المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1018 - بتاريخ: 05 - 01 - 1953 - مجلة الرسالة - جـ ١٠١٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1018

- بتاريخ: 05 - 01 - 1953

ص: -1

‌من عهد إلى عهد

بهذا العدد تدخل الرسالة في سنتها الحادية والعشرين فتدخل هي ومصر في عهد بادئ كله رجاء، بعد أن خرجت هي ومصر من عهد بائد كله شكوى.

كانت مصر في العام الماضي قد دب في حسها الوعي من طول ما وخزتها الأقلام وأرمضتها الآلام وقرعتها القوارع؛ فأدركت أن فوق عرشها ملكاً خليعاً جعل نصفه البهيمي للزنى والميسر والدعارة، ونصفه الآدمي للربا والنهب والتجارة؛ وأن على حكمها عصابة من مصاصي الدماء غايتهم السلطان والغنى، ووسيلتهم الطغيان والفساد؛ وإن على أرضها عدواً ثقيلاً جثم على صدرها جثوم المقطم لا يخف ولا يتحلحل، يحتل مأواه بالقوة، ويأخذ قراه بالسيف، ويبسط ولايته على المضيف بالقهر، ويفرض حمايته على القنال بالقحة؛ فثأر ثائر الشباب الجامعيين على الملك وبطانته فلطخوهم جهراً بالعار؛ وهاج هائج الأحرار المطهرين على الحكام فوصموهم صراحة بالخزي؛ وجاشت صدور الأخوان المسلمين على الإنجليز فآذنوهم فعلاً بالحرب!

وكانت خيانة الأوغاد للجيش الباسل في الحرب الفلسطينية قد فعلت فعلها في نفوس قواده، فتقصصوا أثرها حتى وجدوا أقدامها القذرة تنسل من قصر عابدين، وتطوف سراً على أهلها في دواوين الوزارة وأواوين الإمارة ومواخير الفسق؛ ثم تمضي مقنعة بالجاه، محروسة بالنفوذ، محاطة بالتلصص، حتى تدخل على القوات المحاربة الغالبة بالهدنة الغادرة والأسلحة الفاسدة والأوامر الخادعة؛ فغلت صدور الضباط الشباب من الحمية والحفيظة، فأخذوا ذلك الملك الماجن من قفاه الغليظ وألقوه في البحر؛ وقبضوا على حاشيته الفاجرة وطرحوهم في السجن، ولببوا الساسة المريبين وحجزوهم في المعتقل، وركلوا الموظفين المجرمين ورموهم في الشارع!

ثم فتحوا أبواب الصلاح والإصلاح على عهد جديد مشرق النور خالص الطهر صادق العزيمة، يرجون فيه ونرجو أن يقروا حياة مصر على الوضع الصحيح، وأن يقيموا سياستها على النهج الواضح، وأن يرفعوا بنيها إلى مقام الإنسان الحر المريد، فيملكوا باسمه وينزلوا على حكمه، ويعيدوا أرض آبائه إليه، ويردوا غلة أرضه عليه، ويشعر بأن له قولاً يُسمع ورأياً يُطاع وحُكماً ينفذ.

والرسالة تدخل في هذا العهد المبارك مع الداخلين، بعد أن مهدت له عشرين سنة مع

ص: 1

الماهدين، تدخل وهي راضية مغتبطة، رضا من عمل فأثمر، واغتباط من أمل فتحقق أمله. لقد كان في ذلك العهد الفاسد تقف مع الهداة على الجادة تنظر وينظرون بالأعين العبرى إلى القافلة المصرية وقد خدعها السبيل، وأضلها الدليل؛ فضلت ضلال القطيع لا راعي له، وشردت شرود الهائم لا إدراك به، فينادون ولا سميع، ويأمرون ولا مطيع، وينذرون ولا مستبصر!

وكان الوقت الذي أضيع في الشرود، والجهد الذي أنفق في الهداية، خليقين أن يلحقا القافلة بالركب العام، ويدنيا الأمة من الغاية الجامعة.

ولكن الضال لا يهتدي حتى يعلم، والجاهل لا يعلم حتى يعي. ولولا غفلة الساسة ما كان وعي الأمة. ولولا عبث فاروق ما كان جد الجيش.

ولم يكن فسوق الخليع شراً كله؛ فان الله الذي يخرج الحي من الميت، ويبني الكون من الفساد، ويخلق الترياق من السم، قد جعل من سقوطه رفعة للشرق أدانيه وأقاصيه

كانت سقطته عن العرش رجة في جميع الأرض؛ فتحت الأعين، وجرأت القلوب، وزلزلت الأوضاع، فبرقت في سورية بروق الأمل، وانقشعت في السودان غيوم الحذر، ورعدت في تونس ومراكش رعود الثورة

كان الأدب في العهد البائد صوراً متنافرة من القلق والملق والنفاق والتقية والجبن؛ لأن الأديب لم يجد رعاية من الملك لأنه جاهل، ولا عناية من الشعب لأنه غافل؛ فاضطر إلى أن يهاوى أصحاب الحكم ليسلم، ويصانع رجال السياسة ليغنم، ويتملق دهماء الناس ليعيش وكان الملك على جهله بالأدب وبعده عن الدين، تنظم في مدحه القصائد الغر، وتحرر في فضله الفتاوى البكر، وتركب وزارة الأوقاف ونقابة الأشراف المركب الوعر لتجدا لسليل الترك والفرنسيين نسبة مباشرة إلى الرسول العربي القرشي محمد بن عبد الله! ولم يكن كل ذلك سبيل الزلفى إليه ولا التفوق لديه، وإنما كان السبيل إليهما مهارة في الصيد، أو براعة في القمار، أو كفاية في كسب المال، أو لباقة في جلب المراء. والناس على دين ملوكهم. والأدب يكون كما يكون الناس.

أما الأدب في العهد البادئ فالمرجو أن يكون مستقلاً كدولته، حراً كلمته، صريحاً كسياسته، نقياً كطبيعته، متسقاً كمجتمعه. والمظنون أن سيكون لجهاد (الإخوان) أثر بالغ في هذا

ص: 2

العهد. وانتصار الإخوان انتصار للقرآن، وعودة السلطان إلى القرآن عودة لسلطان اللغة والبيان؛ فإنهما لسان الله بالوحي، ومعجزة الرسول بالتحدي، وأسلوب الرسالة في الدعوة. وسيزدهران بازدهاره، وينتشران بانتشاره، ويخلدان بخلوده.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌كلمات خمس

لحضرة صَاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت

طالعتنا النهضة الجديدة بخمس كلمات، لو أمعنا النظر فيها وعرفنا دلالتها ومغزاها، ثم رجعنا إلى تاريخ المجتمعات البشرية، وتتبعنا العوامل التي هيأت لها القوة في أطوار قوتها، والعوامل الأخرى التي أنزلت بها الضعف في أطوار ضعفها - لوجدنا هذه الكلمات تعبيراً صادقاً عن عوامل الضعف التي يجب أن تكافح، وأن تقضي عن محيط الحياة الجماعية للإنسان، ولوجدناها في الوقت نفسه تعبيراً صادقاً كذلك عن العوامل التي يجب أن تتخذ أساساً لبناء المجتمع عليها. تلكم الكلمات هي: التحرير، والتطهير، والاتحاد، والنظام، والعمل.

كلمات خمس، نطقت بها طبيعة إنسانية بريئة، صيغت على الإيمان بالله واستشعار عظمته، وتفرده بالملك والسلطان، فلم يمسها دنس الطغيان، ولا خبث الرجس ولا عصبية التفرق، ولا عبث الفوضى، ولا ترف العجز والكسل. وكان منها العلاج القوي من جراثيم المرض الذي يقعد بالمجتمعات عن مواصلة السير في سبيل الحياة النافعة، وكان منها مزيج القوى التي تدفع بالمجتمعات إلى بلوغ أقصى درج الكمال الممكن للإنسان في هذه الحياة.

وهي بعد هذا وذاك تصور بمعناها ووحيها المبادئ الإلهية التي جاء بها الإسلام ليعتمد الإنسان عليها في الوصول إلى الأهداف السامية النبيلة، ويحقق بها حكمة استخلافه في الأرض. فالإسلام يدعو إلى تحرير العقل من أسر الوهم والتقليد، ويدفع بالإنسان إلى النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ، ليتعرف أسرار الله في خلقه، ونواميسه في كونه، ويتخذ منها وسائل العمران والتقدير. وهو المعبر عن خصائص ما خلق الله، يقرر أن للإنسان إرادة مستقلة هي أساس مسئوليته، ومرجع محاسبته، وبها تتحقق إنسانيته، وبها يكون جزاؤه، ويعلن أن على الإنسان أن يحتفظ بتلك الإرادة احتفاظه بإنسانيته، وأن على الجماعة البشرية أن تمكنه من الاحتفاظ بها والرجوع إليها، وبذلك لا يقبل الإسلام من الإنسان وقد كرمه الله هكذا بالعقل والإرادة أن يطفئ مصباح الكون على عقله، ولا أن يسلم عقله لعقل غيره، ولا أن يذيب أرادته في إرادة غيره، ولا أن يجعل نفسه ظلا لغيره: يسكن إذا سكن، ويتحرك إذا تحرك، وينحرف إذا انحرف ويستقيم إذا

ص: 4

استقام، ويؤمن إذا آمن، ويكفر إذا كفر، وأخيرا يحيا إذا حي، ويموت إذا مات.

وفي سبيل هذا كله فتح الله للإنسان كتاب كونه، وأرشده إلى أبواب ثمانية في أية واحدة من كتاب وحيه، ثم ذيلها بما يوجه أرباب العقول إلى ولوجها واستثمار ما يصلون إليه منها في قوة الإيمان، وتقدم الحياة. واقرأ في ذلك قوله تعالى:(وإلهكم إله واحد، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحابالمسخر بين السماء والأرض، لآيات لقوم يعقلون). ثم قرأ قوله تعالى في تحرير العقل ونعيه الشديد على من أهمل عقله، وحرم نفسه نعمة النظر والتفكير (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ؟) وقوله (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) وقوله (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون. قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون، فانتقمنا منهم فأنظر كيف كان عاقبة المكذبين).

ثم أُنظر قوله تعالى في تحرير الإرادة واحترامها (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا). وقوله حكاية عن موقف الأتباع من المتبوعين بعد أن أسلموا إليهم إرادتهم وحريتهم، وعاينوا مسئوليتهم وحسابهم على ذلك (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم ضعفا من العذاب، قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون). (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار).

بتحرير الإسلام عقل الإنسان وإرادته هكذا، كافح أن يستعبد الإنسان فمنع أن يسترقه بالبيع والشراء، وقصر ذلك على أن يكون جزاء لمن حارب دعوة الله ووقف في سبيلها، وقاتل المؤمنين بها، لا شئ سوى أنهم آمنوا بها، ومع ذلك فقد حبب في فك رقابهم وكفر به كثيراً من الأخطاء الدينية، وجعل فك الرقبة، العقبة التي إذا ما اقتحمها الإنسان كان من أصحاب الميمنة (فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيماً

ص: 5

ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة).

ومنع أن يسخر الإنسان بالعمل والخدمة، وأن يتخذه آلة في سبيل شهوته وهواه، وجعل قيام الناس بالقسط، وتمكين كل ذي حق من حقه - فردا كان أم جماعة - الهدف الذي جاءت به الرسل، ونزلت لأجله الكتب (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).

وإذا كملت للإنسان حريته في عقله وإرادته، واستقام له أن يفكر وأن يريد، وارتفعت عنه يد الضغط والتسخير، وجب عليه أن يخطو الخطوة الثانية، فيطهر نفسه من الأخلاق الرديئة التي تنزل بإنسانيته عن المستوى الذي كرمها الله به، والتي تفسد عليه وجوه الانتفاع بحريته؛ فلا يحقد، ولا ينافق، ولا يجبن، ولا يبخل، ولا يشي، ولا يكذب، ولا يخون، ولا يرجف.

وعنصر التطهير الخلقي كان من أوائل ما وضع في مهمة الرسالة المحمدية (قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، وربك فاصبر).

وقد بينت الرسالة عليه جميع أحكامها حتى حرمت الغش، والاستغلال، والتغرير في المبادلات المالية.

وإذا كملت للإنسان حريته، وطهرت نفسه كما أمر الله، صار لبنة صالحة لبناء مجتمع فاضل، منه ومن أمثاله الذين كملت حريتهم وطهرت نفوسهم، وبتساند تلك اللبنات الصالحة، وتعانقها، تصير الجماعة قوة واحدة، لها شعارها، ولها هدفها، يؤثر الفرد فيها حاجتها عن حاجته، وترى هي أن حاجة الفرد من حاجتها، وذلكم هو الاتحاد المجمع للقوى، المحقق للتعاون، وقد طلبه الإسلام في الجماعات كلها، صغيرة كانت أم كبيرة: طلبه من أبناء الأُسرة الواحدة (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وطلبه من أبناء الدين الواحد (إنما المؤمنون إخوة. والمؤمنات والمؤمنون بعضهم أولياء بعض). وطلبه من أبناء الوطن الواحد (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش، قليلاً ما تشكرون). امتن على الجماعات الإنسانية بأن مكن كل جماعة منها في أرضها وإقليمها، وبأن وهبهم فيها موارد العيش والرزق والحياة، وأوحى إليهم بالمحافظة عليها، واستثمارها، والانتفاع

ص: 6

بها، شكراً على تلك النعمة: فمن الكفر بها أن تتخاذل الجماعة عن الدفاع عنها؛ واستخراج كنوزها.

ثم طلب الاتحاد بعد ذلك من أبناء الإنسانية جميعاً، وفي سبيله ناداهم بوصف الإنسانية العام، وأعلنهم بوحدة الأصل الذي يجمعهم في رحم عامة واحدة (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منها رجالاً كثيراً ونساء)(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).

هكذا طلب الإسلام (الاتحاد) وجعل لكل جماعة من هذه الجماعات حقوقاً خاصة تساهم فيها أفرادها، وتتعاون عليها، دون أن تطغي حقوق على حقوق، وهذا هو دين الله ونظامه الذي أمر الناس أن يتمسكوا به، ويستظلوا بظله، وحذرهم أن يتفرقوا فيه (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شئ) وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).

وبهذا قضي الإسلام فيها بين الناس على نوازع العصبية: الجنسية، والإقليمية، والحزبية، والأُسرية. وجعل من بني الإنسان وحدة عامة شاملة، تعمل لغاية واحدة، هي: عمارة الكون على نحو يملؤه بالأمن والاستقرار، ويكون مظهراً لرحمة الله بعباده.

وإذا اتحدت القلوب هكذا، وتبادلت الشعور بالحاجة، لزم لاستثمار هذا الاتحاد في الوصول إلى الأهداف، تنظيم القوى، وسيلة توجيه كل قوة إلى العمل فيما تحسن وتجيد؛ فقوى العلم للعلم، وقوى التجارة للتجارة، وقوى الزراعة للزراعة، وقوى الصناعة للصناعة، وبذلك تسند الشؤون إلى أربابها، ولا يطغي ذو شأن على ذي شأن، فتضطرب القوى وتصطدم الرغبات، وتصاب الجماعة بالكساد وشلل الإنتاج. وذلكم هو (النظام) الذي بنى الله عليه كونه، وجعل لكل عنصر من عناصره في أرضه وسمائه عمله الخاص، وإنتاجه الخاص، ثم لفت إليه نظر الإنسان ليتخذ منه المثال الذي يحتذ به في حياته. وأُنظر نظام الله في كونه:

للشمس الضياء، وللقمر النور وسحاب المطر، ثم للوحي ملك، وللجبال ملك، وللنفخ في الصور ملك، وللأرض الزرع والسكن، وللماء في الأنهار والبحار الري والسقي، وللإنسان في الأرض السعي والعمل، وللجماد والحيوان التسخير. (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار

ص: 7

فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون).

(سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى). وما التقدير وما القدر في هذا وأمثاله إلا نظام الله الذي سوى عليه العالم وجعله يسير بمقتضاه.

هذا نظام ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?

ص: 8

أما بعد

فهذه هي مبادئ النهضة لمن يريد أن يفهم النهضة؛ وهي مبادئ الإسلام لمن يريد أن يدين بالإسلام، فابنوا حياتكم عليها، واتخذوا (الإيمان بالله وشرعه) جنتها، يحفظها الله لكم ويرعاها، ويمكن لكم في الأرض، ويجعلكم أئمة ويجعلكم الوارثين (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

محمود شلتوت

ص: 9

‌صوت من نجيب فهل من مجيب

لصاحب الفضيلة الأُستاذ محمد البشير الإبراهيمي

شيخ علماء الجزائر

حضرت قبل أسابيع حفلة تكريم للقائد الشعبي العظيم محمد نجيب، أقامتها جمعية من الجمعيات العاملة للإسلام، وسمعت خطباً عادية في المعنى الذي أُقيمت له الحفلة، وسمعت قطعة من الشعر، أشهد إنه شعر حي صادق في تصوراته وتصويراته، وأنه مس مكامن الإحساس مني حينما مس فلسطين، وكأنما غمز من قلبي جرحاً مندملاً على عظم، ثم سمعت في الأخير كلمة القائد البطل، وكان أقلها عن مصر وحركة الجيش وأسبابها وأهدافها، وأكثرها عن فلسطين وحربها وحالةأهلها المتشردين

وأقول: القائد ولا أقول: الرئيس؛ لأنني كنت أسمع كلام قائد لا كلام رئيس، وكنت أسمع كلامه فافهمه بمعنيين: معنى هو الذي تفيده الألفاظ والتراكيب، وينتقل بالسامع من خبر إلى خبر ومن وصف إلى وصف، ومعنى أخر مساوق له ممتد معه، وهو أن هذا الكلام نفسه قائد. . فيه من القيادة أمرها ونهيها وحزمها وصدقها وواقعها وتوجيهها ومضاؤها وجرأتها وجميع خصائصها، فافهم من ذلك كله إن القيادة هي صفته الذاتية، خلقت معه مستسرة في روحه ودمه، ولونتها فطرته السليمة، وكونتها تربيته الشعبية، كما أن الأقدام هو صفة الأسد الذاتية التي خلقت معه؛ فلما أدت قيادته العسكرية رسالتها وبلغت مداها انقلبت قيادة شعبية سماها العرف رياسة، وما هي - في الحقيقة - إلا امتداد لقيادته العسكرية، والقائد القوي الخصائص، في الأُمة الكثيرة النقائص لا يزال يخرج من حرب إلى حرب ويدخل من قتام في قتام.

سمعت كلمات القائد متئدة رزينة، فلما لمست فلسطين ظهرت شجية حزينة، فنطق بالصدق، ولا أصدق من شهادة عيان، محمد نجيب إذا تكلم عن حرب فلسطين، وصور نكبة فلسطين، كان الرواية الثقة والضابط العدل. وقد حلل تلك السبة الخالدة، وعللها باثنتين: قبول الهدنة وفقد السلاح. ثم برأ الشرف العسكري العربي كله من وصمة التخاذل، ولم يعرج على التخاذل السياسي بين ملوك العرب وساستهم، ولكن عده لقبول الهدنة أحد سببي النكبة، وأبلغ من التصريح، في الاتهام والتجريح، فان الراضين بالهدنة هم رؤساء

ص: 10

الحكومات العربية من ملوك وساسة لا قادة الجيوش.

كانت كلمات القائد البطل عن فلسطين تمس نفسي - وهو يلقيها - مسة الكهرباء فتحرق ولا تضيء، لأنني - يشهد الله - كنت وما زلت من أشد الناس اهتماماً بالحادثة، ثم من أشدهم التياعا بالكارثة؛ فإذا فاتني - لشقوتي - أن أشارك في وقائعها بجسمي، فلم يفتني أن أشارك فيها بقلمي فكتبتمقالات نارية المعنى قاسية الألفاظ تكاد ترسل شواظاً من نار ونحاسا على المتسببين في تلك الهزيمة المنكرة، بغير أسبابها المعقولة عند الناس، ولكن بسبب لا يستسيغه عقل عاقل وهو قبول الهدنة. . . لذلك كانت كلمات القائد تفيض من نفسه الجريحة وكأنما تفور من نفسي. حتى إذا سكت عن ساسة العرب أحسست بانفعال كنت أتمنى أن أسكنه بشهادة حق من القائد الصادق عليهم تؤيد عقيدتي فيهم؛ فإن شهادة الحق تؤيد الحق حتى لكأنه حقان.

وتكلم القائد البطل عن أولئك البائسين الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: وطننا فلسطين، والذين نسميهم مشردين ونحن شردناهم بما كسبت أيدينا، ووصف وصف المعايشين ما يلقون من شقاء وما يتجرعونه من غصص؛ وبدأ صوته يرتفع ويتهدج وعيناه تغرورقان بالدموع فتشهد بأنه يغالب أسى كميناً وهما دفينا. وكانت الجمل العبقرية التي تساوي الدم الذي سال من جسمه على ثرى فلسطين هي قوله:(كيف نلتذ بالطعام، وننعم باللباس والدفء، وإن إخواننا ليتضورون من الجوع، ويفترشون الغبراء؟ لماذا لا نصوم يوماً من الأسبوع عن اللحم. أو أسبوعاً من الشهر عن هنة من هذه الكماليات. ثم نرصد ثمنها لإطعام إخواننا الفلسطينيين وكسوتهم؟ إن الإمساك عن اللحم يوماً من الأسبوع أو عن الكماليات أسبوعاً من الشهر لا تميتنا وكنها تحيي إخواننا). ثم رمى السامعين بالآبدة التي ظننت أن الجباه تندي لها عرقاً، إن لم تنخلع القلوب منها فرقاً، وهي قوله (إن من العار أن نطلب لهم الحياة ممن أماتهم، ونسألهم القوت من الدول العاتية التي حكمت عليهم بالموت جوعاً، وحكمت علينا بالانحناء ذلاً ومهانة).

حقائق جلاها القائد على مئات من السامعين، وما منهم إلا من له نباهة وذكر ومقام. جلاهافي جمل حاكية، تحتها معان باكية؛ وشرحها الوافي ينتزع مما يتصوره المتصورون. ويصوره المصورون من حال أولئك البائسين. وينتزع من تخاذل العرب ملوكاً وحكومات

ص: 11

وسادة وكبراء وشعوباً حتى ضاعت فلسطين وجاع أهلها، وتنتزع من حالة المسلمين المغفلين الذين ما زالوا - وهم ذوو عدد -

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

وما زالوا يطلبون الصدقة ممن سلبهم، وما زالوا يفزعون كلما لطمهم اليهود إلى الاحتجاج. وما زالوا يطرقون أبواب هذا الهيكل الخرب الذي يسمى جمعية الأمم المتحدة.

أنا لا أتحدث عن قلوب السامعين ومواقع الكلام القائد منها. ولا أملك لها أن تكون خلية أو شجية؛ وإنما أتحدث عن قلبي. فوالذي خلق القلوب مضغاً سوداء وبث فيها شعلاً من النور، لكأنما كانت تلك الكلمات على قلبي نبالاً تنثال على هدف، ونصالاً تتوالى على جريح. يا للعجب العاجب! فيؤمن المسلم بأن المسجد الأقصى هو قبلته الأولى وأنه ثالث المساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد التساجد ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?

ص: 12

كأنما ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ماذا ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? نهلك. وحكم سننه فينا فحكمت بأن نملك ولا نملك. فعودوا يعد، وغيروا يغير، وحققوا الشرط يحقق الجزاء.

محمد البشير الإبراهيمي

ص: 17

‌فيم أكتب!

للأستاذ محمود محمد شاكر

إلى أخي الأستاذ الزيات

السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد، فقد دعوتني فاستجبت لك، رضى بك وعنك. بيد أني أحببتك ساخطاً على نفسي، والجمرة الموقدة أبرد مساً من سخطة امرئ على نفسه. كنت عزمت أن أدع هذا القلم قاراً حيث هو، في سنة لا تنقطع، يعلوه صدأ لا ينجلي. وظللت أياماً أسأل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء والنصب؟ علام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟

بقي ما كتبته لك آنفاً معلقاً يوماً كاملاً، حتى خلتني مخلفاً لك موعدي. والساعة ذكرت أمراً: ذكرت أني ختمت مقالاتي المتتابعة في الرسالة، منذ خمس سنوات تقريباً، بسؤال آخر:(لمن أكتب؟). وقلت يومئذ إني لم أحاولقط أن أعرف لمن أكتب؟ ولم أكتب؟ ولكني أحس من سر قلبي أني أكتب، ولا أزال أكتب، لإنسان من الناس لا أدري من هو، ولا أين هو. أهو حي فيسمعني، أم جنين لم يولد سوف يقدر له أن يقرأني؟ ووصفت يومئذ شراذم الساسة الذين لوثوا تاريخ الحياة الإسلامية والعربية، في حيث كان الإسلام وكانت العرب. ووصفت رجال العلم المتعبدين لساداتهم من أهل الحضارة الفاسدة التي تعيش بالمكر والحقد والفجور. ووصفت أصحاب السلطان في الشرق، وهم حثالة التاريخ الإنساني، ووصفت أهل الدين، ألا من رحم ربك، الذين يأكلون بدينهم ناراً حامية. وزعمت أني لن أيأس من رجل أو رجال توقظهم هذه البلوى المطبقة المحيطة بنا، فيدفعهم حب الحياة وحب الخير، إلى نفض غبار القرون عن أنفسهم.

ثم ذكرت هذا الرجل الذي طواه الغيب إلى ميقاته، فأنا أكتب له حتى يخرج من غمار هذا الخلق، وينفرد من هذه (السائمة)، ليقود الشعوب بحقها لأنه منها: يشعر بما كانت تشعر به، ويألم لما كانت تألم له، وينبض قلبه بالأماني التي تنبض به ضمائر قلوبها. رجل خلطت طينته التي منها خلق، بالحرية. فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبداً لأحد من خلق الله. يسير بين الناس، فتسرى نفسه في نفوسهم، وتموج الحياة يومئذ بأمواجها، ثم لا يقف دونها شئ مهما بلغ من قوته وجبروته. وزعمت أن الشرق العربي والإسلامي، ينتظر صابراً

ص: 18

كعادته هذا الرجل، وأننا قد أشرفنا على أمره قد كتب الله علينا فيه: أن نجاهد في سبيله، ثم في سبيل الحق والحرية والعدل، لأننا نحن أبناء الحق والحرية والعدل، قد أرضعنا الدهر بلبانها منذ الأزل البعيد.

ثم ختمت كلامي بهذه الفقرة: فأنا إن كتبت، فإنما أكتب لأتعجل قيام هذا الرجل من غمار الناس، لينقذنا من قبور جثمت علينا صفائحها منذ أمد طويل. وليس بيننا وبين هذا البعث إلا القليل، ثم نسمع صرخة الحياة الحرة العادلة، يستهل بها كل مولود على هذه الأرض الكريمة، التي ورثناها بحقها، ليس لنا في فترمنها شريك).

كتبت هذا يومئذ، والناس في ظلمة ليل بهيم. ومنذ ذلك اليوم والأحداث في الشرق العربي والإسلامي آخذ بعضها برقاب بعض. وحركت الأحداث المتتابعة نواعس الآمال، فهبت تمسح من عيونها النوم المتقادم. ثم حملقت في أكداس الظلام المركوم، فأوهمتها اليقظة أن الظلام من حولها يومض من بعيد ببصيص من نور. فتنادت الصيحات بانقشاع الظلم: وا فرحتاه! وصرخت أنا في محبسي: وا حسرتاه! أعمى رأى الظلام نهارا!

كانت الدنيا يومئذ ظلاماً، ونعرفها نحن ظلاما. والمعرفة دائماً تفضي إلى خير. ثم أصبحت الدنيا أشد ظلاما. ونتوهمها نحن نورا ينبثق. والتوهم عماده الكذب. ولا فلاح لشيء إلا بالصدق وحده.

لقد طرأت على هذا العالم العربي والإسلامي طوارئ، فإذا لم يصدق نفسه فلا نجاة له. واحتوشته الأمم المفترسة بأساليبها الظاهرة والخفية. فإذا لم يصدق النظر فلا خلاص له. لست قانطاً ولا مقنطاً. كما يتوهم من يحب أن يتوهم. ولكني أرى بلاء نازلاً بنا. ونحننخوضه كأنه رحمة مهداة. وبئس ما نفعل؟ وبئس مطية الأعمال الكذب.

من حيث أتلفت أرى وجوها تكذب، ووجوها مكذوباً عليها. وأسمع أصواتاً تخدع، وآذاناً مخدوعة بما تسمع. وأقرأ كلاماً غمس في النفاق وفي التغرير غمساً. وألمح في عيون المساكين ممن قرءوه غفلة تتلألأ بفرحة ولكنها فرحة لا تتم عليها إلا بالعمى المطبق عن الحق والصواب. إن هذا كله إعداد للمجزرة الكبرى. حيث تذبح الآلاف المؤلفة منا بمدى حداد استخرج حديدها من معدن القلوب المضطغنة بالعصبية، المنهومة بالمنفعة. وأمهاها ماء الحقد الصليبي الوثني؛ وأرهفت بلذة الفتك الذي لا تطفأ ناره.

ص: 19

إن الذي نعيش فيه اليوم حياة قد مهد لها جبابرة الدهاة؛ لا أقول منذ عام أو عامين، بل منذ أكثر من مائتي عام. حطم كل شئ قليلاً قليلاً حتى خر البناء كله. ثم انبعثت من تحت الأنقاض حياة خبيثة تلبس إهاب البشر. غذيت بالسم الذعاف حتى صارت لحماً وسما. لا لحماً ودماً؛ ولا يعنيك أو يعنيني أن ننظر: أهي تعرف نفسهاوتدرك أنها مسخت أفاعي في مسلاخ إنسان، أم تراها لا تعرف ولا تدرك؟ بل يعنينا - ويعنيها هي أيضا - أن نصدق المعرفة أنها حيات تنفث سمها في حياة الناس؛ في حياة الغافلين النائمين. فمن استعصى عليها فتكت به؛ ومن أطماع لسمها مسخ كمثلها حية تسعى. فإذا قدر لهذه الحيات أن تبلغ الغاية التي مسخت لها؛ فلن يتم ذلك حتى تكون الأرض العربية والإسلامية كلها خراباً من البشر الأحرار؛ خراباً تعمره العمار من أفاع وحيات وأصلال.

من مخافة هذا اليوم كنت أكتب قديماً ما استطاع هذا القلم أن يكتب، ثم وجدتني فجأة في موج متلاطم من الضلالات، تتقاذفه ضلالات العلم المكذوب، وضلالات الرأي المدلس، وضلالات السياسة الخداعة. وإذا الأرض من حولي تعج بترتيل مظلم مخبول؛ وإذا السماء من فوق تهتف بتسبيح كالح مزور؛ وإذا صوتي يضيع في سمعي؛ فهو إذن في أسماع الناس أضيع؛ وتردد في صدري شعر الحكمى؛ فاستمعت له وسكت:

مت بداء الصمت خير

لك عن داء الكلام

إنما السالم من

ألجم فاه بلجام

فلما دعوتني فأجبت، انقلبت أسائل نفسي: فيم أكتب؟ فيم العناء والنصب؟ علام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟ إن بيني وبين الأسماع والأبصار والقلوب، حجاباً صاخباً من غماغم الدجاجلة، وهماهم الأفاكين، وثغاء أهل الغش، وضغاء أخدان النفاق. . . ويذهب قولي باطلاً ويضيع صوتي مختنقاً، ولم أجن عندئذ عن حياتي إلا شقاء يقول فيه القائل:(إن الشقي بكل حبل يخنق)، حتى حبل الحق والصدق!. وإنك لتعلم: أن لو أني عرفت للكتابة ثمرة، لما توقفت ساعة، ولما أبطأت دون ما وجب على

بأي لسان أستطيع أن أفتق للناس أسماعها غير الأسماع التي طمها الكذب المسموع؟ وبأي قلم أستطيع أن أسلخ عن العيون غشاوة صفيقة لبسها الكذب المكتوب؟ وبأي صوت أستطيع أن أنفذ إلى قلوب ضرب عليها نطاقمن الكذب المسموع والمكتوب؟ وبأي لسان، و

ص: 20

بأي قلم، وبأي صوت؟ ولكنه، على ذلك كله واجب، وإن كان جهد لا ثمرة له! وهو كذلك، وإذن فليس لي أن أسأل نفسي: فيم أكتب؟ ولم هذا العناء والنصب؟ وعلام أزهق أيامي في باطل لا ينقشع؟

وإذن فقد كتب على أن أنصب وجهي لهذا الشقاء الصبيخود، لا أبالي أن أحترق، ولا أحفل أن أعود سالماً، ولا آبه لما يصيبني، ما دام حقاً علي أداؤه.

إنها أيام بلاء ومحنة: من عدونا حيث بلغ منا كل مبلغ، من أنفسنا، حيث صار كل امرئ منا عدو نفسه وعقله، عدو تاريخه وماضيه، عدو مستقبله من حيث يدري ولا يدري. وإنها أيام ضلال وفتنة، تدع الحليم الركين حيران، بلا حلم ولا ركانة، تدع البصير المهتدي، أعمى بلا بصر ولا هداية. تدع الصادق الحازم، غفلاً بلا صدق ولا حزامة. ولكنها على ذلك كله، كتبت على الحليم الركين، وعلى البصير المهتدي، وعلى الصادق الحازم - أن يعيش في شقائها بلا ملل، وأن يكون فيها كما قال شاعر الخوارج، عمران بن حطان، في أهل الدنيا:

أرى أشقياء الناس لا يسأمونها

على إنهم فيها عراة وجوع

فمنذ حملت إليك هذا القلم، استجابة لدعوة لم أجد ردها من الأدب ولا من الوفاء في شئ، عرفت أني سوف أكتب كما كتبت قديما، لأتعجل انبعاث رجل من غمار أربعمائة مليون من العرب والمسلمين، تسمع يومئذ لحكمته الأجنة في بطون أمهاتها، وتهتدي بهديه، الذراري في أصلاب الآباء والأمهات.

ولكنك بعد، قد أنزلتني بحيث يقول القائل:

حيث طابت شرائع الموت، والمو

ت مراراً يكون عذب الحياض

فأنا إن شاء الله بحيث أحببت لي أن أنزل، والسلام.

محمود محمد شاكر

ص: 21

‌هذه الثورة. . من صنعها

للأستاذ محمد سعيد العريان

ليس الأدب بمعزل عن السياسة، وما ينبغي أن يكون عنها بمعزل؛ فإن الأدب بمعناه الرفيع، هو الذي يوجه الإنسانية المعاصرةإلى مثلها العليا، ويسددها إلى أهدافها البعيدة، ويرسم لها الطريق إلى الحياة الفاضلة التي يجب أن تكون. والسياسة بمدلولها العام هي معنى قريب من ذلك؛ لأنها - فبما يزعم أهلها - هي التي توجه الناس أو توجه حياة الناس الوجهة التي تتحقق بها مثلهم العليا ويبلغون أهدافهم البعيدة، وتمهد لهم الطريق إلى الحياة الفضلى؛ فليس الأدب والسياسة إذن في الاصطلاح الحديث إلا كلمتين تقعان على معنى واحد أو معنيين متقاربين في الوسيلة متحدين في الغاية. وقد مضى العصر الذي كان يقال فيه لبعض المشتغلين بالأدب، أو لبعض المشتغلين بالسياسة: هذا من الأدب وهذا ليس منه. فقد كان ذلك في زمن لم يكن الأدب فيه إلا فناً من فنون القول لا من فنون التوجيه. أما اليوم فان الأدب هو الذي يوجه الساسة قبل أن يوجه الجماهير؛ لأنه يصنع للساسة برامجهم التي يقودون باسمها الجماهير. . .

تلك حقيقة مؤكدةلا سبيل إلى نقضها، وفي السياسة العربية المعاصرة آلف دليل عليها؛ فقد تغني أدباؤهم بالحرية قبل أن يهب في البلاد العربية كلها زعيم واحد للدفاع عن الحرية، فلما صار غناهم بالحرية وجداناً يتجاوب في ضمائر الجماهير، أوجد ذلك الوجدان زعماء الدعوة إلى الحرية.

وقد تغني أدباؤهم بالوحدة العربية قبل أن يجرؤ زعيم عربي واحد أو يخطر على باله أن يدعو لوحدة عربية؛ فلما جرت أغنيتهم بالوحدة مجرى الدم في نفس كل عربي بين ساحل الأطلسي وجبال الكرد، نشأ الزعيم، أو نشأ الزعماء الذين يدعون إلى وحدة عربية.

وكانت الدعوة إلى المساواة وإلى رعاية حق الفقراء في ثروات الأغنياء، هتافاً أدبياً ينظمه الشعراء ويتحدث عنه الأدباء ويقصه أهل القصة، قبل أن يكون مذهباً سياسياً يتمثل في قوانين ولوائح وبرامج أجزاب سياسية.

وما تزال على ألسنة الأدباء وعلى أطراف أقلامهم، دعوات إنسانية أخرى، لم تتبلور بعد معانيها أو تتخذ مدلولاتها لتخرج من نطاق الشعر والقصة والمقال المكتوبة والأغنية

ص: 22

الهازجة، إلى أن تكون برنامجاً من برامج الإصلاح لحزب سياسي جديد او حزب قديم متجدد، ولكنها ستبلغ هذه الغاية يوماً، فتضيف الأحزاب السياسية إلى برامجها مواد جديدة لم تزل اليوم فصلاً من كتاب أو رواية من قصة أو مقطعا من أغنية.

آمنت بهذه الدعوة منذ كنت، ويؤمن بها معي المئات أو الآلاف من كل ذي رأي وذي بيان؛ وما أرى أحداً غير هؤلاء المئات أو هؤلاء الآلاف حقيقاً بأن يسمى أدبياً، لأن الأدب إن لم يكن توجيهاً فهو ليس إلا ببغاوية خرساء، لها صوت وليس لها صدى. . .

والآن إذ تقررت هذه الحقيقة فإني أدعو إلى الكلمة التي جعلتها عنواناً لهذا المقال، فأسأل عن هذه الثورة التي نعيش في أحداثها المتتابعة منذ 23 يولية الماضي. . . من الذي صنعها؟. . .

قبل مولد الصبح من يوم الأربعاء الثالث بعد العشرين من شهر يوليو، كان بضعة نفر من خيار المصريين على صهواتهم، أو على دباباتهم، يريدون أن يقتحموا حصناً منيعاً من حصون التاريخ. فلم يكد يشرق صباح ذلك اليوم حتى كان كل منهم على باب من أبواب ذلك الحصن يقرعه قرعاً متصلا، فلم تلبث مغاليقه أن تحطمت، فإذا هم وقوف في ساحة الحصن ترفرف على رءوسهم الراية التي لم ترفرف على رأس مصري منذ انهارت مقاومة طومان باي في وجه الغزاة العثمانيين منذ أربعة قرون ونصف قرن؛ وبدأ الزمن من يومئذ يكتب صفحة جديدة في تاريخ مصر، وما زال من يومئذ يكتب كل يوم فصلاً جديداً. . .

كان من صباح الأربعاء الثالث بعد العشرين من يولية الماضي، فهل يكون يوم الأربعاء ذاك، وهو أول تاريخ تلك الثورة، أو مولد تاريخها؟. . .

هذا هو السؤال في صورة أخرى. . .

ولكن المصريين في ذلك اليوم لم يكونوا بمعزل عن تلك الحركة التي كانت هي أول الثورة في عرف المؤرخ الواقعي؛ فقد كان في نفس كل مصري من الملايين العشرين ثورة تضطرم، فما كاد يرتفع هتاف أولئك النفر من خيارهم حتى رجعت صداه تلك الملايين، فإذا هي ثورة شعب كامل لم يتخلف عن موكبها فرد منه. فهل كان أولئك الملايين العشرون شركاء في التدبير وفي رسم الخطة وفي السعي على ذلك الطريق المظلم قبل مشرق

ص: 23

الصبح بساعات إلى أبواب ذلك الحصن المغلق؟ وهل كانوا على علم بصير بالمنهج وبالقيادة وبالنتائج قبل أن ينكشف شئ من ذلك للعيان؟

هذا افتراض تأباه طبائع الأشياء؛ فلم يكن لأولئك الملايين العشرين شأن في التدبير، ولا مشاركة في رسم الخطة، ولا صحبة على ذلك الطريق المظلم، ولا علم بصير أو علم مستنبط بالنهج والقيادة والنتيجة؛ ولكنهم مع ذلك كانوا مؤمنين بأنهم هم الثائرون، الساعون إلى حصن الظلم والظلام لتحطيمه ودك بنيانه. وكان الهتاف والفرح فرحهم؛ لأن الفوز كان منسوباً إليهم جميعاً لا إلى بضعة نفر منهم؛ فهل يكون ذلك إلا دليلاً على أن هذه الثورة التي بدت طلائعها للعيان في ذلك الصباح، ولم يكن ذلك الصباح أول ميلادها، لأنها كانت مولوداً نامياً من قبل ذلك التاريخ بأمد بعيد!. . .

وإذن فمتى كان ميلادها الحقيقي؟. . .

هذا هو السؤال في صورة ثالثة. . .

إنها ثورة، وهي ثورة عارمة انبثقت من إحساس الملايين، وهي بعيدة الميلاد الحقيقي عن اليوم الثالث بعد العشرين من شهر يولية؛ كالبذرة الحية في الأرض الخصبة تغطيها طبقات من التراب، ويتعاورهاالحر والبرد، ويتعاقب عليها الجفاف والمطر، وتتقلب عليها رياح الشمال ورياح الجنوب؛ ولكنها لا تنبت إلا حين يحين موعد نباتها؛ فليس أول تاريخها هو اليوم الذي نجمت فيه على سطح التربة، لأنها ذات تاريخ قديم تحت التراب؛ وإنما أول تاريخها يوم حفر لها غارسها في الأرض ثم قال لها انتظري حتى يحين موعد نباتك؛ فمن الذي أودع بذرة تلك الثورة هذه الأرض الخصبة وقال لها انتظري يوماً مثل يوم 23 يولية؟

هذا هو السؤال في صورة رابعة، وهو هو السؤال الذي جعلته عنواناً لهذا المقال!. . .

إنما أودع تلك البذرة هذه الأرض، أحرار الفكر وأصحاب البيان وذوو الأقلام والألسنة، منذ كان في مصر خطيب وقاص وشاعر وكاتب وذو بيان. . .

أولئك الأدباء الأحرار الموجهون، هم صانعو تلك الثورة؛ لأنهم هم، ولا أحد غيرهم، الذين أودعوا الأرض تلك البذرة التي استكنت إلى موعدها؛ فلما حان موسم النبات انطلق أولئك النفر الأخيار على صهواتهم، أو على دباباتهم، ليقتحموا ذلك الحصن المنيع من حصون

ص: 24

التاريخ؛ فاقتحموه. وكان انطلاقهم كهبوب نسيمات الربيع على الأرض الخصبة، أذاناً بحلول موسم الإنبات؛ فانفرق التراب عن النواة، وانفلقت النواة عن الشجرة، ثم كانت الزهرة والثمرة، واستكملت الثورة مظاهرها. . .

ادرسوا أدب ما بين الحربين، واقرءوا كل حرف وكل كلمة وكل نغمة مما كتب الكاتبون أو نظم الناظمون أو قص القصاص أو غنى المغنون خلال تلك الفترة، تعرفوا على وجه اليقين من الذي صنع هذه الثورة. . .

بلى إنها ثورة سياسية بعيدة المدى، ولكنها قبل أن تبدو طلائعها بسنين، كانت ثورة مفكرين أحرار!

مفكرونأحرار، أودعوا بذرتها هذه الأرض الخصبة ثم تواروا فما يكاد يذكرهم أحد؛ أو لعلهم يذكرون، ولكن بغير ما يجب لهم من التوقير وعرفان الجميل؛ لأنهم تحت مجهر الثورة أقزام بجانب العماليق الضخام من أعلام السياسة. . ولكل عصر موازين!

محمد سعيد العريان

ص: 25

‌مبادئ العالم الحر!

للأستاذ سيد قطب

(العالم الحر) اسم يطلقه الاستعماريون في إنجلترا وفي فرنسا وفي أمريكا على تلك الكتلة الاستعمارية التي تكافح ضد الزمن، وتقاتل ضد الإنسانية، وتقاوم ضد الحرية. ثم تطلق على نفسها في النهاية اسم (العالم الحر)!

و (العالم الحر) مشغول في هذه الأيام بتمزيق إهاب (الحرية) في تونس ومراكش وفي كينيا وفي فيتنام. . وفي كتم أنفاس (الأحرار) في كل مكان لأن رسالة العالم الحر هي أن يكون حراً في قتل الحرية حسبما يشاء!

و (العالم الحر) يرتكب من الجرائم ما يقشعر له ضمير البشرية. وذلك رغبة في نقل مبادئ الحضارة الغربية إلى القارة المظلمة. وإذا كانت هذه القارة لا تريد أن تتحضر على يد البعثات التبشيرية فلتتحضر إذن بالسيف والمدفع والطيارة والدبابة؛ وهي أقدر ولاشك على نقل مبادئ الحضارة إلى الشعوب المختلفة!

و (العالم الحر) يشرد الشعوب من ديارها - على نحو ما فعل في فلسطين - وذلك رغبة منه في أيجاد (لاجئين) يتولى رعايتهم، والعطف عليهم، وإقامة الخيام لهم في العراء. فمبادئ العالم الحر تقتضي العطف على المشردين، الذين لا وطن لهمفي هذه الأرض المعذبة!

و (العالم الحر) يتساند ويتكاتف في هذه المهام الضخام. أليس الدولار هو الذي يشد من أزر فرنسا في تونس ومراكش وفيتنام، ويشد من أزر إنجلترا في كينيا ومصر وفي كل مكان؛ ويشتري الصحف والأقلام والجماعات والجمعيات والرجال والنساء في هذه الأيام؟!

وأنا لا أعيب على (العالم الحر) أن يمزق إهاب الحرية ويمثل بجثث الضحايا من الأحرار، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ في القرى الآمنة، ويرتكب الجرائم الوحشية التي يرتكبها بلا تحرج. . فإن هدفه السامي من وراء ذلك كله واضح - كما قلت - وهو نقل بادئ الحضارة الغربية بطريقة عملية إلى الشعوب المتأخرة، التي لا يجوز أن تظل متأخرة!

إنني لا أعيب على هذا (العالم الحر) حريته هذه. حرية وحوش الغابة في أنت صنع في

ص: 26

الغابة ما يؤهلها له الظفر والناب. فمبادئ الحضارة الغربية هي هذه كما كانت وكما هي كائنة، وما ستكون حتى يأذن الله لها بالفناء

كلا! إنما أنا أتلفت إلى شعوبنا وحكوماتنا ومفكرينا وكتابنا وشعرائنا وجماعاتنا وجمعياتنا. . ألفت إليهم لأرى هل سكتت الأبواق التي تهتف بحمد الحضارة الغربية؟ هل خرست الألسن التي تتحدث عن الصداقة الأمريكية والصداقة الإنجليزية والصداقة الفرنسية؟ هل انزوت الجماعات والجمعيات التي تحمل ألوية الصداقة مع (العالم الحر) وتشيد بجهوده في الخدمات الاجتماعية والتعليم الأساسي واليونسكو والنقطة الرابعة وسائر الوسائل الاستعمارية الحديثة التي تنجز في صخرة المقاومة الشعبية؟

أتلفت لأرى هذه الأبواق لا تزال مفتوحة، ولأرى هذه الألسنة ما تزال طليقة، ولأرى هذه الجمعيات والجماعات ما تزال تتبجح وتعلن عن نفسها بلا حساب، وتنفق الأموال الضخمة في هذا الإعلان، والدولار من خلفها يمكن لها من العمل ويمكن لها من الإعلان!

إن (العالم الحر) لا يحاربنا بالمدفع والدبابة إلا في فترات محدودة؛ ولكنه يحاربنا بالألسنة والأقلام ويحاربنا بالمنشآت البريئة في مركز التعليم الأساسي، وفي هيئة اليونسكو، وفي النقطة الرابعة؛ ويحار بنا بتلك الجمعيات والجماعات التي ينشئها وينفخ فيها ويسندها ويمكن لها في المراكز الحساسة فيبلادنا. . . وأخيراً فإنه يحاربنا بأموال أقلام المخابرات التي تشتري الصحف والأقلام، وتشتري الهيئات والجماعات.

وواجبنا نحن أن نكافح، واجبنا أن نكافح الوسائل الاستعمارية الحديثة، ونكافح الهيئات والجماعات والمؤسسات التي تيسر العمل لهذه الوسائل: مهما كانت أسمائها بريئة إن الاستعمار الروحي والفكري هو الاستعمار الخطير حقاً. فاستعمار الحديد والنار يثير المقاومة بطبيعته، ويؤرث الأحقاد القومية التي تقتلع الاستعمار من أساسه. أما الاستعمار الروحي والفكري فهو استعمار ناعم لين، مخدر، ينوم الشعوب ويستل أحقادها المقدسة التي يجب أن تتأجج، وتستحيل ناراً وشواظاً يحرق ويدمر الاستعمار عملاءه في يوم من الأيام.

لقد قام بيننا في وقت من الأوقات رجل يسمى (أمين عثمان) يحمل لواء الصداقة الإنجليزية في فجور وتبجج، ويؤسس جمعية نادي العلمين. كما قامت في ظله (جماعة إخوان الحرية). ولقد هرعت الشخصيات الكبيرة يومها إلى أمين عثمان وجمعيته. الشخصيات

ص: 27

المستوزرة التي تشمرائحة الحكم من عشرات الأميال. . . ولكن حاسة الشعب السليمة ظلت تنفر من الرجل وجماعته على الرغم من انضمام (الشخصيات الكبيرة) لأن الشعب يعرف قيمة هذه الشخصيات ودوافعها!

واليوم يقوم رجل آخر بدور أمين عثمان. يقوم به في محيط آخر وتحت عنوان آخر. وتهرع الشخصيات الكبيرة ذاتها إلى الانضمام إليه. . . وما من شك في أن الأمة بحاستها السليمة ستظل في معزل عن هذه المحاولة الجديدة. . ولكن الاطمئنان إلى حاسة الأمة لا يجوز أن يقعد بالشباب الواعي عن التنبيه إلى هذا الخطر الجديد، وإلى التحذير من وسائله الناعمة وعنوانه البريء.

إن الحرب المقدسة مع الاستعمار اليوم تقتضي تخليص ضمائر الشعوب أولاً من الاستعمار الروحي والفكري، وتحطيم الأجهزة التي تقوم بعملية التخدير، والخدر من كل لسان ومن كل قلم، ومن كل جمعية أو جماعة تهادن معسكراً من معسكرات الاستعمار، التي ترتبط جميعها بمصلحة واحدة، ومبادئ واحدة. مبادئ العالم الحر ومصالح العالم الحر!

في الغرب يقوم (العالم الحر) وفي الشرق تقوم (الديمقراطية الشعبية) ونصيب هذه الديمقراطية من اسمها كنصيب العالم الحر من اسمه بسواء!

فالديمقراطية الشعبية هي الديمقراطيات التي تحكم حكماً ديكتاتورياً مباشراً، تحرسه الجاسوسية الرهيبة؛ ولا تسمح لفرد من الشعب فضلا على الشعب كله أن يفكر بحرية، لا أن يفكر في الحريةذاتها بحال!

وإذا كان العالم الحر أجهزته وأقلامه وألسنته، فان للديمقراطية الشعبية أجهزتها وأقلامها وألسنتها. . وكلها تعمل في محيطنا العربي والإسلامي. . . وكلها تستحق منا المكافحة كما نكافح الاستعمار. . . إلا أن الاستعمار يجثم على صدورنا اليوم ويخنق أنفاسنا بعنف. والواجب يقتضينا أن نوجه المقاومة الإيجابية للاستعمار، والمقاومة الفكرية للديمقراطيات الشعبية!

والراية التي تجمعنا لنكافح. . . هي وحدها راية الإسلام.

إن بعضنا يؤثرون أن يتجمعوا تحت الراية العربية. . . وأنا لا أُعارض في أن يكون هذا تجمعاً وقتياً يهدف إلى تجمع أكبر منه، فليسهناك تعارض جدي بين القومية العربية

ص: 28

والوطنية الإسلامية إذا نحن فهمنا القومية العربية على أنها خطوة في الطريق. إن أرض العرب كلها جزء من أرض الإسلام، فإذا نحن حررنا الأرض العربية فإننا نكون قد حررنا بضعة من جسم الوطن الإسلامي، نستعين بها على تحرير سائر الجسد الواحد الكبير.

والمهم أن نتجمع اليوم ونتساند كما يتساند العالم الحر ضدنا. فكل بلد صغير لا يستطيع وحده أن يكافح عالما. والسياسة القصيرة النظر التي تريد أن تحصرنا في حدودنا الجغرافية المصطنعة هي سياسة حمقاء؛ فالعالم يسير نحو التكتل في الشرق والغرب سواء. ومن واجبنا أن نتكتل على الأقل تمشياً مع منطق العصر؛ إن لم يكن تمشياً مع منطق الإسلام.

والمجموعة الآسيوية الإفريقية تحاول أن تكون كتلة محايدة. ولا ضير من السير معها، وإن كنت أنا شخصياً لا أرى أن هنالك مقومات حقيقية ودائمة لقيامها. فهنالك تيارات مختلفة تتجاذبها. والمصالح التي ترتبط بينها اليوم مصالح مؤقتة. أما الكتلة التي يمكن أن تقوم على أسس حقيقية وعميقة ودائمة فهي الكتلة الإسلامية، وهي آتية لا ريب فيها على الرغم من جهود (العالم الحر) وجهود (الديمقراطيات الشعبية) فلنعجل بقيامها فهي سندنا الحقيقي الوحيد.

سيد قطب

ص: 29

‌المعاني الحية في رسالة محمد

للأستاذ محمد عبد الله السمان

كلما حلت ذكرى ميلاد محمد - صلوات الله وسلامه عليه - حرص كثير من الوعاظ وخطباء المحافل أن يحوطوا شخصيته بهالة من الخوارق إبان مولدها، مستغلين عواطف الجهلة من السذج والبسطاء، لاصطناع الألفاظ المنمقة، والعبارات المسجوعة، التي تستثير مشاعرهم، وتستنطق ألسنتهم بتأوهات الإعجاب والاستحسان.

وتمر الذكرى الطيبة، بعد أن تلقى آلاف الخطب في المساجد والسرادقات. فلا يخرج المسلمون منها إلا بالتوافه التي لا ترفع من قدر صاحبها (ص) وإذا سألتهم ماذا حفظتم من ذكرى رسولكم (ص) أجابوك عن ظهر قلب: إن ليلة مولده اهتز إيوان كسرى، وخمدت نيران فارس، وانشقت الأرض عن نور سد ما بين الخافقين، وفتحت أبواب الجنة، وأُغلقت أبواب جهنم، وازينت السماء، وابتهجت الملائكة. . . وإن أمه بنت وهب لم تجد مشقة في وضعه وسمعت هتافات الملائكة تبشر بمقدم الوليد الجديد، وأن مرضعته حليمة قد در لبنها يوم أن تسلمته، وأن الغمامة كانت تظلله حيثما سار، وأن الأحجار قد كلمته، والحصى قد سبح بين يديه، والجذع حن له. . وما إلى هذه من الأقاصيص التي تليق بالأبطال الخرافيين - لا بشخصية محمد (ص) الإنسانية الذي هيأ للإنسانية أطيب حياة، والمصلح الذي وضع أسس الإصلاح في الأرض، والعظيم الذي قدم للدنيا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.

أني لأعجب. . . كيف نجهل - نحن المسلمين أتباع محمد - شخصيته هذا الجهل الفاضح، فبينما يرى المنصفون من المستشرقين في شخصه - رجلاً مصلحاً من عظام المصلحين، يكفيه فخرا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق؛ وفتح لها طريق الرقي والمدنية؛ وهو عمل لا يقوم به إلا رجل أوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام. . بينما يرى الأجانب في محمد المصلح العظيم نأتي نحن اتباعه إلا أن نضفي على سيرته من الخوارق والتوافه التي تبين مدى جهلنا بشخصيته.

وإذا تركت جانباً هذا الصنف المشغوف بإلصاق الخوارق بسيرة محمد، وجدت صنفاً آخر من المسلمين مشغوفاً بأن يجعله فوق مستوى البشر، وإنه رسول ليس ككل الرسل،

ص: 30

لأنهأفضلهم على الإطلاق، ولإنه إمامهم، ورسالاتهم مستمدة من رسالته، ولأن الله ناداهمبأسمائهم وناداه بصفاته، وما إلى هذه من الترهات الرخيصة. ولوفقه هذا الصنف الغبي شخصية محمد كما يجب أن تفقه، لأدرك أن محمد نفسه لم يقر تفضيله على غيره من إخوانه الرسل لأن في هذا لوناً من التعصب الذي لا يرتضيه لأتباعه؛ فقد ورد البخاري عن أبي سعيد الخدري قال:(بينما رسول الله (ص) جالس جاء يهودي، فقال: يا أبا القاسم! ضرب وجهي رجل من أصحابك. فقل: من؟ قال: رجل من الأنصار. قال: ادعوه، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف، والذي اصطفى موسى على البشر! قلت: أي خبيث! على محمد (ص)؟ فأخذتني غضبة ضربت وجهه. فقال النبي (ص) لا تخيروا بين الأنبياء، فان الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بالصعقة الأولى؟).

وهناك صنف ثالث منضو في سلك الطرق الصوفية البلهاء، يعتبر أن المسلم لا يكون مسلماً إلا إذا اعتقد أن نور الكون مستمد من نور محمد، وأنالسماء والأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال، كل هذه لم تخلق إلا من أجله. . . وهذا الصنف أتفه من أن نقيم لعقليته وزناً.

إن محمدا صاحب رسالة إنسانية، فإذا أردنا أن نحتفي ونحتفل بذكراه، فالواجب أن نستشف المعاني الحية التي تضمنتها رسالته، والتي تنهض بأمتنا وهي في مسيس الحاجة إلى النهوض ، فما المعاني الحية التي تضمنتها رسالة محمد - صلوات الله وسلامه عليه -؟

إن رسالته تضمنت معاني ثلاثة حية: تحرير العقول، وتحرير النفوس، وتهيئة حياة طيبة لهذه النفوس.

فقد كانت العقول قبل رسالته غريقة في خضم من الضلال والغي، وأي دليل على ضلالها وغيها أوضح من عكوفها على عبادة حجارة صماء، لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وما أن جاءت رسالة محمد حتى أخذت على عاتقها تحرير هذه العقول، وانتشالها من هوة الضلال والغي، إلى أفق النور والهداية، وراحت بالمنطق السليم تناقش عقيدتها حتى تثبت فسادها:

ص: 31

(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين - ألهم أرجل يمشون بها، أم لهم أيد يبطشون بها، أم لهم أعين يبصرون بها، أم لهم آذان يسمعون بها؟ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون - إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين - والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم، ولا أنفسهم ينصرون - وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) الأعراف.

(يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له. وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب - ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز) الحج.

(واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا.) الفرقان.

بهذا المنطق السليم استطاعت رسالة محمد، أن تحرر العقول، وتوجهها إلى عبادة الواحد القهار، الخالق الرزاق، والضار النافع، الذي بيده ملكوت كل شئ، والغالب على أمره الذي لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء.

ورسالة محمد حررت النفوسبعد أن وضعت حداً لاستعباد الإنسان للإنسان، فقد كانت الحياة قبلبعثة محمد (ص) مزيجاً من الهمجية والفوضى، وأبرز ما فيهما العصبية القبلية، فالقبائل الكبرى تتعاظم بآبائها وتفخر بأجدادها، وتتشدق بأنسابها وأحسابها، وأما الضعفاء والهزل، فهم كمية مهملة ضائعة، لا وزن لها ولا قدر، ولا يعبأ بكيانها ولا يكترث لوجودها، يسخرون كما ت سخر الأنعام، ويعيشون عيش الرقيق المسلوبي الإرادة، وما أن جاءت رسالة محمد حتى أعلنت أن الناس جميعاً قد خلقوا من نفس واحد، ومنتسبون جميعاً إلى ذكر وأنثى، لتقرر مبدأ المساواة بينهم، حتى يظلوا بعد اليوم سواسية كأسنان المشط؛ وراح القرآن يقوم بمهمة تقرير هذا المبدأ الخطير الدقيق:

(يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. . .) النساء.

(ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون.) الروم.

ص: 32

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكركم عند الله أتقاكم. .) الحجرات.

والرسول (ص) لم يدع فرصة تمر دون أن يكافح عنجهية الجاهلية الأولى، ويحطم شوكة الغرور الذي كان يملأ أنوف المتعاظمين بآبائهم، المتشدقين بأنسابهم وأحسابهم، فقد صباح ذات يوم في قريش قائلاً:(يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم الجاهلية وتكثرها بآبائهم، كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم. . . . والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة. .) وقال: (ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحماً في جهنم! أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدوف بأنفها القذر.)، وغضب حين سمع أبا ذر يعير خادمه بأمه السوداء، وقال:(يا أبا ذر ارفع رأسك فانظر، ثم اعلم أنك لست بأفضل من أحمر فيها ولا أسود إلا أن تفضله بعمل.)

بهذه القوة الكامنة في رسالة محمد (ص) أمكن تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وإزالة التفاوت المصطنع الذي كان يشرف على اصطناعه المرضى بالغرور والكبرياء من ذوي الأحساب والأنساب والأموال، وكما أمكن صبغ الجميع بصبغة المساواة الخالصة، فتيسر وضع أسس الاستقرار فوق الأرض.

ورسالة محمد (ص) هيأت للنفوس حياة طيبة. ولما كان العالم الدعامة التي يرتكز عليها بناء النهضات في الأمم، فقد احتضنت رسالة محمد العلم، ودعت إليه، وحثت عليه، أو كرمت قدره، وأعلنت منزلته، والقرآن الكريم تنطق آياته بتقدير العلم وإعزاز شأنه:

(. . . قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولو الألباب) الزمر.

(. . يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات. .) المجادلة.

(يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة، فقد أوتي خيرا كثيرا. .) البقرة.

بل إن القرآن دفع الناس إلى المغامرة في سبيل تحصيل العلم، وإلى مواصلة التحصيل منه إلى أن يشاء الله، لأن العلم بحرلا ساحل له، ولأنه أفق بعيد لا نهاية له، وهذا الدفع من شأنه أن يجعل الإنسان يقف نفسه على البحث عن كنوز العلم وذخائره:

(ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.) الإسراء.

(. . . وقل رب زدني علما.) طه.

ص: 33

والرسول (ص) يشير إلى هذا المعنى فيقول:

(لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل.)

وهناك شبهة صاغتها عقول أولئك الذين أصيبوا بعمى في بصائرهم، وغل في صدورهم، يقولون: إن الإسلام يكرم العلم الخاص بالدين فحسب، ويتجاهلون أن الإسلام إنما يكرم العلم أياً كان نوعه، ما دام يعتبر وسيلة لتفقه المسلمين في دنياهم، وإلا فأي داع إلى أن يشير القرآن إلى علوم الفلك والتقويم، والزراعة والتجارة، وعلم الأحياء وعلم النبات؟ وأي داع إلى أن يحضنا على التفكر في خلق السموات والأرض والشمس والقمر وما إليها؟ وكيف نكون خير أمة أخرجت للناس، إذا لم يكن العلم رائدنا في حياتنا، وهدفنا في دنيانا. . ولكن من أنى لنا أن نقنع هؤلاء الذين لا يؤمنون ولو آتيناهم بكل آية. .؟

وبعد - فإن رسالة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لأسمى من أن تكون قصصاً للتسلية، وهي تتضمن أمثالتلك المعاني الحية الثلاثة، التي تغافل المسلمون عنها، وهي جديرة بأن تبرز في حياتهم حتى ينقلوا إلى الأفق اللائق بهم. والعجيب أن هذه المعاني الثلاثة، قد تضمنتها أول آية نزلت من كتاب الله تعالى، إذ وجهت الناس إلى الخالق الجدير بالعبادة لتحرير العقول، وأشارت إلى أنهم مخلوقون جميعاًمن عنصر واحد لتقرر مبدأ المساواة فتحرر النفوس، كما أشارت إلى العلم تقديراً له، لينقلوا إلى حياة طيبة بواسطته:

(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.)

محمد عبد الله السمان

ص: 34

‌تحية الرسالة

في مستهل عامها الجديد

للأستاذ محمود الخفيف

مهداة إلى الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي نزيل القاهرة الآن

نافسي الشمس ضياء ومكانا

وإملائي سمع بني الدنيا بيانا

اسكبي نورك رأياً وحجى

وشعاعات من الفن حسانا

أبلغي من طارف العز المدى

وابعثي من تالد المجد زمانا

في ضحى العيد تلقي زهرا

من بني الشرق وحبا وحنانا

وأماني وضيئات لهم

أصلها الشرق. . حماهم وحمانا

يا عروس الشرق كم أيقظته

ولكم رددت في المهد الأذانا

كم تغنيت بآمال له

طفلة هش لها المجد افتتانا

وفتاة مثل (جان دارك) اعتلت

صهوة المجد ولم تعرف هوانا

يلتقي الشرق على صيحتها

وهي لا تثني عن المجد عنانا

راية الله إذا ريع الحمى

حضنتها ليس تألوها احتضانا

يا عروساً كم سقانا لحنها

من حمياه زمانا وشجانا

أنشدينا اليوم أحزاناً لنا

وأديريها كؤوساً ودنانا

أنذرينا. . طالما بشرتنا

فعسانا نرهف السمع عسانا

ذكرينا إننا ننسى ضحى

كل خطب في دجى الليل دهانا

وننام الليل لا يفزعنا

ما عرانا في ضحانا وعنانا

أيقظينا!. . ذكرينا نذرا

حولنا طافت. . لهيبا ودخانا

رجت الشرق بطاحا وربى

لم تدع للأمن والسلم مكانا

أنشدينا نكبة القدس وما

راع بغداد وما أشقى عمانا

واذكري مصر وما زلزلها

وصفي نغيا يروع القيرمانا

واسألي حلق هل زليلها

ما عراها وصفا العيش ولانا؟

ص: 35

طافت الكأس بطهران فما

خطبها؟ من ذا سقاها وسقانا؟

من لمراكش في محنتها

كم بغى الباغي عليها واستهانا

اسمعينا اليوم ما يكربنا

من بنات الدهر بكرا وعوانا

أنذرينا! لم يعد يطربنا

مجد أيام تولت. . . كيف كانا

عمرك الله ألم يأن لنا

أن نوقي الجيل هذا الهذيانا؟

أي فخر للذي ديس الحمى

فتلهى عنه ذلا واستكانا!؟

ليت شعري أي مجد يدعى

قاعد ذل به المجد وهانا؟!

وفخور يقبل الضيم ولا

يلتوي يوما على الضيم اضطعانا!

حول ماضيه وآباء له

دائر ليس يمل الدورانا

ينثر الشوك له أعداءه

فيرى الشوك حني أو أقحوانا

ويدسون له السم فتغريه كؤوس كم كسوها لمعانا

ويلوك الكون مزهوا به

كلما أشبع في العيش امتهانا!

يا عروسا كم شجانا لحنها

خبرينا كيف جرعنا الهوانا؟

الرزايا جمعتنا فصفى

أي رزء يفصم اليوم عرانا

أمة التوحيد من فرقها

حسبها بعض رزاياها امتحانا

ينفث السم دخيل بيننا

ليس يألونا أذى أو روغانا

آفة الشرق لعمري أن نرى

حولنا في كل ركن أفعوانا

كم سعى بالختل وغد بيننا

واستطاب العيش فينا واستلانا

أو لم يأن لنا يا ويلنا

أن نذود اليوم عنا من رمانا؟

سرطان الغرب كم بوبقنا

آن أن ندرأ عنا السرطانا

يا عروس الشرق غني وحدة

ما لها في هذه الدنيا سوانا

هي بأس إن ظلمنا فإذا

كانت السلم وجدناها ضمانا

وحد الإسلام آفاقاً لنا

وبنانا أمة حين بنانا

ديننا القوة والروح معا

حضن المصحف من هز السنانا

يا بني الشرق أفيقوا. . ديننا

عن معاني الذل والضعف نهانا

ص: 36

فأعدوا ما استطعتم من قوى

مشت القوة والحق اقترانا

آمنوا. . ما الحق إلا قوة

ترهب البغي وتخزي الشنآنا

لا تقولوا الروح في قارعة

بلظاها الأرض جاشت جيشانا

اجعلوا المهر حديدا ودما

للمعالي ونضارا وجمانا

الخفيف

ص: 37

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

جان بول سارتر والشيوعية:

بالأمس كان جان بول سارتر زعيم الوجوديين في فرنسا خصماً للشيوعية؛ خصماً لا أحسبني غالياً إذا قلت إن الشيوعيين لم يلقوا لوطأته مثيلاً على طول ما تعرضوا له من حملات الخصوم. ذلك لأن سارتر كاتب أحدث من الدوي في العصر الذي نعيش به ما لم يحدثه كاتب آخر، حتى ليمكنك أن تقول إنه أكثر الكتاب المعاصرين شهرة وأوسعهم نفوذاً وأبعدهم تأثيراً في نفوس الجماهير! من هنا لم تستطع الشيوعية أن تتجاهل خطورته ولا أن تتغاضى عن خصومته فمضت تحاربه وتحارب أثاره بكل سلاح. . حاولت أن تغض من قدره كفيلسوف له في الفلسفة مذهب، وحاولت أن تقلل من أهميته كأديب له في الأدب طريقة، وحاولت أن تسخر من جهوده كإنسان له في المجتمع رسالة! قالت عن فلسفته في (الوجود والعدم) إنها فلسفة العدم ولا شئ سواه، وقالت عن أدبه إنه أدب الانحلال وإنه خطر على الحضارة، وقالت عن رسالته الاجتماعية إنها رسالة الأثرة والأنانية لأنها تحصر اهتمامها في الفرد دون أن تلتفت إلى المجموع؛ وخلاصة هذا كله إن سارتر كاتب يخون شرف الثقافة! قالت هذا وحاولت ذاك والهدف البعيد واضح ومقصود، وهو أن تثير في النفوس عاصفة من الشك وفي الأذهان زوبعة من القلق حول كل ما يدلي به زعيم الوجوديين من أراء وأفكار، حتى إذا ما نجحت في هذا الذي تهدف إليه فقد انهارت ثقة الناس في صدق ما يوجهه إلى الشيوعية من هجوم!!

ترى هل نجحت الشيوعية فيما قصدت إليه من وراء حملاتها على الوجودية وحققت هدفها المنشود؟ كلا! والسبب إنها تلجأ إلى المغالطة وتسرف في الادعاء حين تحاول النيل من زعيم الوجوديين على النحو الذي صورناه. . إن سارتر حين يدافع عن حرية الفرد في التفكير والتعبير واختيار لون الحياة الذي يريد، لا يدافع عن حرية فرد بعينه حتى يجوز للشيوعيين أن يتهموا أدبه بأنه أدب الذاتية والفردية. إنه يدافع عن حرية كل فرد ومعنى هذا إنه يدافع عن حرية المجموع؛ وفي ضوء هذه الحقيقة تتضح لك المغالطة التي تهدف إلى غرض معلوم! إن رأى سارتر الذي يؤمن به ولا يتحول عنه هو إن حق الفرد في ظل

ص: 38

النظام الشيوعي مهدر وأن حريته ملغاة؛ حقه في أن يعيش على الوجه الذي يحب وحريته في أن يفكر ويعبر بالأسلوب الذي يشاء، لان الشيوعية قد رسمت خطوط اتجاه فكرية معينة ثم فرضتها فرضاً على الحياة العقلية والاجتماعية. . إلغاء لحرية مقررة وإهدار لحق مشروع، وهذا هو مبدأ الخلاف أو الجوهر الخصومة بينه وبين الشيوعيين!

لقد أخرج سارتر للناس يوماً نظرية في الأدب هي نظرية (الالتزام) وخلاصتها إن الأدب يجب أن يكون صورة صادقة للجو الذي يحيط به، أن يكون مرآة صافية للمجتمع الذي ينتسب إليه؛ أن يكون لساناً معبراً للجيل الذي يعيش فيه. . . وهذه هي التبعة التي يجب أن يتحملها الأدب وهو عنها مسؤول. على الأديب أن يتصل بما حوله اتصالاً كاملاً حتى لا يكون بمعزل عما يعانيه مجتمعه من مشكلات، سواء أكانت مشكلات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. عليه أن يشارك بقلمه في رسم صورة أمينة لتلك المشكلات وعليه أن يشارك برأيه في كل ما تحتاج إليه من حلول، وهذا هو التزام الأدب وهذه هي رسالة الأديب! إن سارتر ينكر أدب الأبراج العاجية أو هذا الأدب الذي لا يعبر عن أحزان الناس وأفراح الناس، وحاجة كل فرد إلى أن يعيش حر الرأي وحر العقيدة وحر الحياة. . ترى هل تستطيع أن تهضم بعد هذا كله قول الشيوعيين بأن رسالة سارتر هي رسالة الأثرة والأنانية، لأنها تحصر اهتمامها في الفرد دون أن نلتفت إلى المجموع، وأنه تبعاً لذلك كاتب منحرف ضال يخون شرف الثقافة؟! يوم أن طلع سارتر على القراء بنظرية الالتزام في الأدب هتف الشيوعيين: إذا كانت هذه هي أهداف سارتر وهي نفس أهدافنا فلماذا لا ينضم إلى الحزب الشيوعي فيريح ويستريح؟! قالوها ونسوا أن زعيم الوجوديين قد طالب في نظريته الالتزامية بحرية الفرد كاتباً وبحريته قارئاً وهو يحدد رسالة الكتاب والقراء. . إن الكاتب في رأي سارتر يجب أن يكون حراً فيما يكتب، وأن القارئ يجب أن يكون حراً فيما يقرأ، وبهذا وحده يتاح للأدب أن يكون ملتزماً حين يعبر عن مشكلات المجتمع وحين يبحث لهذه المشكلات عن علاج. وما دامت الشيوعية في رأيه لا تتيح للكاتب والقارئ مثل هذه الحرية فما أبعد الشقة بينها وبينه وما أعمق هوة الخلاف، بل ما أعجب هذا المنطق الذي يخاطبه به الشيوعيين!!

في سبيل حرية الفرد خاصم سارتر الشيوعية بالأمس فاتهمته بأن هذه الخصومة لم تكن

ص: 39

ثمرة العقيدة ولا وليدة الإيمان، وإنما كانت إرضاء خالصاً وامتثالاً صادقاً لاتجاهات السياسة الأمريكية؛ هذه السياسة التي تساعد كل استعمار على استعباد الأحرار. . تهمة عجيبة قد تجوز على الذين لا يفرقون في القضايا المنطقية بين كذب النتائج وصدقالمقدمات: سارتر ليس شيوعياً، والشيوعية الروسية ضد الرأسمالية الأمريكية، وإذن فسارتر أمريكي العواطف بلا جدال! هذه القضية المنطقية تصح وتستساغ إذا صحت هذه القضية الأخرى واستساغتها الأذهان: أنت لست غنياً، والغنى كما لابد أنتعرف ضد الفقر، وإذن فأنت فقير بلا مراء! ونترك هذا الاتهام (المنطقي) لنقول ونحن نعني ما نقول: إن سارتر الذي هاجم الشيوعية من أجل حرية الفرد قد هاجم من أجل هذه الحرية نفسها (عدالة) الأمريكيين. . عدالة الأمريكيين في معاملة الزنوج وتعريضهم لكل مظهر من مظاهر الهوان!!

خيانة لشرف الثقافة. . ومن الخيانة لشرف الثقافة أيضاً أن يتحول سارتر عن موقفه بالأمس ليكون نصيراً للحزب الشيوعي الفرنسي في هذه الأيام! تحول عن موقفه لأنه لا يريد أن يتحول عن مبادئه؛ مبادئه التي فرضت عليه أن يدافع عن حرية الفرد ولو كانت حرية الخصوم. . لقد وقف زعيم الوجوديين إلى جانب الشيوعيين في فرنسا حين تعرضوا لألوان متعددة من التعسف وضروب مختلفة من الاضطهاد، تمثلت في اعتقال زعمائهم تارة وتفتيش دورهم تارة أخرى ومصادرة آرائهم تارة ثالثة! ومع هذا كله يغالط أنصار الشيوعية محاولين أن يوهموا الناس بأن سارتر اليوم قد أفاق؛ قد استيقظ من سبات عميق؛ قد أمن بعد كفر واهتدى بعد ضلال؛ قد حافظ على شرف الثقافة بعد أن خانها بالأمس خيانة منقطعة النظير. . قالوها حين دافع في فرنسا عن حرية كل فرد في الأُسرة الشيوعية وحين دافع في فينا عن حرية كل فرد في الأُسرة الإنسانية، هناك حيث وقف في مؤتمر الشعوب ليزلزل بكلماته أفكار دعاة الحرب الأمريكيين!!

إن جان بول سارتر لم يخن شرف الثقافة، وإنما الذي خان هذا الشرف هم هؤلاء الذين يشوهون الحقائق، ويضللون القراء!!

فرانسوا مورياك وجائزة نوبل:

في مثل هذا اليوم من العام الماضي وفي مجلة (الكتاب)، كتبنا مقالاً عن (الأثر الفني بين

ص: 40

الفهم والتذوق) وردت فيه هذه الكلمات:

(هل قرأت قصة لفرانسوا مورياك؟ إنها قصة لا تطالعك بتلك الطاقة القصصية الضخمة التي تطالعك بها آثار كاتب مثل دستويفسكي أو بلزاك، ولا بذلك التصميم الفني الدقيق الذي يشير إلى قدرة الملكة القاصة على السير بخط الاتجاه التفكيري في طريق مرسوم، ولا بذلك (الفهم) الواسع الذي يحيط بصور الحياة ليفرغها بعد ذلك في إطار. . ليس فيها شئ من هذا كله، ولكن فيها الفنان الذي يعيش في موضوع قصته؛ يعيش فيه بكل جوارحه وكل عواطفه وكل همسة روح تخفق بين حناياه. إنه القصاص الذي (يتذوق) الحياة في لحظاتها النفسية النادرة، التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق!

هناك لحظة من تلك اللحظات النادرة التي أشرت إليها في قصة مورياك؛ وقبل أن أقف بك عند تلك اللحظة ألخص لك موضوع القصة بصراعها النفسي في كلمات، لأن موضوعها هو موضوع العلاقة (الخالدة) بين كل أم وكل زوجة ابن، تحتدم في أعماقهما المعركة حول الرجل الذي تربطه بالأولى روابط البنوة وتصله بالثانية صلات الزوجية؛ هذا الرجل الذي يقف بين (العدوتين) موقف الحائر المتردد الذي تتعرض حياته في كل وقت لهبوب العواصف والأعاصير، وتنقضي حين تنقضي وهي نهب مشاع للمتاعب والآلام. . الابن هنا وهو فرنان كازيناف، رجل ضعيف العزم مسلوب الإرادة يعطف على زوجته ولكنه لا يستطيع أن يجهر بهذا العطف، خوفاً من الأم التي بقيت له بعد وفاة أبيه وطبعته منذ صباه الباكر بطابع الخضوع والرهبة؛ فهو لا يستطيع أن يجادل ولا يعترض ولا أن يقف في وجهها عندما تتعقد الأمور! والأم كازيناف، امرأة تحب ابنها برغم قسوتها عليه، وما كانت قسوتها تلك إلا نتيجة لهذا الحب الذي تريد به الأمومة أن تملك وأن تحكم وأن تستأثر، وألا يشاركها في هذه العاطفة المتأججة نحو ابنها إنسان! والزوجة هي ماتيلد كازيناف، فتاة لقيت من ظلم الحماة وإهمال الزوج وقسوة الحياة ما ينوء به الطوق ويرفض معه الصبر وتخور منه العزائم. . ومع ذلك فقد صبرت، واحتملت، ولفيت متاعب العيش بالرضا القانع والصبر الجميل!

وتمضي القصة في طريقها لتصور لك أدوار الصراع؛ الصراع الذي انتهى بموت الزوجة بعد عملية وضع قوضت من الجسد المنهار آخر حصن من حصون المقاومة أو آخر معقل

ص: 41

من معاقل الكفاح؛ الكفاح ضد قسوة البشر ووطأة الحياة! ولقد ماتت وحيدة؛ لا همسة عطف من الابن، ولا نظرة رثاء من الأم، ولا موعد لقاء مع رحمة القدر. . وحين انتهى كل شئ، وسكنت كل حركة، ودفنت في تراب الموت كل خصومة، استطاع فرنان كازيناف أن يصعد إلى حجرة الشهيدة، وأن يحس لذع الندم، وأن يوجه إلى أُمه كلمة عتاب!!

ويا لها من لحظة تلك التي يصور فيها مورياك موقف الزوج النادم أمام الجثة المسجاة. . إنها اللحظة النادرة من لحظات (التذوق) العميق لمشهد من مشاهد الحياة منعكساً على صفحة النفس والشعور. لقد وقف فرنان أمام جثة الشهيد وكأنه يقف أمام قديس يعترف له بما جنت يداه، بما اقترف من إثم، بما حمل من ذنوب. . رباه! من أغمض عينيه كل تلك الأعوام فلم ير هذا الجمال؟ ومن أغلق قلبه كل تلك السنين فلم ينعم بهذا الصفاء؟ وهذا الطهر، وهذا الصبر، وهذا الإيمان؛ هذه القيم الإنسانية من حال بينه وبينها حتى لكأنه يبصرها لأول مرة، ويستشعرها لأول مرة، وينكشف له منها في لحظة عابرة ما غاب عنه فيما مر من أيام دنياه؟! آه لو يستطيع أن يفعل شيئاً لهذا الجسد؛ الجسد الذي احترق في موقد العذاب، وتألم، وحمل من الشقاء فوق ما يحمل طوق الأحياء؟ شيئاً ولو كان صغيراً ضئيلاً لا قيمة له، يشعره بأنه قدم إليه في رحاب العدم ما عجز عن أن يقدمه في رحاب الحياة؟! إنه يريد الآن أن يعبر للجسد المسجى عن عطفه؛ عطفه الذي لم يستطع أن يعبر عنه في يوم من الأيام! ولقد قدر له أن يعبر عن هذا العطف حين خطر (لذبابة هائمة أن تستقر على الوجه النبيل). . لقد انتفض كالمصعوق ليرد العدوان الآثم عن تلك البقعة (الآمنة)! البقعة التي يجب ألا (تقلقها) بعد الآن هجمات المعتدين!!

هذا هو الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلاً في قصة فنية. . إن مورياك في هذه القصة كما قلنا لك، لا يطالعك بذلك (الفهم) الواسع الذي يحيط بصور الحياة ليفرغها بعد ذلك في إطار، ولكنه يطالعك بذلك (التذوق) للحياة في لحظاتها النفسية التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق! تلك اللقطة النادرة في جملة عابرة؛ اللقطة المتمثلة في تصوير الندم والشعور به، وفي الإيحاء بالذنب والتكفير عنه؛ وتلك الزاوية الفريدة التي أختارها ليركز فيها ذلك الإيحاء بكلمات قليلة موجزة قوامها (الذبابة التي استقرت على الوجه النبيل). . كل هذه القيم التعبيرية التي ارتفعت بالمشهد النفسي إلى آفاق متسامية من الفن،

ص: 42

تستطيع أن تختصرها في معنى واحد هو المحور الكبير الذي ندور حوله منذ البداية، ونعني به (التذوق الشعوري) الكامل في الأثر الفني حين يتحول إلى تجربة داخلية كاملة في النفس الإنسانية!) هذا هو ما قلناه عن مورياك في عام 1951، وها نحن نعيده اليوم لأن الكاتب الفرنسي قد ظفر بجائزة نوبل للأدب عن عام 1952، ولأن الأكاديمية الملكية السويدية قد خصته بهذه الجائزة (لما يمتاز به أدبه من تحليل عميق للنفس، ولما يتسم به فنه القصصي من قدرة على التعبير عن الحياة الإنسانية). إنك حين ترجع إلى هذا الميزان الذي أقمناه لفن مورياك ونحن نتحدث عن الأثر الفني بين الفهم والتذوق، ثم تعود إلى هذا الميزان الآخر الذي أقامته له الأكاديمية الملكية السويدية وهي في معرض التقدير والتبرير، لا تكاد تجد فارقاً بين الميزانين إلا في الألفاظ المعبرة تبعاً لاختلاف الصور وتنوع الأساليب!

ومع ذلك فإن هناك ضجة في فرنسا حول هذه الجائزة الضخمة التي ظفر بها مورياك؛ ضجة يثيرها خصوم الكاتب الفرنسي من الأدباء والنقاد: يقول الوجوديون إنه كاتب (ذاتي) ولم يكن في يوم من الأيام من الكتاب (الملتزمين)! ويقول الشيوعيون إنه كاتب (رجعي) ولم يكن في يوم من الأيام من الكتاب (التقدميين)!

ويقول فريق ثالث غير هؤلاء وأولئك إنه كاتب (متأمل) وليس بالكاتب (المفكر)! ولهذه الأسباب مجتمعة ومتفرقة يتهم مورياك ويعترض عليه ويثار من حوله الغبار، أما أنهكاتب ذاتي فهذا حق لا مراء فيه وإنه ليعترف بهذه الذاتية، وأما أنه رجعي فحق آخر لا يحتمل الجدل وإن لم يشأ هو أن يعترف به لأنه خصم للشيوعية، وحين نصل إلى المرحلة الثالثة من مراحل الاتهام لا نجد فيها شيئاً من التجني والمغالاة. ولكن هذا كله لا يبرر هذه الضجة التي يقصد منها أن الرجل ليس أهلاً لهذا التقدير. . لقد كان أندريه جيد يلتقي معه في كثير من هذه الخصائص التي يسلكونها في عداد المآخذ والعيوب: كان من أدباء الخواطر والتأملات ولم يكن من أصحاب المذاهب والأفكار، وكان من الكتاب الذاتيين الذين يدورون بأدبهم حول المشكلات الفردية ثم لا يطيقون الوقوف عند مشكلات المجتمع العام، ومع هذا فلم يلق جيد شيئاً من الاعتراض يوم أن ظفر بمثل هذه الجائزة الضخمة التي ظفر بها مورياك!

ص: 43

لقد عالج مورياك فيما عالج من فنون الأدب نظم الشعر وكتابة القصة وانضم آخر الأمر إلى زمرة النقاد، ولكن ملكته الناقدة لم تكن في قوة ملكته الشاعرة أو ملكته القاصة حين توزن المواهب والملكات. . . ولعل القراء يذكرون تلك القصة الطريفة التي قصصناها عليهم يوماً في (الرسالة)، حين عمد أديبان فرنسيان ناشئان إلى طبع ديوان من نظمهما ثم نسباه إلى الشاعر الفرنسي رامبو، حتى يضمن كلاهما للديوان شيئاً من الرواج والانتشار! لقد جازت الخدعة يومئذ على (الناقد) مورياك فكتب صفحة كاملة في (الفيجارو) يتحدث فيها عن إعجابه البالغ بفن الشاعر الفرنسي العظيم، على الرغم مما أثاره الكاتب السيريالي أندريه بريتون حول هذا الديوان من شكوك. . ولقد انتهت المعركة بين مورياك وبريتون حين تطوع الأدبيان الناشئان برفع النقاب عن وجه الحقيقة، وحسبهما أن الديوان قد نفدت طبعته أكثر من مرة، وأنهما قد أصبحا في منزلة أرتير رامبو وذلك بشهادة الكاتب الكبير!

أنور المعداوي

ص: 44

‌مِن هنا وهناك

تدهور الفن القصصي في الأدب الأنجلوسكسوني:

هناك شبه إجماع بين النقاد على أن فن (القصة) في الأدب الإنجليزي قد تدهور في السنوات الأخيرة لا في الكمية بل في الكيفية.

وتدل الإحصاءات التي نشرتها إحدى المجلات الأدبية الأمريكية أن معدل ما يباع من القصة الإنجليزية الرائجة في طول أمريكا وعرضها لا يتجاوز 10 آلاف نسخة مع أن السوق الأدبية في البلاد الناطقين باللغة الإنجليزية يتجاوز 250 مليون نسمة.

وتصدر المطابع الأمريكية ما لا يقل عن 40 أو50 قصة في كل شهر بينماالمطابع البريطانية حوالي نصف هذا العدد.

أما العوامل التي أدت إلى هذا التدهور في القيمة الفنية للأدب الإنجليزي القصصي فعديدة. ويختلف النقاد في التعليل الصائب لهذه العوامل؛ إلا أن الكل متفق على أن وسائل الكاتب القصصي في الأدب الأنجلوسكسوني أصبحت عاجزة عن تحليل المشاكل الروحية والعقد النفسية التي ازدادت تشعباً في عالمنا الحاضر مما ألم به من التطورات الفكرية والسياسية والاجتماعية فجعلت الحياة اليومية فيه معقدة وعرة المسالك يحتاج الكاتب لسبر غورها إلى قوة فنية خارقة لا تراعي الاتجاه التقليدي الذي كان كتاب القصة في القرنين الماضيين مغرمين باتباعه في تحليل الأشخاص والحوادث.

ويعتقد هؤلاء النقاد بأن الأدب القصصي قد قصر عن اللحاق بالفن التصويري الذي يعتمد على الريشة والألوان؛ فمدارس الرسم الحديث قد أدركت ازدياد التعقد في مشاكل النفس والحياة المعاصرة فسعت إلى تصويرها في إطار الرمزية المجردة كما بذلك رسوم (بيكاسو) وغيره من أئمة الفن الغربي المعاصر.

وتقصير الأدب القصصي الإنجليزي تقصير في الثقافة الأنجلوسكسونية المعاصرة عن الإبداع الفني في تصوير الحوادث والأشخاص والانفعالات وشتى ألوان الإحساس الفني المطلوب في أداء الفن القصصي - هذا التقصير يعود إلى رغبة الكاتب في أن يوفر للقارئ تسلية أدبية لا متعة فنية تهدف إلى الصميم فتفرض على القارئ أن يشارك الكاتب في إحساسه الفني ومتعته العقلية.

ص: 45

ويشتكي النقاد كذلك من أن الأدب القصصي يجب أن يكون وسيلة إلى التسلية في أوقات الفراغ، فالواجب الفني فيه يفترض على الكاتب والقارئ معا المساهمة الجدية في تفهم مشاكل النفس والساعة كما تعكسها الانفعالات الصادقة للكاتب الفنان.

تجارب علمية جديدة لزراعة الأراضي الرملية

يعكف عدد من المهندسين الزراعيين في أربع مناطق مختلفة من مناطق العالم على التجارب العلمية لتنمية الزراعة في الأراضي الرملية الصحراوية. وقد نشرت مؤخرا معلومات عن النتائج التي وصل إليها هؤلاء المهندسون في تجاربهم هذه:

فمن ولاية (أريزونا) في الولايات المتحدة الأمريكية أعلن رئيس محطة التجارب التابعة لوزارة الزراعة الأمريكية بأن الأراضي الرملية والصحراوية التي تؤلف جزاءاً كبيراً من تلك الولاية ستصبح بفضل وسائل العلم الحديث قادرة على إنبات الحبوب والغلات وبعض ألوان العشب الصالح للكلأ والمرعى.

ومن محطة التجارب الزراعية في ولاية (خاستان) الروسية في آسيا الوسطى نشرت السلطات الروسية معلومات تدل على أن الأرض الرملية في تلك المنطقة الصحراوية أثبتت بأن عقمها الزراعي لن يستطيع بعد الآن أن يقف أمام سلطان العلم الحديث؛ فقد نبتت الحبوب والغلال في أراض رمليةبتكاليف معقولة تساعد الزارع على استغلالها بصورة تجارية.

ومن أستراليا جاءت أنباء مشابهة. واهتمام أستراليا بالأراضي الرملية والصحراوية يعود إلى تكرر أزمات الجفاف الذي يصيب مناطق الرعي فيهلك الأنعام والأغنام. وفي مقر الأمم المتحدة في نيويورك تفرغ عدد منالخبراء لدراسة أفضل الوسائل لإخصاب الأراضي البور والمناطق الجرداء في الصحاري والقفار. ونشرت تقريراً مسهباً عن هذا الموضوع تلبية لرغبة أبدتها بعض الدول الآسيوية والإفريقية - منها مصر والمملكة السعودية والباكستان والهند - التي يتوفر لها مساحات شاسعة من الأراضي الجديبة، إذا استطاع العلم الحديث التغلب على عقمها أعان شعوب هذه المناطق وحكوماتها على زيادة الإنتاج الزراعي ورفع مستوى المعيشة بين السكان.

والأساليب التي يتبعها الخبراء لتنمية الزراعة في الأراضي الرملية والمناطق المقفرة تستند

ص: 46

إلى وسائل فنية تحفظ الرطوبة التي يجلبها الشتاء إلى تربة تلك المناطق؛ وذلك بزراعة حوالي 20 صنفاً من أصناف النبات التي يعيش في مناطق خط الاستواء والمناطق الحارة، منها نبات الصرغم وبعض أنواع الذرة الاستوائية ونبات الصمغ. وهذه الأنواع من النبات تضمن استمرار الرطوبة إلى مدة من الزمن كافية لزرع الحبوب وأنواع العشب الصالحة للرعي التي تستطيع أن تعيش على هذه الرطوبة الكامنة

وقد عادت هذه التجارب بنتائج طيبة. فقد نجحت زراعة القمح والشعير في مناطق رملية لا يصيبها المطر ولا تصل إليها مياه الري. وتنشط الآن حكومات الدول المذكورة لتقيم هذه الأساليب في مساحات شاسعة من أراضيها الصحراوية القاحلة.

الفن والحياة كما يراهما الألمان

(أيكون الفن تصويراً لشيء يعرفه الناس أم يكون اكتشافاً لحقائق جوهرية عن الحياة لا يعرف الناس عنها شيئا وإنما يكشف القناع عنها الفنان المبدع؟)

هذا التساؤل هو موضوع لكتاب أخرجته للمطابع الألمانية مؤخراً وتلقفته الأوساط الأوربية الأخرى بالترجمة والتعليق. ومؤلفة الكتاب سيدة هي (جولي براون - فوجلستين) وقد وضعت له عنوان يعبر عن مضمونه (الفن: مرآة الحضارة الغربية)

وتتخذ المؤلفة الفن الغربي سجلاً للتطور العقلي والحضري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع في أوربا وأمريكا. وتحاول المؤلفة كذلك أن تثبت بأن التفسير التاريخي لبعض الحوادث في الحياة الغربية يعجز عن إظهار الحقيقة وراء هذه الحوادث؛ بينما يكون في مقدرة التفسير الفني لهذه الحوادث أن يلقي الضوء الصادق فيظهر هذه الحقيقة

وتسرد المؤلفة في لغة الفنان معادلات جبرية بين فن النحت الإغريقي وبين ظمأ قدماء الإغريق إلى معرفة الحقيقة المجردة في النظام الكوني ثم بين هندسة الفن المعماري في إمبراطورية روما وبين تعشق الرومان إلى توسعفي السيطرة والبذخ. وتلمس المؤلفة التفسير الحقيقي للتطور النفساني والعقلي للرجل الغربي في القرنين الماضيين وما ألم به من مسؤوليات جسام في علاقته مع التطور الحضري الذي اكتسح العالم الغربي. وتلتمس المؤلفة الحقيقة في هذا التطور في المذاهب الفنية الأوربية. فالتطرف الذي ألم ببعض هذه

ص: 47

المدارس في التعبير أو في المظاهر الشكلية للرسم والنحت والموسيقى دليل على القلق الذي ألم بالحياة والنفس في العصور الحديثة؛ ورغبة الناس في تلمس نوع من الاستقرار النفسي. فتشعب المذاهب الفنية تعبير عن هذا القلق وبيان عن الرغبة في تحقيق الاستقرار بالثورة على التقاليد الفنية.

تحديد التراث الأوربي في دراسة أعلامه

تساءل المستر (ويليام باريت) صاحب مجلة (بارتيسان ويفيد) لسان الطليعة في الأدب الأمريكي قائلا: ما هو الإنتاج الذي سيعرف به الأدب الغربي الحديث؟ واتخذ المستر باريت أربعة من عظماء الأدب الأوربي المعاصر علماً على هذا الإنتاج هم: (بودلير) و (بول فاليري) الفرنسيان و (رينر ماريا ربلكه) الشاعر التشيكوسلوفاكي و (بنديتو كروتشي) المفكر الإيطالي الذي توفي في الشهر الماضي ويعتقد هذا الكتاب الأمريكي بأن من الصعب تحديد الإنتاج الخالد في الأدب الغربي الحديث؛ ولكن في استطاعة مؤرخي الأدب الغربي أن يتخذوا هؤلاء الأعلام الأربعة موضوعاً لهذا التحديد.

أما (بودلير) فالرأي بين النقاد السكسونيين وفي طليعتهم الشاعر العظيم (ت س. اليوت) أن بودلير في قرارته شاعر مسيحي برغم ما يشتم في كتاباته من إلحاد. وجدير بالذكر أن (جول بول سارتز) الفرنسي يخالف النقاد السكسونيين في (مسيحية) بودلير ويؤكد ذلك في دراسات نشرها مؤخرا عن مواطنه بودلير. وسارتر في دراسته الأخيرة يجرد بودلير من معظم المزايا الأدبية والروحية التي وفرت له مكانته المرموقة في الأدب الغربي الحديث.

ويصف النقاد السكسونيون (بول فاليري) بأنه شاعر يلعب في شعره بالمعادلات الرياضية ولذلك يتصف نظمه بالبرود والجفاف.

ولعل وصف فاليري بالجفاف الأدبي يعود إلى الثقافة العميقة التي توفرت لهذا الأديب الفرنسي الفحل، فطغت على إحساسه الشعري وقيدت بعض الأحاسيس الشاعرية الرقيقة التي لا بد أن تنزوي في استحياء أمام الإدراك الثقافي العميق.

أما عبقريةالشاعر التشكوسلوفاكي (رينر ماريا ربلكه) فلم تحظ بالدراسة والنقد العميق. فإذا جاز لنا أن نأخذ النقد الأدبي على أنه صنعة تهدف إلى إبراز العيوب أكثر مما تهدف إلى الإشادة بالإبداع الفني، فان النقاد حين يعالجون شعر (ربلكه) يميلون إلى اتهامه بالقصور

ص: 48

في إبراز النواحي الدراماتيكية في الشخصية الإنسانية. وثمة أمر يتعصب النقاد في الغرب له عندما يدرسون شعر هذا العبقري الأوربي وهو سلبية (ربلكه) إزاء المسيحية ودعائمها الروحية والثقافية. ومع ذلك فقد حاول مؤخراً ناقد ألماني معروف وهو (هانس إيجون هولنوسن) بأن يثبت في دراسة عميقة للشاعر (ربلكه) أن قصائده قد ساهمت في تمجيد الإحساس الديني أكثر من أي نتاج شعري آخر.

ويحظى عميد الفكر الإيطالي المعاصر المرحوم (بنديتو كروتشي) بإجلاء الأوساط الفكرية وتقديرها العميق. فكروتشي علم على طلاقة الفكر والأدب والفن وانطلاقه من القيود التي يقيده بها السلطان والمجتمع. فهذا الشيخ الجليل، الذي تحدد موسيليني في أوج جبروته ورفض التعاون مع من ورثوا السياسة والحكم بعد موت موسيليني، عنوان على صلابة ومتانة الخلق حين تعتقد بما اعتقدت به عقلياً وروحياً، ولا بأس من أن تجهر بما تعتقد وتدافع عما تؤمن به حتى لو استدعى ذلك نقمة الواقفين للفكر الحر بالمرصاد.

ص: 49

‌في عالم الكتب: نقد وتعريف

موكب الأشباح

ترجمة الدكتور عبد الحميد عنبر والأستاذ فتحي عبد الوهاب

هذا الكتاب الجديد يندرج تحت عنوانه طائفة من القصص المطولة والأقاصيص القصار، منقولة نقلاً أميناً عن جهابذة الفن القصصي في الغرب من أمثال موباسان وسمرست موم وبييرميل وغيرهم ممن لمعت أسمائهم في عالم القصة الزخار.

والكتاب مصبوب في قالب من الأخيلة والرموز على نمط تلك الأقاصيص التي برع فيها الكاتب السويدي هانز أندرسن.

وأحد المترجمين الفاضلين، وهو الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب معروف لقراء (الرسالة) بتلك البحوث العلمية القيمة التي يطالعهم بها بين الفنية والفنية. وهو الذي تولى عن زميله تقديم الكتاب. وأعترفبأني أعجبت بهذه المقدمة أو بالجانب الأكبر منها؛ لأنها تكشف عن كثير من جوانب الضعف الإنساني، فنحن (نحلق في أجواء الخيال فنبني قصوراً من المخاوف، ونخلق أنواعاً من مسوخ فرانكنشتاين ومصاصي الدم أمثال دراكيولا، وغير ذلك من غريب ما يخلقه الفكر).

بيد أني وقفت طويلا عند قول الأستاذ عبد الوهاب (إذا بحث باحث عن تاريخ قصص ما وراء الطبيعة يجد إن من أهم أسباب نشأته الخرافات والمعتقدات والرغبة في معرفة ما وراء الموت ثم الخوف والرهبة من الظلام) إلى آخر ما قاله في هذا الباب من تفصيل يتناول المدارس المختلفة لقصص ما وراء الطبيعة.

أقول إني وقفت طويلاً عند قول الكاتب هذا، ثم أعدت تلاوة المقدمة خشية أن يكون فاتني منها شئ، غير إني تأكدت إنه لم يفتني منها شئ، وإنما فات الكاتب الفاضل، فإن قصص ما وراء الطبيعة كانت بداءة ونشأة للأدب الرمزي، ذلك أن الأدباء الأقدمين اصطنعوا الكناية ليعبروا برموزهم عن مقاصدهم السياسية التي لو افصحوا عنها لقطعت رءوسهم وبذلت أرواحهم، وقد سبق إلى ذلك ابن المقفع فأنشأ (كليلة ودمنة) وأورد أراءه السياسية كلها حكاية على ألسنة الحيوان والوحش والطير، ثم قفاه أبو العلاء المعري فحلق في (رسالة الغفران) إلى السماوات السبع ودخل الجنة وانحدر إلى الجحيم، وكذلك فعل مؤلف

ص: 50

كتاب (ألف ليلة وليلة) وإن كتاب (الكوميديا الإلهية) الذي وضعه دانتي الإيطالي في العصر الوسيط لمثل بارز على أن المؤلف أراد أن يرمز إلى آرائه الخفية في الإصلاح الديني وفي النهضة الأوربية التي كانت تتمخض في عهده.

إذن فليس الخوف من المجهول وحده هو الدافع إلى سرد قصص ما وراء الطبيعة والتخويف بالغول والعنقاء والهورلا التي ينقل المترجمان الفاضلان قصتها، ذلك لو أننا جارينا كاتبنا الفاضل على هذا الرأي لسلبنا هذا النوع من القصص ركناً من أهم أركانه، فهو من أهم دعائم الأدب الرمزي الذي يميل إلى التضمين الخفي والكناية البعيدة.

والكتاب الأحرار في عصور الطغيان يفزعون إلى هذا النوع من الأدب فيستنطقون الحيوان ويناجون الأشباح، وهم في ذلك كله إنما يومئون إيماءات ذات مغزى ويبدون آراء لها قيمة فيما يجري من الأحداث.

وبعد فإن الكاتبين الفاضلين ليستحقان الثناء على ما بذلا منجهد وعلى ما قدما من صنيع.

منصور جاب الله

ماتزيني

تأليف الأستاذ علي أدهم

ماتزيني علم من أعلام الجهاد الوطني، ومثل من أمثلة الصبر على المكاره في سبيل الغاية المنشودة. وحسبنا أنه قضى أكثر من خمسين عاماً يقاسي آلام النفي والتشرد مكافحا ضد استعمار النمسا لبلاده إيطاليا، وعاملاً على تحقيق استقلالها ووحدتها. وقد عاش حتى رأى وطنه يستقل ويتحد فكان في مقدمة بانيه. ولماتزيني من جهة أخرى اشتغال بالأدب ورأي في النقد، ولو تفرغ لهذا لكان من أعلام الأدباء.

وقد صور لنا الأستاذ علي أدهم شخصية متزيني تصويراً دقيقاً قام على التمحيص والاستيعاب، فأنت تقرأ في كتابه هذا عن متزيني الزعيم الوطني المجاهد ومتزينيالأديب النقادة.

وقد أحسن الأستاذ أدهم صنعا بتقديم هذه الشخصية الفذة لأبناء العربية في وقت هم فيه أحوج ما يكونون إلى المثل في الكفاح والصبر على المكاره.

ص: 51

المسيح عيسى بن مريم

للأستاذ عبد الحميد جودة السحار

هذا كتاب جمع بين الدراسة والقصة في طريقته. يتبع فيه الأستاذ عبد الحميد السحار حياة المسيح مرحلة مرحلة؛ يصف لك بخياله الموفق بيئة المسيح عليه السلام وكيف نشأ؛ ثم يتتبعه رسولاً لبني إسرائيل ويصف أسلوبه في تبليغ رسالته وصلة حواريه به، وخلاصة هذه الرسالة، ثم يريك كيف كانت خاتمته، كل ذلك في أسلوب مشرق رصين، وقصص ممتع. وقد جعل المؤلف ما جاء عن المسيح في القرآن محور دراسته، فهو يبدأ أكثر الفصول في كتابه بآية من كتاب الله مناسبة لما يدور حوله ذلك الفصل، ويرد أكثر ما عرف من حياة المسيح إلى ما تتضمنه هذه الآيات البينات في كياسة ودقة نظر، مما يجعل كتابه هذا جامعاً بين المتعة والثقافة ومستوجباً الثناء الحق.

شمس الخريف - بعد الغروب

للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله

هاتان قصتان للأستاذ عبد الحليم عبد الله؛ وقد أصبح للأستاذ عبد الحليم مكان مرموق في مجال القصة المصرية الناشئة، يبشر فيما نأمل بمستقبل مجيد. ومن حق قصتيه هاتين أن نعرضهما في مجال النقد، بعد هذا التعريف الذي نبدأ به.

تدور القصة الأولى حول مسألة هي: ماذا تأخذ منا الحياة وماذا تعطي؟ وهي قصة شاب سرقته أمه وهو صغير من بيت أبيه بعد أن تزوجت برجل آخر في الإسكندرية. وهاجر الشاب إلى القاهرة تاركاً صبية له كانت فتاة ريفية خادما هي كل من يحنو عليه من الناس ولقى في القاهرة ألواناً من العذاب والحرمان، ومازال يخرج من شقاء ليدخل في غيره، وقد انقطعت الصلة بينه وبين أمه، وبينه وبين حبيبته زمناً. وماتت أمه وتزوجت حبيبته، وتزوج هو من سيدة قبلها على خطيئة لها فعاشت معه مكفرة عن خطيئتها ثم ماتت بداء الصدر، وقد أنجبت له ولداً، عاش أبوه حتى رآه طبيبا للأمراض الصدرية، وسعد الأب بابنه وأبتسم له الدهر بعد عبوس طويل.

أما القصة الثانية فهي قصة الفقير الوهوب يشق طريقه في الحياة. وأبن فلاح يتخرج في

ص: 52

كلية الزراعة فيجد أرض أبيه وقد انتزعها أحد المصارف، فيعمل ناظراً لأحد الضياع ويحب أبنه صاحب الضيعة وتحبه، ويريد أن يتزوجها لكن أباه يرفض ذلك رفضاً قاطعاً، ويوصي عند موته بأن تكون أبنته لأبن عمها، وتعرض هذه الفتاة عن حبيبها تنفيذاً لوصية أبيها ومخافة من الشائعات وسوء الظن بها إذا هي تزوجته بعد موت أبيها.

ويطرد أبن عمهاذلك الشاب من الأرض، فما يزال يكدح في سبيل رزقه حتى ينتهي به الأمر إلى أن يصبح رئيس تحرير إحدى المجلات.

ويكتب قصته يصف فيها مأساة قلبه، ويضفي على حبيبته ألواناً من الغدر وعدم الوفاء، فتذهب للقائه وتذكر له حقيقة أمرها

يتذكر كل منهما ماضيه، ولا يأسف الرجل على شئ من هذا الماضي، وإنما الذي يكدر عليه حياته حاضره الخالي من الولد؛ وقد استبان له أخيراً أن السعادة الحقيقية إنما هي في الولد

والأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله يكتب في أسلوب عربي صحيحخال من التكلف، وأسلوبه جدير بالنقد الذي لا يتسع له هذا المجال. ولعلنا نعود إلى قصتيه هاتين في فرصة قريبة بما يستحقان من نقد وتقدير

الخفيف

ص: 53

‌مسرح وسينما

صندوق الدنيا

تأليف الأستاذ توفيق الحكيم

إخراج: الأستاذ سعيد أبو بكر

تمثيل: فرقة المسرح المصري الحديث

للأستاذ علي متولي صلاح

لا أدري من الذي أطلق على هذه التمثيليات القصيرة اسم (صندوق الدنيا)؟ أهو المؤلف؟ أم المخرج؟ وسواء أكان هذا أم ذاك فإن الشيء الذي لا شك فيه هو أنه إنما أريد بهذه التسمية جلب المتفرجين، فإن كلمة (صندوق الدنيا) كلمة شعبية لها استدعاء خاص في نفوس سواد الناس الذين كان هذا الصندوق الخشبي يبهرهم ويستهويهم عندما يطوف بهم في القرى والمدن وهم أطفال يدرجون.

ولو أنهم سموه (صندوق العجائب) لكانت التسمية أدنى إلى الصدق؛ فإن الذي طلع به علينا هذا الصندوق إنما هو من الخوارق العجائب حقاً:

وهل نشاهد في حياتنا الدنيا كثيراً من أمثال (صالح بك زهدي) الذي يحتقر المال ويزدريه وهو ومن يعولهم أحوج ما يكونون إليه؟ أو هل نرى كثيراً من أمثال (سهام) تلك الفتاة التي ملأت نفسها شهوة القتل وتأجج بها فؤادها وملكتها (رغبة جامحة وقوة قاهرة تدفعها إلى أن تقتل شخصاً) كما تقول؟ أو هل نرى كثيراً من أمثال (عبد الغني بك) البخيل الذي أربي على البخلاء العالميين الأفذاذ من أمثال (الكندي) و (ليلى الناعطية) بخيلي الجاحظ، و (هارباجون) بخيل موليير، و (شيلوك) بخيل شكسبير، و (أوجين جرانديه) بخيل هونورية دي بلزاك؟ إن هذه الشخصيات فلتات في الحياة الدنيا، ولكن الرغبة في ازدحام المسرح بالناس هي التي أدخلتهم (صندوق الدنيا) ولا أدري لماذا يتشبث الأستاذ توفيق الحكيم بأن يصف هذه التمثيليات المتفرقة باسم (مسرحية) ويأتي جاهداً إلا أن تكون مسرحية واحدة رغم ما بينها جميعاً من (كمال الانقطاع) كما يقول رجال البلاغة؟ مع أن

ص: 54

المسرحية القصيرة أكثر مشقة على المؤلف، وأشد تضييقاً عليه بحكم قصرها وقلة أشخاصها ومناظرها عن المسرحية الطويلة، وتوشك المسرحية القصيرة أن يكون لها القدح المعلى في العصر الحديث؟ أغلب الظن أن المؤلف لم يجد بداً من هذه التسمية وهو يقدم هذه الفصول إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، أو أنه استشعر الحرج إن هو سماها باسم جديد لم يألفه الناس فجنح إلى السلامة وتكلم باللغة المألوفة عند الناس - وهو يضمر غير ذلك - ثم أخذ يبحث عن الأسباب هنا وهناك! وأخذ يؤكد للناس أن الحكمة في جمع هذه الصور المتعددة في صعيد واحد أن ذلك (ما يساعد على إظهارصور المجتمع في أضاعه العديدة المختلفة) وذلك قول مردود؛ فليس المهم في المسرح أن تكثر المعروضات وتزدحم الموضوعات فهذا ميدانه الملحمة لا المسرحية، وقد يتناول المؤلف المسرحي غريزة واحدة أو معنى واحد فيقيم عليه مسرحية ضخمة، تنبثق منه العبرة، ويفيض على جوانبها الفن والجمال، كما فعل شكسبير مثلاً حيث تناول غريزة (الغيرة) فأقام عليها مسرحية عطيل، غريزة (الجشع) فأقام عليها مسرحية مكبث، وغريزة (الانتقام) فأقام عليها مسرحية هملت، وغريزة (الحماقة) فأقام عليها مسرحية الملك لير، والمسرح (لقطة) واحدة من الحياة تعيشها ساعتين أو ثلاثاً متحداً مع ما تراه، مندمجاً فيه بقلبك وعطفتك، وليس المسرح (معرضاً) كبيراً أو (موكباً) ضخماً يمر بك وأنت منفصل عنه تراه بنظرك ولا يستطيع قلبك وعاطفتك أن يتابعاه!

ولقد كتب الأستاذ توفيق الحكيم هذه المسرحيات بلغة أقرر أنها المسرح حقا، كتبها باللغة العربية السمحة السهلة المشرقة التي لا تعلو على إفهام السواد الأعظم من الناس، والتي لا تزيد على ما يتكلمونه إلا خطوة ضئيلة هي أقصر خطوة - فيما نعرف - بين العامة والعربية، وذلك أمر ليس - كما يتصوره البعض - سهلاً ميسوراً؛ فإن تقريب العربية إلى العامية مع المحافظة على سلامتها ونقائها وإمكان أن يفهمها الناس جميعا، أمر فوق أنه لا غنى عنه في لغة المسرح، فهو عسير غاية العسر، وقد استطاعه - إلى حدكبير - صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم كما استطاعه صديقنا الأستاذ علي أحمد باكثير.

هذا أمر أشهد به ويسرني أن أشهد به، وأرجو أن يعلم المؤلفون المسرحيون أن الجزالة والفخامة وضخامة الألفاظ وغرابتها ليست من المسرح في شئ. . وإن كنت ما أزال أرجو

ص: 55

المزيد من الأستاذ توفيق الحكيم؛ وآخذ عليه بعض كلمات كان الأولى أن يتجنبها، كقوله (مقدم الصداق) ولو قال (المهر) لكانت أيسر، وكقوله (إنني أثيرة عندك) ولو قال (إنني مفضلة عندك أو إنني عزيزة عليك) لكان أقرب، وكقوله (وهكذا دواليك) وهذه عسيرة جدا على المسرح ولو قال (وهكذا تدور أو هكذا تمضي الأيام) لكان أخف كثيراً. على أنني أرجو كذلك أن يجمع الأستاذ إلى سهولة اللغة سلامتها من فساد قد يكون أضفاه عليها العرف، فهو يقول مثلا (إن رزقه محدود لا يكاد يكفي لفتح هذا البيت) وكلمة (فتح بيت) هذه قد أعطاها العرف معنى غير كريم فكان أولى أن يتجنبها المؤلف. . ولقد أسلم المؤلف هذه المسرحيات بلغتها السمحة السهلة التي يقرؤها الناس في كتابه (مسرح المجتمع) إلى ممثلين أبوا - كما حدثنا الأستاذ المؤلف - إلا أن ينزلوا بها إلى العامية اعتقاداً منهم أنها عسيرة على إفهام الناس وأنهم لن يستطيعوا متابعتها، وقد تنتهي ذلك بالإعراض عنها، ولكنهم في ذلك جد مخطئين.

أما المسرحية الأولى (دنيا المبادئ) فتقوم على رجل لا تستهويه المادة وهو أشد الناس حاجة إليها، رجل يؤثر الفضيلة والأخلاق على أعراض الحياة؛ ويؤمن إيماناً بالمثل العليا ولو جلبت له الفقر ولذويه الحاجة والحرمان ويذكرني هذا الرجل الذي قدمه لنا توفيق الحكيم في مسرحيته هذه وأعنى به (صالح بك زهدي) برجلين قدمهما لنا من قبل الكاتبان الشهيران: مولييرو هنريك إبسن، فقد قدم لنا الثاني (دكتور ستوكمان) وهذان الرجلان وصاحبهما الجديد (صالح بك زهدي) يقفون من الحياة موقفاً واحداً، ويتخذون صفات واحدة، وإذا عرفت أحدهم فقد استغنيت عن صاحبيه!

وليس في هذه المسرحية بناء مسرحي على الإطلاق وإنما هي حوار طويل جداً بين رجلين أستغرق في كتاب الأستاذ المؤلف اثنتي عشرة صفحة كاملة لا حركة خلالها، ولعل الأستاذ المؤلف قد استشعر الملل الذي استشعره النظارة، فأراد أن يكسر حدته بأية حركة، فأدخل الخادم بصينية القهوة بعد تسع صفحات كاملة! على أن المخرج مسئول عن ذلك أيضاً، فالمخرج ينبغي أن يكون أكثر إحساساً بعواطف الجمهور من المؤلف، والمخرج ليس آلة صماء في يد المؤلف، ولكنه متمم له يستدرك ما يفوته، ويكمل ما ينقصه. ولم يكن بطل هذه التمثيلية وأعني به (حمدي غيث) يمثل وإنما كان يخطب! وتلك النزعة إلى

ص: 56

الخطابة تلازمه كثيراً، ويبدو أنه يجد فيها نوعاً من التميز والتفرد والبروز على إخوانه، وأنا أرجو أن يحد من هذه النزعة المسيطرة عليه، وأن يلبس لكل حال لبوسها قبل أن يستحيل إلى يوسف وهبي آخر! وإن لم يستطع فليعتزل التمثيل إلى سواه. . .

وأما المسرحية الثانية (دنيا الوفاء) فتقوم على أزمة نفسية خطيرة ملأت قلب فتاة شابة هي (سهام). . . أزمة الرغبة الجامحة في القتل، رغبة (ليس باعثها الانتقام بل لا باعث لها على الإطلاق. إنها شهوة القتل لذاتها مجردة عن أي باعث) إن هذه الفتاة كما صورها المؤلف (فتاة تصوم وتصلي ويتمزق قلبها رحمة بالطفل البائس أبن الكناس فتصنع له بيدها ثوباً يكسو عريه، فتاة حسناء وديعة مثقفة، لا تطيق سماع مواء قطة جائعة. ولكنها مضطرة برغبة جامحة إلى أن تقتل شخصاً، وما تكاد تنفرد بخادم في المطبخ وفي يدها سكين حتى تلمع عيناها ببريق غريب وتهم بطعنه) هذه هي فتاة توفيق الحكيم. . فتاة يرثى لها ويشفق الإنسان عليها، فلما تسلمها منه الممثلون أحالوها فتاة مضحكة ترفه عن النظارة وتسرهم بما تأتي من حركات بهلوانية متكررة طويلة!

على أني أسأل الأستاذ المؤلف لماذا سكنت ثائرة الفتاة في النهاية مع أن القتل لم يتم؟ هل يكفي لتسكين هذه الثورة الجامحة أنها (اعتقدت أنها قتلت) كما يقول الأستاذ مع أنها تبينت الأشخاص الثلاثة الذين صوبت إليهم مسدسها فوجدتهم في سلام؟ وتبينت كذلك أن مسدسها كان محشوا بالبارود الذي لا يقتل؟ لو أن المؤلف جعل الفتاة تولي الأدبار عقب إطلاقها مسدسها مباشرة ودون أن تتبين شيئاً مما حدث لكان أدنى إلى المعقول وأقرب إلى منطق الأشياء، لأن الفتاة كانت تعتقد حقاً أنها قتلت

وآخذ على الأستاذ المؤلف أنه يفسر موقف الفتاة فيقول (آه. . لقد قتلوا فيك روح الحياة، فحل فيك حب الموت) وذلك بعد تمهيد مفتعل ليؤدي إلى هذا الكلام. وهذا التفسير اللفظي ليس من المسرح في شئ، فالمسرح تفسره الأفعال لا الأقوال كما يعلم الأستاذ، وإنما يحتاج إلى الكلام إذا لم تستطع (الأفعال) وحدها أن تقوم بالتفسير والإفهام!

وأما المسرحية الثالثة (دنيا الأعمال) فهي أدنى هذه المسرحيات إلى واقع الدنيا، وتقوم على صورة من الاتصالات غير الشريفة بين الشركات وبين رجال الحكومة الذين يسترون أعمال هذه الشركات في دور الحكومة نظير سهرات لطيفة، ورشاوى و (إكراميات)

ص: 57

طريفة، وهي مسرحية تقوم على مشاهد مألوفة كثيراً لدى رواد المسارح، والحوار فيها حسن، والدور الذي قامت به (سناء جميل) وهو دور المغنية المبتذلة كان شاقاً وقد أحسنت القيام به إلى حد كبير، غير أنها لم تخف تبذلها بعد حضور زوجة الرئيس وتقديمها إليها على أنها زوجة مدير الشركة رغم هذا! وأعجب من هذا وذاك ألا تكون بهذه الشركة الكبيرة حجرة للاستقبال فتدخل زوجة الرئيس إلى حجرات صغار الموظفين والمفروض أنها مشغولة بهم لولا المصادفة!

أما المسرحية الرابعة (دنيا المال) فتقوم على شيخ بخيل يذكرني بصفة خاصة بهارباحون بخيل (موليير). . ولا أدري كيف ينسى هذا البخيل العتيد أن يجعل للتلفون قفلاً ويتركه لخادمه مفتوحاً في حين أنه أوثق الرتاج على البن والسكر! ولا أدري كيف يبقي خادمه (بسطويسي) عنده عشرين عاماً متوهماً بأن له في (الوقفية) نصيباً وهو أدرى الناس بسيده وبكاذب وعوده؟ ولا أدري لماذا يأنى (عدلي كاسب) بحركات جسيمة كثيرة جدا لا مدلول لها في تصوير هذا البخيل؟ ولا أدري لماذا لم يظهر (عبد الرحيم الزرقاني) و (كمال يس) في صورة الكهلين الجليلي المنظر كما أرادهما المؤلف؟ ولماذا يكره الناس الكهولة حتى في التمثيل؟

وبعد: فهذه كلمة عرضنا فيها المسرحيات الأربع التي ألفها الكاتب الكبير الأستاذ توفيق الحكيم، ونجمل الرأي فيها بأنها خفيفة الظل جيدة الحوار حسنة اللغة، وأنهكان من سوء حظها أن وقعت في يد ناشئ لا يكتفي بأن يكون ممثلا ولا يرضى إلا بأن يكون مخرجاً أيضاً رغم عدم توفر الوسائل لديه، ووقعت في يد ممثلين كانوا أضعف من المسرحيات كثيراً.

علي متولي صلاح

ص: 58

‌أخبار أدبية وعلمية

معهد الدراسات العربية العليا

اتفق رأي جامعة الدول العربية بعد بحث عميق شامل على أن تنشئ بالقاهرة معهداً للدراسات العربية العليا تديره وتنفق عليه، وسيكون طلابه من خريجي الجامعات ومدة الدراسة فيه سنتان. أما الغاية من الدراسة فيه فهي التخصص في كل ما يتصل بالبلاد العربي من قوانين وآداب وتاريخ وجغرافيا، وما يندرج تحت هذه الأصول من فروع وجزيئات تمس العروبة من قريب أو بعيد في الحاضر والمستقبل. وستوزع هذه المواد الأربع على أقسام أربعة يكون بكل قسم منها رئيس يشرف عليه ويحاضر فيه. وقد اتفق على أن يعين فيه سبعة أساتذة دائمون يختار من بينهم مديره. أما الأساتذة الآخرون فيكونون محاضرين ينتدبون كل عام من البلاد العربية أو من غيرها على حسب التخصص والكفاية والحاجة. وسيكون للمعهد مكتبة عظيمة تجمع المطبوع في شتى المواد وقد أرصد لها في ميزانية السنة الأولى أربعة آلاف جنيه.

وسيبحث مجلس الجامعة في شهر مارس المقبل ميزانية المعهد وينظر في اختيار أساتذته الدائمين ليكون معداً للعمل في شهر سبتمبر المقبل. وقد علمنا من بين السبعة المرشحين للكراسي الدائمة الأساتذة عبد الرزاق السنهوري، وساطع الحصري، وشفيق غربال، وعبد الحميد العبادي.

جهاز جديد لتغذية المرضى

تمكن الأطباء في الفرقة الطبية من الأسطول الأمريكي من استنباط جهاز جديد لتغذية المرضى في حالة الغيبوبة والإصابات التي لا يستطيع معها المرضى ابتلاع الطعام. والجهاز الجديد بسيط التركيب يتألف من أنبوبة دقيقة تتصل بالمعدة عن طريق الفم وتوصل الطعام إلى معدة المريض بواسطة مضخة تراعي في نقلها الغذاء إلى المعدة حساسية الأنسجة والجهاز التكويني المعد لمعدة الإنسان بحيث لا يتأثر هذا الجهاز المعدي بالطعام المفروض عليه فرضاً فلا يتقيأ ولا يعبأ بالشعور الواعي للمريض.

العلم ومتاعب الشيخوخة

ص: 59

العمر طال أو قصر في يد الله. ومع إيمان عدد من كبار العلماء في جامعة أكسفورد بهذه القدرية الإلهية فان ذلك لم يمنعهم من تركيز جهد خاص في السنوات الأخيرة لمعالجة متاعب الشيخوخة في نواحيها الصحية والنفسية.

وقد وجد هؤلاء العلماء أن نسبة الشيخوخة في سكان الأرض قد ارتفعت في الآونة الأخيرة ما جعل أكثرهم عالة على المجتمع وعلى الدولة التي تأخذ بمبدأ الضمان الاجتماعي للعاجزين والمعمرين.

وقد نشر هؤلاء العلماء مؤخراً تقريرهم عن الدراسة التي قاموا بها وأوحوا إلى الذين تقدمت بهم السن أن يراعوا الإرشادات التالية إذا رغبوا في أن تمر شيخوختهمبسلام.

1 -

الحرص دائماً على الاعتماد على النفس وتفادي الاستعانة بالآخرين ما استطاع الشيخ إلى ذلك سبيلا. فشعور الشيخ بأنه عالة على الآخرينيخلق له أزمات نفسية سيئة ويجعل احتمال الآخرين له مشوباً بطابع التأفف والملل.

2 -

من الخير للذين تقدمت بهم السن أن يحاولوا دائماً القيام بعمل عقلي وجسمي ليثبت لنفسه وللآخرين رغبته في أن يكون غير مشلول النشاط في المجتمع الذي يعيش فيه. ويجب أن يراعي الشيوخ أن طاقتهم على العمل العقلي والجسمي محدودة بالقياس إلى طاقة الذين هم دونهم في العمر والقوة الجسدية. ولذلك فإن نشاط الشيوخ يجب أن يراعي هذه الحقيقة فيتجنب منافسة الآخرين لئلا يجلب على نفسه لوناً من النقد والتحدي الذي ينفر الناس منه أما الإرشادات الصحية التي نصح علماء الأعصاب بها الشيوخ فهي:

- تفادي الإرهاق العصبي.

- الإكثار من تناول الفيتامينات من مختلف الأنواع.

- التريض الخفيف الذي لا يرهق الجسم، والتعرض للهواء الطلق وأشعة الشمس الدافئة.

اكتشاف جديد في عالم الآثار

كان الرأي السائد بين علماء الآثار أن الأهرام التي بناها قدماء المكسيك (المايان) في أمريكا الوسطى لم تكن تحتضن قبوراً أو هياكل دينية أو ما شاكل ذلك من طقوس الدفن التي تعرف بها أهرام مصر وآثارها الفرعونية وقد حدث منذ بضعة أسابيع أن توصل

ص: 60

عالم مكسيكي إلى كشف دهليز سري متفرع عن أحد الأهرام في أنقاض مدينة (بالانك) في جمهورية المكسيك يؤدي إلى معبد دفنت فيه ست جثث لستة من الصبايا والفتيان الذين يعتقد أنهم من كهنة المعابد في عهد (المايان) الذي كانت حضارته تعم تلك الجزر من أمريكا الوسطى قبل اكتشاف كولومبوس لها. وسرعان ما أثار هذا الاكتشاف الأثري اهتمام علماء التاريخ القديم فتدفقت البعثات الأثرية على المكسيك لتحاول أن تكشف ما ضمنته أهرام المكسيك القديمة من تراث يلقى ضوءاً جديداً على حضارة ذلك العهد البائد.

كاتب إيطالي بارز يؤلف بلغتين في وقت واحد

ينفرد المؤلف الإيطالي (كارلو كاتشولي) بين كتاب الجيل بأنه ينشر كتبه في لغتين: الإيطالية والفرنسية في آن واحد، فيبدأ بالإنشاء على الآلة الكاتبة الإيطالية مباشرة، ثم يتوقف بعد ساعات من العمل يترجم ما كتبه إلى الفرنسية بالقلم الحبر.

وكاتشولي نابه يحسن اللغة العربية ويتتبع إنتاجها الفكري. وقد ظهر له حتى الآن عدة كتب ناجحة منها كتاب (السماء والأرض) الذي ترجم إلى عدد من اللغات الحية. وهو يحمل دكتوراه في (إدارة المستعمرات) من جامعة نابولي. وقد خدم في السلك السياسي الإيطالي في مستعمرات إيطاليا الإفريقية السابقة.

المكتبات العامة وكتب الدعاية

رفض مؤتمر الاتحاد الأمريكي للمكتبات العامة الذي أنعقد مؤخراً قبول اقتراح عرضه عليه نفر من رواد كبريات المكتبات الشعبية لفصل الكتب التي تحمل في ثناياها دعاية شيوعية عن بقية أجزاء المكتبة، والإبقاء على تصنيفها في المواضيع التي تعالجها كما هو الحال في بقية أنواع الإنتاج الفكري الذي تصنفه المكتبات.

واستند المؤتمر في رفضه لهذا الاقتراح إلى أن المكتبات تحتوي الغث والسمين فلا حاجة لفرض رقابة قاسية على القارئ الذي من حقه أن يكتشف لنفسه صلاح الكتاب وشره.

عالم روسي يدعي الخلق الصناعي

تزعم أكاديمية العلوم الطبيعية في موسكو أن أحد العلماء الروس قد استطاع القيام بتجربة علمية جديدة تعد من أخطر التجارب في تاريخ العلوم الطبيعية.

ص: 61

واسم العالم ب. بوشيان، وقد تفرغ في السنوات الأخيرة على

التجارب في علم الحيوان. وقد نشر في إحدى المجلات العلمية

الهامة مؤخراً بحثاً ادعى فيه أنه قد توصل إلى أن يستخرج

من موات المادة الجرثومية تنبض بالحياة، وأنه استطاع كذلك

أن يحول هذه الجرثومة إلى مكروب. أما حجم الجرثومة التي

أدعى هذا العالم الروسي أنه قد خلقها من المادة الميتة فتبلغ

112 مليون من المليمتر - وهو حجم لا يرى إلا بأدق

المجاهر.

ولم يستطيع العلماء خارج الاتحاد السوفيتي أن يتأكدوا من صدق هذه التجربة الخطيرة التي تعد تحدياً للعزة الإلهية. ومن هؤلاء العلماء من يتهم الروس بترويج هذا النبأ ليهدموا ما تبقى من العقيدة الدينية في المجتمع الشيوعي.

البترول في إفريقيا

أصدرت الجمعية الأمريكية لعلم الأرض تقريراً عن المعادن والمواد الأولية في القارة الإفريقية جاء فيه أن بطن الأرض الإفريقية يحتوي من مواد البترول ما يفوق أهم المناطق البترولية المعروفة حتى الآن. ولدى وزارة المستعمرات البريطانية تقارير هامة عن المعادن والمواد الخام الهامة التي كشف عنها العلماء الإنجليز في أماكن عديدة من القارة الإفريقية، ولكن هذه التقارير لا تزال طي الكتمان إلا عن الشركات والمؤسسات الاقتصادية التي يتعاون معها الاستعمار على استغلال خيرات البلاد التي لا تحكم نفسها بنفسها.

سيارة جديدة للذين فقدوا أيديهم

أتم أحد مصانع السيارات الأمريكية صنع سيارة من نوع جديد قصد به تسهيل القيادة للذين فقدوا أيديهم في الحرب أو حوادث الاصطدام. وجهاز القيادة والتوجيه الذي ألحق بهذه

ص: 62

السيارة الجديدة مركب بشكل أوتوماتيكي لا يتطلب من السائق العاجز إلا أن يضبط زراً معينا فيضمن له كل ما تقوم به اليد السليمة من حركات لضبط السيارة المتحركة. وقد أنجزت هذه التجربة بطلب من جمعية مشوهي الحرب الأمريكية التي تسعى لتوفير سبل الراحة لأعضائها.

مارسل بروست

تتولى جمعية (أصدقاء مارسل بروست) الأديب الفرنسي العظيم نشر مؤلفاته وستصدر الترجمة الإنجليزية في الولايات المتحدة عند الناشرين سيمون وشوستر. وستصدر الترجمة الإيطالية عند الناشر الإيطالي إيناودي بميلانو.

ولا تزال السيدة جيرار مانتي بروست ابنة أخي الأديب بروست توالي نشر بعض مؤلفاته التي لم تنشر.

وستتجمع كل المقالات والأبحاث التي كتبت عن الأديب بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على وفاته في مجلد واحد يصدر بعد شهرين. وقد توفي مارسل بروست في 18نوفمبر سنة 1922.

نفوش سامية ترجع إلى 600 عام قبل الميلاد

عكف أعضاء (أكاديمية) النقوش والذخائر الأدبية على دراسة اثني عشر ألف نقش عثر عليها في جنوب الجزيرة العربية ويعود تاريخ بعضها إلى عهود ملوك سبأ في القرن السادس قبل الميلاد.

وقد أهدى هذه النقوش إلى الأكاديمية الأستاذ كانون رشمانز أستاذ اللغات السامية بجامعة (لوفان) وكان قد توغل منذ عهد قريب في جنوب الجزيرة العربية مع الحاج عبد الله فلبي، وقطعا نحو 1750 ميلا يصحبهما بلجيكيان؛ ولكنهما قطعا ضعف هذه المسافة في مناطق لم تطأها أقدام الأوربيين إلا القليل. وقد أعدت الرحلة تحت رعاية الملك عبد العزيز آل سعود.

وقد نوه الأستاذ كانون في العرض الذي ألقاه في باريس عن رحلته بالهدوء الشامل الذي يغمر تلك الربوع والعون الذي لقياه من رجال الحكومة السعودية وموظفيها.

ص: 63

هل تصدق أن فتاة تعيش على الهواء؟

صرح القاضي أ. س. ب إيار بالمحكمة العليا في مدارس في بيان وزعه على الصحفيين بأن (دانا لكشمي مركارا) الفتاة الهندية التي تعيش في جنوب الهند وتبلغ من العمر 17 عاما وأذيع أنها تعيش بلا طعام أو شراب منذ شهر مايو الماضي تعتبر تحديا لجميع النظريات العلمية.

وقال إيار الذي قابل الفتاة وتحدث إليها إنها تعيش على الهواء! وأضاف قائلاً إنها منذ طفولتها لم تكن تشعر بالجوع أو العطش لفترات طويلة، ولكنها منذ شهر مايو الماضي امتنعت عن الطعام كلية. وعندما أجبروها على الأكل في المستشفى نقص وزنها، وقد وجدها الأطباء طبيعية تماماً في كل شئ آخر.

ص: 64

‌طرائف وقصص

أقصوصة مصرية

زعيم الطلبة

للأستاذالسيد حسن قرون

كان يجلس في الفصل ساكناً ساكتاً، لا يسأل ولا يُسأل، ولا يشترك في نقاش جل أو هان، فإذا نزل إلى فناء المدرسة انزوي في مكان قصي، ونشر صحيفته، وأخذ يقرأ قراءة المنهوم، حتى إذا عاد إلى فصله مرة أخرى جر نفسه في تباطؤ وانكسار. وكان من يراه يظنه من المتفوقين الذين حبسوا أنفسهم على الدرس واستيعاب العلوم، وكان نجاحه على وتيرة واحدة لا ينقضها ولا يخالفها، فقلما نجح من الدور الأول. وكان إذا أراد أداء امتحان الدور الثاني أوحى إلى أبيه في القرية أنه في حاجة إلى السفر إلى المدينة. وأبوه - والحق يقال - لا يعرف من أمره شيئا، ولا يسأل عن نتيجته. وكان سلوكه يطمئن والده، فالثقة فيه متوافرة، والاعتماد على عقله الحصين ماثل، فليس ثمة داع إلى الريبة والظن. وماذا يرجو والده منه؟ هو ناجح، وينتقل من فرقة إلى أُخرى، وها هو ذا في السنة الثالثة الثانوي، لم يرى أحد منه رسوباً ولا تقصيراً.

لكنه على حين غفلةأصبح زعيم الطلبة. أما كيف سار إلى هذا المركز فهذا ما يحتاج إلى حديث. لقد جاءه الوحي بالزعامة، والمدرس يشرح الدرس، وما من شك في إنه لم يسمع كلمة، ولم يرى أحد ممن حوله فقد كان في شغل شاغل، طوح به بعيد عن المدرسة والدراسة، فلما دق الجرس، وطار الطلبة إلى الفناء تخلف عنهم قليلاً، ولما تأكد من خلو الفصول من طلابها صاح بأعلى صوته: ليسقط الاستعمار! ليسقط (صمويل هور)! ونظر الطلبة إليه وسمعوه يردد الهتاف مرة ومرة، فهرعوا إليه يرددون نداءه ثم خطب خطبته المشهورة - كما يقال في الزمن القديم - ودعاهم إلى الثورة، وترك العلم، وقفز إلى خارج المدرسة، وهتافه لا ينقطع ولا يفتر، اندفع وراءه جمهور الطلاب، وسارت المظاهرة تجوب شوارع أسيوط، وتعرج من حين إلى حين على مدرسة في طريقها، فتخرج طلابها. وهكذا تضخمت المظاهرة، وشق هتافها عنان السماء - كما تقول الصحف - وكان الناس

ص: 65

يرون طالبا محمولا على الأعناق يكاد يخرج من جلده، وهو يصيح بسقوط الاستعمار. . وانتهى بزعامة جديدة تضاف إلى الزعامات القديمة. ومن هذا اليوم اشتهر الأستاذ (بهلول) وهذا اسمه، وعرفته المدينة ثائراً لا يهدأ، وخطيبا لا يسكت، وزعيما سياسيا لا يعجز عن حل المعضلات. وأنت تعلم تماما أن الزعماء يشقون طريقهم إلى المجد بالعرق والدموع، ولا يصلون إلى الصفوف الأولى إلا بعد أن يصبح النهار بسواد شعرهم، ولكنه - أي زعيم الطلبة - خرج هكذا فكان زعيماً زعيماً! مطبوعا قاد الطلاب في صباه، وحير البوليس بأساليبه وألاعيبه، ويقال: إن الزعيمينبغي أن يكون قوى الجسم، ضخم الجثة، ريان العود، حاد النظر، جهوري الصوت، حتى يسحر الجماهير. وأنا أعترف لك ولا أحلف بأن زعيم الطلبة حرم تلك الميزات، فقد كان نحيلا، ولو توكأ عليه طالب بالسنة الأولى الابتدائية لانهدم، وقميئا تقتحمه عيون الأطفال بلا مبالاة، وله عينان بارزتان في استحياء، وفم انفرج من كثرة الثرثرة والنداء، وله صوت لا يصلح للغناء، ومع هذا كله كان نشيطا سليطا يروع حفظه الأمن، لا يكل ولا يمل، فهوشعلة متقدة، تراه في ناد وبعد قليل في مقهى. واتسعت دائرة شهرته، فلا يقام حفل إلا كان من خطبائه، ولا يجتمع للتشاور جماعة إلا كان بينهم، وإذا تحدث إليك افاض في الحديث؛ فهو ملم بأخبار الكرة الأرضية دولة دولة وزعيماً زعيماً، ولا باس أن يحدثك عن الجان ويأجوج ومأجوج؛ لأنه يحب الثقافة العامة ولا يقف عند أمر من الأمور، وكان يقول: إن لكل شئ موضعاً.

وتوالت الأحداث - ولا أحداث هناك - وإذا بالأستاذ بهلول يصر على الثورة والتظاهر، وإذا بالبوليس يقف منه موقفا شاذاً، ولكنه لا يتراجع، ينتهي الأمر بالقبض عليه.

والقبض على زعيم الطلبة معناه الثورة، والثورة الجامحة الطامحة! وأضرب احتجاجا على إهانة زعيمهم، وسرعان ما أفرج عنه، واستقبلوه هاتفين وحملوه على الأعناق. ونظر إلى نفسه فداخله الغرور، أو قل إنها الثقة والطموح، وفكر في زعامته فوجد مدينته لا تصلح لها، وأنه في حاجة إلى أفق رحيب ومجال واسع، فلا يليق بعدما بلغ ما بلغ أن يستقر على حاله تلك فلينتقل إذن إلى العاصمة، في شوق إلى أمثاله.

ونظر إخوانه ذات يوم فلم يجدوا زعيمهم، وانتظروا أخباره، ولكنها بعدت حين يطول أو يقصر وصلت عه الأنباء عاطرة بذكره، تشيد بأعماله الكبار فقد دخل القاهرة دخول

ص: 66

الظافرين، فجاب أنحاءها، ولما يسترح، وهاجم نوادي الأحزاب ولما ينفض غبار السفر، ولم يلتفت إلى ما حوت من جمال وحضارة، ولم يفكر في متحف أو ملهى، فالأمر أجل من ذلك خطراً، ولم يضيع الفرصة وهي سانحة، ولم يؤخر عمل اليوم إلى غد، وحياة الزعماء تعد بالدقائق والثواني. ولما كان في فطرته الثورة، فقد انضم إلى حزب المعارضة. وابتدأ العمل، وأتخذ الفنادق مأوى، والمقاهي مورداً، ولم يستطع في بادئ الأمر أن يزاحم الأحزاب، فالأحزاب مليئة بالشباب الثائر الفائر، والبلغاء الأنبياء، وما عليه أن يكون هتافا، وهو واثق من نفسه على كل حال، وقد عرفه الناس جريئا يتوجه إلى رئيس الحزب، فيهنئه بسحر البيان وقوة المنطق، ورئيس الحزب في غنى عن إطرائه وثنائه، ولكن الزعامة لا تقيد - كما كان يقول الأستاذ حافظ عوض في ذلك الزمان.

ولم يمض على الأستاذ بهلول شهران حتى صادفته عقبات - ككل الزعماء - فقد أصبح خالي الوفاضلا يملك من المالشيئا، فقد انقطع بر والده به، ووالده غير ملوم فيما فعل، فهو مستعد للإنفاق على ابنه ما طلب العلم، أما أن يهرب من المدرسة فما له بين يديه لا يرسله إليه. وفكر في شأن والده فرآه على ضلال مبين. لا يقدر الأمور قدرها، ولا يحسب للوطن حسابا. إنه ذو أثرة يقدم منفعته على منفعة الوطن. وما فائدة العلم في بلد محتل! ومن أين علم أن ابنه يعيش حتى ثمرة تعليمه، لقد وهب للوطن نفسه ويود أن يسقي شجرة الحرية بدمائه، ومع ذلك فهو على جاب كبير من المعرفة، فهو يستطيع أن يكتب ويخطب ويجادل، ولا يعيا ببرهان. ماذا ينقصه؟ ولو كان والده على علم بما يجول بخاطره، أو يفكر في مستقبل وطنه ما وقف ذلك الموقف الشائن! ولأغدق عليه النعم، فما هجر العلم ليلهو ويلعب، وما لنفسه بغي الخير إن الوطن قد ناداه فلبى النداء، ودعاه فأجاب الدعاء. والوطن أكبر من الوالدين، وأسبق منهما وجوداً، وأجدر بالبر والطاعة.

ثم قام من مكانه. ومضى في طريقه لا يلوي على شئ، ولا يحفل بشيء، تمر عليه الدور والقصور ولا يعبأ بها، وتجري حوله السيارات ذاهبة آيبة، ولا تحرك منه ساكناً. إن شؤون الوطن قد ملأت شعاب قلبه، وحاطها بشغافه، ولم تعد هناك متسع لغيرها وفجأة وجد نفسه أمام قصر عابدين لمرآه، وتيقظ تيقظا شديداً، وسمرت عيناه في شرفته، وأراد أن يتكلم، فجذبه الخوف جذبة أماتت الكلمات بين شفتيه، وبدا له أن يطوف حوله، فأدى

ص: 67

الطواف مغيظ محنقاً، ثم تابع السير حتى ألقى بنفسه في مقهى متواضع دخله لأول مرة؛ واتخذ له مكانا بعيدا عن الناس فقد عاوده الحنين إلى الوحدة؛ وحدثته نفسه أن ينقد رواد المقهى؛ فوجد الصحف المسائية أمامه على المنضدة بجوار الصينية وأخذ يقرأ حتى منتصف الليل؛ وصاح صاحب المقهى يأمر بإغلاق الأبواب. فلما أحس تلك الصيحة نهض متثاقلا يجر رجليه جراً.

ماذا يفعل؟ إ ن ما معه من النقد لا يقوم بأمره. أيذهب إلى صديق ليقضي عنده بقية الليل؟ ولم لا يوافق على هذه الفكرة. أيسير في الشوارع إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا؟ وهنا هز رأسه علامة الرضا؛ وسار يقطع الطرقات؛ ويحادث العسس؛ ويرمق السيارات وراكبيها؛ واحتجت مبادئه السامية؛ فلعن القدر وحياته الفاشلة. ثم سكنت المدينة وهو يدب في أحيائها وحيداً شريداً.

واستقبل الصباح خائراً كئيباً، لا تكاد تحمله قدماه، وعلى غير وعي ألفى نفسه في مقهاه، وشرب شايا ممزوجا باللبن، وقرأ صحف الصباح بالمجان. فلما متع النهار شد جسمه إلى السير، والسير المجهول، ومضى في طريقه تتناوشه الأفكار السود من كل جانب. ومرت فكرة عن حزبه مر المجانب، ففرح باحتجابها، فقد يئس منه كل اليأس. وفجأة سمع هتافاُ حارا، فاندفع نحوه بما يملك من قوة فوجد ضالته المنشودة، وجد مظاهرة كبرى، فاندمج فيها كأنه محركها، وما هي إلا هنيهة حتى كان على الأعناق يهتف وينادي بسقوط الحكومة، ولم يقف البوليس مكتوف اليدين، بل فرق المظاهرة وقبض على زعماء الحركة وفي مقدمتهم زعيم الطلبة. وفرح جدا حين اقتحم باب السجن كأنه مجرم تعود حياة السجون، وبات ليله يغط في نوم عميق، ولم ير الشمس حين أشرقت بنور ربها، ولكنه أحس بها من داخل قلبه، وشعر بارتياح عظيم، وقدم إليه طعام غير طعام السجن فرضي عن نفسه وعن حزبه، ومرت عليه خواطر بيضاء، وأحلام حلوة. ولم يخرج من السجن إلا يوم سقوط الحكومة. وخرج ليكون من المجاهدين.

لقد كان سجنه نقطة تحول في حياته، فقد أصبح يجد المال ميسراً، وأصبح خطيبا يشار إليه بالبنان، يتحدث عن الاعتقال، والصبر على الاعتقال، وحاجة الوطن إلى فدائيين. وأقبلت الانتخابات فخاض غمارها داعياً وهاتفاً، وامتطى الطيارة مع أحد المرشحين، وأطل من

ص: 68

عل على المدائن والقرى، والرداء الأخضر الذي يتشح به النيل، وذاق النعيم، وصار كالفراش يتنقل على موائد العمد والأعيان، وأخذ يواصل العمل ليلا ونهاراً. حتى إذا انتهت أيام الانتخابات - وليتها لم تنته - عاد إلى القاهرة ليتخذ دار الحزب مثابة وأمناً.

هل دامت الحياة السعيدة لزعيم الطلبة؟ إن الدهر حول قلب، وخلائق الدنيا خلائق مومس - كما يقول الشريف الرضي - فقد انقطع عنه ما كان يتقاضاه، وران على الحزب سكون رهيب، ولم يهش لاستقبال أبطاله، وفكر قليلاً في ركود الحزب، ولكنه نوى الرحيل.

أتضيق القاهرة على زعيم الطلبة؟ غداً يذهب إلى المدارس والكليات عله يجد ما يتمنى، ونفذ ما أرتاه. فلم يجد سميعاً ولا مطيعاً، وحمد الله أن نجا بجلده من مخالب البوليس. وما له لا يكون صحفياً، وقد كتب مقالاً في الأهرام بإمضاء مستعار، فيذهب إلىدور الصحف، ومن قبله أناس حرروها وما بأيديهم شهادات عالية، وطاف يبغي عملا فسدت في وجهه السبل، فلجأ إلى حياة التشرد فأخذ يبيت عند هذا ليلة، وعند ذاك ليلة، حتى اجتواه من كان له محباً، ومله من كان به معجباً، ونبا به المقام، واعترته الهموم والأسقام، ووسط أناساً ليصلوا بينه وبين والده فلم يوفق، وطفق يتوسل إلى أحد النواب ليجد له وظيفة، والنائب المحترم يراوغه أو يتهرب منه، حتى عد نفسه شقياً لا مكان له في هذه الدنيا الواسعة.

وذات يوم سأل عنه ذلك النائب ليزف إليه البشرى بالوظيفة المبتغاة، فأخبر بمرضه فطوى البشرى، وتركه لدائه وبلواه. لقد أصيب بالسل ونزل المستشفى للعلاج، وهيهات هيهات أن ينجو منه، ومن أين له بجسم يقاوم ذلك الداء. . . وأخيراً عجز الطب والأطباء.

وذات يوم حضر والده ليرى ابنه محمولاً على الأعناق، ولكن في هذه المرة إلى بطن الأرض، فقد آن له أن يستريح من ظهرها.

السيد حسن قرون

السجن ودعابة الشاعر

(أنا لست محتالاً. أنا شاعر أحب أن أداعب المجتمع. وهل دعابة الشاعر جرم؟)

هكذا وقف (فاومستينو فالانتين) أمام المحكمة في إحدى مدن الأندلس منذ أيام يناشد القضاة بأن يغفروا له دعابة شعرية من نوع غريب.

ص: 69

فقد أبى شيطان الشعر لهذا المواطن الأندلسي الشاب إلا أن ينشر في الناس سلسلة من القصائد الرقيقة يحي بها فتاة فقيرة من اللقطاء تخيلها الشاعر وريثة مال وفير تركه لها والدها الحقيقي وهو ماركيز إسباني من طبقة الأشراف. وبلغ من جمال هذه القصائد أنها رسخت في عقول الناس على أنها قصة حقيقية. وساعد على ذلك أن الشاعر استعمل أسماء لأشخاص حقيقيين فآمنت بها الفتاة وآمن بها أحد البنوك الإسبانية فوضع تحت تصرف الفتاة مبلغاً وفيراً من المال يساعدها على أن تهيئ نفسها لتلقي الإرث العظيم ريثما تفرغ الإجراءات الحكومية التي تصاحب عادة نظام الوراثة في إسبانيا.

وعاشت هذه الفتاة اللقيطة خمسة عشر يوماً عيشة المترفين من النبلاء وأصحاب الألقاب الرفيعة بعد أن أثبت صاحبنا الشاعر في قصائده نبل محتدها ونسبها الرفيع.

ثم تبين للبنك أن نسب الفتاة وإرثها المنتظر لا وجود له إلا في مخيلة الشاعر. فقاضى البنك الشاعر أمام المحاكم المدنية بدعوى الاحتيال والتزوير، وقال المدعي العام إن خيال الشاعر يجب أن يتطرف بحيث يستغل ظروفا تعسة لفتاة فقيرة ويشهر بها على أنها لقيطة، ثم يدخل السعادة المزيفة إلى قلبها في دعابة شعرية (شيطانية) متقنة بحيث أقنعت أشد القلوب قساوة: قلوب الصيارفة وأصحاب البنوك - فأضاعت عليهم مبلغاً من المال قدموه للفتاة (الوارثة) فأنفقته في ثورة ترف وبذخ طارئ

وطلبت المحكمة قبل إصدار القرار من الفتاة أن تدلي بشهادتها فقالت: أجل لقد كذب هذا الشاعر، ولكن أليس من الممكن أن تكون قصته عن أصلي وفصلي وإرثي حقيقية؟ وبعد فلم يصيبني من دعابته الشعرية أذى فإني شاكرة له أن أتاح لي تذوق حياة الأشراف المترفين خمسة عشر يوماً هي أيام لم يقو خيالي على أن يتصورها قبل أن آل إلى هذا الإرث الشعري الجميل

ويبدو أن القضاة في هذه المدينة الأندلسية لم يكونوا على قسط كاف من الإحساس الشعري، يدركون به قوة شيطان الشعر، فحكموا على الشاعر بالسجن بضعة أشهر وبالغرامة المالية أيضاً.

ص: 70