المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1021 - بتاريخ: 26 - 01 - 1953 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٢١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1021

- بتاريخ: 26 - 01 - 1953

ص: -1

‌مهرجان الحرية

تحتشد مصر اليوم في عاصمتها القاهرة لتحتفل بذكرى يوم الحرية بعد نصف عام! ويوم الحرية أو يوم 23 يوليو سنة 1952 هو يوم مصر الأوحد في تاريخها العريق في العبودية، العميق في الأوتقراطية، منذ أن رفع (مينا) إلى العرش، إلى أن خلع (فاروق) من الملك.

كان الشعب المصري طيلة هذه القرون الاثنين والأربعين التي مرت على وجوده في هذه الأرض، أشبه بقطيع من السوائم، لا إرادة له في نفسه، ولا قيادة له من جنسه؛ وإنما كان يتولى قيادة رعاة طغاة، سموا أنفسهم آلهة أو ملوكا أو ولاة. سخروه ليظلموه، واستغلوه ليحرموه. ولم تعصيه هداية الدين من عبث خليفة كالحاكم، ولا مدينة العلم من فجور ملك كفاروق؛ حتى اجتمع على إذلاله واستغلاله في عهده الأخير، ما لم يجتمع عليه في دهره الطويل، من سلطان العواهر من نساء البلاط، وطغيان الفجار من رجال الحكم، وبغي المترفين والمسرفين من الأمراء والإقطاعيين رواد وعباد المنكر. فعصفت النخوة في رؤوس الأحرار من قادة الجيش، فهبوا هبوب العاصفة الخيرة المدركة: صواعقها الماحقة للقصور الطافحة بالرذيلة، وللكرسي الغائصة في الوحل؛ ورياحها العاتية للجذور التي نخرها السوس، وللفروع التي أصمها الهوى، وللبصائر التي أعماها المال؛ ويروقها الوامضة للقلوب التي أظلمت من الياس، وللنفوس التي زاغت عن الطريق؛ وأمطارها المحيية للثرى الذي جف فلا ينبت، وللشجر الذي ذوي فلا يثمر.

وهكذا عاشت مصر في خيرة هذه العاصفة المعمرة المصلحة ستة أشهر اندفعت فيها إلى الأمام اندفاع القوة المضغوطة المكظومة: تنفجر انفجار البارود فتمحق، وتنطق انطلاق السهم فتلحق!.

فإذا احتشدت مصر كلها بطبقاتها وطوائفها لهذا المهرجان فإنما تحتشد لتحتفل بتحررها من رق أغرق في القدم حتى طمس في نفوسها معاني الحرية والعزة والاستقلال والكرامة!.

وشتان بين هذا المهرجان ومهرجانين أقيما من قبل: مهرجان يوم تزوج المخلوع بإرادة شعبه، ومهرجان يوم تزوج بإرادة قلبه. كان هذان المهرجانان من صنع السيادة والقوة، أنفقت فيهما مئات الألوف من أموال الأمة لتغرق القصور الملكية في القصف وللذة، وتمتلئ الخزائن الملكية بالذهاب والماس! وافترضت الحكومة (الملكية) هذه القرصنة

ص: 1

لتنحني أمام الطاغوت انحناءه العبودية حتى يمس أنفها الأرض، فحشدت الشعب في شوارع العاصمة ليهتف وهو جائع، ويرقص وهو عريان؛ وتركته يهيم في الطرق والميادين هيام القطط الجياع والكلاب الضالة؛ لا يجد في نفسه فرحة المعرسين ولا متعة المدعوين ولا بهجة العرس!.

أما هذا المهرجان فمن صنع الطبيعة والأمة. إقامة الخارجون من ظلام الظلم، والناجحون من إسار الرق، كما تقيم الطبيعة مهرجان الربيع لخروجها من ظلام الشتاء ونجاتها من همود الأرض. فكما يورق الشجر ويزهر، وينضر الزهر ويفوح، وتمرح الطير وتهزج، ترى الشعب من ذات نفسه يبتهج ويفوح، ولإطراب نفسه يغني ويرقص، ولإطراء نفسه ينشد ويهتف!.

ذلك لأنه بات ذات ليلة ثم أصبح فإذا هو صاحب العرش وصاحب الجيش وصاحب الحكم وصاحب الثروة! نام وهو لاشيء، ثم استيقظ وهو كل شيء! لقد استطاع في هذه اللحظة القصيرة من عمره الأطول أن يضع هذا النير الثقيل عن كاهله الواهن بعد أن مكن له الرق المزمن بين اللحم والعظم والعصب!.

كان قد ألف نير العبودية كما يألف الثور الذلول نير المحراث فلم يفكر في الانعتاق منه؛ إلا مرة واحدة حاول أن يفلت فيها من قيده فعجز. كان هذا النير فرعا غليظا من هذه الشجرة الملعونة درعه الإنجليز بالحديد والذهب، فشق على عرابي الثائر الأول أن يحطمه. ثم عظم وضخم بفضل الأفظاظ الغلاظ من أولى الأمر في عهد الخليع الرقيق، حتى رزحت الكواهل وخرت الأعناق، وحسب الناس حتى المتفائلون أن الليل سرمد، وأن الرق خلود، فقروا على الضيم واستكانوا للهون. وكادت مصر كلها تسقط بسقوط فاروق ومن على دين فاروق لولا أن نبه الله للخطر رهطا اصطفاهم من رجال القيادة، فنفخوا في الصور فنهض الجيش وانبعثت الموتى. وقاد الشعب محمد نجيب وأصحابه في معركة التحرير والتطهير، فحرروا الأمة من النير الباهظ، وطهروا الوطن من الفساد الشامل؛ وعمدوا إلى أوكار الأفاعي وأجحار الذئاب فقوضوها على الأذى والجريمة. ثم فتحوا أبواب الرزق المحتكر أو المغتصب فتدفق على أهله المحرومين منه المكدودين فيه. ثم لخصوا دين الله في ثلاثة أمروا هبا، وهي العدل والإحسان والمؤاخاة؛ وثلاثة نهوا عنها،

ص: 2

وهي الفحشاء والمنكر والبغي؛ وثلاثة عملوا لها، وهي الاتحاد والنظام والعمل؛ ثم جعلوها كلها مبادئ (لهيئة التحرير) التي أعلنوا ميلادها اليوم في مهرجان الحرية و (ميدان التحرير)!.

فمن حق الشعب إذن أن يقيم هذا المهرجان العظيم مزهوا بجهاده، فخروا بقواده، معبرا بهتافه المرتفع، وتصفيقه المدوي، وحماسه المتقد، وسروره الدافق، عن اطمئنانه الواثق إلى حاضره المستقر، وعن أمله الفسيح في مستقبله المشرق.

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الأدب الشعبي

للأستاذ محمود تيمور

بقية ما نشر في العدد الماضي

إني على يقين بأن العمل الفني إذا توافر له جوهر الأدب من إثارة العاطفة، ومنادمه الوجدان، ومن تناول العناصر الحية في المجتمع البشري، ومن تصور النزعات النفسية النابعة من موارد إنسانية أصيلة، فإن هذا العمل الفني صالح لأن يكون شعبياً يستمرئه الناس على اختلاف مراتبهم من المعارف والمدارك؛ وأنهم ليستجيبون له، ويتأثرون به، ويجدون له في أنفسهم بلاغا ليس وراءه بلاغ.

أعرف فيما أعرف سيدة تقرأ العربية، ولكنها غير متضلعة منها، فأما الشعر العربي فإنها لا عهد لها به، ولعلها تتجنبه ثقة منها بأنها لا تملك له فهما. وأظهر ما تتميز به هذه السيدة أن العاطفة تحيا ولها تعمل، ويوما عرضت على إحدى المجلات مشيرة فيها إلى أبيات من الشعر يناجي بها الشاعر طفله، وما عتعت أن أخذت تقرأ على هذه الأبيات، جياشة الحماس مستعذبة ما تقرأ، مسهبة في شرح ما تجد من جميل المعاني، تدلني بذلك على أنها فهمت مرامي الشاعر وأغراضه، وأن غمت عليها مدلولات الألفاظ على الوجه الدقيق. فهذه السيدة قد تأثرت عاطفتها بتلك الأبيات، طوعا لما تضم بين جوانحها من مشاعر الأمومة المتوقدة، فالشاعر قد عالج لها موضوعا ينزل من نفسها في المكان الأول، وعبر لها عما تشعر به الأم نحو طفلها تعبيراً فنياً جميلاً، فيه النغمة الموسيقية التي هي أقرب إلى هدهدة الطفل في مهده الحبيب، ومن ثم استجابت الأم لهذا اللون منالشعر، لا بما تفهمه وتعقله في هذا الفن من الأدب، ولكن بما استشعرته لذلك الموضوع الذي عالجه الشاعر الفنان، وكان حسبها في هذه الاستجابة جملة ألفاظ فهمتها من أبياته، فكانت هذه الألفاظ جسراً يصل بين شعورها وشعوره.

وأذكر أني كنت في عهد الصبا أحرص على شهود المحافل التي يلقي فيها شاعر النيل (حافظ إبراهيم) قصائده الشعبية في الشؤون الاجتماعية والسياسية العامة. وكان كعهده يؤثر أناقة اللفظ وجزالة العبارة حتى ليفتقر النشء المتأدبون في فهم كلماته إلى معجم، وأنا يومئذ قليل الزاد من الفصحى، ولكني على الرغم من ذلك ما أكاد استمع إلى (حافظ) ينشد،

ص: 4

حتى أحس معانيه تنساب إلى نفسي انسيابا، وإذا أنا أدامجه وأسايره بعاطفتي وشعوري؛ ذلك لأن الموضوعات التي يعالجها كانت تشغل بالنا، ولم يكن جمهور (حافظ) من المثقفين خاصة، وإنما كان خليطا من طبقات الشعب، يفهمون عنه، ويتأثرون به، ويصفقون له في صدق وإيمان. ولست أنسى حفلا شعبياً شهدته في (حديقة الأزبكية) لذلك العهد، فأنشد فيه (حافظ) إحدى روائعه، وكان بين جمهور السامعين كثير من ذوي الجلابيب، وهم يطربون للشعر، ويهتاجون بالإنشاد، ويتصايحون في تهلل وإعجاب.

وإليك ما عرفت من شأن (طاغور) وجمهور، فقد كانت حلقته التي ينشد فيها أشعاره تحفل بالحشد الوافر من جمهور الشعب غير المثقف، وبينهم الحفاة العراة المهازيل، وكان أولئك يصغون إلى (طاغور) مرتلاً شعره، وكأنهم في معبد يشتركون في صلاة، وأعينهم تفيض من الدمع تأثراً واستجابة، وكذلك استطاع هذا الجمهور الساذج أن يستشعر الجمال والروعة في قصائد بالغة من السمو الفني والفلسفي أرفع الدرجات، وإنما تسنى للجمهور أن يساير أدب (طاغور) بثلاث: الأولى أن الشاعر يتناول من الموضوعات ما يشغل بال الناس، وما يحسونه في صميم قلوبهم أوفر إحساس، فهم حين يصغون إلى الشاعر فإنما يصغون إلى زفرات نفوسهم وأصداء عواطفهم صادقة الوحي والإلهام. والثانية أن قصائد (طاغور) أقرب في أسلوبها وجرسها إلى النغمة الموسيقية منها إلى ألفاظ تتألف من حروف. والثالثة أن (طاغور) كان يلتقي شعره فيحسبه السامع مغنيا يترنم. وثمة ناحية رابعة ليس من الخير إغفالها، تلك هي أن فلسفة (طاغور) التي ينطوي عليها شعره أدنى إلى التصوف والتعبد منها إلى فلسفة المذاهب والاراء، والإنسان صوفي بالفطرة، متعبد بالطبع، ولم تكن هذه المعاني التي يجلوها (طاغور) في فلسفته الصوفية إلا معاني إنسانية كامنة في النفس البشرية، فلا هي بجديدة على الإنسان ولا هي بمستغلقة عليه، بل هي في سريرته مستخفية تلتمس من يثيرها من الأعماق.

لسائل أن يقول: أفي المستطاع أن يتذوق جمهورنا العربي من فن (طاغور) ما يتذوقه جمهوره؟.

لا سداد في الإجابة عن هذا السؤال بنفس أو إيجاب، فإن كثيراً من الألوان الأدبية، وبخاصة الشعر، لا يكاد يسوغ إذا نقل إلى لغة غير لغته لأنه يفقد بالترجمة خصائص وقعه

ص: 5

الموسيقى وكيانه الفني، ولا تبقى منه إلا ظلال وأشباح أو هياكل معروفة من عظام. ولو كان في المقدور أن يترحم أدب (طاغور) رنانا بموسيقيته الفنية، رفافا بصوفيته الإنسانية، لكان حريا أن يتأثر به الجمهور الكبير حيث يكون.

وهذا (شكسبير) الشاعر العبقري الذي نقرأ له اليوم في إمعان وروية، محاولين استشفاف الغامض من معانيه، والدقيق من تأملاته وتحليلاته النفسية. لقد كانت مسرحياته تمثل على أعين الناظرة من عامة الشعب، كانوا أمشاجاً من الناس يتباينون في مراتب الثقافة والذوق، ولكنهم استساغوا من فن (شكسبير) ما يساير عواطفهم وما يلائم مزاجهم، واستمرءوا ما كان يمازحهم به من مفارقات الحياة وأضاحيك المجتمع، في سخرية لاذعة، ونقد طريف؛ وما كان يهزهم به من صور المآسي والفواجع، في لوعة مريرة، وتحس أليم. فالشعب في ذلك كله مستجيب له أعمق استجابة، فتارة هو واجد حزين، وطورا هو مستمتع طروب.

على الأديب الفنان الذي يرى أدبه محجوبا عن الجمهور، فيسئ الظن بهم، ويسرع إلى وهمه أن الناس لا يستطيعون التلقي عنه، عليه أن يسأل نفسه: أموصول هو حقا بالشعب يعبر عن خوالجه، ويصور منازعه؟ فإن كان كذلك حقا فليسأل نفسه ثانية: هل ابتغي الوسيلة التي يتسنى بها للجمهور الإقبال على أدبه؟ وإن في الجواب عن هذا السؤال جانباً خطيراً من سر العلاقة بين الفنان الكاتب والجمهور القارئ.

وليس بعازب عنا عقم الوسائل التي تتأدى بها الكتب الأدبية إلى أيدي الشعب، فإن هذه الكتب لا تكاد تصل إلى الناس إلا بجهد، فالكاتب والقارئ كلاهما يلقي من ذلك إعناناً ورهقاً. وفي مقدورك أن تعزو العزلة التي يعانيها الأدب الفني إلى أن الجمهور يجهل وجدوده، وأنه لا يجد تنبيهاً إليه، وربما وجد سبيله غير ميسور؛ فللجمهور عذر مبسوط فيما نلاحظ من ضعف إقباله على الأعمال الفنية التي ينهض بها الأدباء.

وفي هذا المقام يطيب لي أن أشير إلى أن إحدى الفرق التمثيلية ضاقت بما تجد من تراخي الجمهور عما تقدمه من مسرحيات فنية أصيلة، وكانت تعلل ذلك بادئاً بأن الجمهور لا يسمو إلى هذا المستوى الرفيع. وأخيرا خطر للقائمين على تلك الفرقة أن يلتمسوا بعض السبل إلى اجتذاب الناس، فخفضوا أسعار الدخول حتى قاربوا بها أسعار الدخول في الدور السينمائية، وبسطوا لطلاب المعاهد وأساتذتها شيئا من الامتياز في الخفض، فازدحم

ص: 6

المسرح برواده، واحتفظت الفرقة بمستواها، ولقيت من الإقبال والاستحسان ما لم يكن يدور في الحسبان.

ومما لاحظناه منذ عهد قريب أن بعض دور النشر أخذت تقدم طبعات جديدة من المؤلفات الأدبية الرفيعة، ميسورة الأثمان، تعرض مع باعة الصحف على أنظار الناس، فراجت هذه الكتب، وبيع منها الألوف والجمهور هو الجمهور، لم يزدد علما ولا ثقافة بين عشية وضحوة، وإنما الفضل كل الفضل لهذه الوسيلة الجديدة في نشر الكتب وعرضها على جمهرة القارئين. وليس أدل على نصوع هذه الحقيقة من أن بعض تلك الكتب كان مطبوعا على الطريقة القديمة من قبل، ولم يكن المطبوع منه يزيد على ألفين أو ثلاثة، وما تزال منه بقية في المكتبات لم تبع بعد، فأما هو في طبعته المحدثة، بهذه الطريقة الميسورة، فإن المطبوع منه بربى على عشرين ألفا ولا يكاد يظهر حتى تنفد نسخه في أيام معدودات.

ومن طريف ما حدثني به أستاذ فرنسي صديق، أنه يسكن شقة في مبنى كبير في باريس، وعلى باب المبنى يقوم بواب مشغوف بالقراءة، فبين يديه دائماً كتاب يطالع فيه، وقد عنى الصديق بأن يتعرف ما يقروه ذلك البواب المتأديب، فإذا هو الأدب المسف الرخيص، فخطر له أن يزاول معه تجربة لا يدري أتخفق أن تفلح، فدفع إليه كتابا من الكتب، وترك له أن يقرأ إذا راقه أن يفعل، فأخبره البواب بأنه قرأه في ليلة واحدة، وأنه أعجب به. ولم يكن الكتاب مغامرة من مغامرات (أرسين لوبين) وإنما كان كتاب (أناكارنين) لتولستوي. ومنذ اليوم أخذت المكتبة القصصية الرفيعة التي يقتنيها الأستاذ الفرنسي تستعار كتابا كتابا لهذا البواب، فيعب ما شاء أن يعب، وكذلك أثمرت التجربة وأصبح البواب القارئ من عشاق الأدب الرفيع.

هذه خواطر في معنى الأدب الشعبي، أردت بها توجيه الأنظار إلى تصحيح مدلوله، والكشف عن حقيقته، فلقد طالما أسيء فهمه، وشدما عدل به عن وجهه. ولقد آن لنا أن نرد إليه وبينه، كما نظلم الشعب إذا نقصنا من متعة الأدب حظه. وهل للأدب موضوع إلا الشعب؟ وهل للشعب مرآة إلا الأدب؟.

محمود تيمور

ص: 7

‌شعراء الوطنية

للأستاذ عبد الرحمن الرافعي

أصبح للناحية الوطنية في الشعر العربي الحديث نصيب كبير في مصر جدير بالتدوين والتقدير. فالشعراء الذين استلهموا وحي الوطنية في قصائدهم، واهتزت لها مشاعرهم، واستجابوا إلى نداء الوطن في دنيا الشعر والفن والخيال؛ وكانوا مرآة صادقة لعصرهم، ومصدر إلهام وتوجيه لمواطنيهم، وترجمانا لهم في آمالهم وآلامهم، وأحاسيسهم وأهدافهم؛ هؤلاء خليقون بالتحدث عن شخصياتهم ودراسة أشعارهم الوطنية. كل منهم بمقدار ما أنتج وأثمر وأجاد وأبدع.

فمن أين نبدأ هذه الدراسة؟

يبدو لي أن الروح الوطنية قد بدأت تغذي الشعر المصري، وتبعث فيه من حياتها وبهائها، وتضفي عليه من جمالها وجلالها، منذ أوائل القرن التاسع عشر. فإلى هذا العهد نبدأ بالحديث عن (شعراء الوطنية).

رفاعة رافع الطهطاوي

1801 -

1873

هو أول رائد لنهضة العلم والأدب في النصف الأول من القرن التاسع عشر. كان شاعراً رقيقاً بالقياس إلى عصره. أشربت نفسه الوطنية منذ نعومة أظفاره. تلقاها من إيمانه الصادق (وحب الوطن من الأيمان) ومن فطرته السلمية، وخلوص نيته. ولما جاء عهد البعثات العلمية إلى الخارج كان من حسن التوفيق أن اختاره محمد على ضمن أعضاء البعثة الأولى التي سافرت إلى فرنسا سنة 1826. فجمع إلى ثقافة الأزهرية ثقافة أوربا وعلومها وآدابها. فاقتبس منها الشيء الكثير، وازدهرت روحه الأدبية على ضوء الحضارة الغربية.

وقد استثار رحيله عن مصر عاطفته الوطنية العميقة المتأصلة في نفسه الحساسة. فجادت قريحته وهو في باريس بقصيدة عبر فيها عن الحنين إلى الوطن وأهله، والإشادة بمفاخرة. قال في مطلعها:

ص: 8

ناح الحمام على غصون البان

فأباح شيمة مغرم ولهان

وانتقل إلى التغني بمصر وذكر محاسنها وقال:

هذا لعمري إن فيها سادة

قد زينوا بالحسن والإحسان

يا أيها الخافي عليك فخارها

فإليك أن الشاهد الحسنان

ولئن حلفت بأن مصر لجنة

وقطوفها للفائزين دوان

والنيل كوثرها الشهي شرابه

لأبر كل البر في إيماني

وله قصائد ومنظومات وطنية قالها في مناسبات مختلفة.

فنظر إلى القصيدة الآتية تجدها تعبر عما يجيش في نفسه من أكرم لعواطف وأنبلها. وقد قدمها هو بقوله (وقلت أيضا وطنية). فالروح الوطنية تتمشى حتى في تقديمه لقصائده قال:

يا صاح حب الوطن

حلية كل فطن

محبة الأوطان

من شعب الإيمان

في أفخر الأديان

آية كل مؤمن

مساقط الرؤوس

تلذ للنفوس

تذهب كل بوس

عنا وكل حزن

ومصر أبهى مولد

لنا وأزهى محتد

ومربع ومعهد

للروح أو للدين

شدت بها العزائم

نيطت بها التمائم

لطبعنا تلائم

في السر أو في العلن

مصر لها أياد

عليا على البلاد

وفخرها ينادي

ما المجد إلا عنه احتبس

فخر قديم مؤثر

عن سادة وينشر

زهور مجدد تنثر

منها المعقول تجتني

دار نعيم زاهية

ومعدن الرفاهية

آمرة وناهية

قدما لكل المدن

قوة مصر القاهرة

على سواها ظاهرة

ص: 9

وبالعمار زاهرة

خصت بذكر حسن

أبناؤها رجال

لم يثنهم محال

وجندهم صنديد

وقلبه حديد

وخصمه طريد

بل مدرج في كفن

وقال يدعو إلى افتداء الوطن بالنفس والمال

وعزيز الموطن نخدمه

برضا في النفس نحكمه

مال المصري كذا دمه

مبذول في شرف الوطن

تفديه العين بناظرها

والنفس بخير ذخائرها

تهدي في نيل نظائرها

بشرا العليا أعلى ثمن

وقال يصف الجيش المصري ويشيد بمفاخره.

ننظم جندنا نظما

عجيبا يعجز ألفهما

بأسد ترعب الخصما

فمن يقوي يناظلنا؟

رجال مالها عدد

كما نظامها العدد

حلاها الدرع والزرد

سنان الرمح عاملنا

وهل لخيولنا شبه

كرائم ما بها شبه

إليها الكل منتبه

وهل تخفى أصائلنا

لنا في الجيش فرسان

لهم عند اللقا شان

وفي الهيجاء عنوان

تهيم به صواهلنا

فها الميدان و (الشقرا)

سقت أذن العدا وقرا

كأنا نرسل الصقرا

فمن يبغي يراسلنا

مدافعنا القضا فيها

وحكم الحتف في فيها

وأهونها وجافيها

تجود به معاملنا

لنا في المدن تحصين

وتنظيم وتحسين

وتأييد وتمكين

منيعات معاقلنا

وهذه الأبيات لمن خير ما قيل في وصف الجيش المصري. ولا شك أن رفاعة قد استلهم

ص: 10

شعره من مفاخر الجيش في عهده. فهو يصور العصر الذي عاش فيه تصويرا صحيحاً لا مبالغة فيه ولا إغراق. وإن قصيدته لتشبه أن تكون لوحة فنية يخيل لمن ينظر غليها انه يلمح فيها كتائب الجيش المصري تسير إلى ميادين الحرب تحف بها أعلام النصر والظفر. تخوض غمار القتال بقلوب ملؤها الشجاعة والإقدام، وتجابه الأخطار قوية الإيمان، ثابتة الجنان، مجهزة بالسلاح والمدافع (تجود به معاملنا). ولو لم يشهد رقاعة مفاخر الجيش المصري في ذلك العصر لما جادت قريحته بهذا الشعر. وهكذا يتأثر الشاعر والأديب بالعصر الذي يعيش فيه، والبيئة التي تحيط به، ويصور الحياة على عهده. فكأنما هو قطعة من عصره، أو مرآة تنطبع فيها مشهد الحياة السياسية والاجتماعية، ومظاهر الحالة الفكرية والأخلاقية.

وإنك لتلمح أيضاً عظمة الجيش المصري من قول رفاعة في قصيدة أخرى يخاطب فيها الجنود.

يا أيها الجنود

والقادة الأسود

إن أمكم حسود

يعود هامي المدمع

فكم لكم حروب

بنصركم تؤوب

لم تثنكم خطوب

ولا اقتحام معمع

وكم شهدتم من وغى

وكم هزمتم من بغى

فمن تعدى وطغى

على حماكم يصرع

وتتحلى روحه الوطنية المتطلعة إلى الحرية في تعريبه نشيد الحرية (المارسلييز) فإن النفس لا تميل إلا إلى ما هو محبب إليها. فهذا النشيد قد استثار ولا شك إعجاب رفاعة رافع، حتى مالت نفسه إلى تعريبه، وإظهار ما احتواه من العواطف الوطنية الفدائية في حلة عربية قشيبة.

وإذا تأملت في شعر رفاعة رافع الذي نقلنا طرف منه وجدت فيه تقدما نسبيا إذا قارنته بأسلوب شعراء المدرسة القديمة التي سبقته كالشبراوي والعطار والخشاب وغيرهم. ويعد شعره دور الانتقال إلى دولة الشعر الحديثة التي حمل لواءها البارودي وإسماعيل صبري وشوقي وحافظ.

ص: 11

حقا إننا إذا وضعناه إلى جانب شعر شوقي مثلا لجاء في المرتبة الثالثة أو الرابعة؛ ولكن يجب ألا ننسى أن رفاعة رافع نشأ في عصر كانت اللغة العربية وآدابها في دور تأخرها واضمحلالها. فله على نهضة الشعر والأدب فضل لا ينكر.

عبد الرحمن الرافعي

ص: 12

‌أزمة الثقافة!

للأستاذ محمد سعيد العريان

في مصر أزمة ثقافية شديدة، يحسها في هذه الأيام كل قارئ وكل ذي فكر وبيان. . .

إن الكتاب الجيد لا يكاد يطبع منه الآن أكثر من بضعة آلاف نسخة، في بلد يقولون ن عدد القارئين الكاتبين فيد يزيد على خمسة ملايين، وإن عدد طلاب العلم في معاهده يبلغ نحو مليونين؛ بل إن هذه الآلاف القليلة التي تطبع من الكتاب الجيد لا تكاد تنفذ في أقل من عامين، وأكثر من نصف الذين يقبلون عليها ليشتروها لا يشترونها ليقرءوها، بل لأنهم تعودوا أن يشتروا كل كتاب جيد، أو كل كتاب للمؤلف الذي يفضلونه.

فهل يبلغ عدد قراء الكتاب الجيد في سنته الأولى على هذا الأساس أكثر من بضع مئات؟ فلمن يكتب الكاتبون ويتحدث أصحاب الفكر والبيان إذا كان قراؤهم لا يزيدون على بضع مئات في شعب يزيد تعداده على عشرين مليونا ويصفه من يصف من أهل السياسة بأنه شعب ناهض؟.

الحق أنها أزمة ثقافية شديدة، تدل على مبلغ القطيعة بين هذا الشعب ومفكريه، المتفانين في الحديث عن نهضة هذا الشعب. وأني لأعلم علم اليقين أن حديثي هذا لن يرضي بعض السياسيين ولا بعض الأدباء، بل لعله خليق أن يغضب كل السياسيين وكثيرا من الأدباء؛ ولكني لا أبالي بمن يغضب ولا من يرضي من هؤلاء وأولئك؛ إذ كنت لا أقول إلا الحقيقة التي اعتقدتها ويعتقدها في مصر كل ذي فكر وبيان. . .

إننا نعيش في بلد أمي، أمية مطلة تشمل 999 من كل ألف، على رغم الإحصائيات التي تذيعها وزارة معارفنا في كل عام. . .

إن على رأس وزارة المعارف اليوم في مصر وزيرا له مذهباً في التعليم يقوم على أساس (الكيف) قبل (الكم). وما أحلى هذا العنوان لو كان له مدلول يعبر عن شيء من الواقع؛ ولكن ذلك الواقع يعبر تعبيرا أصدق عن الأمية الحقيقية المطبقة علينا كماً وكيفاً وموضوعاً؛ فليس في مصر اليوم خمسة ملايين قارئ كما يقول في بعض الأحاديث، ولا خمسة آلاف، بل قد يكون من الإسراف في حسن الظن أن نزعم أنهم قد يبلغون خمسمائة. . . وقد أوضحت برهان ذلك في بعض ما سبق!.

ص: 13

إن القارئ الكاتب الذي يصح أن يوصف بأنه قد خرج من نطاق الأمية، ليس هو (المتعلم) الذي اكتسب بالتعليم قدرة على أن يقرأ وأن يكتب، ولكنه القارئ الحقيقي الذي تعود أن يقرأ منذ اكتسب بالتعليم القدرة على أن يقرأ. إنه القارئ بالفعل لا بالقوة. فأين من متعلمينا أولئك القراء الحقيقيون؟ وكم يبلغ عددهم؟ على هذا الأساس ينبغي أن يقوم الإحصاء إن كنا نريد برهانا صحيحاً على أننا نعيش في شعب ناهض، وهو برهان لم نزل نلتمسه فلا نكاد نصل إليه، ولا نأمل أن نصل إليه في وقت قريب، لا بالكم ولا بالكيف، ما دمنا لا نلتمس السبيل إليه من بابه. . .

هذا، وقد كان عدد المتعلمين في مصر منذ ربع قرن لا يتجاوز المليون، ولكني أزعم - وتحت يدي من البراهين ما يؤيدني - أن مصر في ذلك التاريخ كانت أبعد عن الأمية مما هي اليوم؛ فقد كان في مصر من القراء الحقيقيين أكثر ممن فيها الآن وقد بلغ عدد (المتعلمين) خمسة ملايين. . . لقد كان فيها قراء من كل الطبقات يتابعون إنتاج طه حسين، والعقاد، وهيكل، والمازني، والرافعي، وشوقي، وحافظ، ومطران، وغير هؤلاء من ذوي الفكر والبيان، ويتتبعون ما تخرجه المطبعة العربية من كتب الأدب والفن للمحدثين والقدماء؛ ثم يتناولون كل ما قرءوا من ذلك بالنقد أو بالحديث في المجالس الخاصة أو في المجالس العامة أو في الصحف والمجلات. وقد يغلون في ذلك غلوا يقسم القراء إلى معسكرات متقابلة ينتصر كل منها لرأي أو لصاحب رأي، انتصاراً رفيقاً يبدو في أنواع هادئة من الجدل، أو انتصاراً عنيفاً يبدو في بعض المعارك التي كانت تنشب بين تلك المعسكرات فلا تكتفي بالجدل الهادئ دون تناول الموضوع المختلف عليه من حيث صلته بالدين أو بالسياسة أو بالأمور الشخصية. . .

كذلك كان الحال وعدد (المتعلمين) في مصر لا يزيد على المليون؛ فكم قارئا من الملايين الخمسة (المتعلمين) اليوم يتابع إنتاج أهل الأدب والفكر كتاباً كتاباً وموضوعاً موضوعاً ورأياً راياً على اختلاف جو القول والعمل، ليعرف أين يمضي بنا أهل الأدب هؤلاء، أو كيف تتطور بهم الحياة على اختلاف الأجواء التي يقولون فيها ويعلمون ويعيشون؟ وكم قارئا منهم يتتبع ما تخرجه المطبعة العربية من كتب القدماء والمحدثين فيتناوله بالنقد أو بالحديث؟.

ص: 14

وكان في مصر قبل ربع قرن أدباء منقطعون لفنونهم، منهم صاحب وظيفة لا يوصف بها وإنما يوصف من يوصف منهم بالأدب وحده، وقد يكون لبعضهم أو لكلهم مرتزق آخر يعيش من فيضه، ولكنه شأن من شئونه الخاصة لا يتراءى له ظل واضح على ما ينتج من فنونه ولا يدخل في حكم النقاد حين يتناولون ما ينتج من تلك الفنون؛ فكان ذلك نوع من الإيمان بالأدب يرتفع به عن مستوى نراه قد انحدر إليه الآن ويوشك أن يلوث بعض الأدباء ببعض وحل الطريق!.

هي إذن أزمة شديدة تتصل بالمنتجين وبالمستهلكين جميعاً، ويوشك أثرها أن يمتد إلى حياتنا العامة ويتغلغل ويؤدي إلى نتائج بعيدة المدى. . .

ولا أريد أن أسترسل في وصف ما ينتظر أن يكون لو مضت بنا هذه الأزمة إلى غايتها؛ ولكني أريد أن أتتبع أسباب هذه الأزمة من حيث نشأت.

وأول ما أعرف من هذه الأسباب أن المدرسة المصرية اليوم لا ترى من واجبها أن تعلم تلاميذها القراءة، مكتفية بتعليمهم (فك الخط) وفرق ما بين فك الخط والقراءة بعيد جداً، كالفرق بين الأمية والثقافة، أو كالفرق بين درس في السباحة في حجرة الدراسة أو في فناء المدرسة، ودرس آخر يتعلمه بالسبح في البحر الهائج ولو لم يكن معه معلم ولا رائد. وأنا لست أعرف ولا أظن أحدا غيري يعرف سابحا اكتفي في تعلم السباحة بقراءة كتاب ثم ألقي بنفسه إلى البحر يتحدى أمواجه!.

لقد زعموا في الفكاهة أن ثرياً من أثرياء الحرب قصد إلى طبيب ليصنع له نظارة للقراءة، فضبط الطبيب مقاييسه وألقى أضواءه واختبر الجفن والحدقة والقاع والعصب، ثم دفع إلى الرجل النظارة التي طلبها وهو لا يشك أنه سيقرأ بها؛ فوضعها الرجل على عينيه ثم تناول صحيفة من الصحف وهم أن يفك خطوطها ولكنه لم يستطع أن يقرأ حرفاً، فرد النظارة إلى الطبيب مغضباً لأنها لم (تعلمه) القراءة ولم تنقله من أميته العريقة إلى مستوى القارئين الكاتبين.

ما أشبه ذلك الثرى الأمي الذي زعم أن (نظارة القراءة) يمكن أن تنتشه من وهدة الأمية، بالمدرسة التي تكتفي من تعليم القراءة والكتابة بتعويد تلاميذها أن يرسموا الحروف الهجائية وأن تتحرك ألسنتهم بأصواتها معريين، ثم تزعم أنها علمت كذا وكذا ألفا فأصبحوا

ص: 15

من القارئين الكاتبين.

إن هؤلاء الآلاف الذين غادروا المدرسة (متممين واجباتهم) ليسوا خيراً من الآلاف الآخرين الذين تخلفوا عن موكب العلم فلم يدخلوا مدرسة ولم يتلقوا العلم على معلم؛ لأن هؤلاء وأولئك أميون بالمعنى العام، لا يمحو وصمة الأمية عن بعضهم أنهم (يستطيعون) أن يقرءوا، ما داموا لا يقرءون بالفعل؛ ولا يستخدمون (نظارة القراءة) التي منحتهم إياها المدرسة في النظر إلى كل صفحة مكتوبة تقع تحت أعينهم!.

إن القراءة في المدرسة المصرية ليست إلا (أصواتاً) تتمرن عليها حناجر التلاميذ وأشداقهم وألسنتهم في دروس المطالعة، ثم لا شيء بعد ذلك. والتلميذ الذي يبلغ درجة النجاح في الدروس القراءة هو التلميذ الذي يحسن أن (ينطق)، وأن يرتفع صوته في موضع وينخفض في موضع، وأن يضع حركات الإعراب في مواضعها من أواخر الكلمات أو من أواسطها؛ وقد يغلو بعض المعلمين بعد ذلك فيسأل تلميذه تفسير عبارة، أو تلخيص جملة أو نقد كلمة، أو ذكر نظير؛ ولكنه لا يمكن أن يذهب في الجرأة إلى أبعد من ذلك فيدفع إليه كتابا يقرؤه وحده ليناقشه في موضوعه بعد ذلك. ولو أن معلما من المعلمين ذهب في الجرأة إلى هذا الحد، لأحيل إلى إحدى لجان التأديب، أو لجان التطهير، متهماً بترويج كتاب غير مقرر للقراءة!.

هذه القاعدة التي تأخذ بها وزارة المعارف المصرية معلميها في المدارس ويأخذ بها المعلمون تلاميذهم، قد أحذ بها التلاميذ أنفسهم، فلم تتهيأ لهم الفرصة ليعرفوا أن (القراءة) شيء غير تلك الأصوات المنغمة التي تتفق مع قواعد النحو، فلم يحاولوا أن يقرءوا، وكان ذلك أول أزمة الثقافة!.

وثمة سبب آخر وثيق الصلة بهذا السبب الأول، هو أن المدرسة المصرية - أيضاً - تكاد تغرس في نفوس تلاميذها أن العلم هو ما يتعلمون فيها، وهو كل ما يحتاجون إليه ليكونوا مثقفين، فليس وراء ما تعطيهم من ذلك العلم غاية لمستزيد؛ فالتاريخ كله في كتب التاريخ المقررة، والأدب كله في كتاب النصوص، والشعر خير الشعر هو ما قرءوه في تراجم الشعراء. وقل مثل ذلك في كل فنون لمعرفة، حتى ليكادون يحصرون علم الكون كله في كتب الصوت والضوء والكهربا التي يؤدون فيها امتحانهم آخر العام!.

ص: 16

وأذكر - على خجل شديد - أن معلما من معلمي المدارس المصرية، لقبني ذات يوم وأنا أقرأ كتاباً حديثاً في الجغرافيا، فأنكر مني ما رأى، وأبدى دهشته لأنني وقد أتممت تعليمي - فيما يزعم - منذ بضع وعشرين سنة، لم أزل بحاجة إلى قراءة كتاب جديد في الجغرافيا.

ومما أعان على إنشاء هذه العقيدة في نفوس بعض المتعلمين من شبابنا، فكرة (الكتاب المقرر) التي لم تزل المدرسة المصرية تأخذ بها؛ فللطبيعة كتاب مقرر، وللكيمياء كتاب مقرر، فليس يسوغ للمعلم ولا يتأنى للتلميذ أن يستعين في مادة من مواد العلم بغير الكتاب المقرر لها، إلا على حذر ورقبة، خشية الاتهام بالخروج على الطاعة أو الاتهام بقصد الاستغلال؛ فنشأ من ذلك الاعتقاد أو شبه الاعتقاد بأن العلم كله في تلك الكتب، وليس في غيرها من الكتب إلا فصول من العلم ليس فيها كبير غناء!.

وهناك سبب ثالث يتصل أوثق اتصال بالسببين السابقين، هو اعتقاد أو شبه اعتقاد في نفوس المعلمين بأن مهمة المدرسة هي التعليم، أي إعطاء العلم؛ وهذا خطأ كبير، يجب أن يزول من نفوس المعلمين ليزول بعد ذلك من نفوس تلاميذهم؛ فإن زمن المدرسة محدود، ضيق أشد الضيق: ساعات في اليوم، وأيام في الأسبوع، وأشهر في السنة، وسنون قليلة من عمر الشباب؛ والعلم شيء كبير، واسع كل السعة، ليس له حدود ولا قيود، وهو لم يزل يزيد كل يوم ويتجدد، فينسخ الجديد القديم، ويصير علم الأمس جهلاً وغفلاً وسذاجة؛ فكيف تتسع المدرسة في نطاقها المحدود ووقتها الضيق لاستيعاب ذلك العلم الواسع المتجدد؟.

ولو أن معلمي المدرسة وتلاميذها قد آمنوا كما نؤمن بأن مهمة المدرسة ليست هي إعطاء العلم بل تمهيد الطريق إليه، لحملهم الإيمان بهذه الحقيقة على الاستمرار في طلب العلم بالقراءة المتصلة بعد الخروج من المدرسة، وعلى متابعة الجديد في الأدب والعلم والفن بالاطلاع الدائب. . .

فالمدرسة المصرية إذن هي السبب الأول لهذه الأزمة الشديدة التي تحس آثارها في أنفسنا وفيما حولنا، ولكنها ليست هي كل السبب؛ فهناك أسباب أخرى مساعدة كان لها أثر كبير في إحداث هذه الأزمة، ولعلنا نعرض لها في حديث تال. . .

محمد سعيد العريان

ص: 17

‌الفن المهدد!

للأستاذ محمد عبد الله السمان

منذ بضعة عشر أسبوعاً، وفلم (كوفاديس) يعرض بسينما (مترو) بالقاهرة، بعد أن تقدمته الدعاية الواسعة العريضة. . . الدعاية التي لم يسبق لها مثيل من قبل لأي فلم من الأفلام السينمائية، فقد حجرت إحدى الجرائد المصرية ذات يوم لهذا الفلم أربع صفحات، خصصتها للدعاية له، ولها عذرها، فالجرائد والصحف في مصر - إن لم تكن جميعها - فمعظمها لا ينظر إلا من الزاوية المادية التي يعيش لها من أجلها. . .

وانجذابا إلى هذه الدعاية الواسعة العريضة (لكوفاديس) تكبدت مشقة الوقوف أمام سينما (مترو) ساعة كاملة للحصول على تذكرة الدخول، وأردفتها بثلاث ساعات أخرى مع فلم (كوفاديس) الذائع الصيت. . . ولم أكد انتهى من مشاهدته حتى آمنت بأن نفوذ أمريكا، بلغ حدا لا يطاق في الشرق الأوسط والأقصى والأدنى، بالدرجة التي تجيز لها أن تلعب بمقومات الشعوب، وفي مقدمتها عقائدها.

شاهدت فلم كوفاديس انجذابا إلى دعايته العريضة الواسعة، فإذا هو دعاية سافرة من أوله إلى آخره على الطريقة الأمريكية، ومن شأن هذه الدعاية السافرة أن تشوش على العقول، ويبلبل الأفكار. والنظارة من المسلمين يخرجون من السينما بعد مشاهدة (كوفاديس) وقد سحرهم الذوقي الفني، والإخراج القوي، والحوار المبدع، دون أن يثيروا - حتى فيما بينهم وبين دخائل نفوسهم - عبارة واحدة من عبارات هذه الدعاية.

أما الرأي العام الإسلامي في مصر فلا يكترث كثيرا لهذه الأفلام التبشيرية الأمريكية، إذ أنها صيحات في واد، ونفخ في رماد، وستظل أسابيع أو شهوراً أو أعواماً، وإن شاءت قروناً، فلن تنال من عقيدة المسلمين شيئاً.

إن التبشير الأمريكي وباسم العلم والمروءة والإنسانية، لم يكتف باستغلال الطبقات التي تلجأ إلى معاهدة ومدارسه وجامعاته ومصحاته، ولكنه أصر على أن يشتري ضمائر صنف من المثقفين المسلمين الذين حقنوا بالتربية الغربية ردحا من الزمن، ليأخذوا على عاتقهم - في مقالاتهم ومحاضراتهم وندواتهم - تشكيك المسلمين في المعاني الإسلامية الحية، والتنديد بالمقدسات الدينية، ورمى الإسلام بالتزمت والجمود والرجعية، وما إلى ذلك من

ص: 19

الألفاظ المصطلح بينهم عليها.

ومع هذا كله فالرأي العام الإسلامي لا يتحرك ولا يتكلم، معتمداً على قوة العقيدة الإسلامية، ولكن صمته سوف ينفد حين يدرك أن المعاني الإسلامية مضيق عليها، وأن الإسلام الصحيح مراقب مراقبة دقيقة، لا يصل معها حتى إلى المسلمين أنفسهم. . وأن الفن الرفيع محرم عليه أن يتناول المعاني الإسلامية قلت أم كثرت!.

هذا ما حدث في فلم (ليلة القدر) للأستاذ حسن صدقي الممثل المعروف. ولعل الرأي العام الإسلامي لا يدري من أمره إلى اليوم شيئاً، أو لعله يدري ولكنه لا يقوى إلا على همسات بشأنه لا تتجاوز الشفاه، وآهات لا تتجاوز الحناجر، والأستاذ حين صدقي صاحب رسالة فنية، لا يتخذ من الفن مهنة ينتزع بها القروش من الشعب المرهق المكدود، ولا يجعل من الفن مسلاة لعشاق الفوضى والمجون والتهريج، بل إنه ينتهج نهجاً عالياً، يهدف من ورائه إلى رفعة الوطن وسمو المجتمع. وهو فوق هذا متدين محافظ، ويؤدي رسالته بقلبه وروحه، كالمصلح الذي يبغي الإصلاح عن عقيدة راسخة وإيمان عميق، ولا عيب فيه إلا مشاركة الشعب آلامه فيما ينتج من فن، ومشاركة المسلمين عواطفهم فيما يخرج للناس من أفلام، شاذا في هذه وتلك عن الكثيرين من الفنانين المرتزقة الذين لا هدف لهم في حياتهم الفنية سوى التهريج الرخيص وكفى. . .

قدر لي أن أشهد عرض فلم (ليلة القدر) قبل أن يزح به في زوايا الظلام، فوجدت الأستاذ حسين صدقي ينحو فيه ناحية إسلامية لم تطرق قبله في عالم الفن. لقد أحس في قرارة نفسه أن هناك سحابا يحجب أعين المسلمين عن الإسلام المصفى، وأن هناك أباطيل ألصقت بالإسلام زرواً وبهتانا، يعتقدها الأجانب من غير المسلمين عقيدة راسخة في أعماق قلوبهم، فراح يعالج هذه وتلك في فيلم أسماه (ليلة القدر) فجاء خيرا من ألف فيلم. .

لقد صودر هذا الفلم، كما صودر أخ له (يسقط الاستعمار) في العهد البائد المنقرض. ولم تكد تبزغ شمس هذا العهد الجديد، حتى قدر لهما أن يريا النور، ولكن طائفة من الناس تقدمت إلى المسؤولين تشكو فلم (ليلة القدر). والعجيب أن الفلم ليس فيه تبشير، ولو كان لما كان هناك ضير، مادام هذا التبشير لا يمس حرية العقائد في غبر المسلمين. وما جاء في الفلم يعتبر تحليلاً لبعض المعاني الإسلامية، وعلاجا للمشكلات الاجتماعية على ضوء

ص: 20

الإسلام، ومكافحة لبعض الجهالات التي لازالت عالقة بأذهان الكثير من المسلمين!.

وأعجب من هذا أن ذوي الأقلام الضخمة الذين استولوا على الصحف الكبرى بوضع اليد، هؤلاء الذين يدعون أن أمل الوطن معقود بأسنة أقلامهم، وأن بناء النهضة الجديدة لن يشاد إلا على نغمات من صرير أقلامهم، لم يكتبوا حرفاً واحداً عن مأساة فيلم ليلة القدر.

محمد عبد الله السمان

ص: 21

‌محمود سامي البارودي

للأستاذ محمود أبو رية

لا نكاد نجد في تاريخنا الحديث عظيماً أصابه من الظلم وناله من العفوق مثل محمود سامي البارودي رحمه الله. فعلى أنه سياسي كبير، وجندي عظيم، وإنه فوق ذلك شيخ شعراء هذا العصر بلا منازع، فان أمته قد ألفت به في زوايا النسيان وتركته على درجة الإهمال، حتى لا تجد أحداً يعني به، أو يهتم بأمره، أو يعمل على نشر آثاره، لا من رجال السياسة، ولا من رجال الأدب. اللهم إلا فذلكات صغيرة لا تجزئ ولا تبين!.

ولقد كنا نظن أن مرد ذلك كله إلى طغيان الاحتلال الذي جثم على صدر البلاد سبعين سنة كاملة لأنه كان من كبار زعماء الثورة العربية الذين كان الناس يخشون ذكرهم ويخافون أن يدرسوا تاريخهم أو يشيدوا بعظمتهم؛ وإنه عندما يندك صرح هذا الطغيان وتنكس أعلامه يأنى لنا أن نرفع عنه تراب الإهمال، ونضعه في مكانه (السامي) بين عظماء الرجال. ولكن وا أسفا! فإنا مازلنا مفرطين في جنبه، جاحدين لفضله.

وإنا بكلمتنا هذه التي نرسلها اليوم لا نريد أن نكشف فيها عن جوانب هذا الرجل السياسة أو الحربية لأن هذا مما يجب على غيرنا أن يؤديه له. وكذلك لا تحاول أن ندرس نواحيه الأدبية فأنها تحتاج إلى كتاب يرأسه، وهذه الدراسة ولا ريب دين كبير في عنق كل من يتصدى لدرس حياة الأدب العربي في عصرنا الحديث. وإنما همنا مما نكتب أن نأتي بذور من تاريخه الأدبي نستطرد منه إلى ما نحن بسبيله من المطالبة يطبع كل ما ترك لنا من آثار أدبية جليلة يقضي الواجب أن نحرص عليها، ونعمل على نشرها، ليتنفع الأدب وأهله بها. ونحن إذا بلغنا هذه الغاية نكون قد أحسنا إليه غاية الإحسان، وحفظنا ذكره عطراً على وجه الزمان. وما حياة العظيم إلا حياة آثاره وما ينتفع الناس من علمه وأعماله، وما عدا ذلك فهو لغو باطل، وعبث ليس وراءه طائل (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

لقد نشأ هذا الرجل في الأدب نشأة عجيبة لا تكاد تتفق لغيره من الأدباء والشعراء إلا في الفلتة والندرة!.

ذلك أنه - على ما ذكر صديقه الشيخ حسين المرصفي أستاذ الأدب العربي بدار العلوم

ص: 22

(كان) في كتاب الجامع (الوسيلة الأدبية)(لم يقرأ كتاباً في فن من فنون العربية - غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله فكان يستمع بعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين أو يقرأ بحضرته حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسب ما تقتضيه المعاني والتعلقات المختلفة فصار يقرأ ولا يكاد بلحن. وسمعته مرة يسكن ياء المنقوص والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك، فقال: هو كذا في قول فلان، وأنشد شعراً لبعض العرب. فقلت تلك ضرورة، وقال علماء العربية إنها غير شاذة. ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقداً شريفاً من خسيسها، واقفا على صوابها وخطئها مدركاً ما كان ينبغي وفق مقام الكلام ومالا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر اللائق بالأمراء، ولشعر الأمراء كابي فراس والشريف الرضي والطغراثي تميز عن شعر الشعراء (هذا هو الأمير الجليل ذو الشرف الأصيل والطبع البالغ نقاؤه، والذهن المتناهي ذكاؤه، محمود سامي باشا البارودي).

هذه هي طريقة الباردوي في دراسته للأدب العربي، وكذلك كانت سبيله في دراسة الأدبين التركي والفارسي، فهو لم يختلف فيهما جميعا إلى معاهد العلم، ولم يجلس إلى الأساتذة والمؤدين في أماكن الدرس، ولا كان يتكئ في حياته على ما يتكئ عليه المغرورون في بلادنا من الشهادات والإجازات العلمية.

ولم يكن أمره كذلك إلا لأنه قد أوتي (من صفاء الفطرة ونقاء الذهن وكمال الاستعداد) ما لم يؤت غيره في عصره. وبهذه العبقرية الفذة استطاع أن يسمو بشاعريته إلى مرتقى استوى فيه على عرش الشعر العربي في العصر الحديث، وأصبح - بلا مراء - نابغة العصر، وإمام الشعر في مصر وغير مصر، وإليه يرجع الفضل في بعث دولة الشعر بعد أن ظلت قرابة ألف عام في جدثها، وعلى طريقة سار كبار شعرائنا أمثال صبري وشوقي وحافظ. ولقد بلغ من نبوغه في الشعر أن زاحم بمنكبه من سبقوه من فحول الشعراء، جاهليين ومخضرمين ومولدين، فعارضهم في كل باب بقصائد عصما، أربى عليهم في أكثرها.

وكان ظهور هذا الشاعر الخنذبذ في عصر لم يكن يهئ لظهور شاعر عظيم مثله، وخرج

ص: 23

من بيئة لا تنبت مثل زرعه، ونشأ بين فئة من الشعراء أمثال الليثي والنجاري والنديم والإبياري، أولئك الذين كان جل همهم، واصفي ما يعصر من قرائحهم أن يأتوا ببيت فيه نكتة بديعية!.

ولا تتعدى أغراضهم المدح والاستجداء، بشعر ليس فيه جديد وليس فيه رواء.

وقضى البارودي ما قضى من حياته بين وطنه ومنفاه الذي لبث فيه أكثر من سبعة عشر عاماً إلى أن انتقل إلى جوار ربه في يوم الاثنين 12 ديسمبر سنة 1904 كما حققناه بمجلة الرسالة الغراء لا كما ذكره الدكتور هيكل في تقديمه لديوان الباردوي من أنه مات في الأيام الأخيرة من ديسمبر سنة 1904!.

وقد خلف لنا ثروة خالدة في الأدب بعضها من شعره وبعضها مما اختار في الشعر والنثر وغادرها إلى رحمة ربه، مخطوطة لم يطبع منها شيء في حياته.

وفي سنة 1901 ظفر أهل الأدب (بمختارات البارودي) في أربعة أجزاء كبيرة من الغرار الكامل تشمل ما اختاره من شعر ثلاثين فحلاً من الشعراء المولدين، ثم ظلوا يرتقبون ظهور ديوانه، ومختاراته في النثر التي سماها (فيد الأوابد) وطال ارتقابهم حتى خرج إليهم في أواخر سنة 1916 جزآن من ديوانه لم يكادوا يطلعون عليها حتى ضاقت صدورهم بما حملا من شرح ممل ثقيل حشد فيه شارحة الشيخ محمود المنصوري أحد علماء الأزهر من اصطلاحات أهل المنطق وقواعد علم الكلام والأصول ما نفرهم منه وزهدهم فيه. وقد عد بعضهم هذا الشرح من المحن التي ألحت على البارودي طوال حياته من فقد أبيه في طفولته وموت زوجه وأولاده ومن نفيه عن أوطانه ثم فقد بصره في آخر حياته. ولم يكن نفور الأدباء إلا لأن الشعر لا يحتمل منطقا ولا فلسفة. وكان مما ثمنوه يومئذ أن لو خرج هذا الديوان عاريا من كل شرح حتى لا يغشى نوره مثل هذا السحاب الثقال - وظلت هذه الأمنية تعتلج في صدورهم حوالي ربع قرن إلى أن حملت إليهم جريدة الأهرام بشرى خفقت لها قلوبهم إذ روت أن ديوان البارودي قد فرغ من تصحيحه ودفع به إلى مطبعة دار الكتب لتتولى طبعة على نفقة وزارة المعارف وأنه سيخرج في ثلاثة أجزاء.

وفي سنة 1940 ظهر الجزء الأول من طبعته الجديدة بشرح لا بأس به وتلاه الجزء الثاني في سنة 1942 يحمل من قصائد الديوان إلى حرف (الكاف) ويدعونا الإنصاف إلى

ص: 24

أن نذكر أن الفضل في ظهور هذين الجزأين إنما يرجع إلى النقراشي رحمه الله وكان وزيراً للمعارف يومئذ ثم انتظرنا ظهور الجزء الثالث ثمانية أعوام كاملة. ولما لم يظهر فيها استصرخنا وزارة المعارف على صفحات جريدة الأهرام لكي تعمل على إخراج الجزء الباقي من هذا الديوان تم تردفه بكتاب (قيد الأوابد) وكان أملنا كبيراً في تحقيق رغبتنا التي هي رغبة الأدب والأدباء إذ كان يتولى وزارة المعارف حينئذ الدكتور طه حسين عميد الأدب، وخير من يعمل على نشر تراث لغة العرب؛ ولكن يؤسفنا أن نقول إن صرختنا هذه قد ذهبت أدراج الرياح وبقي الديوان إلى اليوم ناقصاً لا يعرف الناس عنه ولا عن كتاب (قيد الأوابد) شيئا.

ومن أجل ذلك رأيت أن أنتهز فرصة الذكرى الثامنة والأربعين لوفاة شاعرنا الكبير - وانقضاء عشرة أعوام كاملة على ظهور الجزء الثاني كانت كافية لأن يعاد طبع الديوان كله فيها طبعة ثانية - فأرسل صيحة أخرى على صفحات مجلة الرسالة الغراء ونرجو أن تبلغ مسامع وزارة المعارف فتصغى إليها وتحقق ما فيها، ولا تذهب هباء كما ذهبت التي سبقتها. ونأمل كذلك من حضرة مدير دار الكتب وهو أديب كبير أن يستمع إليها ويعني بها حتى يرى أهل الأدب بين أيديهم في القريب العاجل ديوان البارودي كاملاً، وكتاب (قيد الأوايد) بالطبع مائلا.

المنصورة

محمود أبو رية

ص: 25

‌ذكرى إحراق القاهرة

في مثل هذا اليوم أرعدت المدافع في القنال ودمرت في لقاهرة

في مثل هذا اليوم أشعلت الخيانة نارها في قلب مصر الثائرة

في مثل هذا اليوم أحرق منزلي وغدوت بين حرائق متناثرة

في مثل هذا اليوم كانت ثورة الشعب الأبي على الذئاب الغادرة

أنا لست أنسي ليلة مجنونة

هو جاء ترقص في اللهيب الأحمر

وأنا أحملق في الفضاء محطماً

حيران أرنو في أسي وتحر

والأفق عربيد اللظى ونجومه

سكرت بأنفاس الدخان الأغبر

والجو مختنق الرؤى ونسيمه

يسرى بخطو واجف متعثر

والنار تحكي للسماء ملاحماً

لبطولة الشعب الذي لم يقهر

والريح تصرخ في الظلام كأنما

ضاقت بلؤم الغاشم المتجبر

نيرون مصر أحالها وأشعلها

ليرقص في اللظى المتسعر

نيرون أوقف ثورة دموية

هبت أعاصيراً على المستعمر

سعد دعبس

ص: 26

‌حياة المازني

المازني والصحافة

(لست صحفياً بالمعنى الصحيح، وإنما أنا رجل كاتب) المازني

للأستاذ محمد محمود حمدان

صلة المازني بالصحافة صلة قديمة ترجع إلى ما قبل اشتغاله بها. فقد كان منذ سنة 1907 يكتب في الصحف التي تخصص جزءاً من صفحاتها للموضوعات الأدبية كالجريدة والمؤيد والدستور. وهذه الأخيرة هي الصحيفة التي كان يصدرها في ذلك الحين الأستاذ محمد فريد وجدي ويشترك في تحريرها الأستاذ العقاد. وعلى صفحات الدستور وعن طريقه تعارف المازني والعقاد فتلازما من بعد واقترن اسماهما وتوطدت بينهما صداقة سوف يعتز بها التاريخ الأدبي ما ذكرت صداقات الأدباء.

وفي سنة 1911 أصدر الأستاذ الشيخ عبد الرحمن البرقوقي مجلة (البيان) فتعهدها نخبة من الأدباء الناشئين في ذلك الجيل أمثال السباعي والمازني والعقاد وشكري. ونشر بها المازني فصولاً في الأدب والنقد ضمنها بعد ذلك أول كتاب صدر له وهو كتاب (الشعر، غاياته ووسائطه)(1915)، كما بدأ فيها ترجمة كتاب التربية الطبيعية أو إميل للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. وتوقفت البيان عن الصدور فتحولت تلك المدرسة الأدبية إلى صحيفة (السفور) التي كان يصدرها الأستاذ عبد الحميد حمدي على عهد الحرب الكبرى.

أما بدء اشتغال المازني بالصحافة بعد اعتزاله التدريس فقد كان حين دعاه الأستاذ عبد القادر حمرة، عقب الثورة، لمعاونته في تحرير صحيفة (الأهالي) وكانت تصدر بالإسكندرية، وكان المازني مريضاً متلف العصاب من اثر التجربة النفسية التي امتحن بها في ذلك الصدر من حياته والتي أشرنا إليها في الفصل السابق، فاشترط أن تكون مشاركته إلى حين.

وفي تلك المرحلة الباكرة من مراحل الحياة السياسية في مصر، كانت الصحف أكثر اهتماماً وعناية بالآراء والأفكار منها بالحوادث والأخبار، فكان طابعها الأغلب وأكبر اعتمادها على المقالة. وكان ذلك أقرب إلى طبيعة الكاتب في المازني، فلا جرم استطاع أن

ص: 27

يلي حاجتها ويساير اتجاهها، متمشياً مع طبيعته محتفظاً بخصائصه، غير متكلف ما يعدل به عن مذهب الحرية والاختيار.

وكان المازني ممن شاركوا في هذا المجال وبرزوا فيه. ولفت ذلك نظر الأستاذ أمين الرافعي إليه، فدعاه إلى مشاركته في تحرير صحيفة (الأخبار) وهي إذ ذاك من كبربات الصحف الوطنية وأعلاها صوتاً، فعمل بها المازني سنوات، وفيها توطدت شهرته الصحفية، حتى ليمكن أن تعد تلك الفترة بداية التاريخ الصحفي في حياة المازني الكاتب الأديب. وفي الأخبار كان المازني ينشر إلى جانب مقالاته السياسية اليومية فصولاً أسبوعية في الأدب والنقد، ومنها الفصول التي جمعها بعد ذلك في كتابيه حصاد الهشيم وقبض الريح. وظلت هذه عادته في أغلب الصحف التي عمل بها.

وعمل المازني بعد ذلك في صحف شتى لا يعنينا هنا أن نحصيها في جملتها. واضطلع فترة رياسة التحرير في صحيفة (السياسة) تعرض أثناءها لما يتعرض له رؤساء التحرير المسئولون، فقد قدم إلى المحاكمة واستدعى للتحقيق معه غير مرة. في فترة تعطيل السياسة على عهد الوزارة الصدقية الأولى أصدر المازني بالاشتراك مع الأستاذين الدكتور محمد حسن هيكل ومحمد عبد الله عنان كتاب (السياسية المصرية وانقلاب الدستوري) في نقد سياسة ذلك العهد.

وقد حفلت حياة المازني الصحيفة في شتى مراحلها بالتجارب والأحداث، وكانت بعض هذه التجارب خليقة أن تعدل به عن وجهته وتحمله على الفرار بنفسه من الصحافة، ولكنه ظل صامداً إلى النهاية كما تعود أن يصمد في كل ميدان، وتغلب على متاعب المهنة كما تغلب على متاعب الحياة. ويروي المازني أنه كاد يتعرض يوماً للنفي بسبب مقال. وخلاصة الحادث أنه في بعض الأعوام كتب سلسلة مقالات عنيفة في الأخبار، يهاجم فيها الوزارة القائمة آنذاك. وكان من المعارضين لها. وحدث أن وقعت جريمة وحشية اعتبر الكتاب المعارضون مسئولين أدبيا عنها. وعلم بذلك الأستاذ أمين الرافعي فدعا إليه المازني وأخبره أن الوزارة قرت نفيه، وأن الأوفق أن يسافر إلى سويسرا حيث يراسل الأخبار من هناك. ويقول المازني:(أعددت حقائبي وأخبرت أمي وطمأنتها، وبت مؤرقاً طول الليل أنتظر أمر النفي وتنفيذه، وإذا بالوزارة تستقبل في فحمة الليل. . فنجونا ولما نكد!).

ص: 28

ومن طرائف المازني في الصحافة أنه اتفق يوماً مع صديق له من كبار رجال وزارة المعارف على أن يبعث إليه بمقالات في نقد أعمال هذه الوزارة، وكان المازني يعارض الحكم القائم، فكان هذا الصديق يرسل المقال إلى المازني فيحمله إلى بيته وينسخه بيده ويحرق الأصل اتقاء لعواقب التفتيش. ويقول المازني وهو يروي هذه الحادثة (قامت القيامة في وزارة المعارف، وانطلق بعض رجالها يسألون ويستخبرون ليهتدوا إلى كاتب هذه المقالات المزعجة، واستدرج بعضهم بعض العمال البسطاء، فعلموا أن المقالات بخطى، فلم يستغرب أحد أن أكون أنا الكاتب. وكنت في ذلك الحين أسكن حي الإمام الشافعي، ولي فيه أقارب وأصهار كثيرون، ومن بينهم شيخ الإمامين السبق المرحوم السيد أحمد محسن، فاتفف ذات ليلة أن كنت عائداً إلى بيتي، فإذا كل من يلقاني في طريقي يقول إن الشيخ يسأل عنك فذهب إلى بيته فلم أجده. وفي الصباح جاءني الخادم يقول إن الشيخ ينتظرني لأنزل معه في مركبته، فعرجت عليه وركبنا معا. وسألته عن الخبر، وكنا في رمضان، فقال: يا شيخ، حرام عليك! الرجل زارني أمس بعد الإفطار بربع ساعة، فهو إما غير صائم، أو هو لم يهنأ بطعام، وكل هذا من تحت رأسك! فاستزدته من البيان فقال: إن الوزير يعرف أنك كاتب هذه المقالات التي أقضت مضجعه، وهو مستعد أن يستصدر قرارا في الحال من مجلس الوزراء بإعادتك إلى الخدمة، وفي مثل الدرجة التي فيها أحسن زملائك حالا، وأن يحسب لك في معاشك المدة التي قضيتها خارج الحكومة. فضحكت وقلت: هبني كاتب هذه المقالات، فهل تكون الرشوة على هذه الصورة علناً، وعلى مرأى ومسمع من الخلق جميعاً؟ فقال لا تكن مغفلاً! ما خير هذه الصحافة؟ إن أسرتك كبيرة ونفقاتك كثيرة ولا اطمئنان على الرزق في الصحافة، فعد إلى عملك واستقر واحمد ربنا على الفرصة التي أتيحت لك. فقلت له: يا سيدي الشيخ، إن لكل ذمة ثمنها، ولا أحسبني فوق الرشوة إذا بلغت حد الإغراء، ولكنه ما من ذمة خربة تقبل الرشوة علنا ونهارا وجهارا على هذا النحو. ماذا يقول الناس؟ في المساء يقرءون الأخبار فإذا فيها مقال في نقد الوزارة، ثم يصبحون فإذا أنا موظف كبير في وزارة المعارف!).

ثم كان المازني في سنواته الأخيرة يعمل في أكثر من صحيفة، ويكتب إلى جانب ذلك للصحف التي تقترح عليه موضوعات الكتابة ولا تقيده بالناحية السياسية وحدها. وقد عد

ص: 29

البعض من مآخذه أنه جمع بين صحف تتعارض في السياسة والمبدأ. أما هو فما كانت رسالة الصحافة لتختلف عنده بين صحيفة وأخرى، وما كانت تعنيه الحزبية على الإطلاق. وقد ظل طيلة اشتغاله بالصحافة مستقلا برأيه، بل كان المازني ربما كتب معارضا لرأي الحزب الذي يعمل في صحيفته. فهو يؤيد ما يعتقده صوابا ويعارض ما يراه مخالفا للصواب. وكان حكمه على الأعمال لا على الأشخاص. فلم يمنعه تقدير لزعم كسعد زغلول من معارضة سياسته، ولم تحل معارضته العنيفة لسياسة صدقي دون الاعتراف بكفايته وعبقريته. وفي حياة المازني الصحفية، وهي طويلة، لم تجتذبه المساجلات والمعارك التي كثيراً مأثور بين الصحف، وقلما عنى بالخوض فيها. ولا مراء في أن المازني كان، في بعض العهود، معارضا شديد المعارضة، ولكنه لم يكن يخرج في معارضته عن حد النقد النزيه والإرشاد والتوجيه.

وعلى الرغم من الصلة القوية بين الصحافة والسياسة، كانت الكتابة الصحفية وحدها حد المازني من المعترك السياسي، فقد نأى بنفسه عنه، وكان مستعداً حتى لترك الصحافة لو أنها كلفته النزول إليه.

ولقد فوتح في أمر ترشيحه للنيابة فرفض الفكرة ولم يأسف على رفضها، بل لقد رفض أن يتقدم لانتخابات الرياسة في نقابة الصحفيين برغم إلحاح زملائه عليه. وقد اختير في بعض السنين وكيلا لها وما أحسبه رضي بهذا الاختيار إلا لأنه قدر أنه مستطيع أن يخدم به الصحافة، ولأن المنصب في ذاته لا خطر له في غير دائرته المحدودة وهي دائرة النقابة.

وقد طال اشتغال المازني بالصحافة ولم يكن صحفيا مع ذلك، أو هو كان صحفياً في حدود خاصة ونطاق لا يتعداه. فقد كانت وظيفته الأصلية وهوى نفسه الكتابة لا الصحافة. وهو يقدم لنا في أحد فصوله كتابه الساخر الممتع (صندوق الدنيا) صورة وصفية لصحفي، يقول في ختامها على لسان رئيس التحرير:(يا صاحبي إنك كاتب لبق يسعك مالا يسع فرقة بآسرها من الكتاب حين تجلس إلى مكتبك، ولكنك حين تلقي الناس لا تعود صالحا لشيء أو قادر على شيء. فاذهب إلى مكتبك ولا تزايله فما نستطيع أن نخلقك خلقا جديداً!) وأكبر الظن أن المازني كان يصدر في بعض جوانب هذه الصورة عن شعوره الشخصي، وأنه

ص: 30

كان يصور نفسه هو.

ونورد هنا حادثة لعلها فريدة في حياة المازني الصحفي نرويها لدلالتها على ما ذكرناه، ولما فيها من فكاهة وطرافة في آن.

ذلك أنه عقب عودة سعد من منفاه، وفي صباح اليوم التالي لوصوله إلى القاهرة، كان المازني واقفا في محطة الترام في الإمام الشافعي حيث كان يسكن، فمر به شيخ اللحادين وهم الذين يتولون حفر المقابر وحراستها والقيام عليها، فرآه وأفضى إليه بأن سعداً آت لزيارة مقابر الشهداء. فبعث المازني من جاءه بقلم وورق، ووقف ينتظر، وبعد قليل أقبل سعد في سيارته ومعه بعض صحبه في سيارة أخرى فأشار إليها المازني فحملته معهم. وزار سعد مقابر الشهداء وألقى كلمة وجيزة دونها المازني، ثم قصد إلى قبر شهيد قبطي وألقى كلمة أخرى دونها المازني أيضا. ولفت بعض الحاضرين نظر سعد إلى المازني فحياه.

ورجع المازني إلى الأخبار، واعتذر للأستاذ أمين الرافعي من تأخره، فضحك، وقال إن سعدا أخبره بالتلفون أن المازني أبرع صحفي في العالم، لأنه عرف أن سعدا سيزور مقابر الشهداء، مع أن الذين رافقوه ما كانوا يعرفون هذا!. . قال الأستاذ أمين الرافعي (وطبعا وافقته ولم أكشف له عن سر هذه البراعة!) أي أنه لم يقل له إن المازني يسكن بين المقابر!.

وبعد، فقد غبرت على المازني في الصحافة سنوات طويلات المدد، كانت كلها سنوات كفاح وجلاد بعياً به جبابرة الرجال. وأدركه منها بلاء لا يقاس إلى جانبه بلاء التدريس. وعجمت عوده فألفته لاهشاً ولا رخواً، وامتحنت معدنه فإذا هو معدن القوة الكامنة في قرار المحيط أو الثورة القابعة في كون الصحراء. ولم تكن طريق المازني في الصحافة سهلة معبدة، وكان بطبيعته المتمهلة الدؤوب لا يحسن الركض ولا يدين به، فهو لم يصل إلى مكانته إلا خطوة خطوة وفي هينة وأناة وإلا بعد طول التوقل والإصعاد. وكانت تزداد مع الأيام أعباؤه ومتاعبه فلا يزداد إلا فرط جلد واحتمال، أو فرط سخرية واستخفاف. وقضى المازني الفترة الأخيرة من حياته على رغم الشيخوخة الزاحفة لا يترفق بنفسه ولا يرحم كبرته فكان أكثر الكتاب الصحفيين إنتاجا. واستكتبته الصحف على اختلاف ألوانها

ص: 31

ونزعاتها فلبى رغباتها وإن لم ينزل إلى مستواها، بل كان يلقاها في منتصف الطريق، ويحاول التوفيق بين طبيعته الفنية وبين الاتجاه الغالب على الصحافة وهو اتجاه القراءة السريعة الخفيفة. ولقد قال في هذا إن جانب الصحفي طغى على جانب الأديب فيه. ولا مراء في أن السرعة كان لها أثرها، أو جناينها على بعض إنتاجه الأخير. على أنه أصح من ذلك أن يقال إنها جناية الصحافة في عمومها على الأدب في عموم. ولم يكن المازني ضحيتها وحده، فقد شملت الجيل بأسره، وأدركت طوائف القراء كما أدركت طائفة الكتاب.

محمد محمود حمدان

ص: 32

‌كوليرج

للكاتب الناقد أي. تي. كيلركوج

بقلم الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

من العسير علينا أن نكتب حياة كوليرج، أو بمعنى آخر أن هذا العسر سيزداد ويشتد باطراد كلما حاولنا التغلغل في ماهية هذه الحياة، وذلك بسبب نكسات الإرادة التي أصيب بها وعللها المختلفة ومعايبها المتعددة، وهذه الحقائق التي يتطلب منا البحث النزيه ذكرها وتسجيلها هي التي ستضفي ظلالا داكنة على ذلك الوجود الحي الجميل الذي شهد بعظمته جميع معاصريه؛ ومع ذلك يقتضينا الحق والإنصاف أن نركن إليها حتى نكون قد أدينا واجبنا حق الأداء. زد على ذلك أن هذه السيرة صعبة الإدراك، لأن كثيراً ممن سيطالع دقائقها سينكر سماحه كوليرج ولطفه، وسيقتصر على مآسي حياته الظاهرية ناسيا بذلك أحسن ما فيه، أعني كوليرج الحقيقي، كوليرج المحب الإنساني السمح، الذي سعى جاهدا لمعالجة أدوائه بشغف وحب، والذي كان في شد الشوق لكي يفتح عيون الناس على الجمال الأسنى في براءة وإيمان عميقين، وفي خفر ونزاهة بارزتين. مع أنه تلقى حكم الدينونة القاسية ببرودة (كشخص تافه في وسط البهاء والإشعاع اللذين كانا ينبثقان من ذهنه الوقاد في جلال وسمو).

فقصته لا تثير المزاج ولا تغيظ الطبع وحسب، بل إنها تراوغ الفهم نفسه، فتجعل حتى القارئ الهادئ الرصين في حيرة من أمره، كما حدث لأوديسوس بعد محاولته الثالثة لمعانقته والدته في (الظلال). لأن العناية الربانية كما يقول دي كونزي (وضعت أمامه احتياطا دائمياً من المشاق في طريق حياته) ولو تتبعنا أثر الرجل والتقينا بزرافات من أصدقائه وسألنا أي رجل منهم لكان جوابه:(كوليرج؟ ذلك الصديق المدهش؟ لقد كان هنا قبل مدة وقد ساعدناه في سفره قليلاً. لقد أخذ المرحوم جيمس كامبل على نفسه أن يكتب حياة كوليرج بحماسة وصدق، وقد أدى هذا الواجب خير أداء وبنجاح تام (وعلى القارئ أن يرجع إلى كتابه (حياة كوليرج) ليرى البرهان بعينه) ولم يكتف كامبل بذلك بل أنه أكرم ذكرى الشاعر (في هذا الجانب الوثني من الكون). ومع ذلك، فلو أنا اقتضينا أثر قصته الملخصة خطو خطوة لرأينا ازدياد الشكوك الحائمة في ذهن الكاتب مما اضطره أن يعلن

ص: 33

في النهاية قوله: (إنني إن كنت لم أقدم - فيما اعتقد حقا - إلى ما يؤول - على العموم - إلى ما يرفع من قدر كوليرج في عيون الناس فإنني أعترف بجريرتي بشعور الدهشة وخيبة الأمل) ويستطرد المؤلف المذكور قائلاً: (إنني على يقين بأن هذا الهيكل المقدس، على ما فيه من أنقاض ممتزجة بالرخام أبهى مما يمكن أن نشيده نحن من هذه الأحجار المتناثرة هنا وهناك في الحقول والطرقات). لقد كان كوليرج تبريرا أمينا صادقا لوجوده. فالرجال والنساء الذين لم يشاركوه في قصوره ومعايبه لم يتوددوا إليه ولم يتقربوا منه فقط، بل أنهم أحبوه وأكرموه واتبعوه مسرورين. فقوة الجاذبية هذه هي التي يمكن اعتبارها شاملة عامة - على اختلاف الطبائع والمشارب التي كانت تؤثر فيها وتسحرها - هي وحدها الدليل القاطع والبرهان الناصع على القابليات الفريدة التي كان يمتاز بها. لنا أن نقرأ ونعيد قراءة حياته ولكننا لا يمكن - مع كل هذا - أن نعرفه كما عرفه آل (لامب) أو آل (وردذ ورث) أو (بول) أو (هوكمان فرير) أو (جلمان) أو (غرين) لأن البغض أعمى كالحب سواء بسواء. ولكن الصداقة لها عيون مفتحة وشهادتها كفيلة بإقناعنا إن نحن استعملناها بحكمة لتصحيح انطباعاتنا وآرائنا).

ولد صموئيل تايلور كوليرج في الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 1772 في مقاطعة (أوتري في ديفون شاير) وكان أصغر تسعة أبناء من زواج ثان. وكان والده المحترم جون كوليرج رجلا شفيقا وعالما متتبعا منقبا شارد الذهن معروفا بعدم واقعيته. وقد نشر عدة كتب بعد أن جمع اشتراكات من قرائه مقدما، كما حاول إصلاح قواعد اللغة اللاتينية. وقد توفي في سنة 1781 وبعد انقضاء عدة أشهر تمكن صموئيل الصغير من الحصول على القبول في كلمة (كرايست). وقد صور شارلس لامب هذه المدرسة وكوليرج تلك الأيام تصويراً خالداً. وقد كان كوليرج أكبر من زميله تشالي بسنتين، ومع ذلك فقد بزه في مضمار الدراسة وسبقه في سلم التقدم وحصل على درجة أعلى منه بعدة أشهر. ففي مقالة تشارلس الآنفة الذكر والموسومة بـ (كلية كرايست قبل خمس وثلاثين سنة) نجد تلك الأساليب البارعة والنكت اللطيفة التي تحب غلينا تشارلس، نجدها باعترافه الصريح تخلف مقالته (ذكريات كلية كرايست) وتشير من طرف خفي إلى ذلك الشاب الذي فقد حنان والديه وأهله. فيقول: (كانت صبيا فقيرا لا صديق له. فأهلي ومن يجب عليه أن

ص: 34

يعتني بي بعيدون عني. أما معارفهم في المدينة الكبيرة والذين اعتمد عليهم أهلي وأحسنوا فيهم الظن، ولكن هؤلاء المعارف خيبوا ظن أهلي، لأنهم تخلوا عني بعد أن تنازلوا واستقبلوني في أول زيارة لهم لاستثقالهم لزيارتي في العطل ظنا منهم أن زيارتي هذه ستتكرر كثيراً. وهكذا بعد لأي شعرت بالوحدة القاتلة تلفني بأذيالها بين أترابي الكثيرين يا للظلم! كيف يمكن أن يحول حائل بين طفل فقير وبين بيته الذي ترعرع فيه؟ وما أشد الحنان الذي كان يساورني تجاه ذلك البيت وتلك الحيرة في تلك السنوات العجاف! وكيف أن بلدتي الأصيلة تعاودني في أحلامي بكنيستها وأشجارها ووجوهها! وكيف أني كنت أستيقظ باكيا وفي قلبي ألم ممض وشوق جامع لرؤية (كالن) الجميلة في (ولتشاير).

وطبيعي أن يكون الصبي هو كوليرج بالذات و (فالن) الجميلة هي (أوتري) في ديفون ولكن بصورة مقنعة، ومن الواضح الحلي أن كوليرج شعر بهذه الوحدة: لأن طبيعة مرهفة الإحساس كطبيعة لا يمكن إلا أن تشعر بها بكل حرارة وبكل قسوة وقد ذكر ذلك بجزع مروع في قصيدته (البرد في منتصف الليل) كما أنه وعد ابنه بحياة أسعد. ومن الحق أن نقول إنه لم يشعر بذلك طوال حياته. لأن رسائله الأولى تتضمن بع التلميحات والإشارات إلى الأمور العرضية والتافهة، ثم نرى لهجة هذه الرسائل تتغير تبعاً لنموه الروحي والفكري فتتحول إلى ذكر أشياء أخرى. وقد قال في سياق إحدى رسائله:(أرجو المعذرة إن ذكرتكم بأن عطلتنا ستبدأ في الأسبوع المقبل، وإنني سأخرج للنزهة لعدة أيام، فاطلب أن ترسلوا لي سروالا جديداً، لأن ذلك سيكون شيئاً لائقا بمظهري وخصوصا لأنني مضطر إلى الظهور أمام النساء). وأصبح في الوقت الملائم إغريقياً، فوقع في أحبولة الحب ونظم شعرا صبيانيا في هذا المعنى. ولو أن الغرام وما تبعه من نظم الشعر، لم يكن ذا شأن بذكر في عنفوان شبابه، إلا أنه قدر لكل هذا أن يكون له أعظم التأثير في الفترة التي تلت هذه الحقبة الجامحة من حياته. أما الفتاة التي علق بها والتي أوحت بكل هذا فكانت تدعى الآنسة (ماري ايفانز) وهي ابنة أرمل وأخت أحد أتراب كوليرج الذي كان يعتز بصداقته كثيراً.

يقول كوليرج متذكراً تلك الأيام (أواه! ما أجمل ساعات الفردوس بين السادسة عشر والتاسعة عشر من سني العمر، حيث كان (ألن)(تلميذ مدرسة) وأنا نحرس إيفانز في

ص: 35

طريقها إلى البيت في أمسيات السبت، وقد كانت في تلك الأيام تشتغل في معمل للقبعات النسوية. . . وكنا معتادين أن نحمل إلى هناك في صبيحة كل يوم من أيام الصيف باقات الأزهار الناضرة. ولكن الوحي لم يأت كله من ماري، بل أن ابنه ممرضة المدرسة شاركتها في ذلك، وقد وجه شاعرنا قصدته (جنيفياف) إليها. ويقول كامبل في ذلك ما يلي:(كانت العادة المتبعة في ذلك الوقت تجيز للطلبة المتقدمين أن يرتبطوا بأولئك البنات الصغيرات ارتباطاً غرامياً). أما ماري فقد أعانت (وليم لسل باولز) على إيقاظ القابلية الشعرية لديه، كما يشرح لنا ذام الفصل الأول من كتاب (البيوغرافية الأدبية)، وقد وجد النقاد على اختلافهم موضعاً للدهشة والاستغراب في كل هذا، إلا أننا لا نجب أن ننظر إلى ذلك بشيء من هذا القبيل.

ولنبدأ الآن بباولز، فإن أغانيه على علاتها ليست رديئة، وأكثر من ذلك، فهي تشير ولو بصورة شاحبة إلى الفجر الذي انبثق في حياة الشعر الإنجليزي. ولا شك أنه لو حدث أن وقع في يدي كوليرج شيء من شعر (بليك) أو (كاولي) أو (برنز)، وهو على عتبة السنة السابعة عشرة من عمره، لتبدلت قصة حياته ولكان تحوله أجمل إيقاعا وأحسن نتيجة. ولكن حدث في سنة 1790 أو حوالي ذلك أن ظهرت إلى الوجود الحركة الشعرية الجديدة، وقد سرت عدوى هذه الحركة سرياناً هائلا جازفاً، وكان إقبال الشباب عليها شديداً جداً، ولم يكن ينظر الشباب إلى مصدر ذلك قطعاً، بل إنه التمس فيها عوناً له حيرته التي كان يتخبط فيها، ولو أن كوليرج استمد فكرته من مصدر قوي آخر لتغيرت نتائج تفكيره ولأصبحت حياته أكثر تهوراً وأشد عنفاً وغلياناً. أما وقد وقع الأمر كما كان، فان (الأغاني) البريئة ومجتمع عائلة إيفانز تعاونتا على إبعاده من الميتافيزيقا واللاهوت اللذين أمداه بغذائه الروحي في وقت مبكر من حياته، وكان هذا الأبعاد رقيقاً لطيفاً (بحيث لم يشعر به). وقد اعترف كوليرج بفضل باولز لأنه كما يقول (أدى له فضلاً لا يوازيه إلا فضل الكتاب المقدس)، ومع ذلك فان محاولاته في نظم الشعر كما اعترف بذلك نفسه في استكانة واستحياء لم تخرج من طوق ما تعارف عليه الأقدمون من أوزان ومقاييس وبحور. وفي كانون الثاني (يناير) سنة 1791 وافقت لجنة الوكلاء بكلية (كرايست) على السماح له بالالتحاق بجامعة كوليرج، وكانت بداية عمله هناك ودراسته جيد جداً بحيث أنه نال وساماً

ص: 36

ذهبياً في سنة 1792 لقصيدته الرائعة في ذم تجارة الرقيق، وكاد أن ينال زمالة (كرافن) لولا تعسف بور سون (أحد المحكمين) ضده. وفي تشرين الثاني سنة 1793 ترك كوليرج كيمبردج إما خوفاً من تراكم ديونه أو من أثر نوبة عصبية شديدة أصابته بسبب رفض ماري إيفانز لالتماساته. ومع ذلك يشك الآن في أهمية هذين السببين في تقرير مصيره. وعلى كل حال فقد اتجه كوليرج إلى لندن لينخرط في الثاني من كانون الأول في سلك الجيش) فيصبح أحد جنود الفرقة الخامسة عشرة للفرسان والمعروفة بفرقة (دراكون) الملكية تحت اسم مستعار هو (سايلاس تومكن كومربيك) وربما كان قصير القامة بديناً، أبعد ما يكون عن الرشاقة: وفي نيسان 1794 تمكن أقاربه من الحصول على ترخيص بتسريحه من الجيش بعد مشقة شديدة، وبعد ذلك أعيد قبوله في كلية (كرايست) مرة أخرى.

البقية في العدد القادم

يوسف عبد المسيح ثروت

ص: 37

‌خاطرة

نداء (الرسالة)

للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر

يا رسالة الشرق!

أشرقت في أفق المعرفة منذ عشرين عاما؛ فبهرت الأبصار ولم يأخذك البهر، وحددت المثل العليا، فسمت الخلائق ثم تسامت عن ممالأة الخلق!.

انطوى تحت لوائك الأعلام، فحملوا المشاعل ليشعلوا النفوس الخالية، ويحفزوا الهمم الكامية، ويرسموا الخطط القويمة، ويصوروا صور الإنسانية الفاضلة!.

والتزمت خطة الإباء المتزن، والشمم المعتز، والتحفظ المتئد، والتطلع السامق، والترفع العف!.

يا رسالة الفكر!.

أرخت حياة الأدب في صفحاتك، وسجلت نتاج الأفكار تسجيل التخليد، ووصلت ما بين الشرق المتحفظ والغرب المنطلق، فتلاقت في ميدانك ألوان ثقافات العصر في الفكر الجديدة، والأسلوب المبتكر، والأداء السليم، والنقد المستقيم، واللمعة الوضاءة!.

يا رسالة الوجدان!.

أرسلت حداء القلوب في تناغيم العاطفة، وعاطفت بين المشاعر الإنسانية، فتفتح الوجدان عن كمه، ليلقط قطرات الصبابة بعد أن انبعثت متعصرة من شئون الشجون!.

كان شعرك صورة حية لشعورك في صفاء الديباجة، ونقاء الألفاظ، ومتانة الرصف، وصدق الوصف، وجمال المأخذ!.

يا رسالة الروح!.

وجهت النفوس إلى الخالق في إيحاء الخشوع، وتواضع الدماثة، وخلوص النية، ولطف السجية، وجلال الإشارة، وبلاغة العبارة، حتى حلقت الأرواح معك، وجاوبت أصداء هتفاتك، فعرفت بعد أن اغترفت، وهامت بعد أن ألهمت!.

يا رسالة الضمير!.

عاتبت الغفلة، وحاسبت الغفوة حتى تيقظ الوسن، وتلفت اللاهي؛ ثم صورت ما يجب أن

ص: 38

تكون عليه النفس الفاضلة فتنصت إلى الصوت الخفي حين يناديها، لتزن الأمور وفق ندائه وتترك المباغي الذاهبة لتحيا في ظلال النزاهة!.

يا رسالة الإنسانية!

لا أريد أن أمرق إليك بالملق، أو استنديك بالحمد؛ فأنت في غنية عن ملقى وحمدي، ولكني أريد أن تعايشي الناس في نطاق حياتهم، لأنك صورة جليلة للإنسانية السامية!.

صوري النقائص، وهاتي الصورة (العارية) لتكشفي عن سوءة الرذيلة!.

يا رسالة المثالية!

أنت حصيفة مجربة، تزنين الأمور في ميزان الخبرة، لكنك تبعدين عن المبذلة، وتتحاشين التدلي، وتؤثرين السلامة، والحياة غافلة في ملهاة الشهوة؛ فصوري التلهي بالتشهي، وقاربي بين التدلي والتسلي!.

إنك مجدة في جديد؛ فهلا سخرت من الهزل في سخريتك؟! الزمن للأضاحيك، وأنت ذات بسمة حكيمة؛ فاجعلي من البسمة حكمة، وروضي تلك الطباع النافرة على التأدب بأدبك!.

يا رسالة الخاصة!

أنت في عهدك الجديد السعيد تنزعين إلى منزع التحرر؛ وتنطلقين مع الحياة في تحفيظ اعتزازك، وتصون مكانك، وتوقر مهابتك؛ فالقلوب هتافة معك، والأرواح متصلة بل!.

يا رسالة الرسالات!

إليك نفوسنا نزاعة إلى رحابك، وخواطرنا متسامية في تساميك؛ فأشرقي أشرقي؛ لتبعثي النور مع البعث الجديد!.

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 39

‌من هنا ومن هناك

مشروع هندسي لتحسين المواصلات النهرية في روسيا

أتمت الحكومة الروسية أكبر مشروع هندسي في تاريخ المواصلات النهرية وهو ربط نهري الفولجا والرون بقنال مائي طوله 62 ميلا يجاوره ثلاثة خزانات رئيسية ذات حجم هائل. وبربط أكبر أنهار الاتحاد السوفييتي بعضها ببعض استطاعت روسيا السوفيتية أن تنشئ في دخيلتها بحراً جديداً تعج فيه السفن وسائر أنواع المواصلات المائية الحديثة. وقد اعترفت الأوساط الهندسية خارج الاتحاد السوفييتي بأن هذا المشروع هو من أدق المشروعات الهندسية وأعظمها في تاريخ المواصلات المائية.

وقد أنفقت السلطات الروسية على هذا المشروع وقتا وجهداً ومالا كثيرا، ولكن الفائدة العملية التي ستتولد عن هذا المشروع تفوق بكثير ما أنفقت عليه من مال وجهد.

وقد نصبت إدارة هذا المشروع ستة محركات كهربائية هائلة في كل محطة من محطات المضخات الثلاث التي أنشئت على مجرى القنال الذي ربط النهرين، وفي كل مضخة عدد من آلات القوة الدافعة تسير بتيار قوته 4400 كيلو واط يربط مياه النهرين عبر القنال الجديد في أنبوبة فولاذية قطرها عشرة أقدام تتدفق مياهها إلى مجرى القنال لتحفظ عمقه المائي على نحو ما تقتضيه حمولة السفن التجارية التي أخذت تستعمل القنال لتنقل البضائع والركاب من المناطق الأهلة بالسكان في حوض نهر الأوبي إلى المناطق البعيدة التي تجاور نهر الرون.

وقد احتفلت السلطات السوفيتية بافتتاح القنال الجديد احتفالا كبيرا رددته ألينه الرأي العام ونشرات الدعاية والأنباء التي تبصها السفارات والبعثات السياسية الروسية في العالم الخارجي.

وفاة جون ديوي

توفي في أول يونيه الماضي (الدكتور جون ديوي) أحد أعلام الفكر الأمريكي المعاصر وعميد الفلسفة والتربية (البرجماتزمية) التي تتميز بها الثقافة الأمريكية عن غيرها من ثقافات الغرب.

وقد بلغ الدكتور ديوي من العمر 92 عاما وأنتج ما يزيد على 300 مؤلف من مختلف

ص: 40

الأحجام وفي مختلف الموضوعات المتعلقة بالفلسفة والتربية والتوجيه السياسي وعلم النفس والاجتماع.

ولعل أبرز ما ساهم به الدكتور ديوي في حاضر الثقافة الأمريكية هو نظريته في التربية العملية التي أصبحت الآن من مميزات أسلوب التربية والتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد جاهد هذا المربي الأمريكي الكبير في الدعوة إلى نظريته التربوية شارحا للناس بأن العلم المجرد لا ينفع صاحبه إلا إذا رافقه إدراك عملي لوسائل تطبيقه على الحياة اليومية. ولذلك دافع ديوي عن النظرة (البرجماتزمية) للحياة وقال بوجوب تسخير الثقافة المجردة لخدمة الفنون التطبيقية التي تنفع الناس في حياتهم العملية. وقد واجهت هذه النظرية انتقادا لاذعا من قطب أمريكي آخر له مكانته الهامة في بيت المربين الأمريكان هو الدكتور روبرت هاتشينز رئيس جامعة شيكاغو. ووصف الدكتور هاتشنز نظرية ديوي بأنها (رجعية تتعارض مع الثقافة السليمة) وقال هاتشنز كذلك بأننا يجب أن نبتذل العلم والثقافة الرفيعة لكي نساعد على جعل المدرسة مصنعا لإخراج التلاميذ. فللثقافة الرفيعة أهميتها في حياة الشعوب حتى ولو كانت مقصورة على فئة مختارة من الناس اختارت التخصص في العلم المجرد. فإذا عجزنا عن جعل كل طالب في كل مدرسة يتذوق العلم المجرد والمتعة الثقافية العالية فلا أقل من أن نوفر هذه الفرص لأولئك النفر من الطلبة الذين يؤهلهم استعدادهم الخاص لتذوقها. فمثل هذا النفر المسؤول عن مستقبل الحضارة والثقافة في كل شعب من الشعوب.

(ت. س. اليوت) وشعره في سن الشباب

نشر الأستاذ (كارلوس بيكر) أستاذ الأدب الحديث في جامعة برنستون الشهرية بحثا طريفا عن أمير الشعر الإنكليزي المعاصر (ت. س. اليوت) بمناسبة انقضاء 30 عاما على ظهور ملحمته الخالدة (الأرض الخراب).

ويقول الأستاذ ببكر أن شعر اليوت في سن الشباب يتميز بالنقد الاجتماعي اللاذع الذي مهد له السبيل لبناء مدرسته العتيدة في الشعر العالمي المعاصر. فللمستر اليوت مدرسة فكرية هامة لا يفتصر نفوذها على حاضر الشعر الإنجلوسكسوني بل يتعداه إلى أوساط أدبية

ص: 41

أخرى.

وقد ولد اليوت في أمريكا عام 1888، ثم نزح إلى بريطانيا واختارها وطناً له.

وقد اشتهر هذا الشاعر المجود بإنتاجه الأدبي في قصائد من الشعر الطليق واصفا حياة المجتمع التقليدي المحافظ في بوسطن - وهي أشد المدن الأمريكية شبهاً بالمجتمع البريطاني. وقد وزن الشاعر حياة المحافظين من المترفين بميزان الفكر الحر فجاءت قصائده سجلاً لما يعتري هذا المجتمع المترف من جفاف روحي وقلق عاطفي لم تستطع أن تدافع شره أسباب الطمأنينة الاقتصادية وما وفره لهم مركزهم الاجتماعي من رخاء وبحبوحة في العيش.

ثم التفت الشاعر إلى حياة الطبقة التي لم تستطع أن تضمن بحبوحة العيش والطمأنينة الاقتصادية من العمال والمجتمعات الفقيرة التي تعيش على هامش الحياة في المدن الصناعية الكبرى. ووجد اليوت أن هذه الفئة من الناس تعاني أزمات روحية وألواناً من القلق العاطفي ولكنها أزمات أخف حدة بفضل البساطة التي تسود تفكيرهم في شؤون الحياة ومشاكلها. وبين هاتين الفئتين وجد المستر اليوت فئة ثالثة موزعة الأهواء مشوهة الفكر لا ترضى عن حياة الترف وما يصاحبها من ثقافة وتفكير روحي، وترفض جهالة الطبقة العاملة وما يعتريها من جمود عقلي لا يرضي عنه العقل النبيه.

وقد وصف هذا الشاعر نماذج هذه الفئات الثلاث في الحياة اليومية في ديوان له سماه (بروفروك) أصدره في عام 1917 وفي مجموعة من القصائد نشرها عام 1920.

وقد لفت المستر اليوت النظر في تلك المرحلة من فتوته الشعرية إلى بلاغة وصفه للطبقات العاملة في قصائد وجدت جمال التعبير وقوته في وصف زكائب الأقذار والغرف المظلمة القائمة والأثاث المكسر الوسخ. وانفرد اليوت في صياغة هذه المناظر في شاعرية أثبتت أن الشاعر الحق يجد الجمال في المنظر البهيج وفي المناظر والمشاهد التي هي أبعد ما تكون عن البهجة.

وكان شعر اليوت في فترة شبابه مطبوعاً بطابع السخرية والنقد الاجتماعي اللاذع ثم مر الشاعر في فترة نضوج عقي سيطرت على تفكيره سيطرة تامة فجعلته يبحث في تراث الماضي عن علاج لأزمات الساعة ومشكلات الفئات الثلاثة التي يتكون منها المجتمع، ولم

ص: 42

يقتصر اليوت على الشعر في نشر آرائه في هذه الفترة بل عمد إلى النثر. وله عدة كتب تحتوي مقالات نثرية هي من أثمن ما في الأدب الإنجليزي الحديث من نتاج. واعتنق اليوت الكاثوليكية بعد أن كفر بالبروتستانتية التي نشأ عليها لاعتقاده بأن البروتستانتية دين لا يكترث بذخيرة الماضي الروحية ولا يعتني بها عناية الكنيسة الكاثوليكية.

وفي عام 1950 نشر المستر اليوت مسرحية جديدة بعنوان (حفلة كوكتيل) عاوده فيها حنينه إلى النقد والسخرية.

ولا يزال المستر اليوت رعيما لمدرسة الشعر الحديث في العالم الانجلوسكسوني. وهو يقيم في بريطانيا اليوم ويتولى إدارة إحدى كبريات دور النشر البريطانية.

الحياة الأدبية في أمريكا اللاتينية

عالم واسع الأرجاء يطفح بالحياة والثورة الفكرية الجامحة - هذا العالم اللاتيني المؤلف من حوالي 22 دولة ودويلة في أمريكا الجنوبية. ومع ذلك يندر أن نعثر في صحف الأدب والفن على استعراضات للحياة الأدبية والفنية في أمريكا اللاتينية - وكل ما يعلمه الناس عن أبناء الأرجنتين والبرازيل والشيلي وفنزويلا وبيرو وكولومبيا وسواها من الأمم اللاتينية في أمريكا الجنوبية لا يتجاوز الأخبار الصاخبة التي تصاحب الانقلابات العسكرية والسياسية التي أصبحت علما على هذه الدول.

والواقع أن الضجة السياسية في أمريكا اللاتينية تخفى ثورة فكرية جامحة فيها كثير من العناصر التي تصاحب الحياة الفكرية في البلاد الآسيوية.

وقد استعرض أحد الكتاب في الملحق الأدبي لجريدة النيويورك تايمس مؤخراً الحياة الأدبية في هذه الدول اللاتينية فوجد أن من أهم العناصر التي تؤثر في الإنتاج الفني لأرباب القلم في أمريكا اللاتينية عنصرين: الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية وهما كما نرى عنصران لهما شبيه في حاضر الأدب الغربي والآسيوي إجمالا.

وفن القصص في أمريكا الجنوبية فن ضعيف، إلا من قلة ضئيلة يتزعمها القصصي الفينزويلي (رامون دياز سانشيز). وقد أصدر هذا الكاتب قصة هي غاية في الإبداع تعالج حياة العمال الوطنيين في مناطق آبار البترول الفينزويلية التي تحتكرها الشركات الأمريكية. والقصة سجل للتطور النفساني العميق الذي يمر به العامل حين ينتقل من حياة

ص: 43

بدائية تقريبا في الجبال والمراعي إلى ضجيج المؤسسات الصناعية العصرية على نحو ما نشهده في شرقي الجزيرة العربية هذه الأيام. ولهذا الكاتب قصة أخرى تعالج الصراع العنصري بين الزنوج والسكان البيض (في العنصر الإسباني) في المزارع الإقطاعية المنتشرة في أمريكا اللاتينية.

ويبدو أن القارئ في أمريكا اللاتينية يشارك القارئ الغربي في إقباله على كتاب القصة القصيرة. فالأقاصيص رائجة هناك كتابة وقراءة.

وقد انفردت جمهورية الشيلي من بين شقيقاتها الدول اللاتينية الأخرى بأنها قد أبرزت أعظم شاعر في المنطقة كلها. وهو السنيور (جايربيل ميستوال) الذي منح مؤخراً جائزة نوبل للآداب.

ص: 44

‌مُحَاضَرَاتٌ وَمُنَاظرَاتٌ

شكل الدولة في الدستور الجديد

تناظر في هذا الموضوع أربعة من أقطاب الفكر يوم الثلاثاء الأسبق بالجامعة الشعبية، واحتشد لسماعهم بضعة آلاف من الناس كانوا يشتركون في المناظرة بقلوبهم وعواطفهم، إذ الموضوع موضوعهم، ثم هو موضوع الساعة! وقد انعقد إجماعهم - أو كاد - على الموافقة على الرأي القائل بأن تكون الدولة جمهورية، ولهذا فقد كان صاحب الرأي الذي يرى أن تكون الدولة ملكية ضعيفا حرجا، فالجمهورية يعارضه في كل قول، ويثور عليه في كل رأي، وهو لا يتزحزح عن موقفه حتى انتهى كلامه وهو يصيح في الحاضرين (لكم دينكم ولي دين).

وكان الوقت المقسوم لكل من الأربعة المتناظرين نصف ساعة، فالتزموه ولم يعده واحد منهم، وعقب عليهم الدكتور منصور فهمي - ولم يكن له وقت مقسوم - فاستغرق في تعقيبه ساعة وشارك الكثيرون في مناقشة الموضوع، واشتد بالجمهور الحماس، وانهالت الأسئلة من كل صوب على المتناظرين، ولم تنته المناظرة إلا بعد أربع ساعات وكان المحدود لها ساعة ونصف ساعة فقط! وكان سيرها على الوجه الآتي:

نهض الأستاذ محمد على علوية فقال:

لأول مرة نستطيع أن نجتمع لنناقش مثل هذا الموضوع الخطير الذي لم نكن نستطيع أن نمسه - ولو من بعيد - في العهود الماضية، ودلكم هو شعار عهدنا الحاضر، الدولة دولة الجميع، والوطن وطن الجميع، ليس لواحد فيه أكثر مما لأخيه، فلكل أن يبدي رأيه في نظامه ودستوره وقوانينه التي سيؤخذ بها جميع المواطنين على السواء.

ولو ذكرتم التاريخ القديم للإنسانية لوجدتم أن نظم الحكم فيها كانت نظماً أوتوقراطية مسرفة، حيث كان يحكم الشعب فرد واحد لا رأي إلا رأيه ولا هو إلا هواه والشعب قطيع لا يملك من أمر نفسه شيئاً!.

واستمرت الشعوب على هذه الحال أزمانا طويلة، ثم بدأ الوعي يتسرب إليها رويدا رويدا، وأخذت تنفض عن عيونها غبار هذا السبات الطويل، واشتد بها الوعي والإدراك، فطالبت بأن يكون إليها حكم نفسها، وأن تكون - دون سواها - مصدر كل السلطات.

ص: 45

وصوت الشعوب قوي غلاب، لا تثبت أمامه قوة فرد وإن يكن من الجبابرة المردة، فتحقق لها ما طلبت، وصارت الأمم في كل بقاع الأرض - إلا النادر القليل - مصدرا لكل أنواع السلطات في أرضها، وصاحبة الكلمة العليا في تصريف أمور بلادها، ونشأت هذه الكلمة السحرية، وسرت في العالم، وأعني بها كلمة (الديمقراطية) ونتج عنها نظام (الملكية الديمقراطية) ونظام (الجمهورية الديمقراطية) وكلا النظامين. . . كما يبدو من اسمهما. . . مقرون بصفة الديمقراطية ومقيد بها، لتضمن الشعوب بذلك أن تظل صاحبة السلطان.

ولو رجعنا - في مصر - إلى المائة سنة التي مضت فماذا نحن واجدون؟.

نجد أن الحكم كان عندنا إما أوتوقراطياً سافراً أو أوتوقراطياً يسنده شيء اسمه الدستور! نجد أن (عرابي) يطلب إلى (توفيق) - في تواضع - العدل ويطلب إليه البرلمان، فيجيبه هذا الحاكم لمطلق بقولته المشهورة:(كيف تجرءون على هذا وأنتم عبيد إحساناتنا؟). ونجد أن الجيش يطلب إلى (إسماعيل) ألا يستأثر الجنود الأجانب بالمناصب الكبيرة في جيش البلاد وأن يشترك معهم الجنود المصريون فيها، فيأبى عليهم إسماعيل ذلك؛ بل وينزل بهؤلاء المطالبين العقاب الأليم. ونجد هذه الوحشية التي كانوا يسمونها (الالتزامات) ومعناها أن تباع القرى برمتها إلى (ملتزم) نظير مبلغ معين، ثم إذا بهذا (الملتزم) يلهب ظهور أهل القرية بالكرباج ليجمعوا له المال الذي يدفع منه نصيب الحاكم في هذا (الالتزام). هذه نماذج مما نجده في حكم الفرد منذ مائة سنة، أما عهد فاروق فأراني في غير حاجة إلى بسط القول فيه وهو مازال مائلا لأعينكم، ومن عجب أنه كانت تسنده طول مدة حكمه برلمانات لا أدري أهي حقاً برلمانات أم شركات؟.

أريد أن يستقر في أذهاننا جميعا أن صلاحنا لا يكون بصلاح فرد وإنما يكون بصلاح المجموع، وأن يستقر في أذهاننا أننا كنا دائما في خلال هذه السنوات المائة شركاء في المسؤولية، وأن هذه السنين كانت وبالا مستمرا وفسادا دائما لهذه الأمة. إن الدين الإسلامي يا حضرات السادة - لا يعرف الملكية، ويكفي دليلاً على ذلك أن محمدا سيد الخلق لم يعين أحداً بعده، وأن خلافة أبي بكر بعده إنما كانت بالبيعة وهي انتخاب، وكذلك كانت خلافة عمر وعثمان إلى أن صار ملكا عضويا فضاعت هيبة المسلمين. . . إن الدين الإسلامي يقرر أن الأمر شورى بين الناس ولذلك لا أستطيع أن أنصح إلا بالجمهورية.

ص: 46

ثم أعقبه الدكتور وحيد رأفت فقال:

أعلم - قبل أن أتكلم - أن موقفي بينكم حرج شديد الحروجة! لأني سأنفرد برأي لا يقرني عليه أحد من زملائي، وما أحسب أحدا منكم سيقرني كذلك! فكلمة (الملكة) مقرونة في أذهانكم باسم (فاروق) وبئس القرين! ولكن أجور أن تعلموا أننا لا نضع دستورا لليوم فقط ولكننا نضعه للأجيال القادمة أيضا: وليس كل الملوك فاروقا، وفي الملوك - كما في الناس جميعاً - الصالح والطالح، وقد بقي النظام الملكي حتى اليوم في بلاد عريقة كإنجلترا وسويسرا والنرويج، برغم أن الإنجليز شنقوا من ملوكهم واحدا وطردوا آخر! وليس النظام الجمهوري - كما يتصور البعض - ضمانا قاطعا من الظلم والطغيان، فقد أدى في أمريكا مثلا للدكتاتورية دائماً! إن حول رئيس الجمهورية الأمريكية وزراء ولكن لا رأي لهم ولا وزن لكلامهم ورأيه هو الأعلى دائماً. وإن إلى جانب رئيس جمهورية فرنسا رئيس وزارة هو بمثابة دكتاتور فعلي للبلاد، وإن الجمهورية في فرنسا هي سبب الاضطرابات والقلاقل والهزات المالية التي تنتابها دائماً. إنني لا أشبر بغير النظام الملكي على ألا يكون فاسداً مفسداً كالذي رأيناه، فكيف نضمن ذلك؟ إنكم مسئولون إلى حد كبير عن هذا الفساد الذي استشرى في بلادكم، وكيفما تكونوا يول عليكم، وقد أعطيتم الملكية درسا قاسيا لن تنساه قرنا - على الأقل - من الزمان، ولن تكون الملكية طاغية في مصر بعد اليوم.

وأعقبه الدكتور مصطفى الحفناوي فقال:

من حق الشعوب - يا سادة - أن تختار لون الحكم لنفسها بنفسها مستندة في ذلك على حقها في الحرية والاستقلال وهو حق لا يسقط بالتقادم ولا يجوز أن يباشر بالإنابة، فما النظام الذي يختاره الشعب؟ سواء عندنا أن يسمى رئيس الدولة ملكا أو رئيس جمهورية، ولكن يجب أن يكون الحكم ترجمة لشعور الأمة وضمانا لتوزيع العدل بين آحادها.

ونحن لا نستطيع أن نستند في اختيار لون الحكم على سوابق الدول الأرى، فالدساتير كالنبات ينمو هنا ويذيل هناك، وإذا أردنا الإبقاء على الملكية فمن يكون الملك؟ أنبقى على هذه السلالة العلوية وإن الصالح لا يخرج من صلب الفاسد أبداً؟ أنقدم التاج لهذه الأسرة ونكرر تجربة ذقنا منها الأمرين مائة وخمسين عاماً؟ إن الأمر يجب أن ينتهي إلى الأمة فتنتخب هي رئيسها وتعزله إذا رأت منه اعوجاجا، فيكون أمرها إليها لا إليه. ولذلك فلا

ص: 47

أوصي بغير الجمهورية.

ونهض على أثره الأستاذ إحسان عبد القدوس فتكلم في بساطة وسهولة قائلا:

تحكم مصر من عهد الفراعنة حكما ملكيا، فتأكد معنى هذا الحكم في النفوس، واصبح من الصعب إيجاد الخيال السياسي للتحرر من هذا المعنى. ومنذ عهد الفراعنة لم تحكم مصر بمصري ومع ذلك فإن البعض يريد أن يفوت علينا هذه الفرصة الذهبية ويعيد إقامة ملوك يبدءون صالحين ثم ينتهون فاسدين! وحجة هذا البعض أن الملكية نظام استقرار؟ فأي استقرار هذا؟ إنه الجمود والتحجر والوقوف عند مصلحة الملك. إنه استقرار للعرش وللملك لا للشعب ولا لأبناء العشب. . إن النظام الملكي هو سبب خلق نظام الطغيان فالملك يريد أن يكون إلى جانبه طبقة مثله يؤيد بها عرشه وينفذ بها رغباته ولن توجد هذه الطبقة إلا على أشلاء الطبقات الفقيرة البائسة. . . إنهم يسألون من يكون رئيساً للجمهورية؟ كأن مصر قد عقمت عن أن يكون بها رجل يحل محل الطفل أحمد فؤاد! قد عملت استفتاء في موضوع مناظرتنا الليلة ولا أذيع سراً إذا قلت إن الإجماع يكاد يكون منعقدا على تحبيذ الجمهورية فأنا لا أشير إلا بها.

جامعة الأمم العربية على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته

في السادسة من مساء الجمعة السابق اجتمع بقاعة يورت عدد من الناس لسماع محاضرة الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية الأسبق في هذا الموضوع، وقد استغرق إلقاؤها ساعتين إلا قليلا كان المحاضر أثناءها يفيض بالحديث المدعم بالأرقام والإحصاءات والتواريخ. كأنه يقرأ من كتاب مفتوح من أن إلقاءه كان محض ارتجل! ويمكن أن نلخص هذه المحاضرة القيمة فيما يأتي:

لعل التعبير بجامعة (الأمم) العربية أولى من التعبير بجامعة (الدول)، وأنتم تذكرون عصبة (الأمم) قديما وهيئة (الأمم) المتحدة حديثا، وكلها هيئات قامت للدفاع عن الأمم وتنظيم العلاقات بين الشعوب. أما جامعة (الدول) العربية فهي الهيئة التي أنشئت في الشرق الأوسط من الدول السبع (مصر وسوريا ولبنان واليمن والعراق والأردن والمملكة العربية السعودية) للدفاع عن البلاد العربية جمعاء المشتركة منها في الجامعة وغير المشتركة. وتم عقد ميثاقها - كما تعلمون - في الإسكندرية سنة 1945 بين تلك الأمم التي تربط بينها

ص: 48

علاقة الجوار واللغة والدين والعادات والتقاليد وما إلى ذلك من علاقات تضرب في بطرن التاريخ إلى آماد سحيقة بعيدة. وقد وهم البعض أن هذه الجامعة إنما أريد بها أن تكون أداة ذلولا في يد الإنجليز ينفذون بها مآربهم، ولكنها أثبتت أن هؤلاء جد واهمين! فقد عملت جاهدة على استكمال السيادة لمن تنقصها السيادة من البلاد العربية، وحققت جاهدة كثيرا من الأغراض المشتركة بين البلاد العربية كالثقافة والسياسة والاجتماع والمواصلات والقوانين وسواها، وذلك ليس من مآرب الإنجليز في شيء! ولكننا لسنا اليوم بصدد سرد أعمالها وجهودها في الماضي فلذلك مقام آخر، وإنما نحن اليوم بصدد الحديث عنها الآن في ظل هذا العهد الجديد. . . كان الملك السابق يتدخل تدخلا ساقراً في أعمال الجامعة لمآرب يبغي تحقيقها لنفسه، كان يبغي - كما كان أبوه يبغي من قبل - أن يكون خليفة المسلمين! فكان يجمع الملوك ويوفد الوفود ويلقي بالتصريحات المملوءة بالحماس في بعض القضايا العربية كما فعل مثلا في قضية سوريا ولبنان! ولكنه لم يكن ينظر في ذلك جمعية إلا إلى شخصه. فلما عز عليه تحقيق مطالبه انقلب عدوا للجامعة وساءت العلاقات بينه وبين الكثير من الأسر الحاكمة في البلاد العربية، وحقت صوت الحماس منه وكان قويا! وبزوال فاروق زال هذا العصر الشخصي الذي كان يتدخل في أعمال الجامعة، وصارت اجتماعاتها اجتماعات شعوب لا اجتماعات ملوك وأمراء كالتي كان يجمعها فاروق، وأسبغ العهد الحاضر ظلا وارفا من رعايته على الجامعة. وليس من عجب في ذلك، فإن العهد الحاضر تربطه بالجامعة أسباب وأسباب، (فلسطين) هي أول حجر في هذا العهد كما تعلمون وقائد الحركة قد حارب هناك وجرح، وقضية (لأسلحة الفاسدة) هي - كما تعلمون أيضا - من السباب المباشرة لهذه الحركة. . . لهذا كان طبيعيا أن نرى العهد الحاضر يحتضن الجامعة، ويحتضن قضايا الأمم العربية عامة فيهب هبة الليث الهصور لموقف ألمانيا من إسرائيل، ويأسو جراح المكلومين الشاردين في غزة، فيسوق إليهم الغوث والعون في (قطار الرحمة)!.

علي متولي صلاح

ص: 49

‌أَخْبَار أدَبِية وَعِلْمِية

مفردات ابن البيطار

أذاع الدكتور سارنللي أستاذ صحة المناطق الحارة في المعهد الشرقي نابولي وهو في الثانية والستين من عمره وحجة في تاريخ الطب في الشرق الأوسط أنه اكتشف في طرابلس مخطوطا عربيا قديما يؤيد القول بأن ابن البيطار الطبيب العربي الكبير الذي اشتهر في القرن الثالث عشر بعلم العقاقير والأعشاب لم يكن واضع (كتاب الأدوية المفردة) بل كان شارحا له ومعقبا عليه.

وصرح الدكتور سارنللي بأنه كان على الدوام متفقا في الرأي مع الأستاذ ماكس مايرهوف أحد أساتذة جامعة القاهرة الذي كان يعتقد أن كتاب ابن البيطار ليس إلا نسخة مقرونة بملاحظات للكتاب الذي وضعه في القرن الثاني عشر الفيلسوف العربي الأندلسي أبو جعفر أحمد أبن محمد ابن السيد الغافقي الذي ضاعت نسخته الأصلية.

استغلال أشعة الشمس في توليد الحرارة وإدارة الآلات!

سيلقي المسيو فيلكس ترومب مدير المركز الوطني للأبحاث العلمية ومنشئ (الفرن الشمسي) الوحيد الذي يعمل في فرنسا، محاضرة يوم 22 يناير عن الحالة الحاضرة لاستغلال طاقة الشمس، وما يحتمل أن يحقق في هذا المضمار في المستقبل.

وجدير بالذكر أن هذه الطاقة الجديدة تستغل الآن، بواسطة تركيز حرارة الشمس، في تسخين الماء وتعديل حرارة المنازل، ويمكن استغلالها في توليد القوة المحركة.

غير أن المسيو ترومب يوجه جهوده وأبحاثه إلى توليد حرارة مرتفعة جداً من الشمس، ويقوم بهذه الأبحاث، مع عشرين باحثا من أعوانه، في قلعة (مونلوي) بجبال (البرنس) على ارتفاع 1600 متر، وفي هذه المنطقة يقوم منذ عام 1949، أول فرن لجمع أشعة الشمس وتركيزها، وذلك لاستخدامها قريبا في النواحي الصناعية. . ويتكون فرن (مولوي) هذا من جهاز لتوجيه أشعة الشمس ومرآة من مركز لجمع الأشعة. وتبلغ حرارة هذه الأشعة، عندما يعكسها المركز من 3000 إلى 3500 درجة مئوية. فإذا وضع 50 كيلو جراماً من الحديد في هذا المركز انصهرت في أقل من ساعة.

ويعمل هذا الفرن ما بين 200 و 250 يوما في العام، ولكن إذا أنشئ مثله في أفريقيا فانه

ص: 50

يستطيع أن يعمل 300 يوم في السنة.

انفجار علي بعد مائة مليون سنة ضوئية!

من أنباء بالومار بكاليفورنيا أنه حدث في طبقات الجو العليا وعلى بعد مائة مليون سنة ضوئية من الأرض انفجار يعادل انفجار القنبلة الهيدروجينية.

ويقول الفلكيون في معهد العلوم بكاليفورنيا أن الانفجار وقع حين اصطدام جسمان غازيان، وقد أيدت المراصد في إنجلترا واستراليا وقوع هذا الانفجار. .

ويقول العلماء إن الانفجار أطلق قوة مقدارها أربعمائة ترليون كاترليون كيلوات (أي أربعة أمامها اثنان وثلاثون صفرا) وهو ما يفوق قوة جميع محطات الراديو في العالم مجتمعة.

جائزة جونكور

فازت بجائزة جونكور الأدبية الفرنسية الكاتبة البلجيكية (بياتريكس بيك وهي وإن كانت بلجيكية من أبيها الذي كان ميالا للأدب ويصدر مجلة أدبية في بروكسل إلا أنها ونشأت وتعلمت في فرنسا.

ولدت بباتركس في الثلاثين من يوليو عام 1914 فهي الآن في الثامنة والثلاثين من عمرها. وبعد عامين من مولدها أي عام 1916 مات والدها. وعندما أتمت دراستها الثانوية التحقت بكلية الحقوق في جرونوبل حيث تعرفت إلى زميل روسي لها في الدراسة فتزوجت به وهجرت دراستها أثر زواجها عام 1936. وعند إعلان الحرب العالمية ذهب زوجها ليحارب في صفوف الجيش الفرنسي ولم يلبث أن توفي عام 1940. وقيل إنه انتحر في ميدان القتال. ولقد كانت هذه الصدمة وما تلاها من المتاعب التي عانتها بياتريكس لتكسب عيشها وتعول ابنتها أثر كبير في توجيه تفكيرها وطبع أدبها باللون الخاص الذي امتاز به.

فقصتها الأولى (بارني التي ظهرت عام 1948 وقصتها الثانية (موت شاذ التي ظهرت عام 1950 ثم قصتها الأخيرة (القس ليون موران التي أصدرتها عام 1952 وفازت من أجلها بالجائزة الكبرى. هذه القصص الثلاث ما هي إلا صورة من حياتها الخاصة التي عرضت فيها أفكارها بصراحة تامة وأسلوب صارم غير عابئة بذلك التنميق أو المواربة

ص: 51

التي يلجأ إليها الفن القصصي حتى عندما يكون رسما للحياة الخاصة للمؤلف.

وأكبر الظن أن المحن التي عانتها بياتركس بيك بعد موت زوجها والأعمال المهنية التي اضطرت للقيام بها لتكسب عيشها هي السبب الأول في تلك الصراحة العنيفة التي نلمسها في أدبها. فلقد عملت بياتربكس عاملة في مصنع وخادمة وكاتبة على الآلة الكاتبة في مكتب للتأمين ثم طاهية. وكانت أثناء كل ذلك تحس أنها أسمى من الأعمال التي تؤديها فلم تستسلم لضربات القدر. كانت تحس بأن في داخلها أفكار كثيرة في حاجة إلى أن تدون وأنها بهذه الأفكار كثيرة في حاجة إلى أن تدون وأنها بهذه الأفكار تستطيع أن تكون كاتبة ممتازة.

وفي عام 1947 حانت أول فرصة إذ كانت تعيش هي وابنتها في إنجلترا عند بعض أقربائها الذين قبلوا إيواءها في مقابل أن تعمل طاهية للمنزل. وهناك كانت تختلس بضع دقائق كل يوم لتكتب قصتها الأولى (بارني) حيث قصت ذكريات شبابها الأول ودراستها في كلية الحقوق بجرونوبل وموت أمها ثم مقابلتها للطالب الروسي نوم تسايرو الذي تزوجته فيما بعد. وفي هذه القصة لم تترك بياتريكس شيئا لم تقله مما اعتبرته الأسرة التي تعمل عندها جرأة لا تليق فطردتها من خدمتها.

وأخذت الكاتبة الناشئة ابنتها ورحلت إلى باريس حيث لا مورد لها. وفي غمار الفقر خطرت لها فكرة إرسال نسخة من قصتها إلى الكاتب الكبير أندريه جيد فلم يكد يقرأها حتى أرسل بطلب رؤيتها بعد أن لمس في كتابتها الذكاء والثقافة وحدة الذهن. فلما لقيها امتدح استعدادها وغمرها بتشجيعه ثم وجه لها نصيحته بقوله (حذار من العاطفية الحادة).

واستقرت حياة بياتريكس المادية إلى حد ما بعد أن اختارها جيد سكرتيرة له. وعندئذ بدأت قصتها الثانية (موت شاذ) وما هو إلا موت زوجها. ولم تكد تفرغ منها حتى بدأت قصتها الثالثة (القس ليون موران).

ومات جيد وعادت بياتريكس إلى الاضطراب المادي؛ ولكنها كانت قد آمنت بأن كسب حياتها لن يكون إلا عن طريق الأدب فانكبت على العمل حتى انتهت من قصتها التي فازت بأكبر الجوائز الأدبية في فرنسا ووضعت مؤلفتها في الصف الأول بين كتاب الأدب المعاصر.

ص: 52

ليونار دوفبنشي بقلمه

وضع الكاتب الفرنسي أندريه شسيتل كتاباً عن الفنان الإيطالي الخالد ليونار دوفينتشي واعتمد في تأليفه على ما كتبه الفنان نفسه من خواطر ومؤلفات مستخرجا منها أفكاره ونظرياته واكتشافاته التي بثها في مؤلفاته العديدة المتفرقة في مختلف المكتبات والمعاهد العالية الشهيرة ومنها مذكراته ورسائله إلى الملوك والحكام في عصره.

وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام يعالج كل منها موضوعا قائما بذاته ومصحوبا بتعليقات وافية من المؤلف. والقسم الأول وعنوانه (ملاحظات وخطابات) يشرح حياة ليونارد، فيتيش خطوة خطوة ويكشف مطامحه العلمية كما نقرأ فيه عدداً من الرسائل التي كتبها لبعض الأمراء يعرض عليهم فيها خدماته وما يمكن أن يقوم به من مشروعات. والقسم الثاني يبين ما قام به دوفينشي من مجهود كرسام ومقدار مصارعته لقوة الطبيعة وما كانت تحتويه عبقريته النادرة من موارد لا تنضب. كما يبين كفاحه في سبيل الكشف العلمي وكيف أوصله ظمأه إلى المعرفة أن يكون عالمي الفكر مترفعا عن القومية المتعصبة العمياء. وفي هذا القسم أيضا نرى نقد الفنان للعلم الزائف وتسفيهه له كما ترى نظريته الفريدة عن الكذب. أما القسم الثالث فقد خصص للأقاصيص والألغاز والأساطير التي رواها الفنان على ألسنة الحيوانان والتي يعبر فيها عن تحديه للطبيعة وتفكيره العلمي الواقعي البحث.

الجريدة الموسوعية

بمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على إنشاء (الموسوعة) الفرنسية الكبرى. ذلك العمل الفكري الضخم الذي قام به ديدرو ودالامبير والذي كان له أعمق الأثر في تطور الفكر في أوربا الغربية أصدر الكاتبان الفرنسيان جوستاف شارلييه ورولان موتييه كتابا يبينان فيه أن هناك عملا فكريا آخر أتم الرسالة التي حققتها الموسوعة ولم يذكر فضله الذي يستحقه إلى جانب فضل الموسوعة. وهذا العمل هو (الجريدة الموسوعية) التي ظهرت من عام 1756 إلى عام 1793 تحت رياسة بيير روسو. فقد أقام روسو في لييح ثم انتقل منها إلى يوييون حيث أصدر جريدته التي كانت تظهر كل خمسة عشر يوما واستمرت على الظهور

ص: 53

مدى ثلاثين عاما. ولقد اشترك في تحرير هذه الجريدة فولتير إلى جانب عدد من رجال الفكر الأحرار في ذلك العهد. وكان روسو يحلم بإصدارها في أن يجعل منها جريدة أوربا الأولى من حيث الرسالة التي تحملها في قيادة الفكر الحر وحمل علم التطور في عصرها. والواقع أن (الجريدة الموسوعية) ملتقى الأفكار التقدمية في كل من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا. وقد استخرج المؤلفان من بين الثلاثمائة مجلد التي كونتها الجريدة في مدى الثلاثين عاما من ظهورها كثيرا من المستندات ليثبتا أهمية الجريدة والدور الخطير الذي قامت به في عصرها وهي مستندات تنير نواحي من الحياة الفكرية في القرن الثامن عشر لم يكشف عنها إلى الآن.

العيد المئوي لمكتبة لاروس

احتفلت مكتبة لاروس في الشهر الماضي بالعيد المئوي على تأسيسها وقد حضر الاحتفال جمع حاشد من رجال الفكر والأدب الفرنسي فجابوا أنحاء الدار الواسعة ومطابعها الضخمة. ومما يذكر أن مكتبة لاروس تصدر كل يوم إلى أنحاء فرنسا وسائر بلاد العالم ما يقرب من خمسين طنا من الكتب. أما معجمها الشهير فقد طبع منه إلى الآن ستة ملايين نسخة.

ولقد أعد لهذه المناسبة متحف (جريفاز) تمثالا من الشمع لبيير لاروس مؤسس المكتبة؛ وقد أزيح عنه الستار بحضور أحفاده الذين يواصلون تأدية الرسالة التي قام بها جدهم منذ مائة عام.

ص: 54

‌آرَاءٌ وَأنْبَاءْ

حول بلزاك

نشر الأستاذ أنور المعداوي في عدد الرسالة الأخير تعليقا على مقال عن بلزاك. ومع تقديري لملاحظاته واهتمامه أحب أن أسوق نقطتين هامتين.

(1)

لم أقل إن بلزاك كان متأنقا في (الصنعة البيانية) بل كان (متأنقا في فنه) فهو لم يكن يعيد تصحيح (الألفاظ) وتنميقها بل تصحيح (الأفكار والآراء). والواقع أن بلزاك لم يكن (أديباً) فحسب، بل كان (مفكراً) أيضاً. كان في طليعة الكتاب التقدميين في عهده. ولعل هذا هو السبب في أن الكتاب التقدميين في عصرنا هذا يعتبرونه في طليعة الأدباء الذين كان أدبهم أحد المعاول التي دكت صرح الفساد وكشفت عيوب المجتمع ومتناقضاته، كما كان الحال مع فيكتور هوجو وزولا وغيرهما. أليس هو القائل في كتابه (الفلاحون) منذ أكثر من مائة عام (إن الاشتراكية هي المنطق الحي للديمقراطية).

(2)

ربما اتفقت مع الأستاذ المعداوي في أن قصة (الأب جوريو) هي أحسن قصص بلزاك. ولكنها أحسنها من الناحية (القصصية) أو (الأدبية). والذي قلته هو أن كتاب (لوي لامبير) هو (أقوى وأعمق) كتبه. وعندي أننا عندما نحكم على الأديب الآن يجب أن نهتم أولا بما يصوغه في أدبه من (أفكار) قبل أن نهتم بروعة الأسلوب أو جمال الوصف أو غير ذلك وإن كان لهذا أيضاً أهميته. ولقد سبق بلزاك بقصته (لوي لامبير) بما يزيد على نصف قرن غيره ممن عالجوا مشاكل النفس البشرية وما أطلق عليه (العقل الباطن) وعلاقته بالجنون والعبقرية. ولا يمكن أن نغمط حق الكاتب دوستوفسكي في هذا الميدان فقد كان أدبه باعتراف العالم فرويد نفسه نبراسا لكثير من الاكتشافات التي تمت عن أسرار النفس البشرية وخفاياها.

علي كامل

ديك الجن

سألني الأديب الفاضل محمود راشد الحنفي بالعدد الأخير من مجلة الرسالة الغراء عن سبب تسمية الشاعر محمد بن عبد السلام بن رغبان الحمصي بديك الجن، فقد كان لزاماً

ص: 55

على في رأيه أن أخصها بالحديث.

ولعل الأديب الحنفي يتصور لهذه التسمية قصة شائقة، فهو يشتاق إلى رؤية فصولها الرائعة، ولو كان الأمر كذلك ما فاتني أن ألم بها في حديثي بالثقافة عن الشاعر الملتاع! وكل ما نعرفه عن هذه التسمية العجيبة ما نقله شيخنا الأستاذ أحمد يوسف نجاتي فيتعليقاته النفسية (بالجزء التاسع من نفح الطيب ص19) من أن الشاعر كان ذا عينين خضراوين كعيون بعض الديكة الرائعة، فسمي بالديك لذلك.

وهناك سبب ثان لهذه التسمية، فقد ذكر الأستاذ نجاتي أن أحد أصدقاء الشاعر قد صنع له وليمة كبيرة، وذبح فيها ديكا رائعا قد اشتهر بجمال صوته، وحسن منظره فنظم ديك الجن، أبياتا رائعة في رثائه، واشتهر بها حتى سمي بديك الجن، ومن هذه الأبيات.

دعانا أبو عمرو عمير بن جعفر

على لحم ديك دعوة بعد موعد

فقدم ديكا عد دهراً مدملجا

مؤانس أبيات مؤذن مسجد

وقال لقد سبحت دهرا مهللا

وأسهرت بالتأذين أعين هجد

أيذبح بين المسلمين مؤذن

مقيم على دين النبي محمد

فقلت له ياديك إنك صادق

وإنك فيما قلت غير مفند

ولا ذنب للأضياف إن نالك الردى

فإن المنايا للديوك بمرصد

هذا كل ما قيل. . . أما إضافة الديك إلى الجن، فقد كانت مبالغة صريحة في جودة الديك وروعته، إذ أن أرباب البلاغة إذا رأوا حسنا - كما يقول أبو العلاء - عدوه من صنعة الجن. وقد بلغ الديك من الحسن مبلغا عظيما، يتخطى الأنس إلى الجن، ونسب (للعبقريين).

ولعل القارئ قد أدرك سذاجة هذه التسمية، وكم للشعراء من تسميات عجيبة ألصقت بهم إلصاقا لمناسبة تافهة، كدران العود، والحيص بيص وفلان وفلان.

أبو تيج

محمد رجب البيومي

تحية كريمة

ص: 56

زار السودان في الأيام الأخيرة الشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف في حكومة العهد الجديد عهد الإصلاح والتقدم. . . عهد الرخاء والمساواة بين الطبقات. وكان لتلك الزيارة التاريخية أثران عظيمان: أثر سياسي بارز خدم أغراضه خدمة وطنية صالحة، وأثر اجتماعي أنساني أدى رسالة إنسانية سامية إلى أبناء الجنوب أبناء الوطن الواحد الشقيق ما كان ليؤديها أسلوب آخر.

لقد كان العهد الدابر يثقل أنفسنا بأوضاره وأفكاره القذرة؛ وكانت رواسبه العميقة الجذور عالقة ببعض الأذهان حتى جاء وزير الشعبي البارع يضع يده فوق الأمراض المزمنة فيقتل جرثومة الداء العضال. . . كنت كغيري من عشرات الألوف الذين أتيح لهم الاستماع إلى المحاضرتين القيمتين اللتين ألقاهما الوزير العالم الحر على ذلك الحشد الكبير من الناس. كانت الأولى بدار الثقافة بالخرطوم وموضوعها الدين والمجتمع؛ والثانية بنادي أم درمان الثقافي وموضوعها الإسلام دين ودولة. وكنت كلما استمعت إلى الوزير الضليع يتردد من أعماقي همس يتحول على شفتي إلى قول الشاعر:

إذا استوزت فاستورز علينا

فتى كالفضل أو كابن العميد

كانت الأعناق تتطاول والخواطر تتيقظ والنفوس تتلهف إلى ذلك الفيض الإلهي الغامر فتتلقاه واعية له مستوعبة لأهدافه وغاياته، مستلهمة ما ينبعث من قلبه المؤمن وكان كل إنسان حريصا على أل تفوته إشارة شاردة أو معنى عابر؛ فأمثال الباقوري هم أساتذة الحضارة ورسل الحياة في هذا الزمن الحائر القلق، ولعل رغبة الكثيرين من سكان السودان - وأرجو أن أكون معبر عنها - أن يقوم هذا النفر الكريم من أمثال الدكتور طه حسين، والداعية الكبير سيد قطب، والخطيب المفوه سعيد رمضان، برحلات ثقافية إلى السودان. فهل تبلغ تلك الرغبة إلى هؤلاء وأندادهم على صفحات الرسالة؟ وهل تستجيب الحكومة القائمة فتسهل لهم الطريق لشركوا إخوانهم السودانيين في أمن العهد الجديد وإشرافه؟.

الخرطوم

بخيت الفضل

ص: 57

حول معهد الدراسات العربية العليا

قرأت بمجلة الرسالة الغراء - نبأ فتح معهد للدراسات العربية العليا يدرس فيه كل ما يتصل بالدول العربية من آداب وتاريخ وقوانين وجغرافيا - وهذا لا شك عمل عظيم يزيد وحدتنا توحداً واتثاقاً ومعرفة للكثير من شئوننا التي نجهلها.

وكل ما أرجوه من أولي الأمر أن يباح لنا نحن خريجي الجامعات، ولا نحرم منه كما نحرم من الماجستير والدكتوراه المصريتين في الوقت الذي تبيح لنا ذلك فرنسا وإنجلترا وأمريكا حتى روسيا الحمراء. . . وأننا في هذا العهد الجديد لنأمل تحقيق كل ما نصبو إليه. . . بعد أن انقشع عن الوطن عهد الظلم والإجحاف.

كيلاني حسن سند

ص: 58

‌لغويات

اختشي

فتشت مادة (خ ش ي) في جميع المعاجم فلم أجد (اختشي يختشي اختشاء فهو مختش أو مختشي ومختشية) مع أنه قد ورد عن العرب وأخذه المصريون عنهم أو عن جاليتهم واستعملوه في كلامهم وفي أمثالهم قالوا (اللي اختشوا ماتوا) و (واللي يختشي من بنت عمه مايجيش منها عيال) و (يخاف مايختشيش) وإليك بعض الشواهد من ستى العصور:

قال عنية العبسي:

ولا تحتشوا مما يقدر في غد

فما جاءنا من عالم الغيب مخبر

وهي من قصيدة مطلعها:

إذا كان أمر الله أمرا يقدر

فكيف يفر المرء منه ويحذر

وقال الصلدن العبدي:

فكن كابن ليل على أسود

إذا ما سواد بليل حشى

فكل سواد وإن هته

من ليل يخشى كما تحتشي

وجاء في حياة الحيوان في الكلام على (لأسد). . . وضربوا المثل بالحرف من الأسد قال مجنون ليلى:

يقولون لي يوما وقد جئت حيهم

وفي باطني يشب لهيبها

أما يختشي من أسدنا فاجيبتهم

هوى كل نفس أين حل جبيبها

وجاء في حياة الحيوان في الكلام على (خلافة المستعين بالله) من قصيدة غرامية قالها على لسان الخليفة المستعين يحاور بنت عمه، ونسيها غيه إلى وضاح اليمن الشاعر الأمور الماجن:

قالت فان الله من فوقنا

يعلم ما نبديه من شوقنا

نمضي إلى الحق غدا كلنا

ونختشي النقمة من ربنا

قلت وربي ساتر غافر

وجاء في ديوان ابن خفاجة الأندلسي ص72

يا أهل أندلس لله دركم

ماء وظل وأنهار وأشجار

ص: 59

ما جنة الخلد إلا في دياركم

ولو تخيرت هذا كنت أختار

لا تختشوا بعد ذا أن تدخلوا سقراً

فليس تدخل بعد الجنة النار

وقد جاءت هذه الأبيات في ترجمته ص7 ويروي مكانه (لا تختشوا) ولا تحسبوا من حسب بمعنى ظن وهما متقاربان خطأ كما أنهما صحيحان معنى.

وجاء في الضوء اللامع ج4 ص189 في ترجمة عبد الرحيم: وكان مما كتبه من نظمه ليكتب على قبره:

تقول نفسي أتخشى

من هول ذنب عظيم

لا تختشي من عقاب

فأنت عبد الرحيم

وجاء في السيرة الحلبية ج3 ص9 قال العارف بالله سيدي علي وفا:

لا تختشي فقرا وعندك بيت من

كل المنى لك من أياديه منن

على أر الباحث إذا دقق النظر في مادة (خ ش ي) أمكنه أن يستنبط (احتشي) منها لأن هذا الفعل مطاوع (حساه تخشيه) بمعنى حوفه كما أنه شقيق (تخشاه) بمعنى خافه، وقد ورد فيها، ونظيره غذاه تعديه فاتذي وتغذى؟ فوجد واحد منها يقتضي ويستلزم وجود الآخر حتما.

توفر

أنكر أحد الباحثين استعمال (توفر) بمعنى وفر وكثر وتم وكمل واجتمع وكان وافرا مع أنه صحيح مثل (توافر) فقد نص عليه اللغويون وغيرهم. على أنه لا يحتج إلى نص ودليل لأنه مطاوع وفره توفيرا بمعنى كثرة وأتمه وأكمله وجعله وافرا، فقولهم (توفرت فيه الشروط) صحيح، وأيضا (توفر على العمل) إذا صرف همته إليه، وبذل فيه مجهوده.

قتيل وقتيلة

القتيلة بمعنى المقتولة كلمة عربية صميمة تقول هذه قتيلة وشاهدت قتيلة، وامرأة فتاة قتيلة، ويسوغ أن تقول:

امرأة أو فتاة قتيل لوجود الموصوف المؤنث (امرأة أو فتاة) ولكن ليس من الحكمة والدقة في العبير في مخاطبة الجمهور أن نلجأ إلى الوصف المشترك (قتيل) فنستعمله في المذكر

ص: 60

تارة وفي المؤنث تارة أخرى معتمدين في فهم المراد على المقام وروح الكلام لأن العدول عن استعمال المشهور بين الجمهور (قتيلة) إلى استعمال المهجور (قتيل) بمعنى مقتولة يوحي إلى القارئ أن (قتيلة) خطأ أو لغة ضعيفة وليس كذلك لأنها هي الصفة الأصلية المختصة بالإناث، وعلى هذا يقاس نظائرهما مثل جريح وجريحة.

علي حسن هلالي

بالمجمع اللغوي

ص: 61

‌فِي عَالِم الكُتُبْ: نَقْدٌ وَتَعرِيفٌ

عبقرية المسيح

تأليف الأستاذ عباس محمود العقاد

للأستاذ نقولا حداد

من يطالع هذا الكتاب للأستاذ العقاد يظن أن مؤلفه إكليربكي لاهوتي فيلسوف في اللاهوت المسيحي النظري.

بحث في أساس اللاهوت المسيحي بحثا شاملاً جامعاً لتاريخ النصرانية وما اكتنفها من النبوءات وما سبقها من الحوادث كما وردت أخبارها في الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) وفي نعض الكتب التاريخية وما توالى على اليهودية من عقائد وطوائف وديانات وما صاحبها من معتقدات أمم أخرى واصطدمت بها أو لامستها.

وأنا (أنا خصوصاً) لا أدري لماذا يجب أن يسبق المسيح أو محمدا نبوءات تنبه الناس إلى مجيئهما وتؤيد رسالة كل منهما ألا يكفي أن يظهر عيسى ومحمدا في الوجود الإنساني وأن يسلكا السلوك الذي علمناه، وأن تعلن تعاليمهما وتؤيد بأعمالهما حتى نقول هذا مسيح الله وهذا نبي الله؟ أما تكفي حياتهما وتعاليمهما شهادة لهما؟.

ولكن هكذا ألف الناس منذ القديم أن تكون حوادث العالم الدينية متعاقبة يرشح بعضها بعضا حتى لا يكون فيها لبس لا غش ولا تعمل ولا دعاو باطلة.

في كتاب عبقرية المسيح فصول عن الحالة الدينية في العالم والحالة في عصر الميلاد المسيحي. وفي تاريخ الميلاد من الحقائق التاريخية مالا نراه في الكتاب المقدس لا التوراة ولا الإنجيل. وهناك كثير من الأخبار ما لم يذكر الأستاذ مصادرها أو إسنادها وكنا نود أن لا يغفل هذا الواجب لكي يتأكد القارئ أن المؤلف حقق ودقق بعد أن درس وتعمق. فيكون ذلك أكفل لتقدير قيمة عمله وتنويرا للقارئ المحقق للمراجعة واستزادة من التحقيق والتوسع في المعرفة.

ثم استرسل الأستاذ في تفكيره اللاهوتي في فصول: (الصور الوصفية) و (الدعوة) و (اختيار القبلة) و (تجارب الدعوة) و (الشريعة) بحيث تعطي الكتاب القيمة التي تستحق أن

ص: 62

تنسب للعقاد وتكون في طبيعة دراساته.

ثم توغل في شريعة الحب حتى أراك أن الناموس أو شريعة الناموس تعتبر ناقصة إذا لم تكن شريعة الحب التي هي محور سلوك المسيح وتعاليمه؛ وهي بيت للقصيدة في حياته كلها (بهذه الشريعة شريعة الحب (والمحبة) نقض المسيح كل حرف من حروف شريعة الأشكال والظواهر).

وفي الفصول الأخرى ترى أن العقاد لم يعبأ بالعجائب ولا بأخبار المسيح في مدة وجوده بين العالم ثلاث سنين، بل اقتصر على زبدة تعاليم المسيح التي صار بها يسوع بن مريم مسيحا.

وقد أحسن الأستاذ صنعا في إغفال تلك العجائب التي يظن بعض الناس أنها كانت الوسيلة الوحيدة لانتشار الدين المسيحي. وهذا الظن هو الضلالة التي يكرهها المسيح. ولما طلبوامنه آية من السماء قال: إذا كان إبراهيم ويعقوب وغيرهما من الآباء لم يقنعوكم فلا تقنعكم الآيات.

والحقيقة أن المسيح لم يأت إلى الأرض لكي يقيم عازر من القبر، ولا لكي يحول الماء إلى خمر، ولا لكي يمشي على الماء، ولا لكي يفتح عيون العميان، ولا لكي يقيم المقعدين، ولا ولا؛ وإنما جاء لكي يقول ثلاث كلمات: أحبوا أعداءكم. باركوا لأعنيكم. أحسنوا إلى من أساء إليكم. من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر إلى آخره. وبهذه الكلمات يسير الآن وراءه ألف مليون نسمة على الأرض وأن كان معظم هؤلاء أو جلهم لا يفعلون ما قاله المسيح ولا يفهمون ما يعنيه؛ فهم ضعيفو الإيمان ومنهم من لا إيمان لهم وإنما هم يفخرون بانتمائهم إلى صاحب هذه الشريعة شريعة الحب والتسامح وأكثرهم لا يؤمنون بغير الدولار والدينار.

وأما قول بعض الناس إن المسيح يطلب من الطبيعة البشرية مالا تستطيعه؛ لأنك لا تجد واحداً في الألف يحول لك الخد اليسر إذا لطمته على الخد الأيمن، ولا من يحب عدوه، ولا من بارك لأعنيه، فإن من الحق أن هذا القول صعب على الطبيعة البشرية ولكنه ليس مستحيلا عليها، والمسيح نفسه عمل بهذه النظرية التي ظنوا أنها مستحيلة.

فقد كان يقول وهم يبصقون عليه ويطعنونه بحربة: (يا رب اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما

ص: 63

يفعلون) ولم يثقل هذا على طبعه. وإذا كان كل واحد يفكر أن المسامحة تكسر الشر فيعد حين لا مود نرى أحداً ضرب على خد، القول:(لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع باتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).

فرضية المسيح بالتساهل والتسامح ليست فوق الطبع البشري بل هي تحت البشري وفي وسع كل إنسان أن يطبقها إذا أراد. وإذا كان الناس يتربون على هذه الوصية ويتعودونها يستسهلونها.

أعود فأقول إن المسيح لم يأت إلى الأرض لكي يعمل العجائب والخوارق وإنما جاء لكي يعلم الناس التساهل والتسامح والمغفرة، على نية أن العالم إذا سار كله على هذه السنة صار كله أمة واحدة وشعباً واحداً أو أسرة واحدة تتعاطف ويحب بعضها وتنتفي الشرور من بين أفرادها.

المسيح لم يأت لليهود وحدهم بل أتى لكل العالم بهذا المبدأ. وأظنه أول فيلسوف ظهر على الأرض بهذا التعليم. وكان قصده أن العالم كله يعتنقه بدليل أنه جمع تلاميذه وقال لهم: اذهبوا إلى جميع الأمم وتلمذوهم وعلموهم أن يحفظا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى أن ينتهي الدهر. وهو يعني أن رسالته هذه يجب أن تعمم كل الكون لعلها أن تكون الوسيلة الناجعة لانتشار السلام على الأرض.

فالمسيح لم يأت لأجل سلام اليهود وسلاستهم فقط بل أتى لأجل سلام كل العالم. وكان قصده أن يكون كل العالم أخوة. هذا ما عناه المسيح حين قال: احبوا أعداءكم، بدليل أنه لما اجتمع بتلاميذه قال لهم أذهبوا إلى جميع الأمم (لا إلى اليهود فقط) وتلمذوهم الخ. . على أمل أن تتطبع الأمم كلها بطبيعة السلام والمحبة والمسامحة فيسود السلام جميع الأمم.

هذه كانت رسالة المسيح على الأرض. ولكن اليهود في كل تاريخهم كانوا يقاسون من غزوات البابليين والآشوريين والفرس والرومان. وغيرهم فكانوا يتوقعون أن يظهر من بينهم ملك يقودهم للدفاع عن بلادهم ويخلصهم من هؤلاء الأعداء فكانوا يحتاجون إلى منقذ مثل موسى أو يسوع، فلما وجدوا أن يسوع هذا الذي شرع يعلمهم التعاليم المفيدة لهم اجتماعيا قالوا: لا. لا. ليس هذا هو الملك الذي ننتظره. ليس هذا هو القائد المنقذ هذا رجل أفاك. وصار الكهنة وجميع رجال الدين يرون أن تعاليمه هذه تحط من نفوذهم وتكسر

ص: 64

شوكة غطرستهم وتزعزع سلطتهم فجعلوا يطلبون رأسه. وما أسهل أن يوغروا صدر بيلاطوس الوالي الروماني عليه بحجة أنه يدعي أنه ملك اليهود وهم يعترفون بملك أجنبي غير قيصر.

ولما مثل المسيح لدى بيلاطوس سأله هذا: هل أنت ملك اليهود؟ فأجابه: (أنت قلت؛ ولكن مملكتي ليست من هذا العالم) وهو يعني أنها ليست أجساداً بل هي أرواح تفهم وتعمل في أجساد الحق والعدل والصدق والتقوى.

ولطالما كان اليهود يحاولون أن يأخذوا عليه مأخذ ضد الشريعة لكي يشكوه للوالي فجاءوا غليه بزانية وقالوا (هذه ارتكبت جريمة الزنى، وفي شريعة موسى ترجم بالحجارة فماذا تقول أنت؟).

فما لبث أن قال بكل جرأة: (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر).

وماذا كانت النتيجة: كانت أنهم جعلوا يخرجون من المجتمع واحدا بعد الآخر ولم يوجد بينهم من يجرؤ أن يعترض على حكم المسيح لا لأنه أثر عليهم بتصرفه تأثيرا عجيبا، بل لأنهم وجدوا أنهم ضعفاء جدا لدى مبينه وحجته فخافوا أن يبطشوا بع بل جعلت ضمائرهم تبكهم بفعل كلمته فصاروا يخرجون واحداً واحداً.

ثم التفت إلى الوانية وسألها: أين الذين شكوك؟ أما دانك أحد؟ قالت: لا. قال ولا أنا أدينك. أذهبي ولا تخطئ بعد. من ذلك الحين تابت مريم المجدلية الزانية وصارت قديسة.

كان لمنظره في مثل هذه المواقف سطوة أو صولة أو هيبة ليست لزعيم ولا لقائد ولا لحاكم. ففي ذات يوم جاء إلى الهيكل ورأى أدناس الناس فيه: صيارفة وتجارة حمام وتجار حيوانات إلى آخره، فجعل يقلب موائد الصيارفة وأقفاص الحمام وهو يقول: تباً لكم أيها الشرار! جعلتم بيت الله مغارة لصوص. فلم يجسر أحد أن يصده أو أن يقاومه أو أن يشاجره بل جعلوا يخرجون من الهيكل قانعين بالسلامة.

لم يشر الأستاذ العقاد إلى كيفية انتهاء حياة المسيح، ولكنه اقتنع مثلي أن سلوك المسيح الذي أشرنا إليه هو بيت القصيدة في حياته. وقد جاء وعلم وعمل ومضى ولا يزال إلى اليوم مثلاً للأمم وسيبقى هكذا عدة قرون.

وفي ضني أن الإسلام إنما هو استمرار للمسيحية؛ ولذلك كانت حياة محمد وتعاليمه موافقة

ص: 65

كل الموافقة لحياة المسيح وتعاليمه المحبة والتواضع والمسامحة والدعوة إلى السلام. حبذا أن يفهم الناس أن سلامتهم ونجاحهم وسلامهم يتوقف على قدر ما يطيعون من تعاليم هذين المصلحين.

نقولا الحداد

ص: 66

‌طَرَائِفَ وَقِصَصْ

الزوجة الجديدة

عن الإنجليزية

كان على المنضدة المصنوعة على الطراز الياباني موقد يغلي فوقه وعاء من الشاي وبجانبه فنجان وزجاجة من الروم.

وكانت الكونتس تراقب صنعه وهي تنظر إلى وجهها في المرآة وترتب شعرها حين دخل الكونت (دي سالور) فرمى بقفازيه وألقى قبعته. وابتسمت الكونتس ابتسامة سرور عندما التفتت إليه وأصابعها الصغيرة البيضاء ترفع عن جبينها الناصع خصلة من الشعر الذهبي. ونظر إليها مترددا في القول كأن خاطرا هاما يشغل ذهنه ثم قال: (هل وجدت الالتفات الكافي في هذه الليلة؟) فقالت الكونتس (أرجو ذلك).

ثم تناول مقعدا وجلس أمامها وامسك بقطعة من الكعك وقال: (لقد كان ذلك التصرف محزناً).

فقاطعته قائلة: (وما الذي كنت تريد؟ هل كان يحسن أن يضحك الناس منا؟).

قال: (كلا يا عزيزتي؛ ولكنني أعني أنه لم يكن يليق أن يأخذ المسيو دي برويل بذراعك ويذهب. ولو كان من حقي أن أمنعه إذ ذاك لمعته).

فقالت: (كن طويل البال. إن آراءك اليوم ليست كآرائك من عام. وهذا كل ما في الموضوع. ولما رأيتك تتخذ خليلة ورأيت الحب بينكما ظاهراً اعتقدت أنه لا يسوءك أن يلتفت إلي إنسان. وقد شكوت إليك ذلك الحين كما تشكو إلى الآن. ولكنني كنت أكثر حكمة منك، فقلت: إن علاقتك بمدام دي سيفري تسبب لك ألماً. وقلت لك إنك تعرض نفسك للاستهزاء. فماذا كان جوابك؟ لقد قلت لي في صراحة إنك حر، وإن الزواج في نظر الطبقات الراقية إنما هو مظهر اجتماعي وليس عقداً أدبياً. ألم يكن هذا جوابك؟ وأفهمتني أن خليلتك أفضل مني وأرق أنوثة لقد كان هذا هو تعبيرك (أرق أنوثة) واتفقت منذ ذلك العهد معي على أن نعيش في منزل واحد على أن يكون كل منا منفصلاً عن الآخر تمام الانفصال، ولم تكن بيننا رابطة إذ ذاك سوى ابننا الذي يتربى بيننا، وقت لي في جلاء إنك لا تعني إلا بالمظاهر. إن لي أن أتخذ خليلاً على شرط أن يبقى الأمر مكتوماً. ثم كلمتني

ص: 67

عن مهارة النساء في التستر الخ. وأنني لأفهم مركزك تمام الفهم، فقد كنت في ذلك الوقت مدلها بحبك لمدام دي سيفري وكنت ترى عقد زواجنا الشرعي يحيل بنك وبينها، وكنت ترى أيضاً أنه لا مبرر لما تنفقه علي من المال بسبب هذا العقد، ولهذين السببين كرهتني وعشنا منفصلين. وكنا نستقبل الناس معا ولكن لكل منا مأواه في المنزل. على أنك منذ شهر أو شهرين أخذت تمثل دور الغيرة فما معنى ذلك؟.

قال الزوج: (إنني يا عزيزتي لا أمثل دور الغيرة، ولكني أخشى عليك تعريض نفسك للخطر فأنت صغيرة وأنت مخاطرة. وأنني أخاطبك كصديق وأرى في القول الذي تقولينه كثيراً من المبالغة).

فقالت: (كلا، لا مبالغة في قولي، فأنت قد رخصت لي بأن أفعل مثل فعلك).

قال: (أرجو. . .) فقاطعته قائلة: دعني أتكلم. لقد رخصت لي بذلك ولكني لم أفعل، فليس لي خليل وكلني منتظرة. إنني أبحث ولكني لا أجده. إنني أريد ظريفاً. أريد أظرف منك. إنني بالقول الذي قلته الآن أمدحك مديحاً لم تفطن غليه).

قال الزوج: (يا عزيزتي إن كل ما تقولينه الآن مزاح لا محل له هنا) فقال: (إنني لست أمزح فإنك سمحت لنفسك بأن تكون من ذوي القرون).

قال الكونت متغيظاً مهتاجاً: (كيف أستعملها؟ أنت قد ضحكت ملء شدقيك لما قالت مدام دي سفري عن زوجها أنه من ذوي القرون).

قال: (ولكن اللفظ الذي يقبل من دي سيفري لا يكون مقبولا منك) فقالت: (كلا، لقد سرك هذا الوصف وأضحك عندما قيل عن دي سيفري، وهو الآن يسوءك عندما يقال عنك. وليس يهمني هذا اللفظ بعينه وإنما أريد أن أعرف هل أنت الآن على استعداد؟).

قال: (على استعداد لأي شي؟) فقالت: (ألست على استعداد لتكون ممن يقال فيهم هذا الوصف؟ إن الذي يضحك عندما يوصف أحد أمامه بهذا الوصف لا يعود إلى الضحك عندما يسمع هذه الكلمة بعد أن يصير هو نفسه متصفاً بها).

قال الكونت: (تعالي يا عزيزتي نتكلم بعقل ونبهي المسيو برويل إلى أن ما فعه الليلة غير لائق) فقالت: (إذن فأنت غيران).

قال: (كلا ولكن لا أحب أن أكون في مركز مخز كالذي كنت فيه بالأمس) فقال: (وهل

ص: 68

شعرت بأنك تحبني في وقت من الأوقات؟).

قال: (إن الإنسان قد يحب من هي أقل بكثير منك في الجمال) فقالت: (إذن فهذا شعورك نحوي لكنني لا أشعر نحوك بشيء من الحب).

فوقف الكونت ثم دار حتى صار خلف زوجته وقبل قفاها فالتفتت إليه وأبعدته عنها ونظرت إليه نظرة غضب وقالت: (ليس بيننا شيء من ذلك، إننا منفصلان).

قال: (تعالي يا عزيزتي. لا تغضبي فقد فتنت بل مدة طويلة ولك عينان. . .) فقاطعته قائلة: عينان (تفتنان المسيو دي برويل).

قال: (أنت قاسية جداً وليس في الدنيا أجمل منك) فقالت: (دعني فأنت صائم).

قال: لست أفهم ماذا تعنين. فقالت: أعني أن الصائم يجوع، وأن الجائع يريد أن يأكل من أي شيء سواء وافقه في وقت آخر أو لم يوافقه. وقد أهملتني مدة طويلة ثم تريد أن تتذوقني الآن.

قال: لماذا يا عزيزتي تخاطبني بهذه اللهجة؟.

فقالت: لأني أعلم أنه بعد انقطاع صلتك بمدام سيفري اتخذت على التوالي أربع خليلات من بينهن خياطة وممثلة ولست أعلل مسلكك اليوم إلا بأنك صائم).

قال: (لا بل سأكون صريحا. إنني عدت إلى حبك وأحببتك إلى أقصى حد) فقالت: (لقد أخطأت فقد انتهى كل شيء بيننا. ولست أنكر أنني زوجة، ولكنني زوجة لها الحرية الكاملة في أن تفعل كل شيء. ولقد كنت الليلة مدعوة إلى موعد فإذا شئت فضلتك على صاحب الدعوة بنفس الثمن).

قال الزوج: (لست أفهم) فقالت: (سأفهمك؛ فقل لي ألست جميلة مثل صاحبتيك الخياطة والممثلة؟).

قال (: (أجمل منهما ألف مرة) فقالت: (أخبرني بالحق كم أنفقت عليهما في ثلاثة أشهر؟).

قال: (لست أفهم) فقالت: (بكم اشتريت لها حليا ومجوهرات؟ وكم أنفقت في المطاعم والمسارح؟).

قال: (لست أستطيع أن أجيبك، ولكني أنفقت كثيراً) فقالت: (ألم يكن متوسط ما أنفقته على إحداهما في الشهر خمسة آلاف فرنك؟).

ص: 69

قال: (نعم وهذا تقدير معتدل) فقالت: (إذن فيا صديقي العزيز أنا أقبل بهذا الثمن أن تتخذني خليلة مدة شهر يبتدئ من الليلة).

قال الزوج: (لا بد أن تكوني مجنونة يا مرغريت) فقالت: (إذا كان هذا جوابك فأرجو أن تتركني وتنصرف).

ثم وقفت الكونتيس ومشت نحو غرفة النوم فسكبت في السرير زجاجة من العطر والتفتت فرأت الكونت واقفاً بالباب وهو يقول: (ما أجمل هذه الرائحة!).

قالت: (هذه رائحة السرير العادية ولم يتغير شيء في المنزل) فقال: (أصحيح هذا؟ أنها لرائحة زكية).

قالت: (ربما! ولكن أرجو أن تترك الغرفة لأني أريد أن أنام).

قال: (يا مرغريت!) فأجابته: (أترك الغرفة! ثم لم تعره التفاتاً بل نزعت ثوبها فبدا ذراعان ملفوفان كأنهما مصنوعان من العاج. ودنا منها الكونت فقالت: (أبتعد وإلا أبعدتك).

فزاد دنواً منها، ولكنها أظهرت الغضب، وتناولت زجاجة من زجاجات العطر ورمته بها فأخطأته ولكن العطر انسكب فوق ثيابه فصاح:(هذا سوء أدب) فقالت: دونك الشرط. . . خمسة آلاف فرنك). . .

قال: (أيدفع الزوج لزوجته الشرعية أجراً؟).

فقالت: (إذا كان هذا حماقة فإن أشد الحماقات أن يدفع للخياطات والممثلات وله زوجة شرعية).

ثم جلست الكونتس على المقعد ونزعت جواربها وأخذ ينظر إلى جمال رجليها ويقول: (إنها لفكرة مضحكة تلك التي تبديها).

قالت: (أية فكرة؟) فقال: (دفع خمسة آلاف فرنك).

قالت: (ليس في الدنيا شيء طبيعي أكثر من هذا إن أحدنا غريب عن الآخر كما أردت أنت، وليس في وسعك أن تتزوج مني لأننا متزوجان، وليس لك أن تعطيني أقل مما تعطيه للأخريات).

ثم قامت وقالت: (أرجو أن تخرج وإلا استدعيت الخادم لإخراجك).

فوقف الكونت واجماً مقدار لحظة ثم ألقى إليها بكيس نقود وقال: (خذي هذا ففيه ستة آلاف

ص: 70

فرنك).

فضحكت وهي تتناول الكيس وقالت: (خمسة آلاف فرنك كل شهر. تذكر يا كونت وإلا فلتعد إلى خليلاتك. وربما. . . ربما إذا أعجبتك الحال طلبت الزيادة.

ع. ق

ص: 71