المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1015 - بتاريخ: 15 - 12 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠١٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1015

- بتاريخ: 15 - 12 - 1952

ص: -1

‌فرنسا أم الحرية!

للأستاذ سيد قطب

هذه هي فرنسا. . أم الحرية. . كما يقول العبيد الكثيرون المنتشرون في مصر والشرق العربي!

هذه هي فرمسا بلا تزويق ولا دعايات براقة. فرنسا كما تصفها أعمالها، لا كما تصفها الأقلام الخائنة، والألسنة الخادعة، أقلام العبيد، وألسنة العبيد، المنتشرين في مصر والشرق العربي!

هذه هي فرنسا. . عصابة من قطاع الطرق. . عصابة متبربرة متوحشة، تترصد للزعماء السياسيين فتقتلهم غيلة وغدرا، وتمثل بجثثهم في نذالة وخسة. . ثم تقف لتتبجح على ملأٍ من الدنيا كلها، لأن هذه الجرائم مسألة داخلية لا يجوز أن يسألها أحد عنها!

هذه هي فرنسا تقف كاللبؤة، فمها يقطر من دم الزعيم البطل (فرحات حشاد)، والدنيا كلها ترقبها وهي تلغ في الدم ولكنها لا تخجل، لأن فرنسا (الحرة!) قد ضيعت دم الحياء، وهي تلغ في دم الشهداء!

هذه هي فرنسا التي تهجد بذكراها، وسبح بحمدها وصلى، رجال ممن يقال عنهم أو عن بعضهم إنهم من قادة الفكر.

ومنذ قرن وربع قرن؛ وفرنسا تمثل مسرحيتها الوحشية هذه على مسرح الشمال الأفريقي، منذ احتلالها للجزائر في عام 1830. وفي خلال تمثيل هذه المسرحية البشعة كان العبيد ينشدون نشيدهم الدائم باسم فرنسا. فرنسا حامية الحرية.

وفرنسا تكرم هؤلاء العبيد الذين يخدعون شعوبهم، ويخونون أوطانهم، ويخدرون جماهيرهم، ويمسحون عن فم فرنسا القذر آثار الدماء. . ومن العجيب أننا نحن أيضاً كنا نكرمهم كلما كرمتهم فرنسا؛ ونرفع أقدارهم كلما رفعتها فرنسا، وتهيئ لهم المناصب والمراكز، التي تمكنهم من خدمة أمهم فرنسا!

ونبحث اليوم عن هؤلاء العبيد. من قادة الفكر، نبحث عنهم ليقولوا كلمة واحدة عن الجريمة الوحشية الجديدة، فلا نجد لهم أثرا. لا يثور ضمير واحد منهم فيقول كلمة. ولا يرتعش قلب واحد منهم أمام الجثة المشوهة العالم. جثة البطل الذي جبنت فرنسا عن

ص: 1

مواجهته، فقتلته غيلة وغدرا!

إن جريمة فرنسا الجديدة هي جريمة الضمير الغربي كله ففرنسا لا ترتكب جرائمها إلا وهي مسنودة الظهر بالعسكر الغربي. لا ترتكبها إلا وهي تستند إلى إنجلترا إلى وأمريكا.

إن الضمير الغربي كله، بكل ما فيه من وحشية عميقة الجذور.، ليتمثل بوضوح في تلك الجريمة. إنها جريمة الديمقراطية، جريمة (العالم الحر). جريمة الحضارة التي يدعونا العبيد الكثيرون المنتشرون في مصر والشرق الغربي، من قادة الفكر أن نترك عقائدنا وتقاليدنا وتاريخنا وأمجادنا، لتلهث وراءها، كيما نرتقي ونتحضر، ونلحق بركب العالم المتحضر! العالم الذي يقتل الزعماء الوطنيين غيلة وغدرا، ويمثل بجثثهم في نذالة وخسة!

إن هذا الضمير الذي أوحى لفرنسا بأن تقتل الزعيم التونسي وتمثل بجثته، لهو ذات الضمير الذي أوحى إلى الإنجليز أن تلقي بالجرحى من الفدائيين في القتال، إلى الكلاب المتوحشة لتنهشهم وهم بعد أحياء، لا يملكون دفعها عن أجسادهم لأنهم جرحى.

وهو ذاته الضمير الذي شاهدته بعيني في أمريكا. والبيض يتجمعون على شاب زنجي بمفرده، ليضربوه ويركلوه ويدهسوه بكعوب نعالهم حتى يخلطوا عظمه بلحمه، في الطريق العام، والبوليس لا يحضر أبدا إلا بعد إتمام الجريمة وتفرق الجماهير المتوحشة الهائجة كوحوش الغابة.

إنه هو هو ضمير العالم المتحضر. العالم الذي تسبح بحمده أقلام خائنة، وألسنة خادعة. ومن بين هذه الأقلام أقلام قادة الفكر، ونحن ببلاهة منقطعة النظير نصفق للخونة ونهتف للخادعين، ونرفعهم مكانا عليا. . ونهيئ لهم المناصب والمراكز التي يتمكنون بها من تنفيذ جريمة الخداع والخيانة!

ولدينا في مصر والشرق من عبيد فرنسا من يقولون لنا: لا تكتبوا هكذا، لئلا نخسر صداقة فرنسا. ونحن - كمصريين - لا بد أن نلاحظ مصالحنا القومية، وألا نندفع مع حماسة العاطفة!

إلى هؤلاء العبيد أوجه سؤالي: متى كانت فرنسا صديقتنا؟ متى وقفت في صفنا مرة واحدة في التاريخ كله؟ وفي أي مظهر من المظاهر تمثلت لنا صداقة فرنسا؟

فرنسا هي التي قادت الحملات الصليبية على الشرق العربي منذ تسعة قرون، وكانت

ص: 2

جيوشها الصليبية أشد جيوش الصليبين ضراوة وإجراما وفتكا.

وفرنسا هي التي خانت مصر في قناة السويس، فاستغفلت (محمد سعيد) وإلي مصر بطبق من (المكرونة) بواسطة ديلسبس المحتال الذي تحتفظ مصر بتمثاله على مدخل قناة السويس إلى هذه اللحظة. وسرقت ملكية القناة من مصر، وقد أنشأتها في أرضها بمالها وعمالها ونصيبها من الربح، وحقها في الإشراف. وهي تعمل اليوم جاهدة لإتمام سرقة القناة في نهاية مدة الامتياز بوسائل شتى.

وفرنسا هي التي خانت عرابي، ومهدت للاحتلال الإنجليزي؛ ومعركة التل الكبير ما كانت لتقع لولا خيانة ديلسبس لعرابي. وما كانت الجيوش الإنجليزية بقادرة على هزيمة مصر في معارك تقع من الغرب في الدلتا. ولكن الخيانة الفرنسية قد آنت ثمارها وما زلنا نعلك هذه الثمرة المرة حتى يومنا هذا.

وفرنسا هي التي قاومت كل المقاومة إلغاء الامتيازات في مؤتمر مونتريه وعرقلت جهود مصر في إزالة آثارها النهائية. وكانت تعض على هذه الامتيازات بعنف، فلا تدعها تفلت إلا بعد معارك حامية في المؤتمر لا نزال نذكرها.

وفرنسا هي التي وقفت تسند إنجلترا بعنف في مجلس الأمن ضدنا. وكان لسان مندوبها في المجلس هو أقسى الألسنة علينا. وقد تجاوز حد الجدل السياسي إلى الوقاحة والسباب والتهكم. وهذه محاضر مجلس الأمن بخصوص قضية مصر القومية الكبرى تشهد بمدى (صداقة) فرنسا!

وفرنسا هي التي تحارب ثقافتنا وكتبنا وصحافتنا في الشمال الأفريقي كله. ولقد عجز الدكتور طه حسين وهو في وزارة المعارف - وهو أصدق أصدقاء فرنسا - أن يفتتح معهدا لمصر في الجزائر. أو حتى في طنجة التي تحكم دوليا بسبب تعصب صديقته الكبرى فرنسا!

وفرنسا هي التي تحارب جلاء الجيوش الإنجليزية الآن عن مصر، وتكافح كل حركات التحرير - لا في الشرق العربي وحده، بل كذلك في جميع أطراف الدنيا - ومع هذا كله فإن فرنسا هي حامية الحرية الكبرى!

هذه هي صفحة (صداقة فرنسا) فأي سطر فيها هو الذي نخشى أن نشوهه أو أن نطمسه.

ص: 3

ومتى وأين وكيف كانت هذه الصداقة التي نخشى عليها؟!

وبعد فإن الكلمات لم تعد تجدي. . أنه لا بد من إجراء يتخذه كل بلد عربي - بل كل بلد إسلامي - لكفاح فرنسا. وكفاح العالم الاستعماري الذي يسندها.

وأول إجراء في نظري يجب أن يتخذ هو إقصاء المسبحين بحمد هذا العالم من حياتنا الفكرية والشعورية. لأن قوى الاستعمار تسندهم، وتمكن لهم في وظائف الدولة وفي الأسواق ودوائر الأعمال.

إنه لا بد أن نتحرر فكريا وشعوريا من عبادة (العالم الحر). العالم المتحضر، العالم الذي يغتال الزعماء ويمثل بجثثهم في نذالة. والذي يلقي بالجرحى إلى الكلاب المتوحشة لتنهشها. والذي يتجمع كالوحوش الهائجة على شاب ملون فلا يتركه حتى والدماء الغزيرة تتفجر من فمه وأنفه ورأسه.

وحين تتحرر مشاعرنا من عبادة هذا العالم المتعفن. وحين تتجمع أحقادنا المقدسة ضد هذا العالم، حين نمسي ونصبح وهذه الأحقاد المقدسة تغلي في عروقنا. . حينئذ سنعرف كيف نتخلص من العبودية. إن عبودية الضمير هي التي تخضعنا. فلنتحرر منها أولا، ولنخرس كل صوت، ولنكسر كل قلم يحدثنا حديث العبيد، العبيد الكثيرين المنتشرين في مصر والعالم العربي.

سيد قطب

ص: 4

‌الإسلام دين الفطرة والحرية

للأستاذ محمود عبد العزيز محرم

رحم الله الأستاذ عبد العزيز جاويش فقد أمضى عمره مكافحا دون وطنه ودون دينه. وخرج من الدنيا كما خرج المجاهدون أمثاله من غير نسب ولا جاه ولا مال. وحسبه من مجد الدنيا وزخرفها أن يذكره الناس من بعده بكل خير وجمال ومعروف، وأن يبعثوا إليه في مثواه الأخير بتحيات عاطرة خارجة عن حدود المادة وحدود الضرورة، إنما هي تحية روح إلى روح، جزاء ما قدم للدين والوطن من نفسه وماله ونشاطه.

لم تكن حياة هذا البطل المجاهد سهلة ولا ميسرة، وهو لم يرد أن يقنع في حياته هذه بما ييسر لكثير من الناس، فيرضى به، ويقبل عليه، ولا يرى بأسا في الركون إليه ولو إلى حين، فيكفي نفسه مشقة الجهد والبذل والدءوب. بل أرادها حياة واسعة في مجال واسع، حتى يستشعر لذتها وبهجتها، كلما ضرب هنا وهناك في فجاج الأرض وأقطار المعمورة، وكلما جرد قلمه منافحا عن وطنه الذي ذل تحت أقدام المستعمرين. وكلما سود الصحائف في تبيان أهداف دينه وأغراض الدعوة الإسلامية المباركة.

وما كان الإنجليز ليرضوا عن هذا الوطني الحر والمتدين عميق الإيمان، فطاردوه من مكان إلى مكان. وكانوا وراء كل محاولة لإيذائه أو إعناته أو إخراجه من وطنه مصر. ولذلك لم يكد يستقر به المقام في هذه البلاد. فكان دائما يضطر إلى الاضطراب في بقاع أخرى من العالم، يجاهد فيها في سبيل وطنه ودينه ما أتيحت له الأسباب والوسائل، فإذا ما سنحت فرصة لرجوعه إلى الديار مرة أخرى، رجع غير محس ضجرا ولا خوفا ولا ضعفا، واستأنف جهاده الذي لا ينقطع إن في مصر وإن في غيرها، وعاد إلى التحرير والكتابة في الصحف التي كانت ترحب بما يكتب وتفسح له في صفحاتها مكانا محمودا.

وقد رأس عبد العزيز جاويش تحرير (اللواء) بعد مصطفى كامل، وأخرج مجلة (الهداية) لإفهام المسلمين أسرار القرآن وهو في مصر، ولما أبعد إلى تركيا أعاد إصدار هذه المجلة، وأصدر مجلة (الهلال العثماني) ومجلة (الحق يعلو).

وقد حوكم أكثر من مرة بسبب مقالاته الوطنية اللاذعة في اللواء، كمقاله (دنشواي أخرى في السودان)، وكمقاله (ذكرى دنشواي)، وكمقدمته لكتاب (وطنيتي) الذي وضعه علي

ص: 5

الغاياتي.

واشتغل بعض الوقت بالتعليم. وتولى منصب المفتش الأول للغة العربية. وكان أستاذا للعربية بجامعة أكسفورد. وعين مراقبا عاما للتعليم الأولى وأدخل عليه إصلاحات كثيرة، ووضع أساس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وأعاد إصلاح كلية صلاح الدين بالقدس الشريف وعهد إليه بإدارتها.

وأسهم في جميع التبرعات وإرسال الأسلحة وتهريب القواد الأتراك إلى طرابلس لمقاومة الغزو الإيطالي. وحين أعدت قوة من الجيش التركي في سنة 1915 لتخليص مصر من الاحتلال الإنجليزي اشترك فيها.

وإذا ضاقت به مصر خرج إلى تركية أو ألمانية أو سويسرا وأصدر مجلة (العالم الإسلامي) الوطنية في تركية. وأصدر مجلة في سويسرا ومجلة في ألمانيا.

من هذا ترى أن الرجل كان شعلة من النشاط الدافق. وكان نشاطه منوعا فحينا يكتب في الصحف. وحينا يصدر المجلات بلغات مختلفة. وحينا يجمع التبرعات ويسهم في تحرير الوطن الإسلامي من الغزو الأجنبي. وحينا يصلح برامج التعليم ويشرف على بعض فروعه ونواحيه. وحينا يكتب محررا وطنه صابا لعناته على المستعمرين وأعوانهم. وحينا يكتب مدافعا عن الإسلام شارحا دعوته مبددا للشبهات التي يثيرها أعداؤه. وهو حينا في مصر. وحينا آخر في تركية أو ألمانية أو سويسرا أو إنجلترا وكان يوجه كل هذا النشاط إلى الخير، لا يألوا في ذلك جهدا، ولا يرى بابا إلا طرقه، غير طامع في منصب أو مال أو جاه.

وفي الحق أن الأستاذ عبد العزيز جاويش كان من الأبطال المجاهدين، الذين أخلصوا لله وللوطن من غير أن يعلنوا عن أنفسهم وجهادهم، ومن غير أن يطلبوا على ما فعلوا أجرا ولا جزاء، حتى تخطاهم إلى الظفر والفوز كل مهرج دعي أفاق.

وكتاب (الإسلام دين الفطرة والحرية) الذي ألفه الأستاذ عبد العزيز جاويش يتفق وطبيعة مؤلفه المكافحة. فالمؤلف لم يرض بالذل ولا بالاستعمار ولا بالخنوع، ولم يرض بالقيود التي تعوق الإنسان عن أداء رسالته التي تؤهله لها فطرته، فهب مناديا بالتحرر من الاستعمار والجهل والطواغيت. والكتاب كذلك لم يرض بالظلم الواقع على الإسلام، ولا

ص: 6

بالدعاوى الفارغة التي يتهم بها زورا، ولا بالتقليد الذي حد من قدرة المسلمين وجعلهم آلات من غير وعي ولا إدراك، فكان هو الآخر صوتا ناطقا بما للإسلام من حق مجحود، وبما له من ميزات سامية تحمل الناس في رفق على العدل والإنصاف والحرية والكرامة.

ولكي نفهم قيمة هذا الكتاب، وهو كتاب قيم لا مراء، يجب أن نعرف أن الفترة التي كتب فيها هي الفترة التي كان الاستعمار يطرق بمطرقته الآثمة كل معاقل الحرية والأمان والنور في مصر. كان يحاول أن يشككنا في قدرتنا، وفي اقتصادياتنا، وفي علمنا، وفي ديننا، وفي معنوياتنا التي نستند إليها في الظروف العصيبة والمحن الملمة. وكان هذا، ليخلو له وجه البلد، فيصنع ما يشاء، ويوجهه إلى حيث يريد. وكان يتابعه في ذلك كثير من أبناء الوطن من المسلمين وغيرهم. وكان هو يعتمد على هؤلاء المشايعين له في تحقيق أغراضه وإذلال البلاد وإهانتها، ممثلا ذلك في زعمائها الأحرار، ودينها، وأخلاقها، ومواردها كلها. وفي ذلك الحين شن المستعمرون والمبشرون والمقلدون من المسلمين على الإسلام حربا واسعة. واتهموه بكثير من الاتهامات الباطلة، فألقوا في قلوب المسلمين وعقولهم أن الإسلام لم يعد يصلح أساسا لحياة أمة حرية بالتقدير والاحترام. ولم يكن المسلمون الأكفاء ليرضيهم هذا التجديف فوقفوا له واعترضوا طريقه. وقفوا في وجه الاستعمار، وفي وجه المبشرين، وفي وجه المقلدين من أبناء الإسلام، وفي وجه الجهل بشؤون الدين وشؤون الحياة العامة.

قيل إن الإسلام انتشر بالسيف ولم ينتشر بالحجة والاقتناع، وقيل إن الإسلام أباح للمسلم أن يعمد إلى الطلاق ليتخلص من زوجته دون قيد ولا شرط. وقيل إن الإسلام رضى عن الرق وأباحه. وقيل إن نبي الإسلام لم يكن إنسانا سويا حين تزوج كثيرا من النساء، وحين تزوج امرأة زيد بعد طلاقها. وهذه كلها موضوعات دار حولها البحث، وعرضها كتاب (الإسلام دين الفطرة والحرية) عرضا مفيدا، وأبان عن وجهة الإسلام في هذا كله، وأظهر الناس على حقائق الأمور فيما يتعلق بعدا الإسلام وأنصافه وحكمته ومراعاته صالح الأفراد والجماعات في كل قوانينه وأصوله، فلم يكن دينا إباحيا ولا ظالما ولا قاهر بالسيف ولا غابنا الإنسان حقه وحريته.

وإذا كان للصليبين والاستعماريين عذر فيما يدعون، فإنه لا عذر للمسلمين الذين طمس الجهل والغرور على عيونهم وبصائرهم، والذين يجرون وراء الأوربيين متابعين لهم فيما

ص: 7

يرون من رأي ويصطنعون من مذهب. وقد جدف علماء المسلمين كثيرا في تفسير القرآن، وفي تأويل الحديث، وفي الفهم عن موارد الإسلام النقية، حتى كانوا_من حيث يعلمون أو لا يعلمون_عونا لأعداء الدين، بل كانوا أشد إيذاء له وتكديرا لصفوه، فاتخذت أقوالهم وأعمالهم حجة على الإسلام لا حجة له (إن النقائص التي مثلت بالإسلام في أعين غير أهله، إنما نشأت من اعتبار أعمال الخلف الصالح، ميزانا لتقدير قوانين الشرع ونواميسه، فمن قائل بسد باب الاجتهاد، ومن إمام أو خليفة قضت عليه أغراضه البهيمية أن ينتهك حرمات الله، ثم يحارب الله فينسب إليه ما ليس من دينه في شيء، ومن عالم اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فأفتى بما يطابق أهواء ملك أو أمير تذرعا إلى الزلفى منه، ومن أحمن أرعن لم يرض من اليسر ما رضى الله لعباده فشط بالناس وأعتسف بهم، حتى ضاقت نفوسهم، وأيقنوا بالعجز عن احتمال تكاليف الدين فانقطعوا عنه ظانين بالدين الظنون)

والدعوة الإسلامية دعوة تهذيبية اجتماعية إصلاحية. ولكن كثيرا من المسلمون لم يرموا إلى هذه الغاية في تفسيرهم القرآن الكريم، ففسروه على وجوه مختلفة، لا على هذا الوجه الذي يؤدي إلى غابته الرفيعة. منهم من فسره تفسيرا علميا فلسفيا مستوحيا الحقائق العلمية والنظرات الفلسفية. ومنهم من حشاه بالإسرائيليات التي لا تغني كثيرا ولا قليلا. ومنهم من عنى بالنكات البلاغية والفوائد النحوية. ومنهم من جعل للقرآن ظاهرا وباطنا، فالظاهر للعوام، والباطن للخواص، مع أنه قرآن عربي صريح واضح، ومنهم من أول بعض الآيات تأويلا سيئا يصرفها عن غرضها الذي سيقت له إلى أغراض أخرى ليست من الإسلام في شيء.

هذه الجهود المختلفة في تفسير القرآن، لم تكن على بصيرة من هدف الدعوة الإسلامية، ولم تكن تستقي من منابع الإسلام الصافية، ولذلك ضلت الطريق السوي في خدمة الإسلام والمسلمين ولو أنفق المسلمون جهودهم في الاستنارة البصيرة، والاجتهاد القويم، وشرح أهداف الإسلام كما يرسمها القرآن والحديث، لما كانت هذه الدعاوى المزورة التي يقصد بها الإزراء على الإسلام وعلى نبيه وعلى مبادئه وغاياته.

إن الإسلام يجل الحرية. ذلك لأن أنسامها تنفس عن الصدور والعقول والأفئدة، وترقى بالإنسانية مصعدة في مدراج الكمال، وتضفي على أعمال الإنسان وأقواله وأفكاره وشاح

ص: 8

الشخصية الأصيلة. وقد بسط الأستاذ عبد العزيز جاويش موقف الإسلام من الحرية بسطا رائعا لا يخلو من تعمق وفهم لأسرار الشريعة الغراء. وهو يستدعيك إلى التسليم بما يقول حتى فيما يرى من رأي مخالف لرأي جمهور العلماء. وهذا الخلاف نفسه يجعلك تؤمن بأن الرجل نقي السريرة لا يرى إلا إلى عزة الإسلام والمسلمين.

لم يقصر الإسلام في ذات الحرية، بل دعا إليها، وجعلها أساسا لبناء المجتمعات وصيانة الأفراد، وأنحى على المقلدين باللوم العنيف، وراح يجأر بالدعوة إلى التفكر والتدبر، دون مشايعة لرأي موروث أو فكرة بذاتها، وقرر أن الذين لا يستخدمون أبصارهم ومسامعهم وقلوبهم فيما خلقت له هم كالأنعام بل أضل (ألهم قلوب لا يفقهون بها، أم لهم أعين لا يبصرون بها، أم لهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون)(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) وأكثر من هذا أن الإسلام لم ير الإكراه في التعقيد، بل ترك الحرية لكل إنسان يختار من العقائد والمبادئ ما يشاء (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).

وإذا كان لا إكراه في الدين، ولا إكراه على أتباع عقيدة معينة، فلم أباح المسلمون قتل المرتد؟ ولم شنوا هذه الحروب في صدر الإيلام على الذين شقوا عصا الطاعة وكفروا بالدين أو ببعض مبادئه؟ وهنا تجد الأستاذ عبد العزيز جاويش يجيب في صراحة تامة أن المرتد نوعان: نوع ارتد عن الإسلام أو بعض مبادئه من غير أن يعلن حربا أو يساند عدوا أو يدل على عورة في الجبهة الإسلامية، وهذا لا يجوز قتله، لأن آيات القرآن الكريم لم تشرع حكما يجوز أن نؤاخذه على أساسه، بل إن الإسلام يرى عدم الإكراه في العقيدة ولا على أتباع فكرة بعينها ولو كان هو هذه العقيدة أو تلك الفكرة. ونوع ارتد عن الدين، وصار حربا عليه، وأعان الكفار على المسلمين، ودل على مواطن الضعف فيهم وهذا يقتل ويحارب، لأن الشرائع المنزلة والوضعية قبل الإسلام وبعده أباحت قتل المحارب واتخذته عدوا. أما الذي حدث على عهد الخليفة أبي بكر، من قتل المرتدين ولو لم يحاربوا، فمرجع ذلك إلى أن الإسلام كان في أول عهده ضعيفا يخشى الانتقاض عليه والإيقاع به، ولذلك قتل كل خارج عليه بعد أن اعتنقه، حتى يأمن على نفسه في أول أمره.

ص: 9

وقد حمل الإسلام الزنادقة على حكم المرتدين. فالزنادقة قتلوا في أول الأمر زمن علي بن أبي طالب، لأن الإسلام كان يخشى الدسائس، وكان يعمل على أن يؤمن حياته وحياة أتباعه في هذه الفترة الأولى من حياته. أما بعد أن آمن، وقوى، واشتد، ولم يعد يخشى المكائد ولا الانتقاض، فلا يجوز أن يقتل الزنديق، كما لا يجوز أن يقتل المرتد، وإن كانا ينصحان ويستتبان أبدا، عملا بمبدأ الحرية الذي أقره الإسلام وحماه ودعاه إليه.

والإسلام لا يخشى العلوم المختلفة ولا المعارف الكونية. وهو الذي وسع فلسفة اليونان وحكمة الهنود ومعارف الفرس. ودفع المسلم إلى استقبال العلم من مشارق الأرض ومغاربها، عن المسلمين وعن غيرهم، لأن العلم الصحيح لا وطن له، ولأن العلم الصحيح من الحقائق الكونية التي لا تبدل، ولأن الحرية أصل كريم في الحياة الإسلامية (لذلك كان شأن القرآن إزاء العلوم، وقد كان من موسوعاتها العلوم العقليات من الرياضية والطبيعيات وما وراء الطبيعة، فهو الذي قام بالدعوة إليها، والترغيب في البحث عن دقائقها وأسرارها، وهو الذي ببركته وجد بين المؤمنين آلاف من أمثال: الكندي، ومحمد بن موسى الخوارزمي، ويحيى ابن أبي منصور، والعباس بن سعيد الجوهري وأحمد بن كثير الفرغاني، وجعفر بن محمد البلخي، ونصير الدين الطوسي، وثابت ابن قرة، وعمر الخيام، وابن سينا، وابن رشد، وأبي الحسن أبن الهيثم، وأشباه هؤلاء من فطاحل العلوم الرياضية والطبيعية والأثقال والموسيقى وغيرها).

لم يكن الإسلام إلا دينا حرا، يرعى العقل ويحترمه، ولا يميل إلى إلزام أحد شيئا. فهو واسع العلوم المختلفة والفلسفات المتباينة، وهو لا يقتل المرتد المسالم ولا الزنديق الذي يهادنه. وهو ندد بالمقلدين ودعا إلى التفكر والتدبر وإلى العلم الصحيح والنظر السليم. وأنت تعلم أن الكفار في أول العهد بالدعوة المحمدية قد طلبوا من النبي - على سبيل التحدي والتعجيز والمشاقة - معجزات كونية، كأن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، وكأن يرقي في السماء ولن يؤمنوا لرقيه حتى ينزل عليه كتاب يشهد بصدقه ورسالته، وكأن يكون له بيت من زخرف وجنات من نخيل وعنب قد فجرت الأنهار خلالها تفجيرا. وأنت تعلم أن النبي لم يجبهم إلى هذا، لأنهم يعجزونه، ولأنهم لن يؤمنوا مهما أتوا من المعجزات، ولأن الإسلام لا يريد أن يكبتهم ويحملهم على اعتناقه والإيمان به، إذ هو دين الحرية والاختيار

ص: 10

الخالص. ولكن كيف يكون ظهور المعجزة إلزاما وحملا للمشركين على الإسلام؟

الحقيقة التي جرت عليها السنة الإلهية في الأمم السابقة، أن الأمة من الأمم إذا طلبت معجزة وحققت لها هذه المعجزة، ولم تؤمن بها وتنزل على مقتضاها، عجل الله لها الخسف والعذاب والإبادة. ومعنى هذا أن الأمة كانت بمنطوق المعجزة ومفهومها تحمل الناس على الإيمان برسالة الرسول الذي ظهرت على يديه، وإلا فالعقاب والإهلاك. أما الإسلام، فلأنه دين الحرية الذي لا إلزام فيه ولا حمل، ولأن المعجزة الكونية التي كان يتبعها الإيمان أو العذاب - فلم يستجب إلى ما طلبه المشركون من هذه المعجزات الكونية، حتى لا يكون ثمة حمل على الإيمان به ولا إلزام للمشركين أن يتبعوه.

هل لنا أن نعرف وجوه الجمال في هذا الدين التي كثر ما أغصينا عنها! وهل لنا أن نعرف المجاهدين الأبرار الذين أنفقوا أعمارهم وحيويتهم في سبيل الدين والوطن! وهل آن أن ترجع الحقوق المهضومة إلى أصحابها فيتسنموا الذروة اللائقة بهم! إن الدين قد أساء إليه أبناؤه المرتزقون، وإن الوطن قد غلي على أمره بفعل المهرجين أدعياء الوطنية، وها نحن أولاء الآن في عهد بوادر الكرامة والعدل والحرية، وما أظن هذا العهد يحرم المخلصين جزاءهم، ويجحدهم فضلهم، بل يرفعهم إلى مكانهم في الخالدين - الأحياء منهم والأموات سواء.

محمود عبد العزيز محرم

ص: 11

‌من سير الخالدين

حياة المازني

للأستاذ محمد محمود حمدان

(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب)

(المازني)

- 3 -

بداية الشوط

انتهى المازني من مرحلة الدراسة الثانوية. وبقى عليه أن يختار لنفسه الاتجاه الذي يؤثره في المرحلة النهائية. وقد اختار مدرسة الطب، لأنها كانت المجال الذي آثره غير واحد من ذوي قرابته، ولأن (مصروفاتها المدرسية) كانت مما يدخل في طوقه، (. . ولكن ناظرها الدكتور كيتنج رمى لي بأوراقي في الشارع، لأني يوم الكشف الطبي دخلت قاعة التشريع فرأيت جثة منتفخة تفوح منها رائحة نتن خبيث، فدار رأسي وأغمي علي).

وطرق باب مدرسة الحقوق وهي أقرب إلى ملكاته، وكانت نفقاتها كذلك مما يقدر عليه. على أنه لم يكد يتقدم إليها حتى ضوعفت (مصروفاتها) فارتد عنها حائرا لا يعرف إلى أين يصير.

وكان القدر ينسج بعض خيوط هذه الحياة المضطربة، حياة المازني. حين أعلن في ذلك العام افتتاح مدرسة المعلمين العليا. وعرف المازني أن التعليم فيها بالمجان، وأن مدة الدراسة سنتان، بل إنها، فوق ذلك، تمنح تلاميذها مكافآت شهرية يسيرة ولكن لا بأس بها في ذلك الحين. واجتذبت المازني كل هذه المزايا إلى المدرسة، فألقى فيها بنفسه، على كره، بعد أن ردته الطب والحقوق.

وفي مدرسة المعلمين لم تكن مواد الدراسة كثيرة ولا البرامج طويلة، ولا تخصص فيها.

ويقول الأستاذ العقاد (كان الطالب في تلك المدرسة يستعد لتدريس الرياضة والجغرافية أو التاريخ في الوقت الواحد. . فأوحت سليقة الأدب إلى هذا الطالب الجديد على المدرسة أن

ص: 12

يهدي أساتذتها إلى التفرقة بين ملكات العلوم وملكات الآداب، فقد اضرب عن تعليم الرياضة، بل أضرب - كما قال لي - عن فهمها ومذاكرتها. وذهب مع زملائه مرة في زيارة من زيارات التدريب التي تمتحن فيها خبرة المعلم الناشئ بصناعته، فكان زملاؤه يختارون درسا في الحساب أو درسا في الجبر أو درسا في تقويم البلدان، وأبى هو إلا أن يختار لدرسه أبياتا من الشعر العربي، ويشرحها على طريقته ويتكلم عن ناظمها، ويبين في سياق شرحها مزايا الشعر العربي بالقياس إلى أشعار الأمم الأخرى).

واستطاع طلبة الدفعة الأولى بالمدرسة - وكانوا سبعة وعشرين طالبا ليس إلا، أصغرهم سنا صاحبنا المازني - أن يقفوا أوقات فراغهم، في المدرسة، على المطالعة الخاصة. وكانت لهم في الأسبوع ثماني ساعات لا يتلقون فيها أي درس. ووجدوا الحث والتوجيه والتشجيع من الناظر والأساتذة. ويقول المازني عن ناظر المدرسة الإنجليزي لذلك العهد، الدكتور دليني، أنه كان عالما واسع الإطلاع، (فكان إذا رآني أستعير كتابا من مكتبة المدرسة يعدني بأنه يعيرني كتابا من عنده في موضوعه، وينجز وعده، ثم يتركني أياما، حتى إذا لقيني مصادفة في فترة من فترات الاستراحة بين الدروس، أقبل على وراح يحدثني من الكتابين، دون أن يسألني عنهما، أو عما قرأت منهما، ثم يمضي عني. فكان هذا يضطرني إلى العكوف على الكتب وكانت هذه إحدى وسائله لتشجيعنا على القراءة والإطلاع).

ومن المحامد التي تذكر لمدرسة المعلمين، ولناظرها الدكتور دليني على التخصيص، أنه كان أول من ثنى عنان الاهتمام في نفوس تلاميذه نحو طائفة من أدباء الإنجليز ونقادهم من أمثال ماكولي وكارليل وهازلت ولي هنت. فشاعت كتبهم بين ناشئة ذلك الجيل وساعدت على تنوير الأذهان وتحويلها إلى معنى الأدب الصحيح.

ولا ريب أن ما لمسه المازني من هذه الروح قد شحذ فيه موهبته الأدبية، فأقبل على الدرس والقراءة والتحصيل، وحفزه الجو الذي كان يضطرب فيه وتمتلئ بهوائه كلتا رئتيه، إلى المثابرة والتوفر على ثمار القرائح في شتى الآداب. وكان من زملائه في المدرسة من له مثل ميله إلى الأدب والكتابة فاتصل بهم، وعرف منهم في ذلك الحين الطالبين محمد السباعي وعبد الرحمن شكري، وكان كلاهما واسع الاطلاع على الأدبين

ص: 13

العربي والإنجليزي. وقد أخرج شكري الجزء الأول من ديوانه وهو يعد طالب بالسنة الأولى وكان له في الوسط الأدبي ضجة كما كان السباعي يكتب في (الجريدة). . وكان هذا بمثابة الدافع والحافز للمازني، فعالج الكتابة والشعر، وبدأ ينشر في الصحف منذ عام 1907. وتوثقت الصلة بينه وبين شكري، أو كما يقول (فصار أستاذي وهو زميلي، وكان ينقصني التوجيه فتولاه شكري).

ووسع المازني، وهو طالب بعد، أن يقتني الكتب. . (وكان موظفو مكتبة (ديمر) يعرفونني ويأتمنونني لكثرة ما أشتري منهم، وهو في كل شهر فوق الكفاية لشهور. ومع ذلك غافلتهم وسرقت طبعة جيب لروايات شكسبير! وإن كانت عندي مجموعة كاملة منها بشروحها وتفاسيرها!)

وكان كما يقول كثير الغياب عن المدرسة؛ (لأني كنت أسهر إلى الصباح أقرأ وأحاول أن أفهم، ثم أنام فأخلف. فدعاني ناظر المدرسة، المرحوم إسماعيل حسنين باشا - عليه ألف رحمه - وقال لي يا بني إنك (حمار) في العلوم الرياضية، وأنا أخشى عليك الرسوب، ولا ألومك على التخلف ما دام هذا عذرك، فخذ إجازة خمسة عشر يوما، واقرأ ما شئت، ثم واظب بعد ذلك على الحضور).

وظل هذا نهمه بالقراءة المتقصية العميقة وعكوفه على الكتب ومنها الجاف العويص مثل (أصل الأنواع) لدارون. ولم يصرفه تخرجه واشتغاله بالتدريس عما كان فيه.

ويروي المازني أنه اتفق يوما أن كان في مقهى فيما يعرف الآن بميدان الإسماعيلية، (. . وكان معي كتاب الشاعر على مائدة الإفطار لويندل هولمز، وكنت اقرأ فيه. فمر أستاذي في الأدب الإنجليزي، فنهضت لتحيته، فقال لي بعد كلام، لقد أصبحت موظفا وأكبر ظني أنك انصرفت عن القراءة والإطلاع، فأريته الكتاب فربت على كتفي وقال، هذا ما أرجو، أن تظل تقرأ وتقرأ ولا تشبع، وأن تحرص دائما على أن تضيف عقولا على عقلك).

ولعل الإنصاف يقتضينا أن نزيد هنا كلمة حق. فقبل أربعين سنة، لم يكن يتيسر لطلاب الأدب في مصر سبيل القراءة الأدبية كما تتيسر لطلاب اليوم. فقد كانت أمهات الكتب العربية - في الأغلب - لا تزال مخطوطة في دور الكتب العامة أو المكتبات الخاصة، وكان ما طبع منها في مصر أو الشام، على ضآلته، حافلا بالنقص والتشويه والتصحيف.

ص: 14

وقد بلا المازني معاناة هذه الكتب في عهد الطلب، وراض نفسه على الجد والتشدد ومصابرة الجهد في سبيل لوصول إلى غايته وإشباع رغبته.

ونسوق هنا قصته مع كتاب (الأغاني) وكان من أول ما اقتنى من الكتب، وكانت نسخته التي وقعت له من طبعة ناقصة مشحونة بالخطأ والتصحيف في كثير من مواضعها. فعمد إلى أجزائه يفكها (ملازم) وجعل يحملها معه ملزمة ملزمة إلى دار الكتب ويراجع النصوص نصا نصا، وبيتا بيتا، ويدون التصحيح أو التكملات على ورق أبيض أعده لذلك، وصار يلصق الورق المكتوب بين الصفحات المطبوعة، وهكذا إلى آخر الكتاب بأجزائه التي تربو على العشرين.

ومثل ذلك قصته مع ديوان (الشريف الرضي) - والشريف أول من اتجه إليهم المازني وآثرهم بميله من شعراء العربية - فقد وقعت له نسخة من مطبوعة الهند، ويقول المازني أنه لم يسلم فيها بيت واحد من التحريف والتشويه حتى أعياه فهم الديوان وكاد اليأس أن يصرفه عنه. على أنه أقبل عليه يعالج تصحيحه، وقضى في ذلك قرابة عامين، يوفق حينا ويخفق أحيانا. حتى عثر في النهاية على نسخة من طبعة بيروت - وهي أسلم وأصح في مواضع - فاستراح إليها.

أما قصته مع ديوان (ابن الرومي) فهي أعجب. ذلك أن الديوان بقى مخطوطا منسيا يكاد لا يذكره أحد، حتى التفت إليه أساتذة المذهب الجديد. فشرع المازني في نقله عن إحدى نسختيه - وصادف أنها كانت أردأهما خطا وأكثرهما غموضا - ثم عكف عليه سنوات طويلات المدد، يعالجه بالضبط والتصحيح ورد المحرف والمصحف وما أكثره. وأغرى بحفظه حتى كاد أن يأتي عليه.

تلك كانت، في حياة المازني، بداية الشوط وفاتحة الكتاب. . وهي بداية لمتكن تبعث كثيرا على الأمل أو تغرى بالثقة والاطمئنان، فقد كانت في جملتها تجربة قاسية من تلك التجارب التي تمتحن بها معادن الرجال؛ اتسمت، كما رأينا، بالعسر والجهد والكفاح، وزادها وطأة على وطأتها ما كان يحتدم بنفس المازني الشاب من إرادة الحياة وقوة الإحساس بها، وما كان يرد عليها من عواطف ومشاعر لم تكن لتجد سبيلها إلى الاستعلان بله الانطلاق. ولقد كان صبر المازني على هذه لتجربة القاسية وصموده لها إحدى عجائب بنيته المستدقة التي

ص: 15

كانت تزيدها مشقة العمل وبهاظة العبء - في كافة مراحل العمر - فرط جلد ومصابرة واحتمال. . . وكأنما كانت الآلام والأعباء نصيب المازني المقدور في الحياة، وكأنما كان مهيأ لها لطبيعته وتكوينه منذ صباه.

(يتبع)

محمود محمد حمدان

ص: 16

‌7 - الميسر والأزلام

للأستاذ عبد السلام محمد هارون

الأزلام المدنية

لم يكن نظام الاستقسام بالأزلام نظاما موحدا يظله ظل الوثنية، بل كان إلى جانب هذا النظام الديني نظام آخر مدني يلمحه الباحث من ثنايا أخبار العرب

1 -

جاء في اللسان تعليقا على قول سراقة: (فأخرجت الأزلام)، قال:(وهي القداح التي كانت في الجاهلية، كان الرجل منهم يضعها في وعاء له فإذا أراد سفرا أو رواحا أو أمرا مهما أدخل يده فأخرج منها زلما، فإن خرج الأمر مضى لشأنه، وإن خرج النهي كف عنه ولم يفعله)

2 -

وجاء فيه أيضا: (وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابة، فإذا أراد الاستقسام أخرج أجدهما)

3 -

وقال أبو حيان: (وأزلام العرب ثلاثة أنواع: أحدها الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه، في أحدها (افعل) وفي الآخر (لا تفعل)، والثالث غفل، فيجعلها في خريطة، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده في الخريطة منسابة وائتمر بما خرج له من الآمر أو الناهي. وإن خرج الغفل أعاد الضرب.

ثم ذكر النوع الثاني، وهي القداح السبعة التي كانت عند (هبل)، والنوع الثالث وهي قداح الميسر.

علة تحريم الاستقسام بالأزلام

أما الاستقسام بها على الوجه الديني المتقدم فلم يختلف العلماء في تحريمه وأنه فسق، لأنهم كانوا يلجئون إلى الأنصاب وبيوت الأصنام، وكانوا يظنون أنها هي التي تخرج لهم في القدح ما يمتثلونه.

قال الزمخشري: (فإن قلت: لم كان استقسام المسافر. . وغيره بالأزلام لتعرف الحال فسقا؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب، وقال: لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، واعتقاد أن إليه طريقا إلى استنباطه. وقوله أمرني ربي

ص: 17

ونهاني ربي افتراء على الله، وما يدريه أنه أمره أو نهاه. والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم - فقد روى أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم - فأمره ظاهر).

وأما الاستقسام بها على الوجه الآخر الذي لا تدخل فيه الأصنام ولا تستشار الكهان فأمر اختلف فيه العلماء كما اختلفوا في طلب معرفة الغيب بأي وسيلة من الوسائل.

قال الآلوسي: (واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة التفاؤل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل)

القرعة

بضم القاف، واشتقاقها من القرع بمعنى الضرب. قال ابن فارس:(والإقراع والمقارعة هي المساهمة، سميت بذلك لأنها شيء كأنه ضرب)

والقرعة قديمة عند العرب، ولها طرق شتى:

1 -

فعن سعيد بن المسيب أنه كان يأخذ الخواتم فيضعها في كمه، فمن أخرج أولا فهو القارع.

2 -

وقال أبو داود: قلت لأبي عبد الله في القرعة: يكتبون رقاعا؟ قال: إن شاءوا رقاعا، وإن شاءوا خواتمهم.

3 -

وعن الأثرم، قلت لأبي عبد الله: كيف القرعة؟ فقال: سعيد بن جبير يقول بالخواتيم أقرع بين اثنين في ثوب، فأخرج خاتم هذا وخاتم هذا. قال: ثم يخرجون الخواتيم ثم ترفع إلى رجل فيخرج منها واحدا. قلت لأبي عبد الله: فإن مالكا يقول: تكتب رقاعا وتجعل في طين. قال: وهذا أيضا. وقيل لأبي عبد الله: إن الناس يقولون: القرعة هكذا، يضم الرجل أصابعه الثلاث ثم يفتحها. فأنكرها وقال: ليست هكذا.

4 -

وجاء في صحيح البخاري (في حديث الإفك)، عن عائشة:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه). قالت عائشة: (فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت معه بعد أن أنزل الحجاب)

5 -

وعقد البخاري في صحيحه بابا سماه (باب الاستهام في الأذان)، قال فيه:(ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان، فأقرع بينهم سعد).

ص: 18

قال ابن حجر: (قال الخطابي وغيره: قيل له الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسمائهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج سهمه غلب)

وكان من خبر هذا الأذان الذي حدثت فيه القرعة، ما رواه البيهقي عن ابن شبرمة قال:(تشاجر الناس في الأذان بالقادسية فاختصموا إلى سعد فأقرع بينهم). وكان المسلمون في الصدر الأول يعدون الأذان أمرا خطيرا يسعون إليه، ويحفظون في ذلك ما واه أبو هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الماس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا، والمراد بالنداء في هذا الحديث هو الأذان.

وروى الطبري في تاريخه حادث هذا الأذان رواية عن عبد الله بن شبرمة عن شقيق قال: (اقتحمنا القادسية صدر النهار فتراجعنا وقد أتى الصلاة، وقد أصيب المؤذن، فتشاح الناس في الأذان حتى كادوا أن يجتلدوا بالسيوف، فأقرع سعد بينهم، فخرج سهم رجل فأذن). وسعد هذا هو سعد بن أبي وقاص.

6 -

وقال ابن سيرين حين بلغه أن عمر بن عبد العزيز أقرع بين الفطم: (ما كنت أرى هذا إلا من الاستقسام بالأزلام.)

فأنت ترى أن القرعة تمت بسيب إلى الاستقسام والأزلام، ولكنها لا تمت إليه بسبب الحرمة، إلا أن يترتب عليها ضياع حق مشروع، أو تطاول إلى معرفة الغيب وادعائه. أما إذا جعلت وسيلة لفض نزاع، أو تخل عن مسئولية المحاباة والأيثار، أو لاستعلان البراءة عن الميول الشخصية، فلا ريب أنها في تلك الحال تكون أمرا مستحسنا

القرعة في الكتب الدينية القديمة

قد مر من طرق القرعة ما كان من أمر زكريا ويونس عليهما السلام، وكان في الآيتين الكريمتين اللتين وردتا بشأنهما حجة من حجج الأئمة الأربعة في تجويز القرعة بناء على القاعدة تقول:(شرع من قبلنا شرع لنا).

وكانت القرعة عند الإسرائيليين بمثابة استدعاء للأمر الإلهي في القضايا التي تعرض لهم. جاء في سفر الأمثال (16: 33): (القرعة تلقى في الحضن ومن الرب حكمها). وهذه الكلمة تسجل أيضاً صورة من صور مزاولة القرعة التي تلقى بها القرعة في أحضان المتقارعين.

ص: 19

فكان الإسرائيليون يلجئون إلى استفتاء القرعة في كثير من القضايا

1 -

منها تبيين المذنب والمخطئ إذا اختلفوا فيه: (فقال شاول: ألقوا بيني وبين يوناثان ابني. فأخذ يوناثان). صموئيل الأول (14: 42).

2 -

وتقسيم البلاد المقدسة بين الأسباط: (إنما بالقرعة تقسم الأرض. حسب أسماء أسباط آبائهم. يملكون حسب القرعة. يقسم نصيبهم بين كثير وقليل). العدد (26: 55، 56). وانظر أيضاً سفر يشوع الإصحاحات 13 - 18

3 -

وفي مزاولة الواجبات الدينية جاء في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن الكلام على زكريا: (فبينما هو يكهن في نوبة فرقته أمام الله حسب عادة الكهنوت أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر).

4 -

واختيار الحيوان للذبيحة المقدسة: (ويلقى هارون على التيسين قرعتين: قرعة للرب وقرعة لعزازيل. ويقرب هارون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة) لا ويين (16: 8 - 9).

وقد استعملها أيضاً (أعداء) الإسرائيليين، جاء في سفر (أستير) أن هامان الوزير أراد أن يهلك اليهود، فكان يصطنع القرعة لكي يعرف الوقت المناسب للفتك بهم في جميع أقطار الأرض:(في الشهر الأول أي شهر نيسان في السنة الثانية عشرة للملك أحشو يروش كانوا يلقون (فورا) أي قرعة أمام هامان من يوم إلى يوم ومن شهر إلى شهر إلى الثاني عشر، أي شهر آذار) وقد استمرت هذه القرعة سنة كاملة. ولكن هامان أخفق في سعيه لدى الملك، وذلك بالجهود المضادة التي بذلها أستير ومردخاي اليهوديان، الذين تمكنا من إحفاظ الملك على وزيره حتى صلبه في اليوم الثالث عشر من شهر آذار، فاتخذ اليهود يومي 14، 15 من هذا الشهر عيدا سموه (عيد الفوريم) جمع (فورا) وهي القرعة التي كان يصطنعها هامان لتعين موعد الإبادة.

واستعملها المسيحيون أيضا:

1 -

فبها انتخب متياس: (ثم ألقوا قرعتهم فوقعت القرعة على متياس، فحسب مع الأحد عشر رسولا) أعمال (1: 26)

2 -

واقتسمت ثياب المسيح عليه السلام (اقتسموا ثيابه مقترعين عليها) إنجيل متى (27:

ص: 20

35) ومرقس (15: 24) ولوقا (23: 24) والمزامير (22، 18)

للبحث بقية

عبد السلام محمد هارون

ص: 21

‌دموع البطل!

للأستاذ عمر عودة الخطيب

(شاهدت صورة للرئيس اللواء محمد نجيب يبكي متأثرا حين جاءته أم تحمل طفلها الصغير فوق ذراعيها ومن حولها أبناؤها الثلاثة تشكو له ما تعاني من حزن وما يقاسي أطفالها من بؤس فأوحت إلي بهذا المقال)

لا تموت الدموع إلا في عيون الجلادين القساة، والظالمين العتاة الذين يرتكبون جرائمهم الكافرة من غير أن يخفق لهم قلب أو يثور وجدان، أو يستيقظ ضمير. . . فهم كالوحوش الضارية تعدوا على الفريسة وتمزقها بأنيابها الحادة غير عابئة بالإناث والآهات. . . وهكذا كان الطاغية وأعوانه من السفاحين والإقطاعيين يرون الشعب التعس يكدح في سبيل اللقمة، ثم لا ينال أدنى الغذاء، ولا يظفر بأقل الكساء، ولا يجد ثمن الدواء؛ وهم في لهوهم ومجونهم غارقون، وفي أودية اللذة والضلال هائمون، يرون بأعينهم الأطفال الذين شردهم بغيهم، والصغار الذين يتمهم ظلمهم، والنساء اللواتي ترمن على أيديهم. يرون كل هذا فلا ينبض فيهم عرق بحنان، ولا تجود لهم كف بإحسان، ولا تبض عيونهم الجاحدة المتكبرة بقطرة من دمع، وما يرونه من مشاهد البؤس في الكبار والصغار والشيوخ والنساء يبكي الصخر الأصم. . . ولكنها القلوب التي تتضاءل أمامها الأحجار، ويتعلم الصخر منها دروس القسوة والجمود، (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار. . .)

هذه صورة الأمس المظلم المقيت، الذي ذهب يخزي الطغاة وعارهم، أما اليوم فقد أذن الله الرحمن الرحيم لهذا الشعب الصابر أن يقطف ثمرة الصبر التي أيعنت، وأن يستظل بفيء الحرية التي بسقت وأزهرت، والتي رواها بدمه، وغذاها بتعبه، وصانها بروحه، فخرج من صفوف الشعب القائد النجيب؛ فكان لمصر المنقذ المخلص، والحاكم العادل، والحارس الأمين، والبطل الحبيب، فالتف حوله الشعب المظلوم يشكو إليه ما لقي من عنت وأذى، كما يجتمع الأبناء حول أبيهم يبثونه ما بنفوسهم من جراح وآلام. . . فلم يترفع الرئيس عنهم، ولم يشمخ بأنفه كبرا عليهم، ولم يعتصم بحصن أو يتوارى في قصر، بل مشى بينهم فرحا بهم وفرحين به، يسمع إلى ما يقولون، ويحقق ما يأملون، ويلبي ما يطلبون، باسم الثغر، ثابت العزم، راسخ المبدأ. . . يأتيه المظلوم الصادق فيرفع عنه ظلامته، ويلوذ به

ص: 22

الشيخ العاجز فيخفف من مصابه. . . وتجيئه هذه الأم المحزونة ومن حولها أبناؤها، وعلى وجوههم علائم البؤس، وفي صدورهم لذعة اليتيم، لأن من كان يطعمهم من جوع، ويكسوهم من عري قدمات. . . وتركهم صغارا حيارى يعانون قسوة الأيام، ولوعة الحرمان. . . فيذكر الرئيس البطل أن السماء قد أعدته ليكون أبا لهؤلاء اليتامى ولكل يتيم في مصر فقير. . . فلا يملك قلبه من البكاء، ولا يقوى على حبس الدموع في عينيه!

وكيف لا يبكي؟ وهو الأب الرحيم لهذا الشاب الذي أجاعه ظالموه وأذله حاكموه، وسرق حراسه الأشداء، وروعه طغاته الأقوياء. . . بل أنه ليبكي ويسكب الدموع. . . دموع الحزن العميق والفرح الغامر. . . لأن الله قد اختاره ليمسح ما بالقلوب من أحزان، ويطهر ما بالنفوس من أدران، ويداوي ما تركه الماضي من علل وأسقام. . . وقد أعانه الله فحطم (هبتل) البغي والضلال، وسحق أعوانه وعابديه، فهو يذرف دموع الفرح لما حقق لأمته وبلاده من حياة حرة كريمة. . . فإذا رجع من المعركة الظافرة إلى الشعب رأى ما خلفه فيه المقهورون من مآثم، وما تركوه من مظالم، وشاهد فصولا من البؤس حية لا يقوى على خلقها الخيال. . . فتثور فيه العاطفة الصادقة، ويشيع في أوصاله التأثر العميق، ويخفق قلبه الكبير بالعطف والحنان. . . فيبكي ويذرف الدمع السخين!

رعاك الله أيها البطل

إن هذه الدموع التي تنبع من قلبك الطاهر، وثيقة الرحمة والإخلاص، وبرهان البطولة والإيمان، وهي - لعمري - قصيدة لا يحسنها إلا من وهبه الله قلب ملاك وروح شاعر، ولها في القلوب فعل السحر. . . ويدرك معناها من خبر هذا الضرب من الشعر!

عمر عودة الخطيب

ص: 23

‌الكتاب ولوازمهم

للأستاذ محمد فرحات عمر

دعاني إلى كتابة هذا المقال أمران طالما أثارا من دهشتي وعجبي:

أولهما ما راعني من التزام أكثر كتابنا بعض عبارات لا يسبغون عنها حولا، ولا يريدون بها بديلا.

وثانيهما مدى دلالة هذه اللوازم على شخصيات ملتزميها، بحيث يمكن أن تكون عنوانا لها ومرشدا عليها، ونبراسا مضيئا يكشف لنا عن أغوارها، وعما يختلج في لواعجها من مشاعر وميول.

وأول ما يصادفنا من هؤلاء الكتاب هو الدكتور طه حسين؛ فمن لوازمه قوله دائما (مهما يكن من شيء) و (ما استطعت إلى ذلك سبيلا)، هذا إلى جانب استعماله للمفعول المطلق استعمالا ظاهرا يثير الانتباه ويدعو إلى الالتفاف! وهذه اللوازم إن كانت جديرة بالاهتمام فهي من حيث أنها عنوان أمين لكيانه النفسي ومسبار صادق لسبر أغوار هذه الميول وتعقب أسباب هذه الأهواء التي ضربت بجذورها في أعماق هذه النفس الكبيرة. فبديا نعلم أن الدكتور طه قد فقد بصره إبان طفولته، فلا غرو أن تولد عن هذا فيما أسماه آدلر بمركب النقص الذي كان حافزا له على اصطناع أسلوب تعويض من شأنه أن يحقق تكامله الشخصي كفرد سوى.

ويجمل بنا كي ينجلي الأمر أمام القارئ أن نأخذ في بسط معنى (المركب) وفي التعريف بمعنى (النقص) بغاية الإيجاز ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. أما المركب فنعني به مجموعة العواطف التي تندس في العقل الكامل فتوحي إلينا باتجاهات خاصة وتملي علينا سلوكا معينا قد يستعصي علينا تعليله ونحار في فهم أسبابه فقال فرويد بمركب أوديب وقال آدلر بمركب النقص معتمدا في هذا على نظريته الغائية في حب السيطرة. . والذي يعنينا هو مركب النقص الذي يتولد عادة في أيام الطفولة حين يشعر الطفل بضعفه إزاء المحيط الخارجي، وقد يطول به الأمد إلى أيام الشباب ولكنه لا يجنح إلى الظهور ولا يحمي وطيسه عند الفرد إلا في حالة نقص طبيعي ظاهر والمصاب به يشعر بقصوره، ومن ثم يدأب على أن يخلق من نقصه كمالا وذلك في نطاق الظروف المواتية والأحوال الموائمة

ص: 24

وعلى قدر الذكاء الموروث. وهذا السلوك التعويضي قد تترتب عليه نتائج بعيدة المدى تدعونا إلى العجب والإعجاب معا. ومن سمات المصاب به أن يكون كثير التهكم على الناس، عابثا بهم، ساخرا منه. ومن شواهدي على ذلك ما نراه من برناردشو وأبي العلاء مثلا. على أن المصاب به قد لا يجحد العبقرية كائنة ما كانت في أي شخص، ولا يفكر بالعظمة حتى يخر لها ساجدا، وكأنه حين يصل القمة في إيمانه بالغير يكون قد وصل الذروة في إيمانه بنفسه. فلقد كان شو على تهكمه اللاذع بالناس، وسخريته المقذعة منهم، شديد الاحترام للنبوغ، فلقد أبدى تواضعا غير معهود فيه حين قابل غاندي وقال له أقدم لك نفسي أنل المهاتما الصغير. كذلك أبدى احتراما فائقا حين جمعته الظروف بأنشتين. وعلى هذا الحال كان أبو العلاء المعري على عبثه بالناس معجبا بالمتنبي إلى حد التقديس!

ومن الإمارات التي تهدينا أيضاً إلى التعرف على شخصية الرجل الذي تنطوي نفسه على هذا المركب تكلفه السلوك وتصنعه له تصنعا ظاهرا يدعو إلى العطف والإشفاق.

والمحلل لشخصية عميد أدبنا العربي يعرف عن كثب مقدار تغلغل هذا المركب في نفسيته، وإلى أي حد كان حافزا له على المثابرة والكفاح حتى تألق نجمه وأصبحت له هذه المكانة المرموقة. فالسخرية من الغير هي مسلاته. . . وعبادة العبقرية أو على الأصح عبادة نفسه بطريق غير مباشر، أطيب الأمور إلى نفسه، فما أظن إعجابه بأبي العلاء وإشادته بذكره وتعصبه له، إلا إعجابا بنفسه وإشادة بذكره. وأنا أذكر على سبيل المثال هذه المناقشة التي قامت بينه وبين أحد نواب الوفد في قاعة البرلمان والتي ختمها الدكتور طه بقوله (إن طه حسين هو اللغة العربية).

ومن ثم فلا غرو أن كان لسان حاله يردد (مهما يكن من شيء) و (ما استطعت إلى ذلك سبيلا) ثم لا يلبث بعد ذلك إلا ريثما يستعمل المفعول المطلق استعمالا ظاهرا كأنه يرمي إلى توكيد ما ردده من قبل. فكل هذه اللوازم تدل على أنه قد طرح عن نفسه كل يأس، وخلع عليها كل فضل فوطدها على العمل وعقد عزمه على الشد من أزرها مهما كانت الظروف والملابسات.

والآن ننتقل إلى كاتب آخر هو الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد. . ولكاتبنا لوازم عديدة يعنينا منها هنا كلمة لا مراء وكلمة (مليحة) يعني أن فلانة جميلة! فبهاتين اللازمتين يمكننا

ص: 25

أن نهتدي إلى (مفتاح) شخصية الكاتب الكبير فبديا الأستاذ العقاد رجل عاطفي إلى أبعد ما يتصور المرء، فإذا صادق تحمس في صداقته إلى حد أن يرفع صديقه إلى مصاف العظماء، وإذا سخط على أحد أو غضب منه أنزله أحط مرتبة وأسفل درك. فكلنا يذكر أيام خروجه على الوفد وأي حملة حملها عليه وأي تجريح وتقريع صبهما على رأس الوفد ورئيسه. هذا مثل حي من عداوته، أما صداقته فأنا أذكر على سبيل المثال رواية طريفة: كنت يوما بمجلسه وتجاذبنا أطراف الحديث في السياسة حتى انتهى بنا المطاف إلى الكلام عن شخصية المرحوم محمود فهمي النقراشي فما كان من الأستاذ إلا أن بادرنا بقوله (إن النقراشي في رأيي لا يقل إطلاقا عن المهاتما غاندي إن لم يزد) لقد قال الأستاذ قولا عظيما لا أظن أحدا يوافقه عليه؛ ولكن هذا هو إذا صادق فطوبى لصديقه، كما أنه لو عادى فويل لعدوه. ومن كانت هذه حاله فهو إنما ينظر إلى قيم الأشياء بوجهة نظر ذاتية لا بوجهة نظر موضوعية فهو يقومها بمقتضى هواه وبحسب ما يشتهي. ومن كان دأبه هذه النظرة فهو رجل شديد الإيمان بنفسه عظيم الاعتداد بشخصه! وعلى ذلك فلا عجب إن لازمت الأستاذ العقاد كلمة مثل (لا مراء) سداها الحسم ولحمتها القطع! بل العجب كل العجب ألا تلازمه مثل هذه (اللازمة).

وليس مما يشبن الرجل أو يقلل من قدره أن يقال عنه أنه معتد بنفسه، فإن هذا لعمري شيمة كل رجل عظيم لم يعرف قدره ولم يلق تكريما من أهل عصره، بل على العكس قد يلقي حسد وجحودا وبهتانا عظيما. فالأستاذ العقاد على الرغم من أنه أكثر كتابنا ثقافة وأوسعهم اطلاعا وأقواهم حجة وأرصنهم عقلا وأنظمهم فكرا ما زال أنصاره قلة وأعداؤه كثرة دون ما سبب سوى الهوى المغرض المستبد بنفوس الكثيرين من الناس.

ثانيا: يبدو الأستاذ في كثير من الأحايين متمسكا بالتقاليد الموروثة متعصبا لها، أو بالأحرى فيه حنين دائم إلى الماضي، فما زالت بعض تعاليم التربية التي تلقاها في فجر حياته تتحكم في كثير من تصرفاته وفي تحديد طرائق تفكيره، فهو مثلا لا يوافق على مساواة المرأة بالرجل على النحو الذي ينادي به كثير من أنصارها الآن، وله أدلة على ما ذهب إليه عديدة، بعضها فسيولوجي وبعضها سيكولوجي وبعضها الآخر سوسي ولوجي. . وسواء قويت هذه الأدلة أم وهنت، فإن هذا لا يعنينا في شيء؛ إنما الذي يعنينا هو اتجاه الرأي في

ص: 26

ذاته. وزد على هذا أن للأستاذ زيا تقليديا خاصا لا يكاد يتأثر بموجات (المودة) وتياراتها فهو لا يبغي عنه حولا ولا يريد به بديلا. ثم فضلا عن هذا كله فإن ما نراه تغلغل العاطفة الدينية في شخصه تغلغلا لم تزلزله كثرة قراءاته لأفكار الغربيين والتي لولاها لما أخرج لنا كتابه عن الفلسفة القرآنية وسلسلة العبقريات والديمقراطيات في الإسلام. . . أقول إن ما نراه من تغلغل العاطفة الدينية فيه إلى هذا الحد لينهض دليلا كافيا على أنه ما زال متأثرا بملابسات بيئته الأولى. وإذا كان ذلك كذلك وكان الأستاذ العقاد ما زال متأثرا بملابسات بيئته الأولى، فلا عجب أن تظل على لسانه بعض الكلمات التي تتميز بها اللهجة الصعيدية، ولا غرو أن يمتد هذا إلى لغة الكتابة. ومن ثم فإن كلمة فلانة (مليحة) التي رددها مرارا على الأخص في قصة سارة هي لازمة لها مغزاها، ولا يمكن أن تمر على القارئ دون أن تثير انتباهه وتدعوه إلى الالتفات.

بعد هذا يصادفنا المرحوم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني فقد كانت له رحمه الله لازمة هي أصدق ما تكون وصفا له ولفلسفته، ألا وهي بسيط ومشتقاتها، فيقول (هذا أمر بسيط) و (أمور بسيطة)(والرد عليه غاية في البساطة) وعلى الرغم من أن هذه الكلمة لا تؤدي المعنى المراد لغويا وإنما هي ترجمة غير دقيقة لكلمة فقد لاقت هوى في نفس كاتبنا، وربما كان هذا لأن الأستاذ المازني كان رجلا بسيطا في نفسه بعيدا عن التعقيد الذي انطوت عليه نفوس أهل زماننا، وربما كان هذا أيضاً لأن الأستاذ المازني كان ينظر إلى الحياة ببساطة منقطعة النظير. أذكر له مقالا كتبه في أخبار اليوم جاء فيه ما معناه: إن الصحافة ليست هي باب رزقه الوحيد فإنه في مقدوره أن ينقطع عنها غير نادم ويعتزلها غير آسف فإنه يملك سيارة يستطيع في يوم وليلة أن تصير (تكسي) كما أنه يستطيع أن يفتتح حانوتا للمرطبات وهو ضمين بأنه سيكسب من الكوكا كولا وحدها قدر ما يقتضيه من صاحبة الجلالة الصحافة. إن فكرة هذا المقال تدلنا على أنه كان ينظر إلى الدنيا على أنها يسر في أحرج مواقفها، وأشد أزماتها. وكذلك كان رحمة الله بسيطا في حياته الفكرية، فأبغض شيء عنده هو قراءة الفلسفة كما صرح بهذا في كتابه قبض الريح، وقال ما معناه أنه لا يفهمها ولا يهضمها ولا يرى طائلا ما تحتها. ثم لقد كان أسلوبه نموذجا للسهل الممتنع، كنت أقرأ له فيهيأ لي لأول وهلة أني بصدد كلام دارج، ولكني لا ألبث إلا أن

ص: 27

أرجع عن ضني وأقول في نفسي ويحك يا فلان لقد ظلمت الرجل. . . والواقع ما ظلمت إلا نفسي. . .

إن المازني كان بسيطا، في جميع وجوه حياته، ولقد كانت هذه اللازمة هي أصدق ما تكون وصفا له ولفلسفته، رحمة الله لقد كان عظيما في بساطته.

يقابلنا بعد هذا كاتب له طابعه الفكري الخاص هو الأستاذ سلامة موسى وثقافة كاتبنا تكاد تكون غربية بحتة وهو يرى أن مهمته الكتابية تنصب على صبع الفكر الشرقي بالروح الغربية، وهو كثير التنبيه إلى هذا! ولذا كانت عبارته المأثورة التي يلتزمها وهي (مما هو ذو مغزى) خير ما تعبر عن التنبيه إلى نياته وما استقرت عليه أفكاره. إن الأستاذ صاحب رسالة يرنو إلى تحقيقها، أنه يرى وجوب هجر التراث العربي والأخذ بتلابيب الثقافة الأوربية وحدها. هذا هو مغزى كل كتاباته على اختلافها؛ وهو يريد من القراء الالتفاف إلى هذا المغزى. . فلا مناص إذن من التنبيه بعبارته التقليدية كلما اقتضت الحاجة ذلك.

هذه لوازم بعض كتابنا الكبار، ولقد شاهدنا مما سبق كيف أن هذه اللوازم لم يكن وجودها اتفاقا وصدفة، بل هي ترجع إلى أساس مكين في نفوس أصحابها. . . حقا إن الأسلوب هو الشخصية. . . أو قل إن اللوازم من الشخصية.

محمد فرحات عمر

ص: 28

‌من الشعراء والأدباء الشباب في العراق

كاظم جواد

للأستاذ خالص عزمي

في مطلع عام 1928 ولد شاعرنا من أب عربي ينحدر من قبيلة عربية تسمى (آل عارض) تقطن المنطقة الجنوبية من العراق في أطراف مدينة السماوة، وقد أبلت البلاء الحسن في الثورة العراقية الكبرى عام 1920: ولد شاعرنا في تلك المنطقة التي تكثر فيها المياه وتحيط بها المزروعات من كل مكان، وجعلت فيها قدرة الله ألوانا من البديع والجمال الأخاذ. فشب وهو يحب الجمال وترعرع وهو ينظر إلى الطبيعة الفاتنة نظرة البشر والبهجة فانطبقت هذه الصورة في مخيلته حتى تأثر بها كل التأثر في قصائده ومقتطفاته.

وفي جو تسوده التقاليد القبلية والعادات العربية العريقة نما ونمت معه العزة، والكرامة والصراحة، وطيبة القلب، والخلق القويم، لم يعرف المداجاة، ولم يمارس النفاق فشب وهو كامل الرجولة يتمتع بالمزايا النادرة التي يجب أن يتمتع بها كل رجل.

وفي نفس ذلك الجنوب الهادئ الوديع، القوي الجبار راح شاعرنا يتلقى علومه الأولية فدخل المدارس الابتدائية ثم المتوسطة والثانوية، ثم نزح بعدها إلى مدينة العلم والمعرفة (بغداد) حيث راح يكمل دراسته العالية، فدخل كلية الحقوق العراقية وفي خلال أوقات فراغه كان يقبل على مختلف العلوم والفنون ينهل منها ما شاء الله له أن ينهل، ولم يكتف بكل ما قرأ ودرس وتعلم بل دخل مدرسة دينية مسائية الدروس قرأ فيها أصول الفقه وفلسفة الدين وألفية (ابن مالك) و (البديع) و (البيان) و (أصول النحو) و (العروض). . . الخ من الكتب الدقيقة. وبقي على حاله تلك حتى تخرج في كلية الحقوق هذا العام وحصل على (الليسانس).

وكان خلال فترة دراسته يتابع نشر قصائده في مختلف الصحف العراقية والعربية وكانت مجلة (الثقافة) الغراء الميدان الواسع لشاعرية كاظم، فقد نشر فيها أغلب قصائده وأروع مقتطفاته التي كتبت له مجد الشباب الواعي.

كنت أجلس إليه ذات مرة وهو شارد الفكر فوجدت الفرصة سانحة لكي أوجه له بعض الأسئلة التي كنت أود معرفتها منه.

ص: 29

فقلت: - ما هي أول قصيدة لكم. قال: (لقاء). قلت ألا تود أن تسمعني منها شيئا: فأنشد يقول وأنا أسجل بعض أبياتها

أطلت كوكبا وضاء يسمو فوق آفاقي

دنت كالعابد الهيمان من محراب أشواقي

أطلت بسمة سكري على مرآة إطراقي

كئيب ظامئ للحب تذكو نار أعماقي

منى نفسي، سجين الأمس هل حطمت أطواقي

بلا ماض، أريد العمر يحلو بعد إخفاقي

حياتي بعدما نثرت رياح الغدر أوراقي

ربيع سال من عينيك واستلقي بإحداقي

وقفت أمامها خجلا وطرفي حائر شحب

وأنفاسي مولولة على شفتي تصطخب

فؤادي كاد من لهف إلى أحضانها يثب

جريحا والهوى جرح بعيد الغور منشعب

سفحت الآه فانتقضت تسائل هل لها سبب

أخاف، أخاف من أمل إذا ما بحت يحتجب.

قلت بمن تأثرت من الشعراء: قال تأثرت كثيرا (بالمتنبي) من الشعراء الأقدميين و (بأبي ريشة) من الشعراء المحدثين. قلت ومن الأدباء. قال (بأبي حيان التوحيدي) من القدامى، وبجبران. وطه حسين. والزيات. ونعيمة. وزكي نجيب محمود. من المحدثين.

قلت: هل لك ديوان مطبوع. قال إلى الآن لم أطبعه وإن كان قد جهز للطبع حاليا وأسميته (من أغاني الحرية) وهو مجموع القصائد والمقتطفات الشعرية التي قلتها في مناسبات كثيرة وأغلبها منشور في الصحف العربية. وتلك القصائد تدور في موضوعين: منها في الجمال والوجدان والحب. ومنها في القومية العربية والوطنيات، وقد تأثرت جدا بالحركة المصرية الأخيرة فقدمت للعالم العربي تسعة قصائد في وصف شعوري نحو إخواننا المصريين وهم يكافحون كفاح الأبطال لنيل الحرية وإليك بعض ما قلت في قصيدتي

ص: 30

(اعزفي يا رياح).

مات ضوء النهار وأحلو لك الأفق المدمي بحشرجات ذكاء

شرق الليل بالجراح وغصت ربوات (للقنال) بالشهداء

ومجاري الدماء أذكى محانيها عناق الأشلاء للأشلاء

فإذا (النيل) والضحايا حواليه صلاة مسحورة الأصداء

إلى أن يقول:

اعزفي يا رياح ما أحقر العمر إذا آلا غمغمات رثاء

اعزفي فالظلام ولي ولكن أين فجر البطولة السمحاء

أين قيثارة الحياة يموج الوعي فيها مزمجر الأصداء

أين من ومأة الصباح أراجيز كفاح صخابة الأجواء

فوراء المدى، وإن زحف الفجر بقايا غمامة دكناء

ها لها، ها لها، شموخ أمانينا على كل ذروة شماء

فعدت بغيها الأثيم فيا مصر أخرسيها (بوحدة وجلاء)

وإليك في قصيدتي (المصري الجديد):

طلعت على دجى الطاغي صبوحا

يبارك فجرك الوطن الجريحا

دعاك لمجده فنهضت تعلو

كفرخ النسر تحتقر السفوحا

وفي شفتيك تصطخب الأغاني

يجن إلى الكفاح هوى جموحا

نداء ما وعاه النيل حتى

كساه الموج من لهب مسوحا

إلى أن يقول:

إذا (السودان) كان لمصر روحا

فقد كانت له مذ كان روحا

قرأت ما أنشدني (الجواد) مرة وأخرى ثم قرأت ما سجل في ديوانه في باب الوطنيات فوجدتني أمام شاعر يتدفق وطنية تهزه الأعمال الخوالد في ميدان الكفاح فينشد وينشد حتى يكل منه النفس، هذا الشاعر الشاب سبق عصره كثيرا، فقدم للعالم العربي قصائد في الوطنية والوجدان ما لم يقدمه شاعر في هذه الأيام! لنقرأ للقارئ الكريم هذا المقطع الرائع من ملحمته الكبرى التي تقع في ألف بيت من الشعر وهو يصف فيها مصرع البطل

ص: 31

العربي الشهيد (عبد القادر الحسيني) في معركة القسطل في الحرب الفلسطينية الأخيرة إذ يقول منها في وصف سقوط (الحسيني) مضرجا بدمائه على الرمال الدكناء، فيمثله أروع تمثيل ويقدم للقارئ بذلك صورة مجلوة المعاني زاخرة بالعواطف تدل على تمكن الشاعر من دقة التعبير، قال في المقطع الرابع:

من ترى ذلك المطل؟ أفجر، أم شهاب على أديم صاح

يتملى الأجيال ملحمة حمراء كالنور في الضحى. . . الوضاح

حملته عرائس الوحي للنجم شهيدا على أعف جناح

بعده، بعده، ترنحت الأرض وضجت حناجر، في الساح

تزفر الرعد فالجوانب أصداء تخطت. . . على أنين الجراح

كوثوب الأمواج، والبحر داو صفعت جبهة الخطوب الطلاح

تنحر البغي فالرنين المدمي. كالأعاصير هائج في النواحي

يا شهيداً على الرمال تسجى. . . أدمعت بعده جفون الكفاح

يا شهيداً كأنه الشفق المخضوب ينساب في أصيل الجراح

يا شهيداً نأى وخلف للثوار جرحا في مأتم الأرواح

مأتم الذكريات والفارس المعلم في السوح كالضياء الصراح

كانفلاق الشروق. كاللهب الثائر. كالجمر. كالدم النضاح

صبغ الأفق بالسناء وبالوهج ودمي هياكل الأشباح

فإذا الليل في جوائله السود عروس تؤج كالمصباح

تنثر الضوء يابسا فعليها. . . جمدت دمعة العلي المستباح

هذا هو المقطع الرائع من القصيدة الدامية التي خرجت من القلب وكتبها العقل وسجلتها للخلود العاطفة، نعم هذا مقطع من تلك القصيدة التي أحدثت ضجة كبرى في ميدان الأدب العراقي عندما نشرها الأستاذ (كاظم) في جريدة اليقظة البغدادية وقد عدها بعضهم بأنها الوسام الخالد الذي علقه الشاعر على صور البطل (الحسيني).

في هذه القصيدة بالذات لمس (القارئ الكريم) انبعاثات روحية علوية وانطلاقات شعورية وصورا رفيعة النفس عميقة لفكرة صورت في روح متألمة حزينة.

ص: 32

ثم هنا نقدم للشاعر صورة أخرى هزت عاطفته حينا كثيرا فجعلت منه شاعر الحب والجمال - كما يسمونه في بغداد - نقدم هذه الصورة وهي ملونة بلون الإحساس الرهيف والإخلاص العميق. هذه الصورة هي بعض الأبيات في قصيدته العاطفية ندرجها للقارئ: -

عبرت على دربي خطاها

وتناولت قلبي يداها

في الليل في بيداء وهني

في صحاري العمر تاها

في هوة اليأس البهيم وعي من الدنيا أذاها

طلعت فشب به الشباب

وأج في دمه لظاها

عزراء سلت من مآقي النور

فأتلقت مناها

يكسو محياها العفاف

أشعة ورؤى وجاها

وكنجمة الليل الوليد

هفا على أفقي ضياها

منحته كالطفل اليتيم

حنانها وحبته فاها

قد أرضعته هوى الحياة

فراح لا يهوى سواها

يا طالما أهوى تلاوين

البكور شذى سناها

وروى إلى الأطيار

أغنية مجنحة لغاها

وأذاب في الأوتار

أحلام العرائس في صباها

هو بسمة الحب البريء

يضيء في شفتي رؤاها

حتى إذا بالأمس أجنحة الهوى بلغت ذراها

رزئته بالذهب الحقير

وماله إلا جواها

فهوى على السفح الجديب

مني تضرجها دماها

فكأنه لم يملك الدنيا

إذا وهبت رضاها

واضيعة الأمل الشرود

إذا رنا فسفحت آها

خفتت شمع الذكريات

وجف في عيني ضحاها

ستظل ترقبني مع الناي المكسر مقلتاها

وهناك في وادي الدموع

لعل آلامي تراها

ص: 33

هيهات لن أنسى هواها

السمح لن أنسى هواها

والقصيدة طويلة النفس فيها من التعابير الوجدانية أسماها، فيها من العاطفة الزاخرة بالإخلاص والحب والتفاني أروعها.

والأستاذ الجواد: بعد كل هذا: فنان يلمس الحياة بما ألهمه الله القدير من فكر ثاقب وعقيلة طموحة عالمة، تدفع صاحبها إلى أرفع مكانة.

ولعل الكثيرين من الشعراء يعرفون أن (الجواد) شاب خلق من نفسه إنسانا يعرف معاني الحياة، ويقيس الناس بمقاييس العقل الواعي، ولعلهم يعرفون في شاعرنا أنه قومي من الطراز الأول يتفانى في سبيل عروبته إلى أقصى مدى وهذا ما جعله محبوبا من جماعته محترما منهم يقدرونه كل التقدير.

وأخيرا نود أن نقدم (للقارئ) بعض نماذج من شعره الوجداني، والوطني، والإخوان الذي أمتاز كثيرا:

من ملحمة العربي التائه وتقع في ألف بيت من الشعر: -

حشرجات الكئيب. . . يا آهة الفن، ويا حسرة شجت بذمائه

رب جرح تناهشته كروب

تنقذ الشعب قطرة من دمائه

أيها الشاعر اللهيف إلى النور بزوغا، فالصبح من سجرائه

شعبك الأخرس الشقي ذليل

سارد في ضلاله وعمائه

كافر يلعن الحياة ويبقى

مستكينا لذله واصطلائه

عابس يحصد السنين شقاء

ويماري الأساة عن أدوائه

يتمشى الغناء في جسمه الناحل، والموت صار من أسمائه

يا نشيداً في حومة المجد يرقي

مشمخرا على ذرى عليائه

يا نشيداً بدونه شرف الشعب مهان يذوق سم شقائه

يا نشيداً كأنه نغم الخلد

تهاوى إلى رؤى عذرائه

فكرت أنت كالطلاسم ظلت

فهي سر الإله في أنبيائه

وفي قصيدة له عنوانها (الهارب) نقدم هذه الأبيات التي فيها انطلاقات روحية فلسفية تدل على الفترة التي انغمر فيها شاعرنا في كتب الدين والفلسفة ينهل منها كثيرا يقول في تلك

ص: 34

القصيدة:

عذراء، إني ذاهب فاهدئي

هل نحن إلا من صدى حكمته

الله لا أنت، ولا من عتا

ولا أنا ننال من قدرته

كل على الأرض إلى غاية

وننتهي، تسمو على خلقته

الليل لن يفتح أبوابه

لو لم يطل الفجر من كوته

سبحانه، سبحان ذاك الذي

فجر نبع الحب من جنته

نشرب منه الأمل المشتهى

ونأكل الزقوم من سدرته

لا كان عهد الحب إن لم تكن

عين النوى ترعاك في غيبته

هذا هو (كاظم جواد) شاعر الحب والجمال، الشاب الذي أحرق من أعصابه بخورا في سبيل عقيدته وأهدافه في الحياة.

بغداد: الأعظمية

خالص عزمي

ص: 35

‌في موكب النهضة

كتابان

للأستاذ علي العماري

يخطئ الذين يظنون أن الحياة المصرية تحتاج إلى التجديد من ناحيتيها السياسية والاجتماعية فحسب، ويرون أن الجمود والتأخر والبطء كانت تلازم هاتين الناحيتين، ولا غير؛ فالحق الذي لا سبيل إلى المراء فيه أن الحياة المصرية أصابها الركود والجمود في كل نواحيها، وإن كانت نسبة هذا الجمود وهذا الركود في ناحية أقوى وأظهر منها في أخرى، ولذلك فإن النهضة والبعث والتجديد يجب أن تمس كل نواحي الحياة مسا رفيق أو عنيفا على حسب ما تحتمله طاقة الأمة.

وإلا فهل في مصر وفي العالم العربي من الفاقهين المخلصين لدينهم ولغتهم من يجهل مدى الجمود الذي يسيطر على الدراسات العربية والشرعية؟

فكما أننا كنا في حاجة ماسة إلى من يجدد لنا حياتنا السياسية، وحياتنا الاجتماعية، كذلك نحن في أمس الحاجة إلى من يجدد لنا حياتنا العلمية، وبخاصة في الناحيتين اللغوية والشرعية.

والذين لا يتعبدون بدراسة الكتب القديمة، ولا يعتقدون أن الله جعل علم اللغة وعلم الشريعة وقفا على الأقدمين، ويؤمنون أشد الإيمان بأن أتفه كلمة في العربية هذه التي يتناقلها الخلف عن السلف:(ما ترك الأول للآخر شيئا) هؤلاء يعتقدون أن حاجتنا إلى تجديد هذه الدراسات، وصوغها صياغة جديدة لا تقل - في ميزان النهضة - عن حاجتنا إلى تجديد سياسة الأمة وحالتها الاجتماعية.

وقد يطول الحديث ويتشعب لو أخذت أبين ما في هذه الدراسات من جمود، ولو بالإشارة العابرة، فلذلك سأقصر حديثي عن الدراسات العربية، بل عن كتابين اثنين من هذه الكتب العربية التي نتعبد بدراستها في مصر وفي غير مصر من الأقطار العربية. وكم كنت أن لم ييسر الله لصاحبي هذين الكتابين في تأليفهما، فإن الخطر الذي دخل على العربية منهما لا يقل عن الخطر الذي أصاب الحياة المصرية من تحكم رجال الإقطاع والطبقة الحاكمة.

أما أول هذين الكتابين فألفية ابن مالك. أقول هذا وأنا على يقين من أن آلافا من الناس

ص: 36

سيفتحون أفواههم وستجحظ عيونهم تعجبا، ودهشة، ولكن الذي يؤثر الحق لا يبالي.

وضع ابن مالك ألفيته في النحو في القرن السابع الهجري، ومنذ ذلك التاريخ وعلماء النحو يتخذون هذه الألفية كعبة يطوفون حولها، يضعون لها الشروح، ويضعون على الشروح الحواشي، وبعضهم يؤلف في إعراب الألفية، وأكثر هذه الكتب وضع في عصر الضعف الأدبي، ففيها ما شئت من تعقيد والتواء، ومن تعليلات تافهة لا تستند إلى منطق معقول. وقد أضر عكوف العلماء بهذه الصورة على هذا لكتاب، فوقف الاجتهاد في النحو، وأصبحت غاية المتعلمين أن يفهموا تلك العبارات الملتوية، وأن يحسنوا الجدل في تخريجها وتصحيحها. وربما كان هذا معقولا ومقبولا في تلك العصور التي ركدت فيها ريح العلم، وعمها الانحطاط في كل نواحيها، ولكنه غير معقول ولا مقبول في هذا العصر الذي يمتاز بالسرعة، ويتطلب المحافظة على الوقت ويضيق به أن يضيع في فهم عبارات لا جدوى من فهمها - إن فهمت - وكم تكون الكارثة أطم لو ضللتنا على هذه الحال مع هذه النهضة المباركة، فنحن نقف والقافلة تسير، وويل للمتخلف.

لا تزال الآثار التي يوحي بها تقديس هذه الكتب مسيطرة على أفكارنا وعلى آرائنا وعلى تقديراتنا وعلى مناهجنا، فنحن نجيز الطالب ونمنحه شهادة دراسية يكافح بها في الحياة لأنه حفظ شرح ابن عقيل، أو شرح الأشموني على الألفية. ونحن نشيد بعلم العالم لأنه لا تغيب عنه كبيرة ولا صغيرة من هذا الكتاب أو ذاك، ونحن نسأل عن فلان فيقال لنا أنه عالم جليل، ونسأل عن علمه الجليل فيقال لنا أنه أقدر الناس على فهم الكتب الأزهرية، وتخريج عباراتها، وتعجب أشد العجب حين تذهب إلى هذا العالم الجليل فلا يختلف في نظرك عن الكتاب الأصم في شيء، فأنت تستطيع أن تستغني بالكتاب عن ملاقاته والاستماع إليه، تسأله فيدلك على موضع الجواب من الكتاب، فإذا تخلل الجواب بيت من الشعر، أو حكمة مأثورة لم يزد في تعريفك بهما على موضع الشاهد منهما، أما المعنى الأدبي للبيت أو للحكمة، فيشرحه لك شرحا عاميا كما لو سألت جاهلا لم يطلع على شيء من كتب النحو.

وهذه الأمثلة السخيفة التي تطالعك في كل صفحة، وتؤذي سمعك وإحساسك في كل حين، هي هي منذ أن وضع النحو واضعوه! أما الشواهد فهي في الأغلب الأعم من الشعر

ص: 37

الركيك المتهافت، وقد ورط القدماء في هذا ما كانوا يعتقدونه خطأ من قولهم (البحث في المثال ليس من دأب المحققين).

ولو كنا - حقا - نريد أن نساير النهضة، لطرحنا هذه المؤلفات جانبا، وكتبنا النحو العربي من جديد، وكتبناه بأسلوب واضح أدبي، ولتركنا الأمثلة جملة وتفصيل، واعتمدنا على الشواهد الفصيحة من القرآن والحديث، والشعر والنثر، وليس من المنطق السليم أن نعهد بهذا التجديد إلى أولئك الذين تحجرت عقولهم على القديم، وأصبحوا لا يؤمنون إلا به، لأنهم لا يحسنون غيره، وهذه الحكمة البسيطة الساذجة هي التي تهدينا في هذا السبيل (إنك لن تجني من الشوك العنب). بل يجب أن نعهد بهذا العمل إلى العلماء الأدباء الذين تعمقوا في دراسة النحو العربي ولهم مع ذلك ذوق أدبي جميل، فهؤلاء هم ضالتنا.

أما ثاني الكتابين، فهو (تلخيص) المفتاح للخطيب القزوبني، وما قلته عن ألفية ابن مالك هو نفسه الذي يقال عن التلخيص، مع فارق واحد، هو أن الأمر مع هذا التلخيص أدهى أمر، ذلك أنه في علوم البلاغة، وهذه العلوم أمس بالبيان العربي من علم النحو، فربما لا يروعنا أن نجد العلماء والمتعلمين في النحو لا يتذوقون الأساليب البيانية العالية، ولا يحسنون أن يأتوا بشيء منها قل أو كثر، ولكنه يؤسفنا أشد الأسف أن نجد الدارسين للبلاغة أبعد الناس عن تذوق البليغ من القول.

والتلخيص كالألفية منذ وضع وهو قطب رحا البلاغة، يدور حوله، وتستهدي بضوئه مع ما في شروحه الكثيرة من خلط وخبط، وضعف وتفكك، فهي مملوءة بالمباحث الكلامية، والمباحث المنطقية، والمباحث الفلسفية، ونصيب الذوق الأدبي منها أقل من القليل.

ومع ذلك فهي التي يعتمد عليها دارسو البلاغة العربية جل الاعتماد، وما ظهر من الكتب الحديثة ليس إلا صورة من تلك الكتب، وإن زادت عليها شيئا من الشواهد والتمارين، لكن الطريقة القديمة والأمثلة القديمة والشواهد القديمة هي هي، ومن عجيب الأمر أن بعض الشراح القدماء يعيبون بعض هذا المنهج، ولكنهم يسلكونه، وأشد من ذلك عجبا أن يسلكه المحدثون. هذا سعد الدين التفتازاني، وهو صاحب القدح المعلى في الكتابة عن التلخيص، وأبيه (المفتاح) يقول عائبا طريقة السكاكي في حشد كثير من التقسيمات في باب التشبيه، يقول: (واعلم أن أمثال هذه التقسيمات التي لا تتفرع على أقسامها أحكام متفاوتة، قليلة

ص: 38

الجدوى، وكأن هذا ابتهاج، من السكاكي بإطلاعه على اصطلاحات المتكلمين، فلله در الإمام عبد القاهر، وإحاطته بأسرار كلام العرب، وخواص تراكيب البلغاء، فإنه لم يزد في هذا المقام على الكثير من أمثلة أنواع التشبيهات، وتحقيق اللطائف المودعة فيها). وما يقال عن التقسيمات في التشبيه يقال عن كثير من التفريعات في علوم البلاغة الثلاثة.

إنني دافعت هنا في مجلة الرسالة الغراء، منذ سنوات عن البلاغة العربية، وهاأنذا الآن أدعو إلى نبذ هذه الكتب منها، وليس - في الحق - أي تناقص بين الموقفين، فقد كنت هناك أدافع عن البلاغة كعلم عربي ألف فيه عبد القاهر والزمخشري، وأبن سنان، وابن الأثير، والآمدي، والجرجاني عبد العزيز، وأبو هلال العسكري، وأنا اضرب المعول في هذه الكتب التي نهجت منهج السكاكي والخطيب فجعلت البلاغة جدلا لفظيا عقيما.

وقد يتساءل متسائل، أو تعجبك هذه الكتب التي وضعها المحدثون، والتي تعني بالشواهد الفصيحة؟ والجواب: لا. فإنها كتب جوفاء لا غناء فيها. والذي أريده أن تدرس البلاغة العربية القديمة في كتبها ذات الأسلوب العالي والتفكير المستقيم ثم تكتب بلغة أدبية عالية، ويزاد فيها أو ينقص منها، ولكن لا تخلو كتابتها من هذه اللمحات القوية التي دونها العلماء السابقون.

كما أريد أن يضطلع الأزهر بهذه المهمة فإن رجاله أقدر الناس على تجديد القديم تجديدا نافعا مفيدا؛ وأن يخفى من الدراسات المدرسية هذه الكتب التي عمت الشكوى فيها، والتي لا فائدة منها في الحقيقة إلا ضياع أوقات الطلاب سدى، وإلا إفساد أذواقهم، وحين تتغير الحال في الأزهر، سيترسم خطاه كل المعاهد العلمية في العالم العربي التي تقلده الآن فيما يقدم لأبنائه من طعام لا يسمن ولا يغنى من جوع.

علي العماري

ص: 39

‌رسالة الشعر

نفخة نبوية

محمد. . .

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

أي سحر هفا فرنم عودي

وشدا مرقمي وغنى قصيدي؟

وأحال الدجى ينابيع نور

ضاحكات عن ثغر غيداء رود

ومحي غمرة الأسى والرزايا

وأثار الأفراح بعد هجود

أي سحر ندى الحياة وألوى

بالأماني مؤطرات القدود

فالربيع الضحوك يقفز في السهل، ويحبو على سفوح النجود

والنسيم الهفهاف يعثر بالور

د ويهفو كقلب صب عميد

فرحة عمت الوجود، وعيد

راقص النور فاتن التغريد

يا ربي الخلد ألهميني شعراً

فاتن الجرس رائع الترديد

وامنحيني كما منحت هتوفاً

ترسل الشدو للضياء البديد

أنا في ليلة الهدى فاستجيبي

واسكبي العطر في ثنايا نشيدي

أنا في مولد المتوج بالنور

وفي غمرة الفخار العتيد

منقذ العرب من ضلالات دين

لم يكن غير شقوة وقيود

عرب ألقت الجهالة سدا

بين أفكارهم وبين الكبود

فأطاعوا هوى النفوس وضلوا

بين أربابهم ضلال (الوليد)

كل يوم لهم إله جديد

نحتوه من الصفا الجلمود

كم تمنوا الرشاد منه ولكن

هو لو يعلمون غير رشيد

أو يرجى من الحجارة خير

يا لنكراتهم ويا للجحود!

كيف شكوا بمبدع الكون والكون لسان يفوه بالتوحيد

أرسل الله للعوالم نورا

أنقذ العرب من دياجى الجمود

أرشد الجاهلين بعد ضلال

وأنار العقول بعد خمود

ص: 40

واستفز الشعور منهم فهبوا

من خرافات جهلهم والرقود

حطموا قيدهم وثاروا أباة

يسمعون الدنى زئير الأسود

ملئوا البيد بالفوارس حتى

سئمت منهمو رمال البيد

والصحاري مهاد كل كمى

عشق الموت في ظلال البنود

بوركت (يثرب) وبورك بيت

هل فيه هلال عصر جديد

نحن لولا (محمد) وهداه

لبقينا ننوء تحت القيود

هاشمي به النبوة تمت

بعد (عيسى) وأشرقت بالسعود

ضحك الكون منذ أطل عليه

وله همت الدنى بالسجود

والسماوات أسفرت والروابي

بسمت كالعروس في يوم عيد

(سدرت المنتهى نعيم وأفياء

وأغرودة على أملود)

قل لمن ينكر النبوة مهلا

إن رأى الظليل غير سديد

أو يحتاج عاقل لشهود

وكلام الإله خير شهود

يا نبي الهدى أتيتك أشكو

من حماقات عالم منكود

أشعلوا الحرب عنوة وأثاروا

كل شعب منعم وسعيد

قتلوا الأبرياء في كل صقع

وأراقوا الدما بكل صعيد

شردوا اللائذات من غصب القتل وراعوا أطفالها في المهود

قوة المال قومت كل وغد

فطغى في الدنى بفضل النقود

هذه الحرب قد أقامت فروقاً

جددت بين سيد ومسود

ضجت الأرض والسماوات منها

فمتى ينجلي دخان الوقود

ومتى يغمر الهدوء البرايا

ويرف السلام فوق الوجود

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

طه حسين بين الأدب والسياسة

في خطاب من الأديب عبد اللطيف فايد يقول (كتب الأستاذ محمود عبد المنعم مراد في جريدة المصري في 28 نوفمبر سنة 1952 بعنوان (في الأدب والحياة) تعرض فيه لمؤلفات الدكتور حسين فوزي، وقد دفعه مديح المؤلفات وصاحبها إلى اتهام الدكتور طه حسين بما هو منه بريء. إذ قال في معرض الحديث مخاطبا الدكتور حسين فوزي (أصدقاؤك الذين احترفوا الأدب وزاولوا السياسة، وجعلوا الأدب وسيلة لتلهية الفارغين ليزيدوا كتبهم انتشارا، كما اضطروا إلى مذاراة الحاكمين والمحكومين ليصلوا إلى كراسي الحكم. ومن هؤلاء صديقك الذي أهديت إليه كتابك الجديد الدكتور طه حسين).

وإن القارئ ليقف أمام هذا الاتهام وقد استولى عليه العجب من كل جانب، لأنه إن جاز هذا على بعض الأدباء، فلن يجوز على أستاذنا العميد، وأدب العميد ليس في حاجة إلى التعريف فنقول للكاتب الفاضل إن الدكتور طه حسين لم يجعل الأدب وسيلة لتلهية الفارغين كي يضمن لكتبه الذيوع والانتشار.

وأينما قرأت له وجدت الإيمان بالفكرة، والأدب الرفيع الذي يستعصي العثور على مثله.

ثم أعود فأسأل الأستاذ مراد ألم يقرأ الأيام ومستقبل الثقافة وحديث الأربعاء وعلى هامش السيرة والوعد الحق وغيرها مما تفخر به المكتبة العربية من مؤلفات العميد، وهل كانت هذه الكتب وسيلة لتلهية الفارغين!!

وأود أن أقول للكاتب إن الدكتور طه حسين لم يصل إلى كرسي الوزارة عن طريق التملق ومداراة الحاكمين والمحكومين. . لأننا لم نعثر على أديب شق طريقه بكفاحه وجهاده وإنتاجه حتى وصل مرتبة سامية كالدكتور طه. ثم ما عيب الأديب إذا اشتغل بالسياسة وحافظ على مبادئ أدبه ولم يجعل منها طريقا للإثراء والغنى. والحق أن السياسة كانت دائما في حاجة إلى جبه من الأدباء ليهذبوا حواشيها وليسخروها لإسعاد الناس.

فليبحث الكاتب عن أديب آخر زاول السياسة حتى صار.

وبعد فهذه كلمات اقتطفتها من رسالة الأديب عن طه حسين وليس لي بعد ذلك أن أقول

ص: 42

شيئا، فطه حسين كاتب وهب نفسه للأدب خالصا مجردا، وقد عاش لفنه مجاهدا، باذلا من أعصابه ودمه وروحه.

وكان في كل وقت المناضل المكافح، الذي يحارب الظلم والطغيان. ويكفي أن يكون طه حسين قد اختير من بين 150 عظيما في العالم، كأعظم شخصية في الشرق، ويكفي أن نقدم هذا للأستاذ مراد. .

والحق أنني لست أدري ما هو وجه الشبه بين طه حسين وحسين فوزي مما يدعو إلى أن يقحم الأستاذ مراد الدكتور العميد عند الحديث عن مؤلفات حسين فوزي؟

والعجيب أن أقرأ هذا في الوقت الذي أستمع فيه إلى حوار مع طلبة إحدى الجامعات في راديو الشرق الأدنى وقد أخذ المذيع يسأل الطلبة عن الكتب التي يقرءونها فأجاب 8 من عشرة منهم بأنهم يقرئون كتب طه حسين. . .

هل يكتب تاريخ مصر من جديد. .

كتب الأستاذ محمد عبد الله عنان في الأهرام يصف المحاولات المنظمة التي قام بها الطغاة والمستبدون، لتحريف تاريخ مصر فقال (لقد بدأت هذه المحاولات المنظمة، لطمس معالم تاريخ مصر الحديث في وقت مبكر، عصر محمد علي ذاته، فطورد الجبرتي مؤرخ العصر، وطورد مؤلفه وشوه وبترت منه صحف مما يتعلق بأعمال محمد علي وتصرفاته. ومن خلال هذه الحقبة الطويلة من تاريخ مصر وحياة الأمة المصرية لم يصدر مؤلف شامل رصين تعرض فيه الحوادث والصور على حقيقتها، ويعرض فيه حكم الطغاة وأهواؤهم وأخطاؤهم بأسلوب نزيه حق، وتعرض فيه حياة الشعب المصري وآلامه وكفاحه وجلده في نفس الصور الأليمة المؤثرة التي كان يحياها، ذلك لأن الطغاة كانوا دائما بالمرصاد لمن يحاول أن يجلو الحقائق المنزهة، وأن يجعل من تاريخ الأمة شيئا يذكر إلى جانب سيرهم).

وأنا أستميح المؤرخ الكبير الأستاذ عنان القول بأن مؤرخا واحدا استطاع أن يكتب تاريخ مصر في حرية وجرأة وقوة بعد (الجبرتي) ذلك هو عبد الرحمن الرافعي.

إن من يقرأ الفصل الذي كتبه عن (أحمد فؤاد) في الجزء الثاني من كتاب (في أعقاب الثورة) يعرف كيف استطاع الرافعي أن يقول رأيه في صراحة كمؤرخ في هذا الملك، في

ص: 43

وقت كان الطغيان فيه قد بلغ حده ومداه، وقد احتمل الرافعي في سبيل ذلك عنتا كثيرا ولم يعبأ بذلك فقد كان مؤمنا بما يقول.

وبعد فنحن نرجو أن يكتب الأستاذ عنان تاريخ مصر من جديد بعد أن أمضى هذا الوقت الطويل دون أن يكتب شيئا عن مصر الحديثة.

حياة المازني

. . . وهذه صورة جديدة من الوفاء لكتاب مصر العباقرة الذين ذهبوا، أذكر اليوم كيف حملت (الرسالة) عبء الوفاء للرافعي، عندما كتب سعيد العريان حياة الرافعي. وظل يتلقى السهام من كل مكان.

. . . كنت اعلم أن الأستاذ محمد محمود حمدان قد كتب قصة المازني بعد وفاته، وكان قد اعد هذه الفصول لتكون كتابا، ولكن ظروفا حالت دون نشرها، حتى أتيح لها أن تطالع قراء الرسالة. في نفس المكان الذي طالعتهم فصول حياة الرافعي.

وقد كان المازني أحد كتاب الرسالة وأحد دعائم الأدب العربي المعاصر.

القصصي العالمي

كتبت إلى الآنسة (ليلى مسلم) تقول (في صحف فرنسا الأدبية هذا الأسبوع أن لجنة مكونة من أندريه موروا وفرنسوا ورياك قد اختارت 12 قصة من بين 123 قصة لنشرها في مجموعة

خاصة هي:

أدولف، الأحمر السود، الخيبة المزدوجة، الأب جوريو، مدام بوفاري، دومنيك، البلياد، الطفل، جرمنيال، التلميذ، سارق الأدب، في طريق.

وهي لكونستان، واسنتدال، ومريمي، وبلزاك وزولا، وبورجيه وغيرهم.

وطلبت الآنسة (ليلى) أن تترجم مجلة الرواية هذه القصص لتقدمها إلى قراء العربية في نفس الوقت الذي تقدم فيه إلى قراء الفرنسية)

ونحن بدورنا نرفع هذه الرغبة إلى صاحب الرواية.

والفن

ص: 44

شهدت القاهرة فيلم (مصطفى كامل). . . هذا البطل الوطني الأول. . . وبقى أن نشهد أفلاما عن محمد فريد وعمر مكرم ومحمد كريم وحسن باشا. . . إن مثل هذه القصص هي زاد روحي غاية في القوة للمصريين في هذا العصر الجديد، الذي يعيش فيه الناس على الحقائق الوطنية وعلى المعاني الروحية الخالصة.

لقد عاشت مصر طويلا، تشهد قصصا كلها التهريج والإثم والهوان، ويجب أن ينتهي هذا، مع العهد المظلم الذي انتهى. .

إن المصريين الآن يستقبلون عهدا جديدا،. . جديدا في كل شيء، وعليهم أن يستقبلوا أدبا جديدا وفنا جديدا. . أدب القوة وفن القوة، الأدب والفن المطبوع على الحرية والحيوية والسمو.

والنشيد الوطني، يجري الحديث هذه الأيام حول تغييره. . وهو اتجاه محمود، إننا نريد أن نحس أننا في عهد جديد، في كل شيء، ولا نريد أن نسمع هذا الصوت الذي أتصل يوما بالطاغية. . . المطرود!

ميدان جديد

دعت السفارة الباكستانية إلى مسابقة شعرية في موضوعات أربعة.

أولا: الإسلام وحدة عالية.

ثانيا: رسالة الباكستان.

ثالثا: محمد بن القاسم.

رابعا: محمد إقبال.

ولا شك أنه ميدان جديد يفتح المجال أمام شعرائنا للحديث عن الإسلام والحضارة والتاريخ، ونحن أشد الحاجة من الناحية الثقافية لأن يقتحم شعراؤنا هذه الميادين الخالدة من الإنتاج بعد أن تعثرت خطواتنا طويلا في أدب المناسبات والشعر التقليدي.

أنور الجندي

ص: 45

‌البريد الأدبي

أين الأدب المصري القديم

إن المطلع على الآداب القديمة على اختلاف مصادرها يجد كل أمة من الأمم غنية بتراثها الأدبي من شعر ونثر تستطيع به أن تتعرف إلى ملامح المجتمعات التي كانوا يعيشون بينها - سواء كانت هذه الأمم ذات نصيب من الحضارة كالرومان والإغريق، أو كانت تغلب عليها البداوة كالأمة العربية.

فإذا ما ذهبت لتبحث عن نصيب القدماء المصريين من ذلك لم تستطع أن تعثر على ما يشفي غلتك.

فلن تجد ناشئا من ناشئة الأدب يعرف شاعرا مصريا قديما كما يعرف (هوميروس) وإلياذته في الأدب الإغريقي أو (فرجيل) في الأدب الروماني.

فإلى أي شيء نرد هذا؟ أنرده إلى أنه ليس لقدماء المصريين أدب. وهذا غير معقول؛ لأنه لا يمكن أن تحيا أمة بلا أدب يترجم عن مشاعرها ويصور نوازعها. أم أن ذلك الأدب بلغ من التفاهة والعجز حدا لا يستطيع معه أن يتخطى سدود الزمن.

هذا ما نرجو أن يكشف عنه المختصون مشكورين.

محمد إبراهيم الجيوشي

حول الأدب والفن في أسبوع

تولى الأستاذ أنور الجندي تحرير باب (الأدب والفن في أسبوع) فانتظرنا التجديد والتطور الكبير لهذا الباب.

ولكن يظهر أن الأستاذ أنور لا يعطي هذا الباب من العناية ما يستحقه.

فقد كتب هذا الأسبوع تحت عنوان (ندوة الشباب المسلمين) في معرض الحديث عن المهرجانات التي أقيمت احتفالا بمولد الرسول يقول:

(فقد اشترك فيها عدد كبير من شعراء الشباب: الغزالي، ومخيمر، وشعلان، والعوضي، والمنشاوي، والتهامي، والماحي، وحمام، والعمادين، وجبر، وقاسم.

وأريد أن أسأل الأستاذ أنور بعد ذلك هل كان حاضرا تلك الندوة؟ يقينا لا! بدليل أنه لا

ص: 46

مخيمر ولا شعلان ولا أحد العمادين تكلم إطلاقا في تلك الندوة.

ومن الغريب أن الأستاذ غالى بعد ذلك قائلا: (ومن القصائد التي لقيت الاستحسان قصائد مخيمر والنشاوي والتهامي) مع أن مخيمر لم يتكلم مطلقا كما قلت.

أرجو من الأستاذ أنور أن يعطي هذه النواحي بعض الاهتمام كي يخرج لنا شيئا يصح أن يقرأ فيفيد لا أن يعلق ويستنتج مقتصرا بذلك على الأسماء الواردة في بطاقة الدعوة.

محمود بخيت الربيعي الجهني

الباكستان أو باكستان

من غرائب هذا العهد الأخير أن قد أخذ يتزلزل فيه ما كان ثابتا متوطدا منذ القدم من قواعد النحو والبلاغة. فعادت بعض مسائل النحو مما كانت تجمع عليه العرب وتتخذ فيه مذهبا واحدا في العصور الماضية كأنف من الشمع في أيدي الكتاب، يلوونه ويعبثون به كيف يشاءون. هذا يميله إلى اليمين، وذلك يعطفه نحو اليسار، ثم يأتي الواحد فيتيامن به تارة ويتياسر به أخرى. من تلكم المسائل مسألةٍ إدخال الألف واللام على الأعلام الأعجمية. فقد أصبحنا نرى أخيرا أن الكتاب والأدباء من الناطقين بالضاد يكادون لا يتفقون على مذهب فيها بعينه عند تعرضهم لذكر بعض الأعلام الأعجمية التي ظهرت حديثا بظهور مسمياتها إلى حيز الوجود، ومن تلك الأعلام اسم دولتنا الناشئة: باكستان.

إنا لم نزل - ولا نزال - نقرأ كلمة (باكستان) ونتتبعها فيما يكتبه الكتاب والأدباء في مختلف المجلات والجرائد العربية، فلم نر من أمرها إلا عجبا!

في جريدة أسبوعية سيارة في القطر الجزائري، يستعمل نائب مدير الجريدة كلمة (باكستان) فيعرفها بالألف واللام، فيقول:(ولا يزال فن يتنقل في ربوع الباكستان). وأما مدير الجريدة المفضال وصاحب امتيازها المسئول فلا يكتب اسم وطننا - أينما كتب - إلا مجردا منها وممنوعا من الصرف، فيقول:(وانفصلت باكستان) و (وسكان البنغال وهي باكستان الشرقية)، و (لأن باكستان هي الأول في البرنامج. . .)

وفي الرسالة الغراء يتفضل الأستاذ أبو الفتوح عطيفة فيتناول القطر الباكستاني ببحثه الممتع في سلسلة بحوثه عن جميع الأقطار.

ص: 47

ولكنه لا يرضى أن يجعل لكلمة (باكستان) شكلا واحدا معينا في جميع المواضع من مقالاته تفاديا - على ما نظن - من سآمة القراء منه، فتارة يسبغ عليها جبة فضفاضة من الألف واللام، وأخرى يجردها حتى تتنفس في الهواء الطلق وتستحم من تعب الجبة.

هذه بعض الشواهد على ما قلنا آنفا. فنسأل إخواننا الكتاب والأدباء الأفاضل: لماذا هذا التشتت والاختلاف في مسألة كانت أحرى أن تكون موضع اتفاق للجميع!

أما ما نعلم في هذه المسألة فهو أنه من الثابت المحقق - أولاً - أن باكستان من الأعلام الأعجمية التي تمنع من الصرف أو التنوين وذلك على قاعدة النحو القائلة بأن العلم يمنع من التنوين أو الصرف.

(1)

إذا كان أعجميا غير ثلاثي ساكن الوسط

(2)

إذا كان مركبا مزجيا غير مختوم بكلمة ويه

وباكستان ولا شك علم أعجمي غير ثلاثي ساكن الوسط، كما أنها مركب تركيب المزج من (باك) و (استان) ومعنى الأول الطاهر، ومعنى الثاني الأرض أو البقعة، ومعنى المركب البقعة الطاهرة. والمعلوم أن من عادة العرب أنها لا تعرف بالألف واللام - في أغلب الأحوال - الأعلام الأعجمية التي تمتنع من الصرف، مثل لندن ونيويورك وأمريكا وآسيا وليفر بول وبتروغراد ودبشليم وبيدبا. . . بل ترسلها مجردة منهما. وأما ما كان ينصرف من تلك الأعلام الأعجمية لكونه ثلاثيا ساكن الوسط، فالعرب تارة تحليه بالألف واللام كالصين والهند، وأخرى ترسله عاطلا كنوح وشيث، والأمر كله يقف على سماع القوم.

هذا من جهة قواعد النحو. والذي قد استخرجناه من كتابات اللغويين المحققين والكتاب المتحفظين - حفظهم الله - في هذا العصر، أمثال الأستاذ أحمد حسن الزيات في مصر، والأستاذ محمد البشير الإبراهيمي في الجزائر، والأستاذ مسعود الندوي في باكستان، فهو أن كلمة (باكستان) قد أغناها الله عن التنوين وعن الألف واللام. ولا بد أن يكون عليه أساتذة العراق والشام ممن لم نطلع على استعمال (باكستان) في كتاباتهم.

ذلك ما عندنا في هذا الباب، ويا حبذا لو يتفضل أحد أساطين النحو والبلاغة في بلاد العروبة فيأتي بحكم قاطع في هذه المسئلة، حتى لا تبقى باكستان موضع خلاف ونقاش بين الكتاب والأدباء من الناطقين بالضاد، وهي دولة ناشئة ميمونة ينبغي أن تأتى مؤلفة بين

ص: 48

الجميع!

بهاول بور - باكستان

محمد كاظم سباق

1 -

من تاريخ الفقه الإسلامي

يقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف (في 1 - 24 من مجلة الأزهر): ولهذا عني بتدوين الفقه فدون محمد بن الحسن كتب ظاهر الرواية، ودون سحنون المدونة في فقه مالك، وأملى الشافعي فقهه في كتاب الأم، وجمع ابن قدامة فقه أحمد في كتابه المغنى.

أقول: إن أبن قدامة صاحب المغنى توفى سنة 620 فالصواب أن الذي جمع فقه الإمام أحمد هو أبو بكر الخلال المتوفى سنة 311 ففي (شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج2 ص361): أنفق عمره في جمع مذهب أحمد وتصنيفه، وله كتاب الجامع - لعلوم الإمام أحمد - وهو كبير جليل المقدار. وفي طبقات الحنابلة لابن الفراء: رحل إلى أقاصي البلاد في جمع مسائل أحمد. . وسبق إلى ما لم يسبق إليه سابق ولم يلحقه بعده لاحق. وقال الخطيب: جمع علوم أحمد. . . ولم يكن فيمن ينتحل مذهب أحمد أحد أجمع لذلك منه. وقال الكوثري: بلغ ما سجله من مسائل أحمد أربعين مجلدا.

2 -

من تاريخ الفقه

يقول الدكتور أحمد أمين (1 - 24 من مجلة الأزهر) ومما امتاز به (الشافعي) اهتداؤه إلى علم الأصول ووضعه له ثم استنباط الحكام على وفقه مما لم يصل إليه إمام آخر. ولذلك كان مذهبه أكثر المذاهب انطباقا على المنطق بعكس الأئمة الآخرين فإنهم كانوا يعتمدون على فهمهم لآيات الأحكام وأحاديثها وكان الاستنباط كالملكات في نفوسهم.

وقال ابن العماد في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب ج1 ص301): قال ابن الفرات في تاريخه: أبو يوسف أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة. وقال: الكوثري (في سيرة أبي يوسف القاضي ص33): قال طلحة الشاهد: أبو يوسف أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، كما حدث بذلك الخطيب البغدادي. فأوليته في وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة لا تنافي أولية

ص: 49

الشافعي في وضع الكتب في أصول الشافعي، بل صنيع الشافعي في مناقشة من تقدمه في مسائل الأصول في كتبه من أجلى الأدلة على أن أوليته هي بالنظر إلى مذهبه فقط. ويقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف في (1 - 24 من مجلة الأزهر):(أصول الفقه دون فيه أبو يوسف ولم يصل إلينا ما دونه، ودون فيه الإمام الشافعي رسالته وهي أول مدون في أصول الفقه بين أيدينا). ولا يتسع المجال هنا لبسط قواعد الاستنباط وأصوله عند الإمام النعمان وغيره من الأئمة.

محمد شفيق

ص: 50

‌القصص

الدم

للكاتب الفرنسي إميل زولا

ها أنت ذي لا زلت بين أشعة الشمس وأرج الأزهار. ألم تسأمي هذا الربيع المستمر يا نينون؟ دعيني إذن أغمض جفنيك الناعستين على تلك القصة الكثيرة الهول، فإن النفس متى ملت طول النشوة قد تسكن إلى صوت الأهوال.

- 1 -

في اليوم الذي انتصر فيه الجند أخذ أربعة منهم مقاعدهم عند ركن من ميدان القتال وقد التف من حولهم الظلام وهم يتناولون طعامهم بين جثث الموتى.

وكانت ألسنة اللهب التي يشوون طعامهم عليه تنعكس أشعتها على وجوههم وترسل من خلفهم ظلالا ضخمة إلى مسافات بعيدة حتى أن سيوفهم كانت تتألق من وقت لآخر تحت شرارات تلك النار، وحتى أن الناظر كان يلمح في قلب الظلام جثث القتلى وهي نائمة جاحظة العيون.

أما رفاقنا فكانوا فرحين يضحكون في جوف الليل غير شاعرين بتلك العيون المحملقة فيهم. ولعل لهم عذرا من هول ما رأوا في يومهم الدابر، ومن الهول الذي ينتظرهم في الغدر. فأخذوا يحتفلون بتلك الساعات القليلة التي جاد بها عليهم حسن الحظ غافلين عن ظلام الليل وظلام الموت وأجنحتها التي تحلق فوق هذا الميدان فتهز سكوت الفضاء.

ولما انتهوا من طعامهم تاقت نفس أحدهم إلى الغناء واسمه (جنوص) ولكن نبرات صوته كانت تمزق غشاء الهواء القاتم الحزين، وكانت أغنيته إذا خرجت من شفتيه امتزجت بالصدى فكانت كتنهد عميق. وعند ذلك شق حجاب الظلام صرخة مزعجة دوت في الفضاء فاضطرب حتى أنه كلف رفيقه (إلبرج) ليذهب ويرى فلعل إحدى الجثث عادت إليها الحياة. وهكذا ابتعد إلبرج على ضوء مشعل أخذه معه ورفاقه يشيعونه بعيونهم لحظة على قدر ما يسمح به امتداد الضوء فأبصروا به وقد انحنى من بعيد يسائل الموتى ويفتش بينهم بطرف سيفه ثم اختفى.

ص: 51

وبينما هم سكوت صاح جنوص بزميله الثاني (كليريان) أن يذهب في أثره خوفا عليه من الذئاب.

وهكذا اختفى هذا أيضاً في الظلام.

أما جنوص وفيلم فبعد أن طال بهم الانتظار ارتديا معطفيهما واستسلما للنوم إلى جانب تلك النار وقد أشرفت على الانطفاء. وما كادا يغمضان أجفانهما حتى سمعا تلك الصرخة من جديد وكأنها تمر من فوق رأسيهما حتى أن فيلم انتصب فزعا واتجه إلى تلك الجهة التي اختفى عندها رفيقاه.

وهكذا لبث جنوص وحده وقد أخذ شبح الخوف يتمثل لعينيه كلما وقع بصره على تلك الهوة السوداء التي كانت تدوي بحشرجة الموتى. وعندئذ ألقي في النار بعض الحشائش اليابسة لعل اشتعالها يبدد شيئا من ذلك الرعب الذي تملكه.

ولقد أخذت ألسنة اللهب ترتفع أخيرا حمراء كالدم فأضاءت الأرض على مسافة مستديرة واسعة كان يخيل إليه أن حشائشها أخذت ترقص من فوقها، وكأن أصابع خفية كانت تحرك جثث القتلى.

على أن القمر أخذ بعد ذلك يظهر قرصه عند الأفق فتبدد أشعته الضئيلة مخاوف تلك الأهوال التي كان الليل يخفيها في جوفه وكانت الصحراء جرداء خالية إلا من بعض أشلاء منطرحة تحت أكفان من النور.

أما جنوص الذي كان العرق يتصبب من جسمه فقد فكر في الصعود فوق رابية هناك وهو يسائل نفسه: لم لا تنصب من مكانها أشباح أولئك الموتى وقد أخذت تحملق فيه. وهكذا أخذ جمودها أيضاً يرسل إلى قلبه عوامل الرعب فأغمض عينيه. وبينما هو في مكانه جامد شعر بحرارة تدب في قدمه اليسرى فانحنى ليتبين أمرها ولكنه رأى سلسالا رقيقا من الدم يعلو وينحدر بين الحصى، ولجريانه خرير ناعم لطيف.

وكان هذا السلسال يخرج من الظلام ويتلوى تحت أشعة القمر ليعود ثانية إلى الظلام، فكان كالثعبان الملطخ ببقع سود تتتابع كالحلقات بخفة وبلا انتهاء. وعندئذ تراجع إلى خلفه وقد تمردت أجفانه فلم يستطع إطباقها من هول ما رأى. أما السلسال فأخذ يتسع مجراه حتى استحال إلى جدول ثم إلى نهير ثم إلى سيل يسمع له وهو يجري صوت أصم وقد أخذ

ص: 52

يقذف على جانبيه زبدا أحمر، وأخيرا استحال إلى نهر واسع يكتسح أمامه هذه الجثث.

ولكن كيف خرج كل هذا الدم الغزير من جروح أولئك الموتى حتى غمرهم؟ وعلى كل حال اضطر جنوص إلى التراجع أما تلك اللجة الصاخبة وقد غاب عن نظره الشاطئ البعيد، كأنما تلك المسافة المترامية الأطراف قد استحالت إلى بحيرة واسعة، حتى خطر له أن يفر لولا أنه وجد نفسه فجأة عند كوم من الصخور وأمواج الدم ترتطم بفخذيه، وكأنما الأشلاء التي يجرفها التيار أمامه تلعنه كلما أبصرت به في طريقها، وكأن كل جرح من جراحها فم يزدريه ويسخر من رعبه. أما البحر الزاخر فكان يعلو ويعلو حتى بلغ صدره، وعندئذ استجمع ما في نفسه من قوة وأخذ يتعلق بالفجوات التي بين الصخور حتى غاص إلى كتفيه والقمر الحزين الباهت ينظر كيف يبتلع هذا البحر أشعته كلما انعكست فيه، وكأن ظلمته ودويه يخرجان من فوهة هوة سحيقة.

- 2 -

ولما بزغ الفجر عاد إلبرج فأيقظ جنوص وكان قد ضل السبيل في الإحراج فغلبه النوم أيضاً عند شجرة حيث رأى من غريب المشاهد ما كانت صورها لا تزال عالقة بذهنه.

قال: رأيت كأن العالم لا يزال في طفولته والسماء تبتسم والأرض بكر تنبت فيها السنبلة وتنمو، حتى أن شجرة البلوط العالية عندنا لا تعد بجانبها شيئا. الأشجار الباسقة تملأ الفضاء بأوراقها العريضة التي لا يحصيها عد؛ والحياة تجري صافية في شرايين الكون؛ والماء عذب غزير حتى إذا أخذت الأشجار كفايتها منه سال بين أحشاء الصخور.

وكانت الآفاق تمتد ساكنة متشعبة، والطبيعة كالطفل يجثو عند الصباح ليحمد الله على نعمة النور وتمجده هي أيضاً بأريج الأزهار وتغريد الأطيار.

كنت أراها زاهية خصبة تفيض بخيراتها من غير ما نصب، والأشجار ذات الثمر تنمو وحدها، وسنابل القمح تكسو جوانب الطريق كما يكسوها الآن الشوك. وكنت أستنشق الهواء فلا أشعر بأن عرق ابن آدم أخذ يتصبب فيمتزج بأنفاس السماء، لأن الله كان يهيئ كل أسباب الحياة لخليقته.

كان الإنسان كالطير يعيش مما تخرجه له الطبيعة فيأكل من ثمارها، ويرتوي من أنهارها، وينام إذا دجا الليل تحت أشجارها حامدا الله؛ وقد عافت عيناه مرأى الدم، فظل طاهرا،

ص: 53

ورفعته طهارته فوق جميع المخلوقات.

نعم كان الوئام سائدا بين الناس، والسلام خافقة رايته في كل مكان؛ حتى أن الطيور ما كانت لتحرك أجنحتها فزعا من الخوف، ولا كان البغي يدفع أحدا إلى الالتجاء للغايات والأحراج، كل له حصة من حرارة الشمس، والجميع أسرة واحدة شريعتها المحبة.

ولقد خيل إلي وأنا أمشي بين الناس أنني أصبحت أطهر وأقوى مما أنا عليه الآن؛ وكان صدري يستنشق طويلا نسيم تلك السماء البليل بعد أن كان يستنشق نسيم جونا الفاسد، فأشعر بنشوة الطفل وهو يصعد رويدا رويدا في الفضاء.

وبينما كانت هذه الأحلام تهزني انتقل خاطري إلى غابة فوقع بصري على رجلين يقطعان طريقا ضيقا تعانقت من فوقه غصون الأشجار، وكان أصغرهما متقدما على رفيقه ووجهه يفيض بالاطمئنان، ونظراته تداعب كل سنبلة تقع عليها عينه، وهو بين لحظة وأخرى يلتفت إلى زميله وعلى شفتيه ابتسامة صافية لم تكن غير ابتسامة أخ.

أما زميله فكان صامتا يرسل إليه وجهه المكفهر نظرات حارة ملؤها الحقد، وهو يتعثر كلما أسرع من خلفه كأنه يقتفي أثر فريسة فرت منه.

وعندئذ قطع فرعا من شجرة أخذ يسوي منه هراوة أخفاها تحت ثوبه، ثم اندفع وراء صديقه الذي وقف ينتظره وقد أخذ يقبله عندما اقترب منه كما يقبل الإنسان صديقه حميما طالت غيبته عنه.

وهكذا عاد إلى سيرهما وقد آذنت الشمس بالمغيب، والفتى مسرع وهو يبصر من بعيد خطا لطيفا أصفر عند سفح الجبل لم يكن غير تحية المساء ترسلها الشمس للطبيعية. أما صاحبه فظنه يتهرب منه، حتى إذا التفت إليه وعلى طرف لسانه كلمة حلوة أراد أن يستر غرضه بها كانت الهراوة على وجه ذلك المسكين فهشمته.

ولقد صادفت أول نقطة من دمه بعض الحشائش فنفضتها عنها إلى الأرض مرتاعة فامتصتها هذه وهي لا تقل ارتياعا منها؛

وقد خرج من بين أحشائها أنين مؤلم يحمل إلى السماء صوت سخطها ومقتها حيث طفح الرمل ذلك الشراب القاتل على صورة زبد خالطه دم.

وما كاد القتيل يصرخ من ألم الضربة حتى تشتت الخلائق هولا، وأخذت تهيم على وجهها

ص: 54

في الأرض، وأقوياؤها في مفارق الطرق يصرعون الضعفاء منهم. وعندئذ أيقنت أن الكون قد بدأ فيه نذير الاضطراب والانحلال.

وهكذا استعرضت عيناي مناظر هذا الاعتداء المطرد، فكان الباشق يهوى على القبرة، وهذه على الذبابة، والذبابة على جروح القتلى؛ فلم يترك الفزع أحدا من الدودة إلى الأسد كأنما قد استحالت الخليقة إلى عقرب أخذت تعض ذنبها بفمها فغابت في ظلمة الفناء.

وعلى أثر ذلك انتابت الطبيعة هزة طويلة كسرت خط ذلك الأفق الصافي، وشوهت جمال الشفق بما اعترضه من السحب الحمراء.

وكذلك البحار أخذت تضطرب بين قصيف الأمواج وهزيم الرياح من خلال الأشجار وقد التوت سيقانها وأخذت تنفض عنها كل سنة حلة اوراقها.

- 3 -

وما كاد إلبرج ينتهي من حديثه حتى ظهر كليريان وهو يقول: لست أدري إذا كان ما سأقصه عليكم حلما أو حقيقة، لأن ما رأيت في نومي يكاد يكون حقيقة، ولأن الحقيقة من بعده تكاد تكون حلما.

رأيت كأنني في طريق يشق المسكونة على جانبيه المدن والأمم تقطعه مثلي، وهو مكسو ببلاط اسود انعقد فوقه دم كانت قدماي تنزلقان من فوق.

أما الناس فقد كان الآباء منهم يقتلون بناتهن ليكون من دمائهن قربان لله، فكانت تلك الرؤوس الفتية الجميلة تحز تحت مداهم وقد هرب لونها على أثر هذه القبلة التي كانت شفة الموت تضعها عند أعناقهن.

وفي مكان آخر كان العذارى يصن عفافهن بالانتحار جاعلات من القبور الكفن لبكور تهن.

وعلى مسافة من هذا المكان كنت أرى العشيقات تفيض أرواحهن تحت قبلات المحبين، هذه تنوح ثم تسقط جثة هامدة عند الشاطئ وعيناها تنظران إلى روحها وهي تصعد حاملة معها مهجتها، وتلك تتجرع كأس الموت على صدر رفيقها مطوقة عنقه بذراعيها تودعه الوداع الأبدي.

وكذلك كنت أرى من بين الناس من سئموا الحياة وملوها فودعوها لعل أرواحهم تذوق طعم النعيم في عالم آخر.

ص: 55

أينما كنت أذهب كان أثر أقدام الملوك مرسوما محفورا على ذلك البلاط القاني. . . فمنهم من كان يمشي على دم أخيه، ومنهم من كان يسير على دم شعبه، فتترك أقدامهم من خلفها أحرفا ناطقة: هنا مر ملك!

أما القساوسة فكانوا يخفون السيوف في مطاوي أثوابهم الكهنوتية وأصواتهم تعلن الحروب باسم الإنسانية وباسم الله.

كان العالم كله ثملا بخمرة البطش، يضرب كل منهم أخاه سيف ذي حدين، والأرض عطشى تكرع من الدم ولا ترتوي.

- 4 -

وعند ذلك صاح جنوص لقد هلت تباشير الصباح، ولكن طرق آذانهم صوت بوق بعيد لم يكن غير أمر للمتفرقين من الجند بالاجتماع تحت علمهم، فنهض الثلاثة حاملين أسلحتهم ثم ابتعدوا وهم يرسلون إلى موقدهم نظرة وداع أخيرة. غير انهم لمحوا رفيقهم الباقي مقبلا وقدماه معفرتان بالتراب فاستوقفهم يقص عليهم ما رآه:

قال: إنني أجهل من أين أتيت لأني كنت أعدو عدوا وكأن الأشجار لجزعها تعدوا مثلي حتى غلب علي سلطان النوم فنمت حيث رأيت نفسي فوق تل منفرد وقد كادت قدماي تحترقان من حرارة الشمس.

وبينما أنا أثب من صخرة إلى أخرى لمحت رجلا صاعدا نحوي وعلى رأسه تاج من الشوك وعلى كتفيه معطف ثقيل والعرق يتصبب من وجهه في حمرة الدم، وكانت حرارة الشمس قد أثرت في قدمي فأخذت في الصعود حيث أنتظره تحت كل شجرة فوق التل، حتى إذا اقترب مني وجدته يحمل صليبا ففرحت إذ بيده ملكا.

ولكن جنودا كانت تجد في أثره وهم يهددونه بحرابهم، حتى إذا ما أدركوه صلبوه فوق تلك الشجرة ودموعه تسيل وعلى شفتيه ابتسامة صفراء تنم عن مبلغ ما حل به من الحزن.

هالني هذا المشهد ولكنني رأيت الرجل عظيما في موته فتأكد لي أنه غير ملك. ولذلك أشفقت عليه وأنا أصيح بهم: اطعنوه في قلبه حتى لا يطول عذابه. وعندئذ وقفت حمامة على الصليب وأخذت تنوح ونبرات صوتها تصل إلى سمعي فتصورها لي عذراء لم تملك نفسها من البكاء وكأنها تقول:

ص: 56

(ما لي أرى الدم قد صبغ اللهيب والفضاء والأشجار؟ وما لساقي تغوصان من تحتي في الرمل القاني، وما لجناحي حين لمسا هذه الأغصان صبغتهما الحمرة؟

لقد صادفت في طريقي رجلا صالحا فتبعته حتى اغتسلت في المنبع خرجت وثوبي طاهر نقي ولذلك كنت أقول لريشي: قر عينا فإنك فوق كتفي هذا الرجل لن تحمل هما ولن تدنسك آثام. أما اليوم فقد أصبح نشيدي:

نوحي يا حمامة وابكي ثوبك الذي لطخه دم من اتخذت حماك بين ثدييه. أنه جاء ليصون لك بياض ثوبك ولكنه تحت حكم أولئك القساة بلل ريشك بندى جروحه.

هاأنذا أنوح على ثوبي الملطخ فأين أجد أخاك أيها المسيح ليفتح لي طرف ثوبه فأحتمي فيه؟ ومن ذا الذي يغسل بعد الآن الذي صبغه دمك؟)

وكأن المصلوب كان يستمع لنواح تلك الحمامة وريح الموت تحرك جفنيه، وسكراته تلوي شفتيه؛ غير أن نظراته اتجهت فجأة إليها كأنها توجه إليها لطيف العتاب. ثم صرخ صرخة مالت عنده رأسه إلى صدره فذعرت الحمامة وفرت، وقد اغبر وجه السماء واهتزت الأرض، ثم أخذت تبتعد حتى اختفت في ثوب الظلام.

أما أنا فأخذت أعدو وقد بزغ الفجر واستيقظت الطبيعة باسمة من خلال ضباب الصباح، وقد اختفت زوابع الليل فعاد للسماء صفاؤها، وعادت للأشجار نضرتها؛ ولكن الطريق كانت لا تزال تكسو جانبيها الأشواك، ولا تزال ساكنة في فجواتها الزواحف التي كانت تقف في طريق سيري بالأمس. نعم إن دم المسيح جرى في شرايين الأرض القديمة من غير أن تعود إليها نضرتها الأولى.

على أن البوق لا يزال يسمع صوته من بعيد فصاح جنوص في رفاقه قائلا:

(ألم تشعروا يا أولادي بقسوة هذه المهنة؟ لقد أزعجتكم تلك الأشباح في نومكم كما أزعجتني مثلكم ساعات طويلة. إن لي الآن ثلاثين سنة لم أقضها في غير قتل بني جنسي حتى سئمت نفسي. وإنني أعرف أن هنالك أراضي واسعة في حاجة إلى سواعد ومحاريث، فهلا ترون أن نتذوق بعد ذلك طعم الخبز الذي يخرج من كدنا؟)

وعند ذلك صاحوا جميعا: نعم

ثم أخذوا يهيئون حفرة يدفنون فيها سلاحهم وبعد أن اغتسلوا في النهر اختفوا بين ثنايا

ص: 57

الطريق.

م. خ

ص: 58