المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1017 - بتاريخ: 29 - 12 - 1952 - مجلة الرسالة - جـ ١٠١٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1017

- بتاريخ: 29 - 12 - 1952

ص: -1

‌ذكرى الأبطال

للأستاذ أنور المعداوي

(فإن مت فأعلن إلى كل مصري أني شاب متزوج ولي ثلاثة أطفال ولي أمي وأخواتي. . . ومع هذا فقد ضحيت بنفسي ليعيشوا أحرارا في بلدهم؛ فالحرية لا تمنح ولكنها تؤخذ بأعز التضحيات وإلى اللقاء إن مت أو عدت!)

هذه كلمات تلقتها مصر يوما عن بطلها الشهيد، وكنت واحدا من الذين عاشوا في ظلالها السخية، وشعروا شعورا عميقا بأنها لم تكن خاتمة رسالة وإنما كانت بداية تاريخ. . أقسم لقد بدأت مصر تاريخها الحقيقي في تلك اللحظة التي سجل فيها أحمد عصمت كلماته الخالدة، وخر بعدها صريعا ليكتبها مرة أخرى بدمه!

إن طلاب الحرية لا يغمسون ريشتهم إلى في دماء القلب، لأنهم لا يكتبون عادة إلا بالمداد الأحمر. . ولقد آثر أحمد عصمت أن يكتب بهذا المداد! آثر أن يكتب به لأنه لم يكن يسطر رسالة لأخيه وإنما كان يسطر رسالة لأمته. . وهكذا نكتب وثائق التحرير ونسطر رسائل الكفاح!

كلمات قليلة ولكنها كثيرة، كثيرة جدا في حساب الشعور. . وكلمات بسيطة ولكنها عميقة؛ عميقة جدا في حساب الفن! إن البلغاء من أمثال أحمد عصمت لا يميلون أبدا إلى الثرثرة. . سطر واحد أو سطران أو ثلاثة، تؤلف في مجموعها كتابا ضخما يهدى إلى جيل من بعده أجيال؛ أجيال ستقف حتما عند كل صفحة من صفحاته لتستنشق عطر الكرمة وتستروح أنسام الإباء!

لم يكن أحمد عصمت بحكم عمله أديبا ولا فنانا، ولكنه كان ضابطا (طيارا) بشركة مصر للطيران. . ومع ذلك فقد أحال الحياة إلى فن، وأحال الموت إلى فن، وقدم لعشاق الفنون أروع الأمثال! لقد كان (محلقا) في حياته، وكان (محلقا) في مماته، وكان (محلقا) في كلماته. . والفن في كل صورة من صوره ما هو إلا (تحليق) في شتى الآفاق والأجواء.

لقد خرج البطل من بيته ذات صباح؛ خرج ونصب عينيه هدف، وملء قلبه أمل، وفي قرارة نفسه عزم وإصرار. . لم ينس إن هناك أما هو بالنسبة إليها الملاذ الوحيد بعد الله، وأن هناك زوجة ألقت بآمال العمر كلها بين يديه، وأن هناك أطفالا لا يعرفون عن الحياة

ص: 1

إلا أنها هنا بين أحضانه، هناك هؤلاء حقا ولكنهم يعيشون غير أحرار. . أنه يريد أن يقدم للأم ما هو أبقى من الابن، وإلى الزوجة ما هو أغلى من الزوج، وإلى الأبناء ما هو أخلد من الآباء. أنه يريد أن يقدم إليهم الحرية، وهذا هو المعنى الكبير الذي دارت حوله السطور الأخيرة في رسالته؛ تلك الرسالة التي سجلت نقطة البدء في تاريخ أمة!

إن التاريخ سيروي يوما هذه القصة؛ سيقول للناس إن أحمد عصمت كان عائدا بسيارته بعد أن أدى رسالته؛ بعد أن ذهب إلى المجاهدين على ضفاف القتال ليدفع إلى أيديهم بسلاح وذخيرة، وعند نقطة التفتيش في قرية (أبو حماد) اعترض طريقه عدد من الجنود الإنجليز ليفتشوه! وتلفت البطل ليرى من حوله جمعا من المصريين قد رفعوا الأيدي فوق الرءوس، في موقف يوحي بالضيم ويشعر بالهوان. . وثارت عزة البطل واحتج إباؤه، وقدم إلى الضابط الإنجليزي وجنوده ما يكشف لهم عن حقيقة شخصيته، شخصية الضابط المصري الذي يستنكر التهجم على كرامة المصريين! وانطلقت من فم الإنجليزي السفيه بضع عبارات وقحة، خلاصتها أن المصريين أناس لا كرامة لهم: وفي ومضة البرق كان مسدس أحمد عصمت يلقى على صدر الضابط الإنجليزي أبلغ الدروس ويسكت منه اللسان القذر، ويخمد الصوت الأثيم! وانهال الرصاص الغادر من كل صوب على البطل المصري الباسل، ولكنه قبل أن يودع الحياة؛ كان قد أكد لخصومه أن كرامة مصر فوق الحياة!!

أحمد عصمت ومن قبله هؤلاء الأبطال: عادل غانم، وعباس الأعسر، وأحمد المنيسي، وعمر شاهين؛ طلاب الجامعة الذين عاشوا أطياف نجد وأرواح فداء. . لقد كان مقامهم في الدنيا أشبه بمقام الورد: عمرهم من عمره، ونظارتهم من نظارته، وإن كان عطر ذكراهم أبقى على الزمن من عطر شذاه! لقد ضحوا راضين بأيام الشباب؛ بما فيها من أمل، بما فيها من مثل، بما فيها من أهل وأحباب. . أعذروهم فقد كانوا عشاق حرية في هواها كم عرفوا معنى الوجد، وكم ذاقوا طعم السهد، وكم جادوا بالدمع فلما أعرضت. . جادوا بالحياة!!

لقد كانوا في الجامعة طلابا ولكنهم كانوا على ضفاف القنال أساتذة. . أساتذة كفاح لم يفتحوا الكتب قبل أن يلقوا دروسهم على الناس، وإنما فتحوا القلوب وحدها ليحيلوا الخفقات فيها إلى محاضرات وما كان أروع فهمهم للكرامة، وما كان أعمق إدراكهم للحرية. . لقد قالوا

ص: 2

لمصر كلمتهم وهم يسيرون إلى الأمام محددين لها معالم الطريق: أنه مرهق ما لم يستعن عليه بالصبر، أنه طويل ما لم تختصر إليه رحلة العمر، أنه مظلم ما لم تضيء جوانبه شعلة الإيمان! قالوها ومضوا في طريقهم إلى لقاء الله. . وقبل أن يلحق بهم أحمد عصمت كان قد أضاف إلى الدروس دروسا، وإلى الكلمات كلمات:(فإن مت فأعلن إلى كل مصري أني شاب متزوج ولي ثلاث أطفال ولي أمي وأخواتي، ومع هذا فقد ضحيت بنفسي ليعيشوا هم أحرارا في بلدهم، فالحرية لا تمنح ولكنها تؤخذ بأعز التضحيات). . إن أحمد عصمت يوجه الخطاب هنا إلى كل من له أم يشفق عليها من الثكل، وكل من له ابن يخشى عليه من اليتم، وكل من له شريكة حياة يجزع من أن يتركها وحيدة في الحياة؛ وهذا هو دستور الكرام وإن شئت فقل أنها شريعة الأحرار!!

هناك، على ضفاف القنال، في تلك البقعة المجاهدة، سالت على رمال الصحراء دماء الأبطال. . ماتوا، ولكنهم أثبتوا للدنيا أننا أحياء! توقفوا، ولكنهم أقنعوا العالم بأننا نسير! سكتوا، ولكنهم أسمعوا الزمن صوت الأباة!

إن التاريخ يجب أن ينحني لهم في خشوع؛ يجب أن يفرد لهم من صفحاته أبرز مكان؛ يجب أن يقدمهم إلى عصوره المقبلة على أنهم كانوا صورة ضمها أجمل إطار!!

أنور المعداوي

ص: 3

‌الإسلام في موكب الإصلاح:

هذه المخازي. . .!

للأستاذ محمد عبد الله السمان

قال محدثي: (إنكم يا معشر الكتاب الإسلاميين تتصايحون في واد، وتنفخون في رماد، وتجهدون أنفسكم، وترهقون أقلامكم في غير فائدة، فأنتم تريدون الإصلاح بأداة ينقصها الإصلاح، وترغبون في السبق براحلة عرجاء. . . تصرون على أن يتزعم الإسلام كل نهضة، ويتقدم كل وثبة، والإسلام لم يزل خليطا من الشوائب التي تسيء إليه، ومزيجا من الفضائح التي تحط من قدره. .!

(ما هذه الطرق الصوفية البلهاء التي لا زالت تغزو مصر: كفورها وقراها ومدنها، حتى العاصمتين لا تتنازل عنهما: وتأبى أن ترحمهما. إنها دولة داخل الدولة، عدتها الجهل المطبق، وسلاحها الغباء الفاضح، ووسيلتها الدجل والشعوذة، ورعاياها السذج المغفلون، وولاة أمورها المرتزقة المتلاعبون. أليس من العار أن تقوم هذه الدولة المزعومة باسم الإسلام لتنشر بين المسلمين الجهل، وتحوطه بسياج من الدجل، وتذود عنه بقوة من الحمق؟ أليس من العار أن تسيطر هذه الدولة المزعومة في مصر على الألوف المؤلفة من المسلمين الجهلة، لتهب لهم إسلاما ممسوخا، ودينا زائفا، ولتجعل منهم آلات لا نفهم الإسلام إلا ركعات وسجدات يؤدونها، وشهرا يصومونه، وأورادا يداومون على تلاوتها، ولا يفهمون الدين إلا انقيادا أعمى للسادة المربين، والأخيار العارفين، ممن نصبتهم هذه الدولة المزعومة هداة مربين وهم أضل من الضلال، وأجهل من الجهل، وأضفت عليهم ألوانا من الألقاب ليكونوا في نظر قطعان الماشية ذاتا مصونة يجب أن تقدس، وملتمس بركة يجب أن يتقده إليه!؟

أليس من العار أن تضم هذه الدولة المزعومة بين جناحيها جيشا جرارا من البطالة باسم الإسلام، لا يحترف إلا اصطناع اللحية، وإتقان العمامة، وتحريك السبحة، ولا يمتهن إلا التسول في الموالد، والتسكع حول الأضرحة، والمزاحمة على حثالة النذور، وفتات الصدقات. ولا يرجو من الحياة إلا مسجدا يضمه سحابة النهار، وإفريزا يؤويه جنح الليل، وجلبابا مرقعا يتوارى فيه، ويستعين به على مفاجآت الجو وتقلباته؟

ص: 4

أليس من العار أن تظل هذه الدولة المزعومة تشغل حيزا كبيرا من الفراغ، وتسيطر على قدر وافر من الرأي العام لتشله وتعطله، وتحوله عن مهام الأمور التي تتعلق بكرامة وطنه وبلاده، وتزرع في نفوسه عقيدة التخاذل والاستسلام والتواكل، فتفهمه أن استعمار الوطن الإسلامي قضاء محتوم من الله، والاعتراض عليه كفر، والتبرم به إلحاد، والنفور منه زندقة؛ وتقنعه بأن جور الحكومات إرادة مقدسة من الله، ومناهضته لؤم، ومكافحته تمرد، وناوشته تنطع وحمق؟

. . ثم ما هذه الأضرحة التي أضحت كعبة يحج إليها الجهلة من أطراف القطر، يطوفون حولها، ويتمسحون بنحاسها وقماشها، ويتوسلون بها في شفاء مرضاهم، وقضاء حوائجهم، ودفع الضرر عنهم، وسوق الرزق إليهم، وتنزح إليها من كل فج جحافل النساء من البله، لتتزوج العانس، وتزف البكر، وتلد العقيم، وتحل عقدة البائس، وتفرج كربة المنكوبة، وترد لوعة المهوفة؟

لقد أصبحت هذه الأضرحة مسرحا للجهل بأجلى معانيه، ومصنعا للخرافات التي لا مثيل لها إلا في عالم الأساطير، ومعهدا لتكييف أساليب الدجل حتى يخدع العقول، وتكييف أساليب الشعوذة حتى تضلل العقائد؛ فهذا الضريح ساكنه من الأربعة المتصرفين في مصاير الناس، المسيطرين على ركب الحياة؛ وذاك الضريح ساكنته هي صاحبة الشورى، إليها ترجع الأمور كلها، ومنها تصدر الأوامر جميعها؛ وضريح العارف بالله هذا متخصص في شفاء الأمراض المستعصية، والأدواء المزمنة، وترابه دواء للأعين الرمد، وعلاج للأجساد البرص؛ وضريح ولي الله ذاك، متخصص في جلب الأرزاق ودفع الأضرار، وتحصين الأطفال من الأوجاع والأسقام، والأرق والسهاد. .!

ثم ما هذه الموالد الصاخبة التي يتبع بعضها بعضا، ويعلن عنها في الجرائد ويدعى لها في الأسواق، وتتفضل وزارة الشؤون بالتصريح لها، وتتكرم وزارة الداخلية بالمحافظة على الأمن والنظام خلال أيامها، ويحرص قسم الوعظ والإرشاد على استغلالها، ليعظ أقواما حصنوا بالجهل ويرشد جهالا حقنوا بمصل الخرافات، ويصحح عقائد حمقى، اللجوء إلى الأضرحة أقدس عندهم من التوجه إلى الله، والتسكع حولها أخف لديهم من السعي في الأرض؟

ص: 5

ما هذه الموالد الصاخبة التي يظل الواحد منها بضعة عشر يوما من مشرق الشمس إلى مطلع الفجر، لا تسمع غير دق الطبول، ونهيق المزامير، وصياح الدراويش، وغوغاء المهرجين، ولا ترى غير أكداس مكدسة من الأفاكين المحتالين، وحلقات للحواة المشعوذين، وعصابات من أرباب الجراثيم المختبئين داخل جلابيب من الرقاع المزركشة، والمتوارين وراء العمائم الضخام، واللحى المتدلية، والسبح المشقشقة، والأعين المكتحلة، والحواجب المزججة، والعبارات المسجوعة التي ينخدع بها سمع الجاهل، وتنجذب إليها أذن الأبله، والألفاظ الغامضة التي تثير تطفل الفارغين، وتبلبل أفكار الأغبياء الساذجين، ولا تسمع غير صخب يقلق الأسماع، ويعكر الهدوء، وصيحات الذاكرين الذين يحترفون ذكر الله بهز الأبدان، ورقصات الأكتاف، وانتفاضات الرؤوس، لا يشغلهم عنه الصلوات المكتوبة، ولا الأقوات المطلوبة، ولا تكاليف الحياة التي لا يهرب منها سوى الضائع المهمل، والكسول المتواكل. .؟

لم هذه المخازي كلها اليوم؟ فإذا كانت من قبل ضرورة يقتضي بقاءها رغبة الاستعمار حتى يضمن غفلة الشعب، ورغبة الملك الطريد حتى يظل في أمن من يقظته، ورغبة الحكومات الجائرة حتى ترغمه على الذلة، وتفرض عليه الضعة والمسكنة، فأي معنى لبقاء هذه المخازي إلى اليوم لتكون وصمات عار في جبين الإسلام، وصفحات خزي في تاريخ الشعب المسلم، ونحن في عهد جديد يتعقب الاستعمار حتى يرحل إلى غير رجعة، ويضيق عليه حتى يتقلص ظله فيؤثر الانتحار على الحياة والجلاء على الاحتلال، وفي ظلال وثبة مباركة تتطلب في الشعب يقظة تسندها، وتؤيدها من الرأي العام صحوة تؤازرها وتباركها، ومن أين للشعب هذه اليقظة، وللرأي العام هذه الصحوة، وأحد جوانب الشعب معطل لا خير فيه، وأحد أركان الرأي العام خائر لا فائدة منه؟ من أين لهما هذه الكلمة وتلك، وهذه المخازي مازالت صامدة صمود الجبال أمام عواصف العهد الجديد، وموجات الوثبة المباركة؟ ومن أين للإسلام أن يقود النهضات، وأن يسيطر على مواكب الإصلاح، إذا كانت هذه المخازي لا زالت دولتها تقوم داخل الدولة باسم الإسلام، على رغم من استغاثته منها، والتبرؤ من فضائحها، وعلى رغم من صيحات المصلين من علماء الدين المعقولين، والمثقفين من الأغيار المسلمين. . .!

ص: 6

فهلا كان الأجدر بكم أن تخلصوا الإسلام مما علق به من شوائب وتنظفوه مما ألصق به من أضاليل، حتى إذا تقدمتهم للإصلاح كانت أداتكم نظيفة سليمة، وإذا رغبتم في السبق كانت راحلتكم قوية صحيحة؟ - أما إذا أصررتم على أن تتقدموا للإصلاح بأداة ينقصها الإصلاح، وللسبق براحلة عرجاء، فثقوا بأنكم ستظلون إلى الأبد تتصايحون في واد، وتنفخون في رماد. . .!!)

لقد ظللت خلال الحديث منكس الرأس غاض الطرف، وعبارات محدثي تصل إلى قلبي شعاعات من الغيرة الممتزجة بالحسرة والألم، ولم أشأ أن أقاطعه أو أجادله، فلئن كنت أملك اللسان الذي أقاطع به حديثه، فلم أكن أملك الحجة التي أجادل بها نقده، وأعارض بها رأيه، ولذلك أثرت الصمت والهدوء والإصغاء، واكتفيت في النهاية بأن رفعت طرفي إلى محدثي. . . أن نعم!

محمد عبد الله السمان

ص: 7

‌الإسلام ونظام الحكم عندنا

للأستاذ منصور جاب الله

إن صح الحديث النبوي (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا) ولم يكن من وضع غلاة الشيعة، فإن معناه أن الإسلام في أصوله الأولى لا يعترض بالنظام الملكي الوراثي.

ولم تكن الخلافة الراشدة في أزهى عصورها نظاما جمهوريا، ذلك لأن النظام الجمهوري من بدء نشأته محدود بميقات معلوم، وما كانت الخلافة الإسلامية كذلك، وإنما كانت نظاما قائما على البيعة الشاملة في سائر الأمصار. وقيل إن الخليفة لم يكن يملك النزول عن البيعة، حتى أن عثمان بن عفان أبى أن يدع أمر المسلمين يوم أحدق الثوار بداره ومنعوه الماء، لأنه عد بيعة الأمة تكليفا من الله تعالى.

فالخلافة إذن لم تكن ملكا وراثيا ولا كانت نظاما جمهوريا، وإنما نذكرها اليوم لأننا نحب أن نستنير بهديها ونجري على سننها، ولا يقذفن في الأذهان أننا نرمي إلى إعادة الخلافة بمعناها لشامل الواسع، فما إلى ذلك من سبيل.

وإنما نريد أن نتحدث في صحيفة الأدب الرفيع، وفي وجازة خاطفة عن نظام الحكم الصالح، فنحن الآن في غضون ثورة مباركة ونهضة تستهدف خير الشعب ومصلحة المجموع. والجمهور من المصريين على اطراح نظام الحكم الملكي بعد ما تبين فساده وسوء استغلال العاملين فيه لموارد الشعب واستنزاف دمائه لقضاء النزوات والبوائق واللبانات.

هذه إذا غضضنا الطرف عن كراهية الشعب للأسرة المالكة القائمة، إذ أصلها غير مصري، ومؤسسها الأول جاهل أمي، والكثرة الكثيرة من أعضائها وأفرادها لا يشرفون الوطن الذي ينتسبون إليه، بل إن مباذلهم ومتارفهم لهى معاول الهدم التي كادت تأتي على بنيان الكرامة الوطنية والعزة القومية فتجعله حصيدا كأن لم يغن بالأمس.

فالشعب المصري الذي فقد الثقة بالنظام الملكي على الإطلاق والذي فقد الاحترام للأسرة الحاكمة في مصر، لا يمكن أن يفرض عليه نظام ملكي وراثي إلا إذا سلك سبيل الإرغام. ونحن في عصر ثورة بل في زمن نهضة وليس للإرغام علينا من سبيل.

ص: 8

والكرام الكاتبون الذين يقترحون النظام الجمهوري على إطلاقه، إنما يتجاهلون عوامل كثيرة ما كان يصح إغفالها بالنسبة لمحيطنا الاجتماعي والسياسي؛ فمصر التي يعزها أبناؤها ويتمنون نجاحها وفلاحها، حرام عليهم أن يعرضوها لمحنة انتخابات رياسة الجمهورية كل أربع سنين أو سبع على هذا النحو المتبع أو المبتدع في البلدان ذات النظام الجمهوري العريق. ذلك لأننا ما برحنا نشفق من آثار الانتخابات النيابية التي كانت تنعقد بين الحين والحين، والتي كانت تفعل الأفاعيل في تمزيق الأواصر وقطع الروابط وتعطيل الأعمال وبذل الأموال.

صحيح أن قوانين الانتخاب التي سوف يتمخض عنها عهد الثورة لا بد أن تجنبنا كثيرا من الخطأ الذي وقع فيما مضى، فلا يكون ثمة غش ولا رشوة ولا تزييف، بيد أن العوامل النفسية لا يتسنى القضاء عليها بسن التشريع أو فرض القانون، فالنفس البشرية. لا تتغير، والمنافسات هي المنافسات، والمعارك هي المعارك. وكم من أسر كبيرة قطعت العداوة أرحامها وأضاعت الخصومة ثرواتها، وهيهات أن يقضي القانون على ما ركب في الطبائع الإنسانية من ألوان الانفعالات!

إذن ماذا يكون نظام الحكم عندنا بعد هذا الانقلاب المبارك؟

إن الذي يتبادر إلى الذهان أن النظام الجمهوري المألوف في أوربا هو أقرب النظم إلى الوضع الذي اصطلحوا على تسميته بالنظام الديمقراطي الصحيح، ولكن النظام الجمهوري بالنسبة لبلد مثل مصر يعد طفرة قد لا تكون محمودة العقبى، ذلك لأن بلادنا حكمت منذ عهد محمد علي حكما دكتاتوريا طاغيا امتاز في بعض الأحيان بمظهر دستوري خلاب، وربما يكون من الأوفق أن نتخذ وضعا بين الملكية والجمهورية، ولنطلق على هذا الوضع نظام (رياسة الدولة) على أن يكون اختيار رئيس الدولة بالانتخاب المباشر، أو بالبيعة على حد التعبير الإسلامي القديم، وتكون رياسة الدولة مدة الحياة أو إلى أن يسيء (الرئيس) استخدام سلطته، وعندئذ يعزله البرلمان أو يقيله الشعب، وفي كل حال لا يكون له سلطان الحكم المباشر، وإنما يتولى ولا يحكم ليكون مظهرا من مظاهر هيبة الدولة ومجادتها، شأنه في ذلك شأن الملك في إنجلترا أو رئيس الجمهورية في فرنسا.

ومعنى هذا أننا لا نريد نظام رياسة الدولة على النحو المتبع في إسبانيا أو في روسيا أو

ص: 9

في يوغسلافيا، فنحن لا نبغيها دكتاتورية فاشية أو دكتاتورية شيوعية، بل نريد نظاما مستقرا ثابتا يجنبنا الهزات الانتخابية المترادفة ويحفظ كيان الدولة وهيبتها.

وبعد فهذا رأي شخصي بحت أطالع به قراء (الرسالة) وعلى الكاتب وحده تقع تبعته. وإنا لنجد له مشابه في صدر الدولة الإسلامية، كما نجد له نظائر في بعض الدول الأوربية الحديثة. وإنا لنعلم أن المسئولين ما برحوا يبحثون نظام الحكم المصري في المستقبل القريب والبعيد، ولا ريب في أنهم سوف يجعلون الآراء المتضاربة جميعا في موضع الاهتمام والنظر.

والله ولي التوفيق

منصور جاب الله

ص: 10

‌من سير الخالدين

حياة المازني

للأستاذ محمد محمود حمدان

(قد شببت عن الطوق جدا. ولكني مازلت أمت إلى طفولتي

بسبب قوي، وما انفكت أخراي معقودة بأولاها)

(المازني)

- 5 -

الكهولة الطفلة

كانت سنوات الشباب في حياة المازني فترة تجربة نفسية امتحن بها. ولقد طالت به هذه التجربة وخلفت نتائجها في كيانه وسريرته، وكان لها أثرها البعيد فيما عدل إليه من أسلوب الحياة ونهج التفكير.

بدأت هذه التجربة النفسية مع مطلع الحرب الكبرى، حين أصيب المازني بعرج في إحدى ساقيه؛ (وما كنت سكران ولا وقعت من سطح ولا زلت بي قدم، ولا شيء غير هذا مما يكسر العظام. ولكنما كانت زوجتي مريضة فأجريت لها عملية جراحية. وفي صباح اليوم التالي وقفت إلى سريرها وفي يمناي الدواء ممزوجا في كوب من الزجاج، وحاولت أن أرفعها بيسراي، وكان السرير عاليا وأنا قصير القامة فشببت فسمعت شيئا يطق فظننت الكوب قد انكسر، وتلفت أنظر فإذا هو في كفي سليم، فحاولت أن أدور على قدمي لأرى فإذا بساقي اليمنى تخذلني ولا تحملني فعلمت أن الصوت منها، ثم تبينت بعد ذلك أن حق الحرقفة هو الذي انكسر، وعولجت ثلاثة شهور، ولكن العلاج كان فيه بعض الخطأ فانحرفت عظمة الساق عن استقامتها فقصرت عن أختها فكان هذا العرج)

عند ذاك تغيرت الدنيا في عينيه، وأدركته الشيخوخة في عنفوان شبابه، وغمرته - كما يقول - مرارة كان يخيل إليه أنه يحسها على لسانه، وتملكنه السوداء والتشاؤم، وأصيب من جراء ذلك بالنيراستينيا. ولقد كانت هذه الحادثة أقسى ما يمكن أن يمتحن به معدن شاب

ص: 11

مستوفز نزعات الإحساس، متعدد آفاق النفس؛ يستقبل الحياة بذخيرة من أحلام المجد والسعادة فتستقبله بطعنة نجلاء من طعنات المحنة والبلاء. فلا جرم ينطوي المازني على نفسه يعاقر الألم ويستمرئ الحرمان، صادفا عن الدنيا والناس ومناعم الحياة. ولقد ظل سنوات يجاهد العقدة النفسية التي طرأت عليه من هذا العرج ويعالجها بالتهوين والتخفيف، ولكن الحادثة كانت لا تفتأ تعاوده بذكراها الأليمة أو ذكراها المتجددة وهي بضعة منه لا تفارقه، فلا يفيد معها التهوين والتخفيف.

ثم كان مدى تلك التجربة، أو تلك المحنة، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، حين عن له أن يترك التعليم ويلقي بنفسه إلى معترك الصحافة.

أغلق المدرسة التي كان يديرها، قبل أن تتصل أسبابه بالعمل الدائم في الصحف، وجاءت حوادث الثورة الوطنية وما قام في أعقابها من الاضطراب وعدم الاستقرار فتركته فترة بغير عمل. وكانت النيراستينيا كأحد ما تكون. وأحس أنه خليق أن يفقد أعصابه وتلح عليه وطأة المرض إذ لم يركن إلى الراحة والاستجمام ومجانبة التفكير، فسافر إلى الإسكندرية، وفي مأموله أن يوفق بعد ذلك إلى عمل هناك.

ويقول المازني (لم أكد أستقر في الإسكندرية حتى شعرت بحمى عصبية، ثم اتفق أن وجدت مع صديق لي رواية روسية مترجمة إلى الإنجليزية فسألته عنها فأثنى عليها، ولم أكن قد سمعت قبل ذلك باسم المؤلف فاشتقت أن أقرأها واستعرتها منه. وكانت وصية الأطباء لي ألا أكد خاطري أو أتعب رأسي بالقراءة أو الكتابة.

(قرأت هذه الرواية فلم أكد أفرغ منها حتى رأيتني قد انقلبت مخلوقا آخر: أعدتني روح بطلها بقوتها وبجرأتها على الحياة، وبالبساطة في مواجهة ما يقع له فيها، وباستقامة النظرة وسداد الاتجاه، فشفيت واستغنيت عن الأطباء والعقاقير، وما لبث أن كررت إلى ميدان العمل وبي من النشاط والثقة ما يكفي فيلقى بأسره).

تلك هي قصة سانين لمؤلفها الروسي ميخائيل أرتزيباشيف. وقد نقلها المازني إلى العربية ونشرها باسم (ابن الطبيعة)(1922) أداء لما لها من دين عليه.

ومن قراءات المازني في الأدب الروسي في ذلك الحين إلى جانب سانين، قصة إيفان تورجنيف المشهورة (الآباء وهي من أندر القصص في بابها وأصدقها تصوير للطبيعة

ص: 12

الروسية في بعض جوانبها، وقد أصبح اسم بطلها بازاروف علما على المذهب الفكري والسياسي الذي ابتدعه تورجنيف ودعاه باسم النهلزم بمعنى الفوضوية أو العدمية.

ويذكر الأستاذ العقاد ما كان لقصة سانين من الإيحاء والتأثير في نفس المازني فيقول (لست أنسى هزة وجدانه بأفاعيل سانين مع إنكاره لتلك الحيوانية اللجوج التي مثله بها مؤلف القصة. . وأنه كان يردد بعض (لوازم) سانين في كلامه بعد قراءتها. ويقول العقاد (إن القصة الروسية من أقوى المؤثرات في نزعته التي جنح إليها بقوته كلها فيما نسميه بفلسفة الحياة).

والحق أن المازني كان أقرب ما يكون إلى خصائص أبطال القصة الروسية، من طراز سانين وبازاروف، الذين يواجهون الحياة بالاستخفاف وقلة المبالاة، ويعيشون بالقدرية ويعولون على مفاجآت الغيب وحساب المجهول، ويجمعون بين نقائض الطبائع الإنسانية، فلا يزالون أبدا مترددين بين الروحانية والجسدية، وبين الزهادة والطموح، وبين الكلبية المتهانفة والغرارة الساذجة. وقد عصمت المازني بيئته المحافظة ونشأته الدينية من أن يتأثر بالناحية الدنيا في تلك الخصائص الروسية، ووسعه أن يأخذ عنها أشبه تلك الخصائص به وأقربها إلى طبعه ومنحاه، وهي نزعة الاستخفاف وقلة المبالاة. فكانت هذه النزعة بعد سلاحه في مواجهة ما تأزمت به نفسه من أحداث تلك التجربة، وبقيت إلى آخر أيامه سلاحه في مواجهة الحياة، وبه غلبها ولم تغلبه.

وكأن ما امتحنته به تلك التجربة - من الإصابة بالعرج، ثم هجر التعليم والتعطل الذي أعقبه - كان من توفيقات المقادير التي تغم الحكمة فيها على الإنسان قبل أن تتبدى صفحتها من مستقرها في عالم المجهول.

كان المازني قد أوفى على الثلاثين، وشب عن الطوق جدا فيما يحس، وارتفع، كما يقول، (عن كل حداثة ارتفاعا أجلسني على ربوة الحياة حيث تنازع السحب الضياء)، ووقف يستقبل الكهولة التي طرق بابها قبل أن تطرق بابه، والتي تزود لها بزادين من عمل النشأة؛ فليس أقرب إلى الكهولة وألصق بها ممن يحرم في سنه وميعته قراه من الطفولة والشباب، ومن يدركه بلاء التجارب وهو غر لا يفيد منها غير الجهد والعناء.

وقد عرف القارئ كيف ودع المازني طفولته قسرا وقطعها وثبا، وكيف أكره نفسه على

ص: 13

كبح عواطفها الساذجة وكبت نزعاتها البريئة في غير رفق أو رحمة. ولا شك أنه ظل منطويا على هذا الشعور بالحرمان من أسعد فترات الحياة وأنضر عهودها حتى جر عليه هذا الانطواء أن أضاع شبابه في بيداء السلبية ومهمة التشاؤم ومقارفة العزلة والتوحد وتلقي الحياة باحتفال الموسوس الممرور.

ثم كانت تلك التجربة النفسية وما طبعته عليه من مواجهة الحياة بالاستخفاف وقلة المبالاة، وكانت معها المعجزة الكبرى في حياة المازني الذي كان يشرف على الكهولة يوم ذاك.

أشرف على الكهولة ليجد نفسه من جديد أمام طفولته التي زايلته، تعاوده بأخص خصائصها في طابعها القديم، وإن تكن قد عادت ناضجة واعية أشد تمرسا بالحياة وأكثر فهما وتجربة.

وليس بالعسير تفسير هذا الارتداد أو هذه الرجعة إلى الطفولة، ولا يحوجنا الأمر فيما نرى إلى استشارة علم النفس التحليلي أو تطبيق مناهجه ومقاييسه فيما كتب علماؤه المحدثون، فهي ظاهرة طبيعية وليست حدثا خارقا أو شذوذا غير مألوف.

. . . طفل أكرهته الحياة على أن يكبت في نفسه كل إحساس بالطفولة - على فرط إحساسه بها - وأن يطرح عنه كل ما يمت إليها من دوافع ونزعات، فاستقرت طفولته في أعماقه مكبوتة أو مكرهة على الكبت، تترقب المناسبة التي تطفر فيها من قرارها وتلبس إهابها السليب.

وقد سنحت هذه المناسبة المرتقبة في حياة المازني بتصحيح النظرة إلى الحياة والنقلة من المبالاة والاحتفال إلى الاستخفاف وقلة الاكتراث، فعاودت طفولته ظهورها وعادت سيرتها، ولا بست بنية الكهل المجرب فيه روح الطفل الغرير.

صورتان جد مختلفتين: أولاهما صورة شاب يعارض الحياة معارضة الإذلال، ويثور عليها لأنه يباليها ويحفلها غاية المبالاة والاحتفال، ويتراءى في إهاب أقرب إلى الشيخوخة المنطوية لولا ما يتسم به من ثورة السخط والزراية على الحياة والأحياء.

والثانية سورة كهل يصدر في مطالبه ورغائبه وفي جده وهزله عن منازع هي منازع الطفولة في صميمها، بل تزيده السن فرط غرارة واندفاع وحماس. . كهل يركب الحياة بالسخرية والاستخفاف، ويسالمها غير مضطر أو مغلوب! أو هو يقلع عن معارضتها لأنه قد ملأ يديه منها، وكأنه يقول لها بلسان الحال إنني لا أحفلك ولا أباليك منذ الآن، فسيان أن

ص: 14

نلتقي على حرب أو سلام، وعلى ود أو خصام، فعلى هذا وذلك نحن ملتقيان!

وقد قابل المازني بين هاتين الصورتين لذينك العهدين من حياته، ولم يخف عن نفسه، ولا عن الناس، موقع هواه وموضع ميله منهما. ونحن نؤثر أن ننقل هنا معالم الصورتين كما خرجتا عنه، مع تفسيره الذي ارتاح إليه في تعليل رأيه؛ فهو يقول:

(الكهولة والشباب عهدان مختلفان في كل شيء، ولك أن تقول إنهما يجعلان من الإنسان الواحد إنسانيين متميزين، لا يشبه أحدهما صاحبه، لا في المخبر ولا في المظهر. فأنا في كهولتي إنسان جديد من كل وجه، لا يشبه ذلك الإنسان القديم الذي كان أيام الشباب، فقد ذهب ذلك الإنسان إلى غير رجعة، وذهب معه كل ما كان له من خصائص وصفات وسمات ومعارف ونزعات وآمال وألام ومخاوف ومطامع وشهوات إلى آخر ذلك، وحل محله هذا الكهل الذي يدلف إلى الشيخوخة).

(ولك أن تقول أيضاً إن الشباب والكهولة معنيان في النفس. فإن منا من يخطئ معنا الشباب في عهده المألوف ثم يجده في غير أوانه. وهذا ما وقع لي، فما عرفت معنا الشباب، ولا ركبت به ما يركب الناس به، لأني امتحنت في صدر حياتي وغضونة سني بما تركني أحس كأن الدهر كله عمري. ودارت الأيام وكبرت، وازددت بالدنيا وبالناس معرفة وبنفسي أيضا، فإذا كل شيء يتغير، التشاؤم انقلب تفاؤلا واستبشارا، والضغن أصبح عطفا ورقة قلب وحبا للحياة والناس، وكنت أضنني لن يطول عمري وأحمد الله على هذا وأسأله في سري أن يعجل بالراحة الكبرى وإن كنا لن ندري بأنا فزنا بها، فإذا بي واثق أني سأكون من المعمرين جدا، وإذا بي قد صرت أحرص الناس على حياتي، بل إذا بي أشعر شعورا قويا أني رددت شابا وإن كان رأسي قد شاب ولم يبق فيه سواد، وأذهلني هذا الشعور المستغرق عن سني التي لا تكف عن الارتفاع)

وإذا كان لنا أن نعقب على هذه المقابلة الصادقة بشيء، فهو إن ذينك العهدين، في حياة المازني وأدبه، قريب من قريب، وإن عهد الشباب والثورة ومعارضة الحياة كعهد الكهولة الطفلة المجرب؛ قوة إحساس وفيض عاطفة وشعور.

فلم يكن المازني الشاب ليعارض الحياة أو يتنكر لها إلا وهو متعلق الرجاء بها قوي الرغبة فيها. وما كان سخطه وثورته إلا دالة يدل بها الشباب على الحياة فلا تتجاوز التبسط في

ص: 15

المغاضبة أو العتاب إلى الحنق والتنديد والمجافاة.

بلى. وذلك الشاب الذي كان قلبه ينبض أبدا بأشواق العاطفة وصورة الإحساس، والذي لم تهدأ فيه حيوية الشباب قط، لقد كان أقرب إلى الحياة وأتعرف بها وأوفر نصيبا منها من كثيرين لا يدينون بسخطه ولا يحسون مثل قلقه وثورته.

منذ ذلك العهد - عهد إيحاء سانين - لم يحي المازني في غير عالم الطفولة الخالدة. ولقد تقلبت به الحياة وتقلبت عليه التجارب فما كانت لتمر به إلا كما تمرق الأعاصير من بين قلل الأطواد الشامخة ثم تنكفئ عنه، كما تنكفئ الموجة العتية عن الصخر الركين.

في عالم الطفولة الخالدة عاش المازني أعوامه الثلاثين التي تقضت بين بدء عهده بالكهولة ووفاته، فكانت خلاصة العمر وصفوته ولبابه، وكأنما كان إيذان ذلك العهد بمثابة ميلاد جديد بأديبنا العظيم، وإن سبق مجيئه إلى الدنيا قبل ذلك بأعوام طوال.

محمد محمود حمدان

ص: 16

‌التربية الروحية في مدارسنا

للأستاذ محمد علي جمعة الشايب

إنها لمأساة حقا أن نجد كثيرا من الضمائر والذمم في حاجة ماسة إلى تطهير لا فرق في ذلك بين هيئة أو جماعة، أو عظيم أو حقير. هذا إلى كثير من النفوس والضمائر التي أبصرت أشعة التطهير فاختفت داخل قواقعها واتخذت منها كنا وسترا. ولعل يد العدالة ستمتد إليها فتخرجها صاغرة ذليلة من داخل تلك القواقع؛ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. . . إنها لمشكلة تدعو للأسف حقا وتدعو للعلاج السريع، حتى يعافى مجتمعنا من هذا الوباء الخلقي الخبيث. وإن إعدام بذور الشوك خير من تقليم أغصانه بعد أن ينبت. ومن الواجب قبل أن نصف الدواء أن نضع أيدينا على أسباب الداء، أو على الأقل على أهم أسبابه.

إننا لو نظرنا إلى موظفي الدولة ورجالها لوجدناهم ثمرة من ثمرات المدرسة، فإذا أحسسنا أن هذه الثمرة مرة المذاق، فلا بد أن التربية التي نبتت فيها هذه الثمرة تربة غير صالحة، وهذا هو الواقع فعلا في مدارسنا، فإنت لو نظرت إلى المدرسة في ذلك العهد الذي نتنسم فيه شيئا من الحرية لم تجد في أساليب تربيتها ما يعين على تنشئة جيل صالح، فما بالك بها منذ عشرات السنين أي في العهد الذي ربت فيه أولئك الذين قادوا السفينة بنا إلى الهاوية، وقد كان عهدا حبس عنه الاستعمار كل نسمة من نسمات الحرية والصلاح في أية ناحية من نواحي الحياة. . . وليس لنا بالمدرسة القديمة شأن، فقد مضت وأفسدت ما أفسدت، وهذه يد التطهير تحاول أن تصلح ما أفسدته المدرسة من قديم الأزمان. ولكن لنا الشأن كله بالمدرسة الحديثة - مدرسة اليوم - ويجب أن نمد إليها يدنا اليوم بالإصلاح قبل أن تمتد يد التطهير في المستقبل إلى ما تأتي به من ثمرات. . .

إن التربية في مدارسنا اليوم لا يعنيها غير الهدف العلمي، فهي تحرص على أن تضع في يمين التلميذ ورقة بمثابة الجواز الذي يسمح له بأن يأكل عيشه في شيء من السهولة واليسر ويضمن حياة راضية أحيانا، أما التهذيب الروحي وتقويم الاعوجاج والالتواء وتعديل الغرائز والنزعات الفطرية وإعلاؤها بحيث تجعل صاحبها يستقيم مع المجتمع ولا يكون نشازا فيه، ويصبح عضوا فعالا في أمته، فهذا ما لا يدخل في حساب التربية

ص: 17

المدرسية عندنا. . . إن التربية عندنا مادية بحتة لا أثر فيها للروح، مع أن المجتمع المدرسي الصاخب فرصة نادرة أمام المربين الروحيين لو أرادوا، فالتربية الروحية تعتمد في الغالب على مجتمع لكي تتمكن من نشر مبادئها ويمكن الوصول إلى أهدافها بسهولة. . . وقد يعتقد البعض أن دراسة الدين في مدارسنا تربية روحية، ولكن يؤسفني أن أقول إن هذا وهم واهم؛ فمدرسو الدين والتلاميذ يعرفون ما تنطوي عليه الحقيقة من ألم مرير، وقد يكفي أن تعلم أن غالبية المدرسين يجرون أرجلهم جرا حينما يذهبون إلى حصة الدين، وأن التلاميذ يودون لو أن المدرس انطلق بهم إلى ما يهمهم ويعنيهم من أحاديث الحياة العامة ووفر عليهم مؤونة الشرح والتدريس، بل لقد شكا كثير من المدرسين من أن التلاميذ يجمعون له كثيرا من الأسئلة في شتى النواحي المختلفة ليتحفوه بها في حصة الدين، وشكا آخرون من أن التلاميذ يتسللون لواذا (ويزوغون) في حصة الدين. أما الفريق الذي لم يشك فيعلم الله مبلغ ما يقاسيه من ألم وعناد في سبيل الاحتفاظ بالنظام وضبط الفصل والترهيب مرة والترغيب أخرى حتى ينتهي ذلك الدرس. . . وليس مرد ذلك لشيء في الدين نفسه - معاذ الله - ولا لشيء في التلميذ ذاته كما يتوهم بعض المدرسين، وما أظن أن المدرس يعتقد أنه هو مرد ذلك لأنه لا يحس هذه الظاهرة إلا في درس الدين فحسب، وإنما السبب راجع إلى الطريقة التي يدرس بها الدين وإلى المنزلة التي وضع فيها في المنهج الدراسي، فالدين دراسة نظرية بحتة لمجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ودراسة لبعض الشخصيات الإسلامية الفذة، وفي الغالب لا تجد ارتباطا بين هذه المواضيع وحاجات التلميذ النفسية أو المشاكل التي تهمه، وهذا هو السر في انصراف التلميذ عن الدرس إلى الأسئلة التي يضيق بها إخواننا المدرسون، ولو ربطت مواضيع الدين بمشاكلنا القائمة بيننا الآن والمذهب الاجتماعية التي هي موضع اهتمام الرأي العام لكان درس الدين حيا قويا، ولوجد استجابة حارة من التلاميذ، ولكان ذلك تثبيتا للتلاميذ وعصمة لهم من الزيغ.

ولو تناولت دراسة الدين أمراضنا الخلقية وآفاتنا الاجتماعية المتفشية، ولو أتينا بالشخصيات الظاهرة عندنا وربطنا بينها وبين الشخصيات الإسلامية العظيمة ودرسنا هذه الشخصيات دراسة مقارنة، أقول لو فعلنا ذلك لكان ذلك أهدى طريقا وأقوم سبيلا.

ص: 18

على أن وضع الدين في المنهج المدرسي ذلك الوضع غير اللائق كفيل بأن يصرف عنه الاهتمام والعناية، فجعل الدين مادة ليس فيها امتحان يجعلها عبثا على أكتاف التلاميذ يعوقهم عن النهوض بواجباتهم المدرسية التي ينتظرهم فيها نجاح أو رسوب. ولقد كان من الممكن الاستغناء عن الامتحان في الدين لو قومت طريقته وعدلت بحيث نضمن منها فائدة منها للتلاميذ، أما والحالة هذه فلا بد من الامتحان وإن كان لا يكفي لإفادة التلاميذ الفائدة المرجوة من دروس الدين، ولكنها فائدة على أي حال، ولعل الوزارة قد تنبهت إلى ذلك في هذا العام.

بقي أنني لست أومن بالدراسة النظرية، وإنما الذي أومن به الإيمان كله أن تكون الدراسة عملية ولا تأتي الناحية النظرية إلا كالشاهد أو الدليل، وما دامت المدرسة تخرج للمجتمع، فلماذا لا تكون المدرسة صورة من المجتمع؟ لماذا لا تكون المدرسة نموذجا من المجتمع في جميع نواحيه خيره وشره؟ نستطيع أن نهيئ في المدرسة الجو الذي تنزلق فيه الضمائر والذمم وتستشري فيه الغرائز، ونخلق من ذلك فرصة للتهذيب والتقويم وتعديل هذه الغرائز حتى تخرج المدرسة ذمما نظيفة وضمائر بيضاء ناصعة وغرائز مصقولة مهذبة، فمثلا التغذية في المدرسة نستطيع أن نجعلها بمثابة (وزارة التموين) في المجتمع الخارجي فنمكن التلاميذ من تصريف أمور التغذية في مدارسهم، ثم ننظر ماذا يفعلون، وإنني واثق من أننا سنجد فرصة ذهبية للتربية الروحية العملية الحقة، وسنجد فرصة ذهبية كذلك للكشف عن كثير من الذمم المعتلة والضمائر المريضة، وسنتمكن من علاجها علاجا حاسما حتى تخرج على المجتمع نقية كالثلج. .

كذلك نستطيع أن نكون من التلاميذ مجلسا للقضاء والفصل للنزاع الذي ينشأ بين تلاميذ المدرسة، ويكون له حق فرض العقوبات اللازمة، والغرامات المالية المناسبة وبالإشراف الدقيق نستطيع أن نلاحظ كثير من النزاعات الفطرية الملتوية بين أعضاء هذا المجلس وسنتمكن من تقويمها. . كذلك يمكننا أن نكون من تلاميذ المدرسة هيئة بوليسية للإشراف على المدرسة وتقصي أخلاق زملائهم والإرشاد عن عيوبهم لإصلاحها وتهذيبها؛ إلى غير ذلك من الجمعيات والهيئات التي تتيح فرصا للتربية الروحية وتخلق مناسبات حية لدروس الدين. على أن بالمدرسة الآن جمعيات قائمة مثل جمعيات البر والإحسان وجمعيات

ص: 19

الرياضة وجمعيات الدعوة والإرشاد ينبغي استغلالها لهذا الغرض.

وبعد فمتى كانت التربية الروحية نظرية بحتة؟ ألم يغلب الله جانب العمل في العبادات وهي التربية الروحية فجعل الصلاة إلى جانب أنها ذكر ودعاء؛ قياما وركوعا وسجودا؟!

وكذلك الجانب العملي أوضح ما يكون في الحج والزكاة والصوم، ولعلنا نلمس الجانب العملي في تربية الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار والمهاجرين حين آخى بينهم فكان الأنصاري يقسم ماله وداره بل وأزواجه بينه وبين أخيه المهاجر! هذا هو المنهج السليم الذي يجب أن تنتهجه التربية الروحية. . . أما أن تكون كاملا يتلى فهذا ما أشك في تسميته التربية.

محمد علي جمعة الشايب

ص: 20

‌خاطرة

نداء المال. . .

للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر

ما للحياة قد مالت بآمالي؟! وأين مالي؟

لقد كنت معتزا به حتى سميت (صاحب عزة)!

وكنت سعيدا في جمعه؛ فغدوت (صاحب سعادة)!

ترى: أنادتني شقوة المحرومين لأبلو شقاءهم؟

أم دعتني بلوة المكروبين لأذوق بلاءهم؟

حسبي يا زمان!

طالما طال عناقي، وتطاول حمقي؛ حتى نزل العنق بين كتفي وكاد يمحى من كياني، واسترخى الحمق في بلاهة ردتني إلى الحقيقة، فعرفت ميزاني واتزاني!

كنت أزن المقادير على قدرك، وأصطنع الجاه في ظلك، أدعى الأصل العريق بأصالتك!

كانت الغفلة تركب رأسي؛ فأتغابى عن الحق، وأصور الحياة متعات لاهية تملأ لهوات الأطماع!

ما حسبت أن السيادة فطرة الله فتغالبت وتعاليت، حتى أرخصني غلوي، وهبط بي علوي، وتبصرت حاتي فوجدتني صفرا بلا آحاد، بعيد أن كنت واحدا بياهي بأصفار على يمينه!

يا مالي!. . .

أناديك وقد طويت كشحك عني، كأنك ترد إلي (ضريبة) غروري. وما جدواي من ندائك بعد أن كبا بي جدي، وأخلفت الأيام عهدي؟

يا مالي!. . .

ليست فيك آمالي؛ فقد علمت أن الآمال في خزانة القلب ممثلة في الرضا، والقناعة، والأمن، والسلامة!

يا مالي!. . .

كان الشيطان يغرني، ويغرر بي، حتى تركني في مزجر الحسرة؛ فرميت مرمى المهانة!

يا مالي!. . .

ص: 21

ماذا دهاني حتى أعاني ما أعاني؟

كنت أضع في مجتمعي حدودا حتى حددت حياتي، وكنت أتخذ (بطانة) تبارك ركابي، فتركت وحدي أقاصي عذابي! أين ظلال الشخوص التي كانت تظل بشمي وغروري؟ وأين مغريات الطغيان لترى بأسائي ومصيري؟

يا مالي!. . .

كانت أخيلتي مجنحة، تحلق بي إلى عالم وهمي؛ فحسبت الحياة كلها عرضا يباع بك، وكنت في سبيلك أعرض عرضي، لأحصل على مباغي نفسي الطموح، وصرت معلقا بخيوط أوهامي حتى سخرت مني الحياة!

كنت أناجيك (يا مالي) مناجاة التخليد، فلم يقع في تقديري أن قدري في يد القدر، حتى أعجزتني المعجزة التي أخرست لساني وألجمت جناني!

يا مالي!. . .

أمسترد علي مجدي؟ أم أن طول التحسر لا يجدي؟

كنت أحسب الزمن يداعبني بملهاة ضاحكة، لكن تبين لي أن الأضحوكة قد تكون حكمة!

ما ظننت يوما - يا مالي - أن المحروم المنكد العيش، سيعتز بحياته، ويكون صاحب (عزة) أصيلة عن عزتي الدخيلة!

ما حسبت أن مشقوق القدمين الكادح سيشق طريقه في الحياة على عمل جليل، ونظام متسق، ووحدة متآلفة!

يا مالي!. . .

لقد غيبتني الأعجوبة في غيبوبة العجب، وإني لمسائل نفسي كيف استحالت أوضاع حياتي في طرفة العين إلى ما أرى من شجن محترق، وألم لاذع، وحسرة موجعة؟!

يا مالي! كنت مسحورا بك، في إخذة الحب، حتى أخذت على غرة فلم يبق في قلبي سوى نداء الأسى!

يا مالي!. . لست مالي. .!

إليك الحرمان فأمتعه، ودونك الشقاء فأسعده! لم يبق لي غير خفض الجناح، بعد أن جنحت زمانا في آفاق بعيدة عن الإنسانية الفاضلة!

ص: 22

لقد كنت لي حلما؛ فاذهب إلى من يرون فيك الحقيقة. . حقيقة المساواة في شريعة المعدلة!

بور سعيد

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 23

‌الجغرافية والسيادة العالية

للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي

لا يستطيع الإنسان فهم الحوادث التاريخية وتفسيرها على أصولها الحقيقية إلا إذا عرفنا العوامل الجغرافية التي لعبة دورها في هذه الحوادث، فالتاريخ والجغرافية علمان لا ينفصلان وإن كان لكل منهما شخصيته الواضحة، وما أشبه الحوادث التاريخية برواية تمثيلية قد بدأت منذ الخليقة وتعددت فصولها على مر الأيام. وكلما أقبلت الأعوام زاد عدد الممثلين وأشخاص البطولة فيها كل على قدر أهميته. وما أشبه هذا المسرح الذي نمثل عليه هذه الرواية بحوادثها ومغامراتها بالعالم الذي نعيش فيه. وإذا كنا لا نستطيع متابعة حوادث الرواية التمثيلية إلا إذا ألممنا بمسرحها؛ فكذلك لا نستطيع فهم الحوادث التاريخية وتفسيرها على حقيقتها إلا إذا درسنا مسرحها وفهمنا هذه العوامل الجغرافية التي تحكمت في هذه الحوادث وسيرتها في هذا الاتجاه. لهذا كانت للعوامل الجغرافية الأهمية الأولى لدارسي الحوادث التاريخية ولكل من يحاول فهم التاريخ على حقيقته.

نظرة سريعة إلى الكرة الأرضية بنصفيها الشمالي والجنوبي نرى اليابس يسود النصف الشمالي إذ تشغله معظم القارات في الوقت الذي تسود فيه المحيطات النصف الجنوبي؛ ولهذا كان النصف الشمالي أكثر سكانا وبتالي أكثر نشاطا وإنتاجا، ولهذا كان أيضاً مهدا للحضارات الأولى التي خرجت للعالم ومنه خرجت طلائع المغامرين الذين اكتشفوا النصف الجنوبي ومهدوا لفتحه واستعماره، وهكذا ساد النصف الشمالي النصف الجنوبي، وهكذا تحكم اليابس في الماء بفضل كثرة السكان وما يرتبط بهذه الميزة من نتائج لها تأثيرها الخاص.

ونحن أيضاً إذا نظرنا إلى خريطة العالم بنصفيها الغربي والشرقي وجدنا النصف الشرقي معظمه يابس تسوده أكبر مساحة من القارات في الوقت الذي تسود فيه المياه معظم النصف الغربي. وهنا أيضاً نجد النصف الشرقي قد مثل في النصف الغربي ما سبق أن رأيناه في النصف الشمالي والنصف الجنوبي للكرة الأرضية؛ فالأسباب واحدة والنتائج متشابهة.

وإذا نظرنا إلى العالم من زاوية أخرى وجدنا المناخ يبلغ أقصى برودته في الأنحاء الشمالية والجهات الجنوبية؛ أو بعبارة أخرى حول القطبين. لذا كانت هذه المناطق لا

ص: 24

تساعد على قيام الحياة وبالتالي العمل على تقدمها، فسكانها قليلو العدد في كفاح مستمر لأن الطبيعة قاسية عليهم وتأبى أن تجود بما يوفر لهم الحياة. هم لا يفكرون إلا في الحصول على القوت الضروري الذي يمنع عنهم ألم الجوع والملبس الضروري الذي يقيهم البرد! والمسكن اللازم لحياتهم، فاتخذوا من شحوم بعض الحيوانات غذاء لهم ومن فرائها ملبسا. ليس لديهم الوقت الكافي للتفكير والانتقال بالإنسانية إلى حالة أكثر رقيا وتقدما، وهذا ما نلاحظه في جماعات الإسكيمو في شمال أمريكا وجماعات اللابس في شمال أوربا. وإذا نظرنا إلى العالم من هذه الزاوية وجدنا المناخ عند خط الاستواء حارا لا يطاق ولا سيما في السهول الداخلية من القارات. وبقدر ما كانت الطبيعة قاسية في أقصى الشمال كانت سخية في هذه المنظمة الاستوائية، فالغابات الكثيفة بأشجارها وحاصلاتها المتعددة متوفرة. وبقدر ما بثت الطبيعة من نشاط في سكان الشمال؛ بثت الخمول والكسل في سكان خط الاستواء لسخاء الطبيعة، فهم ليسوا في حاجة للجد والنشاط للحصول على طعامهم وملبسهم ومسكنهم، غذ وفرت لهم الطبيعة كل ذلك بالقدر الذي لا يتصوره الإنسان بالقدر الذي يدفعهم إلى الإفساد وعدم شغل الذهن بالتفكير في المستقبل وحاجاته. لذا عاشوا في كسل وخمود عام كما عاش سكان الشمال في جهد ونشاط مستمر دون أي راحة أو استجمام. ولهذا لا تنتظر أن يكون لسكان الجهات القطبية والاستوائية أي نوع من السيادة التاريخية؛ فكل منهما مشغول بحالته الخاصة وكل منهما له ما يلهيه عن الانتباه لما يدور حوله من نزاع بين الأمم من أجل السيادة العالمية.

إذن فالموطن الأول للسيادة العالمية هو الجهات المعروفة بمناخها المعتدل الواقعة في النصف الشمالي الشرقي من الكرة الأرضية. ففي هذه الجهات نشأت الشعوب القديمة ذات الحضارة والسيادة ومنها انتقلت إلى بقية العالم؛ إذ لها من اعتدال مناخها ما يدفعها إلى العمل للحصول على لوازم الحياة دون إجهاد أو إرهاق فوجدت لديها من الفراغ الضروري ما دفعها إلى التفكير وشغل الذهن بما سار بالإنسانية إلى الأمام، ولها من موقعها الجغرافي ما ساعد على اتصال سكانها في وقت لم تصل فيه المواصلات إلى ما هي عليه الآن، وبذلك تم السير بالحضارة الإنسانية من حسن إلى أحسن. في هذه الجهات نشأت الحضارة المصرية والبابلية والآشورية والفينيقية والفارسية والهندية والصينية والإغريقية والرومانية

ص: 25

والعربية.

وحتى هذه الحضارات التي سبق ذكرها لم تكن كلها من نوع واحد، بل اختلفت فيما بينها من حيث الأصول والمميزات والنتائج، ولا يصعب علينا فهم هذا الاختلاف إذا عرفنا العوامل الجغرافية التي لعبت دورها في كل منها. فهذه مصر لولا النيل لكانت صحراء ولما كان لأهلها ذكر في التاريخ. ولولا موقعها الجغرافي الفريد بإشرافها على العالم القديم وتحكمها في طرق مواصلاته بسواحلها الشرقية والشمالية ما استفادت من غيرها ولا أفادت. وبقدر اتصالها بالعالم الخارجي كانت الصحراء الشرقية والصحراء الغربية وجنادل النيل في الجنوب والبحر في الشمال خير واق لأهلها من الغزو والفتح في الوقت الذي انصرفوا فيه إلى تكوين حضاراتهم فنمت في أمن؛ حتى إذا ما شبت تعدت هذه الحدود إلى جيرانها وكونت أول إمبراطورية عرفها التاريخ أيام تحتمس ورمسيس.

وهناك في أقصى الشرق من القارة الآسيوية نشأت الحضارة الصينية القديمة بعد أن اتخذت حوض يانج تسى مهدا لها، وكانت لها في هذه الهضبة الغربية خير حماية من خطر غزو القبائل إذا قلت الأمطار في وسط آسيا؛ وكانت لها أيضاً في مياه المحيط الهادي بأتساعه ما يحميها من خطر الغزو البحري. ولم تكن اليابان قد ظهرت كقوة بحرية تهدد الصين في حياتها إلا في العصر الحديث، لذا عاش الصينيون في أمن من الغزو الأجنبي ووجدوا في خصوبة أرضهم وكثرة إنتاجها ما دفعهم إلى التأمل والتفكير والإنتاج فكانوا خير منتجين، وكانت فلسفتهم وحكمهم صورة ناطقة بحياتهم الهادئة الوديعة، حتى إذا شعروا بالخطر يتهددهم من الشمال الغربي وجدوا في أحجار الهضبة المجاورة لهم خير معين لبناء سد لوقايتهم فأخرجوا لنا سورهم العظيم الذي اعتبر من عجائب التاريخ.

وفيما بين مصر والصين قامت حضارة أخرى. . فهناك في الهند حيث سهول نهر الكنج ونهر السد بخصوبتها حيث جبال الهمالايا المعروفة بارتفاعها وصعوبة مسالكها وجد الأهالي فيها خير مساعد على حمايتهم من الغزو وبرودة الرياح الشمالية؛ كما وجدوا في مياه المحيط الهندي التي تحيط بشبه جزيرتهم مثل هذه الحماية؛ فعاشوا في أمن وسلام مع شيء من الجد والنشاط، فأخرجوا لنا فلسفة خاصة كانت حلقة هامة في طريق الأديان السماوية. ولكن كان لا بد أن تستهدف الهند للغزو والفتح كما استهدف غيرها، وكانت لا بد

ص: 26

لهذا الصندوق المقفل أن يفتح ويعرض ما فيه على العالم فيختار الأحسن! ويشاء القدر أن تعجز هذه الجبال التي حمت الهند من الشمال أمام حيل الإنسان وتفكيره فتدخل جنوب الإسكندر من ممراتها الشمالية الغربية كما دخلتها جنود الإسلام فيما بعد. وقدر للمسلمين أن يضعوا أساس إمبراطورية عظيمة كانت لها فيها السيادة على الهند، ولكن هذه السيادة التي دخلت من ممرات الشمال الغربي ضعفت أمام الاستعمار الأوربي الذي أخذ يطرق أبواب الهند الساحلية فتمت الغلبة أخيرا بعد نزاع بين القوى البرية والقوى البحرية ودخل الاستعمار الإنجليزي الهند بعد أن مهدت لذلك شركة الهند التجارية.

سيادة مصر والصين والهند وبابل وأشور كلها من نوع يمكن أن نطلق عليه (السيادة النهرية) لأن وجود الأنهار في هذه البلاد كان العامل الأكبر في نهضة أهلها وإن كان لكل منها طابع خاص حسب ما امتازت به من عوامل جغرافية أخرى. ولكننا هذه المرة أمام شعب آخر هو شعب الفينيقيين الذي شق لنفسه السيادة عن طريق البحر. فالبحر الأبيض المتوسط بموقعه يتوسط العالم القديم، وهو بحر داخله يكاد يكون مغلقا لذا كانت مياهه هادئة معظم فصول السنة لا نرى فيها ما نراه في المحيطات وبعض البحار الأخرى من اضطراب وأمواج عالية. وهو صالح للملاحة طول السنة لا تتجمد مياهه كبقية بعض البحار الأخرى. يمتاز بكثرة بحاره الداخلية المتفرعة منه وبكثرة أشباه الجزر والجزر التي يندر أن يختفي اليابس عن نظر المسافرين فتتولد في نفوس عابريه روح المغامرة والمخاطرة لشعورهم بالأمن فيه، ولذا كان خير مدرسة لتخريج خير الشعوب البحرية وكان في مقدمة هذه الشعوب الشعب الفينيقي. وكان للفينيقيين من بيئتهم الجغرافية ما جعلهم أساتذة للبحرية، فبلادهم ذات سهل ساحلي ضيق تشرف عليه جبال عالية تفصلهم عما وراءهم من بلاد داخلية، ولذلك أعطوها ظهورهم واتجهوا بأنظارهم إلى البحر حيث الأفق الذي لا يحد وحيث تجد غريزة حب الاستطلاع مجالا لها فاندفعوا إلى البحر، وكان لهم من مميزاته التي سبق ذكرها ما جعلهم يتفوقون بعد أن أتقنوا فن الملاحة فطافوا بسواحل البحر الأبيض المتوسط وأنشئوا المحطات التجارية فيه وتاجروا بين أقطاره المختلفة. غير أنهم كانوا في كل ذلك يتخذون من المياه الساحلية طريقا لهم ولم يعملوا على توفير الوقت باختصار المسافات شأن كل شيء في بدايته، حتى إذا تخرج على أيديهم اليونان فاقوا

ص: 27

أساتذتهم في هذا المضمار وانتقلت إليهم السيادة البحرية لأنهم وجدوا فيها حياتهم فأتقنوها! ذلك أن بلاد اليونان شبه جزيرة جبلية تقل فيها السهول وتكثر بها الجبال والخلجان البحرية والجزر بشكل واضح، فاتخذوا من هذه الجزر والبيئة البحرية معاهد لتخريج ملاحين مهرة بعد أن تلقوا مبادئ هذا الفن على أساتذتهم الفينيقيين، وساعدهم هذا الفن على التغلب على ما في بلادهم من فقر فاتخذوا من صيد السمك مهنة لكسب عيشهم كما اتخذ فريق منهم السفن وسيلة لنقلهم إلى البلاد الأخرى التي هاجروا إليها لضمان حياتهم فنشروا معهم فنهم وطابعهم الخاص في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط؛ كما لجأ بعضهم إلى احتراف الجندية فكانوا جنودا مرتزقة يحاربون في صف من يضمن لهم الحياة. أما غالبيتهم فقد اتخذوا القرصنة حرفة فسادوا البحر وتحكموا بمسالكه. وهكذا عاش اليونان في البحر وعن طريقه تملكوا زمام القوة. وكان لا بد لهذه القوة البحرية أن تصطدم بالقوة البرية التي كانت هي الغالبة حتى ذلك الوقت، وكانت معركة سلاميس البحرية هي فصل الختام في النزاع الذي قام بين الفرس واليونان، وكان لا بد للفرس من الهزيمة لأنهم أساءوا اختيار ميدان الحرب وأعطوا الفرصة لليونان لإظهار سيادتهم البحرية.

ظلت القوة البحرية صاحبت السيادة وظل اليونانيون أصحابها إلى أن ظهر في هذا الميدان من نافسهم وانتزعها منهم. والحق أن الفينيقيين كما كانوا أساتذة للإغريق كان الإغريق أساتذة لغيرهم، فهم الذين وضعوا نواة نهضة روما التي سرعان ما ظهرت للوجود كقوة لها مكانتها الخاصة لما يحيط بها من ظروف جغرافية ساعدتها على توحيد إيطاليا بزعامتها، فتطلعت للخارج وكبر على نفسه أن تكون سجينة في البحر الأبيض وهي التي تتوسطه وتتحكم في حوضه ولها من سواحلها الطويلة ما يجعلها عرضة للخطر، وكان لا بد لها من أن تتغلب على ما عاداها من دول أخرى منافسة حتى تضمن حياتها، وسرعان ما تم لها الأمر وهزمت قرطاجية واستعمرتها، كما تغلبت فيما بعد على دول البطالة وملكت مصر. وهكذا أصبحت روما سيدة البحر الأبيض وحق لأهلها أن يقولوا إلا أن روما في هذه المرة استطاعت الجمع بين القوتين البرية والبحرية وكان لها في سرعة انتقال جيوشها ما جعلها تتغلب على أي خطر تستهدف له؛ ولم تأت هذه السرعة إلا عن طريق مد الطرق والاهتمام. بها وما زالت باقية هذه الطرق المعروفة بالاسترادا موجودة في كثير من البلاد

ص: 28

التي قدر لها أن تكون ضمن الإمبراطورية الرومانية كما هي الحال في الأجزاء الجنوبية الشرقية من إنجلترا. ولم ينبغ الإيطاليون في فن مد الطرق صدفة بل كان لهم في طبيعة بلادهم الجغرافية ما جعلهم سادة هذا الفن، وما زالت الشركات الإيطالية تحتل المكانة الأولى في رصف الطرق في بلاد العالم حتى يومنا هذا. وبالنظر إلى شبه الجزيرة الإيطالية نجد روما تتوسط ساحلها الغربي وفي وسطها سلسلة من الجبال العالية تمتد من الشمال إلى الجنوب وتحف بها من على الجانبين سهول طويلة؛ وقد وجد أهل روما في هذه السهول وفي أحجار هذه الجبال ما ساعدهم على مد الطرق لربط أجزاء شبه الجزيرة ببعضها، وهكذا جعلت الظروف الجغرافية إيطاليا المدرسة الأولى لفن مد الطرق ورصفها.

ولنترك الإمبراطورية الرومانية وقد أخذت عوامل الضعف تتنازعها وهي في مجموعها عوامل جغرافية يطول علينا شرحها. ولنتجه إلى الركن الجنوبي الشرقي من البحر الأبيض المتوسط حيث نرى موطنا لسيادة من نوع آخر هي السيادة الروحية! ففي هذه البقعة ظهرت الديانات السماوية جميعها من موسوية ومسيحية ومحمدية، ولم تكن هذه البقعة صدفة موطنا لهذه الديانات ولم يمنحها الله سبحانه وتعالى هذه الميزة عبثا، بل كان ذلك لتوسط موقعها الجغرافي الذي ساعد رسل هذه العقائد وأتباعها على نشر رسالتهم خصوصا ولم تكن سهولة المواصلات في ذلك الوقت قد وصلت إلى ما هي عليه الآن فالإنسان إذا أراد إضاءة حجرة وتوزيع نور مصباحه على أركانها بالتساوي ما عليه إلا أن يختار مكانا وسطا لوضع مصباحه فيها وهكذا فعل الله في أرضه فكانت شبه الجزيرة بأطرافها موطنا لهذه العقائد السماوية.

زحف الإسلام من المدينة تسنده قوته البرية فاستطاع العرب التغلب على أعدائهم لأنهم أحسنوا اختيار ميدان القتال فكانت الغلبة لهم! حتى إذا وصلوا إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط وجدوا عدوهم قد فاقهم بسيادته البحرية فكان لا بد لهم من الاستعانة بالقوة البحرية لقهر أعدائهم. وقد ساعدتهم البيئة الجغرافية الجديدة على تحقيق هذه الأمنية فاتخذوا من موانئ الشام وغيرها قواعد لأسطولهم الجديد حتى إذا كانت واقعة (ذات السواري) البحرية في عهد ثالث الخلفاء الراشدين كانت الغلبة لهم وكانت هذه الواقعة خاتمة السيادة البحرية للروم كما كانت موقعة (سلاميس) السابقة الذكر بداية السيادة البحرية لأسلافهم اليونان.

ص: 29

وسرعان ما تفوق العرب في الميدان البحري واندفعوا في هذا الطريق حتى تسمي البحر الأبيض المتوسط باسمهم؛ ولم يقتصر نشاطهم على هذا البحر بل اتجهوا بسفنهم إلى البحار الدفيئة الجنوبية فكانت لهم فيها السيادة كذلك! وما وصول الإسلام وانتشاره في جزر الهند الشرقية إلا بقية من نشاط تجارهم الذين سادوا تلك البحار.

هكذا لعب البحر الأبيض المتوسط دوره في نهضة الشعوب وهكذا كان مدرسة لتخريج المغامرين الذين اندفعوا يستطلعون ما وراء أفقه، فكان كشف طريق رأس الرجاء الصالح وكان كشف الأمريكيتين وكان تحول آخر في تاريخ الإنسانية بهذه الكشوف وكانت السيادة المحيطية يعد أن كانت السيادة للبحار. ذلك أن البحر الأبيض المتوسط أصبح لا يتمتع بما كان يتمتع به من مركز ممتاز بتوسطه بين العالم إذا انتقلت هذه الميزة إلى المحيط الأطلسي فأصبح له الدور الأول في تاريخ الإنسانية، وسرعان ما تبع ذلك انتقال السيادة من دول البحر الأبيض المتوسط إلى دول غربي أوربا التي كان لها بفضل موقعها ما دفعها إلى العالم الجديد واستغلاله، وتشاء الجغرافية أن يصحب هذا التحول في السيادة تحول آخر في دعائمها! إذ كانت سيادة دول البحر الأبيض سيادة تعتمد على الإنتاج الزراعي قبل كل شيء! وإن وجدت بعض الصناعات فهي لا تتعدى استخراج الزيت وعصر العنب. أما الصناعة بالمعنى الذي نفهمه اليوم فكان ظهورها بظهور دول غربي أوربا وانتقال السيادة إليها. ذلك أن وفرة الفحم والحديد إلى جانب ما تتمتع به موقع جغرافي بعد كشف العالم الجديد جعلها الميدان الأول للإنتاج الصناعي فكان لها الصدارة بين دول العالم، وكان لا بد لهذه الدول أن تحصل على المواد الخام الزراعية اللازمة لصناعاتها وأن تجد الأسواق لتصريف ما تنتجه، فتسابقت إلى الاستعمار مما أدى إلى التنافس بينها وقيام الحروب، وما تاريخ دول غربي أوربا في العصر الحديث إلا سلسلة من هذه الحوادث المتتالية. وكان لا بد أن تكون الغلبة للدولة التي تعتني بقوتها البحرية وتزيد من سرعة سفنها، فظهرت عابرات المحيطات لقطع المسافات الطويلة بعد أن كانت البحرية لا تعرف إلا السفن الصغيرة والمراكب الشراعية، وكانت بريطانيا في مقدمة هذه الدول وكان لها في موقعها الجغرافي ما جعلها تختط لنفسها سياسة معينة! فهي متطرفة الموقع بالنسبة للقارة الأوربية لذلك لم تشترك في المشاكل الخارجية إلا بالقدر الذي مس مصالحها، ولما كانت هذه

ص: 30

المصالح قد أخذت تتزايد بمرور الزمن وتتشابك كثر تدخلها في السياسة العالمية.

ولقد كان الموقع الجغرافي للجزر البريطانية المحور الأساسي لسياسة الإمبراطورية البريطانية الذي يمكن تلخيصه في ضرورة المحافظة على التفوق البحري وعدم السماح لأية قوة أخرى بالتفوق عليها في هذه الناحية! وهي كذلك بموقعها الجغرافي مدينة بانتشار النظام الديمقراطي بين سكانها، فهي بعزلتها البحرية ليست في حاجة إلى قوات عسكرية دائمة لحمايتها، لذلك كانت السلطات الحاكمة تخشى القيام بأي تصرف استبدادي حتى لا تقوم الثورات في وجهها فتعجز عن قمعها وتعرض حكمها للزوال. ولهذا كانت السلطات الحاكمة تتمشى مع رغبات الشعب وقد وصلت بهذه الطريقة إلى ما وصلت إليه من حياة ديمقراطية، ولهذا أيضاً احتفظت بريطانيا بسياسة التطوع في سلك الجندية ولم تحاول إتباع النظام الإجباري للجندية إلا في الحرب العالمية الأولى حين أجبرتها الضرورة على ذلك وبعد أن ألحت عليها فرنسا، حتى إذا انتهت الحرب عادت إلى نظامها القديم ولكنها عادت مرة أخرى إلى فرض الجندية الإجبارية في الحرب العالمية الأخيرة حتى تجابه ما كانت تتطلبه الاستعدادات الحربية.

وكان لا بد أيضاً وقد أصبح المحيط الأطلسي ميدانا للنشاط العالمي أن تسعى الدول وتتنافس فيما بينها لكسب الوقت حتى تروج صناعاتها وتتقدم تجارتها، فأدخلت التحسينات على وسائل المواصلات البحرية وأوجدت أنواعا أخرى وكان على رأس ما اهتدت إليه فن الطيران واختراع الطائرات، فبدأت القيادة الجوية تلعب دورها في التاريخ بعد أن بلغت السيادة البحرية أوج عظمتها في دول غربي أوربا، وكان العالم الجديد ممثلا في الولايات المتحدة الأمريكية خير ميدان لهذه السيادة الجوية التي أثبتت وجودها في الحرب العالمية الثانية كعامل فعال في إحراز النصر. وبفضل ما أنتجته الولايات المتحدة الأمريكية من سلاح جوي واختراع للقنبلة الذرية استطاع الحلفاء إحراز النصر وأن يتنفس الصعداء بعد أن كاد الإجهاد يلحق بجنودهم لطول الكفاح وصمود العدو العنيد المستميت.

هكذا كانت العوامل الجغرافية من توزيع لليابس والماء والحرارة والبرودة ووجود للأنهار والبحار والمحيطات والغلاف الجوي المعز الأول للسيادة العالمية والحوادث التاريخية وفي دراسة أثر هذه العوامل في الإنسان دراسة للتاريخ البشري على حقيقته، ولهذا يحسن بنا

ص: 31

أن نقسم العصور التاريخية، على أساس العوامل الجغرافية التي كان لبعضها الأثر الواضح دون سواه فنقول مثلا: عصر اليابس وعصر الأنهار وعصر البحار وعصر المحيطات وعصر الهواء. . كما يقول المؤرخون: عصر ما قبل التاريخ والعصور التاريخية والعصور القديمة والعصور الوسطى والعصر الحديث والزمن المعاصر.

مصطفى بعيو الطرابلسي

ص: 32

‌رسالة الشعر

من وحي الشتاء

أين المفر؟!

مهداة إلى اللاجئين

للأستاذ هارون هاشم رشيد

هتف الموت وهو ناب وظفر

لامفر،. . من قبضتي لا مفر

وعوت تصرخ الرياح وهبت

عصفات جموحة لا تقر

والرعود الرعناء ملء فم الكو

ن دوى على الفضاء وزأر

فإذا الرحمة استحالت بلاء

وإذا الكون واجم؛. مكفر

وإذا الماء جامح يغمر الأر

ض ويطغى جموحه المستمر

رب أم حنت على طفلها البك

ر وضمته وهي خوف وذعر

ألصقته بصدرها خشية الموت

وهل يدفع المنية صدر؟!

وعجوز هوى الجدار عليها

فإذا نيتها المهدم قبر. .!

ويتيم. . . قضى أبوه شهيدا

فهو من بعده دموع وفقر!

هدمت فوقها العواصف بيتا

هو في واقع الحقيقة حجر

وفتاة مكلومة القلب تبكي

فقد خدر وما حواه الخدر

وصغار مشردين بلا أهل

تراموا على الطريق ومروا

وكثيرين قد أفاقوا حيارى

ما لهم ملجأ ولا مستقر

هتفوا بالسماء أن تحبس الغيث وهيهات أن يغيض بحر

ليت شعري أين الذين رموهم

في جحيم من العذاب وفروا؟!

أين من صوروا بيتوا من الطين

وقالوا: هنا يطيب المقر!؟

هم مقيمون في الديار نشاوى

ونداما هموا حسان وخمر

ومئات من الجنيهات قالوا:

هي أجر لما أتوه وشكر

وهم المجرمون قد جلبوا الشر

وقالوا: بأن ذلك خير

ص: 33

نسل (جونبول) هؤلاء فمنهم

غمر الظلم شرقنا والنكر

إنهم يضربون في ظلمة الليل

وقد مزق الدياجير فجر

الشعوب استفاقت اليوم يهدى

خطوها للعلا وللحق ثأر

فأسود في أرض مصر تنادى

إنها (مصر) درة الشرق مصر

سوف تلقى بالظالمين إلى البحر ويسمو بها إلى المجد نصر

أيها المسلمون قد جمح الباغي

ففي سمعه عن الحق وقر

أنقذوا، أنقذوا البقية منا

فهنا الموت جاثم مستقر

غزة

هارون هاشم رشيد

ص: 34

‌سطور من دم

للأستاذ زهير مرزا

أي جرح يضوع عطرا وندا

فالثرى مشرق الأديم مندى

والوجود المفجوع هلل تكبيرا ونادى الأمجاد وفدا فوفدا

والأهازيج عمت الأفق إلا

شهقات. . لم تقو أخذا وردا

شرقت بالدم الذكي تلوي

أفعوانا على الثرى يتبدى

خضب الأرض يكتب اليوم فيها

أسطرا لن تبيد طمسا وفقدا

كل ما لم يخط بالدم تمحو

هـ الليالي مهما تطاول عهدا

سائلوا السفح عن فتى يعربي

كان ملء الزمان قلبا وقدا

يمم الأمس ساحة المجد شبلا

وطوى بلقعا وحزنا ونجدا

في حناياه حفنة من شعور

لم تطق أن ترى السود عبدا

فاستعدت من (الشهادة) إيما

نا. . ومن حقها المهدد أبدا

فزعت للجهاد سكرى كما يفزع لله مؤمن ثاب رشدا

ورأت فيه مدفنا هو أجدى

من حياة جبينها يتندى

والذي أشرب الشهامة طفلا

ليس يرضى بأن يعفر خدا. .

أزفت ساعة النضال. . وماج الجحفل البحر بالبطولات يجدي

وتوالى على النفوس صراع

أكبر الدهر ما رأى ويتبدى

مثلما عزت النفوس تراها

تدفع الموت بالمناكب صدا

وتداريه، حيلة، وهي منه

قاب قوسين. . والخديعة أجدى

وارتمى الشبل في الغمار وقد جر

د سيفا يضيء وجها وزندا

وانثنى. . بين ناظريه بقايا

بقع من دماء عز تصدى

وتراءى مبعثر الجهد جباراً يكاد القرضاب يضرب فردا

فإذا أن يمنة من تردي

ما لها يسرة فشتت حشدا

ضاع منه صوابه حين دوت

زأرة الليث خر إذ ما تردى

وتلوي يجمع اليوم أحشا

ء لميضى أشد ما كان حقدا

ص: 35

غير أن اليد التي خلدته

لم تخنه، لكن تداعت، فأودى

حسبوه ما زال ينضح عزما

من بقايا لما تزل تتحدى

أكبروا أن يخر فاقتحموا المو

ت يفدونه وما كان يفدى

غير أن الأذى يجر أذاة

والبطولات للبطولات أهدى

كفنوه بثوبه ودماء

ثم عادوا بحفنة منه تندى

وطووا جرحه على النصر والمجد. . وأعظم به على الدهر مجدا

ورأوا في مصيره (نقطة البد

ء) فصاغوا من (الشهادة) مبدأ

والذي شيع العقيدة والإيمان شيعه، فالحفيرة أجدى

وانظر الناس تلق في كل جيل

ملحدا صاغ من دياجيه لحدا

قل لمن بات في الحياة وحيدا

إن هذى الحياة تنبض رفدا

نقل الطرف في مفاتنها الغر

وئد حقدها ولا تبق نأدا

واشتر المجد بالدماء فإن أغلى فزده فقد أنالك خلدا

كل ما لم يخط بالدم تمحو

هـ الليالي مهما تطاول عهدا

دمشق

زهير ميرزا

ص: 36

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ أنور الجندي

التقيت في ندوة (الشورى) بالسيد عبد القادر المغربي وكيل المجمع العلمي في دمشق وعضو مجمع فؤاد الأول لغة العربية، فقد جاء مصر لحضور دورة المجمع اللغوي، الذي انعقد يوم الاثنين الماضي، وقد لقيت (المغربي) فتيا كأنما هو في الشباب وليس في سن التاسعة والثمانين. . .

كانت ضحكاته وطريقته في الحديث، ونظرته، تنم عن نفس ما تزال شابة فتية، فإذا ذكرنا أنه حضر إلى مصر لأول مرة عام 1905 ليعمل مع الشيخ محمد عبده، ثم اشتغل بالصحافة، وبدأ عمله في (المؤيد) في نفس العام بمقال عنوانه (مصر ومراكش والقاضي شمهورش). . . عجبنا للحيوية التي أفاضها الله على الرجل العلامة. . الذي يحضر إلى مصر بالطائرة. . .

وكالعهد بالذين يزورون ندوة (الشورى)، وكلهم مشردون ومجاهدون ورجال كافحوا الظلم، لقينا السيد عبد القادر المغربي، الذي هاجم الاستبداد في فجر النهضة، ووقف مع شكيب أرسلان وعبد العزيز جاويش يهاجم الملك حسين في جريدة الشق. . في اتجاه نحو انفصال الترك عن العرب.

وقد حدثني السيد المغربي بأنه اضطر بعد هجرته إلى مصر هربا من الظلم والاستبداد، ثم بعد عودته على أثر إعلان الدستور العثماني وخلع عبد الحميد، إلى أن يتحول من الإصلاح الديني إلى الإصلاح اللغوي.

وفي هذا الصدد سمعت السيد بشير الإبراهيمي الزعيم الجزائري يتحدث إليه فيقول أنه كان يلتهم كل ما يكتبه في اللغة، وأنه ترك في الدراسات اللغوية أثرا ضخما، ووصل إلى قمة التقدير حينما قال له: إن السطر من هذه الكتابات يساوي مجلدا. . .

والسيد عبد القادر المغربي هو حفيد البطل المجاهد (درغوس) الذي استشهد في الحرب العثمانية في موقعة (مالطة) ودفن في ليبيا، ويطلق على ضريحه هناك (طرغود رئيس) وقد هاجرت أسرته إلى الشام منذ 250 سنة.

وقد كتب السيد عبد القادر المغربي في مجلة البينات الجزء الأول سنة 1907 فصلا مطولا

ص: 37

عن برنامج الإصلاح الإسلامي، ما يزال حتى اليوم مرجعا للدعاة والعاملين في هذا الحقل.

وقد شهد السيد المغربي خلال حياته الطويلة المباركة، التي نسأل الله أن يمد فيها، حلقات النهضة العربية والإسلامية منذ فجرها على يد جمال الدين الأفغاني حتى الآن، فهو بذلك من أقدر من يؤرخها ويصور زواياها المختلفة، وقد طلبت إليه ذلك غير أنني لقيته معرضا عن هذا الاتجاه.

وقد اكتفى بتلك الرسالة القصيرة التي كتبها عن (جمال الدين الأفغاني). . ونحن باسم المقدرين لأدبه وفكره نعاود الرجاء في أن يكتب تاريخ هذه النهضة بقلمه الرصين، ولا يظن على التاريخ بتسجيل مشاهدات معاصر فقد تفيد كثيرا في كتابة التاريخ. .

اتجاه الريح

أعجبني تصوير الأستاذ (وديع الفلسطيني) للمفكر في هذه الأيام حيث يقول في جريدة الإنذار: (الأديب في مصر محكوم عليه بالفاقة المبرحة حتى يهجر الأدب، والصحفي الشريف في مصر حتم عليه أن يشرب المر حتى يهجر الصحافة.

والمفكر في مصر يبقى دائما هدفا للريبة والشك حتى يتخلى عن تفكيره. والكاتب في مصر يبعث أثاث داره قبل أن يطبع كتابا من كتبه، والشاعر في مصر بائس حتى يترك الشعر، والثقافة في مصر محنة لأن الناس عنها معرضون، فتجارة الكتب إلى بوار، والأدب السمين ليس له طلاب، والناس لا تقرأ إلا قصص الجان، ومغامرات الفرسان، وفضائح الملك السابق، وتخريف المزيفين والهازلين).

وتلك كلمات صادقة، لأنها صادرة من قلب مأزوم. إن الأستاذ وديع صحفي وأديب مثقف، وقد عمل طويلا. . وكان كبير الأمل في أنه يستطيع أن يخدم بلاده عن هذا الطريق، غير أنه أحس بأن عليه أن يتخذ طريقا آخر. ويبدو أنه مع الأسف الموجع قد ودع الصحافة والدب بعد أن شعر بأنهما لا يكرمان المجاهد العامل إلى العمل في الميدان الاقتصادي. . .

تحول في الاتجاه العام

الأستاذ إبراهيم المصري كتب موفق، وهو أستاذنا منذ كان يكتب في الصحيفة الأدبية في البلاغ عام 1930، وأذكر أنه أرسل إلي ذات مرة وكنت في الريف يطلب إلي أن أرسل

ص: 38

باسمه كلما أراد نشره في البلاغ.

وفي مقاله الأسبوعي في أخبار اليوم هذا الأسبوع عبارات قوية، تصور مدى التحول الذي وصلنا إليه أخيرا بعد أن اجتزنا فترة الانتقال الطويلة المريرة.

وخلاصة ما يقول الأستاذ إبراهيم المصري:

أولا: أن التعصب الثقافي قد استفحل في نفوسنا إلى حد أن أصبح تحقيق التفاهم بين عناصرنا المثقفة أمرا عسيرا شاقا.

ثانيا: تضاربت الميول والأهواء بين من تلقوا العلم في إنجلترا أو فرنسا أو أمريكا.

ثالثا: علينا أن نجعل ثقافتنا عالمية، فنقدس الفكر نفسه، لا الفكر الممثل في ثقافة معينة، وأن نقدس الفكر الحر لا الفكر المقيد بوجهات نظر خاصة.

رابعا: الأخذ بثقافة معينة ضرب من العبودية الفكرية سرعان ما تنتهي إلى عبودية سياسية واقتصادية.

خامسا: علينا أن ننهل من شتى ثقافات العالم، وعلينا أن ندرك أن ثقافة الهند والصين لا تقل عن ثقافة الفرنسيين والإنجليز.

وهذا الذي يصوره الأستاذ إبراهيم المصري هو لا شك (نقطة التحول) في ثقافتنا الحديثة في الشرق، فقد انتهى الزمن الذي كنا نؤمن فيه بالثقافة الغربية، أو الحضارة الغربية على أنها شيء مقدس. ولقد دب الشك في قلوب القوامين على هذه الحضارة أنفسهم، فلم يعد بد من أن نتحرر ونتحرز، ونستخلص ونوازن، وألا نتعصب لها، وأن نأخذ منها ما يزيد كياننا الشرقي قوة ويدفعنا إلى الأمام، ونحن متحررين، لا مقيدون.

الأدب السوري في طريق النهضة

تحدث الأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة الحديث الحلبية في الإذاعة المصرية عن الحركة الفكرية في سوريا فقال: إن ما نشر حتى الآن من الإنتاج السوري قليل بالنسبة لما في خزانات الكتب. وأضاف بأن المجمع العربي، والمعهد الفرنسي للدراسات قد قاما بطبع عشرات الكتب الأدبية والتاريخية وبعض دواوين الشعر والمؤلفات المترجمة في شتى الميادين من الأدب والتاريخ، وأشار إلى أنه إذا كان الجانب الأدبي أغلب على الأدب كمرجع ذلك إلى (أننا لا نزال في بدء حركتنا الفكرية ولأنه ألصق بالنفس من سائر فروع

ص: 39

العلم).

وعندما تناول أثر النزعات الأدبية الغربية في الاتجاهات الحديثة في الأدب العربي السوري قال (لا نكران أن سوريا بعد أن ظلت في غيبوبة تحت حكم العثمانيين قد استيقظت على ماضيها وهو ماض ملئ بالأمجاد، وهي حريصة على ذلك التراث الضخم، وراغبة أن تظل وثيقة الاتصال به وأن تستلهمه في كثير من منازعها).

ثم أضاف قوله (وإن ذلك لم يمنعها من أن تلتفت إلى الغرب وأن تأخذ عنه وأن تسير مسرعة الخطى في ركابه).

وقال الأستاذ الكيالي (إن سوريا مأخوذة بحضارة القرن العشرين، الحضارة التي ابتدعتها أوربا وصقلتها أمريكا، وهي تعيش في ظل ما ابتدعته، تقرأ أدب الغرب وعلمه وفلسفته، وتقتبس منه، وتتهذب بشتى مذاهبه، ولكن الحضارة الغربية التي كانت تنزل منزلة القداسة من نفس السوري قد تزلزل إيمانه بها أو كاد، وأخذ يفك بقيمتها الروحية بعد ما شاهده من هدر الكثير من المبادئ والمثل العليا.

وأضاف قوله (أن الأدباء السوريين يجارون مفكري الغرب في مناهجهم، ويقبسون من عملمهم، وفنهم، ولكنهم يحذرون كل الحذر من أن ينصهروا في البوتقه الغربية، وهم إذ يعالجون القضايا، يعالجونها بروح إيجابية حذرة مشدودة إلى الماضي الذي أبدع الحضارة العربية.

(وهم من تطلعهم إلى المستقبل لا يقطعون صلتهم بالماضي، بل لهم من الماضي هذا الحافز القوي، ممثلا في صور أولئك المغامرين الذين فتحوا الدنيا القديمة).

وأشار الأستاذ الكيالي إلى ظاهرة واضحة في الحركة الفكرية في سوريا وهي أنه لم تبدأ بعد المرحلة التي يستطيع فيها الأدب السوري أن يعطى كما يأخذ، وأن إنتاج سوريا الأدبي لم يصدر بعد إلى الخارج ولم يترجم إلى لغة أجنبية؛ ذلك لأنه - في رأي الأستاذ الكيالي - لا يزال ضعيفا.

وختم حديثه بقوله. . . (إن الأدب السوري اليوم ينفض عن نفسه غبار السنين ويسير سيرا وئيدا، ولا عليه أن يتعجل الزمن، ولكن المهم أن يتسم بطابع الخلود. . . ولن يطول الزمن قبل أن يعطي أعظم الثمرات).

ص: 40

هذه خطوة سريعة لمحاضرة الأستاذ الكيالي، ونحن نرى أن الأستاذ كان متواضعا غاية التواضع، فالأدب السوري بعيد الجذور في تربت الأدب العربي الحديث، هذا الأدب الذي بدأ في المهجر على يد جبران والريحاني ونعيمه وغيرهم. . . ثم مد جناحيه على سوريا ولبنان في صور أولئك الكتاب النابهين الذين نقرأ لهم أمثال كرم ملحم وألبير أديب وسامي الكيالي ومروان عبود. وغيرهم وغيرهم.

أمين الرافعي

يصادف موعد صدور الرسالة اليوم (29 ديسمبر) ذكرى (أمين الرافعي) فحق على الرسالة أن تحيي هذا الكاتب العظيم الذي توفى في هذا اليوم سنة 1927 وترك من ورائه ذكرا يعبق بالعطر المقدس، ويرسم صورة للبطولة المثالية في ميدان الأدب والفكر والصحافة والسياسة.

ولسنا الآن بصدد الحديث عن شمائل هذا الرجل العظيم، الذي عاش مؤمنا بفكرته، مجاهدا لها، في وقت كانت سحب الظلام تغمر كل مكان. . ولكننا نرجو في هذه المناسبة أن يتفضل شقيقه الأستاذ عبد الرحمن الرافعي فيتيح لنا الفرصة للقيام بواجب الذكرى نحو الكاتب الكبير، فهو وحده صاحب المفتاح الأول في تخليد ذكرى شقيقه.

رسالة الكاتبة مليحة

وصلتني في اللحظات الأخيرة، رسالة مطولة من الكاتبة العراقية النابغة (مليحة). . . تتحدث فيها عن الأدب النسوي وتعارض رأي الكاتبة المصرية (ليلى مسلم). . . وأرجو أن أفصل القول في الموضوعات التي عرضت لها كاتبة الرافدين في العدد القادم. . .

أنور الجندي

ص: 41

‌البريد الأدبي

باكستان لا غير

قرأت في عدد الرسالة (1015) كلمة قيمة للأديب الباكستاني محمد كاظم سباق. يذكر فيها أن الأدباء والكاتبين ليسوا على رأي واحد في جواز تحلية كلمة (باكستان) بالألف واللام فيقال (الباكستان) أو امتناع هذه التحلية فيقال باكستان لا غير، وذكر أن قواعد النحو العربي تمنع صرف هذا الاسم للعلمية والعجمية، وبناءا على هذا لا يجوز عربية أن يرفع بأل. ثم طلب في ختام كلمته إلى أحد أساطين النحو في بلاد العروبة أن يفصل في هذه المسألة بحكم قاطع يرفع هذا الخلاف، حتى تكون باكستان محل وفاق لفظا، كما هي في حقيقتها محل اتفاق وائتلاف. هذا ويسرني أن أجيب الأديب الباكستاني عما طلب. فقد راجعت كتب النحو المعول عليها قديما وحديثا مثل شرح الرضى على كافية ابن الحاجب، وشرح ابن يعيش على مفصل الزمخشري، وشرح السريافي على كتاب سيبويه وغيرها من كتب القواعد، فلم أجد أحد من علماء العربية أجاز إدخال (أل) على مثل هذا العلم من الكلمات التي نطق بها العرب على لفظها الأعجمي. والمراد بالأعجمي ما خالف لغة العرب لا خصوص اللفظ الفارسي. سواء في هذا أعلام النواحي وأعلام البلاد أو غيرها. من ذلك أذربيجان وخرا سان وسجستان وجرجان وأصبهان وتركستان. فهذه كلمات وأمثالها يمتنع تعريفها بالألف واللام لأنها معارف بالعلمية ولا يجتمع في الكلمة معرفان. إذا تقرر هذا علمنا أن باكستان بدون أل هو الصواب ليس غير.

عبد الحميد عنتر

النهلست ليست الفوضى

جاء في مقال الدكتور عمر حليق المنشور في العدد 1014 من (الرسالة) الغراء ما يلي:

(. . . ومن هنا يفسر علماء النفس الاجتماعي تقبل العقلية الروسية للمبدأ الفوضوي (النهلستي). . .)

أما أي الكلمتين أصح، الفوضي أم الفوضوي، فنترك البت في ذلك للعلامة اللغوي الأستاذ أحمد حسن الزيات. ولكني وددت أن الفت نظر الدكتور إلى أن الفوضوي غير النهلستي.

ص: 42

وما دمنا نبحث بحثا علميا فينبغي ألا نخلط بين كلمتين، تكون كل منها مذهبا سياسيا لوحده، كان له أنصاره ومشايعوه، وأعداؤه ومناهضوه.

فكلمة الفوضوي مأخوذة من المذهب المسمى في اللغة وقد عرفه قاموس لاروس بما ترجمته:

(نظام سياسي واجتماعي ينمو فيه الفرد بحرية متحررا من كل وصاية أو حكومية؛ أو هي حالة شعب لا رئيس له، وحيث السلطة الحكومية مغلولة أو معطلة أو هو اضطراب وفوضى.)

وجاء في هذا القاموس تعريفا لكلمة النهلستية ما ترجمته:

(إن الكلمة مأخوذة من اللاتينية التي تعني التلاشي والعدم وإلغاء كل شيء. وإنكار كل اعتقاد. . .)

وكذلك ورد في قصة الكاتب الروسي تورنجنيف (الآباء والبنون) التي نقلتها إلى العربية الأستاذ ذا النون أيوب، شبه هذا التعريف، أنقله كما ورد في النسخة الفرنسية ممزوجا بالحوار:

' ' ، ،

'

وعرف كلمة أنها رأي أو نظرية الفوضويين فما رأي البحاثة الدكتور عمر حليق؟

أكرم فاضل

(الرسالة) الاسم المقصور الرباعي الساكن الثاني كفوضي ينسب إليه بحذف الألف أو بقلبها واو.

طه حسين بين الأدب والسياسة:

قرأنا تحت عنوان (طه حسين بين الأدب والسياسة) بالعدد الرقيم 1015 من الرسالة ما كتبه الأديب عبد اللطيف فايد معقبا على ما كتبه كاتب من الكتاب في صحيفة المصري مفتريا على الحقائق عن علم وعمد، ثم تعليقكم كذلك وقد دافعتم عن الحق وأنصفتم مستحق

ص: 43

الإنصاف.

وأرجو أن تسمحوا لي بأن أعلق على ما كتبه هذا الكاتب فأقول: إن هذا الكلام لم يكتب عن إيمان ولا اقتناع؛ ولا هو كتب كذلك عن جهل، بل كتبه عن علم وعمد بأنه يخالف الواقع وحقيقة الحال مخالفة صارخة، بل إن هذا الكلام قد كتب عن هوى آثم. فالذي يتصدى للكتابة في الصحف عن العلوم والفنون وعن الأدب والأدباء لا يمكن أن يجهل حقيقة طه حسين ولا أن يكون مقتنعا بمثل هذا الذي تضمنه المقال. وليس ذلك في مصر فحسب بل في الشرق كله. ولا تحسبنا مبالغين إذ نقول أنه ما من أديب أو ناقد اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يجهل حقيقة طه حسين ويمكن أن ينساق إلى ما انساق إليه الكاتب فيصف الأستاذ العميد بمثل ما وصفه الكاتب. ورأيي أن المقال كان جديرا بأن يهدر جملة ولا يعلق عليه ولا يشار إلى كاتبه برغم أنكم صححتم الأوضاع واعترفتم لصاحب الفضل بفضله وسجلتم صفحة فخار مجيد لعميد الأدب، فاعتقادنا الكاتب بمقاله أراد شيئا غير ما تضمنته عباراته من كلمات ومعان، أراد به أن يثير معركة أدبية يكون هو بطلها! ولا عليه أن يكون ذلك على حساب رجل ظاهر الفضل كريم عف القلم عف اللسان. وثمة نفوس تستهويها الغاية ولا تعبأ بالوسيلة.

ألم يبلغ علم الكاتب أن طه حسين كان الكاتب المضطهد في عصر الملكية وأنه كان يسافر إلى الخارج فيحال بينه وبين العودة إلى الوطن وتشترط في سبيل عودته الشروط.

ألم يبلغه أن طه حسين كان يكتب في كبرى صحف مصر فتتدخل السراي - أو يتدخل أذنابها - ليحال بينهم وبين هذه الكتابة، وأن اللجان المختصة كان يقع اختيارها على كتبه لتقرأ أو تدرس في المدارس أو تكون محل تقدير فيتدخل كذلك ليحال دون هذا الاختيار أو يحال دون تنفيذ القرار؟

كان على الكاتب أن يتقي الله في الناس. فطه حسين مثل يحتذي في الإصرار على الحق والثبات على المبدأ والاعتزاز بالكرامة.

ولعل من اليسير أن يعلم الناس - فما بالنا بالأدباء والنقاد والكتاب - أن انضمام الدكتور إلى الوزارة الوفدية كان لها نصرا بل كان لها فخرا. وقد سعت إليه كل السعي وهو قد قبلها تحت تأثير فكرة واحدة هي تنفيذ السياسة التي يعتنقها في التعليم؛ وبرغم حرصه على

ص: 44

تحقق فكرته ومنهاجه فإنه لم يسع إلى الوزارة أبدا. وقد كان بين أفراد قلائل لم يفسدهم الحكم ولا غير من طبعهم المنصب. وأخيرا لقد كان واحد اثنين أثنى على عملهما يوم أقيلت الوزارة الأستاذ الكبير الزيات: والزيات كما يعلم الناس يزن ألفاظه بميزان غاية في الدق وغاية في الحساسية وشهادته شهادة حق وعدل.

وبعد فهذا هو طه حسين كما هو وكما يعلمه الناس. . فليبحث كاتب المقال عن شيء آخر يلفت به نظر الناس إليه.

بالإسكندرية

محمود وصيف

الوجبة قديماً وحديثاً

الوجبة عند العرب: الأكلة ونحوها كل يوم وليلة. يقولون: أكل وجبة إذا أكل مرة واحدة في كل أربع وعشرين ساعة ولا يقولون أكل وجبتين أو ثلاث وجبات في اليوم. وأما الآن فتستعمل الوجبة في كل أكلة في أي وقت من أوقات الفطور أو الغداء أو العشاء فيقولون تناول وجبتين أو ثلاث وجبات في اليوم وتناول وجبة الفطور أو الغداء أو العشاء: وهذا الاستعمال صحيح وإن خالف الوضع العربي لأن العبرة بعلة التسمية؛ ألا ترى أن العرب سموا الأكلة الواحدة في كل أربع وعشرين ساعة وجبة لأنها قد وجبت أي حقت وثبتت ولزمت وحلت وجاء ميعادها وهم حددوه بيوم وليلة. ونحن سمينا الأكلة الواحدة كل ست ساعات مثلا وجبة لما سبق فالعلة واحدة وهي الوجوب أي حلول الميعاد، والخلاف محصور في التحديد والتعين وهذا لا يؤثر في صحة الاستعمال. ألا ترى أن (الحاجب) قديما هو بواب الملك أو الخليفة وكان موظفا كبيرا له شأنه، وهو الآن عبارة عن بواب لموظف كبير، وهو معدود من الخدم والسعاة! وعلة التسمية متوفرة وهي الحجابة والحراسة وإن تفاوتت اصطلاحا ولا معارضة في الاصطلاح الحديث خصوصا إذا كان لا ينافي الاصطلاح القديم.

علي حسن هلالي

بالمجمع اللغوي

ص: 45

‌القصص

هدية رأس السنة

للقصصي الفرنسي جي دي مو باساق

بقلم الأديب سعد رضوان

تناول جاك دي ريندال عشاءه ثم صرف خادمته وجلس يحرر بعض الرسائل فقد كانت عادته دائما في نهاية السنة المنصرفة أن يجلس وحيدا يكتب رسائل وهو يحلم متخيلا كل ما حدث له في السنة الماضية، فإذا ما تذكر صديقا خط له بضعة أسطر مهنئا إياه بالعام الجديد، ولهذا جلس الآن إلى مكتبه ثم فتح درجا وأخرج منه صورة لامرأة حدق فيها قليلا ثم قبلها ووضعها بجوار الورقة وشرع يكتب:

(عزيزتي أيرين:

لا شك أنك تسلمت كتاب التهنئة الذي أرسلته إليك ولكني قد حبست نفسي في هذا المساء لأخبرك. . .)

وتوقفت الريشة عن الكتابة وقام جاك ليسير جيئة وذهابا.

لقد حلت به في العشرة أشهر الماضية مصيبة - ليست كمصائب الآخرين من المخاطرين أو الممثلين أو المتشردين - ولكنها امرأة أحبها واستولى عليها.

وجاك ليس صغيرا برغم أنه يبدو شابا، كما أنه ينظر إلى الحياة نظرة جدية مطلقة، لهذا أخذ يزن غرامه، كما كان يزن كل عام صداقاته القديمة والجديدة والأعمال التي مرت به وكذا الرجال الذين دخلوا حياته.

لقد خبت جذوة غرامه الأولى، ودقق مع نفسه كما يدقق التاجر عندما يضع حساباته فأخذ يسألها: ما هي ميوله نحوها وحاول أن يخمن ما ستكون عليه في المستقبل فوجد في نفسه أثرا عظيما وعميقا هو مزيج من الرغبة والشكر ومن آلاف من العواطف الأخرى التي تأتي عند انتهاء الربيع.

وأفاق على دق جرس الباب فتردد في أن يفتح، ثم قرر أن المرء في عيد رأس السنة يجب عليه أن يدخل الطارق أيا كانت شخصيته، لهذا أخذ شمعة واخترق الصالة ثم شد الترباس

ص: 47

وأدار المفتاح. . . فرأى حبيبته واقفة أمامه مستندة بيدها على الحائط وهي صفراء كالميتة فسألها:

(ماذا حدث؟)

فأجابت: هل أنت وحدك؟

فقال: نعم!!

فقالت: ولا؟

فقال: ولا خدم نعم!!

فقالت: ألست خارجا؟

فقال: لا!

فدخلت الشقة كالمعتادة على الدخول فيها ثم اتجهت إلى قاعة الاستقبال حيث ألقت بنفسها على إحدى الأرائك، وغطت وجهها بيديها وانفجرت في البكاء، فركع بجانبها وحاول أن يرفع يديها من على وجهها ليرى عينيها وهو يقول، (أيرين، أيرين ما الذي حدث؟ أتوسل إليك أن تخبريني عما جرى؟).

فأجابت وهي تتشنج، (لا أستطيع أن أظل هكذا)

ولم يفهم فسأل، (كيف؟)

- نعم، لا أستطيع أن أعيش هكذا. . في المنزل. . إنك لا تعلم. . إنني لم أخبرك. . إن هذا فضيع. . لا أستطيع أن استمر. .

لقد قاسيت كثيرا. . لقد ضربني الآن. . .

- من؟ زوجك؟

- نعم زوجي

- آه. . .

ودهش كثيرا فلم يكن يظن أن زوجها وحش، فهو رجل مجتمع، ومن أحسن العائلات، وهو رجل أندية ومن المترددين على سباق الخيل وعلى المسرح، وهو معروف وله قدره في كل مكان لأخلاقه الحسنة وبديهته الحاضرة وذكائه ولتقبله النقد بصدر رحب هذا إلى جانب عنايته بزوجته واهتمامه برغباتها وبصحتها وملابسها وبكل ما يتعلق بها، وهو يمنحها

ص: 48

الحرية التي تطلبها ويرحب برايندال باعتباره صديقا لزوجته ككل الأزواج المؤدبين. . إن رايندال لم يكن يظن أن العاطفة تخل هذا المنزل لذا دهش كثيرا لهذا الحديث غير متوقع وسأل (كيف حدث هذا؟ أخبريني. . .)

وقصت أيرين عليه قصة طويلة. . قصة حياتها من يوم أن تزوجت. . وقصة الخلاف الذي بدأ بسيطا ثم اتسع هوته مع الأيام فكثر شجارهما إلى أن انفصلا وإن لم يظهرا شيئا لأحد، ثم تحول زوجها إلى وحشا مجنونا وهو الآن يغار عليها منه، واليوم قد ضربها لأجل ذلك بعد شجار عنيف. . .

وختمت قصتها مؤكدة، (إنني لن أعود، ويمكنك أن تفعل بي ما تريد)

وكان جاك قد جلس أمامها وقد تلاصقت ركبتاهما فأمسك يديها بيديه وقال: (يا عزيزتي، يا صديقتي العزيزة، إنك تقدمين على غلطة كبيرة. . إذا أردت أن تتركي زوجك فاجعليه هو المخطئ حتى يكون مركزك كامرأة لا غبار عليه في المستقبل)

فحدقت أيرين فيه بعيون قلقة وهي تسأله: (وبماذا تنصحني أن أفعل؟)

- اذهبي إلى منزلك حتى تحصلي على الانفصال أو الطلاق من زجك

أليس في نصيحتك هذه شيء من الجبن؟

- كلا، فهذا هو الطريق الطبيعي لأن لك اسما ومركزا وأصدقاء وأقارب يجب أن تحافظي عليهم.

فقامت وقالت بحدة: (حسنا، لقد انتهى كل شيء. انتهى. . انتهى)

ثم وضعت يديها على كتف عشيقها ونظرت في عيني وهي تسأله: (هل تحبني؟)

فأجاب: طبعا

فقالت له: أهذا صحيح

فقال: طبعا

فقالت إذن أبقيني عندك

فصرخ: (كيف أبقيك! في بيتي! هنا! لا بد أنك جننت! ستضيعين إلى الأبد. . لقد جننت. .)

فقالت ببطيء وخشونة كمن يزن كلماته: (اسمع يا جاك، لقد منعني من رؤيتك ثانية، كما لم

ص: 49

أعد أستطع أن أستمر في لعبة المقابلات السرية، فإما أن تبقيني وإما أن تفقدني)

فقال: في هذه الحالة يا حبيبتي تطلقي وسأتزوجك

فقال: نعم ستتزوجني بعد سنتين على الأقل، إن حبك لصبور

فقال لها: اسمعي، فكري مرة أخرى. إنك إذا عشت هنا فسيأخذك غدا لأنك زوجته والقانون معه

فقالت: إنني لم أسألك أن تبقيني هنا يا جاك، إني أريدك أن تأخذني بعيدا في أي مكان، لقد ظننت أنك أحببتني حبا كافيا لتفعل ذلك، ولكنني أخطأت. . . الوداع

واستدارت وأسرعت إلى الباب فأمسكها وهي على وشك الخروج وقال:

- اسمعي يا أيرين. . .

فجاهدت ألا تسمعي شيئا آخر، وتمتمت وعيناها مليئة بالدموع وقالت:(اتركني. . اتركني. ولكنه أجلسها بالقوة، ثم ركع إلى جوارها وحاول بالنصح تارة وبالنقاش أخرى أن ينبهها إلى خطئها وإلى خطورة خطتها مستعملا كل طريقة ممكنة ليحملها على أن تترك هذا (الجنون) متوسلا إياها أن تستمع لنصيحته لكنها بقيت بكماء باردة

فلما انتهى قالت، (هل أنت على استعداد لتركي اذهب الآن؟. . لا تمسكني فأنا لا أستطيع أن أقوم.)

فقال: اسمعي يا أيرين

فقالت: أتسمح فتتركني

فقال: أيرين هل صممت على هذا؟

فقالت: اتركني اذهب

فقال: حسنا أبقي. . . أنت تعلمين أنك هنا في منزلك، وغدا سنذهب بعيدا

فأصرت على أن يتركها تقوم وقالت في نغمة خافتة، (كلا لقد تأخرت، فأنا لا أريد تضحية.)

فقال: إبقي، لقد فعلت كل ما هو واجب علي أن أفعل، وقلت كل ما وجب علي قوله، فليس علي أية مسئولية حيالك بعد ذلك وضميري الآن مستريح، وما عليك إلا أن تخبرينني برغبتك فأطيع

ص: 50

فجلست ثانية ونظرت إليه وسألته بهدوء، (حسنا، اشرح لنفسك. . .)

فقال: ماذا؟ ماذا تريد أن اشرح لك؟

فقالت: كل شيء، كل ما فكرت فيه حتى غيرت رأيك هكذا وعلي أن أقرر بعد ذلك

فقال: إنني لم أفكر بتاتا. . . إنما كان من واجبي أن أعرفك أن ما انتويت جنون. . فلما لم تحيدي عن رأيك رأيت أن أشاركك جنونك.

فقالت: أنه ليس من طبعي أن يغير الإنسان رأيه هكذا سريعا

فقال: اسمعي يا عزيزتي، يا صديقتي العزيزة، إنها ليست مسألة تضحية. . ففي اليوم الذي عرفت فيه أنني أحبك قلت لنفسي - كما لا شك أن كل محب يجب أن يقول هذا لنفسه في نفس الظروف - إن الرجل الذي يحب امرأة ويحاول أن يجعلها له عليه واجبات لا لنفسه فقط بل للمرأة التي يحبها، وأنا أعني بلا شك المرأة التي هي مثلك وليست المرأة السهلة. . . إن للزوج فائدة اجتماعية وقانونية كبيرة ولكنه في نظري ليس له إلا فائدة روحية. . روحية بسيطة حينما ينظر المرء إلى الإحساس الذي أخذت هذه العلاقة مكانها على مقتضاه. . . لهذا فإن المرأة المربوطة بهذا الحبل لا تحب زوجها ولا يمكنها أن تحبه ستقابل شخصا تحبه وتهبه نفسها، فإذا أحتل رجل أعزب مكانة العشيق فهذه العلاقة تتطلب تبعات كثيرة أعظم من قولة نعم أمام القس، فإذا كان الاثنان شريفين فسوف يكون ربطهما أقوى وأمتن من ذلك الذي يعقد في الكنيسة. . . إن المرأة تضحي كل شيء، وهي تعرف هذا، فهي تعطي قلبها وجسمها وروحها وشرفها وحياتها لأنها تعرض نفسها للخطر من قتل زوجها لها ومن نبذ المجتمع إياها وما إلى ذلك مما يجعلها جديرة بالاحترام في عين حبيبها الذي يجب عليه أن يعد العدة لمواجهة كل شيء يحدث. . . وليس لدي شيء آخر أضيفه غير ما قلت، لقد تكلمت أول الأمر كعاقل من واجبه تنبيهك ولكني الآن رجل فقط. . رجل يحبك وينتظر أمرك. .)

وبحركة مغرية أقفلت له فمه بشفتيها ثم همست:

- يا حبيبي، لم يكن هذا صحيحا، فإن شيئا من ذلك لم يحدث وزوجي لم يشك في شيء لكنني أردت أن أعرف ماذا تفعل. . لقد أردت أن آخذ هدية رأس السنة. . . هدية أخرى غير العقد الذي أرسلته إلي. . وهي حبك، ولقد أعطيتني إياه، فشكرا. . . وشكرا. . . أوه

ص: 51

يا ربي! ما أسعدني!

سعد رضوان

ص: 52