المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 102 - بتاريخ: 17 - 06 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 102

- بتاريخ: 17 - 06 - 1935

ص: -1

‌صيف الأديب

زفرت جهنم زفرتها السنوية كما تزعم الأساطير، فعقدت على وجهي (الوادي) غشاء من سموم ودخن؛ فالطبيعة في غلافها الناري مكبوتة، والأرض من حماها الصلب مسبوتة، والناس من إلحاح القيظ متبلدون هامدون يقابلون لفحه بجلد المضطر، ويعالجون برحه بصبر الشهيد! ولكن الجلد ينماع فهو عرق يقطر والصبر يرفض فهو بخار يتصاعد، وبين هذا التقطير وذلك التصعيد نفس تذوب، وجسم يذبل، وعزم يسرق، وفكر يضمحل؛ فليت شعري ماذا عسى أن يعمل من اضطر إلى أن يعمل؟ هذا مكتب الأديب الصحفي يشع الوهج كأتون الفرن، وينفث الضيق كحجرة السجن، ويبعث القلق كغرفة الانتظار؛ وهو مع ذلك مقضي عليه أن يفكر ويعبر، ويرتب ويهذب، ويقابل ويجادل، حتى يهن عصبه، وينقطع سببه، فيعود إلى منزله المعلق في الجو الأغبر على زحمة الشارع وضوضاء العامة، يطلب الهدوء فلا يجده، ويلتمس النوم فلا يناله!

ليس له وا أسفاه قصر يبسم بالنعيم، وينسم بالعطر، ويشرق بالجمال،

ويموج بالزهر، وتطري بالماء، ويتمطى في الظل، ويتبسط بالسعة،

ويسجوا بالخفض، ويغرق في السكون، ويضرب حواليه نطاقاً سحرياً

من الأحلام واللذة، فيعود به من وقدة الجو، ويلوذ به من مشقة العمل

وليس له وا أسفاه يعبر عليه ثبج البحر، ويرد به مدن الماء، ويبلغ فوقه قرى الجبل، فيسرى عن نفسه بعض عناء العام وبلاء الأيام بما يرى من مفاتن الطبيعة على الربى، ومجالي الفردوس فوق السهول، ومباهج المدنية على الشواطئ

وليس له وا أسفاه ما للأديب الموظف من المؤتمرات العلمية، والسياحات التعليمية، يغشاه في منازه أوربا، أو خمائل لبنان، فينال من زهرة الدنيا ومتعة العيش على حساب الدولة وعلى حب العلم

الطالب يعود في العطلة إلى الريف، والموظف الصغير يذهب في الإجازة إلى المصيف، والموظف الكبير يجد من مرتبه فضلاً يشتري به السياحة والراحة والبهجة، والموظف الأكبر يجثم نفسه الكبرى (خدمة) للحكومة في (الخارج)، فيؤديها على أتمها نائماً فوق صدور الأماني، حالماً على هدهدة الأغاني، هائماً وراء الخدمة المنشودة في أودية الشعر

ص: 1

والسحر، ثم لا يكلف الخزينة العامرة إلا بضع مئات لمكافأته، وبضع كلمات لشكره؛ والكبراء الذين يعيشون علينا، ولا ينتسبون ألينا، يجمعون دم الفلاح الغالي في حقاق من ذهب، ويلفون لحمه اللذيذ في حقائب من حرير، ثم يرحلون بها إلى أسواق إبليس، في (مونت كار لو) و (نيس)، فيشترون بهما أبهة أشهر، وعربدة أسابيع، ومخازي عمر!

إذن لا يبقى لسعير الصيف إلا الطبقة التي تنسج لهؤلاء جميعاً برد السعادة: طبقة العمل التي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يجدي على أهله إلا قوت يوم بيوم: طبقة الموظف الأصغر، والصانع المستذل، والعامل المستغل، والفلاح المهمل، والتاجر المدين، والأديب المسكين، فهم يعملون في عطلة الناس - أجرهم على الله - حتى لا تسكن الدنيا، وحتى لا يقف الفلك!!

أنشأت الأمة مصا يف لأطفال الفقراء، واعدت الدولة قطار (البحر) وقطار (النزهة) لأنصاف الأغنياء، فماذا أنشأت الأمة أو أعدت الدولة لمساكين الأدباء؟ أليسوا رسل الحق والخير والجمال والمعرفة إلى من زهتهم السطوة فلجوا في الباطل، أعمتهم الشهوة فتدفقوا في الشر، ولوثهم الطمع فطمأنوا إلى القبح، وركبهم الغرور فجنحوا للجهالة؟ أليسوا أحرياء بأن تقيم لهم الحكومة (جبل البرناس) على بقعة من ضفاف النيل، أو على رقعة من شواطئ البحر، يستجمون عليه من الإعياء، ويتصلون فيه بالسماء، وينشدون الأمة من روائع الوحي اجمل مما أنشدته (الموز) التسع الهات الأدب والفنون، على قيثارة إله الشعر والبلاغة أبولون. . . ولكن رويدك يا أشعب!! إن الحكومة التي لا تشترك في مجلة الصحفي إلا بعد طلب ورجاء، ولا تشتري نسخة من كتاب الأديب إلا بعد اخذ وعطاء، يشق عليها أن تقيم (جبل البرناس)، على مثل هذا الأساس! على أن الخيال عالم والحقيقة عالم أخر، والأديب حريص على أن لا يسبح في عالمه غيره، فلماذا يمد عينيه الرغيبتين إلى عالم الناس؟

إن في ليلي القاهرة الساحرة الرخية لرضى للنفس الشاعرة: سماء كصفحة الأمل المشرق تتألق بالأنوار، وفضاء كغيب الله يموج بالأفكار والأسرار، ونسيم كأجنحة الأملاك يذهب عن الأجسام رهق النهار، وجنات الجزيرة، وخلوات الجيزة، ومسرات الجسر، ومسارح النيل، تخلق في الذهن الخصيب والشعور الفتان، مالا تخلقه جنات سويسرا ولا رياض

ص: 2

لبنان!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الطائشة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال صاحبها وهو يحدثني من حديثها:

كانت فتاة متعلمة حلوة المنظر، حلوة الكلام، رقيقة العاطفة، مرهفة الحس، في لسانها بيان، ولوجهها بيان غير الذي في لسانها تعرف فيه الكلام الذي لا تتكلم به. . .

ولها طبع شديد الطرب للحياة، مسترسل في مرحه خفيف طياش، لو أثقلته بجبل لخف بالجبل؛ تحسبها دائماً سكرى تتمايل من طربها، كان أفكارها المرحة هي في رأسها أفكار وفي دمها خمر. . .

وكان هذا الطبع السكران شباباً وجمالاً وطرباً - يعمل عملين متناقضين، فهو دلال متراجع منهزم، وهو أيضا جرأة مندفعة متهجمة. وهزيمة الدلال في المرأة إن هي إلا عمل حربي مضمرة فيه الكرة والهجوم؛ وكثيراً ما ترى فيها النظرة ذات المعنيين: نظرة واحدة تؤنبك بها المرأة على جرأتك معها، وتعذلك بها أيضا على انك لست معها أجرأ مما أنت. . .!

قلت: ويحك يا هذا! أتعرف ما تقول؟

قال: فمن يعرف ما يقول إذا أنا لم اعرف؟ لقد أحببت خمس عشرة فتاة، بل هن أحببنني وفرغن قلوبهن لي، ما اعتزت علي منهن واحدة، وقد ذهبن بي مذهباً ولكنني ذهبت بهن خمسة عشر!

قلت: فلا ريب انك تحمل الوسام الإبليسي الأول من رتبة الجمرة. . فكيف استهام بك خمس عشرة فتاة، أجاهلات هن، أعمياوات هن. . .؟

قال: بل متعلمات مبصرات يرين ويدركن، ولا تخطى واحدة منهن في فهم أن رجلاً وامرأة قصة حب. . . . وما خمس عشرة فتاة؟ وما عشرون وثلاثون من فتيات هذا الزمن البائر، الذي كسد فيه الزواج، ورق فيه الدين، والتهبت العاطفة، وكثرت فنون الأغراء، واصطلح فيه إبليس والعلم يعملان معاً. .؛ وأطلقت الحرية للمرأة، وتوسعت المدارس فيما تقدم للفتيات، وأظهرت من الحفاوة بهن أمرا مفرطاً حتى أخذن ربع العلم. . .؟

قلت: وثلاثة أرباع العلم الباقية؟

قال: يأخذنها من الروايات والسيما. علم المدارس ما علم المدارس؟ أنهن لا يصنعن به شيئاً

ص: 4

إلا شهادات هي مكافأة الحفظ وإجازة النسيان من بعد؛ أما علم السيما والروايات فيصنعن به تاريخهن. . ورب منظر يشهده في السيما ألف فتاة بمرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن وطافت به الخواطر والأحلام - سلبهن القرار والوقار فمثلنه ألف مرة بألف طريقة في ألف حادثة!

يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة بعد واحدة، من حرية المرأة وعلمها؛ أما أنا فأرى حرية المرأة وعلمها لا يوجدان إلا العقبات النسائية عقبة بعد عقبة. وقد كان عيب الجاهلة المقصورة في دارها أن الرجل يحتال عليها، فصار عيب المتعلمة المفتوح لها الباب أنها هي تحتال على الرجل؛ فمرة بإبداع الحيلة عليه، ومرة بتلقينه الحيلة عليها. والغريب في أمر هذا العلم أنه هو الذي جعل الفتاة تبدأ الطريق المجهول بجهل. . .!

قلت: وما الطريق المجهول؟

قال: الطريق المجهول هو الرجل. وإطلاق الحرية للفتاة أطلق ثلاث حريات: حرية الفتاة، وحرية الحب؛ والأخرى حرية الزواج. ولما انطلق ثلاثتهن معاً تغير ثلاثتهن جميعاً إلى فساد واختلال. أما الفتاة فكانت في الأكثر للزواج فعادت للزواج في الأقل، وفي الأكثر للهو والغزل؛ وكان لها في النفوس وقار ألام وحرمة الزوجة، فاجترا عليها الشبان اجتراءهم على الخليعة والساقطة؛ وكانت مقصورة لا تنال بعيب ولا يتوجه عليها ذم، فمشت إلى عيوبها بقدميها، ومشت أليها العيوب بأقدام كثيرة. . . وكانت بحملها امرأة واحدة، فعادت مما ترى وتعرف وتكابد كأن جسمها امرأة، وقلبها امرأة أخرى وأعصابها امرأة ثالثة. . .

وأما الحب، فكان حباً تتعزف به الرجولة إلى الأنوثة في قيود وشروط، فلما صار حراً بين الرجولة والأنوثة، انقلب حيلة تغتر بها أحدهما الأخرى؛ ومتى صار الأمر إلى قانون الحيلة فقد خرج من قانون الشرف وعاد هذا الشرف نفسه وليس إلا كلمة يحتال بها

وأما الزواج، فلما صار حراً جاء الفتاة بشبه الزوج لا بالزوج، وضعفت منزلته وقل اتفاقه وطال ارتقاب الفتيات له، فضعف أثره في النفس المؤنثة؛ وكانت لفظتا الشاب والزوج شيئاً واحداً عند الفتاة وبمعنى واحد، فأصبحتا كلمتين متميزتين، في أحدهما القوة والكثرة والسهولة، وفي الأخرى الضعف والقلة والتعذر؛ فالكل شبان وقليل منهم الأزواج. وبهذا اصبح تأثير الشاب على الفتاة أقوى من تأثير الشرف، وعاد يقنعها منه أخس براهينه، لا

ص: 5

بأنه هو مقنع، ولكن بأنها هي مهيأة للاقتناع. . .

وفي تلك الأحوال لا يكون الرجل إلا مغفلاً في رأي المرأة إذا هو احبها ولم يكن محتالاً حيلة مثله على مثلها ويظل في رأيها مغفلاً حتى يخدعها ويستزلها، فإذا فعل كان عندها نذلاً لأنه فعل، وهذه حرية رابعة في لغة المرأة الحرة والزواج الحر والحب الحر!

وأنظر - بعيشك - ما فعلت الحرية بكلمة (التقاليد)، وكيف أصبحت هذه الكلمة السامية من مبذوء الكلام ومكروهة حتى صارت غير طبيعية في هذه الحضارة، ثم كيف أحالتها فجعلتها في هذا العصر اشهر كلمة في الألسنة يتهكم بها على الدين والشرف وقانون العرف الاجتماعي في خوف المعرة والدنيئة والتصاون من الرذائل والمبالاة بالفضائل؛ فكل ذلك (تقاليد). . وقد أخذت الفتيات المتعلمات هذه الكلمة بمعانيها تلك، واجرينها في اعتبارهن مكروهة وحشية، وأضفن أليها من المعاني حواشي أخرى، حتى ليكاد الأب والأم يكونان عند اكثر المتعلمات من (التقاليد). . أهي كلمة أبدعتها الحرية، أم أبدعها جهل العصر وحماقته وفجوره وإلحاده؛ أهي كلمة تعلقها الفتيات المتعلمات لأنها لغة من اللغة، أم لأنها من لغة ما يحببن. .؟

(تقاليد). . .؟ فما هي المرأة بدون تقاليد؟. . أنها البلاد الجميلة بغير جيش، أنها الكنز المخبوء معرضاً لأعين اللصوص تحوطه الغفلة لا الرقابة. هب الناس جميعاً شرفاء متعففين، فإن معنى كلمة (كنز) متى تركت له الحرية واغفل من تقاليد الحراسة، أوجدت حريته هذه بنفسها معنى كلمة (لص). .

قال صاحبنا: أما الفتاة المحررة من (التقاليد). . كما عرفتها فهي هذه التي أقص عليك قصتها، وهي التي جعلتني أعتقد أن لكل فتاة رشدين يثبت أحدهما بالسن ويثبت الآخر بالزواج. ولو أن عانساً ماتت في سن الخمسين أو الستين لوجب أن يقال: إنها ماتت نصف قاصر! ولعل هذا من حكمة الشريعة في اعتبار المرأة نصف الرجل، إذ تمام شرفها الاجتماعي أن يكون الرجل مضموماً إليها في نظام الاجتماع وقوانينه؛ فالزوج على هذا هو تمام رشد الفتاة بالغة ما بلغت

أساس المرأة في الطبيعة أساس بدني لا عقلي، ومن هذا كانت هي المصنع الذي تصنع فيه الحياة، وكانت دائماً ناقصة لا تتم ألا بالأخر الذي أساسه في الطبيعة شان عقله وشان قوته.

ص: 6

واعتبر ذلك بالمرأة تدرس وتتعلم وتنبغ، فلو انك ذهبت تمدحها بوفور عقلها وذكائها، وتقرضها بنبوغها وعبقريتها، ثم رأتك لم تلقي كلمة ولا إشارة ولا نظرة على جسمها ومحاسنها لتحول عندها كل مدحك ذماً وكل ثنائك سخرية، فإن النبوغ هاهنا في أعصاب امرأة تريد أن تعرف مع أسرار الكون أسرار كونها هي، هذا الكون البدني الفاتن أو الذي تزعمه هي فاتنا، أو الذي لا ترضاه ولا ترضى أن تكون صاحبته، ألا إذا وجدت من يزعم لها أنه كون فاتن بديع مزين بشمسه وقمره وطبيعته المتنضرة التي تجعل مسه مس ورق الزهر

مثل هذه إنما يكون الثناء عليها ثناء عندها حينما يكون اقله باللسان العلمي ولغته، وأكثره بالنظر الفني ولغته. وهذا على أنها عالمة الجنس ونابغته، ودليل شذوذه العقلي، والواحدة التي تجيء كالفلتة المفردة بين الملايين من النساء؛ فكيف من دونها، وكيف بالنساء فيما هن نساء به؟

دع جماعة من العلماء يمتحنون هذا الذي بينت لك، فيأتون بامرأة جميلة نابغة فيضعونها بين رجال لا تسمع من جميعهم ألا: ما اعقلها، ما اعقلها، ما اعقلها! ولا ترى في عيني كل منهم من أنواع النظر وفنونه إلا نظرة التلميذ لمعلمة في سن جدته. . فهذه لن تكون بعد قريب إلا في حالة من اثنتين: إما أن يخرج عقلها من رأسها، أو. . . أو تخرج في وجهها لحية. . .!

(ما أعقلها!) كلمة حسنة عند النساء لا يأبينها ولا يذممنها، غير أن الكلمة البليغة العبقرية الساحرة هي عندهن كلمة أخرى هي:(ما أجملها!)، إن تلك تشبه الخبز القفار لاشيء معه على الخوان، أما هذه فهي المائدة مزينة كاملة بطعامها وشرابها وأزهارها وفكاهتها وضحكها أيضا

وكأن العقل الإنساني قد غضب لمهانة كلمته وما عرها به النساء، فأراد أن يثبت أنه عقل فاستطاع بحيلته العجيبة أن يجعل لكلمة (ما أعقلها) كل الشأن والخطر، وكل البلاغة والسحر عند. . . عند الطفلة. . . تفرح الطفلة اشد الفرح، إذا قيل: ما أعقلها. . .!

فقلت لمحدثي: كأنك صادق يا فتى! لقد جلست أنا ذات يوم إلى امرأة أديبة لها ظرف

ص: 7

وجمال، وجاءت كبريائي فجلست معنا. . . وكانت (التقاليد) كالحاشية لي، فعلمت بعد أنها قالت لصاحبة لها:(لا أدري كيف استطاع أن ينسى جسمي وأنا ألي جانبه اذكره أني ألي جانبه! لكأنما كانت لقلبه أبواب يفتح ما شاء منها ويغلق)

قال محدثي: فهذا هذا؛ إن إحساس المرأة بالعالم وما فيه من حقائق الجمال والسرور، إنما هو في إحساسها بالرجل الذي اختارته لقلبها، أو تهم أن تختاره، أو تود أن تختاره؛ ثم إحساسها بعد ذلك بالصور الأخرى من رجلها في أولادها. وحياة المرأة لا أسرار فيها البتة حتى إذا دخلها الرجل عرفت بذلك أن فيها أسرارا، وتبينت أن هذا الجسم الأخر هو فلسفة عميقة لجسمها وعقلها

قال: وقد جلست مرة مع صاحب القصة، وأنا مغضب أو كالمغضب. . ثم تلاحينا وطال بيننا التلاحي؛ فقالت لي: أنت بجانبي وأنا أسال: أين أنت؟ فإنك لست كلك بجانبي!

قال: ومذهبي في الحب، الكبرياء، كما قلت أنت، غير أنها الكبرياء التي تدرك المرأة منها أني قوي لا أنا متكبر، كبرياء الرجل إما مهيب مرح يملك أفراح قلبها، وأما حزين مهيب يملك أحزان هذا القلب. إن المرأة لا تحب إلا رجلا يكون أول الحسن فيه حسن فهمها له، وأول القوة فيه قوة إعجابها به، وأول الكبرياء فيه كبرياءها هي بحبه وكبرياءها بأنه رجل. هذا هو الذي يجتمع فيه للمرأة اثنان: إنسانها الظريف، ووحشها الظريف!

قلت: لقد بعدنا عن القصة، فما كان خبر صاحبتك تلك؟ قال: كانت صاحبتي تلك تعلم أني متزوج، ولكن إحدى صديقاتها أنبأتها بكبريائي في الحب، ووصفتني لها صفة الإحساس لا وصف الكلام؛ فكأنما تنبهت فيها طبيعة زهوة الفتاة بأنها فتاة وغريزة افتتان الأنثى بأن تكون فاتنة؛ فرأت في إخضاعي لجمالها عملاً تعمله بجمالها.

ومتى كانت الفتاة مستخفة (بالتقاليد) كهذه الأديبة المتعلمة - رأت كلمة (الزوج) لفظاً على رجل كلفظ الحب عليه، فهما سواء عندها في المعنى، ولا يختلفان إلا في (التقاليد). .

وعرضت لي كما يعرض المصارع للمصارع؛ إذ كانت من الفتيات المغرورات اللواتي يحسبن أن في قوتهن العلمية تياراً زاخراً لنهرنا الاجتماعي الراكد، فتاة تخرجت في مدرسة أو كلية، أو جاءت من أوربا بالعالمية. . . أفتدري أية معجزة مصرية في هذا تباهي بها مصر؟

ص: 8

إن المعجزة أن هذه الفتاة صارت مدرسة، أو مفتشة، أو ناظرة في وزارة المعارف؛ أو مؤلفة كتب وروايات، أو محررة في صحيفة من الصحف. ولا يصغرن عندك شأن هذه المعجزة فهي والله معجزة مادام يتحقق بها خروج الفتاة من حكم الطبيعة عليها وبقاؤها في الاجتماع المصري امرأة بلا تأنيث، أو انقلابها فيه رجلا بلا تذكير! وكيف لا يكون من المعجزات أن تأليف رواية قد أغنى عن تأليف أسرة؛ وان فتاة تعيش وتموت ما ولدت للأمة ألا مقالات. . .؟

فقلت: يا صاحبي، دع هؤلاء وخذ الآن في حديث الطائشة الخارجة على التقاليد، وقد قلت إنها عرضت لك كما يعرض المصارع للمصارع. قال: عرضت لي تريد أن تصرفني كيف شاءت، فنبوت في يدها؛ فزادت إلى رغبتها إصرارها على هذه الرغبة، فالتويت عليها؛ فزادت أليهما خشية اليأس والخيبة، فتعسرت معها؛ فزادت إلى هذه كلها ثورة كبريائها، فلم أتسهل؛ فأنهت من كل ذلك بعد الرغبة الخيالية التي هي أول العبث والدلال، إلى الرغبة الحقيقية التي هي أول الحب والهوى: رغبة تعذيبي بها لأنها متعذبة بي.

ثم ردتها الطبيعة صاغرة إلى حقائقها السلبية، فإذا الكبرياء فيها إنما كانت خضوعا يتراءى بالعصيان، وإذا الرغبة في تعذيب الرجل إنما كانت التماسا لأن تنعم به، وإذا الإصرار على إخضاع الرجل وإذلاله إنما كان إصرارا على تجرئته ودفعه أن يستبد ويملك. وردتها الطبيعة إلى هذه الحقيقة النسوية الصريحة التي بنيت المرأة عليها شاءت أم أبت وهي أن تعاني وتصبر على ما تعاني!

أما أنا فأحببتها حباً عقلياً، وكان هذا يشتد عليها، لأنه إشفاق لا حب؛ وكانت إذا سألتني عن أمر ترتاب فيه قالت: اجبني بلسان الصدق لا بلسان الشفقة. وكانت تقول: إن في عينيها بكاء لا تستطيع أن تذيله مع الدمع، وسيقتلها هذا البكاء الذي لا يبكى، وقد اتخذت لها في دارها خلوة سمتها: محراب الدمع! قالت: لأنها تبكي فيها بكاء صلاة وحب، لا بكاء حب فقط! ثم طاشت الطيشة الكبرى. . .!

قلت: وما الطيشة الكبرى؟

قال: إنها كتبت ألي هذه الرسالة:

(عزيزي رغم أنفي). . .

ص: 9

(لقد أذللتني بشيئين: أحدهما أنك لم تذل لي، وجعلتني على تعليمي اشد جهلاً من الجاهلة. وقد نسيت أن المرأة المتعلمة تعرف ثم تعرف مرتين -: تعرف كيف تخطئ إذا وجب أن تخطئ، أما المعرفة الثانية فتوهمها أنت فكأني قلتها لك. .

اعلم (يا عزيزي رغم انفي)، أني إذا لم اكن غريزتك رغم انفك، فسآتي ما يجعلك سلفا ومثلا، وستكتب الصحف عنك أول حادث يقع في مصر عن أول رجل اختطفته فتاة!.

وبعد، فقد أرسلت روحي تعانق روحك فهل تشعر بها؟)

قال: فوجمت ساعة وتبينت لي خفتها، وظهر لي سفاهها وطيشها، فأسرعت إليها فجئتها فأجدها كالقاضي في محكمته، لا عقل له الأعقل الحكم القانوني الذي لا يتغير، ولا إنسان فيه ألا الإنسان المقيد بمادة كذا إذا حدث كذا، والمادة كذا حين يكون وصف المجرم كذا. . .!

فقلت لها أهذا هو العلم الذي تعلمته؟ ألا يكون علم المرأة خليقاً أن يجعل صاحبته ذات عقلين إذا كانت الجاهلة بعقل واحد؟

قالت: العلم؟

قلت: نعم، العلم

قالت: يا حبيبي، أن هذا العلم هو الذي وضع المسدس في يد المرأة الأوربية لعاشقها، أو معشوقها! ثم أطرقت قليلاً وتنهدت وقالت: والعلم هو الذي جعل الفتاة هناك تتزوج بإرشاد الرواية التي تقرؤها، ولو انقلب الزواج رواية. . . والعلم هو الذي كشف حجاب الفتاة عن وجهها، ثم عاد فكشف حياء وجهها، وأوجب عليها أن تواجه حقائق الجنس الأخر وتعرفها معرفة علمية. . . . والعلم هو الذي جعل خطأ المرأة الجنسي معفواً عنه مادام في سبيل مواجهة الحقائق لا في سبيل الهرب منها. . . والعلم هو الذي جعل المرأة مساوية للرجل، وأكد لها أن واحداً وواحداً هما واحد وكلاهما أول. . والعلم هو الذي عرى أجسام الرجال والنساء ببرهان أشعة الشمس. . . والعلم يا عزيزي هو العلم الذي محا من العالم لفظة أمس، لا يعرفها وان كانت فيها الأديان والتقاليد. . .

قال صاحبها: فقلت لها: كأن العلم إفساد للمرأة! وكأنه تعليم ممراتها ونقائصها، لا تعليم فضائلها ومحاسنها

ص: 10

قالت: لا، ولكن عقل المرأة هو عقل أنثى دائماً؛ ودائماً عقل أنثى؛ وفي رأسها دائماً جو قلبها، وجو قلبها دائما في رأسها. فإذا لم تكن مدرستها متممة لدارها وما في دارها، تممت فيها الشارع وما في الشارع

العلم للمرأة، ولكن بشرط أن يكون الأب وهيبة الأب أمرا مقرراً في العلم، والأخ وطاعة الأخ حقيقة من حقائق العلم، والزوج وسيادة الزوج شيئا ثابتاً في العلم، والاجتماع وزواجره الدينية والاجتماعية قضايا لا ينسخها العلم. بهذا وحده يكون النساء في كل أمة مصانع علمية للفضيلة والكمال والإنسانية، ويبدأ تاريخ الطفل بأسباب الرجولة التامة، لأنه يبدأ من المرأة التامة

أما بغير هذا الشرط فالمرأة الفلاحة في حجرها طفل قذر، هي خير للأمة من اكبر أديبة تخرج ذرية من الكتب. . .

أنظر - (يا عزيزي رغم أنفي) - هذه الرسالة جاءتني اليوم من صديقتي فلانة الأديبة ال. . . فاسمع قولها:

(وأنا أعيش اليوم في الجمال، لأني أعيش في بعض خفايا الحبيب. .) وفي الحياة موت حلو لذيذ؛ عرفت ذلك حينما نسيت نفسي على صدره القوي، وحينما نسيت على صدره القوي صدري. . .)

أسمعت يا عزيزي؟ إن كنت لما تعلم أن هذا هو علم اكثر الفتيات المتعلمات حين يكسد الزواج - فاعلمه. ومتى عمى الشعب والحكومة هذا العمى، فإن حرية المرأة لا تكون أبدا إلا حرية الفكرة المحرمة!

قلت لصاحبنا: ثم ماذا؟

قال: ثم هذا. . . ودس يده في جيبه فأخرج أوراقاً كتب فيها رواية صغيرة أسماها: (الطائشة)

(الرواية في العدد الآتي)

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 11

‌لوكريسيا بورجيا

صور من عصر الأحياء

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كانت لوكريسيا إلى جانب هذه الرعاية الأدبية التي تبذلها لأقطاب الشعر والأدب، تعاون زوجها في حكم ولايته معاونة قيمة؛ وكانت تتولى إدارة الشؤون العامة أثناء غيابه، وتبدي في تصريفها حزماً وبراعة

وكان زواجاً موفقاً في البنين، فقد رزقت لوكريسيا بغلامين أحدهما في سنة 1508 ويدعى هرقل، والثاني في العام التالي ويدعى ايبوليت، ورزقت بعد ذلك بعدة أعوام بابنة دعيت ألينور، فغلام ثالث يدعى فرنشيكسو

وخاضت إيطاليا مدى حين حروباً أهلية طاحنة، وحملت فيرارا قسطها من هذه المعارك، وتقلبت في صعاب وأزمات شديدة، ولكن لوكريسيا كانت في هذه الأعوام العصيبة مثال الثبات والجلد، وكانت تعمل على تخفيف آلام الشعب ما استطاعت، وكان الشعب يحبها ويعتبرها كالأم الرؤوم

وكانت لوكريسيا عندئذ في عقدها الرابع، أماً ناضجة، وكأنما طوت كل مراحل هذه الحياة فتية، وكانت قد اختتمت منذ بعيد هذا العهد الضاحك الذي كان قلبها يشع فيه مرحاً وغبطة، واستقبلت عهداً جديداً تسوده الرزانة والخطورة، ويسوده الزهد والترفع عن متاع هذه الحياة، فكانت في أعوامها الأخيرة في فيرارا تذهب كل صباح إلى (المعترف)

أجل، كانت لوكريسيا تقترب بسرعة من الخاتمة المحتومة، ففي 14 يونيه سنة 1519 وضعت لوكريسيا طفلة ميتة، وكانت في اشهر حملها الأخيرة تشكو آلاماً مبرحة؛ وكان الوضع هو الضربة القاضية، إذ اشتدت الآلام والمرض، وشعرت بقضائها يدنو؛ فأملت في يوم 22 يونيه خطاباً وجهته إلى البابا ليون العاشر، وفيه تلتمس من البابا أن يباركها في عبارات بليغة مؤثرة؛ وبعد ذلك بيومين فقط، كان القضاء المحتوم، وصعدت إلى بارئها تلك الروح الوثابة الساطعة، وأغلقت لوكريسيا بورجيا عينيها الساحرتين إلى الأبد، وقد أشرفت فقط على الأربعين من عمرها

هكذا كانت حياة تلك التي أثارت في عصرها بشخصيتها الساحرة وحياتها الساطعة كثيراً

ص: 13

من الحب والعطف، والنقمة والروع؛ ثم غدت سيرتها بعد ذلك على كل العصور مستقى لكثير من القصص الشائق المثير معاً

والآن، وقد فرغنا من تتبع هذه الحياة في أدوارها المختلفة، نعود فنحاول أن نتلمس فيها مواطن الحقيقة والخيال

هل كانت لوكريسيا بورجيا تلك التي تصفها الرواية المعاصرة شيطاناً للرذيلة والإثم؟ وهل كانت تلك البغي السافلة التي تتقلب بين اذرع أبيها وأخويها؟ أم هل كانت ضحية اتهام شائن تمليه الخصومة والحقد؟

إن هذه التهم الشائنة التي تنسبها الرواية والقصة إلى لوكريسيا بورجيا، والتي أشرنا أليها فيما تقدم ترجع إلى الروايات المعاصرة ذاتها، وهذا ما يسبغ عليها مسحة من القوة؛ وقد رأينا كيف أن بور كارت مدير التشريفات البابوية يثبتها في مذكراته كوقائع حقيقية، وقد كان بور كارت بمركزه واتصاله المستمر باسكندر السادس وأفراد أسرته، ممن يستطيعون الوقوف على الحقائق من مصادرها

وقد حذا حذو بور كارت عدة من المؤرخين والرواة المعاصرين مثل جويشارديني المؤرخ والسياسي البارع، وقد كان من أعلام العصر؛ فهو يردد في كتابه (تاريخ إيطاليا) معظم التهم والآثام التي نسبت إلى لوكريسيا وإلى إلهها

ومن أدلة الاتهام المعاصر أيضاً وثيقة خطيرة، هي خطاب كتب في سنة 1501، ووجهه كاتبه إلى سيلفيو سافيللي، وهو أحد النبلاء الإقطاعيين الذين نزع اسكندر السادس أملاكهم؛ وكان ذلك الحين يقيم في بلاط إمبراطور ألمانيا مستجيراً به؛ ولم يعرف كاتب الخطاب، ولكن ذكر في ختامه أنه حرر في تار انتو في المعسكر الملكي (الإسباني)

وفي هذا الخطاب يعدد الكاتب آثام اسكندر السادس وآل بورجيا، ويتحدث عن أطماعهم وجرائمهم السياسية والاجتماعية، وعما يرتكبونه من صنوف العيث والفجور والهتك، وعن انتهاكهم لكل الحرمات الدينية والاجتماعية وسحقهم لكل مبادئ الحياة والحشمة؛ ويتحدث بنوع خاص عن شيزاري بورجيا وجرائمه الدموية، وعن لوكريسيا وعلائقها الأثيمة مع أبيها أخويها، وعن الحفلات الخليعة الشائنة التي يقيمها البابا وأبناؤه، ويخص بالذكر حادثة الليلة العارية التي اجتمع فيها خمسون من غانيات رومة عراة أمام البابا وأولاده وارتكب

ص: 14

فيها من صنوف الفحش المثير ما ارتكب وما أشرنا إليه فيما تقدم؛ ويتحدث بوجه عام عن حالة المجتمع الروماني في ذلك الحين وما بثه إليه آل بورجيا من صنوف الفساد والآثم والروع؛ كل ذلك في إفاضة ومنطق قوي يدل على تمكن الكاتب من الشؤون التي يتناولها

وقد ترجم هذا الخطاب الذي يعرف بخطاب (سافيللي) إلى معظم اللغات الأوربية ونشر في سنة 1502 في جميع العواصم، وكان له وقع هائل في إيطاليا، وفي أوربا كلها؛ وسجلته أيضا جميع التواريخ والروايات المعاصرة

ويرى المؤرخ الألماني جريجوروفيوس في كتابه (تاريخ رومة في العصور الوسطى) في هذا الخطاب وثيقة حقيقية تمثل صورة رومة في عصر آل بورجيا، وأنه لا تفضلها وثيقة أخرى في تصوير سياستهم الفاجرة، وما بثوه من الروع في المدينة على يد أعوانهم وجواسيسهم

وترى هذه التهم ماثلة لا في الروايات المعاصرة فقط، ولكن في كثير من الكتب والرسائل السياسية المعاصرة، وفي شعر بعض أكابر الشعراء المعاصرين

ومازالت سيرة آل بورجيا، وسيرة لوكريسيا، بما يتخللها من تلك الصور المروعة المثيرة، حتى العصر الحديث مستقى القصص والشعر؛ وقلما يخترع القصص أو الشعر فيها شيئاً لم تدونه الروايات المعاصرة؛ ومع ذلك فإن هذه القطع القصصية أو الشعرية تقوم على كثير من الوقائع الغرقة أو الخيالية المحضة التي لا يستطيع المؤرخ أن يقف بها مثال ذلك ما كتبه اسكندر ديما عن (آل بورجيا) في كتابه (الجرائم الشهيرة)، فقد تناول سيرة آل بورجيا ولوكريسيا في فصل طويل فياض بالوقائع والصور المدهشة، وقدم لنا اسكندر السادس، وابنه شيزارى، وابنته لوكريسيا في أروع الصور وأسفلها: طغمة من الأبالسة، تسحق الحياة البشرية تحت أقدامها، وتبث الدمار والموت في أرجاء المدينة الخالدة، بالسم والخنجر وكل وسيلة آثمة؛ وقدم ألينا لوكريسيا في صورة بغي سافلة، تعاشر آباها وأخويها، وجمعاً كبيراً من الصحب والخلان

ووضع فكتور هو جر قطعته المسرحية الخالدة (لوكريسيا بورجيا) فجاءت خلاصة من تلك الروايات المغرقة المعاصرة، ولا بأس من أن نقدم خلاصتها ليرى القارئ كيف أن الشاعر لم يلحظ في مادته إلا أن تكون مثار السحر والروع:

ص: 15

هي قطعة نثرية في ثلاثة فصول، خلاصتها أن عدة سفراء فتيان من فلورنس شهدوا في مدينة البندقية (فينزيا) مرقصاً محجباً، كانت تمثل فيه لوكريسيا بورجيا محجبة؛ وكان معهم فتى يدعى جنارو، وهو فتى مجهول النشأة لا يعرف له أماً ولا أباً. وجلس الفتية الفلرنسيون يتحدثون عن آل بورجيا ويرددون ما يذاع عنهم من قصص القتل والأثام الشنيعة؛ وجلس جنارو إلى جانبهم وقد أخذته سنة من النوم؛ وبعد هنيهة قدمت امرأة محجبة، وهوت على جنارو تقبله فاستيقظ من نومه. من هي؟ هي لوكريسيا، وهي أمه، وهو ولدها الطبيعي؛ ولم تستطع حين رؤيته أن تقاوم هذه اللذة. ورفعت لوكريسيا قناعها خلسة؛ ولكن الفتية الفلرنسيين رأوها وعرفوها، وظنوها خليلته، واعتزموا زيارتها معه في فيرارا مقامها. وظن زوجها (دوق فيرارا) أن جنارو صاحبها، فأمر بالقبض عليه، وأراد أن يرغم لوكريسيا على إعدامه بيديها بحجة أنه أهان اسم آل بورجيا وذلك بإزالة بعض حروفه المنقوشة على شرفة القصر؛ ونفذ الدوق مشروعه فعلاً، فأرغم لوكريسيا على أن تضع السم في كأس جنارو، وان تقدمه أليه. ولما شرب الفتى الكأس المسمومة، تركهما الدوق؛ فبادرت لوكريسيا إلى إنقاذ جنارو، وقدمت له الترياق؛ فتردد الفتى لأنه كان يعتبرها اشد أجراما من الدوق، ولكنه شرب الترياق أخيرا ونجا من الموت أرادت لوكريسيا أن تنتقم من الفتيان الفلرنسيين الذين عرفوها وأذاعوا اسمها، فاحتالت لدعوتهم إلى العشاء عند إحدى صاحباتها، وبينما هم في ارق لحظات المرح، إذا بهم يسمعون أناشيد الحزن، ومن ورائهم صف من الرهبان والنعوش، فاعتقد الفتيان أنها مزحة مدبرة، ولكنها كانت الحقيقة الرائعة؛ ذلك أنهم تناولوا السم في الطعام والشراب، ولم يبق بينهم وبين الموت سوى لحظات، ولكن شاء نكد الطالع أن يكون بينهم جنارو! فتقدم إلى لوكريسيا يطلب نعشه؛ فذهلت لوكريسيا، وحاولت أن تبادر إلى إنقاذه، ولكنه لم يقبل، ولم يمهلها حتى اخرج خنجره، وما كاد يطعنها حتى صاحت:(إني أمك!)

هذه هي خلاصة قطعة هوجر المسرحية الخالدة التي مازالت منذ قرن تسحر ملايين النظارة، وهي كما ترى قطعة من الخيال المغرق لم يراع الشاعر فيها شيئاً من التاريخ الحق

ومع ذلك فإن ما كتبه اسكندر ديما وهو جر إنما هو أنموذج فقط لمئات السير والقصص

ص: 16

التي كتبت عن لوكريسيا بمختلف اللغات، وكلها نماذج للخيال المغرق والقصص المثيرة

بيد أننا نرى في عصرنا مؤرخاً بارعاً هو العلامة الفرنسي فرانز فونك برنتانو، يحاول في كتابه الذي أشرنا إليه من قبل اكثر من مرة أن ينتزع شخصية لوكريسيا بورجيا من تلك الغمر المروعة التي أحاطت بسيرتها، وان يمحص تلك الروايات المغرقة التي امتزجت بحياتها، وان يرد كثيراً من التهم التي نسبت إليها

وفي رأي هذا المؤرخ البارع، الذي يدعم عرضه في معظم الأحيان بمنطق خلاب، أن التاريخ قد ظلم لوكريسيا أشنع ظلم، وان هذه الفتاة التي صورتها الروايات المعاصرة بغياً فاجرة، لم تكن سوى ضحية وأداة ذلول في يد أبيها وأخيها، وأنها كانت تدفع دفعاً إلى مشاطرة هذه الحياة المثيرة التي كانت تنتظم في قصر الفاتيكان، ولكنه يرد عنها تهم الفجور الشنيعة التي نسبت إليها؛ ولاسيما تهمة عشرة أبيها وأخيها، ويرتاب في أقوال بور كارت وغيره من الرواة المعاصرين، ويرى أن هذه التهم ترجع في الأصل إلى الحملة القاذفة التي شهرها جان سفورزا زوج لوكريسيا الأول عليها انتقاماً لفصله منها، والى الحملات القاذفة التي دبرت أيضا ضدها وضد آلها في بلاط نابل على اثر مقتل زوجها الثاني الفونسو الأرجوني، وهي حملات ظهر أثرها في نظم الشعراء المعاصرين الذين يغذيهم بلاط نابل

ويصور لنا برنتانو لوكريسيا فتاة ناعمة وافرة السحر والرقة، وافرة الذكاء والحزم، ويصورها لنا في فيرارا أميرة رفيعة الخلال تحمي الأدب والفنون، ويكاد يصورها لنا في أعوامها الأخيرة قديسة فياضة الورع والتقوى

وكتاب برنتانو قطعة بديعة من التدليل التاريخي، وقد يدفع بدقة منطقه كثيراً من التهم التي نسبت إلى ابنة اسكندر السادس؛ ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يهدم كثيراً من العناصر الأساسية التي تمثل في هذا الاتهام

ومع إننا بالرغم من محاولة برنتانو البديعة، مازلنا نؤثر ناحية الاتهام في سيرة لوكريسيا بورجيا، فأنا نميل مع برنتانو إلى الاعتقاد بأن كثيراً من الإغراق والمبالغة يشوب تلك الصور المروعة الآثمة التي تركتها لنا سير العصر، عن تلك الشخصية الباهرة المظلمة معاً

ص: 17

(تم البحث)

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 18

‌التربية الخلقية والاجتماعية في المدرسة

للأستاذ فخري أبو السعود

في كلمة سابقة بهذا العنوان ذكرت أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق مدارسنا الغرض الأسمى من التربية - وهو التربية الخلقية الاجتماعية - هي خلق مجتمع راق في المدرسة يساهم فيه الطالب ويكتسب فيه من محمود الصفات الخلقية ومقتضيات الحياة الاجتماعية ما تخرجه إلى المجتمع عارفاً بمطالبه، مزوداً بالمؤهلات التي تساعده على الاندماج فيه والنجاح في معتركه

وأعود الآن إلى بيان مزايا هذا المجتمع الواجب خلقه في المدرسة، فمزاياه لا تقتصر على اختلاط الطلاب بعضهم ببعض لحميد الأغراض، بل تشمل أيضا اختلاطهم بالمعلمين، وهو أمر لازم للتربية الصحيحة؛ إذ من طبيعة الناشئين الاقتداء بمن اكبر منهم واخبر، ومن طبيعة المواهب الإنسانية العقلية والخلقية ألا تنمو وتسمو إلا بتقليد أولئك الذين ينظر إليهم الناشئ نظرة إكبار، ويحسن فيهم الاعتقاد، وتنزع نفسه إلى التشبه بهم وهذا الاختلاط الجم المزايا بين الطلاب ومعلمهم سائد في معاهد إنجلترا من المدارس الصغيرة إلى الجامعات الكبيرة، وأثره في تربية الناشئة الإنجليزية اعظم من اثر كل ما يلقى في حجرات الدراسة من معلومات؛ فالمعلمون يعاملون طلابهم معاملة الزملاء الصغار أو الأقرباء الناشئين، وبهذه الروح يناقشونهم في أوقات الدراسة، ويشاركونهم ألعابهم وحفلاتهم، ويكن المعلمين لطلابهم العطف، ويكن الطلاب لمعلميهم الاحترام، وتسود معاملة الفريقين البساطة التامة، واعظم بما لذلك من اثر في تربية الرجولة والصراحة والاعتداد بالنفس بين الناشئين.! أما في مدارسنا فالهوة بين المعلمين والطلاب سحيقة، والنفرة شديدة: لا يفهم المعلم من نفسية كل طالب شيئاً كثيراً، ولا يعطف ألا النادر منهم، ولا يعلم الطلاب عن معلمهم غير ما يثرثره عليهم من معلومات لا تنتهي إلا بانتهاء السنة المدرسية، ولا يضمرون له حباً ولا ميلاً، بل يستحكم العداء بين الفريقين أحيانا إذا كان الطلاب ضعفاء في مواد الدراسة، أو كان المدرس شديدا ملتزماً للجد، وقد استحال أن يسود الود الذي هو اجدر أن يسود بين المربي والمتربي، فمن معلمينا من يأبى من التبسط مع طلابه، ومنهم من يود لو فعل فيرده علمه بما يجر إليه ذلك من فساد درسه، إذ يندفع الطلاب وراء الهزل ويسيئون المسلك

ص: 19

وينسون الدرس، لان ناشئتنا من الجهل بآداب الاجتماع بحيث لا يعلمون معنى القصد في الأمور، ولا يقنعون إذا تركوا وشأنهم بما دون الإمعان في العبث

ونتيجة هذه الحال السائد في مدارسنا أن معظم الطلاب - سواء متقد موهم في العلوم ومتخلفوهم - يغادرون المدارس وهم مزيج من الخجل والتبجح والغرور والنفاق، إذا انفرد أحدهم رايته على جانب كبير من الخجل والعجز والحصر، وإذا اجتمعت فئة منهم ارتد خجلهم تبجحاً وحصرهم صخباً وعجزهم جرأة على الفساد؛ وبينما تؤدي العلاقة بين المعلم والمتعلم في إنجلترا إلى صداقة مثمرة في مستقبل الحياة تنبت الصلة بين المعلم والطالب عندنا بانتهاء العام الدراسي، حتى لقد يتقابل الاثنان فيتغاضى الطالب عن معلمه، أو يخاطبه في لهجة جريئة متطاولة، وفي كلتا الحالين لا يأسي المرء ألا على ما بهذا المسلك من دلالة على فشل التربية وعبث المجهود المنفق فيها.

والعلة في هذا ترجع إلى نظام مدارسنا التي تجعل ملء الرؤوس بالمعلومات الغاية الكبرى بل الوحيدة من التعليم، فتشغل كل أوقات المدرسة بها، فيرى المدرس - المرهق ببرنامج حافل - وقته أضيق من أن يصرف جانباً منه في مباسطة طلابه ومناقشتهم في شتى الشؤون العامة التي تمت إلى الحياة وتشغل بال كل ذي حظ من الإنسانية ونصيب من الثقافة، فتنقطع الصلة الإنسانية بين المعلم والطالب، ويترك الطلبة وأنفسهم يشبعون تلك الرغبة الفطرية في التنافس وتبادل الأفكار بثرثرتهم في أوقات الفراغ - وأوقات الدروس إن استطاعوا - ولما كانوا قد عدموا إرشاد المدرس بفكره الذي هو أرقى وشخصيته التي هي أقوى من شخصياتهم وأفكارهم فإنهم يتجهون عادة إلى السفساف من الأمور، ويألفون الثرثرة الفارغة التي لا نهاية لها ولا غاية، ويختارون قدواتهم في الحياة من خارج المدرسة أخذيها عن شخصيات قد لا تكون جديرة بالإعجاب أو محمودة التقليد

أما مخالطة الطلاب لمعلميهم فأنها - فضلاً عن صقلها لآداب المعاملة وحسن الذوق بينهم وعما تنميه فيهم من صفات الرجولة - تفتق أذهانهم وتسمو بهم إلى درجات من التفكير عالية، وتلقي ضوءاً على مواهب كل منهم وميوله، وتفسح أمامهم المطامع، وتبعث فيهم شتى الغايات يجعلونها نصب أعينهم في الحياة، على حين لا تتجاوز مطامع ألا كثرين منهم اليوم اجتياز الامتحان ونيل الشهادة

ص: 20

ولقد عهد في السنوات الأخيرة إلى المعلمين بمدارسنا بمراقبة الجمعيات المدرسية، ولكن هذه الجمعيات أنشئت دون أن يفسح لها موضع من أوقات الطلاب والمدرسين المغلولي الأيدي في المناهج الطويلة، فلم تجتذب من الطلاب إلا القليلين، وزهد في رقابها المدرسون لأنها جاءت زيادة على أعمالهم المتراكمة، فلم تؤدي تلك الجمعيات الأغراض المنشودة، ولم تكن غير إرهاق على إرهاق، وستظل كذلك ما لم تزحزح المواد الدراسية عن مكانها القدسي الذي تتبوأه في مدارسنا

هذا، وليس أن يطلب من المدرس أن يكون مثلاً أعلى في الإنسانية، أو بحراً في العلم، أو نصف آله، لكي يؤدي مهمته في تربية الطلاب الخلقية والاجتماعية، بل يكفي لينهج بهم النهج القويم أن يكون مستقيم السيرة متنور الذهن مخلصاً في عمله، وهذا هو الغالب بين مدرسينا، وما يحتاج الأمر ألا إلى رفع عبء المواد الدراسية التي تثقل كواهل المعلمين والمتعلمين وتشغل كل أوقاتهم، وإفساح المكان لمجتمع في المدرسة يكون صورة صغيرة للمجتمع العام خارجها

إن إيجاد هذا المجتمع الحي الراقي بين جدران المدرسة هو الوسيلة الوحيدة لنجاح مهمتها، وإعداد الناشئين للمجتمع الأكبر خارجها، وترقية ذلك المجتمع الخارجي جيلاً بعد جيل، ولن تؤدي مدرسة مهمة التربية حتى يحيا الطلاب فيها حياة اجتماعية، ولن يؤدي المعلم واجبه حتى يمنح الفرصة لمخالطة طلابه مخالطة الإنسان المستنير للإنسان المستنير، ويحل هذا محل العلاقة الإلية الجافة القائمة بينهما اليوم، وبهذه الحياة الاجتماعية المدرسية يؤدي المدرس وظيفته (الروحية) التي أشار أليها تقرير معالي وزير المعارف

فخري أبو السعود

المدرس بالعباسية الثانوية

ص: 21

‌المنسوجات الإسلامية المصرية ومعرض جوبلان

‌بباريس

للدكتور زكي محمد حسن

الأمين العلمي لدار الآثار العربية

افتتح صاحب الفخامة رئيس الجمهورية الفرنسية في 17 من مايو معرضاً للمنسوجات الإسلامية المصرية أقامته متاحف جوبلان للقطع الأثرية التي بعثت بها إلى باريس دار الآثار العربية من مجموعتها النفسية، وزاد المعرض نجاحاً أن صاحب الجلالة مولانا الملك كان قد تفضل فأذن لجناب المسيو (فييت) أن يأخذ لهذا المعرض سبع عشرة قطعة من المجموعة الملكية الفاخرة، فأتيح للجمهور الباريسي أن يعجب ببدائع منتجات الفن الإسلامي، وان يرى من آيات صناعة النسج الإسلامية قطعاً منقطعة النظير ويعرف القراء أن صناعة النسيج كانت زاهرة على ضفاف النيل منذ العصور الأولى، وأنها سارت في سبيل التقدم بخطى واسعة، حتى جاء العصر القبطي فتأثرت بتيارين من المؤثرات البيزنطينية والساسانية

ثم فتح العرب مصر، واعتمدوا في أول الأمر على الصناع والفنانين الوطنيين، وأدى ذلك إلى خلق فن إسلامي جميل كان له ازدهار، وكانت له حياة طويلة على عكس التعاون بين الرومان ورعاياهم، ذلك التعاون الذي سار بالفن الهللنستي في طريق السقوط والاضمحلال

وظهر في صناعة النسج الإسلامية في مصر تطور منتظم بدا بالاستغناء شيئاً فشيئاً عن الرسوم الحيوانية والآدمية التي كان الكلف بها عظيماً في العصر القبطي، وأخذت الكتابة والزخرفة النباتية والهندسية تلعبان دوراً هاماً في تزيين الأقمشة الإسلامية على أن فن النسج لم يطبع في مصر بطابع إسلامي ظاهر ألا ابتداء من العصر الفاطمي، وفي المتاحف الكبيرة والمجموعات الأثرية كثير من القطع التي ترجع زخرفتها إلى عصر الانتقال من الطراز القطبي إلى الطراز الفاطمي، والتي قد يصعب في بعض الأحيان تمييزها من القطع القبطية. أما القطع التي عليها زخارف طولونية بحتة فإن وجودها نادر، وعلى عكس ذلك القطع التي ترجع إلى عصور الفاطميين والأيوبيين والمماليك

ص: 22

وصناعة النسج في مصر الإسلامية كانت على نوعين: صناعة ملكية في مصانع حكومية تسمى طرازاً، وصناعة أهلية عليها رقابة حكومية شديدة

أما المصانع الحكومية أو الطراز فإن وجودها منذ العصر العباسي يثبته ما وصل ألينا من مصنوعاتها. والمعروف أنه كان هناك نوعان من هذه المصانع الحكومية: الأول طراز الخاصة، وكان لا ينتج ألا للخليفة ورجال بلاطه وخاصته، والثاني طراز العامة، وكان بالرغم من تبعيته لبيت مال الدولة ينتج للتجارة العامة، فضلاً عن إنتاجه لبلاط الخليفة أو الأمير أن دعت الحال.

ولفظ طراز مشتق من الفارسية (ترازيدن) بمعنى التطريز وعمل المدبج؛ واصبح بعد ذلك يدل على الملابس الملكية وما يشبه (ملابس التشريفة)، ولاسيما إذا كان يحليها شيء من التطريز أو أشرطة من الكتابة. وما لبث مدلول هذا اللفظ إن اتسع حتى انتهى في العربية والفارسية إلى الدلالة على المصنع والمكان الذي تنسج فيه مثل هذه الأقمشة

واحتكار الحكومات لصناعة النسج قديم لسنا نعرف أوليته، ولسنا نستطيع أن نحدد تماماً أين بدأ نظام الطراز على النحو الذي نعرفه في الفنون الإسلامية. فالعلماء مختلفون في اصله، فريق يذهب إلى أنه نشا في بيزنطية، وفريق يظنه أيراني الأصل، كما يحسبه آخرون بابلياً آشوريا

على أن مصر عرفت في عهد الفراعنة شيئاً من احتكار صناعة النسج، فقد كانت المصانع ملحقة بالمعابد، وكانت منتجاتها مشهورة في الشرق الأدنى كله، وكانت تدر على المعابد أرباحا وافرة كان الفراعنة يستولون على جزء منها ويحتفظ كهنة المعابد بما يبقى

على أن نظام الطراز ما لبث أن انتشر في كافة الأقطار الإسلامية، كسورية والعراق وإيران واسيا الصغرى، وأسبانيا وجزيرة صقلية

وكان طراز الخاصة يعمل في نسج الأقمشة اللازمة للخليفة ولكبار رجال الدولة، وحاجة الخلفاء والأمراء إلى الكثير من تلك الأقمشة ناشئة من العادة القديمة التي اتخذوها في الخلع على رجال حاشيتهم وعلى غيرهم من أفراد الرعية مكافأة لهم وإظهارا لرضاهم عنهم

وفضلاً عن ذلك كان الخلفاء والأمراء يتبارون في إرسال الكسوة السنوية إلى الكعبة الشريفة من المنسوجات النفيسة التي كانت تصنع عادة في طراز الخاصة بمصر

ص: 23

لذلك لم يكن غريباً أن يعنى الخلفاء والأمراء بكتابة أسمائهم على هذه الأقمشة الثمينة بلحمة من الذهب أو الفضة أو الخطوط المتعددة الألوان تخليداً لذكراهم ووثيقة لمن خلعت عليه إظهارا لرضاء الأمير، أو على تولي إحدى الوظائف الكبرى في الدولة

وكانت الكتابة على الأقمشة تشمل اسم الخليفة وألقابه وبعض عبارات الأدعية، وكثيراً ما كان يذكر فيها اسم المدينة التي فيها الطراز، واسم الوزير، وصاحب الخراج، وناظر الطراز، ومثل ذلك ما كتب على قطعة نسجت للخليفة الأمين محفوظة الآن بدار الآثار العربية ونصه (باسم الله بركة من الله لعبد الله الآمين محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مما أمر بصنعته في الطراز العامة بمصر على يدي الفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين)

أما الصناعة الأهلية فكانت تحمل ضرائب فادحة وتعاني رقابة الحكومة في مراحلها المختلفة، فكان لزاماً أن تختم الأقمشة بالخاتم الرسمي، ولم يكن يتولى البيع أو التجارة ألا تجار تعينهم الحكومة، وعليهم تقييد ما يبيعونه في سجلات رسمية، كما كان لف الأقمشة وحزمها وربطها وشحنها يقوم به عمال حكوميون يتناول كل منهم ضريبة معينة

وقد لوحظ أن المراكز الرئيسية لصناعة النسج في مصر كانت في اكثر الأحيان الجهات التي يكثر فيها الأقباط؛ وكان القطن والكتان ينسجان في البلاد المصرية المختلفة ولاسيما في الدلتا يتنيس والإسكندرية وشطا ودمياط ودابيق والفرما، كما اشتهرت أيضا بنسجها مدينة البهنسا

أما الأقمشة الحريرية فكانت تنسج في الإسكندرية وفي دابيق؛ وكانت هناك أيضا مصانع للنسج في مدينتي اخميم وأسيوط اللتين كانتا مركزين هامين لصناعة النسج في العصر القبطي، وكانتا تصدران إلى بيزنطة والى بابوات روما كثيراً من الأقمشة النفيسة التي كان يوهب جزء كبير منها إلى الكنائس والأديرة وأما الحرير الصافي فالظاهر أن المصانع المصرية لم تشتغل بنسجه قبل عصر المماليك

وقد كان متحف فكتوريا والبرت بلندن، والقسم الإسلامي من متاحف برلين، يفتخران بامتلاكهما اكبر مجموعتين من الأقمشة الإسلامية النفيسة، حتى كشفت دار الآثار العربية في السنين الأخيرة عددا كبيرا جدا من القطع في المقبرة القديمة بين عين الصيرة

ص: 24

والبساتين، إذ كانت الجثث في المقبرة المذكورة ملفوفة في أقمشة على بعضها أسماء خلفاء عباسيين أو فاطميين، وأصبحت دار الآثار العربية بعد هذه الاكتشافات أغنى متاحف العالم في الأقمشة الإسلامية، كما كانت أغناها في الخشب وفي مشكوات المساجد المموهة بالمينا

واكبر الظن أن اكثر ما وجد في الحفريات المصرية من منسوجات قد صنع في مصر نفسها؛ ولسنا نجهل أن الاتصال كان كبيراً بين سورية ومصر في العصور القديمة، وان هذا الاتصال لم يضعف في العصر الإسلامي ألا في فترات قصيرة، وان مقادير كبيرة من الزجاج المموه بالمينا ومن الأواني النحاسية المكفتة بالفضة نقلت إلى مصر، وأنه من المحتمل أن يكون ذلك قد قدر لبعض المنسوجات، لان مصر نفسها كانت من اكبر المراكز لصناعة المنسوجات في الشرق الأدنى

وكانت كذلك صقلية خاضعة للخلفاء الفاطميين في شمال أفريقية، ثم ضم الفاطميون إلى ملكهم مصر وسورية، وكانت صناعة النسج زاهرة في جزيرة صقلية حين حكمها العرب، حتى لقد يصعب كثيراً التمييز بين الأقمشة المنسوجة في مصانعها والأقمشة المنسوجة في مصر وسورية. وان صح ما ذكره المقريزي من أن ابنة المعز لدين الله تركت ثلاثين آلف قطعة من نسج صقلية فإن ذلك يدل على كثرة ما كانت تنتجه المصانع الصقلية، ويثبت أن مصر كانت تستورد منها بعض الأقمشة النفيسة، ولكنا نستبعد أن تكون الواردات من الأقمشة الأجنبية إلى مصر قد بلغت شيئاً كثيراً ومهما يكن من شيء فإن تطور صناعة النسج المصرية كان بطيئاً في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة، وظلت الزخارف والتقاليد الفنية القبطية غالبة في العصر الإسلامي، فترة قطعاً كثيرة من الصوف أو الكتان ذات زخارف متعددة الألوان أكثرها طيور أو حيوانات أو أشكال آدمية صغيرة في جامات بيضيه الشكل أو متعددة الأضلاع وفيها أشكال هندسية أولية وخطوط متقاطعة ودوائر متماسة، وقد يكون على بعضها صور طيور متقابلة، أو يولي كل منها الأخر ظهره، وكل هذه القطع عليها مسحة قبطية ظاهرة، أكثرها منسوج بطريق (التابستري) - التي لا مجال هنا لشرح تفاصيلها الفنية وتظهر الكتابة على المنسوجات في القرن التاسع، بل هي تظهر في القرن الثامن، وان لم يكن لدينا من دليل يؤيد ذلك ألا القطعة المحفوظة بمتحف فكتوريا والبرت والتي عليها اسم (مرون أمير المو. .) وفي اعتقادنا أن المقصود هنا

ص: 25

مروان بن محمد أخر خلفاء بني أمية وقد أحصى الأستاذ فييت ما نعرفه في المتاحف والمجموعات الأثرية من قطع المنسوجات التي عليها أسماء الخلفاء العباسيين، فوجد أن هناك واحدة باسم مروان، وواحدة باسم هارون الرشيد، وواحدة باسم الآمين، واثنتين باسم المأمون، وواحدة باسم الواثق، واثنتين باسم المتوكل، واثنتين باسم المستعين، وواحدة باسم المعتز، وواحدة باسم المهتدي، وتسع عشرة قطعة باسم المعتمد، وإحدى وعشرين للمعتضد، وخمس عشرة للمكتفي، وتسعاً وثمانين ومائة للمقتدر، وإحدى عشرة للقاهر، وأربعا وخمسين للراضي، وسبعاً وعشرين للمتقي، أربع قطع للمستكفي، وخمساً وأربعين ومائة للمطيع

وفي العصر الطولوني كانت التقاليد الزخرفية القديمة والقبطية لا تزال تسود صناعة النسج. على أن هناك بعض أقمشة عليها زخارف طولونية ظاهرة على النحو الذي نعرفه في زخارف الجامع الطولوني، والأخشاب التي ترجع إلى هذا العهد، وأوضح ما تكون هذه الزخارف على المنسوجات في قطعة بمتحف برلين نشرها الدكتور رسومها بما يسمونه الطراز الأول من زخارف سامرا، وبالزخارف الجصية في المنزل الذي كشف في حفريات دار الآثار العربية منذ ثلاث سنين. وليست هذه القطعة في حالة جيدة من الحفظ، فإن زخرفتها قد سقطت في بعض أجزائها، ولكن من حسن الحظ أن متحف ليزج يمتلك قطعة أخرى من القماش نفسه، زخرفتها احسن حفظاً، واكثر ظهوراً

وفي دار الآثار العربية قطع عليها رسوم شديدة الشبه بالزخارف الطولونية مما يجعلنا نرجع أنها ترجع إلى هذا العهد. واجمل هذه القطع معروض الآن في متحف جوبلان

وتشمل مجموعة دار الآثار العربية عدداً من قطع النسج بأسماء الأمراء الطولونيين. والمعروف أن الجزية التي كانت ترسلها مصر إلى الخليفة العباسي، ثم الهدايا التي أرسلها ابن طولون إلى الخليفة المعتمد، والتي أرسلها خمارويه من بعده إلى المعتضد، كان فيها شيء كثير من المنسوجات النفيسة؛ ومن هذه القطع واحدة باسم الخليفة المعتمد تاريخها سنة 278هـ (891 م) وتشبه قطعة أخرى باسم المعتمد أيضا وجدتها البعثة الألمانية في سامرا وهي محفوظة الآن بالقسم الإسلامي من متاحف برلين. وهناك قطعة أخرى باسم الخليفة المكتفي بالله، والأمير الطولوني هارون بن خمار يه سنة 291هـ (904 م) وهي

ص: 26

السنة السابقة لسقوط الدولة الطولونية

وظل الخلفاء العباسيين في عهد الإخشيديين يستمدون من مصر اكثر ما يلزمهم من المنسوجات النفيسة المحلاة بكتابات كوفية فيها العبارات والأدعية المعروفة، بيد أن أسماء الوزراء لم تعد تظهر في تلك الكتابات

أما في عصر الدولة الفاطمية فقد عظم اهتمام الخلفاء بصناعة النسج، ويروي المقريزي أن دار يعقوب بن كلس وزير الخليفة العزيز بالله نزار حولت بعده إلى مصنع للنسج، وصارت تعرف باسم دار الديباج، وان وظيفة صاحب الطراز كان لا يتولاها ألا أعيان المستخدمين من أرباب العمائم والسيوف، وكانت تحت أمرته معاونون كثيرون ودار للضيافة تسمى (منظرة الغزالة) لا ينزل ألا فيها إذا ترك مقامه بدمياط أو يتنيس وقدم إلى القاهرة، (فتجري عليه الضيافة كالغرباء الواردين على الدولة فيتمثل بين يدي الخليفة بعد حمل الأسفاط المشدودة على تلك الكساوي العظيمة ويعرض جميع ما معه وهو ينبه على شيء فشيء. . . وله في بعض الأوقات التي لا يتسع له الانفصال نائب يصل عنه بذلك غير غريب منه، ولا يمكن أن يكون إلا ولداً أو أخا فإن الرتبة عظيمة. . .)(خطط المقريزي جزء أول ص 469 - 70)

وقصارى القول أن نظام الطراز بلغ من الجودة والدقة في العصر الفاطمي مبلغاً زاد كثيراً في كمية منتجاته وفي نفاسة نوعها. وقد كانت هناك أصناف من الأقمشة الغالية المشغولة بالحرير لا تنسج إلا للخليفة نفسه، ولكن أفراد الرعية كانوا يحصلون على قطع أخرى نفيسة جداً، فكانت الجلابيب والأقمصة والعمائم والأحزمة تصنع من أقمشة غالية تزينها أشرطة مشغولة بالحرير، اخذ حجمها في الزيادة حتى صارت في القرن الثاني عشر تغطي اكثر الأرضية الكتانية في الأقمشة

وكثيراً ما أمر الخلفاء بصناعة منسوجات فاخرة لإهدائها إلى الأمراء والملوك الذين كانوا يخطبون ودهم أو تربطهم بهم علاقات الصداقة وحسن الجوار

وقد بدأت بشائر العصر الفاطمي تظهر في صناعة المنسوجات الإسلامية في القرن العاشر، فاخذ الميل يزداد إلى الرقة في الزخارف والإبداع في تنسيقها، وسارت الألوان تزداد تدريجياً في الهدوء والتناسق، واصبح في الكتابة كثير من الرشاقة كما كبر حجم

ص: 27

الحروف وصارت سيقانها تتصل ببعضها وينتهي كثير منها في أعلاه بزخارف صغيرة على شكل وريقات شجر تقليدية

وقد زار ناصري خسرو الرحالة الفارسي مصر حوالي سنة 1040 ميلادية واعجب بما ينسج في تنيس من قصب ملون تصنع منه ثياب النساء، وكذلك العمائم والقلنسوات وقال: إن مثل هذا القصب الجميل لا يصنع في أي مكان أخر، وأنه سمع أن أمير إقليم فارس من بلاد إيران أرسل عشرين ألف دينار إلى تنيس ليشتري بها النسج الملكي، ولكن وكلاءه أقاموا في مصر سنين عديدة دون أن يحصلوا على بغيتهم - وروى ناصري خسرو أن مصانع تنيس كانت تنتج نوعاً من القماش يسمى البوقلمون يتغير لونه باختلاف ساعات النهار ويصدره المصريون إلى بلاد المشرق والمغرب

وفي المتاحف والمجموعات الأثرية كثير من الأقمشة بأسماء الخلفاء الفاطميين وخاصة العزيز والظاهر والمستنصر. ولعل أبدعها من مجموعة صاحب الجلالة مولانا الملك باسم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله: الأولى من شاش اسود وعليها كتابة كوفية بحروف كبيرة في سطرين متوازيين مقلوب أحدهما. ونص العلوي منهما (بسم الله الرحمن الرحيم نصر من الله لعبد. . .) والسفلي (الحاكم بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعا. . .) وتحت الكتابة شريط من حرير اصفر فيه رسم ازرق مكرر لطائرين متقابلين (شكل1) والثانية من شاش اسود أيضا وعليها كتابة نصها في كل من السطرين (الله الرحمن الرحيم نصر من الله لعبد الله ووليه المنصور أبى علي الأمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين) وفوق الكتابة شريط من حرير اصفر فيه أيضا رسم ازرق مكرر لطائرين أنظر (شكل2) ومما يلفت النظر في هاتين الطرفتين الملكيتين ما في كتابتهما من الأخطاء بالرغم من إبداع صناعتهما

ومن اكثر المنسوجات الفاطمية ذيوعاً ثلاثة أنواع أقدمها قوامة أشرطة من الطيور أو الحيوانات وسط جامات بيضة الشكل قد يتداخل بعضها في بعض

والنوع الثاني عظم الشغف به في القرن الحادي عشر، وألوانه باهتة ويسود أرضيته لون ذهبي، وتزينه أشرطة وجامات متداخلة قد يكثر عددها، وفيها أيضا رسوم حيوانات أو طيور تقليدية أو أشكال آدمية، أنظر (شكلي3، 4)

ص: 28

والنوع الثالث يمثل القرن الثاني عشر، ويسوده اللون الأزرق الغامض، وتبدأ فيه الحروف الكوفية في الاستدارة لتصبح حروفاً نسخية، كما تظهر في الزخارف الفروع النباتية والأرابسك والحروف النسخية التي لا تكون كلمات ذات معنى

ومن العبارات التي يكثر ورودها على الأقمشة الفاطمية: (الملك لله)، و (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي ولي الله)، و (نصر من الله)، و (العز من الله)

وأما في العصر الأيوبي فإن الزخارف الحيوانية يقل استعمالها وتكثر الكتابة النسخية المشغولة بالإبرة، وكذلك الأشكال الهندسية من مثلثات ومعينات ودوائر. وفي المنسوجات المعروضة بمتحف جوبلان من مجموعة جلالة الملك ومجموعة دار الآثار العربية قطع قد ترجع إلى العصر الأيوبي وان كان الجزم بصحة ذلك ليس من الحكمة، لان بين المنسوجات الأيوبية والمنسوجات التي صنعت في أخر العصر الفاطمي شبهاً كبيراً يجعل من الصعب التمييز بينها

وفي عصر المماليك في القرنين الثالث عشر والرابع عشر قضى على نظام الطراز وضعفت بالقضاء عليه صناعة نسج الكتان، واصبح الأمر يدور حول نسج الحرير وتطريزه؛ وتأثرت الصناعة بمنتجات الشرق الأقصى التي ادخلها عصر المغول في العالم الإسلامي. ولسنا نجهل شهرة الديباج الصيني الذي أشاد ماركوبولو بوصفه في رحلته المعروفة، ووجد بعضه في مصر، كما وجدت أنواع أخرى من الديباج فيها تأثير الصناعة الصينية لدرجة يستحيل معها الجزم بأنها من نسج عمال مصريين، ولاسيما إن تذكرنا ما نعرفه من المصادر التاريخية عن البعثات التي تبودلت بين الصين ومصر لتحمل ما خف حمله وغلا ثمنه من المنسوجات الحريرية النفيسة. ونلاحظ أن الرسوم في النسج المطرز المملوكي تميل إلى استدارة نظراً لأسباب فنية يطول شرحها، وأهمها نوع الغرزة التي يسمونها والتي أخذها الغرب بعد ذلك عن البلاد الإسلامية

وكثيراً من الأقمشة المملوكية المعروفة عليها أسماء بعض السلاطين المماليك وبعض عبارات الأدعية نحو (عز لمولانا السلطان الناصر)، أو (السلطان الملك المظفر العالم العامل العادل)، (عز لمولانا السلطان الناصر، ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاوون) أو (الشرف للأشراف)

ص: 29

وهناك شبه جلي بين زخارف هذه الأقمشة المملوكية وبين الكثير من الزخارف التي نراها على قطع الخزف والنحاس التي ترجع إلى العهد نفسه؛ كما أننا نرى في بعض الأقمشة المملوكية رسوماً تتكون من أشرطة قد تتعرج فتنظم بينها جامات بيضيه الشكل فيها صور طيور في مواقف مختلفة (شكلي6، 7)

بقي أن نشير إلى نوع من الأقمشة رسومه (مطبوعة) وليس منسوجة أو مشغولة في القماش نفسه، وترجع تقاليد هذه الصناعة إلى العصر القبطي، ولكن الظاهر أنها أهملت في العصر الإسلامي حتى أواخر حكم الفاطميين حين عاد القوم إلى استعمالها في الأقمشة الكتانية، وكانت الزخارف المطبوعة ذات لون واحد حتى جاء العهد العثماني فظهرت زخارف مطبوعة ذات لونين. ومهما يكن من شيء فإن صناعة هذه الأقمشة تشهد بدقة فائقة، وقد نقلها الغرب عن الشرق وانتشرت في أوربا ولا سيما في ألمانيا في حوض نهر الرين حيث يظهر تأثير الزخارف الشرقية في المنسوجات (المطبوعة). وفي دار الآثار العربية بعض أقمشة إسلامية مطبوعة، وفي اعتقادنا أنها من احسن الأمثلة المعروفة (شكل 8)

وهكذا يرى القارئ أن ما نفضل جلالة الملك بإعارته وما بعثت به دار الآثار العربية إلى جوبلان لتمثيل تطور صناعة النسج في مصر الإسلامية وسيلة جليلة لنشر الدعوة لمصر، وتعريف الأجانب بفنونها الجميلة

زكي محمد حسن

ص: 30

‌فريزر ودراسة الخرافة

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

خطت الدراسات الاجتماعية في الخمسين سنة الأخيرة خطوات فسيحة: فاتسعت سبلها، وتعددت فروعها، وتشعبت مناحيها، واستطاعت أن تثبت أن لها - كسائر العلوم - موضوعاً محدداً، وطرقاً معينة، ومبادئ ثابتة، ولا تكاد توجد مادة برهنت على خصبها برهان هذه المادة؛ كما لا يكاد يوجد علماء خلقوا فناً بأسره في مدى قصير مثل علماء الاجتماع المحدثين. فإن جملة ما كتبه أفلاطون وأرسطو في العصور القديمة، وما دونه المؤرخون وعلماء الجغرافية في القرون الوسطى لا يصح أن يسمى اجتماعاً بالمعنى الصحيح، ولا يحوي أراء علمية ناضجة. ولا ننكر أن عصر النهضة القي شعاعاً من الضوء على العلوم الاجتماعية ولفت الباحثين إلى فلسفة التاريخ ومقارنة الشعوب بعضها ببعض، وقد بدا أثره الواضح في القرن الثامن عشر إذ ظهرت مؤلفات مونتيسكييه وفولتير وروسو. ثم جاءت الثورة الفرنسية التي قلبت النظم المألوفة رأسا على عقب واستبدلت بأساليب الحكم والسياسة العتيقة طرقاً مستحدثة، أنتجت بهذا ثورة أخرى في الأفكار والآراء الاجتماعية كان من أبطالها سان سيمون وأوجست كونت. بيد أن تكوين علم الاجتماع في شكله الحاضر يرجع إلى أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فمدرسة ميل وسبنسر في إنجلترة، وفونت وفجنر في ألمانيا، ودركيم وليفي بريل في فرنسا، وأعمال السائحين والرحالة من إنجليز وأمريكان وألمان أضافت إلى هذا العلم ثروة طائلة، بل خلقته من عدم

لم تقنع هذه المدارس بطريقة واحدة، ولم تقف في بحثها عن حد. فلجا

بعضها إلى تاريخ يشرح به ما غمض من أعمال الجمعية وأقوالها،

واحساساتها، وعقائدها. واتخذ بعضهم من الإحصاء والتعداد وسيلة

لتوضيح الظواهر الاجتماعية واستنتاج القوانين المسيطرة عليها. وأبت

طائفة إلا أن تصعد بالاجتماع إلى مستوى العلوم الواقعية فبنته على

المشاهدة والملاحظات الدقيقة. لذلك عمدت إلى دراسة الشعوب الهمجية

ص: 31

المعاصرة وتتبع عوائدها وتقاليدها، وتوصلت من ذلك إلى نتائج سارة

وشيقة للغاية. ومن أهم من عنوا بهذه الطريقة اجتماعيان إنجليزيان

معاصران، وهما فريزر وتيلور اللذان كتبا في خصائص الشعوب

مجموعة أبحاث قيمة

يضيق بنا المقام من أن نترجم ترجمة كاملة لفريزر تلميذ جامعة جلسجو، وأستاذ الاجتماع في ليفربول وكمبرج، وأحد رجال القانون والمحاماة في لندن. نشأ هذا العالم متشبعاً - ككل اتباع ميل وسبنسر - بفكرة أن الظواهر الاجتماعية خاضعة لقوانين ثابتة، وزاد على أساتذته أن هذه القوانين ممكنة الصوغ والتحديد إذا درست خصائص الشعوب المختلفة، ولاسيما الهمجي منها. فعلى ضوء هذه الدراسة الموازنة يمكننا أن نبين الأدوار المتتالية التي مرت بها فكرة من أفكار الجمعية، وان نقف على منشأ هذه الفكرة وكيفية تطورها. وقد تخصص فريزر في هذا النوع من البحث، وتناوله من نواح شتى في أسلوب جذاب، وعبارة عذبة، وخيال رائع، ومادة غزيرة تشهد بإطلاع واسع وعمق كبير، لهذا يعد اليوم - في حق - من اكبر العلماء المبرزين في خصائص الشعوب ويدور بحثه بوجه خاص حول الديانات في رسومها وطقوسها لدى الشعوب القديمة والحديثة؛ وله في ذلك مؤلفات عديدة أهمها: التوتيمسم والغصن الذهبي ذلك الكتاب العظيم الذي ترجم كله أو أجزاء منه إلى الألمانية والفرنسية والإيطالية. وغني عن البيان أن أبحاثا كهذه تتصل اتصالاً وثيقاً بالخرافة التي لبست ثوب الدين في كثير من الجمعيات الإنسانية.

نستطيع أن نقول - دون أن نخشى أية معارضة - إن فريزر أضحى أستاذاً غير منازع في موضوع الخرافة، درسه في رغبة أكيدة فأجاد درسه، وقلبه على وجوهه العديدة فلم يدع مجالاً لمن جاء بعده. لم يعن بالخرافات المشهورة فحسب، بل تعداها إلى خرافات ثانوية مقصورة على بعض الشعوب؛ فهو إلى جانب دراسته للسحر والشعوذة وصكوك الغفران وما أشبهها، يعرض لبعض الأعمال الخرافية المتصلة بالطعام والشراب. وبالجملة ليس ثمت كتاب من كتبه إلا وفيه تحليل لخرافة من الخرافات وشرح لسلطانها على المجتمع. ولئن كان قد أعلن أعلانا كافياً عن مضار الخرافة وسيئاتها، فهو لم ينس نفعها وحسناتها؛

ص: 32

ولا ريب في أنه أول اجتماعي أبان في وضوح اثر الخرافة الصالح في الجمعيات الإنسانية. وقد وضع في هذا - فضلاً عن أبحاث جزئية مختلفة - كتاباً مستقلاً سماه: محامي الشيطان. ' ولهذا الكتاب من اسمه نصيب كبير؛ فإن مؤلفه يبدو فيه المحامي الدرة الذي يدافع عن الخرافة دفاع الأبطال، ويبين مالها من يد في تكوين بعض الأسس الاجتماعية. فرجل الدفاع في محاكم لندن يزج بنفسه في محكمة الآراء والنظريات لينصر فكرة اجمع الناس على شرها وذاقوا منها الأمرين، مهمة شاقة، وموقف دقيق للغاية، وكيف لا وفريزر يشذ عن الرأي السائد، ويخرج عن المألوف المسلم به. غير أنه قد وفق إلى حد كبير فيما حاوله، ونهض بالخرافة من كبوتها، واثبت ما فيها من نواحي الخير. وما ابلغه حين يقول:(نحن مدفوعون إلى اعتبار الخرافة خطأ في ذاتها، وشراً لا خير فيه، وضرراً محقق النتائج. وفي الحق أنها اصل كثير من الآم هذا العالم، فقد بددت ذخائر هائلة، وضحت بأرواح لا حصر لها، أثارت حروباً شعواء، أوقعت الشحناء بين الأصدقاء، وفرقت بين المرء وزوجه، والأب وابنه، مقطعة علاقتهم بحراب حادة، أو بما هو اضر منها، وملأت السجون بالأبرياء، والمستوصفان والملاجئ بالعجزة والمعتوهين، وسحقت قلوباً عديدة، وبلبلت نفوساً مطمئنة. ولما لم تقنع بإيذاء الأحياء جاوزتهم إلى الأموات، فهتكت سترهم، ونبشت قبورهم، وأوقعت بهم من العذاب والنكال ما أدمى قلوب الأبناء والأعقاب؛ صنعت الخرافة كل ذلك واكثر منه، بيد أن في مقدورنا أن نقدمها في صورة أليق، وتحت ضوء انسب. لا ندعي إنا أهل للدفاع عن هذا (الشيطان)، والظهور أمام هذا اللهيب الأزرق والغاز الخانق، وإنما نحاول فقط أن نكون ما يصح أن يسميه الرجال السمحاء دفاعاً مقبولاً عن اكبر الخصوم شبهة، على ترجيح هذه القضية. قامت طائفة من الأنظمة الاجتماعية الصالحة باعتراف الجميع أو اغلب الناس على أساس من الخرافة لدى بعض الشعوب وفي بعض مراحل التاريخ)

تخير فريزر بين هذه الأنظمة أربعة من أهمها، وهي الحكومة، والملكية الشخصية، والزواج، واحترام الحياة الإنسانية وبذل غاية الجهد في إثبات أن الخرافة ساعدت على تكوينها ودعمها مستعيناً في كل ذلك بالواقع والتاريخ. فلاحظ في دقة أن مهمة الحكومة ذللت لدى كثير من القبائل الهمجية المعاصرة بسبب الرأي القائل إن الحكام ينتسبون إلى

ص: 33

طبقات سامية، وينعمون بسلطان سحري خارق للعادة؛ وأذ كانوا كذلك وجب على المحكومين أن يخضعوا لهم دون إبداء آية ملاحظة. فلدى سكان جزائر السود في أفريقية يزعم الناس أن الرؤساء قوى غير طبيعية استمدها من الملائكة والجن المتصلة بهم اتصالاً وثيقاً. وفي هذا سر نفوذهم؛ فمتى ضعفت هذه العقيدة فقد الرئيس كثيراً من سلطانه. ويعتقدون كذلك أن الحاكم أو الوالي يستمر بعد موته في سهره على رعاياه، ويعاقب بالجدب والغرق والصواعق إن أخطئوا ولم يقدموا القرابين لجدثه. ويعتبر الرؤساء السياسيون في زيلندة الجديدة كآلهة أحياء مقدسة في مختلف أجزائها بحيث لا يستطيع أحد الاعتداء عليها، وإذا قدر لمحارب أن يقتل أحد هؤلاء الرؤساء، سارع إلى عينيه فاقتلعهما وابتلعهما ليأمن شر ما يحيط به من أرواح خفية، ذلك لأنه يظن أن هذه القوى تسكن هذين العضوين ويقول بعض الأمراء الزيلندين. . (لتظن أنى رجل وأني من هذا العالم الأرضي، كلا فأنى نزلت من السماء حيث يسكن آبائي الآلهة، وسأعود إليهم يوماً). ويروون إنه بينما زيلندية تتذوق خوخة جميلة انتزعتها من سلة تحملها، علمت إنها نبتت في مكان مقدس، فاسقط في يديها وصاحت بالويل والثبور وأنها لابد هالكة لغضب الآلهة عليها وحكام ذلك المكان المقدس؛ وما اصبح الصباح إلا وقبضت روحها. ويعتقد سكان أفريقية الغربية أن حياتهم وأموالهم ملك لأمرائهم يتصرفون فيها كما يشاءون. وفي مقدور هؤلاء الأمراء أن يكسفوا الشمس ويخسفوا القمر وينزلوا المطر من السماء، لذلك يلجأ الأهلون إليهم إن ضاقت بهم الحال أو أقفرت عليهم الأرض

لم يقف أمر هذه العقائد الخرافية عند القبائل البدوية الموجودة في أفريقيا وأستراليا وأمريكا، فقد اعتنقها من قبل الشعوب المتحضرة القديمة. فقدماء المصريين كانوا يقدسون ملوكهم ويصعدون بهم إلى اصل سماوي، وإذا نقصت حاصلاتهم أرجعوا ذلك إلى غضب المليك عليهم. وفي قوانين مانو الهندية كتبت العبارة الآتية (إن الملك بفضل سره الخارق للعادة، نار وهواء، وشمس وقمر). وكان اليونان في عهد هومير يعدون ملوكهم ورؤساءهم آلهة أو كالآلهة. وما لنا نذهب بعيداً وفي التاريخ الحديث ما يؤيد بعض هذه الخرافات؟ فقد كان عامة الإنجليز يستشفون بملوكهم إلى عهد قريب، فإذا لمس الملك مريضهم برئ لساعته، واستمرت هذه الخرافة إلى أخريات القرن الثامن عشر إذ كان يعالج روبير

ص: 34

الصالح، وإدوارد المعترف، بعض المرضى بهذه الطريقة. ونرى في فرنسا شيئاً من ذلك في فجر الثورة وبعدها بعشرات السنين، فإن لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر وشارل العاشر لمسوا آلاف المرضى لشفائهم. هذه الأمثلة القليلة تكفي للبرهنة على أن عدداً من القبائل والشعوب نظروا إلى قادتهم ورؤسائهم وملوكهم نظرهم إلى موجودات ممتازة مزودة بقوى عظيمة ترغم الرعية على اتباعهم والتعلق بأهدابهم، وإذا فقد ساعدت الخرافة، في بعض الشعوب وفي بعض الأزمنة، على احترام الحكومة وخاصة الاستبدادية؛ وفي هذا ما أعان على تثبيت دعائم النظام الجمعي بوجه عام

يتبع

إبراهيم بيومي مدكور دكتور في الآداب والفلسفة

ص: 35

‌أثر خطير

كنيس الصالحية

للأستاذ عز الدين التنوخي كاتب سر المجمع العلمي العربي

دوى في دمشق تلهج به الألسنة ويردده الهواء بين الأحياء، وصدى الدهر يثير من النفوس روائع الدهشة، ويبعث فيها نوازع الاستطلاع، ويعين على تمكين ذلك من النفس التاريخ بابتعاده، والتخيل بامتداده، مئات من السنين، ومئات من الشعوب والقبائل والأجيال تمر وتنطوي على كنيس الصالحية ما بين دير الزور وأبي كمال، وهو (منذ أسس بنيانه سنة 244 ب. م) لا يزال قائماً بفارع جدرانه، وماثلاً بروائع ألوانه، يعرب بلسان الزمن عما مر بالبشر من أيام هناء وبلاء، مخبراً عن أمم زالت، ودول دالت، وأحوال حالت، مما يمحص به أبناء العصر الحاضر حقائق الدهر الغابر، فينقلب به ما كان حقيقة وهماً، وما كان وهماً حقيقة

كنيس الصالحية، وما أدراك ما كنيس الصالحية، رأيت ألواحه الجبسية المقطوعة بالمنشار متفرقة، وهي أوصاله بل أشلاؤه الممزقة، فراعني - لعمر الحق - منظرها، وأكبرت بعد التأمل الطويل مخبرها، ثم تصورت هذا الكنيس الأثرى النفيس، وقد التأمت بجوار السليمانية غداً أجزاؤه، والتحمت بعد طول الشتات والبلى أشلاؤه، فملك بتصوره القلب قبل الطرف، والهج اللسان بما لا يحيط به الوصف البارع واللسان المبين: ذلك أن صورة تلك الألواح لا ينقصها لأتقنها ألا الأرواح المثيرة والقوة المجيرة، فتغمزك بعيونها، وترمز إليك بشفافها، وتحدثك بأفواهها عن جلية أحوالها، وأخبار رجالها ونسائها وأطفالها، ولو أنها استطاعت ذلك لأغنت المنقبين والمؤرخين عن كثير من التنقيب والاستقراء والأنفاق المستمر الفادح، والعناء المتواصل المنهك

اجل، هذه الألواح لا ينقصها ألا الأرواح، فإن لكل منها جهارة رائعة، وشارة جميلة، إلى وجه سامي مسنون، وانف اقنى، وعينين ناطقتين في صورة إنسان سبط القوام، متناسب الأعضاء، تلمح عليه دلائل القوة والفتوة وتلمع في عينيه شواهد النبل والفضل

ففي لوح مستطيل منها ترى صورة موسى النبي بيده الألواح وهو بوجه المخروطي الصبيح، يشبه السيد المسيح، تحيط به هالة قاتمة اللون من شعر رأسه الفاحم ولحيته

ص: 36

السوداء، وكان لآلهة الإغريق لحى تزيد في هيبة الوجوه ووقارها

وفي لوح آخر تشاهد صورة السموءل وهو النبي (صموئيل) يمسح بالزيت راس النبي داود الواقف بين اخوته الستة قابضاً بيمناه يسراه كما يقبض المصلى إذا صلى

وفي لوح ثالث آخر صورة احشويروش (الملك الأسد) ملك فارس وبابل وزوج استير وقد استوى على عرشه المخمس الدرجات، وعلى يساره الملكة استير منقذة إسرائيل، وهي على عرشها؛ وعلى جانب كل عرش صورة أسد أو نسر من ذهب، وعلى واجهة إحدى الدرجات قد نقش اسم الملك (احشويروش) فإذا أراد الملك الصعود على عرشه وقف على الدرجة السفلى فترتفع به حتى تساوي الثانية التي فوقها، فينتقل أليها فترتفع به إلى الثالثة، والثالثة ترفعه إلى الرابعة، وهذه إلى الخامسة، فيستوي هنالك على عرشه العظيم، وبذلك يشبه هذا الدرج العجيب مصعده (أسانسور) هذا العصر؛ ويقال أن هذا العرش هو عرش سليمان مسلوباً من بيت المقدس، إذ وجد فوقه لوح آخر يمثل سليمان الحكيم على عرش لا يختلف بشيء عن العرش البابلي مما يرجح القول بنقله إلى بابل، وعلى يسار هذا اللوح لوح آخر يمثل ابن عم الملكة استير وهو مردخاي ممتطياً صهوة جواد أشهب مطهم يقوده هامان الوزير قصاصاً له وانتقاماً

وهنالك لوح آخر مؤلف من سبع قطع، تمثل إلياس النبي مع أسباط إسرائيل، وهو يدعي الله أن يحي ثلاثة من الموتى فيبعث الله لإنعاشهم أرواحا ثلاثاً، والروح منها ممثلة بشكل امرأة تطير بجناحيها، وتهبط هذه الأرواح على أجسادها فتهب من رقادها، وعلى راس أحدهم يد بمعصمها ترفع الميت المنتشر من وفرة رأسه

ومن تلك الألواح ما يمثل موسى عليه السلام طفلاً تخرجه من اليم ابنة فرعون وقد ذهبت مع جواريها تغتسل في النيل فوجدته عائماً في سفط يتغلغل بين أوراق البردي، والى جانبها جاريتان تحمل أحدهما صندوقة صغيرة تشتمل من أدوات الطيب على مالا غنى للمغتسل عنها، وهي عادة مصرية قديمة

كانت كنائس اليهود قبل عهد هذا الكنيس لا تستوعب اكثر من 45 مصلياً، ولكن قاعة هذا الكنيس المستطيلة تستوعب ضعف هذا العدد، أي نحو مائة من المصلين، فقد كانت أبعادها (13. 5 متراً طولاً في 7. 5 عرضاً في 7. 5 ارتفاعاً)

ص: 37

ومما يدل على أبهة هذا الكنيس النفيس إن محرابه القائم في صدره قد كان يزهو بطنافس فارس الجميلة، وتبصر على جانبه صورة شمعدان من الذهب ذي سبع شعب، في كل شعبة منها شمعة تبدد بعض ظلام الكنيس؟ وكانت مقاعد المصلين مغشاة أيضا بالطنافس كما استدل علماء الآثار على أن سماءه (سقفه) كانت مشيدة بالقرمد المزين المنقوش، وكانت أرضه مفروشة أيضا بنفائس الطنافس

هذا ولئن كانت الأمم تقاس برجالها، والرجال توزن بأعمالها، فقد حق علينا أن نختم هذه الكلمة بكلمة أخرى عادلة في شكر من كان سبباً لحفظ هذا الكنيس في بلادنا ولإعادة بناءه في دمشق غداً، وهو صاحب المعالي وزير معارفنا الهمام السيد حسني البرازي، فقد حاولت بعثة الحفر والتنقيب الأمريكية أن تستأثر به وتحرم من الانتفاع به تلك الأمة التي نبش من ترابها، لينبئ عن عمرانها وأحوال أديانها وآدابها، وكادت تفلح لولا جهاده الميمون وحسن مساعيه لدى المفوضية التي حققت بأخرة أمنيته، فخدم بذلك اجل خدمة بلاده أمته: ذلك لان هذا الكنيس المنقطع القرين لم تفتح العين على مثله بعد، ولهذا يقدر بعض علماء الآثار ثمنه بأكثر من مليون جنيه، ويعدونه استثناء اثرياً لقواعد الكنائس اليهودية التي تحرم التصوير، وما كانت صورة هذه المحرمة بعظيمة الخطورة لدارسي تاريخ الشريعة فحسب، إذ هي لدارسي تاريخ الفن اعظم خطراً، وابلغ لعمري آثرا

دمشق

عز الدين التوخي

كاتب سر المجمع العلمي العربي

ص: 38

‌16 - قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي وكيل كلية العلوم

بستور

صلة حديثة

وذهب (جرنيه) إلى الشمال يدرس دود القز في مدينة فالنسين فكتب إليه بستور أن يعيد أجراء التجربة الفائتة. سأله هذا ولم يدر لم سأله، وكان جرنيه قد حصل على مجموعة طيبة من الدود السليم، وكان يعتقد على الرغم من تشكك أستاذ هـ أن تلك الكريات في باطن الدود ليست أحياء تتطفل عليه فتقتله. فاخذ أربعين دودة سليمة وغذاها بأوراق من التوت لم يمسها أبداً دود مريض، فخرج من هذه الأربعين سبع وعشرون دودة نسجت سبعاً وعشرين شرنقة. وخرج الفراش من الشانق خلواً من الكريات، فعندئذ عمد إلى فراشات مريضة فسحقها ولوث بسحيقها أوراقا من التوت، وغذى بهذه الأوراق دويدات سليمة صغيرة، عمرها يوم واحد، فلم تلبث هذه الدويدات أن مرضت وهزلت وماتت موتة بطيئة. وتغطى جلدها بالبقع السوداء، وامتلأ جسمها بكريات الداء. وبعد هذا لوث أوراقا أخرى بسحيق الفراش المريض وغذى بها دوداً سليماً نامياً بالغاً كان على وشك أن ينسج الشرانق. فهذا الدود عاش حتى أتم نسج ثوبه الحريري، ولكنه لما استحال إلى فراش خرج هذا الفراش وبجسمه الكريات اللعينة، وباض فكان البيض فاسداً. فسر (جرنيه) وثار، وزاد سروره وزادت ثورته في الليالي التي أكب فيها على مكروسكوبه كلما رأى هذه الكريات تزيد في الدود كلما زاد إضمارا قارب الفناء

وأسرع (جرنيه) إلى بستور يصرخ له: (حلت المسالة! فهذه الكريات حية! إنها طفيليات، وهي التي تمرض الدود!)

واستغرق بستور ستة اشهر ليقتنع بمقالة (جرنيه). ولكنه لما اقتنع وقع على العمل وقوعاً. وجمع أعضاء اللجنة مرة أخرى وخطب فيهم: (إن الكريات التي بالدود ليست عرضاً من أعراض الداء فحسب، بل هي سببه، وهذه الكريات حية، وهي تتزايد، وهي تسير في

ص: 39

جسم الفراش المريض اغتصاباً حتى تعم نواحيه. وإنما كان خطانا الأول لأننا طلبنا هذه الكريات في جزء صغير من جسم الفراش فنظرنا تحت جلد البطن وحده، أما الآن فلابد من سحق الفراش كله وفحصه من بعد ذلك، فإذا نظرنا بالمجهر إلى سحيقة فلم نجد به تلك الكريات المجهرية حكمنا بسلامته واتخذنا بيضه للتفريخ في الربيع المقبل)

وتفرق رجال اللجنة واتبعوا تعاليم بستور فنجحت التجربة، ودار العام فأفرخ البيض دوداً صحيحاً قوياً نامياً أعطاهم غلة من الحرير وافرة

استيقن بستور أن هذه الكريات الطفيلية سبب الداء وأنها لا تنشأ داخل الدود، وإنما تأتيه من الخارج. فطاف في الريف يعلم الناس كيف يمنعون نسل الدود السليم من أن يمس أوراقا مسها دود سقيم، وبينما هو في هذا أصابه نزيف في المخ فكاد يموت. ولكنه سمع أنهم أوقفوا بناء معمله اقتصاداً وفي انتظار موته، فأغضبه ذلك وأصر على أن يعيش. فشل أحد نصفيه شللاً لم يشف منه تماماً في مستقبل أيامه، ولكنه قرأ كتاب الدكتور (سمايلز) في الاعتداد بالنفس، فاعتزم اعتزاماً قوياً أن يعمل بالرغم من عجزه، فبدل أن يرقد في فراشه، أو يستشفي على البحر، نهض في عسر على قدميه، وحجل إلى القطار، وسافر إلى جنوب فرنسا وهو يصيح غاضباً:(إن من الأجرام القعود عن تخليص الدود من الوباء، بينما الكثير من أربابه يطلبون القوت فلا يجدونه) فاعجب به الفرنسيون وأكبروه إلا نفراً قليلاً يحبون الأذى؛ فهؤلاء قالوا: إنما صيحة قصد بها الدعاية لنفسه لا لخير الناس

وقضى بستور ست سنوات يجاهد أدواء هذا الدود المسكين، فإنه لم ينته من علاج ندوته حتى ظهر به مرض جديد، ولكن بستور كان قد درب على هذا النوع من البحث فكشف عن مكروب الداء سريعاً، وجاءه دوماس الشيخ يشكره وقد امتلاءت عيناه بالدموع. وتحث عمدة (إلياس) عن إقامة تمثال من الذهب لبستور العظيم

- 7 -

وبلغت سنة الخامسة والأربعين، فاخذ ينعم حيناً بالمجد الذي كسبه من تخليص صناعة الحرير مما حاق بها، وذلك بعون الله وعون (جرنيه). ثم رفع عينيه إلى مجد أسمى، وأمل اسنى، وحلم مستحيل براق، حلم من تلك الأحلام التي ارتأتها نفسه الشاعرة، حلم من تلك الأحلام المستحيلة التي لا تضن الأقدار ببعض تحقيقها أحيانا؛ نعم رفع عينه الفنانة من

ص: 40

أمراض الديدان إلى أحزان الإنسان، ونفخ في البوق نفخة داوية يبشر المرضى البائسين بقرب بلوغ دار الأمان، قال:(إن في مقدور الإنسان أن يمسح عن وجه الأرض كل الأدواء التي يسببها تطفل الأحياء عليه، هذا على فرض أن نظرية باطلة، وأنا واثق من بطلانها)

وجاء عام 1870 بحصار باريس في ذلك الشتاء القارس، فخرج عنها تاركاً أعماله، تاركاً معامله، وذهب إلى قريته القديمة في جبال (الجورا). ثم ذهب إلى ميدان القتال يبحث بين الأشلاء عن جثة ابنه الصريع، وقد كان جاويشا في الجيش الفرنسي. وعلى هذه الأرض، وبين هذه الدماء، نشأ فيه كره للألمان ولكل شيء ألماني اخذ ينمو فيه ثم ينمو ويفيض حتى تشرب به كل عصب من أعصابه، وبقي معه بقية حياته. واتخذ من اجل ذلك الوطنية صناعة. واخذ يصرخ في الناس:(إن كل مؤلف من مؤلفاتي سيطالعكم عنوانه بكراهة بروسيا، وينشكم الثأر والانتقام.) وبسخافة فاخرة بدأ بحثه الأول فجعله للثأر والانتقام. واعترف أن بيرة فرنسا دون بيرة الألمان، فنهض يبحث ليجعل بيرة فرنسا فوق بيرة الألمان، بل فوق بيرات الأمم جمعاء

وقام برحلات كثيرة واسعة المدى إلى مخامر فرنسا الشهيرة، واخذ يلقى الأسئلة على كل من يلقى فيها، من رئيس الخمارين في معمله، إلى غسال الأواني البسيط في مغسلة. وذهب إلى إنجلترا فأسدى النصائح إلى الرجال الفنانين ذوي الوجوه الحمر الذين يحذقون صنع النبيذ الإنجليزي، والى الخمارين الذين يخرجون تلك الجعات القدسية بمدينة برتن وحرر مجهره إلى الألوف من البيرات، ورقب الخمائر وهي تنقسم وتصنع الكحول. وكان يقع أحيانا فيها على هذا الحي اللعين الذي وجده فيها أعواما مضى وأثبت أنه سبب فسادها، وكان ينصح لأصحابها بتسخين البيرة لقتل هذه الحييات، ويؤكد لهم أنهم لو فعلوا إذن لزادت بيرتهم جودة وطابت مذاقا، وإذن لاستطاعوا تسفيرها مسافات بعيدة وهى صالحة. وكان يسال أصحاب المخامر مالاً لمعمله، ويذكر لهم أن ما يجودون به اليوم يعود عليهم بالنفع في الغد إضعافا مضاعفة. وبهذا المال قلب معمله بمدرسة النرمال إلى مصنع صغير للبيرة، لمعت فيه البراميل النحاسية الجميلة، ووهجت الغلايات الصقيلة

وبدأ عملاً مجهداً متواصلاً، ولكنه لم يلبث أن سئمه، لأنه كان يكره طعم البيرة كما يكره

ص: 41

رائحة الطباق. وزاد منه سالماً أنه وجد أن الباحث العالم في البيرة لابد له من أن يكون ذواقاً حكيماً لها. ووجد كذلك البيرة الجيدة تحتاج في صناعتها إلى أمور أخرى غير منع المكروب من دخولها. وكان لعلم الفيزياء أستاذ يدعى برتان كاد يضحك من بستور لكراهيته إياها. كان بستور كلما أراد مذاقها جعد من انفه الأفطس، وغاص بشاربه في كوزها الراغي، وبلغ في عسر وكآبة ما تحتم بلعه من جرعاتها. كره البيرة ما فسد منها وما طاب. أما صديقه الفيزيائي فكان يلعق شفتيه بعد شربها ويصفقهما، ويتهلل وجه بشرا وتمتلئ أساريره خبثاً وهو يضاحك بستور فيها، لأنها بيرة ذاقها بستور وحكم عليها بالفساد. حتى لضحك منه مساعده الشاب، ولكنه لم يجرؤ بالطبع أن يضحك في وجهه. مسكين بستور! كان باحثاً قديراً، ولم يكن فيه جمود، ولم يكن فيه ركود، وكان سريع التحول، سريع التشكل للظروف، سريع الألفة لكل جديد - إلا البيرة. فحب البيرة كأنه يخلق ولا يكتسب. واللسان الذواق للبيرة تجود به الطبيعة على قليل من الناس، كالأذن الموسيقية ليست متاعاً لكل أحد

ومع هذا فلست أنكر أن بستور أعان صناعة البيرة الفرنسية إعانة كبيرة، وقد شهد بهذا الخمارون أنفسهم، أما الذي أتشكك فيه فهو الذي يقول به أحبابه ومريدوه وعباده من إنه رفع البيرة الفرنسية فجعلها ند الألمانية. على أني لا أنكر ذلك عليه، ولكني أود لو عرضت هذه الدعوى على لجنة تحكيم من تلك اللجان العادلة الدولية الوقورة، من تلك اللجان الذي كان بستور نفسه يقترح على الدنيا أن تلجأ إليها كلما أزمته خصومة لتقضي له أو لخصمائه اللعينين. . .

(يتبع)

أحمد زكي

ص: 42

‌25 - محاورت أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

- كذلك كلما ازدادت البرودة على النار فإما أن تتراجع أو تفنى وإذ أن تكون النار تحت تأثير البرودة، فلن يلبثا ناراً وبرودة، كما كانت الحال من قبل

قال: هذا حق

- وفي بعض الحالات لا يكون أسم المثال مقصوراً على المثال، بل إن لكل شئ آخر حق المشاركة في الاسم، ما دام موجوداً في صورة المثال، من غير أن يكون هو المثال، وسأسوق إليك مثلاً لعل أوضح هذا القول: أليس يطلق دائماً أسم الفردي على العدد الفردي؟

- جد صحيح

- ولكن هل هذا وحده هو الذي يسمى بالفردي؟ أليس ثمت أشياء أخرى لها أسماؤها الخاصة بها، ويطلق عليها رغم ذلك اسم الضروري، لأنها وان كانت ليست هي الفردية ذاتها، غير إنها لا تخلو من الفردية قطعاً؟ - هذا ما أريد أن أستجيب عنه - أليست الأعداد، كرقم ثلاثة مثلاً، من نوع الفردي: وهناك غير هذا كثير من الأمثلة: الست تقول مثلاً أنه يجوز أن يدعى رقم الثلاثة باسمه الأصلي، ثم يطلق كذلك اسم الفردي، وليس الفردي هو الثلاثة ذاتها؟ وليس يقال هذا عن العدد ثلاثة فقط، بل إنه جائز أيضاً على خمسة، وعلى كل الأعداد المتعاقبة - كل منها فردي دون أن يكون هو الفردية؛ وهكذا قل في اثنين وأربعة وسائر سلسلة الأعداد المتعاقبة، كل عدد زوجي دون أن يكون هو الزوجية. هل تسلم بهذا؟

قال: نعم، وهل إلي إنكاره من سبيل؟

- الق بالك إذن إلى الغاية التي انشدها؛ ليست الأضداد المعنوية وحدها هي التي يطرد بعضها بعضاً، بل كذلك الأشياء المجسدة التي ولن لم تكن متضادة في ذاتها إلا أنها تحتوي

ص: 43

أضدادا؛ وأنا أزعم إن هذه الأشياء أيضا ترفض المثال الذي يكون مضاداً لما تحويه في داخلها، وهي إذا ما تقدم ذلك فأما أن تنسحب أو تفنى. خذ عدد ثلاثة مثلاً، أليس يصبر على التلاشي أو أي شيء آخر، أهون عليه من أن يتحول إلى عدد زوجي مع بقائه ثلاثة؟

فقال سيبس: جد صحيح.

قال: ومع ذلك فلا ريب في أن العدد اثنين ليس مضاداً للعدد ثلاثة؟

- إنه لا يضاده

- إذن ليست المثل المتضادة وحدها هي التي يقاوم بعضها تقدم بعض، ولكن ثمة أشياء أخرى تقاوم كذلك اقتراب الأضداد؟

- فقال: هذا جد صحيح

قال: هبنا نحاول تحديد ماهية هذه (الأشياء) إن أمكن ذلك

- لا ريب في هذا

- أليست هذه يا سيبيس ترغم الأشياء التي في حوزتها على أن تتخذ شكل بعض الأضداد فضلاً عن شكلها هي؟

- ماذا تعني؟

- أعني، كما كنت أقول تواً، وما ليس بي حاجة لأعادته إليك، إن الأشياء التي يملكها العدد ثلاثة، لا يلزم فقط أن تكون ثلاثة في عددها، بل ينبغي كذلك أن تكون فردية

- جد صحيح

- ويستحيل على المثال المضاد أن يعتدي على هذه الفردية التي انطبع العدد ثلاثة بطباعها؟

- كلا

- وهو إنما استمد هذا الطابع من عنصر الفردي؟

- نعم

- والزوجي والفردي ضدان؟

- حقاً

- إذن فمثال العدد الزوجي لن يلحق بثلاثة أبدا؟

ص: 44

- كلا

- وإذن فليس لثلاثة في الزوجي من نصيب؟

- كلا

- إذن فالثلاثي أو العدد ثلاثة غير زوجي

- جد صحيح

لا عد إذن إلى ما زعمته من تمييز بين الطبائع التي ليست أضدادا وهي مع ذلك لا تقبل أضدادا: فكما في هذا المثال: على الرغم من أن ثلاثة ليست مضادة للزوجي أبدا، ولكنها دائماً تعرض الضد في الجانب الأخر أو كما أن اثنين لا تتقبل الفردي، أو النار البرودة. ومن هذه الأمثلة (ومنها كثير غير هذا) ربما استطعت أن تصل إلى نتيجة عامة أنه ليست فقط الأضداد هي التي لا تتقبل أضدادا، بل كذلك لاشيء مما يسوق الضد يقبل ضد ما يسوقه فيما سيق إليه. واسمح لي هنا أن ألخص ما سبق من قول - فليس في التكرار من ضرر، لن يقبل العدد خمسة طبيعة الزوجي، اكثر مما تقبل عشرة، وهي ضعف الخمسة، طبيعة الفردي - ولو أن الضعف ليس مضاداً للفردي تضاداً دقيقاً، غير أنه يرفض الفردي أجمالا. ولن تقبل أجزاء النسبة 2: 3 فكرة الكل، وكذلك أي كسر يكون فيه نصف، لا بل والذي يكون فيه ثلث، ولو إنها ليست مضادة الكل، هل تسلم بذلك؟

فقال: نعم أنى متفق تماماً، وذاهب معك إلى ذلك

قال: أظنني الآن أستطيع أن أبدأ ثانياً، وأني لأرجوكم أن تدلوا إلي عن هذا السؤال الذي أوشك أن ألقيه، بجواب غير الجواب القديم المأمون، وسأقدم لكم لما أريد مثالاً، وعسى أن تجدوا أساسا أخر فيما قيل الساعة تواً يكون مأمونا كذلك، أعني أنه لو سألكم أحد:(ما هو الشيء الذي يجعل الجسم حاراً بحلوله فيه؟) فستجيبون أنه ليس الحرارة (وهذا ما ادعوه بالجواب المأمون)

ولكنه النار، وهو جواب يفضل ذلك كثيراً، ونحن الآن مهيئون للإدلاء به. أو لو سألكم أحد:(لماذا يعتل الجسد؟) فلن تقولوا من المرض بل من الحمى، وفي مكان القول بان الفردية هي سبب الأعداد الفردية ستقولون إن الجوهر الفرد هو سببها. وهكذا في الأشياء بصفة عامة. احسب انك ستفهم ذلك فهماً جيداً بغير أن أسوق إليك أمثلة أخري؟

ص: 45

- فقال: نعم أني افهم ما تقول فهماً جيداً

(يتبع)

زكي نجيب محمود

ص: 46

‌5 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

وكان أبو العتاهية في عهد المهدي يلازم ابنه هارون، وكان ابنه وولي عهده موسى الهادي يجد على أبي العتاهية لملازمته أخاه، فلما ولي العهد الهادي بعد المهدي أراد أن يقصيه عن أخيه هارون فلم يطعه، ثم أمره أن يخرج معه إلى الري فأبى ذلك، ولكنه لم يلبث أن خافه وتهيب بطشه به، وكانت الملوك في عهده لا تحتمل مثل هذا النوع من المخالفة، والاعتداد بالكرامة النفسية، والمحافظة على العهد في حالتي الأمن والخوف، فقال يستعطفه:

ألا شافع عند الخليفة يشفع

فيدفع عنا شر ما يُتَوَقَّعُ

وإني على عظم الرجاء لخائف

كأني على راس الأسنة تشرع

يرَوَّعني موسى على غير عثرة

ومالي أرى موسى من العفو أوسع

وما آمنُ يمسي ويصبح عائداً

بعفو أمير المؤمنين يرَوعُ

وإنك لترى أبا العتاهية لا ينزل في هذا الاستعطاف إلى الاستخذاء والخنوع، ونسيان الكرامة وعزة النفس، فلا يقول في ذلك ما قال النابغة الذبياني قبله للنعمان بن المنذر:

فإن أك مظلوماً فعبد ظلمتَهُ

وإن تك ذا عتبى فمثلك يُعتِبوا

بل يقول له هذا القول (يروعني موسى على غير عثرة)، فينصف نفسه في هذا الموقف الذي تجحد فيه النفوس، ولا يرى حقاً للهادي في ترويعه على غير ذنب جناه، كما يرى النابغة للنعمان أن يظلمه لأنه عبده.

وقد روى صاحب الأغاني بعد ذلك أنه ولد الهادي ولد في أول يوم ولي الخلافة، فدخل أبو العتاهية فأنشده:

اكثر موسى غيْظَ حساده

وزين الأرض بأولاده

وجاءنا من صلبه سيد

أصْيدُ في تقطيع أجداده

فاكتست الأرض به بهجة

واستبشر المُلْكُ بميلاده

وابتسم المنبر عن فرحة

علت بها ذروة أعواده

كأنني بعد قليل به

بين مواليه وقواده

ص: 47

في مَحفِلٍ تخفق راياته

قد طَبّق الأرض بأجناده

فأمر له الهادي بألف دينار، وطيب كثير، وكان سخطاً عليه فرضى عنه

فذا صحت هذه الرواية فلابد أنه عاد فسخط عليه حين رآه لم ينقطع عن أخيه هارون، وحين أمر أن يخرج معه إلى الري أبى ذلك، وبهذا تتفق هذه الرواية مع ما قبلها، ولا تكون متنافية معها، وإن كنا نستبعد أن يعنى مثل أبي العتاهية بتهنئة الهادي بذلك المولود في ذلك اليوم، ولا يعنى بتهنئته بهذا الملك الذي صار إليه فيه، فلعل حادثة ذلك المولود كانت بعد يوم ولاية الهادي وبعد رضاه عن أبي العتاهية

وقد عاد مع الهادي بعد رضاه عنه إلى مثل ما كان عليه في عهد المهدي، واتصلت فيه مدائحه، واتصلت من الهادي له صلاته وجوائزه. ومما مدحه به على مذهب أبي نواس في بدء المديح بذكر الخمر ووصف محاسنها:

لهفي على الزمن القصير

بين الخَوَرْنقِ والسَّدير

إذ نحن في غُرفِ الجنا

ن نعوم في بحر السرور

في فتية ملكوا عِنَا

ن الدهر أمثال الصُّقُور

ما منهم إلا الجسو

ر على الهوى غير الحَصور

يتعاورون مُدامة

صهباَء من حلب العصير

عذراَء رباها شعا

ع الشمس في حرَّ الهجير

لم تَدْنُ من نار ولم

يعلق بها وَضرُ القُدور

ومُقرْطقٍ يمشي أما

م القوم كالرشأ الغرير

بزجاجة تستخرج الس

ر الدفين من الضمير

زهراء مثل الكوكب الدُّ

رَّيَّ في كف المدير

تدع الكريم وليس يد

ري ما قَبيلُ من دَبير

ومخصّراتٍ زرننا

بعد الهدو من الخدور

رياً روادفهن يل

بسن الخواتم في الخصور

غُرُّ الوجوه محجبا

ت قاصرات الطرف حور

متنعمات في النعي

م مضمخات بالْعَبير

ص: 48

يرفلن في حلل المحا

سن والمجاسد والحرير

ما إن يرين الشمس إلا

القرط من خَلَل الستور

والى أمين الله مه

ربنا من الدهر العثور

وإليه أتعبنا المطا

يا بالرّواح وبالبكور

صُعر الخدود كأنما

جُنَّحن أجنحة النسور

متسربلات بالظلا

م على السهولة والوعور

حتى وصلن بنا إلى

ربَّ المدائن والقصور

ما زال قبل فطامه

في من مكتهل كبير

ثم انتهى عهد الهادي وحال أبى العتاهية معه مستقيمة كحاله مع المهدي؛ فلما جاء عهد هارون الرشيد كان الظنون أن يكون حاله معه اكثر استقامة من حاله مع أبيه وأخيه، لما سبق من ملازمته له، وانقطاعه إليه انقطاعاً كان يحسده الهادي عليه، ولكن حاله في هذا العهد جاءت على خلاف ما كان يقدر لها. وهنا تضطرب الروايات عن أبى العتاهية بقدر اضطراب أمره، وتغير حاله

روى صاحب الأغاني أنه لما مات الهادي قال الرشيد لأبي العتاهية: قل شعراً في الغزل، فقال: لا أقول شعراً بعد موسى أبدا، فحبسه وأمر إبراهيم الموصلي أن يغني، فقال لا اغني بعد موسى أبدا - وكان محسناً إليهما - فحبسه. فلما شخص إلى الرقة حفر لهما حفرة واسعة وقطع بينهما بحائط، وقال: كونا بهذا المكان لا تخرجا منه، حتى تشعر أنت ويغني هذا، فصبرا على ذلك مدة حتى قال أبو العتاهية لإبراهيم: إلى كم يا هذا نلاج الخلفاء؟ هلم اقل شعراً وتغني فيه، فقال أبو العتاهية:

بأبي من كان في قلبي له

مرة حبُّ قليل فَسُرِقْ

يا بني العباس فيكم ملك

شُعَب الإحسان منه تفترق

إنما هارون خيرٌ كله

مات كل الشر مذ يوم خلق

وغنى فيه إبراهيم، فدعا بهما الرشيد فأنشده أبو العتاهية وغناه إبراهيم، فأعطى كل واحد منهما مائة ألف درهم ومائة ثوب

وروي مرة ثانية عن محمد بن أبي العتاهية قال: كان أبي لا يفارق الرشيد في سفر ولا

ص: 49

حضر إلا في طريق الحج، وكان يجري عليه في كل سنة خمسين ألف درهم، فلما قدم الرشيد الرقة لبس أبي الصوف وتزهد، وترك حضور المنادمة، والقول في الغزل وأمر الرشيد بحبسه، فلم يزل يكتب إليه الشعر يستعطفه حتى كتب إليه:

وكلفتَني ما حلت بيني وبينه

وقلت سابغي ما تريد وما تهْوى

فلو كان لي قلبان كلفت واحدا

هواكَ وكلفت الخليَّ لما يهوى

وروي مرة ثالثة عن محمد بن أبي العتاهية قال: لبس أبو العتاهية كساء صوف ودراعة، وإلى على نفسه أن لا يقول شعراً في الغزل، وأمر الرشيد بحبسه والتضييق عليه فقال:

يابن عم النبي سمعاً وطاعة

قد خلعنا الكساء والدُّرّاعة

ورجعنا إلى الصناعة لما

كان سخط الأمام ترك الصناعة

فلم يزل الرشيد متوانياً في إخراجه إلى أن قال:

أما والله إن الظلم لومُ

وما زال المسيء هو الظَّلوم

إلى ديان يوم الدين نمضي

وعند الله تجتمع الخصوم

لأمر ما تصرفت الليالي

وأمر ما توليت النجوم

تموت غداً وأنت قريرُ عين

من الغفلات في لجج تعوم

تنام ولم تنم عنك المنايا

تنبه للمنية يا نَؤوم

سل الأيام عن أمم تقضت

ستخبرك المعالم والرُّسوم

تروم الخلد في دار المنايا

وكم قد رام غيرك ما تروم

ألا يا أيها الملك المرجيّ

لميه نواهض الدنيا تحوم

أقلني زَلةً لم اجر منها

إلى لوم وما مثلي مَلوم

وخلَّصني تُخلَّص يوم بعث

إذا للناس بُرَّزّتِ الجحيم

وسنستوفي فيما بقي من هذه الروايات في هذا الشأن الجديد الذي صار إليه مع الرشيد، ونعمل على التوفيق بينهما، ونرد هذه الحال الجديدة في أبي العتاهية إلى أسبابها الحقيقية

عبد المتعال الصعيدي

ص: 50

‌قبر الغريبة

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

قالها على لسان أحدهم يخاطب قبر حبيبته التي ماتت غريبة

قبرَ الغريبة لا باكٍ ولا ناع

سوى محبٍّ من حزنه داع

قبر الغريبة لا ماء ولا زَهَرُ

إلاّ دموعي وأشعاري وأسجاعي

والشعر من عنصر الراديوم جوهرُه

فليس ينفكّ ذا ومضٍ وإشعاع

ماتت وصورتها في العين ماثلة

أخِلَّتي لم تمت أم لستُ بالواعي

كأنها من شقوق القبر ناظرة

إليّ نظرةً مُلتاعٍ لملتاع

نزيلةَ القبر قولي: لستُ ميّتةً

وقد تنبهت أرنو بعد تهجاع

أم ليس ما أنا راء في حقيقته

سوى خيالٍ لمن أراه خدَاع

فأنت ميّتة أودعتُها بيدي

قبراً وبالرغم عني كان إبداعي

حزني شديد وأوجاعي مبرّحة

ماذا يخفف أحزاني وأوجاعي؟

دع الدفينة تحت القاع راقدة

فالقاع ليس لما فيه بمضياع

تحفّ بالميت أشياع لتدفنه

أمّا الغريب فلا يحظى بأشياع

ما كان حادث هذا الموت في بلدي

لغير قلبيَ في صدري بصدّاع

في كل عمريَ قد أحببتُ واحدة

وهذه ارتاحت في آخر الساع

أَلمعت للركب استبقيه ملتمساً

فلم يردّ إليَ الركبَ إلماعي

ما الأرض وهي لنا أمُّ بمشفقة

فطالما أوقعت بي شر إيقاعي

ولم اكن هابطاً منها لأودية

ولم اكن لثناياها بطلاَّع

ما كنت احسب أن الدهر يفجعني

بمن أحَبَّ فؤادي شر أفجاع

والدهر مازال منّاعاَ لنائله

عن بعضهم ولبعضٍ غير منّاع

كانت محاسنها اللائي فُتِنتُ بها

يملأن قلبي وأبصاري وأسماعي

كنت السعيد بماضٍ كان يجمعنا

معاً لو أن إليه جاز إرجاعي

في الحب تُسطاع أشياء وان عسرت

إلاّ السلوّ فهذا غير مسطاع

ما أن ذكرتكِ في سري وفي علني

إلاّ توثَّب قلبي تحت أضلاعي

ص: 51

أحِسّ في حين طرفي لا يراكِ إلى

جنبي بوخزٍ كحرّ النارِ لذّاع

لهفي على أعين وقّادة طفِئت

بعاصفٍ هبّ يسفي الموتَّ زعزاع

قد كنتِ يوم اجتماع الغيد مفردةً

ككوكبٍ في سماء الحسن لمّاع

سمراء فاتنة العينين خالقُها

قد أبدع الحسنَ فيها أيّ إبداع

ما قيمة العيش في معزولة شطنت

ما إن بها لنفوسٍ أوذيت راع

أتأذنين بدفني إن هلكتُ إلى

جوار قبركِ في جوفٍ من القاع

فتلتقي في الثرى منا الجسومُ وإن

كنا ولا أحدٌ منا به واع

إن انتظارك فيه لا يطول فبي

تدنو إلى القبر أدوائي وأوجاعي

أما دنوّيَ من حتفي فيُفرحني

كأنما أنا من نفسي له ساع

موتُ الحبيبة في دنياي زهّدني

فلستُ إلاّ إلى حَيني بنزّاع

بكِ التحاقي أكيدٌ لا ارتياب به

فلا يضيركِ إبطائي وإسراعي

وسوف نسبح في هذا الفضاء معاً

وقد نطوف بشمس ذات أتباع

لا يُفزعنّكِ بحرٌ للأثير طمى

وما هنالك من موجٍ ودفَّاع

(بغداد)

جميل صدقي الزهاوي

ص: 52

‌نشيد المجد

بقلم إلياس قنصل

من ديوان (السهام) الذي يصدر قريباً

إلى المجد سرْ، واغنم أكاليل غاه

بهمّةِ جبارٍ له الخلد مأربُ

وكن قوةً يَعنو الجلالُ لبأسها

ويسبقها من سؤدد الفضل موكب

وإن ناصبتْك الحربَ دنياك كلها

وحفَّكَ من ليل الحوادث غيهب

فلا تشكُ فالشكوى احتضارُ مخيّبِ

ولن يستحقّ النور شاكٍ مخيبُ

بل استلّ من عالي أباك مهنّدا

تغلغل فيه من مضائك كهرب

وكافحْ به صرف الزمان وقل له

سأبعث فيك الرعب من حيث تهرب

أورِ زناد الكدّ واخلق أشعةً

من الحزمِ لا ينتابُها الدهر مُغرب

وشقّ بها درباً إلى كل غايةٍ

سناها على عطر الثنا يتغلَّب

وإن بتَّ مهضومَ الحقوق ولم تثرْ

فلستَ بذي نفسٍ إلى الله تُنسب

براها، ورقاها لتغدو على الثرى

خليفتَه - وهْو العزيز المغلَّوب -

وما الموت إلا الضعف والجبن والونى

وما العيش إلا نيل ما أنت ترغب

وما النفس إلاَّ عزة وكرامة

يظلَّها من طارف النبل مذهبُ

عاصمة الأرجنتين

إلياس قنصل

ص: 53

‌ذكرى محمد في عيد ميلاده

للأستاذ محمود غنيم

هو عيدُ ميلادِ ابنِ منافِ

لا عيدُ مخترعٍ ولا كشافِ

أكبرتُ قدرَك يا ابنَ عبدِ الِله عن

تأليف أوزانٍ ونحتِ قواف

ما أنت إلا عيلمٌ لم يُكتشف

يَطغَي بلجَّته على الوصَّاف

بحرٌ خضمَّ غير أن جُمانَه

مازال سرَّاً داخل الأصداف

لولاك لانقطع الزمان فلم تكن

حلقاتُه موصولةَ الأطراف

دجت القرونُ فقام دينُك حارساً

يحمي ذمار حضارِة الأسلاف

هزَّ الوجودَ في بكفَّه في مهده

طفلٌ يتيمٌ من كنانةَ عاف

جادت به الفلواتُ أصفى طينةً

وطويةً من جوَّهنَّ الصَّافي

وأشدَّ من هَضَبَاتِهِنَّ صلابةً

وأهبَّ من إِعصارهن السَّافي

فإذا الأكاسرُ خاضعون لحكمه

وإذا القياصرُ مرغمو الأناف

فتحت مبادئُه الحصونَ أمامَه

قبل الصوارم والقَنَا الرعَّاف

غزت القلوب بسحرها فكأنها

قد لامست منهنَّ كل شِغاف

أين الذي يغزو القلوبَ من الذي

يغزو الرقاب بحدَّة الأسياف؟

تلك المبادئُ - وهي شتى - جمعت

في مبدأين: الحقَّ والإنصاف

آخَى ابنُ عبدِ اللهِ بين معاشرٍ

يتناحرون تناحرَ الأخْيَاف

لانت قناتُهمو لدعوته وما

لانت قناتُهمو لغمزِ ثِقاف

ولقد يروض الأسَد رائضُها ولا

يتغيَّر الطبعُ الغليظُ الجافي

هذا هو الأعجازُ لا بحرُ ولا

بدرٌ قد انشقَّا إلى أنصاف

آيٌ من الذكر الحكيم أتى بها

فإذا القلوب تلين بعد جَفاف

ولو أن ألفَيْ دوحةٍ سجداً له

ما كان ذلك بالدليل الكافي

عجباً! أجاء محمد بالسحر في

آياته أم شابها بسلاف؟

أم كان تنويماً خضوعهمو له

ما ذلك السر العويصُ الخافي؟

أسرت قريشٌ مسلماً في غزوة

فمضى بلا وجل إلى السياف

ص: 54

سألوه هل يرضيك أنك سالم

ولك النبي فدًى من الإتلاف

فأجاب كلا لا سلمت من الردى

ويُصابَ أنفُ محمدٍ برعاف

أقسمتُ ما كان النبي محمدٌ

بمشَعْوِذٍ كلا ولا عرَّاف

ليس النبي بساحرٍ يتلو الرُّقى

ويُخيف بالأشباحِ والأطياف

لكنه الأيمان من يظفْر به

يَلْقَ المفاوزَ سهلة الاكْناف

لو آمن الجبلُ ارتقى فوق السُّهى

بقوادمٍ من ريشة وخواف

هذا الذي جعل النبيَّ ورهطَه

إن حاربوا انتصروا على الأضْعَاف

يزداد في ساح الوغى إيمانُهم

فيقابلون الموت باستخفاف

يُسْتَضْعَفُون لقلَّة لكنهم

بوثوقهم في الله غيرُ ضعاف

فإذا دُعُوا للحرب هُّبوا أو دُعُوا

للمال عفُّوا عنه أيَّ عفاف

قم سائل الأعرابَ أيةَ دولة

نهضوا بها حملاً على الأكتاف

بزَّت أثينا في الحضارة أمة

لم تأوِ غيرَ مضارِبٍ وفياف

شُغلوا بفلسفةٍ وعلم بعدما

شُغلوا بوصف منازلٍ وأثاف

تخذوا القصور مساكناً وتسربلوا

بالخز لا الأوبار والأصواف

فإذا الجزيرة بعد جَدْب جنةٌ

مياسةٌ مهتزةُ الأعطاف

يا رُبَّ أسطولٍ بنَوْهَ كأنه

بحرٌ خضمٌّ فوق آخَرَ طاف

السُّوقةُ الأجلافُ قد حكموا الورى

أنْعم بحكم السوقة الأجلاف

ما شئت من عدل وتسوية ومن

شورى فيا لثلاثة الأحْلاف

يا شرق يا مهدَ الشرائع رحمةً

لك، ما لأهلك فيك كالأضياف؟

يا شرق أنت لكل شمس مطلعٌ

ما بال أفقك حالك الأسْداف

أعْزِزْ علينا أن نراك تئنٌّ من

تقييد أقدام وشدِّ كِتَاف

بدأت من الشرق الحضارةُ سيرها

أفما لرحلتها من استئناف؟

محمود غنيم

ص: 55

‌القصص

من أساطير الإغريق

هرقل

مولده. نشأته. قوته الخرافية. مجازفاته

للأستاذ دريني خشبة

كان قلب الإله الأكبر شيوعية في دولة الحب. . . ولم يكن يقصر هواه على ربات الأولمب فحسب، بل كان يفتتن بكل حسناء من بنات حواء وطالما وصل أسبابه بأسباب الغيد الأماليد من ظباء دار الفناء. . هذه الحياة الدنيا. . .

ولقد كانت زوجه حيرا تقعد له بالمرصاد، لما تعرف من تصابيه، ولقلة ثقتها فيه، فلما علق الفتاة الفاتنة، ألكمين، إحدى أميرات هيلاس، كان يبالغ في الحذر حتى لا تفجأه زوجه معها كما فجأته مع الحسناء يو من قبل

ونعم الحبيبان بحياة راضية، ووضعت ألكمين طفلها العاتية الجبار هرقل، وما كاد النبأ يذيع في دولة الأولمب حتى ثارت ثائرة حيرا واسقط في يدها. . . لأنها لم تعد تستطيع الانتقام لكبريائها من منافستها في قلب زوجها (زيوس) تلك المنافسة التي ارتفعت إلى مرتبة الآلهة بعد إذ وضعت غلامها ابناً لسيد أرباب الأولمب

ولكنها، وهي المجبولة على الشر دائماً، آلت إلا أن يرتد نور الحياة المتلألئ ظلاماً في عيني ألام، وذلك بالفتك بوليدها المحبوب، فأمرت حيتين رقطاوين من أبالستها أن تسعيا إلى مهد الطفل، وان تندسا فيه، حتى إذا سنحت لهما فرصة أودتا بحياته، وعادتا بإثارة منه تشهد على إنفاذ ما أمرتا به

وسعت الحيتان حتى استقرتا في المهاد الوثير، وانتهزتا غفلة من الخدم فانقضتا على الفريسة الصغيرة، وأوشكتا أن تظفرا بها. . .

ولكن هرقل الصغير الهادئ، افتر عن ثغر شتيت مشرق، وقبض بأصابيعه الصغيرة الدودية على راس كل من الحيتين، وبضغطتين هائلتين حطم عظامهما جميعاً. وكان الخدم قد اقبلوا، فلما شهدوا الأفعوانين صرخوا وأعولوا، بيد أنهم بهتوا وطار الصواب من

ص: 56

أدمغتهم حينما رأوا أن الصغير، المنبطح على ظهره يضرب بظهره ها هنا وها هنا، قد قضى على الحيتين العظيمتين وألقاهما ضحيتين غير مباركتين على مذبح قوته الخرافية!!

وقدمت الكمين إلى صدرها الهائل! فرحة مستبشرة، وطبعت على جبينه الضاحك قبلة حملت أسمى معاني الأمومة

وذهلت حيرة عندما سمعت بما صنع الغلام بشيطانيها، وأيقنت ألا سبيل إلى القضاء عليه، ولكنها لم تيأس، وأقسمت أن تنثر الشوك في مستقبله القريب، وثبت العراقيل في حياته الجائية

وشب هرقل. . .

ونشأه مؤدبه، شيرون، زعيم السنتور، تنشئة حربية حافلة، ولقنه كل ما تحتاج إليه حياة الفرسان من تقشف وخشيشان؛ فمهر هرقل في زمن قصير في استعمال الأسلحة بأنواعها، ونبغ في جميع صنوف الرياضة والعاب الفروسية والقوى وكان شيرون نفسه يعجب بهذا الجسم الحديدي، يمسكه العضل البارز، ويزينه الكيان المفتول. . . وكان إذا أراد تدريبه على المصارعة والعاب القوة، آثر أن يشركه في نزال مع الثيران والعجول، والضخم ذو الأيد من بهيمة الأرض. وكان هرقل لا يخشى شيئاً من خصومه العجماوات، بل كان يقبل على مصارعتها بثغر بسام وقلب طروب، فلا يدعها معفرة بالتراب! وخشيته الحيوانات جميعاً، فكانت تجفل من طريقه كلما رأته مقبلاً نحوها، لطول ما جربت من بطشه وشديد بلائه!

وكان الفتى كلما ازداد قوة، وذاب الحديد في عضلاته، ازدادت حيرا تغيضاً وهاجت في فؤادها الأحقاد!

ولم تعد تطيق صبراً على هذا الخصم العنيد، ومادت بها الأرض، وأصبحت كأن يعاسيب العداوة تظن في رأسها تغريها بهرقل، ومن يلوذ بهرقل، فانطلقت إلى زوجها ولم تزل به حتى اصدر إرادة أولمبية تقضي أن يصبح هرقل خادماً لابن عمه، النذل الخسيس، يوريذوس أمير ارجوس، وأن يظل في خدمته بضع سنين. . .

وانتهى هرقل من تلمذته على شيرون وانطلق يكابد كفن قاس ملئ بالرغائب، مفعم بالمجازفات. فبينما كان يعبر طريقاً معروشاً بفروع السنديان، بين غابتين عظيمتين، إذا

ص: 57

غانيتان جميلتان تعترضانه وتأخذان على سبيله. . . فأشاح عنهما، يحسبهما من المسكينات ملفوظات البغاء، أو من أولئك اللائى يتخذن الفسوق حرفة قذرة إلى عيش وضيع. ولكن الفتاتين تشبثا به، وأبتا إلى أن يقف معهما هنيهة، يتخير منهما واحدة تكون رائدته في هذه الحياة، تهديه وترشده وتأخذ بيده في سبلها المتشعبة

وكانت إحدى الفتاتين، (كاكيا)، شيطان الأثم، وإبليس الفجور في هذه الأرض. فتقدمت إليه متبرجة متهتكة، تغمز بهذا الطرف، وتبسم بذاك الثغر، وتهز ما سكن من الجيد، وتمط ما أشرب من العنق، وتحسر عن الساقين، وتكشف عن الذراعين، ثم هي تقرقع بضحكات مخنثة تثير الاشتهاء في نفس الشاب، وتستولي بها على مشاعره: (أنا، حبيبتك كاكيا، أجمل غادات هيلاس ومفتحة الورود في خدود العذارى، أضع قلبي وجسمي بين قدميك يا هرقل العزيز، مطية إلى الفردوس التي تجد فيها ما شئت من نعيم وما تمنيت من لذة. . . فاتبعني اجعل الدنيا كلها من حولك سعادة، وأصير طريقك أني ذهبت في الحياة منضورة بالورد، زاهرة بالرياحين. . . هلم ألي نحي حياة كالحلم، بعيدين من عناء العالم، نائمين عن شقاء الدنيا، لانفتح عينينا إلا متعة، ولا نرهف سمعينا إلا لموسيقى، ولا نغلق قلبينا إلا على نعيم. . .

مالك ولشد اربداد وجه الحياة يا حبيبي هرقل؟ إن الدنيا فرصة سانحة فانتهزها، وان العمر قصير ألا تلق به بخوراً في نار البأساء، وأن الأيام لتخب بنا دون أن نشعر بها، فلم نحاول أن نلبسها بالجد فيها هذا اللبوس الأسود الحزين القاتم؟ ولم لا نرسلها في وشي وافواف، لم لا نسمع دائماً لما توحيه ألينا قلوبنا ونفوسنا ما دامت الدنيا مخلوقة لها؟ لم تطرق هكذا يا حبيبي؟ أمتعب أنت؟ هات رأسك إذن، ودعه ملقى على صدري الجميل الخصب. . .)

ولكن الفتى نفر نفرة بادية، وأرسل نظرة فاحصة إلى (اريتيه)، الفتاة الأخرى، التي كانت تقف عن كثب، مصغية إلى حديث كاكيا، مشفقة على الشاب المسكين. أما اريتيه هذه فربة الفضيلة، ونفحة السماء، وهادية البشر ومنقذتهم من شرور كاكيا. . .

وسألها هرقل: (وأنت أيتها الفتاة، بم تشيرين؟) وقالت اريتيه، وهي تكفكف عبرة غالية:(انا؟ لا أشير عليك بشيء أيها الصديق إلا بالحذر من هذه الغادة! أنها توشك أنا تظلك وترديك!) فغضبت كاكيا وأخذها الحنق، وأجابت في غلظة ومخاشنة: (أضله وأرديه؟

ص: 58

هاها. . . وأنت أتسلكين به سبيل الفضيلة الذي زرعت أرضه قتاداً، وبرزت فيها أنياب الذئاب؟ اسمع يا هرقل، أصغ ألي يا حبيبي، دعك من هذه الفتاة المحتشمة. . إليك عنها. . . إنها تغطش حياتك لو تبعتها. . .)

وتبتسم اريتيه ابتسامة هادئة وتقول: (أن الآلهة يا هرقل قد زودتك بهذه القوة الكامنة في بنيانك لغرض أسمى من جميع الأغراض الحيوانية، وقد كان أجدى للخير العام أن تخلق ثوراً ذا خوار من أن تودع كل هذا الحديد في عضلاتك، لو لم تكن قد أعدتك لفعال جسام لن يؤديها غيرك. اجل! أن طريقي لا ينمو بها غير الشوك، وأنها تدمي الأقدام وتجهد السائرين، ولن ترى فيها زهرة ولا ريحانة، بل لن تسمع بها عصفوراً يغني ولا بلبلاً يغرد، وبالعكس، قد تقتتل فيها مع السباع والضواري والثعابين، ولكنك في أخر كل نصر، وعقبى كل ظفر، ترى جنة من الرضى تحفك بالزهر، وترقص بين يديك بالغواني والقيان. أما هذه. أما ما تغريك به هذه الأنثى الهلوك، ففيه حتفك، فحذاري. وليس احب إليك كرجل كان له الشرف أن يكون ابن إله من أن تثبت للإله انك جدير بما انتدبتك له)

وسكتت اريتية ولكن كاكيا لبثت تدل وتتيه وتتبرج تحاول الفوز بهذا القنص العزيز. غير أن نخوة الرجولة ثارت في قلب هرقل فانتهر الغانية الغاوية واغلظ لها ثم تقدم إلى اريتية فتناول يدها الصغير الحلوة وطبع عليها قبلة تفيض وقاراً واحتراماً ثم قال لها بصوت متهدج خافت: (هلمي بنا يا فتاة فلن أخشى في سبيلك بأساً ولا رهقا)

وانطلقا. . . وغابا في ظلام الغابة. . .

ولم يبرح هرقل معينا للضعفاء مغيثاً للملهوفين إذا رأى مظلوماً انتصف له من ظالمه وإذا لقي جائعاً نزل له عن زاده؛ ولم يبرح ينصر الفضيلة أنى سار، ولم تبرح الفضيلة تمشي في أثره أيان، ولى حتى ضاقت الدنيا بحيرا ولم تعد تحتمل هذا الغار من المجد يكلل هامة خصمها العظيم، ولاسيما بعد أن اتصل بالملك كريون ملك طيبة وزواجه من ابنته الجميلة ميجارا

لقد أحب هرقل زوجته حباً جما وأحبته هي كذلك وأخلصت له وكانا يذهبان إلى الغابة القريبة يتناجيان نجوى الحب ويرشفان كؤوس الهوى ويعودان مع الأصيل فيسامران الملك الشيخ ويدبران معه أمور المملكة. ثم مكرت حيرا مكرها!. . .

ص: 59

لقد صممت على أن تسلب هرقل رشده وتتركه يهيم في الأرض ينطح برأسه الصخر كما يفعل الضلال المجانين. فبينما كان غاراً في أحلام السعادة إلى جانب زوجته آمنين مطمئنين إذا حيرا الآثمة تندس في ظلام المخدع وتنفث سحرها الفظيع في أذني هرقل وتمضي لشانها فتختبئ في الحديقة خلف دوحة كبيرة من دوح الشاهبلوط. . . وتنظر ثمة ريثما يصحو الزوج المسكين فتشهد المأساة التي تتفزع من هولها الأرض وتميد الجبال!. . .

وأشرقت الشمس!

واستيقظ هرقل ونهضت ميجارا ولكن ناراً كانت تقدح الشرر في عيني البطل! وزبداً حاراً كان ينقذف من فمه المخوف! وأصواتا كأصوات الشياطين كانت تدوي في رأسه الضخم. . .

والدم!. . .

لقد كان ينبثق من كل جارحة في جسمه الأرجواني فيصبغ اللحف والأرائك ويسيل على أديم الغرفة المغطى بالدمقس! وذعرت ميجارا وصرخت صرخات راجفة تدعو أباها. . ولكن هرقل المسحور ينتفض انتفاضة تزلزل أركان القصر وينقض على زوجته التعسة كأنه ضبع: (تعالي يا خائنة! أين كنت طيلة الليلة الفائتة؟ آه! أجل! كنت تتمرغين بين ذراعي عشيقك الجبان! الويل لكما! شرف هرقل تلغ فيه الكلاب!)

وبضغطة قوية من يديه الصارمتين على عنق الفتاة المنكودة يتركها جثة هامدة قرباناً لموت في عنفوان الصبا وضحية للردى في ريعان الشباب. . .

وانطلق يصرخ في ردهات القصر وهرول يزمجر في حنيات الحديقة ثم أطلق ساقيه للريح. . .

وفي قنة جبل تزمزم الأعاصير في جنباته جلس هرقل المسكين ليثوب إليه رشده وليذكر أنه قتل زوجته المحبوبة في نوبة جنونية فينشج ويبكي. .

وتكون غمامة فوق رأسه تظله من وهج الشمس فتنشق عن آله كريم هو هرمز رسول السماء، حمل إلى هرقل تلك الإرادة الأولمبية القاسية التي أصدرها زيوس، متأثراً بإلحاح زوجته الآثمة حيرا التي تقضي أن يظل هرقل في خدمة ابن عمه يوريذوس اثني عشر

ص: 60

شهراً يصدع خلالها بما يؤمر!

- (لقد كان عليك أن تظل في خدمته بضع سنين ولكننا ألحفنا على رب الأرباب فقصر المدة وأختزلها إلى ما ترى!)

(يختزلها أو لا يختزلها، لقد أصبحت الحياة سجناً بدون ميجارا!)

- (عليك بالصبر يا صديقي، فقد تفيدك طاعة الإله. . .)

- (الإله التي لا تحسن عملاً غير هذا العبث!)

- (صه صه. . هلم إلي يوريذوس، وستكون حراً بعد سنة واحدة. . .)

وجن جنون هرقل لهذا القضاء الأولمبي الأعمى، وفر من هرمز في مسارب المياه، ولجأ إلى الوحوش يلتمس لديه الصبر الجميل والقلب الرحيم؛ ولكنه عبثاً حاول الفرار مم كتبت السماء عليه، وهنا، بدت له صديقته ربة الفضيلة أربيته، فنصحته، ولم تزل به حتى أقنعته بخدمة يوريذوس، فذهب إليه كسير القلب مهيض الجناح، وكان جبلاً من الهم والسخط مستقر على رأسه

وقال له يوريذوس: - (وأخيراً وصلت إلي آخر الدرب يا هرقل!. . . إن أمامك أموراً فأعد لها عدتك، فما أحسب دموعك على ميجارا بمجدية عليك شيئاً. . . .)

وحدجه هرقل بنظرة يشتعل فيها الغضب وقال له: (أجل؛ لقد وصلت أخر الدرب. . ولكن ليس لك شأن بدموع أذرفها من أجل ميجارا. . . ألا فاذكر حاجتك التي أرسلتني الآلهة لأقضيها لك، وأقصر!)

وضحك يوريذوس حتى كاد الرعد يخرج من بين شدقيه، وقال:(حاجتي! إن لي لحاجات ما أحسبك تستطيع قضاء واحدة منها. وكيف تصبر مثلاً على سبع نيميا الذي يقطع الطريق إلى غاباتها ذات الكنوز والأذخار؟)

وقال هرقل: (سبع نيميا أو ألف سبع كسبع نيميا، عليك أن تكلفني ولو بهدم السماء أفعل ما تكلفني به. . والآن، أإذا جئتك برأس هذا السبع أكون طليقاً؟)

- (تكون طليقاً؟ إن أمامك اثنتي عشرة مسألة، رأس سبع نيميا أولها وأيسرها يا هرقل، فهلم إذن، وسنرى. . .)

(لها بقية)

ص: 61

دريني خشبة

ص: 62

‌من الأدب الإيطالي

الليالي العشر

ترجمة الأديب أحمد الطاهر

- 3 -

قصة صداقة جيزيبوس وتيتوس

قالت فيلو مينا: (لقد سمعتم من بامفيلو قصة رائعة تظهركم على قوة الحب وأثره في النفوس؛ وأنا ذاكرة لكم قصة أخرى تكشف عن قوة الصداقة وفعلها في الناس: وقعت حوادثها في عهد أوكتافيوس قيصر إذ كان حاكماً لروما

فصل من روما إلى أثينا شاب يدعى تيتوس ليدرس الفلسفة، وهناك عربي شاباً أثينياً شريفاً أسمه جيزيبوس، واتصلت بين الفتيين أسباب الصداقة والمحبة. ومضت سنون ثلاث تعمل على توثيق هذه الأسباب، والفتيان لا يفترقان في مسكن أو مأكل أو درس

وقدر لجيزيبوس الأثيني أن أغرم بفتاة جميلة من بنات جنسه تدعى (سوفرونيا)، وحببت إليه الفتاة، وحبب الفتى إليها، واتفق المحبان على الزواج

ورأى جيزيبوس قبل الزواج ببضعة أيام أن يصحب صديقه الروماني تيتوس إلى بيت الفتاة لزيارتها، وهو يعهد فيه نبلاً في الطبع، وشرفاً في النفس لا سبيل إلى الشك فيهما، وما أن رأى تيتوس الفتاة حتى أقصده حبها بسهم مصيب، واشتدت به تباريح الهوى، فما يغمض له جفن، ولا يهنأ له طعام. وما زال الحب يلح عليه حتى أضناه، ويسرف في النيل منه حتى أضواء، وأصبح الفتى سقيما عليلاً لا يرجى شفاؤه، ولا يرحم داؤه، وساءت به الحال، حتى أشفى على الزوال

وعز على صاحبه ما أصابه، وذهبت به الظنون كل مذهب في سبب علته، وأخذ يسائله عن مصدر أحزانه، ومبعث أشجانه، والفتى لا يستطيع جواباً بغير الدمع ينهمر من مآقيه، والصمت لا يبرح على فيه؛ ولما أسرف عليه صاحبه في السؤال وألح، قال: (يا صديقي،

ص: 63

لقد أحسست بخستي ودناءتي؛ فما احسبني بعد اليوم خليقاً بصداقتك، وما أطمع منك إلا في عفوك وصفحك، أما عند الله فسيصيبني بما أجرمت صغار وعذاب شديد، وما يوم القصاص ببعيد. ولا أكتمك أن مبعث علتي، ومصدر شقائي هو حبي لفتاتك سوفرنيا. أعترف لك بهذا الأثم الشنيع الذي فارقت رحضاً لسبة الخيانة، ومعرة الإنكار، واستعداد لقضاء العادل الجبار)

وجم صاحبه لحظة، واستولت عليه حيرة، وتزاحمت عليه خواطر شتى: هذا وفاؤه لتيتوس يكبره ويقدسه، ويذود عنه بعقله وحكمته، وهذا حبه لسوفرينا يملك عواطفه ويتحكم في شعوره ويملأ قلبه. فماذا يصنع؟ والى أي العاملين يخضع؟ ثم ليست هي الصداقة وحدها تتراءى له فيقع في حيرة وتردد، بل هو الصديق نفسه قد أشفى على الهلاك والتلف، وتصرمت بينه وبين الحياة أسبابها. أطال جيزيبوس الصمت، وأغرق في التفكير، ثم استقر، ورضى، وطابت نفسه أن ينزل عن سعادته في الحب لينجو صديقه من الموت، وتنجو صداقتهما من أن يعتورها كلل أو فتور

ومضت بضعة أيام، وأقبلت سوفرنيا إلى منزل العريس، وقد أعد العدة لليلة الزفاف. وما وافت ساعته حتى انسل إلى مقصورتها، وأطفأ شموعها وقفل راجعاً إلى صديقه تيتوس في حيرة لا قبل له بها، وتزاحم عليه الخجل، والحب، ولرغبة، والأباء، والوفاء: تتنازع هذه النفس المعذبة المحطمة وتتركها شعثاً لا يرجى له اجتماع، وتضطرب في هذا القلب المتداعي حتى ليكاد ينفجر الصدر، وتنقض الأضلاع. ولم يسعه إلا أن يرفض ما عرض عليه جيزيبوس، وألح هذا الصديق الوفي في قبول ما عرض، حتى نزل تيتوس على إرادة صديقه وقبل رجائه، وأسترق الخطى إلى مقصورة العروس، فلما دنا منها تحت غلس الليل قال لها:(أتطيبين نفساً بزواجي؟) فحسبته الفتاة زوجها الموعود جيزيبوس، وأجابت (بنعم). فتناول خاتماً ثميناً ووضعه في إصبعها وقال لها شاكراً (وسأكون زوجك) ولما تنفس الصبح وافتضح التدبير أدركت سوفرونيا أن في الأمر خدعة ودلساً. فتسللت من بيت عرسها وانصرفت إلى أمها وأبيها، تشكو إليهما خدعة وقعت فيها، وذاع الخبر في أثينا، وكان حديثاً تلوكه ألسنة الناس ساخطة على فعلة جيزيبوس وخديعته لفتاة انحدرت من أطهر الأصلاب وأعرق الأنساب، ولكن لا مفر مما وقع، ولا تبديل لحكم القضاء. ولم

ص: 64

يجد والدا الفتاة حيلة في هذه الكارثة المخزية إلا أن يسترا الفضيحة ويكتما العار. فطلبا إلى تيتوس أن يرحل بالفتاة إلى روما حيث لا يعلم الناس من أمرهما شيئاً.

وما كاد الفتى يفصل عن أثينا بزوجته حتى تحركت في نفوس الملأ سورة الغضب والانتقام من جيزيبوس جزاءً بما فعل بهذه الأسرة الكريمة، واشتدوا على الرجل ونكلوا به تنكيلاً، وجردوه من كل ما يملك، وشردوه من أثينا تشريدا أبدياً، فخرج منها مذموماً مدحوراً

وركب نعليه إلى روما، ومشى إليها مكباً على وجهه، كاسف البال، عليه من الثياب أسمال، لا رفيق له إلا أحزانه وأشجانه، تبطئ خطاه حيناً، وتسرع أحياناً. ولقى في سفره هذا عناءً ونصباً. وأشرف على المدينة فتلمس دار صديقه الذي لقى ما لقى في سبيل الوفاء له والإبقاء على صداقته فهداه السابلة إلى طريق اتخذ سمته فيه إلى قصر شامخ عليه مظاهر النعيم واليسار، تجري عليه من السعادة أنهار، وإذا هو قصر صاحبه تيتوس.

وتنسم أخباره فإذا هو في نعمة سابغة، وسطوة بالغة، وإذا هو في المدينة من ذوي السلطان والحول، والقوة والطول، لا يدفع له أمر، ولا يرد له قول أن كان في المقربين من أمير البلاد أوكتافيوس قيصر من الخاصة الخلصاء. وأختلس الفتى من أعين الحراس موقفاً إلى جوار الباب خفياً، وأسنده ظهره إلى الحائط وأطرق يفكر ملياً

وا رحمتاه لهذا البائس المنكود! يسبح في بحار من الأحزان والآلام لو سلطت على هذا القصر لدكته على من فيه دكاً. ترى ما الذي يختلج في هذا الصدر من لوا عج الأسى؟ وما الذي يضطرب في هذه النفس من شتى المشاعر؟. هذا صديقه الذي نزل عن سعادته في الدنيا لينعم بها دونه ولقى في سبيل الوفاء له شر ما يلقى الناس من عنت الدهر، وتجرد له من حطام الدنيا وما ملكت يداه، وأفزع من وطنه شريداً طريداً لينعم بخفض العيش ويستقر في مهاد النعمة. . أإذا خرج ورآه، يعطف عليه ويرق لمرآه؟ أيذكر له سابق فضله ويسبغ عليه من فيئه؟ وكيف السبيل إليه، ودونه من الحراس والحجاب والأبواب ما يصد الناس عن الوصول إليه ولو كانوا من ذوي المكانة. فكيف به وهو على ما نعلم من المذلة والمهانة؟

وبدت في القصر حركة تدل على أن صاحب القصر قد آذن بالخروج، فتحرك الفتى من

ص: 65

موضعه، واحتبست أنفاسه، وخرجت من صدره نفثات، ومن عينه عبرات، ومر صاحب القصر به ولم يعن بشأنه ولم يلتفت إليه كأن لم يكن شيئاً موجوداً وأنصرف الفتى يتعثر في أذيال الخيبة ويهيم في الطرقات، لا يقصد غاية، ولا ينتهي إلى نهاية. كأنما وكل بسبل المدينة يذرعها ذرعاً. وأدركه الليل. وبسط عليه جناحين من سواد، فأوى إلى كهف يتخذه اللصوص مثابة فألقى عنده عصا الترحال وأسند رأسه إلى الأرض يلتمس فيها راحة البدن؛ وقد أيأسته راحة النفس، وحاول أن يغمض عينيه، ولم يجد النوم سبيلاً إليهما بين هذه العبرات الحارة المنهمرة انهماراً. ودخل إلى الكهف لصان يحملان أسلاباً، ونزع الشيطان بينهما فاختلفا في قسمة الغنيمة فهم أحدهما وضرب الآخر فأرداه قتيلاً

تنفس الصبح وطاف بالكهف بعض العسس فألفوا القتيل مضرجاً بدمائه وفتى القصة راقداً إلى جواره. فاقتادوه إلى دار الشرطة والقضاء ليتبينوا منه الأمر وهنا دفع اليأس فتانا لأن يلتمس مخرجاً من هذه الكوارث فألقى بنفسه إلى التهلكة وترامى في أحضان الموت وقال: (أنا القاتل!) وفي نفسه بارقة من الأمل، ولكنه أمل في الموت وفي أن يخرج من عناء الدنيا إلى راحة الأخرى

قال القاضي (ولقد حكمنا عليك بالإعدام صلباً) وكذلك كان يجزى القاتلون

وساقت الأقدار تيتوس ذا الحلول والطول إلى ساحة القضاء ليزجى دفاعاً عن أحد الأبرياء، فحانت منه نظرة إلى فتانا جيزيبوس فأنكره، ثم تأمله فتبينه وعرفه، فساءته حاله وأشفق عليه وعقد العزم على أن يخرجه من بأسائه إلى نعيم، وأن يبعث في حواشي هذه النفس الحالكة شعاعً من الأمل لا يخبو. ولم يكن من سبيل إلى هذه الغاية إلا أن يدحض اعتراف جيزيبوس باعتراف آخر، فمثل أمام القاضي وقال:(مهلاً أيها القاضي! أنا القاتل! وهذا الرجل برئ مما يدين به نفسه!)

وقع القاضي في حيرة يصعب الخلاص منها، وأدرك تيتوس أن صديقه يسعى لإخراجه من فم الأسد الذي أقحم نفسه بين فكيه. وهو لا يريد الفرار من بؤس الحياة إلى الحياة، وإنما وجد في الموت منجاة من عذاب الحياة. وفصل جيزيبوس من مجلسه إلى القاضي ودفع صاحبه وقال:(لا! بل أنا القاتل يا سيدي ولا ترفع قصاصك إلا عليّ!)

قال القاضي في نفسه: (أكان الصلب شرفاً يتزاحم عليه هذان المأفونان؟) وفيما هما

ص: 66

يتدافعان إلى الردى برز من بين النظارة لص هصور وقال: (لقد رأيت هذين الرجلين يدفع أحدهما الآخر بما وسعه من الجهد عن حياض الردى، فما وجدت خيراً من أن أعترف لك يا سيدي القاضي بكل شيء فأريحك وأنقذ الرجلين وأريح نفسي. ما شأن تيتوس - وهو على ما علمتم من الشرف - وما سدة اللصوص يأوي إليها أو يتخذ إليها السبيل؟ وهذا الرجل ذو الثوب الخلق كان حقاً في إحدى زوايا الكهف نائماً، ودخلنا الكهف أنا وزميل لي ونزغ الشيطان بيننا فاختلفنا في قسمة الأسلاب - واللصوص كما تعلمون تدب بينهم الشحناء لخير العدالة والقضاء، ففضضت النزاع بأن سلت مديتي وأزهقت روح زميلي كما أسل اليوم لساني لأنقذ روحيّ هذين السيدين)

هذا خصم ثالث يطالب بنصيبه في الموت كاملاً، فما أشد حيرة القاضي ووجوم النظارة!

ورجع القاضي إلى ملاذ القضاة، وهو أوكتافيوس قيصر، أمير البلاد، ودفع إليه بثلاثة الرجال، فألقى السمع إلى حديثهم وعرف ما كان من أمر تيتوس وجيزيبوس منذ جمعت بينهما الصداقة، وفرق بينهما الحب، وجمعتهما الأقدار، إلى أن مثلا في مجلسه فقضى بحكمه العادل ببراءة الصديقين، والعفو عن اللص المعترف إكراما المعترف إكراماً لهذه الصداقة وإكباراً لنفسه الأبية

وخلا الصديقان أحدهما إلى الآخر في قصر تيتوس، ولما اطمأن بهما المجلس نزل تيتوس عن نصف ثروته إلى صديقه وزوجه من أخته وكانت فتاة بارعة الحسن نبيلة

واقدموا جميعاً في القصر، وزادهم الله بسطة في الرزق، وسعة في العيش.

(عن الإنجليزية)

يوزباشي أحمد الطاهر

ص: 67

‌البريد الأدبي

مكتبة لوي بارنو

منذ أيام قلائل بيعت في باريس مكتبة لوي بارنو المؤرخ والسياسي الفرنسي الكبير الذي قتل في أكتوبر الماضي إلى جانب الملك اسكندر السربي؛ وكان بارنو من م أعظم هواة المكتب والتحف الأدبية، وقد قضى حياته وأنفق ثروته كلها في اقتناء نفائس التحف والكتب الأدبية، وجمع منها مكتبة عظيمة كانت من أشهر مكاتب فرنسا الخاصة. وقد أوصى بارتو بمكتبته النفيسة قبل وفاته إلى الأكاديمية الفرنسية التي كان عضواً فيها؛ وقررت الأكاديمية أن تعرضها للبيع بالمزاد؛ ووقع هذا البيع أخيراً؛ وكانت أيام البيع من أيام باريس المشهودة لما لهذه المكتبة العظيمة من شهرة ذائعة. وكتبت جميع الصحف الفرنسية عن مكتبة بارتو وعن تبدد هذا التراث البديع الذي أنفق فيه المفكر الكبير حياة بأسرها. ومما احتوته هذه المكتبة الفريدة مجموعات نفيسة من الطبعات الأولى لأشهر الكتب الفرنسية منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، ومنها مؤلفات لمونتاني ورونسار وبوالو وبوسيويه وفنيلون وموليير وغيرهم؛ ثم مجموعات نفيسة لبلزاك وبودلير، وجوتييه وموسيه وسانت بيف وهوجو وغيرهم. ومن التحف رسائل بخط نابليون بونابرت وتوقيعه، وكتب عديدة عليها شعار الإمبراطور، ونسخة خطية من معاهدة الصلح (فرساي) موقعاً عليها من لويد جورج وفوش وكليمنصو. وقد حققت مكتبة بارنو من البيع مئات الألوف من الفرنكات؛ ومما يذكر أن نسخة من ديوان بولدير المشهور (فلير دي مال) بيعت بمبلغ سبعة وخمسين ألف فرنك، بينما بيعت مخطوطات معاهدة فرساي بواحد وأربعين ألف فرنك، وهكذا بددت مكتبة لوي بارتو بين أيدي الهواة؛ وهذا مصير معظم المجموعات والذخائر الخاصة

السياحة على طريقة العصور الوسطى

تطورت وسائل الدرس والسياحة في عصرنا، واستطاع العامل أن يسخر البحر والهواء، وغدا الطواف حول العالم أيسر الأمور. ولكن ما زال يوجد من الرحل والباحثين في عصرنا من يفضل الطواف على طريقة السائح الهروي وابن بطوطة وماركوبولو وغيرهم من أكابر الرحلة في العصور الوسطى. فمنذ عامين فكر ضابطان بحريان فرنسيان هما

ص: 68

الكابتن بيشوف وجوزيف ثاثبويه في جوب بحار العالم في قارب شراعي؛ ونفذا مشروعهما الجريء، وقطعا إلى اليوم زهاء ستة آلاف ميل، وغرقا أكثر من مرة، وسلباهما اللصوص أكثر من مرة، واعتقلا كجاسوسين وعاشا شهوراً طويلة على الحشائش والأسماك، مما يذكرنا برحلات السندباد العجيبة

خرج هذان السائحان من ثغر تونجهاي في الهند الصينية في مركب شراعي، وسارا شرقاً في عرض المحيط الهادئ إلى جزائر كارولين، وهناك كسر قاربهما، فعادا إلى الصين، وجهزا سفينة شراعية أخرى؛ وسارا فيها إلى جزيرة فرموزا اليابانية، وهنالك سطا عليهما اللصوص فجرداهما من كل شيء حتى أوراقهما الشخصية، ثم قبضت عليهما سلطات الجزيرة بتهمة التجسس، وأبعدا من فورموزا. ولكنهما لم يعدلا عن مشروعهما؛ فجهزا مركباً ثالثاً؛ وخرجا من ثغر أموي، واخترقا بحر ثيمور قاصدين إلى جنوب استراليا؛ وفي أثناء الطريق هاجمتهما كلاب البحر، ومزقت العواصف شراع المركب، فلبثا عشرة أيام تحت رحمة الموج لا يعرفان لهما مستقراً، حتى لمحا في عرض البحر سفينة نرويجية، فأغاثتهما، وأمدتهما بالمؤن، وأصلحا الشراع؛ واستمروا في رحلتهما حتى وصلا إلى ثغر بروم في استراليا الغربية، ثم عبرا بوغاز توريس حتى بور مورسي، ووصلا إلى شواطئ جزائر بابوازي بعد رحلة مروعة، وهنالك أنكسر قاربهما مرة أخرى؛ فعاشا في تلك الأرض زهاء سبعة أشهر يأكلان قواقع البحر ويشربان ألبان جوز الهند، ويدرسان أحوال هذه الجزر وأحوال أهلها المتوحشين، ولما استطاعا أخيراً أن يصلحا قاربهما، ارتدا إلى البحر كرة أخرى؛ وجاسا خلال جزائر (أوشنيا) القاصية التي اكتشفها الكبتن كوك ثم لقى حتفه فيها، وفي عزمهما بعد طواف المحيط الهادئ أن يرتدا إلى الجنوب، ثم يعبرا المحيط غرباً إلى الأطلانطيق، حيث يزمعان اختراقه إلى فرنسا. ولكن هل يستطيعان تنفيذ هذا المشروع الجريء؟

ذكرى الشاعر تاسوني

أحتفل أخيراً في مودينا بإيطاليا بذكرى الشاعر الإيطالي الكبير الساندرو تاسوني، لمناسبة مرور ثلثمائة عام على وفاته؛ وكان تاسوني من أكابر شعراء القرن السادس عشر، ومن ذلك الجيل الذي تأثرت عبقريته بتراث عصر الأحياء؛ وكان مولده بمدينة مودينا سنة

ص: 69

1565، يوم أن كانت ما تزال إمارة زاهرة؛ وتلقى تاسوني تربية حسنة، وظهر في الشعر والحياة العامة شاباً؛ وأشتغل منذ سنة 1599 سكرتيراً للكردينال اسكانيو كولونا من أقطاب الفاتيكان، وقام وهو في هذا المنصب، بعدة مهام سياسية خطيرة؛ واستمر في منصبه حتى سنة 1608. ثم غادر رومة والتحق بخدمة دوق سافوا، واشتغل هنالك أيضاً بالمهام السياسية؛ ولكنه مع ذلك كان يطلق العنان لميوله الأدبية والشعرية؛ ولم ينفك أثناء ذلك عن الكتابة والنظم؛ ومن أشهر آثاره أو (اغتصاب الدلو) وهي قصة شعرية من نوع الخيال المعروف؛ ومجموعة مختلفة بعنوان (أفكار منوعة) وكتاب عن بترارك وشعره عنوانه (تأملات عن بترارك) وله قطع ومجموعات أخرى شعرية ونثرية

تكريم مستشرق روسي

احتفل المستشرقون الروسيون في 14 يونيو بتكريم المستشرق الروسي الأستاذ أغناطيوس كرنشكوفسكي لمرور ثلاثين عاماً قضاها في خدمة اللغة العربية، ألف في أثنائها ما ينيف على ثلثمائة رسالة في تأريخها وآدابها القديمة والحديثة، وهو يشتغل الآن بنشر كتاب أبن المعتز مع شرحه والتعليق عليه باللغة الإنكليزية، وقد أشترك في هذا التكريم المجمع العلمي العربي بدمشق بخطاب أرسله رئيسه ليتلى فيه

عيد ألفي لابن سينا

في بريد سورية أن الجامعة السورية تفكر في إقامة عيد ألفي لذكرى الطبيب العربي الكبير الرئيس أبن سينا

وقد فوضت إلى لجنة من أساتذة المعهد دراسة هذه الفكرة وإعداد الوسائل اللازمة لجعل هذه الذكرى متناسبة مع جلال الخدمة العظيمة التي أداها الرئيس للطب

اللغة العربية في جامعة لندن

روت جريدة البالستين بوست بالقدس أنه لمناسبة اليوبيل الفضي لجلالة ملك الإنكليز فكر السر دنسن روس أن يؤسس لهذه الذكرى مقعداً جديداً مجانياً لتعليم اللغة العربية في جامعة لندن

وقد أختار السر دنسن روس اللغة العربية لهذه الذكرى لأن الإمبراطورية البريطانية تضم

ص: 70

تحت (جناحيها) أكبر عدد من الشعوب العربية، والمتكلمين باللغة العربية ولا تفوقها في ذلك دولة أوربية أخرى

ص: 71

‌الكتب

أنظار في كتاب (حياة محمد)

بقلم الأستاذ محمد علي النجار

قرأت هذا الكتاب الجليل الغني عن التقريظ فمن لي حين قراءته أنظار راجعة إلى ألفاظه وأخرى إلى معانيه، فأحببت أن أدونها بادئاً بالأولى في هذه العجالة، وإني أعلم أن معظمها آت من القائمين بالطبع؛ غير أن حرصي على سلامة ما في الكتاب مع ما قدر له من هذه السيرورة والانتشار في الأقطار بعثني على ما فعلت، وسأنبه بالرقم الأول على الصفحة وبالثاني على السطر منها، والله الموفق للصواب

21: 33 كان الذين يعبرونها. . . قليلون. صوابه: قليلين

13: 35 صمدت لقسوة الزمان. يريد ثبتت ولم تنل منها عوادي الدهر وصروف الحدثان، وقد تكرر استعمال الصمد في الكتاب بهذا المعنى وأرى أن هذا لا يكون إلا على ضرب من المجاز، فإن الصمد القصد، ولم تذكر المعاجم من معانيه ما أراد المؤلف، والتجوز فيه أن يعتبر الثابت على حوادث الدهر متعرضاً لها، قاصداً مغالبتها، استهانة وعدم مبالاة بها، وأقرب نص لهذا المعنى قول معاذ بن عمرو بن الجموح في قتل أبي جهل: فصمدت له حتى أمكنني منه غرة، فقد قال أبن الأثير في النهاية: أي ثبت له (وفي التاج واللسان: وثبت له) وقصدته وانتظرت غفلته

3: 35 فحوروا اتجاهه الطبيعي. استعمل التحوير في التغيير، وهو استعمال شائع ولكن لا يوجد هذا المعنى فيما وقفت عليه المناجم، فالتحوير فيها الترجيع والتبييض ففيه تحويل وتبديل فتوسع فيه وأطلق على مطلق التغيير

17: 56 قصي بن كلاب هو الجد الخامس للنبي صلى الله عليه وسلم: معروف أن قصياً هو الجد الرابع

20: 56 دراجا. صوابه رزاحا: تراجع سيرة أبن هشام والقاموس - 11: 76 بحيرا (الراهب) ضبط يلفظ المصغر، والصواب: فتح بائه وكسر حائه كما نص عليه المواهب

14: 93 فما هذه الكواكب إلا أفلاكاً: تكرر مثل هذا وهو إعمال ما مع انتقاض النفي بالا، والواجب في هذه الحالة رفع الجزأين - 7: 103 عبيدة بن الجراح. ظاهر أن هذا خطأ

ص: 72

مطبعي صوابه: أبو عبيدة، وقد ورد على الصفحة فيما بعد

5: 104 إساف منعه من الصرف، ولا وجه فيما أعلم لذلك، فالواجب كتابته إسافاً - 6: 109 فوقف باهتاً يقول صاحب القاموس: هو مبهوت، لا باهت ولا بهيت

1: 109، 2 لخير له أن يموت مؤمناً. . . على أن يخذله؛ الصواب: من أن يخذله، فإن خيراً هنا أفعل تفضيل وهو إنما يقرن بمن، وقد يكون وجه ما هنا أن يضمن خير معنى مفضّل وهو بعيد - 15: 114 بنو عبد المطلب. صوابه بنو المطلب

15: 115 وإن كان هذا الذي يأتيك رأياً تراه. صوابه: رئيا كما في السير، وقد قال السهبلي الرئي فعيل بمعنى مفعول، ولا يكون إلا من الجن - 20: 121 نعيم بن عبد الله؛ ضبط بفتح النون وصوابه ضم النون، فأنه نعيم النحام وقد ضبطه النووي في التهذيب كما ذكرت - 4: 136 مبيعة. الظاهر ضبطها بفتح الياء على مفعلة وقد ضبطها السهبلي بزنة معيشة

146: شعاب الجبل. الذي في السير أن الاحتماء كان في شعب بني هاشم، والذي يظهر أنه كان محلة في مكة وفي الزرقاني على المواهب أن الشعب كان لهاشم فقسمه عبد المطلب بين بنيه حين ضعف بصره - 12: 147 أبي النجتري. صوابه: أبو النختري، وفي السطر 18 أبي البختري

3: 148 يتصالح وقريشاً، نصب قريشاً على أنه مفعول معه ومثل هذا لا يجيزه النحاة، فالواجب يتصالح هو وقريش

20: 151 تحديق ابنا ربيعة. صوابه: أبني ربيعة

8: 166 عبد الله بن محمد. كأن هذا سبق قلم، والأصل عبد الله بن أبي وهو أبن سلول - 12: 166 إن نبياً مبعوثاً الأظهر مبعوث بالرفع كما في السير، فإن الأخبار ببعثته مقصود

3: 167 وإن غشني. ضبط بفتح الغين والشين المثقلة، والصواب كسر الشين ليكون على زنة ترضى

8: 169 مسلموه وخاذلوه. صوابه مسلميه وخاذليه

(: 22 إنا بيننا. صوابه: إن بيننا - 9: 170 نهكة الأموال. ضبط بالتحريك والذي في القاموس بسكون الهاء وإن كان يجوز فتحها بوجه عام - 1: 176 برده: 1. صوابه ببرده

ص: 73

7: 178 فإذا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة. سقط هنا لفظ والأصل: فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما كما في سيرة أبن هشام - 17: 179 فقد أقبل على قريش رجل. قضية هذا أن الأخبار كان لقريش وأن سراقة كان حاضراً بينهم والذي في السير أن ذلك كان في نادي بني مدلج قوم سراقة

20: 180 فيه أن بريدة جاء يحييهما، والذي في الزرقاني نقلاً عن البيهقي أن بريدة جاء طامعاً فيما طمع فيه سراقة فانتهى الأمر بإسلامه - 8: 181 فبلغ نبأهما سعد. الصواب: في الرسم نبؤهما إذ هو فاعل بلغ فهو مرفوع - 19: 196 فخيماً. الذي في المعاجم فخماً - 22: 197 وهذا هو أقوى من هؤلاء. قد يكون الصواب في هذا الأسلوب: وها هو ذا أقوى من هؤلاء

7: 204 مكان حجيجهم. الحجيج جمع الحاج ولا معنى له هنا فالأول مكان حجهم - 214: 4 عمر بن الحضرمي صوابه عمرو - 215: 4 الحكم بن كيثان. صوابه كيسان

4: 218 تهرق الدماء. صوابه تهريق الدماء

3: 221 كشد الجهني: الذي في الإصابة كسد

16: 222 أبا لهب. صوابه أبو لهب - 5: 223 مرثد ابن مرثد. صوابه مرثد بن أبي مرثد - 223: 10 عرق الظبية. ضبط بفتح الظاء وفي القاموس: عرق الظبية بالضم

2: 224 المقداد بن عمر. صوابه عمرو

13: 228 عمراه. الصواب عمراه

7: 241 العاص. صوابه أبو العاص

13: 252 على. صوابه عليّا - 9: 255 أبو كعب. صوابه أبي بن كعب وقد كان من كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام

19: 260 يخمش الناس. الرواية يحمس أو يحمش بالحاء المهملة فيهما وإن تبع المؤلف في ذلك طبعة وستنفلد

8: 278 أبا دجانة. صوابه أبو دجانة - 9: 283 يسار قد يكون صوابه ميسرة وهو غلام خديجة عليها الرضوان

1: 288 ابنتا وزيريه. صوابه ابنتي وزيريه

ص: 74

12: 306 النضري. ضبط بسكون الضاد والصواب فتحها إذ هو نسبة إلى النضير - 1: 335 أذن محمد في الناس بالحج. الأولى التعبير في هذا المقام بالعمرة فإن الذي وقع الحرام بالعمرة والعمرة قد تسمى الحج الأصغر ولكن الحج إذا أطلق أنصرف إلى ما يقابلها - 2: 375 هرقلاً. صوابه هرقل لمنعه من الصرف

9: 377 نابت بن أرقم. صوابه أقرم وقد تبع المؤلف نسخة وستنفلد - 12: 386 إذ. صوابه إذا

22: 386 حكيم بن حكيم. صوابه حكيم بن حزام

20: 360 سلام بني مشكم. صوابه سلام بن مشكم

11: 363 بازان. يكتب في الكتب العربية باذام

1: 387 عسكر. صوابه عسكراً - 13: 395 قبيساً. صوابه أبا قبيس - 22: 395 جذيمة. ضبط بصيغة المصغر والصواب فتح الجيم وكسر الذال كما في الزرقاني على المواهب

3: 401 بدأت محمد. صوابه بدأ محمد

22: 408 في العلالة. الرواية اللعاعة. وهي في الأصل نبات ناعم في أول ما ينبت - 410: أسيد والد ضبط مصغراً والصواب ضبطه كأمير - 15: 414 أأتمره. كذا رسم وقد يكون الصواب آتمره على قاعدة الإبدال

5: 424 فيه أن زكاة العشر تدفع من الإبل والأموال وإنما يدفع العشر عن بعض الزروع فأما الإبل فلها مقادير محدودة في الفقه غير العشر - 23: 426 ضبط فيها سلمة بفتح اللام والصواب كسرها وهم بطن من الأنصار

20: 436 عمان. ضبط بتشديد الميم والذي في الجنوب عمان على زنة غراب، فأما عمّان بتشديد الميم فهي بالبلقاء بأطراف الشام - 21: 467 زيد. صوابه أسامة بن زيد كما في السطر قبله وإني أختم كتابتي بإعجابي بالكتاب وتحيتي لمؤلفه العظيم

محمد علي النجار

ص: 75