المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1020 - بتاريخ: 19 - 01 - 1953 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٢٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1020

- بتاريخ: 19 - 01 - 1953

ص: -1

‌الأدب الشعبي

للأستاذ محمود تيمور

جرى الاصطلاح بإطلاق صفة (الشعبي) على الوضيع والرخيص أو ما دون المستوى الرفيع.

نقول: فكرة شعبية، أي أنها مشوبة بمطاوعة الأهواء والنزوات، لا سلامة فيها ولا سداد.

ونقول: نكتة شعبية: نريد أنها لا تخلو من تبذل وإسفاف.

ونقول: طعام شعبي، نعني أنه ساذج في مظهره، غير متقن ولا مستساغ.

ونقول: ثوب شعبي، للدلالة على أنه من نسيج غير فاخر، ولذلك يرخص ثمنه، ولا يعز على المقلين شراؤه.

ونقول: مسرح شعبي، فيفهم عنا السامع أنه مسرح لجمهور العامة، لا يتذوقون فيه شيئاً من الأدب السري والفن الرفيع.

فكل ما هو منسوب إلى الشعب محمول عليه مجانبة السمو والأصالة والجودة، مفروض فيه الابتذال والتفاهة والهون.

فهل صحيح ذلك في ميدان الأدب على وجه خاص؟.

هل (الشعبية) في الأدب أن يتصف بالابتذال والضعة، وأن تجانبه خصائص الأدب الرفيع في التفكير والتصوير والتعبير؟.

أما الأمر الواقع فبين ظهرانينا نتاج أدبي يشيع الآن في بعض طبقات الشعب بقدر كثير أو قليل، ومعظم هذا النتاج ضئيل الحظ من رفعة الفن وسموه، سقيم الأداء، لا يخلو من تبذل وإسفاف، ولكن تسميته بالأدب الشعبي ظلم عظيم، فإن صفة هذا الأدب تلحق بأصحابه لا بالشعب، ثم بالدين تقف بهم ملكاتهم وقرائحهم ومواهبهم في مستوى محدود، فتتقاصر عن أفق الفن الرفيع، فإن دل أدبهم على شيء فإنما يدل على مستوياتهم ومزاجهم لا على مستوى الشعب ومزاجه.

حقاً إن هذا اللون من النتاج الأدبي يلاقي من أفئدة السواد هوى، ويصادف من الجمهور مزيد إقبال. ولكن هذه الظاهرة ليست فيها حجة على الشعب، فالنفوس بطبيعتها يستهويها ما يرضي بعض الغرائز القريبة الاستجابة وما يلائم النزوات التي تتعاور الإنسان في

ص: 1

أطوار حياته، فإذا قدم لها شيء من ذلك في مختلف شؤون الحياة أقبلت عليه، وانساقت معه، إلا أن يعصمها من ذلك حسن التنشئة والترويض. ولا ريب أن الرياضة الأدبية والعمل على السمو بالأذواق والتوجيه التهذيبي العام، خليق أن يجعل من الشعب عنصراً صالحاً يستعصم على الابتذال في الأدب، فيعرف ما يقدم إليه مما ينطوي على شذوذ وانحراف أو تهافت وإسفاف.

والقول الذي يجب أن يكون مردوداً على صاحبه، هو القول بأن الشعب لا يستطيع استساغة لون من الأدب، إلا هذا اللون التامة الوضيع، فالطعام الجيد الصنع الكريم العنصر: من يألفه؟ ومن لا يألفه؟.

لقد آن لنا أن نصحح الوضع في معنى الأدب الشعبي، فما ذلك الأدب الشعبي في الحق إلا الأدب الفني الرفيع الذي يستلهمه الفنان من روح الشعب ومن مختلف بيئاته، فيعبر به عن مشاعر هذه الأمواج المتدافعة من الناس في ملتطم الحياة، وإن هذا الأدب الشعبي ليمثل الجانب الأكبر من الأدب الحي الخالد في كل أمة من الأمم، وفي كل عصر من عصور البشر.

تلك هي روائع الأدب العالمي الباقية على الزمن، ليست أصولها إلا أساطير الشعب وأقاصيصه، فالإلياذة والإنيادة والمهابهاراتا والشاهنامة وألف ليلة وليلة، إنما هي كتب شعبية تعبر عن نفسية الشعب في مجموعة، وتسجيل أصداء صوته، وتصور ما ظهر وما بطن من نزعاته ونزواته. وما خلدت هذه الأعمال إلا بإزاريها وبين الناس وشائج موصولة على الوشائج الإنسانية الخالدة.

وما نجح (شكسبير) و (جونه) و (دانتي) و (موليير) و (ناجور) و (تشيوف) وإضرابهم من أفذاذ الأدب في الأمم إلا بأنهم يخاطبون الشعب كله، ويجلون ما يعتلج في قلبه، في أداء صادق واستلهام أمين، فهم فنانون عظماء بأنهم استطاعوا أن يتملكوا ناصية الجمهور الزاخر، وأن يندسوا إلى أعماق نفسه، فيكون بينهم وبينه تجاوب عميق.

وإليك (القرآن) العظيم مثلا رفيعاً للعمل الفني، ففيه تصوير رائع لهذه البشرية في متباين عواطفها ومختلف منازعها، فيه نجد كل نفس مناها، وقد هبطت آياته على الشعب بلغة الشعب، وعمت رسالته الناس كافة، فكان له وقع السحر، وظل على الدهر رمزاً خالداً

ص: 2

للأدب الحي، لا يفتأ يثير في نفوس الناس على تباين مراتبهم ألوان المشاعر والأحاسيس.

ما تعريف الأدب؟

إن هو إلا تعبير فني بالكتابة والقول، مثله كمثل التصوير والغناء والموسيقى والرقص، فالتصوير تعبير فني بالرسم والتلوين، والغناء تعبير فني بالتنغيم والتطريب، والموسيقى تعبير فني بالجرس والرنين، والرقص تعبير فني بالحركة والإيقاع.

تلك هي الفنون التي يعد في جملتها الأدب، فالأدب فن والأديب فنان، والفن للروح لا للعقل، وللنفس لا للذهن. ومن ثم كان الأدب لونا من الألوان التي تخاطب العاطفة والشعور والوجدان، والناس أجمعون قادرون على أن يفهموا هذا الخطاب، فهم سواء فيما انطوت عليه جنوبهم من وجدان وشعور وعاطفة، وإنما يتمايزون في العقول والأذهان، ويتفاضلون بالمنطق واستظهار الحقائق، وليس شيء من ذلك يتعلق به الأدب أو يتخذه له هدفاً.

القارئ الذي لا تسمو عقليته، ولا تكتمل ثقافته، يتعاصي عليه أن يأخذ في شيء من العلك الذي يقوم على استقراء واستنتاج، مما يخاطب العقل، ويتطلب جودة الذهن، وسعة النظر، ولكنه لا يتعذر عليه أن يتأثر بالأدب الفني الرفيع، مادام فن الأدب تعبيرا عن الحياة في صورة تتصل بالنفس وتساير العاطفة وتخاطب الوجدان.

ليس الأديب بمكتشف حقيقة من الحقائق، أو مبتدع حكمة من الحكم، أو مزاول تجربة من التجارب، فالحقائق والتجارب والحكم متعالمة متعارفة، لا يزيدها الأديب شيئاً، ولا يضيف غليها جديداً، وإنما هو يستخلص شذورها من بين الأخلاط والشوائب، ويلم شملها من فرقة وشتلت، ويحسن انتزاعها والتقاطها من مضطرب الحياة في صورة فنية جملية، كما يلتقط الجهاز الكهربي ذبذبات صوتية معينة في أفق عريض يعج بأمواج متلاطمة من الأصوات.

لا ضرورة ثمة إلى أن يكون الشعب مثقفاً لكي يفقه الأدب الفني ويستسيغه ويتأثر به، فحسب الشعب أن يكون سري العاطفة، قوي البصيرة، ذكي القلب، نقي الذوق، وأذن يسعه أن يتقبل الأدب الفني بقبول حسن، ويحله منه المحل الكريم.

رب فلاح أمي في بطن الريف يعقب على الأحداث بجملة فإذا هي مثل سائر، ويخوض في الحديث بكلمة فإذا هي من جوامع الكلم، ويهزه الطرب أو يروعه الفزع فيرسل الأنشودة فإذا هي فن، ويغنيها فإذا هي لحن. . . ولا شيء من ذلك يبعث على عجب. فما

ص: 3

الأغنية أو الأنشودة أو الحكمة أو المثل إلا تعبير عن الحياة من فيض العاطفة ووهج الروح وهذه الروح والعاطفة كلتاهما هبة الله للشر لا يفتقران إلى معاناة العلم، ومكابدة الدرس، ولا يتوقفان على اكتساب الأقيسة المنطقية التي تحقق بها ظواهر العيش وطبائع الأشياء، وتتألف منها صنوف المعارف والعلوم.

الأدب لا يقول لك: أعلم هذا وأعرفه، ولكن يقول: تأثر بهذا واستشعره. وعبثا تطلب من الأدب إن ابتغت عنده أن نريدك علما ومعرفة؛ وإنما أنت راغب إليه في أن يشيع في أقطار نفسك الروعة والاهتياج، ويملك عليك عاطفتك بالاستهواء، فيهرب بك من حاضرك وينسيك ما أنت فيه، ويمضي بك محلقاً في آفاق من الأخيلة والتصورات، فأنت عنده طالب سلوه وتعزية، أو مقتبس فرحه وابتهاج، أو ملتمس لوعة وبكاء، وساعة أنت تطلب منه أن تفكر أو أن تحلم. . . وفي ألوان الأدب ما ينيلك هذه المطالب جميعاً.

غاية الأدب إذن أن يروع، ونعني بالروعة إثارة المشاعر ونفض الاحساسات. ولا يكون هذا إلا إن كان العمل الأدبي فنياً، أي جميلاً، أي رائعاً. . . والأدب الفني إنما يجمل وتكتمل فيه الروعة حسن بتوافر له عنصر اللذة والإمتاع، أو التسلية والترفيه، فبهذا العنصر تحمل القارئ على أن يقرأ، وتحبب إليه أن يتابع. فالاستجابة بين الكاتب والقارئ شرط التواصل بينهما، ولن يستجيب القارئ لكاتب إذا فقد عنده ما يسعده ويمتصه ويؤنسه، والمقصود من الإيناس والإمتاع أن يبعث الكاتب عند القارئ نشطة الفكر وأن يلمس مشاعره، وأن يثير فيه الإعجاب بالجمال.

وإنك لا تبلغ مبلغ الاستجابة من نفس القارئ إذا جلوت له الواقع الذي يحيط به أحداثاً كما هي في مجمع الناس، فالواقعية البحت لا تخرج بالقارئ عن مشهوده المبذول ومسموعه المملول، وكذلك لا تبلغ من نفسه ذلك المبلغ المنشود إذا نأيت به عن مألوفة في دنياه، وباعدت بينه وبين آفاق أفكاره وأحيلته، وإنما وأنت مصيب غرضك متى بعثت في الواقع الميت، وصبغت الأحداث الجامدة صبغة الحيال، فبذلك يسمو العمل الأدبي إلى المستوى الفني، فإذا هو فتنة تثير وجال يروع.

ربما عن لسائل أن يقول:

أني للجماهير أن تستجيب للأدب الفني الرفيع، وهي محدودة الوعي والإدراك، متخالفة

ص: 4

الأذواق؟.

والجواب غير بعيد، فالصورة الأدبية الفنية يأنس فيها كل ذوق ما يلائمه ويحد فيها كل امرئ ناحية يتأثر بها ويستجيب لها، حسبما تعنيه ملكاته ومداركه.

الفنان العبقري يرفع مصباحه الدري، مرسلا منه نوراً أبيض وهاجاً صافي الإشراق. وإن هذا النور الأبيض لينطوي على مختلف الألوان حينما يتحلل بالمنشور. والنفس البشرية منشور بلوري يتحلل به ذلك النور الوهاج، فكل امرئ يشهد ما يرتاح إليه، أو ما تستطيع عينه أن تراه. وفي أدب الفنان العظيم نور كامل تكمل فيه الأطياف جمعاء.

وإنما يتفاوت الفنانون درجات بما يعوز أدبهم من ألوان هذه الأطياف، فمنهم من يعوزه الكثير، ومنهم من يعوزه القليل، ولذلك نرى تأثير الفنان مقصوراً على طائفة مخصوصة من الناس إذا كان أدبه مقصوراً على بعض الأطياف التي تلائم تلك الطائفة وحدها. فأما الفنان الذي نفحته (عبقر) فإن أدبه تتكامل فيه أطياف النور على اختلاف الألوان، فيه لكل طائفة أرب، وعنده لكل ذوق متاع.

وليس بكاف أن تبعث النور وهاجا متكاملاً لكي تطمئن إلى إمكان الاستنارة به، فلا بد من رعاية الطريقة التي يتجلى بها النور للعيون. لا بد من رعاية الزجاجة التي تنظم انبعاث الشعاع، أعني بها اللغة والأسلوب. وهنا تنجم عندنا مشكلة العامية والفصحى، فالعامية لغة التخاطب في الجمهور، والفصحى لغة التدوين للأدب الفني، ولا تتحقق الاستجابة بين كاتب وقارئ إلا إن فهم القارئ ما دون الكاتب، والواسطة بينهما لغة وأسلوب؛ وذلك هو الحجاب بين الأدب الفني والجمهور العام. وعلاج هذه المشكلة في ناحيتين: الأولى تطويع اللغة حتى تكون صالحة لمخاطبة الشعب كله. والأخرى تعميم التعليم حتى تلتقي الأداتان: أداة الإسماع وأداتاة لاستماع، أو كما يقول المهندسون: أداة الإرسال وأداة الالتقاط.

حين يصدقي الأديب الفنان في استلهامه يخرج عملا فنيا. وهو في هذا العمل الفني يجلو صورة الشعب. ولا غرو أن الشعب يستهويه أن يرى نفسه في المرآة، كما يلذ لكل امرئ أن يشهد شخصه في رسم أو صورة. وأنت إذا صنعت تمثالاً فنياً جميلاً لفلاح في حقل أو عمدة في قرية، وجدت من يروقه التمثال ومن يعجب به بين الفلاحين والعمد. وفي المتحف الزراعي المصري قاعة ملئت بالتماثيل الملونة التي تصف مشاهد الفلاحة

ص: 5

ومجالس الريف، وإن الزوار والمتفرجين من المصريين ليقفون عندها طويلاً بما يرونه من أبطالها، ولعلهم هم أنفسهم أولئك الأبطال الماثلون.

فالأديب الفني في مستطاعه أن يقدم عملاً فنياً معبراً عن روح الشعب، مستجيباً لما يجري في وليجة نفسه، ولزم على الأديب إذا هدف إلى شيء من ذلك أن يكون من الشعب على مقربة. بل لا بد أن يحيا بين جوانحه، ويتدسس في صميمه. ويستجيب لذلك كله في صدق وإخلاص وإيمان. فهو من الشعب يأخذ، وإياه يناجي. وما الشعب إلا نموذج من النفس البشرية بما حوت من نوازع وخصائص وأطوار.

حقا أن العمل الأدبي الفني لابد أن تتجلى فيه فكرة أو رأي أو هدف، ولكن هذه الفكرة في العمل الفني يجب أن تكون وثيقة الصلة بالنفس الإنسانية على وجه عام؛ فهي تفهم بالبصيرة لا بالعقل، وما دامت الفكرة نابعة من قرارة النفس، منتزعة من صميم الحياة، ملتقطة من جو البيئة، فهي فكرة قديمة قدم الغرائز والعواطف والنزاعات. وليس للأديب الفنان فيها إلا فخر إثارتها، وفضل يعثها في ثوب جديد، والتذكير بها على نحو طويف. ونحن حين نعجب بفكرة أدبية جميلة فإننا لا نعجب بها إلا لأن الكاتب يزفها إلينا في إطار فني، ويصورها لنا في معرض جذاب، وقديماً انتبه الشاعر العربي لذلك في قوله:

إنما تنحع المقالة في المرء

إذا صادفت هوى في الفؤاد

إذا مس الأديب من النفوس وترا أرنت النفوس له واستجابت. وإذا أصابت المعاني شغاف القلوب خفقت القلوب لها واهتزت. وهذا (الراديو) ينقل لنا صورة صوتية لمجلس غنائي أنشدت فيه (أم كلثوم) قصيدة (لشوقي) وأهل المجلس من شتى الطبقات، فهم نموذج شعبي صادق التمثيل للشعب، وإنهم ليستمعون إلى الغناء فيبدو إعجابهم بقدر، وما تكاد الشادية تبلغ في إنشادها قول الشاعر:

وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

حتى تسمع (الراديو) قد أرعد بتصفيق هذا الحشد الزاخر إرعاداً بصم الآذان ويشق العنان. وما كان ذلك إلا لأن هذا المعنى بخصوصه قد أصاب من الشعب شغاف قلبه، ومس وترا حساسا في نفسه. فهذا الشعب قد عانى في دهره الأطول استلاب حريته، واغتصاب حقوقه، فهو مظلوم مهضوم، تمني العدل والإنصاف حتى سئم التمني، وطالب به حتى مل

ص: 6

المطالبة، وإنه لواجد في هذا البيت الشوقي الحكيم مناجاة له في محنته، وتأبيدا له في عزمته، وحضا له على أن يبلغ ما يريد بقوة المصاولة والغلاب، لا بمنطق المناقشة والحجاج.

لا يقولن الكاتب إن الجمهور لا يفهم عني، وإنه أدنى مدارك مني، فالكاتب إن استوعب في أدبه إحساس جمهوره، وعبر عما يعتمل في بيئاته، فالجمهور فاهم عنه، مدرك منه. وعلة الجفوة بين الكاتب والجمهور أن يكون الكاتب قد اقتنص شعوراً ليس بالشعور القوي في طوايا النفوس، أو ليس بالشعور العام الذي ينتظم جماعات الناس، وإذن لا يحس الجمهور ما أحس الكاتب، ومن ثم لا نكون بينهما أستجابة، فلا تنبت بينهما ألفة.

ما أكثر ألوان الموضوعات التي تعرض للكاتب الأديب، يجري بها قلمه ويبعث إليها أضواء فنه. إن من هذه الموضوعات ما هو خاص أو أخص، تتمثل فيه نزعات كثيرة من الناس أو قلة. فهو عند هؤلاء الكثيرين أو القليلين أثير وهم إليه في الاختيار يجنحون، ولكن ثمة موضوعات شاملة، فيها نلتقي أشتات المطامع والميول، ولها من مختلف مشكلات الحياة وطرائق العيش نصيب، فهي متصلة أوثق الاتصال بتلك التيارات العميقة العامة التي تجري في أوصال البشرية كلها، لا تقتصر على جيل من الناس ولا تختص بعصر من عصور التاريخ فهذه الموضوعات الشاملة إذا زاولها الأديب الفنان امتد أثرها في كل جانب، وانبسط ظلها على كل ناحية، واستوى في استشعارها بدوي وحضري، وربما استجاب لها السويدي قريباً من القطب حين يستجيب لها الزنجي في خط الاستواء. فهي إلى العالمية أقرب، وإلى الخلود أدنى.

كلما عالج الأديب ناحية ينفسح نطاقها في مجتمع الناس كان صوته أندى، وأثره أشمل وأعمق. وذلك هو أدب الحب يستأثر بالخطوة العزيزة في القصة وفي الشعر وفي غير ذلك من ألوان الأدب، وهل كانت للحب تلك الخطوة إلا بأنه عاطفة إنسانية تلائم كل نفس، وتطاوع كل هوى، وأنه بضعة أصلية في الطبع البشري ينجم عنه كثير من العواطف والتأثيرات، فهو دعوة مستجابة ونداء مسموع، وهو عند الجمهور العام مكفول له القبول.

والتعويل كل التعويل على منهج المعالجة لأمثال هذا الموضوع الإنسًاني العام، فقد يتناول موضوع الحب أديبان أحدهما غير فنان والآخر فنان أصيل. فأما غير الفنان فإنه يطرق

ص: 7

الموضوع في تصنع فيقلب الحقائق ويزور الواقعات ويجتلب زائف المؤثرات، ويفوته التهدي إلى بطائن القلب البشري حين تعتمل فيه عاطفة الحب فإذا هو يخرج لنا صورة شوها. لأنها صورة مكذوب بها على الحياة والأحياء. فأما الأديب الفنان فإنه يطرق الموضوع عينه، ولكن على بصيرة وهدى، وفي أمانة وإخلاص، فيخرج عمله صادق الوحي خالد الأثر.

البقية في العدد القادم

محمود تيمور

ص: 8

‌في فضل محمد (ص)

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

قرأت بشيء من التعجب مقال الكاتب الإسلامي محمد عبد الله السمان في (المعاني الحية في رسالة محمد) فإذا هو في صميمه مقال في شخصية الرسول (ص) وفي عظمته، وإذا تحمسه لبعض النواحي العظمى للرسالة يحمله على إنكار بعض نواحي أدلة تلك الرسالة التي هي أيضاً بعض مظاهر عظمة الرسول، في غلو في التعبير جافى فيه مالا أشك أنه يعلمه من أدب الإسلام في الدعوة، ثم هو بعد ذلك لا يصيب حقيقة عظمة الرسول.

إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه متعدد نواحي العظمة، والإسلام الذي هو رسالة الرسول متعدد نواحي الدعوة تعدد نواحي الفطرة التي هو دينها. وليس الناس سواء في تقدير تلك النواحي، فمنهم الخواص الذين يكبرون ما أكبر الأستاذ، ومنهم العوام الذين يقصرون عن ذلك ولا يكبرون ما دعا إلى إكباره من تحرير الإسلام العقول والنفوس إلا عن طريق إيمانهم بتلك النواحي التي لم يأبه هو بها والتي نعي على خطباء المساجد والسرادقات الإشادة بها في احتفالات ذكرى ميلاد الرسول، وأكثر شهودها هم العوام الذين أمر الرسول صلوات الله عليه أن يخاطبوا على قدر عقولهم وإلا كان مخاطبوهم فتنة عليهم.

ولو غير الأستاذ السمان نعى المسلمين ما يثنون على الرسول صلى الله عليه وسلم بما أجرى الله على يديه من الخوارق لقلنا غير مؤمن مجاهد يؤمن بالقرآن وبما أثبت للأنبياء من معجزات أكرمهم الله وأيدهم بها لم تكن لتثبت لهم في عصرنا هذا إلا بالقرآن. والقرآن نفسه أثبت لمحمد صلوات الله عليه من المعجزات - إذا أغفلنا شرط التحدي فيها - ما شاء الله. أثبت له الإسراء في سورة الأسراء، والمعراج في سورة النجم، وانشقاق القمر في سورة القمر، إذا أخذنا الآيات على ظاهرها كما ينبغي ولم نلجأ إلى التأويل تهرباً من إثبات إلا الأقل الذي لا بد منه من المعجزات؛ فالتأويل لا يجوز إلا بقرينة حاملة، والقرينة غير موجودة، والحديث الشريف الصحيح يفسر تلك الآيات ويصف من تفصيلها ما أجمل القرآن. فهل تلك المعجزات يا ترى ليست من مظاهر عظمة الرسول؟ بلى! فإن الله الذي لا يقدر على إجرائها غيره أجراها تأييداً له أو تكريماً. وفي كل تعظيم.

ص: 9

والحديث الصحيح أثبت للرسول صلوات الله عليه خوارق كثيرة كمعجزات الأنبياء والرسل من قبله. منها حنين الجذع الذي كان صلى الله عليه وسلم يخطب عنده قبيل اتخاذ المنبر، ومنها تكثير طعام جابر حتى أشبع جيش الخندق، وتكثير اللبن حتى أروى أهل الصفة من قدح استقله أبو هريرة لنفسه وللرسول، وتكثير الماء في الإناء حتى استقى منه جيش تبوك. ومنها رد عين أبي قتادة في غزوة أحد أو بدر، وإبراء عين علي رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله أجمعين في غزوة خيبر. وما من هذه إلا قد شهده الجم الغفير من الناس. فليت شعري لماذا نؤاخذ الوعاظ إذا ذكروا الناس بما أكرم الله به نبيهم من تلك المعجزات في ذكرى مولده الشريف؟ أو لماذا ينعى على الناس استشعارهم السرور والفخر بينهم الذي أكرمه الله تلك الكرامة وأنوله تلك المنزلة! لو أن أمثال الأستاذ السمان انتهزوا اهتزاز الناس ذلك وذكروهم بوجوب العمل بما أهملوه ونسوه من رسالة الرسول لكان خيرا للناس وأعظم أجرا له ولأمثله. أما النعي على من يذكر الناس بناحية من نواحي عظمة الرسول يرى هو غيرها أكبر منها، أو النعي عليهم إذا خرجوا من تلك الذكرى يعددون ما ذكروا به وازدادوا به إيماناً من تلك المعجزات، ففيه من الغلو والإسراف وتحجير الواسع ما فيه.

وأعجب من هذا وأوغل في الإسراف نعيه على (صنف) من المسلمين يفضلون محمداً على الرسل، ويجعلونه إمامهم ويجعلون رسالته فوق رسالاتهم والمسلمون كلهم ذلك الصنف الذي زعم الأستاذ ومنهم الأستاذ السمان نفسه بما كتب في مقاله من الناحية التي يعظمها ويكبرها. وإلا فأي الرسل أصلح الله به ما أصلح بمحمد صلوات الله وسلامه عليه؟ وأي الرسالات بلغت مبلغ الإسلام وحققت ما حقق الله، من تحرير العقول والنفوس في الماضي ولا يزال يدعو إلى تحريرها من كل سلطان غير سلطان الله سبحانه خالق الكون وفاطر الناس؟ وإذا كان الأستاذ يستشهد على من ظنهم خصومه من المسلمين بأن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس أفلا يكون الرسول الذي أخرج الله على يديه تلك الأمة خير الرسل؟.

إن محمداً صلى الله عليه وسلم جمع الله له ما فرق في الرسل. آتاه من المعجزات مثل الذي آتاهم، وخصه صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم معجزة خالدة لا تضارعها معجزة، وبدين شهد الله له بما لم يشهد به لدين قبله. شهد له بالكمال حين أنزل عليه في الوقف في

ص: 10

حجة الوداع (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). وشهد له صلى الله عليه وسلم بما لم يشهد به سبحانه لنبي قبله من عموم الرسالة وعموم الرحمة به في قوله تعالى من سورة سبأ (ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقوله تعالى من سورة الأنبياء (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وأمثال الآيتين في القرآن الكريم كثير.

والرسالة نفسها ليست مما لمحمد فضل فيه فإنه لم يأت بشيء منها. والآيات التي استشهد بها الأستاذ من قول الله لا من قول محمد كما يعلم الأستاذ طبعاً. فلو لم يشغله الحماس عن التدقيق لما خفي عليه أن مبادئ الإسلام نفسه ليس لمحمد فضل فيها إذ لم تكن من عنده، وإذا كان هو مأمورا بالإيمان بها كغيره، وإذ عاش في قومه أربعين سنة قبل الرسالة لم يؤثر عنه أنه دعاهم فيها حتى إلى التوحيد، وإن أثر أنه لم يسجد لصنم وأنه كان قبل الرسالة من الموحدين. فالثناء الذي أثنى به بعض المستشرقين عليه أنه كان من عظماء المصلحين ثناء مدخول كان لا ينبغي أن ينخدع به الأستاذ لأن مبعثه اعتقادهم أن القرآن من تأليفه وأن الإسلام من وضعه. وكل ثناء عليه صلى الله عليه وسلم بغير النبوة والرسالة هو في الواقع دون مقامه الكريم ولو كان ذلك الثناء، أنه بطل الأبطال وأعظم المصلحين.

إن حقيقة عظمته صلى الله عليه وسلم ليست في الرسالة نفسها ولكن في أنه أدى الرسالة على وجهها. فالرسالة من عند الله ليس لمحمد ولا لغيره منها شيء ولا له في مبادئها فضل، وإنما الفضل كله أنه أداها كما ينبغي أن تؤدي، وتحمل في أدائها كل ما تحمل، ونهض بأعبائها نهوضا لم يكن لينهضه إلا من بلغ غاية كمال البشرية. وهذا هو ما يقصده الذين يقول الأستاذ انهم يرفعون محمداً فوق مستوى البشرية. وما مستوى البشر الذي يعرفه الأستاذ أو يمكن أن يعرفه في تاريخ البشرية إذا قيس بالمستوى الذي بلغه سيد البشر وخاتم الرسل محمد بن عبد الله؟.

إن أعجب العجب أن يقوم فرد بأعباء دين أعجز البشرية أن تحمله وتقوم بأعبائه إلا مجتمعة! والترقي داخل حدود الإسلام ليس له نهاية، لأن حدود الفطرة نفسها، إذ هو دين الفطرة بل نفس الفطرة التي فطر لله عليها الناس، بشهادته سبحانه في سورة الروم. وكل

ص: 11

ما يمكن البشر أن يبلغه من الرقي في الفطرة قد حققه الله للبشرية في محمد بن عبد الله رسول الإسلام الذي لا ينطق عن الهوى، والذي صار كل عمل له سنة، وكل قول له حجة لله على عباده، لا عملا أو قولا لم يقره الله عليه في حوادث معدودة نطق بها القرآن وأحاطت بها سنة الرسول فكأنما أعد الله محمداً من بين البشر في تاريخ البشرية المتطور للقيام بأعباء دين الله الكامل؛ تلك الأعباء التي تفرق القيام بها في الناس، في الصالحين وأولى العزم من المسلمين حتى صار المتأسي به صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد وصدق في صفة من صفاته مثلاً يضرب في مكارم الأخلاق إلى اليوم كما ضرب المثل في أبي بكر وعمر وعلي ومن إليهم من الصحاب وممن تبعهم بإحسان. فالكمال البشري قد جمعه الله لمحمد الفرد كي يستطيع أن يقوم بدين الله دين الفطرة والبشرية الكاملة. أفلا يكون صلى الله عليه وسلم لذلك أكمل البشر على الإطلاق.

هذه نتيجة منطقية ليس عنها محيص، وليس فيها انتقاض لأحد من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالله سبحانه قد فضل بعض رسله على بعض كما أخبرنا سبحانه في آية تلك الرسل؛ والحديث الذي ساقه الأستاذ السمان يشهد بذلك التفاضل. والأفضلية في صفة غير الأفضلية في مجموع الصفات. والنهي في الحديث الكريم عن التخيير بين الأنبياء موجه في الأصل إلى ذلك اليهودي لأنه هو الذي خير كما يتبين الأستاذ إذا رجع إلى الحديث. وجاء النهي عاما لحكمة غير نهي المسلم عن التعصب لأن المسلم في الحديث لم يزد على أن أنكر أن يكون موسى أفضل من محمد. وما يوهمه الحديث خلاف ذلك ليس على إطلاقه ولكنه محدود بما ذكر في الحديث. والثناء على موسى صلوات الله عليه بصفة تميز بها هو مثل في التواضع ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ليكون تشريعاً في مثل حادثته وهو يؤيد ما ذهبنا ونذهب إليه مع جمهور المسلمين من أنه صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للبشرية حققه الله للناس تاريخاً واقعاً. والمثل الأعلى يقترب منه المجتهدون في بلوغه اقترابا بطرد ما طرد اجتهادهم من غير أن يبلغوه مهما اجتهدوا.

وصلوات الله وسلامه على الرسول الكامل الذي حقق الله به وفيه الفطرة الإنسانية الكاملة محمد بن عبد الله.

ص: 12

محمد أحمد الغمراوي

ص: 13

‌أبصر طريقك

للأستاذ محمود محمد شاكر

منذ ظهر دين الله في الرض، وتدافعت أمواجه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وضرب تياره أسوار العالم المحيط به، وطهر بلاداً كثيرة وغسلها مما فيها من الشرك والكفر والإهلال لغير الله سبحانه، أخذت تتجمع في أطرافه عداوة لا تنام، وبقيت هذه العداوة تنازل جنود الله عاماً بعد عام في ثغور حشدا واحدا، بدأت به الغزوات المتلاحقة التي عرفت في التاريخ باسم الحرب الصليبية. وظلت هذه الحروب مشبوهة قرونا طويلة، وأدانها السلاح والجيوش والمواقع.

ثم انتهت حرب السلاح والجيوس، إذ وضع العالم الإسلامي سلاحه، بل أًصح من ذلك، أن العالم الإسلامي يومئذ لم يكن معه سلاح يضعه أو يرفعه. وإذا كان فيه سلاح، فهو سلاح لا يغني عنه في لقاء هذه الأسلحة الجديدة، التي جاءت مع الغزاة. ومن يومئذ انتقلت الحرب الصليبية من ميادين القتال، إلى ميدان آخر: هو الحياة نفسها!

كانت خطة الحرب الصليبية الجديدة، هو دك الحياة الإسلامية كلها: تدك بناء هذه الحياة، وتدك علمها، وتدك آدابها، وتدك أخلاقها، وتدك تاريخها، وتدك لغتها، وتدك ماضيها. وفي خلال ذلك ينشأ بناء جديد لهذه الحياة، بعلم غير العلم الأول، وأدب غير الأدب، وأخلاق غير الأخلاق، وتاريخ غير التاريخ، ولغة غير اللغة، وماض غير الماضي. ويأتي يوم فإذا الهزيمة واقعة كما وقعت في الميادين. ويصبح العالم الإسلامي وليس معه من الحياة التي كان بها عالما صحيحاً، إلا بقايا لا تغني عنه، كما أصبح يوماً في ميدان الحرب، ومعه بقايا أسلحة لا تغني عنه شيئاً

جاءت الغزوات الصليبية الجديدة متلاحقة سريعة نفاذة تنشر طلائعها الأولى في كل مكان، مزودة بالفهم والإدراك والمعرفة، بطبيعة هذا الميدان الجديد، فتلقى قوماً قد سلبوا الفهم والإدراك والمعرفة لطبيعة هذا الميدان. ولكنهم كانوا بفطرتهم يعلمون أن هذه الطلائع عدو لهم، فقاومهم من قاومهم بما تستثره الفطرة من بغض العدو والشك فيه، وإن جاء في ثوب المسالم والناصج. وتهاوى آخرون، فوقعوا في حوزة العدو، إذ غرتهم مسالمته وخدعهم نصحه، وظلت هذه الحروب دائرة بيننا وبينهم أكثر من مئة وخمسين عاماً، في سكون

ص: 14

وصمت، ولجاجة وحرص، وقوة وحذر، ومعرفة وبصر، حتى بلغ العدو منا مبلغا لم يكن في أول الأمر يظن أنه يبلغه. فقد تهاوى البناء كله فجأة. وأصبحت الحياة الإسلامية أطلالا يناديها الفناء فتجيب بلا مقاومة ولا عناد

ذهب كل شيء يكون للحياة البشرية قواماً وعماداً: ذهب العلم والأدب والأخلاق واللغة والتاريخ، وجاءه الغزاة بما يحل مكانه من علم وأدب وأخلاق ولغة وتاريخ. ذهب الذي كان ينبع نبعه من كتاب الله، ومن حياة الأمة المسلمة، وسنة رسوله، وجاء الذي ينبع نبعه من الحياة الوثنية القديمة، ومن المسيحية المحدثة. ذهب الذي كان يتحدر إلينا، وجاء الذي يتحدر غلينا كما يتحدر السيل الجارف لا يبقي ولا يذر. ذهب شيء وجاء شيء، فتغير نظرنا وفكرنا، وتغير إدراكنا ومعرفتنا، وتغير شعورنا وإحساسنا، وتغير لساننا وبياننا. فعدنا ننظر في الكتاب الذي هو كتابنا، وأخبار النبي الذي هو نبينا، وآثار الماضين الذين هم آباؤنا. فأنكرنا ما وجدنا في ذلك كله، فطرحه منا من طرحه وراء ظهره ولم يبال به، وتهيب منا من تهيب فوقف لا يدري ماذا يفعل، وبقيت طائفة لا تطرح ولا تتهيب، فطلبت مخرجاً من هذا الشيء الذي تنكره إنكاراً خفيفاً، وهو في هذه الصورة التي جاء عليها من التراث الماضي. فرأت المخرج في تجديد التراث الماضي تجديداً مقارباً، يطابق الحياة الجديدة من وجوه، وينكر الحياة القديمة من وجوه أخرى.

ومن يومئذ انقسم العالم العربي والإسلامي إلى طائفتين: طائفة منكرة لا تعبأ شيئاً بالحياة الماضية كلها، وطائفة لم يبلغ بها الإنكار أن لا تعبأ، فالتمست تجديد الحياة الماضية على أسس جديدة. وإذا هذه الأسس التي تريد أن تؤسس عليها، هي في جوهرها مستمدة كلها من الحياة التي أنشأها الغازي الصليبي بين ظهرانينا.

هذه صورة مصغرة للحياة في العالم الإسلامي الحاضر. لا يدركها المرء حتى يعلم أن العالم الإسلامي مقبل على خطر أبشع من خطر الغزو الصليبي الأول بالسلاح، مقبل على هزيمة منكرة تكون عاقبتها تبديل الإسلام تبديلاً كاملاً حتى لا يبقى له من ظل لحق إلا ما بقي من ظل المسيحية الحقة في العالم المسيحي الحاضر.

ودعاة هذا التبديل، علموا أو لم يعلموا، قد تعاووا في كل مكان باسم الدفاع عن الإسلام، وباسم إحياء الإسلام، وباسم تجديد الإسلام. وهم يعملون جاهدين على أن ينشروا دينهم

ص: 15

الجديد - كما ينبغي أن يسمى - بجميع الوسائل التي يظنون أنها تقضي بهم إلى الدفاع عن الإسلام أو إحيائه أو تجديده. وهم على مر الزمن، سوف يتركون آثار عميقة في حياة العالم الإسلامي الحاضر، وسيتبعهم تابعون يقتفون آثارهم، مبعدين عن النهج الأول الذي بني عليه هذا الإسلام الذي يدافعون عنه أو يحيونه أو يجددونه! بل إن هؤلاء أنفسهم قد كانوا خلفاء لجيل سبق من قبلهم، أعمته الحياة التي بهرت عينيه وزلزلت عقائده، فطلب كما يطلبون، الدفاع عن الإسلام وإحياءه وتجديده، على أسس لم يستمد أصلها من الحق الذي في دينه، بل من أصل بعيد هو الحياة التي يحياها العالم الصليبي الذي غلب وقهر وظهر مجده في هذه الأرض.

إن هذا الوباء الذي يجتاح العقل الإسلامي والحياة الإسلامية، قد نفذ إلى كل ركن في هذا العالم، وسارت حمياه سورة مستبدة بكثير من رؤوس الدعاة. وانطلقت الألسنة مسرعة تريد أن تبنني بناء عقلياً جديداً لهذا الإسلام الذي تهدم بناؤه القديم، فما تجيد لسانا إلا وهو يرسل طوفانا من الكلام بلا حذر ولا توقف، وكل لسان يرى في الذي يرسله مادة صحيحة لبناء هذا العالم المتهدم. وأصبح كل داعية إماما يقتدي به. والمقتدون به لا يعلمون شيئاً إلا أن هذا السيل المرسل عليهم، ليس إلا أصلا صحيحاً من أصول هذا السيل المرسل عليهم، ليس إلا أصلا صحيحاً من أصول هذا الإسلام الذي يدعوهم إليه. وكل داعية يظن نفسه ينبوعاً يروي الظامئين، يسألونه فيجيب، فيطوفون به طواف الوثني بالصنم. مادة علمهم أن يستمدوا منه ما يجود عليهم به. ولا يجد أحدهم متسعاً أن يلتمس علمه إلا من فيض لسان هذا الإمام الداعي. والإمام مشغول بالتماس المعاني التي يفيضها عليهم، وهم لا يسألونه من أين يأتي بها. وكل داعية مشغول بإعداد المادة لمن يتبعه، لا يحذر ولا يخاف ولا يتحرى. وكل داعية مشغول عن الداعية الآخر، لا ينظر في أمره ولا يتعقبه ولا يقول له من أين جئت بهذا. بل لعله يغفل عن أفسد الفساد في قوله وفعله، واقبح القبح الذي يبثه في أتباعه، لأنه يقول لنفسه إننا مشغولون جميعاً برم هذا البناء الذي تهدم، بل ببناء شيء هو خير من الذي تهدم. وكل داعية منهم هو في الحقيقة منكر للحياة الأولى للإسلام، ولكنه يريد أن يقاوم الفناء بأن يستخرج من نواحي هذه الحياة ما يقنع هو به، ويقنع بعض الناس به: أن في ماضي الإسلام ما يمكن أن يكون مماثلاً للحياة الحاضرة، أو تصحيحاً لبعض

ص: 16

أخطاء الحياة الحاضرة. بيد أنه لا يصل إلى ذلك إلا بنظره هو، وتفكيره هو، بصورة يرتضها هو، ولا يبالي أن يكون استدلاله في غير موضعه، ولا أن يكون فكرة قد فسر الأشياء على غير ما ينبغي أن تكون عليه، أو على غير ما كانت عليه.

فأعمال هؤلاء الدعاة، ليست في الحقيقة إلا ضرباً من هذيان هذا الوباء المقرون بالحمى، ليس له أصل إلا فورت الدم في المحموم. فإذا استمر أمر الإسلام على هذا الذي نراه، فقد انتهى كل شيء. وإذا قدر لهذا العالم الإسلامي أن تعتزل طائفة منه هذا الخبل الخابل، لتعيد النظر في الأصول الصحيحة لدينها، والتي لقي بها هذا الدين عالم الشرك والكفر فدكه ومزقه، وأقام فيه بناء قاوم الفناء ثلاثة عشر قرناً، فيومئذ تبدأ المرحلة الأولى لجهاد طويل شاق، يتحدى طواغيت الكفر بإيمان صحيح، لا تشوبه شائبة من هوى أصحاب الأهواء، بل هو طاعة لله ورسوله، لا يغني غيرها شيء يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وأعود فأقول: من ظن هذا تشاؤما وتثبيطا فليظن ما شاء له الظن! وليس يغني عن الأعمى شيئاً أن تقول له أنت مبصر بعينين لماحتين، ولا عن المغروس في حومة الهلاك أن تقنعه بأنه خالد ليس للموت عليه سلطان.

محمود محمد شاكر

ص: 17

‌من تاريخ الحروب الصليبية

صلاح الدين يفاوض الإنجليز

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

استعاد صلاح الدين بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، بعد أن ظل في أيدي الصليبيين زهاء تسعين عاماً، وقد أثارت عودتها إلى حظيرة الإسلام ثائرة إفرنج أوربا، وبذل رجال الدين كل جهد، ليوقظوا غضب الجماهير، وليشركوا ملوك أوربا وأمراءها في حرب صليبية جديدة، وأرسل صاحب صور صورة المقدس في ورقة، وصور فيها صورة كنيسة القيامة التي يحجون إليها ويعظمون شأنها، (وفيه قبة قبر المسيح، وصور على القبر فرسا، عليه مسلم قد وطئ قبر المسيح، وبال الفرس على القبر، وأبدى هذه الصورة وراء البحر في الأسواق والمجامع، والقسوس يحملونها ورءوسهم مكشوفة، وعليهم المسوح، وينادون بالويل والثبور. . .) وقد كللت جهودهم بالنجاح، فأقبل على القتال جند كثي، على رأسه أعظم ملوك أوربا، وهم إمبراطور ألمانيا فردريك بارباروس، وملك فرنسا فليب أوغسطوس، وملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد.

أقبل الصليبيون على فلسطين من كل مكان بالبر والبحر والتأم شملهم في صور، التي أوى إليها الصليبيون من جميع أنحاء سوريا وفلسطين، وقر رأيهم على مهاجمة عكا، لحصانة موقعها، لأن الطريق غليها شاطئ البحر، حيث تحميهم سفنهم، وكان البحر أعظم مساعد لهم، يحمل إليهم المواد الحربية والمؤن والرجال، وقد وصلوا أمام عكا في 15 رجب سنة 585هـ، ووضعوا عليها الحصار.

عندما سمع صلاح الدين بحركة الفرنج جمع أمراءه للاستشارة، كان رأيه أن يهاجمهم في الطريق قبل أن يصلوا إلى عكا، ولكن أمراءه أقنعوه بأن الخير في أن تدور المعركة أمام عكا. وعندما ذهب صلاح الدين إلى عكا وجد الفرنج قد أحاطوا بها، ومنعوا كل اتصال بها، فعسكر صلاح الدين في مواجهتهم. ويقول المؤرخون: لو أن صلاح الدين عمل تبعا لرأيه الخاص، وهاجم الصليبين قبل أن يحاصروا المدينة لأنقذها، ولكن تلك إرادة الله.

صمدت عكا أمام الفرنج زهاء عامين، نال أهلها فيهما الضر، وأنهك الضعف فيهما رجالها، وبلغ منهم العجز إلى غاية لم يجدوا بعدها بدا من التسليم، وكانت قوى صلاح الدين يومئذ

ص: 18

أمير إنطاكية، وآخر مقيم في الرها مواجه لطرابلس للدفاع عن الحدود، وثالث يراقب صور، ورابع في دمياط والإسكندرية، ليحتاط ضد الصليبيين القادمين من البحر، ولذلك كان جيش السلطان أقل عددا من الصليبيين، وبرغم طول الحصار لم ير صلاح الدين أن يسلم البد للعدو، وعمل أهل عكا ما استطاعوا للاحتفاظ بمدينتهم، ولكنهم أمام كثرة العدو اضطروا إلى أن يصالحوه على أن يسلموا إليه البلد وجميع ما فيه، ويقدموا إليه ضريبة مالية كبيرة، ويخرجوا بأنفسهم سالمين هم وذراريهم ونساؤهم. ولما علم صلاح الدين بذلك أكره إنكاراً عظيماً، وعزم على أن يحول بين أهل عكا وبين التسليم، ولكن ما راعه إلا أعلام الفرنج تنصب على أسوار المدينة يوم الجمعة 17 جمادى الآخرة سنة 587هـ، ولم يف ملك الإنجليز بما وعد به أسرى المسلمين، بل أحضرهم مكبلين بالحبال، وحمل عليهم هو وجنده حملة الرجل الواحد، فقتلوهم ضرباً وطعناً بالسيف، ولم يطق ملك فرنسا المقام مع ريتشارد، فعاد إلى بلاده، وبقي ريتشارد يعمل وحده.

لما فرغ الفرنج من إصلاح أمر عكا ساروا مع شاطئ البحر إلى حيفا، وخرج المسلمون بازائهم يضايقونهم، حتى وصلوا إلى يافا فملكوها، وكانوا على أن يملكوا عسقلان والقدس، فجمع صلاح الدين أمراءه، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريب عسقلان، وقالوا له: قد رأيت ما كان بالأمس، وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان، ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك يقاتلوننا، لننزاح عنها وينزلون عليها، فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا ويعظم الأمر علينا، لأن العدو قد قوى بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها، ونحن قد ضعفنا بما خرج عن أيدينا، ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها، فوافق صلاح الدين على تخريبها مرغما؛ وتركها صلاح الدين إلى القدس، وأمر بعمارة سورة وتجديد مارث منه، وأما الفرنج فرحلوا إلى الرملة وأخذوا يجددون عسقلان، وأجمعوا أمرهم على المسير إلى بيت المقدس.

بدأ حديث الصلح يومئذ بين ملك الإنجليز وصلاح الدين، وكان العدو هو الذي بدأ بطلب الحديث في هذا لصلح، إذ أراد أن يتحدث إلى الملك العادل، وكان أول ما دار من حديث بين الفريقين أن قال الفرنج:(إنا قد طال بيننا القتال، وقد قتل من الجانبين الرجال البطال، وإنا نحن جئنا في نصرة إفرنج الساحل، فاصطلحوا أنتم وهم، وكل منا يرجع إلى مكانه)،

ص: 19

ولما علم ملك الإنجليز بمقدم الملك العادل، واجتمع به وأبدى له الرغبة في الصلح، فقال له الملك العادل: أنتم تطلبون الصلح ولا تذكرون مطلوبكم فيه، حتى أتوسط بينكم وبين السلطان. وهنا بدأ ريتشارد بذكر أعلى شروطه للصلح، مظهراً صرامة وقوة إذ قال:(القاعدة أن تعود البلاد كلها غلينا تنصرفوا إلى بلادكم)، ولم تكن هذه القاعدة بطبيعة الحال مما يقبله الملك العادل، فأخشن له في الجواب، وجرت بينهما منافرة، انصرفا بعدها على غير اتفاق. ثم دارت بين الفريقين بعض المعارك، عاد بعدها ملك الإنجليز يعجم عود الملك العادل في أمر الصلح عله يلين، على غير جدوى.

طلب ريتشارد إلى الملك العادل مرة أخرى أن يرسل رسولاً من لدنه ليتفاوض معه في أمر الصلح، فأرسل إليه رسولا يثق به، ظل يفاوض الملك حينا طويلا، ومع ذلك لم يتزحزح الملك إلا قليلاً عن موقفه، فقد عاد الرسول وأخبر العادل بما دار بينه وبين ريتشارد الذي قال للرسول: لا أرجع عن كلام أتحدث به مع أخي وصديقي - يعني العادل - فكتب العادل رقعة أنفذها إلى السلطان تتضمن شروط الصلح التي عرضها ملك الإنجليز وفيها: (إن المسلمين والإفرنج قد هلكوا، وخربت البلاد، وخرجت من يد الفريقين بالكلية، وقد تلفت الأموال والأرواح من الطائفتين، وقد أخذ هذا الأمر حقه، وليس هناك حديث سوى القدس والصليب والبلاد، والقدس متعبدنا ما ننزل عنه ولو لم يبق منا إلا واحد. وأما البلاد فيعاد غلينا ما هو قاطع الأرد، وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له، وهو عندنا عظيم، فيمن به السلطان علينا ونصطلح، ونستريح من هذا التعب).

ولما وصلت الرسالة إلى السلطان استدعي أرباب المشورة في دولته، وشاورهم في الأمر، وانتهى التشاور إلى موقف حازم، إذ أرسل السلطان في جواب الرسالة يقول لملك الإنجليز:(القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم، فإنه مسرى نبينا، ومجتمع الملائكة، فلا تتصور أن ننزل عنه، ولا تقدر على التفريط بذلك بين المسلمين. وأما البلاد فهي أيضاً لنا في الأصل، واستيلاؤكم كان طارئا عليها، لضعف من كان فيها من المسلمين في ذلك الوقت، وما يقدركم الله على عمارة حجر منها مادام الحرب قائما، وما في أيدينا منها نأكل بحمد الله مغلة وننتفع به؛ وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة. ولا يجوز لنا أن نفرط فيها إلا لمصلحة راجعة للإسلام هي أوفى منها).

ص: 20

وفشل مشروع آخر للصلح عرضه ملك الإنجليز على العادل، إذ أراد أن يتزوج العادل بأخته، على أن يعطيها أخوها بلاد الساحل التي بيده من عكا إلى يافا وعسقلان وتكون ملكة الساحل، على أن يكون مستقر ملكها بالقدس، ويكون العادل ملك الساحل، وأن يسلم غليه صليب الصلبوت، وتكون القرى والحصون لطائفتين من فرسان الإفرنج هما الداوية والاسبتار، وأن يطلق أسرى الفرنج والمسلمين. وإذا أستقر الصلح على هذه القاعدة رحل ملك الإنجليز على بلاده. وقد قبل صلاح الدين هذا المشروع، إذ به تكون بلاد الشام كلها تحت سيطرة صلاح الدين وأخيه. ويقال إن سبب الفشل يعود إلى أن أخت الملك لم تقبل أن تتزوج من العادل لأنه مسلم، وظن ريتشارد أن العادل يقبل أن يتنصر يتمم هذا الزواج، ولهذا أبقى باب المفاوضات مفتوحاً.

وبرغم أن العادل لم يتنصر، ولم يتم الزواج، توثقت صلة المودة بين الملكين، وحدث في اجتماع تم بينهما أن سأل ريتشارد الملك العادل أن يلتمس من السلطان صلاح الدين الاجتماع به، فلما وصلت هذه الرسالة شاور السلطان الجماعة في الجواب عنها، وبدا له رأي ناجح موفق ذلك أنه قال:(الملوك إذا اجتمعوا يقبح منهم المخاصمة بعد ذلك، فإذا انقطع أمر حسن الاجتماع، والاجتماع لا يكون إلا لمفاوضة في مهم، وأنا لا أفهم بلسانك، وأنت لا تفهم بلساني، ولا بد من ترجمان بيننا نثق أنا وأنت به، فليكن ذلك الترجمان رسولاً حتى يستقر أمر وتستتب قاعدة، وعند ذلك يكون الاجتماع الذي يعقبه الوداد والمحبة). قال الرسول: ولما سمع ملك الإنجليز هذا الجواب استعظمه، وعلم أنه ليس من الهين أن يظفر بما يريد من السلطان. وكان صلاح الدين لا يرى الصلح مع الفرنج، ويؤمن بأن المصلحة في دوام الجهاد حتى يخرجوا من الساحل، ويعتقد أن الفرنج لا تؤمن غائلتهم، ويرى أن هذا واجبة في الحياة وتحدثه نفسه بأنه لو حدث به حادث الموت لا تكاد تجتمع هذه الجيوش التي تحت قيادته.

مضت الرسل بين الفريقين نتحدث في الصلح لتقرير قواعده، مع قيام الحرب بينهما، ولم يستطيع الطرفان أن يصلا إلى حل حاسم برغم كثرة الرسل، وكثرة ما عرض من مشروعات. وقر رأي العدو على مهاجمة القدس والاستيلاء عليها، ومضى بعد المدة لذلك، فأحضر السلطان الأمراء عنده، وقر رأيهم على الاجتماع عند الصخرة والتحالف على

ص: 21

الموت. غير أن الفرنج وقد أشرفوا على القدس حدث بينهم خلاف، دفعهم إلى أن يعودوا ناكصين على أعقابهم، وفرح المسلمون بهذه العودة.

وتجدد حديث الصلح كرة ثانية، وأرسل ملك الإنجليز رسولاً يقول: قد هلكنا نحن وأنتم، والأصلح حقن الدماء، ولا ينبغي أن تعتقد أن ذلك لضعف مني، بل للمصلحة، ولا تفتر بتأخري عن منزلي، فالكبش يتأخر لينطح).

وأرسل رسالة أخرى فيها رفق وخضوع ونزول عن كثير مما كان يطمع فيه، ويقول له في هذه الرسالة:(إني راغب في مودتك وصداقتك، وأنه لا يريد أن يكون فرعون بملك الأرض، ولا يظن ذلك فيه، ولا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم، ولا يجوز لي أن أهلك الإفرنج كلهم، وهذا ابن أختي الكندهري قد ملكته هذه الديار، وسلمته إليك، ليكون هو وعسكره تحت حكمك ولو استدعيتهم إلى الشنق سمعوا وأطاعوا. ويقول: إن جماعة من الرهبان المنقطعين قد طلبوا منك كنائس فما بخلت عليهم بها، وأنا أطلب منك كنيسة، وتلك الأمور التي كانت تضيق صدرك مما كان يجري في المراسلة مع الملك العادل تركتها وأعرضت عنها، ولو أعطيتني خربة قبلتها). فلما سمع السلطان هذه الرسالة جمع أرباب مشورته فأجمعوا على المحاسنة وعقد الصلح لما كان قد أخذ المسلمين من الضجر والتعب. فكتب صلاح الدين إليه: (إذا دخلت معنا هذا الدخول فما جزاء الإحسان إلا الإحسان. إن ابن أختك يكون عندي كبعض أولادي، وسيبلغك ما أفعل معه. . . وعسقلان وما وراءها يكون خرابا لا لنا ولا لكم. . .) وقد كاد الصلح يتم لولا إصرار ملك الإنجليز على أن تبقى عسقلان وبعض البلاد عامرة بيده، فقد أرسل إلى صلاح الدين رسالة يقول له فيها:(إن الملك يسأل ويخضع لك أن تترك له هذه الأماكن الثلاثة عامرة، وأي قدر لها في ملكه وعظمتك، وما من سبب لإصرار عليها، إلا أن الإفرنج لم يسمحوا بها، وقد ترك القدس بالكلية، فلا يطلب أن يكون فيه رهبان ولا قسوس، إلا في القيامة وحدها، فأنت تترك له هذه البلاد، ويكون الصلح عاما، فيكون لهم كل ما في أيديهم من الدارون وإلى إنطاكية، ولكم ما في أيديكم، وينتظم الحال، وإن لم ينتظم الصلح فالإفرنج لا يمكنونه من الرواح، ولا يمكنه مخالفتهم). وانقطعت مفاوضات الصلح عندما أعلن الملك أنه لا يمكن أن يخرب من عسقلان حجرا واحداً.

ص: 22

استعد صلاح الدين للحرب، ومضى بجيشه إلى يافا وافتتحها وكانت قلعتها على وشك أن تسقط في يده لولا أن أنجدها جيش الفرنج، وقد أعجب ملك الإنجليز بالسرعة التي استولى بها صلاح الدين على يافا، وقال: ما ظننت أنه يأخذ يافا في شهرين، فكيف أخذها في يومين. وأرسل رسولاً إلى السلطان يقول له:(بالله عليك أجب سؤالي في الصلح، فهذا الأمر لابد له من آخر، وقد هلكت بلادي وراء البحر، وما في دوام هذا مصلحة لنا ولا لكم) فأجابه السلطان: (إنك كنت طلبت الصلح أولاً على قاعدة، وكان الحديث في يافا وعسقلان، والآن قد خرجت يافا، فيكون لك من صور إلى قيسارية)؛ فجاء رسول الملك يقول: (إن قاعدة الإفرنج أنه إذا أعطى واحد لواحد بلدا صار تبعه وغلامه، وأنا أطلب منك هذين البلدين: يافا وعسقلان، وتكون عساكرهما في خدمتك دائماً، وإذا احتجت إلى، وصلت إليك في أسرع وقت، وخدمتك كما تعلم خدمتي)، فأجابه صلاح الدين:(حيث دخلت هذا المدخل، فأنا أجيبك بأن نجعل هذين البلدين قسمين: أحدهما لك، وهو يافا وما وراءها، والثاني لي، وهو عسقلان وما وراءها)؛ فأرسل إليه الملك يشكره على إعطائه يافا، ويجدد السؤال في عسقلان، ويقول:(إنه إن وقع الصلح في هذه الأيام سار إلى بلاده، ولا يحتاج أن يشتي هاهنا)، فأجابه السلطان في الحال إجابة المؤمن الواثق بقوله:(أما النزول عن عسقلان فلا سبيل إليه وأما تشتيه هاهنا، فلا بد منها، لأنه قد استولى على هذه البلاد، ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة، كما تؤخذ أيضاً إذا أقام، إن شاء الله تعالى. وإذا سهل عليه أن يشتي ها هنا، ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين وهو شاب في عنفوان شبابه، ووقت اقتناص لذاته، أفلا يسهل على أن أشتي وأصيف، وأنا في وسط بلادي، وعندي أولادي وأهلي، ويأتي إلى ما أريد، وأنا رجل شيخ، قد كرهت لذات الدنيا، وشبعت منها، ورفضتها عني، والعسكر الذي يكون عندي في الشتاء غير العسكر الذي يكون عندي في الصيف، وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى يعطي الله النصر لمن يشاء).

ومضى السلطان يطلب فرصة يحارب فيها العدو، ولكن الملل كان قد دب إلى عسكر الفريقين، وكانت قد جدت أمور تستدعي عودة ملك الإنجليز إلى بلاده، فأرسل رسولاً إلى الملك العادل، وقال له: قل لأخي الملك العادل يبصر كيف يتوصل إلى السلطان في معنى

ص: 23

الصلح، ويستوهب لي منه عسقلان، وأمضي أنا، ويبقى هو في هذه الشرذمة اليسيرة يأخذ البلاد منهم، فليس لي غرض إلا إقامة جاهي بين الإفرنج، وإن لم ينزل السلطان عن عسقلان، فيأخذ لي منه عوضا عن خسارتي على عمارة سورها.

فلما سمع السلطان ذلك سيرهم إلى الملك العادل، وأسر إلى ثقة عنده أن يمضي إلى الملك العال، ويقول له: أن نزلوا عن عسقلان فصالحهم، فأن العسكر قد ضجروا من ملازمة القتال، والنفقات قد قلت.

وانتهت المفاوضات بين العادل والملك بالنزول عن عسقلان وعن طلب العوض عنها، وتم توقيع المعاهدة على أن يسود السلام ثلاث سنين من تاريخها وهو الأربعاء الثاني والعشرون من شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ونادى المنادي في الأسواق: ألا إن الصلح قد انتظم في سائر بلادهم، فمن شاء من بلادهم أن يدخل إلى بلادنا فليفعل، ومن شاء من بلادنا أن يدخل إلى بلادهم فليفعل. قال ابن شداد وكان حاضرا ذلك اليوم:(وكان يوماً مشهوداً، غشى الناس من الطائفتين فيه من الفرح والسرور مالا يعلمه إلا الله تعالى).

‌أما موقف صلاح الدين من الصلح فقد أوضحه ابن

‌شداد بقوله: (إن الصلح لم يكن من إيثاره، فإنه قال

‌لي في بعض محاوراته في الصلح: أخاف أن

‌أصالح، وما أدري أي شيء يكون مني، فيقوى هذا

‌العدو، وقد بقيت لهم هذه البلاد، فيخرجوا لاسترداد

‌بقية بلادهم، ونرى كل واحد من هؤلاء الجماعة قد

‌قعد في رأس قلعته، يعني حصنه، وقال: لا أنزل

‌فيهلك المسلمون. هذا كلامه، وكان كما قال. لكه

ص: 24

‌رأى المصلحة في الصلح، لسآمة العسكر، وتظاهرهم

‌بالمخالفة، وكانت مصلحته في علم الله تعالى، فإنه

‌اتفقت وفاته بعيد الصلح، ولو كان اتقفق ذلك في أثناء

‌الوقعات لكان الإسلام على خطر، فما كان الصلح إلا

‌توفيقا وسعادة له).

أمضى صلاح الدين معاهدة الصلح مرغماً، لما شاهده في الجند من ملل، دل عليه إحجامهم عن منازلة العدو في مواقف عدة، وكان يأمل أن يجدد قواه في هذه المدة من السلم ليستخلص ما بقي في يد الفرنج، وبرغم طول الجهاد ومشقات القتال هذه المدة الطويلة في حرب الفرنج، وقف صلاح الدين للفرنج وقفات عنيفة حطمت آمالهم، فلم يظفروا بغير امتلاك عكا، واضطروا إلى النزول على ما شرطه السلطان، وفي ذلك يقول ابن الساعاتي بمدح صلاح الدين:

سل عنه قلب الأنكتير، فإن في

خفقانه ما شئت من أنبائه

لولاك أم البيت غير مدافع

وأسال سيل نداه في بطحائه

وبكت جفون القدس ثانية دما

لترنم الناقوس في أفنائه

وكان إعجاب مؤرخي المسلمين عظيماً بصبر الإنجليز، وسياستهم في اللين حينا والشدة حينا آخر، ولكن غلب سياستهم إيمان صلاح الدين وقوة ثباته ورباطه جنانه.

أحمد أحمد بدوي

ص: 25

‌ذكرى الدكتور مشرفة

أول عميد مصري لكلية علوم فؤاد

للدكتور عطية مصطفى مشرفة

دار الفلك دورته وتعاقبت الأيام والليالي فنسخ منها الزمن سنة

أخرى؛ ففي مثل هذا اليوم (161) منذ ثلاث سنوات استرد الله

وديعته العالية عندما اقتحم الموت باب عالم مصر الفذ وهو

يرتشف قدحاً من الشاي ويستعد لمواصلة أبحاثه التي لم

تحتجب نورها إلا بموته.

لم يتعب الموت في أن يفك عن روحه قيد الجسد لأن الجسد كان ممزقاً من طول ما أنهكه صاحبه من نضال مر سببه ضمير حي ونشاط جم وذهن موهوب فصعدت روحه إلى ربها في سلام يشبه وميض البرق.

وعند هذا الباب الذي دخله الموت وخرج في ثوان معدودات يقف التاريخ طويلا ليسجل آثاره ومناقبه ومكانته العلمية المرموقة.

كان الفقيد الكريم أول رئيس لاتحاد الجامعة فبث في برلمانه الصغير المثل العليا فتخرج فيه أعضاء عديدون كان منهم الوزراء الصالحون وأعضاء البرلمان المنتجون في برلمان الأمة.

وقد لمست جهده في أولئك الرجال الذين كونهم ووجهم وبث فيهم من روحه.

وكان رحمه الله يرى أن الدراسة الجامعية يجب أن تعتمد على مجهود الطالب في البحث والكلام. وما الأستاذ إلا مرشد وموجه وموضح، لذلك كان الاطلاع هو الطريق الصحيح لميادين العلوم وآفاق البحث والكشف في رأيه؛ فربى في طلبه ملكات حب العلم والتعميق فيه وحب البحث العلمي، وبذلك أخرج للبلاد فيلقا من العلماء الباحثين الذين يطلبون الحقائق العلمية لذاتها. وكثيرا ما سمعته يقول (خير للكلية أن تخرج عالما كاملاً من أن تخرج كثيرين أنصاف العلماء) وكانت خسارته على البلاد في تلك النهضة العلمية التي

ص: 26

غرس شجرتها في كلية العلوم فتغلغلت جذورها وامتدت أعوادها وانتشرت ظلالها فنهضت حتى وصلت إلى مكانها المرموق في الأوساط العلمية بما أفاض عليها من عبقريته وسعة إطلاعه وخصب ثقافته والتي لم يرض - طيب الله ثراه - أن يكون لأحد عليها من سلطان سوى التقاليد الجامعية الحرة مما زاد فيها مشعل العلم تألقاً وتوهجاً وجعل هذه التقاليد النبراس المضيء والشعلة الوهاجة؛ وبذلك أنشأ جيلا من غرس يديه لا يمكن أن يثبط أحد من همته وعزيمته أو يثنيه عن حماسته وبغيته لأنه قد أتخذ قدوة له.

واستطعت أن أرى مجهوده في الحركة العلمية التي بناها على أكتافه وتعهد مراحل تطورها مرحلة بعد مرحلة ورفع اسمها فيها وراء البحار بما بث فيها من روح البحث الصحيح وبذلك أنشأ مدرسة في البحث العلمي العميق يرجع إليها الفضل في شق الطريق لإيجاد طبقة فريدة من العلماء ورجال الفكر الممتازين لأنه بناها على أساس من الدأب والجد والاستقامة وشيدها بوسائله المنتجة المثمرة فسارت على السنن القويمة ونهجت المنتهج الكريم فوسائلها مقصورة على صحة الحجة وسلامة البرهان ووضوح الدليل وبذلك أحدثت هزات عنيفة في المجتمع العلمي من الحيوية والنشاط وأصبحت كالنور الذي يشق حجب الظلمات.

ومن كلماته المأثورة التي تعتبر دستوراً للتقاليد الجامعية قوله رحمه الله (إني لا أطلب من القادة والحكام في مصر سوى ترك الجامعة تؤدي رسالتها السامية بعيدة عن الميول السياسية وترك الطلبة لإتمام دراستهم في هدوء واستقرار).

وقوله (إن أفضل الزعماء والكبراء عندي هو من يؤدي للجامعة مساعدة ويشد أزر العلم ويعادون العلماء على أداء رسالاتهم في هدوء ويحفظ لهم كرامتهم واستقلالهم) وتلك مبادئ سامية نورها في عهدنا الجديد.

وترن الآن في أدنى بعض ما أورده بعض أعلام الفكر والرأي في جنبات قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة في حفلة تأبينه فأستعيد منها قول أستاذي الجليل الدكتور طه حسين أطال الله بقاءه (فارقنا مشرفة فلم نمتحن فيما كان قلوبنا تضمر من ود وحب، ولم نمتحن فيما كان نستمتع به من زمالة وإخاء فحسب، ولكن مصر كلها امتحنت في الآفاق، وشر المحن هو هذه المحن التي لا سبيل إلى تعويضها ولا إلى العزاء عنها، فأمثال مشرفة من النابغين

ص: 27

النابهين الذين يرفعون ذكر أوطانهم والذين يضيفون إلى الكنوز الإنسانية في العلم والمعرفة، أمثلة قليلون إذا خسرهم الوطن فلا بد من صبر وانتظار متصل قبل أن نظفر بمن يخلفهم، وإذا فقدهم العلم فلا بد له كذلك من انتظار حتى يجد ما سيتم ما بدأه).

ولا تزال كلمة أعضاء مجلس كليته ترن في أذني عن الفقيد العظيم اعترافاً بجميله على كلية العلوم حيث يقولون (كلية العلوم التي بذل الفقيد من أجلها الكثير لإعلاء شأنها وتدعيم أركانها لن ننسى فضله عليها، وستبقى مبادئه وتعاليمه التي رسمها لها نبراساً تهتدي به، وسيظل اسمه خالداً رمزاً على النبوغ والتضحية، ومثلاً رفيعاً للقيام بالواجب وتحمل المسئولية والتفاني في خدمة العلم والعلماء).

ويكفي للدلالة على مكانة الفقيد الرفيعة بين مصاف العلماء في الدنيا أنه كان أحد الباحثين القلائل في الذرة، وممن العلماء القلائل الذين يفهمون النظرية النسبية حتى أن السير أوين رتشاردسون البحاثة الكبير في العلوم الرياضية قال عقب موت الفقيد (إنه كان من أعظم علماء الطبيعة الرياضيين البارزين في العالم وإن وفاته في هذه السن المبكرة جاءت خسارة لا تقدر للعلم لا في مصر وحدها بل في جميع أنحاء العالم أيضا).

فإن غاب نجمه عن الناظرين فهو لا يزال من وراء الأفق سيبث أشعته في قلوب من آمنوا برسالته، وهو وإن همه قلبه فإن ذكراه العاطرة لا تزال تملأ الوجود.

فلتذهب سيرته العاطرة في التاريخ قدوة مثلى يفخر بها المصريون جيلا بعد جيل لأن اسمه سوف يبقى خالداً ما بقي في مصر جيل يؤمن بالبحث العلمي وفائدته.

وفي ذمة الله هذا الطراز النادر الكريم من الرجولة والوفاء والعلم.

دكتور عطية مصطفى مشرفة

ص: 28

‌الرسالة وإصلاح الأزهر

للأستاذ محمد رجب البيومي

كتبت بالعدد الممتاز الماضي كلمة موجزة عن اثر الرسالة - مدى سنواتها العشرين - في العالم العربي أدبيا واجتماعيا ودينيا، وكان من الحتم الأكيد حينذاك أن أوضح ما قالت به من جهود في إصلاح الأزهر، فهو معقل الإسلام، ومنارة الأدب، وموئل العروبة، غير أني أردت أن أفرد لذلك مقالا خاصا، إذ أن الحديث عن الموضوع المتشعب يحتاج إلى بعض التفصيل.

والحق أن الرسالة وقد أنشأها صاحبها لإيقاظ الوعي الأدبي، وبعث الروح الإسلامي، وإحياء المجد العربي، كانت ترى الأزهر حقلا خصيبا لتنمية ما ترمي إليه من غايات، فهو أفسح ميدان لتربية الشباب المسلم، المعتز بأرومته العريقة، وتقاليده الكريمة، ودينه الأصيل، وهو عدو الاحتلال الجاثم على ربوع الشرق الإسلامي، يناوئه بسلاح الدين، ويهدمه بمعاول الأدب، ويغزوه بمنطق الثقافة، ويزعجه بإدكاء الحمية والغيرة والإباء في النفوس، فلا بد لمصلحين أن يساهموا في بنائه الراسخ، ليستكمل أداة التعليم، ويساير حاجة العصر، وإذ ذاك ينهض بالشرق - كما يقول الأستاذ الزيات - نهضة أصيلة حرة تنشأ من قراء، وتقوم على مزاياه، وتتغلغل في أصوله!.

وهناك صلة قوية ثابتة بين الرسالة والأزهر، فالرسالة وهي في جوهرها صحيفة الأدب العربي الأصيل، ترى (أن الدين الإسلامي ينفرد عن سائر الأديان باعتماد دعوته على الأدب، وقيام معجزته على البلاغة، والدين الإسلامي والأدب العربي متلازمان تلازم المعنى واللفظ والفكر والأداء، ولا يتسنى لرجل الهداية والإصلاح أن يبلغ دعوة محمد، إلا إذا تمكن منهما تمكن الجاحظ ومحمد عبدة وغيرهما من أئمة الأدب والدين) وإذا كان الأزهر قائد الدعوة إلى الإسلام فهو يلتقي بالرسالة في حلقة البأس وميدان الجهاد.

وأنت تتصفح أعداد الرسالة في سنواتها العشرين فلا تكاد تجد سنة تمر دون أن تثار على صفحاتها معركة الأزهر والإصلاح. ولو أن باحثا عكف على دراسة هذه البحوث الخاصة بالأزهر، لأمكنه أن يقدم - على ضوئها البصيرة - لولاة الأمر في مصر، دستوراً دقيقاً للإصلاح الأزهري المأمول، قد اشتركت في تقنينه عقول ممتازة، وأقلام حرة جريئة.

ص: 29

والرسالة بعد أحفل الصحف الأدبية في الشرق آثار أدباء الأزهر وشعرائه، ولا يخلو عدد من أعدادها التي تربو على الألف رغم تنوع مشاربها، واختلاف مناحيها، من أقلام أزهرية تعالج شؤون الأدب والدين والتاريخ، مما يشهد بأثرها الواضح في تنشيط العقل الأزهري وتوجيهه.

وإذا كانت آراء الكتاب قد اختلفت قربا وبعدا في توجيه الإصلاح الأزهري على صفحات الرسالة، فأن صاحبها الكبير قد وضع للمشكلة الأزهرية حلولا مختلفة، أخذت تتبلور وتتضح، حتى اجتمعت أخيرا في حل حاسم جهر به ودعا إليه، وكان لحوله المختلفة - في سنواتها المتفرقة - صداها القوى المجلجل، فقد تناولها الكتاب بالنقد والتعليق، ودفعت كثيرا من الأقلام إلى المعارضة والتأييد، وسنعرض اليوم موجزاً دقيقاً لهذه الحلول، ليلم بها القارئ في أضيق نطاق، وله أن يرجع إلى أعداد الرسالة السابقة إن أراد الإسهاب والتفصيل.

لقد بدأ الأستاذ الزيات فجدد رسالة الأزهر، ووجهها إلى ثلاثة مناح:

(1)

تنقية الإسلام من العقائد الواغلة، والمذاهب الباطلة، والعادات الدخيلة، وسبل ذلك ما يأتي:

(أ) تفسير القرآن على هدى الرواية الصحيحة، وفي ضوء العلم الصحيح، تفسيراً يجمع ما صح من أقوال السلف وما صلح من أقوال الخلف.

(ب) تأليف كتاب يجمع ما لا ريب فيه من أحاديث الرسول، ويستعان على شرحه وتبويبه بعلوم التاريخ والفلسفة والاجتماع.

(ج) تصنيف كتاب شامل للمذاهب الفقهية الصحيحة، فيوضح متنه مواد كالقانون، ثم يشرح شرحاً يستوعب الأصول والفروع (على أن تكون هذه الكتب الثلاثة مادة الدراسة، ومصدر الفتوى، ومرجع القضاء).

(2)

إعداد الوعاظ والدعاة في الشرق الإسلامي من أهل اللسن والخلق والعلم وسبيل ذلك ما يأتي:

(أ) إمدادهم بالثقافة الحديثة واللغات الحية فوق التكوين الأزهري.

(ب) إيفادهم إلى الأمم الإسلامية البعيدة عن مواطن العروبة وهبط الوحي.

ص: 30

(ج) العناية اليقظة بالبعثات الإسلامية في الأزهر، فأصحابها أقدر على إرشاد قومهم باللغة والقدوة والنفوذ.

(3)

جعل اللغة العربية لغة المسلمين كافة، فيكون لكل مسلم في الأرض لغتان، لغة لوطنه الأصغر، ولغة لوطنه الأكبر. وسبيل ذلك:

(أ) أن تحمل مشيخة الأزهر أقطاب الرأي في البلاد الإسلامية بالمفاوضة والائتمار على أن يجعلوا تعلم اللغة العربية إجباريا في مراحل التعليم المختلفة (ب) أن تتكفل بإرسال المعلمين من المتخصصين بالأزهر ليضطلعوا بهذه الرسالة.

هذه هي رسالة الأزهر كما حددها الأستاذ الزيات، وقد كان المظنون أن هذه الجامعة العريقة ستسعى إلى تحقيقها، لتتم لها الهيمنة الروحية على العالم الإسلامي، وخاصة أن الأستاذ المراغي كان يتقلد مشيخة الأزهر، وفي وسعه أن يرتفع به إلى الأوج، لو خلصت النية، وصحت العزيمة، فقد عقد الشباب الأزهري على جهوده المرتقبة، آمالا واسعة عريضة، واندفاع الشباب والشيوخ - إلا قليلاً - يؤيد حركة البعث في الصحف والمجلات، وقد رأى الأستاذ الزيات أن الفرصة مواتية لحركة الإصلاح ففسح لها في صحيفته مكاناً طيباً، واندفاع مرة أخرى يحلل ويعلل، ويمهد أسباب الوثوب والتقدم والاستقرار، وقد لخص علاجه في أمرين اثنين ينهضان بالأزهر الحديث، وينقذانه مما يتكاءده من التقاليد البالية، والجمود الميت، هذان الأمران هما: إعداد المعلم وتأليف الكتاب.

والمعلم كما يقول صاحب الرسالة لا بد أن يكون متمكنا في علوم الدين وصاحب ملكة في الفقه، وأن يكون متبحراً في فنون العربية، وصاحب قريحة في الأدب، وأن يأخذ بعد هذا وهذا من ثقافة الغرب بأوفر نصيب. أما الكتاب فلا يتيسر إلا بعد إعداد المعلم، لأنه هو وحده الذي يدري كيف يؤلفه ويدرسه (ومتى توفر للأزهر المعلم والكتاب في ظل هذه الإدارة البصيرة، صح لك أن تقول إن مصر ظفرت بجامعتها الصحيحة التي تدخل المدينة الغربية في الإسلام، وتجلو الحضارة الشرقية للغرب، وتصفى الدين من شوائب البدع والشبه والركاكة والعجمة).

ثم مضت الأيام خلف الأيام!! والأزهر على حالته الراهنة لا يأخذ بإصلاح ولا ينهض إلى رسالة. ومن الإنصاف للتاريخ أن نقول إن الأستاذ المراغي قد نحى بالأزهر في هذه

ص: 31

الآونة ناحية عصفت بآماله، وبددت شمله، فقد اندفع به التيار الحزبي البغيض لينصر فريقا على فريق! ولم يلتفت إلى إصلاحه وتوجيهه، بعد أن عقدت عليه الآمال، وامتدت غليه الأعناق،! وأصبح الشباب الأزهري المتوثب إلى الرقي والنهضة حائراً لا يجد من يأخذ بناصره، ويتولى زمام أمره، سوى أفراد من رجاله لا يملكون غير الخطب والمقالات، بل إنه وجد من يفت في عضده ويثبط همته، (من شيوخ غاية أمرهم أن يتزبوا بالورع ويتفقهوا في العلوم، بتشقيق الجمل، وتوليد الألفاظ، وتعديد الفروض) وما زال الفساد السياسي من جهة، والعصبية المعهدية بين الأزهر والجامعة من جهة أخرى ينهشان في هذا المعهد التليد، ويفرقان أبناء الثقافة الواحدة شيعاً وأحزابا، حتى تأكد المفكرون أن الأزهر لا يستطيع أن يصلح نفسه بنفسه، وأنه محتاج إلى خلق جديد، وسيطرة خارجية، ترفعه عن النزوات الشخصية، والإسفاف الحزبي، وتعود به إلى حظيرة الدرس والفضيلة والتثقيف، لذلك قام الأستاذ الزيات بدعوة جريئة إلى إصلاح الأزهر، فتقدم على صفحات الرسالة باقتراح حاسم يتضمن ما يلي:

1 -

أن يلغي التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية، ليلقي بمقاليده إلى وزارة المعارف فتقسمه على الوجه الذي تراه، وذلك بدء الوحدة الثقافية.

2 -

أن تتحول المعاهد الثانوية الدينية إلى مدارس ثانوية لحاملي الشهادات الابتدائية العامة، وتعلم فيها الرياضيات والعلوم وفق منهج الوزارة، وفي أول السنة الثالثة يتجه طلابها اتجاهين مختلفين: إما إلى الدين وعلومه، أو إلى اللغة وفنونها، فإذا انقضت السنوات الخمس تقدم طلاب الشعبتين إلى امتحان الشهادة الثانوية مع سائر إخوانهم في جميع المدارس، يمتحنون معهم فيما يتفقون فيه، وينفردون انفراد شعب التوجيه فيما اختصوا به.

3 -

أن يقتصر في التعليم الجامعي بالأزهر على كليتين اثنتين: كلية الدين وتشمل كليتي الشريعة والأصول، وكلية اللغة وتشمل كلية اللغة العربية ودار العلوم.

وقد أثار هذا الاقتراح جدلاً كبيراً بين الأقلام ما بين مؤيد ومعارض، وقد هاجمه من كبار رجال الأزهر المغفور له الأستاذ الغمراوي بمجلة الرسالة مهاجمة خطابية عاطفية، كما عارضه الأستاذ محمد عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر الآن بمجلة رسالة الإسلام معارضة

ص: 32

تقوم على الرفض والإنكار، دون أن تحلل البواعث الشافية، والأسباب المقنعة. وأدلى غيرهما كالأستاذ العقاد والشيخ المدني بآراء تتفق وتختلف، وتلين وتشتد. وتتلخص اعتراضات المعارضين في شبه يسيرة أوجد لها الأستاذ الزيات ما يلزم من الحلول والتفنيد.

فهناك من يقول إن المواد المدنية على نهجها المعروف بمدارس الوزارة ستغطي على المواد الدينية. وهناك ثان يقول إن تحفيظ القرآن الكريم لا يمكن أن يتم على وجهه الأكمل، إذا كان القسم الابتدائي عاما للجميع. وهناك ثالث يقول إن هذا الاقتراح سيحرم الطالب ست سنوات كان يقضيها في دراسة اللغة والدين. ورائع يرى أن الاعتماد على الشهادة الابتدائية العامة، في تغذية الأقسام الثانوية الأزهرية، يعرضها للهزال والجذب، لانصراف التلاميذ عنها إلى المدارس الأخرى!!.

هذه هي الاعتراضات الموجهة إلى الاقتراح. وقد أجاب عنها الأستاذ الزيات إجابة شافية بالرسالة، فبين أولا أنه لا خوف من طغيان المواد المدنية على غيرها ما دام الوقت متسعاً، والأستاذ كفؤا، والكتاب مهذبا. وبين ثانياً أن القرآن الكريم يمكن أن يحفظ بسهولة إذا فرضته إدارة الأزهر على كل طالب في كل سنة من سني الدراسة في المدارس الأزهرية الثانوية. وأوضح ثالثاً أن المعاهد الدينية التي ستصير مدارس ثانوية ستظل تابعة للأزهر، خاضعة لإدارته، فله أن يفرض عليها ما شاء من الدراسات الدينية. كما بين أخيرا أن الاقتراح يقصر وظائف تدريس اللغة العربية والدين والأدب في جميع مدارس الأمة على الأزهر، فكل من يرغب في ممارسة أمر من هذه الأمور يجب أن يدخل الأقسام الثانوية الأزهرية، ليحقق رغبته؛ ولن يتعرض بعد ذلك للهزال والجدب.

وإذا كان صاحب الرسالة قد تقدم باقتراحه منذ سبع سنوات قبل أن تعم المجانية التعليم الثانوي بالمدارس، فإننا نرى أن الواقع الملموس بعد تعميم المجانية يدعو معارضي الاقتراح إلى النظر فيه من جديد نظرة عملية، إذ أن الأزهر بمجانية التعليم قد تعرض إلى زلزلة عنيفة صرفت عنه كثيراً من الطلاب، وأصبح يتسامح في شروط الانتساب تسامحاً جعله لا يدقق في حفظ القرآن جميعه، بله السن والقواعد الأولية للمعلومات. ولئن وجد في العامين الماضيين من توجه إليه ممن استعدوا لدخوله منذ طفولتهم الباكرة، فإنه لن يجد بعد

ص: 33

ذلك من يسارع إليه، إلا إذا منح ميزات كثيرة تبرز تفضيله على المدارس في نظر أولياء الأمور، وهيهات أن يكون ذاك، وهو بوضعه الراهن بعيد كل البعد عن الثقافة الحديثة، واللغات الحية، التي تفتح أبواب المستقبل ونوافذ الأمل للشباب.

على أن كثيرا من أساتذة الأزهر ورجاله يشاركون الزيات رأيه بكل قوة وتعضيد. وأذكر أن الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى قد كتب مقالا حارا بالأهرام (صيف سنة 1950) يقترح فيه ما سبق أن اقترحته الرسالة بشأن الأزهر، ففتح مجالا كبيرا للمناقشة وتلقت جريدة الأهرام سيلا من التأييد والمعارضة يوحي بالاهتمام والتقدير، بل إن الدكتور محمد يوسف موسى قد أعلن رأيه هذا في مجلة الأزهر وهي الصحيفة الرسمية للأزهريين، فلم يثر اعتراض الشيوخ آنذاك، أما خارج الأزهر فأكثر رجال التربية يضجون من الثنائية الحمقاء، التي تبدد وحدة الثقافة بين أبناء الأمة الواحدة. وقد دعا وزير المعارف الأستاذ إسماعيل محمود القباني في كتابه الذي أصدره أخيرا عن سياسة التعليم إلى توحيد الثقافة، وتحويل المعاهد الأزهرية إلى مدارس ابتدائية وثانوية، لتتم الوحدة الثقافية في وادي النيل، وأنا أرى أن السبيل ميسر إلى ذلك كل التيسير، إذ أن مدرسي اللغة العربية والدين - وهم أكثرية - في مدارس الوزارة من الأزهريين، كما أن مدرسي المواد المدنية في المعاهد الدينية من رجال التعليم بالوزارة، فلم يبق إلا أن تتحد البرامج وتتفق المناهج. وإذا كانت عناية المدارس الآن باللغة العربية والدين الإسلامي واهنة ضعيفة، فلنشد أزرها شداً قوياً متواصلاً، ليكون جميع التلاميذ مثقفين في دينهم ولغتهم دون تمييز بين فريق وفريق.

وأخيراً. . . هل من سميع؟!.

محمد رجب البيومي

ص: 34

‌شعر مختار

الإبريق

ألا أيها الإبريق مالك والصلف

فما أنت بلور ولا أنت من صدف

وما أنت إلا كالأباريق كلها

تراب مهبن قد ترقى إلى خزف

أرى لك أنفا شامخا غير أنه

تلفح أثواب الغبار وما أنف

ومسته أيدي الأدنياء فما شكا

ومصته أفواه الطغام فما وجف

وفيك اعتزاز ليس للديك مثله

ولست بذي ريش تضاعف كالزغف

ولا لك صوت مثله يصدح الدحي

وتهتف فيه الذكريات إذا هتف

وأنصت استوحيه شيئا يقوله

كما يسكت الزوار في معرض التحف

وبعد ثوان خلت أني سمعته

يثر مثل الشيخ أدركه الخرف

فقال (سقيت الناس) قلت له: أجل

سقيتهم ماء السحاب الذي وكف

ودمع السواقي والعيون الذي جرى

وماء الينابيع الذي قد صفا وشف

فقال: ليذكر فضلى الماء وليشد

بمدحي، ألم أحمله؟ قلت: لك الشرف

فقال: ألم أحفظه؟ قلت - ظلمته

فلولاه لم تنقل ولولاك ما وقف!

أيليا أبو ماضي

غزال!

دنوت فقلنا رؤى الحالمين

فلما بعدت اتهمنا النظر

وحامت عليك بأضوائها

مصابيح مثل عيون الزهر

تتبعن خطوط عبر الطريق

كما يتحرى الدليل الأثر

مشى الحسن حولك في موكب

يرف عليه لواء الظفر

تمثل صدرك سلطانه

كجبار واد تحدى الخطر

بنهدين يستقبلان السماء

كأنهما يرضعان القمر

تساميت عن لغة الكاتبين

وروعة كل قصيد خطر

وجئنا إليك بملك الهوى

وعرش القلوب وحكم القدر

ص: 35

بأفئدة، مثلما عربدت

يد الريح في ورقات الشجر

وأنت بأفقك ساجي اللحاظ

تطل على سبحات الفكر

علي محمود طه

هي. . والفراشة

حطت على غصن الشجيرة حين حطت من عل

ورقبتها. . . فوجدت مشبهة لمن لم تقبل. .

شقراء. . قبلها الصباح على جناح مرسل

مشغولة بكيانها. . عن عاشق متطفل

مزهوة. . في ثوبها الفل التقي. . بقر نفل

ورشيقة. . إن تستقر هنا. . وإن تتنقل

لهفى عليها وهي نافرة. . ولم تتمهل

لهفي عليها. . بل عليك تلهفي. . ولتسألي. .

ولتسألي عيني التي عن (ساعتي) لم تغفل

علقت بعقربها. . تضيق بسيره المتمهل

ترنو. . وترنو. . ثم تكشف أنه لم ينقل!

ولتسألي الترب الذي أبليته بتنقلي. .

ولتسألي نظراتهم. . لما وقفت بمعزل

يلقونها في حدة وكأنهم من عذلي!

أ (فراشتي). . عودي إلى. . فوقفتي لم تكمل

عندي رحيق البرعم الحاني. . وهمس السنبل

عندي رفيف النسمة النشوى. . وشدو الجدول

عندي من الفجر الندي مشاعر. . لم تجهل!

عندي الربيع. . وما الربيع سوى صباي. . فأقبلي. .

محمد محمود عماد

ص: 36

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

بودلير في رأي سارتر

في العدد الأسبق من الرسالة باب (من هنا ومن هناك) كلمة عن (تحديد التراث الأوربي في دراسة أعلامه) للكاتب الأمريكي ويليام باريت. . قال الكاتب الأمريكي في سياق هذه الكلمة وهو يشير إلى الشاعر الفرنسي شارل بودلير: (أما بودلير فالرأي بين النقاد السكسونيين وفي طليعتهم الشاعر العظيم ت. س إليوت أن بودلير في قرارته شاعر مسيحي برغم ما يشتم في كتاباته من إلحاد. وجدير بالذكر أن جان بول سارتر الفرنسي يخالف النقاد السكسونيين في (مسيحية) بودلير. وسارتر في دراسته الأخيرة يجرد بودلير من معظم المزايا الأدبية والروحية التي وفرت له مكانته المرموقة في الأدب الغربي الحديث!).

هذه الفقرة التي نقلتها الرسالة عن الكاتب الأمريكي وهو في معرض الحديث عن رأي سارتر في بودلير، كانت مسرفة في الإيجاز بحيث لا يخرج منها القارئ بتلك المقدمات التي بنى عليها الكاتب الفرنسي رأيه في مواطنه الشاعر. . لماذا خالف سارتر النقاد ي (مسيحية) بودلير ولماذا جرده من معظم المزايا الأدبية والروحية؟ هذا هو السؤال الذي يحتاج الجواب عنه شيء من الإفاضة أو شيء من افسهاب! أما نحن فقد تناولنا هذا الموضوع يوما بالتحليل والعرض وكان ذلك منذ سنوات ثلاث، حيث قمنا إلى القراء تلخيصاً أمنياً لتلك الدراسة النفسية المحلقة التي تضمنها كتاب سارتر عن بودلير. . ولا مناص من أن نعود اليوم إلى بعض ما قلناه بالأمس، لأن هناك فريقا من القراء لم يطع على هذا الكتاب أو هذه الدراسة، ولأن هناك فريقاً آخر قد فاته أن ينظر فيما قدمناه من عرض لها وتحليل. . وكلا الفريقين يستطيع في ضوء هذه العودة التي تطوي بها الأعوام أن يفتح باب المعرفة من جديد؛ معرفة رأي الكاتب الفرنسي في مواطنه الشاعر وهو الرأي الذي يخالف به كل ما ذهب إليه النقاد!.

من هو بودلير في رأي سارتر؟ أنه الرجل الذي كان يفتش عن الآلام في كل مكان، ويسعى إليها سعيا متواصلاً يثور عليها آخر الأمر تلك الثورة السلبية العاجزة التي لا تدفع

ص: 38

شراً ولا تدرأ خطيئة. . كان مثالياً بينه وبين نفسه، ولكنها المثالية القاصرة على عالم الذهن وحده لا تكاد تتعداه. وهو في (وجوده الذهني) إنسان مترفع عن كل ما يخدش الكرامة ويشين الخلق ويهبط بالسمعة إلى حمأة الموبقات، وهو في (وجوده الواقعي) إنسان غارق في لجج الإثم ضال في متاهات الغي متخبط في ظلام الوزر والمعصية! يدعو إلى الشيء ولا ينفذه، ويرسم الطريق ولا يسير فيه، ويضع لحياته خط سير هو أول المنحرفين عنه والخارجين عليه. . يحب الوحدة ويتوهم أن في ظلالها راحة نفسه ونعيم دنياه، ولكي يظفر بها فلا بأس من أن ينفر منه الناس وأن يبغضهم فيه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يرمي شخصه بأقبح التهم وينعت خلقه بأشنع النعوت، ولا ضير من أن يشيع عن نفسه أنه قتل أباه وانحدر من الشذوذ الجنسي إلى أدنأ بؤرة وأحط مهاويه. . كل هذا ليحقق لنفسه تلك الوحدة المنشودة التي يخلو فيها إلى هواجسه بعيداً عن الناس!.

ومع ذلك فما أكثر ما يضيق بهذه الوحدة ويفزع من أشباحها الرهيبة ويفر من ظلالها الخانقة! وهو، ذلك المخلوق الذي يسمو (بأفكاره) إلى مدارج العلاقة الجنسية النظيفة، تراه يهبط (بأفعاله) إلى أقذار ما يمكن أن تلحقه تلك العلاقة بإنسان. . تراه يتصل بإحدى العاهرات ذلك الاتصال الشائن الذي يخرج منه أخبث الأمراض وأفدح العلل ثم لا يحاول أن يقصد إلى طبيب ليلتمس لجسمه المنهك، أي وسيلة من وسائل البرء والشفاء! وهو، ذلك الرجل العاجز عن تصريف أموره، المشلول الإرادة في معركة الحياة، يسعى عن طيب خاطر إلى من يشرف عليه ويرعاه؛ حتى إذا وجد (مجلس العائلة) أو مجلس الوصاية ليشرف على هذا الرجل الذي يفر من المسئوليات الضخام وغير الضخام، تراه يثور على هؤلاء (الجلادين) الذين يذيقونه الذل ويسومونه سوء العذاب! هو، ذلك الفنان الذي كان يتطلع إلى أن يظفر بمكانه بين الأعلام من أعضاء الأكاديمية الفرنسية، تراه يعبر كل درب يمكن أن يباعد بينه وبين المكان المرموق. وأعجب العجب أنه كان ينشد من كل قلبه مثل هذا الإخفاق! وهو، ذلك الشاعر الذي يخرج للناس يوما ديوانا من الشعر يطلق عليه (أزهار الشر) ليقف بسببه في ساحة القضاء. ترى أكان يهدف من وراء هذا الشعر إلى مؤازرة الذين ينادون بمذهب (الفن للفن) أم كان يهدف إلى شيء آخر تتردد أصداؤه بين جنبيه وترسب في قرار سحيق؟ أغلب الظن أنه كان يحب أن يكون منبوذا من

ص: 39

الناس تلاحقه اللعنة في كل عمل من أعماله الأدبية والإنسانية. . وإلا لما تعمد أن يطالع الناس بهذا الشعر الذي عرضه للإدانة من جانب القضاء الفرنسي؛ وهي إدانة مادية ومعنوية!.

هو إذن في رأي سارتر رجل عاجز مضيع يحرك يديه في شتى الاتجاهات ليثير من حوله الزوابع والأعاصير، حتى إذا هبت عليه من ناحية وعصفت بكيانه وزلزلت وجوده وقف حيالها مكتوف اليدين. . رجل عاش ولكن لم يستطع أن يفسر لنا تلك الحياة التي عاشها ولا أن يكيف لنا هذا الوجود الذي خلق فيه! رجل كون مزاجه بنفسه واختار مصيره يرضاه، ثم خانته القدرة على أن يخرج من أخطائه وآثامه بمذهب يحدد ذاتيته في زحمة الوجود أو يبرر مكانه في غمار الحياة! هذه الشخصية العجيبة الغريبة المتقلبة تحتاج إلى مفتاح يعالج أبوابها المغلقة على فنون من الطلاسم والأسرار وليس هناك من كاتب غير سارتر يقدم إلينا هذا المفتاح.

بودلير الذي كان يفتش عن الآلام كان يريد أن يتعذب والدليل على ذلك يمكن أن يستخلص من أخباره وآثاره؛ أخباره الخاصة وآثاره الفنية، ولا عجب في ذلك من رجل كان يقول عن نفسه ويردد ما يقول:(أنا الجرح وأنا السكين)!. . كان يسعى إلى صهر روحه في بوتقة الألم والعذاب، وكان يحلو له أن يتأوه كلما أحس في نفسه حاجة إلى الثورة. كان يبغي أن (يضطهد) نفسه ليكون اضطهاده لنفسه عقاباً لها؛ عقابا على عجزه وضياعه وما اقترف في حقها من أخطاء وآثام! أكان ذلك من جانبه لونا من العقاب الذاتي الناتج عن تغلغل النزعة الدينية المسيحية بين جوانحه كما ذهب إلى ذلك معظم النقاد؟ إن سارتر ينبذ هذا التفسير المتهافت الذي لا يستطيع أن يقف على قدميه؛ لأن هناك أدباء أشربت نفوسهم تلك النزعة الدينية منذ المولد وخلال النشأة والتربية ثم ساروا ردحا من الزمن في نفس الطريق الشاذ الذي سار فيه، ومع ذلك فما أبعد الشقة بينهم وبين بودلير في لقاء الحياة بمثل ما لقيها به من عقبات للنفس واضطهاد للذات!.

إن المشكلة إذن ليست مشكلة تلك النزعة الدينية من قريب ولا بعيد، ولكنها المشكلة التي تتعلق بمركب النقص ومركب التعويض. . رجل كان يشعر في أعماقه أنه لا وجود له أو أن وجوده كان أشبه بالعدم؛ ومن هنا راح يلتمس شتى السبل ليقنع نفسه أو ليخدعها بأنه

ص: 40

موجود. وهذه الخطوط المتنافرة التي كانت تحدد اتجاهات مصيره في الحياة تعود آخر الأمر لتلتقي في نقطة ارتكاز (وجودية) عمادها الكبرياء. . كبرياء الذات المهزومة!.

ما أشبه جوانب الشخصية البودليرية بعدد من (الغرف النفسية) التي تفتحا كلها بمفتاح واحد: غرفة للألم، وتسلمك هذه إلى غرفة أخرى للعذاب، وتسلمك هذه إلى غرفة ثالثة للعقاب، وتسلمك هذه إلى غرفة رابعة للسخط والثورة، وتسلمك هذه إلى غرفة خامسة للكهرباء. . نعني أنه رجل يريد أن (يجد) نفسه لأنه تائه مضطرب، وهذا هو الطريق الذي سلكه ليصل إلى ما يريد: بحث عن ألوان الشذوذ حتى اكتظت بها حياته، وحين تحقق له ما يبتغيه بدأ يتعذب، ثم طاب له أن يتخذ من هذه المرحلة معبرا إلى العقاب الذاتي الذي يتيح له أن يتبرم ويثور، وفي هذا تحقيق لكبريائه، وجوهر تلك الكبرياء الموهوم آهة حانقة على المجتمع ساقطة على الوجود. . لتشعره بينه وبين نفسه بأنه موجود!.

هذه هي خلاصة رأي سارتر في شارل بودلير؛ خلاصة تلك الدراسة النفسية التي ترفع السجف المدلاة على نوافذ هذه الشخصية المغلقة، ليندفع الضوء إلى شتى الجوانب والأركان. . وارجع بعد ذلك إلى كلمة الكاتب الأمريكي التي تفوح منها رائحة الاتهام؛ اتهام سارتر بأنه قد تجنى على مواطنه الشاعر. ارجع إليها لتدرك الفارق البعيد بين نظرتين في الحكم على بودلير: نظرة عابرة عند إليوت تؤثر الوقوف على السطح دون أن تتغلغل إلى الأعماق، ونظرة متأنية عند سارتر تميل بطبيعتها إلى رفع الحجب لتنفذ إلى ما وراء المجهول!.

حول الكاتب الفرنسي بلزاك

في العدد الماضي من الرسالة مقال عن القصاص الفرنسي بلزاك، وهو تلخيص بقلم الأستاذ علي كامل لكتاب ألفه الكاتب النمسوي ستيفان زفايج. . أنه تلخيص موفق على الرغم من أننا نود أن نضيف إليه أشياء وأن نعترض فيه على أشياء! أننا نعترض مثلاً على قول الأستاذ بأن (بلزاك كان يتأنق في فنه ويعيد تصحيح ما كتب بعد إرساله إلى المطبعة عدة مرات، حتى ضج منه الناشرون إلى درجة أن قاضاه بعضهم من أجل ما يتحملون من نفقات، نتيجة تصحيحاته وتغييراته التي لا تنتهي). . صحيح أن بلزاك كان

ص: 41

كثير التصحيح والتغيير لما يكتب، كما بعث إليه الناشرون با (لبروفات) بقصد الاطلاع والمراجعة ولكن هذا لا يفسر بأن بلزاك كان يميل إلى التأنق شأن كتاب الصنعة البيانية. . لقد كان أبعد الناس عن التنميق والتزويق لسببين: أولهما أنه كان كتباً مكثرا إلى حد لم يعرفه تاريخ الأدب الفرنسي في يوم من الأيام، ومثل هذا اللون من الإكثار لا يتيح لصاحبه أن يحتشد للتعبير أو يتأنق في الصياغة. أما السبب الآخر فهو أن بلزاك كان رائد (الواقعية) الأول في عصره وهو العصر الذهبي للرومانسية، ومن طبيعة الكتاب الواقعيين أنهم يضيقون بتلك الأساليب الرقيقة الحالمة التي لا تناسب غير أجواء الخيال. . كان بلزاك يمثل الأسلوب الواقعي في الكتابة مبتعدا عن تلك (الحدلفة) اللفظية التي كان يزهي بها كاتب مثل تيوفيل جوتييه، ذلك الرومانسي الحالم الذي كان يضم بلزاك إلى قائمة الكتاب الصحفيين! لم تكن كثرة التصحيح والتغيير إذن عند الكاتب الفرنسي نتيجة الميل إلى التأنق وإنما كانت نتيجة السرعة التي يفرضها الإكثار. . كان يكتب ويكتب ويكتب وهو غارق في أفكاره تائه بين أوراقه، لا يكاد يشعر بأي شيء حوله غير إبريق القهوة الذي كان بالنسبة إليه قبسا من أقباس الوحي والإلهام! وحين ينتهي من الكتابة ويلقي نظرة إلى أكداس الورق التي سطرها منذ حين فلا يجدها بجواره، يدرك بمألوف عادته أن عامل المطبعة قد حضر وجمع الورق وانصرف خلال تلك الغيموبة العبقرية. . وحين تعاد إليه (البروفات) لا يجد بدا من أن يتناولها بالتعديل والتبديل لأن السرعة الفائقة تكون قد أخرجت هذه العبارة عن خط اتجاهها الفكري، أو انحرفت بتلك عن طريقها النفسي الذي يريد لها أن نسير فيه، عند رسم نموذج من نماذج البشرية أو نقل مشهد واقعي من مشاهد الحياة!.

هذا شيء وهناك شيء آخر، وهو قول الأستاذ في موضع آخر من تلخيصه لكتاب زفايج:(وما كانت صداقته بعد مدام دي بيرني كصداقته لدوقة ابرانتيز ومدام ريكامييه ومدام رولما كارو ودوقة كاستري ثم أخيراً مدام دي هانكا إلا تطبيقا لتلك العقيدة التي كونها على ضوء حبه لمدام دي تيرني، وهو أن تكون المرأة له أما وشقيقة وصديقة وعشيقة في وقت واحد). . إن الذي نعلمه ونؤكده أن علاقة مدام ريكامييه ببلزاكلم تكن علاقة حب وإنما كانت علاقة إعجاب، وأن مدام ريكامييه لم تعرف الحب الجسدي ولا العلاقة الجنسية في

ص: 42

يوم من الأيام! وحسبها أنها قد عاشت عذراء وماتت عذراء! صحيح أنها قد أحبت في أواخر حياتها الكاتب الفرنسي شارتوبريان، ولكنه الحب الروحي البريء الذي يقتصر على أن يربط بين قلبين بروابط الود والصداقة. . ولكم حاول نابليون أن يظفر بها زوجة فما استطاع، وكل هذا يؤكده تاريخ حياتها الذي سجلناه في كتابنا (نماذج فنية)! إن كل ما كانت تحمله مدام ريكاميية لبلراك هو الشعور بالإعجاب، ولقد كانت بداية هذا الشعور يوم أن قدم إليها قصته الرائعة (المرأة ذات الثلاثين). . كان بلراك يومئذ يصعد أول درجة في سلم المجد الأدبي فاستطاع أن يصعد الدرجة الثانية، حين قدمته مدام ريكامييه هو رقصته إلى صاحب (عبقرية المسيحية) تقديما يحفل بالتقدير ويزخر بالثناء، ولم يخب ظنها فيه وهي تقول عنه لشاتوبريان إنه عبقري وموهوب!.

وبقي شيء ثالث وهو قول الأستاذ بأن قصة (لويس لامبير) هي أقوى وأعمق ما كتب بلراك. . إن الذي نعلمه ونؤكده أيضاً على ضوء قراءتنا المتواضعة وعلى ضوء تقدير النقاد، أن قصة (الأب حوريو) هي التي يمكن أن توضع في المكان الأول ثم تليها بعد ذلك قصة (أوجيني جراندية)، وإن كان دستويفسكي قد خص هذه القصة الأخيرة بالحب والإعجاب وقام بترجمتها إلى اللغة الروسية وتتلمذ عليها في بدء حياته الفنية. . وبمناسبة الحديث عن هذه القصة نود أن نقول للأستاذ علي متولي صلاح إن (أوجيني جرانديه) لم تكن (بخيل) بلزاك كما ورد في مقالة بالعدد الأسبق من الرسالة! إن (أوجيني جرانديه) لم تكن رجلاً وإنما كانت امرأة، ولم تكن بخيلة وإنما كانت فتاة على شيء غير قليل من كرم النفس وسخاء اليد، وكم لقيت في سبيل ذلك من أبيها (البخيل) ألوانا من الظلم والقهر والاضطهاد. . إن البخيل في قصة بلزاك هو مسيو جرانديه، أما أوجيني جرانديه فهي ابنه البخيل كما تشير إلى ذلك قصة الكاتب الفرنسي!.

أنور المعداوي

ص: 43

‌مسرح وسينما

غروب الأندلس

تأليف: الأستاذ عزيز أباظة

إخراج: الأستاذ فتوح نشاطي

تمثيل: الفرقة المصرية

للأستاذ علي متولي صلاح

كان خيراً كبيراً لو عرضت هذه المسرحية على الناس قبل حركة الانقلاب لا بعدها، إنها كانت تكون عندئذ (سابقة) لأوانها وليست (بعد) أوانها كما هي اليوم، فهي تصور الفساد الذي استشرى في دولة العرب بالأندلس والانحلال الذي دب في أوصالها مما يسبه إلى حد كبير الحال التي كانت بمصر قبل الانقلاب. ولو أنها عرضت قبل هذا الانقلاب لكانت إرهاصات له أو عاملاً من عوامله، ولكان لعرضها شأن غير الذي لها اليوم، ولكن القطار فاتها!.

كنا نود جاهدين أن نسمع - والملك في أوج طغيانه وجبروته - من يقول:

الملك يلهو والحوادث حوله

متظاهرات والخطوب سراع

والقصر تفهق بالخنا قاعاته

ويبيت يروي إثمها ويذاع

والحكم فوضى. . لبه وقوامه

ذمم تسام - رخيصة - فتباع

وكنا نود جاهدين أن نسمع أن الملك المطلق العنان يقول لأمير الجيش عن الجيش:

هو جيش ألست مولاه؟؟ فيجيبه أمير الجيش في كبرياء بقوله:

كلا. . . ليس مولاه من سقاه السماما

واجبتبي الناشقين منه الأذلين ونحي أبطاله الأعلاما

وكأنما الشاعر كان يطل على نافذة الغيب فيعلم ما قيل تماماً بعد أيام معدودات!. . ولا أدري سبب ذلك الإهمال والشاعر يؤكد أن الرواية كلها كتبت قبل يوم 23 يوليو الماضي!.

أما أن تعرض هذه المسرحية التي تصور (الغروب) بعد أن يبدأ عندنا (الشروق) - وأعني

ص: 44

به طبعاً حركة الانقلاب - فقد جعل المسرحية ظلا للحركة الكبرى التي يعيش الناس فيها، أو صدى للصوت القوي الذي يملأ أسماعهم، ومن وجد البحر استقل السواقيا!.

على أن المسرحية لم تخل - على الأقل - من تعديل كبير أصابها بعد حركة الانقلاب أريد به (تمصير) بعض الحوادث، والإشارة إلى ما يزحم قلوب الناس من عواطف؛ فالأستاذ المؤلف مثلاً كان قد ألف مسرحيته (شجرة الدر) عام 1951م وقال فيها موجهاً الكلام إلى (أقطاي) أمير الجيش بصريح العبارة:

. . . ولكن السياسة مهنة

إن راضها جيش هوى وتحطما

(أقطاي) دع ما لست تحسنه لمن

عرك الأمور وساسها فتعلما

فإذا به اليوم في مسرحية (غروب الأندلس) يجعل (أزبك) أمير جيش مصر يقول عنها - فيما سمعناه من الممثلين - بصريح العبارة:

إذا أهل السياسة ظللوها

فإن الجيش يهديها السبيلا!!

وليته لم يفعل فإن الفن يجب أن يحتضن الحقيقة المبذولة بين أيدي الناس ويسمو بها ويكون أبعد منها شأواً. لا أن تحتضنه الحقيقة بين جناحيها وتجعل منه - كما قلت - ظلا أو صدى لهما.

وأنا أقرر - قبل أن يتشقق الحديث - أن الأستاذ عزيز أباظه شاعر من أكبر شعرائنا، وأن الأمل المرجو منه كبير، ولكنني لا أتحدث عنه شاعراً وإنما أتحدث عنه مؤلفاً مسرحياً، وليس الشعر - كما يعلم القراء - غاية في المسرح وإنما في المسرح وإنما هو وسيلة، والوسيلة التي لا تصل بصاحبها إلى الغاية، أو التي تكون حائلا بينه وبين الوصول إلى هذه الغاية، أو التي تستنفذ كل جهده فينبت عن الوصول إلى الغاية، وسيلة يجب تحطيمها. والمسرح اليوم يقوم - في العالم كله - على نظرية (الحائط الرابع) فما هذه النظرية وما أصلها؟ أصل هذه النظرية افتراض أن المشاهد عند ما ابتاع تذكرة الدخول إلى المسرح أخذ على مؤلف المسرحية عهداً بأن يعرض عليه جوانب من الحياة كما هي لا كما يتخيلها الفنانون!. . . إن الشاهد الحديث رجل فيه فضول كثير، إنه يريد أن يستطلع أحوال الناس وأخبارهم، فهو ينظر إلى خشبة المسرح نظرة إلى غرفة حقيقية في منزل حقيقي بها ناس حقيقيون يناقشون مسائلهم الحقيقية، وليسوا ممثلين مهرة يزيفون

ص: 45

له الحياة ويجعلون الخيال حقيقة، فيجب إذن أن يزول ما بينه وبينهم من حائط يحجبهم عنه، ذلك الحائط الذي يحول دون رؤية ما يقع في بيوت الناس، والذي نسميه نحن الستار! فإذا ارتفع فقد ظهرت الحياة حقاً وصدقاً! ظهرت مناظر حقيقية وإضاءة حقيقية وموضوع حقيقي أو في حكم الحقيقي، ولغة حقيقية مما تجري بين الناس فعلا في حياتهم العادية المألوفة.

هذا هو المسرح منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، منذ (هنريك إسن). (برناردشو) ومن جاء بعدهما. فأين (غروب الأندلس) من هذا؟.

لقد صاغها الشاعر عزيز أباظة الشعر الجزل الرصين ولم يكن يستطيع إلا أن يصوغها بالشعر؛ فالشعر فيه أصل وطبيعة غلالة ولكن لمن صاغها بهذا الشعر الجزل الرصين؟ من من المشاهدين يقدر على فهم مثل قول الشاعر عن الإسلام مثلاُ:

تكاد عراء في الجزيرة تنضوي

وتنقد أشطان له وطنوب!

ومن من المشاهدين يقدر على فهم قول الشاعر في خطاب موسى إلى الملك مثلاً:

إذا ند عنك اليوم بارح كيدهم

فإنك مغروس غدا فمتبر

وإن مطاياهم لتكرم وسقا

فإن أبلغتهم جدلوها وعقروا

أو مثل أقواله (ولأنت من قوم إذا انأطر القنا) أو (هل كان إلا صدى ضعف خذئت له) أو (لآثروا الموت قصصاً) أو سوى ذلك وهو كثير وكثير.

ولأول مرة نرى مسرحية تذيل صفحاتها بشرح لمعاني الكلمات الصعبة مما برئت منه حتى مسرحيات شوقي! وإذا كان القراء وهم يقرءون في مهل وأناة، وهم إلى ذلك الصفوة المختارة من المشاهدين، فكيف بالمشاهدين الذين يستمعون الأقوال وهي تمر بهم سريعة خاطفة، ثم هم أخلاط من الناس لا يشترط فيهم إلا أن يدفعوا ثمن تذكرة الدخول؟. . إن للشعر مكانة العالي في الغنائيات والملاحم وما إليها؛ أما المسرح الذي يراد به تصوير الحياة والأحياء، والذي هو مدرسة للناس جميعاً، فليس لمثل هذا الشعر العالي فيه مكان. وإن كان لا بد من الشعر في المسرح - وهو مالا أراه - فليكن شعراً مخففاً ممزوجاً بالماء، شعراً سهلاً ميسوراً يفهمه الناس جميعاً؛ لأن الناس جميعاً يشاهدون المسرح أو يجب أن يشاهدوه، ليكن من بحر (الرجز) دون سواه وهو البحر الذي يقابل تفعيلات

ص: 46

(الأيامب) عند الأوربيين يوم كان لا يزال مسرحهم يقول شعراً! أما اليوم فقد خفت صوت الشعر في مسرحهم خفوتاً كبيراً ولم يبق فيهم إلا مثل (ت. س. إليوت) وهو رجل متشائم حزين ضيق بالحياة يحن إلى يوم الخلاص منها يقول فيما يقول (نحن أشكال بلا قوالب، نحن ظلال بلا ألوان؛ نحن قوى مشلولة، نحن إشارات بلا حركة).

وأريد أن أدفع وهما قد يتبادر إلى بعض الناس من أن شهود جمهور الناس لمثل هذه المسرحية دليل على وعيهم وارتفاع مستواهم، فهذا قول مردود؛ لأن مثل هذه المسرحية - بما احتشدت به من العطات والخطب والحكم الغوالي - إنما تخاطب في الناس غرائزهم الأولى وعواطفهم المجردة، عواطفهم الدينية والوطنية والخلقية وما إلى ذلك، إنهم لا يتعمقون فهمها واستكناه بواطنها ولكنهم يفهمونا فهما عاما كله ضباب وظلام، إنهم يرقصون من جرس ألفاظها كما يرقص الزنوج تماماً على دقات الطبول، وليس هذا من وظيفة المسرح في شيء!.

والمسرحية تدور حول الأيام الأخيرة لدولة العرب في الأندلس، وليس فيها موضوع متصل يسري فيها وينفخ الحياة في جوانبها، ولكنها صور متلاحقة متتابعة - وإن كانت قليلة إلى جانب ما يكتنفها من كلام كثير - تتعاقب وتترى كما تقلب تماماً صفحات من كتاب في التاريخ. . الأميرة (بثينة) تغري الأمير (يحيى) بإطلاق السجناء من ذويها، فيطلق الأمير هؤلاء السجناء، ثم يجتمع هؤلاء الطلقاء ويجنحون إلى (بني سراج) فينضمون إليهم، ويتكالفون على الملك، ثم يعتزل الملك ملكه؛ ثم يتولى ابنه؛ ثم ثم ثم الخ؛ وتنسدل الستارة في نهاية كل فصل ببيت من طراز الخطب المنبرية التي تصفق لها الجماهير طويلا، فينتهي الفصل الأول - مثلاً - بقول الشاعر:

من لم يدعم بالأسنة ملكه

والحزم. . . بات مفزعا لم يسلم!

وينتهي الثالث بقوله:

واضيعة الإسلام إن لم تقهروا

أهواكم. . . واضعية الإسلام

وهكذا تمضي المسرحية وكأنها ديوان شعر، فلا نرى موضوعاً ينبض بالحياة، ولا نرى شخصيات قد رسمها لنا المؤلف رسماً تبدو ملامحه وقسماته في وضوح وامتياز. . . لقد عالج شكسبير المسرحية التاريخية ولكنه استطاع في مسرحية (هنري الرابع) مثلا إلى

ص: 47

جانب الموضوع القوى أن يخلق لنا شخصية (فولستاف) الحية الممتازة التي تجمع بين الجد والفكاهة جمعاً بلغ الذروة في كل منهما، واستطاع في مسرحية (يوليوس قيصر) أن يخلق لنا شخصية (بروتس) الخالدة التي ما تفتأ تشير في النفوس عاطفة الانتقام. . ولكن شخصيات عزيز أباظة شخصيات باهتة لا تعرف لها ملامح ولا قسمات ولم يلق الأستاذ عليها من الأضواء ما يجلوها للناس، بل لم يلق باله إليها إطلاقاً وإنما كان كل باله إلى الشعر دون سواه، على أن شاعرنا الكبير يقع في أمور كنت أود ألا يقع فيها، فهو يقول (أخ الملك الغوي) والصواب أن يقول (أخو الملك الغوي) ويقول (ركبنا الهوى والأثام الشنيعا) يريج افثم، وليس الأثام هو الإثم وإنما جزاء ذلك الإثم والله يقول (ومن يفعل ذلك يلق أثاماً) وغير ذلك مما لا يجوز من شاعر كبير كالأستاذ عزيز أباظة. . ولو أن الأستاذ عني بحادثة الغرام الحقيقي بين بثينة ومحمد بن سراج والغرام الوهمي بينها وبين الأمير (يحيى) لجعل منه مسرحية، ولو اختزل شيئاً من حوادث التاريخ واستبدل به صورة حية أو صورتين تنبضان بالحياة لخلق لنا مسرحية، ولكنه لم يفعل! وأشهد لقد أنفق الممثلون مجهوداً جباراً شديداً. ولقد كنت أشفق على (أمينة رزق) وهي تبذل من ذات قلبها ومن ذات نفسها لتنفخ الحياة في دورها واستطاعت ذلك إلى حد كبير رغم العقبات اللفظية التي كانت تنوء بحملها، وأشهد لقد استطاع (فؤاد شفيق) واستطاع (حسين رياض) أن يلونا كلامهما ويملأه بالحياة والمعاني، وقد كان دور ثانيهما مما لا ينبض به إلا أولو العزم. أما (فردوس حسن) فقد كانت جامدة كالتمثال وتأبي إلا أن تكون أميرة في كل الأوقات! ونسيت أنها كانت تقوم بدور العاشقة المخادعة لمخاتلة!.

وبعد: فهذه كلمة عابرة في مسرحية (غروب الأندلس) وليس الذي سقنا فيها بمانع أن نموه بما ينفق الأستاذ عزيز أباظة من جهد حميد للشعر والأدب، ولكننا نريده للمسرح أيضاً. إن الشعر أفضل ما فيه، فهل يجمع إليه الفن المسرحي الذي هو اليوم جماع الفنون جميعاً؟ وعند ذلك تسقط حجتنا ولا نستطيع أن نقول له يومئذ ما نستطيع أن نقوله له اليوم من أن إلهة الشعر قامت عن ميامنه ولكن ربة المسرح لم تقم عن مياسره؟.

علي متولي صلاح

ص: 48

‌أراء وأنباء

إلحاقاً بكلمتي المنشورة بالعدد 1016 عن الأدب المصري القديم والتي أشرت فيها إلى انقطاع الصلات الثقافية والحضارية بين شعب مصر اليوم وبين القدماء المصريين أسوق هذه الملاحظات الموجزة حول ما خاض فيه بعض الكتاب في بعض الصحف اليومية من حديث عن الألقاب (الفرعونية) بمناسبة ما ثار حول إلغاء الألقاب من كلام:

ادعى بعض الكتاب الأفاضل أن لقب (سي) للرجل ولقب (ست) للمرأة هما من بقايا اللغة المصرية القديمة على ألسنة المصريين اليوم وأن هذين اللقبين كانا مستعملين ذلك الاستعمال عينه وبهذين اللفظين عينهما في مصر الفرعونية.

وعندي أن في نسبة هذين اللفظين إلى اللغة المصرية القديمة كثيراً من النظر؛ فالمعروف أن لفظ (سي) هو تحريف لكلمة (سيدي) العربية الصحيحة. وكذلك لفظ (ست) فهو تحريف لكلمة (سيدتي) على ما جرى عليه لسان العامة من اختصار الألفاظ بحذف بعض حروفها.

ومما يدحض دعوى الفرعونية عن هذين اللقبين ذيوعهما في جميع الأقطار العربية اليوم وبصفة خاصة في الغرب: ولا أظن أن هناك من يزعم أنه كانت للفراعنة بالمغرب صلة من شأنها أن تحفظ على ألسنة أهله ألفاظاً فرعونية حتى اليوم؛ إنما هي ألفاظ عربية صحيحة وإن نالها التحريف الذي يصاحب اللهجات العامية دائماً.

هذا وإن لفظي (سي) و (ست) قد وردا في نصوص عربية قديمة يحضرني منها الآن البيت الذي رواه أبو العلاء في رسالة الغفران على لسان ابن القارح يخاطب إحدى جواري السيدة فاطمة الزهراء مستعيناً بها على عبور الصراط:

ست إن أعياك أمري

فاحمليني زقفونه

(وزقفونه أن يحمل الشخص شخصاً آخر وبطن المحمول إلى ظهر الحامل ويداه على كتفيه).

والواقع أن ورود هذين اللقبين في كلام عربي قديم، مضافاً إليه انتشارهما في كافة الأقطار العربية لا في مصر خاصة لهو مما ينفي عنهما شبهة الفرعونية التي لم يقم عليها - على أية حال - دليل مقنع.

جمال مرسي بدر

ص: 49

الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها

أي ومن سعى في إثارتها وعمل على إذكاء نارها وحمل لواء الخلاف بعد ما انطوى أعواما طويلة. وهو يريد من وراء ذلك نفعاً شخصياً أو مادياً أو أن يظهر على مسرح الحياة بعد ما نخرج من أكرم دار على حساب هذه الحزازات القديمة.

إن الأزهر ودار العلوم - منذ وجدت دار العلوم - صنوان يعملان لغاية واحدة ويهدفان إلى هدف واحد وإن تفرقت بهما السبل قليلاً. فهذه تسير بجوار ذاك.

كان يكفي لإقناع إخواننا الأزهريين رد الدكتور حامد عبد القادر وهو رجل خبير منصف لا يتكلم إلا الحق. ولا أخال إلا أن إخواننا الأزهريين قد اقتنعوا بوجهة نظره وكان يكفي في النقاش أن يوجه الأمر إلى ذوي الرأي فيردوه إلى نصابه. وأظن أنه ليس هناك داع لأن تثير كل هذه الإشكالات. وما الذي يضيرك أن يطالب محقون بحقهم وأن يسعى إخوان لك في اللحاق بك والسير معك على قدم المساواة؟.

ومرة أخرى أقول: إن بيننا وبين الأزهر وشائج لا نريد قطعها، وبيننا وبين إخواننا الأزهريين مودة لا نريد إفسادها، وبيننا وبينهم صلات يستحيل أن ننساها أو نجحدها. ومرة ثالثة أقول لك إن الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.

عمر عبد الرحيم الزيات

أحلام العصفور الأخضر

من خمس سنين أو تزيد طالعت بمجلة (الكتاب) عدد أكتوبر 1947م الخاص بذكرى شاعري النيل والعروبة (شوقي وحافظ) طالعت مقالا لأحد كتاب هذا العدد يتعقب في الكاتب أمير الشعراء على عثراته الموسيقية. ومن جملة مآخذه عليه مأخذ في قصيدة (النيل) ص167 حـ4. عند قوله:

جار ويرى ليس بجار

لأناة فيه ووقار

لقد تنكب شوقي جادة الوزن العروضي في التفعيلة الثالثة وفي التفعيلة السابعة من البيت والناقد على بصيرة في نقده.

واليوم تطالعني الرسالة العدد (1019) قصيدة للأستاذ (عواد) بعنوان (أحلام العصفور

ص: 50

الأخضر) والقصيدة من (بحر المتدارك) ذلك البحر الذي أنشأ منه أمير الشعراء قصيدته الآنفة الذكر.

ولقد أبى شيطان الأستاذ (عواد) إلا أن يعثر تلك العثرات التي منى بها أمير الشعراء وزيادة. وتفصيلا لما أجمل نبدأ قصيدته أو موشحه مقطعاً مقطعاً.

لندع المقطع الأول فيوشك أن يخلو من الهنوات ولكن على حساب ضرورات يبيح الوزن العروضي ومراعاته اقترافها.

أما المقطع الثاني فقد عثر فيه قلمه عثرتين: الأولى في التفعيلة السابعة من البيت الثاني وهو:

سيروح ويلثم وجنتها

مسروراً والكون غناء

والعثرة الثانية في كملة (نشوان) فالإعراب يقتضي نصبها والعروض تحتم تنوينها والرسم الإملائي لا يدل عليهما وفي المقطع الثالث عثرات ثلاث.

الأولى في التفعيلة الخامسة من البيت الثاني عند قول (قد تخذوا. . .).

والثانية في التفعيلة الثالثة من قوله (والوجد صلاة ودعاء).

والثالثة في التفعيلة الثالثة من قوله (وتوسل صب وبكاء).

أما المقطع الرابع فعثرة واحدة في أول تفعيلة من البيت الأول منه. وهي في كلمة (همهمة. . .) قد دار عليها ما دار على أخواتها من قبل.

ومع صادق تقديري للأستاذ الشاعر فرجائي أن يقع منه نقدي أجمل موقع والسلام.

محمد محمد أحمد الناجي

ديك الجن

كتب الأستاذ محمد رجب بيومي بمجلة الثقافة الغراء العدد (700) بحثاً جميلاً عن الشاعر العباسي المعروف (ديك الجن) وقد شعرت بعد قراءتي للمقال أن هناك سؤالا هاما لم يتفضل الأستاذ رجب بالإجابة عنه، وهو لماذا سمي الشاعر بديك الجن؟ وما علاقته بالديك، تلك التي لم تقف لها على أثر في قصة الشاعر؟ ولعل الأستاذ البيومي وهو معروف باطلاعه الواسع على الأدب العربي حديثاً وقديماً يتفضل بالإجابة الشافية على

ص: 51

صفحات الرسالة التي تشرق علينا دائماً بأبحاثه الطلية المفيدة.

محمود راشد الحنفي

الأستاذ سيد قطب

اضطر الأستاذ سيد قطب إلى الاعتكاف طوال الأسبوعين الماضيين بسبب وعكة مرضية شديدة والامتناع عن كتابة مقالاته في الرسالة وغيرها من صحف العالم الإسلامي وقد تماثل الآن للشفاء ولكنه لا يزال في دور النقاهة وفي حاجة إلى فترة راحة طويلة.

ص: 52

‌أخبار أدبية وعلمية

مصر تلعب دوراً هاما في ترقية القارة السوداء

من أخبار لندن أن غريقا من العلماء المشهورين في الأبحاث والدراسات العلمية الحديثة عقدوا سلسلة من الاجتماعات أصدروا بعدها تقريراً قالوا فيه إن المدينة مهددة بخطر جسيم ولا سيما إذا خرجت الدول الكبرى من حالة ضبط النفس التي تسير عليها الآن لصون السلام العالمي. ولكنهم أجمعوا على ما يلي:

(1)

أن إفريقية هي التي سترث المدينة الحديثة وإليها يتنقل مركز الحضارة كما كانت الحالة في عهد الفراعنة الأوائل، وكان محتملا أن يشاطرها جنوب آسيا ذلك لولا الثورات التي قد تنشب فيها بسبب كثرة السكان وقلة الموارد وإصرار الدول الاستعمارية على الاحتفاظ بسيطرتها على عناصر تختلف عنها في اللغة والدين والجنس.

(2)

أن مراكز الصناعات الكبرى ستتحول بعد أي حرب مقبلة إلى الأماكن القريبة من موارد المواد الأولية وما زالت إفريقية قارة بكرا لم تستغل مواردها بعد ولهذا ستنقل إليها مراكز الصناعات الكبر في العالم.

ونشرت جريدة نيوزكرونيكل مقالا لأحد هؤلاء العلماء هو السير فيليب منشل السياسي العالم الرحالة الكبير عن دراساته في إفريقية ومجاهلها البعيد عن العمران، وكان عنوان مقاله (أفريقية في سنة 2003) أي بعد خمسين عاماً قال فيه:

(1)

في هذه القارة أنهار عظيمة، ولها سواحل طويلة غنية بالمواد الأولية تشرف على المحيطين الأطلنطي والهندي. ومن العجيب أن يظل أكثر سكان هذه القارة أميين إلى الآن وأن يهمل أمرهم إلى هذا الحد.

(2)

في هذه القارة ثلاث طبقات، إحداها ما زالت تعيش وكأنها في عام 1953 قبل الميلاد، والثانية تعيش وكأنها في أول القرن الأول من الميلاد، والثالثة وهي القلة تعيش في العصر الحاضر.

(3)

تتداعى اللهجات الإفريقية بسرعة أمام اللغات الأوربية، الإنجليزية والفرنسية والبلجيكية والبرتغالية وسبب ذلك أنه ليست للهجات الإفريقية معاجم ولا كتب نحو ولا حروف هجائية وهي تختلف اختلافاً كبيراً في كل دولة أو مستعمرة واحدة، بل قد تكون في

ص: 53

الغابة الواحدة عدة لهجات متباينة.

(4)

لاشك في أن إفريقي ستزيد من إنتاجها ومطاراتها وسكك حديدها وموانئها وطرقها العامة الواسعة في خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فلا يبزغ فجر القرن الحادي والعشرين حتى تصبح إفريقية أهم وأعظم قارة في العالم، ولاسيما إذا أدت الحرب القادمة إلى إحداث تخريب كبير في أمريكا وأوربا وآسيا.

(5)

إذا لم تحدث حرب يدمر العالم الغربي بها نفسه فانه سيظهر رغم ذلك إلى تقصير المواصلات بين المنجم والمصنع ويستغل بمصانعه الجديدة الكبيرة في إفريقية ما تحويه هذه القارة من ذهب ونحاس وأورانيوم واسبستوس (مادة مقاومة للحرائق) والكروم والحديد والفحم والخسب والشاي والسكر واللحوم، وإلى جانب هذا ستنشأ أسواق كبيرة ومراكز تجارية هامة، ثم تكثر الجامعات والمعاهد العلمية والهندسية والصناعية الضرورية لهذه الصناعات.

(6)

ستسترد الدولة المتقدمة في إفريقية، ولا سيما مصر نفوذها الدولي الواسع وتسيطر على القارة كلها بآدابها وعلومها وفنونها، إلى جانب انتشار الثقافة باللغات الأوربية التي تدرس بها العلوم في المدارس الحالية في شرق إفريقية وغربها وجنوبها.

الإذاعة اللاسلكية والإحياء الديني في باكستان

قررت حكومة باكستان استخدام الإذاعة اللاسلكية الحكومية في مختلف المناطق والولايات التي تؤلف هذه الدولة الإسلامية الكبيرة لتعزيز الإحياء الديني وربط المجموعات الإسلامية التي تقطن شرقي باكستان وغربيها في روابط روحية وثقافية متينة، ونبراسها الإسلام وتعاليمه الخالدة.

وقد عقد مؤخراً مديرو محطات الراديو الباكستانية مؤتمرهم السادس في (كراشي) وكان أمامهم جدول زاخر بالأعمال.

وقرر المؤتمر إعادة النظر في البرامج الدينية بغية تقويتها وتنويعها واستنباط الوسائل الفنية لتقوية الوعي الديني في هذا البلد المسلم وجعله أشد صلة بالحياة اليومية والسلوك العام.

وقرر المؤتمر كذلك خطوطاً جديدة لمشروع واسع يرمي عن طريق الإذاعات اللاسلكية

ص: 54

إلى التقريب بين مختلف اللهجات واللغات المحلية المتكلم بها في مختلف مناطق باكستان.

صناعة الكتب المحلية

أحصت مجلة (الناشر) الأسبوعية التي تصدر في أمريكا إنتاج الكتب للنصف الأول من العام المنصرم في الولايات المتحدة الأمريكية فوجدت أنه بلغ 6112 كتابا بالقياس إلى 5691 كتابا للمدة نفسها من العام الذي سبقه.

وقد نالت القصة النصيب الأكبر من هذا الإنتاج إذ بلغ عدد المنشور منها 1111 قصة.

وجاءت كتب الأطفال في المرتبة الثانية فبلغ عددها 5. 1. وتلا هذين النوعين من الإنتاج المواضع التالية: أدب التراجم، التاريخ، علم الاجتماع والشؤون الاقتصادية. وقالت المجلة معلقة على هذه الإحصاءات: إن تجارة الكتب كانت رابحة في العام المنصرم ولكن مستوى الإنتاج العلمي والفني كان ضعيفا بالقياس إلى إنتاج الأعوام السابقة.

مؤتمر التعليم الحر والإلزامي في بومباي

قامت اليونسكو برعاية مؤتمر إقليمي خاص بالتعليم الحر والإلزامي في منطقة جنوب آسيا والمحيط الهادي، انعقد بمدينة بومباي من 12 إلى 23 ديسمبر الماضي، واشترك فيه حوالي أربعين خبيرا يمثلون أفغانستان واستراليا وبورما وكمبوديا والهند وإندونيسيا ولاووس وزيلامدا الجديدة وباكستان والفيلبيين وتايلاند والفياتنام، كما ضم ممثلاً عن دولة (النيل) وإن لم تكن عضوا في هيئة اليونسكو، وممثلين عن فرنسا وهولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، وهي الدول المشرفة على بلاد غير مستقلة.

وقد اعتبر هذا المؤتمر خطوة جديدة من اليونسكو نحو تعزيز التعليم الحر الإلزامي وتحقيقه في النطاق الإقليمي، وفق ظروف البلاد وأوضاعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية واللغوية. وقعت هذه المهمة على عاتق المندوبين، فاستعرضوا أحوال بلادهم أمام المؤتمر، كما انقسموا إلى ثلاث لجان عنيت الأولى بالمشاكل الإدارية والمالية والتشريعية التي تتعلق بالعليم الإلزامي. واهتمت اللجنة الثانية بمشكلة تدريب المدرسين ونظامهم الإداري، أما اللجنة الثالثة فتولت مناقشة برامج التعليم الابتدائي وتكييفها حسب ظروف كل بلد واحتياجاته الخاصة بكتب الدراسة وأجهزة التعليم.

ص: 55

تعميم الثقافة الفرنسية كوسيلة من وسائل الدعاية

تقدر الحكومة الفرنسية أشد التقدير المكانة الهامة التي تحتلها الثقافة الفرنسية في سائر أنحاء العالم، وتحاول الحكومة الفرنسية أن تغذي دعاياتها السياسية والاقتصادية عن طريق الدعاية الثقافية.

ومن أمثلة ذلك ما تقوم به المؤسسة الثقافية الفرنسية المعروفة باسم (جمعية الثقافة الفرنسية) ومركزها الرئيسي في باريس. وتصدر هذه المؤسسة سجلا شهرياً يحتوي على استعراض موجز لجميع الكتب والمجلات التي تصدر باللغة الفرنسية لا في فرنسا وحدها وإنما في سائر أنحاء العالم.

وهذه النشرة مبوبة بحيث تخصص لفروع الثقافة أبوابا خاصة. فباب يعالج الآداب، وثان للترجمة وثالث للعلوم ورابع للشعر، وخامس للدراسات الاقتصادية، وسادس للاجتماعات. وهناك كذلك باب خاص يستعرض أنواع المقالات التي تصدر في مختلف المجلات الأسبوعية والشهرية والفصلية.

وتطمع هذه النشرة في عدد من اللغات الحية وتوزع على مختلف الشعوب بواسطة السفارات والبعثات الدبلوماسية في الخارج.

مجلة للتربية الأساسية تصدرها اليونسكو باللغة العربية

أصدرت منظمة اليونسكو العدد العربي الأول من مجلة (التربية الأساسية) التي مازالت تنشرها منذ أكثر من عامين باللغات الفرنسية والإنجليزية والأسبانية، وتعالج في مقالاتها أهم مشاكل التربية الأساسية، ووسائل النهوض بمستوى الأميين والشعوب المختلفة عقليا واقتصاديا واجتماعيا حتى يصبحوا عروقا نابضة في المجتمع الإنساني.

ويقع هذا العدد الخاص في 115 صفحة، تبدأ بمقدمة وافية بقلم الدكتور متي عقراوي مدير دائرة تبادل المعلومات في التربية باليونسكو، وتنتهي بقائمة بالمراجع الهامة، وتضم في صلبها طائفة من المقالات والبحوث التي تناول فيها الخبراء العالميون وتجاربهم وآراءهم في التربية الأساسية ومكافحة الأمية، ونذكر من هؤلاء: الدكتور أحمد حسين.

واليونسكو إذ تنشر هذه المجلة باللغة العربية، إنما تخطو بها خطوة جديدة نحو إفادة

ص: 56

المختصين بالتربية الأساسية من الشعوب الناطقة بهذه اللغة، وأمل المنظمة أن يقبل عليها أبناء العربية، حتى يشجعوا على نشرها بصورة دائمة.

العثور على الحلقة المفقودة في نظرية التطور

أعلن جون تلبوت روبنسون، من أمناء متحف الترنسفال، أنه عثر على بقايا خمسة من الهياكل تمثل نوعاً بدائياً جدا من الإنسان في أولى مراحل تطوره، وقد أسمى هذا النوع إنسان (تال انثرويس).

وقد اكتشف روبنسون هذه البقايا في شفارتكرانز، في الترنسفال، تقريبا في نفس المكان الذي كشف فيه الدكتور روبرت بروم، أستاذ انتروبولوجيا في جنوب أفريقيا في عام 1951 إنسان جنوب أفريقيا البدائي.

ويقول روبنسون إن إنسان (تال انثروبس) أقدم نوع من الإنسان عثر عليه حتى يومنا هذا. وهو يمثل نوعا خليطا من إنسان جنوب أفريقيا البدائي وإنسان جاوه القديم المعروف باسم (يثك انثروبس اركتاس) وإنسان الصين القديم (صين انثروبس).

ويقول روبنسون: إن إنسان (ثال انثروبس) كان يعيش في فترة سابقة للزمن الذي كان يعيش فيه إنسان جاوه بما يتراوح بين ربع مليون أو نصف مليون سنة. والمعروف أن تقدير العلماء للزمن الذي عاش فيه إنسان جاوه يتراوح بين نصف مليون أو مليون سنة مضت.

ويترتب على هذا الكشف العلمي الخطير أن ينتهي التمسك بالنظرية القائلة بأن الوطن الأول للإنسان كان في آسيا، وإن كان من المحتمل أن الإنسان في أفريقيا وآسيا تطور في خطوط متوازية.

وأضاف قائلاً: إن هذا الكشف يسده الثغرة المعروفة باسم (الحلقة المفقودة) في سلسلة التطور الإنساني على ظهر الأرض. ويتوقع أن ينتهي البحث، بعد هذا الكشف الخطير، إلى اكتشاف الحلقة المفقودة كلها.

وبهذا الكشف يقطع الطريق على كل النظريات المعارضة لنظرية التطور. وقد اتضح أن هذا الإنسان كان بدائياً جداً لدرجة أنه لم يكن يصنع أو يستخدم أية آلة حجرية لأنه لم توجد معه مثل هذه الأدلة الحضارية.

ص: 57

والمعروف أن روبنسون كل يعمل مساعد للدكتور بروم في حفائره، ثم تولى مكانه بعد وفاته.

وقد طار الدكتور كنيث أو كلي، مدير المتحف الطبيعي في لندن، إلى جنوب أفريقيا ليساعد في فحص الهياكل الخمسة.

ص: 58

‌من هنا ومن هناك

سفينة نوح بين العلم والسياسة

وصلت إلى تركيا مؤخرا بعثة من علماء الآثار الفرنسيين لمتابعة البحث عن (سفينة نوح) في منحدرات جبال (أراراط) في موقع يسمى (إكري داك) تغطيه الثلوج. ويبلغ ارتفاع هذا الجبل حوالي 1700 قدما. ويقع في القسم الشرقي من شمال تركيا.

وستقوم البعثة الفرنسية بجمع النماذج من العناصر التي تؤلف طبيعة الأرض هناك والمميزات (الطيوبوغرافية) الأخرى التي يتخذها علماء الآثار عادة معاول لتتميم المعلومات التي توفرها لهم كتب التاريخ القديم وحوادثه المدونة.

ويقع جبل أراراط صميم المنطقة التي وصفتها التوراة بأنها المكان الذي دفنت فيه زوجة نوع عليه الصلاة والسلام والبقعة التي زرع فيها سيدنا نوح أول كرم للعنب عندما انتهى به وبسفينته المطاف إلى ذلك الجزء من العالم كما تذكر التوراة ومفسروها.

ويضم متحف اسطنبول نماذج من صخور جبل أراراط حلل عناصرها بعض علماء طبقات الأرض وقالوا بأنها تؤيد النظرية القائلة بأن هذا الجبل كان في فترة من الأزمنة القديمة مغموراً بالماء إلا من قمته العليا التي أسعفت نوحاً عليه الصلاة والسلام في أن يرسي سفينته على منحدرها عندما دهم الطوفان العالم كما تشير إلى ذلك كتب التاريخ القديم والمصادر الدينية. ويدعي هؤلاء العلماء بأن نوحاً قد التجأ بسفينته ونماذجه البشرية والحيوانية إلى أعلى قمة الجبل ليبدأ من جديد في تنمية الأجيال للبهائم ولبني آدم.

وقد سبق أن قامت بعثات أجنبية أخرى للبحث عن سفينة نوح في منطقة جبل أراراط منها بعثة أمريكية أنفقت في عام 1949 وقتا وجهدا ومالا كثيرا دون أن تعثر على ما ترغب إثباته من حقائق تاريخية.

ويؤكد علماء الآثار استنادا إلى المصادر اليهودية والمسيحية بأن السفينة كانت في حجم هائل طولها ميل واحد وعرضها 750 قدما وعلوها 450 قدماً.

وجدير بالذكر أن تردد البعثات الأجنبية على جبال أراراط وتخومها القريبة من الحدود الروسية الجنوبية كان مثار احتجاج السلطات الروسية الشيوعية التي ادعت بأن الغرض من تكرار هذه الزيارات هو التقاط الإشعاعات الذرية التي تنبعث من محطات التجارب

ص: 59

الذرية الروسية لتقدير مدى استعداد روسيا الذري. ويدعي الروس أن هذه البعثات الأجنبية ليست مكونة ممن علماء الآثار والتاريخ القديم فحسب، بل أنها تضم بعض خبراء الذرة العسكريين الذين يستعملون أجهزة خاصة تركب على أعالي جبال أراراط القريبة من الحدود الروسية فنلتقط أولا فأولا إشعاعات التجارب الذرية التي تنبعث من محطات التجارب ومصانع الإنتاج الذري الروسي المنشأ بعضها فيما وراء جبال الأورال الروسية في منطقة لا تبعد كثيراً عن الحدود التركية.

وقد نفت المصادر التركية والبعثات الأثرية هذا التفسير الروسي.

البعث الإسلامي في تركيا

كتب الأستاذ برنارد لويس أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة لندن ومؤلف كتاب (العرب في التاريخ) مقالا تحليلياً في مجلة (الشؤون الدولية) عن البعث الإسلامي في تركيا. وكان الأستاذ قد أنفق مؤخراً بضعة أشهر في تركيا يدرس عن كثب.

يقول الأستاذ لويس إن نجاح القومية (الطورانية) في تركيا إبان عهد أتاتورك لم يستطع أن تقضي على العناصر القوية في تركيا التي كانت ولا تزال متعلقة بفكرة القومية الإسلامية. ومما ساعد هذه العناصر الإسلامية على الاحتفاظ بقوتها الكامنة تأثرها بالأفكار التقدمية التي نشرها جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبدة والسيد أمير علي وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي الحديث في الهند والشرق العربي.

وقد وجدت هذه العناصر الإسلامية التركية نفسها مقيدة في دعوتها إلى الوحدة الإسلامية في أوائل عهد أتاتورك بسبب انكماش الإمبراطورية العثمانية واقتصار سيادة الأتراك على الحدود الجغرافية الطبيعية لتركيا.

ويعتقد البرفسور لويس أن أتاتورك وجماعته في حملتهم على الإسلام وفصلهم بين الدين والدولة - هذه الحملة لم تكن في مثل النجاح الذي يطيب للحكومة التركية أن تنشره في الرأي العالمي. ففي عنفوان السيطرة الأتاتوركية كانت الدولة التركية تتسع سياسة (إسلامية) في المناصب الإدارية وفي الجيش (وكانت الحكومة التركية رغم صبغتها المدنية تتعمد أن تختار كبار المسؤولين في المراكز الوزارية والعسكرية من الأتراك المسلمين. وقد ازداد هذا الاتجاه في أواخر أيام أتاتورك عندما أقصيت عن المناصب الإدارية الهامة

ص: 60

عناصر تركية غير إسلامية.

وكانت حكومة أتاتورك تعامل الأقلية المسيحية من الروم الأرثوذكس المستوطنة في الأناضول معاملة تختلف عن الأقلية العربية والكردية التي كانت تشارك الأتراك الطوررانيين في العقيدة الإسلامية وتشاركها مشاركة تامة في الحقوق والواجبات المدنية.

ولما توفي أتاتورك وزالت هيبته القاسية على الحياة الإسلامية في تركيا نشطت العناصر الإسلامية هناك نشاطا ملحوظا. ففي سنة 1940 اضطرت الحكومة التركية برئاسة عصمت أنونو أن تعيد إلى الجيش التركي نوعا من الحياة الدينية فسمحت لرجال الدين بأن ينضموا إلى الجيش في شكل أئمة ووعاظ على نحو ما كان متبعاً في أبان العهد العثماني.

وفي نفس الوقت شرعت وزارة المعارف التركية في ترجمة (دائرة المعارف الإسلامية) وزيادة موادها. وخصصت الوزارة لذلك مبلغا عظيما من المال كافأت به الكتاب والعلماء الأتراك الذين ساهموا في الترجمة والبحوث والدراسات الإسلامية التي أضيفت إلى الطبعة التركية من دائرة المعارف الإسلامية).

ولكن العناصر الإسلامية من حفظة الدين لم ترض عن عمل وزارة المعارف التركية وانتقدت مشروع ترجمة (دائرة المعارف) على أساس أن واضعي هذه الموسوعة هم من خصوم الإسلام الأجانب الذين لا يقصدون خدمة الإسلام وإنما يهدفون إلى تفسيره تفسيراً يتلاءم مع أهدافهم كمبشرين ومستشرقين أجانب يخدمون الاستعمار الأوربي في الشرق الإسلامي. ولم تكتف هذه العناصر الإسلامية بالنقد فحسب بل نشطت بزعامة الزعيم الديني (أشرف أديب) لوضع موسوعة إسلامية أسموها (الإنسكلوبيديا التركية الإسلامية).

وصاحب هذا النشاط للعناصر الإسلامية التركية اتجاه جديد في الحكومة التركية التي جاءت في أعقاب أتاتورك - اتجاه أزال كثيرا من معالم الديكتاتورية التي اتصف بها عهد أتاتورك. ومن ثم توفر للعناصر الإسلامية في تركيا فرصة ذهبية لمضاعفة حماسها في بعث الحياة افسلامية من جديد في البلاد التركية.

وفي سنة 1946 نجحت هذه العناصر في حمل البرلمان التركي على مناقشة مشروع التعليم الديني الإلزامي في المدارس الحكومية. وبعد مناقشة وجدل في البرلمان والصحافة والمحافل العامة والخاصة توصلت الحكومة التركية في سنة 1949 إلى سن مشروع يوفر

ص: 61

لجميع المدارس حصتين في الأسبوع للتعليم الديني في أصول الإسلام وفقهه وتعاليمه. وترك الخيار لآباء الطلبة في حمل أبنائهم على المشاركة في هذه الحصص الدينية. ولكن الأكثرية الساحقة من الآباء تحمسوا لتربية أبنائهم تربية إسلامية. وعلى أثر ذلك شرعت وزارة المعارف التركية في تأليف الكتب الدينية لطلبة المدارس. وجدير بالذكر أن هذه الكتب وضعت في قالب جديد يختلف اختلافا بينا عن كتب التدريس الدينية المستعملة في مدارس الشعوب الإسلامية الأخرى.

ثم خطت الحكومة التركية في سنة 1950 خطوة جديدة فجعلت التعليم الديني في المدارس الحكومية والأهلية إلزامياً لا يتقيد بمشيئة الطلبة وآبائهم.

وكان من الطبيعي أن تخلق هذه المشروعات أزمة في المعلمين الدينيين؛ ولذلك أسرعت وزارة المعارف التركية بإنشاء معاهد خاصة لتخريج المعلمين الدينيين. وألحقت بالجامعات التركية أقساما خاصة بالتعليم الديني ولم تبخل بالمال على إنشاء المكاتب ونشر المطبوعات والكتب الدينية للعامة والخاصة. ثم سمحت باستعمال اللغة العربية في الأذان وأخذت تذيع القرآن الكريم من محطات الإذاعة أسوة ببقية الشعوب الإسلامية الأخرى.

وجدير بالذكر أن العناصر الإسلامية التقليدية في تركيا أخذت تساهم في الحياة السياسية مساهمة عملية. فناصرت هذه العناصر الحزب الوطني على الحزب الديمقراطي (حزب الحكومة). وذلك لأن الحزب المعارض كان يعد في برامجه الانتخابية بمشروعات واسعة للبعث الديني في البلاد التركية.

ويعتقد الأستاذ لويس أن موجة البعث الإسلامي في تركيا لم تؤثر في اتجاهات الشعب التركي نحو حلفاء الغرب ولم تؤثر بعد في سياسة تركيا الخارجية. فبينما تقف الصحافة في جانب العرب في قضية فلسطين تقف الحكومة التركية في جانب إسرائيل. وسبب ذلك أن زعماء الحركة الدينية في تركيا جماعة تنتمي إلى العهد القديم المحافظ الذي لا يرضى عن الشيوعية السوفيتية ومطامعها في البحر الأسود والقطاعات التركية المجاورة لروسيا.

ولما كانت الحكومة التركية تبني سياستها نحو الغرب ونحو إسرائيل على أساس الخوف من التوسع الروسي، فان العناصر الإسلامية في تركية لم تعد تستطيع أن نثبت وجودها بتغيير سياسة تركيا نحو إسرائيل كما فعلت العناصر الإسلامية في إيران بزعامة آية الله

ص: 62

كاشاني.

ولكن برغم هذه التيارات السياسية التي تحد من نشاط العناصر الإسلامية في تركيا، وبغم عشرات السنوات من السيطرة الأتاتوركية والحد من نشاط الإسلام في الحياة التركية فان الأستاذ لويس يعتقد بأن جذور الإسلام في تركيا أثبتت بأنها راسخة متمكنة لم تزعزعها الرياح والزوابع.

ولا يستغرب الأستاذ لويس أن يتطور هذا الاتجاه الإسلامي في تركيا إلى وسيلة توافق بين مبادئ الدولة الحديثة وبين تعاليم الإسلام على نحو التجربة الهامة التي تجري الآن في باكستان.

ص: 63

‌طرائف وقصص

عروس البحر

للشاعر الهندي رابندرانات طاغور

كان شاباً فتياً، في مرآة قرة العين، وابتهاج القلب، وغبطة النفوس. . .

وكان غرة قومه، ووجه عشيرته، يثنون له أعطافهم ويمهدون له أكنافهم، ويؤثرونه بالحب والإيناس.

وكان من حوله يستفزون نفسه الثائرة بأحاديث الزواج وما فيها للقلب من متعة، وما في الطبع إلها من طمأنينة وارتياح.

قال واحد من رسل الملوك إليه: (أما أميرة بهليك. . فما أجملها! إنها لكالباقة من أزاهير الربى في الربيع!).

ولكن الأمير الشاب أشاح بوجهه - وكأن لم يلق الحديث منه بشيء - وما أجاب.

وقال آخر: (وتلك هي أميرة كندهار. . زهرة أنيقة، وضاءا بهية، كمثل وضاءا العنقود النضيد!).

ولكن الأمير الشاب ينساب في الغابة لا يخرج منها إلا بعد حين. . .

وقال وصيف من سراي الملك - أبيه -: (. . جميلة أميرة كامبهوج جمال قوس قزح عند انبثاق أضواء الفجر وأنواره. . . وعيناها. . . وعيناها ناعستان حالمتان، تلتمعان التماع قطر الندى الوضاء!).

ولكن الأمير الشاب يستغرق في كتابه تصفحا فلا يرفع عنه عينيه ولا يفيق!.

واختلى الملك الوالد بنجى ابنه وعشيره يسأله عما انحرف بابنه عن الزواج وبغضه إليه!.

فقال سمير الأمير: (أيها الملك الجليل، لقد زهد الأمير في الزواج ما سمع عن عرائس الأمواه، ولقد أقسم في سره لتكونن زوجة من عرائس البحر، بنات الماء. .).

وأراد الملك أن يعلم من أمر هذه العرائس شيئاً، فاستدعى إليه أهل العلم وأرباب الحكمة. . ولكن أهل العلم لم يروا في كتبهم عن العرائس المزعومات شيئاً! إنما هاتيك العرائس: عرائس الخيال الموهومات. وكذلك قال رواد البحر من الهنود التجار!.

فدعا الملك الشيخ إليه سمير ابنه يسأله عمن قص على ابنه هذا الخيال الموهوم، فأجاب:

ص: 64

إنه رجل يضرب في الأفاق مجنون. . . وقد سمع منه الأمير ما سمع في الغابة حين كان يصطاد!.

فأرسل الملك أعوانه في البحث عن هذا المتشرد المجنون ليحضروه إليه. . . حتى وجدوه فجاءوا به إلى قصر الملك الفخم العظيم! فسأله الملك عن مملكة عروس الماء أين تكون؟.

قال المجنون: إنها فيما بلى حدود الشمال من مملكتك أيها الملك العظيم. . . وعند سفح جبل (شيتراهي) حيث تنبع بحيرة (كامياكا). . .

فقال الملك: وهل يبصر المرء عرائس الماء هناك؟.

فأجاب الجائل المخبول: نعم! في إمكان المرء رؤيتهن. . ولكنه لا يكاد يعرفهن لما يحطن به أنفسهن من غبهام وغموض. . . غير أني أعرف العرائس الفاتنات بأصوات مزاميرهن الرائعة. . أو بقبس من شعاع لهن وهاج!.

فغضب الملك من هذا الهذيان وقال: (إنه لمجنون! قد أصابه مس من حياة التشرد والتجوال فاطردوه).

غير أن الأمير كان قد أصغى إلى ذلك الهذيان الجميل. . . وقد علق بقلبه منه ما سمع، فليس إلى طرده من سبيل. . .

وجاء الربيع يكاد سنا حسنة يستلب العقول. . . وانبثقت أزاهيره في الغابة تملأها حسناً وعطراً! فركب الأمير جواده وخرج. . . فيسأله الأهل: إلى أين أيها الفتى النبيل؟ إلى أين أيها الأمير الجميل؟ ولكن الأمير ساكت لا يجيب.

السيل يتدفق منحدراً من أعلى الجبل ثم ينصب في البحرية فيفيض. . . وهناك، هناك قرب الجبل في المعبد المهجور كان الأمير يقيم!.

ومر شهر، والأمير في معبده يرتقب، وفي الشهر هذا اشتدت خضرة الزرع، واكتست بوشاح من الزبرجد الزاهي الجميل!.

وإن هذا الشهر الجديد يكاد ينصرم. . والأمير في مكانه لا يريم!.

وفي ليلة من ليالي هذا الشهر أصغى الأمير الشاب إلى صوت مزمار خافت يطرق أذنيه كالصدى النائي البعيد. . .

وفي اتجاه السيل المنحدر إلى البحرية الجميلة كان اتجاه الأمير. . . حيث كان مصدر

ص: 65

الصوت الشعري الرخيم؟.

وهناك، كانت تجلس بين أزهار (اللوتس) حورية من بنات البحر عرائس الماء المنشودات.

إن شعاعاً عبقاً ينبثق من زهرة من زهور (السيرش) في مفرقها الجميل.

فترجل الأمير عن جواده، ودنا إلى الحورية في استحياء وطلب منها تلك الزهرة الجملية العبقة. . . فرفعت رأسها ترنو إليه ثم سحبت زهرتها من شعرها وقدمتها قائلة:(إنها لك).

ثم سألها الأمير: وأي ملكة أنت؟.

فبدت على وجهها علامات الدهش والإنكار ثم قهقهت في ضحكات متزنات كالأنغام. . كان لها رنين في قلب الأمير الشاب. . لقد ظن الناس تلك الضحكات مزامير لشدة ما يخطئون. .

ثم ركب الأمير جواده، وأردفها خلفه ومضى يحث السير!.

وهما على ظهر الحصان همس الأمير في أذنها أن اخلعي عنك النقاب. . واذكري اسمك الكامل.

فأجابت: إن اسمي كاكاري. . . وأما القناع فما كان قد انكش كما أراد!.

وهنا قال الأمير: وجهك. . . أرنيه. . . إنني في حاجة إلى استجلائه أيتها الملكة الحسناء.

ولكنها قهقهت في ضحكات كالأولى كان لها في قلبه الملتاع وقع ورنين.

ثم وصلا إلى المعبد القديم المهجور. . . فعلن الخبر وذاع؛ وسمع الملك الشيخ بزواج ابنه الأمير فأرسل إليه الجند والخيل والفيلة والعربات، في معبده المهجور.

واليوم يا (كاكاري) ستذهبين إلى القصر.

ولكنها لم تجبه، ولكن في عينيها كان الجواب. لقد كانتا دامعتين، طافحتين بالدموع، تستعبران! لقد هاجتها الذكرى. . . وأثارت ما في نفسها من شجون.

ثم قالت: (أنا لا أستطيع الذهاب. . أيها الأمير المحبوب!).

ولكن ضوضاء القادمين وجلبتهم غلبت صوتها الخافض الصئيل، وسارت إلى قصر الملك الفخيم.

فرأتها الملكة فقالت: وأي أميرة هذه تكون؟

ص: 66

ورأتها إبنتها فقالت: يا للعار!!.

ورأتها من وصائف القصر واحدة، فقالت:

انظرن إلى رداء الأميرة الخلق. . . لا بأس عليها فإنها ممن لا يحتجبن إلى الثياب إذ أنها من عراس الماء!.

ولكن الأمير أسكتهن في حنق وغيظ شديد:

(إن الأميرة قد جاءت متخفية في هذه الأطمار. . .).

ولكن أصوات الهزء إن خفتت فلم تنقطع، أو انقطعت فإلى حين، وكان الأمير إذا سمع ذلك يهج ويغضب لأنهم لا يشاركونه شعوره نحو هذه الأميرة إبنة الماء؟!.

ومضت أيام: والأمير على ما وصفنا، وأهلوه على ما ذكرنا وزوجه على حالها لم تتغير، ولم تلق عنها نقابها البغيض المكروه. . .

ولكن الأمير يؤمل وينتظر، وهو الآن يكتفي بالأمل والانتظار. . .

وإنه لجالس مع (عروس البحر) يسامرها إذ سألها عن مدى لبس هذا القناع البغيض؟ فقالت: (سيكون لذاك أيها الأمي مدى معلوم: ولكن تريث الآن).

فأجابها: إذن سيكون ذلك في قمر الشهر المقبل أيتها الأميرة الحسناء!!.

إن قمراء البدر قد اكتملت وضوحاً وقوة، فهي الآن تملأ البيد، وتغسل الحقول. . . وتسيل على الأرض فتغطي كل ما فيها. . . حتى تلك الغرفة، وذلك السرير!!.

ولكن أين كاكاري. . . اين الأميرة إبنة (البحر لحسناء)؟!.

. . . لقد غابت، إذ رفعت عنها القناع!!.

ف. س

ص: 67