الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 1023
- بتاريخ: 09 - 02 - 1953
حسن البنا
بمناسبة ذكراه
كان الإمام المرشد حسن البنا طيب الله ذكره وذكراه يسلك الطريق الذي تسلكه (الرسالة) منذ عشرين سنة فكان لابد مما لا بد منه أن يلتقيا على جادته أو عند غايته.
وكان لقاؤهما الأول في مكتبي قبل أن يظهر أمر الرجل وتبلغ دعوته (الإخوان)، فوجدت فيه ما لم أجد في قبيله أو أهل جيله من إيمان بالله راسخ رسوخ الحق لا يزعزعه غرور العلم أو شرود الفكر، وفقه في الدين صاف صفاء المزن لا يكدره ظلال العقل ولا فساد النقل، وقوة في البيان مشرقة إشراق الوحي لا تحبسها عقدة اللسان ولا ظلمة الحس؛ إلى حديث يتصل بالقلوب، ومحاضرة تمتزج بالأرواح، وجاذبية تدعوك إلى أن تحب، وشخصية تحملك على أن تذعن. فقلت في نفسي بعد أن ودعني وشيعته:
عجيب! هذا الشاب نشأ كما ينشأ كل طفل في ريف مصر، وتعلم كما يتعلم كل طالب في دار العلوم، وعمل كما يعمل كل مدرس في وزارة المعارف؛ فعمن ورث هذا الإيمان، وممن اقتبس هذا البيان، ومن أين اكتسب هذا الخلق؟
أن الشذوذ عن قواعد البيئة الجاهلة، والنشوز على أنظمة المجتمع الفاسد، والسمو على أخلاق العصر الوضيع، لمن خصائص الرسول أو المصلح؛ فإن الله الذي يعلم حيث يجعل رسالته يريد أن يصنع النبي أو المصلح على عينه، ليظهره في وقته المعلوم ليجدد ما رث من حبله، ويوضح ما أشتبه من سبيله.
والفطرة التي فطر عليها حسن البنا، والحقبة التي ظهر فيها حسن البنا، تشهد بأنه المصلح الذي اصطنعه الله، لهذا الفساد الذي صنعه الناس.
ولم يكن إصلاحه رضوان الله عليه من نوع ما جاء به ابن تيمية وابن عبد الوهاب ومحمد عبده؛ فإن هؤلاء قصروا إصلاحهم على ما أفسدته البدع والأباطيل من جوهر العقيدة؛ أما هو فقد نهج في إصلاحه منهج الرسول نفسه: دعا إلى إصلاح الدين والدنيا، وتهذيب الفرد والمجتمع، وتنظيم السياسة والحكم؛ فكان أول مصلح ديني فهم الإسلام على حقيقته، وأمضى لإصلاحه على وجهه.
لم يفهم الإسلام الذي طهر الأرض وحرر الخلق وقرر الحق على إنه عبادات تؤدى،
وأذكار تقام، وأوراد تتلى؛ وإنما فهمه كما فهمه محمد وعمر وخالد: نوراً للبصر والبصيرة، ودستوراً للقضاء والإدارة، وجهاداً للنفس والعدو.
وإذا كانت سنة الله أن يبعث الرسول أو يظهر المصلح مزوداً بالطب الناجع لوباء معين فشا، وفساد مبين عم، فإن الحال الأليمة التي تكابدها الأمة الإسلامية اليوم من ضعف في وطنها أطمع الاستعمار، وجهل أطفأ في قلبها العقيدة، وزيغ مال بوجهها عن السبيل، تقتضي أن تكون رسالة المصلح في هذا الزمن جارية على النهج الذي نهجه المرشد الأول للأخوان المسلمين!
ولقد كان هذا النهج الذي قبسه البنا من القرآن وعززه بالعلم، وأقامه على الإيمان وقرنه بالعمل، ونشره بالبيان وأيده بالمعاملة، كان من الجد والصدق والعزيمة بحيث زلزل أقدام المستعمر، وأقض مضاجع الطاغية، وخيب آمال المستغل؛ فتناصرت قوى الشر إلى الدعوة العظمى وهي تتجدد في مصر، كما تناصرت عليها وهي تولد في الحجاز.
وقضى الله أن يبتلى الأخوان فاغتيل الإمام وحوربت الدعوة واضطهدت الشيعة. ولكن الله عصمهم فلم ينقلب طريد على عقبه، ولم يفتن شهيد عن دينه!
ذلك لأن حسن البنا فكرة لا صورة، ومبدأ لا شخص. والفكرة الصالحة تنمو نماء النبت، والمبدأ الحق يبقى بقاء الحق. وما كان محمد صلوات الله عليه إلا باذر بذرة تعهدها من بعده صحابته، فخرج نباتها بإذن الله وزكا، ثم نما وسما، ثم أزهر وأثمر. وسيبقى ثمرها أبد الأبيد، على الرغم من سموم الريح وجدب التربة وعبث الآفة، شهي الجنا داني القطوف لمن سبقت لهم من ربهم الحسنى!
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون) فرحين بغرسهم الذي فاحت أزاهيره، مغتبطين أن يروا من وراء الحجب الشفيفة دعوتهم تنتشر، وأمتهم تنتصر، وخطتهم تؤدى!
وأن القتيل الذي تتعطر المحافل بذكراه اليوم، ليبتسم ابتسامة الرضا وهو في مقامه الأعلى مع الشهداء والصديقين، إذ يرى دمه المطلول يحيي العقيدة، وجهده المبذول يوقظ الأمة!
أحمد حسن الزيات
رجال من دمشق:
1 -
الشيخ كمال الخطيب
للأستاذ علي الطنطاوي
رجل كان فذاً بين الرجال، لا ترى مثله العصور الطوال، وإذا كان الرجل المهذب كالنسخة المطبوعة من الكتاب، كان الشيخ كمال نسخة مخطوطة مفردة، وقد يكون في المخطوطة خرم أو نقص - أو يكون على صفحاتها أثر من دهن أو بلل، ولكن مع ذلك أثمن من المطبوعة، وإن كان ورقها نظيفاً، وطبعها متقناً، لأن هذه واحدة في الدنيا، ولأن من تلك آلاف الألوف.
كان الشيخ كمال بقية عصر مضى - ولكنه أبى أن يمضي معه، فعاش في القرن الحاضر، كما كان في القرن الماضي، فكان تحفة في (متحف)، ولكنها تمشي، وصفحة من (تاريخ)، ولكنها تتكلم. وكان بطلاً في جسم عجوز، وغنياً في ثياب سائل. وكان فكرة استحالت رجلاً، ومثلاً أعلى سوى إنساناً. ولكل منا مثل أعلى، يتمثله إذا انفرد بنفسه، - أما مثل الشيخ الأعلى فهو أعماله التي يعملها. ولكل منا أفكار يفكر فيها إذا خلا بعقله، أما أفكار الشيخ فهي كلماته التي يقولها. وكل منا يعرف حقائق الناس ومثالبهم وعيوبهم، ولكنه يكتمها عنهم؛ أما الشيخ فكان يقول لكل إنسان ما يعرفه عنه - لا يستثني من ذلك أحداً من الناس أبداً. وليس الذي بالشيخ ما يسمونه الصراحة أو الوقاحة بل هو شيء لا أعرف له اسماً لأني لم أجده عند شخص آخر: يقول لكل رأيه فيه بأوضح عبارة وأقصرها وأشدها، ثم يمشي لا يريد جلب منفعة أو درء مضرة، ثم يحبهم مع ذلك الناس كلهم، ويحترمونه، ويخافونه: رجال الشعب ورجال الحكومة، والعلماء والجهلاء، والأغنياء والفقراء، لا يسلم من لسانه أحد، ولكن لا يكرهه أحد. ولم يكن يبالي حبهم ولا كرههم، ولا يحفل بإكبارهم ولا احتقارهم، لنه يعيش في نفسه من عالم، غاية مطلبه من الدنيا قماش يستر عورته، ولم أقل جبة ولا رداء، لأنني لم أكن أدري ما كان يلبس على التحقيق: أجبة غيرها طول البلى حتى صارت من قصرها وثنيها كالرداء، أم رداء أبلته الأيام فصار كالجبة؛ وشيء يملأ جوفه، سواء أكان هذا الشيء خبزاً يابساً أم كان أرزاً ولحماً؛ ومكان يضع عليه جنبه: سريراً أو فراشاً أو قطعة ممهدة من الأرض الفضاء، فإن وجد ذلك لم يطلب شيئاً
بعده - لا يرجو جاهاً ولا مالاً، ولا يخاف سجناً ولا رهقاً.
أخوه الأصغر زكي بك زعيم كبير من زعماء الشام، ولي الوزارة مراراً، ورياستها (بالوكالة) مرة، وهو محام معروف، وأخوه الآخر كان طبيباً كبيراً، وأهله ذوو ميسرة وغنى، ولكنه لا يرزأ أحداً شيئاً، ولا يجرؤ واحد منهم - على دعوته إلى طعام أو منام.
ولقد حدثني الأستاذ زكي بك أنه إلا لأنه كان كبير اخوته، مات أبوه وخلف له هذين الصغيرين، فباع ماله كله وأنفق عليهما، حتى استكملا الدرس في استنبول، وكانت باريس تلك الأيام، ثم أبى أن يأخذ منهما قرشاً واحداً. وإذا عرضا عليه هدية، أو دعواه دعوة، غضب أشد الغضب، فتركا ما يريدان لما يريد، فعاش أغنى الناس - لا لأنه كان أكثرهم مالاً، بل لأنه كان أقلهم حاجة - ولا فرق بين أن تكون لك كنوز قارون - وأموال فاروق، فتنال كل ما تطلب، أو أن تكون مطالبك هينة يسيرة، فلا تحتاج إلى مال كثير لتنالها، ومن هنا قال من قال، إن السعادة هي القناعة.
قنع من الحياة بأيسر ما تحفظ على صاحبها الحياة، رغيف يسد جوعته، وقماش يستر عورته. وكان إذا طلب الناس المصايف. . واتخذوا لها الدور، وأعدوا لها العدة، حمل عباءته وعيبته، ومشى. . . مشياً إلى (نسيمه) درة الوادي، وجوهرة العقد في جيد بردى، فوضع العباءة والسفرة في المغارة، فوق (العين الخضراء) ثم نزل فدار بالقهوات - وجالس الجماعات، فوعظ ونصح وأمر ونهى، لا يرزأ أحداً طعاماً ولا شراباً ولا مالاً، ولا يدخل جوفه من عند أحد شيئاً، ثم عاد إلى المغارة فأكل فيها ما استطاع أن يعده لنفسه، رغيفاً ولحماً، أو خبزاً وزيتوناً، أو شاياً وكسرات يابسة من خبز الأمس، وحمد الله ونام. لا يخشى السرقة على مال، ولا الخسارة في تجارة، ولا تحقق الشر من عدو، ولا خيبة الأمل في صديق.
وهذا هو عمله في دمشق: ينزل قبل أذان الفجر إلى جامع بني أمية، فيصلي ويقرأ أجزاء من القرآن ثم يبقى في الجامع - يمر على الحلقات، فإن وجد ما يعجبه شجع المدرس بكلمة، وإن أحس غموضاً وضح، أو إيجازاً شرح - أو مللاً من السامعين نفس عنهم بنكتة. ويعرف هذا المدرسون له، فلا يأبونه منه، وإن أبى بعضهم سلقهم بلسان حديد، فحط من كبرياء، وألان من إباءه - حتى كان شيخنا الشيخ صالح التونسي، (مدرس الحرم
النبوي الآن) يسميه (مفتش الجامع)!
ويحضر المحاظرات العامة فيسلك في الجامعة والمجمع، مسلكه في الجامع. حضرته مرة في المجمع العلمي العربي. من نحو ثلاثين سنة، وقد جاء محاضر لبناني فتكلم في الحضارة الجديدة، وأنه ينبغي في رأيه أن نأخذ كل ما فيها، وذم لباسنا ومدح لباس القوم. ولما انتهى وأقبل الناس (أعني المتزلفين المنافقين) يهنئونه، صاح الشيخ في آخر القاعة، بصوته الذي كان يغلب عشرات مكبرات الصوت، ولهجته المعرقة في العامية:(ولك! الحمار حمار ولو لبس بدلة وبنطلون. والإنسان إنسان ولو حط جلال. . .) فانصرف الناس بكلمة الشيخ، وتركوا المحاضرة في مكانها.
ويدور في الأسواق - يراقب الناس ويدرس أحوالهم وهو يعرف أكثر أهل دمشق، وآبائهم وأجدادهم - وتمر به المرأة المحجبة فيعرفها من أي أسرة هي. أمضى سبعين سنة وهو في هذه المراقبة، فإن رأى حقيراً رفعته الأيام بلا سبب فتكبر - رماه بكلمة كالقنبلة فعرفه قدره وجرأ الناس عليه. وإن رأى دجالاً انخدع به الناس فحسبوه عالماً، حط منه فصرفهم عنه. وإن أبصر جاسوساً أو ممالئاً للفرنسيين - صرخ:(الله يلعن الجواسيس والمنافقين). وإن نظر إلى أم ولدها وسخ - قال لها: (ولك! هاي الماي غسلي وجهه. النظافة من الإيمان). وإن رأى بائعاً يغش مشترياً، أو مشترياً يضايق البائع، أو شاباً يتحرش بالنساء، أو امرأة تتصدى للشباب، أو رأى معتدياً على آخر في جسده أو ماله، أقام القيامة عليه، فكأن البلد كلها مدرسة، والناس تلاميذها، وهو المعلم فيها!
وهو قاموس حي فيه تاريخ دمشق، وأنباء أحداثها، وأخبار رجالها ونسائها؛ حوادث رآها ووعاها، وناس عاشرهم وخبرهم. وله آراء في السياسة صائبات، وأنظار ثاقبات. وله كلام مغطى تعوده أيام الاستبداد الأولى، أيام السلطان عبد الحميد، حين كان الجواسيس يخالطون الناس في أسواقهم ومجامعهم، ومدارسهم وطرقهم، وحين كان للجدران آذان، وكان يأخذ الناس في أوساط الليل من بيوتهم - بلا محاكمة ولا تحقيق، إلى حيث لا يدري أحد - وكان الناس يستمعون له، ولا يجرءون على معارضته.
وكان يتوسط في الخصومات، ويعرض لحل المشكلات، ويقضي بين الناس بلا حكمة ولا مرسوم جمهوري، فيسمع من الخصمين، ويوازن بين حجج الفريقين، ثم يقضي. فكم ألف
بين زوجين، وأصلح بين شريكين. وكان يأخذ من الأغنياء، سطوة واقتداراً، أو حباً وإكباراً، فيعطي الفقراء المستورين، فيسعف الله وجوهاً لولاه أذهب مائها حر السؤال.
وكان قديماً خطيب الجامع الأموي، ولم أدرك أنا ذلك فضايق الحكومة بكشف عيوبها، وضايق العلماء الرسميين بذكر سجايا العلماء العاملين؛ فتألب عليه علماء السوء - فأغروا حكام السوء حتى عزلوه - فأتخذ من كل مكان منبراً يخطب عليه. ولبث على ذلك حتى توفاه الله، من نحو سنة.
هذا هو الشيخ كمال، نسخة مخطوطة نادرة من مخطوطات الرجال. رجل فرغ من مطالب نفسه، وعاش للناس، فكان مثله الأعلى هو عمله، وأفكاره هي قوله، وكانت دمشق مدرسة وكان فيها الأستاذ.
رحمة الله عليه.
علي طنطاوي
العصر المملوكي الثالث!
للأستاذ محمد سعيد العريان
إن الأمة هي التي تصنع تاريخها، ولكن التاريخ يعود من بعد فيصنع صنعة جديدة. . .
نظرت في تاريخ مصر منذ أن أسلمته الأسرة الأيوبية إلى شجرة الدر، ثم منذ أسلمته شجرة الدر إلى زوجها المملوك أيبك التركماني، ثم منذ تسلسل في المماليك من قطز، إلى بيبرس، إلى قلاوون. . . ثم من قيتباي، إلى الغوري، إلى طومانباي الشهيد، ثم منذ استخلصته أمراء المماليك من أيدي (الباشوات) العثمانيين، سادة القلعة، ليتداولوه من علي بك الكبير، إلى أبي الذهب، إلى مراد وإبراهيم والألفي، إلى محمد علي الألباني، إلى إبراهيم وإسماعيل وفؤاد وفاروق، إلى 23 يوليو الماضي. . فإذا هو كله عصر واحد، بدأ بشجرة الدر وانتهى بفاروق. .
عصر واحد له خصائص مشتركة تقوم على الغدر والأثرة، والانفراد بالسلطة، والتباهي بلا عمل، والاستعلاء بلا سبب، والسعي الدائب إلى غير هدف؛ ثم النساء والأطياب، والقصور، والمتاع الحرام. . .
وإزاء هذه الصفحات المسودة بتاريخ الملوك، صفحات أخرى تصف شعباً يختفي طبيعة المقاومة وراء مظهر الاستسلام، كل وسائله في المعارضة أن يصنع النكتة ويضحك لها حتى يكاد يندلق بطنه، وأن يتحدث همساً عن الغدر المأمول كما قرأه له شيوخه في (الجفر)، أو في الرمل، أو في صفحات النجوم؛ ثم الانتظار إلى أن يبرز (الزعيم) الذي يقوده، فما كاد يبرز ويتردد اسمه في الأسماع، حتى يصير هتافاً على كل شفة، وصدى لكل صفقة يد، وقصة في كل سامر، وبخوراً في كل معبد، وأكاد أقول ووثناً لكل عابد. . . ثم ينتهي ذلك الزعيم إلى أجل أو إلى غير أجل، فينتهي اسمه على الشفاه أو ينطوي، فلا تسمعه إلا في ثنايا نكتة يضحك لها قائلها وسامعها جميعاً. . . وتخفى طبيعة المقاومة وراء مظهر الاستسلام العابث. . .
هذه هي الخصائص المشتركة لهذا العصر المملوكي الذي بدأ في مصر منذ سبعة قرون، وانتهى منذ بضعة أشهر، وما أراه سيعود بعد. .
ولكن المؤرخين المحترفين وأساتذة التاريخ في المدارس يوشكون أن ينكروا علي هذا
الرأي الذي أرى؛ فقد كانوا يزعمون، ومازالوا يزعمون إلى اليوم في كتبهم وفي محاضراتهم العامة والخاصة وفيما يلقنون تلاميذهم من دروس التاريخ، أن العصر المملوكي قد انتهى في مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر، حين تولى محمد علي وخلفاءه من بعده عرش مصر. وهو زعم يبعد كثيراً أو قليلاً عن الحقيقة التي أومن بها وارجوا أن يؤمن بها المثقفون جميعاً؛ فإن عصر محمد علي وما بعده إلى 23 يوليه الماضي، لم يكن لا امتداداً لعصر المماليك الذي بدأته شجرة الدر بتولية زوجها أيبك التركماني الجانكشير عرش البلاد، ليتسلل من بعده في المماليك طبقة بعد طبقة إلى محمد علي (وطبقته)!
وقد كان محمد علي نفسه يؤمن بهذه الحقيقة، فهو لم يفد إلى مصر سيداً ليحكم، ولكنه وفد إليها كما وفد من قبله ومن بعده (مماليك) لا يحصيهم العد، فوثبوا بالغدر أو بالحيلة أو بكفالة المقادير إلى السلطة ولبسوا التاج. . .
ولا يقولن أحد إن محمد علي لم (رقيقاً) في يد النخاس قبل أن يلي العرش حتى نصفه بالمملوكية؛ فإن سلاطين المماليك من عهد أيبك إلى عهد طومانباي، لم يكونوا كلهم أرقاء مشترين بالمال، بل كان منهم (أحرار) لم يدخلوا تحت الرق قط، وفدوا إلى مصر لأن لهم صلة ببعض أصحاب السلطة فيها، فجاءوا مدعوين أو واصلين أو معينين لبعض السلطة هؤلاء على أمرهم، فطابت لهم الإقامة واستقر بهم الكمان وتهيأت لهم أسباب الحكم حتى وصلوا إلى العرش، وكانوا مع ذلك في عرف المؤرخين (مماليك) وإن لم تدم آذانهم يوماً في يد النخاس.
وإذن فإن كلمة (مملوك) لم يكن يتحقق معناها اللغوي كاملاً في اصطلاح مؤرخي عصر المماليك؛ لأنهم كانوا يعتبرون خصائص الكم وخصائص الحاكمين العامة لا الصفة الفردية التي تتصل بالمعنى اللغوي لكلمة مملوك.
وإذن فقد كان محمد علي مملوكاً، أو مملوكياً، وإن لم يعرف من ماضيه أنه كان رقيقاًمشترى بالمال؛ لأن الاصطلاح التاريخي لا يأبى عموم هذه الصفة حتى تشمله.
ومع ذلك فمن ذا يعرف من ماضي محمد علي ما يثبت به أنه كان في يوم من الأيام رقيقاً ينادي عليه الدلال في سوق العبيد؟ إن كل ما نعرفه عن ماضيه أنه كان يعمل في (قوله) أجيراً لدى بعض تجارها؛ ثم لا نعرف له على وجه اليقين منشأ ولا أبوة ولا أسرة ينتسب
إليها؛ فإن لم يكن مملوكاً فكأن قد كان!
ولم يصطنع محمد علي وسيلة غير وسائل المماليك ليبلغ العرش، ثم لتوسيع رقعة ملكه؛ ولعل في كل ذلك صورة مكررة لعلي بك الكبير؛ فقد بدأ بالاحتيال، ثم بالغدر، ثم بالزحف على أملاك الدولة العثمانية؛ فلولا مؤامرة أخيه مراد، وخيانة أخيه محمد أبي الذهب، لبدأ (عصر محمد علي) قبل موعده بنصف قرن، ولكن باسم آخر، هو (عصر علي بك الكبير).
وقد يقال إن محمد علي ألباني من قولة، والمماليك شركس من (جورجيا)؛ فهو يخافهم في العنصر والجنس. وهذا وهم باطل؛ فلم يكن المماليك جميعاً من الشركس إذ كان منهم القوقازي، والصقلبي، والبلغاري، والرومي، والمقدوني، إلى أجناس شتى لا تبعد كثيراً عن الجنس الذي ينتمي إليه محمد علي؛ وإنما كانت نسبتهم إلى الشركس للغلبة لا للاطراد. . .
وقد يقال إن محمد علي كان رأس أسرة حاكمة يتسلسل فيها الملك بالوراثة، وليس هذا دستور المماليك. وهذا أيضاً وهم باطل، فإن محمد علي أولاً لم يكن رأس أسرة، لأن إبراهيم الذي ولي العرش من بعده لم يكن من ولده، ولكنه كان ربيبه، ابن زوجته، تربى في حضانته فأضفى عليه صفات الولد، ثم عاد الملك بعد إبراهيم إلى أولاد محمد علي، ثم رجع ثانياً إلى أولاد إبراهيم، فتسلسل فيهم من إسماعيل إلى توفيق، إلى عباس الثاني، إلى حسين، إلى فؤاد إلى فاروق؛ ولم تكن نسبة هؤلاء إلى محمد علي إلا من حيث أنه كان في مقام الأب من أبيهم إبراهيم فلم يكن محمد علي إذن رأس أسرة بالمعنى الحقيقي بحيث يمكن أن يقال إنه خرج في وراثة العرش عن دستور المماليك. . .
على أن وراثة العرش مع ذلك كانت دستور من المماليك في ظروف شتى؛ حتى ليصح أن نحصي من سلاطينهم أسرات تسلسل العرش فيها من والد إلى ولد إلى حفيد؛ فهناك أسرة بيبرس، وقلاوون، وبرقوق، في السلاطين المتقدمين، وأسرة قايتباي والغوري في المتأخرين. . .
وقد قلت في بعض ما سبق؛ إن محمد علي نفسه كان يؤمن بالحقيقة التاريخية التي تجعل حكمه في عرف المؤرخ المتجرد امتداداً للعصر المملوكي في صورة جديدة؛ ودليلي على ذلك هو حرص محمد علي على إبادة (النظراء) في مذبحة القلعة الغادرة؛ ثم حرصه
وحرص المحترفين من مؤرخي عصره على إسناد كل نقيصة إلى المماليك ووسم عهدهم بالفوضى والتهتك والهتك والسفك، ليوقع في وهم هذا الشعب المغلوب على أمره أنه من طراز آخر وجنس آخر غير جنس المماليك وطرازهم، مع استمراره برغم ذلك في جلب مماليك من جنس آخر، ليتخذ منهم بطانة له وحاشية ويضع في أيديهم مقاليد الأمور في البلد الذي أدانه لحكمه. . .
وكان من خصائص الحكم المملوكي أن يحتفظ (المماليك) بجنسهم نقياً فلا يتخذوا من بنات الشعب أزواجاً ولا يزوجوه من بناتهم، إلا أن تكرههم على الخروج عن هذه القاعدة مكرهات لا قبل لهم بدفعها. وكذلك كان محمد علي وخلفاءه من بعده؛ فلم يحاول هو، ولم يحاول أحد من خلفاءه، أن يخلط نسبه بالشعب بالزواج من مصرية أصيلة النسب إلا محاولات في السنين الأخيرة للتقرب من الشعب بعد أن نضج وعيه، ولكنها كانت محاولات خادعة للإيهام بالصورة الظاهرة دون أن تغير شيئاً من حقيقة الأمر؛ فإن فلانة وفلانة وفلانة من زوجاتهم، لسن مصريات خالصات النسب؛ آباءهن وأمهاتهن من سلائل مماليك محمد علي؛ ومن أجل هذا دون غيره كان اختيارهن زوجات، وإن زعم من زعم من محترفي المؤرخين غير ذلك!
فقد ثبت إذن أن عصر محمد علي لم يكن شيئاً جديداً كل الجدة في التاريخ، ولا هو مرحلة فاصلة بين عهدين، ولكنه امتداد لعصر مضى في صورة جديدة. . .
هو جزء من عصر المماليك تميز بخصائص ليست من عصر المماليك ولكنها نشأت عنها وتولدت منها واتسمت بسماتها العامة. . .
وقد انتهت هذه المرحلة من العصر المملوكي في 23 يوليه الماضي، وبدأ الشعب يملي على التاريخ صفحة جديدة؛ فقد وجب إذن أن نضع الأسماء على مسمياتها ونسمي هذه المرحلة باسمها؛ ولن يكون اسمها أبداً كما أراد بعض محترفي التاريخ (عصر محمد علي)؛ فإن محمد علي لم يكن إلا واحداً من المماليك الذين بدءوا منذ عهد أيبك الجانكشير، ولم يكن خلفاءه إلا امتداداً لأسمه. . .
وقد اصطلح المؤرخون على تقسيم العصر المملوكي قبل محمد علي إلى قسمين: عصر سلاطين المماليك، ويبدأ من شجرة الدر إلى طومانباي المستشهد بأيدي الغزاة العثمانيين، ثم
عصر المماليك الأمراء، ويبدأ من خاير بن ملباي الذي أقامه العثمانيين والياً على مصر بعد أن فقدت استقلالها، إلى أن خرج آخر (باشا) عثماني من القلعة بكفاح الشعب في أول القرن التاسع عشر، وإذن فليكن اسم العصر الذي يلي ذلك إلى 23 يوليه الماضي، هو العصر المملوكي الثالث. . .
محمد سعيد العريان
مائدة المسيح ومجاعة الشيطان
للأستاذ منصور جاب الله
في ساعة العسرة، وبين تخون الظروف وطغيان الأحداث، يلتمع في آفاق الدنيا شهاب ثاقب إذ تلف العالمين ذكرى ميلاد عيسى بن مريم، يوم أهل المسيح على الأرض فأشرقت بنور ربها وحفتها الملائكة الأبرار.
وسرت البشرى بمولد المسيح من أرض الميعاد إلى سائر الأمصار، فشملت الفرحة الخلائق كلها. وانبثقت رسالة المسيح من أرض السلام تدعو للسلام.
حتى إذا عصفت بسلامة الدنيا أمة من النوب والهزاهز والإحن، بقيت أفئدة من الناس تهوى إلى بيت لحم، منبت المسيح ومهاده، فهناك القداسة، وهناك الطهارة، وهناك الوئام.
وفي عشية عيد الميلاد يستضيف المسيح الطاهر على مائدته القدسية أولئك الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، فهاموا في البرية جياعاً طاوين (عارين من حلل كاسين من درن) كما قال المتنبي قبل ألف عام، تتلقفهم البلدان وتترامى بهم الفيافي وتتقاذفهم السبل، يستضيف المسيح هؤلاء اللاجئين الأحرار، ومعهم أرواح الشهداء الأطهار، فأقرب ما يكون المرء إلى ذكر الكرم وقرى الضيفان حين يكون جائعاً عارياً، شريداً في الفيافي والبراري، يعضه الفقر وتمزقه الأوصاب.
(إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين) فلم يطلبوها جحودا ولا كنوداً، وإنما أرادوها سكناً لقلوبهم واطمئناناً لعقائدهم.
وإذ جأر المسيح عليه السلام بالدعاء (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك) نزلت سفرة حمراء بين غمامتين والناس قيام ينظرون حتى استوت بين أيديهم بكى المسيح وهو يقول (اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها مثلة ولا عقوبة) ثم رفع عنها الغطاء فإذا سمكة مشوية، لا حسك فيها ولا قشر عليها ولا فلوس، تسيل دسماً ودهناً، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل، ومن حولها صنوف من البقل والخضر جميعاً، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى
الرابع جبن، وعلى الخامس قديد.
وإذا بصر الناس بهذه المعجزة القدسية فوق ما رأوا من المعجزات الكبار، تعاظمهم الأمر وأخذ منهم البهر مأخذه. وقال واحد من حواريي السيد المسيح: يا روح الله. لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى. فقال: يا سمكة احيي بإذن الله! فاضطربت، ثم قال لها: عودي كما كنت فعادت مشوية.
ثم طارت المائدة إلى السماء والناس ينظرون في ظلها، وقيل كانت تأتيهم أربعين يوماً غبا، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء، والصغار والكبار يأكلون. حتى إذا فاء الفيء ارتفعت، ولم يأكل منها فقير إلا غنى مدة عمره، ولا مريض إلا بريء ولم يمرض أبداً.
أما بعد، فذلك حديث المائدة المقدسة، كما رواه المحدثون الثقات، أشبعت الناس من جوع، وأسبغت الطمأنينة على نفوسهم، وأسبلت السكينة على قلوبهم.
لقد نزلت المائدة المقدسة على أهل فلسطين، فأشاعت بينهم الأمن والسكينة، بعد إذ طعموا منها وشبعوا. فما بال أولئك الذين أجاعوهم ونكلوا بهم وشردوهم في آفاق الأرض، ونشروا بينهم المجاعة والمسغبة؟
إن حديث هؤلاء الجياع الطاوين ليحز في كل قلب، ويغمز على كل كبد، ويستدر من الأعين الدمع الهتون.
إنها مجاعة الشيطان التي استبدلها بمائدة المسيح، وكذلك نشر على ضفة الأردن الجوع والعري.
فيم يساعد أولئك الذين يقولون إنهم ورثة المسيحية الأولى، هؤلاء الغزاة الأفاقين الذين دنسوا مهد المسيح وداسوا الحرمات وانتهكوا الشعائر والأقداس؟ ألأنهم راحوا من بعد يحاكونهم بهذا المنكر الذي ارتكبوه على ضفتي القناة! ثم لأنهم جاروهم بارتكاب الموبقات وقتل الرجال والنساء والولدان؟
إلا إن المسيح الطاهر ليبرأ في أقداسه العليا من أولئك الذين يحملون اسمه ثم يعاضدون سلالة أعدائه على غزو الأرض التي فيها درج وإليها بعث. وإن من هؤلاء العرب المعذبين في أرض بها مهد المسيح، وإن هؤلاء المصريين المعذبين في أرض هاجر إليها المسيح، إذا خاب أملهم في العدل الإنساني على الأرض لتتلع أعناقهم إلى السماء، يرقبون
عدل السماء، كما تنزلت المائدة من السماء.
إلا فليقل أولئك الطغاة الذين كلما خبت جذوة الحرب أعادوها جذعة وزادوها ضراماً، ألا فليقولوا ما جريرة هؤلاء البكاة في ليلة عيدهم والخطب جسام والنفس هالعة والعهد القريب؟ لقد ذاقوا أفاويق مترعة من برد السلام حين حدثوهم عنه أياماً، ثم كووهم بحر حرب تذيب المهج والجلود. وإنهم حين تموج بالعبرات عيونهم، وحين تصدأ من الهموم قلوبهم، وحين تثخن بالجراح جسومهم، إنما يستشرفون لانبلاج صبح جديد ليس فيه عول ولا نحيب.
منصور جاب الله
حياة المازني
المرأة في حياة المازني
ما أكثر ما عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي
المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
عاش المازني ما عاش - وقد شارف الشيخوخة - لا ينبض قلبه بغير الشباب. وكانت سنه التي لا تكف عن الارتفاع - كما يقول - تغريه من فرط ما يستشعر امتدادها أن يحسب حوادث حياته بأرباع القرون لا بحساب عدد من السنين، ولكنه إذا ذكر شجون قلبه ومنازل هواه كان كأنما يطوي الأعوام الطوال في لحظات، ويختزل العمر كله في مثل كرة الطرف، وتحس أنه ينقل إليك على الصفحات أو في الكلمات، نبضات قلب فتى يتفتح على حبه الأول في براءة وطهارة ونقاء. .
لهو أطفنا ببكر لذته
…
وما فضضنا خواتم العذر
عرف المازني الحب وهو بعد فتى ناشئ، وكانت (هي) جارة له صغيرة في مثل سنه، كالنرجسة فيما يراها. وكان بدأ ما بينهما أنه لقيها يوماً عائدة إلى بيتها، فإذا صارت في (الحارة) إذا هي زحلوقة لا تثبت فيها القدم من كثرة الماء المرشوش، فأسندت يدها على الحائط وناولته يدها الأخرى. ويقول المزني: (لما صارت يدها في يدي شعرت بشيء من الزهو ممزوجاً بالغبطة، وخفت على يدها اللينة البضة أن تؤذيها قبضتي - التي خيل إلي أنها قوية - فجعلت أصابعي حول رسغها حيث العظام فيما بدا لي أقوى على الاحتمال. وكانت مضطرة أن تعتمد علي بجسمها وتلك أول مرة دنت مني أو دنوت منها إلى هذا الحد، وكان شعرها محلولاً ومرسلاً على كتفيها على صدرها فجعلت أدني أنفي منه وأشمه، ولم يكن معطراً كنت أجد له ريحاً طيبة، فلحظت ذلك مني وسألتني وقد جذبت يدها قليلاً: ما هذا الذي تفعله؟
قلت: إني أشمك.
قالت: تشمني!
قلت: إن لشعرك رائحة طيبة، فهل من بأس أن أشمه؟
قالت: كلا لا تفعل.
قلت: قد فعلت وانتهى الأمر.
(ومر عام وكنا قد انتقلنا إلى بيت آخر، فمررت بدارها يوماً بعد الغروب، وكان الباب موارباً فرأيتها تسقي أصص الزهر في فناء البيت. فوقفت أتأملها لحظة وهي تقبل الورد والأزاهير بعد سقيها ورشها، ثم دخلت في رفق وهمست باسمها فلم تسمع، فأعدت الهمس فانتبهت كالمذعورة وقالت: إبراهيم؟ وكررت ذلك. فاقتربت منها وقلت: نعم! هل أفزعتك؟ ووقفت: شفتاها مفترقتان ووجهها تصبغه الحمرة من أثر المفاجأة. ولم اكن أعرف ماذا ساقني إليها سوى أني اشتقت أن أراها وأن اقف معها لحظة أحادثها، وقالت: لقد كان يجب أن أفزع فما سمعتك تدخل، ولكن الغريب انك خطرت ببالي وأنا أسقي هذه الأصص، فكدت أصيح لا أدري لماذا، وقلتك أصحيح هذا؟ إنه يسرني. قالت ضاحكة: لم أكن أفكر فيك تفكيراً يسرك، لقد كنت ساخطة عليك. فضحكت مثلها وقلت: ماذا جنى هذا الشقي يا ترى؟ قالت: لست ساخطة لأنك فعلت شيئاً، لقد كنت عندكم أنا ووالدتي وأختي وقضينا النهار كله هناك تقريباً، وأنت لا أثر لك في البيت ولا يدري أحد أين ذهبت، وفي وسعك أن تتصور مللي بين السيدات العجائز. قلت: إني أفضل أن ألقاك هنا، ويسرني أن أجدك وحدك. قالت: وهل كنت واثقاً أنك ستلقاني هنا؟ قلت: كلا. قالت: إذن لم جئت الآن؟ قلت: لا أعلم. اشتقت أن أراك لا أدري لماذا، فجئت. ومر بخديها طيف من الحمرة ما جاء حتى ذهب، ففتحت عليها عيني وأتأرتها النظر فتراجعت خطوة وهي تقول: ينبغي أن ادخل. فوقفت أرمقها وهي تدور لتمضي عني، ثم كأنما انشق عني سور فاندفعت إليها ووقفت إلى جانبها وجعلت أدير لساني في حلقي بلا كلام وقلبي يخفق، وتناولت يدها وذهبت بها إلى الباب حيث ظللنا برهة صامتين، ثم صاحت: يدي! يدي ستحطمها. فانتبهت وأطلقت يدها وأسفت. فقالت بصوت عذب: دعني أدخل بالله.
وبعد شهور عدت من المدرسة فإذا هي ووالدتها في بيتنا، ففرحت، وكانت يدي ترتجف وعيني إلى الأرض. وذهبت إلى غرفتي فأدركتني في الصالة وقالت: خذ. وناولتني عوداً من ثمر الحناء، فأخذته في صمت وأدنيته من أنفي، ووقفت أشمه وأشمه وقد غاض معين
الكلام وانقطع عني مدده. فلما رأت صمتي وارتباكي قالت: سنذهب إلى الريف. فأنطقتني هذه المباغتة وقلت: ستذهبين؟ وكم تظلين هناك؟ قالت: عاماً، أتستكثر ذلك؟ قلت: بالطبع. ماذا تنوين أن تصنعي هناك هذا العام؟ قالت: كيف يعنيك أن تعرف؟ وضحكت، فجلت ضحكتها في صدري ونفت مخاوفي، ونظرت إليها معجباً وأحسست بالدم يتدفقفي عروقي، وبأنفاسي تسرع. وحمل إلي النسيم ألوان طيب شعرها، فمددت يدي إلى كفها وكانت شفتاها مفترقتين وعيناها في عيني، وصدرها يكاد يلمسني، فألفيت نفسي أنحني عليها ألمس شفتيها بفمي، فصا وجهها كالجمرة، ولكنها لم تتحرك ولا تكلمت، ودار رأسي كالمخمور فتقهقرت خطوة، وهي واقفة كالتمثال وما أظنها كانت تتنفس أو تفكر، فما رأيت صدرها يتحرك أو أجفانها تختلج، كلا، لا شيء إلا هذا الجمر في خديها ينبئ أنها حية. وأفاقت ثم أصعدت زفرة كأنما كنت لطمتها ولم أقبلها. ثم هتفت بي، فأسرعت وأخذت يديها في كفي ثم رفعتهما وقبلتهما وقلت لها: أغاضبة أنت؟ قولي إنك لست غاضبة. فأجابتني بهزة خفيفة من رأسها. فقلت: لست غاضبة، أعلم ذلك وإلا فما قبلتك، تكلمي. فقالت همساً: دعني أذهب، إني خائفة. فقلت: إنك جميلة، جميلة. وانهلت على يديها مرة أخرى ألثمهما ظهراً وبطناً. ثم سحبت يديها ببطء ووضعتهما على صدرها، وقالت وهي تتلعثم وترتجف: قل لي ما هذا؟ قلت، ووضعت يدي على يديها فوق صدرها: هذا؟ ألا تعلمين أنه الحب؟ فتنهدت وأرخت يديها وتركتهما تهويان وقالت: سأذكرك دائماً قلت: كلا هذا لا يكفي. ولم تكد شفتاها تفترقان، وهمست كأنما تتنفس: سأحبك دائماً).
وكان هذا بيننا آخر لقاء!
وبلغ المازني مبالغ الشباب، وصار طالباً بالمدرسة الخديوية، وكان يؤم سمته كل صباح من البيت إلى المدرسة عن طريق درب (الجماميز). فلمح ذات يوم فتاة في مثل سنه يتبعها خادم نوبي يحمل لها حقيبتها وكتبها، وكانت تأتزر، أي تتخذ (حبرة) وتضع على وجهها برقاً أبيض ينسدل من أرنبة الأنف ويحجب ما تحته - الفم والخدين والعنق. ووقعت الفتاة من نفسه وشغلته محاسنها وعرف المازني أنها تلميذة في المدرسة السنية، وأنها تقطن نفس الحي في الناحية الأخرى منه. فصار يترصد خروجها وأوبتها ليشبع عينه من التملي بها، ويهدهد ما علق قلبه من الهيام والصبابة، وما كان حظه ليزيد عن النظر المجرد، (ولم أكن
أكلم حبيبتي هذه، ولا كانت تكلمني، ولكن على الأيام صارت العين تقع في العين). . . ولعل الفتاة قد أحست بغريزتها معنى نظراته هذه، وألهمتها طبيعة الأنوثة ما كان يشده إليها ويجذبه نحوها فقد كانت حلوة ممشوقة، يزيدها فتنة وحسناً رداؤها الجميل الذي يوحي بالنعمة والرفاهية، ويلقي عليها سواد الحبرة اللماع وبياض النقاب ظلاً من السحر يغري بارتياده. وكانت كلما التقيا تلقي إليه بنظرة، ينقلب بعدها قرير العين مثلوج الخاطر. وظلا هكذا يتعارفان بالنظر دون الحديث مدة عامين. ثم شاء القدر أن يفترقا دون أن يعرف أحدهما اسم صاحبه أو شيئاً عنه.
ووسع قلبه الشاب أن يجدد علائقه وأن يجيب نداء الحب لأنه عنده نداء الحياة. بل إذا كان أثقل عليه الشعور بالحرمان أوحى إلى نفسه الحب، وقد يفعل الإيحاء فعله ويحدث أثره، ويتهيأ له الشوق الطبيعي والرغبة الصادقة إلى من يجاوبه هذا الإحساس. فلم يخل قط من حب يستجد علاقته ويهيئ أسبابه، أو كما قال (ما أكثر ما عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي!).
وفي وصف تلك الفترة يقول الأستاذ العقاد من قصيدة له إلى المازني:
أنت في مصر دائم التمهيد
…
بين حب عفا وحب جديد
بين ماض لم يذبل الحسن منه
…
وطريف كاليانع الأملود
أنت كالطير ربما شالت الطي
…
ر عن الأيك وهو جم الورود
ثم تزوج المازني وهو في سن العشرين، وكان - كما يقول لا أعرف عن المرأة إلا أنها أنثى ولا عن الزواج إلا أنه وسيله مشروعة لتعارف الجنسين. فلم تكد تبدأ حياته الزوجية حتى صارت - بعد شهور - إلى شر ما يمكن أن يصيب زوجين من النفرة وقلة الاحتمال وعدم الاستعداد للتفاهم والعجز عن إصلاح الفساد. وكاد الأمر ينتهي إلى الفرقة النهائية. وقضى في جحيم هذا الخلاف ثلاث سنوات لم ينجه من عواقبه إلا درس طبيعة المرأة وغريزتها، وعاش مع زوجته ضعف هذا الزمن (كأسعد ما يكون زوجان في هذه الدنيا التي لا تخلو من المنغصات) ثم ماتت هذه الزوجة فحزن عليها حزناً بالغاً دل على ما كان يكنه لها من حب. ونستطيع أن نضع حبه هذا لزوجته إلى جوار ذلك الحب الذي عرف ألواناً منه من قبل، لأنه في الحالين يصدر عن وتر واحد في نفسه وإن اختلفت أصداءه
بين حين وحين. فليست زوجة وحسب من تكون عند زوجها عنواناً على الجنس كله وإشارة إلى عالم الأنوثة بأسره، ومن تجمع له إحساسه المتعدد بالحياة في إحساس فرد تكون هي محوره ومداره.
يتبع
محمد محمود حمدان
التضامن الاجتماعي بين ابن خلدون ودوجي
للأستاذ جمال مرسي بدر
لا مبالغة في القول بأن الاجتماع من أقدم الظواهر التي صاحبت العمران البشري، ولا غرو فإن الأمرين متلازمان بل أن التعبيرين من المترادفات. ولعل الأصح أن يقال إنه لا عمران بغير اجتماع وأن الحضارة نفسها إن هي إلا ثمرة اجتماع الإنسان إلى الإنسان.
ومن أقوال الحكماء قديماً: (الإنسان مدني بالطبع) وهي حكمة بالغة تصل إلى أعماق النفوس البشرية وتكشف عن طبيعة الإنسان الاجتماعية وتثبت أنه لا بد له من الاجتماع إلى أفراد جنسه وأنه لا يستغني عن ذلك الاجتماع ولا تستقيم حياته بدونه.
هذا وإن بين نشوء الاجتماع البشري وبين قيام الدول بالشكل الذي نعهده منذ أن سجل قيامها التاريخ مراحل طويلة يعنى ببحثها علماء السياسة وفقهاء القانون العام ويذهبون في أمرها مذاهب شتى ويفسرون - بالتالي - قيام الدولة تفسيرات متفاوتة شأنهم في كل موضوع ينفسح فيه مجال النظر ويطلق فيه العنان للرأي.
ولئن كان فلاسفة الإغريق قد تكلموا في السياسة فإن مسالة قيام الدولة لم تظهر بشكل جلي إلا في كتابات كتاب القرنين السابع عشر والثامن عشر الذين يمكن تبويب آرائهم في اتجاهين متميزين يختلف بينهما تفسير قيام الدولة وتحديد وظيفتها، ويتفق بين الآراء المندرجة تحت كل منها الأساس النظري وإن تفاوتت التفاصيل.
فالاتجاه الأول - ويمثله هوبز ولوك - يذهب إلى أن الاجتماع البشري قديم، أي أن الإنسان ما وجد إلا في جماعة، وأن تلك الجماعة في حالتها الطبيعية كان يسودها النزاع المستمر بين أفرادها حول الأغراض والمطامع الفردية التي لم يكن الإنسان يهتم بسواها، غير أن استمرار حالة النزاع الدائم هذه أدى إلى تنبيه أفراد الجماعة، فدفعهم حب البقاء إلى وجوب الاتحاد وأشعرهم بضرورة وجود السلطان فتفاهموا على الخروج من الحالة الطبيعية والخضوع لرئيس منهم وبذلك قامت الدولة.
أما الاتجاه الثاني - ورافع لوائه جان جاك روسو - فيذهب إلى أن الاجتماع حادث أي أن الإنسان كان في الأصل مبتوت الصلة بغيره من أفراد جنسه، وانه كان يحيا في تلك الحالة الطبيعية الأولى سعيداً موفوراً متمتعاً بحريته الكاملة حتى إذا كثر عدد الناس وتشابكت
مصالحهم وظهرت نوازع الشر فيهم رأى الإنسان أن ينضم إلى غيره وان يتنازل للجماعة عن جانب من حريته الأصيلة مقابل تمتعه بحماية الجماعة، وبذلك نشأت الدولة مستندة إلى إرادة المجموع أي إرادة الأمة التي فيها وحدها يتمثل السلطان.
ومهما يكن من شأن النجاح الذي لاقاه مذهب روسو في القرن الثامن عشر ومن تأثيره البالغ في الثورة الفرنسية وما تبعها من أحداث، فإن العلم الحديث لا يقر بهذا المذهب ويرى في (الهمجي النبيل) الذي خلقه روسو خيالاً لا دليل عليه بل لا حقيقة له. فالاجتماع البشري قديم قدم البشرية ذاتها؛ وقيام الدولة أمر من الصعب تتبعه وإثبات كيفية حصوله؛ وإنما الدولة نتيجة لتطور اجتماعي طويل، وهي بهذا الوصف حدث اجتماعي أو واقعة اجتماعية لا محل للبحث عن أساس قانوني لها، ولا داعي لتصور عقد اجتماعي تقوم عليه وتستند إليه.
وللعلامة ليون دوجي - كبير فقهاء القانون المعاصرين - نظرة طريفة في تكييف الدولة وتبرير قيامها تتفق والواقع الملموس. وتعتبر الكلمة الأخيرة في هذا الباب. فعنده أن الإنسان عاش في الماضي كما يعيش الآن، وكما لابد أن يعيش في المستقبل في حياة اجتماعية؛ فالفرد كان دائماً عضواً في جماعة إنسانية، غير أنه في نفس الوقت يشعر بكيانه الشخصي المستقل عن الجماعة وبميوله الخاصة وحاجاته التي يريد أن يقضيها، ولكنه يعلم أنه لا يستطيع تحقيق شيء من ذلك إلا إذا عاش في حياة مشتركة مع غيره.
إذن فالإنسان كان دائماً عضواً في جماعة كما كان دائماً يشعر بفرديته، إلا أنه كان ولا يزال يرتبط بالجماعة برباط وثيق مرجعه إلى ما أطلق عليه دوجي تعبير (التضامن الاجتماعي)
وهذا التضامن كان موجوداً في جميع مراحل تطور المجتمعات البشرية، فقد كان واضحاً في نطاق الأسرة ثم في ما بين أعضاء القبيلة، ثم بين المواطنين في المدينة الواحدة، وأخيراً بين أفراد الشعب في الدولة التي هي الشكل الحديث للجماعات المتحضرة.
وعند صاحب هذا المذهب أن أهم عوامل التضامن الاجتماعي عاملان: -
الأول أن للأفراد حاجات مشتركة لا يمكن تحقيقها إلا في الحياة المشتركة، وهذا ما يسمى بالتضامن بالتشابه والعامل الثاني - تفاوت قدرة الأفراد واختلاف كفاياتهم مما يستتبع
بالضرورة تبادل الخدمات بينهم. وهذا ما يسمى بالتضامن بتقسيم العمل العاملان اللذان يتمثل فيهما التضامن الاجتماعي يؤديان إلى ترابط الجماعة واستمرار وجودها. وما الدولة سوى الصورة الواقعية التي يتجلى فيها التضامن الاجتماعي، ووظيفة الدولة إنما هي المحافظة على ذلك التضامن وتسهيل اتساعه وتطوره ومنع العوامل التي تصيبه بالضعف والوهن، وذلك عن طريق سن (قواعد للسلوك) وهي المعروفة باسم القوانين، والقوانين لا تكون مشروعة إلا إذا هدفت إلى حماية التضامن الاجتماعي وإلى كفالة عوامل نموه واطراده، فذلك التضامن هو أساس قيام الدولة وهو تبرير مالها على الأفراد من سلطان.
هذا التضامن الاجتماعي عند (دوجي) الفرنسي المعاصر فماذا عن ابن خلدون العربي القديم؟
مهلاً سيدي القارئ ولترجع معي إلى (مقدمته) الخالدة لتجد في الصفحة الخامسة والأربعين وما بعدها عرضاً بديعاً لنظرية التضامن الاجتماعي التي طلع بها العالم (دوجي) في القرن العشرين للميلاد فاعتبرت فتحاً في علم السياسة وابتكاراً في فقه القانون العام.
يقول ابن خلدون: (. . . الإنسان مدني بالطبع إذ لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران. وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه اقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب انه يأكله حباً من غير علاج فهو أيضاً يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه الأعمال من الزراعة والحصاد والدراس. . . ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير. ويستحيل أن توفي بذلك كله أو بعضه قدرة الواحد، فلابد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت لهو ولهم فيحصل بالتعاون على قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف)!
ونراه بعد ذلك يستطرد في شرحه فيقول: (وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع
عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأن الله سبحانه لما ركب الطبائع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان. . . وجعل للإنسان عوضاً من ذلك كله الفكر واليد، فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع. فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة، فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة ولا تفي قدرته أيضاً باستعمال الآلات المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة لها فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه، ما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء. . . ولا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسه. . . ويعاجله الهلاك مدى حياته ويبطل نوع البشر. وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقاءه وحفظ نوعه)!
في هذه العبارات الواضحة يعرض ابن خلدون كل ما في نظرية التضامن الاجتماعي الحديثة وإن لم يرد على قلمه لفظ (التضامن) فقد استعاض عنه بلفظ (التعاون) وقديماً قيل لا مشاحة في الاصطلاح.
لقد أشار ابن خلدون إلى قدم الاجتماع البشري وإلى أنه في الإنسان قديم أزلي، واستطرد من ذلك إلى تقرير وجود التضامن الاجتماعي وإلى شرح طبيعة ذلك الضامن بنوعيه اللذين تتكلم عنهما النظرية الحديثة وهما التضامن بالتشابه، والتضامن بتقسيم العمل.
ضرب ابن خلدون مثلاً للتضامن بالتشابه بليغاً في إيضاح المعنى المقصود إذ ذكر الدفاع وما يتطلبه من تعاون أبناء الجنس البشري، فهنا تجدنا أمام حاجة مشتركة بين جميع أفراد المجتمع هي الحاجة إلى الدفاع عن النفس إبقاء عليها وحفظاً لها، وهي حاجة لا يتيسر تحقيقها على وجهها إلا في الحياة المشتركة لما ذكره ابن خلدون من عجز الفرد الواحد من الناس أمام العدو المشترك فكان لا بد من اجتماع العدد الكبير من أفراد الجنس البشري حتى يمكن سد هذه الحاجة المشتركة بينهم، وهذا بعينه هو التضامن الاجتماعي بالتشابه الذي تكلم عنه (دوجي).
أما النوع الثاني من التضامن الاجتماعي وهو الناشئ من تقسيم العمل فقد ضرب له ابن خلدون مثلاً لا يقل وضوحاً في معناه ولا قوة في دلالته عن المثل الأول، فقد ذكر قوت يوم
من الحنطة وما يقتضيه الحصول عليه من تعاون الزارع والطاحن والعاجن والخابز فضلاً عن تعاون من ينتجون لهؤلاء آلات صناعاتهم، فهنا نرى كفايات متفاوتة تستتبع تبادلاً للخدمات وتعاوناً بين أصحاب مختلف الحرف كل في اختصاصه، وهذا بعينه هو التضامن بتقسيم العمل الذي تبرزه النظرية الحديثة.
وأما عن قيام الدولة فيقول ابن خلدون: (إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم؛ وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية لدفع العدوان لأنها موجودة لجميعهم فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يضل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك.
وهكذا نرى أن ابن خلدون - وبينه وبين دوجي نحو ستمائة عام من الزمان - قد سبق إلى النظرية التي اعتبرت للفقيه الفرنسي نصراً وفتحاً وعرضها عرضاً واضحاً بيناً لا فرق بينه وبين الشكل الحديث للنظرية إلا في العبارات والمصطلحات.
وليس هذا إلا قطرة من بحر ابن خلدون الذي ينزح منه كل مطلع على آثاره الخالدة على الدهر، وخاصة مقدمته التي تعتبر بحق كنزاً حافلاً بجواهر الآراء في علوم السياسة والاجتماع. فلا مبالغة إذن فيما تصفها به دائرة المعارف الإسلامية إذ تقول أنها (ستظل دائماً أعظم مؤلفات ذلك العصر وأهمها من جهة العمق في التفكير والوضوح في عرض المعلومات والإصابة في الحكم، ويظهر أنه لم يفقها كتاب ما لأي مؤلف إسلامي.).
جمال مرسي بدر
قصة الفتنة
بين الأزهر ودار العلوم!
للأستاذ الطاهر أحمد مكي
أنا متهم بإثارة الفتنة بين الأزهر ودار العلوم!. . .
اتهمني بها أصدقاء ردوا علي في صحيفة (الأخبار الجديدة)، وزميل اختار لرده (الرسالة) واتهمني بها أناس كثيرون، يربطني بهم إخاء ثقافي، أو صداقة علمية، أو زمالة وطيدة، ولم يحاول واحد منهم جميعاً، أن يتعرف الدوافع، أو يتقصى ما وراء الأمر من أسباب.
كانت كلمتي في (الأخبار الجديدة) ذات شقين، أولهما دفع ما أثاره بعض الزملاء، من أن هناك تعصباً يقع عليهم، وحيفاً يصيبهم، وأحمد الله كثيراً، على أن بينهم من نفى ذلك كله، وقال كلمة الحق، وهو أن مرجع التفضيل لدى مفتشي اللغة العربية، جهد الإنسان ذاته وإخلاصه وتفانيه، وسكت الباقون فلم يثبتوا شيئاً، وإن عز عليهم أن يعترفوا بالحق لذويه!
وقصة هذه الشكاوي تمثل في واقعها مأساة أليمة. . . مأساة الأخلاق حين تنحدر، والوفاء حين ينضب، وكلمة الحق حين تغيض من الشفاه؛ ذلك أن اللغة العربية كانت تجد في أشخاص القائمين عليها، اضطهاداً مزرياً من وزارة المعارف، وكان هؤلاء الرجال يدفعون هذا الاضطهاد بكل ما أوتوا من قوة، اضطهاد يسنده استعمار غاشم، يريد أن يحطم معنويات الشعب بتحطيم لغته، ويمكن له دعاة مرتزقة، يريدون للاستعمار أن يبقى ليعيشوا، وتظاهره أرستقراطية كاذبة، ترى في العربية تأخراً يخدش زهوها ويؤذي شعور بنيها، ومن ثم كان موظفو وزارة المعارف يتفاوتون تبعاً لاختلاف ثقافاتهم، فعزل ذوو الثقافة العربية منهم، عن كل ما يؤدي إلى إدارة وسلطان، أو يشعر بتقدير أو عرفان، وفيهم من يحملون من الشهادات التربوية أعلاها، ومن الثقافة العربية أعمقها، ومن اللغات الأجنبية أحياها، على حين ارتقى غيرهم درجات وزارة المعارف صعدا، فتفاوت النظراء وتباين المثلاء، ولولا بقية من إيمان لأصاب اللغة، تدريساً وطريقة وإنتاجاً، شر كبير. فليس أقتل لحيوية العامل من الإهمال، وليس أقضي على نشاط الذكي من الجحود، ولا أجهز على إخلاص المنتج من نكران الجميل!
كان هؤلاء الرجال يقاومون ذلك كله في عناد وصلابة فبلغوا مما يؤملون شيئاً، وبقي دون
حقوقهم كاملة طريق طويل، مملوء بالأشواك والمتاعب، ويتطلب الكثير من التكاتف والتساند والتضحيات؛ فوزارة المعارف ذات الوكلاء الأربعة، والمستشار الفني والسكرتير العام، لم تخجل من نفسها يوماً، فتتخير من أصحاب الثقافة العربية ولو واحداً، ليمثلهم في مناصب الوزارة العليا، رغم أن ثقافتهم غاية وغيرها وسيلة، وأن عددهم يربو على نصف الموظفين، وفيهم قدامى قاربوا الستين، ونبغاء يحملون أرقى الشهادات، إن لم تزد على ما يحمل وكلاؤها فلا تقل عنهم بحال!
حتى إذا رفعت مصر رأسها بعد ركوع طويل، ظن أصحاب الحق الهضيم في وزاره المعارف، أن المظالم سترد إلى أهلها، وإذ هم يلوحون بحقوقهم في حياء الأبي ومظهر المتواضع، حتى لا يثيروا ضجيجاً ويحدثوا فرقة، إذا بالخناجر تغمد في ظهورهم بلا أسباب ولا مقدمات، وممن؟. . . من أشقائهم الأزهريين، من شباب العربية الذين يمهدون لهم المستقبل ويعبدون لهم الطريق!
أجل!. . . آلاف الشكاوى ترسل إلى شتى الجهات تستبيح أعراضهم، وتطعنهم في أعمالهم، وتنهش ذممهم، وترميهم بكل نقيصة ومذمة، ولا هدف لها إلا النيل من هؤلاء الأبرياء، وكان سواد هذه الشكاوي كذباً وتضليلاً وافتراء، وهدفها (إذا لم تستطع هدم الحائط القوي، فلا بأس من تلطيخه بالأوحال)!. . . وكانت حملة غير شريفة ولا طبيعية، وكان التوافق في الشكوى بين من يقيمون في أسوان ومن يستوطنون الإسكندرية ومن ينزلون القاهرة، يوحي بأن يداً أثيمة تريد أن تصطاد في الماء العكر، وأن تكيد لحماة اللغة العربية، ليخلو لهم الطريق!
وأشهد أن فجيعة هؤلاء المفتشين كانت بالغة، كان أشبه بأب فقد وحيده، بعد أن تقدمت به السن وأدبر عنه الشباب. لقد زرعوا ليحصد غيرهم، وغرسوا ليجني سواهم، وهم الساعة يتحسسون كلمة شكر على ما حملوا من رسالة، وأدوا من أمانة، فلا يجدون. لقد كانوا من أنصار العدل المطلق دواماً، وكان ذلك يدفعهم إلى الدقة في التقدير، والقسوة على المهمل، لأنهم أصحاب رسالة أولاً، ولأنهم يطالبون بحقوق لهم ولأندادهم مغصوبة ثانياً، وليس أقوى لك، ولا أسند لظهرك، حين تطالب بحقك من أداء واجبك كاملاً!
ثم تطور الأمر إلى حملة تشهير أخرى، فجاوز نطاق الشكاوى المعلومة والمجهولة إلى
الصحف، يستدرون عطف كتابها، ويستثيرونهم على أناس، نعدهم نحن لنا أساتذة وموجهين، على رغم ما قد ينشب بيننا وبينهم من خلاف أحياناً. وأخذت الحالة لبوساً جديداً، فكانت حملة قاسية عنيفة، من كاتب كبير في صحيفة ذائعة على خريجي دار العلوم، فكتبت سطوراً أدفع بها ما تجد طائفتي من شر، بإظهار الحقيقة كاملة، وبيان ما تحمل هذه الدعوى في طياتها من غرض خبيث، وما تهدف إليه من إشاعة روح الفرقة والبغضاء!
وأما الشق الثاني فكان تقريراً لواقع الأزهر في العشرة أعوام الأخيرة، ولقد عشت فيه، وقضيت برحابه زمناً، فوجت واقعه عفناً، وأفسق بعقلي إذا ارتضيته ودافعت عنه، أو سكت عليه، أو واطأت أحداً على بقاءه. وما أشبه الذين يرتضونه من أبنائه، بالقروي الذي لم يطعم إلا الجميز، فهو يظنه أحلى ما في الوجود من فاكهة. ولم أعتب عليهم أبداً، فقد كنت أنا مثلهم يوماً!. . . وكنا لجهلنا المطبق بما تزدحم به الحياة حولنا، نظن أن علم الأزهر هو كل ما عرفت الإنسانية من ثقافات، وأن هذا الكلام الذي يدرسه طلاب المدارس على اختلافها هذر سخيف لا جدوى منه ولا فائدة فيه. وكنا نضرب أياماً طوالاً، نهتف فيها من أغوار حناجرنا (افتحوا لنا الكلية الحربية. . افتحوا لنا كليات البوليس والآداب) إلى آخر ما كنا نسمع من أسماء الكليات!
كان ذلك من زمن، وظننت أن الأزهر - وقد فارقته - وقد أصابه مس الحضارة فتغير في نظمه، وتطورت عقليته، كما تغيرت في مصر أشياء كثيرة، حتى إذا سمعتهم يهتفون أمام اللواء محمد نجيب حين زارهم، (افتحوا لنا الكلية الحربية) عرفت أن الحال كما هو، وأن أشقاءنا الأزهريين، يعيشون في واد تقطعت به أسباب الحياة!
ولا أزال أذكر من هذا الواقع حتى الساعة، كيف قدمنا للأزهر للمرة الأولى، صغار السن طرايا العقل، فاستقبلنا بالسخف الذي يستقبل به طلابه حتى الآن، أي المذاهب تختارون؟. . . مذهب أبي حنيفة، أم مالك أم الشافعي أم ابن حنبل؟ ولم نكن نعرف عن واحد من هؤلاء شيئاً، فمن كان والده على شيء من الدهاء، اختار له مذهب أبي حنيفة ليصبح قاضياً شرعياً، أما الباقون فيتابعون السير هكذا عميا، حتى إذا استقر بنا المقام بدأنا نتعصب لتلك المذاهب، ونتقاتل عليها، كل يزعم لإمامه العلم والفضل، وكان المالكية
يباهون بأن إمامهم، مكتوب على فخذه الأيمن أو الأيسر - لست أدري - بقلم القدرة، (مالك حجة الله في أرضه) إلى آخر ما تحكي الكتب من خرافات وأباطيل!
وكان هذا التعصب الأعمى وضيق الأفق، ينمو معنا شيئاً فشيئاً، وهو مفتاح لمعرفة كنه كثير من المشكلات الأزهرية، فهم في المعهد الواحد يتعصبون للمذهب، وفي الكليات المجتمعة يتعصبون للأقاليم، وفي الوظائف يتعصبون للأشخاص، وفي المعارف يتعصبون على دار العلوم، متابعة لطرائقهم هناك ليس إلا!
وقد فتح هذا التعصب للمذاهب والأشخاص والأحزاب أبواباً لمساومات كان ضحيتها العلم والثقافة دائماً، فانحط مستوى الطلاب انحطاطاً بشعاً، انحطاطاً دفع أستاذاً كبيراً للفلسفة في دار العلوم، ندب لتصحيح المنطق بالشهادة العالية لكلية اللغة العربية، أن يرفض ذلك، سمواً بمنصبه من أن يتخذ ستاراً، وباسمه من أن يستغل لستر ما شهد من فضائح. لقد وجد أن ما درس لطلاب الشهادة العالية في عام كامل، ست عشرة صحيفة من كتاب (النطق التوجيهي) المقرر على طلبة التوجيهية وفي حدود الصفحات التافهة وضع الامتحان!
وكان سباق الأزهر إلى الوراء داعياً إلى الأسى والرثاء، يضرب الطلاب عاماً كاملاً، لا يحضرون فيه غير أسابيع معدودة، ثم تكون نتائج امتحانات النقل90 % أو تزيد. . . كانت عملية (تفريغ) من نوع فريد، ينقل الذين في السنة الأولى إلى الثانية، والذين في الثانية إلى الثالثة، وهكذا، ويمنح الذين يتخرجون فيه شهادات تحسب له وتعد عليه، وكاد الغش الجماعي، إن صح هذا التعبير، معروفاً وذائعاً ومرضياً عنه!
وقد حاول الخيرون من أصحاب الضمائر الحية أن يوقفوا هذه الموجة المدمرة، فكان نصيبهم أن أبعدوا أو اضطهدوا. وأذكر أن الأستاذ الكبير الشيخ محمد شلتوت وقف من عامين، وكان رئيساً لامتحان الشهادة العالية، يعلن بأعلى صوته (إن الأزهر يتصدق بشهاداته على الفقراء!. . .) فأبعدوه عنها واختاروا سواه، على ما هو عليه من علم وفضل وخلق.
وشيئاً فشيئاً حطم الفساد في الأزهر كل معاني الفضيلة والاستقامة، فكان الطلاب يقيمون في بلادهم طوال العام، يعملون في التدريس أو شيئاً آخر، ولا يحضرون القاهرة إلا ليؤدوا الامتحان. ومع ذلك كله كانوا يكتبون حاضرين يومياً، ويخول لهم ذلك حق الاستيلاء على
المكافئة والجراية وبدل الغذاء وبدل الكتب، وهي مبالغ تخول لصاحبها حياة نظيفة، لو كان مخلصاً للعلم راغباً فيه مقبلاً عليه. وآسف جداً أن أقرر، أن ذلك فتح سوقاً نافقة للرشوة، وللاتجار بالضمائر والتلاعب في السجلات!
وكان هذا الانصراف عن الدرس، أخطر ما قضى على كيان الأزهر الثقافي قضاء تاماً، فليست الثقافة كتاباً يحفظ، وإلا كانت مصر في غنى عن الجامعات والمعاهد العليا، ولكنها تفاعل بين مستويات متباينة، يكون الفرد فيها قدوة لغيره في ناحية، ومقتدياً في نواح أخرى كثيرة، وباحثاً عن مثله الأعلى في هذا المحيط. وقد يجده فيه، وقد يجد في الطريق أو في محاضرة، أو في مكتبة أو صحيفة، أو في ناد أو في زمالة، وهي مواد لا توجد في محيط القرية المصرية بحال!
ماذا تنكرون مما أقول؟
إن المثقفين من شباب الأزهر يعرفون ما أعرف وزيادة. والفارق بيننا، أنهم يعالجون الأمر في مقالات ملساء، وأصوات خافتة، وهمسات ناعمة، أما أنا، فأرى أن الفساد أقوى من أن يزعجه النصح الضاحك، وأعتى من أن يوقفه الإرشاد الحي، وأخطر من أن نسكت عليه أو نساومه!
لقد خرجنا من الأزهر بعاهات مستديمة. . . عاهات أصبنا بها في عقولنا وفي ثقافتنا، وفي أذواقنا وفي شبابنا، ولن نرضى لأخوتنا أن يصابوا بها، أو أن يذهبوا ضحايا لها، ولن نيأس من الدعوة إلى الإصلاح أبداً، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
هذا هو الحق، لا تضطربوا!. . .
هذا هو الواقع، لا تنزعجوا!. . .
الجبناء وحدهم هم الذين يسكتون على ما يعرفون من جرائم وآثام!
الطاهر أحمد مكي
3 - كوليرج
للكاتب الناقد. أي. تي. كيلركوج
بقلم الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
تتمة
قبل أن نلوم ضعف كوليرج الإنساني، دعنا نسأل أنفسنا عما ' ذا كان من الممكن لأي إنسان أن ينظم قصائد متعاقبة من طراز النوتي القديم، ولكن إن فرضنا الإعجاز - وهو ما كان موهوباً به - فإنه (أي الإعجاز) ليست له القدرة الكافية بإلزام الرجل على إنهاك نفسه. أو بكلمة أخرى دعنا نبحث ونتساءل عما إذا كان انقطاع الفيض القدسي مرده ضعفه أم سببه هو استنزاف تلك القوة الخفية؟ وهو ما نعتقده ونؤمن به. والجواب القاطع عن مثل هذا السؤال موجود في قصيدته (كرستابل) كما أن قصيدته (قوبلاي خان) تشد أزر مثل هذا الرأي وتعززه بدليل آخر بلا أدنى شك ولا أقل ريب. يحدثنا كوليرج نفسه بذلك فيذهب إلى القول بأنه شرع بنظم (كرستابل) في سنة 1797، أي إما أن يقول ذلك قبل أو في غضون نظمه (للنوتي القديم). وقد امتازت هذه الفترة بخلوها من تعاطي الأفيون. ومع هذا فكل من يحاول أن يقلب الصفحات الأولى من (كرستابل) سيرى بعينه أنه من المستحيل إتمامها بأية حالة كانت. ولا شك أن كوليرج أعتقد جازماً بأن في قدرته إكمالها، ولكنه في نضاله لتحقيق ذلك كان يجالد أعداء أقوى من الأفيون وذلك لأنه كان يقارع المقادير التي تتحكم في مصائر الأشياء كيف تشاء، فتنتهي على الصورة التي تريدها وبالكيفية التي ترضاها.
أما نغمات (كرستابل) التي أجاد وضعها الشاعر، فهي تعاني في آذاننا نوعا من التداعي والارتباط بجلجلة (سكوت) كما هي الحال وبصورة أسوأ مع بايرون الذي استعارها بدوره من سكوت. ولا تزال هذه الفظاظة على شدتها في أيامها هذه، لدرجة أن إيقاعها الموسيقي أسف إسفافاً كبيراً. . . والخلاصة أن هناك كثيراً ممن يرى في (كرستابل) زيفاً لا معنى له متناثراً هنا وهناك، ومع ذلك فإن أصالتها وجمالها في بعض الأبيات مما يدهش ويبعث على الغبطة والسرور. أما (قوبلاي خان) - فحتى إذا فرضنا أن ذلك الشخص من
(بورلوك) لم يبترها - فكيف لنا أن نتصور بان في الإمكان إتمامها أو حتى الاستمرار بها قليلاً. ولكنها مع كل ذلك، أعظم قطعة ساحرة تخلب الألباب وتسلب الأذهان في الشعر الإنجليزي على الإطلاق. وبعد مضي ثلاثة أسابيع من تلك الليلة الزاهرة التي أتم فيها أغنيته الخالدة (أعني النوتي القديم) سار ورفاقه يوماً ما منشدا إياها وكان في معيته آنئذ ورد زورث وقال كوليرج عنه في سياق إحدى رسائله إلى أصدقاءه (أنه (أي ورد زورث) يتقدم تقدماً متواصلاً في مجال الشعر وأنه يشعر بأن البلاد تزداد حسناً وجمالاً في كل يوم) وقد أصبح لبهاء هذا الصيف (في كوانتوك) مكانه اللائق به في سجل تأريخنا الأدبي. لقد انتهى موسم حصاد كوليرج، وبدأ موسم وردزورث الذي بدا زاهراً باهراً فيه الآمال العراض والأماني العذاب. وبعد ذلك حدث أن أرتحل الأخ والأخت من (الفوكسدن) في منتصف الصيف، وفي أيلول لقيهم كوليرج في لندن فأبحروا جميعاً في سفرة رائعة إلى هامبورغ في ألمانيا. ومن الملاحظ في هذا الخصوص أن (الأغاني) التي نظمها وردزورث طبعت من قبل عدة أيام من إهداء كوليرج (للنوتي القديم) و (البلبل) و (حكاية المرضعة) و (الزنزانة). وقد أطلق كل من الصديقين قذيفته وذهبا فرحين كل إلى جهة معينة. أما قذيفة وردزورث فكانت بمثابة صاعقة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولو أن بريطانيا قابلتها ببرودتها المعهودة ولكن السيدة كوليرج علقت على ذلك بقولها (لا يحب الأغاني أحد قط!). ولم تمض عدة أيام على وصول الأصدقاء إلى هامبورغ حتى انفرط عقدهم، فارتحل كوليرج إلى (راتززبورغ) وفي نيته تعلم اللغة الألمانية ومن هناك عاد إلى (نيذر ستاوي) في تموز عام 1799. وفي نهاية السنة لقي عائلة ورد زورث وطاف معهم منطقة البحيرات وبعد ذلك استقر آل ورد زورث في (دوف كوتيج) في (كرايمر) وفي تموز من السنة التالية انتقل كوليرج إلى جوارهم في (كريتا هول، كينزوك) على مقربة اثني عشر ميلاً منهم. وكان وردزورث في إبان نشاطه ووفرة قوته في هذه الأثناء، ومع هذا فإن التعارف الجديد لم يكن لكوليرج ربيعاً جديداً. فساوذي لن تعاد مرة أخرى. وهنا لسوء الحظ أو لحسنه يمكن أن تنتهي القصة لسوء الحظ لأن فترة نظم الشعر انقضى أجلها وذهب ريحها، وفي ذلك يقول كوليرج بالذات (إنه نبذ الشعر ملتمساً النجاة في الميتافيزيقا) زد على ذلك أنه أسلم نفسه نهائياً إلى عبودية الأفيون؛ ولحسن الحظ أن نهاية هذه الفترة
تحول بيننا وبين اقتفاء أثره في سفرته إلى برستول ومالطة، وما تخلل ذلك من منازعات ومصالحات وعهود واختلاطات وعودة إلى الأفيون وشفائه منه جزئياً ثم ارتكاسه وانتكاسه ويأسه ثم غروب شمس حياته النبيلة الطيبة في دار (جلمان) في (هاي جيت).
وعلى كل حال دعنا نلاحظ شيئين قبل الاقتناع بما يدلي به بعض الذين يكتبون بسخرية عن كوليرج وضعفه. فأولاً أنه كافح وجالد وقارع في أعمق مهاوي اليأس فخرج منتصراً في نهاية الأمر. لقد نال النصر بد أن قدم في سبيل ذلك ثمناً باهظاً جداً. ولقد أصاب هذا النضال الشاق الدامي مئات من الكفايات الممتازة التي يتمتع بها، ولكن الرجل بالرغم من هذه الجروح والكلوم التي استنزفت دماء حياته، وخرج وبيده المرتعشة كأس النصر وعلى رأسه الدامي إكليل الغار. أضف إلى ذلك أن علينا إن نلحظ أثناء مطالعتنا للمنازعات والخصومات وما تبع ذلك من سوء التفاهم المزمن بينه وبين أصدقائه بأن الوقت كلما محا سبباً من أسباب هذه الأمور التافهة ظهرت طيبة كوليرج الطبيعية جلية واضحة سافرة عارية. وكيف أن كوليرج - بمرور الأيام - يخرج بريئاً من كل التهم التي ألصقت به جزافاً بدافع الضغينة والحسد. لقد عرف كوليرج ضعفه واعترف به، ولكنه، على الأقل تعلم من ذلك الرقة والشفقة حيال ضعف أصدقائه. . . ولكن هذا المزاج الرقيق جعله مبهماً وغامضاً لدى جماعة ساوذي وهازلت، كما جعله غريباً عند ورد زورث ذي الشخصية المركزية.
وهكذا فبهاء فكره هو الذي عزله عن أصدقائه. . . فالعدل والإنصاف يوجبان علينا تصور كوليرج عندما كان قوة مؤثرة في محبيه والملتفين حوله في أيام عزه، وليس كوليرج أيام (هاي جيت) المتأخرة، ذلك العملاق الذي انهار صرح مجده وانهدمت أركان قوته والذي مسخ صورته كارليل مما ألصق به عيباً لا يمحى؛ وحتى كوليرج سنه 1816، الذي طالب لامب أن يصنعه (برئيس الملائكة الذي أصابه البلى) في رسالة صداقية إلى وردزورث. فليس هذا الذي يحببنا بكوليرج، بل الذي يجذبنا إليه ويجعلنا نتعلق به هو تلك الشخصية السامية التي غدت ذكرى عاطرة وفكرة باقية في ذهن لامب وعلى شفتيه في تلك الأيام القليلة التي ظل متعلقاً بها بإهاب الحياة بعده. وقد قال بصدد ذلك: (لقد مات كوليرج، ولكن روحه العظيمة الحبيبة لا تزال تكثر من الترداد علي. لم أر مثيلاً له ولا يحتمل أن يرى
العالم ذلك مرة أخرى. ويظهر أنني أحب البيت الذي قضى فيه نحبه بانفعال أشد من الوقت الذي كان يسكن فيه، فما كان مسكناً له أصبح لدي معبداً). . . ومع ذلك فإن الناس سيضلون يتخيلون ويخمنون في ما كان يمكن أن يتركه كوليرج من كنوز لو أنه لم يشرب الأفيون أو لو أنه تمكن من نبذ الميتافيزيقا أو لو أنه اقترن بدوروثي ورد زورث، أو لو أنه أخذ بنصح أصدقائه الذين أرادوا إنقاذه. وقد كتب بهذا الخصوص الدكتور جارنيت قائلاً: عاش كوليرج حتى عام 1834، ولو أن كل سنة منحياته أنتجت ما أنتجه محصول سنة 1793 لأصبح إنتاجه أعظم كمية ونوعية من إنتاج معاصريه جميعاً. أمامنا بعد كل هذا، هذا السؤال الملح: أيهما كان مديناً لصاحبه كوليرج أم ورد زورث في غضون مكثهما في (كوانتوك)؟ وهذا السؤال - كما يعتقد السر ثوماس براون - سؤال محير. ولم نثر هذا السؤال إلى لاعتقادنا بأنه لم يوضع له جواب مقنع لحد الآن. ومن المعتاد أن يجادل بعضهم في هذا ذاهبين إلى أن كوليرج استلم أكثر مما أعطى لأنه كان أكثر تأثيراً في صاحبه، ولكننا نعارض هذا الرأي لأننا نعتقد بأنه أعطى أكثر مما استلم لأن مجرد وجوده، بما امتاز به من قوة إيحائية، جعلت هيمنة شخصيته واضحة الأثر في خدينه. وما لنا (للتدليل على ذلك) إلا أن نلاحظ بعض الحوادث في هذا الباب. فقد نظم كوليرج قصيدته (مظلة شجرة الليمون) في سنة 1898، و (البرد في منتصف الليل) في شباط 1778، أما قصيدته الجليلة (البلبل) فهي تعود إلى صيف 1778، والذي نراه في هذه القصائد أنها أعظم مما أنتجه ورد زورث ولو أنها تدعى الآن (وردزورثية)، ومع ذلك فإن ورد زورث لم يبلغ ذروة شاعريته في سنة 1798اللهم إلا باستثناء قصيدته (الشوك). فبينما كان كوليرج ينظم قصائده الرائعة كان ورد زورث يكتب (سيمون لي) و (جودي بليك) التافهتين. وهكذا لم يتمكن ورد زورث من نظم ما له قيمة إلا بعد أن كان كوليرج قد أدى مهمته خير الأداء، وبذا يكون كوليرج هو الذي علم ورد زورث الألحان العذاب فحسنها هذا الأخير بدوره. أما ألحان قصيدة (النوتي القديم) فكانت فريدة في بابها عجيبة في صياغتها، بحيث لم يأت شاعر بمثلها لا من قبل ولا من بعد، حتى شكسبير لم يكد يبلغ أوجها على قيثارة (إيريل).
العراق، بعقوبة:
يوسف عبد المسيح ثروت
الشجرة الرائدة
للأستاذ أحمد زكي أبو شادي
سيطر الصقيع على الغابة، وأخذت الرياح الباردة تضرب الأغصان بعضها ببعض. كانت الأيام باردة نهاراً وقارسة ليل. ولكن إحساساً بإقبال الربيع نشأ في الغابة؛ وإذ نشأ هذا الإحساس واجهه شعور آخر مضاد، وهو الخوف من أن يؤدي التبدل إلى عاقبة أوخم. فقالت كل شجرة لنفسها:(لن أجرؤ على أن أكون الرائدة في الاعتراف بالربيع حتى لا تصاب براعيمي بأذى). وراحت سنديانة عتيقة تحذر جارة لها من عقبى التسرع. فأجابتها جارتها قائلة: (أيتها السنديانة التي كثيراً ما ضربتا الرياح! ألا يبهجك مهرجان الحياة التي يأتي بها الربيع؟) فساد السكون أياماً، ثم جاء الصبح الذي تمكنت فيه أشعة الشمس من مداعبة شجر الحور، فتفتقت إحداها، ثم تبعتها بقية الغابة!
سيطر البرد والصقيع على الغابة
…
واشتد عصف قاسي الرياح
لم يبال البرد الغشوم بكنز
…
مستسر في هذه الأرواح
أو لعل البرد والصقيع كانا
…
يحرسان الحياة بالترهيب
فالبراعيم ملؤها خطرات
…
حالمات في مهدهن العجيب
وتمشى في الغابة الحب والشو
…
ق لداني الربيع وهو بعيد
أترى كانت البراعيم سكرى
…
أم توارت وكلهن شهود؟
أيحس النبات إحساس صوفي
…
وإحساس شاعر مسجون
هامساً بالصلاة تنشق في الجو
…
حناناً ورعشة للغصون؟
ثم ساد الأشجار خوف غريب
…
من جديد يكون شر البديل
ربما كان مرهق اليوم نعمى
…
حين تلقى الغد المخيف الوبيل
ومضت وهي في التياع تناجي
…
نفسها، لا تود مرأى الربيع
لا تود اعترافها بقدوم
…
موشك قد يخونها للصقيع
فبراعيمها حياة لآتيها،
…
وإيذائها هوان وموت
هي أولادها، كأن قصيداً
…
قد حواها فهن بيت وبيت!
ومضت سنديانة ضربتها
…
قاسيات الرياح عمراً طويل
في حذار تقول للجارة العقبى
…
إذا جازفت وجود هزيل
فأجابت: ألا تسرين من مو
…
كب هذي الحياة حول الربيع؟
وإيه يا جارتي! لقد خانك الر
…
أي، فإن الربيع رب وديع!
إنه واهب الحيات وإن لم
…
يبق في ركبه سوى أيام
إنه الخالد المجدد فينا
…
حلو أعمارنا بعام وعام!
فأفاض السكون حساً عجيباً
…
بعد صمت كالسحر ران عليها
ثم وافى صبح تجلت به الش
…
مس بإشعاعها حناناً لديها
داعبت في شعاعها شجر الحور
…
فذر الصبا الزمرد عنها
واستفاقت في إثرها شجرات
…
فتزيت بكل ما رف منها!
ذلك سر الغابة احتضنته
…
وهو سر النهوض في كل حي
ثورة للتحرر المتناهي واح - تقار للعجز في كل شيء
من يبالي الرياح والبرد لم يسلم ومن هم لم يخنه نهوضه
من يهاب الأخطار حامت حواليه وما زل من حماه ركوضه
كم شعوب خوف الممات من الممات تعاني، ومالها من رائد
هي تهب للجهل والسقم والفقر، وصيد محلل للصائد
فلنحي الأشجار في الغابة الحرة، ولنحي ذكرها في العضات
ولنمجد روح الريادة فيها
…
تلك روح كفيلة بالحياة
كم رموز ملء الوجود تناجينا وتوحي لنا دروس الخلاص
ليس حتماً على الأنام ممات، إنما الموت صورة من قصاص
ولتكرم من يرفض الموت والذل، ومن جاء بالبشارة فينا
والذي أخرج الضياء من الظلمة حتى أعز شعباً مهينا!
نيويورك:
أحمد زكي أبو شادي
من هنا ومن هناك
الشاعر الأمريكي همنجوي
يعد إرنست همنجوي في طليعة الكتاب الأمريكيين المعاصرين بل أحد كبار أدباء العالم الأحياء. وقد صدر له مؤخراً كتاب صغير بعنوان (الرجل المسن والبحر) لا يتجاوز 27 ألف كلمة، كتبه وهو في مصيفه في كوبا. وقد أثار هذا الكتاب فضول النقاد وجمهور القراء قبل صدوره؛ وهذا لأن مجلة (لايف) الأمريكية التي يزيد ما يباع منها على خمسة ملايين نسخة نشرت الكتاب بأكمله فيعدد من أعدادها قبل أن تذيعه دار النشر بأحد عشر يوماً.
وللمرة الأولى ينشر كتاب بأكمله في عدد واحد من مجلة ما. وقد علق المؤلف الذي تقاضى من الجلة المذكورة أكثر من ثلاثين أف دولار على ذلك بقوله: لقد استفزتني فكرة نشر الجلة للكتاب بحيث يكون في متناول مئات الآلاف من القراء مقابل عشرين سنتاً. وقد سرني هذا العمل أكثر مما لو كنت ربحت جائزة (نوبل).
وقد مهدت المجلة للكتاب بكلمة مناسبة وأرسلت قبل نشره بعدة أسابيع مسودة كاملة لمئات النقاد والصحفيين. أما موضوع الكتاب فهو أن صياداً مسناً من كوبا بعد أن قضى 84 يوماً متجولاً بزورقه في البحر دون أن يصطاد شيئاً أمسكت صنارته في اليوم الخامس والثمانين سمكة ضخمة. ولما كان وحيداً لم يستطع جذب صنارته بصيدها الثقيل ولا شد حبلها إلى الزورق فاضطر إلى أن يظل في جذب ودفع مع السمكة أياماً وليالي يمضه الجوع والتعب والألم ويحز الحبل يده. وأخيراً تمكن من إمساك السمكة وربطها إلى زورقه، ولكنه عاد يكافح في طريقه كلاب البحر ويحاول ردهم عن السمكة. غير أنه لم يبلغ الشاطئ إلا بعد أن كانت كلاب البحر قد نهشت السمكة ولم تبق منها سوى هيكلها العظمي.
هذه هي القصة ببساطتها وروعتها وهي تعد في نظر القسم الأكبر من النقاد أبدع ما كتب همنجوي حتى الآن. أما فقد قال عنها إنها زبدة ما تعلمه في حياته.
من شروط القصة
انصرفت أفكار الكتاب أخيراً إلى البحث في حدود القصة وشروطها وأهدافها. ومثل هذا
قام به كتاب القرن الماضي أمثال ستندال وهوجو وبلزاك وجورج صند وفلوبير. وقد كان لكل هؤلاء من الكتاب رأيه الخاص في الأدب القصصي الذي انصرفوا إليه.
كان فكتور هوجو يحمل بشدة على القصص النقلية والوصفية والإنشائية داعياً الكتاب إلى هجر هذا النوع من الأدب القصصي والاعتياض عنه بالأدب التصويري الذي يعبر عن المثل المفيد والقدوة الحسنة والفكرة الناضجة بحيث تكون القصة صورة أمينة للحياة.
وكان ستيندال يؤثر القصة التي ترتكز على حوادث بسيطة حقيقية مكتوبة بلغة سهلة وأسلوب طبيعي يكون مفهوماً من كل طبقات القراء. ولم يكن أبغض إليه من تلك الوثبات البيانية والبلاغة الإنشائية لاعتقاده أنها تصرف الفكر عن إدراك ما في القصة من الحوادث والمرامي والفكر.
وكانت جورج صند تعتبر القصة واسطة لإيقاظ العاطفة التي توحي الموضوع، ولكن بشرط أن يستقيم الموضوع في إطار من الشعور الواقعي العميق.
أما فلوبر فقد كان رأيه مخالفاً لرأي جورج صند، كان يريد أن تكون القصة سجلاً لحوادث وأفكار ومشاهد واقعية بحتة.
وكان بلزاك، وهو أقدر من عالج الأدب القصصي، يصرح قائلاً أن الحقيقة الأدبية هي غير الحقيقة الطبيعية وهي تقضي على القصصي أن يغير ويبدل في أشخاص روايته بحيث يتحولون إلى أشخاص رمزيين، وأن يقلل ما استطاع من تمسكه بالأشخاص الطبيعيين. ومن قوله أن للقصة غاية تهذيبية تجبره على تصوير الشر ولكن بشرط أن يرفق هذا التصوير بفكرة أدبية بالغة.
هذه هي آراء بعض كتاب القرن الماضي في القصة. أما كتاب هذا القرن أمثال بروست وجوليني وغيرهما فقد انصرفوا من مدة غير بعيدة إلى معالجة هذا الموضوع ولكنهم لم ينتهوا حتى اليوم إلى نقطة حاسمة.
رأي جديد في جان دارك
أصدر الكاتب المؤرخ جان جريمود مؤلفاً حديثاً بعنوان (هل أحرقوا جان دارك؟) أنكر فيه قداسة جان دارك معبودة الشعب الفرنسي وأولى بطلاته. وقد أحدث صدور هذا الكتاب ضجة في دوائر الأدب وبين أحبار الكنيسة الكاثوليكية الذين راحوا يناقشون مؤلفه
ويسفهون أقواله. يقول جان جريمود في كتابه أن الإنجليز لم يحرقوا عذراء أورليان في عام 1431 بل عفوا عنها وأطلقوا سراحها. وهو يستند في قوله هذا إلى ما يأتي: أولاً - أن جان دارك التي يقال عنها إنها ابنة لأبوين فقيرين هي في الحقيقة ابنة لدوق أورليان شقيق كارلوس السابع واليزابيث دي بافيرا وقد تبنتها أسرة أرك. ثانياً - أن الإنجليز لم يحرقوا جان دارك بل أحرقوا بدلها ساحرة محكومة بالإعدام. ثالثاً - أن جان دارك عادت إلى لورانا وتزوجت من شريف خامل الذكر يدعى روبرت دى ارمواز.
ومن الذين ردوا على جريمود الراهب اليسوعي دونكير الذي جعل حياته لدرس تاريخ جان دارك فقال إن كتاب جريمود مملوء بالأغلاط فضلاً عن خلوه من أية أدلة تاريخية. وفي رأي الكاتب لوسيان فابر، الذي ربح جائزة جونكور الأدبية، أن مطالعة كتاب جريمود مسلاة ولكن براهينه واهية لا تقع. ولكن جريمود يؤكد على أن البرهان على أصل جان دارك هو في شعارها الذي يحمل الزنبقتين وأكليل شعار العائلة المالكة، وأن الفرق الوحيد في الخط الذي يخترق الشعار للدلالة على أصلها. ومن قوله أيضاً أن جان دارك قابلت كارلوس السابع في قصر شينون وكشفت له عن أصلها، وأن الإنجليز الذين أسروها وحاكموها كانوا يعرفون جيداً من هي أسيرتهم، وأن جان دارك اختفت بصورة غامضة خلال خمس سنوات قضتها في إنكلترا، وأن المرأة التي أحرقت كانت ساحرة حكم عليها بالإعدام، وأنهم خلافاً لما جرت به العادة لم يسمحوا للجمهور بالاقتراب من المحرقة، وأنهم ستروا وجه الضحية بنقاب كثيف حتى لا تعرف. ومن الأدلة التي أوردها جريمود على صحة قوله أن جان دارك عادت إلى لورانا لتقترن بالشريف روبرت دي ارمواز في أرلون من أعمال لوشمبورغ، وإن وثيقة الزواج التي وقعها رئيس كهنة سانت تيبود في متز بتاريخ اليوم السابع من شهر نوفمبر عام 1436 تقول:(نحن روبرت دي ارمواز وجان عذراء فرنسا الخ) تثبت أقواله. ومما قاله أيضاً أنه سيخصص كل أيام حياته لاكتشاف وثائق جديدة من شأنها إماطة اللثام عن هذه القضية.
مذنب عام 1954
يقترب الآن من الشمس المذنب المدعو (بون - بروكس) وهو من المذنبات الساطعة المعدودة في الدرجة الخامسة من الإشراق. وستمكن رؤيته بالعين المجردة في طور اقترابه
الأخير ويكون موعد تدانيه الأقصى من الشمس في السابع والعشرين من شهر مارس سنة 1954.
وظهر هذا المذنب للمرة الأخيرة منذ زهاء السبعين عاماً في صيف 1883 - 1884 وكان يعد حينذاك في الدرجة الرابعة من الإشراق وظل بادياً للعيان مدى ثلاثة أشهر.
أما كاشف هذا المذنب فهو الفلكي الفرنسي جان لويس بون. وقد كشف في حياته من هذه الأجرام السماوية أكبر عدد تمكن من كشفه عالم واحد حتى اليوم، ويكفي أن نعلم أنه أعلن وجود 27 نجماً منها.
ولما عاد المذنب المذكور إلى الظهور عام 1883 كشف مركزه العالم و. ر. بروكس وهو كاشف عدة مذنبات أيضاً ولذلك نرى هذا المذنب يحمل اسم ذينك العالمين معاً.
دواء ذري جديد لأمراض القلب
في برقية من شيكاغو أن عدداً من أطباء أحد مستشفيات لوس أنجليس كشفوا دواء جديداً لأمراض القلب سموه (المقبل الذري). ويؤخذ من المعلومات التي أدلى بها هؤلاء الأطباء إلى زملائهم أعضاء الجمعية الطبية الأمريكية أن الدواء الجديد محلول من اليود محضر في فرن ذري يحول بهذه العملية إلى أشعة فعالة. ومن معلمات هؤلاء الأطباء أيضاً أن لليود في مثل هذه الحال مفعولاً في غدد العنق يؤدي إلى ارتخاء عام في أعضاء الجسم الرئيسية وهذا الارتخاء يقلل من ضغط الدورة الدموية فيرتاح القلب ولاسيمافي مرض الذبحة الصدرية.
كشف أمريكا والعرب
يؤكد الدكتور جفريس من أساتذة علم تاريخ الإنسان الطبيعي في جامعة فتزسرند، أن كولومبس لم يكشف أمريكا بل العرب هم الذين كشفوها بثلاثمائة أو أربعمائة سنة وأنهم دخلوها عن طريق أفريقيا الغربية حوالي عام 1100 ومن أدلة الدكتور جفريس على صحة هذا الرأي أن كولومبس عندما وصل إلى أمريكا وجد فيها مستعمرات صغيرة من الزنوج هم من سلالة العبيد الذين كانوا قد فروا من سادتهم العرب، كما أن وجود الجماجم في كهوف جزيرة باهماس يدعم هذا الرأي. ومن أدلته أيضاً أن كولومبس وجد في جزيرة
كاربباس زراعة القنب التي جيء بها من أفريقية، بينما الذرة والمنديوكا التي هي من مزروعات أميركا الخاصة كانت تزرع في العالم القديم قبل ولادة كولومبس. وهذا يدل على أن الذين نقلوا زراعة القنب إلى أمريكا نقلوا هذه المزروعات إلى بلادهم بما فيها الذرة التي كانت تدعى (الحنطة التركية).
كشف نقود عربية قديمة
من أخبار استوكهولم عاصمة أسوج أنهم عثروا في جزيرة غوتلندا الواقعة في بحر البلطيق على ألف ومائة قطعة من النقود العربية القديمة يعود تاريخها إلى القرن العاشر للتاريخ المسيحي. وجميع هذه النقود من الفضة، والكتابة في أربعمائة منها واضحة لم يؤثر فيها مرور الزمن. ولاعتقاد السائد هو أن تلك النقود العربية وصلت عن طريق روسيا إلى تلك الجزيرة الشمالية التي كانت في ذلك العصر مركزاً ممتازاً للتجارة والثقافة والمعاملات العالمية كافة في عهد قبائل الفنكس التي اشتهرت في ذلك الحين.
محاضرات ومناظرات
حياتنا الأدبية والفنية على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته
أحتشد بقاعة (يورت) بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة السابق آلاف من الناس لسماع هذه المحاضرة التي ألقاها الدكتور طه حسين، حتى ضاقت بهم القاعة على رحبها، وامتاز هذا الجمع الكبير بأنه كان يضم أكبر عدد يمكن أن يضمه جمع مثله من الصفوة المختارة من رجال الأدب والسياسة والتعليم، واستغرق الدكتور طه حسين في إلقائها ساعة كاملة وانتهى منها والناس تكاد أكفهم تدمى من التصفيق الملتهب، ويمكننا أن نلخص للقراء هذه المحاضرة فيما يأتي: -
أيها السادة:
أعترف لكم أنني تعرضت لكثير من الحيرة قبل أن أقدم على إلقاء هذه المحاضرة؛ فموضوعها غامض من جهة وشائك من جهة أخرى. غامض لأن العهد الجديد - وإن كان شيئاً نحسه ونعرفه ونلمسه - فإن فلسفته لم تكتب بعد ولم تؤلف فيه الأسفار ولم تصنف له الكتب، وأنا - كغيري من الرجال الجامعيين - رجل ينبغي عليه أن يقرأ وأن يرجع إلى الكتب وأن يحيط بالموضوع قبل أن يهم بالحديث أو الكتابة.
وهو شائك لأنه قد ينتهي إلى مواطن لا يؤمن فيها الزلل؛ فأحاديث العهد الجديد - كأحاديث العهد القديم - إذا اتصلت بالسياسة فربما جرت إلى الزلل أو إلى ما هو أكثر من الزلل!
ولكنني اعتمدت على الله - الذي أعتمد عليه دائماً في كل أمر - وجئت للتحدث إليكم وأمري وأمركم إلى الله!
وأول ما ينبغي أن نلاحظه هو حال الأدب قبل العهد الجديد، كيف كان؟ ومم كان يشكو؟ وبماذا كان الأدباء يضيقون؟ والملاحظة اليسيرة تدلنا على أن أول مظهر من مظاهر الأدب قبل أن تشب نار الثورة إنما هو (الخوف) الذي كان يملك على الأدباء أمرهم ويضطرهم إلى كثير من الجهد والحيلة والمناورة والمداورة ليقولوا - ما يريدون أن يقولوه - دون أن يتعرضوا لبطش السلطان وتضييق الرقابة، سواء أكانت هذه الرقابة سافرة عند قيام الأحكام العرفية أو مستخفية كتلك التي كانت تفرضها (النيابة) حين تكون الأحكام العرفية نائمة!
ولا أدري هل كنتم تحسون ذلك الخوف أم لا؟ وإن كان أغلب الظن أنكم كنتم تحسونه
وتلحظونه من بين ثنايا ما تقرءون، أما أنا فإني أتحدث إليكم عن علم ويقين؛ ذلك أني كنت أحد الأدباء الذين امتحنوا في العهد القديم، فقد تحدثت خلاله وكتبت أكثر مما تحدثت وكتبت خلال العهد الجديد، وأؤكد لكم أنني لم أكن أفرغ يوماً أو ليلة لكتاب أو حديث دون أن أتشعر غضب السلطان علي وبطشه بي إذا كان الغد! والأدباء - والحمد لله - بارعون مكرة مهرة في اصطناع الحيلة للتخلص من بطش السلطان، بل للعبث بعقل السلطان! فهم يلتمسون من طرق الرمز ومن التواء التعبير ومن فنون المناورات والمداورات فيما يكتبون وفيما يقولون ما يورط المراقبين في ألوان من الارتباك لا حد لها!. ولقد كنت في أوربا يوما مع الكاتب الكبير (أندريه جيد) فجاءتنا صحيفة تعلن أن إسماعيل صدقي - في محاربته للشيوعية - قد استطرد فسن قوانين لعقاب الذين يدعون للعدل الاجتماعي ويطلبون الحرية للناس، فضقنا بذلك أشد الضيق، وكتمت في نفسي غيظاً بالغاً، وأضمرت عزماً على مقاومة هذه القوانين، فلما عدت إلى مصر - والرقابة في أوج طغيانها - لم أجد أيسر أو أبسط في مقاومة تلك القوانين من أن الجأ إلى آيات من القرآن الكريم تدعو إلى العدل بين الناس، وتنادي بحقهم الطبيعي في الحرية والكرامة، فأجعلها موضوعاً لكلماتي، فإن استطاع إسماعيل صدقي عن يصادر القرآن الكريم فقد ورط نفسه ووقع في حرج شديد، وإن لم يسطع قرء المقال وسمعت الدعوة إلى العدل الاجتماعي والحرية!
ولم أكن منفرداً بهذا المكر والاحتيال بل كان الأدباء جميعهم كذلك، وكان بينهم وبين (النيابة) حرب متصلة، وكانوا يقهرون (النيابة) في أكثر الأحيان بما يحذقون من مكر واحتيال!
وهذا أمر - وإن نجا الأدباء من عقابيله - فقد كان يفسد على الأدباء تفكيرهم ويجعلهم منغصين دائماً، فليس من الطبيعي ألا تفكر وألا تكتب إلا وأنت تعلم أن ورائك رقيباً يحاسبك ويؤاخذك ويستطيع أن يجرك إلى ما لا تحمد عقباه!
تلك كانت الظاهرة الأولى من ظواهر الأدب قبل العهد الجديد، وأما الظاهرة الأخرى فهي ظاهرة (الرغبة). وأنتم تعلمون أن في الناس ضعافاً لا يقدرون على المقاومة، وإن قدروا يوماً فلن يستطيعوا المضي في المقاومة والثبات على متاعبها ومصاعبها، وأن فيهم الكثيرين ممن يستهويهم الإغراء وتستذلهم المنفعة. وحياة الأدباء - كما تعلمون - معرضة
لكثير من الضيق والعنت والإقلال، فما أيسر أن يضعف البعض منهم أمام مظاهر الإغراء وملحاته فيضعوا أدبهم موضع التجارة والمساومة، والأدب الذي ينتهي إلى تلك الخسة والمهانة شر ليس وراءه شر، وفساد للذوق وللخلق وللنفس، وليته فساد يقف عند حد منشئه ولكنه يتجاوزه إلى قرائه وقد يكونون آلافاً من الناس القليل منهم من يفطن للفساد أو لا يضعف أمامه.
ولقد حدثني الأستاذ مصطفى عبد الرزاق رحمه الله أن كاتباً من الكتاب كان له راتب معلوم كل شهر من المصروفات السرية، فإذا جرى عليه هذا الراتب في ميقاته المضروب سكت عن كل معارضة، وصمت عن كل قول يغضب له الإنجليز أو الوزراء الذين يصانعون الإنجليز. أما إذا تأخر هذا الراتب عن ميعاده المضروب عارض وثار وكتب - وكان سعد في المنفى - يطالب بعودة (سعد) من منفاه، فتنتبه إليه السلطة وترسل إليه راتبه فينسى سعداً إلى أن يدور الشهر فيعود فيذكر سعداً.
وهكذا دواليك!. . . هاتان هما الظاهرتان الملحوظتان - في وضوح كثير - على أدبنا قبل العهد الجديد، وإذا كنت قد فهمت أحاديث قائد الثورة وخطبه وبياناته - وما أشك في أني فهمتها لأنه لا يحسن المداورة ولا يعرف المصانعة ولا يخشى رقيباً! - فأظن أن أول مظهر لفلسفته إنما هو تحرير المصريين جميعاً من الطغيان وهو إذا حرر المصريين من الطغيان فقد حرر أدب المصريين من الخوف ومن الرغبة ومن كل أعقاب الطغيان، وقد بدأ في ذلك موفقاً من غير شك.
فالذين يظنون أن الثورة لم تهد - بعد - إلى الأدب شيئاً مخطئون، فقد أهدت الثورة إلى الأدب أن أتاحت له أن يظهر جلياً صريحاً سافراً لا يلتوي ولا يداور ولا يحتال ولا يخشى عنتاً أو بطشا.
لقد كان أدبنا تصويراً للبؤس والحرمان والشقاء والظلم الذي كانت الأمة ترسف في أغلاله، كان مرآة للظلام الحالك الذي كانت تحيا فيه الأمة، والمرآة في الظلام لا تكاد تعكس شيئاً فكنا نفر من هذا الظلام إلى غير مصر، كنا نبعد في الزمان ونبعد في المكان فنتكلم في التاريخ القديم وفي الأمم القديمة والمعاصرة لنسلي أنفسنا وقراءنا عما نحن فيه من البأساء والضراء.
ولكننا اليوم وبعد اليوم سنقبل على حياتنا راغبين في تصويرها مطمئنين إليها واجدين فيها ألواناً من الأدب وفنونا من القول لم نعرفها من قبل. . ولكن هذا ليس كل ما ننتظره من الثورة، فالأدب والفن أزهار لا يمكن أن توجد أو تزدهر في بلد كثرته جاهلة وقلته متعلمة تعليماً ليس خيراً من الجهل إلا قليلاً! وما هو الأدب في حقيقة الأمر؟ وما هو الفن؟ الأدب والفن هما تفكير وتعبير وكتابة أو قول، ثم آذن تسمع أو عيون تقرأن وقلوب تعي، وشعور يحس ويتأثر، وأذواق تذوق فتشعر بالمتعة والجمال. . . هذا هو الأدب وهذا هو الفن، فإذا وجدت القلة التي تفكر وتعبر وتكتب وتتحدث وتذيع ثم لم توجد الكثرة التي تسمع لها أو تتذوق منها، فإن تلك القلة تكون أشبه شيء بالزهرات التي تظهر فجأة في الصحراء أعقاب الغيث ثم لا تلبث أن تمسها الشمس وتلح عليها فيصيبها الذبول والضمور والزوال. . . فلا تريحوا أنفسكم ولا تريحوا حكامكم ولا تريحوا ثورتكم حتى يصبح التعليم ماء وهواء وحتى يصل إلى الناس في قراهم ومدنهم دون أن يجدوا مشقة أو يلقوا عناء. ولا تصدقوا أن انتشار التعليم - بجميع مراحله - شراً إلا على الذين يؤثرون أنفسهم بالخير دون الناس، أولئك الذين يريدون أن يسودوا ليتخذوا الناس عبيداً!
الإصلاح أقوى دعاية
في قاعة المحاضرات بدار جمعية الشبان المسلمين اجتمع - يوم السبت الأسبق - عدد كبير من صفوة رجال العلم والفكر لسماع هذه المحاضرة التي ألقاها الأستاذ محمد فؤاد جلال وزير الإرشاد القومي، والتي اقتطع الأستاذ لإلقائها ساعة ونصف من اجتماع مجلس الوزراء الذي كان منعقداً في نفس الوقت. وكانت نبرات الأستاذ المحاضر ونغماته - ونغمة الصوت كما يقولون نصف اللغة - تدل على ما في نفس الرجل من رغبة مكينة في الإصلاح الشامل السريع، وعقب عليه - كشأنه دائماً - الدكتور منصور فهمي فكان تعقيباً فيضاً من الثناء أسبغه على المحاضر، والمحاضر ينطوي على نفسه حياء وخجلاً! ونلخص المحاضرة بما يأتي: -
عندما نتكلم عن (الإصلاح) فإنما نتكلم عن شيء فكر فيه الجميع وعالجه الجميع واتفق عليه الناس جميعاً. فكلنا يعتقد بضرورة (الإصلاح)، الفلاح والعامل والموظف والسياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرهم، ولكل من هؤلاء أسلوبه الخاص وهدفه الذي يسعى إليه.
وتلك الأساليب والأهداف هي - دون سواها - ما يختلف الناس عليه حين يتكلمون في الإصلاح.
والإصلاح هو أن ترى في يومك خيراً مما رأيت في أمسك، وأن تجد في غدك أحسن مما وجدت في يومك، أي أن تتجه إلى الأمام دائماً دون وقوف أو رجوع إلى الوراء.
ولكن: كيف نقوم بهذا الإصلاح؟ وكيف نحققه في حياتنا الواقعية؟ إن الإصلاح يجب - ابتداء - أن تكون له في أذهاننا صورة واضحة كاملة حتى يمكن أن نتجه إلى شيء له كيان قائم ومعالم معروفة، وتلك أولى الخطوات في كل إصلاح بل في كل عمل، فإن الأفكار إذا لم تتضح جلياً قبل تنفيذها بحيث تعرف لنا دقائقها وتفصيلاتها فهيهات أن نستطيع تحقيقها. والإصلاح ينصب على حياة الناس من كافة جوانبها وزواياها، ولن ينهض إنسان إذا قام منه جانب ومال جانب، فإن الجانب المائل يشد إليه الجانب الذي سمق وارتفع فإذا بهما منحدران معاً إلى منحدرهما القديم؟
والإصلاح لا يقف عند حد، فما دامت الحياة فهناك إصلاح منشود، والإنسان طموح دائماً ولن يقف طموحه إلا بوقوف نبضات قلبه! والمصلحون هم نحن أنفسنا دون سوانا، ولن يصل أحد إلى دخائل نفس الإنسان سوى نفسه، والفرد هو الوحدة المتكررة التي يتكون منها المجتمع، فيجب أن يتجه الإصلاح أول ما يتجه إلى عقله وذهنه وسلوكه وبهذا نخلق الوعي بين المواطنين فيصبح طريق الإصلاح ممهداً ويقل ما ننفق في الإصلاح من جهد وننتفع بما ننفق أكبر انتفاع.
علي متولي صلاح
أخبار أدبية وعلمية
مؤتمر إسلامي في القاهرة
كانت الرسالة أول من دعا إلى عقد مؤتمر إسلامي بينت الدواعي إليه ورسمت الخطة له وأوضحت الغرض منه في مقال افتتاحي بعنوان (لابد للإسلام من مؤتمر).
وقد فكر الأزهر اليوم في الدعوة لهذا المؤتمر فقابل وكيله هو والمرشد العام للإخوان الرئيس القائد محمد نجيب وعرضا عليه فكرة عقد مؤتمر إسلامي للشعوب الإسلامية بالقاهرة وأوضحا الأهداف التي ستتناولها أعمال المؤتمر.
وقد تلقت مشيخة الأزهر من رئاسة مجلس الوزراء أن الحكومة لا تمانع في عقد هذا المؤتمر وأنها ترحب به وأنها ستقدم كل التسهيلات للمشتركين في هذا المؤتمر الشعبي الإسلامي.
وقد استقر الرأي على أن يوجه الدعوة إلى زعماء المسلمين والهيئات الدينية في البلاد لحضور المؤتمر فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر.
وقد ألفت لجنة لتنظيم أعمال المؤتمر تضم ممثلين من مختلف الهيئات الإسلامية في مصر.
والمؤتمر سيبحث بصفة عامة أحوال المسلمين في جميع البلاد وتقوية أواصر المودة بينهم والعمل على ضم صفوفهم.
وكان معروفاً من قبل أن المؤتمر سيبدأ جلساته في شهر مارس المقبل، ولكن لضيق الوقت رئي عدم تحديد موعد جلسات المؤتمر الآن حتى تتم الوسائل الخاصة به وعندئذ يكون من السهل تحديد موعد اجتماعه.
كتاب الروضة الغناء في أصول الغناء
عثر الأستاذ عثمان الكعاك حافظ المكتبة العمومية بتونس على كتاب نفيس نادر من آثار الأندلس القيمة هو كتاب (الروضة الغناء في أصول الغناء) وهو كتاب في علم الموسيقى وأصولها ينتهي فيه المؤلف بعد تحليل كل صوت من الأصوات وذكر فروعها بإيراد الأزجال والموشحات الملحنة في ذلك الصوت والتي كان يتغنى بها في عصور الأندلس الزاهرة.
خريطة القمر
نشرت جريدة فلكية أول خريطة شاملة تنشر في العالم للقمر، ويقول العالم الذي علق على هذه الخريطة أنه لابد أن يكون في القمر سهل فسيح الأرجاء يغطي جزءاً كبيراً من المنطقة التي يمكن أن تسمى بالشمالية من هذا الكوكب السيار، أما الجنوب ففيه أودية عميقة وجبال عالية تؤلف قممها الشكل الذي يبدو عليه سطح القمر وكأنه وجه إنسان، وقد استغرق العمل في إعداد هذه الخريطة 14 سنة، وقد صنع الأصل على شكل كروي قطره خمسة أمتار.
والمعروف أن أكثر هذه الخرائط يعتمد على الصور التي تلتقط للقمر في أوقات شتى بواسطة المناظير المقربة (التلسكوب).
جامعة عائمة يقترحها أغا خان
كتبت الصحيفة الباكستانية (كريتيك) أن أغا خان سيطالب في المستقبل القريب بتمويل (جامعة إسلامية عائمة) تنشأ على ظهر باخرة تجوب موانئ الشرق الأوسط حتى يستطيع الطلاب على علمي الاقتصاد والصناعة دراسة مشاكل الأمم الإسلامية المختلفة.
وقد قدم هذه الفكرة من خلال الأستاذ جلال حسين. وقد عرضت مؤسسة فورد أن تدفع لهذه الجامعة مثل ما يدفع أغا خان. . .
سكان العالم يتضاعفون بعد 70 سنة
تقول آخر إحصائيات الأمم المتحدة أن سكان العالم سيتضاعفون خلال سبعين سنة إذا بقيت نسبة ازدياد السكان الحالية محافظة على مستواها، وبذلك سيصبح سكان العالم بعد هذه المدة 5 مليارات و200 مليون تقريباً لأن عدد سكان العالم في الوقت الحاضر يقدر بحوالي مليارين و700 مليون.
تمثال مصري عمره 4000 سنة
حصل المتحف الملكي في اسكتلندا على تمثال نصفي مصري قديم منحوت من حجر ذي لون قرمزي يرجع تاريخه إلى أربعة آلاف عام، وقد يكون منحوتاً من الجرانيت الوردي المعروف، وقد وصف بأنه مثال بديع لفن النحت في عهد المملكة الفرعونية الوسطى.
ويغلب الظن أن هذه الآثار من مخلفات الموظفين البريطانيين السابقين في مصر.
خبراء المطر الصناعي يقومون بتجارب في صحراء مصر
يؤخذ من نبأ ورد من نيقوسيا أن خبراء المعونة الأمريكية سيجرون تجارب لإنزال المطر الصناعي في صحراء مصر الغربية لإنشاء مناطق لزراعة الفاكهة واستنبات المراعي. وسيعمل الخبراء على تكوين سحب متجمعة فوق المناطق الساحلية تتجه نحو الصحراء ثم تنزل عليها المطر.
نقل الروائع العربية إلى اللغات الأوربية
تتابع اليونسكو إصدار سلسلة الروائع الإنسانية المترجمة، وكانت قد أنشأت بالاتفاق مع الحكومة اللبنانية لجنة دولية في بيروت تتولى اختيار هذه الروائع وتشرف على ترجمتها من العربية وإليها رغبة في ربط حضارات الشرق والغرب. وقد وقع اختيار هذه اللجنة على - كتاب - الإشارات والتنبيهات لابن سينا، وكتاب - البخلاء - للجاحظ - فتولت نقلهما إلى اللغة الفرنسية على أن يترجما فيما بعد إلى الإنكليزية والإسبانية، وأصدرت أخيراً حلقة ثالثة هي كتاب - أيها الولد - للغزالي.
الوصول إلى القمر في صاروخ
صرح أربعة من كبار الفلكيين في مجلة (نيوز آند وورلد ريبورت) الأمريكية بأنه قد يكون في الإمكان الوصول إلى القمر في صاروخ بنفقات هائلة. . ولكن الرجال الذين يكونون في داخل الصاروخ قد لا يستطيعون البقاء على قيد الحياة حتى تنتهي الرحلة. ولا حظوا أن الإنسان يحتاج للخروج من نطاق الطبقات الجوية المحيطة بالأرض إلى سرعة تبلغ سبعة أميال في الثانية. وأن الرحلة تستغرق إلى القمر قرابة عشر ساعات، وإلى المريخ سبعين يوماً. وإن الرحالة يحتاج في الفضاء الكوني إلى رداء خاصللتجول في أنحاء القمر، ومع ذلك فقد يتجمد حتى الموت أو تصدمه ذرة كونية سريعة قد تقتله لكنه لن يسمع صوتاً فوق القمر وقد لا يجد زرعاً.
المسلمون في بريطانيا
جاء في الإحصاءات الرسمية إن المسلمين أصبحوا أكبر جالية أجنبية في بريطانيا، ويقدر عدد المسلمين الباكستانيين وحدهم بنحو خمسين ألفاً. والمسلمون منتشرون في لندن ومعظم
المدن الكبيرة والموانئ ولكن أكثر الأماكن ازدحاماً بهم برمنجهام وكوفتتري التي هدمتها القنابل الألمانية خلال الحرب الأخيرة، ويليها في ذلك كارديف وجنوب ويلز. ثم مانشستر وليفربول وجلاسكو.
ويؤلف المسلمون في برمنجهام وكوفتتري مجتمعاً صناعياً هاماً وكثيرون منهم قاموا برحلات كثيرة في العالم قبل أن يستقروا في هذه المنطقة، والبالغون فيهم نحو سبعة آلاف، وأما المسلمون في كارديف فهم من بلاد شتى على الرغم من تآلفهم واتحادهم، فهم من الأردن وفلسطين ومصر وسوريا والمملكة السعودية والعراق وعدن والصومال والحبشة وشمال أفريقية وزنجبار.
ولمصر 737 طالباً في إنجلترا ويليها في ذلك إيران بسبعمائة طالب، أما الباكستان فلها 980 طالباً.
وللمسلمين في إنجلترا أربعة مساجد أعظمها مسجد (شاه جيهان) في ووكنج بمقاطعة صري، أما المساجد الثلاثة الأخرى فهي في كرديف (في ويلز) وايست أند بلندن، وسجد الأحمدية في بوتني بلندن أيضاً، وسوف ينشأ مسجد خامس كبير في حدائق المركز الإسلامي بريجنت بارك بلندن، وهذا غير 12 مصلى في بيوت إسلامية أخرى، أما المسجد الجديد فإن نفقاته لا تقل عن150 ألف جنيه تبرعت الحكومة بأرضه وتبرع نظام حيدر آباد بخمسين ألف جنيه له وجمعت له اكتتابات بلغت 150 ألفاً.
مؤتمر للشعر
سيعقد في مدينة بروكسل مؤتمر هو الأول من نوعه للشعر والشعراء؛ وقد دعي إلى الاشتراك فيه فحول الشعراء في العالم وذلك لمعالجة مشكلات فن الشعر وانحطاط قيمته الجوهرية عقب الحرب.
وسيقام المؤتمر برعاية رئيس وزراء بلجيكا وتحت إشراف هيئة اليونسكو ونادي القلم الدولي والمجمع العلمي في بروكسل. وسيمثل أدباء العروبة في هذا المؤتمر الشاعر رياض معلوف.
الإسلام في أفريقيا
نشرت صحيفة (فيدس) التي تذيع أنباء الفاتيكان الرسمية أن عدد الذين اعتنقوا الدين الإسلامي في أواسط أفريقيا وشرقها وغربها ضعف الذين اعتنقوا المذهب الكاثوليكي.
وقد أصبحت مجموعات من القرى في بعض أنحاء شرق أفريقيا البريطاني إسلامية بعد أن كانت وثنية منذ عشر سنين.
ويقال إن عدد المسلمين 80 مليوناً والكاثوليك 15 مليوناً من مجموع سكان أفريقيا وهم 200 مليوناً و174 ألف نسمة.
وتقول (فيدس) إن الأسباب التي أدت إلى انتشار الدين الإسلامي هي سهولته ويسره وميزته في ذلك كله على تعاليم الوثنية ومطالبها وشعور معتنقيه بأنه أحد أبناء دين من أعظم أديان العالم واقتناعه أنه ارتقى من الناحية الاجتماعية عما كان قبل اعتناقه.
وتتوقع (فيدس) أن يزداد انتشار الإسلام في إفريقيا بسرة أشد مما هي عليه في الوقت الحاضر.
طلاب الشرق في الجامعات البريطانية
يؤخذ من إحصاء نشره المجلس البريطاني في لندن أن عدد الأشخاص الذين يتلقون العلم بالجامعات البريطانية على نفقة المجلس بلغ في السنة الدراسية الحالية 161 طالباً قدموا من ستة وخمسين دولة. وهؤلاء الطلاب من ذوي المؤهلات الجامعية ممن حصلوا على درجات عالية في الدراسات التي تنظمها فروع المجلس المختلفة خارج بريطانيا. ومن بين هؤلاء طلاب من مصر والأردن وإيران.
مبيد للمكروبات جديد
أضيفت حلقة جديدة لسلسلة العقاقير المبيدة للمكروبات باكتشاف البوليميسيين (ب) وهو على رأي طائفة من الأطباء الأمريكيين جدير بالقضاء على مجموعة من الأمراض المعدية التي تتحدى منذ طويل جهود علم الطب.
والفرق بين البوليميسين (ب) والتراميسين أن التراميسين فعال الأثر في عدد كبير من الأمراض بينما العقار الجديد قليل الشهية للجراثيم، ولكنه يختص بمجموعة معينة من الجراثيم خصوصاً ما هو معروف منها باسم يوجد طبيعياً في أمعاء الإنسان ولكنه لا
يستشري إلا إذا ضعفت مقاومة الشخص أو انعدمت كما أثبت الدكتور إرنست زانتز فائدته في علاج (الزحار) الديسنطاريا الباسيلية المزمنة وبعض أمراض الأطفال.
في عالم الكتب: نقد وتعريف
ضرب الكليم
ديوان شعر لشاعر الشرق والإسلام الدكتور محمد إقبال رحمه
الله
تعريب الدكتور عبد الوهاب عزام
للأستاذ مسعود الندوي
بين يدي الآن، ديوان (ضرب الكليم) الذي قام بتعريبه الأديب الألمعي والشاعر المفلق، صديقنا الأجل الدكتور عبد الوهاب عزام، أتصفح أوراقه وأسرح النظر في مرعاه؛ والذاكرة تستعيد بيت (إقبال) الذي شكا فيه عدم انتشار شعره بين الناطقين بالضاد:
لو أن من به عجم آتش كني أفروخت
…
عرب زنغمة شوقم بنوزبي خبراست
(لقد أذكى شعري الجذوة الخامدة في بلاد العجم؛ لكن العرب لا تزال تجهل ما أبثه من تباريح الشوق والوجد) قال ذلك (إقبال) قبل نيف وعشرين سنة، حينما كانت مصر والأقطار العربية مفتتنة بأدب (تاغور) وشعره، ولا تكاد تلتفت إلى شعر (إقبال) وحكمته الخالدة المستفيضة من معين الكتاب والسنة، لما استولى عليها يومئذ من نزعات الوطنية المتطرفة. ولو عاش شاعرنا إلى هذا اليوم، لشاهد بعينيه أنه قد تبدلت الأرض غير الأرض، وقد هب القوم يستعيدون مجدهم العربي ويحلمون باسترداد عزهم الإسلامي الخالد، وذلك بفضل دعوة (الأخوان المسلمين) ورجالها العاملين المخلصين الذين حطموا قيود الفرعونية وفكوا أغلال الإقليمية والعنصرية وقاموا في الأمة ينادون باسم الإسلام، يحيون له ويموتون في سبيله. وهذا ما كان يدعوا إليه (محمد إقبال) الشاعر الحكيم بشعره الرصين البليغ الممتلئ حكمة وإيماناً. فما أحسن هذه الفرصة وما أوفق هذه الظروف الملائمة لترجمة (شعر إقبال) وعرضه على قراء العربية.
ومن أجل هذا وذاك كان سرورنا عظيماً إذ تصدى صديقنا النابغة الدكتور عبد الوهاب عزام لهذا العمل الجليل؛ ولعمري هو خير من كان يمكن أن يقوم بهذا الواجب الخطير في
باكستان والبلاد العربية كلها، إذ لا يتأتى لكاتب أو شاعر باكستاني أن يفزع إلى شعر إقبال البليغ في قالب من العربية فصيح تبقى عليه مسحة من بلاغة (إقبال) وروائه: وقد جرب ذلك كاتب هذه السطور غير مرة فلم يكتب له النجاح. وكذلك لا يوجد في أدباء العرب وشعرائهم - فيما أعرف - من يعرف اللغات التركية والفارسية والإنكليزية حق المعرفة، وله اطلاع لا بأس به على الأدب الأردي، مثل الدكتور عبد الوهاب عزام. فإنه أحاط بمؤهلات الموضوع من جميع أطرافها. أقول في أدباء العرب وشعرائهم، وذلك بعد تتبع الأدب العربي الحديث منذ خمس وعشرين سنة. وجملة القول أن الدكتور عبد الوهاب هو خير من كان يمكن أن يعنى بتعريب شعر لإقبال ودواوينه بالفارسية والأردية. ومن حسن حظنا وحسن حظ الأدب والعلم أن انتدب لتمثيل أرض الكنانة في بلاد (باكستان) فلم تحظ بلادنا في الست سنين الماضية من استقلالها بسفير أو ممثل سياسي وافق طبيعة الباكستانيين وأذواقهم مثل الدكتور عزام، غير الأستاذ الأديب عمر بهاء الأميري وزير سوريا المفوض سابقاً، فإنه أيضاً استأنس به أهل هذه البلاد كما يستأنس أخ بأخيه، وذلك لحميته الدينية ونشاطه المحمود في حقول الأدب والاجتماع.
وبعد، فقد جلست الآن أمام منضدتي لكتابة كلمة أعرف بها ترجمة (ضرب الكليم) العربية إلى القراء وأنوه بالنجاح الباهر الذي أحرزه العرب في هذا المجهود الأدبي المشكور، لكن الحديث ذو شجون والقلم قد اشتطت به الأفكار، فمعذرة إلى القراء.
هذا الديوان يحتوي على 130 صفحة من القطع المتوسط (علاوة على المقدمة وكلمة التعريف). وفي أولها مقدمة (ومدخل) للمعرب بين فيه منهاجه في التعريب وعرف بفلسفة (إقبال) والقطب الذي تدور عليه رحى كلامه، حتى يسهل للقارئ، التفطن إلى دقائق تعاليمه وحكمه. وأيضاً شكر المعرب في المقدمة الذين ساعدوه على فهم شعر (إقبال) من أصدقائه في (كراتشي) عاصمة باكستان. ثم تتلوها كلمة لكاتب من كتاب باكستان ليشرح بها فلسفة (إقبال) وتعاليمه. والكلمة في الأصل مكتوبة بالأردية، عني بتعريبها أو بتعريب (الجزء الأكبر منها) صديقنا الدكتور السيد محمد يوسف الهندي، نزيل القاهرة - ولكني لم أجد مسوغاً لتحلية جيد هذه الحسناء بهذه القلادة الشوهاء - وكان من الميسور أن يجد المعرب في العاصمة رجالاً لهم معرفة دقيقة بفلسفة (إقبال) ويقدرون إن يشرحوها أحسن
شرح بالعربية نفسها.
وهذا الديوان لباب تعاليم (إقبال) وحكمته، جادت به قريحته، وهو في المرحلة الأخيرة من مراحل حياته، وقد نضجت أفكاره وبلغت حكمته وفلسفته قمة العلو والكمال، إلى أن جعل ينشرها درراً منظومة وغير منظومة. فقد سمى هذا الشعر المبثوث في هذا الديوان (ضرب الكليم) أو إعلان الحرب على العصر الحاضر. ومن أجل ذلك، يعد هذا الديوان خير شيء لمن أراد الاطلاع على فكرة (إقبال) ونظريته في الحياة ومشاكلها ومسائلها المتنوعة المتشعبة.
أما هل نجح المعرب في إبراز محاسن شعر إقبال في حلة قشيبة من لغة الضاد، حتى يتأثر بها قراء العربية والناطقون بها، فهذا سؤال يصعب الجواب عليه بسهولة. فإن الترجمة - مهما أوتي المترجم من قوة الأداء وملكة البيان - قد تذهب في أكثر الأحيان برواء الأصل وبهائه في الشعر. والذي يقدر على أن يبقى على طلاوة الأصل وما له من تأثير بعد الترجمة، فلا شك أنه ممن بلغ قمة الإعجاز وارتفع فوق المستوى البشري المعتاد في الأداء وقوة البيان. هذا في الشعر. أما في النثر، فله شأن آخر، وفيه متسع للقول. وإذا نظرنا من هذه الوجهة إلى ديوان (ضرب الكليم) المعرب، رأينا أن المعرب قد نجح في مسعاه وأدى إلى قراء العربية معاني شعر (إقبال) السامية بدقة وبأمانة وبأسلوب عربي نقي، قلما نظفر بمثله عند جمهرة الكتاب. وذلك أقصى ما يقدر عليه كاتب وشاعر مهما كان من قدرته البيانية ولكته الأدبية. والمعرب الفاضل يستحق أجمل الثناء وأسنى كلمات الشكر من جميع المولعين بإقبال والمفتتنين بشعره.
والكتاب مطبوع طبعاً أنيقاً على ورق جيد، عنيت بنشره جماعة الأزهر للنشر والتأليف، إلا أننا ما رأينا وجهاً لإدخال أداة التعريف على (باكستان) في (سفير مصر لدى الباكستان) فإنه خطأ شائع، ينبغي تجنبه. والدكتور عزام قد استعمل الكلمة (باكستان) مجردة عن لام التعريف في المقدمة مراراً فلعل هذه الزيادة ممن تولى الطبع والنشر. وعلى كل، فلجماعة الأزهر للنشر والتأليف، شكري وتقديري وتحياتي.
مسعود الندوي
شاعر الشعب
تأليف الدكتور سامي الدهان
للسيدة وداد سكاكيني
تقتدي بعض دور النشر في مصر والبلاد العربية بما تصنع أمثالها في الغرب فإن ناشري الكتب يدأبون على إصدار سلاسل شهرية أو أسبوعية تشتمل على كل شائق وطريف يتعلق بالفكر والثقافة، فلما ظهرت سلسلة (اقرأ) ذكرت من فوري سلسلة (لو) الفرنسية، وقد استبشرنا الخير بظهور سلسلتنا العربية وفرحنا بالحلقات الذهبية التي ضمتها إذ شعت نوراً وجمالاً، ثم لم نلبث أن رأينا فيها حلقات من معادن لا يجوز أن تسلك مع الذهب في نظام واحد، فما كان في الدهر عقد ذهبي يجمع حلقات من نحاس أو قصدير.
فمن هذه الحلقات كتاب (شاعر الشعب) لمؤلفه الدكتور سامي الدهان؛ تناولته وأنا أحسبه دراسة أدبية مبسطة أو بحثاً مقرباً، وإذا به موضوع لا يرقى إلى الموضوعات المدرسية المنظمة، وقد سماه المؤلف شاعر الشعب ليستهوي الجمهور ببراعة العنوان دون أن يدل على المقصود، فمن هو شاعر الشعب؟ وأي شعب أراد المؤلف في ظاهر الكتاب؟
أما باطنه فهو يعنى بالكلام عن شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي ملأ صيته الشرق، وليس بحاجة إلى دراسة خفيفة أو بحث مرتجل، فرجل الشارع بمصر والبلاد العربية سمع بحافظ إبراهيم، فما بالك بالمتعلمين والمثقفين؟ وإنما يعوز حافظ إبراهيم اليوم أن يتصدى لدراسته من يستطيع تحليل شعره وعصره وبحث حياته ووطنيته من شتى نواحيها متعمقاً فيها، مستغرقاً أطرافها وخوافيها.
ويبدو أن المؤلف الفاضل آثر الراحة ورضى الجمهور والناشر فقد بات أكثر أدبنا بضاعة مزجاة خاضعة لقانون العرض والطلب في عالم الاقتصاد، فلملم الدكتور الدهان أصول كتابه وفصوله من ديوان حافظ إبراهيم الذي نشرته وزارة المعارف المصرية سنة 1937 وشارك في جمع شعره وشرحه وتنسيقه الأساتذة الثقات أحمد أمين وإبراهيم الأبياري والمرحوم زين.
وقد كتب المقدمة الشاملة العالم البحاثة أحمد أمين فكان من أغرب ما صنع المؤلف أن أهمل ذكر هذا المصدر الفياض الذي استقى منه آمناً مطمئناً غير حاسب أي حساب
للمطلعين المتتبعين، وكان يهون الأمر لو أن هذا المصدر لغابرين مغمورين، لكنه لمعاصرين مشهورين، وكانت أمانة العلم تقتضيه ألا يغفل ذكر كاتب المقدمة الذي كفاه عناء البحث والتنقيب.
وفي هذا المؤلف الصغير ناقض الدكتور الدهان نفسه كثيراً، فمرة يقول في أمر إيجاباً ثم يقول في هذا الأمر سلباً ونفياً، فمن أمثال هذا قوله إن حافظاً لم يتلق ثقافة عميقة واسعة ولا دراسة منظمة ثم يشيد في مكان آخر بوعي حافظ ومعرفته منساقاً مع المعجبين بثقافته، فيقول (ولا يخطئ الدارس حين يرى في مجلس الإمام، مدرسة عالية أو جامعة ثقافية يتخرج فيها الطالب كما يتخرج في الجامعة سواء بسواء. ولا حرج إذا وجدنا في صلة حافظ بهذه الدروس والمجالس صلة الطالب بالجامعة فقد أخذ بها حافظ وعب من منابعها فكان في دار الإمام يتلقى اللغة والحكمة ويقرأ الشرح في المنار ويتمرس بالشعر والوطنية).
ثم يسرد المؤلف أقوال صحب حافظ من أمثال البشري وبركات ومطران والعقاد وطه حسين حتى يملأ صفحات كتابه من هذه الأقوال دون تحليل لها أو تعليل لما جاء فيها. والأصل في الاستشهاد بالدراسات الأدبية أن يستنبط منه الباحث الحكم والدليل، ولكن الدكتور الدهان روى الأقوال ونقلها ليزيد في عدد الصفحات.
ومن التناقض في الحقائق التي سردها المؤلف قوله إن حافظاً أجاد شعره في شبابه ونظم أحسن قصيدة وهو في الرابعة والعشرين؛ ثم ذكر بعد صفحتين (هذا بعض شعره وقد جاوز الخامسة والعشرين طبعه بطابع القدماء وليس فيه إلا تهويل وتزويق، ولا براعة تشع منه ولا اختراع).
ومرة يجد المؤلف مجال القول ذا سعة في الكلام على حافظ من ناحية معينة ومرة لا يتجاوز الصفحتين حيث ينبغي التفصيل والتعليل، وذلك حسب نطاق الاقتباس واختصار الأصل، والظاهر أن المؤلف الفاضل كان في كلتا الحالين من حكمه وكلامه خاضعاً لسياق نفسي واختيار متخطف عابر.
وإن أدب قال فلان وروى عن فلان من غير دليل أو تحليل قد فات أوانه إذ كان من بضاعة المرحلة الفائتة في أدبنا المعاصر.
وكنا ننتظر من الأستاذ الفاضل الدكتور سامي الدهان أن يتحفنا ببحث شائق عن حافظ في سورية ولبنان، فقصيدته الرائعة التي قال فيها:
حيا ربوع الحيا أرباع لبنان
…
وطالع اليمن بالشام حياني
حافلة بصور المودة والعروبة ومباهج الطبيعة والجمال، وهي جديرة بالدرس والمقارنة، وفيها قال حافظ:
وقد وقفت على الستين أسألها
…
أسوفت أم أعدت حر أكفاني
وقد اتفق أن كانت نهاية الشاعر بعد هذه الوقفة بشهور. على أن هذه الوقفة الشاعرة الملهمة كان جديراً بالمؤلف أن يستغلها لو مر بها، فإنها تصلح لانبثاق مسارح العاطفة من شاعر خالد اتفق له أن تنبأ بموته وصدقت نبوءته. لقد سبق المتنبي حافظاً إلى مثل هذه النبوءة المحققة حين فارق فارس فقال قبيل فراقها:
وأنى شئت يا طرقي فكوني
…
أذاة أو نجاة أو هلاكا
ومن عجب أن يقول المؤلف: (إن حافظاً لم يحس بالطبيعة ولم يحدثها أو تحدثه، وكأنها لم تنقش في ذهنه إلا كما ينقش الأزميل في الماء أو القلم في الصحراء) وقد فاتته القصائد الوصفية التي نشرت في ديوانه الأخير من ص205 إلى ص239 وفيها مقطوعات وأبيات في وصف الطبيعة بين السماء والأرض، وما يزال في خاطري من عهد الدراسة قصيدة حافظ في وصف الشمس، وهل الشمس إلا أم الطبيعة ومحور الكون؟ وقد وصف شاعر النيل الزلازل والبراكين، وصور البحر وخفوق الرياح أروع تصوير، ولم يترك جنان الربيع ولا منازل الجزيرة في وطنه الجميل.
ولا ينبغي أن يغيب عن كفتي ميزاننا الأدبي الحديث أن حافظاً وشوقياً والبارودي وصبري قبلهما لم يعنوا بوحدة الموضوع كما نطالب بها اليوم شعرائنا، ولروح الشعر العربي طبيعة تختلف عن طبائع الشعر الغربي إذ أن شعرنا لا يخلوا من التنوع واختلاف الصور فيه على الرغم من كل تجديد.
وثمة كلمة نابية جاءت ص3 ذكرها المؤلف وهو يتحدث عن حافظ وشعره فقال (ظل يهذي حتى قال الشعر) وما كان حافظ مهذاراً في شعره ولا هاذياً، وإن النكتة التي شاعت في أحاديثه الخاصة لم تكن لتذهب من وقاره وقدره. ولعل المؤلف أراد أن يقول: حاول
حافظ الشعر أو غرزم فيه حتى تمرس به.
وبعد فإن كتاب (شاعر الشعب) مثل الدراسات الخفيفة العابرة وما كانت منتظرة وهي على هذه الصورة من مؤلف ولا ناشر، على أن لمؤلف هذا الأثر الأخير آثاراً قيمة تشهد له بالبراعة والاقتدار.
وداد سكاكيني
آراء وأنباء
وا إسلاماه!
هكذا سيصبح القارئ بعدما يفرغ من قراءة مقالي الأستاذ محمود شاكر: أبصر طريقك وباطل مشرق. فالأستاذ الكريم ينظر إلى العالم الإسلامي بعد الغزوين الأوربيين: العسكري والفكري، فيراه قد انقسم إلى طائفتين. فطائفة نسيت ماضيها وتنكرت له. ورأت الرجوع إليه مخالفة لروح العصر؛ وطائفة أهمها ماضيها وعز عليها أن تتنكر له فانبرت تقدمه للناس في ثوب جديد. لا تألو في ذلك صبراً ولا جهاداً.
والأستاذ الكبير يخاف على الإسلام أشد الخوف من هذه الطائفة (التي اتخذت كلمة الإسلام لغواً على مذباتها) ومما زاد الطين بلة والجرح ألماً هو نشاط هؤلاء الناس، وانصراف كل داعية منهم إلى ناحية مدعياً ترميمها وتجديدها على أسس هي (في جوهرها من الحياة التي أنشأها الغازي الصليبي بيننا). لذلك وبسبب هؤلاء فالعالم الإسلامي (مقبل على هزيمة منكرة عاقبتها تبديل الإسلام تبديلاً كاملاً) هزيمة منكرة؟ عاقبتها تبديل الإسلام تبديلاً كاملاً؟ وا غوثاه! أين هؤلاء المجددون؟ دلنا عليهم يا أستاذنا؛ فأنت وحدك أدركت الخطر. وعرفت السر الخطير. دلنا عليهم وإلا فأنت تقاتل في غير عدو. وليس المجال مجالي وحسبي أن أنبه من هو أقدر مني ليطمئن الأستاذ على الإسلام وأنه لا خوف عليه من هؤلاء المجددين. فالإسلام صالح لكل زمان ومكان.
الصافية
عبد الفتاح محمد الجزار
هل في مصر أزمة ثقافية؟
دأب كبار المفكرين المصريين على ترديد دعوى لا برهان عليها وهي (أن الأدب في محنة)(والثقافة المصرية في أزمة) وأن الشعر قد مات بموت شوقي وحافظ، إلى آخر هذه الدعاوى العريضة التي تشغل أعمدة الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية - ويعلم الله أنه لا ضعف ولا نكوص، وأن مصر اليوم غير مصر الأمس، غيرها في كل شيء. . في عدد القراء، وتنوع الأدب، والمستوى الثقافي العام. . ويذكرني هذا بتعقيب الأستاذ (أبو حديد)
على ندوة من ندوات الشعر في جمعية الشبان المسيحية إذ قال: (وفيما شاهدت أكبر برهان أكبر برهان أرد به على دعوى الذين يزعمون أن الأدب في محنة - فالشعر كان جدولاً واحدا لا يتغير قي عهد شوقي، وقد تعددت ألوانه ومذاهبه) هذا ما قاله (أبو حديد) لأنه استطاع أن يبرح البرج العاجي الذي يقبع فيه كبار الأدباء في هذه الأيام وشاهد بعينيه ندوات الشباب التي لم يكن لها نظير في عهد شوقي وحافظ. . .
ويقول الأستاذ (سعيد العريان) إن الكتاب الجيد لم يعد يطبع منه إلا بضعة آلاف نسخة لا تنفذ في أقل من عامين - فهذا كلام حق ويجب أن يكون - فالقراء اليوم - وهم كثير - قد عرفوا معنى التعاون؛ فالكتاب الواحد يقرؤه العشرات من طلاب المعرفة بواسطة التبادل الثقافي فيما بينهم وأصبحوا يقصدون دور الكتب المختلفة - خاصة وقد أصبح في كل مدرسة مكتبة، وفي كل شارع من شوارع القاهرة وفي كل مدينة من مدن القطر مكتبة أو أكثر تتوفر فيها أسباب الراحة لطلاب المعرفة. .
وإذا أردت دليلاً على كثرة القراءة وارتفاع المستوى الثقافي في مصر فاهبط يوماً إلى حديقة الأزبكية حيث تجد الآلاف من عشاق الثقافات المختلفة يهومون حولها ويحدقون بعيون ظمأى إلى أكداس الكتب البالية المرصوصة على سور الحديقة، ولا يضنون في سبيل الحصول عليها بالقروش اليسيرة التي تفضل عن (قوتهم). أما أن يطبع لهم كتاب جيد ويفتن صاحبه في انتقاء الورق واختيار الغلاف وتحليته بالصور الجميلة ثم يطلب منهم الثمن الباهظ، فهذا ما لا يستطيعه إلا القليل. وإن أردت التأكد من ذلك فاسأل دور النشر التي تطبع الطبعات الرخيصة في هذه الأيام كدار الهلال، ودار كتب للجميع. . وغيرها، عما تبيعه من هذه الكتب فسوف تسمع ما يسرك وما يجعلك تعود فتقول: حقاً إن عدد القراء قد زاد زيادة عظيمة.
ولقد زاد عدد القراء أضعاف ما كان عليه والمتعلمون لا يزيدون عن المليون. ولقد أصبحت الأفكار والآراء التي كانت وقفاً على عدد قليل فيما مضى من كبار المثقفين - في متناول جمع طبقات الشعب يلغطون بها في أحادثهم اليومية، وقد يتندرون بالمسف منها، وإن الأدب الذي كان يهلل له جمهرة القراء فيما مضى، لم يعد يرضي أذواقهم كثيراً في هذه الأيام. وإنهم ليتطلعون إلى الأدب الحي الذي تصوره الأقلام المصرية الأصيلة أصدق
التصوير ولم يعد هذا الجيل يهاتر حول بيت من الشعر، أو أن كلمة (مرجان) قد أخطأ فيها الشاعر عشر أخطاء أو خمساً. وحينما يرتفع المستوى الاقتصادي في مصر ويستطيع صاحب القصة أو الديوان طبع قصته أو ديوانه، ويستطيع القارئ شراء نسخته - فسوف يموت أدب وينتعش أدب. وسوف ترتعد فرائص الذين يعيشون خلف الأسوار - حين يدهمهم هذا السيل الذي ترعف به أقلام الشباب.
كيلاني حسن سند
طرائف وقصص
انتحار
للكاتب الفرنسي جورج مورفير
سان رومانو! كم هو بلد جميل رائع! فيه يدرك الإنسان المعنى الذي تنطوي عليه كلمات فلوبير: هنالك بقاع في العالم يود المرء لجمالها وروعتها لو يضمها إلى صدره ضمة الوجد والحنين. . . بيد أن سان رومانو وا أسفاه تشبه أيضاً ثمرة لذة فواحة لا يجسر امرؤ على تذوقها مخافة الموت الذي يقطر من عصيرها.
ولسوء الحظ لا تستطيع مناظرها الساحرة الخلابة أن تدخل السرور والبهجة على قلب الناس؛ ففي جنبات المدينة تقابلك الوجوه الذاهلة والملامح اليائسة والعيون الحيرى الآسفة. . . وفي كل مكان منها تطالعك كلمات السخط والتبرم: ألا ليتني وضعت على رقم 7!. . . آه! هذا الأحمر الملعون، لقد كسب عشر مرات متوالية، وبالرغم من ذلك وضعت على الأسود.
ولم يكن في البلد كله من يلقي أدنى التفاته إلى المناظر الساحرة الأخاذة التي تنبت فيه. كانت الأرض عندهم (روليت) ضخمة، والسماء صفحة كتب عليها أرقام 30 و40 و50.
وقد كنت أنا أيضا ضحية هذا البلد الخطير؛ إذ خسرت مبلغا لم يكن جد كبير، غير أنه كان كل ما أملك. وأفقت من نومي ذات صباح كيلا أجد معي سوى اثني عشر فرنكاً مع أني مدين لصاحب المنزل الذي أقيم فيه بخمسة عشر فرنكاً؛ لذلك اختبرت مسدسي فألفيته يزخر بست رصاصات قواتل كانت في ظني كافية لتمزيق رأس فارغ كرأسي. وفتحت نافذتي، كان (صباحي الأخير) رائعاً جميلاً فالسماء زرقاء صافية والأمواج خضراء هادئة والنسيم يسبق بشذى زهر البرتقال والبنفسج.
وغادرت منزلي إلى الشاطئ لأملأ صدري المنفعل بهذا النسيم الفواح. . . بيد أنني كررت عائداً بعد أن سرت قليلاً، إذ أحسست جوعاً شديداً، وفي أثناء عودتي ابتعت صحيفة سان رومانو المحلية، وهي صحيفة مثيرة، مجللة بالسواد كأنها رسالة حزينة.
ورحت أقلب صفحاتها إبان الطعام فاسترعى نظري عنوان (إنتحارات الأسبوع) فجال بخاطري دون أدنى انفعال: هنا سيعلن خبر موتي بعد أيام قلائل) بل وددت لو أشكر سلفاً
محرر هذا الباب الذي سيعلن نعيي في هذه الصحيفة.
وعلقت عيناي بخبر انفرد بعلامة الصليب في صدره فقرأت فيه (وجدت بالأمس جثة جوسو جاكوبسن - أمريكي الجنس - معلقة في إحدى النخيل الذي ينمو على الشرفة - وقد وجد في جيبه مبلغ ثلاثة آلاف فرنك - طبعاً).
جوسو جاكوبسن؟ إني أعرفه. بل لقد خسرنا كل نقودنا جنباً إلى جنب. والأمس القريب حينما خسر آخر فلس معه رأيته يتنهد في عنف وحسرة، ثم أمسك بيدي وهزها بحرارة ونظر إلي في حزن ثم ابتسم وقال بصوت خفيض (لقد دمرت. . . دمرت تماماً. . . وداعاً يا صديقي). . . ومن ثم ذهب فشنق نفسه.
إذن، كيف أمكن أن يعثروا في جيبه على ثلاثة آلاف فرنك. . . وماذا تعني بحق الشيطان هذه الكلمة (طبعا).
ولاح لي قبس كشف لي الأمر وأبان الطريق. . يالي من غبي! كيف لم أفطن إلى ذلك من قبل. . . لقد دس - ولا ريب - أصحاب الكازينو هذا المال في جيبه لتضليل الناس وحملهم على الاعتقاد أن انتحاره لا يرجع البتة إلى خسارته بل إلى أسباب شخصية ودوافع نفسية.
وعلى ضوء هذا الاكتشاف الفجائي رحت أفكر! كم يا ترى يدسون في جيبي إذا حزمت أمري وانتحرت على مقربة من الكازينو؟ لقد خسرت بقدر ما خسر جاكوبسن. . . وسربت إلى رأسي فكرة بأسرع مما كان مقدراً أن تسرب الرصاصة.
ثم واصلت تناول الطعام بقلب ثابت أو يكاد يكون ثابتاً؛ وذهبت بعدئذ إلى صاحب الفندق وأكدت له أني سأدفع له حسابه هذا المساء ثم أضفت:
- هذا إذا بقيت حياً. . .
- إنا نثق فيك كل الثقة يا سيدي.
- إذن فأقرضني مائة فرنك حتى المساء. . . إني أنتظر وصول مال من باريس.
- بكل سرور يا سيدي.
وقضيت سحابة النهار على الشاطئ حيث وضعت - بروية وإمعان - خطة السير بانتحار يعود علي بربح وفير.
وفي مساء هذا اليوم بعينه ذهبت إلى الكازينو مرتدياً أجمل أثوابي وقد أبنت للملأ أني جئت أجازف بآخر ما بقي لي. . . وأني سأموت هماً وغماً إن لم أربح.
وطارت المائة فرنك. . . فبدأ علي الانزعاج في بادئ الأمر. . . ثم انقلبت أتأمل غاضباً حنقاً. . . وأخيراً بدوت كالذاهل المأخوذ.
ورثى لحالي شاب قامت بيني وبينه معرفة، وسألني ما الخبر فأنبأته بنبرات حزينة يائسة أني أفلست، فأخذ يواسيني ويخفف عني ثم قال:
- لا تيئس فما زلت تملك نفقات السفر إلى وطنك، إن الكازينو - في هذه الحال - يتطوع. . . فقاطعته بيأس قائلاً:
- إن السفر الذي أزمعه لا يحتاج إلى (تذكرة) فنظر إلي مشدوهاً وقال:
- لا أحسبك جاداً في هذا القول. . . آمل ألا تكون قد جننت.
فظللت صامتاً، ثم أدرت له ظهري ورحت أجيل بصري ذاهلاً في أرجاء المكان بضع دقائق. . . وقد لمحت أصحاب (الكازينو) يراقبونني من طرف خفي، وانفرط عقد اللاعبين في الساعة الحادية عشرة، فقفوت أثر الخارجين بوجه يحمل علائم الذهول واليأس والتفكير.
وكانت الليلة رائعة جميلة والقمر بدراً يلقي بأشعته الفضية الناعمة على الأرض الشجراء والبحر الأزرق الساكن. وبلغ سمعي أصوات كمان حنون ينوح نوح عاشقة يائسة وجعلت وجهتي - وقد أجمعت أمري - حرشاً قريباً من الكازينو، بقعة هادئة تعد بحق أصلح مكان لتمثيل الدور الذي أزمعته؛ وكان ثمة تمثال من الرخام لغانية من غواني البحر بدا كأنه يبتسم وأنا أوشك أن أقوم بدوري.
ودوت فجأة طلقتان ناريتان، وسقطت على أحد المقاعد في وضع مهمل وانتظرت. واقتربت مني أصوات وسقطت على عيني المسبلتين ظلال المقبلين.
- يا إلهي!. إنه هو. . .
- يا للمسكين! لقد قضى على نفسه برصاصتين معاً وسمعت بعد ذلك أحد أصحاب الكازينو يقول:
- هلم. . . أسرع قبل أن يرانا أحد. تباً له من شيطان! أما وجد غير هذا المكان!
ثم انحنى فوقي فشعرت كأنما اندس شيء في جيبي، هنالك ارتعدت قليلاً. . . وتأوهت مرتين، ثم فتحت عيني ببطء شديد، ونهضت من مضجعي بعناية وحرص ناظراً في تسائل وعجب إلى الجمع الحاشد ولي. وفي عدم اكتراث أخذت قبعتي والمسدس الذي كان ما يزال يلفظ الدخان من فوهته وانتصبت واقفاً.
وكان المحتشدون ينظرون إلي كأنني حيوان غريب الخلقة وقد امتزجت نظراتهم بالعجب والاستفهام. . . وقلت في غضب:
- عجباً لكم يا قوم! ألا يستطيع المرء قتل نفسه بعيداً عن فضول الناس؟ لم نسمع بمثل هذا والله.
واقترب مني أحد أصحاب الكازينو ينتفض من شدة الغضب وقال في تلعثم واضطراب:
- سيدي الفاضل. . . أرجو. . . هل. . . إذا. . . ماذا تقصد بهذه المهزلة؟ سأقودك إلى البوليس لتعكيرك الأمن.
- لتعكيري الأمن؟ قول ظريف سيغدو ولا مراء حديث الموسم.
قلت ذلك ثم أوليت المجمع ظهري واتخذت سبيلي ضاحكاً من هؤلاء الناس الذين اجتمعوا بدافع الفضول وحب الاستطلاع.
وعدت إلى الفندق فسددت ديوني من الآلاف الثلاثة التي أخذتها مقابل قيامي بدور الانتحار. وقد بذلت إدارة الكازينو أقصى الجهود لاستعادة المال؛ ولكني لم أكن قط قد فكرت في إعادته، إذ اعتبرت أن هذا المال من حقي، وأيقنت فضلاً عن ذلك أن ثلاثة آلاف فرنك لا تبدو ثمناً كبيراً لانتحاري.
وقد عمدت إلى إغاظتهم ببقائي في سان رومانو بضعة أيام أخر أعيش عيشة الترف والبذخ ثم رحلت بعدها إلى باريس. . . وقد سمعت أن المبلغ الذي دس في جيبي قد رد إلى الكازينو أضعافاً مضاعفة.
محمد عبد الفتاح محمد
لغويات
قطط
أنكر أحد الباحثين استعمال الجمع (قطط) مع أنه صحيح لأنه جمع قطة أنثى القط بكسر القاف فيهما. وهذا الجمع قياسي فهو بديهي لا يحتاج إلى نص. وللقطة والقطط نظائر لا تحصى كثيرة.
وقد جاء في المعاجم اللغوية: الهرة وجمعها هرر مثل قربة، وقرب والهرة والقطة متحدتان وزناً ومعنى. وجاء في المعاجم: القردة أنثى القرد وجمعها قرد بكسر القاف وفتح الراء، ومن نظائرها بدعة وبدع وحكمة وحكم وسلعة وسلع.
فقولهم ذكاء القطط، ومخالب القطط. . . صحيح، ولنا الحق في أن نقول: قط من القطط (على التلفيق) مثل قولهم خليفة من الخلفاء لأن الخليفة جمعه خلائف، وأما خلفاء فجمع خليف مثل شريف وشرفاء.
الدستور في اللغة
الدستور: لفظ فارسي معرب (دستور) بفتح الدال وبدون ال وهو مركب من (دست) أي يد أو قاعدة ومن (ور) أي صاحب فمعناه صاحب اليد ويراد به القوة والسلطة أو صاحب القاعدة لاشتماله على القواعد والقوانين الأساسية التي يعمل بمقتضاها وهو كما ترى بفتح الدال في اللغة الفارسية ولما عرب ضموا الدال ليلتحق بأوزان العرب وقد زعم الحريري أن فتح الدال خطأ بناء على أنه لا يوجد وزن (فعلول) بفتح الفاء وهذا ليس بصحيح، وله نظائر كثيرة وردت بضم الأول وفتحه مثل: سندوق وصندوق وعصفور. . .
جربوع
جاء في (المصباح المنير - مادة ريع) اليربوع: دويبة (تصغير دابة أي حيوان) نحو الفأرة لكن ذنبه وأذناه أطول منها ورجلاه أطول من يديه عكس الزرافة والجمع يرابيع والعامة تقول (جربوع) بالجيم.
وقيل إن اليربوع نوع من الفيران. ويظهر أن شكله يلفت النظر. ومنه ندرك السر في قولهم فلان جربوع وهي جربوعة وهم جرابيع، وقد اشتقوا منه أفعالاً وأوصافاً فقالوا:
جربوع ومجربع، إذا صار مثل الجربوع في شكله وهيئته، والجرابيع اسم بلد بمديرية المنيا.
ثقات لا ثقاة
من الأخطاء الشائعة قولهم (ثقاة) بالتاء المربوطة في جمع (ثقة) لأنه جمع مؤنث سالم وهو يكتب بالتاء المفتوحة لا غير ونظيرهما صفة وصفات وصلة وصلات وعدة وعدات وهبة وهبات، والثقة في الأصل مصدر وثق به ومن شأن المصدر أن يوصف به المفرد والمذكر وفروعهما بدون تغيير، فيقال: هو أو هي أو هما أو هم أو هن ثقة، وقد يجمع باعتبار إفراده وأنواعه فيقال هم أو هن. . . ثقات، ولعل حضرات القراء يراعون هذا ونحن في عهد التحرير والتطهير.
قشطة وقشدة
القشطة لغة عربية صميمة من قشطه ويقشطه قشطاً مثل كشطه فهي بمعنى المقشوطة مثل القطعة بمعنى المقطوعة لأنها تقشط، وأما القشدة فهي من قشده يقشده قشداً بمعنى قشطه وكشطه أيضاً. ولا يخفى أن القشطة خفيفة لطيفة ومألوفة فلماذا نلجأ إلى الغريب نؤويه، وإلى الميت نحييه، ونشكك الجمهور في لغته الصحيحة.
ومن الغريب أن اللغويين ذكروا لغة أخرى وهي (القشذة) بالذال المعجمة وهي كما ترى أثقل من زميلتها.
علي حسن هلالي