعت بنت العنب
يا شباب العرب في شتى البلاد
…
لست أختص شآماً أو عراق
إن لي فيكم وإن عم الفساد
…
أملا أن تحطموا عنها الوثاق
إن جرح العرب محتاج ضماد
…
ضمدوه بدم منكم يراق
وأعيدوا الوطن المغتصبا
…
بالمواضي من يد المغتصب
تبعات الملك شتى أربا
…
سوف تلقى للشباب النجب
اذكروا - الله - مجد الفاتحين
…
واصنعوه مثلما قد صنعا
لا تغروا، مالكم غير (الأمين)
…
أسوة فيما نهى أو شرعا
كل جد في جديد الحاضرين
…
لم يغب عن شرعه فيما وعى
اقرءوا دستوره المنتخبا
…
تجدوه زاخراً بالنخب
هو روح وحياة وهبا
…
صادق الإيمان أسمى الرتب
نسخت آيته في العالمين
…
آية الشمس بآفاق السماء
وتحدى ما بنى في الغابرين
…
عادي الهلك وآفات الفناء
وتعالى فوق مجد المالكين
…
مجده الخالد ما دام البقاء
لو وراء الخلد ملك أو نبا
…
لاحتوى محموده من كثب
كذب المطري سواه كذبا
…
غير مدح التبر مدح الترب
أيها المبعوث بالأمر العظيم
…
جل باري النور! ماذا أطلعا؟
جئت والدنيا يغشيها السديم
…
فأنرت الشرق والغرب معا
طلعت شمسك. . لكن في الحلوم
…
وتسامت عن كسوف مطلعا
كم أزاحت عن عقول سحبا
…
جللتها من ظلام الريب
وجلتها في الأعالي شهبا
…
هاتكات للدجى والحجب
أنت من علم أمثال (عمر)
…
يتحدى بالفتوح الدولتين
أنت من أطلع أبطال السير
…
مثلما تبدي السماء النيرين
أنت من أحيا الأعاريب الغرر
…
وبهم أحييت أهل المشرقين
ثم مالوا عنك ميل، فنبا
…
عزهم، واستهدفوا للنوب
وأقلوا في الحياة الكربا
…
وهوان العيش في المرعى الوبى
يا رسول الله خير المرسلين
…
يا منيل العرب غايات الفخار
قم تأمل حالهم في العالمين
…
كيف بعد العز ذلوا في الإسار
هدموا ما شدت من دنيا ودين
…
فقضى الله عليهم بالبوار
أركضوا الأهواء فيهم خببا
…
ورموا وحدتهم بالشجن
كل من تلقاه ينحو مذهبا
…
ويحهم! لم يتركوا من مذهب
صدعت بيضتهم أشقى الأمم
…
وهمو لاهون. . كل بهواه
جدعت منهم خياشيم الشمم
…
وبغى بعض على بعض وتاه
هل سبيل النجح إيقاظ النقم
…
عمه الجاهل شر من عماه!
ليتهم قد أججوها الهيدبى
…
للعدا لا لابن أم وأب
ويحهم! قد بلغ السيل الزبى
…
غير ذي رفق، وهم في حرب
يا نياما ضيعوا ما ورثوا
…
عهد العلي والشرف!
أفما آن لكم أن تبعثوا
…
سيرة الهادي ومجد السلف
إن (أهل الكهف) قبل انبعثوا
…
من رقاد طال تحت السدف
وأعادوا في الحياة الدأبا
…
ومنال المجد رهن الدأب
فاستفيقوا وأثيروا العربا
…
طال يا قوم رقاد العرب!
بغداد
محمد بهجة الأثري
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
صدرت (الرواية). . بعد أن احتجبت عن قرائها طويلا، صدرت قوية كالعهد بها من قبل، فتحتل مكانها في ميدان القصة الرفيعة والأدب الممتاز.
عادت الرواية بعد أن اكتسح ميدان الأدب، ذلك اللون الفاتر الضعيف الركيك، الذي يهدهد الغرائز، ويحرك الألوان القاتمة في النفوس، عادت لترد للأديب الرفيع مكانته، وللفن الخالص كرامته.
أسبوع النبي
كان ميلاد النبي. . هذا العام قويا حيا. . غاية القوة والحياة.
فقد جاء في الوقت الذي تستقبل فيه مصر حياة كريمة نقية تتمثل فيها صورة البطولة والقوة والحرية.
وقد أقيمت في كل مكان أحفال الذكرى، وكان للأديب فيها مكانه المرموق. . كان الشعر والنثر هذا الأسبوع ملونا منوعا، يصور حياة الرسول الكريم، وجهاده وكفاحه، تمثل ذلك في القصائد المختلفة التي نشرتها الصحف وأذاعتها الإذاعة، وألقيت في الهيئات والجمعيات التي احتفلت بالذكرى. . وفي المقالات، وفي القصص، وفي المسرحيات.
كانت الأقلام التي تعمل في ميدان الأدب والفن كلها تعمل لذكرى الرسول. . . وتصور تلك الشخصية الضخمة التي أضاءت الكون وأفاضت عليه نور الإسلام وهدته إلى التوحيد الخالص.
وإن كان لنا أن نقول شيئا في هذا المجال فهو أننا لا زلنا نطمع أن يتخلص شعراؤنا من القيود التقليدية التي خيمت على الشعر زمنا طويلا خلال العهد الماضي. وأن هذه النفسيات الشاعرة تستطيع أن تتجدد على أفق واسع.
ندوة الشباب المسلمين
وكانت ندوة الشبان المسلمين من أضخم هذه المهرجانات فقد اشترك فيها عدد كبير من شعراء الشباب: الغزالي، ومخيمر، وشعلان، والعوضي، والمنشاوي، والتهامي، والماحي،
وحمام، والعماديين، وجبر، وقاسم.
وألقيت قصائد كان أغلبها في مولد الرسول.
ولا شك أن اشتراك هذا العدد الضخم من الشعراء الناضجين الذين عرفوا بالماضي الحافل في ميدانهم كان من أقوى الأعمال الأدبية التي كللت بالنجاح وكانت تأييدا لدعوة الرسالة التي طالبت بذلك من قبل.
وقد علق على الندوة وعقب على قصائد الشعراء الدكتور إبراهيم سلامة أستاذ النقد بكلية دار العلوم. استمر الدكتور سلامة يتحدث حوالي الساعتين ونصف الساعة، وكانت له طرائف حلوة في التعليق على الشعراء منها قوله:
شعراء المناسبات كحمالي القطارات لا يعملون إلا عندما يصل القطار.
مصطفى حمام هذا الشاعر الذي لم أفهمه، الشاعر الذي يتألم ويرسل زفراته وأناته من شفاه تبتسم. أنه كالرجل الأجرب الذي يجد اللذة في أن يحك جلده.
ولم يدع شاعرا من هؤلاء الشعراء دون أن يبدي رأيه في شعره بصراحة تامة. ومن القصائد الرائعة التي لقيت الاستحسان قصائد مخيمر والمنشاوي والتهامي.
فلسفة التكريم
في حفل التكريم الذي أقيم للأستاذ الفضيل الورتلاني المجاهد الجزائري هذا الأسبوع، في فندق سمير أميس، تحدث المحتفى به بعد انتهاء كلمات التكريم التي وجهت إليه فقال:
(إن حفلات التكريم في ذاتها ليست إلا مظهرا من مظاهر التعبير عن البطولة في ذاتها وتصوير معالمها. وإن الأمر في هذا أشبه بالمعركة التي يقوم بها الجيش حين يقوم بأعمال التمرين والتجارب. ففي هذه الحالة يتخير المهاجمون هدفا محددا، ولو كان ورقة، تصبح في نظرهم ولها صفة الهدف الحقيقي ثم يأخذون في مهاجمتها. وكذلك فعلتم أنتم حين جعلتموني هذا الهدف الوهمي لتصوروا ملامح البطولة كما تحبون أن تتمثل في الأفراد).
الأدب لا يطلب النجدة
كنا قد نشرنا بعض ما فاضت به الصحف في العراق ولبنان من حق الأديب.
وقد قرأنا في جريدة النبأ رأيا جزئيا في هذا المعنى في كلمة عنوانها (الأدب لا يطلب
النجدة) جاء فيها (أن الأدب أجل من أن يطلب النجدة؛ فهو يفرض نفسه فرضا ويخلق له متتبعين إذا قدم لهم وجبات ممتعة فلا يطعمون العدس في كل وجبة.
. . ليس للأديب أن يجأر بالشكوى وهو قابع في صومعته فارضا نفسه غير مسؤول إلا إذا أنجد، فأين البضاعة المعروضة ليصح الطلب؟
إن الأدباء عندنا هم من الشعور بضعف واقعهم بحيث يستترون ثم يروحون ينعون على الجمهور ذوقه وتقصيره.
لم ينكب الأدب إلا الأدب نفسه، فمع قلة البضاعة أضحى البعض قراصنة يستولون عنوة على مال الناس بوسائل شتى ضاربين خير الأمثلة للناشلين.
حوشوا من هذا الحقل هذه الطفيليات فإن الأدب يحتضر. لقد أفزعنا أن نطالع بعض آثار أدبائنا فإذا هم ومحطة الإذاعة سواء بسواء).
والقضية التي يعرضها الكاتب هي قضية الأدب في كل مكان. على الأديب أن ينطلق في الحياة فلا يقبع في برجه العاجي ليكتب للناس من خياله. إن الأدب الواقعي هو الذي ينبع من آلام الناس وآمالهم ورغباتهم وأهدافهم. إن بعض الأدباء الذين أحسوا بأن أسماءهم قد لمعت، نسوا ماضيهم، وتبلد نشاطهم، وفترت حيويتهم ومن ثم جاءت آثارهم الجديدة غاية في الضعف.
ذكرى شكيب أرسلان ومحمود سامي البارودي
تقع في هذا الأسبوع ذكرى رجلين من كبار الرجال في الشرق. . . هما شكيب أرسلان وسامي البارودي. لقد ترك كل منهما من ورائه ذكرا مرفوعا وأثرا قويا في عالمي الأدب والسياسة.
أما شكيب أرسلان فقد عاش حياته مهاجرا. كان مظهرا من مظاهر الشرق الحية في الغرب، وكان منارا لكل شرقي في قلب أوربا. وما من مجاهد أو زعيم أو زائر قصد إلى هناك إلا وأحس بمدى الأثر الضخم الذي يفيضه على الشرقيين هناك.
وكانت الصحف لا تنشر له الفصول الضافية في الأدب والاجتماع والسياسة، وهو الذي علق على كتاب حاضر العالم الإسلامي فأضاف إلى ذلك السفر الصغير فصولا عن حياة المسلمين في مصر والمغرب والعراق وسوريا والهند وإندونيسيا. . غاية في القوة
والوضوح، تعد بحق مرجعا من أوفى المراجع لمن يريد أن يكتب عن قضايا البلاد العربية والإسلامية.
ولم يقف جهد شكيب أرسلان عند التاريخ والسياسة؛ بل كتب عن العرب في الأندلس كتابا مستفيض الصفحات في تصوير الحضارة الإسلامية في ذلك الفردوس المفقود.
وكتب شكيب أرسلان كتابين في الأدب والتراجم غاية في القوة هما كتاباه عن شوقي وعن رشيد رضا.
ويتميز إنتاج شكيب أرسلان بالإسهاب والوضوح والجزالة والتدفق وبيانه غاية في القوة، لأنه يصدر عن قلب يخفق بحب الشرق والإسلام والعروبة، قلب المجاهد الذي عاش مهاجرا، تتمثل له في كل لحظة تلك المعالم الحية، التي يعيش فيها أهله وإخوانه وبني وطنه، وتلك الآلام التي يقاسونها في ذلك الكفاح المرير مع المستعمر والغاصب والمستبد.
أما محمود سامي البارودي، فهو ذلك الشاعر الذي نقل الشعر العربي من مدرسة إلى مدرسة. ونقل الوطنية المصرية من وضع إلى وضع. فهو على رأس الفريق الذي حرر الشعر العربي من قيوده التقليدية وفتح له باب التحديد الذي جرى فيه من بعد.
وكان من بين الفريق الذي وقف في وجه الظلم والطغيان، ظلم الحاكم المستبد وطغيان الاستعمار الغاشم، فكان أحد أولئك المجاهدين الذين حملوا لواء الثورة العرابية.
وقضى محمود سبعة عشر عاما من عمره في جزيرة سيلان منفيا ومبعدا عن وطنه الذي أحبه، قضاها أيضاً في جهاد، فهو لم يلبث أن دعا أهل سيلان إلى الإسلام وعمل حثيثا على نشر دعوته فيهم.
ثم عاد إلى مصر فلم يلبث أن فقد بصره وأمضى الأيام الباقية من عمره منقبض النفس مطويا حزينا.
وهو أول من أنشأ فن (رثاء الزوجة) في الأدب العربي الحديث، فلم يكن هذا اللون معروفا أو مقبولا من قبل حتى جاء محمود سامي البارودي فكتب قصيدته في رثاء زوجته، ثم جاء بعد ذلك عزيز أباظة وعبد الرحمن صدقي فمضيا في هذا الطريق.
ويلتقي شكيب أرسلان وسامي البارودي في ذلك المعنى الذي تحمله النفس المهاجرة لأمد طويل، فقد قضى كل منهما صدر حياته في المنفى، فلما عادا لم يلبثا طويلا.
وإذا كان تاريخ أبطال الثورة العرابية لم يكتب حتى الآن لأن الظلم والغبن كان يحيط بتاريخ الأحرار من الرجال، فقد حق اليوم أن يكتب عن هؤلاء الرجال الذين كتبوا في مصر الحديثة صفحة الحرية، فما بالك وقد كتب محمود سامي البارودي صفحتين في الأدب والسياسة جديرتين بالخلود.
أنور الجندي
المسرح والسينما
مسرحية
غروب الأندلس
تأليف الشاعر الكبير عزيز أباظة
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
لا يستطيع أديب أن يعبر عن آلام الشعب التي تهز كيانه، وأن يصور آماله التي تهفو إليها نفوس أفراده إلا إذا كان يحس إحساسهم ويشعر شعورهم فيضطرب بين ضلوعه ما يختلج في حنايا صدورهم ويعتمل في أطواء قلبه ما يجول في خبايا أفئدتهم، على أن يسعفه إلهام لا ينضب معينه، وفن مبدع تتحلب أفاويقه، ولسان مطاوع يأخذ الألباب بسحر بيانه. فإذا رزق غزارة العقل وحنكة الدهر وتجارب الأيام جلى ما يريد أدبا رائعا نستعذ به الفطر السليمة كما نستعذب الهيم سلسبيل الماء، وتطرب له الجماعة كما يطرب السامرون لرنين الوتر في هدأة الليل وخفقة السحر، وتصغي إليه كل أذن واعية كما يصغي الشوق إلى نغمات المطرب ورنة الغريد. وإن الكلمة البليغة لا تمل تردادها الأفواه، والبيت الرقيق لا تسأم من تكراره الأسماع.
لقد سقت هذه المقدمة بمناسبة ما قدمه الشاعر الكبير الأستاذ عزيز أباظة للمسرح في تلك الأيام. . ألا وهو مسرحيته الشعرية (غروب الأندلس).
وإذا كان الأستاذ قد أتحف المسرح بمسرحيات قيس ولبنى، والناصر، والعباسة، وشجرة الدر، فإن مسرحية غروب الأندلس التي تعرض الآن في دار الأوبرا تعد أقوى ما ألف وأبدع ما نظم من حيث عمقها وبحثها وراء الأسباب التي تنهار من أجلها الشعوب، ومن حيث حكمها وما فيها من توجيهات يجب أن يأخذ بها من يريد للأمم حياة كريمة وصونا من الأقوال والزوال.
ولعمري إن مأساة العرب في الأندلس لتذهب النفس عليها حسرات، وتنسكب الدموع أسى وحزنا على ذلك المصير الذي أرادها فيه ما كان عليه زعماؤها وأمراؤها من تطاحن وتنازع وتفرق كلمة وانغماس في الملاذ والشهوات، والاستعانة بالأجنبي الطامع لقهر
الأهل وذوي القربى.
ولقد كان الأستاذ عزيز أباظة وهو يستوحي التاريخ يتمثل حال مصر في عهودها البائدة، عالما بأسرارها مطلعا على خباياها لما له من خبرة ومنزلة، فتغلي مراجل غضبه ويثور الغيظ في قلبه فيسكبه شعرا تلمس فيه حرارة التأثر مما رأى وبلاغة التأثير فيمل فيمن يسمع ويروى.
ويذكر المؤلف في مقدمة المسرحية أنه نظمها قبل أن يبعث الله لمصر 23 يوليو روحا طاهرا وثابا في جيشها الكريم فيتداركها من السقوط في هوة لا يدرك لها قرار. وما من شك أنه قد أضاف إليها شيئا قل أو كثر بعد هذا العبث الذي نشر مصر على أيدي أبنائها الأخيار.
كم شقيت مصر في عهودها البائدة وتعثرت في خطاها إلى المجد فلم يقلها من عثرتها أولئك المهيمنون عليها، ولم ينهضوها من كبوتها مخافة أن تحرمهم مما انغمسوا فيه من ترف السفهاء وشره الجبناء؛ وأراد الله أن يجعل نهايتهم فجعل في آذانهم وقرا فانكبوا يخضمون ويلغون لا تنغص عليهم لذاذاتهم هذه الأنات المكتومة والزفرات المحمومة. وزادهم الله ضلالا فجعل على أبصارهم غشاوة أعمتهم عن رؤية النذر والنظرات الصاعقة المتوعدة، وأملي لهم فساق لهم عبيدا بعيونهم على اقتراف آثامهم واجتراح كبائرهم فكانت الأقلام الحرة تقصفها القوة الغاشمة، والعزمات الأبية تكبلها القوانين الظالمة، والأفواه الناطقة تقفلها الأيدي الملطخة بدماء الأبرياء. ويا ويل الأمة المغلوبة على أمرها المنهوكة القوى بسبب ما يمتصه رؤساؤها من دماء أبنائها وهم يتطاحنون على السلطة ويتنافسون على بلوغ المناصب بكل الوسائل، فيكيد بعضهم لبعض، ولا يرضى هذا أن يجيء الخير على يدي ذلك، ويضيع أحدهم خيرا محققا في سبيل ما سيكون في بطنه يوم القيامة نارا تتلظى وفي الدنيا سبة وخزيا، لكنه حريص على المنصب ولو كان يكنفه الصغار وتحيط به الذلة والمسكنة. ومن حول الأمة أعداء طامعون في تمزيقها حريصون على استعبادها على توسيع شقة الخلاف بين أفرادها الذين تفرقوا شيعا وراء المتزعمين الضالين.
إن مسرحية غروب الأندلس ويصدقها التاريخ تعرض لكل هذا في حبكة فنية وتسلسل متماسك وبيان أخذ، ولن تقلب صفحة من المسرحية وأنت تقرأ، ولن تمر لحظات وهي
تمثل إلا رأيت وسمعت حكمة بليغة تقع على ما في نفسك موقع البلسم الناجع على الجراح الأليمة فلا تملك إلا أن تمنحها التقدير والإعجاب.
ولا تسكت المسرحية عن التعرض للمعاهدات التي يعقدها القوي مع الضعيف، وآثارها الوخيمة، وذلك التخريج والتأويل الذي يفسره صاحب القوة كما يشاء.
الأمر للأقوى يؤوله كما
…
شاءت له الأطماع والأهداف
ولا يغفل عن الطرق الملتوية التي يسلكونها اكتسابا للوقت وهم يمدون حبال الآمال وخيوط الأماني الواهية فيسوق على لسان الحبر وزير فرديان وهو يخاطب إيزابلا.
لا تقطعي الأمر حتى
…
تصح منا العزيمة
والخير أن تستمر
…
المفاوضات العقيمة
تظل تلهى فتوهى
…
عرى الأمور الجسيمة
ولم يفت الشاعر أن يصور لنا هذه النفسية الوضيعة بطريقة مرحة وهي تداهن وترائي وتغير آراءها وتتلون، زاعمة أن ذلك هو السياسة الرشيدة والله يعلم أنها الخسة والصغار. فالمسرحية تمثل لك ذلك في شخصية أبي القاسم وزير العرب في الأندلس أيام غروبها.
حتى الزواج بالفرنج ومساوئ الضرائر قد وجد له نصيبا في المسرحية وكان له في الغروب تأثير.
وبين هذا العبوس والظلام، وفي وسط هذه المحن والآلام، لا ينسى الشاعر في مسرحيته ذلك الحب ورقته، ورأى النساء في الدلال الذي قد يبعد الحبيب وقد يجره مطواعا وبين الاستجابة التي قد تدنيه أو تنئيه.
إن هذه المسرحية مسوقة لتكون عظة للشرق وعبرة، ولا خير فيمن لا يتعظ بماضيه، فإن الشرق في الواقع لم يصب بالكوارث ولم تتحيفه الخطوب تحيف المقراض، ولم يصبح نهبا مقسوما ولقمة سائغة لا تشجي عند ابتلاعها حلقوما ولا تغص حلقا إلا لتفرق كلمته. ويا ليت أعداءه حسبوا أهله جميعا فهابوهم، بل عرفوا أنهم شتى وأن يأسهم بينهم شديد.
وإذا كنت قد ذكرت لك طرفا مما في المسرحية فإن ما فاتني ذكره كثير. ولم أرد أن أسوق لك نماذج عديدة من حكمها الغوالي ما ذلك إلا لكي ترى وتسمع بنفسك، وعلى كل شيخ وشاب أن يعمل على رؤية المسرحية فهي للشيوخ زاجر وواعظ يدعوهم إلى أن يتركوا
خلافاتهم أو يدفنوا أنفسهم حتى لا يضروا أوطانهم. وهي للشبان حافز ودافع يدعوهم إلى أن يجعلوا أنفسهم للوطن جنة وعدة تقيه السوء وتحميه من كيد الكائدين، ولا ينساقوا وراء الدجالين والمتزعمين المضللين. فإلى الأستاذ الكبير والشاعر المبدع عزيز أباظة أبعث تحية الإعجاب بهذه المسرحية، راجيا أن يقدم للمسرح مثلها أخوات.
عبد الستار أحمد فراج
البريد الأدبي
إلى هالة
للدكتور عبد الوهاب عزام ابنة تدعى هالة وهي صغرى بناته. وقد
رافقت هالة أباها إلى جدة حين كان وزير مصر المفوض لدى الدولة
السعودية العربية، ثم رافقته في سفره إلى كراتشي حين عين سفيرا
لمصر في باكستان. وكانت تقدم القهوة إلى أبيها في ليالي رمضان،
وتحرص على أن تصنعها بنفسها وتقدمها وتأبى أن يشاركها أحد، ثم
تجلس إلى أبيها بعد العشاء، فيحدثها حديث شيخ الأرانب، وهو حديث
طويل بدأ في جدة، واستمر في كراتشي ولم ينته. وكان يملى عليها
الحديث في كراتشي فتكتبه ثم تصور بعض مناظر الحديث تصويرا
دقيقا؛ فصورت الأرانب وهي قائمة للصلاة، وصورا أخرى.
وسافر الدكتور عبد الوهاب عزام إلى كراتشي في هذه المرة وحده، وبقيت هالة في مصر، فأرسل إليها شوقه وحنانه الأبوي بهذه الأبيات:
أهالة إن شط المزار فإنني
…
إليك، على نأي الديار، قريب
حديثك عندي، والخيال يطيف بي،
…
له في خيالي جيئة وذهوب
ولكنني والحق أشتاق قهوة
…
يضوع شذاها في يديك، تطيب
تزفينها بعد الطعام محرماً
…
لغيرك فيها شركة ونصيب
وأشتاق من شيخ الأرانب مجلساً
…
أحدث فيه والخيال خصيب
وخطك ما أمليه تسطير حاذق
…
وضحكك منه، والحديث عجيب
وتصوير ما سطرت تصوير حاذق
…
يزيد بياني روعة ويجيب
لأذكر صفا للأرانب قائما
…
يصلي منيبا، من رآه ينيب
يكاد من الإتقان يسجد خاشعا
…
ويسمع منه في الخشوع وجيب
وجمعا دعاه للصلاة مؤذن
…
وأحسن فيه قارئ وخطيب
فليتك عندي كي أتم حديثها
…
وذلك تحديث إلى حبيب
كراتشي:
عبد الوهاب عزام
شونبرون لا شمبرون
قرأت قصيدة الشاعر الكبير عزيز أباظة ليسمح لي حضرته أن أوجه نظره إلى غلطتين:
الأولى - غلطة في اسم قصر (شمبرون) إذ صحة الاسم (شونبرون) وهو القصر الذي اعتقل فيه ابن نابليون بعدما هزمت جيوش الحلفاء وعدد جنودها 300 ، 000 الجيش الفرنسي الذي كان تحت إمرة نابليون نفسه وعدد جنوده 50 ، 000 في واقعة واترلو المشهورة في 18 يونية سنة 1815 وفي أثرها تنازل نابليون عن العرش في 23 يونية سنة 1815 ثم سلم نفسه إلى إنجلترا، والحكومة الإنجليزية نفته إلى جزيرة سانت هيلانة وبقى في المنفى إلى أن توفى في 5 مايو سنة 1821 وعمره 51 سنة.
أما ابنه - وكان عمره أربع سنوات وبضعة شهور - فقد أطلق عليه أبوه عقب ولادته لقب ملك روما؛ إلا أن ماري لويز لما تزوجت بعد نفي زوجها إلى جزيرة سانت هيلانة سمته أمير بارم؛ ثم سلمته إلى أبيها فرانسوا الثاني إمبراطور النمسا فسماه دوق دي رايشستاج؛ ولكن فرنسا آثرت أن يبقى له لقبه الأصلي الذي تلقاه عن أبيه وهو ملك روما. وكان الحلفاء أرادوا تنصيبه ملكا على بلاد اليونان أو على بلاد بولونيا، إلا أن البرنس مترينك كبير وزراء إمبراطورية النمسا اعتقله في قصر شونبرون وبقى معتقلا إلى أن توفاه الله في 22 يولية سنة 1832.
وقد زرت هذا القصر قبل قيام الحرب العالمية الأولى ورأيت من آثاره التاريخية سرير ابن نابليون وهو السرير الذي قدمته بلدية باريس هدية إلى الإمبراطور نابليون عقب ولادة ابنه في 20 مارس سنة 1811.
الثانية - غلطة لغوية في قوله (واحتوتنا سيارة تنهب الأرض) وكلمة (تنهب الأرض) غير صحيحة والصحيح تنتهب الأرض.
عزيز خانسكي
1 -
لمن هذا الشعر
أخبرني صديقي القصاص الموصلي الأديب جلال الخياط - وهو يعرف ولعي بجمع شعر شوقي وتتبع آثاره - أنه قرأ في كتاب لا يذكر اسمه الآن هذين البيتين منسوبين إلى شوقي مع القصة التالية:
في عهد الخديوي عباس حصلت جفوة بين الأمير وشاعره؛ وبعد توسط الوزراء قابل شوقي الخديوي في مقره الرسمي وكان بينهما عتاب فارتجل شوقي البيتين التاليين:
أليس من العز الممنع أن ترى
…
أمير القوافي في ركابك جاثيا
فو الله لولا العرش الذي أنت ربه
…
لما زعزعتني قوة من مكانيا
واستدل الأديب الموصلي بقوله (أمير القوافي) أنها لأبي علي، أما أنا فلم أقرأها في مكان؛ فهل هي لأمير الشعراء أم لغيره؟ هذا ما أحب أن يتفضل علي به القراء الكرام.
2 -
عودة الرواية
قرأت الإعلان الذي نشر مؤخرا بمجلة (الرسالة) عن عودة مجلة (الرواية) إلى الظهور لقراء العربية فغمرتني نشوة من الفرح. وكيف لا يفرح مثلي وقد كانت خير موسوعة للقصص العربية الموضوعة والعالمية المترجمة. ومن عرف أن أستاذنا الجليل الزيات صاحب البيان الساحر والقلم الشاعر سيقدمها إلى قرائه المعجبين يدرك كيف ستكون، وليس لي إلا أن أمد يدي مصافحا ومهنئا ذاته العظيمة وقراءه الأعزاء بهذه البشرى السارة فإلى الأمام يا صاحب (دفاع عن البلاغة)
بغداد
عبد القادر رشيد الناصري
رد ونقد
خطأ بعضهم استعمال (نعاه ينعيه) واستشهد بقول الشاعر:
زعم العواذل أن رحلتنا غدا
…
وبذاك (ينعانا) الغراب الأسود
وأقول أنه ورد في بعض المؤلفات القديمة فقد جاء في (حياة الحيوان) في الكلام على
(البوم) ما نصه: ورأيت في بعض المجاميع بخط بعض العلماء الأكابر أن المأمون أشرف يوما من قصره فرأى رجلا قائما وبيده فحمة وهو يكتب بها على حائط قصره، فقال المأمون لبعض خدمه اذهب إلى ذلك الرجل وانظر ما يكتب وائتني به، فبادر الخادم إلى الرجل مسرعا وقبض عليه وتأمل ما كتبه فإذا هو:
يا قصر جمع فيك الشوم واللوم
…
متى يعشش في أركانك البوم
يوم يعشش فيك البوم من فرحي
…
أكون أول من (ينعيك) مرغوم
ثم إن الخادم قال له أجب أمير المؤمنين فقال له الرجل سألتك بالله لا تذهب بي إليه. فقال الخادم لا بد من ذلك ثم ذهب به. فلما مثل بين يدي المأمون أعلمه الخادم بما كتب، فقال له المأمون ويلك ما حملك على هذا، فقال أمير المؤمنين أنه لن يخفى عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحلي والحلل والطعام والشراب والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك مما يقصر عنه وصفي ويعجز عنه فهمي، وإني يا أمير المؤمنين قد مررت الآن عليه وأنا في غاية من الجوع والفاقة فوقفت مفكرا في أمري وقلت في نفسي هذا القصر عامر عال وأنا جائع ولا فائدة لي فيه فلو كان خرابا ومررت به لم أعدم منه رخامة أو خشبة أو مسمارا أبيعه وأتقوت بثمنه، أو ما علم أمير المؤمنين ما قال الشاعر؟ قال وما قال الشاعر؟ قال:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ
…
نصيب وإحسان تمنى زوالها
وما ذاك من بغض لها غير أنه
…
يرجى سواها فهو يهوى انتقالها
فقال المأمون أعطه يا غلام ألف دينار ثم قال له هي لك في كل سنة مادام قصرنا عامراً بأهله.
وجاء في (نور الأبصار) في الكلام على (مناقب السيدة فاطمة بنت الحسين) ما نصه: لما قتل الحسين رضي الله عنه جاء غراب فتمرغ في دمه وطار حتى وقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين ابن علي رضي الله عنهما وهي الصغرى فرفعت رأسها ونظرت إليه وبكت بكاء شديدا وأنشأت تقول:
نعق الغراب فقلت من
…
(تنعيه) ويحك يا غراب
قال الإمام فقلت من
…
قال الموفق للصواب
الخ. . . فنعته لأهل المدينة فما كان بأسرع من أن جاءهم خبر قتل الحسين رضي الله عنه انتهى.
أما الشاهد فلا أعرفه وأخشى أن يكون محرفا عن بيت النابغة وهو:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
…
وبذاك تنعاب الغراب الأسود
والبيت قبل علاجه من عيب (الإقواء) هكذا:
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
…
وبذاك خيرنا الغراب الأسود
انظر قصة البيت في الأغاني وغيره.
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
أين كنا. . وكيف أصبحنا؟!. .
كنا سادرين في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الإنسان يده لم يكد يراها، وقد تحالفت علينا العلل الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية. فأصبحنا نعيش في النور، تظلنا الحرية بلوائها الجديد، وظلها الوارف المديد!. . .
كنا نعيش في مجتمع أنهكته العلل، ودب فيه الفساد، وتغلغل في كل مرافقه وأركانه، وتحكمت في مصيره طائفة صرفتها مصالحها الشخصية عن مصالح الوطن، فأصبحنا نعيش في مجتمع صححت أوضاعه، وعولجت أدواؤه!
كنا أمة تفرقت كلمتها، وتعددت أحزابها، كل حزب بما لديهم فرحون. . يكبد بعضنا لبعض. . فضعفت قوتنا، وتبعثرت جهودنا، وضربت الفوضى علينا إطنابها، وقعد الكثيرون عن العمل المجدي المثمر. . . فأصبحنا أمة صهرتها الأحداث، فجعلت منها كتلة واحدة، يحدوها هدف واحد، وتسعى إلى غاية واحدة، شعارها (الاتحاد والنظام والعمل)!
كنا نعيش بلا أمل. . فأصبحنا نعيش والأمل يملأ قلوبنا، والإيمان يعمر صدورنا. .
فأين كنا بالأمس؟! وكيف أصبحنا اليوم؟!
إنها رحمة الله الواسعة أدركتنا، فإنتشلتنا من وهدتنا. . . ونعمته الكبرى أظلتنا. . . فلنتحدث بنعمته. . . ولنسأله المزيد من رحمته!
عيسى متولي
القصص
كرد علي
للقصصي الروسي بوشكين
(كرد علي) بلغاري بمولده. وهذا اللقب في اللغة التركية يطلق على ذوي الجرأة والقوة، ولا أعرف ما هو أصل الاسم الذي يتسمى به بطل هذه القصة فقد أطلق عليه لقب (كرد علي) وعرف به وأصبح شخصية مخوفة مرعبة في أنحاء (مولدا فيا) لكثرة ما يرتكبه من العدوان.
ولما أعلن إسكندر أبسلانتي الثورة وأخذ في حشد المتطوعة جمع له كرد على أصحابه القدامى من قطاع الطرق ومن على شاكلتهم وكان هؤلاء لا يدركون حقيقة السبب في نشوب الثورة؛ فقد كان مثيرها يبغي من ورائها تحرير اليونان. ولكنهم كانوا يرون في الحصول على الثروة من أسلاب الأتراك أو أهل مولدا فيا سببا كافيا لنشوب أية ثورة.
وكان إسكندر أبسلانتي شجاعا، ولكن لم يتوافر لديه من الصفات ما يكفي لتنفيذ المهمة التي اضطلع بها، فلم يستطع السيطرة على رجاله الذين لم يكونوا يحترمونه ولم يكونوا يثقون به.
وبعد الموقعة التي أفنى فيها زهرة الشباب اليوناني أشار عليه يوردا كي ألمبيوتي بالتخلف. وتولى هو مكانه. وهرب أبسلانتي إلى حدود النمسا ثم أرسل لعناته إلى الشعب الذي كان يقوده واصفا رجاله بأنهم خونة جبناء سفلة.
ولكن هؤلاء الموصوفين بالخيانة وبالجبن هلكوا تحت أسوار معبد سيكوا أو على ضفاف نهر بروث وهم يدافعون دفاع المستميت جيشا يربو عدده على عشرة أمثال عددهم.
وكان كرد علي في فرقة جورج كانتا كوزين الذي يصح أن يقال عنه ما قيل عن أبسلانتي.
وفي الليلة التي حدثت فيها موقعة أسكولانا أستأذن كانتا كوزين السلطات الرسمية، وتخلف عن فرقته منضما إلى جيشنا فبقيت فرقته بغير قائد، ولكن كرد علي وسفيانوس وكانتاجوني وغيرهم لم يكونوا بحاجة إلى قائد.
ولم توصف موقعة أسكولانا على ما يظهر بالوصف الذي تستحقه فتخيل سبعمائة رجل من
الألبان واليونان والبلغار وحثالات كل الأجناس وليس فيهم من يعرف شيئا عن فنون الحرب. . . تخيل هؤلاء أمام خمسة عشر ألف فارس من فرسان الجيش التركي العظيم.
عسكرت هذه الفرقة أمام نهر بروث وأمامها مدفعان قل في الفرقة من يعرف كيف يستعملان. وكان بود الأتراك أن يبدءوا بإطلاق النار ولكنهم في تشبث وعناد أرادوا أن نكون نحن البادئين.
وكان قائدنا بحمد الله لم يسمع قط صوت رصاصة تطلق، فلما بدأ الجيشان بإطلاق الرصاص في الهواء نفر سمعه، ونفد صبره، وتقدم جيشنا متوعدا الجيش التركي بثباته ثم ارتبك فلم يعرف ماذا يفعل. ثم بدا له أن يجري فجرى على شاطئ النهر وجرى وراءه جيشه. وفي أثره كتلة الجيش التركي.
وكان هذا القائد الذي هدد جيش الترك بإصبعه يدعى خوتشفسكي ولا أعرف ماذا صار إليه أمره.
وفي اليوم التالي هاجم الأتراك الثوار وعلى خلاف عادة الترك لم يستعملوا المدافع، بل استعملوا السلاح الأبيض، فكنت ترى الرمح في يد كل جندي. ولم يكن الأتراك قد استعملوا الرماح من قبل. وكانت رماحهم روسية سلبوها من جنودنا في موقعة سابقة. جرح كرد علي في تلك الموقعة، وقتل سفيانوس. وكان كانتا جوني عظيم الجسم فأصابته حربة في بطنه فاستل سيفه بإحدى يديه، وقتل نفسه حتى لا يموت بسلاح العدو.
وبانتهاء هذه الموقعة تم النصر للأتراك. وخلت مولدا فيا من الثوار إلا ستمائة ألباني تشردوا في أنحاء بسار أبيا. ومع أنهم كانوا لا يكادون يحصلون على القوت فإنهم كانوا شاكرين حماية روسيا وكانوا يرون جلوسا في المقاهي الصغيرة في بسار أبيا التركية الروسية وعلى أفواههم أقداح القهوة. وقد أخذت الرثاثة تبدو على أكسيتهم الملونة وأحذيتهم الحمراء. ولكن طرابيشهم المطولة ذات الزر الطويل كانت لا تزال مائلة إلى أحد الجانبين. وكانت الخناجر والمسدسات لا تزال على مناطقهم ولكن أحدا لم يشك فيهم، فقد كان من المحال أن يتصور إنسان أن هؤلاء المساكين بقية من ثوار مولدا فيا زملاء كرد علي وأن كرد علي نفسه كان بينهم.
على أن الباشا التركي علم بهذه الحقيقة وطلب إلى السلطات الروسية عملا بالمعاهدات أن
تسلمهم إليه فاعتقلتهم ولم ينكر كرد علي شخصيته ولم ينكر ماضيه وقال:
(ولكنني منذ عبرت نهر بروث على أثر الموقعة لم أمد يدي على أي إنسان، وقد يكون الأتراك وأهل مولدا فيا محقين في عداوتهم إياي لأني كنت أقطع الطريق عليهم، ولكنني ضيف على الروس فلماذا يسلمونني إلى أعدائي؟)
وبعد هذا القول لزم الصمت وانتظر في هدوء ما تقضي به الأقدار في شأنه. ولم يطل أمد انتظاره فإن السلطات لا تنظر إلى قطاع الطريق نظرة العطف التي يلقيها عليهم الكتاب والشعراء لانصرافهم إلى الجانب الروائي من حياتهم. ومن أجل ذلك سيق كرد علي مكبلا بالحديد فكان يبدو من النظر إلى وجهه أنه ابن الثلاثين. وقد كان طويل القامة عريض الكتفين عظيم القوة عليه علائم الخشونة ونظراته زهو وسكينة.
ودخل غرفته في السجن موظف تركي أحمر الوجه أشيب الشعر يرتدي ثوبا عسكريا قد سقطت منه ثلاثة أزرار. وفي وجهه كتلة حمراء من اللحم مثقوبة تقوم في ذلك الوجه مقام الأنف. وكان في يده أوراق أخذ يتلوها وهو بين حين وحين ينظر إلى كرد علي وهو يصغي إليه باهتمام.
وبعد أن فرغ الموظف من القراءة طوى الأوراق وصاح في خشونة بأن يحمل السجين إلى مدينة جاسا، فالتفت كرد علي إلى الموظف وتمتم في صوت يتهدج، وقد تساقطت من عينيه العبرات وقد تغير شكله تغيرا عظيما؛ وعرته رعشة جعلت لأصفاده وأغلاله رنينا أزعج الموظف فتقهقر ثم صدع السجين بالأمر فاستسلم للجنود الذين حملوه إلى عربة جرت به في الطريق.
قال موظف صغير لذلك الموظف العسكري: (ما الذي قاله لك كرد علي؟) فأجاب وهو يبتسم: (لقد إلي أن أعنى بزوجته وبابنه اللذين يعيشان غير بعيد في مدينة كيليا وهي من قرى بلغاريا فإنه يخشى أن تؤذيهم الجماهير بسببه والجماهير حمقى.
ووصل كرد علي إلى مدينة جاسا فحوكم أمام الباشا فحكم بإعدامه، ولكنه أرجأ موعد التنفيذ إلى يوم عيد. وحجز المحكوم عليه في السجن إلى أن يحين الموعد.
وتولى حراسته في السجن سبعة أتراك هم في صميم أنفسهم لا يختلفون شيئا عن كرد علي لأنهم قطاع طريق مثله. ولذلك كانوا يحترمونه ويصغون في دهشة ولذة إلى ما يقصه
عليهم من الأحاديث.
ونشأت بين السجين وبين حراسه مودة وصداقة. وفي يوم من الأيام قال لهم كرد علي: (أيها الإخوان! إن ساعتي قريبة وليس يستطيع إنسان أن يفر مما قدر عليه، فسأترككم ولكني أريد أن أترك لكم أثرا تذكرونني به)
أرهف الأتراك آذانهم ليسمعوا، واستمر كرد علي يقول:(أيها الإخوان! منذ ثلاثة أعوام كنت من قطاع الطريق في منسر ميخالاكي. ودفنا بالقرب من هذه المدينة آنية مملوءة بالمال. ثم منعتنا ظروف الثورة والحرب عن أن نستردها وسأدلكم عليها فهي لكم)
كاد الأتراك أن يفقدوا وعيهم، وكان السؤال الوحيد الذي يخطر ببال كل منهم هو كيف يستطيع الوصول إلى مكان هذه الآنية. ورأوا أنهم لا يستطيعون ذلك إلا بإرشاد السجين نعسه. فلما أقبل الليل، فكوا الحديد على يديه ورجليه وربطوه بحبل ثم أطلقوه وساروا خلفه خارجين من المدينة.
قادهم من مكان إلى مكان فمشوا مسافة طويلة. وأخيرا وقف أمام صخرة عظيمة وقال: هنا تحت هذه.
وقف الأتراك يتدبرون. لما استقر رأيهم اخرج أربعة منهم الخناجر، وأخذوا يحفرون بها حول الصخرة. وبقى ثلاثة منهم في الحراسة. وجلس كرد علي فوق الصخرة ينظر ويترقب؛ ثم قال بعد مدة: ألم تجدوها؟ فقالوا كلا.
فأظهر أنه فقد صبره وقال: من أي نوع من الناس أنتم؟ حتى حفر الأرض لا تستطيعونه؟ إنني كنت أفرغ من عملكم هذا في دقيقتين. حلوا وثاقي وأعطوني خنجرا.
ففكر الأتراك ثم قالوا؛ أي ضرر في إجابته إلى ما يطلب؟ نحن سبعة. فلنحل وثاقه ولنعطيه خنجرا.
وما أغرب الشعور الذي شعر به عند ذلك! لقد تناول الخنجر وأخذ يحفر. وفي أثناء عمله أغمد الخنجر في صدر أحدهم وتركه في صدره واختطف من منطقة المصاب مسدسين.
وما يزال كرد علي إلى اليوم يقطع الطريق بالقرب من جاسا وقد كتب منذ أيام إلى حاكم المدينة يطلب إليه في مكان عينه خمسة آلاف ليقي، متوعدا بأنه إن لم يرسلها فهو ميت لا محالة.
وقد أرسل إليه هذا المبلغ.
وهذا هو كرد علي.
ع. ق