المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1019 - بتاريخ: 12 - 01 - 1953 - مجلة الرسالة - جـ ١٠١٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1019

- بتاريخ: 12 - 01 - 1953

ص: -1

‌العربية والإسلامية

للأستاذ علي الطنطاوي

سيقول القراء من المصريين: ما العربية وما الإسلامية، وهما شئ واحد؟ ومن قال بالعربية قال بالإسلام؛ لأن العربية لم تكن شيئا مذكورا لولا الإسلام. ومن قال بالإسلام قال بالعربية؛ لأن الإسلام دين، نبيه عربي، وقرأنه عربي، وقبلته في بلاد العرب. والنداء إلى التوجه إليها بلسان العرب؟!

لا يدرى القراء من المصريين أن هذا حديث المجالس في الشام والأندية والمدارس، لا يمر يوم دون مناظرة فيه بين الشباب المسلمين الذين يحسبون أن من الإسلام محاربة الفكرة العربية وترك قيادها لغيرهم، والشباب القوميين الذي يظنون أنهم يستطيعون تجريد العربية من الإسلام والدعوة إليها على أنها قومية من القوميات.

وكذلك كانت الحال لما كنا ندرس في مدارس العراق حين اشتدت الدعوة القومية في عهد سامي شوكت في وكالة وزارة المعارف. واستجاب لها المدرسون خوفاً وطمعاً. ومنهم من استجاب لها عن إيمان بها، ولم يبق ثابتا على إسلاميته إلا ثلاثة: عبد المنعم خلاف، ومطهر العظمة، وعلي الطنطاوي، نقلوا جميعا إلى شمال العراق، إلى مناطق الأكراد. فاستقال الأول وعاد إلى مصر؛ وعاد الثالث إلى الشام بعد شهور؛ وثبت الثاني إلى نهاية حركة رشيد عالي الكيلاني.

غير أن الفرق بيننا وبين العراق، أن الدعوة القومية هي الغالبة على شبابه. والقوميون الملحدون قلة في الشام. أتباع حزب ألفه على عهد الفرنسيين أحد شباب النصارى ووجد له أتباعاً من الشبان الحائرين الذين يحبون أن يتبعوا (موضة) العصر بالانتساب إلى حزب من الأحزاب. واكثر أهل الشام يقولون بالإسلام وبالعربية. والكلمتان على لساني أنا وكتاباتي من أكثر من ربع قرن، كالمترادفتين؛ أقول الإسلام وأريد العربية، وأكتب العربية وأقصد الإسلام

لذلك أجهدت ذهني، وكددت فكري، حتى استطعت إدراك جوهر الخلاف بين الفريقين. وما ذاك عن جهل مني بحجج الطرفين وأقوالهما، فلقد حفظتها من كثرة ما سمعتها؛ بل لغموض صورة الدعوة العربية حتى في أذهان أصحابها. وإنهم حين يكتبون فيها، أو يجادلون عنها،

ص: 1

يأتون بشيء هو إلى الفلسفة الغامضة، والخطابيات الفارغة، أدنى منه إلى التعريف العلمي الواضح؛ ولأن مورد أفكارهم، ومنبع أقوالهم في القومية، ترجمة ما كتب في القومية في ألسن الغرب، ولاسيما الألماني والإيطالي.

وجوهر الخلاف إنما كان على بناء الدولة. هل تكون إسلامية، ويكون الإسلام هو الرابطة بين أفرادها فيدخل فيه المسلمون جميعاً ويكونون أمة واحدة. أم تكون عربية، وتكون الرابطة رابطة الجنس، فكل عربي هو منا ولو لم يكن مسلما، وكل أعجمي ليس منا ولو كان مسلما؟

أي أن ثمرة الخلاف كما يقول الفقهاء، في العربي غير المسلم، والمسلم غير العربي، أيهما الذي يجب أن نتولاه نحن العرب المسلمين؟

وأنا سأحاول أن أثبت في هذا الفصل، أنه ليس بين الإسلام والعربية تناف ولا تباين، وأن المسلمين أمة واحدة وإنها أشد تماسكاً، وأدنى إلى الوحدة من مجموع العرب، وأن هذا الخلاف ليس له ثمرة، لأن إخواننا العرب غير المسلمين، عاشوا معنا، وسيعيشون معنا، ما ضقنا بهم ولا ضاقوا بنا، وما ظلمناهم ولا شكوا من ظلمنا، وأن الشباب المسلمين هم أحق الناس بحمل لواء العربية المسلمة، والدفاع عنها، والعمل على تمجيدها وفيما يلي تفصيل هذا الأجمال:

من الوجهة النظرية

إن في (نظرية الدولة) آراء كثيرة يدرسها طلاب كليات الحقوق. وأشهرها وأصحها، والذي عليه المعول فيها هو رأى رينان. ونحن نطبقه على هذا البحث، لا لأننا نجد لزاما علينا أن نتبع الغربيين حتما في مذاهبهم، ونفكر برؤوسهم، بل مجاراة لمن يقول بذلك من الشباب وقلبا لدليلهم عليهم، وإلا فنحن نعلم أن لدينا من رأى الإسلام في إقامة الدولة ما هو أصح من رأى رينان صحة، وأكثرها نفعا لنا، وتحقيقا لمصلحتنا، وإن كان رأي رينان هذا لا يبعد كثيراً، ولعله أخذه من رأي الإسلام الذي كان على إلمام بأحكامه.

الدولة عند رينان لا تبنى على الأرض وحدها، فرب دولة معترف بها تكون أرضها محتلة فيها أعداؤها. ولقد شاهدنا في الحرب الأخيرة دولا كثيرة بلا أرض، وكان في مصر طائفة منها، كل دولة في جناح من فندق شبرد. ونشاهد الآن دولة عموم فلسطين. ولا تبنى على

ص: 2

اللسان فإن أمامنا دولاً فيها أكثر من لسان كسويسرة، ودولاً لها لسان واحد كإنكلترا وأمريكا، ولا على الدين (من حيث هو صلة بين العبد وربه) فقد تتعدد الأديان في الدولة، وتتعدد الدول في الدين، بل على ما سماه (الإرادة المشتركة) فكل كتلة جمع بين أفرادها تاريخ واحد وأمل واحد، وكانت موجات تاريخها ومطامحها في مستقبلها، متشابهة في نفوس أفرادها، كانت هذه الكتلة أمة وحق لها أن تنشئ دولة. وشرح هذا المتن الموجز معروف مشهور.

فلنبحث عن هذه الإرادة المشتركة في الكتلة العربية وفي الكتلة الإسلامية؟ هل للعرب إرادة مشتركة؟ هل تتحد موجات الماضي ومطامح المستقبل في نفوس العرب جميعاً؟ إذا قرأت أنا وعربي حبل لبنان الماروني تاريخ الغزوات الصليبية. . فهل يكون أثر هذا التاريخ في نفسي مثل أثره في نفسه؟ هل يطمح مثلي إلى الوحدة، ويشاركني في المثل الأعلى أتمثل المستقبل عليه؟

من الوجهة الواقعية

بل تعالوا ننظر إلى الواقع، هل استطاعت جامعة الدول العربية بعد هذه السنين الطويلة والمحاولات الكثيرة، أن تجد لها هذه (الإرادة المشتركة)؟ ألم تبد هذه الإرادة في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في كراتشي بصورة أوضح وأظهر على رغم أنه مؤتمر وليس جامعة دول، وأنه جديد مرتجل تعد له العدة ولم يبذل في سبيله جهد؟

من وجهة المصلحة

وقد مضى عهد القوميات وأصبح تاريخنا يدرس في المدارس، وأنقسم العالم اليوم إلى قسمين كبيرين مختلفين: قسم في شرق الأرض وقسم في غربها. وما اختلفا في الحقيقة على عقيدة ولا مبدأ! ما اختلفا إلا علينا نحن الأمم الضعيفة. وما استعدا إلا للحرب في سبيلنا أيهما يفوز غنيمة باردة أو سخنة بنا. فهل من المصلحة أن نبقى متفرقين منقسمين أو أن نتحد ونتقارب ونقيم من أنفسنا قسما ثالثاً محايداً، لا يقاتل على غنيمة ولا يدع أحدا يجعل منه غنيمة؟

وإذا ثبت أن المصلحة في الاتحاد (وذلك ثابت قطعا) فهل نؤلف كتلة من سبعين مليونا

ص: 3

مشكوكا في اتحاد أبنائها في الذكريات والآمال والإرادة العامة؟ أم كتلة من أربعمائة مليون؟

هذا ومن المفهوم المعلوم من الدين ومن العقل ومن الماضي بالضرورة أننا لا نتخلىعن هؤلاء العرب غير المسلمين ولا نعدهم غرباء عنا، بل هم إخواننا ما أحبوا أخوتنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وهذي نصوص ديننا وهذي وقائع تاريخنا، شاهدة على دعوانا. فلا مجال لإثارة العصبيات، والإفساد بين الإخوان، من هذه الناحية، فلا يطمع في ذلك المفرقون المفسدون.

وبعد فما هي حدود الاتصال بين العربية والإسلامية؟

من الوجهة المبدئية

أما الإسلامية فمعروفة واضحة، وللمسلم تعريف شامل وحد منطقي، فما هو حد العربي الذي يشمل الأفراد ويخرج الأضداد؟

أني لم أجد لدعاة العربية إلى اليوم هذا التعريف الجامع المانع للعربي. من هو العربي؟ أما من عرفنا من قومي العراق، فإن العربي عندهم هو عربي النسب، أي أنهم على مذهب أصحاب العنصرية ومقتضى ذلك أن يكون بشار مثلا شاعرا فارسياً، وأبن الرومي شاعرا يونانياً، بل إننا لو ذهبنا هذا المذهب لكان ملك الإنكليز غير إنكليزي، ولكان من الواجب الحجر عليه خلال الحرب الماضية لأنه من رعايا الألمان؟

ومن منا اليوم يستطيع أن يرتفع بنسبه إلى ربيعة أو إلى مضر، أو إلى أي فرع من فروع الشجرة العربية، إلا أن يكون نسباً ملفقاً كأكثر أنساب الأشراف الذين منحوا الشهادة بان منهم الملك الصالح. . فاروق!

وأما من عرفنا من قومي الشام فإن لهم أقوالاً أشهرها أن العربي هم من يتكلم العربية لغة أصلية له، ويعيش في بلاد العرب، ويشارك العرب آمالهم وآلامهم.

وهذا التعريف كالنحاس المطلي بالذهب، إن مسته برفق كان ذهبا له وميضه ولمعانه، ولكنك إن وضعته على المحك خرج نحاساً! لأن من غير العرب الذين عاشوا في بلاد العرب، كالأرمن في الشام والأروام في مصر من ينشئ أولاده على الكلام بالعربية كأهل البلاد من العرب، ثم إنه يعيش بينهم! أما المشاركة في الآمال والآلام فشئ خفي لا يعلمه إلا الله، ولا تظهره إلا التجربة، ولا يصح أن يكون مقياساً منطقياً. وإذا أردنا أن نحصي

ص: 4

سكان بلدة ما من العرب، فكيف نقيم الامتحان العام لمعرفة آمالهم وآلامهم وما يشاركون فيه وما يخالفون؟

ثم إن من العرب من يتكلم في بيته تظرفاً أو تقليداً بالفرنسية، ويقيم في غير بلاد العرب، وليس في نفسه أمل لأمته، ولا ألم عليها. لا يهتم إلا بخاصة أمره، وجوالب لذته وراحته. فهل نعد هذا من غير العرب؟ وماذا يكون: فرنسياً أو إنكليزياً أو ماذا؟

فأنت ترى أن الدعوة العربية تنهار بذلك من الأساس، إذ كيف نقيم البناء ولم نعد مادة البناء؟

أما الإسلام فعقيدة يعبر عنها قول معين، وعبادة وخلق، فمن نطق بالكلمة المعبرة عن العقيدة، وأدى فروض هذه العبادة، وتخلق بهذا الأخلاق، فهو واحد من المسلمين، مهما كان لونه وجنسه ولسانه.

من الوجهة الإسلامية

والإسلام لم يكتف بإسقاط الجنسية من حسابه، بل لقد حاربها، ومنع كل دعوة عصبية جنسية أو قبلية، وسماها دعوة الجاهلية. وجاء منذ أربعة عشر قرنا بما انتهى إليه العالم اليوم، حين أسقط حواجز القوميات وأقام كلا من كتلتيه على عقيدة ومبدأ ولو ظاهراً، فقسم الإسلام الناس إلى قسمين: الذين آمنوا، والذين كفروا. ووجه الخطاب إليهم، بهذا العنوان؛ فكان من الذين آمنوا - وهم أفراد الدولة الإسلامية - رجل رومي هو صهيب، ورجل حبشي هو بلال، ورجل فارسي هو سلمان، ثلاثة رموز للدولة الكبرى يومئذ. وكان من الذين كفروا العربي القرشي الهاشمي عم محمد وأخو أبيه وأبن جده أبو لهب. وكان لهؤلاء الثلاثة منزلة رفيعة في الدولة الإسلامية، فكان بلال وزير الدعاية يعلن مبادئ الإسلام (بالأذان) خمس مرات في كل يوم. وكان سلمان معدوداً على لسان النبي من أهل بيت النبوة. ونزل في شتم أبي لهب قرآن فنحن نقرأ في صلاتنا ذم أبي لهب.

ولكن الإسلام لم يطمس الوقائع التي تجعل للعروبة مكاناً ظاهراً في دولته، فالنبي عربي، والعرب قومه ومنهم أصحابه الأولون الذين نشروا الدين، وأبلغوه أهل المشرق والمغرب. والقرآن كتاب عربي، والحج إلى بلد عربي، فكل مسلم مضطر بذلك إلى حب العرب وتقديرهم وتعلم لسانهم، وزيارة أرضهم.

ص: 5

ولولا الإسلام ما انتشرت لغة العرب، ولا أقبل الناس عليها، حتى أن مسلمي الصين اليوم وهو خمسون مليونا كلهم يتكلم العربية. وعرب الإسلام آلاف المدن، فهل يستطيع شباب الدعوة العربية اليوم أن يعربوا قرية واحدة تركية أو كردية باسم العربية؟

ولم نقلت إلى شمال العراق: إلى كركوك، كان الطلاب كارهين لدرس العربية ومدرسه، لما كان يسوؤهم به من الدعوة إلى القومية العربية وهم أكراد وأتراك. فلما دخلت أحسست هذه لكراهية في نفوسهم، فخطبتهم خطبة قلت لهم فيها إن العرب كانوا أضل أمة فهداهم الله بهذا الدين الذين نتشرف جميعاً بالانتساب إليه، والذي منع دعوة الجاهلية وحرم العصبية. . . إلى أن قلت لهم: فتعلموا العربية لا من أجل هؤلاء القوميين من العرب، بل من أجل محمد الذي تحبونه، والقرآن الذي تقرونه، والله الذي تعبدونه.

ففاضت العيون بالدمع، وخشعت القلوب، وأمحت الكراهية من الوجوه، وصار درس العربية أحب الدروس إليهم.

وذهبت مرة إلى السليمانية سنة 1938 وهي قصبة الأكراد. واشهد أن من الأكراد صالحين وعلماء وذوي رجولة وشهامة، فمررت في آخر السهرة على مسجد فيه عين ماء لنشرب منها، وكانت ليلة صيف، وكان معي شباب يجادلونني في العربية والإسلامية، فوجدنا على بساط في أرض الجامع شابين كرديين من طلبة العلم الديني منبطحين على وجهيهما وأمام عيونهما مصباح وكتاب في أصول الفقه، فيه عبارة معقدة، فما يحاولان فهمها وتفسيرها، ويستعينان بإعرابها ورده ضمائرهما إلى مكانها. . .

فقلت: ألا ترون؟ إن هذين يشتغلان بلغتكم العربية أكثر من اشتغالكم أنتم بها، لأنها عندهما دين! فهل تستطيعون أن تجعلوا فتى كردياً غير متدين يقبل باسم قوميتكم هذه على العربية؟ فسكتوا

ولقد كان المسلمون أمة واحدة، فقامت فيهم هذه الفتنة، فتنة القومية! قال الترك: أتراك. فقال العرب: عرب. فقال الأكراد: أكراد. فانقسمت الأمة الواحدة وتفرق الجمع، وضعفنا وقوى العدو بضعفنا.

من الوجهة التاريخية

ثم إني أحب أن اسأل من هم هؤلاء العرب الذين تفخرون بهم، وتعتزون بأمجادهم. هل هم

ص: 6

عرب الجاهلية والعهود التي كانت قبلها، والتي لم يدركها نور التاريخ، ولم يصل إليها علم المؤرخين إلا قليلاً؟ أم عرب دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة، وهاتيك المدن والمدارس والمكتبات والمؤلفات، وذلك العلم والأدب؟

أما الجاهلية، فإنا لا نعرف شاعراً واحدا فيها ذكر العرب أمة، وأفتخر بالعروبة جنساً. إنما كان فخر كل شاعر بقبيلته، ببكر أو بتغلب أو بعبس أو بكندة وهذه هي المعلقات، وهذه أشعار الجاهلية، فهل فيها فخر بالعرب؟

إن الذي جعل العرب كتلة واحدة من الكتل التي اندمجت في الوحدة الإسلامية، هو الإسلام.

وكل ما كان للعرب بعد من مجد وعظم وعلم وسلطان وحضارة وفخار إنما صنعه الإسلام، فكيف يتفق في منطق هؤلاء القوميين أن نفخر بالفعل وننكر الفاعل، وأن نمجد أثر الإسلام ولا نقر بالإسلام.

يقول بعض المتحمسين من شباب القوميين إن في العرب قوة كامنة انتفضت مرة فكانت الإسلام. وستكون لها انتفاضة جديدة تخرج بمظهر آخر، ولكن لا هم ولا نحن ولا أنتم تعرفون ما هو المظهر الآخر!

وهو يعظمون محمداً ويكبرونه، ولكنهم لفرط الحماسة (وحماسة الشباب أحيانا تقوى على حساب العقل) يسيئون إلى محمد الذي يعظمونه ويصمونه بأكبر ما يوصم به رجل وهم لا يشعرون. يصمونه بالكذب: هو يقول لهم أنه رسول من الله، وإن هذا القرآن ليس من عند نفسه، وهم يقولون لا بل إنه هو الذي ألف من عبقريته ونبوغه هذا القرآن.

أفرأيت إلى أين تصل حماسة الشباب (وكدت أقول حماقة الشباب) بأصحابها؟

ويأتون بكلام له رنة ودوي كدوي الطبل، وإن كان فارغاً من المعنى فراغ الطبل من الشحم واللحم. يقولون (وهذا شعار حزبهم): أمة واحدة ذات رسالة خالدة

وما زالوا يهتفون بذلك ويرددونه حتى اقتنعوا بأنه من كلام النبوة الأولى. مع أنه لا معنى له. لأن العرب كما بينا من قبل، ليسوا بحالهم الحاضرة أمة واحدة، بل المسلمون هم الأمة الواحدة. ولأن هذه الرسالة إن لم تكن الإسلام كانت مجرد كلام.

من الوجهة التطبيقية

والقومية (كل قومية في الدنيا) إنما تقوم على دعائم ثلاثة: اللغة، والعادات، والتاريخ.

ص: 7

أما اللغة فإنها بعلومها وفنونها، كالفلك الذي يدور على قطب واحد، وقطبها القرآن، وما أنشئت هذه العلوم كلها إلا خدمة له، النحو لمنع اللحن فيه، واللغة لتحقيق عربيته، والبلاغة لإثبات إعجازه، والتفسير لشرح معانيه إلى غير ذلك مما هو معروف

ودعاة الإسلامية كانوا ولا يزالون، وسيكونون أبداً هم أئمة اللغة وفرسان بلاغتها، وأرباب البيان فيها. وما عهدنا للآخرين كاتباً بينا ولا رواية ولا عالماً معترفاً بإمامته وتقدمه في علوم اللغة

وأما العادات العربية، على أنه ينبغي الإبقاء أبدا على حسنها، والتخلص من سيئها، فما رأينا في دعاة العربية من يتمسك بها! ولقد رأينا أكثرهم يعيش عيش الإفرنج، ويأخذ أوضاعهم في طعامهم وشرابهم ولباسهم بل ربما تزوج من نسائهم وكلم أهله (طبعاً) بلسانهم

وأما التاريخ فواحد. تاريخ العرب هو تاريخ الإسلام لو حذفنا منه الإسلام وما نشأ عنه لم يبق للعرب شئ، فالعرب ولد مجدهم وتاريخهم يوم مولد محمد.

الخلاصة أن العربية والإسلامية كدائرتين: صغيرة وكبيرة، إحداهما وسط الأخرى إلا هلالاً دقيقاً. هو موضع الاختلاف بينهما. أي أن بينهما بإصلاح أهل المنطق عموماً وخصوصاً. عاما إلا من وجه واحد، هو مسألة المليونين من العرب غير المسلمين. والثلاثمائة مليون من المسلمين غير العرب، أيهما أحق بأن نتولاه.

وكل ما يقول به دعاة العربية (فيما عدا إنكار الوحي وقطع الأخوة في الإسلام يقول به دعاة الإسلامية) بل نحن أحق به وأولى، نحن أعلم بالعربية وبتاريخها وأمجادها، ونحن نعمل أكثر منهم على تمجيدها بالإسلام وإعلاء شأنها. ونحن أصدق منهم إن قلنا عن أمة محمد (أمة واحد ذات رسالة خالدة). والعجيب أن يظن أحد أننا تخلينا عن القيام بالدعوة إلى العربية، لا. . ما تخلينا عنها ولكن ندعو إليها تحت راية القرآن التي عز بها العرب وشرفوا وصار لهم في التاريخ ذكر، وفي الدنيا مقام

إننا نحب العرب لأنهم قوم محمد، واللسان العربي لأنه لسان القرآن، وموطن العروبة لأن فيه مشاعر الحج والقبلة التي يتوجه إليها المسلمون من أقطار الأرض، ويدعون إلى الصلاة إليها بلسان العرب الذين نزل بلسانهم القرآن: حي على الصلاة. حي على الفلاح. ولكنا ندعو إلى عصبية، ولا نعدل بأخوة الإسلام أخوة.

ص: 8

ونحن ندعو إلى الوحدة العربية، لكن على أن تكون طريقاً إلى الوحدة الإسلامية، ولا ننكر إخواننا في الوطن واللسان من النصارى، لكنا نسألهم ألا يطلبوا منا وهم مليونان أن نقطع لأجلهم روابط أخوتنا بثلاثمائة مليون مسلم غير عربي، ويحبوننا ونحبهم. ويشاركوننا عقائدنا وعبادتنا

وفيهم بعد دولتان من أكبر دول الأرض: باكستان وأندنوسيا، ولا تدخر إحداهما في نصرنا وسعا، ولا تبخل علينا بدم ولا مال!

وهل قطعوا هم حبالهم من حبال الباب في إيطاليا وغير البابا في إيطاليا؟

دمشق

علي الطنطاوي

ص: 9

‌ترجموا القرآن:

محمد عند أهل الغرب

للأستاذ كمال دسوقي

كان الغربيون قبل ترجمة القرآن يتحاملون على محمد والإسلام؛ ولا غرابة في هذا التحامل على الرجل ومذهبه. فمن جهل شيئاً عاداه

ففي غمرة البغيض كتب العالم المشهود له بسعة الأفق والتمرس بالعلوم والرياضيات والآداب - (بسكال) - فيما خلف لنا من خواطره وبتناقض يفضح هذا التعصب والخلو من الروح العلمي - يقول: إن محمداً لم يكن أحد يظاهره؛ ومن ثم وجب أن تكون حجته من القوة بحيث تستند إلى محض قوتها

ولا يلبث أن يذهب - على أثر ذلك - إلى التمييز بين القدرة على الغموض والإبهام، والقدرة على الإثبات بسخف القول، آخذاً ما لم يفهم من القرآن على المحمل الأول، ناظراً إلى ما وصل إلى علمه القليل منه على المحمل الثاني - متمنياً لهذا الأخير لو أنه كان من النوع الأول حتى لا يكون في هزؤ الثاني وسخريته - فيما يرى! فما دام القرآن قد قال إن متي رجل طيب، فمحمد نبي زائف، لأنه يقول عن الأشرار إنهم أخيار، ولا ينظر إليهم من حيث ما قالوا وما آمنوا بالمسيح!

إن كل رجل يستطيع أن يفعل ما فعل محمد؛ لأنه - في نظر باسكال - لم يأت بمعجزة، ولم يوح إليه؛ ولا أتى ببعض ما جاء به المسيح. محمد قام على التقتيل - تقتيل أعدائه؛ أما المسيح فبقتل أصحابه محمد بالأمية وتحريم القراءة؛ أما المسيح فبالتعليم والقراءة. ولئن كان محمد قد سلك طريق النجاح كانسان، معنى ذلك فليس أن المسيح كان يستطيع أن يكون أكثر نجاحاً لو سار على الدرب فحسب؛ بل إن المسيحية كان يجب إن تهلك لو لم تكون مؤيدة بعون سماوي!

وإذا كان هذا بعض ما يذهب إليه رجال العلم الأحرار من الشطط في النظر إلى محمد والإسلام - فيحكمون على القران بأنه معان صبيانية في الرب سماوي وهم لن يفهموا الأسلوب. وقد يفهمون المعاني لأنها في معظمها واردة في كتبهم. . نقول: إذا كان هذا بعض ما يذهبون إليه وهم علماء مهمتهم الدرس والتمحيص والوحيدة والبرء من الغرض

ص: 10

- فلا غرابة في أن يذهب الشاعر الإيطالي دانتي إلى تصوير الرسول صلوات الله عليه هذا التصوير النابي لأنه - فيما يرى الشاعر - قد أرتكب جريمة الإتيان بدين زائف، وادعى أنه يطلع على الناس بتنزيل سماوي جاء بما لم تأت به المسيحية

على أنه منذ ظهرت ترجمتنا القرآن لأول مرة في القرن الثامن عشر - قرن التنوير في العلم والدين: ترجمة صال التي ظهرت سنة 1734 وترجمة سافارى (1782) بدأ الاعتدال يظهر على أقلام الكتاب بدء بأولئك المترجمين أنفسهم - وهم أقدر من يستطيع أن يفهم الإسلام في ذلك الحين بحكم توفرهم على ترجمة كتابه المنزل. فإن ثاني هذين الرجلين يرى أن محمداً أحد هؤلاء الرجال الخارقين للعادة الذين يظهرون بين الحين والحين على وجه الأرض يغيرون معتقدات أهلها ويجرونهم في عجلة انتصارهم. إن سافاري يرى في محمد مثلاً أعلى لما تنتجه العبقرية الإنسانية حين عالمياً جديداً ذا عقيدة سهلة مطابقة للعقل، ومبدأ غاية في البساطة واليسر: الإيمان بإله واحد يثيب المحسن ويعاقب المسيء

ونحا نحو سافاري في تقدير القرآن ونبيه الذي أنزل عليه كتاب أحرار لم يروا غضاضة في تمجيد دين لا يتعارض مع دينهم - منهم تيربان الذي يقول (في تاريخ حياة محمد - باريس1773 - ) - وأن لم يخل من التحامل اللاذع عليه أحيانا - إنه رجل خارق للعادة. حبته الطبيعة بكل مزية يتزود بها الرجل الكامل، وبعبقرية يتمتع بها المحظوظون من الناس (الموعودون بالأرض)، ثم يقول: إن إخلاصه لرسالته لا نزاع فيه. وأنه قد أخلص الدين لله قبل أن يحمل أصحابه على الاعتقاد به.

وغالى بعض الغربيين في الانتصار لمحمد حتى ظن به الغرض وعدم البرء من الغاية؛ وقيل فعلا انه يرمي إلى إعلاء الإسلام على المسيحية؛ ومنه هؤلاء القليل من المنصفين دي بولانفلينيه (في كتابه: حياة محمد) الذي يصور فيه النبي العربي بصورة المشرع المستنير العاقل الذي جاء بدين حكيم يحل محل عقائد اليهودية والمسيحية، وكانت تلك قد أصبحت - فيما يقول بحق - لكثرة خلافاتها مشكوكاً فيها.

ولقد كانت هذه نظرة إلى محمد هي السائدة عموماً بين فلاسفة القرن الثامن عشر الذين لم يعودوا يقبلون التطرف في النظر إلى المصلحين من الرجال تطرف السابقين؛ كما لم يقبلوا

ص: 11

تزييف أي دين من الأديان خوفاً منه على المسيحية. لهذا كان من العجيب أن يأتي فولتير. . . في هذا العصر ذاته الذي أتسم بطابع التسامح الديني - فيهاجم هؤلاء الكتاب المنصفين خصوصا صال ودي بولانفلييه قائلاً لها (في مقدمة مأساته عن: محمد سنة 1742): لو إن محمداً قد ولد أميراً، أو لو أنه ولى السلطة باختيار، أمته إذن لوضع قوانين سليمة ولاستطاع أن يحمي بلاده من الأعداء، ولاستحق حينئذ التقدير.

تساعدها الظروف، وأنه - وقد ولد وثنياً! - فقد نشأ لا يعبد إلا إلهاً واحداً لأنه خلال أسفاره قد لاحظ انقسام المسيحيين وتفرقهم شيعاً نتبادل اللعنات. . . كما رأى اليهود حثالة تتشبث في عناد بقوانينها؛ فأراد محمد أن ينشئ ديناً

ويذهب فولتير في تهافت ظاهر إلى حد تجريح منصفي محمد فيقول أن الأصل التركي والإيمان بالخرافات قد أطفأ فيهما كل نور عقلي. لماذا؟ لأنه ما من أحد يستطيع أن يتولى الدفاع عن جمال يحدث ثورة، ويزعم أنه يتصل بجبريل وهو الذي يقتل الرجال ويسبى النساء ليدخلهن في دينه!

ويقول النقاد تخفيفا من ضلال فولتير: لا شك أن فولتير لم يرد أن يقول إن النقائض التي وصف بها بطل روايته موجودة كلها في محمد، وإنما كان للخيال عليه سلطان كبير وهو نفسه يعترف بذلك ويقول تمجيداً لمحمد: إن الرجل الذي يستطيع أن يحارب قومه قادر على كل شئ

ويقولون كذلك إنه قد عاود الكتابة في هذا الموضوع قصد التخفيف من سابق غلوائه وتعصبه، فأعترف بعظمة محمد ومواهبه.

على أن خطر فولتير يتمثل فيمن جاءوا بعده متأثرين به في تناول الموضوع، ولكن عادوا إلى الاستماع لصوت العقل في تساؤلهم: إن مائة وثمانين مليونا من البشر يدينون بهذا الدين مخلصين ويتأثرون محمدا في حياتهم، يحركهم كالنجوم في الأفلاك. وليس من المعقول أن يظن أن هؤلاء كلهم يعيشون ويموتون مجدوعين.

هذا قول نفسه الذي يعجب في بمحمد في استجابته لقانونه الذاتي وإخلاصه لمبدئه وثقته بنفسه وحقيقة وجوده وأصالة شخصيته وما وجه من أنظارنا إلى اللامتناهي واللامحدود؛ والذي يصرح بأن محمدا - نبيناً أو شاعراً - رجل غير عادي.

ص: 12

ما هذا التناقض أذن في تفكير هؤلاء الرجال؟ أنه كما يقول المؤرخون عصر الشك في المعتقدات عند الغربيين. وإذا نظرنا إلى هؤلاء الكتاب وجدنا بعضهم يصدر عن تعصب لدينه المسيحي، وبعضهم يذهب به التعصب للدين إلى حد أن يهاجم ما عداه. وهؤلاء خير من آخرين ملحدين لا يؤمنون بالأديان جميعاً، ولكنهم إذا لا يستطيعون أن يهاجموا دين بلادهم الرسمي ويستعدوا سلطاتهم الدينية فهم يتطاولون على الإسلام ولو لم يعرفوه. والجميع مما نمر بآرائهم عابرين لا يستوقفنا إلا نزاهة البعض واعتداله في تقدير الأمور.

والألمان خصوصاً خير من يتعرض للدراسات الإسلامية بروح علمي لا يشوبه تعصب أو تطرف. وآخر من قرأت له من هؤلاء في ترجمة فرنسية ظهرت أخيراً لكتابه (محمد: حياته ونظريته) الذي نشره جان جود فروى دي مومبين بإشراف معهد الدراسات الإسلامية بجامعة باريس العلامة تور أندريه الأستاذ بجامعة أوبسال الذي حمل المثقفين (في كتابه ظهور الإسلام) على الاعتراف بأن دراسة الإسلامًً تفتح آفاقا جديدة لتطور العقل البشري - كما يقول المؤرخون.

وليس في كتابه (حياة محمد ونظريته) أجمل من تعليله السيكولوجي لتحامل الغربيين على التاريخ الإسلامي. فهو يرجع هذا التحامل لا إلى مجرد الجهل ولا إلى الفكرة السائدة بينهم عن زيف النبي محمد، ولا إلى عداوة الغربيين وكراهيتهم للترك فحسب، بل هو فيما يرى أعمق من ذلك:

إن أقل ما يفهم المرء نفسه - كما يقول - بين والديه. والمسيحي يرى في الإسلام أشياء كثيرة تذكره بدينه هو ولكن في صورة شوهاء. فهو يرى مواد في الدين وآراء في العقيدة مشابهة تماماً لأفكار دينه، ولكنها تأخذ طريقاً آخر إلى غير دينه. وهذه المواد والآراء هي عنده من الألفة بحيث لا يريد أن يرى فيها جديداً أو يعترف لها بأية أصالة. وهو في غمرة عدم الاكتراث لما يظن أنه يعرفه وليس جديداً عليه يمر دون أن يدرك حق الإدراك ما يختفي عليه حينئذ - لعدم حيدته - وهو هذا الاتجاه الروحي الذي جعل الإسلام يحتل مكانة اليوم بين الأديان لمجرد حقه في الحياة والبقاء.

ولا أختم بأحسن مما أختتم به المؤلف الألماني مقدمة كتابه قائلاً للغربيين: إنه قد سهل علينا أن نسبغ أفكاراً دينية غاية في الغرابة والجدة علينا كعقائد الهنود والصينيين. فلكي

ص: 13

نفهم النبي العربي وكتابه يلزمنا أفق أوسع ونظرة أدق واستقلال عقلي وروحي أكبر وأتم.

كما أقول للمسلمين في جرأة: ترجموا القرآن إلى كل لغة - وترجموه كل جيل مرة - ولو ظهرت له ألف ترجمة، فلم ينصف الغربيون الإسلام إلا إثر كل ترجمة ظهرت للقرآن، على ما في هذه الترجمات من جمود وخلط وإساءة.

كمال دسوقي

ص: 14

‌في النظم الإسلامية

من تنظيمات الإحسان

للأستاذ لبيب السعيد

لا تزال الخدمة الاجتماعية فقيرة إلى دراسة إسلامية متخصصة تشارك في نهج قواعد هذا الفن وتقرير أساليبه، وترفد تاريخه بأغنى الروافد وأعذبها.

وهذه الدراسة التي ننشدها والتي نرى أنها تقوم على التنقيب الصابر والجمع البصير، ثم التحقيق الواعي والدرس الدقيق، حرية أن يجرد لها المسئولون في معاهد الخدمة الاجتماعية عندنا وفي جامعاتنا كتيبة من الباحثين لهم بصر بالإسلام وقدرة علمية على سير تاريخه وفقهه وأدبه وسير أعلامه. ولقد بلونا أغلب أساتذة الخدمة الاجتماعية في مصر يعجزون عن التحرر من الاتجاهات الغربية في تفكيرهم بل في تعبيرهم، فحري بالكتيبة المرجوة أن يكون لأفرادها من الاستعداد والاجتهاد والإخلاص الأمين للمعرفة ما يكفيهم هذا العجز.

ولعل من أمثلة الإهمال الغليظ الذي يشهده المتصلون بدراسات الخدمة الاجتماعية في مصر أن هذه الدراسات حين تتناول تنظيم الإحسان تسكت عن خطة الإسلام في هذا الشأن سكوت الجاهل، أو تذكر - وقلما تذكر - وسلا من ميحط، بينما تفيض أيما إفاضة في النظم الأوربية. والأمريكية: فهي تتحدث مثلا عن إرشادات سنة 1529 في همبرج التي صدرت للمشرفين المحليين ليتعرفوا أحوال الفقراء ويتيحوا العمل لمستحقيه ويقرضوا المعوزين قرضا حسنا ويساعدوا المريض؛ أو عن أوامر شارل الخامس سنة 1541 بجمع الإعانات في الأراضي المنخفضة وتوزيعها على الفقراء وتعليم اليتامى وتشغيلهم ومساعدة الكسالى والمشردين، أو تسترسل في الحديث عن قوانين الفقر الإنكليزية التي صدرت في القرن السادس عشر؛ أو تردد الكلام عن نظام المزارع الريفية الأمريكية التي تضم الفقراء وضعاف العقول والسكيرين. . . إلى آخر هذه النظم.

والحق أن المسلمين سبقوا إلى تنظيم الإحسان على نحو لا تكاد النظم الغربية تستشرف إلى سمو مكانته. فالصدقات - وهي في الإسلام المصدر الأول للإحسان، والركن الثالث من الأركان التي بنى عليها الدين - تكرر في الصحاح أن النبي أوفد من رجاله من

ص: 15

يجمعونها. والأخبار على إن الخلفاء بعده عينوا الموظفين لجمعها، وأنه في مختلف العصور كان لجبايتها عمال متخصصون يدخل فيهم الساعي والكاتب والقاسم والحاشر الذي يجمع الأموال وحافظ المال والعريف. . ولقد أقترح (أبو يوسف) على (هارون الرشيد) تعيين موظف خاص للصدقات في جميع البلدان. يقول أبو يوسف للرشيد:(ومره ليوجه فيها أقواماً يرتضيهم ويسأل عن مذاهبهم وطرائقهم وأماناتهم يجمعون إليه صدقات البلدان).

أما توزيع الإحسان، فكان مخصصا له أيضا موظفون ودواوين، وهذا دليل على أنه كان إجراء له ترتيب مقدور له صفة النظام والدوام.

جاء في تضاعيف أحد الأخبار إن (المنصور) ولى عامله بالبصرة الإجراء على القواعد من النساء اللواتي لا أزواج لهن وعلى العميان والأيتام. ويذكر (الطبري) عن الخليفة (المهدي) أنه أمر في سنة 163 أن يجري على المجذمين وغيرهم. كما يذكر (المقدسي) عن نفس الخليفة أنه أجرى على العميان والمجذومين والضعفى.

وكذلك يذكر (الجهشياري) عن (الرشيد) أنه أمر بإجراء القمح على أهل الحرمين وغيرهم ممن ذكرهم تفصيلا ويروى (أبن مسكوبه) في كتابه (تجارب الأمم وتعاقب الأمم) في ذكر ما دبره (علي بن عيسى) في وزارته سنة 315 وما جرى في أيامه أنه قلد رجالاً سماهم دواوين متعددة منهم (أبو أحمد عبد الوهاب بن الحسن) الذي تولى (ديوان البر والصدقات). (وطاهر أبن الحسين) في المنهج الشهير الذي رسمه لولده (عبد الله) حين استعمله (المأمون) على (الرقة)، يدعو ولده إلى (تعاهد أهل البيوتات ممن دخلت عليهم الحاجة فيحتمل مؤنهم ويصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا)، ويقول له:(وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين (يريد المأمون) في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة). ويروى (أبن خلكان) أن (أبن الفرات) كان يعطي الفقهاء والعلماء والفقراء وأهل البيوتات أكثرهم مائة دينار في الشهر واقلهم خمسة دراهم وما بين ذلك.

والإسلام - قبل النظم الحديثة - يكره أن يغري الإحسان غير المحتاجين بالتكفف والاعتماد على عطف المحسنين وبصرفهم عن طلب الرزق، فهو يحب للناس أن يستغنوا

ص: 16

بالعمل عن لحاجة الملجئة للسؤال. يقول النبي (ص)(اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة). وهو ينهى عن المسألة الملحفة: (لا تلحفوا في السؤال، فو الله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته).

بل هو يخوف من المضي في السؤال: (لا تزال المسالة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم).

والإسلام، مع بليغ رفقة بالمحاويج يحرم سؤال التكثر ويشدد النكير والمؤاخذة على محترفيه، فالرسول (ص) يقول: من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر) وإنه ليتحدث عن آخذ الصدفة بغير حق فيقول إنه (كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة).

ومن مصاديق هذه النظرة الإسلامية أن الرسول نفسه يترفع بأسرته وأقربائه عن التدلي إلى مستوى قابلي الصدقات، فهو يحرم عليهم الصدقة ولا يجعلهم في صف ذوى الفاقة؛ يقول (إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس). وقد أخذ سبطه الحسن بن علي من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي: كخ كخ، ليطرحها ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟ بل إنه ليحرم الصدقة على موالي آله، ولو كان الأخذ على جهة العمالة. والمسلمون يتأثرون النبي ويقتدون به، فيرون التعالي عن الصدقة واجبا محتوما على المستغنى: شرب عمر بن الخطاب لبناً فأعجبه، فسأل الذي سقاه: من أين هذا اللبن؟ فاخبره أنه ورد على ماء قد سماه (فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون فجعلوا لي من ألبانها، فجعلته في سقائي، فهو هذا) فأدخل عمر في يده فاستقاءه.

والإسلام في إبائه أن تتسرب الصدقات لغير المستحق يعين مصاريفها، بحيث يفيد منها الفرد والجماعة والدولة والدين. (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤتفكة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وأبن السبيل). ويقول النبي في شأن تعيين هذه المصارف:(إن الله تعالى لم يرض في قسمة الأموال بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه).

ويحبب الإسلام في العمل المنتج مهما يكن شأنه ضئيلاً، ليس فحسب ليعول المرء نفسه في

ص: 17

ظل الكرامة والاستقلال ولا يكون كلا على الدخل القومي ولا يدخل على المسؤول ضيقا في ماله، ولكن أيضاً ليسهم في التقدم الاجتماعي للأمة ويحرز شرف التصدق (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه).

ومن جميل ما أشارت إليه السنة أن الأنبياء مع علو درجتهم كانت لهم حرف يكسبون منها الحلال الخالي عن المنة، فآدم أحترف الزراعة، ونوح التجارة، وداود الحدادة، وموسى الكتابة كان يكتب التوراة بيده، وكل منهم قد رعى الغنم.

ويجعل الرسول عدم السؤال أمراً يطلب إلى المسلمين مبايعته عليه: حدث عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعته، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً والصلوات الخمس وتطيعوا - وأسر كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحد يناوله إياه.

والإسلام حريص عل كل الناس ألا يتعطلوا، ولذلك يتيح لمن لا مال لهم التعاقد مع أرباب الأموال الذي يعجزون عن تثميرها على تولي التثمير بشرائط خاصة تحقق نفع الطرفين كليهما. فالفقه الإسلامي يبسط أحكام المضاربة، وهي شركة في الربح يكون المال فيها من جانب والعمل من جانب آخر، والمزارعة وهي شركة في إنتاج الأرض من بين صاحب الأرض والعامل، والمساقات وهي شركة في الثمر بين صاحب الشجر والعامل. كما يضع الفقه الإسلامي أحكام الإجارة وهي عقد تمليك المنافع أو هي بيع المنافع.

وتنشيطا للحياة الاقتصادية، لا يحب الإسلام حبس المال عن الاستغلال، ولذلك أعطى القاضي حق إقراض مال الوقف والغائب واللقطة، بل إن مال اليتيم - وحرص الإسلام عليه هو ما هو - يستطيع القاضي أو الوصي إقراضه بشرط، وكذلك مال المسجد للمتولي إقراضه.

وتخديم المتعطلين الغرباء من التقاليد الإسلامية. يروى (أبن بطوطة) في رحلته أن كل من كان ينقطع بجهة من جهات دمشق (لابد أن يتأتى له وجه من المعاش من إمامة مسجد أو

ص: 18

قراءة بمدرسة. .) إلى أن يقول: (ومن كان من أهل المهنة والخدمة فله أسباب أخر: من حراسة بستان أو أمانة طاحون أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى التعليم ويروح). . . الخ.

والتصدق على الجناة مقبول في الإسلام ما صلحت نية المتصدق وما أريد بالصدقة رد الضال وإقامته على الطريق. والنبي في هذا الشأن يروي قصة محسن وقعت صدقته عند زانية وعند غني. فقبلت صدقته (أما الزانية فلعلها تستعف به من زناها، ولعل السارق أن يستعف به عن سرقته؛ ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما آتاه الله عز وجل.

وفي تنظيم الإحسان، يسبق النبي غير مأموم بأسوة أو متبع لسابقه، إلى تقرير (بحث الحالة) الذي هو من أنفع ما تقرره الخدمة الاجتماعية الحديثة: عن (قبيصة بن مخارق الهلالي) قال: تحملت حمالة (الحمالة هي المال الذي يستدينه الإنسان وينفقه في إصلاح ذات البين كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسأل فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً.

فالنبي يرى ألا يأخذ سائل بدعوى الفاقة شيئاً حتى يتحرى أمره، فيشهد بإعساره لا فرد واحد قد يكون له هوى في المنع أو الإعطاء بل ثلاثة، وليس ثلاثة كيفما أتفق فيكون منهم من لا نظر له أو من لا فهم له، وإنما ثلاثة يكونون جميعاً من ذوي اليقظة والعقل، حتى تكون شهادتهم حيث يريد التحري من القبول والتقدير، ولا يكون هؤلاء ممن لم تربطهم بالسائل علاقة تقفهم على حقيقة ماله - والمال مما يخفى عادة ولا يعلمه إلا ألصق الناس بالمرء - وإنما يكونون من أهل الخبرة بحال باطنه وظاهره حتى لا يشهدوا بما لم يحيطوا بعلمه. والإحسان بعد كل تلك الحيطة ليس شيئاً غير ممنوع ولا مقطوع، وإنما هو بالقدر الذي يتيح قواما من عيش، فإن تجاوزه فهو حرام لا يحل كسبه ولا أكله.

والإسلام في تعريف المسكين الذي تحق له الصدقة ثاقب النظر دقيق التقدير واسع الرحمة.

ص: 19

يقول النبي (ص): (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحي أو لا يسأل الناس إلحافا).

وفي رواية مسلم: (ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والثمرة والثمرتان) قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال (الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً).

أما بعد. فهذه إلمامة يضيق المقام عن الغوص فيها إلى الأعماق. وما نبغي من استهداء الإسلام إلا توجيهاته الراشدة لفن الخدمة الاجتماعية مجرد الإشادة بأمجاده والتحليق في الآفاق بتراثه. ولكننا نبغي أيضاً بعض البر بالعلم وبعض الإخلاص لذلك الفن ذاته.

لبيب السعيد

ص: 20

‌الدعوة الوهابية وأهدافها

أسرار الحرب بين أسرة محمد وعلي وآل سعود

للأستاذ محمد كامل حته

آن أن يكتب التاريخ من جديد. . .

هكذا قلت لصديقي ونحن نسمر في فندق مصر بمكة، ونستعرض تاريخ تلك الحروب الدامية التي نشبت بين مصر والحجاز في عهد محمد علي الكبير.

وأتصل بنا الحديث فتناول تاريخ الدعوة الوهابية، التي تعتبر إحدى انتفاضات ثلاث كان لها شأن كبير في تاريخ الحركات الدينية والسياسية في العالم العربي: الوهابية في جزيرة العرب، والسنوسية في شمال إفريقية، والمهدية في السودان. .

فما هي البواعث الحقيقية لتلك الحروب التي شنها محمد علي وأولاده على الحجاز؟

وما هي حقيقة الدعوة الوهابية وأهدافها الدينية والسياسية؟

أما هذه الدعوة، فهي - كما قلت - إحدى الانتفاضات الدينية التي أنفعل بها العالم العربي، والتي كانت منبعثة من صميم الإحساس بما وصلت إليه كل المسلمين من الجهل بحقيقة الإسلام، وتدهور العقيدة وتحلل مقوماتها في النفوس، مما تخلف بهم عن مكانهم الطبيعي في الصدارة، وجعلهم خولاً للأجنبي، يطأ أعناقهم ويستولي على بلادهم، ويسلبهم ما بقي من مقومات حياتهم وميراث تاريخهم. .

وفي قرية (عيينة) من قرى نجد ولد محمد عبد الوهاب صاحب هذه الدعوة، في مطلع القرن الثامن عشر. وقضى صدر شبابه مرتحلاً إلى الأحساء والحجاز والبصرة وبلاد فارس: وتتلمذ على ما كتبه أبن تيمية وأتباعه، وخاصة أبن القيم وأبن كثير، وهم من الأئمة السلفيين الذين كان لهم في تاريخ التوحيد الإسلامي جهود ضخمة، ردت إليه اعتباره وجددت شريعته السمحة البيضاء.

إذن فقد أجتمع للرجل في اتصاله بحياة المسلمين في كثير من الأقطار، وفي فقهه لأسرار الشريعة الإسلامية؛ ما ملأ قلبه غيرة على حال المسلمين، وحسرة على ما وصلوا إليه من جهالة وضعف وانحلال. وحفزه ذلك إلى الجهاد في سبيل تجديد إيمان هذه الأمة، وتسديد عزائمها إلى مواطن العزة والشرف.

ص: 21

وكانت الجزيرة العربية لذلك العهد ممزقة الأوصال، متعددة الولايات والولاة؛ لا تهدأ بينهم نار الحرب، ولا تخبوا الإحن والثارات. وكذلك كان الشأن بين البدو والحضر، وبين القبائل بعضها وبعض، بل وبين أبناء البيت الواحد ممن يتنافسون على المناصب والمغانم. حتى أن أحد أشراف مكة لم يتورع عن قتل أخيه ثم طبخ لحمة وقدمه إلى بقية أخوته في وليمة ساهرة!

وكانت الخرافات والعقائد الضالة قد استحوذت على العقول، حتى لأوشكوا أن يرتكسوا في جاهلية عمياء، وهي شر من الجاهلية الأولى؛ لأن أهلها يزعمون مع ذلك انهم مسلمون. .

وبدأت دعوة محمد بن عبد الوهاب بالعمل على إصلاح العقيدة الدينية. وهل إلى ذلك من سبيل غير الرجوع إلى منابعها الصافية: الكتاب والسنة!

ومن خصائص العرب في جميع العصور، أن طبيعتهم السمحة القوية، وبيئتهم البادية المتصلة بالكون، المتفاعلة فيه، هي أقرب الطبائع البشرية إلى روح الإسلام وطبيعته. وليست كذلك طبيعة الأمم التي أغرقتها الحضارة، واستغرقتها العقائد المادية، وأنهكها الترف العقلي، وخدرتها أوهام التصوف وتهاويل الفنون. .

ولذلك استطاع الإسلام أن يحقق بأولئك العرب، بعد أن زالت عن طبيعتهم السمحة القوية أدران الجاهلية، وتطهر جوهرها النقي مما شابه من عقائد وأفكار - استطاع أن يحقق بهم أروع وأسرع معجزة في فتح الأمصار ونشر كلمة الله.

فلما اتصلت حياتهم بتلك الأمصار، وتذوقوا ما فيها من ألوان الحياة الحضارية، وبهرتهم دنياهم الجديدة بما فيها من زينة وزخرف ومتاع، تأثروا بذلك كله، فضعفت قواهم المبدعة الغلابة، ولم يستطيعوا أن يتابعوا جهادهم بعد الفتح في تطوير عقائد تلك الأمصار، وانبعاث صور جديدة للحياة في شتى مناحيها العقلية والاجتماعية، يتصل إلهامها بروح الإسلام وطبيعته، فكان أن ذرت العقائد الموروثة التي حاربها الإسلام بقرونها من جديد، في صور موشاة بألوان تخيل للرائي أنها صورة إسلامية، وإن كانت في مادتها ووحيها بعيدة كل البعد أو بعضه عن مادة الإسلام ووحيه. .

وأنظر معي الآن - ولا تجزع - إلى ذلك الميراث الضخم الذي خلفته العصور الإسلامية منذ أنحسر عنها مد العروبة المسلمة أو غاض، وانطلقت غرائزها تبني للإسلام حضارته

ص: 22

العمرانية والعقلية، في مصر وفارس والهند وتركيا وغيرها من الأمصار، فتنشئ العمارة، وتمارس العلم والفلسفة، وتصوغ فنون الحياة. . أترى معي حقيقة - إذا تجردنا من أوهام ذلك التاريخ الذي نعيش فيه، وتحررنا مما رسب في أعماقنا من معايير وموازيين - أن هذه الحضارة الإسلامية في ماضيها وحاضرها، وذلك الميراث الضخم الذي تزهو به وتلك الحياة التي أبدعت هذه الحضارة وذلك الميراث، والتي نحياها الآن على نمط قريب مما كان يحياها أولئك الآباء والأجداد؛ أتراها معي حقيقة، حضارة إسلامية بكل ما في هذه الكلمة من معنى؛ أم أنها حضارات متعددة تمتد جذورها إلى أعماق الأمم التي صنعتها، في مصر، وفارس، والهند، وتركيا، وغيرها من الأمصار؟

قد تتهمني بالمغالاة والتجني على مقومات الحضارة الإسلامية. وقد تقول: إن هذا التعدد في ألوان الحضارة الإسلامية لا يتصل إلا بمظاهرها، وبالقدر الذي تختلف به طبيعة كل أمة ومؤثراتها الخاصة، وإنها في جوهرها ومجموعها تنبع من معين واحد هو معين الإسلام. . .

وفي هذا الاعتراض نوع من المغالطة؛ فإن هذه الألوان المتعددة في معالم الحضارة الإسلامية، لا يقتصر تعددها واختلافها على المظهر فحسب، ولا يرجع ذلك التعدد والاختلاف إلى تأثير البيئة واختلاف الطبيعة - وأذن لهان الأمر؛ ولكنه أعمق من ذلك جذور أو أبعد أساً؛ ذلك لأن هذا الاختلاف في المظاهر لا يقاس إلى ما بين العقائد والأفكار والمشاعر التي تكمن وراءها من تباعد واختلاف. . وبالقدر الذي يباعد بين هذه العقائد والأفكار والمشاعر الموروثة، وبين الإسلام في حقيقته الأولى وتمثله للكون والحياة.

وفي هذا الاعتراض كذلك شبهة لا يمكن إزالتها إلا بالاحتكام إلى الإسلام ذاته؛ لا عن توهم أنه دين تأبى طبيعته التطور، وينكر حق العقل في بحث أسرار الكون وإخضاع نواميس الطبيعة، ولكن عن إدراك طبيعة الإسلام باعتباره دينا يقوم على (التوحيد) في كل شئ: التوحيد الذي يسمو بالإنسان عن توحيد عبودية إلا لله، ويجعل المسلم قواما على الحياة والكون، يسيطر عليهما ويسخرهما لتحقيق الرسالة التي جاء بها الإسلام لخير الفرد والمجتمع؛ لا أن يكون عبداً للكون والحياة، تستخدم مواهبه في الفنون حتى يكاد يعبد ما خلق، وتستغرق عقله بالفلسفة حتى تصرفه عن العمل. . .

ص: 23

على أني أراني قد أبعدت كثيراً فيما أعالج من أمر الدعوة الوهابية وبواعثها وأهدافها، فلندع هذا الحديث الذي لا توفيه هذه الإلمامة حقه من الحجة والبيان. ولنعد إلى حديثنا عن صاحب الدعوة محمد بن عبد الوهاب:

أراد هذا الإمام أن ينهض بدعوته. وهل لها إلا تلك (الخامات) العربية التي تنطوي على عناصر الحرية، والاتصال المباشر بالكون، والاستواء على أقطار الحياة يبرئها مما أصابها من غشاوة الجهالة، ويردها إلى فطرتها السمحة، ويغذيها بوحي الكتاب والسنة؛ ثم ينطلق بها خفيفة مؤمنة صابرة، تحمل أعباء الدعوة، فتنشر الهدى المحمدي، وتقر الأمن المضطرب، وتحمي البيت الذي يتخطف الناس فيه، ثم تمضي برسالتها إلى أبعد الآفاق. .

تلك كانت دعوة محمد بن عبد الوهاب. وهذه وسيلته. . ولقد نجح هذا الداعية في المرحلة الأولى - مرحلة الانتصار على أهواء الجاهلية، وأدواء الجهالة، واستنفار (الإخوان) للدعوة إلى سبيل الله - نجاحاً كاد أن يتجاوز حده فيقع بهم في السرف، أو قد كان.

وكانت دعوة محمد بن عبد الوهاب تسير جنباً إلى جنب مع مراحل الدولة السعودية، فلما دانت الجزيرة العربية لآل سعود في مطلع القرن التاسع عشر، كانت هذه الدعوة تزلزل قلوب كثير من السلاطين والولاة في البلاد الإسلامية، ويرون فيها خطراً جائحا يخشى أن تمتد آثاره فتقضي على الأوضاع الظالمة والعقائد الفاسدة التي تقوم عليها كثير من العروش والتيجان. . .

أحس بهذا الخطر سلطان تركيا، وكان يعيش في تلك الأسطورة التي توهمه، أو يوهم هو بها الناس، بأنه ظل الله في أرضه!

وأحس به محمد علي في مصر. . .

وكان إحساس سلطان تركيا بخطر الدعوة الوهابية مزدوجاً، لأنه كان يحس في الوقت نفسه بخطر محمد علي في مصر. فأراد أن يضرب الضربة يصيب بها الاثنين معاً، فطلب إلى محمد على أن يغزو الحجاز؛ وأن يقضي على أولئك المتمردين العصاة!

ووجدها محمد علي فرصة يضرب بها ضربته، باسم خليفة المسلمين، ظل الله في أرضه. .

ثم كانت الغزوات والحروب التي ذهب وقودها مئات الألوف من أبناء مصر، وعشرات

ص: 24

الألوف من أبناء الجزيرة العربية. والتي خلقت في نفوس الشعبين تلك الموجدة التي تذكو نارها تارة وتخمد أخرى. . .

وكتب التاريخ الزائف قصص البطولة والنصر لجيوش الخليفة وولاته في مصر، على الدعوة الثائرة المتمردة في جزيرة العرب. هذه الجيوش المغلوبة على أمرها، والمسخرة لأطماع الولاة وأهوائهم. والتي حبست عشرات السنين عن أن تودي واجهتا الحق حين كان أشراف مكة يرشون السلاطين والولاة: ثم يعيثون في الأرض المقدسة فساداً، فيقتلون ويسلبون، ويغرون سفهاء البدو فيهدرون دماء الحجاج، وينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم، ولا يرسلون من هذه الجيوش إلا كتيبة لحراسة (المحمل) وهي تحدو ركبه بالطبول والمزامير.

ويبدو أن لتلك الحروب أثراً كبيراً في توقف الدعوة الوهابية عند خطوتها الأولى، وهي المناداة بالشريعة الإسلامية لتكون أساس الحكم، والرجوع إلى الكتاب والسنة في كل أمر، واستنفار أهل البادية ذوي الحمية والبأس للاضطلاع بأعباء هذه الدعوة. أما ما وراء ذلك من خطوات تتصل بتدعيم هذه الدعوة بالعلم، وتخرج أفواج الدعاة الذين لا يقتصرون على سورة الحماس الديني، دون البصر بشريعة الإسلام في الحياة؛ وتعبئة قوى الأمة للتحرر الديني والسياسي - فذلك ما قصرت عنه الأسباب، وما انتهى بالدعوة إلى أضيق الحدود.

ولقد كان من أثر ذلك أن الملك عبد العزيز ذاته، حين أراد أن يخرج قليلاً من نطاق تلك الحياة الجامدة الراكدة، وأن يدفع بلاده خطوات يسيرة في سبيل الحياة؛ أنقلب عليه أشد أعضائه وأنصاره من (الإخوان) أعداء ألداء، ووقعت بينه وبينهم فتنة دامية، انتهت بغلبته عليهم، ووقوع زعيمهم فيصل الدويش أسيراً في يده، وعندئذ تنفس الملك عبد العزيز الصعداء وقال: من اليوم سنحيا حياة جديدة!

محمد كامل حته

ص: 25

‌صديقي الشاعر

للأستاذ حبيب الزحلاوي

طالما سمعتك يا صديقي تقول: إن الشعر أسمى أنواع الأدب وأعلاها، وإن الشعراء يسمون بالإدراك الإنساني إلى مراقي وعرفة الحياة، وإنهم مصابيح النفوس، ومنارات الأفئدة، ومشاعل الأذهان، ولهب الأرواح؛ وإن الحياة بغير الشعر وبدون الشعراء ليست إلا صحراء تصفر فيها أبالسة المادة وترقص شياطين الشهوات على عاصف رمالها.

وكنت تقول: إن الشعراء جلبوا من دموع الأسى والأحزان، ومن بسمات الفرح والغبطة، وإنكم كونتم من أنفاس الثكالى ومن مرح الفتيات المرحات. وان قلوبكم بقدر ما هي لينة يذيبها الوجد، هي صلدة صارمة، إن تأثرت من النظرة الحنون، أو من الحدث الاجتماعي، أو من أي أمر يمس الحرية، أو مسألة تدنو من الإنسانية، تغرد أو تزمجر. إن غردت سحرت الإنس وأسكرت الجن، وإن زمجرت طوحت بالتيجان والعروش، وأودت بالطغاة والجبابرة إلى الدرك الأدنى من أودية الجحيم.

وقلت يا صديقي إن الشاعر يسبق جيله، يحسن بما تختلج به الأفئدة، وتدرك بلمحة خاطفة من لمحات ذهنك اللامع ما يجول في الصدور، فتصور ببراعة العبقري أحاسيس النفوس في شتى انفعالاتها، وترسم بنظمك الموسيقى الموزون مشاعر أمتك في مختلف أحوالها.

إن ادعاءك هذا هو الحق المبين؛ ولكن هل علمت يا صديقي الشاعر، أعزك الله وأبقاك، ماذا حدث في مصر وما طرأ عليها من طوارئ وإحداث منذ هل عام 1952 حتى أدركه المحاق؟ هل نقل لك الرواة خبر فئة من العسكريين قامت بعمل من الأعمال؟ هل دريت أن فاروقا الذي طالما سخرت من القمر بدرا إذا شبه بسناه، ومن الزهر عطراً نظراً إذا قورن بشذاه، فاروق ذلك الذي قلت فيه (إن أخلاقه الشخصية قدوة للمصريين) وإنه مثال الأخلاق العالية والنفوس الرضية! إنه أصبح أحدوثة يتندر العالم بأفاعيلها! وسطوراً في سجل التاريخ، وإنه لن يرى مصر أبداً ولن تضم رفاته أرض مصرية قط!

لست أدري يا صديقي الشاعر إذا كنت أحسست طغياناً وقع، أو شعرت بالحرية مست، أو بالحقوق ديست، أو بالأعراض استبيحت، أو بالأرواح أزهقت، لا بأيدي زبانية فاروق بل بيد فاروق وبأمره! أكبر ظني إنك لا تدري شيئاً من ذلك.

ص: 26

أنت يا صديقي الشاعر في واد، والأمة التي أنت منها في وداد آخر. فإذا خفيت عليك فعال اللواء محمد نجيب، وهان عليك إنكار أعوانه الضباط ذواتهم في سبيل الوطن، وشغلت عن التفاف عشرين مليونا من المصريين حوله وقد أنزلوه في حبات قلوبهم، وذهلت عن مائة مخلوق كسالى وألف قعيد سفهاء من مالكي آلاف الفدادين انتزعت منهم لتوزع على فالحي الأرض وزارعيها، ولم تلتفت إلى شعب كانت سمعته تتمرغ في الأوحال فأنقلب فصار العالم يتطلع إليه يرمقه بعين الإكبار والإعجاب، إذا كان هذا بعض ما وقع بين سمعك وبصرك وأنت ذاهل أو غافل، أيصح لك بعد اليوم أن تدعي الشعر وتتكلم في الشعور؟

لقد انصرمت منذ طرد الطاغية ودك عرشه. لقد انقضت هاتيك الشهور في العمل الجدي المجدي، فقد زالت من عالم الوجود وأحزاب وأذناب، وانمحت من سجلات التقاليد ألقاب وأرباب، وطهرت الأداة الحكومية وانعدم الفساد والرشوة والوساطات والمحسوبيات، وشرعت محاكم الأمة تطهر مصر من الخونة والغادرين، وقع كل هذا بين سمعك وبصرك يا صديقي الشاعر، ألم يكن بعض ما وقع كافياً لتحريك رواسب نفسك الشاعرة؟

ألم تسقك قدماك إلى طريق عابدين؟ ألم تر المهانة والذل والانكسار تجلل القصر بوشاح أسود؟ ألم تنصت إلى صراخ حجارة القصر، إلى قاعاته وجدرانها، إلى كل ركن وناحية، إلى كل سرداب ودهليز ومخبأ، تجأر في طلب التطهير بالنار المحرقة مما دنسها من مخاز من إسماعيل الفاجر إلى فاروق الداعر؟

من الشعراء يا صديقي الشاعر من يعيش بنصف وجدان وثلث حس، وربع شعور، وجزء من بصر وسمع، وبعض جزء من الوعي والإدراك. هل أنت من هذا النوع من الشعراء، أو مجرد حتى من الكليات والجزئيات، أو أنك مستجم في قوقعة تنتظر وسوسة شيطان؟

عهدنا لكل شاعر شيطاناً يوحي إليه الشعر، ألم يجل في خاطرك يا صديقي الشاعر أن تستلهم الرحمن الرحيم مرة نظم القوافي، أو أنهما تركاك كما مهملا ونبذاك قصيا لا تصلح إلا لتعيش بنصفك البشري الأسفل؟

أقلب الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية أيضا فلا تتعثر قدماي بشاعر أو نصف شاعر أو شويعر واحد حي يعيش بين الأحياء في هذا العصر!

ليس في شعراء مصر اليوم من يعيش مع (نجيب محمد) ولا أقول محمد نجيب، لأن الشعر

ص: 27

قد مات بعد شوقي وحافظ.

هل أقول إن دولة الشعر دالت كما دال عرش فاروق، أو أدنى إذا تلمست وفتشت وفي يدي مصباح ديوجين أجد (محمود عماد) آخر بين الشعراء الأحياء؟

حبيب الزحلاوي

ص: 28

‌بلزاك

للكاتب الكبير ستيفان زفايج

للأستاذ علي كامل

(يعتبر ستيفان زفايج من اعظم كتاب التراجم المعاصرين كما أنه في مقدمة كتاب القصة. وكتابه عن القصصي الفرنسي الخالد أونوريه دو بلزاك من أحسن ما كتب عن الأديب الكبير. ولقد كان كتاب (البرازيل أرض المستقبل) هو آخر كتاب أصدره زفايج في حياته. وقد وضعه بعد رحيله إلى البرازيل عام 1940 هرباً من الطغيان النازي. أما كتابه عن بلزاك فقد مات زفايج منتحراًن كما هو معروف، قبل أن يتمكن من نشره وكان قد أعد محتوياته. فلم تكد تضع الحرب أوزارها حتى سعى ناشره إلى الحصول على أصوله وتوصل إليها ونظم أبوابها بعد جهد مضن ثم أصدر الكتاب منذ عهد قريب وكان بذلك آخر كتاب ظهر لزفايج في عالم الأدب)

كانت والدة بلزاك تصغر أباه باثنين وثلاثين عاماً، ولم يكن زواجها منه عن حب، بل كان نتيجة إرغام من جانب أسرتها التي رأت في مركز برنار فرانسوا بلزاك ما يشجع على قبول هذا الزواج. كانت عصبية المزاج حادة الطبع تسئ معاملة أبنها أونوريه. ولم ينس أونوريه، حتى بعد أن شب عن الطوق وأصبح رجلاً وكاتباً تطبق شهرته الآفاق، إساءات والدته إليه. فقد كتب في أحد خطاباته إلى آخر عشيقاته وزوجته فيما بعد مدام دوهانسكا يقول:(آه لو عرفت أي نوع من النساء والدتي. إنها الرعب والهول مجتمعين. إنها الآن في سبيل القضاء على شقيقتي بعد أن قضت على جدتي. إنها تكرهني، تكرهني حتى قبل مولدي. إن والدتي هي سبب كل ما حل بي من مآسي الحياة)

ولقد كانت هذه الحياة العائلية الشاذة سبباً في أن يكرر بلزاك في كثير من المناسبات بأنه (قاسى افظع طفولة رآها إنسان على الأرض). ولاشك إن هذه الطفولة المعذبة قد اشتركت في توجيه مستقبل حياته فيما بعد.

لم يكن بلزاك في حياته المدرسية مجداً. وكان كثيراً ما يشرد بفكره أثناء الدرس، مبدياً عدم الاهتمام بما يلقيه أساتذته من الدروس. وقد نسب هو ذلك فيما بعد إلى أن امتلاء ذهنه بالأفكار جعله يرى فيما يلقي عليه أقل من المستوى المطلوب الذي يتطلبه ذكاؤه وطموحه

ص: 29

واطلاعه، وذلك الاطلاع الذي أنكب عليه كوسيلة لعزاء في البداية، قبل أن يكون وسيلة للتثقيف.

وظل بلزاك طول حياته الدراسية محروماً من العطف العائلي حتى بلغ العشرين وحصل على إجازة الحقوق، ولكنه بدلا من أن يسير في الطريق الذي أهلته له دراسته وكما تبغي أسرته، استيقظت فيه فجأة الرغبة في مزاولة حرفة الأدب، واستطاع أن يقنع أسرته بعد كفاح مستميت أن تمده بمبلغ من المال للذهاب إلى باريس ليجرب حظه مدة معينه لا تزيد على سنتين إذا فشل بعدها عاد إلى موطن الأسرة ليزاول الحياة التي أهلتها له دراسته القانونية.

ورحل بلزاك إلى باريس؛ وأقام في رقم 9 شارع ليدبجويير في غرفة في سطح المنزل، غرفة صغيرة تعابها النفس، اختارتها له والدته بنفسها خصيصا لتبغض إليه الحياة التي يطمع فيها. بيد أن بلزاك أحتمل حياته الجديدة بعزم وعناد. فكان ينظف الغرفة بنفسه ويذهب لشراء الطعام الرخيص كل يوم حتى يوفر ما تكلفه إياه المطاعم. حتى الماء كان يذهب لإحضاره من نافورة سان ميشيل كي لا يتكلف ثمن شرائه. ولم يكن كل ذلك ليثبط من عزيمته، وكان يتعزى عن شقائه بالتطلع من نافذة غرفته الصغيرة إلى أضواء باريس، متأملا سحرها، حالماً بذلك المجد الأدبي الذي يصبو إليه ليكون أسمه علماً بين كتاب تلك المدينة التي أضاءت سماءها أسماء أعاظم رجال الأدب والفكر في مختلف العصور.

فإذا ما أراد بلزاك أن يخرج من سجن غرفته ذهب إلى الأحياء الشعبية يتأمل ساكنيها ويدرس نواحي الحياة بين أرجائها. وكان لا يجد غضاضة أو غرابة أثناء تجواله إذ كانت ملابسه كما يقول، لا تلفت إليه الأنظار لأنها لا تفترق في بساطتها عن ملابس العمال والبسطاء من ساكني تلك الأحياء، فوق أن مشاعره كانت تتجاوب مع مشاعرهم، فيرثى لضروب تعاستهم، متضامنا وإياهم في سخطهم على رؤسائهم الذين يستبدون بهم ويرهقونهم في مقابل لقمة العيش. ولقد كانت هذه الفترة من حياة بلزاك حاسمة في تحديد تفكيره وإدراكه لنفسية الطبقات الكادحة وما يختزن فيها من مواهب إذا اكتشفت وأحسن توجيهها أخرجت للنور الكتاب والمخترعين والفنانين وسائر القادة في مختلف ضروب الفكر الإنساني.

ص: 30

وانقضى شهران دون أن يعرف بلزاك ماذا يكتب وقد تكدست في ذهنه المشاريع المختلفة. وأخيراً أستقر رأيه على كتابة مأساة شعرية بعنوان (كرموبل) فبدأ توافي على كتابتها وكان يريد أن ينتهي منها سريعاً قبل أن تجئ إليه والدته لتحاسبه على ما أعطته من نقود وعلى ما إذا كان قد استطاع أن يوفي بوعده في أن يصبح أدبيا؟! وأنهمك بلزاك في الكتابة وحيداً في غرفته، لا يغادرها مرة كل بضعة أيام حتى انتهى منها. وحمل بلزاك مأساته إلى أسرته وأتفق الجميع على عرضها على صديق للأسرة ملم بأصول الأدب والنقد. وبعد أن قرأها أبدى رأيه بعدم صلاحيتها. ولم يحاول بلزاك أن يناقش أو أن يحرج كبرياءه بعرضها إلى أشخاص آخرين أو على أحد المسارح فألقى بها في زاوية مكتبه ولم يخرجها من مكانها حتى مماته!

على أن هذه المسرحية؛ رغم فشلها، قد أنالته شيئا من الثقة من جانب والدته في أن يكون يوماً من الأيام أديباً يلمع اسمه بين رجال الأدب في فرنسا.

لم ييأس بلزاك من عدم نجاحه في عمله الأدبي الأول. وكان إيمانه بنفسه كافياً لأن يدفعه ليواصل صراعه. لكن المشكلة الكبرى التي أمامه الآن هي إن المال الذي منحته إياه أسرته يوشك أن ينفذ، ولذا يجب أن يجد طريقة للحصول عليه حتى يستطيع أن يبقى في باريس ويواصل هذا الصراع. وأخيراً أتفق مع أحد أصدقائه ويدعى أوجست لو بواتفان على أن يتعاونا معاً على كتابة قصص يوقعانها باسم مستعار.

وأنتقل بلزاك من غرفته إلى المنزل الذي كانت تسكنه شقيقته لور بعد أن هجرته بعد زواجها وجعله مقرا له يكتب فيه القصص المتوالية بمعاونة صديقه أوجست. ولاشك إن هذه الفترة من حياة بلزاك لا تشرف تاريخه الأدبي. فقد كان يسعى إلى كتابة أي نوع من الكتابة سواء كان قصصاً أو غيرها مادام يدر ربحاً مادياً. وكان يلجأ إلى اقتباس الموضوعات من أي مصدر يصادفه. ولقد كان عذره الوحيد أمام ضميره في ذلك الوقت هو السعي لأن يكسب حياته بأي سبيل حتى يستقل عن الحاجة إلى معونة أسرته، ويستطيع البقاء في باريس تمهيداً لمجده الأدبي الذي لم يتنازل عن العزم على الوصول إليه. ولقد أدى هذا التهافت من بلزاك على كسب حياته بأية طريقة إلى أن لا يتروى في كتابته فكان يؤجر قلمه لكتابة كل ما يطلب منه في مقابل أجر معلوم. ولم يغتفر له مؤرخو

ص: 31

حياته فيما بعد هذه الزلة التي أستمر عليها بضعة أعوام رغم سعيه إلى تبريرها بمنطقه البليغ وقدرته الفذة في الإقناع.

على أن أعجوبة بلزاك الكبرى أنه رغم هذا الإسفاف الأدبي خلال تلك السنوات قد استطاع أن يتطهر منه فيما بعد، وأن يكون في أدبه عالي الضمير، يتأنق في فنه ويعيد تصحيح ما كتب بعد إرساله إلى المطبعة عدة مرات حتى ضج منه الناشرون إلى درجة أن قاضاه بعضهم من اجل ما يتحملون من نفقات نتيجة تصحيحاته وتغييراته التي لا تنتهي.

وبلغ بلزاك الثالثة والعشرين وهو في أوج كفاحه المضني بمعاونة صديقه أوجست في سبيل التحرر من إعالة أسرته والبقاء في باريس. وإلى هذه السن لم يكن يعرف عن العلاقات النسائية شيئاً. فقد كان شديد الخجل، مهمل الهندام، لا يجذب إليه نظر الجنس الآخر لبدانته وبعده عن كل جاذبية وانطوائه على نفسه. ولطالما شعر بالألم عندما كان يرى شبانا في عمره يعتبرهم اقل منه ذكاء وشأنا في صحبة فتيات جميلات لا يستطيع هو أن يصل إلى معرفتهن.

وفي ذات يوم هيأت له الظروف رؤية مدام دوبيرني صديقة عائلته وكانت في عمر والدته إذ كانت في الخامسة والأربعين بينما هو في الثالثة والعشرين. فوقع في غرامها وظل يمطرها بخطاباته الملتهمة. ورغم صدها له في البداية فقد انتهى الأمر بها إلى الاستسلام والسماح له بلقائها ذات ليلة في منزلها فتحقق له حلم في التمتع (بتلك الليلة الصاخبة الممتلئة باللذة، تلك الليلة لا يستطيع التمتع بها إلا مرة واحدة ذلك الطفل الذي بلغ مرحلة الرجولة والتي يسعد بها عندما يصادفها لأول مرة في حياته).

ولقد دامت صداقة بلزاك لمدام دوبيرني قرابة عشر سنين. وحتى بعد هجره لها وإنشائه علاقات أخرى مع غيرها فقد بقي وفياً لذكرى صداقتها، يراسلها بين وقت وآخر ويسترشد بآرائها. فقد كان يرى على يديها وحدها تفتحت أمامه أبواب السعادة النفسية وعرف الحب الأول مرة في حياته وفي وقت بلغ به اليأس مبلغاً جعله يفكر في إن الموت هو السبيل الوحيد للخلاص من عذابه.

ولقد كان التفاوت الكبير بين عمريهما مما سهل التغلب على سذاجته العاطفية ومشكلة خجله المرضي. ألم يكن يتمثل مدام دوبيرني أمام ناظريه حين قال كلمته الخالدة: (ليس إلا الحب

ص: 32

الأخير للمرأة الذي يستطيع أن يرضي الحب الأول للرجل)؟! ولقد رسم هذا الحب الأول لبلزاك طريق ميوله الغرامية طول حياته ونوع المرأة التي تستطيع في نظره أن تملأ فراغ قلبه وتروي ظمأ حواسه الملتهبة المتدفقة؛ فالحبيبة النموذجية في نظر بلزاك هي تلك المرأة التي تخطت الثلاثين والتي تكون منه بمثابة الأم لطفلها المدلل، تغمره بعطفها وتحنو عليه وقت الشدة، وتمده بالمعونة المالية وقت الحاجة. هي تلك المرأة الواعية التي ترتفع بتجاربها عن الأنانية التي تريد أن تجعل من الرجل وسيلة لا غير لتحقيق أطماعها وإطفاء لهيب نزواتها. هي تلك المرأة التي أوشكت بحكم سنها أن تفقد الأمل في صداقة جديدة والتي تشعر بالسعادة الحقة إذ أتيحت لها تلك الفرصة النادرة التي تشعرها بأنه لا يزال هناك من الرجال من يعجب بها وترغب في صداقتها. وما بطلتا قصتي (المرأة المهجورة) و (المرأة ذات الثلاثين ربيعاً) إلا صورتان عن بطلات حياته الغرامية اللواتي خلدهن في قصصه العديدة ومنحهن حق التمتع بالحياة رغم العرف السائد في ذلك الوقت من الخصوص الذي يحرم عليهن بعد هذه السن التمتع بهذا الحق.

ولقد كانت هذه الصور الخالدة للمرأة التي تخطت الثلاثين في قصص بلزاك سبباً في أن يخلق حوله طبقة من المعجبات لم يتمتع بها غيره من كتاب القصة في القرن التاسع عشر. وفي جو هذه الصور الحية كان بلزاك يبشر بفلسفته الجديدة على لسان أبطاله كقوله (إن المرأة ذات الأربعين تعطيك كل شئ. أما ذات العشرين فلا شئ إطلاقاً). ولقد طبق بلزاك طوال حياته الغرامية هذه العقيدة فكان (شديد الكره للفتيات) لأنهن يأخذن كثيراً ويعطين قليلاً. كما أنه لم يلجأ إطلاقاً في علاقاته إلى بائعات الحب أو إلى ذلك النوع من الغانيات اللعوبات المغرورات. وما كانت صداقته بعد مدام دوبيرني كصداقته لدوقة إبرانتيز ومدام ريكامييه ومدام رولما كارو ودوقة كاسترى ثم أخيراً مدام دوهانسكا إلا تطبيقا لتلك العقيدة التي كونها لنفسه على ضوء حبه لمدام دوبيرني وهو أن تكون المرأة له أماً وشقيقة وصديقة وعشيقة في وقت واحد، يلوذ بها أيام المحن والكوارث فتغمره بتشجيعها وسلواها وتهرع إليه في ليالي الشقاء كما كانت تفعل مداد دوبيرني التي كانت (تأتي إليه كل يوم كما يأتي النوم الكريم يسكن وقر الآلام).

بقي بلزاك حتى الثلاثين من عمره يكافح بعناد دون أن يخرج عملاً أدبياً ذا قيمة إلى أن

ص: 33

أصدر أول قصة طويلة له (التعويذة) فكانت فتحاً جديداً في الفن القصصي من حيث قوة التحليل ودقة الوصف وكان نجاحها بداية فجر مشرق. فمنذ ذلك الوقت رسم بلزاك لنفسه هدفاً رئيسياً لموضوعات قصصه وهي أن تكون دراسة للمجتمع بكافة نواحيه يختلط فيها كل من الغنى والفقر، السعادة والشقاء، الطبقة العليا والطبقة السفلى، قوة المال وضعفه، وبالاختصار كل ما يعج به المجتمع من متناقضات. ذلك أن بلزاك كان يعتبر أن هذه المتناقضات أشبه ما تكون بالعناصر الكيمائية التي يتوقف كل منها على الآخر. فثراء طائفة من الناس سببه فقر الآخرين. والفقر المميت لا ينتج إلا لأن البعض قد أستحوذ على معظم الثروات. . وسعادة البعض كثيراً ما تكون على حساب تعاسة الآخرين وهكذا. ولقد كانت حياة بلزاك الخاصة في باريس وما عركه بنفسه بين مختلف طبقاتها هو المصباح الذي أرشده إلى حقائق المجتمع الإنساني في عصره. وما قصصه (الأوهام الضائعة) و (لويس لامبير) و (سيزار بيروتو) و (الأب جوريو) و (أوجيني جرانديه) وغيرها إلا ثمرة دراساته الشخصية وحياته العاصفة التي جعلت منه الأديب المؤرخ لعصره والمصور الصادق والطبيب البارع للمجتمع الباريسي الصاخب والمجتمع الإنساني بوجه عام.

ولقد استطاع بلزاك خلال هذا الكفاح العنيف في سبيل تأدية رسالته وفي سبيل (أن يحقق بعلمه ما حققه نابليون بحسامه) كما قال - أن يكتب في مدة عشرين عاما - عدا المسرحيات والمقالات والقصص القصيرة - أربعاً وستين قصة طويلة وأن يخلق في هذه القصص إلفي شخصية إنسانية، كل منها نموذج قائم بذاته للطبيعة البشرية بفضائلها ورذائلها، محققاً بذلك حلمه في أن يرسم صور المجتمع الإنساني بكافة ألوانه وطبقاته في قالب قصصي في سلسلة أطلق عليها فيما بعد ذلك العنوان الخالد على الدهر (المهزلة الإنسانية).

ولقد أرتفع بلزاك بإنتاجه الأدبي إلى أن يكون كما كان يتمنى (على رأس الحياة الأدبية في أوربا) وأن يكون (خليفة بيرون ووالتر سكوت وهوفمان). والواقع أن بلزاك قد فاق الأدباء الذين كان يتخذهم في شبابه مثلاً أعلى له؛ فقصته (لويس لامبير) التي تعتبر أعمق وأقوى ما كتب بمثابة فتح جديد في الفكر الأوربي عندما كشفت العلاقة الخفية بين العبقرية والجنون قبل أن يكشفها علماء النفس في أوائل القرن العشرين بعشرات السنين. ولقد كان

ص: 34

بلزاك يريد أن ينافس بقصته (لويس لامبير) قصة (فاوست) للكاتب الألماني جوت! ورغم أنه وصل إلى ما يبغي إلا أننا ندهش حين نعلم إن بلزاك كتب قصته في ستة أسابيع لم يفرغ جوت من كتابه (فاوست) إلا بعد ستين عاما من بدئه فيها.

وإذا كان بلزاك لم يحقق كل حلمه ولم يتم برنامجه إلى آخره فقد حقق معظمه وكتب أربعة أخماس (المهزلة الإنسانية) قبل أن يعاجله الموت في الثانية والخمسين. بيد أن بلزاك قد دفع الثمن غالياً من صحته التي أنهكها السهر الطويل المضني. ولعل العجب يتولى كل من يعرف طريقته في العمل التي تفوق طاقة البشر! إذ كان يقضي في كثير من الأحيان أسبوعين أو ثلاثة أسابيع لا يغادر أثناءها شقته الصغيرة في شارع كاسيني. وكان يبدأ الكتابة عند منتصف الليل حتى إذا ما طلع الصباح تناول إفطاره ثم شرع في تصحيح النماذج التي ترسلها إليه المطبعة فيغير وينمق وكثيراً ما يعيد كتابة صفحات بأكملها. فإذا ما حل المساء لجأ إلى سرير نومه حتى منتصف الليل ليستيقظ ويواصل الكتابة. ولقد ذكر طبيبه وصديقه الدكتور ناكار أن سبب موته يرجع إلى أن قلبه كان متعباً بسبب الإرهاق في العمل والمبالغة في شرب القهوة ليستعين بها على مقاومة النوم. ولقد أحصى أحد المقربين إليه عدد فناجين القهوة التي احتساها في حياته فبلغ خمسين ألف فنجان!!

ولقد كان موت بلزاك مأساة أخرى تختتم بها مآسي طفولته المعذبة وكفاحه الفكري العنيد. كان منذ سنوات قد وقع في غرام مدام دوهانسكا. وكانت سيدة روسية غنية متعجرفة تتعالى عليه وتعتز بأصلها الأرستقراطي وتجعل من صداقتها له ملهاة لغرورها. وكان بلزاك لسوء حظه ضعيفا مع النساء، شديد الإحساس بالنقص تجاه كل سيدة رفيعة المقلم: وبسبب هذا الإحساس تضخمت في ذهنه فكرة الزواج من مدام دوهانسكا لما سيناله بزواجها من شرف ومال فيحقق بذلك حلمه القديم في الحصول على (امرأة وثروة) تستقر بها حياته المضطربة ليتفرغ بعد ذلك في هدوء لإتمام رسالته الأدبية الضخمة.

وكان زوج مدام دوهانسكا عندما تعرف بلزاك لا يزال على قيد الحياة. فظل بلزاك صبوراً على علاقته بها سنوات حتى مات زوجها وحانت بذلك فرصة الزواج. إلا أن مدام دوهانسكا كانت تسوف في وعدها، مختلقة الأعذار دون أن تقطع علاقتها بالكاتب الكبير الذي كانت رفعة مكانته الأدبية في أوروبا بأسرها تضفي على من تصادمه رجلاً مثله هالة

ص: 35

من الرفعة والمكانة.

وكانت صحة بلزاك قد أخذت في الانهيار وأجمع الأطباء على أن حالة القلب لديه لا تسمح له بحياة طويلة. عندئذ. وعندئذ فقط دوهانسكا على أن تحقق للرجل الذي صبر السنين الطوال وعفر وجهه في الثرى تحت قدميها لينال يدها الأمنية الكبرى التي يجيش بها صدره. فما الذي ستفقده بهذا الزواج وقد أجمع الأطباء أنه لم يبق له في الحياة إلا شهور معدودة!

وسافر بلزاك إلى روسيا رغم اعتلاله ليعقد أخيراً زواجه في مارس عام 1580 في هدوء وصمت تحقيقاً لرغبة مدام دوهانسكا التي كانت تعتقد أن في هذا لزواج انتقاصاً من مقامها. ولهذا كتب العقد بغير احتفال ولم يشعر به أحد ولم يدع إليه إنسان وتمت مراسيمه في الساعة الرابعة صباحا قبل أن يستيقظ النيام من نومهم!

وفي مايو بدأ الزوجان رحيلهما إلى باريس ليقيما في ذلك البيت الذي ظل بلزاك منذ وقت طويل يعده في شارع فورتونيه بكافة ألوان الترف والنعيم في انتظار ذلك اليوم الموعود. وكانت الرحلة شاقة على صحة بلزاك حتى خيف ألا يستطيع أن يتمها سالماً، ذلك أنه لم يكد يصل إلى درسدن حتى انهارت قواه وتضاءلت قوة أبصاره ولكنه قاوم إرادته. فكل ما يأمله الآن هو أن يصل مع مدام دوهانسكا إلى منزل فورتونيه ليعيش فيه بين ذراعيها ولو بضعة أيام.

وقبل أن يصل بلزاك إلى باريس كان قد أرسل بكل تعليماته إلى والدته التي كانت تقوم بكل الترتيبات في منزله الجديد. فطلب منها ألا تكون بالمنزل عند وصوله إليه لأنه يعلم إن مدام دوهانسكا لا تريد رؤيتها. كما طلب أن يكون فرانسوا خادمه الخاص في انتظاره أمام المنزل بعد أن يضئ جميع أنواره. وعندما وصل الزوجان أمام المنزل الموعود لم يجد بلزاك فراسوا في انتظاره فظل يطرق الباب دون مجيب. وانتظرت مدام دوهانسكا في العربة حتى أستدعى أحد المختصين لفتح الباب عنوة. وعندما دخل العروسان وجدا فرانسوا في إحدى الغرف وقد أصابه الجنون فجأة فنقل في نفس الليلة إلى إحدى المصحات.

كان حلم بلزاك أن يعيش في هذا المنزل خمسة وعشرين عاما يكتب أثناءها خمسين كتاباً

ص: 36

يتم قائمة مؤلفاته التي تكون (المهزلة الإنسانية) والتي يبلغ مجموعها مائة وأربعة وأربعين مؤلفاً. وكان قد أعد لذلك غرفة مكتب فاخرة إلى جانب غيرها من الغرف الحافلة بأفخم أنواع الأثاث؛ فإلى أي مدى تحقق هذا الحلم؟ لم يخط بلزاك حرفاً في غرفة المكتب الفاخرة. ولشد ما يبدو أن بلزاك كان يحس بما يخبئه له المستقبل الغادر فجعل من نفسه ومن أحلامه الفاشلة الشخصية الرئيسية لقصته (الأوهام الضائعة).

نعم! فلقد أراد القدر أن يأتي بلزاك إلى هذا المنزل، موطن خياله الذي صبر من أجله طويلاً، لتنهار صحته نهائياً بمجرد وصوله. فمنذ اليوم الأول لم يعد يقوى على القراءة أو الكتابة، ولم يلبث أن لزم فراشه لا يستطيع منه حراكاً. وعندما أقبل ملاك الموت في ليلة 17 أغسطس 1850 لم يكن بجواره إلا والدته فقد كانت زوجته مدام دوهانسكا قد غادرت المنزل قبل ذلك بعدة أسابيع.

ودفن بلزاك في مقبرة بيير لا شيز. تلك المقبرة التي كان يحبها والتي طالما تأمل بطله راستنياك من أعلاها إلى باريس التي تحدى جبروتها وسطوتها. ورسم جمالها وتعاستها، وخلد عبقريتها على صفحة الفكر البشري ليتغنى بها الأبناء جيلاً بعد جيل.

علي كامل

ص: 37

‌وفاء طائر

للأستاذ أحمد زكي أبو شادي

كان شقيق الكاتب الشهير و. هـ. هدسن ، يمتلك مزرعة منفردة في الأرجنتين. وكان ينفق كل عام أربعة أشهر في السهل بكوخ وحيد وكان يرى في شهر أغسطس أفواجاً عظيمة من إوز النجود طائرة نحو جزر الماجلانيك في الجنوب. وفي أحد الأيام بينما كان راكبا رأى زوجاً من الإوز يمشيان كأنما تخلفا عن فوج رحل، وكانت الأنثى ذات ريش بني والذكر أبيض الريش. وكان الذكر يرفرف أمامها، طائراً بين حين وآخر نحو مائة ياردة ثم يعود إليها ويسايرها. كانت الأنثى كسيرة الجناح، فأبى الذكر أن يتخلى عنها، ولو أن خاتمتها المحتومة لا ريب فيها، إذ لابد من أن تنقض عليها الطيور الجارحة، ولا مفر في النهاية من طيران رفيقها بمفرده إلى الجنوب.

الأدب الأديب من عاش للفن ومن صاحب الحياة وفيا

من تملى كل الذي وهبته

وتغذى به قريراً سريا

ما تحاشاه مرة كيفما كان، ولو فاض لوعة بالمآسي

ينعم الفن بالمآسي وحيناً

يجزع الفن من حبور الناس!

وهو عند الحالين يسعده الصدق بمرأى الوجود أو تفسيره

مثلما يزدهي بتعبيره الحر وإ

ن مض في مدى تعبيره

هكذا كان حال حر أديب. . .

سكن الكوخ في البراري وحيدا

حين أوفى الخريف أو كاد

والوز أتى راحلاً ليمضي بعيدا

هارباً من تهجم البرد كالح

ق إذا شاء قتله الباغونا

طامعاً من تهجم دفئاً وحبا

آبيا أن يخان أو أن يخونا

وبيوم رأى من الوز زوجا

قد تخلى عن فوجه وتبقى

سائراً كالذي تقيد بالماضي

وقد خاف تركه حين يرقى!

تلك أنثى بريشها الأسمر الف

خم تمشت كسيرة للجناح

حينما خلها ترقرق ف

ي النور بياضا كأنه من أقاح

كان يمشي مرفرفا قبلها حي

نا وحينا يعود رهن خطاها

ص: 38

آبيا أن يفوتها وهو يدري

بشعور مؤصل عقباها

إذا من الحتم موتها حين ته

وى فوقها تلكم الجوارح يوما

حين تلقى ظلم النهاية في الع

يش وإن لم يعد للعيش ظلما

ومن الحتم أن يعود وحيدا

لاحقاً بالقطيع نحو الجنوب

مفنيا عمره حزينا كقربان،

كموت الضياء عند المغيب!

هكذا شاهد الأديب المآسي

صامتات ومفصحات أمامه

فطوى قلبه عليها شجونا

ورأى في شجونها أيامه

نيويورك

أحمد زكي أبو شادي

-

ص: 39

‌شعر مختار

خريف. . .

إلى من كنت أراها كل صباح. . مستندة إلى شجرة حاملة

حقيبتها المدرسية في انتظار العربة

للأستاذ محمد محمود عماد

ربيعك أين يا شجرة؟

أراك. . ولا أرى أثره

أرى عشا. . ولا طيرا

أرى غصنا. . ولا زهره

وأين فتاتك العذرا

ء أين اليوم منتظره

فتاتك. . هل ذكرت لها

بظلك وقفة خفره

وقد مستك نضرتها

فكنت بقربها نضره

فتاتك. . هل ذكرت لها

بجنبك ميلة حذره

فكانت فيه وهو بلا

ثمار. . خير ما ثمره

وقد ألقت حقيبتها

إلى خصر ثنى وتره

وما في الكتب. . نعلمه

وما في القلب. . من خبره؟

خريف فيك. . أم حزن

على أيامها العطرة

ويا من كنت أرقبها

مصبحة. . ومبتدره

صباحك كنت ألقاه

كما يلقى امرؤ يسره

صباح كان يستجلي

صباح الخير. . من نظره

وقبل طلوعه سحر

يطالع من يرى سحره

ترى لو عاد للدنيا

ربيع. . عدت للشجرة؟

محمد محمود عماد

ص: 40

‌أحلام العصافير الأخضر

للشاعر عبد المنعم عواد يوسف

نشوان يحلم بالدفء

الكامن في قلب الغابة

فهناك العيش وبهجته

وهناك يقابل أحبابه

والشمس تبعثر أنوارا

والورد تنفس أعطاراً

والعشب تبسم أزهارا

من أجل العصفور الأخضر

وهناك الزنبقة الوسنى

حسناء الطلعة عذراء

سيروح ويلثم وجنتها

مسرورا والكون غناء

والصبح تثاءب وسنانا

نشوان ينفث ريحانا

والطير يوزع ألحاناً

يمنا بالعصفور الأخضر

أشواق العاشق أزهار

والحب يرفرف منسابا

والطل مدامع رهبان

قد تخذوا الدوحة محرابا

والوجد صلاة ودعاء

وتوسل صب وبكاء

والصبح الحالم أصداء

لصلاة العصفور الأخضر

همهمة الغابة أدعية

وغناء الطير تراتيل

والدوحة معبد أرواح

ونثار النور قناديل

والراهب في إغفاءته

تصغي الأزهار لأنته

فيهز الروح بصيحته

لدعاء العصفور الأخضر

عبد المنعم عواد يوسف

ص: 41

‌من هنا وهناك

الاتجاهات الحديثة في الأدب الإنكليزي

أستعرض (ف. س. بريتشت) الناقد الأدبي لمجلة (نيوستيتمان اند نيشن) الإنجليزية الاتجاهات الحديثة في الأدب الإنجليزي فأبى أن يعترف بأن هناك اتجاها أو اتجاهات معينة تشوب الإنتاج الأدبي في الجزر البريطانية. والواقع أن المستر بريتشت حذر من دراسة الأدب على أساس (الاتجاهات). وقال إن الروائع الأدبية في معظم العصور الأدبية لم تكن جزءا من اتجاه أدبي معين وإنما كانت وليدة الإبداع الفني الخالي من أي اعتبار آخر

وذكر المستر بريتشت على سبيل المثال ثلاث قصص من أروج القصص في بريطانيا اليوم تعالج موضوعات مختلفة لا يمكن أن ترتبط باتجاه معين في حاضر الأدب الإنجليزي. ومن هذه القصص من تأليف القصصية المعروفة (حوبس كيري)، وهي قصة تعالج الحياة الخاصة والعامة لأحد رجال السياسة البريطانية في عصر الملك إدوارد. ومنها قصة من تأليف (بازيل دافيدسون) بعنوان ومحورها الجاسوسية في منطقة النفوذ السوفيتي.

إلا أن المستر بريتشت يقول بأن في السوق الأدبية رواجاً للقصص التاريخية - وهذا لا يعني أن هناك أنجاها معينا بين الأدباء الإنكليز لمعالجة التاريخ في قالب قصصي. ويشهد المستر بريتشت لقصتين من هذا النوع بالتفوق الأدبي والإبداع الفني. هما من تأليف (هوب مونتر) للكاتب المعروف (هـ. ف. م بريسكوت) وهي صورة فنية ممتعة للحياة البريطانية في عصر الملك هنري الثاني.

والاتجاه الوحيد الذي يعترف به المستر بريتشت يتصل باللغة - وعلى الأخص لغة الترجمة - فقد شاع في الأوساط الأدبية الإنكليزية في الآونة الأخيرة اتجاه واضح لإعادة ترجمة الروائع الأدبية الكلاسيكية في لغة مبسطة يصفها المستر بريتشت بأنها أقرب إلى الابتذال اللغوي منها إلى البساطة وسهولة التعبير. ويضرب مثلاً على ذلك بالترجمة الجديدة (لفاوست) التي أفقدت هذا السفر النفيس كثيراً من جلاله الأدبي وروعته الفنية. وكذلك الترجمة الجديدة لأنياده فرجيل التي لم تضمن للنص الأصيل جلالته الفنية.

ص: 42

وهذا الميل إلى تبسيط الروائع الكلاسيكية بلغة المكالمة الحديثة لم تقتصر على المترجمات من روائع الأدب الأجنبي وإنما شملت الأدب الكلاسيكي الإنجليزينفسه. فهناك نشاط أدبي لإعادة كتابة (قصص كنتربري)، وهناك رغبة لدى بعض الكتاب ودور النشر للاعتداء حتى على حرمة الأدب الشكسبيري. وإذا علمنا أن المستر بريتيت يكتب لمجلة يسارية عرفت بآرائها المتطرفة في السياسة والأدب أدركنا مبلغ استيائه من هذا الاتجاه لتبسيط لغة الروائع الكلاسيكية على حساب قيمتها الفنية.

حاضر الأدب الهندي

نشرت جريدة النيويورك تايمس في ملحقها الأدبي استعراضاً سريعاً لاتجاهات الأدب في الهند بقلم أحد الهنود. جاء في هذا البحث أن من غير الصواب تصنيف الأدب لهندي على أنه (وحدة أدبية) تنطوي على ما تنطوي عليه الوحدات الأدبية في الثقافات الحية من اتجاهات وتيارات. وذلك لأن الإنتاج الأدبي في الهند يصدر في عدد كبير من اللغات المحلية المتفرعة من السنسكريتية.

ويؤكد واضع البحث أن حاضر الأدب في الهند لا يشير إلى ازدهار؛ فالازدهار صفة لازمت عصور الأدب الهندي التي سبقت عصرنا الحاضر، فلم يقو كتاب الجيل الجديد في الهند على منافسة نتاج رابندرنات طاغور ومسرحياته، وقصص (سارات شاترجي) وغيرهما من أئمة الأدب في الجيل المنصرم.

ويعلل الكاتب هذا القصور بأن الجيل الذي يمثله طاغور كان يرزح تحت أعباء عاطفية شديدة - أعباء الصراع لتحقيق الحرية السياسية - مما فرض عليه انفعالات قوية للتعبير عن صورة الحياة ومشاكل النفس والمجتمع فيما عبر عنه ذلك الجيل من شعر وقصص ومسرحيات.

ومع هذا التبرير لا يجد هذا الكاتب عذراً للجيل الجديد في تقصيره عن الإبداع الفني. خصوصاً وأن لديه مورداً غزيراً من تراث جيل طاغور والأجيال التي سبقت ومن ذخائر الثقافة والأدب الإنجليزي الذي يحتل الآن مكان الصدارة كمورد للغذاء الفكري في الهند.

ويشير الكاتب إلى أبرز كتاب الجيل المعاصر، الذين يحملون تراث الأجيال السابقة ويبشرون بها هو الأديب الهندي الكبير (سنوميترا براساد بأنت)، وهو يكتب بالهندية

ص: 43

ويتعمد تصوير ألوان من حياة الطبقة الكادحة.

وهناك القصصي البنغالي (جوبال هالدار) الذي لقيت قصصه الطويلة وأقاصيصه القصيرة رواجا كبيرا. ويقول واضع البحث إن الإبداع الفني لدى هذا القصصي البنغالي محدود، وإنتاجه يدور في إطار فني جماله وروعته لا تتعدى صوراً قليلة العدد، يميل الكاتب إلى تكريرها في معظم إنتاجه الفني.

وبمثل هذا العرض يصف واضع البحث إنتاج القصصي الهندي المعروف (ياشبال) الذي (يجد لقمة الخبز في كل مشكلة وحالة من حالات النفس ومجتمعها).

ويقول الكاتب إن هيمنة التفكير السياسي على الأدباء والمثقفين في الهند جعلهم مغرمين بالأدب السياسي أكثر من أي لون من ألوان الإنتاج الفكري. ولذلك فإن حاضر الأدب الهندي يطفح بالدعوات المقتبسة من أنظمة الفكر المعاصرة التي تتطاحن الآن في المعترك الدولي.

وفي مجال الشعر يسيطر (مايثلي ساران جوبتا) على زعامة القريض. فهو لا يكتب إلا شعراً. والغريب أنه قادر على الارتزاق من كتابة الشعر الفني المحض ويعيش في إحدى قرى الهند. ويتصف شعر (جوبتا) بالمحافظة وتمجيد العقيدة الهندوكية في ألوانها الدينية والسياسية.

ولشعره رنة موسيقية وعمق، وفيه صورة صادقة لاحساسات المجتمع الهندي التقليدي الذي لم تفسده كثرة الاتصال والتشبه بالثقافة الإنجليزية وغيرها من الثقافات التي تجد في الهند مجالا للرسوخ. ولهذا الشاعر رأي في قرض الشعر. فهو يعتقد أن الشاعر يخاطب الروح وأن الفيلسوف يخاطب العقل. وبما أنه شاعر وليس بفيلسوف فإنه يتفادى أن يصوغ قصائده في قالب فلسفي كما يميل إلى ذلك عدد كبير من الذين يتعاطون نظم القريض في الهند.

ويمتاز الناشئون من كتاب القصة في الهند بأنهم يقتدون في مستهل حياتهم الفنية بالاتجاهات التي يمر بها كتاب القصة في إنكلترا على وجه الخصوص، وفي أوربا وأمريكا على وجه العموم. فهم يبدءون بمعالجة مشاكل (القلب) والعشق والغرام وألوان الحب من وصال وهجران، وأكثرهم يستمر في هذا النوع من الأدب العاطفي، ولكن

ص: 44

البعض الآخر يميل في سنوات النضوج العقلي إلى الاستفسار عن صلة المرء بالمجتمع الأكبر وأهمية الدور الذي تلعبه الشؤون الروحية في هذه الصلة.

ويروج في الهند أدب المقال والنقد، ويقبل عليه القراء بشغف.

وللأدب الهندي وجه جديد هو ما كثر في الآونة الأخيرة إنتاجه من أدب إنجليزي من أدباء هنود، وان هذا الإنتاج سوق في الهند وفي خارج الهند.

الشعوبية الثقافية وموقف الاتحاد السوفيتي منها

هل تسمح الوحدة السياسية التي تجمع بين مختلف الولايات الأوربية والآسيوية التي تؤلف الاتحاد السوفيتي بنمو الثقافات المحلية لهذه الولايات؟ أم إن الوحدة السياسية تحمل في ثناياها الانصهار الشامل لهذه الثقافات المحلية في بوتقة الثقافة السوفيتية الماركسية وما تنطوي عليه من أسس مرسومة للأدب والفن وشتى ألوان النشاط الفكري؟

هذا سؤال عالجه بعض الكتاب الذين يتتبعون تطور الأدب الروسي في ظل الحكم السوفيتي. واتخذوا حاضر الأدب والفن في أوكرانيا (أكبر ولايات الاتحاد السوفيتي الأوربية مساحة وأهمية) نموذجاً لأبحاثهم.

وقد أستعرض أحد الكتاب الأوكرانيين المقيمين في المنفى حاضر الأدب والفن في أوكرانيا في مقالة ظهرت مؤخرا في إحدى المجلات الأدبية الأمريكية فقال: انزعجت الحكومة الروسية للاتجاهات (القومية) الانفعالية التي أخذت تبدو في إنتاج أوكرانيا الأدبي والفني إثر الرواج الهائل الذي صادفته قصيدة قومية عنيفة نظمها أعظم شعراء أوكرانيا المعاصرين بعنوان (أحب أوكراني) وبلغ من أهمية هذه القصيدة أن كانت موضوع افتتاحية في جريدة (برافد) أعظم صحف موسكو اليومية نفوذا وانتشاراً. والقصيدة وإن كانت مقصورة على تمجيد التراث الأوكراني والتغني بمآثره أثارت انتقاد موسكو لأنها لم تصغ في قالب الأدب السوفيتي ولم تتطرق إلى مدح النهضة الثقافية التي تقول موسكو بأن الماركسية السوفيتية قد نشرتها في سائر أنحاء الاتحاد السوفيتي بما فيه أوكرانيا.

وقد ذكرت جريدة برافدا في افتتاحيتها عن الشعوبية في الأدب والفن الأوكراني إن الملامة في هذه الشعوبية تقع على عاتق الإدارة المركزية للحزب الشيوعي الأوكراني. وقالت (برافدا) إن الاتجاهات البرجوازية التي بدت في بعض أوساط الفن والأدب في أوكرانيا

ص: 45

وأخذت تمدح الثقافة الأوكرانية الوطنية متجاهلة الأسس الجوهرية للفكر السوفيتي - هذه الاتجاهات ليست إلا الجهل بأهداف النهضة السوفيتية ومراميها في تنمية الثقافات الروسية الإقليمية في الولايات الأوربية والآسيوية التي تصهر الاتحاد السوفيتي في بوتقة الفكر الماركسي الشامل. وأشارت برافدا إلى أن تسامح موسكو إزاء نمو الثقافات المحلية هذه الولايات السوفيتية لا يعني التغاضي عن صهر هذه الثقافات في بوتقة الفكر السوفيتي الشامل.

وانتقدت برافدا كذلك فقان الكفاية العلمية والأدبية بين زعماء الحزب الشيوعي الأوكراني وما يتبعه من معاهد علمية ومؤسسات أدبية وفنية، وأشارت برافدا على سبيل المثال إلى عضوية (أكاديمية العلوم الأوكرانية) وقالت بأن 70 في المائة من أعضائها مفتقرون إلى الثقافة العالية التي توفر لهم المقدرة الفكرية لاستيعاب المبادئ الماركسية في أبواب العلم والأدب والفن.

ومن جراء هذه الحملة التي شنها جريدة برافدا (لسان حال الكرملين في موسكو) أن أدخلت تعديلات على عضوية اللجان الثقافية التي يوجهها الحزب الشيوعي في أوكرانيا، ويسيطر بواسطتها على الحياة الأدبية والفنية في ذلك الجزء الهام من الاتحاد السوفيتي. وقد منعت السلطات في أوكرانيا بإيحاء من موسكو تمثيل أوبر (بودهان خاما لنتسكي) لما تضمنته من تمجيد للقومية الأوكرانية. وكانت هذه الأوبرا قد لقيت رواجاً منقطع النظير عندما عرضت لفترة قصيرة في العاصمة الأوكرانية.

وقد حاول الأستاذ لينوند ماكينوف نائب ستالين في أوكرانيا أن يبرر هذه الرقابة السوفيتية على الإنتاج الأدبي والفني في أوكرانيا فأصدر بياناً مسهباً أستعرض فيه المنافع الثقافية التي حققتها الإدارة المركزية للحكومة السوفيتية في أوكرانيا. فقال إن أوكرانيا قبل قيام العهد السوفيتي كانت مفتقرة إلى أبسط وسائل التعليم والإنتاج الأدبي والفني. أما اليوم فإن أوكرانيا تعيش في خيرات ثقافية لا مثيل لها. ففي البلد أكثر من 158 جامعة ومعهد للدراسات العالية. وفيها 75 مسرحاً ودار للأوبرا. ولها 26 فرقة موسيقية و28 ألف منتدى أدبي وثقافي. ويصدر في أوكرانيا 1200 جريدة يومية و64 مجلة أسبوعية وشهرية.

هذا لون من الصراع الفكري في روسيا السوفيتية لعل في التعرف عليه نوعا من المتعة

ص: 46

والفائدة.

ص: 47

‌محاضرات ومناظرات

حياتنا الاجتماعية في ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته

ألقى الأستاذ محمد حسن العشماوي وزير المعارف الأسبق بقاعة (يورت) بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة الأسبق محاضرة في هذا الموضوع استغرقت ساعة ونصف ساعة يمكن أن نلخصها فيما يأتي: -

دعتني الجامعة الأمريكية لأحدثكم عن المشكلات الاجتماعية التي تتغلغل في حياتنا، فأبادر قبل أن أسترسل في الحديث إلى أن أعلن أنني لست في هذا الميدان إلا هاوياً ولست فيه من المتخصصين. ولقد كنت وقفت من فوق هذا المنبر منذ عامين أبشر الناس بقرب انبلاج فجر جديد يشرق علينا بأوضاع اجتماعية سليمة، وكان الناس يعجبون لهذا التفاؤل مني لأن الظلام الحالك كان يشتملهم ويحيط بهم من كل جانب، فكنت أجيبهم بأن هذه الحلوكة الشديدة، وهذا الظلام الشامل هما مصدر تفاؤلي، فإن الفجر الصادق يجئ عادة على أثر هذه الحلوكة الشديدة!

وإذا رجعتم إلى الوراء قليلاً، إلى ما قبل هذا الانقلاب المبارك رأيتم عجباً! ورأيتم صورة شائهة ممسوخة للمجتمع في مصر!

كانت هناك أمة وكان هناك دستور وحكومة وبرلمان ومؤسسات صحية وثقافية واجتماعية وما إلى ذلك. . كان هذا في ظاهر الأمور، ولكن الباحث المتغلغل لا يجد وراء هذه الظواهر شيئاً، بل يجد الفساد والجهل والفقر والمرض والظلم الاجتماعي الشديد.

يجد نسبة المرضى إلى الأصحاء في أريافنا هي 96 % ويجد

نصيب كل ريفي خمسة أمراض! ويجد العناية تبذل لمواشي

هؤلاء الفلاحين أكثر مما تبذل لهؤلاء الفلاحين أنفسهم، لأنها

تجلب لأصحاب الثروة ما لا يجلب الفلاحون!. . ويجد 80 %

من أبناء الشعب لا يقرءون ولا يكتبون، ويعيشون في أمية

تامة، ليست أمية قراءة وكتابة فقط، ولكنها أمية ثقافية

ص: 48

وزراعية وصحية وخلقية ودينية، تسودهم الخرافات وتطمس

عقولهم طمساً. ويجد الأرض المزروعة هي 132 من مساحة

البلاد، والشعب يزيد ويتكاثر وهي لا تزيد، حتى أصبح

نصيب كل مصري ربع فدان فقط!. . ويجد الدولة وقد حالت

دون تصنيع الريف ليظل مزرعة لكبار الملاك الذين يمتصون

دماء المواطنين من الفلاحين ليسكبوها ذهباً وخمراً على سيقان

الغانيات في أوربا.

تلك بعض مظاهر حياتنا الاجتماعية إلى الأمس القريب، ولولا يقيننا بأن محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين لدعونا الله أن يرسل فينا - من جديد - رسولا!! ولكننا اليوم ومنذ هذا الانقلاب المبارك بدأنا في العلاج، وعلينا أن نحقق للعلاج وسائل نجاحه، وأن نساعد على استئصال شافة المرض، فما هي الدعائم التي يجب أن يقام عليها مجتمعنا الحديث بعد هذه الوثبة الجريئة الحميدة؟

1 -

يجب أن نجعل هدفنا دائما سواد الأمة، فنضمن لكل فقير غذاء، ولكل عار كساء، ولكل مريض دواء، فلا تظل نسبة وفيات الأطفال 50 % كما هي اليوم، ولا يعيرنا الأجانب بقولتهم الشهيرة (إن النساء في مصر يلدن للقبر!).

2 -

يجب أن نيسر المرحلة الأولى من التعليم لجميع المصريين على السواء، وألا تقتصر مدارسنا - كما هي اليوم - على ربع الذين هم في سن التعليم ويظل ثلاثة أرباعهم هائمين في الطرقات!

3 -

يجب أن يفرض على الشباب أن يؤدوا للدولة خدمة عامة من أي نوع قبل أن يلوا أية وظيفة، وأن تحرم عليهم الوظيفة قبل أن يؤدوا هذه الخدمة كما يفعل الكثير من الدول.

4 -

يجب أن تفرض التربية الدينية الروحية فرضا من البيت إلى الجامعة، فإن مرد كل ما نراه من فساد الضمائر والنفاق والخوف والذل إلى ضعف الثقة بالله وموت العاطفة

ص: 49

الدينية القوية في النفوس.

5 -

يجب أن نعنى بالطفولة عناية كبيرة ممتازة، وأن نعمل بكل الوسائل على تعليم الأمهات مبادئ التربية والتمريض وشيئا من الثقافة العامة.

6 -

يجب أن ننبه الناس إلى أن يلغوا الألقاب والفوارق في قلوبهم ونفوسهم بعد أن ألغتها الدولة في الرسميات والبروتوكول، وأن نلقنهم إن الناس أمام القانون سواء وانه لا فضل لواحد منهم على أخيه إلا بالعمل الصالح لخدمة الوطن.

تعليمنا العام على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته

وألقى الأستاذ إسماعيل القباني وزير المعارف بنفس يوم الجمعة السابق محاضرة في هذا الموضوع وهي إحدى حلقات هذه السلسلة التي نظمتها الجامعة الأمريكية، استغرقت ساعة ونصف ساعة كذلك، ويمكن أن نلخصها فيما يأتي: -

تحدث الأستاذ المحاضر في أهداف العهد الحاضر، وبين أن جماع هذه الأهداف هو الديمقراطية، وتساءل عن معنى الديمقراطية، وذكر أنها تنصرف أول ما تنصرف إلى المساواة وإلى الحرية، وأستطرد فقال: -

ولكن ما هي الحرية وقد أسيء فهمها كثيراً؟ هل معناها إن الناس جميعاً يكونون رؤساء لا مرؤوسين؟ أو يصيرون قادة لا مقودين؟ إننا لو أخذنا بهذا المعنى لكانت الفوضى الشاملة: لأن كل عمل لابد لنجاحه من القيادة الرشيدة والرياسة الحكيمة التي توفق بين حريات الجميع لتخرج بأعظم نتيجة. والفارق بين النظام الاستبدادي والنظام الديمقراطي أن الجماعة الديمقراطية تعمل لتحقيق أغراض مشتركة بين أفرادها جميعاً وتعمل عن اقتناع بما تعمل، لا عن خوف ولا عن ضعف، ولكن عن إيمان بالهدف الذي تسعى لتحقيقه.

فإذا فهمنا إن أساس وجود الديمقراطية هو وجود أغراض مشتركة تسعى الجماعة لتحقيقها، كان لابد من وجود ميول ودوافع مشتركة بين الأمة جميعها، ولابد أن تتفاعل هذه الميول بين أفراد الأمة، وأن تأخذ وتعطي بعضها من بعض. . . فكيف نستطيع إيجاد هذه الميول والدوافع المشتركة التي تتحقق بها الحياة الديمقراطية الصحيحة؟ لن نستطيع ذلك إلا بأن نتيح قدراً مشتركاً من التعليم لكل أفراد الأمة حتى تصير الأمة وحدة مشتركة، قدراً يمكنهم من فهم بلادهم، وفهم القيم والنظم التي تعيش في ظلها بلادهم، وفهم الأغراض التي تعمل

ص: 50

على تحقيقها. . فما هو القدر المشترك الذي يجب أن نوفره لكافة الأفراد؟ عندي أنه لابد أولاً مراعاة طاقة الدولة وإمكانياتها، وأظنكم تعلمون أن مدارس الرحلة الأولى عندنا تضم مليونا وربع مليون من الأطفال، وأن ثلاث ملايين لا تتسع لهم هذه المدارس، وأن عندنا في التعليم الثانوي مائة وخمسين ألف طالب، وفي الجامعات أربعين ألف طالب. وننفق على هؤلاء 27 مليون جنيه كل عام!

فإذا أردنا أن نعلم ثلاثة الملايين من الأطفال الذين لم تتسع لهم المدارس بعد فسنحتاج إلى ثمانين أو تسعين مليونا من الجنيهات، فكيف إذا أردنا أن نرفع سن المرحلة الأولى حتى نهاية التعلم الثانوي؟ وكيف إذا أنشأنا الجامعات تباعاً في مختلف عواصم البلاد؟

يجب أن ننظر طويلاً في طاقتنا وإمكانياتنا، وألا نسرع بإنشاء المدارس الفجة المبتسرة الناقصة الاستعداد، يجب ألا تكون سياستنا التعليمية من ساعة لساعة أو من يوم ليوم؛ وإنما يجب أن ننظر إلى المستقبل البعيد، وما عدا ذلك فهو خيال ليس المقصود بالتظاهر به إلا خداع الأمة! وأجاهر بأننا لو استطعنا أن نحقق هذا القدر من التعليم لجميع المصريين في عشر سنوات لكان نجاحاً كبيراً.

ويجب ألا يصرفنا هدف عن هدف، فتقتصر جهودنا على تعميم المرحلة الأولى ولا يصرفنا عنها التعليم الثانوي مثلا، فإن الطاقة لا تحمل الأمرين معا، ويجب أن يكون التدرج في نشر التعليم تدرجاً هرمياً قاعدته المرحلة الأولى وقمته مرحلة الجامعات، كما في إنجلترا مثلا حيث تجدون في المرحلة الأولى 6. 5 مليون، وفي مرحلة التعليم الثانوي نصف مليون أو اكثر قليلاً، وفي الجامعات خمسين ألفاً فقط! وأحب أن أشير إلى أمرين خطيرين: أولهما أن المدرسة الثانوية ليست وظيفتها أن تعد للجامعة فقط؛ ولكنها تعد رجالا مكونين تكوينا اجتماعيا وروحيا وعلميا يجعلهم عنصراً صالحا للحياة. وثانيهما إن التعليم الجامعي يجب أن يراعى فيه الكيف دون الكم، والبلاد التي تقدم الكم على الكيف في التعليم الجامعي إنما هي بلاد تنتحر! فلن يكون التعليم جامعياً حقا إلا بالتفاعل بين الأستاذ والطالب، ولن يكون هذا التفاعل إلا إذا كان عدد الطلاب بالقدر الذي يتمكن معه الأساتذة من هذا التفاعل، وإلا إذا كان الأساتذة أنفسهم معدين أحسن إعداد.

ثقافتنا النسوية في العهد الجديد

ص: 51

وفي يوم الاثنين الأسبق ألقت الدكتورة درية شفيق محاضرة في هذا الموضوع بدار نقابة الصحافة، وقد استغرقت ساعة كاملة، وأستغرق المعقبون عليها ساعتين! وحمى وطيس الجدال بين الطرفين حماساً بالغاً. ونلخص المحاضرة فيما يأتي: -

إننا اليوم في مفترق الطرق، في ثورة جاءت لتحقيق العدالة التامة بين المواطنين، وفي هذا العهد الأغر تريد المرأة أن تأخذ مكانتها الملحوظة، وتنال حقوقها الطبيعية في المجتمع. . .

وأرجو أن تسمحوا لي أن أرجع بكم قليلاً إلى عهود الإسلام الأولى لتروا ما كانت عليه المرأة من شأن جليل الخطر، فأنتم تعلمون إن (نسيبة) أم عمارة وقفت في غزوة (أُحد) تقاتل دون النبي صلى الله عليه وسلم غير حافلة بالسهام المسددة إليها والتي جرحتها أثنى عشر جرحا وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما التفت يميناً أو شمالا يوم أحد إلا ورايتها تقاتل دوني). وأنتم تعلمون أن ذات النطاقين (أسماء) عرضت نفسها للهلاك في سبيل منجاة النبي وصاحبه من المشركين، وأن السيدة (عائشة) كانت الزوجة المثقفة التي تروي الكثير من الأحاديث، والتي نزل فيها الكثير من الآيات. .

كان هذا بعض شأن المرأة والدعوة الإسلامية في مهدها، وكان هذا من عوامل نجاح هذه الدعوة. وليس ذلك بدعا في الإسلام؛ فكل دعوة لا تنجح إلا إذا آزرتها المرأة المثقفة التي تعرف واجباتها وحقوقها. . وأعود بكم إلى المرأة المصرية اليوم وإنكم لأدرى الناس بما هي عليه من جهل مطبق بلغ 90 % من نساء مصر، وإنكم لتعلمون خطر هذا على كيان الأمة، فالأم هي التي تقرر مصير الأمة إذ تلقن الطفل في سنواته الأولى وقبل دخوله المدرسة المبادئ التي ترسخ في ذهنه، وهذه السنوات الأولى - كما يقرر علماء النفس - هي التي تحدد عقل الإنسان طوال حياته! وإنكم لتشاهدون كيف تعالج الأمهات في مصر أبناءهن بالرقى والتمائم! وإنكم لتشاهدون الأمهات اللائى يأبين أن يمس الماء أجسام أبنائهن العام كله خوف البرد والزكام! وإنكم لترون النسبة الهائلة في وفيات الأطفال التي هي معرة لمصر بين الأمم!. . إن مرد ذلك كله إلى جهل الأمهات، والنبي الكريم يقول (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)!

إن المرأة المصرية اليوم تطالب برفع كابوس الجهالة عنها، تطالب بأن تكون كالرجل في

ص: 52

ذلك سواء بسواء، فتخفف من أعبائه، وتكون عاملا من عوامل ارتفاع المعيشة في البلاد، وتطالب - كما يطالب العالم كله - بإبطال دور (لحريم) وتحريرها منها. . .

إن المرأة قد كسبت ميادين جديدة منذ قاسم أمين، ولن تجلو عن هذه الميادين، بل لن تهدأ حتى تضيف إليها ميادين جديدة. ألم تروا إلى أفلاطون وهو يطالب بأن يكون نصف جيش الدولة من النساء؟ ألم تروا إلى النبي الكريم وهو يعتز برعاية أمه ويقول (إنما أنا أبن امرأة كانت تأكل القديد)؟

علي متولي صلاح

ص: 53

‌أراء وأنباء

فيجايا لاكشمي باندت نهرو

للأستاذة زينب الحكيم

وردت القاهرة في الأسبوع الماضي السيدة الهندية العظيمة فيجايا لاكشيمى باندت نهرو التي رأست وفد بلادها في دورة هيئة الأمم الأخيرة، وقد مثلت بلادها بنجاح منقطع النظير، وكانت سفيرة للهند لدى الولايات المتحدة مدة طويلة، وكانت قبل ذلك وزيرة للصحة، والآن تعمل في سلك السياسة الخارجية بمقدرة وفهم:

ولهذه السيدة مبدأ حساس، فهي داعية للسلام العالمي، مشجعة على بث روح الإنسانية، وتعنى برؤية الناس كطبيعة حية، أكثر من عنايتها بالمتاحف والآثار، شجاعة في الحق، قادرة على تمحيص الأمور.

تعلمت تعلماً منظماً، وأكسبتها بيئتها ونشأتها وكثرة تنقلاتها ثقافة واسعة، وهي ذات أناة وصبر، فكم شهدتها تصغي لشتى الأسئلة من الصحافيين وغيرهم، وتجاوب بدقة على ما تريد الإجابة عنه؛ فهي ممثلة سياسية بارعة، ومرشدة اجتماعية ممتازة. يشع سمو روحها على وجهها الحسن، وتدل جميع حركاتها وتصرفاتها على الدوحة العظيمة التي تفرعت منها.

هبطت أرض مصر فهب كثير من أهلها يستقبلونها بما يليق بها من حفاوة وتكريم، وأجهدت نفسها بزيارة عدد وفير من مؤسساتنا الاجتماعية، كمدينة تحسين الصحة، وجمعية الهلال الأحمر، ومدرسة الاتحاد النسائي، كما اجتمع لفيف كبير من نساء القاهرة ورجالها في حفل شاي أقيم على شرف تكريمها بنادي الزعيمة الراحلة هدى شعراوي؛ وألقت فيه كلمة أبانت فيها عن بعض العلاقات الدولية والمجهودات العظيمة التي بذلتها في الدفاع عن قضايا بلادها وبلاد الشرق عامة، كما زارت جامعة القاهرة وألقت خطاباً سياسياً شاملاً. وزارت نقابة الصحفيين زيارة ود وشكر، وكان يزين الحفل وجود الرئيس اللواء محمد نجيب، وكان لكلماته أجمل وقع في نفوس الجميع. وأهابت بالمصريات ليزرن الهند لشهدن مجهودات نسائه العملية، وليكن رسل سلام يقوين روح التعارف والتحاب بين البلدين.

وتفضلت فصرحت بأن المرأة الهندية لم تصادف أي عناء بالنسبة لنيلها الحقوق السياسية،

ص: 54

ذلك لأنها أثبتت جدارتها عمليا، لاستمتاعها بتلك الحقوق. ولهذا فقد حصلت عليها برضا تام من الرجال.

وأكدت أنها وبنات جنسها مشاركات للمرأة المصرية رقيق عواطفهما، معضدات لمطلبها العادل، ومشفقات كل الإشفاق من روح بعض المتطرفين بالنسبة لقضيتها. وإننا إذ نودع السيدة نهرو العظيمة نتمنى لها عودا حميدا لبلادها ونحملها أحسن تحياتنا لمواطنيها ومواطناتها جميعا.

رسالة المرأة في العهد الجديد

المرأة هي الدعامة الأولى التي يتوقف عليها تقدم الأمة أو تأخرها، وصلاح الشعب أو فساده، وبفضل رعايتها الصحيحة للأسرة يستقيم حال الرجل أو ينحرف، وتصلح تربية النسل أو تفسد، ومن ثم يبين تأثيرها الحق في الشعب وفي البيئة المحيطة به، والأمم التي تنبهت إلى خطورة مركز المرأة في الدولة، جعلت في رأس برامجها الإنشائية الإصلاحية مسألة العناية بتربية المرأة وتثقيفها حتى تأمن العثار، تلك المخلوقة العجيبة التي لا يقف في سبيل إرادتها شئ (إن هي أرادت) أن تنفذ أمراً ما.

ومن أجل هذا. . كانت المرأة المستنيرة من أول وأهم عوامل الإصلاح والتقدم في البلاد، ومصر يحمد الله قد قطع نساؤها شوطا بعيدا سليما في ميداني التعليم والاجتماع، وبذلت جهدا غير منكور في ميدان السياسة.

ومن واجب العهد الجديد أن يعتمد على المرأة المستنيرة في الحدود السالفة الذكر في سبيل نشر رسالته، ومن واجبه أن ينقب عنها، ويسعى إليها، حتى يستطيع أن يكل إليها ترشيد أكبر عدد ممكن من بنات جنسها وأسرهن في مقاصد وغايات العهد الجديد. ولاسيما وأن المرأة أسرع قابلية لفهم النهضة والجيل الجديد، وأسرع إلى تنفيذ الخطط الإصلاحية الراهنة، لأنها أقل من الرجل اندماجا وتأثرا بظروف العهد البائد وأكثر ما أشتمل عليه. وهي تعمل غير مغرضة، فليست تطمع في المناصب الحكومية، ولا تنظر إلى المراكز الرفيعة، ولا تشغلها الدرجات والترقيات بالصورة التي ينشغل بها الرجال. ولم تتأثر المرأة بطغيان الإقطاع كالرجال بحيث تقف موقف المعارضة والنضال، ولهذا فهي اكثر استيعابا واستجابة لمبادئ العهد الجديد، وأقوى تأثرا به، وأشد رضاء عن نتائجه.

ص: 55

فعلى المرأة أن تتقدم بدون إبطاء بعرض مساعداتها في الفن أو التخصص الذي تحسنه، ولا تنتظر التنقيب عنها، فليس في مقدور القيادة أن تشم على ظهر يدها كما يقول المثل السائر.

وأن تبدأ حملة عملية على الكماليات؛ فتتنازل عن كثير منها كالسيارات الفخمة والفراء النادرة، والأحذية المبالغ في أثمانها وعددها، والثياب اللافتة غير العملية.

وبمعنى آخر يجب على المرأة أن تتقشف، ولا أود أن تسترجل، وإنما تعتدل كثيرا في مطالبها من كماليات الترف، حتى تدفع التهمة الخطيرة التي طالما اتهمت بها. . . وهي أنها أسيرة الموضات وعبدة المساحيق ووسائل التزين. وعليها منذ اليوم أن تشهد العالم أجمع على أنها بدأت عهد الجد والحزم والعزم فتستهلك منتجات بلادها أولاً، من منسوجات ومأكولات ومعادن، ومنتجات صناعية، وأن لا تأنف من استعمالها مهما كانت درجة بساطتها وعدم جودتها - حتى نتقدم بها إلى أحسن الدرجات من الجودة والارتقاء.

وأن تهجم هجوماً عنيفاً على الجهل والفقر والمرض فيكون من واجب كل امرأة متعلمة سواء في المعاهد أو في المنازل، أن تعلم عدداً من الأميات في أقصر وقت.

وأن تبذل من اقتصادياتها (لا أقل من نصاب الزكاة) لأوجه البر المنظم، لتساعد على تحسين حال المعدمين لا بإقامة مطاعم الشعب التي عملنا على هدمها لما لمسناه من أنها تريق ماء وجوههم، وحرصنا على تنبيه أولي الأمر في حينه إلى خطورة رد الفعل السيئ الذي تسببه أشباه هذه المشروعات المسكنة فقط والتي ليس من شانها أن تنشئ أجيالا نشيطة مستكملة الرجولة، وإنما تربي جيلاً جبانا متواكلا تحلو له الراحة ويستهويه الكسل. لذلك كان لزاماً أن توضع التبرعات والإعانات كرءوس أموال لإنشاء مصانع وعمارات وأعمال حرة تجارية أو زراعية وما إليها، حتى ينتفع المعوزون ويشعروا بأنهم يأكلون بعرق جبينهم، وأنهم لا يستجدون، فالاستجداء مسقط للكرامة وللإنسانية. وعلى كل سيدة قادرة على الإرشاد الصحي أن تبذل كل ما في طاقتها لتأخذ بيد المريض، وتساعده على أتباع طرق العلاج، والنظافة، وتشجعه على اللجوء إلى المستشفيات والوحدات العلاجية.

وان يقمن من أنفسهن رقيباً أميناً على رعاية كل هذه الأوجه الإصلاحية لتأخذ بيد قادة العهد الجديد - عهد الإصلاح والإحسان في تعاون واتحاد مع إخواننا الرجال.

ص: 56

زينب الحكيم

ص: 57

‌أخبار أدبية وعلمية

أسبقية الروس إلى اكتشاف سر تركيب المعادن

ادعت أكاديمية العلوم الروسية في أوائل شهر أغسطس على لسان أحد أعضائها السابقين (ر. س. ياكوبى) بأن الروس هم أول من اكتشف سر صناعة المعادن من السوائل بتسليط تيار كهربائي عليها، وهو اكتشاف أدى إلى ميلاد فرع جديد في العلوم الطبيعية يطلق عليه اسم (جالفونو تكنولوجي).

وقد قام ياكوبى بتجاربه في أواسط القرن المنصرم وتسربت أنباء هذه التجارب إلى العالم الخارجي فالتقطها عالم بريطاني وأحتفظ لنفسه بحق اكتشافها زورا وبهتانا.

وقالت أكاديمية العلوم إن آثار (ياكوبى) في طلاء كنيسة القديس إسحاق بطرسبرغ بالذهب السائل المتولد عن تيارات كهربائية مسلطة عليه هو شاهد علمي على أسبقية هذا العالم في اكتشاف سر هذا النوع الجديد في العلوم الطبيعية.

الفشل يصاحب الباحثين عن سفينة نوح

أعلنت البعثة العلمية الفرنسية التي تقوم بالبحث عن آثار سفينة نوح في جبل أراراط من الشمال الشرقي من تركيا عن فشلها بعد جهد أستمر بضعة أشهر. فقد عجز رجال البعثة وهم من علماء التنقيب عن الآثار عن الصعود إلى قمة (اتريداك) في أعالي جبل أراراط وهي قمة يبلغ ارتفاعها 17 ألف قدم مغطاة بالثلوج الكثيفة. وتدعي مصادر علم الآثار وبعض المصادر التاريخية إن هذه القمة هي التي ألقت عليها سفينة نوح مرساها في فترة الطوفان الذي أشار إليه القرآن الكريم.

وقد سبق لبعثة أمريكية أن فشلت في مثل هذه المحاولة التي قامت بها في صيف عام 1949.

تخليد ذكرى الشاعر الروسي بوشكين

احتفلت روسيا في هذا الشهر بذكرى انقضاء مائة وثلاث وخمسين سنة على ميلاد الشاعر الكبير الكسندر بوشكين فأزاحت الحكومة السوفيتية الستار عن لوحات تذكارية، وتماثيل من النحاس والمرمر أقيمت في عدد من الأماكن التي أقام الشاعر فيها وعمل إبان حياته

ص: 58

الذاخرة بالإنتاج الرفيع.

والمعروف عن بوشكين أنه مغرماً بمدينة موسكو إغراماً لا حد له. فقد ولد في هذه المدينة وأنفق صباه وشيد بيته فيها وظل يعود إليها بين آونة وأخرى ليستوحي من حياتها اليومية صوراً فنية لقصائده الشهيرة.

وقد وضعت إحدى هذه اللوحات التذكارية في بيت متواضع لا تأخذه العين في وسط مدينة موسكو يطلق عليه أسم (بيت الشعراء). فقد كان هذا البيت مسكناً لناقد أدبي معروف اسمه (. أ. فايازمسكى) آخاه بوشكين وتوطدت بين الشاعر والناقد صداقة ندر أن تسود بين الشعراء والنقاد.

وكان بوشكين يتردد بكثرة على هذه الدار في أعوام 1826 - 1832. وفي هذه الدار تعارف بوشكين والشاعر البولندي الشهير (ادام ميكيفيتش) الذي تأثر بعبقريته وتأثر هو بعبقرية الشاعر الروسي.

وأقيمت لوحات وتماثيل تذكارية أخرى في عدد من الفنادق والمطاعم وأماكن النزهة التي كان يفضلها بوشكين خلال إقامته في موسكو وإبان زيارته العديدة لها في سنواته الأخيرة.

رداءة الموسم المسرحي الروسي هذا العام

يبدو إن موسم المسرح الروسي هذه السنة كان رديئاً إلى درجة لم تستطع الحكومة السوفيتية أن تختار مسرحية من مسرحيات الموسم لتمنحها جائزة ستالين الأدبية التي تعطى كل سنة للمبرزين في شتى ألوان النشاط الثقافي والعلمي.

وقد أصدرت لجنة الكتاب التابعين للحزب الشيوعي الروسي الذي يسيطر على الحكم الآن في الاتحاد السوفيتي بيانا انتقدت فيه رداءة الإنتاج المسرحي هذا العام؛ ووصفت المسرحيات الجديدة التي صدرت هذا العام بأنها (من النمط التقليدي وبأنها خالية من الواقعية) التي أصبحت في رواسب السوفيتية ميزاناً للإبداع الفني والأدبي.

ونشرت جريدة برافدا في صفحتها الأدبية نقدا مماثلا لنقد لجنة الكتاب المتفرعة عن الحزب الشيوعي. وحللت (برافدا) القيمة الأدبية لمسرحية (الصيف الجميل) أكثر مسرحيات الموسم في موسكو رواجا، فلم تجد الجريدة فيها ما يستحق أن يحظى بالشرف الذي توفره جوائز ستالين الأدبية.

ص: 59

وقد انتقدت الجريدة كذلك الكسل الذي اعترى كتاب المسرحيات في الآونة الأخيرة وناشدتهم بأن يسعوا في جد وحماس لرفع مستوى الإنتاج المسرحي الروسي ليتفق مع مكانة الفروع الأخرى للنشاط العلمي والأدبي في حاضر الثقافة السوفيتية.

طبعة جديدة للموسوعة الروسية

أتم البرفسور بوريس فيدنسكي المحرر الرئيسي لدائرة المعارف الروسية إعداد الطبعة الجديدة لهذه الموسوعة الهامة التي تزهو بها الأوساط الأدبية والعلمية في الاتحاد السوفيتي.

وقد أنجز حتى الآن المجلد الثامن من الطبعة الجديدة إنجازاً تاماً وظهر في الأسواق. وفي هذا المجلد وحده 1250 مقالة وبحث عن مختلف الموضوعات التي تتضمنها عادة الموسوعات التي من هذا القبيل.

ويمتاز هذا المجلد الثامن بأنه يحوي بحوثاً جديدة في الفنون العلمية ذات الصلة بالشؤون العسكرية.

الأدب في خدمة الشيوعية في الصين

أنفذت الحكومة الشيوعية في الصين حملة جديدة لتنسيق الأدب والفن الصيني لخدمة المبادئ الماركسية التي أتخذها حكام الصين نبراساً لهم.

وقد أطلقت على هذه الحملة أسم (حركة تعديل الآداب والفنون) ويرأسها الكاتب الصيني المعروف (كورمورجو) مؤلف كتاب (صبي ريكشاو) وهو من روائع الأدب الشيوعي في الصين الجديدة.

وتهدف هذه الحركة إلى تطعيم أرباب القلم والفنانين الصينيين بدقائق الماركسية لينقلوها إلى الشعب في مختلف المعاول التي يوفرها الأدب والفن.

ترجمة نصوص الهرم

ظهر بحث هام جديد من دراسات أهرام الجيزة، بصدور مؤلف كتبه العلامة صموئيل أ. ب مرسر، وهو يقع في أربعة مجلدات واسماه (ترجمة نصوص الهرم) والتعليق عليها.

وهذا المؤلف هو أول ترجمة إنجليزية كاملة للنصوص الدينية التي اكتشفت في عام 1880 وهو أيضا الترجمة الكاملة الوحيدة وشرحها في أية لغة من اللغات.

ص: 60

والترجمة صحيحة وعصرية وشرح النصوص مبني على مراجع معتمدة، وهو شرح شامل يعين على فهمها، ويعد هذا المؤلف لأول مرة المرجع الذي يجد فيه المشتغلون بالدراسات الدينية مجموعة كاملة من الوثائق المصرية القديمة التي يستطيعون الاعتماد عليها في أبحاثهم.

والمجلد الرابع من الكتاب يتناول ثمانيا وعشرين رحلة قام بها الأستاذ مرسر وستة من علماء الآثار المصريين ومجموعة نفسية من العبارات والكلمات التي يحتاج فهمها إلى تفسير وفهارس ذات قيمة علمية وتاريخية.

سويسرا تحتفل بأديبها الأكبر

يحتفل الشعب السويسري هذا العام بعيد الميلاد الخامس والثمانين لعميد الأدب السويسري المعاصر والقصصي المعروف: أرنست زاهن فقد ولد هاذ الأديب الكبير في مدينة (ماجن) السويسرية عام 1867. وأشتغل بالأدب فأنتج أكثر من 60 مؤلفا كان أكثرها رواجا قصصه البديعة التي درت عليه مكافآت مادية وأدبية فنال عددا من أهم الجوائز الأدبية السويسرية والأوربية ومنحته بعض الجامعات شهاداتها الفخرية اعترافاً بمساهمته في إعداد نشأة الأدب السويسري المعاصر.

وقد أعدت الحكومة السويسرية والمحافل الشعبية في مختلف أنحاء البلاد برامج منوعة للتنويه بالمجهود الأدبي الذي خلده هذا الشيخ الأديب.

القومية (اللغوية) في النمسا

أصدرت المطبعة الحكومية الرسمية في فينا معجماً جديداً يسجل مفردات اللغة (النمساوية) ويحاول أن يجعل منها لغة خاصة مستقلة عن اللغة الألمانية.

وهذه القومية (اللغوية) التي تعمل على نشرها الحكومة النمساوية هي وليدة التعددات السياسية التي ألمت بأوربا الوسطى في عالم ما بعد الحرب بعد أن نال النمسا وبقية دول أوربا الوسطى ما نالها من ذيول الحرب النازية مشاكل سياسية واقتصادية عويصة.

والمعروف إن لغة النمسا هي الألمانية ولكن هناك لهجات محلية نمساوية (كما هو الحال في جميع المناطق الجغرافية التي تتكلم لغة من اللغات العالمية) أحب أولو الأمر في النمسا

ص: 61

أن يعززها ويجعلوها نواة للغة (نمساوية) مستقلة عن اللغة الألمانية.

ويبلغ عدد كلمات المعجم النمساوي الجديد 20 ألف كلمة وقد عم انتشاره في الأوساط العلمية والشعبية.

ص: 62

‌طرائف وقصص

ليلة عيد الميلاد

للكاتب الفرنسي أندريه موروا

بقلم الأستاذ حسن نديم

كتب إلى الجنرال براميل يدعوني إلى قضاء عطلة عيد الميلاد في قريته وأردف يقول: إنني لم أدع هذا العام سوى اللورد تيلوك شقيق زوجتي والسيدة قرينته، ولا أحسب السامر سيكون بهيجا بالقدر الذي تنشده فأسألك المعذرة.

وعلى كل حال إذا كنت لا تبرم بحياة العزلة ولا تخشى شتاء إنجلترا فتفضل بالمجيء وسيسعدنا لقاؤك والترحيب بك والتحدث معاً عن الأيام الخوالي وطيبها.

كنت أعلم إن هؤلاء الأصدقاء قد رزئوا في غضون العام الماضي بفقد أبنه لهم في الربيع الثامن عشر ماتت على إثر سقطتها من صهوة جواد أثناء الصيد فرثيت لحالهم وتأثرت لمصابهم. ولما كنت تواقاً إلى رؤيتهم لأواسيهم وأسرى عنهم فقد قبلت الدعوة.

شعرت بادئ الأمر بالهيبة من الورد تيلوك وزوجته؛ غير أنني سرعان ما أنست إلى صحبتهما عندما عرفتهما، كان في مقدور مضيفي الجنرال براميل أن يظل صامتا مدة ثلاث ساعات لا يفوه خلالها بكلمة واحدة وهو جالس يدخن غليونه على مقربة من نار المدفأة وكذلك كانت حال زوجته تجلس في صمت وهدوء فتعمل أو تطرز. أما اللورد تيلوك فهو ثرثار لطيف، عمل سفيرا لبلاده في عدة أقطار ويدل حديثه على أنه شاهد حقيقة تلك الأقطار على غير ما أثر عن أنداده من السفراء، وكانت زوجته على دمامة خلقها تفيض ظرفا وخفة وإن ارتدت من الثياب أرخصها مما لا يتفق ومكانتها في المجتمع.

لقد خلف الدمع والأسى آثاره واضحة على وجه السيدة برامبل غير أنها لم تحدثني عن فجيعتها ومصابها، اللهم إلا في أول مساء عندما صعدت برفقتها إلى جناح النوم فقد توقفت لحظة أمام الحجرة السابقة لغرفتي وقالت لي: كانت هذه غرفتها. . . ثم استدارت ومضت في سبيلها.

ص: 63

قضينا سهرة عيد الميلاد في قاعة المكتبة على مقربة من مدفأة تندلع منها السنة اللهب. لم يكن يضئ تلك القاعة سوى عدد من الشموع، فكان المرء يلمح في ضوء القمر خلال زجاج نافذة منظر الحديقة وقد أبيض أديمها وغطتها الثلوج. كان الجنرال برامبل يدخن غليونه وزوجه تعمل بإبرها عندما بدأ اللورد تيلوك يتحدث عن ليلة عيد الميلاد.

قال اللورد: منذ خمسين عاما كان كثير من فلاحي مقاطعتي يعتقدون أن الحيوانات ينطلق لسانها في ليلة الميلاد فتنطق كالبشر سواء بسواء. وأذكر أنني سمعت مرصعتي تقص حكايات عن حارس مزرعة كان يأبى أن يصدق هذه الخرافة. اختبأ هذا الحارس داخل حظيرة الخيول في تلك الليلة ليتحقق من صحة الأسطورة، حتى إذا ما دقت الأجراس مؤذنة بانتصاف الليل رأى الحارس أحد الجياد يميل برأسه على رفيقه ويقول له: سنساق إلى مهمة شاقة بعد ثمانية أيام فيجيبه الآخر: نعم ولا تنس أن الحارس ثقيل الوزن فيعقب الجواد الأول: حقاً إنه ثقيل الوزن والطريق إلى المقابر وعر. ومات حارس المزرعة بعد ثمانية أيام! قال الجنرال برامبل: إن هذا لعمري هراء. وهل كانت مرضعتك تعرف حقاً هذا الرجل؟

فأجاب اللورد تيلوك: إنها تعرفه حق المعرفة يا سيدي وحسبك أن تعلم أنه أخوها.

لبث محدثنا صامتا زمنا وأخذت أتأمل ألسنة اللهب المندلعة وهي تزمزم في الأتون كما تدوي الأعلام في مهب العاصفة. لم يبدل الجنرال حراكاً أما زوجه فكانت تطرز خطوطا بارزة ذات ألوان زاهية على قطعة من القماش. ثم استأنف اللورد حديثه قائلا:

وفي السويد كثيرا ما رأيت الفلاحين في قرية (داليكارلي) يعدون العشاء للأرواح في ليلة عيد الميلاد، إذ يعتقدون هنالك أن الموتى يعودون في تلك الليلة إلى الدور التي كانت مسرحا لحياتهم. ولهذا يشعل أهل القرية مساء قبل أن يفترقوا نارا كبيرة من لهب الشموع اللدنة ويضعون على المائدة غطاء ناصع البياض وينظفون المقاعد ثم يخلون المكان للأطياف حتى إذا ما تنفس صبح اليوم التالي وجد القوم أن شيئا من الوحل قد تناثر على الأرض وأن الآنية والأكواب قد تحركت من أماكنها وأن الجو يعبق برائحة غريبة.

فقال الجنرال بصوت خفيض: وذلك أيضاً لغو وهراء أيقنت عند ذاك أن محدثنا يفتقر إلى الكياسة والفطنة وتأملت السيدة برامبل فإذا هي ساكنة وادعة؛ بيد أني رأيت أن أغير

ص: 64

موضوع الحديث فقلت: أما أنا فأرى في ليلة عيد الميلاد نفس ما رآه واعتقده شكسبير. . أتذكرون ما قاله في هذا الصدد؟

(ليلة لا تجرؤ الأرواح فيها أن تعصف في الفضاء. الجن مكتوف اليدين، والساحرة لا ينفع لها سحر، والليل ساج لا يغشاه أنين ولا شكوى)

فقال الليدي تيلوك في لهجة ملؤها الجد والإصرار: أما نحن فنعتقد إن شكسبير قد خانه الصواب فيما ذهب إليه. هل لك يا عزيزي إدوار أن تقص علينا ذلك الحادث الذي وقع لك في قصر تيلوك؟

فهتفت قائلا: يسعدني جدا أن أستمع إلى هذه المغامرة حسنا - قال اللورد تيلوك - منذ خمسة أعوام كاملات أي في ليلة عيد الميلاد سنة 1920 أحسست بصداع خفيف. ولما كان الجو جميلا يغشى برودته جفاف فقد رغبت في المسير قليلا في الهواء الطلق. كان الليل قد أنتصف أو كاد عندما غادرت منزلي ومشيت بضع خطوات حتى إذا ما جاوزت سور المتنزه سلكت الدرب الصغير الذي يحف به من على الجانبين سياج من الحسك الطويل، وكان يضيئه في تلك الليلة بدر مكتمل وسماء وشتها النجوم. كنت قد قطعت في سيري مسافة تبلغ نصف ميل عندما لمحت على بعد فوق الصقيع الأبيض آثاراً قاتمة عبر الدرب. اقتربت من هذه الآثار فرأيت لفرط دهشتي إنها خيط دماء. طفقت أبحث عن مصدر هذا السيل الرفيع فوجدت أن السياج الحسكي ينحرف في هذا الموضع فينشئ مع الدرب زاوية. . وأن جسداً مستلقيا دون حراك قد قبع في ركن الزاوية

اقتربت من المكان وحدقت النظر فيه فإذا بي أمام جثة فعدت أدراجي راكضا إلى الدار وناديت خدمي. أرسلت بعضهم لإخطار السلطات وأمرت الآخرين أن يحملوا مشاعلهم ويتبعوني. سلكنا نفس الدرب الذي أتيت منه ومشينا مدة طويلة بل خيل إلى إنها طويلة جدا. ولكننا لم نر شيئاً وانبريت أبحث عن الأثر الدامي دون جدوى. وأخيراً وبعد ما قطعنا ميلين على الأقل قلت لمن حولي: هذا لعمري مستحيل، فلم أبتعد بهذا القدر ولا بد أننا تخطينا المكان فلنعد.

ذرعنا الدرب مرة ثانية وقلت لمن معي إنه ليس من العسير عليهم أن يهتدوا إلى المكان. فهو في البقعة التي ينحرف فيها السياج وينشئ مع الدرب زاوية. غير أن أحداً من الخدم

ص: 65

لم يتذكر أنه رأى الموضع الذي وصفته. وسرنا حذاء السياج من جديد وانطلقنا إلى أبعد ما استطعنا أن ننطلق فوجدنا السياج مستقيما لا انحراف فيه.

وأمسك اللورد تيلوك عن الكلام لحظة. كانت الثلوج تتساقط في الخراج وئيداً، وكنا لا نسمع في جوف هذا السكون الموحش سوى خشخشة الخيوط الحريرية في قطعة القماش وزفرة النيران المستعرة في المدفأة.

سألت محدثي: ربما كنت إذ ذاك واقعاً تحت تأثير نوبة من الهلوسة؟!

استدار الجنرال برامبل نحوي وحدق في طويلاً وإن ظل ساكناً لا ينبس ببنت شفة، وقال اللورد تيلوك وكأنما يرد على استفساري: لقد لبثت بالفعل طويلاً وأنا أعتقد ما تقول، فقد استجوبت العسس والمارة والجيران ولم أتوصل إلى شيء، فلم ترتكب أية جريمة في تلك الليلة في طريق قصري ولم يحدث في هذه النقطة ما يكدر الصفو. وبعد انقضاء أربعة أعوام على هذا الحادث، وكنت قد سلمت بأن لوثة من الهلوسة قد أتلفت حواسي في تلك الليلة فتهيأت لي هذه الجريمة، جاءني خطاب من صديق لي يمتهن التنقيب عن الآثار ويعني بدراستها، لقد سررت بهذا الخطاب أيما سرور واليكم كما جاء فيه:

عزيزي اللورد تيلوك

بينما كنت أجري أبحاثي هذا لصباح في المتحف البريطاني تكشفت لي حقيقة هامة تتصل بقصة غريبة كنت قد رويتها لي في آخر عطلة أسبوعية سعدت بقضائها في ضيعتك. كنت أتصفح بعض الصحف المحلية القديمة التي كانت مصدر في مقاطعتك لاستيفاء بعض الأبحاث فقرأت الخبر التالي:

(في يوم 24 ديسمبر 1820 وعلى بعد ستمائة ياردة من قصر آل تيلوك أغتال بعض قطاع الطرق السير جون لاسي من وجهاء الكاثوليك بينما كان يسير بمفرده لحضور قداس نصف الليل. كان هؤلاء الأشقياء يتربصون بالمارة مختبئين خلف السياج الذي ينحرف في عدة مواضع فيحدث مع الدرب زوايا، وهنالك أيضا أخفوا الجثة بعد ما جردوا صاحبها مما كان يحمل من نقود. وعلى أثر هذا الحادث أمر سيد المقاطعة بإزالة هذه الزوايا، ومن هذا التاريخ أصبح السياج الذي يحاذي الدرب مستقيما لا التواء فيه)

قالت الليدي تيلوك: آه لو كنتم معي ورأيتم آيات الفوز والابتهاج مرتسمة على وجه إدوار

ص: 66

وهو يتلو علي هذا الخطاب.

فأجاب الجنرال برامبل في جد ووقار: هذا جد مفهوم وأمنت زوجة بصدق على عبارته

حدقت فيهم جميعا في دهش وقلت:

- لماذا؟ أتعتقدون أن الميت قد بعث في مكان الحادث لمناسبة الذكرى المئوية لمصرعه؟

فأجابني اللورد في قلق وضجر: وهل تعتقد يا صاح بغير ذلك؟

نظر إلي الجنرال برامبل وزوجه نظرة كلها استنكار ولوم، فسكت على مضض، وأيقنت إن قصتي الجواد الناطق وغذاء الأطياف لا بد قد وجدتا من هذه العقول الساذجة تصديقا واقتناعاً، فنهضت واستأذنت في الذهاب إلى المخدع.

كانت بغرفتي مدفأة موقدة تضطرم فيها نار وقودها خشب الصنوبر أشبعت جو المخدع بدخان شفاف بينما اكتست النوافذ من الخارج بطبقة من الثلج الرخو كمندوف القطن. أطفأت شموع الغرفة، فصارت ألسنة اللهب المترقص في المدفأة تشيع وحدها الحرارة في ضباب دافئ وضيء، وشعرت بقيظ لم أستطع معه النعاس، وأخذت تجول بخاطري قصص غريبة. وبعد هنيهة، سمعت في الغرفة المجاورة دقات ساعة صداحة تعلن انتصاف الليل.

كنت متعباً مضطرب الأعصاب بعض الشيء. . غير أني شعرت في الوقت ذاته بارتياح إلى ما أصابني من أرق. . وأحسست كأنما حلت بغرفتي روح وادعة تنفث فيها جوا من العذوبة والصفاء. سمعت الصداحة تدق جميع ساعات الليل إلى أن بانت تباشير الفجر فنمت.

نزلت في الصباح لتناول الإفطار متأخراً بعض الوقت فسألتني السيدة برامبل - وهي واقفة أمام المائدة الزاخرة بألوان الطعام في قاعة المآدب - كيف قضيت ليلتي -

إن شئت الصراحة يا سيدتي أخبرك باني نمت من الليل غير أقله، أن السهاد لم يضرني في شئ فقد كان لي من رنين ساعتكم الصداحة خير رفيق أنيس.

فأنتفض الجنرال بغتة وقال: ماذا؟ أتقول إنك سمعت دقات الساعة؟

ثم صاح بحدة في زوجته: هل فهمت يا إديت؟

أجبت الجنرال بالإيجاب وأنا دهش من هذه اللهجة العنيفة التي نطق بها عبارته الأخيرة

ص: 67

وكانت أطول عبارة سمعتها تخرج من فيه. وعندئذ حدقت في السيدة برامبل وقالت في تأثر عميق وعيناها مغرورقتان بالدمع: يجدر بي يا سيدي أن أوضح لك جلية الأمر. هناك في الحجرة المجاورة لمخدعك ساعة صداحة أهديت إلى ابنتي وهي طفلة فكانت تحبها كثيراً وتملؤها بنفسها كل ليلة. ومنذ قضت عزيزتنا لم يمسها أحد، وألينا على أنفسنا ألا يمسها أحد، وكنا نظن إن نغم الساعة قد سكن إلى الأبد غير إن ليلة الأمس كانت - كما ترى يا سيدي العزيز - ليلة عيد الميلاد.

حسن نديم

ص: 68