الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 1022
- بتاريخ: 02 - 02 - 1953
عدالة الأرض
ودم الشهيد حسن البنا
للأستاذ سيد قطب
قضية هذا الدم الزكي لا تزال بين يدي القضاء، فلا تعليق لدي عليها في موضوعها ووقائعها؛ ولكنها تثير في النفس أشجاناً، وتكشف في الوقت المناسب عن حقائق، وتوجه النظر إلى حقيقة عدالة الأرض، وترفع البصر إلى عدالة السماء، وتميز بين ما يصنعه البشر من القانون، وما يصنعه الله من الشريعة. . (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
إن ممثل الاتهام يقول:
(وبما أن الواقعة - كما أظهرها التحقيق - تتلخص في أن الأمير الاي محمود عبد المجيد بيت النية على قتل المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين (المرحوم الشيخ حسن البنا) وإن لم يصل التحقيق إلى تحديد إن كان في ذلك متفقاً عليه مع ولاة الأمور في الدولة - وقتئذ - أو أنه كان يعمل لهذا حتى يحظى بتقدير ولاة الأمور أولئك، لثقته في أنهم أهدروا دم المجني عليه، فبات تنفيذ قتله أمنية يتوقون إلها ويروجون لتحقيقها.
(وتنفيذا لما بيت الأمير الاي محمود عبد المجيد النية عليه، استقدم إليه الأشخاص الذين يعرف فيهم الاستعداد الإجرامي لتنفيذ هذه الجريمة، والذين وقع اختياره عليهم لتدبيرها وتنفيذها، وهم الصاغ حسين كامل، واليوزباشي عبده أرمانيوس، والأمباشي أحمد حسين جاد، ووكيل الباشجاويش محمد إسماعيل، والأمباشي حسين محمدين رضوان، والباشجاويش محمد محفوظ محمد، ومصطفى محمد أبو الليل ويوسف أبو غريب. . . الخ)
وينتهي ممثل الاتهام إلى المطالبة برؤوس هؤلاء الذين حددتهم عريضة الاتهام: ويقف مكتوف اليدين أمام (ولاة الأمور أولئك الذين أهدروا دم المجني عليه) لأن قانون الأرض الذي بين يديه، لا يساعده ولا يساعد العدالة على الأخذ بتلابيبهم على الأقل بتهمة (إهدار دم المجني عليه) وهم المكلفون حماية هذا الدم البريء.
والقضية بين يدي القضاء فيما يختص بالمتهمين، فلا تعليق لي على موضوع الدعوى ولا حوادثها. . ولكن لنفرض أن المحكمة قد أجابت ممثل الاتهام إلى كل طلباته، وسلمت إليه
رؤوس هؤلاء المتهمين. . فماذا تساوي تلك الرؤوس بالقياس إلى رأس حسن البنا؟ وماذا تساوي تلك الدماء بالقياس إلى ذلك الدم الزكي الذي أريق؟
ألا ما أعجز عدالة الأرض حينئذ، وما أقصر يدها عن العدل في أضيق معانيه!
إن أكبر الرؤوس في ذلك العهد الآثم، رؤوس (ولاة الأمور أولئك) كما يعبر عنهم ممثل الاتهام في احتقار. . إن أكبر الرؤوس يوم ذلك مجتمعة لا تصلح أن تكون موطئا لقدم ذلك الشهيد الكريم. ولا تحقق ذلك القصاص العادل من ذلك العهد الفاجر وممثليه أجمعين. . فكيف ببضعة رؤوس صغيرة أكبرها رأس ذلك الأمير الاي الصغير؟
هنا تبدو عدالة الأرض قاصرة. ويبدو تشريع الأرض هزيلاً. ويبدو مشرعو الأرض أقزاماً. .
وهنا تبدو المسافة هائلة بين تشريع الله للبشرية وتشريع الإنسان.
ما جزاء ولي الأمر الذي يهدر دم الأبرياء الطاهر؟
ماذا تقول عدالة الأرض في ذلك الاتهام الذي يذكره ممثل الاتهام على سبيل الجزم والتأكيد؟
لعل الحصانة الكاذبة (لولاة الأمور أولئك) هي التي قيدت يد ممثل الاتهام، فلم يستطع إليهم سبيلا!
فأي زيف زيف تلك الدساتير التي تسبغ الحماية على المجرمين وترفعهم فوق العدالة وفوق القانون؟ وأي عجز في عدالة الأرض وأي قصور؟
إن عدالة الأرض هذه لتمنع محكمة النقض في مواطن كثيرة أن تحكم ببطلان الحكم الجائز إذا لم تجد سبيلاً لقبول الطعن فيه شكلاً، فإذا كانت الإجراءات الشكلية كلها صحيحة ومستوفاة وقفت محكمة النقض عاجزة عن أن تنفذ إلى الموضوع. ممنوعة من إحقاق الحق الذي تراه، مكتوفة عن رفع الظلم الذي تعتقده!
وحتى حين تجد منفذاً في الشكل فإنها تقف مكتوفة اليدين إذا لم تجد في التطبيق القانوني الموضوعي خطأ. . مهما يكن الحلم مع ذلك جائرا.
ولقد وقف المرحوم عبد العزيز فهمي هذا الموقف في قضية البداري. لا يجد سبيلاً إلى دفع الظلم وتحقيق العدل إلا صرخة يبعثها من أعماق ضميره، صرخة في وجه قانون الأرض
الذي يقف جامداً مكبلاً بالإجراءات!
وتخطئ المحكمة ذاتها ثم يتبين لها الخطأ بعد أن تصدر حكمها، فلا تملك حينئذ أن ترجع إلى الصواب. .
لقد خرج الأمر من يدها بمجرد إصدار الحكم!
ها ها! ها ها لعدالة الأرض التي ترى الحق واضحاً ولكنها لا تملك الرجوع إليه، لأن الأمر خرج من يدها محافظة على الإجراءات!
أما عدالة السماء فتقول: إن الرجوع إلى الحق فضيلة. ولا تمنع القاضي الذي يصدر الحكم، ثم يتبين له خطؤه أن ينقض حكمه بنفسه، وأن يرتد إلى الحق، لأن الحق أولى بالإتباع.
وبالطبع لا تقف أمام محكمة أخرى أن ترد الحق إلى نصابه بمجرد أن يتبين الحق، غير مقيدة بهذه الشكليات التي يؤثرها قانون الأرض على العدالة، ويصون اعتبارها ولو بإهدار دماء الأبرياء.
فأين عدالة الأرض من عدالة السماء؟!
إننا حين نطلب للإسلام أن يحكم، وحين نطلب لشريعته أن تكون مصدر التشريع. . إنما نطالب بشريعة أرقى، وبإجراءات أدق، وبعدالة أكمل
والجاهلون يقولون: أتريدوننا على أن نرتد إلى الوراء أربعة عشر قرناً؟!
يا للغرور! يا للجهالة! إن قانونكم هو القاصر العاجز، وإن تشريعكم هو المتأخر الجامد. .
إن شريعتنا التي ندعوكم إليها لا تغل يد القاضي عن العودة إلى الحق، في أي وقت وفي أي دور من أدوار المحاكمة. . حتى بعد الحكم، له أن يعود إلى الحق الذي يراه.
إن شريعتنا لا تقف جامدة مشلولة أمام الظلم الواقع والعدل الضائع، لأنها تريد المحافظة على كرامة الإجراءات دون كرامة العدل والحق والقضاء.
إن شريعتنا لا تقف عاجزة أمام ملك ولا رئيس جمهورية ولا رئيس وزارة ولا وزير ولا كبير. . فحيثما كانت جريمة فشريعتنا حاضرة لردع المجرم كائنا منصبه ما كان.
إن شريعتنا لا تسمي القاتل ولا المحرض على القتل صاحب جلالة، ولا تصون ذاته المقدسة، ولا تضعه فوق القانون.
إن شريعتنا لا تدع ولاة الأمور يهدرون دم الأبرياء، ثم يروحون ناجين لا تمتد إليهم يد القانون الشلاء العزلاء.
لهذا نحن ندعو إلى تحكيم شريعة الإسلام؛ لأنها شريعة أكثر تقدما، وأوسع أفقاً، وأكثر مرونة. . ولأن قانونكم الأرضي قاصر جامد متخلف لا يلبي داعي الزمن؛ ولا يقتص لدماء الأبرياء!
تساوقت هذه الخواطر في نفسي وأنا أطالع صحيفة الاتهام. وأنا أبصر بيد العدالة الأرضية قصيرة عاجزة شلاء. وأتطلع إلى عدالة السماء فأراها شاهقة ساحقة متفوقة شماء.
وقلت: ألا يفتح الله على هذه البشرية فتخرج من مضيق الأرض إلى فسحة السماء؟ ألا يكشف الله عن بصيرة هؤلاء الناس فيبصروا النور الذي يتخبطون دونه في دياجير الظلام؟
إن أشد ما يثير الضحك المر. . رجال القانون عندنا، أولئك الذين يحسبون شرائعهم عصرية تقدمية، ويعدون شريعة الله قديمة ورجعية!
إنهم لا يكلفون أنفسهم النظر في شرائعهم وشريعة الله. ليعلموا أن عقلية التشريع التي بين أيديهم جامدة قاصرة حين تقاس إلى الشريعة السمحة الحرة الدقيقة العادلة.
إنهم جهلاء ويحسبون أنفسهم من العلماء! إنهم جامدون ويحسبون أنفسهم متحررين (وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض. قالوا: إنما نحن مصلحون! ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)
غفر الله لهم وهداهم إلى الحق. والحق منهم على قيد ذراع.
سيد قطب
باطل مشرق
للأستاذ محمود محمد شاكر
لم أكد أفرغ لنفسي، وأنفض عن فكري مثاقل الهم الفادح الذي أتحمله إذا كتبت في شأن هذه الأمم المسلمة - حتى دخلت علي في خلوتي أيام وليال، تعلمني أن الباطل المشرق، صنو الباطل المظلم البهيم. بل إن الباطل المشرق أضرى وأفتك بالبشر من صنوه وأخيه المظلم. للباطل المظلم ردة، كردة الوجه القبيح، يزوي لها الناظر ما بين عينيه، ويرد بصره معرضا عما يرى فيه من قبح. أما الباطل المشرق المضيء، فله فتنة تنادي، كفتنة وجه الحسناء الخبيثة المنبت، تأخذ بعين الناظر، فيقبل عليها ملقياً بنفسه في مهالك هذا الجمال الآسر، وإذا المنبت الخبيث ذرة مستهلكة في هذا التيار المترقرق من فتن الحسن والهوى.
وهذه الرقعة المتراحبة من حدود الصين إلى المغرب الأقصى - والتي تسكنها أمم ورثت اسم الإسلام، فنسبت إليه؛ وصفت به - تعيش اليوم في بريق متلألئ من هذا الباطل المشرق. فمنذ أكثر من مائتي سنة، ضربها الغازي المستعمر الصليبي ضربة رابية، حتى خرت عاجزة، ثم ظل يضربها حتى همدت أو كادت. وفي خلال ذلك كان الغازي يستحييها بحياة غريبة عنها حتى يأتي يوم تتبدل فيه من حياة كانت إلى حياة سوف تكون. وكذلك يقضي قضاءا ساحقا على أسباب الحياة الأولى، الحياة التي كانت تعرف بالحياة الإسلامية.
ثم جاء اليوم الذي ظن فيه هذا العالم أنه ارتد إلى الحياة مرة أخرى. ونعم، أنه ارتد إلى حياة مرة أحرى، ولكن أي حياة! ما على الآلاف المؤلفة التي تدب في أرجاء هذا العالم من مثل هذا السؤال؟
إن حب البقاء في الحي الفرد، أقوى من العقل، أقوى من حب المعرفة، أقوى من حب المال. فإذا ظفر بالبقاء على أمه الأرض، فقلما يبالي بشيء غير هذا البقاء. ولكن الحياة الإنسانية مجتمعة لا تستقيم بحب البقاء وحده. فالاجتماع الذي يضم هؤلاء الأحياء المتشبثين بالبقاء، يحدث لهم ضروبا جديدة من الأماني والآمال والمطامح، تغلب هذا الحب الخفي للبقاء المجرد في الفرد، وتنشئ فيهم حباً لبقاء آخر: هو بقاء حياة الجماعة، من حياة أنشأها الإلف والتعود، وحياة تنشئها الأماني في حياة أتم وأكمل وأمجد. والنزاع بين حياة
الإلف والتعود، وحياة الأماني في الكمال والمجد، نزاع عنيف، وهو على عنفه أمر غامض في نفوس عامة أفراد المجتمع، لأنه يقوم على أماني مبهمة دائماً في أول أمرها. ولا تستبين هذه الأماني إلا في فئة قليلة، تملك من القدرة على النظر، وعلى التأمل، وعلى البيان عن نظرها وتأملها، قسطاً يتيح لها أن تحاول التعبير عن هذه الأماني، تعبيراً يخرجها من حيز الأمر المبهم إلى حيز الأمر البين.
فمن هذا المدخل يدخل على الجماهير أحد رجلين: إما رجل عاقل صادق يحسن النظر والتأمل والبيان، وإما رجل ذكي قادر يموه عليهم بالنظر والتأمل والبيان. أحدهما عارف يصدق الناس ولا يبالي، والآخر دجال يلعب بالناس ولا يبالي. أحدهما لا يأخذهم إلا بالوسائل التي تقوم على الصدق والعدل والحق، والآخر يأخذهم بكل وسيلة لا يعبأ بصدق ولا عدل ولا حق. أحدهما يعلم الناس معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، كما ينبغي لكل تعلم، من جهد ومشقة وحذر وبصر. والآخر يعلمهم معنى هذه الأماني المبهمة في أنفسهم، بما يستثيره فيهم، وما يستغله من نزوعهم وتلهفهم، لا يأبه لشيء إلا لما يستخفهم إلى اتباعه وطاعته وتمجيده.
فالحرية مثلاً شوق تهوى إليه نفوس المستعبدين. كلمة مبهمة تعيش في سر نفوسهم كالقبس المكتوف، لو كشف غطاؤه لأضاء. فالرجل الصادق يعلم النفوس معنى الحرية، ويكسبها من وسائل تعلمها ما لابد لها منه من صدق وعزيمة وجد ومشقة وبصر، حتى تتهاوى الجدران التي تحول بينها وبين الانطلاق، وتنفض الأغلال الثقيلة الغليظة التي تعوق الحي عن إدراك حريته. أما الدجال، فهو لا يزال يصرخ فيهم باسم الحرية، ثم لا يمنح الناس من وسائلها إلا كل وسيلة لا تغني شيئاً في كفاح الجدران والأغلال، بل ربما زادت الجدران صفاقة وقوة، والأغلال ثقلاً وغلظا وفداحة. فهذا هو الباطل المشرق، لأنه يأتي الناس من حيث تهوى أفئدتهم معنى مبهما غامضا كريما، فيموه هذا المعنى بما شاء من تمويه، ليسير الناس ورائه كما هم عمياً صماً، لا ليعلم الناس حقاً يطلبونه ويحرصون عليه ويزدادون معه على الأيام بصراً وإدراكا.
وهذا العالم الإسلامي الذي يموج اليوم موجه، ينبح في نواحيه هذا الباطل المشرق. ينبح في السياسة، وفي العلم، وفي الأدب، وفي الفن، وفي الأخلاق، وفي جماع ذلك كله: في
الدين. هو عالم مستغل، يستخفه الدعاة والدجاجلة، يهتبلون غفلته في هذه الحياة التي ظن أنه ارتد إليها بعد همود، ويختلسون نفضة هذا الشوق المضطرم إلى أمان مبهمة غامضة. ويتولى قيادته في كل شأنه ألسنة لا تبالي، تستفزه إلى المغامرة في سبيل الحياة الماجدة الطيبة التي تجيش فيه. تستفزه بالنداء الصارخ باسم هذه العاني المبهمة في ضميره، وتعطيه وسائل وأساليب ويظنها معينة له على إدراك ما يشتاق إليه، وهي في الحقيقة مفضية به إلى التمرغ في حمأة الجهالة والعبودية والغرور الكاذب، إلى أن يقضي الله في الناس بأمره وقضائه.
وأخطر هذه الألسنة التي تستفز هذا العالم، هي الألسنة التي اتخذت كلمة الإسلام لغواً على عذباتها - لا لأنها أعظم شأناً وأعز سلطاناً من الألسنة الأخرى، ألسنة المموهين باسم الحرية، واسم العلم، واسم الفن، واسم الأخلاق، بل لأنها تعمد إلى كتاب أنزله الله بلاغاً للناس، وحكمة أوحيت إلى رسوله لتكون نبراساً للمهتدين، فتحيلهما إلى معان من أهواء النفوس التي لا نعرف الحق إلا في إطار من ضلالاتها وأوهامها. ثم يتبعهم التابعون الجاهلون اتباعاً، هو سمع وطاعة، ولكن لغير الله ورسوله، بل للزور المدلس على كتاب الله وسنة رسوله. وإذا هؤلاء المتبعون يعدون هذه الضلالة ديناً، ويظنون هذا الدين الجديد إحياء للإسلام. وإذا هم يأخذون دينهم من حيث نهوا أن يأخذوا. يأخذونه عن مبتدع في الدين برأيه، محيل لنصوصه بفساد نشأته، مبدل لكلماته بهوى في نفسه، محرف للكلم عن مواضعه بما يشتهي وما يحب، مختلس لعواطف الناس بما فيه من حب اتباعهم له، خادع لعقولهم برفعة الإسلام ومجد الإسلام، وهو لا يبغي الرفعة والمجد إلا لنفسه.
ولقد أنبأنا معاذ بن جبل رضي الله عنه بصفة ما نحن فيه إذ قال يوماً لأصحابه: (إن من ورائكم من فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى ابتدع لهم غيره. فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة. وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم. وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال له يزيد بن عميرة أحد أصحابه: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال معاذ: بلى! اجتنب من كلام
الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع. وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا).
وقد فتح القرآن، فأخذته الألسنة كلها من مؤمن ومنافق، ومن صغير وكبير، وكل يقول برأيه ولا يختشي ولا يرهب ولا يتقي. وظهر في كل أرض من يقول لنفسه: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ثم يعود من نحسه وشؤمه، يجمع كل خسيسة من البدع التي تميل إليها نفوس الجاهلين الغافلين، وتهوى إليها أفئدة الذاهلين المفتونين بالحب لكل جديد مبتدع. وهو في كل ذلك يعلم أن المبتدع في كل شيء له لذة الجدة، ويعلم أن الناس يشتاقون إلى أمر مبهم في نفوسهم، هو استعادة مجد دينهم، ونشر كلمته في الأرض، فلا يبالي أن يشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فيؤتيهم ما يطابق ما يراه من أشواقهم، ويزين لهم أن بلاغ ما يشتاقون إليه قريب، إذا هم اتبعوه إلى الغاية. وأن شرط بلاغه أن يعطوه السمع والطاعة له ولمن يصطفيهم من شيعته ودعاته. فإذا تم أن تجتمع عليه طائفة من الناس، وظهر بهم أمره، وظنوا أنهم بلغوا بعض ما مناهم لسانه ولسان شيعته ودعاته، قالوا إن الإسلام هو هذا الذي ندعو إليه، وإن طريق الحق طريقنا وحده. وإن الإسلام في غير الإطار الجديد الذي وضعناه فيه ليس من الحق في شيء، وإن هذا الفهم الجديد للإسلام هو خلاص المسلمين من هذه الذلة التي ضربها عليهم الغازي الصليبي. ثم تنشق ردغة هذا الخيال، عن صنوف مختلفة من الفساد المهلك، تجعل تاريخ الماضي كله ضرباً من الحياة الفاسدة، لا ينبغي لأحد من الناس أن يتلفت إليه إلا تلفت المزدري المستنكف. وعندئذ يصبح الدين في أذهان الجماهير المتبعة، رسالة جديدة لها رسولها وحواريوها ودعاتها وشهداؤها. وإلى بيان هذه الرسالة تعود الجماهير، لا إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسوله، نعم، بل إلى تفسير هذا الكتاب وهذه السنة كما يراها لهم طواغيتهم من كهوف التبديل والتحريف والتأويل بالهوى والضلالة. وعندئذ يتم تبديل معنى الإسلام في الناس، ويتم للدجال أن يبتدع بهواه إلى طب في أهوائهم كتاباً غير كتاب الله. ولولا أن الله قد ضمن لنا حفظ نص كتابه، وحفظ نص البيان عنه في سنة رسوله لفعل هذا وأشياعه ما فعل أسلافهم ممن بدلوا كتب الله وحرفوها، ومحوا منها وأثبتوا، ونقصوا فيها وزادوا.
لولا هذا الذي نخافه، بل كان مما نخافه، لما عددت هؤلاء أشد خطراً من الألسنة التي تموه
على الجماهير الجاهلة الغافلة باسم الحرية، واسم العلم، واسم الفن، واسم الأخلاق، فطريقهما في الحقيقة واحد، ومنشؤهما واحد، ونتائجهما واحدة، في التغرير بالناس، والعبث بعقولهم، والإفساد بفطرتهم، واللعب بعواطفهم، وإيهامهم بأن نجاتهم من عبودية الغزاة أمر قريب لا يكلفهم إلا أن يسمعوا لمن يقول لهم: كونوا أحرارا، فإذا هم سادة أحرار كما ولدتهم أمهاتهم!
اللهم إني أبرأ إليك مما نحن فيه. اللهم إني أخوف الناس مما خوفهم منه عبدك ورسولك إذ يقول: (أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان). اللهم إني أقول كما قال صاحب رسولك معاذ بن جبل: (الله حكم قسط، هلك المرتابون!)
محمود محمد شاكر
شعراء الوطنية
عبد الله نديم
للأستاذ المؤرخ عبد الرحمن الرافعي
تحدثنا في مقالنا السابق عن رائد أول للشعر الوطني، وهو رفاعة رافع الطهطاوي. وقد توفي سنة 1873. وظل الشعر في مصر خلواً من المعاني الوطنية، إلى أن تجددت في شعر عبد الله نديم. وهو ما نتحدث عنه في هذا المقال هو خطيب الثورة العرابية، وهو أيضاً شاعرها، انطبعت في خطبه وقصائده روح الوطنية المتدفقة. وروح الثورة.
ولد سنة 1845بالإسكندرية، وبدت عليه منذ صباه مخايل الذكاء اللامع، وظهرت مواهبه في الترسل في الكتابة والشعر والزجل والقدرة الخطابية، مع خفة في الروح، وميل إلى الفكاهة. وجرأة وإقدام، واستخفاف بأحداث الزمن.
ولما ظهرت الثورة العرابية أوائل سنة 1881 انضم إليها بطبعه؛ إذ كانت نفسه تتأجج وطنية، وتتطلع إلى الحرية والمجد. وتجلت مواهبه الخطابية، فصار خطيب الثورة العرابية.
ومما يذكر عنه في صدد الحديث عن شعره الوطني أنه لما سافر الألاي السوداني الذي كان يقوده الأمير الاي عبد العال حلمي أحد زعماء الثورة من القاهرة إلى دمياط في أوائل أكتوبر سنة1881، كان سفره يوما مشهوداً. فاحتشدت الجموع في محطة العاصمة لتحية الألاي حين سفره، وكان من بين المودعين عرابي والبارودي وعبد الله نديم، فوقف النديم وسط هذا الجمع الحاشد وألقى خطبة حماسية فياضة بدأها بقوله مخاطباً رجال الجيش:
(حماة البلاد وفرسانها!
(من قرأ التواريخ وعلم ما توالى على مصر من الحوادث والنوازل عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات
إلى أن قال: وهذا وطنكم العزيز أصبح يناديكم ويناجيكم ويقول:
إليكم يرد الأمر وهو عظيم
…
فأنى بكم طول الزمان رحيم
إذا لم تكونوا للخطوب وللردى
…
فمن أين يأتي للديار نعيم؟
وإن الفتى إن لم ينازل زمانه
…
تأخر عنه صاحب وحميم
فردوا عنان الخيل نحو مخيم
…
تقلبه بين البيوت نسيم
وشدوا له الأطراف من كل وجهة
…
فمشدود أطراف الجهات قويم
إذا لم سيفاً فكن أرض وطأة
…
فليس لمغلول اليدين حريم
وختم خطبته بقوله: وأحسن ما يؤرخ به اسم الجهادية عند النوازل أن يقال (مات شهيد الأوطان!) فنادى الجميع (رضينا بالموت لحفظ الأوطان!)
ولما شبت الحرب العرابية لازم النديم عرابي في كفر الدوار ثم في التل الكبير، وكانت مجلته (الطائف) تصدر في معسكر الجيش المصري.
وبعد أن وقعت الهزيمة ظل مخلصاً للثورة في محنتها. فبرهن على وفاء نادر ووطنية أصيلة عميقة. وكان ممن أمرت الحكومة باعتقالهم، وعجزت عن التعرف إلى مقره والقبض عليه، وظل مختفياً عن عيونها وجواسيسها نحو تسعة أعوام. وأعيا الحكومة أمره وجعلت ألف جنيه لمن يرشد عنه ولكنها لم تهتد إليه.
وقد وصف ما لقيه من الشدائد أثناء اختفائه في قصيدة تفيض إيماناً وفخراً وشجاعة. وهي من غرر قصائده. قال:
أتحسبنا إذا قلنا بلينا
…
بلينا أو يروم القلب لينا
نعم للمجد تقتحم الدواهي
…
فيحسب خامل أنا دهينا
تناوشنا فتقهرنا خطوب
…
ترى ليث العرين لها قرينا
سواء حربها والسلم إنا
…
أناس قبل هدنتها هدينا
إلى أن قال:
إذا ما الدهر صافانا مرضنا
…
فإن عنا إلى خطب شفينا
لنا جلد على جلد يقينا
…
فإن زاد البلى زدنا يقينا
ألفنا كل مكروه تفدى
…
له فرسانه بالراجلينا
فأعيا الخطب ما يلقاه منا
…
ولكنا صحاح ما عيبنا
سلينا يا خطوب فقد عرفنا
…
بأنا الصلب صلنا أو صلينا
وقري فوق عاتقنا وقولي:
…
نزلت اليوم أعلى طور سينا
علينا للعلا دين وضعنا
…
عليه الروح لا الدنيا رهينا
فهل يمسي رهين في سرور
…
وهل تلقى بلا كدر مدينا
إذا ما المجد نادانا أجبنا
…
فيظهر حين ينظرنا حنينا
يغنينا فيلهينا التغني
…
عن الباكي وينسينا الحزينا
ولسنا الساخطين إذا رزئنا
…
نعم يلقى القضا قلباً رزينا
فإنا في عداد الناس قوم
…
بما يرضى لنا الإله رضينا
إذا طاش الزمان بنا حلمنا
…
ولكنا نهينا أن نهينا
إلى أن قال:
سلوا عنا (منابرنا) فإنا
…
تركنا في منصتها فطينا
لحكمتنا تقول إذا هذرتم
…
ألا هبي بصفحك فاصبحينا
سرى فينا من الآباء سر
…
يسوق البر نحو المعوزينا
فإن عشنا منحنا سائلينا
…
وإن متنا نفحنا الزائرينا
وقال يصف إحاطة الجند بالمنزل الذي كان فيه يريدون اعتقاله فنجاه الله من شرهم:
أأنسى يوم مصر والبلايا
…
تطاردني ولا ألقى معينا
فكنت الغوث في يوم كريه
…
أخاف الشهم والحبر السمينا
مدحنا فيه في إشراق شمس
…
فلما جاء مغربه هجينا!
وهل أنسى هجوم الجند عمراً
…
بلا علم وقد كنا فجينا
أحاطوا بي وسدوا كل باب
…
وصرنا بين أيدي الباحثينا
وكان السطح مملوءاً بجند
…
وخلف البيت كم وضعوا كمينا
فأدركت الوحيد وكان صيداً
…
قريباً من فخاخ الطالبينا
وأرشدت النديم إلى مكان
…
رآه بعد حيرته مكينا
وأعمى الله عنا كل عين
…
وكنا للعساكر ناظرينا
وصرنا فوق سطح فيه علو
…
يحطم هاويا منه متينا
فلم أرهب وثوبي من طمار
…
ولم أنظر شمالاً أو يمينا
ويوم الغيظ كنت لنا مجيراً
…
بسطوته من البلوى حمينا
فقد كنا بلا ستر يرانا
…
أمام العين كل القاصدينا
وكم سرنا بلا خوف جهاراً
…
ركبنا الخيل أو جئنا السفينا
وإني الآن في خطب عظيم
…
أرى في طيه داء دفينا
أتانا مخبر عن قوم سوء
…
أرادوا وصفنا للحاكمينا
وخاف الضر أحبابي جميعاً
…
وقالوا بالوشاية قد رمينا
فعجل بالرحيل بلا توان
…
ولا تخبر صديقا أو خدينا
فأدرك يا أبي نجلا دهاه
…
من الأهوال ما يوهي البدينا
فما خفت المنون ولا الأعادي
…
نعم خفت انشراح الشامتينا
فسرت الليل يصحبني ثبات
…
لخل نحو منزله دعينا
ورافقني خليل كان قبلاً
…
يوافي حين كنا ظاهرينا
وأدركنا القطار بغير خوف
…
وكنا بالثياب منكرينا
وألقى الله ستر الحفظ فضلاً
…
فلم ترنا عيون المبلسينا
وكان الخل منتظراً قدومي
…
بخيل أوصلتنا سالمينا
ونجى الله بعد اليأس عبداً
…
يرى الرحمن خير المنقذينا
وإنك لترى هذا الشعر أقوى في الروح والأسلوب من شعره في أبان الثورة. وهكذا يبدو أن الهزيمة لم تنل منه. بل زادته قوة وحيوية وصلابة وبلاغة. وأن الشدائد قد صقلت مواهبه كما تصقل المعادن وتجلى جواهرها على لهب النار. فاحتفظ النديم في سني المحنة بما حباه الله من إيمان صادق. وعزم ثابت. وصمود على الأيام. وكذلك الشدائد والمحن. يختلف أثرها في نفوس الناس. فبينما تبعث اليأس والجزع في النفوس الضعيفة. نراها على العكس تزيد النفوس الكبيرة ثباتاً وصبراً وشجاعة وإيماناً. ومن هنا جاء شعر النديم بعد هزيمة الثورة أقوى منه في أوج انتصارها.
وفي الحق أن النديم هو الزعيم الوحيد بين الزعماء العرابيين الذي استمر في جهاده ضد الإنكليز وفي نضاله عن مصر في عهد الاحتلال. وتلك لعمري ميزة كبرى جديرة بأن تحيط اسمه بهالة من المجد والخلود. وقد اهتدت الحكومة إلى مكانه سنة1891 وقررت نفيه إلى خارج القطر. وفي أوائل عهد الخديوي عباس الثاني عفى عنه ورخص له بالعودة إلى مصر. فعاد إليها وأنشأ مجلة (الأستاذ) سنة1892، فتجلت فيها روحه الوطنية التي لم
تضعفها الهزيمة ولم تنل منها الشدائد، مما أحفظ عليه الإنجليز وصنائعهم. فتدخل اللورد كرومر وأمر بإبعاده عن مصر ثانية. فاضطر إلى تعطيل صحيفته سنة1893. وودع قراءه وداعاً مؤثراً في آخر عدد منها (في 13يونية سنة1893) قال: (ما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال ومصادمة النوائب. والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال، وإن كان المبدأ صعوبة وكدراً في أعين الواقفين عند الظواهر. وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلاً:
أودعكم والله يعلم أنني
…
أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قلى كان الرحيل وإنما
…
دواع تبدت فالسلام عليكم!
وانتهى به المطاف في منفاه إلى الآستانة حيث توفي سنة1896. وشيعت جنازته في احتفال مهيب مشى فيه كثير من العلماء والكبراء يتقدمهم السيد جمال الدين الأفغاني. ودفن هناك
بالأمس كان غريباً في ديارهم=واليوم صار غريب اللحن والكفن
عبد الرحمن الرافعي
الآنسة (عطار)!
للأستاذ علي الطنطاوي
أخذت بنتي عنان الشهادة الابتدائية هذه السنة. ونالت درجة تدخلها الثانويات الرسمية التي يزدحم الناس عليها، ويتسابقون إليها؛ لأنها (في الغالب) أحسن تعليما، وأمتن نظاما؛ ولأنها بعد المجان والمدارس الأهلية بالأجر (الفاحش أحيانا)، ولكني آثرت مع ذلك كله أن أدخلها (المعهد العربي الإسلامي) للبنات، لأنه يجمع بين اتباع مناهج الوزارة، والتأدب (ما أمكن) بآداب الإسلام؛ ولأنه لا يعلم فيه إلا أوانس وسيدات، فليس فيه معلمون مع المعلمات؛ ولأن المشرفين عليه رجال منا، يعرفون من الأمر ما نعرف، وينكرون ما ننكر، ولا يأبون سماع النصح منا أو من غيرنا، واتباع سبيل الرشاد وترك طريقهم إليه إن دللناهم عليه نحن أو دلهم عليه سوانا. وكذلك يكون المسلم: يأخذ الحكمة من أي وعاء خرجت، ويسمع كلمة الحق أيا كان قائلها.
وترددت البنت خشية انتقاص صواحبها، وكلام أترابها. والنساء - مهما كانت أعمار النساء - لا يعشن من الدنيا في حقيقتها، وإنما يعشن في آراء الناس وألسنتهم. والشقاء عند أكثرهن مع التظاهر بالسعادة حتى يظنها الناس فيهن، أحب إليهن من أن يكن سعيدات وهن في ظن الناس شقيات. هذي طبيعة النساء!
ودخلت المدرسة مكرهة، فما مرت أيام حتى صار الإكراه رضا، والكره حبا. واشتد تعلقها بالمدرسة؛ لأن فيها الآنسة عطار والآنسة شطى والآنسة درا، وصارت تجيئنا كل ليلة فتقول لي ولأمها:
- بابا! الآنسة عطار قالت لنا إن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة. الآنسة عطار يا ماما، حكت لنا قصة الثلاثة الذين انسد عليهم الغار.
الآنسة عطار كلمتني اليوم، الآنسة عطار ضحكت لي. إن حيتها الآنسة عطار طارت من الفرح كأنما حيتها الملائكة. وإن بسمت لها فكأنما بسم لها الدهر؛ وإن قالت لها كلمة نقشت كلمتها على صفحة قلبها فلا تنساها، وكانت دستورا لها فلا تحيد عنها. قالت لها الآنسة عطار: أقرئي كل يوم صفحة من القرآن، فلم تعد تترك قراءة صفحة من القرآن كل يوم. وجاء دمشق (سرك) تسابق إليه الناس، وتعلقت به البنت، وحاولت صرفها عنه فلم
تنصرف. فلما قالت لها الآنسة عطار: إن هذا السرك شيء قبيح، صار هذا السرك أكره شيء لها.
عجبت من هذه (الآنسة عطار) ما تكون؟ ومن أين لها هذا النفاذ إلى قلوب البنات؟ وماذا فيها حتى تكون الإشارة الواحدة منها أبلغ من مائة نصيحة مني، والبسمة من فمها أرضى للبنت من الهدية القيمة من يدي! وسألت البنت عنها:
- قالت: هي مدرسة السنة الثالثة، يحبها البنات كلهن، ألا تعرفها يا بابا؟
- قلت: من أين أعرفها؟
- قالت: إنها تلميذتك. هكذا قالت لي. تلميذتك، نسيتها؟!
وعرفت أخيرا من هي هذه (الآنسة عطار). لقد كانت تلميذتي حقاً وذكرت من أمرها (على قلة ما أذكر من أمور تلاميذي وتلميذاتي) ما يكون إن نشرته إماماً لكل طالبة، وقدوة لكل تلميذة، ومثالا للطالبة الجادة الشريفة المسلمة، فلذلك أنشره.
ذكرت كيف اضطرتني إلى الانتباه إليها، قبل أن أعرف اسمها وألزمتني (وأنا مدرسها) بتوقيرها قبل أن أخبر علمها؛ لأني رأيتها لا تشارك التلميذات في لهو في الفصل، أو عبث في الفسحة؛ ولم يكن يحاولن إشراكها معهن. وكن يتكلمن بينهن بلسان الألفة والتبسط والجراءة، فإذا وجهت إحداهن القول إليها اصطنعت الجد وتكلفت الوقار، وخاطبتها لا مخاطبة الترب للترب، بل التلميذة للمدرسة، والبنت للأم. وما كانت أكبرهن سناً، ولكن كانت أكثرهن أدباً، وأكبرهن عقلاً. وإذا ألقيت في الفصل نكتة ضحك لها البنات، كانت ضحكتها ابتسامة، تومض بلطف ويختفي بسرعة. وإذا عرضت كلمة فيها إشارة إلى ما لا يحسن، أو جاء بيت فيه تعليق بما لا يليق، علا خديها الاحمرار خجلاً وأطرقت حياء.
وكانت الطالبات يدخلن الفصل مكشوفات الرؤوس، يحسبن أن المدرس ليس رجلاً أجنبياً، وليس عليهن الاستتار منه، ولا عليه غض البصر عنهن، ومنهن من تلقي على رأسها شيئاً لا يستر شعراً ولا نحراً - أما هي فكانت تظهر وجهها وحده على الصورة التي صوره الله عليها، لا التي صورتها منتجات (ماكس فاكتور في هوليود). . . تلف حوله خماراً أسود على زي ابتكرته هي لنفسها، وسيقلدها فيه غيرها فتكون سنة حسنة لها أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة - لفاً محكماً أنيقاً، لا تنكره الشيخة المتدينة، ولا تستقبحه الفتاة
المتمدنة. لا يبدي الشعر ولا النحر، ولا يثقل على راس حاملته ولا عيون الناظرين.
وذكرت كيف أخرجتها أول مرة لتقرأ شيئاً، فسمعت إلقاء أجزم أني ما سمعت قط من فتاة أوضح منه ولا أفصح، وقلما سمعت من رجل مثله، إلقاء خطيبة واثقة من نفسها، متمكنة من أدبها، ضابطة لمخارجها؛ فاهمة لمعانيها مؤدية لها. فلو أن أمرؤ لا يعرف العربية يسمعها لفهم من لفظها المعنى من تفخيم اللفظ في موضع التفخيم. وترقيقه في حل الترقيق، وإيفاء اللهجات في السؤال والجواب والدهشة والإعجاب. فكأنك لا تسمع كلاماً، وإنما تبصر من هذا الإلقاء المعبر (فلماً) ناطقاً ملوناً؛ على ضبط للألفاظ، وحفاظ على القواعد، وتمكن من اللغة والنحو.
وكانت مسلمة علماً وعملاً واعتقاداً، وذلك جماع الإسلام.
ونالت شهادة البكالوريا ودخلت الجامعة، والجامعة فيها هذا المنكر العجيب:
الاختلاط بين الشبان والشابات في غرفة الدرس، وفي باحة الكلية، وفي حديقة الجامعة، وفي المكتبة، وفي النادي، وفي الرحلات والحفلات (وهما شر تلك المنكرات). والطريق إلى الجامعة طويل، والدروس في الليل والنهار، والجامعة في طرف البلد بين البساتين والأنهار، والدين ضعيف، والزمان فاسد، والغرائز مكبوتة، وإبليس مستعد متيقظ. ولا يأمن مع هذا كله الفساد على بنته إلا مغامر لا يبالي ما فقد من عرضه، أو مجنون من شأنه إلا يبالي بشيء!
فكانت سيرتها من الجامعة عجباً من العجب. وكانت تجربة وقى الناس الله شرها. كما قال عمر بن الخطاب: وما كل تجربة يوقى صاحبها الشر - لم تختلط بأحد، لا بطالب ولا بطالبة ولا بأستاذ.
أما الطلاب، فلأن الدين والشرف والعرف تمنع كلها اختلاطها بهم، ولو للسؤال عن موعد الدرس، أو معادلة الكيمياء، إذ يجر السؤال عن موعد الدرس إلى السؤال عن موعد الغرام، والمعادلة تدعو إلى المقابلة، وما تقابل البارود والنار، إلا كان الانفجار!
وأما البنات، فلأن في خلطة بعضهن ما هو شر من خلطة الشباب، إذ يفسدن من لا يطمع في فسادها أفسق شاب؛ ولأن منهم رسل الشيطان، ووسائط الاتصال بالرجال.
وأما الأساتذة فلأنهم (هم أيضاً) رجال، ولأن الشرع لما أمر بستر العورة، وغض النظرة،
قد شمل بذلك كل رجل وكل امرأة، فلم يستثن من النساء تلميذة، ولا من الرجال أستاذاً؛ ولأن المدرس المؤدب المهذب الذي يدرس الخلق والدين، لا يبقى أبداً كما يكون في الفصل؛ ولأن حالات مختلفات، وغرائز وشهوات، فإن تكلم في الفصل بلسان عقله فقد يتكلم خارج الفصل بـ. . . غير لسان العقل!
والصخرة الراسية إن أزحتها شعرة بعد شعرة حتى فقدت رسوخها، رأيتها تتدحرج فتهوي فلا تستقر إلا في قرارة الوادي. وكذلك البنت لا تسقط فجأة، ولكنها تلين ثم تتزحزح ثم تضعف فتهوى (هي أيضاً) إلى الحضيض. فرب بكر عذراء شريفة، تستطيع أن تفخر بأشرف أب، وأن تظفر بأفضل زوج، وأن تكون سيدة مجمعها، ووجيهة قومها، تغدو غدوة، أو تزور زورة، فتمزح مزحة، وتضعف لحظة، فإذا هي قد غدت ساقطة، وصارت بغياً، لا يقبل المجتمع توبتها، ولا يغسل حوبتها. أما الذي أغواها، فسرعان ما ينسى الناس فعلته، ويقبلون توبته، ويغسلون حوبته، فيذهب هو بغنم اللذة، ويبقى عليها غرم العقاب، تحمله وحدها، عاراً لاسمها، وولداً في بطنها، فتكون قد شرت شقاء العمر بلذة دقائق خمس أو عشر!
فلما استقرت قدمها في الجامعة، وعرفت (صامتة) من حولها، اصطفت طائفة من البنات، من كل عفيفة شريفة، صينة دينة، فنفخت فيهن روحاً من روحها، وصبت فيهن عزماً من عزمها، وجعلت منهن جبهة للصيانة والديانة، والشرف والعفاف، يأس منها الفساق، كما يئس من دخول الجنة إبليس. والشاب مهما كان جريئا في فسقه لا يقدم على البنت إن رأى منها الجد والصد، ورآها تمشي رافعة الرأس، ثابتة القدم. وإن أقدم عليها فأغلظت رده، أو لطمت خده، ولعنت أباه وجده، فإن زاد فخلعت نعلها من رجلها ونزلت به على رأسه - لما عاد.
أما سيرتها في بيتها، فسيرة البنت البارة، والطالبة الجادة، والمسلمة التي تعرف حق نفسها وحق أهلها وحق ربها، تترك لله كل ما لا يرضي الله، لا رغبة عنه في الظاهر مع رغبة فيه في الباطن، بل عن إيمان ويقين، وتصديق لقول الرسول: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
تركت القصص الفاجرة، والأفلام الداعرة، وكل ما تتسابق إليه من اللهو الفتيات، وما تطمع
فيه من التوافه البنات، فعوضها الله عن ذلك علماً وفهماً، ومنزلة تتمناها كل بنت فلا تصل إليها إلا القليلات؛ وراحة في نفسها، واطمئناناً في قلبها لا ينالهما بالمال بنات ملوك المال.
هذه هي الآنسة عطار التي تعلمت من سيرتها أنه لا يصلح البنت إلا الصالحات من البنات، فإذا أردنا الإصلاح حقاً فلنعد له مثل (الآنسة عطار) التي أنشر هذا الطرف من سيرتها، لتتخذها طالبات الجامعات قدوة لهن ومثالا، ولتزداد هي صلاحاً بذلك وكمالاً.
علي الطنطاوي
الجناس التام في القرآن
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ذكر صاحب الإتقان وتابعه صاحب الوسيلة الأدبية أن ليس في القرآن الكريم من الجناس التام إلا مثالان: قوله تعالى من سورة الروم (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا إلا ساعة) ومن سورة النور (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار. يقلب الله الليل والنهار. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)
وقولهم هذا إن صدق فليس بذي خطر، فليس يهم أن يكون في القرآن جناس تام أو لا يكون، فما الجناس التام إلا نوع ضئيل من الجناس، وما الجناس إلا نوع واحد من المحاسن البديعية، وما هذه إلا باب من الأبواب التي تتحقق بها موسيقى التعبير في فصيح الكلام، وهي الموسيقى التي بلغت كمالها وتمامها في القرآن. لكن القضية من حيث هي جديرة بالتمحيص لاتصالها بالقرآن الكريم من ناحية، ولبعد فيها من ناحية أخرى فمن البعيدأن لا يحوي القرآن على سعته إلا مثالين اثنين من الجناس التام.
إن المحاسن اللفظية وجدت في فصيح كلام العرب وفي القرآن العزيز قبل أن تسمى بأسمائها في علم البيان أو البديع. فالعلم يستقري الموجود ويصنفه ويضع لأصنافه الأسماء. وما أظن العلمين أحاطا بكل الموجود من أصناف تلك المحاسن. وموضع اللطف في الجناس التام إذا لم يفسده التكلف أنه يلفت الذهن إلى معنيين مختلفين بلفظ واحد يذكر بمعنى ويتكرر بمعنى. فهو من حيث المعنى كلمتان مختلفتان، ومن حيث المنطق كلمة واحدة. ومن الواضح أن السليم العفو منه لا يكون في الغالب إلا في المشترك من الألفاظ.
وليس لما اشترطه بعضهم في الجناس التام من ألا يكون أحد المعنيين مجازياً محل ولا حكمة ما دام موضع الحسن هو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى؛ فاللفتة الذهنية هي سواء أكان المعنيان حقيقيين كلاهما، أم كان أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً.
ولعل هذا الشرط الذي اشترطوه هو الذي ضيق عليهم الواسع من أمثلة الجناس في القرآن. وحتى مع هذا الشرط فإن في القرآن الكريم من الجناس التام أمثلة فوق الذي ذكروا لا يدرى كيف خفي عليهم مكانها وهم من هم في الدقة والتنقيب وتمام العناية بالقرآن.
وهم يقسمون الجناس التام قسمين، فما كان بين لفظين من نوع واحد كأن يكونا اسمين أو
فعلين سموه متماثلاً، وإلا فهو مستوفي. ولكل أمثلة في القرآن الكريم.
فمن أظهر أمثلة المستوفي مثلان: الأول في قوله تعالى لأسرى بدر من سورة الأنفال: (إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم) فإن خيراً الأولى اسم، وخيراً الثانية أفعل تفضيل. أما المثل الثاني ففي قوله تعالى من سورة المؤمنون بعد أن نفى أن يكون معه سبحانه إله غيره:(إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) فإن الجناس بين الفعل علا والحرف على تام ظاهر لا ينقص منه دخول لام التوكيد على الفعل قياساً على دخول فاء العطف وأداة التعريف على أحد ركني الجناسين دون الآخر في بعض الأمثلة المشهورة في علم البديع.
أما المتماثل منه فأمثلته في القرآن الكريم متعددة، نذكر الآن منها عدداً ليرى القارئ البصير فيها رأيه. وما نظنه يخالفنا فيها كلها إن خالفنا في بعضها. فمن ذلك قوله تعالى في سورة الأنفال (وما رميت إذ رميت إنما الله رمى) فإن رميت الأولى المنفية لا يمكن أن تكون بمعنى رميت الثانية المثبتة، وإلا كان ذلك من التناقض المستحيل على القرآن. فلابد أن تكون الأولى بمعنى أصبت وتكون الثانية على ظاهرها بمعنى رميت، إشارة إلى قذف النبي صلى الله عليه وسلم الحصى أو التراب في وجوه المشركين في غزوة بدر وما كان من انهزامهم عقب ذلك. فالرمي بمعنى القذف هو من النبي، والرمي بمعنى إصابة أعين المشركين حتى انهزموا هو من الله سبحانه. فاللفظ واحد والمعنى جد مختلف.
وفي الحق أن هذا المثال يفتح باباً واسعاً للجناس التام في القرآن هو باب الآيات التي ينسب فيها نفس الفعل أو الشيء إلى الخالق سبحانه وإلى المخلوق في وقت واحد، إذ من الواضح أن المعنى لا يمكن أن يكون واحداً في الحالين وإن اتحد اللفظ؛ كما في قوله تعالى حكاية لقول سيدنا عيسى يوم القيامة تبرؤا من أن يكون دعا الناس إلى عبادة نفسه وعبادة أمه من سورة المائدة (إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فإن (نفس) هنا في تكرارها ذات معنى يختلف في الموضعين اختلافاً كلياً حسب نسبتها إلى عيسى أو نسبتها إلى الله سبحانه. وإن جاز أن يكون اختلاف الضمير المتصل مخرجاً لهذا المثل عن تمام الجناس في منطق اللفظين.
وإذا عدنا إلى الأمثلة المألوفة وجدنا مثالا آخر في أول سورة الرحمن في قوله تعالى:
(والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)
وعجيب أن يكون مثل الزمخشري وقد فهم لفظ الميزان بمعنى واحد في المواطن الثلاثة وإن توسع فيه فجعله يشمل كل معيار في الكيل والوزن وغيرهما. ولكن القاموس يذكر من معاني الميزان العدل. وغلى هذا ذهب عدد من المفسرين في الموطن الأول ففسروا (ووضع الميزان) بمعنى (وشرع العدل) كما في روح المعاني للألوسي والتفسير المحيط لأبي حيان. وهذا يجعل الآيات الكريمة من الأمثلة الفريدة لتمام الجناس حتى لو اتخذ معنى الميزان في الموطنين الآخرين: لكن الأقرب الأصوب أن يختلف معناه في الآيات الثلاث، فيكون في الآية الأولى بمعنى الشرع الذي توزن به الأعمال والأحكام في الجماعات، ويشهد لهذا آية سورة الحديد:(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) إذ من الواضح أن الميزان هنا لا يمكن أن يكون الآلة المعروفة بدليل (أنزلنا)، ودليل العطف على الكتاب، ودليل الإطلاق في قيام الناس بالقسط. هذا في الآية الأولى. أما في آية الرحمن الثانية فيكون الميزان على هذا مصدراً ميمياً بمعنى الوزن أي التقدير والحكم. وفي القاموس من بين معاني الميزان أنه المقدار، ومن بين معاني المقدار أنه القدر بمعنى القضاء والحكم. ويكون بمعنى الآية الكريمة على هذا (ألا تطغوا في القضاء والحكم) أما الميزان في الآية الثالثة فبالمعنى المعروف. والنهي عن إخسار الميزان نهي عن الطغيان فيه؛ لأن التعامل بالميزان عملية ذات طرفين إذا جونب القسط فيها كان ذلك طغيانا أو إخساراً حسب الطرف المنظور إليه.
هذا هو الوجه في فهم تلك الآيات الكريمة وتفسيرها تفسيراً يتفق مع الإحكام الذي وصف الله به آيات كتابه العزيز في أول سورة هود.
وهناك باب واسع من أبواب الجناس التام في القرآن لم ينتبه إليه، ألا وهو الجناس بين الحروف والأسماء المبنية فإن الحرف أو الاسم المبني قد يتعدد معناه في العربية، فإذا ورد في آية بأكثر من معنى كان ذلك من تمام الجناس. إلا أنه لقصر هذا النوع من الكلمات وقلة حروفه يشترط لنحقق الحسن البديعي شروط. بشرط مثلا الانفصال فلا تكون اللام في الآية الكريمة من سورة الحجر:(قال لم أكن لأسجد لبشر) مثلا للجناس التام. ويشترط فيه
التقارب فلا تكون ما الشرطية وما النافية في الآية الكريمة (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، وما للظالمين من أنصار) مثلا ظاهراً، لطول الفاصل بينهما. فإذا ما تحرينا هذين الشرطين وجدنا من هذا النوع أمثلة غير قليلة. فمما يتعلق بما من ذلك قوله تعالى:
(قلتم ما ندري ما الساعة): سورة الجاثية
(ما قلت لهم إلا ما أمرتني به): سورة المائدة
(إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله): سورة هود
فإذا ضممنا إلى الشطر الأول من هذا المثل ما سبقه في نفس الآية وجدنا مثلاً لطيفاً لورود (ما) ثلاث مرات بثلاث معان مختلفة: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)
ومن الأمثلة التي تم الجناس فيها بورود (من) بمعنيين مختلفين قوله تعالى من سورة البقرة: (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) فالأولى موصولة والثانية شرطية. وقد راعينا في هذه الأمثلة الشرطين اللذين اشترطنا وتجنبنا ما لم يتوفر فيه شرط الانفصال ولو في الظاهر كما في قوله تعالى من سورة البقرة: (فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) ففيه اتصلت ما المصدرية بالكاف. وكما في قوله تعالى من سورة الكهف (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أو قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) فقد اتصلت من الاستفهامية بالفاء في الآية الأولى، وأدغمت من في من الموصولة في الآيتين فكانتا كالكلمة الواحدة في النطق وفي الرسم. وإلا فهذا النوع في القرآن الكريم كثير.
على أننا إذا جعلنا اختلاف المعنى للكلمة المكررة هو العمدة والفصل في الجناس التام انفتح لنا منه في باب آخر هو باب الكلمة يختلف معناها لا باختلاف نوعها كما في الأمثلة السابقة ولكن باختلاف مرجعها والمراد منها وإن ظلت الكلمة هي هي في حقيقتها. خذ مثلا إليك قوله تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) في موضعها من سورة الرحمن. إذ المعنى في الإحسانين ليس بواحد، فإن الإحسان الأول هو من العبد في العمل، والإحسان الثاني هو من الله في الجزاء. فالأول بمعنى الإتقان والإخلاص لله في العمل، والثاني
بمعنى الإكرام وإجزال الثواب للعبد. فهو في صميمه مثل فريد من أمثلة الجناس التام إذا أخذنا في هذا بمقوماته وروح الحسن فيه.
ومثل هذا قوله تعالى من سورة براءة: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو إذن، قل أذن خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) فإن (أذن) الأولى غير (أذن) الثانية في الدلالة وفي المعنى الذي تفيد أنه في موضعهما من الآية. الأولى للذم أراده المنافقون والثانية للمدح أراده الحق سبحانه وأظهره بإضافتها إلى خير. كذلك يؤمن الأولى غير يؤمن الثانية في المعنى وإن جاء الفرق من اختلاف حرف الجر بعدهما، فإن الإيمان بالله غير الإيمان للمؤمنين. فهذا إذا أخذنا بالجوهر لا بالعرض مثل من أروع أمثلة الجناس التام.
هذه صنوف من الأمثلة جئ بها على سبيل التوضيح لا على سبيل الحصر، وسيختلف الحكم فيها وعليها باختلاف المعايير، ولكن سيسلم منها على أي حال لجميع النظار على اختلاف المعيار مثل جديدة تنقض تلك القضية التي جرى عليها علماء العربية ومن بينهم صاحب الوسيلة الأدبية وصاحب الإتقان، من ندرة الجناس التام في القرآن.
محمد أحمد الغمراوي
السليقة بين الفصحى والعامية
للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية
السليقية نسبة إلى السليقة: وهي السجية والطبيعة والطبع. واكثر ما تستعمل السليقة في الطبيعة الكلامية فإذا قالوا فلان يتكلم بالسليقة أرادوا أنه يتكلم أو يقرا بطبعه لاعن تعلم.
وتستعمل السليقة أحيانا في غير الكلام فيقال (الكرم سليقته والسخاء خليقته). أما إذا قالوا فلان سليقي بياء النسبة فلا يراد منه حين إذ إلا معنى نسبته إلى السليقة الكلامية وحدها، ويقال كلام سليقي. ويزداد معنى إرادة الكلام في لفظ (السليقة) إذا ألحقت بها ياء المصدرية. حتى إذا قالوا السليقية سجية فلان لم يعد يفهم منها إلا الطبع اللغوي الذي نشا عليه فلان في بيئته: قال الأزهري فإذا قرا البدوي بطبعه ولغته ولم يتبع سنة قراء الأمصار قيل هو يقرا بالسليقية أي بطبيعته وليس بتعليم. وفي حديث أبي الأسود الدؤلي أنه وضع علم النحو حين اضطرب كلام العرب وغلبت السليقية: قال صاحب اللسان في تفسير هذه السليقية إنها اللغة التي يسترسل فيها المتكلم على سليقته أي سجيته وطبيعته من غير تعمد إعراب ولا تجنب لحن.
ومن هنا نستنتج أن السليقية ما دامت لغة البيئة أي اللغة التي يسترسل فيها كل متكلم بطبعه - كانت السليقية ضربين (سليقية فصاحة)(وسليقية بذلة) وهي السليقية العامة. وإنما اخترت كلمة (البذلة) مشايعة للزمخشري فإنه استعملها في عبارة له كما سيأتي.
فسليقية الفصاحة أو السليقية الفصحى هي اللغة التي غلبت على لسان المتكلم باللغة البدوية: كالأعراب الذين ملكت الفصاحة ألسنتهم فلم يتطرق إليها الفساد: فهم لا يتكلمون بها إلا معربة واضحة المقاطع ومن دون أن يتكفلون الأعراب أو تجنب اللحن. واشهر شاهد على هذا الضرب من السليقية أعني السليقية الفصحى قول شاعر البادية
(ولست بنحوي يلوك لسانه
…
ولكن سليقي أقول فأعرب)
والضرب الثاني من السليقية ما سميته (سليقية البذلة) وهي سليقية العربي العامي في لهجة التي غلبت على أهل مصر بعد انتشار الإسلام وقد مرت الإشارة إليها في حديث أبي الأسود مذ قالوا أنه وضع علم النحو (حين اضطرب الكلام. وغلبت السيلقية)
فالعربي العامي كالعربي البدوي: غلبت على كل منهما لهجته أو لغته بحكم تأثير بيئته ونشأته: الأعرابي ترك نفسه على سجيتها فاسترسل في لغته الفصحى لا يلوي على شيء غير متكلف إعرابا ولا متجنب لحنا، والعربي العامي السليقي البذلة يترك نفسه هو أيضاً على سجيتها فيتكلم بلغة أمه ولهجة بيئته لا يتكلف إعرابا ولا يتجنب لحنا: البدوي يعرب بحكم السليقية. والعامي يلحن بحكم السليقية. فليس الشاعر أو الراجز البدوي سليقي بقول فيعرب وحده بل إن الزجال الشعبي سليقي أيضاً يقول فيلحن ولا يعرب بحكم السليقية. كلاهما سليقيان.
بقى أن نورد شاهدا على السليقية الثانية (سليقية البذلة) أي على أن العربي العامي إذا استرسل في لغته الملحونة صح أن يوصف بالسليقية وان يقال أنه سليقي.
عثرت على شاهد لطيف المغزى رقيق الحواشي أورده الزمخشري في كتابه (الفائق) تعليقا على مادة ظرف قال: ومن حديث معاوية رضى الله عنه أنه قال لجلسائه يوما: كيف ابن زياد فيكم: قال: ظريف على أنه يلحن. قال: أو ليس ذلك اظرف له اهـ.
قال الزمخشري: وإنما استظرف معاوية ابن زياد لأن السليقية وتجنب الأعراب مما يستملح في البذلة من الكلام قال: ومنه البيت المشهور:
(منطق صائب وتلحن أحيا
…
نا وأحلى الحديث ما كان لحنا)
فالزمخشري استعمل السليقية بمعنى استرسال الظريف في البذلة من الكلام. وليست البذلة من الكلام الواردة في عبارته إلا التبذل وعدم التصاون في تحري الفصيح المعرب. ومن هنا صح لنا استعمال سليقية البذلة في مقابل سليقية الفصاحة.
فإذا كان علماء اللغة قد خصوا البذلة والابتذال والمباذل في رث الثياب أو في لبس الممتهين منها فإن شيخنا الزمخشري قد استعمله في رث الكلام وعاميه والمبتذل منه.
على أنهم يقولون في فصيح اللغة (كلام مبتذل ومثل مبتذل) إذا كان كثير الاستعمال ملهوج الذكر. ولكن قولهم هذا لا يستدل منه على جواز وصف اللغة الملحونة بالابتذال. فالكلام المبتذل والمثل المبتذل إنما جاءهما وصف الابتذال من ناحية اللهج بهما وكثرة الاستعمال لهما حتى لو قالهما الحضري البليغ أو البدوي الفصيح سميا مبتذلين بمعنى إنهما متداولان لا أنهما عاميان ملحونان وفرق بينهما.
فالبذلة في الكلام بمعنى العامية الملحونة إنما استفدناها مباشرة من عبارة الزمخشري. وفوق ذلك كله فإن اللحن في البذلة السليقية إن أنكره بعضهم واستبشعه فإن الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما استحسنوه وأفتوا بجوازه بل نصح بعضهم بأن يستعمل الكلام الملحون في مخاطبة المرء لغيره وفي تحديثه جلسائه لا في ما عدا ذلك فقال (لا تستعملوا الإعراب في كلامكم إذا خاطبتم. ولا تحلو منه كتبكم إذا كتبتم) كأنه يقول أوصيكم أن تعربوا كتاباتكم وتلحنوا في محاوراتكم.
ولعل هذه الوصية في مراعاة الإعراب في الكتابة وتركه في المحاورة إنما استندت إلى ما وقع للفراء مع هارون الرشيد: ذلك أنه دخل عليه يوماً وتكلم بكلام لحن فيه مع جلالة قدره وعلو رتبته في النحو. فقال جعفر يا أمير المؤمنين إن الفراء قد لحن. فقال الرشيد أتلحن يا يحيى؟ (ويحيى اسم الفراء) فقال يا أمير المؤمنين إن طباع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن: فإذا حفظت أو كتبت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطبع (أي في محاورة الناس) لحنت. فاستحسن الرشيد كلامه.
واعتذر صاحب صبح الأعشى للحانين في الكلام مؤيداً الوصية المذكورة فقال إن اللحن قد فشا في الناس. والألسنة قد تغيرت حتى صار التكلم بالإعراب عيباً. والنطق في الكلام الفصيح عيا. والذي يقتضيه حال الزمان الجري على منهاج الناس بأن يحافظ على الإعراب في القرآن والحديث والشعر والكلام المسجوع وما يدون من الكلام ويكتب من المراسلات ونحوها. ويقتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم يتداولونه بينهم ويتحاورون به في مخاطباتهم. وعلى ذلك جرت سنة الناس في الكلام مذ فسدت الألسنة وتغيرت اللغة. انتهى كلام القلقشندي وهذه المسألة أي مسألة استباحة اللحن والإخلال بالإعراب في لغة المحاورة موضع نزاع كبير بين فضلاء العصر ولا سيما أساتذة المدارس والمشتغلين بتعليم النشء.
وينبغي أن يزاد على المواطن التي عددها القلقشندي وحظر اللحن فيها من مثل المدونات والمراسلات - يزاد كلام المدرسين والمعلمين في قاعات الدروس حيث يبسطون محاضراتهم تحت أسماع الطلاب. فلا يجوز بحال اللحن فيها، ولا الإخلال في الإعراب في ألفاظها ومبانيها: فإن الناشئين في ليونة ألسنتهم وحساسية أدمغتهم قابلون للانطباعات
والتأثيرات، فإذا سمعوا الكلام الملحون المرة بعد المرة يوشك أن تفسد ملكاتهم وتستعجم لهجتم.
ويتصل ببحث استظراف السليقية في الكلام الملحون بحث آخر فيه طرافة وله علاقة ببحث اللهجات وهو: هل يجوز للكاتب أو المحدث أن ينقل الكلام الملحون بنصه من دون تغيير؟ والجواب عن هذا يعلم مما مر بالضرورة. أليسوا قد أجازوا التكلم بالملحون فلأن يبيحوا نقله أو روايته بالطريق الأولى. على أن أساطين الأدب العربي صرحوا بالترخص فيه بل بترك الكلام الملحون على اعوجاجه وقبيح أغلاطه.
قال الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) ومتى سمعت حفظك الله نادرة من كلام الأعراب (وقد عنى بهم أرباب السليقية الفصحى) فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها. فإنك إن غيرتها بأن لحنت في إعرابها أو أخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير وإن سمعت نادرة من نوادر العوام (وقد عنى بهم أصحاب السليقية العامية) أو ملحة من ملحهم فإياك أن تستعمل لها الإعراب أو تتخير لها لفظاً حسناً فإنك إن فعلت أفسدت الإمتاع بها وأخرجتها من صورتها التي وضعت لها وأذهبت استطابة السامعين إياها. فالجاحظ يرى أن رواية الأقوال الملحونة والنوادر الملتوية اللهجة يستطيبها الجلساء ويلذون بسمعها وخاصة إذا كان اللحن (من الجواري الظراف والكواعب النواهد والشواب الملاح) فإن ذلك يستملح في كلامهن ما لم تكن الواحدة منهن صاحبة تكلف فإن المتكلمة للكلام الملحون تسمج ويتجافى عنها ويكثر هذا اللحن المستملح في الأعجميات من النساء كالروميات والأرمنيات.
أعجب ما أسمع منها في السحر
…
تذكيرها الأنثى وتأنيث الذكر
والسوءة السواء في ذكر القمر
وما قولكم في أبي اسحق بن سيار النظام فإنه كان يلحن في كلامه ويروي عنه صديقه الجاحظ كلامه الملحون ويعتذر عنه بل يسوغ له عمله: فقد روى في كتابه الحيوان (جزء 1ص136) أنه خرج مع النظام ليلة في بعض طرقات الأبلة فألح على النظام كلب من شكل كلاب الرعاة فثبت له ولم يجزع وأقبل على الجاحظ يحدثه عن نفسه ويعدد خصاله إلى أن قال ما نصه: إن كنت سبع فاذهب مع السباع. إلى آخر حديثه؛ فعلق الجاحظ على
هذا بقوله: لا تنكر (أيها القارئ) على حكايتي عن النظام بقول ملحون مذ قلت (إن كنت سبع) ولم (أقل إن كنت سبعاً).
ثم علل ذلك بقوله إن الإعراب يفسد نوادر المولدين كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب لأن سامع النوادر إنما أعجبته تلك الصورة وذلك المخرج وتلك اللغة، فإذا أدخلت على هذا الأمر الذي إنما أضحك سخفه وعجمته حروف الأعراب والتخفيف والتثقيل وحولته إلى صورة ألفاظ الأعراب الفصحاء وأهل المروءة والنجابة - إذا فعلت ذلك انقلب المعنى مع انقلاب نظمه وتبدلت صورته.
ثم قال الجاحظ في مكان آخر: ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء فالسخيف للسخيف والخفيف للخفيف: فإن كان موضع الحديث على أنه مضحك ومله وداخل في باب المزاح والتفكيه فاستعملت فيه الإعراب انقلب عن جهته وإن كان في لفظه سخف فأبدلت السخافة بالجزالة صار الحديث الذي وضع على أن يسر النفوس يكربها ويأخذ بأكظامها.
ثم قفى الجاحظ على رأيه هذا بهذه العبارة الجريئة فقال: (وبعض الناس إذا انتهى إلى ذكر كذا وكذا وعدد الجاحظ ألفاظاً يستحي من ذكرها) ارتدع وأظهر التعزز واستعمل باب التورع. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم والنبل والوقار إلا بقدر هذا الشكل من التصنع. ولم يكشف قط صاحب رياء ونفاق إلا عن لؤم مستعمل ونذالة متمكنة انتهى.
أقول قد غلا الجاحظ في تهوين أمر كلمات الرفث والبذاء على الناس؛ وأرى أن استدرك عليه بما استدركه ابن قتيبة على نفسه وقد حام على ما قاله الجاحظ فقال: ولم أترسل لك بإرسال اللسان بالرفث على أن تجعله هجيراك على كل حال، وديدنك في كل مقال. بل الترخص مني فيه عند حكاية تحكيها أو رواية ترويها تنقصها الكناية ويذهب بحلاوتها التعريض وأحببت لك أن تجري في القليل من هذا على عادة السلف الصالح في إرسال النفس على السجية والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع ولا تستشعر أن القوم (يعني السلف الذين ترخصوا بذكر الرفث) قارفوا وتنزهت، وثلموا أديانهم وثورعت اهـ.
ثم انتقل ابن قتيبة في كتابه (عيون الأخبار) من رواية كلمات الرفث والترخيص بها بقدر
معلوم إلى رواية الكلام الملحون من نوادر وملح، وهو موضوعنا الذي كنا فيه مع الجاحظ فقال: وكذلك اللحن في الإعراب إن مر بك في حديث من النوادر التي نرويها لك: لأن الإعراب ربما سلب بعض الحديث حسنه وشاطر النادرة حلاوتها قال: وسأمثل لك مثالاً: قيل لمزيد (وهو رجل صاحب نوادر) وقد أكل طعاماً كظه (أي ثقل على معدته) قي. فقال ما أقي؟ أقي! نقي! ولحم جدي: مرتي طالق، لو وجدت هذا قياً لأكلته. ألا ترى أن هذه الألفاظ لو وفيت بالإعراب والهمز حقوقها لذهبت طلاوتها ولأستبشعها سامعها.
والمؤلفون في نقد الشعر كابن قدامة لم يغب عنهم حسن ما قاله الجاحظ وابن قتيبة: فهم على شدة تنطعهم في نقد الأقوال وتمييز زيوفها أجادوا رواية الملحون، وحكاية السخيف من النوادر: قال ابن قدامة في كتابه نقد الشعر (وللفظ السخيف موضع آخر لا يجوز فيه غيره وهو حكاية النوادر والمضاحك وألفاظ السخفاء والسفهاء فإنه متى حكاها الإنسان بغير ما قالوا خرجت عن معنى ما أريد بها وبردت عند مستمعها اهـ.
هذه هي كلمتي في السليقية بنوعيها: السليقية في القول الفصيح، والسليقية في البذلة من الكلام. والسليقية الثانية هي سليقيتنا نحن أبناء هذا العصر فقد ملكت علينا ألسنتنا كما ملكت لسان الفراء في عصر الرشيد حتى أصبحنا غير قادرين على التفلت من أوهاقها إلا بتكلف وتلكؤ شديدين. وذلك يكون منا إذا رأينا أنفسنا مضطرين إلى إفهام غيرنا ممن لا يفهم لهجتنا ولا ما يحكى بها: كما إذا حاورنا أبناء المغرب الأقصى أو حاورونا، فإن لهجاتنا المختلفة تحول بيننا وبين الاستمتاع بحديثهم فنضطر إذ ذاك إلى ترك سليقية البذلة واللجوء في التفاهم إلى السليقية الفصحى وهي لغة القرآن وما أبركها لغة.
وأكثر ما تتحقق هذه الضرورة أي ضرورة الالتجاء إلى لغة القرآن حينما نجتمع بإخواننا المسلمين الأعاجم الذين أصابوا ولو قليلاً من الثقافة القرآنية أو الثقافة العربية: فإنه لا ينفس الكرب عنا وعنهم ويجعلنا ننعم بالحديث معهم إلا لغة القرآن. ويظهر أن وسائل النشر والإذاعة والآلات والمواصلات وفرت دواعي الاجتماع والتلاقي بيننا وبينهم في البعثات والمؤتمرات.
كل ذلك يمهد الطريق أمام استعمال اللغة الفصحى بيننا فتقوى فينا ملكة التكلم بها من حيث تضعف في نفوسنا إلى حد محدود سليقية البذلة العامية.
وإنما قلت إلى حد محدود: لأنه ما دام هناك اختلاف وتباين في عقول أبناء الأمة الواحدة وقابلياتهم ومعارفهم وتفاوت في ملكاتهم وتربيتهم وثقافاتهم فلابد أن تبقى فيهم لهجة عامية عائشة بجانب اللغة الفصحى.
على أن اللغة الفصحى مع الأسف مهما انتشرت وقام لها سوق فيما بيننا سوف تبقى عاطلة من حليتها، مجردة من حركات إعرابها كما هي حالة لغة أهل (عكاء) في اليمن على ما حكاه الشيخ عبد الرحمن الكواكبي للشيخ أحمد الإسكندري. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
عبد القادر المغربي
2 - كوليرج
للكاتب الناقد. أي. تي. كيلر كوج
بقلم الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
وفي حزيران (يونيو) من سنة 1794 زار كوليرج صديقه أرلن في أكسفورد وتعرف هنالك بالشاعر (روبرت ساوذي). وقد كان روبرت هذا شاباً نارياً متحمساً فيه ميل شديد ونزعة قوية لاحتضان المبادئ العنيفة ومن هذه المبادئ نشأت فكرة (البانتيسو كراسية) بتأييد من أصدقاء ساوذي ومساعدة من كوليرج. ويلخص كامبل هذه الفكرة فيما يلي: (اتفق اثنا عشر رجلاً من المثقفين ثقافة جيدة وممن لهم أفكار حرة مع من يماثلهم من السيدات على الإبحار في نيسان من هذا العام واضعين نصب أعينهم منطقة بديعة من مناطق أمريكا، وكان المظنون من عمل كل هؤلاء الأشخاص لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً كان للقيام بأود (المستعمرة). أما المنتج فهو ملك مشاع، وكان المقرر أن تكون هنالك مكتبة عامرة، وأوقات فراغ ملائمة، لتخصيصها للدراسة والمناقشة وتربية الأطفال وفق خطة دقيقة معينة. كما أن واجب النساء كان يقتضي منهن التفرغ للاعتناء بالأطفال الرضع، والقيام بأشغال لائقة أخرى. على أن ذلك يجب ألا ينسيهن تثقيف أذهانهن وإنماء مواهبهن المتنوعة بالتتبع والدراسة والتفهم والممارسة في كل شأن من شئون الحياة العامة والخاصة). أما الأمور الأخرى التي لم تقرر في حينها فكان أهمها رباط الزوجية وهل في الإمكان فصمه برغبة أحد الطرفين أو برغبة كليهما وكان من حق كل شخص أن يتمتع بكل حقوقه الدينية والسياسية إذا لم يكن في ذلك اجتراء على الحقوق والقوانين المتفق عليها سابقاً) وقد حسبوا أن أي شخص يدفع (125) جنيهاً وله ما لهم من الآراء الحق في تنفيذ هذا المشروع). وبينما كانت (البانتيسو كراسية) في دور المخاض المؤلم، طافت فكرة طارئة في ذهن كوليرج فتركها هكذا وسار مشياً على قدميه في مقاطعة ويلز.
وفي اليوم الثالث عشر من (يوليو) وصل إلى (ريكسهام) وهنالك عثر على ماري إيفانز بينما كان يتمشى بالقرب من نافذة أحد الفنادق فلمحها وهي تهبط السلم إلى الشارع مع إحدى أخواتها. وقد علق على هذه المقابلة غير المتوقعة بقوله: (هجم على المرض فجأة وكاد الإغماء أن يوقع بي شر هزيمة، ولكنني تمالكت روعي وتمكنت من التراجع
بسرعة). ويظهر أن الأختين قد شاهدتاه (لأنهما سارتا أربع أو خمس مرات بجانب النافذة المطلة على الشارع كأن القلق كان يحز في قلبيهما). ولكن اللقاء لم يتحقق، وهو لو تحقق لأدى إلى المصالحة على أكبر احتمال.
فر كوليرج إلى (برستول) ولحق بصديقه ساوذي هناك مع عدد من البانتوكراسيين ومنهم كانت عائلة تدعى عائلة (فركر). وقد تزوج ساوذي (أديت فركر) بينما تزوج كوليرج (سارة فركر) كما يقع ذلك بصورة فجائية بنتيجة الصدمات التي تصيب العاطفة الهائجة (فتجعلها ترتمي في أحضان أية امرأة يضعها القدر في طريقها). يقول كامبل (إن الزواج لم يعقد في السماء وإنما قرر على الأرض وعلى يد ساوذي. إن السماء وحدها وليس أحباء كوليرج، هي التي تعرف ما كان يحدث لو أنه اقترن بدوروثي ورد زورث) ليس من حقنا أن نرجم بالغيب في مثل هذه الأشياء، وإن نحن حاولنا ذلك فلن نصيب إلا أنفسنا. أما إن التقاءه بها كان مؤخراً فهذا حق لا يماري فيه أحد، وكذلك كان الحال مع وليم ورد زورث أخيها. وبعد أن مكثت عائلة كوليرج أمداً قصيراً في (كيلفندن) وبرستول تخللتها سفرة قام بها كوليرج وزوجه لجمع الاشتراكات لمشروع جريدة باسم (المراقب) ارتحلت هذه العائلة مع وليدها إلى (نيذر ستاوي) في (سومرثت) لتكون بجوار توماس يوول، الصديق الوفي والخل المخلص. وإلى هنا قدم وردزورث مع أخته الجميلة في تموز عام1797، وقد لحق بهما بعدئذ تشارلي لامب وصل الجميع في ضيافة كوليرج (وقد خلدت هذه الزيارة في قصيدة (تحت ظلال شجرة الليمون) وبعد ذلك رجع تشارلي إلى لندن بعد مكوثه معهم لمدة قصيرة جداً، بينما أقام وردزورث وأخته في (الفوكسدن) على مقربة ثلاثة أميال من دار كوليرج، وذلك بسبب الرابطة السحرية التي ربطتهما بعنف وقوة بكل ما له علاقة بكوليرج. وأخيراً حدثت المعجزة. قد يكون من الحق أن نقول إن كوليرج لم يبلغ مبلغ الإعجاز فجأة، لأنه سبق له أن طبع مجلداً من الشعر طبعة ثانية بعد أن نفذت الطبعة الأولى؛ ولكن هذا المجلد لم ينبئ بما سيقع. أما وردزورث فكان يستوحي آلهة الشعر - إن جاز لنا أن نطلق كلمة (الوحي) على ناظم قصيدة (المجاورين) - ولكن العجب سيأخذ منا مأخذاً شديداً، لأننا سنجد هذا الناظم بالذات ينظم بعد حول فقط قصيدته العصماء (كنيسة تنيترن) فما كان غير محتمل وقع، وما كان أملا تحقق. وقد غدا الأخ والأخت والصديق
روحاً واحداً، كما شهد بذلك كوليرج نفسه. وفي وسط روح المحبة والأخوة وتحت تأثير دوروثي بصورة خاصة، التي كانت وحدها صامتة هادئة، وقانعة بالتشجيع والنقد والإعجاب والإرشاد، أقول: في وسط هذا الجو السحري الرائع وجد كوليرج وورد زورث نفسيهما شاعرين مفردين بنغمات جديدة في فجر جديد. وفي الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر من اليوم الثالث عشر من تشرين الثاني شرع الأصدقاء الثلاثة يسيرون مشياً إلى (وجيت) في طريقهم إلى الريف في (اكسومر) وذلك لأداء ما بذمتهم من نفقات بواسطة بيع قصيدة، عزم الاثنان على نظمها في الطريق!. وقبل انقضاء ثمانية أميال من سفرتهم هذه، فشلت خطة النظم المشترك، وأخذ كوليرج على عاتقه نظم القصيدة بمفرده، واستمر العمل في ذلك حتى شهر آذار التالي. تقول دوروثي معلقة على ذلك:(إنه في الثالث والعشرين من ذلك الشهر تناول كوليرج طعامه معنا، وكان في جعبته قصيدته (النوتي القديم) كاملة تامة.
وكان الليل بديعاً والقمر بازغاً، وكنا نشعر كأن النجوم والكواكب متحلية بزينتها احتفالاً منها بمولد الكوكب الجديد). ومن الحق أن نقول إن قصيدة (النوتي القديم) تضطرنا إلى التأمل والتفكير في أحقية ما كان يدعو إليه رجال العصور الوسيطة من أن هناك انسجاماً بين الشعر والسحر، وأن (فرجيل) كان ساحراً. وكما قلنا قبل الآن يمكننا أن نفهم بمجهود يسير أن أغاني باولز - على ما هي عليه من شحوب ووهن وذبول - كانت تعني في عام 1790غير ما تعنيه الآن. ولكن يمكن أن نتجاهل ظروف ولادتها ووقت بزوغها وما يتعلق بها من نظريات، كما يمكن أن نتجاهل ورد زورث ومقدماته وما كان بينه وبين كوليرج من مشادات ومنازعات. إلا أننا مع ذلك وحتى بعد مرور مائة سنة، مجبرون على الاعتراف بأن قصيدة (النوتي القديم) هي تجربة الفن الكبرى، والكوكب الذي اصطاده كوليرج وجلبه بيديه إلى (الفوكسدن) وأراه لدوروثي ووليم ورد زورث. لأنه ليس في مجال الشعر الإنجليزي بأجمعه - وحتى لدى شكسبير - ما يجاري في عبقرية لغتنا الغنائية تلك النغمات العلوية التي أنشدها كوليرج في هذه القصيدة. . فموسيقاها جذابة سهلة، جميلة في تصويرها وخيالها وإيقاعها، وكلماتها تجري مجرى السلسبيل العذب في رقتها وخفتها ولطافتها. وقد تضم القصيدة بعض الكلمات الضخمة الثقيلة إلا أنها تقوم
بدورها وتمضي بيسر وجمال وبراعة؛ فشكسبير - على علو كعبه وسمو منزلته - لم يتمكن من الإتيان بما أتى به كوليرج في هذه القصيدة اللهم إلا بعض النتف المتناثرة هنا وهناك. . . إن في هذه القصيدة لحن الملائكة وصوتهم العذب المرتل، وكأنهم في إنشادهم هذا جوقة سماوية تغني ما يحلو لها من الأنغام الدينية أمام بوابة الفردوس في غبش الفجر.
وعلى الرغم من أن النقاد يعترفون بسحر هذه القصيدة وقوة تأثيرها وجمالها الفني، إلا أنهم مع ذلك يسفهون هذا الاعتراف، وذلك لأنهم يصرون على التساؤل عن السبب الذي منع كوليرج من عدم اتباعها بقصائد مماثلة أو أن يكتب شيئاً يضارعها.
وأخيراً لوى كوليرج رقبة إرادته النحيلة بتأثير الأفيون واشتد كابوس العادة عليه، فأصبح - كما قال هازلت - رجلاً يقدر على كل شيء إلا ما يمثل واجبا من الواجبات! وقد تمكن مرة أو مرتين في (كرستابل) و (قبلاي خان) أن يكتشف أجواء مقدسة، ولكن إرادته لم تقو على الاستمرار في التحليق في مثل هذه الأجواء، فإنتهت قصته كشاعر في محاولات متكررة غير مجدية لإتمام (كرستابل). وكل هذا حق صراح، أو على الأقل يمكن أن يكون مقنعاً لي شخص يحاول أن يستعرض مسألة شذوذ كوليرج.
البقية في العدد القادم
يوسف عبد المسيح ثروت
العروبة رابطة وهدف
للأستاذ عيسى الناعوري
في العدد (1019) من هذه المجلة الغراء كتب الأستاذ علي الطنطاوي افتتاحية بعنوان (العربية والإسلامية) حمل فيها على فكرة العروبة وصلاحيتها لعالمنا العربي. ولسنا نشك أن الشيخ كان مخلصا في دعوته، وأنه كان يدافع عن عقيدة يعتقدها ويتعصب لها. ونحن نعذره لذلك، ونرجو أن يلتمس هو أيضاً لنا العذر إذا جئنا نخالفه فيما يراه، ونسوق الأدلة التي تدفع ما أورده من حجج كان يعتقد أنها تستقيم بين يديه، وهي في الواقع أبعد ما تكون عن الاستقامة. وما دام الإخلاص للمبدأ وللحقيقة هو رائد الشيخ ورائدنا فمن السهل أن نتفاهم ونصل إلى نتيجة يكون بها صلاح عالمنا العربي وبلادنا العربية.
لقد وقف الأستاذ في مقاله بين عاملين: أن ينظر إلى المليونين من العرب غير المسلمين الذين يعيشون في البلاد العربية ويشاركون المسلمين في قوميتهم، أو إلى الملايين الثلاثمائة من المسلمين غير العرب الذين يشاركونهم في عقيدتهم الإسلامية، والذين يظهر لنا أن ضخامة الرقم الأخير قد هالت الشيخ، فرأى أن المركز العرب - أو مركز الكتلة التي فيها العرب - يقوى بهذا العدد الهائل أكثر مما يقوى بالمليونين وحدهم. ولهذا بنى دعوته على هدم فكرة الوحدة العربية، وإقامة الوحدة الشرقية على أساس العاطفة الدينية وحدها.
ثم كان من الأمور التي اعتقد الشيخ أنه قد أصاب بها المرمى وهو يحاول هدم الرأي القائل بوجود (إرادة مشتركة) بين أفراد الأمة العربية، أنه تسائل قائلا:(إذا قرأت أنا وعربي جبل لبنان الماروني في تاريخ الغزوات الصليبية، فهل يكون أثر هذا التاريخ مثل أثره في نفسه؟) بهاتين الملاحظتين تتلخص أقوى حجج الشيخ وفي مقاله الطويل ذي الصفحات الست، ولسنا نجد في بقية المقال ما يستوجب الاسترسال إلى الاقتباس أو النقاش. فليسمح لنا بأن نقف عند هذا الحد لنجيب أولا عن سؤاله، ثم نبين له ما حاول أن يتناساه من وقائع التاريخ البعيدة والقريبة معا في نظرته الأولى.
أنا لست مارونياً من جبل لبنان، ولكنني مسيحي كموارنة لبنان وعربي في حقيقتي وشعوري. وأستطيع أن أجيب عن سؤال الشيخ صادقاً مخلصاً أنني لست أقل منه نقمة وسخطاً على الحروب الصليبية - بداية الاستعمار الغربي للشرق - وعلى الذين شبوها
تحت ستار من الدين. ولست أقل منه سخطاً على الدين نفسه - كل دين - إن كان من مبادئه أن يحل القتل والدمار في سبيل السلطان والمنافع الدنيوية. ولست أيضاً أقل منه سخطاً ونقمة على الغربيين المستعمرين ومظالمهم المجرمة في بلادي. ولا ينس الشيخ أنني اشترك مع هؤلاء المستعمرين اليوم، ومع أجدادهم الصليبيين بالأمس، بالعقيدة الدينية، ولكنني أحتقرهم وأنقم عليهم بدافع من شعوري العربي القومي الذي أذلوه ولا زالوا يمعنون في إذلاله.
وهذا الذي أقوله هو كل ما يقوله مسيحي عربي واع. وأظن الشيخ يوافقني في أن قياس الحكم في مثل هذه الأمور هو الإنسان المثقف الواعي وليس السواد الأعمى. ولهذا أرجو أن يكون هذا الجواب كافياً لإزالة ما بنفس الشيخ من هذه الناحية.
أما أن الثلاثمائة مليون من المسلمين غير العرب أحق أن يؤلفوا مع العرب وحدة كبرى، فإنني أخالف الشيخ فيه كل المخالفة. ولست أظن الشيخ قد نسى (الشعوبية) - وهي لعنة أقدم وأدهى من الصليبية - وما جرته على الأمة العربية من خراب وذل، مما لا يزال يرويه التاريخ بكثير من الخجل والمرارة. والشيخ لا يجهل أن الشعوبيين هم من الجماعات غير العربية التي أفسح لها الإسلام من رحابه كرماً، ووسع لها في كنفه تسامحاً، ولكن إسلامها لم يمنعها من النقمة على العروبة - والعروبة منشأ الإسلام ومنبته الأول - فكانت هي أول العوامل على تقويض سلطان العروبة والإسلام.
ولست أرى في موقف الشعوبيين ذلك ما يستحق المؤاخذة على الإطلاق، فقد كانوا برغم وحدة العقيدة الدينية يشعرون بأن العرب أمة فاتحة، احتلت بلادهم، وجبيت إليها أموالهم، وتسلطت على ممالكهم تسلط الفاتحين، وعاملتهم في عهد الأمويين معاملة الخدم والموالي، فكانوا لذلك ينظرون إلى هذه الأمة الفاتحة - أو المستعمرة بلغة اليوم - بشعورهم القومي العدائي الحذر، تماماً كما ننظر اليوم إلى المستعمرين الغربيين بشعور الكراهية والعداء القومي.
والذي حدث في الماضي لدينا منه نماذج في حاضرنا المشهود - وهو فيما نرى شيء طبيعي جداً في مفهوم القوميات. - فهذه تركيا. . . جارتنا المسلمة - ترى أي رابطة يمكن أن تقوم بينها وبين سوريا - بلد الشيخ الطنطاوي العربية المسلمة؟ - ألم تقطع من قلب
سوريا جزءاً عزيزاً غالياً هو لواء الإسكندرونة الذي لا يزال كل سوري يحلم باستعادته؟ وتركيا بهذا قد كسبت لنفسها نصراً قومياً على حساب خسارة العرب القومية.
ألم تنكر تركيا لشعورها الديني نفسه ولشعور العالم الإسلامي كله، في عهد قريب جداً، وتحارب اللغة العربية رغبة في تنمية شعورها القومي، وصيانة سيادتها القومية الكاملة؟ ثم ألم تتنكر تركيا المسلمة نفسها في عهدها الحاضر لكل ما أجمعت عليه جاراتها العربيات المسلمات من محاربة إسرائيل - عدوة العرب وحدهم، لا المسلمين كلهم - ومقاطعتها ومحاصرتها وعدم الاعتراف بها؟ وهل يذكر الشيخ لتركيا موقفاً جدياً واحداً في تأييد أماني البلاد العربية معاضدة قضية من قضاياها؟
ويشهد الله أنني لا ألوم تركيا في شيء من هذا، فهي تعرف مصالحها السياسية والقومية، وتعمل ما يناسبها بوحي من هذه المصالح وحدها، ولكنني أسوق هذه الأمثلة والحجج لأثبت للشيخ أن الدين وحده ليس بالرابطة التي تصلح لبناء وحدة الأمة، فلعله يؤمن معي بأن (الإدارة المشتركة) موجودة بين أبناء العروبة أتم وجود، بينما هي بين الشعوب الإسلامية، كما هي بين الشعوب المسيحية والوثنية واللادينية أيضا، إذا أمكن وجودها إلى حين، فلا يمكن وجودها إلى الأبد، ولا إلى وقت طويل، لأنها روابط مصلحية وقتية لا شعور طبيعي.
لست أنكر أن المسلم العربي يشترك مع المسلم غير العربي في الشعور الديني، كما يشترك المسيحي العربي مع الإنكليزي أو الفرنسي أو الأمريكي مثلا بهذا الشعور الديني، ولكن هنالك حقيقة كبرى لا يجوز أن نتجاهلها وهي أن المصالح القومية لن تتقيد في يوم من الأيام بالشعور الديني وحده، فالمسيحي العربي ينظر للمستعمرين الغربيين. . . وهم من دينه. . . نظرته إلى أعداء بغيضين، يتمنا أن تتيح له الأيام فرصة الثأر منهم لكرامته القومية المهانة. وقد اثبت بالفعل في كل مناسبة شدة عدائه لهم، وفلسطين اقرب شاهد على هذا.
إنني مع الأستاذ الطنطاوي في أن الأمة العربية لم يوحدها ولم يكتب لها تاريخ سوى الإسلام، وأنا أعتز مع الأستاذ كل الاعتزاز للإسلام وبهذا المجد الذي كتبه الإسلام للأمة العربية. فالإسلام مصدر فخر واعتزاز قومي لكل عربي ولكن (العروبة) التي خرج منها
الإسلام لن تكن قط مصدر فخر واعتزاز لكل مسلم غير عربي. وإذا كانت بعض الشعوب الإسلامية تشارك البلاد العربية في شعورها وأمانيها في بعض المناسبات، فليس معنى هذا أنها ترغب مخلصة بربط حياتها ومصالحها السياسية والاقتصادية معها برباط واحد وإلى أمد طويل، ولكن مصالحها الحالية وكلها شعوب يعيث فيها النفوذ الأجنبي المجرم، تدفعها إلى أن تقوي مركزها بأي وسيلة ممكنة، وبالتعاطف بينها وبين أي كتلة من الشعوب الأخرى، القريبة منها والبعيدة التي تشترك معها لأجل الحرية، تماما كما فعلت فرنسا وبريطانيا في الحربين العالميتين الأخيرتين وإلى الآن، على الرغم مما يتذكره كل بريطاني وكل فرنسي في تاريخ الأمتين من حروب وعداوات طويلة الأمد.
أفلا يؤمن معي الأستاذ الطنطاوي إذن بأن الأقرب إلى العقل والمنطق السليم هو أن تقوم (الأمة العربية) على وحدة الشعور، والتاريخ، واللغة، والتقاليد، قبل أن تقوم على رابطة الدين وحدها.
وهذا لا يمنع من أن ترتبط الأمة الواحدة ذات الإرادة المشتركة الواحدة، والتاريخ الواحد، واللغة الواحدة، والتقاليد الواحدة، برباطات التكتل الدولي والصداقة مع سائر الشعوب التي تجمعها بها دوافعه الكفاح للتحرر من سلطان المستعمرين - سواء أشاركتها في الدين أم خالفتها فيه - لأن هذا يدخل في باب (المصلحة الوطنية) لا الشعور القومي المشترك، وهو يقوي من مركزها في كفاحها ضد الظلم.
بعد هذا أود أن يعلم الشيخ إنني لست أدافع عن عقيدة حزب معين فلست من المنتمين إلى الحزب الذي يقول حضرته بلهجة الاحتقار أنه (قد ألفه في عهد الفرنسيين أحد شباب النصارى) - وهو يقصد حزب البعث العربي ومؤسسه ميشيل عفلق - ولكنني واحد من الذين يتعصبون للعروبة عن عقيدة واقتناع ويؤمنون بأنها الوسيلة الوحيدة لوحدة الأمة العربية، ولإقامة تاريخ جديد على أسس من المنعة والرفعة والكرامة، لهذه الأمة العربية التي أشترك أنا والشيخ في الانتساب إليها والاعتزاز بها، برغم اختلافنا في الدين، هذا الاختلاف الذي جاءنا بحكم الولادة والأسرة، وليس للشيخ ولا لي أي فضيلة أو يد في اختياره.
عيسى الناعوري
شعر مختار
. . . وبقيت وحدي
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
كان الضياء السمح يمرح بين أغصان النخيل
وأنا أسير مرنح الأشواق من خمر الأصيل
متلفعاً بالنور آونة، وبالظل الظليل. . .
وكما أتى، ذهب الأصيل، كأنه نغم جميل
فتسلق النور الذرى مترقباً وقت الرحيل
حتى إذا وفد المغيب طواه في صمت جليل
فمضيت لا أدري لأية غاية، ولأي قصد!
فلقد مضى عني الأصيل بنوره. . وبقيت وحدي
وأتى المساء، وهللت روحي لأسرار المساء
ومضت تهيم، وملؤها ظمأ إلى نبع الخفاء
مسحورة بالصمت يرسل لحنه ناي الفضاء
مسحورة بالغيب يدعوها ويمعن في الدعاء
حتى إذا انتفضت وكاد السر يدركه الرجاء
ذهب المساء كأنما ارتفعت به أيدي السماء
فمضيت لا أدري لأية غاية، ولأي قصد!
فلقد مضى عني المساء بسره. . وبقيت وحدي
ولكم بدا ما أرتجيه، وكم توارى بالحجاب
ولكم أتى ما أشتهيه، وآب مبكي الإياب
حتى الذين نسيت عند لقائهم ذكرى عذابي
صحبي، ولم أعرف أعز من الحياة سوى الصحاب
ذهبوا كما ذهبت أماني النفس في فجر الشباب
وبقيت أحيا بعدهم مثل المحير في الضباب
أمضي لا أدري لأية غاية، ولأي قصد؟
فلقد مضى عني الصحاب كما أتوا وبقيت وحدي!
حتى التي غنى بها قلبي، فغناها الوجود
ومنحتها ما تشتهي من الحياة، وما تريد
نسيت غرامي، حين طاف بقلبها حب جديد
يا هذه: كيف استباح الحب أفاق طريد؟
وعلام أجني الشوك في حبي، ومن غرس الورود؟
وعلام أذهب في الحياة كأنني نغم شريد؟
أمضي ولا أدري لأية غاية، ولأي قصد؟
فلقد مضى عني الحبيب بحبه. . . وبقيت وحدي
وأرى الشباب، ربيع أيامي، يقارب أن يضيع
فتموت في قلبي الحياة، وقد خبا وهج الربيع
وأحس عمري زهرة جفت على أيدي الصقيع
فأظل مطوي الضلوع على أسى يفري الضلوع
أتذكر العهد الذي ولى وليس له رجوع
وأعيش. . وفي روحي كآبات، وفي قلبي دموع
أمضي ولا أدري لأية غاية، ولأي قصد؟
فلقد مضى عني الشباب بدفئه. . وبقيت وحدي!
يا ويح قلبي، حين يقبل في غد شبح الفناء
وأنا المعذب في الحياة، أظل أرغب في البقاء!
لكن إذا نزل القضاء، فلا مفر من القضاء
هذا أنا. . . نعش يسير مشيعاً بالأصدقاء
هذا أنا. . . جدث تمر عليه أقدام العراء
هذا أنا. . . جسد يعود إلى الثرى، من حيث جاء
هذا مصيري! بل مصير الناس من قبلي ومن بعدي!
فعلام أجزع إن تخطفني الردى، وبقيت وحدي؟
إبراهيم محمد نجا
إليهم. . .
(إلى أخوتي المهاجرين زفراتي وأناتي)
للأستاذ هارون هاشم رشيد
ومهاجرين معفرين على دروب التيه هاموا
يمشون والأقدار كابية فما فيها ابتسام
أقواتهم ماذا؟ وكيف؟ فليس عندهمو طعام
هم هؤلاء بقية الشعب الذي عرف الأنام
ذاك الذي بالأمس أشعلها فشب لها ضرام
شعواء دامية يردد رجعها الجيش اللهام
قال السلام وكيف يبلغها على يده السلام
والذئب يفتك بالقطيع إذا تولاه الظلام
هذي الخيام، ألا ترى ضاقت بمن فيها الخيام
لا. لا يروعك السقام فلن يحطمها السقام
لا. لن يضير عقيدة من أجلها صلوا وصاموا
غرة
هارون هاشم رشيد
من هنا وهناك
رأي كاتب أمريكي في أدب الولايات المتحدة
قال الكاتب الأمريكي (بن لوسيان بورمان) ما ملخصه: رصدت الأدب في الولايات المتحدة منذ 1920فوجدته ينمو ولكن إلى ضعف، ويتقدم ولكن إلى هاوية. فالسخف والسطحية والفجاجة والدعاية والمسخ حلت محل الفن والعمق والجمال والجودة. ومن النادر الأندر أن تجد قطعة فنية ترضي ذوقك وعقلك. فإن القصصي الحق يجب أن يجمع بين المخبر البارع والشاعر المصور، ولكنا لا نجد في الكثير الأغلب إلا نثراً سخيف الأسلوب ومخبراً ضعيف الملاحظة. والقصة الجيدة يجب أن تكون سمفونية؛ ولكنا لا نسمع اليوم إلا لحن (البوجي يوجي). والقارئ العابر إذا لم يجد الخيال الذي يعكس حياته، والقصص الذي يصور شعوره، انصرف إلى قصص البوليس أو إلى تراجم الأشخاص. ولعل هذا عرضاً من أعراض الشك الذي نعيش فيه من جراء هذه الحروب الثلاث التي تركت الناس بغير أمل ولا يقين. فمستوانا مبهم، وعقائدنا جامدة، وبلادنا (يريد أمريكا) سيطرت عليها البدع والهوايات. وأدبنا تقليعة من أقبح (التقاليع) لأنه لا يقوم على أساس فني متين. فهو يتجه اتجاهاً جنونياً إلى المسائل الجنسية والشؤون الحزبية، ويحرص على إنتاج الأسفار الكبيرة؛ وهذه الأسفار الكبيرة هي التي بلغت بالانحطاط الأدبي إلى مداه. واللوم كله واقع على الذين يكتبون لا على الذين ينشرون. والكتاب في أمريكا طوائف متنوعة كل طائفة تحمل نصيباً من المسئولية. فطائفة تتبع الكاتبة المسرحية المرحومة جرترود ستين بأمانة وإخلاص. وطائفة من صعاليك المجتمع الأدبي يظنون أن الدفاع عن قضية من القضايا يكفي لإنتاج عمل أدبي عظيم. ومع ذلك فإن الفن هو الفن، والدعاية هي الدعاية، ولا يستطيع أدب الصعاليك أن يكون أدباً بالمعنى الصحيح. وهناك طائفة ثالثة وهم الواقعيون الذين يلقون من أيديهم ريشة الفنان لقبضوا آلة التصوير، ناسين أن الشرط الأول لكل فن هو الانتخاب. وأنا كفنان أحتج على مبدأ: القبح للقبح.
إن د. هـ. لورنس كان عبقريا، وإن من قصصه ما بلغ حد الكمال. ولكن الذين يعالجون اليوم المسائل الجنسية كما عالج نسبة عملهم إلى عمله كنسبة مؤلف قصة بوليسية إلى أناطول فرانس مؤلف جريمة سلفستر بونار. وهناك الذين أدخلوا التحليل النفسي في القصة
فزادوا الطين بلة والأمر ارتباكاً، وشر من هؤلاء جميعاً أولئك الكلبيون من أعضاء جماعة النقاد بنيويورك الذين أقاموا أنفسهم بالادعاء والسفسطة أوصياء على الأدب فأشادوا بما لا ينبغي ونوهوا بمن لا يستحق. ولم يعلموا أن ملكة النقد آلة دقيقة حساسة إذا ضعفت بسوء الاستعمال فلا تغير ولا تجدد. ولعل أساس هذه البلية التي أصابت الذوق في الولايات المتحدة هو الثورة التي تمت بالتدريج في هذا الصدد؛ فإننا أحللنا محل الموضوعية الإنجليزية والفرنسية ذلك التأمل الباطني الغزير على الذهن الألماني والروسي.
فالأدب الأمريكي تكون تحت تأثير مؤلفين كديكنز وتكري وجالسورتي من الإنجليز، وميرميه ودوديه وموباسان من الفرنسيين؛ وهؤلاء الكتاب كانوا يرون الصفات الجوهرية في القصة هي الشمائل والجو والحبكة. وفي آخر الحرب العالمية الأولى استولت خيبة الأمل على الكتاب الأمريكيين فظهرت فيهم نماذج صغيرة من ترجنيف وتشيكوف. فالروح المرحية حين تنشأ عن الفهم العميق واللمس الرقيق الدفيق أصبحت في أمريكا محرمة كاللعنة. والخالقون الموضوعيون الذين جعلوا دستورهم الفن للفن لم يبق لهم وجود هنا. وهؤلاء الكتاب الكلبيون لم يعد في معاجمهم لفظ واحد للجمال ولا للفن. فنحن في حاجة إلى آلهة جدد، وغلى دين أبي جديد؛ لأن الدين الأدبي الحاضر دين الحقارة والفجاجة والضحول يحمل في طواياه الجراثيم التي ستدمره. إن الأديب بغير جمال لا يلبث أن يذوي ويموت.
آراء المعاصرين في فكتور هوجو
وجهت صحيفة الفنون الباريسية إلى بعض كبار الأدباء الفرنسيين أسئلة عن مدى تأثير هوجو في الكتاب المعاصرين. وقد دلت الأجوبة التي نشرتها هذه الصحيفة على زهو أصحابها وادعائهم. فبعضهم أصدر حكمه بلهجة تنم عن استخفافه بكبير شعراء فرنسا. والبعض الآخر لم يخرج في أجوبته عن حد النكتة. بيد أن اندريه بيرتون زعيم مذهب السريالي أجاب بصورة جدية فقال: إن أهم حركة وجدانية في الشعر تستمد قوتها من شعر هوجو، كما إن الحركات الإصلاحية التي قام بها (كانت) لا تزال القاعدة التي يسير عليها كبار الكتاب والشعراء. وفي رأيه أن كثير من شعر هوجو يعبر عن أهداف المذهب السريالي أصدق تعبير. ثم أردف قائلاً: (سئل مرة اندريه جيد من هو أعظم شاعر فرنسي؟
فأجاب: فكتور هوجو)
وكان جواب (بليه سندر) أن فكتور هوجو أقدر رائد عرفه الأدب.
لقد كان في أوائل هذا القرن بقية من أتباع الأدب الرمزي لا يتقبلون الشعر الإبتداعي ولا يطيقونه، منهم ريمي جورمون واندريه سواريه. فقد كانا يمقتان قوة هوجو البيانية، كما كان بجوي ورومان رولان يتزعمان طائفة من محبيها. وكان أناطول فرانس يبتسم كلما ذكرت أمامه منتجات هوجو المسرحية، ولكنه كان من أكبر ممجديه. وقال جان كوكتو في جوابه: إن هوجو مجنون بصورات فكتور هوجو. وعلى الرغم مما في هذا الجواب فإنه قال إن استحسان الأعمال الكبيرة أو استهجانها أمر من أسهل الأمور. ثم استطرد يقول: نحن ننظر إلى الأعمال الثانوية بكثير من التدقيق للوقوف على ما فيها من جيد أو رديء. أما أصحاب الأعمال العظيمة كشكسبير ودانتي وجوته وهوجو وأشباههم فإما أن نحبهم فنحول سيئاتهم حسنات، وأما أن نكرههم فنجعل حسناتهم سيئات.
ومن الطبيعي أن يوجد بين شبان اليوم من لم يقرأ هوجو، ولا يشعر بحاجة إلى هذه القراءة، لأنه يجد بين كتاب عصره من هو أقرب إليه وأقدر على وصف بيئته وحوادث حياته. أما أن يقول أديب مثل جول رومان، في جوابه عن السؤال الذي طرح عليه، إن هوجو كان كثير الإنشاد، وإنه لم يقرأه إلا في حداثته، فهذه حذلقة لا تطاق.
مع جول رومان
سأله محرر إحدى الصحف الأدبية الفرنسية هذه الأسئلة فأجابه هذه الأجوبة:
س: أي شيء يسبب لك الشقاء؟ ج: الحرب.
س: أين تحب الإقامة؟ ج: في منزلي.
س: ما هي السعادة التي تنشدها في حياتك؟
ج: أن أشتغل بسلام.
س: ما هي الهفوات التي تستحق عفوك؟
ج: فضول إحدى الصحفيات.
س: من هم أحب أبطال الروايات إليك؟
ج: أولئك الذين استطاعوا أن يؤثروا في.
س: ومن بطلات الحياة الواقعية؟
ج: تلك التي تقف حياتها على تربية بنيها.
س: من أحب رجال التاريخ لديك؟
ج: كلهم من أبغض الناس إلي.
س: ومن أحب بطلات الروايات إليك؟
ج: ثلاث أو أربع من نساء شكسبير.
س: ومن أحب الرسامين إليك؟
ج: نحو عشرين ولكن حسب اليوم والساعة.
س: ومن أحب الموسيقيين إليك؟
ج: جان سباسطيان بج.
س: ما هي الخلة التي تفضلها في الرجل؟
ج: سمو الخلق.
س: وفي المرأة؟ ج: الخلة نفسها.
س: وما أحب الفضائل إليك؟ ج: الإخلاص.
س: وأحب الأعمال؟ ج: الاختراع.
س: ماذا تود أن تكون! ج: هذا سؤال غريب.
س: ما هي أبرز مزاياك؟
ج: أرجو أن تسأل عنها خصومي.
س: ماذا يرضيك من أصدقائك؟ ج: الأمانة.
س: ما أظهر عيوبك؟
ج: أرجو أن تسأل عنها أصدقائي.
س: أي عمل تفضله على غيره؟
ج: ذاك الذي يثير حماستي ويسرني.
س: أي الألوان أحب إليك؟
ج: كلها مجتمعة، أو كل على حدة.
س: وأحب الأزاهير؟
ج: كلها، أو كل منها في فصله الخاص.
س: ومن أحب الكتاب إليك؟
ج: أولئك الذين ساعدوني على فهم العالم.
س: ومن أحب الشعراء إليك؟
ج: أولئك الذين لم أطلع على تاريخ حياتهم.
س: وأحب الأسماء إليك؟
ج: نصف أسماء التقويم العام.
س: وما أبغض الأشياء عندك؟ ج: البلاهة.
س: وما أهم الأعمال الحربية في نظرك؟ ج: فردان.
س: ماذا تريد أن تملك من مواهب الطبيعة؟
ج: تلك التي لا أملكها ولا أعلم ما هي.
س: كيف تشتهي أن تموت؟ ج: فجأة.
س: ما هي حالتك الروحية الحاضرة؟
ج: لا تسعها المجلدات.
توزيع السكان في الشرق الأوسط
ننشر فيما يلي جدولا بتوزيع السكان في الشرق الأوسط نقلا عن تقرير الأمم المتحدة عن الاقتصاد العالمي:
محمية عدن - المساحة 272 ألف كيلو متر مربع. السكان 650 ألفا. كثافة السكان 2 بالكيلومتر المربع.
أفغانستان - المساحة 650 ألف. السكان 12 مليونا. الكثافة 18.
المملكة العربية السعودية - المساحة 1546 ألف ك. السكان ستة ملايين. الكثافة 4.
قبرص - المساحة 9. السكان 476 ألفا. الكثافة 53.
مصر - المساحة 1000 ك. السكان 20 مليونا و45 ألفا. الكثافة 20.
العراق - المساحة 435. السكان أربعة ملايين و 800 ألفا. الكثافة 11.
إيران - المساحة 1630. السكان 18 مليونا و387 ألفا. الكثافة 11.
الأردن - المساحة 90. السكان 400 ألف. الكثافة 4 بدون اللاجئين.
قطر - المساحة 22، السكان 20 ألفا. الكثافة 1.
الكويت - المساحة 22، السكان 20 ألفا. الكثافة 8.
لبنان - المساحة 10، السكان مليون و238 ألفا. الكثافة 132 بدون اللاجئين.
عمان ومسقط - المساحة 212، والسكان 830 ألفا، الكثافة4.
عمان (تحت نظام المعاهدة) - المساحة 15، السكان 80 ألفا، الكثافة 5.
فلسطين العربية - المساحة 5، السكان 530 ألفا. الكثافة 106 بدون اللاجئين.
السودان المصري - المساحة مليونان و506، السكان سبعة ملايين و588 ألفا، الكثافة 3.
سورية - المساحة 187، السكان ثلاثة ملايين و435 ألفا، الكثافة 18 بدون اللاجئين.
تركيا - المساحة 767. السكان 19 مليونا و623 ألفا، الكثافة 26.
اليمن - المساحة 195، السكان أربعة ملايين و500 ألف، الكثافة 23.
مسرح وسينما
مسرحية (أم رتيبة)
تأليف: الأستاذ يوسف السباعي إخراج: فتوح بشاطي تمثيل:
الفرقة المصرية
للأستاذ علي متولي صلاح
الإنسان - منذ كان - يتقلب بين الفرح والترح، وتعتوره السراء والضراء، وللجد عنده - كما يقول الشاعر - أوقات وللهزل مثلها، وحياة موزعة بين هذين الأمرين، ولن يستقيم لإنسان - مهما كانت الظروف التي تشتمله وتحيط به - واحد منهما دون الآخر.
ولما كان المسرح - كما هو معلوم - صورة من الحياة وتعبيراً عنها وتفسيراً لها، تعطيه الحياة فيأخذ، وتمده بالصورة فيعبر، كان - هو الآخر - متقلبا بين الفرح والترح، والسراء والضراء. . . ومنذ الأزمان السحيقة كان إلى جانب (التراجيديات) الفاجعة (كوميديات) هازلة ضاحكة، وقد عرفها اليونان الأقدمون وكان لها فيهم شعراء أعلام ما زال المؤلفون ينهلون منهم حتى اليوم، مثل (أرستوفان)، (فيلامون)، (ميناندر).
وقد عرفت الكوميديات الهزلية في مصر منذ أمد ليس بالقصير، وكان لها مسارح خاصة، وممثلون يقومون بأدائها ولا يشاركون في أداء غيرها، وكتاب يكتبون لها ويكادون يقتصرون عليها.
وليس شيء أكثر ذهابا في الضلالة عندي من الرأي الذي ينادي بأن تقصر العناية على الجوانب الجادة في حياة الناس دون الجوانب الهازلة الضاحكة. إن ذلك خطر يجب أن يتنبه إليه المسئولون، فالسم أكثر ما يكون خفاء عندما يندس في العسل، والنفوس يستهويها النكتة وتأخذها الكلمة الضاحكة فتتسرب خلالها الحكمة والموعظة في لطف ويسر وخفاء لا يكون في الكلمات الجادة الصارمة! والمسرحية التي جعلناها موضوع حديثنا اليوم من المسرحيات الكوميدية التي تعرض على الناس هذه الأيام، وأعني بها المسرحية المسماة (أم رتيبة).
وهي تقوم على قصة أخوين: رجل وامرأة، أما الرجل فقد كان يشتغل مدرساً للخط العربي
ثم أحيل على المعاش، فاشتغل بتحضير (الأرواح) وانهمك فيه وجمع حوله بطانة من محبيه ومريديه يعقدون بين الفينة والفينة (جلسة) لتحضير الأرواح والتذاكر في أحوال الدنيا والآخرة، ولتبادل الآراء في فلسفة الحياة وما بعد الحياة. واسم هذا الرجل (عبد الصبور) وقد قطع حياته عازبا، وكان يرى أن الزواج هو سبب الشقاء والبلاء وسبب خراب البلاد والعباد!
وأما المرأة فهي (أم رتيبة) التي كان أخوها هذا عائقا دائما لها دون الزواج، فقد خطبها الكثيرون فأباهم أخوها ورفضهم جميعا لما كان يراه في أمر الزواج، فقطعت حياتها هي الأخرى عزبة حتى بلغت الخامسة والأربعين وهي بين الحسرة والأسف واللهفة على الزوج الحبيب، والولد النجيب!
وكان لها جار اسمه (سيد أفندي) يشتغل خبيرا فنيا في معمل (طرشي)! جاء يخطبها من أخيها (عبد الصبور) الذي ما كاد يعلم صناعته حتى طرده شر طرد لما كان بينه وبين (الطرشي) - كما يقول - من عداء قديم مستحكم! ثم مات أخوها فإنكشفت الغمة وزال العائق الثقيل وتزوجت (أم رتيبة) من (سيد أفندي) على يد (مأذون) صديق من مريدي أخيها (عبد الصبور) ومحبيه.
وقد كتبها المؤلف (الأستاذ يوسف السباعي) باللغة العامية؛ لأنه يرى أنه (من الجنون أن يحاول إنطاق أبطالها باللغة العربية) وللمؤلف في ذلك بواعث وأعذار! أما البواعث فهي أنه متغلغل في فهم الروح الشعبية واللغة العامية تغلغلا قل أن توفر لغيره، فهو يجد يسرا وسهولة في الأداء باللغة العامية قد لا يجدهما في الأداء باللغة العربية! وأما الأعذار فإن أبطال الرواية - أو أغلبهم على الأصح - من عامة الشعب الذين لا تجري اللغة العربية على لسانهم في شئ، فكان من كمال (الواقعية) - في نظر المؤلف - أن يكون كلامهم باللغة العامية! وجو الرواية - كذلك - جو شعبي خالص، لا يبدو فيه الكلام العربي إلا كما تبدو الرقعة في الثياب! هذه بواعث وأعذار المؤلف - على ما يبدو لي - في استعمال اللغة العامية، ولكني نظرت فوجدته يخاطب الخادم (زينهم) المسرف في الشعبية بقول أبي نؤاس (وداوني بالتي كانت هي الداء)، ويخاطب الخادمة (سنية) بقول أبي العلاء (هذا جناه أبي علي) فكيف تسنى لهما أن يفهما ذلك وهما أقل أشخاص الرواية علما وإدراكا؟ ووجدته
يجري في الرواية عددا من الألفاظ العربية الفصيحة مثل قوله (المصل الواقي)، (حاجة تبدد الإيمان)، (الدنيا سفر والآخرة غاية) وغيرها، فكيف أمكن أن تفهم هذه العبارات في الجو الشعبي الذي انحدر من (حوش آدم)؟ أنا لا أشير باستعمال اللغة الفصيحة العالية الجزلة على المسرح، ولكني أريد الحلقة المفقودة عندنا، أريد اللغة العربية اليسيرة السهلة التي لا يفصلها عن العامية إلا حاجز رقيق لطيف، واعتقادي أن الأستاذ يوسف السباعي - وقد بلغ في فهم اللغة العامية والروح الشعبي مبلغا بعيدا - يستطيع بشيء من الجهد والدأب والمشقة أن يجئ لنا بهذه الحلقة المفقودة.
والأستاذ يذكر لنا أن هذه المسرحية أول محاولة له في كتابة المسرحية، فإن كان الأمر كذلك، فإن الأمل المرقوب منه كثير. . . إن الموهبة مكتملة في المؤلف دون شك، وإنما تنقصه في معالجة (المسرح) أمور أرجو أن يتوفر على استكمالها، وأنا أهمس إليه ببعض ما في مسرحيتنا هذه من تلك الأمور، فإني أرى فيه بوارق وضاءة من أمل كبير.
أراه يوزع الحوادث والكلام على الفصول توزيعا غير عادل! وأنا أعلم أن الحوادث قد تقتضي المؤلف شيئاً من ذلك، ولكنني أعلم كذلك أن المؤلف القادر هو الذي يحكم هذه (الحوادث) ويطوعها لقلمه وتصرفه! فالفصل الأول كبير مزدحم، والفصل الأخير صغير متخاذل، والفصل الثاني بين بين!
وأراه يعني - أكثر ما يعني - بإيراد النكتة تلو النكتة، والأصل في المسرحية أنها (موضوع) والنكتة فيها ثانوية لا يجوز لها أن تغطي على الموضوع الأصلي الذي هو (مركز الاستشارة) كما يقول فقهاء المسرح.
وأراه يكثر من الحكايات الجانبية التي تقع في المسرحية كما تقع (الجملة المعترضة) في الكلام! والإكثار من هذه الحكايات - فوق أن فيه تعطيلا لحركة المسرحية - فهو يصرف المؤلف عن الاهتمام بالموضوع الأصلي الذي يجب أن يكون له المحل الأول دائماً، وقد أورد المؤلف من ذلك حكايات طويلة كحكايات (المعزتين) وحكاية (البنت هانم) صديقة الشيخ جاد وسواهما.
وأراه (يرشح) لبعض الحوادث بكلام سافر يدل عليها قبل وقوعها! مثل (إرهاص) أم رتيبة بقدوم الضيف فيقدم الضيف بعد إرهاصها ومثل إرهاص (سيد أفندي) بأنه سيموت وتوكيده
لذلك وتوديعه لأهله وصعوده إلى السرير للموت فيموت فعلا! وغير ذلك. والمسرح (أفعال) لا (أقوال) فالحوادث وحدها هي التي ترهص وترشح إن جاز أن يكون في المسرح إرهاص أو ترشيح. .
وأراه - وذلك أمر ذو أهمية كبيرة للمؤلف - يجري على لسان شخصياته كلاما لا مواربة فيه يمس مقدسات الناس وعقائدهم الدينية، كلاما سافرا جدا قد يشك بعض الناس فيما يعتقدون به ويخضعون له. ولست أريد أن أردد هنا ولكنه مضطرب في كثير من صفحات الرواية وخصوصاً في الصفحات (135، 164، 169، 202، 203، 204) والمسرح للناس جميعا وفيهم الساذج والضعيف الإيمان والحائر بين العقائد، فإن كانت إشارة لا معدى عنها إلى هذه الأمور فلتكن خفيفة خاطفة لا صريحة سافرة متكررة كما رأينا.
وأراه يسرف في بحث المشكلات الاجتماعية والدينية بحثاً جدلياً نظرياً كأنه محاضرات! فيبحث - فيما يبحث - مثلا الاشتراكية ونظام الطبقات ومعاهدات (عدم الاعتداء) والإيمان الأعمى والموت وما بعد الموت وسواها، وذلك تحميل لهذه المسرحية الكوميدية ما لا تحتمل! واعتقادي أن مرد ذلك القلق عند مؤلفنا الفاضل إلى (رباعيات الخيام) التي ترجمها والده الأديب الكبير المرحوم الأستاذ محمد السباعي وعاش مؤلفنا في جوها منذ كان طفلا فامتلأت بها نفسه وأخذ يرددها منثورة في مسرحيته!
وأراه ينطق الخدم وغيرهم بكلام قد يجرح حياء بعض من يرودون المسرح (كقوله تناكحوا تناسلوا)، وقوله (تبقى قيمة العيشة إيه لما الواحدة ما تعملش الحاجة اللي انخلقت علشانها؟) وقوله (أمد إيدي تحت القميص بس ما تبقيش تقولي شيل إيدك)! ومثل وصف صدر المرأة وبطنها قبل الزواج وبعده!
وأريد أن أسأل المؤلف: كيف ينتقل الحديث فجأة من حديث (الملوخية والكسبرة) إلى حديث زواج أم رتيبة ولا اتصال بينهما؟ وكيف يدخل الخدم ويخرجون هكذا دون داع ودون استئذان؟ وكيف يجرءون هكذا على العراك بالكلام وبالأيدي، وكيف يتغزلون بالغزل المكشوف أمام سادتهم؟ اللهم إلا إذا كان دخولهم لدفع ملل من حديث طويل أو لإحداث حركة في موقف خامد! وكيف تستفهم (أم رتيبة) هل مات (سيد أفندي) عندما شرب ماء اللفت وهو طفل مع أنه يسكن جوار منزلها وتراه كل يوم وتسمع عنه كل يوم وتأمل
الزواج به؟ وكيف يسأل (عبد الصبور) - في أول الرواية - عن صديقه (علوان أفندي) الذي لم يحضر مع مريديه ومحبيه سؤالا نفهم منه أنه يعجب لعدم حضوره معهم ويستنكر ذلك مما يدل على أنه مواظب على حضور هذه الجلسات التي يعقدونها لتحضير (الأرواح) ثم تمضي الرواية كلها دون أن نرى (علوان أفندي) هذا؟
وأريد - قبل أن يمضي بي الحديث إلى غايته - أن أنوه بالمجهود الكبير الذي بذله الأستاذ فتوح نشاطي في إخراج هذه المسرحية، فقد التمس لكل دور الشخص الذي لا يتصور الخيال أن أحدا غيره يناسبه! أنه قد تعمق فهم شخصيات المؤلف وأخرجها لنا كما يريد المؤلف تماماً حتى صارت شخصيات نموذجية في موضوعها ومعناها وصورتها أيضاً! وإن الحيل المسرحية التي اعتمد عليها في تحضير (أرواح) الموتى، وفي تحريك المنضدة والكوب والكراسي حيل بارعة لا يظهر فيها افتعال أو صنعة! ولقد نهض الممثلون بأدوارهم في براعة أشهد أنها في الذروة من البراعة والمشقة والجهد، ولا أدري كيف أشيد بأحدهم وأترك الآخرين فكلهم ناجح وكلهم مشهور، بيد أني آخذ على (وداد حمدي) التي كانت تقوم بدور الخادمة أنها لم تكن خادمة حقاً! وأقرر أن هذا عيب شائع في ممثلينا، فهم يرضخون لحكم (الصنعة) عندما يكلفون تمثيل أدوار الخدم، ولكنهم يضمرون الكراهية لهذا الدور بينهم وبين أنفسهم! فتراهم لا يعملون تماماً ما يعمل الخدم، وإن عملوا فإنهم يحاولون أن تبدر منهم لفتة عظيمة، أو كلمة فخمة، أو مشية وقورة، تشير إلى أنهم ليسوا من الخدم في شئ!! وذلك نقص أرجو أن يتلافوه!
وبعد: فأرجو أن يعلم المؤلف أننا نرقب منه خيرا كثيرا للمسرح، وأننا نرى فيه مواهب متدفقة أصيلة، وأن اللغو الذي أثير حول هذه المسرحية إنما هو من عبث الذين لا يعرفون عن المسرح سوى خشبته وأنواره! والذين يحسبون المسرح مجرد شعوذة بيانية، أو خطب منبرية! أرجو أن يتوجه الأستاذ يوسف السباعي إلى التأليف المسرحي بكلياته، وأن يحاول اصطناع اللغة العربية السهلة التي أشرت بها، وأن يدرس فنون المسرح دراسة جد وصرامة لا دراسة هواية فحسب، وأنا زعيم له - بعد ذلك - بأنه سيكون من كبار مؤلفي المسرحيات الكوميدية، وسيكون النقد - عندئذ - أسعد ما يكون وهو يقدم للجمهور هذا المؤلف الكبير.
علي متولي صلاح
آراء وأنباء
جوائز فؤاد وفاروق
علمنا أن الرأي قد استقر على أن تبقى جوائز فؤاد وفاروق للأدب والعلوم والتاريخ والقانون على النظام الذي وضع لهما في المرسومين اللذين أنشئتا بهما. ولن يقع تغيير يمسهما إلا في اسميهما وموعديهما. فأما الاسم فسيكون (جوائز الدولة)؛ وأما موعداهما فسيكونان في غير ذكرى وفاة فؤاد وذكرى جلوس فاروق، وسيعلنان فيما بعد.
المؤتمر العلمي العربي الأول
وافق مجلس جامعة الدول العربية على قرار اللجنة الثقافية بعقد مؤتمر عربي، في مدينة الإسكندرية، في أوائل شهر سبتمبر سنة 1953، يشتمل على ثلاث شعب وهي:
شعبة البحوث العلمية المبتكرة، وشعبة المشكلات العلمية العامة، وشعبة المحاضرات الثقافية العامة.
وقد تكونت بالقاهرة لجنة للإعداد لهذا المؤتمر، بناء على القرار من المكتب الدائم للجنة الثقافية. ورأت هذه اللجنة أن تشمل البحوث التي تقرأ في الشعبة الأولى من شعب المؤتمر فروع العلم الآتية: علوم الرياضة والطبيعة والأحياء والكيمياء والجيولوجيا، وتقترح اللجنة أن يقتصر البحث في الشعبة الثانية من شعب المؤتمر على المشكلات الآتية: المصطلحات العلمية، التأليف والترجمة والنشر، إعداد مدرسي العلوم، العلم والاقتصاد القومي.
أما الشعبة الثالثة فتخصص محاضراتها بدراسة تاريخ العلوم عند العرب. وسيدعى للاشتراك في هذا المؤتمر وفود الدول العربية، ومندوبو الهيئات العلمية، والعلماء من العرب، وذلك لقراءة البحوث المبتكرة، والتشاور في وسائل تذليل العقبات وحل المشكلات التي تعترض تقدم العلوم والبحث العلمي في البلاد العربية.
الصحفيون في أوبرج الفيوم
دعا الأستاذ عبد العزيز طلعت حرب عضو مجلس الإدارة المنتدب ببنك مصر، لفيفاً من أعضاء نقابة الصحفيين لتمضية نهار كامل بأوبرج الفيوم، وهو فندق عظيم مقام على ساحل بحيرة قارون، وهي بقعة من أجمل مشاتينا المصرية، ومن الأمكنة التي يستطيع
الزائر أن يمضي فيها وقتاً هادئاً لطيفاً صيفاً وشتاء، وهو بمثابة مصحة للأعصاب المتعبة، والأذهان المضطربة، والنفوس الثائرة. ذلك أن المناظر الريفية الخلابة تشرح الصدر، وتمتع البصر إذ يمتد طويلاً في فضاء البحيرة المتلون، فمن مناظر جميلة على صفحة الماء الزرقاء المترقرقة في اليوم الصحو، إلى مناظر تشبه الغروب والوقت ضحى أو ظهراً إذا كانت السماء ملبدة بالغيوم، فتظهر القوارب والشرع كأنما تسير إلى جوف الغيب الذي لا يدرك، أو تنتشر على أمواج الماء في اليوم المشمس فتنافس الشروق في بعث الأمل في النفوس البائسة، وتشرح الصدور المثقلة بالمتاعب، وتخفف عن الكواهل عبء المسئوليات.
وهيأ لنا الأستاذ الداعي رحلة جميلة إلى تفتيش مصائد الأسماك، وقدم الأوبرج طعام الغداء لضيوفه الكثيرين إلى جانب نزاله العديدين الذين كانوا يبدو على محياهم البشر والرضاء. وعدنا في سيارات الفندق التي ذهبنا بها في راحة وبشر، بعد أن استودعنا الأستاذ عبد العزيز طلعت وطلبنا إليه أن يكثر من أمثال هذه المشاتي وتوجيه أكبر عناية للمصايف على الشواطئ المصرية الجميلة، التي تضارع أحسن شواطئ العالم إن لم تمتز عليها بأشياء كثيرة. وحبذا لو اهتم أصحاب رؤوس الأموال منا لأن يتعاونوا على إنشاء المشاتي والمصايف على أحدث النظم في مختلف المواضع الصالحة لذلك بمصر، حتى نمكن للمواطنين الإفادة من الاستمتاع بأجواء بلادهم، والتي يمكن أن تكون مهبطاً للسائحين من جميع أنحاء العالم، ولتكون من أربح موارد البلاد الاقتصادية.
يوم الفلسفة
أقام أساتذة الفلسفة والتربية بوزارة المعارف حفل تكريم للأستاذ المربي مظهر سعيد عميد الفلسفة وعلم النفس بالمعارف بنادي دار سينما ريفولي. وقد شهد الحفل جمع عظيم من رجالات وزارة المعارف والجامعات، والصحافة، وشرف الحفل نائب الرئيس القائد اللواء محمد نجيب. وبعد أن قال رجال الفلسفة والتربية كلمتهم في تكريم يوم التحرير وعميد الفلسفة والتربية، وبعد أن قال الدكتور منصور فهمي كلمته المستفيضة، قام رجال الجيش الصاغ الديب، فتكلم عن الفلسفة وعن العلماء ومهمتهم في إنجاح سياسة الدولة في عهدها الجديد السعيد، بمقدرة العالم المثبت، وتجربة السياسي المحنك، ثم عرج على المبادئ التي
يجب أن يضعها أساتذة الفلسفة والتربية أمام أعينهم، والطرق الفعالة المجدية التي ينفذون بها إلى نفوس طلابهم، حتى نتمكن من بناء دولة متينة العمد، ثابتة الأسس، سامية الغرض. ودهش الناس أن يجمع الضابط بين العلوم الحربية والعلوم الفلسفية والتربوية والاجتماعية، ولكن لعل عجبهم يخف إذا علموا أن نفراً عظيماً من ضباط الجيش الذي تولى تحرير البلاد. . على أعظم جانب من العلم والثقافة. وأنه لمن حسن الحظ لمصر أن يتولى أمره هذه النخبة الممتازة من أبناءه.
وكان مسك ختام هذا الحفل كلمة الشكر التي ألقاها الدكتور مظهر سعيد المحتفى به، متدفقاً كعادته بدرر الكلام وسامي المعاني.
يوم التحرير
امتاز الأسبوع الماضي بما حدث فيه من أمور مهمة، فقد احتفل الشعب والجيش بيوم التحرير، ولقد أتت الوفود ممثلة للشعب من مختلف أنحاء البلاد، وعرض من وحدات الجيش جانباً من أنواع نشاطه، وحذا حذوه معاهد العلم على اختلافها، وممثلو الجاليات الأجنبية في صفوف الكشافة والجوالة؛ كما زان العرض صفوف نظامية ممتازة من فتيات الكشافة، ومرت المواكب التي ترى نشاط الأمة المتنوع. لقد كان يوماً عظيماً خالداً، نعم لقد كان مهرجان يوم 13 يوليو1952 يوم التحرير الذي لا يمكن أن ينسى مهرجاناً فخماً؛ ذلك بأن يوم التحرير سطره التاريخ في صفحات الأزل بحروف من نور، وصار يوم البعث، يوم الحياة.
وكان أهم ما امتاز به يوم التحرير. . الخطبة العظيمة التي ألقاها الرئيس القائد اللواء محمد نجيب؛ فقد عبر بها عن آلام الشعب وآماله، ألقاها بلسان الحق والقوة والإخلاص، فنفذت إلى كل قلب، واستقرت في كل نفس، واعتمدت دستوراً لن يحيد عنه إنسان واحد في الوادي، أو يشذ عنه، بعد أن فرغ من خطبته الجامعة تلا القسم وردده من وراءه الملايين بصدق وعزم، ونقاء طوية، وعاهد الناس أنفسهم على الثبات على هذا المبدأ، كما أشهدوا الله على أنفسهم، ورجوا الله أن يكون لهم خير نصير، ومن ينصره الله فلا غالب له.
في عالم الكتب: نقد وتعريف
الزنابق الحمر لطاغور
ترجمة الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار
للدكتور أحمد فؤاد الأهواني
من دلائل النهضة الحديثة في مصر، وفي الشرق العربي، أن يتحرك الأدباء إلى نقل نفائس الكتب عن لغاتها التي صدرت بها. ولم يكن الأمر كذلك منذ عهد قريب، بل كان يسعى الناقل إلى الإنجليزية أو الفرنسية يطلع فيها، وينقل عنها المؤلفات الفارسية أو الهندية أو الصينية. ونحن نعلم أن الترجمة مهما تكن أمينة فلن تقوى على نقل الآثار الأدبية بدقة تامة، ونعني بالآثار الأدبية الشعر والتمثيليات. وعلة ذلك أمور كثيرة، أهمها خصائص كل لغة مما يجري فيها من تعابير، وليس لها مثيل في اللغات الأخرى. وهذا هو السبب في اختلاف التراجم الفرنسية عن الإنجليزية للأصول اليونانية مثلاً. بل لقد تختلف الترجمة في اللغة الواحدة تبغاً لاختلاف ذوق المترجمين ومقدار فهمهم للأصول، ولذلك تتعدد التراجم للنص الواحد.
مما لاشك فيه إذن أن الناقل يبعد عن الأصل بعض الشيء، فإذا جاء ناقل وترجم الأصل عن لغة أخرى فقد ابتعد خطوة أخرى عن الأصل. ولذلك كانت الترجمة عن الأصل رأساً أفضل من الترجمة عن الترجمة.
ويسرنا أن نقرأ تمثيلية الزنابق الحمر للشاعر الهندي رابندرانت طاغور معربة رأساً عن الأصل البنغالي، بقلم الأديب أحمد عبد الغفور عطار الذي يقول في كلمته يقدم المسرحية: (وقد حاولت جهد المحاولة أن أنقل جو طاغور وروحه وفنه وبساطته، وأقترب في أسلوبي العربي من أسلوبه في البنغالية، فإن كنت قد وفقت فالحمد لله، وإلا فعذري إن كنت أميناً في النقل والترجمة، وبذلت غاية الوسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
والمترجم من مكة المكرمة، ولكنه درس في مصر؛ ولذلك لا يحس في أسلوبه أو عبارته أي غرابة عن اللغة المصرية. وهو يعرف اللغة البنغالية. وحدثني أنه استغرق في ترجمة هذه المسرحية ثلاث سنوات مع إنها صغيرة الحجم، وهذا شأن الفنان الذي يستغرق في فنه
ويتأنى في عمله والمسرحية تعبر عن روح الهند وفنها الأصيل الذي يختلف عن غيره من الفنون في الدول الأخرى.
وهي رمزية لا تمثل الواقع، ولكنها تصور مع ذلك الحياة الإنسانية أبلغ تصوير. فلا يوجد إقليم اسمه (ياكشا) ولا يعبر عن الملك بصوت دون أن يرى.
يصور طاغور في هذه المسرحية المجتمع البشري، ويصور العلاقة بين الملك والشعب، وبين الرجل والمرأة، وبين العمال والرؤساء، ويصور منزلة هذه الأشياء التي يتعامل بها الناس ويتداولونها، كالذهب والخمر والشعر والغناء والزهور.
فالملك رمز الظلم، والمرأة رمز السحر، والعامل رمز الدأب، والذهب رمز القوة، والخمرة رمز النشوة، والزئبق الأحمر رمز الحب والخوف.
تبدأ المسرحية بغلام عامل يحفر الأرض يخاطب (نالديني) المرأة الجميلة الفاتنة رمز السحر.
كيشور: أليس لديك أزهار كافية يا نالديني؟ لقد أحضرت لك بعضها، وأكثرت من بعض الألوان.
نالديني - كيشور، انطلق، تحرك، عد إلى عملك، أسرع، أرجو أن تعود وإلا تأخرت.
كيشور - يجب أن أختلس جزءاً من وقتي الذي أنفقه في الحفر بحثاً عن الذهب، لأحفر من أجلك حتى أحضر لك الأزهار.
نالديني: ولكنهم سيعاقبونك إذا علموا بما صنعت.
كيشور: قلت: يجب أن تحصلي على زنابق حمر، تالله ما أعظم ندرتها في هذا المكان!
بهذا المطلع البديع يستهل طابور مسرحيته. فهذه الزهور نادرة، ولا يعرف سر مكانها إلا هذا الولد العامل. وهي نادرة ندرة الذهب الذي يحفر المئات منهم الأرض للحصول عليه. ليقدموه إلى الملك، وإلى أصحاب السلطان. وليس لهؤلاء العمال الحفارين أسماء إلا فيما بينهم وبين أنفسهم. أما في نظر رؤسائهم، فلا يعرفونهم إلا بأرقام. إنهم (نمر) لا أكثر. فهذا الحفار يشقى في الأرض باحثاً عن الذهب، ولكنه غير راض عن عمله، بل ساخط عليه، على حين يقبل باحثاً عن الزنابق حتى يستطيع تقديمها هدية إلى نالديني. فترضى بذلك نفسه.
أما الملك وأعوانه، فإنهم يدفعون الناس بحثاً عن الذهب، لأنه الوسيلة لاستعبادهم، مع أن الذهب شيء (ميت) لا جمال فيه. وانظر إلى الحوار بين نالديني وبين الأستاذ الفيلسوف.
نالديني: يحيرني أن أرى مدينة بأسرها تدفع رأسها في التراب دفعاً، وتنقب بكلتا يديها في الظلام. أنتم تحفرون النفق في العالم السفلي ليل نهار، وترجعون بثروة ميتة أودعت الأرض منذ أجيال فصانتها.
الأستاذ - نحن نبتهل إلى شيطان هذه الثروة الميتة، وإذا استطعنا استعباده رقد العالم تحت أقدامنا دون عناء.
نالديني - ألهذا تخبئون مليككم خلف حائط من الستار المعتم؟ أخوفاً أن يكشف الناس أنه سلطان؟
الأستاذ - كما أن لشبح ثرائنا الميت بأساً شديداً مخيفاً فإن لشبح الملكية الغارق في الضباب بأساً أشد وأقوى. إنها بقواها غير البشرية ترعب الناس.
نالديني - كل ما تقوله كلام نسجته الصنعة وزوقه الخيال.
الأستاذ - إنه صنعة زوقها الخيال. ولئن كان العاري أسرع فهماً وتصديقاً، فإن الملابس المصنوعة هي التي تستر ما في أجسادنا من عيوب، وتخفي ما نود كتمانه، وهي بعد تحددنا. لشد ما يمتعني أن أناقشك الفلسفة!
نالديني - هذا غريب منك أنت الذي اتخذت وكرك في الليل والنهار بين كتلة من الصفحات الصفر الشاحبة مثل حفاريك الذين ضلوا في جوف الأرض. إنك تضيع وقتي سدى.
هذه عبارات سهلة ولكنها تعبر عن فلسفة في غاية العمق. إنها قصة الإنسانية التي ذهبت في الحضارة شوطاً بعيداً، فأصبحت تصنع كثيراً من الصناعات لا تقوى على المعيشة بدونها، بل أصبحت تمجدها وتعبدها. الحق إن الإنسان المتحضر عبد لآلاف الأشياء التي يستعملها، والتي يقتنيها بالمال، كالمسكن وما فيه من أدوات، وهذه الملابس المعقدة، وسائر المقتنيات الكثيرة التي تزحم بها أنفسنا في هذه الحياة. ومن أجل هذه المقتنيات، والسبق في الحصول عليها، أخذ الناس يستعبد بعضهم بعضاً بالعسف والإرهاب، واستعمال السيف والسوط، حتى نزل الرعب في القلوب، وسرى الخوف في أوصال العباد. ولو تأملوا لرأوا
أن حكامهم لا حول لهم ولا قوة، وأنهم بشر كسائر البشر.
ويحدثنا طاغور عن فلسفة الحب. إنها في نظره جاذبية طبيعية بين الرجل والمرأة، لا يمكن أن يعرف سرها، أو يعلل أمرها. لا يمكن إرجاع الحب إلى سبب معين، فالصلة بين الرجل والمرأة، واتصال أحدهما بصاحبه، يرجع إلى الحظ. وإذا كانت نالديني قد اختارت الزنابق الحمر دون غيرها من الألوان، ودن غيرها من الزهور كالياسمين والسوسن، فذلك لأن حبيبها (رانجان) يدعوها (الزنبقة الحمراء) وهي كذلك تحس أن لون حبه أحمر كهذا الأحمر الذي يطوق جيدها.
وللألوان فلسفة. ولكل شيء معنى ودلالة.
وتختلف الدلالات باختلاف نظرة الناس. فهذه نالديني تفهم من الزنبقة الحمراء معنى الحب. ولكن (جوكيل) وهو أحد الحفارين يفهم منها معنى آخر، فهو حين يرى جيدها وقد تدلى منها الزنبق الأحمر يقول لها (إنك تظهرين لي كشعلة من اللهب القاني يمجها الشيطان).
حقاً ما أعجب طاغور! أنه يسطر مسرحيته بالألوان كما الرسام. أنه يريد أن يحلي جيد الملك بإكليل من الزهر الأبيض، والبياض رمز الموت، والجمرة رمز الحياة. وإذا كان الملك يجمع الذهب، ويستمتع بلونه وتوهجه، فإن لونه ميت كالذهب نفسه، أما لون الزنبق فحي لأن الزهر حي.
يفتن الذهب الناس لأنه رمز القوة، ولكنها قوة وهمية، لا يمكن أن يشتري بها الإنسان الحب، وهو سبيل السعادة. وفي ذلك يقول صوت الملك معترفاً لنالديني
(كل ما أملك أثقال ميتة، وحطام أصم. لا الوفرة في الذهب بمستطيعة أن تخلق جريئاً، ولا الزيادة في القوة بقادرة أن تهب الشباب. . أنا أستطيع أن أحرس بالقوة التي أملكها، ولكن. . . آه، لو كنت أملك شباب (رانجان) لحررتك، ثم تشبثت بك، وأخذتك بين أحضاني بعنف. إن وقتي ينفق في عقد الحبال المبرمة، ولكن وا أسفاه! كل شيء يمكن أن يحفظ بإيثاقه إلا السرور والمرح فإنها لا يوثقان).
وإذا كان الملك شقيا بذهبه وقوته، ولا يجد فيهما عزاء أو تسلية ولا ترويحاً عن للنفس، فإن الشعب يلتمس الراحة من الكدح والدأب في العمل بالنشوة التي يجدها في الخمر. وكل
ما يؤدي إلى النشوة فهو خمر. ففي الطبيعة خمر، والشراب المعروف خمر يبعث أيضاً على النشوة.
سئل (بيشو) وهو فيلسوف من أتباع نالديني عن السبب الذي يدفع الناس إلى الشراب فأجاب: (وسعت رحمة الله كل شيء، وستتسع رحمته لمن يشربون قليلاً فيعفو عنهم. لقد خلقت أذرعنا - نحن الرجال - لنبذل أقصى ما وضع في عضلاتنا من خمر القوة؛ أما أذرعكن - أيها النساء - فقد خلقت لتقديم نبيذ العناق. إن كان في هذا العالم جوع يدفعنا إلى العمل والكدح فإن فيه أيضاً اخضرار الغابة ووهج الشمس المشرقة، وكلاهما يجعلنا ثملين إذا ما نادتنا أيام العطلة).
قالت محدثته: (أتسمي كل هذه الأشياء خمراً؟)
فأجاب بيشو: نعم خمر الحياة ينبوع من اللذة والنشوة لا ينضب ولا يفسد. اسمعي شكاني: جئت إلى هذا المكان مدفوعاً إلى العمل والسطو ليلاً على العالم السفلي. إن نصيبي الذي أستحقه من الخمر الطبيعية تلقاء عبوديتي للطبيعة قد حرمت منه، ولهذا أجد إنساني الباطن يشتهي الخمر الصناعية ليتخفف من تعب النهار).
وأحسب أننا وقد ارتفعنا إلى هذه الآفاق العليا من فلسفة الحياة، لا يعنينا كيف سارت المسرحية وكيف كانت خاتمة الملك، لأن الحياة دوامة عظيمة تبتلع فيها كل شيء، وتنقلب فيها الأشياء، فتعلو تارة، وتهبط تارة أخرى، وتفقد قيمتها، ويبتلعها هذا الغول الهائل الذي يسمى الزمان.
أحمد فؤاد الأهواني
طرائف وقصص
شيء كالربيع
(إلى الباحثين عن حقيقة الفن وعشاق الجمال)
للأستاذ محمد أمين (البندقي)
كان (المطعم الروماني) في ذلك اليوم غريب الزحام، وما ذاك إلا لأن أوليفيا الحسناء كانت منذ أيام قد راحت تتردد إلى زبائنها الكثيرين ووعدتهم بأشهى طبق من طيور الصيد، تقدمه إليهم بغير زيادة على ثمن الوجبة المعهود، إذا ما عاد زوجها من رحلة الصيد في السبت، وكان ذلك اليوم هو يوم السبت. وإذن فقد كان علي أن أرضى ويرضى معي زميلي زوراي بتلك المائدة المهجورة عند باب لا يكاد يقفل حتى يفتح من جديد. وكان علنا أن نروض النفس على الصبر. فالخادم الكهل جيانينو بعد أن جاء بالنبيذ قد شغله الزحام مرة أخرى، فما عاد يستجيب لندائنا عليه بأكثر من (نعم يا سيدي. حاضر.).
على أن الانتظار في الحق لم يكن يضنينا. فقد كان صاحبي يتسلى بأن يرسم على ظهر قائمة الطعام صورة بارعة لذلك المتسول الشيخ الذي جلس على مقربة منا وهو يعزف أنغام الفرح الصاخب على (الفيزارمونيكا). وأما أنا فقد كنت أقلب النظر إلى ذلك العالم الصغير الغريب فأكاد أنسى كل شيء.
كان هناك فيردينيو المثال وقد رأيته يطلب اللتر الكامل من جيد النبيذ، فقلت لنفسي أنه لا ريب قد أخذ عربونا على تمثال للعذراء علم الله على قبر أي تعيس من التعساء يوضع.
وكان هناك توبي الرسام، وكنت أراه يقنع في ذلك اليوم أيضاً بشرب الماء القراح وفي وجهه الصلابة والعزم، وأفكر في الصعاب التي يصادفها كل عبقري يأتي بالجديد.
وكان سوزي هناك أيضاً؛ وجدته ضاحك الوجه لم تمنعه سنوه الخمسون من أن يضع في عروة سترته تلك الوردة الحمراء الملتهبة، فلم أشك في أن علاقته مع تلميذته الصغيرة في الأكاديمية لم تزل على ما يرام.
وأظل أتنقل بالنظر من مائدة إلى مائدة، حتى ينتهي صاحبي وهو يهزني من ذراعي هزاً:
- فيرا الرسامة! أتعرفها؟
فأقول وما زلت شارد الذهن:
- كلا. ولكن يخيل إلي أن هذا الاسم قد سمعته من قبل.
- هي من أبرع الرسامات اللاتي عشن في روما.
وكان هذا الإعجاب الذي يبديه صاحبي - وهو الذي يبخل دائماً بالمديح - جديراً بأن يثير انتباهي. ولكن شيئاً غريباً في تلك المرأة هو الذي جعل نظري يتعلق بها وهي تبحث هنا وهناك عن مائدة خالية.
كانت ترفع رأسها كأنها ملكة. ولكن وجهها كان هادئاً صاخباً حتى كأنها شاعرة. ولكن شعرها الغزير الذهبي يترسل ليلاً على كتفيها فيوحي إلى النفس معاني الهدوء واللطف والبساطة.
وقد وقفت آخر الأمر عند عمود مغطى بخشب الجوز القديم فاطمأنت وحدها إلى مائدة. ولم يتأخر عنها جيانينو بربع اللتر المعهود. وأما صاحبي فقد عاد يقول وهو يراني أطيل إليها النظر.
- ألا تجدها غريبة؟ إنها لأعظم امرأة عرفتها وإن لها لقصة.
ولم يجعلني ألح عليه في الرجاء كيما يقص علي ما كان يعلمه، فقد كان يحس من نفسه كل الرغبة. وقال:
(كانت فيرا تعمل كنموذج للفنانين قبل أن تتوفر بنفسها على الرسم. وكان ينبغي لك أن تراها في ذلك الحين، أعني قبل عشر سنين، فقد كانت رائعة الحسن. وكان جسمها الذي رأيته في أمسيات كثيرة، عارياً يشتعل تحت النور القوي في نادينا القديم في شارع مارجوتا، شيء يفتن العين والقلب. ولعل لا تلقى في كبار الفنانين في روما من لم يوحي إليه هذا الجسم بعمل يعتز به فوق اعتزازه بأي شيء آخر. حتى ليقال إن الأستاذ (ف) باع رسوماً رسمها لزوجته وبناته وهن عاريات أتم العري قد أبى أن يفرط في رسم لها ود الكثيرون شرائه بأغلى ثمن. وهو يقول أنه يريد أن يأخذه معه إلى القبر، لأنه كل ما ظفر به من دنياه.
(ولم يكن الأستاذ (ف) في ذلك الحين هو صاحب ذلك الرسم الكبير الذي يرتفع حتى يبلغ ثمانية أمتار ويزيد، بل كان واحداً منا نحن الذين كنا نتردد على النادي كل مساء لكيما
نرسم النموذج الحي لقاء صولديات قليلة، لعلك تعلم كيف كنا نقتطعها من حاجات العيش اقتطاعاً.
(وأقول أنه لولا ذلك لما استطاع الأستاذ (ف) أن يظفر بذلك الرسم الذي يعزه فوق إعزازه لأي شيء آخر؛ فقد كانت تيرا تأبى أن تعرض فتنتها على شيوخ الفن في المراسم الكبيرة الجافية، وتؤثرنا وحدنا بنعمة الإلهام من جسمها العجيب. فقد كنا شبعتها التي تلتف حولها في خضوع وعبادة.
(نعم كنا أتباعاً لجمالها. وكانت تصطفي من جمعنا من تشاء. على أنك لم تكن تعلم ما الذي يدنيك منها وما الذي يقصيك عنها. فقد كنت أن تقرر أن بعض الحسن أولى أن يستميلها، وأن بعض الشباب أحق أن ينال رضاها؛ ولكنها كانت تعرض عن هذا وذاك، وتقبل وأنت حائر والكل حيارى على القبح الذي كان يخطر لك أنه أشد ما ينفر، والشيخوخة التي لم تحسب لها أي حساب.
(غير أنها كانت تعود فتستبدل الحسن بالقبح والشباب بالشيخوخة، فلا أحد يتولاه اليأس من أن يفوز بمتعة ليلة. وهي كانت ليلة مفردة فلا يطمع أحد في أكثر منها. والويل لمن علل النفس بالآمال وطمع في دوام الحب. أنه كان يضيع قلبه ويتلف روحه.
(وظلت فيرا على هذا النحو نموذجاً لحقيقة الجمال وصورة لإحدى ربات الأقدمين غريبات الأطوار، حتى بدا لها في أمسية من الأماسي أن تجول بين أشتات اللوحات بعد جلستها الأولى لترى كيف رسمها الرسامون ووقفت عند لوحة فوقفت تضحك.
لم يكن هناك رسم ولا شيء يشبه الرسم في تلك اللوحة وإنما كان هناك على الأصح تراب الفحم امتزج به العرق الكثير، فنشأت منه بقع سود كبار، وإذا كان تحتها شيء فهو خيال امرأة لا يظهر للعين إلا على جهد.
فقالت فيرا، إذن فالرسم سهل يسير. فما يعجزني أن أرسم شيئاً كهذا.
ونظرت إلى صاحب اللوحة، وهو فتى غض الإهاب من طلاب الأكاديمية فإذا هو يستند إلى الحائط وهو يبتسم وكأنه يدافع عن نفسه بذلك الابتسام، فقلت لنفسي أنه مسكين، وإن أمره لم يكن عن جهل بالفن. وكنت على يقين؛ فقد جرى لي نفس ما جرى لذلك الفتى يوم أن رأيت جسم فيرا العاري لأول مرة. ولكن العرق الذي تصبب مني كان أقل. ولعل هذا
لأن حظي من فورة الشباب كان أيضاً أقل. إلا أنني تمنيت أن لو قد أصابني كل ما أصابه أو أكثر. فقد وقع عليه الاختيار في تلك الليلة؛ ثم كان هو المختار أيضاً في الليلة التي بعدها، وفي الليلة الثالثة، وفي ليال أخرى متعاقبة. ثم بدأ نادينا يقل رواده لأن فيرا لم تعد تظهر. والشاب أيضاً لم يعد يظهر. ثم علمنا أن الاثنين طارا إلى عش على سطح دار صغيرة قي (مونت ماريو).
وكف صاحبي عن حديثه لحظة، فصب لي ولنفسه جرعة أخرى من نبيذنا القليل الذي كاد ينفد. وبحث في كل جيوبه عن شيء يعطيه لذلك العازف المسكين. ثم وصل الحديث فقال:
لم تعد فيرا تعمل كنموذج. وكان يقال أنها أحبت عيشة البيت الساكنة المطردة، أكثر مما أحبت عيشة الملاذ الطليقة المنوعة، لأنها أحبت رجلها. ولم تحبه فحسب بل كانت تعبده عبادة صادقة، وكان يخيل إليك بأنها كانت ترد إليه بهذه العبادة كل العبادات التي أسلفناها لها.
كانت تقاسمه حياته الصعبة؛ بل كانت تأخذ لنفسها وحدها من حياته الوجه الصعب. وتبذل قصارى الجهد كيما تتيح له الهدوء واليسر والدعة.
كانت تطحن الألوان، وتعد له التيل، وتصلح له الإطارات إلى جانب ما تقوم به من شؤون الدار.
وكانت تقطع شارع (ميداليا دوزو) الطويل في كل صباح على قدميها في ذهابها إلى السوق وعودتها، لتقتصد (الصولديات) القليلة، ولا تنفقها على الترام. والشراء من السوق وحده كان كلفة صعبة. فقد كان عليها أن تمر بالباعة كلهم فتستعرض ما لديهم في دقة وعناية، قبل أن تقدم على شيء. وكانت تلتفت حولها في كل لحظة، وتأخذ حذرها، حتى لا تراها جارة من جاراتها الكثيرات. فقد كان يعز عليها أن يعلم الناس أن فيراري الأستاذ الجميل الفتى يعاني شظف العيش، حتى لتشتري امرأته أرجل الدجاج وأوراق الخص (المفرطة) والبيض المكسور.
(ولكن شيزارينا الرسامة، صديقتها وخليصتها، قد اطلعت على سرها وجاءت تقص علنا النبأ في المقهى اليوناني فأحسسنا مرارة الأسف. إلا إن فيرا نفسها لم تكن تأسف. وكنت إذا قابلتها في بعض الطريق صدفة وما كنت تلقاها إلا صدفة، حيتك وعلى ثغرها ابتسامة
حلوة، يتجلى فيها الرضا. فإن أطلت النظر إلى وجهها الذي بدأت تتغير قسامته بعض الشيء من أثر السنين في حياتها الجاهدة، أو تأملت في ثوبها البسيط الذي حاولت بذوقها العالي أن تجعل له رواء، أو تطلعت إلى شعرها الذهبي الذي لم تحسن ترجيله لعجلتها في الصباح ردتك في لطف كما ردتني مرة بقولها وهي تضحك: سيدي الأستاذ! لا تنظر إلي هكذا! إني امرأة صالحة، وإني لا أسمح. .
(وكان إيمانها بفتاها كإيمان الشهداء لا حد له. فإذا قال لها قائل لماذا يتمسك فيراري بذلك المذهب الغريب في الرسم والناس لا يفهمونه ولا يرون فيه جمالاً أجابته قائلة: إن فيراري نابغة يجهل الناس قدره، ولا ضير عليه أن يلقى الصعاب، فكل نابغة قد تعب قبل أن يدرك غايته.
(وقد لقيتها بعد معرض عرض فيه فيراري بعض رسومه فحمل عليه النقاد حملة قاسية. وسألتها ماذا قال فيراري حين سمع ذلك النقد فقالت، وهي ثائرة النفس:
ماذا يعلم النقاد من حقيقة الفن؟ إن الفن لا يعرفه إلا من عاش فيه. وقلت أني لا أحسبهم قد بعدوا عن الحق. فقالت وهي تبدي المزاح وتخفي الجد: سيدي الأستاذ أليس من الجائز أن تكون غيوراً؟)
إن اللواتي يشبهن فيرا ندرة بين النساء، أو ما علمت أن زوجتي حين ساءت حالي زمناً قصيراً لم يزد على شهر سعت إلي مرة بكل ما في المرأة من اللين كيما تقول إنها عثرت لي على عمل آخر أهون علي من الرسم وأكثر ربحاً وهو وظيفة بواب؟
(لقد كانت فيرا في الحق كنزاً عظيماً. إلا أن ذلك الفتى الغرير لم يقدرها قدرها. فقد أخذ بعد فترة من الزمن يميل عنها ويكثر السهر خارج الدار متعللاً لذلك بشتى العلل. وكانت فيرا تظن كل شيء إلا أن يكون الفتى قد مل عشرتها. ولكنها علمت مرة بطريق الصدفة أن للفتى خطيبة من بنات (تراستفري) الغاويات أبوها صاحب مطعم وأن الفتى يقضي مع الصبية في المطعم وعلى شاطئ التيبر شطراً من المساء وشطراً من الليل.
لم يكن في إصبع فيرا (دبلة) كالتي تلبسها كل حليلة لأنها لم تكن حليلته. ولكنها كانت في واقع الأمر زوجاً كأفضل الأزواج. وإذن فقد كان لها أن تثور أو تبدي الغضب أو تصب على صاحبها اللوم، ولكنها لم تلجأ إلى شيء من كل هذا.
وعاد الفتى ذات ليلة، فوجد عشاءه ساخناً مهيئاً كما اعتاد أن يلقاه في كل يوم، ووجد معه رقعة صغيرة، تقول فيها أنها لن تعود.
وما فعله الفتى بعد ذلك تستطيع أن تدركه بالبداهة تزوج بطبيعة الحال من ابنة صاحب المطعم. ولكن الرجل الغليظ لم يكن يؤمن بشيء غير الحقائق البينة، فما زال بالرسام المسكين حتى أقنعه بالعدول عن الرسم وجعله يرضى بوظيفة صغيرة يأتيه منها مرتب ثابت، فاطمأن بذلك على مستقبل ابنته، أما فيرا. . .
ونظر كلانا إلى فيرا فإذا بها تنادي على جيانينو بإشارة هينة، وتدفع إليه ثمن النبيذ وحده، لأنها كانت مثلنا لم تذق طعاماً ثم تنهض.
ومرت بصاحبي فحيته بابتسامة عذبة، وخرجت وهي خفيفة كالنسمة.
وقال صاحبي:
إني لأعلم أين وجهتها. ستذهب في كعادتها في مثل هذه الساعة إلى مقهى صغير أمام قصر الدمغة فتجلس هناك قرب النافذة، لتختلس نظرة إلى فيراري عندما يخرج. وبعد ذلك تمضي إلى بيتها كدأبها كل في يوم لترسم لوحة أخرى من لوحات الزهر.
رسمها ما أعجبه! يجب عليك أن تراه، فما أكثر ما فيه من الشعور وما أكثر ما فيه من السحر! أنه شيء كالربيع.
المنصورة
محمد أمين البندقي
لغويات
القدوم
في القدوم لغتان: (الأولى) ضم الدال من غير تشديد مثل (رسول) وهي التي يستعملها أهل القاهرة والوجه البحري وجمعها (قدم) يضم القاف والدال مثل (رسل) و (قدائم) مثل عجائز.
(الثانية) تشديد الدال مثل (نبوت) وجمعها (قداديم) مثل (نبابيت) وهي لغة أهل الصعيد.
بقي شيء آخر وهو أن اللغويين حكموا على القدوم بأنها مؤنثة واستشهدوا بقول الشاعر:
قلت أعيراني القدوم لأنني
…
أخط (بها) قبر الأبيض ماجد
وعززوا هذا بأنها (آلة - أداة) والمعنى له تأثير في الحكم على الشيء تذكيراً وتأنيثاً واكن المصريون يذكرون القدوم فيقول: هو - هذا - كبير - صغير - انكسر - ضاع - وأرى أنه صحيح وقد يكون وراثياً عند العرب أو جاليتهم التي نزلت بمصر. وله نظائر في التذكير والتأنيث مثل السكين. ولو طبقنا نظرية الأداة والآلة لحكمنا على كثير من الآلات والأدوات الموجودة من علامة التأنيث بأنها مؤنثة مثل المنشار والساطور. . . ولا يخفى ما في هذا من الخطأ والفوضى.
كنكة
الكنكة: هي أداة معروفة مصنوعة من الصفيح ونحوه لعمل (القهوة) ونحوها وهي محرفة عن (التنكة) وبعض أهل الصعيد يقولون (تنكة) بالتاء من غير تحريف وإليك النصوص التي تثبت صحة ما ذهبت إليه:
جاء في (محيط المحيط) التنك: صفائح من الحديد تطلى بالقصدير اهـ
وجاء في (المنجد) التنك صفائح من حديد رقيقة تطلى بالقصدير وصانعه تنكجي اهـ
وجاء في (البستان) التنك معدن أبيض لين واحدته تنكة اهـ
وجاء في تفسير (الألفاظ الدخيلة): تنك تركي (تنكة) وهو حديد ممزوج بالقصدير يدق صفائح، وتنكجي: صانعه اهـ
وهذه التسمية مجازية من قبيل إطلاق اسم الأصل (التنك - التنكة) بمعنى الصفيح على فرعه المنوع منه أعني الأداة المعروفة.
وأما تنكجي فهي نسبة إلى (التنك أو التنكة) على الطريقة التركية مثل قصبجي
علي حسن الهلالي