المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1016 - بتاريخ: 22 - 12 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠١٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1016

- بتاريخ: 22 - 12 - 1952

ص: -1

‌سيفا العروبة يلتقيان

في الأسبوع الماضي، وفي حاضرة النيل، التقى سيفا العروبة نجيب وأديب، فالتقى طريق بطريق، واجتمع شقيق بشقيق، واتصلت نهضة بنهضة!

ولعمري ما افترقت القاهرة عن دمشق منذ جمعتها العروبة، ولا بعد النيل عن بردي منذ قربها الإسلام، ولا انقطع المصري عن السوري منذ وصلها الجوار. فالشعبان بحكم الطبيعة والواقع شعب واحد، مزجتها المجاورة والمصاهرة، وخلطتها المتاجرة والمهاجرة، حتى اتحدت النية والوجهة والغاية والأمل، فزالت الحدود، وارتفعت الحواجز، واتصلت الأسباب، ووشجت القرابة؛ فلم يتدابر إلا حاكم وحاكم، ولم يتناكر إلا دخيل ودخيل. ثم أجرتهما الأقدار في عنان واحد، فكابدا من فسوق الرؤساء وفجور الزعماء ما أقنطهما من صلاح الأمر واستقامة الحال؛ فرضيا بالدون واستسلما للهون، وكاد العدو المشترك الذي يترصد الغفلة ويتسقط العثرة، يظن أن ملك العرب إلى انهيار، وأن ملك اليهود إلى استقرار، لولا أن الله الذي وعد المؤمنين العاملين أن يستخلفهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا، قد ادخر لكل متاهة هاديا، ولكل مفسدة مصلحا، فجعل ولاية الأمر في هذا الوقت الذي انهار فيه البناء، واستشرت الأدواء، وتحللت العقد، لأصحاب السيف، وهم قوم مختارون صناعتهم الدفاع، ووسيلتهم القوة، وطبيعتهم النظام، وخلقهم الطاعة، ومبدأهم التضحية. عاهدوا الوطن وضمنوا له من أنفسهم الوفاء، أن يستعدوا ليأمن، ويجاهدوا ليستقل، ويموتوا ليحيا. فإذا انصرفت الشعوب اليوم عن رجالة السياسة إلى رجال القيادة، فإنما ينصرفون عن الكلام إلى العمل، وعن الضعف إلى القوة، وعن الانحلال إلى التماسك، وعن الغش إلى النصيحة، وعن الفوضى إلى النظام، وعن المطامع الخسيسة إلى المطالب الرفيعة، وعن قوم يعبدون الفسولة ليكونوا بها آلهة، إلى قوم يمجدون البطولة ليكونوا لها ضحايا. وإن في السياسة الجدية العملية التي ينفذها العسكريون هنا وهناك من غير وعود تعطى، ولا عهود تؤخذ، لسخرية أليمة من تلك الخطب الطوال الثقال التي كان يلقيها رئيس الحكومة باسم رئيس الدولة في افتتاح البرلمان، فيجعجع بها جعجعة الرحا التي تطحن القرون: تسمع ما يصدعك، ثم لا ترى ما يفيدك!

وإن في اجتماع القائدين العظيمين في قيادة الجيش التي لا تقبل الرياء، وتفاوضهما بلغة

ص: 1

الجيش التي لا تعرف السجع، لقضاء على ذبذبة السياسة العربية التي عالجت بها الأمور حتى الأمس، وعلى ثرثرة الجامعة العربية التي تعيش عليها حتى اليوم!

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌إحياء المقومات الدينية

للأستاذ عبد العزيز محمد التركي

لقد اشتهر الشرق منذ القدم بأنه منبت كل دين، ومنبع كل عقيدة. منه انبعثت التعاليم الدينية، وانتشرت في مختلف أرجاء العالم، ومنه انبثقت العقائد الروحية، واستقرت في قلوب شتى الشعوب. وإن تاريخ الحضارات يشهد بأن الذي بعث الطاقة الحيوية في نفوس الشرقيين للخلق والابتكار في جميع ميادين الحياة من علم وفن ومدنية، هي البواعث الدينية التي تضع قوانين حياتهم الاجتماعية، وتنظم وسائلهم الاقتصادية، وتسن نظمهم الدنيوية. ولم تخالف مصر الفرعونية الشرق في روحيته، ولم يتخلف قدماء المصريين عن الإيمان العميق بالدين، ولم تهمل الحضارة الفرعونية في اتخاذ الحوافز الدينية محركا فعالا لنهضتها الخالقة.

لقد قال هيرودوت عن المصريين إنهم شعب تقي ورع، يخاف الله. ولم يبعد هيرودوت عن الحقيقة حينما تلتمس في قدماء المصريين تلك النزعات الدينية السامية، إذ أن تاريخهم الطويل وتراثهم الحضاري الضخم يعطينا من الأدلة ما يغنينا عن شهادته. لقد لعبت عقيدة البعث الدور الأول في بناء حضارة الفراعنة، إذ أن إيمان المصريين بحياة أخرى بعد الموت، حصر همهم في الاستعداد لهذه الحياة. وتحت تأثير هذه العقيدة الدينية نشأت العلوم والفنون، وتحت رعاية رجال الدين تقدمت حتى بلغت حدا من الكمال لا يدانيه إلا ما تمتاز به الحضارة المعاصرة من رقي وتقدم.

آمن قدماء المصريين بعودة الإنسان إلى الحياة مرة أخرى، ولكن عقيدتهم تشترط لإمكان تمتع الإنسان بهذه الحياة الثانية: أن يبقى الجسد سليما لا يعتريه التلف، لأن الروح لا ترجع إلى جسد فاسد؛ وإن نال البلى من الجسد فإن الروح مصيرها الهلاك والفناء. فحرص قدماء المصريين على المحافظة على جثث الموتى حرصا على الخلود. ولقد كان هذا الحرص من أقوى البواعث الدينية التي ساعدت على وضع أسس حضارة تبرز ذكراها جميع الحضارات القديمة، فلا نعجب إذا نشأت الحضارة الفرعونية مع بناء المقابر، وتطورت مع تطورها. وكانت أولى المحاولات التي استعان بها قدماء المصريين على المحافظة على الموتى، هي دفن الميت في حفرة بسيطة تردم بالتراب والرمال، ولكن

ص: 3

هذه الطريقة لم تصن الجسد. فلما قويت عقيدة البعث في النفوس وازداد تأثيرها في العقول، أظهروا احتراما أعظم للموتى، فوضعوا فروع الأشجار على هيئة صندوق خشبي داخل القبر، كما دفنوا مع الميت بعض أنواع الطعام التي كانوا يظنون أن الروح تطعم منها، ولكن سريعا ما كان يتآكل الخشب، ويعتري الجثث الانحلال، مما دفع قدماء المصريين في صيانة جثث الموتى ما عرفوا صناعة الطوب اللبن، أو لتأخرت صناعته بعض الأجيال، ولا شاع بناء مختلف المباني من منازل وغيرها من هذا الطوب. ولكن الطوب اللبن ليس من المتانة بحيث يقوى للصمود حتى يوم البعث، فأستبدل به الأحجار الجيرية التي استخدمت في بناء المصاطب. وأحدث بناء المصاطب من الأحجار الجيرية ثورة خطيرة في فن البناء، ساعدت على ظهور بعض العلوم الرياضية من حساب وهندسة، وضح أثرها في إقامة الأهرام التي يحتاج تشييدها إلى مهارة معمارية تستعين بالفن الهندسي، وتستند إلى عمليات حسابية دقيقة. وهكذا كان الحافز الديني لحفظ الموتى من التلف من أهم البواعث التي عملت على تقدم فن المعمار، ووجهت اهتمام المصريين إلى وضع أسس علمي الحساب والهندسة.

ولم تقف عناية الفراعنة بالموتى عند حد بناء مقابر متينة تحميها، وإنما امتدت هذه العناية كذلك إلى الجثث نفسها، واجتهدوا في سبيل الوصول إلى عقاقير تحفظها من الفساد، فاكتشفوا التحنيط معجزة العلم الفرعوني. ولقد أتاحت عمليات التحنيط من نزع المخ وفتح الجنب وإخراج الأحشاء وغسل البطن بعقاقير خاصة ثم خياطة الفتح، فرض دراسة جسد الإنسان، ومعرفة كثير من أجزائه ووظائفها، والإقدام على إجراء كثير من العمليات الجراحية المتنوعة، كما هيأت الظروف لفحص خواص بعض النباتات العلاجية لإعداد العقاقير وتركيب الأدوية التي تدفع عن الإنسان المرض. وعلى هذا النحو حثت عقيدة خلود الروح على اكتشاف فن التحنيط الذي مهد إلى تقدم الطب وفن الجراحة في عهد الفراعنة تقدما فاق تقدم جميع الشعوب التي عاشت في العصور القديمة.

وبالرغم من كل هذه الاحتياطات لم يطمئن قدماء المصريين كل الاطمئنان إلى متانة المقابر، أو يثقوا كل الثقة في مهارتهم في التحنيط، واعتقدوا أن جثث الموتى ما زالت عرضة للتلف، فاستعانوا بآلهتهم، وطلبوا منها العون والمساعدة لتحفظ أجسادهم من البلى

ص: 4

الذي يهدد أرواحهم بالفناء، فكانت تتلى بعض الأدعية التي تدفع عن الميت الأشرار. ولما أخذت هذه الأدعية في الازدياد والتكاثر بمرور الزمن خاف الكهنة عليها من النسيان، فدعت الحاجة إلى تدوينها؛ فاخترعت الكتابة الهيروغليفية وهي كتابة رمزية تستخدم الصور في التعبير، وسرعان ما استعان بها المصريون في حماية الموتى، فدونت على جدران المقابر والأهرام أدعية وطلاسم ظن أنها تحفظ الموتى، وتحول المآكل والمشارب المرسومة إلى حقائق، كما وضع في توابيت الموتى لفائف من ورق البردي تحوي تعاويذ تحفظ الروح من الأخطار، وتقيها أشرار القبر.

فالرغبة الأكيدة في بقاء الجسد سليما دعت إلى اختراع الكتابة التي سرعان ما عم استخدامها في الوثائق العامة والتجارية، ثم نشأت كتابات أخرى أكثر منها اختزالا، خرجت من مصر، وانتشرت في بقاع العالم المتمدن في ذلك الوقت. ولما احتاجت الكتابة إلى ورق اخترعت صناعة الورق وتقدمت على أيدي المصريين حتى أصبحت سلعة مربحة وهامة، تباع في الأسواق الخارجية. أما الكتابة على جدران المقابر فتتطلب مهارة في الرسم والنقش والتصوير، لأن الكتابة الهيروغليفية المقدسة، تعتمد على صور شتى الحيوانات والنباتات ومختلف الأشياء، فكان الحافز الديني دافعا ملهما عمل على تقدم فن الرسم والنقش والتصوير، وبرع المصريون فيه براعة يسرت رسم الخطوط وعودت المخيلة على تصور الكائنات الحية، ودربت القدرات على التعبير الصادق لحياة هذه الكائنات وحركاتها، ومرنتها على الاستعانة بالألوان الزيتية التي تظهر الصور على أنها حقائق حية، حتى خيل لقدماء المصريين أن يستغنوا عن وضع المآكل والمشارب والحاجات التي ظن أنها تلزم الميت، واكتفوا برسم صور حية لهذه الحاجات، اعتقادا بأن قراءة الروح للعبارات السحرية المدونة على الجدران، تحول هذه الصور إلى حقائق، فأنتج المصريين الشيء الكثير من روائع الفن.

وزيادة في الحرص وإمعانا في الاحتياط عمد قدماء المصريين إلى وضع تماثيل كثيرة للموتى في المقابر، حتى إذا ما لحق الجثة أي عطب، حلت الروح في التمثال فيبعث الإنسان من جديد إلى الحياة الثانية. ولكن التمثال عرضة للكسر، ولذلك وضعت تماثيل عديدة لنفس الميت، حتى إذا ما انكسر تمثال حلت الروح في آخر. وإلى هذا الاعتقاد

ص: 5

يرجع الفضل في وجود ذلك العدد الضخم من التماثيل المصرية القديمة التي بلغ بعضها حد الإتقان الفني، مما جعلها تعتبر أجمل أمثلة النحت في العالم، لأنها تتوخى بساطة وإنسانية عبر عنها في يسر ورشاقة. وفن النحت يحتاج إلى أحجار ومعادن، فجد الفراعنة في سبيل استخراج هذه الأحجار والمعادن من المحاجر والمناجم التي نظم استقلالها، وأصبحت تشغل كثيرا من الأيدي العاملة، وتدر على خزانة الدولة مالا وفيرا.

لقد كانت عقيدة البعث الباعث الأول على وضع أسس كثير من العلوم والفنون والآداب. ولقد كانت الديانة الفرعونية تقدم الحوافز والأفكار التي هيأت وضع أصول العلوم الرياضية، ومهدت السبيل لتقدم الطب وفن الجراحة، وساعدت على رقي فن البناء وفن الرسم والنقش والتصوير، وفن النحت، وأدت إلى اختراع الكتابة وظهور الآداب الدينية، ودفعت إلى اكتشاف صناعة الورق وتنظيم استقلال المحاجر والمناجم. فكان لهذا الباعث الديني الفضل الأول في قيام الحضارة الفرعونية، بل كان السبب الوحيد في اطراد نموها وتطورها، وظلت هذه الحضارة محافظة على كيانها آخذة في الرقي والتقدم، ما دامت تستوحي عقيدة البعث، وتستلهم الإيمان بخلود الروح، ولكنها اضمحلت حين بدأت تخبو العقائد الدينية في النفوس، وأصبح لا سلطان لها على القلوب.

ويؤمن المصريون بدين جمع شمل العرب، ووحد قبائلهم، وكون منهم دولة، حفزها للخروج من شبه الجزيرة العربية في سبيل إعلاء كلمة الله، فاستطاع العرب على قلة عددهم وعددهم من أن يدركوا أمما عريقة في المدينة، وأن يهزموا شعوبا ظلت قرونا تسيطر على العالم، وذلك لأن الدوافع الدينية ملكت قلوبهم، وغرس الإسلام في نفوسهم روح الاستشهاد، فبذلوها رخيصة حبا في نصرة دين خاتم الأنبياء، وبغية الفوز بالجنة يوم نبعث أجمعين.

وظلت أفئدة المسلمين تطوف بالقرآن الكريم سابحة في ملكوت آياته البينات، تحرص عليها حرصها على أعز ما تملك. فلم يتوانوا في تدوين القرآن، ولم يفرطوا في العناية بلغته، فكانت اللغة العربية اللغة الرسمية في جميع أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، وسارعوا بوضع قواعد النمو العربي بضبط قراءة القرآن وفهم معانيه. ولما انشغل علماء اللغة بإظهار ما في القرآن من إعجاز بلاغي ألفت الكتب في البلاغة العربية، ولما شغفت

ص: 6

العقول بالتعمق فيما أورده القرآن من تعاليم وأفكار وأسرار انكبت على تفسيره، ولما صادف المفسرون قصصا وأخبارا وردت في القرآن رغبوا في تحديد زمن وقوعها ومعرفة ظروفها وأسبابها، مما دعا إلى ظهور كتب تتناول هذه القصص والأخبار، فمهدت لقيام علم التاريخ، وأخذت موضوعات التاريخ تتسع عندما اهتم المسلمون بتتبع السيرة النبوية وسلوك الخلفاء الراشدين. فكان الحرص على القرآن من أولى البواعث الدينية التي حضت على خلق جو ثقافي أوجد كثيرا من العلوم مثل النحو والبلاغة والتفسير والتاريخ.

ولم يكن الإسلام مجرد عقيدة دينية تلزم من يعتنقها أداء ما تفرضه عليه من عبادات، بل كان محور الحياة الاجتماعية، فاستمدت منه التشريعات التي تنظم العلاقات بين الأفراد والجماعات، وسن المسلمون القوانين التي أسست علم الفقه وأصوله، وبذلك بعث قرآن الإسلام نهضة فكرية دربت الأذهان على استغلال العلم واستنباط القوانين، حتى إذا ما أخذت الحركات المناهضة للإسلام تشتد في هجومها، وتتذرع بالمنطق، وتطعن تعاليمه بالفلسفة، وتناقش معجزاته مناقشة عقلية، قام بالرد على هذه الحملات طائفة من العلماء ساهموا بما أتوا به من حجج لدحض ما ألصق بالإسلام من افتراء بوضع أصول علم الكلام الذي ما وجد إلا ليدافع عن معتقدات الإسلام، وتسلح في دفاعه بسلاح أعدائه؛ أي الفلسفة والمنطق، فانتشرت الدراسات الفلسفية بين المسلمين ونبغ فيهم فلاسفة حملوا شعلة العلم والثقافة إلى أن استلمها منهم الغربيون. .

ولم يقف أثر الإسلام في الحياة الثقافية عند النواحي الأدبية والاجتماعية، بل تعداه إلى العلوم الرياضية خصوصا الحساب. ذلك العلم الذي يحتاج إليه خبراء التوريث في مهام عملهم، لأن كل من يشتغل بعلم الفرائض الذي يحدد نسبة ميراث كل فرد حسب الشريعة الإسلامية يجب أن يجيد مختلف عمليات الحساب، ولذلك وجب على الجميع تعلمه فتوفر المسلمون على دراسته، فعرفوا الأرقام العربية البسيطة السهلة المتداولة بيننا الآن، وأخذها الغرب عنهم، وترك أرقامه الرومانية المعقدة الصعبة، ففتحت الأرقام العربية آفاقا جديدة لعلم الحساب. ولقد أدى تعلق المسلمين ببحث العمليات الحسابية إلى الاهتداء إلى (الصفر) الذي كان له أهمية كبرى في مستقبل العلوم الرياضية. وكذلك قاد اهتمام المسلمين بالحساب إلى اكتشاف علم الجبر وبذلك مهدوا السبل لتقدم العلوم الرياضية فيما بعد حين بدأت نهضة

ص: 7

الغرب الحديثة.

إن الإسلام كان على الدوام يعاون العلوم التي تخدمه، ولم يوجه المسلمون أية عناية جدية لعلم من العلوم إلا إذا كان يدعم أحكام الإسلام. وكذلك لم يعاون الإسلام فنا من الفنون إلا إذا هدف إلى نشر تعاليمه. وما اهتم المسلمون ببعض الفنون إلا لأنها تحقق فرائض دينهم، وتهيئ السبل لأداء عباداته. وإن لم يكن للعرب قبل الإسلام فن يذكر، إلا أنه لم يكد يحس المسلمون بحاجتهم إلى أماكن لإقامة فريضة الصلاة حتى بدأ يبزغ الفن الإسلامي في الوجود، وأخذ يترعرع في رحاب المساجد بيوت الله، فبعد أن كانت المساجد الأولى مجرد أبنية بسيطة أعدت للصلاة والوعظ؛ سرعان ما تطور الفن المعماري الإسلامي، وأصبح من بين المسلمين فنانون مهرة، أقاموا كثيرا من المساجد والأبنية الدينية كالمدارس والتكايا ذات المصلى! معبرين فيها عن أفكار هندسية تنم عن بصيرة فنية حاذقة. لقد شيدت معظم المساجد على نظام تقليدي أوحاه الإسلام، فأصبح كل مسجد يشتمل على منبر ومحراب وصحن وإيوان وقباب ومئذنة، وكلها تقريبا من إبداع القريحة الإسلامية الفنية.

ولما توخى المسلمون في بناء المساجد أن تكون فخمة رائعة مهيبة، لتدل على ما في الإسلام من عظمة وقوة، زينت جدران المساجد بنقوش وزخارف، فبرع المسلمون في الحفر. على الأحجار وفي رسم الزخارف خصوصا الزخارف الهندسية، وفي نقش الآيات القرآنية بخطوط جميلة خلابة تظهر فن الخط العربي.

وهكذا أخذت ترتقي شتى العلوم والفنون التي كان لها علاقة وثيقة بالإسلام والقرآن، عندما كانت العقيدة الدينية قوية في النفوس، بينما خبا نور الإيمان، فضعف الوازع الديني وهزل الحماس للإسلام، وتدهورت جميع العلوم والفنون التي بعثها واحتضنها حتى بلغت مرتبة ممتازة من الكمال، مما أدى في النهاية إلى انحطاط الحياة الثقافية، واضطراب أحوال المسلمين، لأن سر قوة المسلمين تكمن دائما في العمل على قوة الإسلام.

نحن المصريين أحفاد الفراعنة الذين أنبتت عقيدة البعث مشاعرهم الدينية، وأمدت عقولهم بطاقات خارقة لم تتوان في ابتكار مجد حضاري يجد العلماء لذة فائقة في التنقيب عنه. ونحن المصريين نؤمن بدين الإسلام باعث حضارة العرب وخالقها، وحملت الشعوب الإسلامية مصر لواء الإسلام وارتضت زعامتها الدينية والثقافية. فنحن المصريين إذا

ص: 8

ورثة الفراعنة وحماة الإسلام، انصهرت في نفوسنا ديانات روحية تثير الوجدان، وتنشط العقل؛ فلقد حفزت عقيدة الخلود على تأسيس حضارة برعت في العلوم والفنون، وحض الإسلام على تكوين إمبراطورية فسيحة الأرجاء تدين بتعاليمه، ودعا إلى قيام حضارة جدت في خلق كثير من العلوم والفنون. فالمشاعر الدينية والعواطف الروحية تلعب على الدوام دورا هاما في تطور حياتنا الثقافية. ولقد سبق أن أخبرنا التاريخ بأنه ما من فترة ضعف فيها الوازع الديني في نفوس قدماء المصريين، وخبا نور الإسلام في قلوب المسلمين، إلا اضمحل الفكر؛ وتأخرت الحضارة، وتفككت أوصال البلاد، وتدهورت أحوالها، وتعرضت للغزو الأجنبي.

ألا يوحي كل ذلك بأننا لا نملك أن نقيم حضارة تخرجنا مما نحن فيه من تخلف فكري ما لم نفزع إلى دوافعنا الدينية نستنهض بها هممنا، ونحث عقولنا على الخلق والابتكار، وما لم نسع من أجل إحياء مقوماتنا الروحية إحياء يحرك أذهاننا الخاملة، ويلهم نفوسنا، ويساعدنا على إظهار ما نملك من نبوغ قد يسوقنا إلى اكتساب مهارات ترفع من شأننا في خضم الحضارة الحديثة، لأن حيوية الجو الديني الذي يجب أن تعيش فيه عقولنا يدعها تحس بأنها تعيش في بيئة ترتاح إليها، وتشعر بأنها تسكن في بيت تألفه ويألفها، فتنساب وتنطق، لا يعوقها عائق، وتأخذ في الإبداع دون تعثر. ولكن إذا مات الجو الديني الذي يجب أن تتربى فيه عقولنا، وخرب البيت الذي تعودت أن تنشأ نفوسنا بين جنباته مات الباعث الذي يوحي إلى عقولنا بما تخلق، وخربت نفوسنا فتفقد انطلاقها وانسيابها، وتظل حبيسة الجمود والركود، فتشل المواهب وتعطل القدرات. وإذا ما طال أمد الركود، فقد يؤدي في النهاية إلى ضرب من الجدب العقلي، يشعرنا على الدوام بنقص يغرس فينا ميلا للأخذ من الغير. وبدل أن نعتمد على استعداداتنا ومهارتنا نركن إلى طلب عون ممن صقلت استعداداته، وبرعت مهارته، وبدلا من أم نستوحي مقوماتنا النفسية نتكالب على ثقافة من نظن أنهم بلغوا الكمال في كل ما تناولوه من علوم وفنون، وفي هذا انتحار فكري ما بعده انتحار، لأن الفكر المستضعف قد يتولاه الخمول، ويقعده الكسل عن أي إنتاج. وقد يعجزه الشعور بالنقص في آخر الأمر عن النهوض، ويربطه بعجلة ذلك الفكر الغريب عنه بتهافته النهم على ما يتساقط من موائده الشهية من فتات لا تغني ولا تشبع، لأنه ارتضي

ص: 9

العبودية الفكرية، ولم يحاول أن يبحث عن الطرق والوسائل التي تحرر روحه من أغلالها، وتحطم القيود التي تحول دون انبثاق مواهبه وشحذ استعداداته.

عبد العزيز محمد التركي

ص: 10

‌من سير الخالدين

حياة المازني

للأستاذ محمد محمود حمدان

(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب)

(المازني)

- 4 -

في التدريس

نال المازني إجازة التدريس من مدرسة المعلمين العليا (1909) وهو إذ ذاك شاب في التاسعة عشرة لم يطر شاربه، فكان يستعجل مظاهر الرجولة في نفسه. . (فأحلق وجهي ثلاث مرة في اليوم لعل ذلك يعجل بإنبات الشعر، فقد اشتهيت أن يكون لي شارب مفتول وخدان كأنما سقيا عصير البرسيم!).

وكان من أوائل المتخرجين فعينته الوزارة مدرسا للترجمة بالمدرسة السعيدية، ومنها نقل إلى المدرسة الخديوية. وكلفته الوزارة في ذلك الحين تدريس مبادئ اللغة العربية للأساتذة الإنجليز بمدارسها فترجم لهم فصولا من كتاب (كليلة ودمنة) غير معتمد في ذلك على الترجمة الإنجليزية كما يقول الأستاذ العقاد.

ولم يلبث أن وقعت بينه وبين وكيل المعارف جفوة نقل على أثرها إلى مدرسة دار العلوم. وكان هذا النقل في ظاهره (ترقية) وإن لم يكن كذلك في حقيقته، لأن مهمته فيها كانت تدريس مبادئ الإنجليزية لطلبة دار العلوم. ولم يسترح المازني إلى هذا التكليف فكان من الأسباب التي حملته على ترك وزارة المعارف بعد ذلك بقليل.

ولا شك أن تلك الجفوة تدلنا على ما كان يعتصم به المازني من الإباء والضن بالكرامة في وسط شارع فيه التزلف والرياء. وقد كان المستشار الإنجليزي (دنلوب) في ذلك الحين رب الوزارة والحاكم بأمره فيها، فلم يكن كبير أو صغير إلا ويرهب صولته ويتقي غضبه. ولكن المازني لم ير فيه ما يرهب أو يخيف حين دعي يوما لمقابلته ليسأله المستشار رأيه

ص: 11

في بعض المدرسين الإنجليز. وتفصيل ذلك ما نرويه عنه:

(اتفق يوما - في آخر عهدي بالتعليم في الوزارة المعارف - أن قصدت إلى مدرسة دار العلوم، وكنت معلما بها، فألفيت ناظرها - وهو مصري - على بابها، فاستقبلني بالاحتجاج على تأخيري، فاستغربت وبينت له أنه لا يزال على موعد دروسي نصف ساعة. فصاح (من قال إننا نريد منك اليوم دروسا؟ إن جناب المستشار يطلبك! وقد بعث إليك رسولا فكيف لم تعلم؟) فطمأنته وطيبت خاطره وقلت (إني سأذهب إلى الوزارة بعد الفراغ من دروسي). فكأنما ألقيت على النار حطبا، فقد جعل يصيح على الباب وأمام المارة - (يا خبر أسود! وجناب المستشار حتى تفرغ! هل تريد أن تخرب بيوتنا؟ رح غليه حالا! الآن!). فركبني عفريت الشباب المتمرد، وكنت أكره هذا الناظر ولا أحترمه فأبيت أن أذهب إلا إذا أعطاني أمرا كتابيا بإعفائي من التدريس في ذلك اليوم. وقصدت إلى الوزارة فإذا على رأس السلم طائفة من كبار الموظفين المصريين فجعلوا يشيرون إلي كالمجانين ويأمرونني أن أجري. وكيف بالله كان يستطيع أن يجري من كسرت ساقه ولم يبرح بيته إلا منذ أسبوع؟. . وقابلت المستشار ومعه كبار الإنجليز وسألني عما أراد فجاوبته، وانصرفت وأنا أستغرب وأتساءل عن ذلك الغول الذي يرعب كل هؤلاء الرجال أين هو؟ ولاحظت وأنا منصرف أن رؤوسا أو وجوها تطل من الأبواب المواربة، ولا شك أنه أذهلهم أن يروا مدرسا صغيرا يدعى لمقابلة المستشار).

ولم يكن هذا الشعور من المازني تكلفا للعظمة أو تظاهرا بالاستخفاف، ولكنها طبيعته التي تملك عليه أمره في كل كبيرة وصغيرة. وكاد يستقيل من الوزارة حين بدا لهم أنها تنظر إلى المعلم نظرتها إلى طوائف (الموظفين) وأنها لا تقدر رسالته تقديرها الصحيح. ويروي أنه مرض يوما (. . فطلبت إجازة، وأبطأ الطبيب وشفيت قبل أن يحضر، فطالبتني الوزارة بتقديم شهادة طبية تثبت أني كنت مريضا، فكتبت إليها أنه لم يعالجني طبيب فعادة تطالبني بالشهادة الطبية، فكتبت أنبهها إلى أنها، في الواقع، تكلفني أن أحمل طبيبا على التزوير. وكثرت المكاتبات العقيمة فسئمت؛ فكتبت إليها أني معلم، وقد كان المسيح عليه السلام يدعي المعلم، وكان أرسطو يسمي المعلم الأول، وأني مؤتمن على عقول مائتي تلميذ وزيادة فيجب على الأقل أن أعد صادقا وإلا فإنني أوثر أن أستقيل من وزارة تنظر إلى

ص: 12

معلم هذه النظرة).

وقد كان المازني كما ذكرنا مدرس ترجمة. فحدث عند نقله إلى المدرسة الخديوية أن اختارت الوزارة لتدريسه مادة الحساب. وبين المازني والحساب، والرياضيات عامة، عداء قديم ونفور طبيعي لا يخفيه، أو كما يقول هو (لا أكتم القارئ أني أخيب خلق الله في الحساب). . فلا بد إذا من تفادي هذه الورطة! ولكن كيف السبيل؟

يقول المزني وهو يروي هذه القصة في كتابه الساخر (رحلة الحجاز):

(. . اعترضت واحتججت، فما أجدى عني اعتراضي شيئا، فقصدت إلى ناظر المدرسة - وكان إنجليزيا - وقلت له: إن وزارة معارفنا تعتقد أن كل امرئ يصلح لكل شيء؛ ولكني أعرف من نفسي أني لا أصلح لتعليم الرياضة عامة والحساب خاصة، وأصارحك أني لا أصدق أن واحدا في واحد يساوي واحدا، هذا، كما يقول شاعر عربي، كلام له خبئ معناه لبست لنا عقول. وقد تكون أولا تكون لنا عقول؛ هذه مسألة خلافية ندعها الآن، ولكن المحقق عندي أن العلوم الرياضية وفي جملتها هذا الحساب لا تدخل في دائرة عقلي، فهل لك في عوني على ما أريده؟ فضحك وقال: وما تبغي؟

قلت: تعفيني من التدريس للفرق العليا؛ وتقنع بأن تكل إلى تلاميذ الفرقة الأولى، أعني الحاصلين على الشهادة الابتدائية في هذا العام ليتسنى لي أن أحفظ الدرس أولا فأولا، ثم ألقيه عليهم، فنتعلم معا، وفي خلال ذلك تبذل وساطتك لتردني مدرس ترجمة كما كنت.

فسرته صراحتي ووعدني خيرا. وشرعت في العمل، وكنت احفظ الدرس جيدا وأراجع زملائي ثم أدخل على التلاميذ وألقنهم ما حفظت، وقد وفقني الله في الهندسة والجبر، أما الحساب فأعوذ بالله منه!! كنت أخطئ في كل مسألة أطرحها على التلاميذ، ولم أكن أكتمهم أني أجهل منهم وأن الذنب للوزارة وليس لي، وأن الوزارة هي المسئولة عن خلطي وتخبطي، وأنصف التلاميذ فأقول إنهم قبلوا عذري واغتفروا لي ضعفي وجفوني بعطفهم ولم يبخلوا علي بإيضاح ما يشكل علي وبهدايتي إلى الصواب حين أضل، وكنا أحيانا - إذا استعصى عليهم إفهامي طريقة الحل - تقضي بضع دقائق في ندب سوء حظي وحظهم، وربما قال الواحد منهم وقد فاضت نفسه بالعطف علي والمرثية لي: كيف ترتكب الوزارة مثل هذا الخطأ الشنيع فتعهد إلي تدريس العلم إلى جاهل به؟

ص: 13

ولم ينقذني إلا مفتش إنجليزي جاء على عادته ليشرف على سير الدراسة، فعلمت أنه مع الناظر في غرفته، وكانت مجاورة للغرفة التي أنا فيها، فأوصيت الخادم أو الفراش كما يسمونه - بأن يدعوه إلي، حين يخرج، وفتحت الباب على مصراعيه فلما دخل علي رحبت به واحتفيت بمقدمه وسرت به إلى مقعدي ومكتبي؛ وهناك سلمته كراسة التحضير وكراسة الأسماء، وإصبع الطباشير وممسحة السبورة، وقلت له: التلاميذ أمامك، ومعك كراساتي وأدواتي، فسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وخرجت، فجرى روائي وأدركني أمام غرفة الناظر وقال: إن هذا جنون. فعد إلى فرقتك. فقلت: جنون؟ وهل كنت تنتظر أن أظل عاقلا؟ لقد صارحتكم مائة مرة بأني حمار؛ فماذا تريدون؟ إن لي ذمة، وذمتي لا تقبل أن أضيع على التلاميذ المساكين سنة من أعمارهم. قال: ولكني أكدت لك أننا لا نجد مدرسا للرياضة فيحل محلك. فأنتظر حتى نجد واحدا ثم نعيدك إلى الترجمة. فقلت: كلا! تتولى أنت التدريس حتى تجدوا المدرس، وأنا مستعد أن أقوم عنك بمهمة التفتيش. فضحك، وضحك الناظر وكان قد خرج على صوتنا، ولا أطيل: أقنعاني بالعودة إلى فرقتي على ألا يطول عذابي إلا أياما معدودات، وقد كان).

واتفق عام 1915 أن أصدر المازني كتابا في نقد (شعر حافظ) وكان يمثل في رأيه المذهب القديم. وهو مجموعة مقالات كتبها قبل ذلك بعامين ونشر بعضها في مجلة (عكاظ) ثم جمع متفرقها وطبعها. وظهر الكتاب وكان له دويه. فلم يكن أحد في ذلك الحين ليجرؤ على نقد حافظ وهو آمن، فساءه النقد، واضطهد المازني - وهو مدرس - وأوصى به الرؤساء شرا. وغضب المازني لكرامته فاستقال.

ويحدثنا المازني أنه راجع نفسه وندم يومه على الاستقالة، وساورته المخاوف وأدركه الجزع من أن تضيق الدنيا به، وكانت الحرب على أشدها والغلاء ضارب إطنابه. وأرق ليلته، فوجد أمه بجانبه لتقول له (لا عليك يا بني. لقد تعلمت كل ما يمكن أن تتعلمه هنا. فما خير ذلك إذا عجزت عن الانتفاع به في الحياة؟ ولماذا لا تستطيع أن تعمل إلا في الحكومة؟ لقد كنت أنا مستعدة أن أعمل بيدي في سبيل تربيتك، فكن أنت مستعدا أن تعمل حتى بيدك إذا احتاج الأمر؛ وثق أنك لن تخيب فإني داعية لك راضية عنك. قم فنم وتوكل على الله!)

ص: 14

ثم كان أن دعاه الشيخ عبد العزيز جاويش للعمل بمدرسته (الإعدادية الثانوية) واختار له مادة التاريخ. ومن زملائه في هذه المدرسة الأساتذة العقاد والزيات وأحمد زكي.

وقد كان المازني مدرسا ناجحا، وكان ما بينه وبين تلاميذه عامرا قائما على التوفير والتقدير، إذ كانوا شبانا وكان هو كذلك لا يكبرهم إلا قليلا. والتقارب في السن أدعى إلى التجاوب وحسن الأخذ والتلقي. وكان نمطا جديدا في الأساتذة لا عهد للتلاميذ بمثله. ولم يكن اعتماده في تحضير الدروس وإعدادها على الكتب المقررة أو الموضوعة، بل كان يعتمد على موهبته الشخصية ومحصوله الخاص. وكان الأثر الذي خلفه في نفوس تلاميذه قويا موحيا، فدلتهم طريقته الفريدة في ذلك الحين على حقيقة مدرسهم وأي أستاذ عظيم هو وفي الحادثة التالية التي يرويها الأستاذ عبد الرحمن صدقي - وهو من تلامذة المازني في المدرسة الخديوية لذلك العهد ما يقوم دليل على ما كان للأستاذ الشاب من مكانة في نفوس تلاميذه لم يكونوا يعرفونها لأساتذة الطراز القديم.

يقول الأستاذ صدقي: (في ذات يوم دخل علينا - على غير علم منا - في درس ترجمة أستاذ غير أستاذنا. ومما زاد في غرابة أمره أنه كان على نقيضه، فهو شاب من أهل جيلنا لا يكبرنا إلا قليل. وهو قصير القامة نحيل غير جسيم. ثم إنه لا تركب أنفه نظارة غليظة العوينات كصاحبنا. وهو لا يتهادى في مشيته إلى المنصة، بل قد مشى إليها مشية غير متكلفة، بخطى متزنة لا سريعة ولا متئدة. وهاهو ذا يستقبلنا بوجه مخروط ترين على وسامته صفرة نعرفها في أنفسنا قبيل الامتحان من معاناة الدراسة وطول السهر. وهاهو ذا يطالع جمعنا من غير تخصيص ولا تحديق، بناظرين نفاذين وقاذين، فيهما عمق وحزن من غير وحشة وانقباض.

وقامت في الصفوف المتأخرة كمألوف العادة هينمة ولغط، وهب تلاميذ الصف الأول للتحية واقفين، ونهض الذين من بعدهم بعضهم النهوض متئاقلين، وظل الآخرون قعودا متجاهلين ولكن الأستاذ لم يفارقه سكونه المترفع الحزين، وكان فوق منصته العالية كأنما يستوي في نظرته العابرة ونفسه الكبيرة الشاملة، أهل الطاعة وأهل المعصية، ثم أجمل التحية في غير استكراه ولا زلفى.

ودق الأستاذ الشاب في لطف على المنضدة. وبادرنا دون أن يرفع صوته: أخرجوا كتاب

ص: 15

أدبيات اللغة العربية. فاستولت علينا دهشة وتملكنا العجب، فللترجمة كان الدرس لا للأدب! وقبل أن ينقضي عجبنا ونفيق من غاشية ذهولنا، أومأ الأستاذ إلى أحدنا، وطلب إليه في غير احتفال أن يفتح الكتاب على أية صفحة وأن يجهر بتلاوتها علينا. ثم توجه إلينا بالدعوة إلى مراجعتها والشروع على الفور في ترجمتها. ولا تسل عما دخل على نفوسنا من هذا الارتجال. إنها - على طول الفترة - أول مرة يجري فيها درس الترجمة على خلاف الخطة. وليت الأمر وقف عند هذا القدر. بل بلغت الجرأة بأستاذ الترجمة المحدث أنه لم يأخذ لدرسها أدنى أهبة، ثم كان من ذهابه إلى غاية المدى أنه لم يكن له شأن حتى في اختيار القطعة.

في هذه اللحظة، لو أن متسمعا تسمع لقلوبنا الصغيرة لألفاها جميعا تنبض بلحن واحد: يا للعظمة! يا للعظمة!

واسترقنا النظر إلى الأستاذ الشاب القصير النحيل، فإذا هو غيره قبل تلك اللحظة. إنه ملء عيوننا روعة، وملء صدورنا هيبة!

ولم يحدث خلال السنوات العشر التي أنفقها المازني في التدريس، أن احتاج إلى أن يعاقب تلميذا أو يوبخه أو يقول له كلمة نابية. وكان لقرب عهده بالتلمذة وسابق تجربته وخبرته بشقاوة التلاميذ، أعرف بما يقابل به الرغبة الطبيعية في هذه لشقاوة، ومما يدل على تلك المقدرة عنده هذه الحادثة التي يرويها.

(اتفق يوما أن دخلت الفصل فإذا رائحة كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفا والجو حار جدا، فضاعف الحر شعوري بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وأدركت أنها هي المادة التي كنا ونحن تلاميذ نضعها في الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت لنفسي إنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد، وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثي نفسي فإنها تغثى نفوسهم معي أيضا. فحالهم ليس خيرا من حالي، والإحساس المتعب الذي أعانيه ليس قاصرا علي ولا أنا منفرد، وإنهم لأغبياء إذ أشركوا أنفسهم معي وقد أرادوا أن يفردوني بهذه المحنة. والفوز في هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال. فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد الأخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان. فصبرت وتشددت ودعوت الله في سري أن

ص: 16

يقويني على الاحتمال، ومضيت في الدرس بنشاط وهمة لأشغل نفسي عما أعاني من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى في وجوههم أمارات الجهد الذي يكابدونه من التجلد مثلي فأسر وأغتبط وأزداد نشاطا في الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا في الكلام، فقد كنت أعرف أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا في فتح النوافذ عسى أن تخف الرائحة ويلطف وقعها. وضللنا على هذه الحال نصف ساعة كادة أرواحنا فيها تزهق ورأيت أن الطاقة الإنسانية لا يسعها أكثر من ذلك، وأن التلاميذ خليقون أن يتمردوا إذا أصررت على عنادي المكتوم واغتنمت فرصة إصبع مرفوعة وسألت صاحبها عما يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأن الحر شديد. قلت افتحها. وفتحت النوافذ كلها. وتشهدنا جميعا واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال ما لا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة أو أربعة من التلاميذ ولحقوا بي. وقال لي واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وأن الأمر كان مقصود به غيري، وأنهم يطلبون الصفح، فسررت ولكن تجاهلت وسألتهم عما يعنون. قالوا: الرائحة الكريهة التي كانت في الفصل. قلت: رائحة. . أي رائحة؟ إنني مزكوم ولهذا لم أشم شيئا فلا محل لاعتذاركم. ومضيت عنهم)

ويروي الأستاذ العقاد عن تلاميذ المدرسة الإعدادية أنهم كانوا يسمون المازني فيما بينهم باسم (تيمورلنك)، ويقول الأستاذ الكبير إن السر البراعة في هذه التسمية، هي أنه كان يدرس التاريخ، وأنه كسميه صغير الجسم مصاب بإحدى قدميه، وأنه مسيطر على التلاميذ قلما يحتاج إلى معاقبة أحد منهم لخروجه على نظام الحصة، لأنه كان مهيبا بينهم قديرا على أخذهم بمهابتهم إياه قبل خوفهم من عقابه، فجمعوا كل ذلك في اسم تيمورلنك أحسن جمع مستطاع.

وفي عام 1918 تولى المازني أمر مدرسة ثانوية، فاستغنى في إدارتها عن كثير من الأوامر والنواهي، وعن دق (الجرس) في مواعيده، ورفض أن يستعمل في مدرسته (الدفاتر) الوزارية العديدة التي تستعملها المدارس، كذلك ألغى العقوبات بكافة أنواعها، فقد كان رأيه أن المدرس الذي يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لمهنة التدريس، وكانت المدرسة تحت إشراف وزارة المعارف، فحدث خلافا بينه وبينها بسبب هذه (الإداريات)؛

ص: 17

هو يراها تافهة لا غناء فيها ولا نفع وراءها، وترها الوزارة من اللازم اللازب لحفظ النظام.

ولعل هذا الخلاف لم ينته بغير ترك المازني للمدرسة أو إغلاقها في أخريات ذلك العام، وانتقاله إلى ميدان غير ميدان التعليم.

لماذا هجر المازني التدريس؟

لعل ذلك كان زهدا فيه ورغبة عنه بعد عشر من السنين الولاء هي خلاصة العمر وصفوة الشباب. على أن المحقق انه رآه أبعد عن طبيعته وأدعى إلى تعطيل مواهبه، وأنه لا يلتقي بالأدب في ملتقى واحد، وكان يرى - كما يقول - أن الوقت الذي ينفقه في التعليم كان الأدب أولى به، أو هو مقتطع من حق الأدب، وأن التعليم لا يصله بالحياة الصلة اللازمة لفهمها. وكان يرى كذلك أن أدبه في تلك الفترة نظري بحت أو هو الأدب الذي يعتمد على الكتب ولا يستمد من الحياة إلا قليلا، فخرج في الأغلب دراسات قوامها القراءة دون التجربة.

وسبب آخر من أسباب ترك التعليم. فقد أخذت نذر الثورة المصرية (1919) تتجمع في الأفق، وتأججت في المصريين روح الوطنية وجمعت كلمتهم على القيام بها وتأريث شعلتها في وجه الاحتلال. وهي روح خبرها المازني عن كثب في هيئة مدرسته من مدرسين وتلاميذ، وممن كان يلقاهم في الطريق - بين البيت والمدرسة - من أبناء الشعب وخاصة في الأحياء الوطنية. فأعدته هذه الروح وتجاوب نداؤها الخفي بين جنبيه، وعرف أن قد آن له النزول إلى المعمعة وخوض الغمار، وأن الفرصة قد سنحت لتحقيق نيته القديمة على ترك التعليم، فأغلق المدرسة واتجه صوب الصحافة ليخدم الثورة بقلمه.

ولعله إلى جانب ذلك، قد دار بنفسه خاطر التأسي بالذين سبقوه من زملائه إلى التفرغ لرسالة الأدب مضحين في سبيلها وظائفهم الحكومية، وكانت على ذلك العهد غاية مطمح الشبان؛ وكان المذهب الجديد التمهيد له مما يحتاجون معه إلى توحيد الخطة وتجنيد الجهود. فلم يكد يحين الوقت للبدء في إعلانه والدعوة إلية، حتى شمر المازني عن ساعديه، وحمل - كما يقول - فأسه ومعوله ومجرفته ولحق بأصحابه.

يتبع

ص: 18

محمد محمود حمدان

ص: 19

‌بنديتو كروتشه

1866 -

1952

للأستاذ جمال مرسي بدر

في العشرين من نوفمبر سنة 1952 وفي مدينة نابولي الرابضة على خليجها مضرب المثل في جمال الطبيعة، انتقل من الفانية إلى الباقية رجل من بقية الفلاسفة العظام ورواد الفكر الإنساني وحملة مشعل الحقيقة - ذاك هو بنديتو كروتشه أكبر فيلسوف أنجبته إيطاليا منذ زمن بعيد، وأحد القلائل المشهود لهم في عصرنا ببعد الأثر في توجيه الفكر الحديث.

ولد بنديتو كروتشه في 25 فبراير سنة 1866 في بسكاسيرولي بمقاطعة اكويلا، ثم نزحت عائلته إلى نابولي حيث بدأ (بنديتو) تعلمه في إحدى مدارس الكاثوليك شأنه شأن أغلب فتيان وطنه.

وفي سنة 1883 نكب بنديتو كروتشه وهو في صدر شبابه بأبويه جميعا في زلزال من تلك الزلازل التي لا تجهلها مدينة نابولي فغادرها إلى روما حيث عاش في كنف عم له. ودخل الجامعة ليدرس الحقوق ثم تحول عنها إلى الآداب ولكنه على أية حال لم يكمل دراسته الجامعية إذ لم يلبث أن عاد إلى نابولي بعد سنوات ثلاث من إقامته في روما.

وفي نابولي عكف كروتشه سنين طويلة على دراسته الخاصة في التاريخ والدب والسياسة والاقتصاد والاجتماع وتفاعلت ثمار هذه الدراسات في ذلك العقل الممتاز حتى أخرج صاحبه أول أثر فلسفي له في سنة 1983 وهو مجموعة مقالات في (طبيعة التاريخ) وفي (مذاهب النقد الفني).

ولقد كان للدراسات الاقتصادية في تفكير كروتشه شأن كبير وانعكست عقليته الاقتصادية على كثير مما كتب وإن كان موضوعه غير متصل بالاقتصاد، ولقد بدأ اهتمام كروتشه بالدراسات الاقتصادية في شبابه الباكر إذ عكف على ما كان يشغل العالم آنئذ (ولا يزال شغله) من مذاهب اقتصادية متضاربة وأخرج فيما بين سنتي 1896 - 1900 دراسات في نواح من المذهب الماركسي.

أما اهتمامه بالنقد الفني الذي كتب فيه واحدا من أوائل آثاره فقد تجلى في نشره منذ سنة 1903 مجلته (النقد) التي تولت عرض أبدع أعمال الأدباء الإيطاليين ونقدها نقدا فنيا

ص: 20

مذهبي حقبة طويلة من الزمن بحيث أصبحت مجموعاتها مرجعا لا غنى عنه لكل من يدرس الأدب الإيطالي الحديث

ولم تتخلف عن أعمال كروتشه وكتاباته نتيجتها الطبيعية فذاع صيته في الأوساط الأدبية والعلمية. ولم يلبث هذا الشاب الذي غادر جامعة روما قبل أن يتم دراسته أن أصبح قبلة أنظار جامعات إيطاليا التي تسابقت إلى عرض الأستاذية عليه! غير أنه رفضها جميعا مفضلا الاستغراق في دراساته الحرة وبحثه المستقل الذي ينشر على الناس نتائجه في كتبه وفي رسائله فتقع من أذهانهم ونفوسهم موقع الإكبار حينا وموقع الإنكار حينا آخر لغرابة ما كان يدلي به من آراء.

ولئن تسابقت الجامعات الإيطالية لتظفر بكروتشه أستاذا بها فإن الجامعات الأجنبية قد تسابقت إلى تكريمه بإسباغ ألقاب الشرف العلمية عليه، وأول ما ناله من ذلك لقب دكتور فخري في الفلسفة من جامعة فريبورج الألمانية.

على أن كروتشه لم يعدم نصيبه من المناصب العامة في بلده إذ عين في سنة 1910 عضوا بمجلس الشيوخ ثم عين وزيرا للمعارف في وزارة جيوليتي فيما بين سنتي 1920، 1921. فلما جاء العهد الفاشستي ابتعد كروتشه عن الحياة العامة لعدم توافق آرائه واتجاهات ذلك العهد وما كان يقوم عليه من فلسفة سياسة.

ولقد أثمر تفرغ فيلسوفنا للبحث والدرس والتأليف ثمارا طيبة؛ إذ بلغت مجموعة آثاره المطبوعة سنة 1926 عشرين مجلدا عدا ما كتبه بعد ذلك التاريخ وهو شيء كثير؛ إذ أنه لم ينقطع عن الدراسة والكتابة إلى أن أدركته الوفاة.

وكان كثير من آراء كروتشه الجريئة وأفكاره المبتكرة صدى بعيد وآثار بعضها حملة من الانتقاد والهجوم صمد لها كروتشه ودخل مع معارضيه في مجالات طويلة تولاها بجنان قوي ويراع سوى.

وقد اعتبر كروتشه عند الكثيرين من أتباع هيجل ووصفت فلسفته بأنها (هيجلية)؛ غير أن أغلب الباحثين اليوم - ومنهم الأستاذ جون ألكسندر سميث أستاذ الفلسفة بجامعة أكسفورد - يخطئون هذا الرأي ويعتبرون كروتشه صاحب فلسفة خاصة تأثر فيها بكتابات اثنين من مواطنيه هما دي سانكيتس، وفيكو من كتاب القرن الثامن عشر.

ص: 21

وإنه لم يجاوز نطاق مقال واحد الإلمام بجميع نواحي كروتشه والإحاطة بفلسفته التي قسمها إلى أقسام أربعة: فلسفة الجمال، والمنطق، وفلسفة السلوك (الاقتصاد والأخلاق)، وفلسفة التاريخ وهو يراها في مجموعها وحدة لا تنفصم، وتشمل كافة مظاهر الوجود الإنساني.

ولكن لا أقل من أن نلم في هذه العجالة بشيء من آراء كروتشه في فلسفة الجمال. ولعل اقتصارنا على جانب واحد من جوانب هذه الفلسفة الخصبة (فلسفة كروتشا) أكثر فائدة من مرورنا على عجل بكل جوانبها في حدود ما يقتضيه المقام من إيجاز.

بسط كروتشه مذهبه في فلسفة الجمال في كتابه الذي ظهر سنة 1902 (وطبع بعد ذلك طبعات عديدة وترجم إلى أكثر من لغة أوربية) ثم في كتابات متفرقة أهمها المجموعة التي نشرت بعنوان (مقالات جديدة في فلسفة الجمال)(باري سنة 1926).

ليس كروتشه من أنصار فكرة المثل الأفلاطونية، وهو لا يرى الفن كما كان يراه أفلاطون محاولة لتقليد مثال الجمال الذي تحسه النفوس من بعيد مجردا عن موضوعاته وتسعى عن طريق الفن بمختلف صوره إلى الوصول إلى شيء من ذلك المثال، فكروتشه يرى أن الجمال - أو الفن - هو وموضوعاته شيء واحد، فهو من المنادين بالوحدة بين الجمال وبين موضوعه أو بين الفن وبين العمل الفني.

يقول كروتشه إن الأفكار القبلية كفكرة الجمال أو الفن ليست موجودة في ذاتها وإنما هي موجودة في الموضوعات المتعددة التي تتجلى فيها، والجمال أو الفن ليس مثالا بعيدا عن الإدراك تعجب به النفوس في ذاته! وإنما هو نفسه الأشياء الجميلة أو الأعمال الفنية التي يخطئها الحصر والتي وجدت وتوجد وستوجد في هذا العالم المتغير.

ومن هذه الوحدة بين الجمال وموضوعاته وبين الفن والأعمال الفنية يخرج كروتشه بتجديد مهمة فلسفة الجمال لا على أنها (كما كان مسلما) تعريف الفن تعريفا يسمح بمعرفة قوانين الجمال الأزلية التي تحكم كل مظاهره، وإنما على أنها محاولة دائمة لتنظيم وتبويب مظاهر الجمال الفني التي تتعدد وتتسع على مر الزمن، فهي بهذا الوصف علم متجدد نام دائما أبدا.

والعمل الفني عند كروتشه ليس هو الشكل المادي الذي يتجلى فيه ذلك العمل للناس ويبقى فيه على الدهر كالألفاظ في الشعر وكالخطوط والألوان في التصوير، وإنما العمل الفني

ص: 22

عنده هو الحالة النفسية أو الانفعال النفسي لدى الفنان المبدع ولدى غيره ممن يتذوق ما أبدعه الفنان. وعلى هذا يقول كروتشه إن الأشياء الجميلة والأعمال الفنية غير موجودة في ذاتها وإنما هي موجودة في نفوس المبدعين والمتذوقين.

وإذ ينتبه كروتشه إلى ما في القول بأن الأشياء الجميلة والأعمال الفنية غير موجودة في ذاتها من تناقص ظاهري يلجأ إلى علم الاقتصاد ليضرب مثلا يقرب المسألة من الأذهان فيقول: إن الاقتصاد لا يعرف للشيء في ذاته قيمة، وإنما القيمة هي وليدة العرض والطلب وليست وليدة صفات طبيعية في ذات الأشياء. وإذن فالاقتصادي الذي يبحث عن القيمة على هدى الصفات الذاتية للشيء يرتكب نفس الخطأ الذي يقع فيه من يبحث عن الجمال في المظاهر المادية التي تبدو فيها الأشياء الجميلة أو الأعمال الفنية.

ومن هذه التفرقة بين الأشكال المادية التي تتجلى فيها الأعمال الفنية وبين العمل الفني في ذاته يخرج كروتشه بمبدأ وحدة الفن؛ فهو يرى أن التمييز بين الفنون المختلفة إنما هو تمييز غير جوهري مرجعه إلى الشكل المادي الذي تبدوا فيه آثار مختلف الفنون كالأصوات في الموسيقى والألفاظ في الشعر والألوان في التصوير، أم في الجوهر فالفنون المختلفة التي جرى العرف على التمييز بينها تربطها وحدة قوية، لأن العمل الفني لا يتوجه إلى الحواس التي ترى أو تسمع، وإنما يتوجه إلى النفس البشرية في عمومها، وتأثيره في تلك النفس واحد وإن اختلفت الأشكال المادية التي تبدو فيها آثار الفنون ومن ثم فإن كروتشه لا يقر من يرون لكل فن من الفنون الجميلة قواعد استاتيقية خاصة به، ويرى أن فلسفة الجمال ينبغي أن تشمل بذات القواعد الفنون كلها لأنها في حقيقتها فن واحد.

هذا وإن عملية الإبداع الفني قد نالت من اهتمام كروتشه جانبا كبيرا؛ ولا غرو فهي من أهم المشاكل التي يتناولها الباحثون في الفن والجمال، وفي صدد الكلام عن الإبداع الفني يشير كروتشه إلى التفرقة المعتادة بين الإلهام والتعبير، ويرى فيها ذات المشكلة التي تتجلى في نواح أخرى من الفلسفة كما في مسألة الباطن والظاهر ومسألة العقل والمادة ومسألة الروح والجسم ومسألة الإرادة والفعل.

ومشكلة الإلهام والتعبير - منظورا إليها على هذا الوضع - هي عند كروتشه مشكلة لا تقبل الحل؛ لأن التفرقة المبدئية بين باطن وظاهر أو عقل ومادة أو إلهام وتعبير من شأنها

ص: 23

أن تحول دون النفاذ من نطاق إحدى الفكرتين إلى نطاق الأخرى، ذلك أن ما نسميه (الروح) - مثلا - لا يمكن أن نتصوره إلا حالا في جسم، وما نسميه الإرادة لا نعرفه إلا متمثلا في أفعال - وهكذا؛ فإن الثنائية لا تؤدي عند فيلسوفنا إلا إلى أحد أمرين: فإما القول بعدم الإدراك، وإما نفي المعرفة أو اللا إرادية.

وإذا كانت المشكلة على هذا الوضع غير قابلة للحل فلا يشك كروتشه في أن وضعها ذلك الوضع خطأ ينبغي تصحيحه؛ وتصحيحه هو في القول بوحدة الإلهام والتعبير. فالإلهام لا يمكن أن نعرفه إلا إذا ظهر في صورة تعبيرية، فهو والتعبير إذن شيء واحد، ولا إلهام إذن من غير تعبير. وهنا يسخر كروتشه ممن يدعي أن لديه أفكارا لا يستطيع أن يعبر عنها، أو أن في ذهنه لوحة لا يستطيع أن يرسمها، وينكر على هذا وذاك وجود ما يزعمانه من إلهام.

يبني كروتشه مبدأ وحدة الإلهام والتعبير على نفي الثنائية.

وليست المسافة بين نفي الثنائية وبين القول بوحدة الوجود بالمسافة الكبيرة عند كروتشه، فهو يرى أن فلسفة الجمال تساهم بمبدأ وحدة الإلهام والتعبير في بناء المبدأ الأكبر مبدأ وحدة الوجود. وعنده أن إبداع قصيدة من الشعر ينطوي على اللغز الأعظم الذي ينطوي عليه إبداع هذا الكون الكبير.

وبعد، فهذه لمحات من آراء بنديتو كروتشه في فلسفة الجمال، لا نزعم لها أنها أحاطت بهذا الجانب من فلسفته كما ينبغي أن تكون الإحاطة، ولكن إذا تيسر لهذه اللمحات أن تلفت القارئ العربي إلى هذا المفكر العظيم الذي لم ينل في بلادنا قسطه العادل من ذيوع الصيت فذلك حسبها وكفى.

الإسكندرية

جمال مرسي بدر

ص: 24

‌8 - الميسر والآزلام

للأستاذ عبد السلام محمد هارون

(تتمة)

ضروب من القرعة المعاصرة

1 -

وكانت القرعة إلى عهد قريب تطلق على اختيار الرجال للجندية، وكانت إدارة التجنيد لجيشنا المصري تسمى (إدارة القرعة)، ولا تزال هذه التسمية غالبة لم تمح التسمية القديمة، وبسؤالي لبعض كبار رجال الجيش أجاب بأن ذلك لا يعدو أن يكون مجازا في التسمية، وأنه لم تكن ثمة قرعة بالمعنى الحقيقي، وإنما هي اختيار بحت وترشيح للصلاحية كان فيما مضى مبينا على قواعد ساذجة، ثم أضحى اليوم مقيدا بشروط دقيقة لا بد من توافرها في أفراد الجيش النظامي.

2 -

ومن وسائل القرعة أن تقطع أوراق متساوية القدر والنوع واللون، ثم يعطى كل واحد من المتقارعين واحدة منها فيكتب فيها اسمه، ثم تطوى كلها على غرار واحد، فإما أن تجعل مربعة، وإما أن تلف لفا أسطوانيا، بحيث لا يبدو من إحداها ما يدل على صاحبها، ثم تلقى في وعاء، وقد يكون ذلك الوعاء قلنسوة أحد المتقارعين، ثم تجلجل كما تجلجل القداح، ثم تخرج إحداها؛ فمن خرجت باسمه فهو الفائز.

3 -

ومن وسائل القرعة في بدء الألعاب الرياضية أن يختار كل واحد من الفريقين أحد وجهي الدرهم: الصورة أو الكتابة، ثم يلقي الحكم هذا الدرهم فأي الوجهين ظهر حكم لصاحبه أن يكون هو البادئ باللعب.

هذه هي أشهر ضروب القرعة المعاصرة في مصر اليوم، ولا ريب أن هناك ضروبا أخرى منها يزاولها أقوام آخرون في شتى بلاد الله، كل يجري على مذهبه وطريقته في ذلك.

الاستخارة

ومما يلحق بالاستقسام لطلب الغيب، أو للتفاؤل واستشارة قوى الغيب للإقدام والإحجام ما أطلق عليه المتأخرون لفظ (الاستخارة).

ص: 25

ولفظ (الاستخارة) عربي أصيل. قال ابن الأثير في النهاية: (والاستخارة: طلب الخيرة في الشيء، وهو استفعال منه، يقال: استخر الله يخر لك). وفي الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في كل شيء). وفيه أيضاً دعاء الاستخارة، وهو (اللهم خر لي)، أي اختر لي خير الأمرين، واجعل لي الخيرة فيه.

ولا ريب أن معنى الاستخارة أن يستلهم المستخير الله ليهديه إلى خير النجدين، ويأخذ بيده إلى أقوم الطريقين. وليس في هذه الاستخارة لجوء إلى غير الله، وليس فيها توسل بغيره لمعرفة الخير. ولم يؤثر عن السلف الصالح استخارة بغير معنى دعاء الله عز وجل أن يوفق للخير.

ولكن هذه التسمية أطلقت فيما بعد على ضروب من الاستشارة أشهرها:

1 -

استخارة المصحف، بأن يفتح المستخير المصحف ليرى فيه ما يدله على الإقدام أو الإحجام، أو ليستبشر به أو يبتئس بقراءة أول ما يظهر له منه عند الفتح.

ويسجل التاريخ خبرا معزواً إلى الوليد بن عبد الملك - وكان فيما يذكر المؤرخون صاحب فسق وفجور - فيزعمون أنه أخذ المصحف يوما وفتحه، فأول ما طلع له (واستفتحوا وجاب كل جبار عنيد). فقال: أتوعدني؟! ثم علقه ولا زال يضربه بالنشاب حتى خرقه ومزقه، وهو ينشد:

أتوعد كل جبار عنيد

فها آنذاك جبار عنيد

إذا لاقيت ربك يوم حشر

فقل يا رب مزقني الوليد

ومعا شك بعض المؤرخين في هذه الرواية فإنها لا تدل بيقين أنه فتح المصحف ليستخير به أو يستقسم، فليس في نصها ما يقطع بذلك أو يرجحه.

ومما يجدر ذكره أن (الاستفتاح) في الآية الكريمة لا يمد بسبب إلى (فتح المصحف) بل المراد بالاستفتاح في الآية هو طلب النصرة. وفي الحديث: (أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين)، أي يستنصر بهم. أو المراد به طلب القضاء، كما في قوله تعالى:(فافتح بيني وبينهم فتحا)، أي احكم حكما.

2 -

ومن ضروب الاستخارة استعمال (المسبحة)، بأن يجري المستخير يده على حبات المسبحة ثم يقف بأصابع إحدى يديه عند واحدة منها، ثم يحرك أصابع اليد الأخرى من

ص: 26

حيث وقف إلى رأس المسبحة ويقرأ على حباتها بالتوالي (الله. محمد. علي. أبو بكر. أبو جهل) فحيث انتهى العد إلى رأس المسبحة كان ما تشير به الاستخارة، فخير الحظوظ أن ينتهي العد إلى الكلمة الأولى ثم التي تليها إلى (أبي بكر)، ولكنها إذا وقفت عند أبي جهل كان في ذلك الشر المستطير والأخذ الوبيل.

هذا هو الميسر وأشباهه، وتلك هي الأزلام وأشباهها، بسطت القول فيهما وأردت بذلك فيما أردت أن أذكر تأصيل (الميسر) وأنه داء صاحب البشرية منذ عهد طويل، وأن أقول إن الوقت قد حان للقضاء عليه في هذه العهود الجديدة التي تحاول أن تهزم الشر والفساد، وأن تنصر الأخلاق الفاضلة والمثل العليا.

وأما بعد فإن القول ليس بحاجة إلى أن يعاد، وأن يقال إن الميسر هو السر الغالب فيما كنا نرى من تهافت بعض أصحاب السلطان فيما مضى على اغتصاب الأموال واحتجان الحقوق، والتسلل إلى اقتناص الأبيض والأصفر من ثنايا الرشوة ومكامن الاستغلال الدنيء. فلنقض عليه ولنعلم أننا نبني بذلك صرحاً عالياً سامقاً من صروح الاستقامة، ونهدم بذلك جبارا ماردا من جبابرة الفساد والطغيان.

(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا).

منهج لبحث

المقال الأول:

مقدمة - لفظ الميسر ومدلوله - لفظ القمار ومعناه - لفظ الأزلام ومعناه - زمان الميسر.

المقال الثاني:

الجزور - الجزار - عدد الأيسار - قداح الميسر - عدد القداح وأسماؤها - قداح الحظ - القداح التي لا حظ لها.

المقال الثالث:

الخريطة - الحرضة - الرقيب - مجلس الميسر - الغنم والغرم - قضايا الميسر - ما في الميسر من الضرر والنفع.

المقال الرابع:

ص: 27

هل بقي الميسر في الإسلام - الاستقسام بالأزلام - الأزلام في الشعر العربي.

المقال الخامس:

لماذا استقسم العرب يالأزلام - أزلام الاستقسام.

المقال السادس:

العامل الديني - تقديس الأزلام - الأزلام في التاريخ الديني القديم - التمرد على الأزلام.

المقال السابع:

الأزلام المدنية - علة تحريم الاستقسام بالأزلام - القرعة - القرعة في الكتب الدينية القديمة.

المقال الثامن:

ضروب من القرعة المعاصرة - الاستخارة

مراجع البحث

الأصنام، لابن الكلبي، طبع دار الكتب - الأغاني، لأبي الفرج، طبع الساسي - إنجيل لوقا ومتى ومرقس - بلوغ العرب للآلوسي، الطبعة الثانية - تاريخ الطبري، طبع الحسينية - تفسير أبي حيان - تفسير الفخر الرازي - الحيوان للجاحظ، بتحقيقنا - خزانة الأدب، للبغدادي، طبع بولاق، ديوان الخطيئة، طبع التقدم - ديوان طرفة. طبع قازان - ديوان النابغة. من مجموع خمسة دواوين - سفر يشوع - سفر بونان - السنن الكبرى للبيهيقي. حيدر أباد 1344 - السيرة. لابن هشام. طبع جوتنجن - صبح الأعشى. للقلقشندي. دار الكتب - صحيح الأخبار. لمحمد بن بليهد. الطبعة الأولى - صحيح البخاري - الطرق الحكمية. لابن القيم. طبع المؤيد 1317 - فتح الباري. لابن حجر. طبع بولاق - الكشاف للزمخشري. طبع البهية - لسان العرب. لابن منظور - محاضرات الراغب الأصفهاني. طبع الشرقية - المحبر. لابن حبيب. تحقيق الدكتورة إيلزه - المخصص. لابن سيده. طبع بولاق - مسند أحمد. بتحقيق أحمد شاكر - معجم البلدان. طبع الخانجي - المفضليات. طبع دار المعارف - مقاييس اللغة. بتحقيقنا - الميسر والقداح. لابن قتيبة. طبع السلفية - النجوم الزاهرة. لابن تغري بردي. دار الكتب - النهاية لابن الأثير. طبع العثمانية.

عبد السلام محمد هارون

ص: 28

‌رد على مقال

العدالة الاجتماعية في الإسلام

للأستاذ محمد رجب البيومي

كنت اقرأ في مجلة الثقافة الغراء فصولا مختلفة في قواعد النقد الأدبي ومذاهبه للأستاذ عز الدين إسماعيل، فألمح أضواء التوفيق فيما أطالع، وأتصور أن الكاتب سيخطو بالنقد الأدبي خطوة موفقة حين ينتقل من القواعد المذهبية إلى التطبيق، ولكني شعرت بمرارة لاذعة حين قرأت ما كتبه بالعدد الأخير من مجلة الثقافة خاصا بنقد كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام، فقد، قضى على كل أمل كنت أرجوه منه.

وكتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام كتاب مرموق في المكتبة العربية وقد ظهر منذ سنوات، كما تعددت طبعاته المرة بعد المرة، فمن يحاول أن ينقده اليوم فلا بد أن يقدم للقارئ مآخذ هامة ظهرت لديه بعد القراءة الطويلة، والتمحيص الدقيق، وكنت أنتظر ذلك من الناقد الفاضل ولكن الريح قد أتت بما لا يشتهي الملاح.

بدأ الأستاذ نقده الثائر بقواه (ويجدر بي قبل أن أطيف بالقارئ في أرجاء هذا الكتاب أن أنبهه إلى خدعة كبارة، وهالة باطلة نسجها الإمحال في وقت من الأوقات عن شخصية المؤلف، فأخذ مكانه بين الرعيل الثاني من المفكرين في مصر الحديثة، وإن أظهر ما تتسم به مؤلفات الأستاذ سيد قطب هو الضحالة والصحافية، وصياغة أفكار الآخرين من جديد).

فالناقد الفاضل يعلن صراحة أن كتاب العدالة قد شق طريقه إلى الرواج لظهوره في وقت ممحل جديب، توقف فيه التيار الأدبي عن سيره المتواصل، وهذا قول باطل، إذ أن السنوات الأخيرة قد قذفت إلى المطبعة عشرات الكتب الإسلامية والأدبية لعشرات من أفاضل المؤلفين، ولم ينفرد كتاب العدالة بالظهور، ليقال إنه لقي ما لا يستأهله من الرواج والذيوع، كما يحدد الناقد الفاضل مكانة الأستاذ قطب فيضعه في الرعيل الثاني من المفكرين في مصر الحديثة، وقد كان الأستاذ قطب من الرعيل الثاني فعلا قبل أن يبدأ سيله الزاخر في السنوات الأخيرة بكتاب العدالة وما تبعه من المؤلفات، أما الآن فلا ينكر عليه منصف مكانه المنفوس في الرعيل الأول من الكتاب. وليس هذا بكثير على كاتب مجاهد دفع عن زملائه معرة الجبن والخمول، فمهد للثورة الأخيرة بقلمه، واندفع سنوات متلاحقة

ص: 30

يحارب الفساد في الصحف الحرة النزيهة كالدعوة واللواء والرسالة والاشتراكية وروز اليوسف، حتى ليجوز أن نشبه موقفه من النهضة الأخيرة بموقف فولتير من الثورة الفرنسية. ولكن الأستاذ عز الدين يقسم الأدباء إلى درجات متفاوتة ثم يعز من يشاء ويذل من يشاء دون عدالة وإنصاف.

وهذه السرعة الحميدة الخصيبة في الإنتاج كانت سيئة شنيعة لدى الناقد الغيور، فجعلته يحكم على إنتاج قطب بالضحالة والصحافية، ثم يزيد فيزعم أنه يسرق أفكار الآخرين. وإذا أعوزه الدليل على ذلك، تعدى كتاب العدالة الذي أرهق نفسه في نقده، واندفع يقول:

وإن شئت فارجع إلى كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) وهنا تستطيع أن تدرك تماما أن الكاتب أعاد أفكار أبركرمي وتشارلتن، ولا نسون التي سبق أن ترجمت إلى العربية فإذا بحثت عن جديد يختص به المؤلف أعياك البحث دون جدوى.

والكتابان اللذان خدعنا بهما للمؤلف، وخيل إلينا أن فيهما من الأصالة ما ينفي عنه تلك الصفة، وهما التصوير الفني للقرآن، ومشاهد القيامة في القرآن، هذان الكتابان، بكل أسف ليس فيهما من أصالة الفكرة شيء؛ فقد تلقف الأستاذ سيد قطب أصل الفكرة من الأستاذ العقاد وراح يضخمها حتى ظفر من هذه الضخامة بقدر يملأ كتابا)!!

ونحن ننقل هذا الكلام لنسجل على الناقد غفلته، فكتاب النقد الأدبي لا يعيبه إطلاقا_على فرض التسليم بما ذكره الناقد - أن يفيض بآراء أبركرمي وتشارلتن ولانسون، إذ أن الناقد المعاصر لا بد أن يحيط بالثقافة الغربية في موضوعه، وإذا ظهر في النقد الأدبي كتاب يخلو من الإشارة إليها في صفحاته فقد سقطت قيمته الأدبية دون نزاع، والناقد الجريء يتعمد أن يغفل في كلامه حقيقة هامة، فالأستاذ قطب لم ينقل آراء هؤلاء النقاد إلا ليطبق عليها الآثار العربية من شعر ونثر، وقد فاض كتابه الجليل بالموازنة والتحليل، وهنا تتجلى ميزة قطب الأصيلة فهو باحث تطبيقي يزن الأثر الفني بميزانه الدقيق، وليس كمن يحشد لنا القواعد المذهبية في النقد الغربي من كل مكان، فإذا أراد تطبيقها على الأدب العربي اضطرب مقياسه، واختلج ميزانه، وغمره التلجلج والبهر والارتباك!!

وقد ادعى الأستاذ عز الدين أن كتابي التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة مأخوذان من الأستاذ العقاد، ولماذا؟ وأين الدليل؟ لأن العقاد قد كتب مقالة تشير إلى فكرتهما

ص: 31

الأصيلة! فتلقف قطب الفكرة! وملأ بها كتابين كبيرين! وهذا يذكرني بما يقوله بعض الناس في معرض الفكاهة والتندر، من أن أوربا لم تخترع الطائرة، وليس لها أي فضل في اكتشافها على الإطلاق، إذ أن الجوهري وعباس بن فرناس قد هما بالطيران في يوم من الأيام، ثم أخذ الغرب الفكرة وادعاها لنفسه دون أن يقوم بمجهود!! وهكذا أخذ قطب مقالة الأستاذ العقاد فأفرغ فكرتها الموجزة في كتابين كبيرين، فيا للسطو الشنيع والجريمة النكراء!!

ثم ماذا؟ لقد لجأ الكاتب بعد هذه المقدمة إلى نقد كتاب العدالة، فأدهشني أن يعمد إلى التشويه دون أن يحترم عقول القراء؛ فهو حين يدلل على ضحالة قطب يزعم أنه استشهد بقوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ليبين أن الإسلام لا يعادي العلم كغيره من الأديان. وهذا غير صحيح؛ إذ أن قطبا يعرض بعض الخصائص الحية في الدين الإسلامي، فيذكر أنه لا يعادي العلم، ولا يكره العلماء، وأنه لا يعتمد على الخوارق والمعجزات، ولا يقوم على الغيبيات في صميمه بل يقوم على المشاهد والتأمل والنظر في الكون. ثم يذكر النصوص الدالة على ذلك من القرآن، ويعقب عليها بقوله: وذلك طبيعي في دين يربط التقوى بالعلم، ويجعل العلم سبيلا إلى معرفة الله وخشيته (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فليت شعري كيف يكون الاستشهاد بالآية بعد ذلك دليلا على أن الإسلام لا يعادي العلماء؟ وأين تكون الضحالة إذن؟ أهي عند الكاتب المظلوم، أم لدى الناقد الممتاز؟

والمثال الثاني الذي استشهد به الناقد في مضمار الضحالة أعجب وأغرب من سابقه! فهو يزعم أن المؤلف يعالج المسائل الكبرى في تاريخ الإسلام ببساطة عجيبة، (حتى ليردها إلى محض الصدفة، ولا يكلف نفسه التغلغل في العوامل الاجتماعية والتيارات النفسية التي تعمل بقوة في مد الإسلام وجزره)، يقول الناقد ذلك، وتنتظر منه أن يدلك على مأخذ هام عرض له فلا تجد غير ما يضحك ويدهش؟ فقد استنفد الأستاذ قطب عشرات الصفحات في إيضاح حقيقة الإسلام في عصر الرسول وخلفائه الراشدين؛ وأسهب في دراسة دعائمه الراسخة في الحرية والعدالة والمساواة، ثم عرض إلى الحكم الأموي فأوضح ما دار على مسرحه من مآس دامية لا ترجع إلى طبيعة الإسلام بل هيأت لها المصادفة التعسة! أجل لقد فعل الأستاذ قطب ذلك وتدرج مع قارئه في التاريخ تدرجا منطقيا، ولكن كلمة المصادفة

ص: 32

هذه لا تعجب الناقد، فيغفل جميع ما تقدمها من تمهيد، وما أعقبها من استنتاج ليخرج بدعوى عريضة جوفاء لن تجد من يطمئن إليها في كثير أو قليل!

والمؤلم المدهش أن الأستاذ عز الدين لا يفهم هدف الكتاب المنقود ورسالته فهو يحتم على مؤلفه أن يسهب في شرح البيعة لعلي وأن يفيد من التحليل الرائع الذي كتبه العقاد في عبقرية الإمام، وأنني ستجدني مضطرا أن أنبه الناقد إلى أن كتاب العدالة ليس كتاب تاريخ تراجع فيه مسائل البيعة والخلافة؛ فتذكر فيه مزايا علي كرم الله وجهه ومثالب معاوية الخلقية، ولكنه يحتاج إلى التاريخ بالقدر الذي يسعف بالحجة وينهض بالذليل، فكيف يفرض الناقد على المؤلف أن يندفع إلى استطراد متكلف لا يعنيه.

ويخيل إلى أن الناقد الألمعي لا يعرف شيئا عن الروح الإسلامية التي تغمر العالم الإسلامي الآن، فقد نسى المسلمون قوميتهم الضيقة وجعلوا الإسلام وطنهم الأول، وقامت جمعيات الإخوان المسلمين في شتى عواصم الممالك الإسلامية بمجهودها الناجح في هذا المضمار. والناقد الطلعة يجهل ذلك قطعا، فيتساءل عن الشخصية المصرية في القرنين الأول والثاني من الهجرة وعن الشخصية المصرية الحديثة، وعن الشخصية الهندية أيضاً (كذا)! كأن باكستان لم تشرق شمسها على الآفاق، ثم يتذرع بالمنطق التاريخي الموهوم فيسأل عن سر الحملة التي توهمنا بأننا تنكبنا الإسلام في حياتنا وروحنا نقتبس من هؤلاء وهؤلاء! أي والله، إنها توهمنا فقط أننا تنكبنا الإسلام؟! وإذا كان الناقد لا يعتقد مع الواهمين بأننا تنكبنا الإسلام عدة قرون، فلماذا يتحدث الآن عنه؟

وقد أخذ الأستاذ عز الدين يتحدث عن الصحافية التي تتمثل في جميع مؤلفات قطب، وعن مصادره الثانوية التي لا تصل إلى المراجع الأولى بحال، وأنت تسأل عن المصادر الثانوية هذه، فتجدها تتمثل في الكتب الحديثة مهما بلغت في الدقة والتمحيص! كأن كل مؤلف حديث لا يجوز أن يرجع إليه ألبتة!! وهذا رأي نسمعه لأول مرة، ونكتفي بتسجيله دون التعقيب عليه. فإذا سألت الناقد عن مظاهر الصحافية كما يفهمها وجدتها تتمثل فيما سماه بالأساليب الخطابية، والعبارات الطنانة!! مما لا يصبح في كتاب يستهدف إلى البحث العلمي السليم. وأحب أن ألفت الناقد إلى أن كتاب العدالة - فوق منزلته العلمية - ذو رسالة عملية، فقد ألفه كاتبه ليحدث انقلابا شعوريا عاصفا. وليطر بالنفوس الذليلة إلى آفاق

ص: 33

العزة والكرامة في أوج الإسلام، وكتاب كهذا يجب أن يخاطب الوجدان والشعور، ويتغلغل إلى الخواطر والمسارب، وكان في طوق مؤلفه أن ينحو به المنحى العلمي الهادئ، ولكنه مصلح ثائر يحطم السدود، ويقتحم الحواجز. وكتب الثورة جميعها سماوية وبشرية، غربية وشرقية تخاطب العقل والشعور معا، ولا يعيبها أن تتلمس لها النقائص تلمسا، فيقال إن المؤلف يثبت الفكرة قبل أن يبحثها، إذ أن تقديم الفكرة لا يحول دون مناقشتها، ودفع ما يقف أمامها من الشبه المضادة، وإلا فستكون قليلة الجدوى فاقدة التأثير.

وقد عمد الناقد المغرض إلى المغالطة والتضليل فيما لا سبيل إلى دحضه فهو يقول (ولعل من صور اضطراب البحث في يد الكاتب أن تجده يقف بك أمام المشكلة في جوهرها ثم إذا به يحيلك على ما سيأتي حتى إذا مضيت قليلا فقد نسيت المشكلة ونسيت ما كان مفروضا قد يأتي لأنك تدخل في شيء آخر جديد).

يقف المؤلف في ص 19 ليضع هذه المشكلة الجوهرية؟ هل ما يزال في الإسلام عناصر صالحة للتطبيق في العصر الحديث؟ ثم يقول (هذا سؤال في الصميم) ولذلك لن يكون من المستطاع الإجابة الوافية عنه في هذا الموضوع فسنجيب عنه تفصيلا وتطبيقا فيما بعد (حتى إذا بلغت ص (216) وجدت إجابة باهتة)

والحق الذي لا يمتري فيه إنسان أن صحيفة 216 ليست وحدها هي الإجابة المطلوبة، بل إن الكتاب بجميع صفحاته إجابة مقنعة تدور حول هذا السؤال؛ بل من أجله قد كتب المؤلف كتابه من ألفه إلى يائه. ولن أعمد إلى تلخيص مواضيع الكتاب فيطول بي الحديث في غير طائل، ولكني أحيل الناقد إلى الفهرس فقط! وأعلن أسفي لناقد فاضل يعمد إلى هدم كتاب واضح دون أن يفهم مراميه! ولم يستطع الأستاذ عز الدين أن يخفي عن القراء ما تفيض به نفسه من التحامل المغرض والثورة على صاحب الكتاب، فهو يقرر فقدان الأصالة لدى المؤلف في كتابه لشيء واحد؛ هذا الشيء هو أن المؤلف قد نقل عشر صفحات عن أربعة مؤلفات وقد أثبتها متفرقة في مواضع شتى من كتابه، وأسند كل نص إلى قائله ومكانه؟ فيكون استشهاده بهذه النصوص المنقولة المسندة، دليلا قويا على فقدان الأصالة! مع أن صفحات الكتاب تستشرف إلى الثلاثمائة، وكان في طوق كاتبه أن يرجع إلى المصادر القديمة دون أن يشير إلى من نقل عنهم من المحدثين، ودون أن يؤاخذ جزاؤه

ص: 34

أن يتهم بفقدان الأصالة، وقلة الابتكار.

لقد أسرف الأستاذ عز الدين إسماعيل في تجنيه دون مبرر يدعوه إلى ذلك، وقد دفعني الإخلاص للحق وحده أن أعقب على حديثه راجيا أن يتعود الإنصاف في آرائه المقبلة.

محمد رجب البيومي

ص: 35

‌الأدب الأردى والثقافة الباكستانية

للأستاذ مسعود الندوي

اطلعت على كلمة للدكتور عمر حليق عن الاتجاهات الحديثة في الثقافة الأردية، الصادرة في العدد 1004 من الرسالة الزاهرة، فاستوقفتني منها أمور أحببت أن ألفت إليها نظر الكاتب وأصحح بذلك ما وقع في كلمته من الأخطاء. والذي يظهر من المقال أن حضرة الدكتور لا يعرف اللغة الأردية، ولم يطلع على روائع الأدب الأردي مباشرة؛ وله بعض العذر في ذلك. أما الذين تكرموا بتزويده بالمعلومات الخاطئة، فليس لهم عذر؛ اللهم إلا أن يكونوا من طلاب الأدب، وإنما اضطروا إلى القيام بهذا الواجب بصفتهم الرسمية. ومهما يكن الأمر، فإن الواجب يحدوني أن أشفع تلك المقالة بكلمة موجزة من عندي، عسى أن يتقبلها الدكتور الفاضل بقبول حسن.

إن أول ما استوقفني من كلمة الدكتور، هو الفرق بين الأدب الأردي قبل الاستقلال وبعده، والدعوى بابتعاده عن تقليد الغرب، والعدول عن إتباع تيارات الثقافة الغربية بعد الحصول على باكستان. ولكن من دواعي الأسف أن الأمر ليس كذلك؛ بل الحق أن الأدب الأردي الحديث أخذ في الانحطاط بعد الاستقلال، وشرع الكتاب الجدد في تقليد الأدب الغربي وإتباع معالمه من غير أن يبتكروا شيئا. وأكبر شاهد على ذلك ذيوع المجلات الخليعة الداعرة في السنين الخمس الفارطة وكثرة انتشارها وقلة المجلات الراقية المحتشمة. والمجلات الأدبية أيضاً يستولي على معظمها الشيوعيون الذين يسمون أنفسهم (تقدميين) والذين جل همهم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. وقد رفع أمر بعض أئمة الكفر والضلال منهم - أمثال سعادت حسين منسوط والكاتبة عصمت بغتالئ - في المحكمة وعوقبوا بغرامات زهيدة ما زادتهم إلا شرا وتماديا في الغي. وهناك قسم ثالث - وهم لا يكادون يتجاوزون عدد الأنامل - يريدون أن يخدموا الأدب للأدب وحده، ولا ينحازون إلى دعاة الفحشاء والخلاعة. وعلى رأسهم الأستاذ بشير أحمد صاحب مجلة (همايون) الشهرية، الذي كان وزيرا مفوضا لباكستان في تركية منذ عهد قريب.

ولا يحسبن القارئ أن دعاة الإسلام والمستمسكين بالفضيلة والأخلاق ساكتون أمام هذه الدعوات الخليعة التي تروجها المجلات الداعرة وتساعد عليها محطات الإذاعة بأغانيها

ص: 36

المستهترة المبتذلة؛ لا يحسبن أحد كذلك، فإن المستمسكين بالفضيلة المعتزين بالآداب الإسلامية واقفون لهم بالمرصاد، مقاومون لهم بالحجة، مقارعون النبع بالنبع. فقد ظهرت في السنين الخمس الماضية طبقة من الأدباء الإسلاميين والشعراء الداعين إلى رصانة الأخلاق والمحافظة على الآداب الإسلامية والشرقية، ينشرون أفكارهم ونتاج قرائحهم في مجلات وصحف لهم خاصة، ولها انتشار في البلاد لا بأس به، ربما يفوق مجلات الشيوعيين من انتشار ورواج. والذين على رأس هذه الحركة هم الشاعر المبدع ماهر القادري، الذي يعد أكبر شاعر في باكستان بلا نزاع؛ والأديب نعيم الصديقي الذي ملك مشاعر الشباب بمحاضراته ومقالاته وقصائده الرنانة السائرة وغيرهما. والشاعر ماهر، على ذلك، يعد حجة في اللغة الأردية، وهو يحرر مجلة (فاران) الشهرية التي تصدر في العاصمة. أما الأديب نعيم الصديقي فهو أيضاً يشرف على تحرير مجلة شهرية راقية (جراغ راه - سراج الطريق)، تصدر في العاصمة نفسها. - هذا وجملة القول أن النزاع شديد عندنا اليوم بين الأدب الشيوعي والأدب الإسلامي، ولكل منهما مجلات وصحف وندوات وحفلات وأشياع.

هذه واحدة. والثانية أن الدكتور ذكر اللغة البنجابية المحلية وما لها من تأثير في (تطعيم) الأدب الأردي. والحال أن (البنجابية) لهجة محلية، لم يكن لها من صبغة أدبية تذكر. وأهل (بنجاب) هم الذين يحملون اليوم لواء الأدب الأردي ويدافعون عن حوزته؛ حينما تنكرت للغة الأردية الأرض - الهند - التي نبتت فيها وازدهرت واتت من كل زوج بهيج، ولا يكاد يقبل عليها ويتلقاها بالقبول سكان (بنغال) الذين يعتزون بلغتهم البنغالية المحلية المنحصرة في حدود مقاطعة بنغال؛ بل يريدون أن تكون لغة رسمية كالأردية. وغير خاف على اللبيب الفطن ما في هذا الاقتراح من بذر الشقاق والتفرق.

نعم، في سكان مقاطعة الحدود الشمالية الغربية عصبية شديدة للغتهم المحلية (بشتو)؛ ولكنها لغة محلية في طورها البدائي. ولولا تعصب أفغانستان لها واتخاذها منها لغة قومية بدل الفارسية لما كان لها شأن يذكر. ونحن واثقون من أن أولى الرأي والفكر من إخواننا سكان الحدود لا يزالون باذلين الجهد المستطاع في تعميم اللغة الأردية ونشرها في مدنهم وقراهم، حتى تعم اللغة الأردية سائر مدنهم وقراهم ويرفرف عليها لواؤها.

ص: 37

وقد ذكر الدكتور حليق الكاتب (السيد محمد إكرام) بجانب (أساتذة النقد وجهابذة الحل والعقد) كالأستاذ المحقق السيد سليمان الندوي والدكتور عبد الحق - الذي يلقب بـ (بابا أردو) - والحال أن محمد إكرام لم يكن من شأنه أن يبدأ ويعاد في ذكره في مثل هذا المقام. وجل مزيته التي يتمتع بها أنه يتبوأ منصبا عاليا في الحكومة المركزية، وله مصنفات يمكن أن تعد في الطبقة الثانية من المصنفات الأردية. أقول يمكن أن تعد، فإني قد قرأتها وأعرف قيمتها عن خبرة وعلم. ومعظم النقاد لا يقيمون لمؤلفاته وزنا. أما إنشاؤه بالأردية فمما لا شك فيه أنه ركيك بارد، لا يجعله حتى في عداد الطبقة الثالثة من كتاب الأردية. ثم خلط الكاتب (الاتجاهات في الأدب البنغالي) بالاتجاهات في الأدب الأردي. فالأدب البنغالي، متشبع في جملته بالروح الوثني، كما كان للهنادك الوثنيين من سلطة أدبية ونفوذ ثقافي منذ قرن كامل. نعم! قد كان للشاعر الثائر القاضي نذر الإسلام - الذي سماه الدكتور نصر الإسلام - يد عظيمة في تحرير الأدب البنغالي من أثار الصبغة الوثنية وتطعيمه بالأدب الفارسي والأردي، وكذلك للأستاذ الكبير محمد أكرم خان، يد باللغة وجهود مشكورة في إطلاق سراح الأدب البنغالي من رق الأدب الوثني الهندكي. وله تلاميذ وأتباع ينتهجون نهجه ويسلكون طريقه في الأدب البنغالي.

أما الشاعر عبد الحسين الذي ورد ذكره في مقال الدكتور الفاضل، فلم نسمع به أصلا، اللهم إلا أن يكون من شعراء اللغة البنغالية الذين لم تلمع أسماؤهم في هذه الناحية من القطر.

هذه كلمة موجزة أردت أن أشفع بها مقالة الدكتور عمر حليق قياما بالواجب وتعاونا على تبيين الحق والصواب. وللدكتور الفاضل تقديري وتحياتي.

مسعود الندوي

ص: 38

‌رسالة الشعر

ضموا الكتائب وارفعوا الأعلاما

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

ضموا الكتائب، وارفعوا الأعلاما

وامضوا إلى مجد الحياة كراما

اليوم فاض النور من قلب الدجى

فجرا تلألأ زاهيا بساما

كان البشير بأن مصر تحررت

من قيدها، وتوثبت إقداما

لما دعا الداعي (نجيب) بلاده

لي الدعاء، وأيقظ النواما

ومضى يقود الجيش في طلب العلا

قدما، فكان مظفرا مقداما

هدم الضلال قوائما ودعائما

بئس الظلال قوائما ودعائما

وأتى إلى الظلم الركين، فهزه

هزا فصار على يديه حطاما

الله أكبر؟ قد شهدت حقيقة

غراء كنت أظنها أوهاما:

رأس الطغاة المفسدين وعونهم

كانت نهاية أمره استسلاما!

الملك لله الذي يهب العلا

لمن استحق العز والإكراما

ومن ابتغى ذل الشعوب وظلمها

فقد استحق الذل حيث أقاما

يا مصر: هذا يوم سعدك، فاسعدي

في ظله، واستقبلي الأياما

يا مصر: هذا يوم مجدك، فاصعدي

في المجد، واتخذي ذراه مقاما

يا مصر: هذا يوم نصرك، فافرحي

بالنصر يقبل نعمة وسلاما

واستقبلي العهد الجديد بهمة

لا تعرف التعويق والإحجاما

فلقد مضى العهد البغيض بظلمه

وظلامه، وإلى الجحيم ترامى

وغدا تكون حياتنا أنشودة

أنغامها. . . أنعم بها أنغاما!

وغدا يكون الخير ملء سهولنا

ويفيض حتى يغمر الآكاما

وغدا سيشبع من يبيت على الطوى

وسيكتسي من يلبس الإعداما

ويصح من كان الشقاء لجسمه

سقما، وكان لنفسه أسقاما

ويعز بالعهد الجديد معاشر

هانوا، فكانوا في الورى أيتاما

وينام مقرور الجفون معذب

ظل السهاد حليفه أعواما

ص: 39

وغدا ينال الشعب كل حقوقه

فيعيش متسع الرجاء هماما

في ظل دستور البلاد وعونها

في الرأي، إن جرت الأمور جساما

إيه بجيب! وأنت ملء قلوبنا

حبا، وملء نفوسنا إعظاما

هذى تحية شاعر متحرر

لم يمتدح في شعره الأصناما

أكرمت شعري أن يكون مطية

للضالمين، وإن غدوا حكاما

وجعلت نفسي فوق أهواء الآلي

ملئوا البلاد مظالما وظلاما

حكموا بغير الشرع في البلد الذي

جعل الشرع دينه الإسلاما!

هل كان هذا الحكم إلا موئلا

للمجرمين؟ ألم يكن إجراما؟

كم شاعر شهد الحقائق جهرة

ثم التوي عن وجهها وتعامى!

حسبي إذا ما رمت شعرا صادقا

أن أبتغي من مثلك الإلهاما

أنا إن مدحتك لا أزيدك رفعة

إني بمدحك في الورى أتسامى

وإذا وصفتك جل وصفك عن مدى

قلمي، فوصفك يعجز الأقلاما

يكفيك صنعك رفعة ونباهة

كالشمس يكفي ضوءها إعلاما

متواضع. تجد التواضع حلية

جم الحياء ترى الحياء وساما

متحصن بالله تحسن آيه

فهما، وتتقن دينه أحكاما

أخلاقك النور المصفى رقة

لكن عزائمك اللهيب ضراما

وإذا نطقت ففي لسانك عفة

لا تعرف الإيذاء والإيلاما

وإذا أتيت الأمر كنت وراءه

عزما، وكنت أمامه إقداما

وأراك في ليل الحوادث كوكبا

وأراك في غمراتها ضرغاما

ولقد تكون الغصن أخضر يانعا

ولقد تكون الصارم الصمصاما

يا قائد الجيش المظفر كن له

في كل أمر قدوة وإماما

هو عز مصر ومجدها وملاذها

في الروع، إن رام العدو مراما

فأعد له أيامه، وانهض به

حتى تخر له الحصون ركاما

واسلم لمصر، وإنها أم العلا

والمجد. . . مذ كان الزمان غلاما

إبراهيم محمد نجا

ص: 40

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

مؤتمر للأدب

يزور القاهرة هذا الأسبوع الكاتب السوري الأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة (الحديث) التي تصدر في حلب.

كما حضر من بين أعضاء الوفد المرافق للزعيم السوري الكبير العقيد (أديب الشيشكلي) الكاتب المعروف الأستاذ (قدري قلعجي).

وقد كان من الأماني الغالية ألا تحول المشاغل المختلفة لضيفي مصر دون التقائهما بأدباء مصر. فإن في مثل هذا اللقاء كسبا كبير للأدب العربي.

وإني لأتساءل لماذا لا يكون للأدباء (لجنة أدبية) شعبية على غرار اللجنة السياسية في الجامعة العربية.

ولماذا لا يعقد مؤتمر أدبي عام من أدباء الشرق، مرة كل عام في القاهرة أو بغداد أو دمشق يستمر أسبوع أو أسبوعين ويضم أدباء العرب في هذه البلاد، ليتفاهموا على كثير من المسائل والمشاكل التي تهم الأدباء، بخاصة في هذا الوقت الذي تعقدت فيه الحياة الأدبية واحتاجت إلى دراسة وبحث.

فالأدب يقاسي في هذه الأيام الكثير من المتاعب والعقبات في سبيل أداء رسالته، بعد أن شغل الناس عنه بالصحافة وما تقدمه الصحافة من زاد قليل قد يكون في بعض الأحيان رخيصا وقد يكون تافها.

ولا شك أن مشكلة التقاء الصحافة بالأدب في هذا العصر من أعقد المشاكل التي يجب أن يواجهها الأدباء.

وفي مصر مجلة الرسالة والثقافة والكتاب، وفي سوريا مجلة الحديث وفي لبنان مجلة الأديب وفي الأردن مجلة القلم الجديد، وكل هذه مجلات تقوم على الأدب الخالص وترفع مستواها عن الأساليب الصحفية والألوان السريعة أو الرخيصة، وهي ولا شك تقاسي من جراء ذلك الكثير من المتاعب، ولا تستطيع أن تنهض وحدها بالعبء على الوجه الذي يرضي الأدب ويرضي القائمين عليها.

ص: 42

ولا شك أن الدولة مسئولة عن الأدب كمسئوليتها عن التعليم والثقافة أو كجزء من التعليم والثقافة، ولذلك فإن لهذه المجلات الأدبية وهؤلاء الأدباء الحق في حياة كريمة، ولن يتاح لهم ذلك إلا إذا قامت الدولة برعاية الأدب، وإنشاء رابطة جديدة بين الكاتب والناشر من ناحية، وبين الأديب وفنه من ناحية أخرى. . تكون بعيدة عن كل عوامل الاستغلال. فالأديب يجب أن يخلص للأدب ويتجرد له، ولذلك فهو يحب أن يطمئن على معيشته وحياته أولا. فإذا توافر له هذا استطاع أن ينتج وأن يصل إلى حد بعيد في الإجادة وبذلك يكسب الأدب كثيرا.

والأديب مضطر إذا هو التجأ إلى الصحافة أو إلى التدريس أو إلى الوظيفة ليعيش منها، ثم يخلص بعض وقته للأدب. . .

نحن لا نطالب برعاية الدولة على الأساليب المعروفة بأن تشرف الدولة على الأدب أو تفرض سلطانها عليه أو تجعله مصلحة من مصالحها أو مرفقا من مرافقها. . وإنما نحب أن تبذل له المال حتى ينمو وحتى يقوى.

إن البلاد العربية الآن تواجه نهضة قوية في الاجتماع والاقتصاد والسياسة. . وبقى أن تواجه مثل هذه النهضة في ميدان الفكر والأدب والفن الرفيع.

. . إن الذين يعملون في ميدان السينما أو المسرح أو غيرهما من ألوان التسلية يعيشون في مستوى مادي رفيع، على عكس الذين يعملون في ميدان الأدب والفكر.

ويكفي أن تبقى هذه الكلمة القاسية (إن الأدب ليس موردا للرزق في مصر ولا يمكن الاعتماد عليه وحده) لتصور الحكمة البائدة (أدركته حرفة الأدب). . .

وبينما الصحافة تقفز قفزات واسعة، ويصل أصحابها والقائمون عليها والمشتغلون بها إلى كل مكان مرموق. . يظل الأدباء في المؤخرة. ويعيشون على فتات موائد الصحافة أو موائد المسرح والسينما.

أسوق هذا بمناسبة زيارة الأديبين السوريين إلى مصر، وأطالب الأدباء بعقد دورة سنوية لمؤتمر أدبي وفكري عام لبحث هذه المسائل ودراستها أشبه بمؤتمر البندقية.

مجلة مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ومن الأمثلة القاسية على ضعف الروح الأدبية (مجلة) مجمع فؤاد الأول للغة العربية فقد

ص: 43

حصلت على العدد الأخير من هذه المجلة، وهو الصادر في 1951 فوجدته يحوي الموضوعات والخطب والكلمات التي ألقيت في المجمع عن سنة 1946 ومعنى هذا أن دراسات وموضوعات متعددة عن أكثر من خمس سنوات لا تزال بعيدة عن النور، ولن يستفيد منها أحد إلا بعد سنوات وسنوات إذا ظلت الحال على هذا المنوال. وقد علمت أن السبب الذي يعوق هذه المجلة عن الصدور هو عجز مطبعة بولاق عن طبعها وطبع أعمال المجمع على الجملة لانشغالها بطبع الكتب المدرسية والأوراق الرسمية ومحاضر البرلمان. فعسى أن تعمل وزارة المعارف على أن يكون للمجمع اللغوي مطبعة خاصة تطبع معاجمه ومحاضره ومجلته.

الموسوعة العربية

من أنباء هذا الأسبوع أن اللجنة الثقافية للجامعة العربية المكونة من الأساتذة شفيق غربال وأحمد أمين وبديع شريف وخير الدين الزركلي قد اجتمعت وقررت وضع موسوعة عربية تتضمن أسماء العلماء العرب في الآداب والعلوم والاجتماع والرياضة.

ونحن في الواقع في أشد الحاجة إلى (الموسوعات) في هذا العهد الذي يسرت فيه الدول الغربية وسائل التثقيف والمراجعة، فأعدت أنواعا مختلفة من الموسوعات، بحيث لا يحتاج الباحث أو الكاتب أو القارئ إلى طويل وقت ليتمكن من الكشف عن لفظ أو بلد أو معرفة علم من الأعلام.

وقصة الموسوعة العربية في مصر قديمة جدا، وقد كان أول من أعدها في العصر الجديد الأستاذ فريد وجدي وقد مضى على ذلك ربع قرن. . . أصبحت (دائرة معارف القرن العشرين) بعدها غير صالحة لعصرنا الذي تتغير المعلومات والآراء والأبحاث العلمية والأدبية فيه وتتحول من عام إلى عام!

. . أما دائرة المعارف الإسلامية فقد حال ضعف الموارد المادية دون إتمامها مع الأسف الشديد.

وتمكن الأستاذ (أحمد عطية الله) بجهده الفردي أن يخرج دائرة المعارف الحديثة لتكون في متناول القارئ السريع، أو الباحث المتعجل. وقد علمت أنه يعد موسوعة أخرى من نفس النوع تمكن لمن يريد الإلمام بموضوع ما أن يحصل على رغبته على نطاق واسع.

ص: 44

وإذا كان من الواجب أن تشجع الدولة هذه الجهود الفردية وتوليها عنايتها، فإن الجيل الجديد يطلب مراجع أوفى وأكثر عناية وتنوع.

وقد حدثني الأستاذ عطية الله أنه يعد موسوعة تاريخية عن عظماء مصر من (مينا) إلى اليوم، وأنه قد اشتغل بإعدادها منذ أكثر من عشرين عاما ولم يتمها بعد.

وإلى جوار هذا نحن في حاجة إلى موسوعات أخرى من أعلام العالم. . وفي حاجة إلى موسوعات عن البلاد والمدن والمواقع الحربية والانقلابات والثورات والأحداث.

وإننا وإن كنا نشك في أن الجهود الرسمية تستطيع أن تحقق ما نرجو، فإننا نرجو أن يتاح لجهود اللجنة الثقافية بالجامعة العربية النجاح المأمول.

بين الأدب والسينما

كان الدكتور محمد حسين هيكل من بين الكتاب المجددين في خلال النهضة الأدبية الأولى التي أنشأتها مجلة السياسة 1923 بالاشتراك مع طه حسين والمازني وغيرهما.

ولا ينكر المؤرخ أنه وضع أول قصة مطولة في الأدب العربي الحديث وهي قصة (زينب) التي عدها المستشرقون محاولة طيبة وبداية موفقة لهذا الفن الجديد في مصر.

ثم تعددت الألوان القصصية واتسع نطاقها وكتب المازني (إبراهيم الكاتب) و (إبراهيم الثاني) وترجم الزيات (رفائيل)(وآلام فرتر).

ثم ظهر اللون الإسلامي في (على هامش السيرة) لطه حسين والحوار في (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم.

وبين الفترة التي كتبت فيها زينب 1917 و1952 مراحل تطورت فيها القصة من لون إلى لون. ونشأت القصة المسرحية والسينمائية وغيرها.

وتطور الدكتور هيكل نفسه فأنتقل من النقد الأدبي إلى (التاريخ) فكتب حياة محمد والصديق والفاروق وفي منزل الوحي وغيرها. . ثم انتقل مرة أخرى إلى الحياة السياسية الخالصة.

وظل الأمر كذلك حتى فوجئ الناس بقصة (زينب) نعرض على الستار الفضي هذه الأيام. وظن الكثيرون وكنت منهم، أن الدكتور هيكل قد تناول قصته عندما طلبت للسينما فأعدها إعدادا جديدا، وواءم بينها وبين تطور الأدب والفن والقصة والزمن، وجعلها قريبة إلى

ص: 45

متناول الناس، وكان هذا ولا شك معقولا، فإن الدكتور هيكل يجب أن يضن بمكانته الأدبية على أن تكون موضع النقد الشديد حين يقدم قصة، كتبت سنة 1917 للسينما سنة 1952. وهي خالية من الحبكة ومن العقدة ومن كل فنون القصة الحديثة.

ونحن نعلم أن قصة زينب كتبت للقراءة، لا للتمثيل ولا للسينما، ولذلك فقد كان إقحامها على هذا الوجه، ودون أن يحاول الدكتور أن يجعلها في مستوى الفن الذي يعيش فيه الناس الآن. . كان موضع الهمس في الدوائر الأدبية المختلفة.

ولم يكن يضير الدكتور هيكل شيئا أن يكون الأديب والناقد والمؤرخ. . وألا يكون الكاتب السينمائي على الإطلاق!

تحرير خبر

تلقيت نصح الأديب محمود بخيت بكل تقدير وأرجو أن أكون عند حسن ظنه فأدخل الكثير من التجديد على باب الأدب والفن ابتداء من أول يناير في نهضة الرسالة الجديدة بإذن الله.

أما بالنسبة لما ذكره الأديب، فإنني قد تناولت أسبوع (الرسول) بصفة عامة سواء ما كان منه في ندوة الشبان المسلمين أو الصحف أو الإذاعة، ولم أقصر اشتراك مخيمر وشعلان والعمادين على الندوة وحدها، فقد اشتركا في الذكرى سواء بنشر قصائدهم في الصحف أو إلقائها في الإذاعة.

وكذلك فيما يتعلق بالقصائد التي لقيت الاستحسان فقد كنت أقصد أن قصائد مخيمر والمنشاوي والتهامي في مجموع ما أذيع وألقى في المناسبة على وجه العموم.

أنور الجندي

ص: 46

‌البريد الأدبي

الأدب المصري القديم

اطلعت في البريد الأدبي بعدد الرسالة الأخير على مسألة ضياع الأدب المصري القديم التي أثارها الأستاذ الفاضل محمد إبراهيم الجيوشي متسائلا عن ذلك الضياع مع بقاء آداب أمم قديمة أخرى - كالإغريق والرومان - خالدة على الدهر.

ولئن لم أكن من (المختصين) الذين عناهم حضرة الكاتب بسؤاله فإن هذا السؤال قد أثار في ذهني فكرة اعتنقها عن اقتناع من زمن بعيد نتيجة التدبر في أمر الدعوة الفرعونية التي نادى بها البعض. . ولعل في هذه الفكرة تفسيرا لتلك الظاهرة الجديرة بالالتفات.

ذلك أن شعب مصر في حاضره وفي ماضيه غير المغرق في البعد قد أصبح مبتوت الصلة بالقدماء المصريين، إذ لم ينتقل إليه من حضارتهم شيء لا في دين ولا في لغة ولا في ثقافة بحيث يصح تشبيهه - مع الفارق - بساكن جديد حل بيتا هجره ساكنه القديم!

فشعب مصر العربي - سواء منه ما قدمها في الهجرات العربية المتعددة، وما صهرته البوتقة العربية فأصبح عربيا - لا تربطه بالقدماء المصريين رابطة حضارية ذات بال.

وهذا بخلاف الحال عند الإغريق والرومان، إذ أن الحضارة الغربية الحديثة ليست إلا امتدادا لحضارة الإغريق والرومان التي هي الأصل الأهم للحضارة الحديثة.

لهذا لم يكن عجيبا أن يحيا هوميروس وأن يحيا فرجيل عبر الزمنة. . لأن الشعوب التي ظل الأدب اليوناني والأدب الروماني حيين بينها هي وارثة حضارة اليونان والرومان. . فهذان الأدبان هما ثمرتان لحضارة تلقتها تلك الشعوب وعاشت فيها وبها - مع التطور والتقدم الذين لا بد منهما لأنهما على سنة الكون.

ولهذا السبب عينه لم يكن من العجيب أن يضيع الأدب المصري القديم لأن الأدب صورة منعكسة عن الحضارة، وما دامت حضارة الفراعنة لم تجد لها امتدادا عند الشعوب اللاحقة لها فلا عجب أن يضيع أدبهم ولا يبقى منه على الزمن شيء إلا في متاحف ودور الآثار.

هذا ما عن لي إبداؤه في هذا الموضوع وعسى أن يكون فيه بعض التفسير لما تسائل عنه حضرة الكاتب الفاضل.

جمال مرسي بدر

ص: 47

مع دولة الألقاب

لقد ضحك الناس كثيرا حين علموا أن أحد الباشوات السابقين قد نهر رجال الجيش الذين ذهبوا لاعتقاله في منزله بشارع الهرم قائلا لهم: إنني باشا ولا يمكن القبض علي، وأنا لا أعترف بقانون إلغاء الألقاب ولا بكلامكم الفارغ. . . ضحك الناس يومها كثيرا. ولو علموا أن مجلس القاهرة البلدي (الموقر) سيظل مصرا على عدم اعترافه بقانون إلغاء الألقاب لتأنوا في ضحكهم على الباشا السابق العنيد، والتمسوا له عذرا، ورحموا عناده بعض الرحمة.

لا بد أن مجلس القاهرة البلدي قد سمع بأن هناك حركة مباركة قام بها الجيش المصري الباسل، فطوحت بالطاغية فاروق، وقوضت عرشه الدكتاتوري؛ وأدالت دولته الباغية؛ وأنها قد محت آثاره البائدة وفي مقدمتها الألقاب البغيضة التي كان فاروق يستغلها أسوأ استغلال في سبيل أهوائه ورغباته ومطامعه - لا بد أن المجلس البلدي الموقر قد سمع بهذا كله. إذن فلماذا يصر على أن يظل معترفا بدولة الألقاب، في اللافتات التي كتبت عليها أسماء الشوارع والميادين، فنحن لا زلنا نقرأ: ميدان سلمان باشا، وميدان مصطفى كامل باشا، وميدان سعد زغلول باشا، كما لا زلنا نقرأ: شارع نوبار باشا، وشارع مريت باشا، وشارع محمد بك فريد، نقرأ هذا وذاك فنضحك ملء أفواهنا من هذا المجلس الذي يضع رأسه في الرمل مصرا على أن تظل دولة الألقاب في دنيا الأموات بعد أن تلاشت في دنيا الأحياء. .!

وإذا تركنا مجلس القاهرة البلدي حتى يخرج من رأسه الرمل، لا يمكن أن نهمل بعض ذوي الألقاب الذي عز عليه أن تتلاشى دولته، فراح يحتفظ بلافتة منزله القديمة ذات اللقب المنحل، ويحتفظ ببطاقاته القديمة أيضا، مستعملا إياها بحكمة وحذر حتى يمتد أجلها ويطال في حياتها، وكأنما حياته رهن بهذا اللقب الذي يعز عليه مفارقته. إن هذا البعض من ذوي الألقاب أشبه بمن رأى حلما لذيذا ثم استيقظ فجأة، فعز عليه أن يحرم هذه اللذة، فراح يتصنع النوم من جديد لعله يعود إلى حلمه، فهو جدير بأن نطلب له الرحمة. .

نفيسة الشيخ

ص: 48

لسنا وحدنا. . .

يعيب علينا الغربيون استعمالنا كلمة (معليهش) وأحب أن أقول إننا لسنا الأمة الوحيدة التي تستعمل هذه الكلمة. . فالفرنسيون مثلا يكثرون من عبارة مشابهة لها، هي:

كما أن الإنجليز يستعينون بعبارة أخرى لا يخرج معناها عن معنا كلمة (معليهش) هي:

ومن عجب أن الغربيين يسموننا بأننا قوم (معليشيون). . ونسوا - أو تناسوا - أن أحاديثهم لا تخلو من عبارات ولا يخرج معناها عن معنى (معليهش) التي اختصرت عن عبارة (ما عليه شئ)!. .

وكل ما نسجله على أنفسنا أننا نسرف في هذه الكلمة إسرافا يبلغ أحيانا حد الاستهتار. . ولست حين أدفع عن استعمالها أقرها. .

إنما أردت أن أرد عن قومي نقيصة هم منها براء!. . .

عيسى متولي

1 -

خادم وخادمة

الخادمة: كلمة صحيحة لغة واستعمالا من قديم الزمان، وقد انتشرت في هذه الأيام استعمال (خادم) بمعنى (الخادمة) وهذا الاستعمال وإن كان صحيحا إلا أن فيه تضليل وتشويشا بدون مبرر وإيهاما بأن (الخادمة) خطأ أو لغة ضعيفة وليس كذلك لأنها الصفة الطبيعية الخاصة بالإناث، واللغة موضوعة للتفاهم وليس من الحكمة أن نلجأ إلى استعمال الوصف المشترك (خادم) اعتمادا على فهم المراد من المقام وسياق الكلام، فيجب تخصيص (الخادم) بالخادم و (الخادمة) بالخادمة، والسلام على من اتبع الهدى.

2 -

بدلة وبذلة

جاء في شرح القاموس: وقول العامة البدلة بالفتح وإهمال الدال للثياب الجدد خطأ من وجوه ثلاثة، والصواب بكسر الباء وإعجام الذال (بذلة) وأنه اسم للثياب الخلق (البالية أو المستعملة) فتأمل ذلك اهـ.

وأنا لا أوافقه فإن (البذلة) بفتح الباء وتسكين الدال المهملة لغة عربية صحيحة فإنها في الأصلمصدر على وزن (فعلة) ثم استعملت اسما للمبدول ونظيرها البعثة بمعنى المبعوث

ص: 49

أو المبعوثة وإليك الأدلة:

جاء في (معيار اللغة) بدلت الثوب بغيره كنصر أخذته مكانه الخ. . وجاء في (المصباح المنير) وبدلت الثوب بغيره من باب قتل الخ. فنحن ننظر إلى (البدلة) من ناحية التبديل والتغيير سواء كانت جديدة أو مستعملة لا من ناحية الابتذال والامتهان.

وأما (البذلة) بالذال المعجمة فإنها موضوعة للثياب البالية التي تبتذل وتمتهن في الخدمة والعمل ويجب أن تظل هكذا للتفرقة بينهما. . أنا أوافقه على أن وضعها للثياب الجدد خطأ ولكن لا أوافقه على أنها بكسر الباء فقط فقد جاء في (معيار اللغة) البذلة كعصمة وفتح الباء لغة، وجاء في (المصباح المنير) البذلة مثال سدرة (بكسر السين) ما يمتهن من الثياب في الخدمة والفتح (فتح الباء) لغة قال أبن القوطية بذلت الثوب بذلة لم أصنه أهـ وجمعهما بدال وبذال مثل (عنب) ونظيرهما بدرة وبدر وسدرة وسدر.

علي حسن هلالي

(الرسالة) أقر مجمع فؤاد الأول كلمة (بدلة) من التبديل بمعنى حلة.

تصحيح أسم شاعر

طالعت في العدد1010 من الرسالة الغراء تلك الكلمة الرائعة للأستاذ أحمد الفخري عن ديوان (مع الفجر) للشاعر الحب والبطولة سليمان أحمد العيسى وليس (سليمان العبسي) كما جاء في كلمت الأستاذ الفخري.

حلب

محمد ضلا غزيل

لجنة التحكيم في مسابقة إذاعة باكستان

نظمت الإذاعة العربية براديو باكستان مسابقة شعرية بين مستمعيها في البلاد العربية يمنح الفائزون فيها مكافأة مالية. وقد تألفت لجنة للتحكيم من ثلاثة من كبار رجال الأدب والشعراء المصريين هم الأساتذة عباس محمود العقاد وعبد الرحمن صدقي والدكتور إبراهيم ناجي.

ص: 50

‌القصص

شجرة عيد الميلاد

للقصصي الروسي فيدور دستويفسكي

منذ أيام شاهت عرسا. . . ولكن لا، فلن أتكلم عن العرس بل عن شجرة عيد الميلاد. . . لقد كانت حفلات العرس جميلة وأحببتها حبا شديدا ولكن حادثة شجرة عيد الميلاد أجمل. . . ولا أعرف لماذا أتذكر شجرة عيد الميلاد كلما رأيت عرسا. . . ولكن هذا هو الذي حدث:

منذ خمسة أعوام كاملة دعاني إلى حفلة راقصة أقيمت للأطفال خصيصا رجل من أغنياء التجار له قرابته، وله معارفه، وله أيضاً دسائسه. وقد ظهر لي أن تلك الحفلة لم تكن إلا ذريعة لكي يجتمع الآباء والأمهات ويتحدثون فيما يهمهم بتلك النزاهة المعتادة.

وكنت دخيلا في هذه الحفلة لأنه لم يكن لي بأحد شأن خاص. لذلك كان في استطاعتي أن اقضي هذه الحفلة بينهم وأنا بمعزل عن كل واحد منهم. وكان بين الجلوس واحد يشابهني في ذلك، فكان لهذا السبب أول من استرعى انتباهي، ولم يكن مظهره دالا على أنه ابن أسرة كبير أو أنه نبيل المولد. وهو طويل القامة نحيل جدا، تبدو عليه علائم المبالغة في الجد والوقار. وهو شديد الأناقة في ملبسه، ويظهر أنه لم يكن يميل إلى هذه الاجتماعات العائلية.

ولم أكد أدنو منه في الركن الذي هو جالس به حتى تزايلت ابتسامة كانت مرتسمة على وجهه. وعلا وجهه العبوس. ولم يكن يعرف أحدا ممن بالحفلة غير صاحب المنزل، وقد أبدى كل علامة على السأم والملالة وإن كان قد بقي إلى نهاية الحفلة وبه من الشجاعة ما بأي إنسان يقاوم نفسه حتى يحملها على ما تكره. وقد علمت فيما بعد أنه من أهل الأقاليم، وأنه كان يحمل خطاب توصية إلى مضيفنا، فدعاه هذا من باب المجاملة إلى حضور الحفلة. ولكن أحدا لم يدعه إلى لعبة الورق ولم يقدم إليه لفافة تبغ ولم يبدأ معه حديثا. ولعلهم كانوا ذوي فراسة فعرفوا الطائر في مسبحه بالجو من لون ريشه. لذلك قضى الليل في فتل شاربيه. وكان شارباه جميلين، ولكنهما كانا كبيرين حتى ليخال من يراه أن الله خلقهما أولا ثم خلق هذا الرجل تابعا لكي يفتلهما.

ص: 52

وكان من المدعوين رجل آخر استرعى انتباهي، ولكنه من نوع غير هذا النوع، فإن مجرد النظر إليه يدل على أنه صاحب شخصية وكانوا يدعونه جوليان ماستا كوفتش.

وكانت النظرة الأولى إليه تدل على أنه موضع الحفاوة والتكريم، وأن مركز صاحب المنزل منه كمركز صاحب الشاربين الطويلين من صاحب المنزل. فقد كاد لا ينقطع سيل الفكاهات والطرائف التي يتحدث بها إليه صاحب المنزل وزوجه. وهما كثيرا الالتفات إليه، يدنوان منه ويحومان حوله ويستجمعان الضيوف لتقديمهم إليه. ولكنهما لا يقودانه ليقدماه إلى أي إنسان. وقد رأيت الدموع تترقرق في عيني صاحب المنزل وفي عيني زوجه لما قال جوليان ماستا كوفتش إنه قلما قضى ليلة سارة كهذه الليلة. وقد أخذت بعد انتهاء الحفلة أشعر بالسأم من هذا الضيف فانصرفت إلى الأطفال أتسلى في ملاحظاتهم، وكان خمسة منهم يستحقون النظر والملاحظة، فهم شهادة بعناية أمهاتهم بهم. ثم تركت الغرفة بعد ذلك إلى الغرفة المجاورة ولم يكن فيها أحد، فجلست في طرفها المجاور للمكان الزجاجي المعد لحفظ الأزهار في غير فصولها.

وكنت لا أزال من مكاني هذا أراقب الأطفال، والحق أن رؤيتهم تسحر.

لقد كانوا يأبون محاكاة من أهم أكبر منهم على الرغم من الجهود التي كانت تبذلها أمهاتكم ومربياتهم، ولم تمض ساعة حتى نجنح هؤلاء الأطفال في تجريد شجرة عيد الميلاد من أوراقها وأعوادها وفي كسر أكثر من نصف اللعب المعلقة فيها قبل أن يقتسموها بينهم.

وكان أحد هؤلاء الأطفال فتان الحسن أسود العينين مجعد الشعر، وقد أصر في عناد على تصويب بندقيته نحوي. وقد استرعى نظري كثيرا؛ ولكن أخته استرعت نظري أكثر مما استرعاه. وهي في عامها الحادي عشر، ولا يقل جمالها عن جمال كيوبيد، وتبدو علائم الهدوء والتفكير. وعلى عينيها الواسعتين وسم الأحلام، وقد أغضبها الأطفال لأمر ما فتركتهم وانسحبت إلى الغرفة التي كن جالسا فيها فجلست في ركن منها وفي يدها الدمية تلاعبها.

وكان كل من الضيوف يحدث جاره بأن أباها من أغنى التجار وبأنه منذ الآن قد أعد لها صداقا قدرها 300 ألف روبل.

ولما التفت إلى الجماعة الذين سمعتهم يتحدثون بهذا وقع نظري على جوليان ماستا كوفتش

ص: 53

فوجدته واقفا ينصت إليهم ويداه مشتبكتان خلف ظهره، ورأسه مائل إلى الجانبين، وكنت طول هذا الوقت أعجب من الذكاء الذي أبداه صاحب المنزل في توزيع الهبات على الأطفال، فالطفلة التي أعد لها أبوها مهرا كبيرا تهدي أحسن لعبة، وسائر اللعب تقسم وفق مراكز الآباء في الحياة الاجتماعية.

وكان أخر طفل دعي لتقدم إليه هدية يبلغ من العمر عشرة أعوام، وهو هزيل أحمر الشعر ضعيف البنية. وكانت هديته كتاب قصص ليس فيه صور ولا رسوم. وهو ابن المربية، وهي أرملة مسكينة. وشكل الطفل دال على الحزن، وعليه كساء رث، فتناول كتابه وانساب في بطئ بين الأطفال حاملي اللعب.

وقد كان يود أن يبذل أي شيء ليلعب معهم ولكن كيف وليست له لعبة؟

إنني من الذين يحبون أن يراقبوا الأطفال ليروا كيف تناضل أرواحهم روح الجماعة.

وقد لاحظت أن لعب الأطفال كانت سحرا وفتنة في نظر الطفل الأحمر الشعر. وشرع الأطفال يلعبون فأصر على أن يلاعبهم وعلى أن يناضل لو منعوه؛ فابتسم وسار نحو واحد منهم فأقامه من مكانه وجلس بدله لأن الأطفال كانوا قد جلسوا في دائرة ولم يتركوا له مكانا.

ولكن ذلك الطفل حمل عليه فلطمه لطمة قوية، فلم يلبث أحمر الشعر أن رفع صوته بالبكاء، وجاءت أمه فنهته عن اللعب معهم فأنسحب نحو الغرفة التي كنت جالسا بها مع الفتاة التي تقدم ذكرها. وتركته الفتاة يجلس بجانبها واشتركا في إلباس الدمية ثوبها.

ومضى نحو نصف ساعة، وكاد النعاس يدركني وأنا جالس أنصت حينا إلى حديث الطفل أحمر الشعر ويشرد ذهني حينا. وعلى حين فجأة دخل جوليان ماستا كوفتش وكان قد انسحب من غرفة الجلوس التي أنا فيها عندما اشتد ضجيج الأطفال. ولم يغب عني وأنا جالس أراقبه من الركن الذي أتى فيه أنه كان في الفترة الأخيرة من الوقت يتحادث مع والدة الطفلة الجالسة معي في الغرفة.

وظل واقفا بعد الحديث يفكر وكأنه يعد على أصابعه - ثلاثمائة - أحد عشر - إثنا عشر عاما - خمسة أعوام - سعر أربعة في المائة - خمسة أضعاف، ستون وأربعمائة.

ويظهر أن هذا الخبيث يعجبه الحساب على سعر أربعة في المائة، ثم أعاده على حساب

ص: 54

ثمانية، ثم على حساب عشرة.

وخرج من الغرفة فأطال النظر إلى الطفلة. وقد تخطاني نظره فلم يرني؛ ويظهر أن الحساب هو الذي أغفله عني، ثم مسح يديه وأخذ يتنقل من مكان إلى مكان وهو لا يزال يزداد اضطرابا.

وأخيرا تمكن من ضبط عواطفه وألقي نظره على عروس المستقبل وهم أن يتجه نحوها، ثم وقف بمثل حالة المخطئ الذي يؤنبه ضميره وانتصب على أطراف أنامله أمام الفتاة وانحنى يقبلها وهو يبتسم وقد كان إقباله نحوها على غير انتظار حتى أنها صرخت عند تقبيله إياها صرخة فزع.

قال لها بصوت خافت وهو يقرص خدها: (ما الذي تفعلين هنا يا بنية؟ فأجابته: (نحن نلعب) فقال بلهجة المستنكر: (مع من؟ مع هذا؟) وأشار إلى ابن المربية ثم قال له: (يجب أن تذهب إلى الغرفة الأخرى).

وظل الطفل صامتا وهو ينظر محملقا في وجه الرجل، فدار جوليان ماستا كوفتش بنظره في الغرفة ثم أكب على الفتاة وقال:(ماذا معك يا عزيزتي؟ دمية!) فأجابته: (نعم يا سيدي) وقد قطبت حاجبيها وهي تجيب. قال: (دمية؟ من أي شيء تصنع الدمى؟!).

فأحنت رأسها وقالت: (لا أعرف يا سيدي)

قال: (تصنع من الخرق) ثم نظر إلى الطفل وقال: (أذهب أنت إلى الغرفة الأخرى التي فيها الأطفال)

وكانت نظرته إلى الطفل في هذه المرة نظرة قاسية؛ فقطب الطفلان وتشبث كل منهما بالآخر وأبيا أن يفترقا، فقال جوليان وهو يخفض صوته:(وهل تعرفين لماذا أعطوك هذه الدمية؟) فقالت: لا.

قال: (لأنك كنت طيبة - طيبة جدا طول الأسبوع) قال ذلك ثم عراه اضطراب شديد ونظر حوله بصوت خافت يكاد لا يسمع وبلهجة شديدة الدلالة إلى فقدان الصبر: (إذا جئت إلى منزلكم لزيارة أبيك فهل تحيينني يا عزيزتي؟)

وحاول أن يقبلها على أثر هذا السؤال، ولكن الطفل الأحمر الشعر أمسك بيدها كمن يريد أن يحميها وبكى بأعلى صوته كالمستجير فأثارت حركته هذه غضب الرجل وصاح:

ص: 55

(اذهب! اذهب إلى الغرفة الأخرى حيث يلعب رفاقك) فقالت الطفلة: (لست أريد أن يذهب؛ فاذهب أنت ودعه هنا)

وكادت الطفلة تبكي. وسمع وقع أقدام من ناحية الباب فأنزعج جوليان، وكان الطفل الأحمر الشعر أشد منه انزعاجا فترك يد الطفلة وتسلل إلى غرفة المائدة. وكي لا يسترعي جوليان نظر أحد ممن بغرفة الجلوس تسلل هو أيضاً إلى غرفة المائدة، وكان وجهه قد صار من الاحمرار في مثل لون الحناء، حتى أن نظرة واحدة منه إلى وجهه في المرآة تكفي لإزعاجه. وكان سبب الاضطراب كله أن حسابه أضله فأوهمه أن الطفل عقبة في سبيل الثروة التي تنتظره. نعم إنه الآن لا يزال في العاشرة فهو قليل الخطر ولكنه سيصبح خطرا بعد خمسة أعوام أو نحو ذلك. وتتبعتهما بنظري فوجدت نظرات جوليان صارت كأنها نظرات ثعبان، وأصبح صوته مسمما. وأخذ يتوعد الطفل. وكان الطفل يتراجع أمام هذا الوعيد حتى لم يعد مكان يتسع لتراجعه، وكان جوليان يصيح به:

أخرج من هنا! ما الذي تصنعه هنا؟ تسرق الفاكهة! أليس كذلك؟ اذهب من هنا يا دميم إلى أمثالك!)

وأدرك اليأس هذا الطفل المسكين فأنكمش ودخل تحت المنضدة فحار مطارده ثم أخرج منديله وفتله فجعله كالسوط وضرب به الطفل ليخرجه من مكمنه.

ولا بد هنا من الملاحظة أن جوليان كان قوي البنية ضخم الخدين تبدو عليه علائم التغذية الجيدة. وكانت أطراف أصابعه كأنها لضخامتها حبات البندق وقد أحالته كراهيته (أو لعلها غبرته) نحو الطفل إلى الجنون المحض.

ضحكت من أعماق قلبي فالتفت جوليان ولعله ذكر في هذه اللحظة احترامه نفسه وكبر أهميته. وفي الوقت نفسه ظهر صاحب المنزل عند الباب وخرج الطفل من تحت المنضدة فأخذ يمسح ذراعيه وركبتيهوأسرع جوليان فجمع منديله الذي كان مفتولا كالسوط وجعله تحت أنفه

ونظر صاحب المنزل إلى ثلاثتنا نظرة المرتاب، ولكنه وهو رجل يعرف الكثير من شؤون الدنيا قد انتهز هذه الفرصة لينال من ضيفه الكثير الأهمية أكثر ما يستطيع أن يناله منه فقال:(هذا هو الطفل الذي حدثتك عنه وأنا أعتمد على فضلك فيما يتعلق به) وأشار إلى

ص: 56

الطفل الأحمر الشعر.

ولم يكن جوليان قد استرجع إلى الآن سيطرته على نفسه فقال وهو شارد الذهن: (أهذا هو؟)

قال صاحب المنزل: (هو ابن المربية، وهي فقيرة مسكينة وقد كان زوجها موظفا شريفا، فإن كان في وسعك. . .) فصاح جوليان مقاطعا: (مستحيل مستحيل! أرجو أن تعذرني يا فيليب ألكسيفنش فلا توجد محال خالية، وفي قوائم المرشحين نحو عشرة أحق منه. . . إنني آسف)

فقال صاحب المنزل: (مسكين! مسكين!)

قال جوليان (إنه شقي شرير. اخرج من هنا أيها الوغد الصغير. لماذا بقيت حتى الآن؟ اخرج إلى سائر الأطفال)

ونظر إلي نظرة جانبية وهو عاجز عن السيطرة على نفسه وأنا أيضاً عاجز عن السيطرة على نفسي، فضحكت في وجهه ساخرا منه، فالتفت إلي المضيف وسأله بصوت يكفي لبلوغ مسمعي عمن عسى أن أكون. وتهامس الرجلان وخرجا من الغرفة غير مباليين بي.

واهتز جسمي من شدة الضحك وخرجت أيضاً إلى الغرفة الأخرى. وهناك رأيت الرجل العظيم محاطا بالآباء والأمهات وهو يتكلم باهتمام مع سيدة قدمت إليه في تلك اللحظة. وكانت تلك السيدة ممسكة بيد الطفلة، وكلام جوليان كله إطراء للطفلة وثناء عليها، فهو يتنقل من مدح جمالها إلى مدح مواهبها إلى مدح تربيتها والأم تصغي إليه ولا تكاد تمنع دموع السرور أن تفيض، والأب يبدي علامة لشكره ابتسامة عذبة.

وكان السرور شاملا فاشترك فيه كل إنسان حتى الأطفال، ووقفوا اللعب حتى لا يشوشوا على المتحدثين. وسمعت أم الطفلة وهي تتخير المنتقى من اللفظ في مخاطبة ذلك الرجل داعية إياه أن يتنازل فيشرف منزلها بالزيارة، وسمعته يقبل الدعوة في تحمس لا يحاول أن يخفيه ثم تجمع المدعوون من أرجاء الغرفة مقلبين نظرهم بين والدة الفتاة وبين جوليان.

وسألت جارى بصوت عال سمعه الجميع: (هل هو متزوج).

فنظر إلي جوليان نظرة مسمومة وقال لي جارى: (كلا) ولكن سؤالي وإن أجاب عنه سلبا قد أثار اهتمام الجميع.

ص: 57

ومنذ عهد غير بعيد مررت بكنيسة فرأيت عند بابها جمعا كبيرا قد احتشد ليحضر حفلة عرس - وكان اليوم مكفهرا وقد بدأ المطر يتساقط. واخترقت الصفوف فدخلت فرأيت العريس بدينا مترهلا تبدو عليه علائم التغذية الدسمة. ورأيت رجلا قصيرا يروح ويغدو من طرف الكنيسة إلى الطرف الآخر وهو لا يكف عن إصدار الأوامر.

وأخيرا سمعت أن العروس مقبلة فاندفعت في وسط الزحام، ورأيت جمالا عجيبا قد اكتسى بعلائم الحزن العميق.

كانت العروس شاحبة مضطربة حتى لقد خلت عينيها حمراوان من أثر البكاء. وتحت مظهري الجمال والحزن طهارة الطفولة التي كانت كأنها تضرع وتتوسل طالبة الرحمة.

وكانوا يقولون أن عمرها ستة عشر عاما. ونظرت إلى العريس محققا مدققا فعرفت أنه جوليان ماستا كوفتش الذي لم أكن قد رأيته في الأعوام الخمسة الماضية. ثم نظرت إلى العروس ورحماك يا رب ولطفك!

رأيتها فوليت فرارا من باب الكنيسة على عجل وسمعت الناس يتحدثون عن غنى العروس وعن بائنتها البالغة 500 ألف روبل.

قلت في نفسي: (لقد صدق حساب هذا اللعين). وأسرعت في مشيتي فرارا.

ع. ا

ص: 58