الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 1024
- بتاريخ: 16 - 02 - 1953
الفن بخير
للأستاذ محمود تيمور
المسرح يقاسي اليوم محنة عسراء، محنة يدرك وطأت أهل الفن، ويخشون منها أسوأ العقبى. ولست أعني مسرحنا المصري وحده، فالمحنة عامة يصلي نارها المسرح كله في العالم المتحضر أجمع.
لا يغرنك ما عسى أن تراه من إقبال الناس على دور التمثيل، وما تشهد من شغفهم بها في مختلف الأمم. فإن الحقيقة الواقعة التي يعرفها الواقفون على بواطن الأمور أن المسرح لا يستطيع الثبات في الميدان الفني، معولاً على نفسه، مكتفياً بقوته؛ فهو في غالب شأنه ينشد العون، ويلتمس من العوامل المصنوعة ما يكفل له البقاء والاستمرار.
لقد أتى على المسرح حين من الدهر لم يكن فيه مفتقراً إلى مؤازرة وناصر، وإنما كان في ازدهاره وتألقه موفور القوة، شديد الأسر، مشاراً إليه بالبنان. فأما اليوم فإنه يفقد ما سلف له من تألق وازدهار، بل إنه ليبلغ منه الاضمحلال كل مبلغ، حتى أن بعض النقاد ليبادرون إلى نعيه، والترحم عليه، وما زال فيه رمق، وما برحت تتردد فيه أنفاس!
ولو صدق هذا التطير بمستقبل المسرح، لكان ذلك رزءاً يثير الأسى ويستتبع الحسرة، فللمسرح من العشاق والمشايعين خلق كثير، وإنهم ليعدون رحيله عن عالم الفن زوالاً لمظهر أنيس جذاب، صحب الإنسانية ردحاً من الدهر وكان له أطيب الأثر في صقل الأذهان وتبصيرها، وفي رياضة النفوس والترفيه عنها.
فماذا دهى المسرح حتى تفشاه هذا الاضمحلال؟
وما تلك الأسباب التي تسوغ التشاؤم بمستقبله، وتوقع القضاء عليه؟
ربما تباينت الأسباب واختلفت، بيد أنها تتجمع كلها في كلمة واحدة، هي:(السينما).
حقاً لقد استطاعت (السينما) خلال ثلث قرن أن تزعزع قواعد المسرح، وأن تنال من سلطانه. . . وهي التي تديل دولته إن كان مقدراً عليه أن يصير إلى زوال.
نشأت هذه (السينما) تعمل في ميدان المسرح نفسه منتهجة أغراضه متخذة أدواته، ولم تكن نشأتها ضرباً من العبث، أو لوناً من التطفل، وإنما كانت وليدة عوامل طبيعية قضى بها حكم الحياة ونظام العمران.
لقد أخذ العالم منذ القرن الماضي يصطنع الآلة في شتى أسباب العيش، فكانت (السينما) نتيجة من نتائج هذا التطور الآلي، وكانت لوناً من ألوان التطبيق العملي له، فهي إذن مظهر طبيعي يلائم العصر، ويساير التجدد.
من سرف القول أن تعد (السينما) خصماً للمسرح فالفن السينمائي في جوهره هو ابن المسرح وربيبه، تخلق من لحمه ودمه، وأغتذى بلبانه، فهما معاً يتقاسمان عناصر الفن من رواية ومنظر وممثلين.
فإذا أردت الدقة والتعمق تجلت لك (السينما) على أنها امتداد للمسرح، أو تطور له، وفقاً لحقيقة التجديد وطوعاً لروح العصر، فهي مسرح آلي مستحدث، يستكمل ما عجز عنه المسرح القديم، ويخلفه في أداء رسالة الفن للجيل الجديد.
لا غلو في القول بأن (السينما) قد حلت محل المسرح وقد تناولت منه المشعل، لتمضي به أسطع توهجاً، وأبعد مدى، بيد أن هذا لا يمنع أن يبقى للمسرح نوع من الحياة في إطار ضيق، وإن فقد ما كان له من سيادة وقيادة.
لكأن المسرح قصر عظيم على الطراز القديم، تكاملت له الفخامة والأبهة. ولكنه لم يعد يواتي العصر الحاضر بحاجاته ومطالبه.
أو لكأنه (جنتلمان) هرم يتباهى بمجده، ويعتز بأرستقراطيته، ولكنه قاعد متخلف يدب فيه البلى، ينافسه ما للشباب من فورة ووثبة ونشاط.
أو لكأنه مؤسسة نبيلة الغرض، رفيعة الهدف، ولكنها لا تملك أن تعيش بما لها من جهد، فهي أحوج ما تكون إلى ضروب الصدقات وألوان المعونات، لكي تؤتي ثمارها طيبات.
أو لكأن هذا المسرح إمبراطورية عظيمة، فقدت عناصر المرونة للتطور الحديث، فلم تعد موائمة لروح الشعوب التي تحكمها، فليس لها إلا أن تغدو دويلة صغيرة تساير ركب الدول، متنحية عن مكان الزعامة الذي كانت تملأه فيما حلا من العهود!
وفي معتقدي أن المحاولات التي يبذلها للمسرح أنصاره ومحبوه، جديرة أن تشد من عضده، ولكن هذه المحاولات - مهما تبلغ من قوتها - لا تحتفظ للمسرح بما كان له من مركز الزعامة، ولا تستطيع أن تزحزح (السينما) عن مكانها الذي سمت إليه، لتؤدي فيه رسالة الفن على أوسع نطاق.
ليس من الخير أن ننظر إلى المسرح و (السينما) باعتبارهما عدوين، فلنجعلهما يمضيان معاً جنباً إلى جنب، يبذل المسرح (للسينما) ما يبذل الأب لابنه من عطف وحدب، وتعرف (السينما) للمسرح حق الأبوة من بر وولاء.
لقد تكاثر حديث النقاد في شأن المسرح و (السينما) على تباين واختلاف. . . فهذه يقيم من حديثه حفلاً تكريمياً (للسينما) يؤيد به ما أوتيت من زهو، وما بلغت من فوز. وذلك يجعل حديثه مناحة للمسرح، يسح فيها الدمع الهتون على الفن الشهيد!
ولسنا في هذا المقام نريد تكريماً (للسينما) أو تأبيناً للمسرح، وإنما نبغي أستكناه ذلك التطور الفني الذي مهد (للسينما) أن تتسنم تلك المكانة، فساق المسرح إلى ذلك المصير.
في الغرب والشرق جميعاً جمهرة من المفكرين ينعون على (السينما) أنها ليست من الفن في شيء، بل إنها تقضي على الروح الفنية التي أذكاها المسرح وبثها في جوانب المجتمع البشري، ولهذه الجمهرة من المفكرين معارضون كثيرون ينتقصون من قدر المسرح، وينادون بأنه ليس إلا طوراً من أطوار الفن عتيقاً، لم يعد للتقدم العصري كفئاً، فعلينا أن نقوم على تكفينه، وأن نشيعه إلى مقره الأخير، نهيل عليه تراب النسيان!
وأولئك الذين يضيقون (السينما) يأخذون عليها أنها (آلية) فهي تعتمد على الآلة كل الاعتماد. وليس ضيقهم (بالسينما) إلا نوعاً من ضيقهم (بالآلية) في كل مظهر من مظاهرها في العصر الحديث، إذ يحسبون أن هذه الآلة لا تمتد إلى لون من ألوان الفنون إلا أفقدته عنصره الأصيل، وجوهره الرفيع!
فهل صدق الساخطون على الآلة في حسبانهم أنها تقضي على الفن، أو على الأقل تمسخه وتشوه جماله؟ وهل الآلة كما يقولون رمز تدمير للحضارة، وانهيار للعالم على وجه عام؟
شد ما يغلون في هذا الحكم! وشد ما يستسلمون لأوهام الفروض والتخمينات حين يستشعرون الذعر من الآلة، ويقدرون لها أوخم الآثار!
لنكن متفائلين بالعصر الآلي وما ينجم عنه، وليكن هذا التفاؤل على أساس أن العالم متجهاً أبداً وجهة الخير، لأن القوة التي إليها مرد الأمر كله في هذا الكون قوة خيرة في صميمها، وبذرة الخير الكامنة في الطينة البشرية هي التي تدفع به دائماً إلى التجدد والتطور، فهذا العالم ماض إلى الخير قدماً، وإن تعثرت خطاه بأشواك الشر حيناً بعد حين.
وبرهان هذا ساطع كل السطوع في تاريخ البشرية والحضارة منذ الأحقاب الخالية، منذ كان الكون سديماً إلى أن انبسط أديم الأرض، ودب على ظهرها الإنسان، وقامت هذه المدنيات العظيمة على أنقاض الكهوف والغابات.
وما برح التطور موصول الخطأ، نحس به فيما ندرك من نواميس الطبيعة، وقوانين الحياة، وفيما نتخذ من وسائل الحضارة وأنظمة الاجتماع.
وهذا التطور ينتقل به المجتمع البشري من حسن إلى أحسن، إلا أنه يقتضي مزاولة التجربة بعد التجربة. وهيهات أن يستقر للحياة طور من أطوارها إلا بعد أن يثبت كفايته في ذلك الميزان العظيم: ميزان بقاء الأصلح. . . فالأحياء لا يبقى منها إلا ما يصلح أن يكون عوناً على تطور الإنسانية والمضي بها إلى الأمام. والأنظمة على اختلاف أهدافها ومناحيها لا يستقر منها إلا ما هو كفء لتوفير الحياة المثلى.
وما أقسى هذه التجارب التي يزاولها الإنسان!
وما أكثر ما يكون فيها من تعسف وعنت!
ولكن ذلك كله لا مفر منه لكي تظفر البشرية بالانتقال من طور إلى طور يمضي بها خطوة في سبيل الخير العام.
والآلة ليست إلا وليدة ضرورة طبيعية أحس بها الإنسان. وهي نتيجة حتمية للتطور البشري الذي لم يكن منه بد. وإننا لنجد الآلة وقد أتت بالمعجزات في مجال التحضر، وبها تأثرت مذاهب الاقتصاد ونظم الاجتماع حتى أصبحت هناك قيم للحياة جديدة، تلائم ذلك التطور الذي أدت إليه الآلة في عصرها الجديد.
وفي مقدورك أن توازن بين الإنسان القديم، إذ كانت الآلة لم تخترع، أو على الأصح حين كانت الآلة في مظهرها العاجز المحدود، وبين الإنسان الحديث، إذ بلغت الآلة هذا المبلغ العظيم من القوة والجبروت، فإنك إذا أجريت هذه الموازنة نحلى لك البون شاسعاً بين الماضي والحاضر في مجال الرقي الثقافي والاجتماعي، المادي والمعنوي. وإذن يستعين لك فصل الآلة فيما شمل الإنسانية من رخاء وانتعاش، وفيما فاض عليها من بركة وخير.
وهذه الآلة من صنع الإنسان، توصل بها إلى أن يختصر المسافات، وأن يختزل الأزمنة، وأن يسخر بها ما في الأرض والسماء من قوى وعناصر. وهي في يده، يحركها إرادته،
ويسيطر عليها بحكمته. فإن وقف منها موقف الحزم والتبصر استطاع أن يفيد منها ما شاء. فأما إن أساء استعمالها، وأفلت منه زمامها، فإنها تدمر مدنياته وتدمره معها. ولكن الأمل وثيق ألا يفقد الإنسان رشده، وأن يظل ضابطاً للآلة في يده، حتى تكون طوع خيره. . . بها يتم نفع العالم، وعليها تقوم عمارة الكون.
وإن صحبة الإنسان للآلة فيما يمارس من أسباب عيشه ومرافق حياته، ستخلق منه إنساناً جديداً يتخذ له في نظامه الاجتماعي طرازاً جديداً، فإذا هو يتطور في نزعاته النفسية، وفي مطالبه العقلية، وفي ذوقه الفني، وفق التطور الحديث الذي تسبغه الآلة على المجتمع البشري.
ما من شيء كانت تصنعه الأيدي إلا وقد امتدت إليه الآلة تصنعه؛ والناس إزاء هذا يتغافلون أن (شغل اليد) هو العمل الفني، وأما صنع الآلة فهو عمل غير فني. وحجتهم في ذلك أن اليد تعمل بوحي الإنسان، وتستمد حركتها من رأسه وعاطفته، فالإنسان ينفض نفسه في كل وحدة من وحدات عمله الفني، وأما الآلة فتستمد قوتها من محركات صماء.
وللناس في تعزيز هذا الرأي ضروب من التمثيل. فهم يضربون المثل بالحلة المفصلة على قد إنسان بعينه، فيرونها ألق بصاحبها، وأدق صنعاً وأوفر فنية، من الحلل المجهزة على أقيسه عامة. . . وكذلك الصورة الزيتية، يرونها أروع من الصورة (الفوتوغرافية) أو الصورة المطبعية الملونة، فهذه آلية وتلك يدوية. . . وكذلك الصوت لا يسحر السامع إذا سمعه من الحاكي أو المذياع، قدر ما يسحره إذا سمعه من فم المغني نفسه.
وأنت قد تجد في زخرف هذه الحجة التي يسوقها الناس مظهر الحق، ولكنك إذا أنفذت بصرك إلى الأعماق تكشفت لك حقائق لا تبغي عنها حولاً. فإن هذه الآلة التي نزري بها وجدت منذ وجد الإنسان، منذ خرج من إطار الحيوانية الغافلة إلى مستوى البشرية المفكرة. وقليل من التدبر يقنعنا بأن الآلة هي العنصر الأساسي في بناء المدنيات منذ فجرها الأول. . . ولعل ما نسميه (شغل اليد) لا وجود له بالمعنى الحقيقي في تاريخ الإنسان. فالمغزل والمنسج والإبرة في أطوارها الأولى ليست إلا آلات بدائية. والمرقم للرسام والأزميل للمثال كلاهما آلة، ولماذا تذهب بعيداً واليد نفسها ليست إلا آلة توسل بها الإنسان للقيام بعمل فني؟
فهذه الوسائل والوسائط، أو بتعبير آخر: هذه الآلات البدائية، ظلت تقوم بالأعمال الفنية، يسيطر عليها الرأس، وتوحي إليها العاطفة. . . ثم تطورت مع الإنسان آلاته، تساير حاجاته، وتواتيه بمطالبه، حتى انتهى بها الأمر إلى هذا المظهر الآلي العجيب المعقد الذي بدأنا نخشاه. . . أرأيت إذن أن تلك الآلة الحديثة ليست إلا امتداداً وتطوراً للآلة القديمة التي عاصرت الإنسان منذ درج الإنسان؟
دونك (الكتاب) مثلاً. . . ذلك الذي نحوطه بالتقديس، ونعده ذخراً وموئلاً للعلوم والفنون والآداب، ونرى فيه مرآة العقل الإنساني، والفكر البشري، ومن ثم نخشى عليه أن تنال منه (الآلية) الحديثة التي تكمن في (الراديو) و (السينما) وما إليهما، ونطلق صرخة الرعب والفزع، طالبين حماية الكتاب من هذه الويلات. . . بل إن فينا من يقول بأن ثقافة المستقبل سيتطرق إليها الوهن إذا ضعف شأن (الكتاب) وأنتسخ ظله، وأنه ليس من شيء يقوم مقامه ويعوضنا عنه، وينهض بالعبء الذي نهض به.
والحق في ذلك أن (الكتاب) ما هو إلا سجل يضم نتاج القرائح، ويحوي عصارات الأذهان، وما هو إلا مظهر للتعبير عن الاحساسات والمشاعر. . . وقد كان هذا (الكتاب) يوم كان لوحاً محفوظاً في الذاكرة يتلقاه الأحلاف من الأسلاف، وكان كذلك أحجاراً وجلوداً ولحاء شجر، ثم كان بعد ذلك مخطوطاً على الأوراق لا تزيد نسخه على العشرات. فلما جاء عصر الطباعة اتخذ (الكتاب) هذا الشكل الحديث، وأتيح له ذلك التعميم، فهو مدين للآلة بما بلغ من جاه عريض، وصيت بعيد.
وما دام (الكتاب) في حقيقة أمره وسيلة تعبير، فلا ضير على المدنية الحديثة إذا اصطنعت لها وسيلة أكثر ملاءمة للتطور، وأبعد مدى في تحقيق الغرض. ولن تكون الوسيلة المستحدثة إلا امتداداً (للكتاب) في مظهر آخر هو أقرب إلى روح العصر، وأدعى إلى نشر الثقافة بين الناس، وإذن فالآلة تخدم غرض (الكتاب)، وإن كانت في الظاهر تخمل (الكتاب). فهدف الآلة دائماً هو التيسير، هو أن تتيح للجمهور الأكبر ما هو متاح للخواص من استمتاع وانتفاع، وكذلك تعمل الآلة على أن توفر من الجهد، وتقتصد في الوقت، ليستفاد بذلك في ميدان الابتكار والتجديد والتجويد.
وإليك الغناء مثلاً آخر، فالمغني لا يملك إلا أن يسمع طائفة من الناس في زمن مخصوص،
وبذلك يقتصر الاستمتاع به على القليل، ولكن الآلة تنهض بدورها في إشاعة هذا الصوت المحبب، وفي تقريب مناله من الأسماع في كل زمان وفي كل مكان.
وكذلك الشأن في التمثيل، فالرواية التي تشهدها جمهرة لا تتجاوز بضع مئات، بأجور مرتفعة لا تتيسر للكثير، تستطيع (السينما) أن تبذلها للألوف بثمن بخس، في قدرة على التنقل، وفي حرية من الوقت، وتمكن من التكرار، وأمان من وطأة التكاليف.
على أن الذين يسلمون بأن (السينما) تيسير للفن، وتعميم له، يتساءلون: أليس التيسير يسيء إلى الفن؟
أو ليس تعميمه يدعو إلى تبسيطه، والنزول به عن مستواه الرفيع؟
والجواب عن هذا التساؤل يصدق على (السينما) كما يصدق على المذياع والكتاب. ولقد كان الكتاب وما يزال درجات، فيه الرفيع الخاص، وفيه المنخفض العام. . . وما شأن (السينما) والإذاعة إلا كذلك، يجب أن يكون فيهما لكل طالب حاجته، ولكل مستوى ما يناسبه.
والواقع أن تيسير الفن لا يحط من الفن، بل أن هذا التيسير سبيل إلى أن يتذوق الشعب ما يقدم له من الأعمال الفنية، فتتأثر بها نفسه، ويرتفع مستواه، ويصبح للفن عوناً على النهوض والازدهار. . .
والذين يأخذون على (السينما) أنها آلية، ويؤثرون عليها المسرح لأنه غير آلي، ينسون أن المسرح نفسه يتخذ من الآلات ما يعينه على بلوغ أغراضه. . . فأنت إذا دخلت مسرحاً من المسارح الراقية ألفيت نفسك في مصنع كبير تحتشد فيه عدد وآلات، يستكمل بها المسرح عناصر التمثيل، ويتلافى ما فيه من نقص وعجز، ويساير بها ما بلغ الفن من تقدم وتطور، وقد يبعثك هذا الذي تراه على القول بأن هذه (السينما) لم تكن إلا عوناً من الآلة على تحقيق أحلام فنية لم يستطع المسرح تحقيقها في نطاقه الضيق، ووسائله المحدودة.
ولتجدن كثيراً من المتعصبين للمسرح يقولون:
حسبك من ميزة له على (السينما) أن عماده وجوهره هو الممثل الحي، هو ذلك الذي تراه بشراً سوياً حياً لك، تملأ منه عينيك، وترعيه سمعك، فأما (السينما) فما هي إلا أخيلة وأطياف، والفرق واضح بين حقيقة ماثلة، وخيال موهوم!
والهاتفون (بالسينما) لا يعدمون رداً على المتعصبين للمسرح بهذه الحجة، فهم يقولون بأن فنية التمثيل لا تزيد فيها واقعية المسرح، ولا تنقص منها خيالية (السينما). . إذ المعول كله على الإجادة والإتقان، حتى يتيسر بذلك اندماج المتفرج في العمل الفني المعروض، فإذا هو يستجيب لما يسمعه وما يراه.
واعتبر ذلك بالغناء، فإن الأغنية الرائعة هي التي لا تكاد تهز أوتار سمعك حتى تهتز أوتار قلبك، فإذا أنت تفنى فيها، وتحلق معها، وذلك هو جوهر الإمتاع بالسماع، فأما الأغنية التافهة فهي التي لا تتجاوز الآذان هي التي تضل الطريق إلى مشاعرك، فلا استجابة بينك وبينها ولا اندماج.
وكذلك الشأن في التمثيل، فهو يقوم في جودته وإتقانه على أن ينسلخ المتفرج مما حوله، ويمضي في مساق القصة المعروضة، يعايش أجواءها، ويعاشر أشخاصها، ويشاركهم ما يزاولون من تجربة إنسانية صادقة غير مكذوب بها على الحياة.
وربما تلقف أنصار (السينما) هذا القول بالتعويل على فنية التمثيل، فاتخذوا منه حجة للفن السينمائي. قائلين: إن المسرح فن ناقص، إذ يشعرك في كثير من ظواهره بأنك أمام أخشاب ملونة، وأوراق مقواة، ومناظر ملفقة سرعان ما تصدمك، فتعيد إليك وعيك، وتحول بينك وبين الاندماج فيما تحاول تمثيله من واقع الحياة. وأن مناظر البحار والأنهار، وتمثيل الغرق والحريق، وتصوير البواخر والقطارات والطائرات، لتخفق الإخفاق كله على منصة المسرح، بل أنها لتبعث على الهزؤ والسخرية. . . ومن ثم لجأ المسرح الحديث إلى الرمز يستعين به على التأثير ويعالج به أن يوحي إلى الأذهان بالجو المنشود في القصة المبسوطة. ولكن (السينما) بمنجاة من ذلك النقص، فالوسائل فيها أقوى على تصوير الواقع، وتمثيل الحقيقة، إذ أنها تنقل المشاهد والواقف، بحيث لا يشك ناظر إليها في أنها قطعة من الحياة لا زيف فيها ولا نشوز ولا استكراه، وبذلك يبلغ الفن السينمائي ذروته في ضمان التأثير، وفي تنويم الوعي، وفي تيسير الاندماج بين النظارة والتمثيل.
ومما يثيره أنصار المسرح في مجال الموازنة بينه وبين (السينما) أن الممثل المسرحي يشعر بشخصيته كاملة يعبر عنها يوماً بعد يوم في طلاقة وتجدد. فإنه في الرواية الواحدة يستطيع أن يتشكل ويتطور في أدائه لدوره، كلما مضى في تمثيله مرة بعد مرة. وفي هذا
التشكل والتطور تتوهج شخصية الفنان وتتألق.
على إن أنصار (السينما) يرون ذلك حجة على المسرح لا حجة له، إذ أن العبرة في أداء العمل الفني بإجادته وبلوغ أعلى درجاته. والممثل الذي لا يتقيد في أداء دوره كلما أعاد تمثيله هو الممثل الذي يعلو مرة ويهبط أخرى، والمتفرجون في هذا هم المظلومون، إذ تتفاوت حظوظهم في مشاهدة الرواية الواحدة للمثل الواحد. فمنهم من يرى الممثل في الذروة، ومنهم من يراه في الحضيض. فأما في (السينما) فالمتفرجون جميعاً يرون الممثل دائماً في درجة إتقانه القصوى، تلك الدرجة التي سجلتها له (الكاميرا) وهو في أحسن حالاته. ومثل هذا يقال في الغناء، فإن المغني يظل يمارس تجاربه حتى يستوفي، ثم يسجل صوته وهو في أوج اكتماله وازدهاره.
وفي مناسبة هذا الحديث عن الغناء يقول المعترضون على (السينما) إنها لا تنقل إليك صوت المغني على طبيعته وإنما تنقل إليك صوتاً آخر يقرب أو يبعد عن ذلك الصوت الطبيعي، فإذا سمعت المغني عينه، وسمعت صوته مسجلاً من بعد، أدركت الفرق واضحاً كل الوضوح، وربما كان ذلك الصوت المسجل خيراً من الصوت على طبيعته، ولكنه على أية حال تزييف وتبديل.
والذين ينتصرون (للسينما) يجيبون عن هذا بأن الأمر لا يعدو إحدى اثنتين، فإما أن يكون العيب عيب الآلات التي لم تبلغ حد الكمال حتى اليوم في نقل الأصوات ولا ريب أنها بالغته بفضل ما يجري فيها من تحسين وإتقان حتى تؤدي كل صوت على حقيقته. وإما أن هذا التغيير الذي نلحظه في نقل الأصوات تغيير مقصود، يراد به معالجة ما عسى أن يكون في صوت المغني من قصور. فالآلة السينمائية تهدف إلى أن تقدم الأصوات قوية صافية مصقولة، فهي تحتفظ بجوهر الصوت، ولكنها تعالج ضعفه، حتى تصل به إلى الغاية الفنية الموجودة.
وإذا كان الفن الرفيع هو الفن الصادق في نقل الحياة فلا ينال من رفعة الفن أن يعمل على تجميل ما ينقله من ظواهر الحياة، ووفقاً لهذا نبتت فكرة المناظر السينمائية الملونة، فذلك تجميل للمناظر الطبيعية يكفل الخلابة وحسن التأثير.
ومما يعاب على (السينما) ما يسمى (الفوتوجنيك) أي القابلية للتصوير السينمائي، فلقد
يظفر وجه بإعجاب (الكاميرا) فتسجله رائعاً يسحر الأعين. . . ولقد تغضب (الكاميرا) على وجه، فلا تبدو فيه وسامة ولا فتون. ومن أعجب العجب أن تسيطر على هذا هذا المنح والحرمان آلة صماء!
والعيب في ذلك أنه يحد من المواهب الفنية التي تتوافر لوجوه لا توهب منحة (الفوتوجنيك) وإن كانت هذه الوجوه في حقيقتها وافية الملاحة والجمال؛ موفورة الحظ من حسن التقويم.
والرد على هذا عند من ينتصر (للسينما) أن العصر الحاضر يركن إلى المخترعات الدقيقة الحساسة يستجلى بها الدقائق. . . وفي مجالات العلوم والفنون والآداب تتخذ آلات خاصة للكشف عن الحقائق المستورة التي لا تنالها الأعين ولا تدركها الإفهام. وقد بات واضحاً أن هذه الحواس الخمس المعرفة لم تعد كافية في استجلاءه الأشياء، والحكم على جوهرها الأصيل، وما الجمال إلا حقيقة من حقائق الحياة الكبرى، فلا ضير علينا إن استعنا بالآلات البصيرة الكاشفة لاكتناه أسرار الجمال. ولعل هذه (الكاميرا) أنفذ بصراً بما يكمن من المفاتن، وما يدق من القسمات، فهي تكشف لنا عنها، وتقرب منالها من العيون.
ومهما يكن من قول يساق لنصرة (السينما) أو للدفاع عن المسرح، فلا أثر لذلك كله في حكم الزمن وطابع العصر. فما أشبه أحكام الأزمنة وطوابع العصور بأقدار تجرى، لا يملك ردها أحد!
ومما لا مرية فيه أن (السينما) ماضية في طريقها، تحمل راية عصر الآلة الذي نعيش فيه، ولا منجاة لنا منه بشقشقة الألسن ومنطق العقول.
فإذا شاء عشاق المسرح، الأوفياء لعهده، أن يخدموه وأن يطيلوا من عمره، وأن يفسحوا له الميدان الفني يؤدى فيه رسالته، فلا سبيل لهم إلا أن ينأوا بالمسرح قدر ما يستطيعون عن المجال الحيوي (للسينما)، حتى لا ينافسها في نطاق عملها الذي تؤديه في قوة وجبروت. وكلما عملنا على أن نجعل لكل فن مجالاً خاصاً به، وأمضينا كل فن في طريقه؛ كان لنا أن نأمن مغبة التنازع والاضطراب.
وقد نشأت (السينما) في عهدها الأول صامتة، فتركت للمسرح روعة الحوار، وأنس الحديث، واختصت بسرعة الحركة والإشارة، والوفاء بالمشاهد وبالمناظر، فكان (للسينما)
فن خاص بها، وللمسرح فن خاص به. . . فأما الآن وقد نطقت (السينما) وغلبت المسرح على أمره فيما كان من خاصة شأنه فقد وجب أن ننحو بالمسرح نحواً جديداً يجنبه عنف ذلك الفن الآلي القادر فنخص المسرح بموضوعات تخلو من عناصر الموضوعات السينمائية التي تعتمد على سرعة الحركة، وكثرة الأشخاص، ووفرة المواقف والمناظر، وفخامة الملابس والأشياء المعروضة. . . ولتكن مناظر المسرح ومواقفه وملابسه أقرب شيء إلى الرمز حتى لا ينافس (السينما) في مجال هي صاحبة الغلبة فيه على أية حال.
وعلينا أخيراً أن نؤمن بأن المسرح ليس إلا مظهراً للفن، وأن الفن جوهر يتطور مظهره ويتغير؛ فهو بالأمس مسرح، وهو اليوم (سينما) وقد يكون في الغد القريب أو البعيد شيئاً غير (السينما) وغير المسرح جميعاً. . . فلنكفكف من غلوائنا في تقدير المظاهر، ما دام الفن في جوهره بخير.
محمود تيمور
شعراء الوطنية
3 -
البارودي
(1840 - 1904)
للأستاذ عبد الرحمن الرافعي
محمود سامي البارودي هو إمام الشعراء المحدثين قاطبة، وباكورة الأعلام في دولة الشعر الحديث، وأول من نهض به وجارى في نظمه فحول الشعراء المتقدمين؛ فبعث النهضة الشعرية من مرقدها بعد طول الخمود.
كانت نشأته علمية حربية. تخرج من المدرسة الحربية وبدت عليه سليقته الشعرية وهو بعد في عهد التلمذة وانتظم بعد تخرجه في سلك المناصب المدنية ثم العسكرية وخاض غمار الحروب في ثورة كريد سنة 1866. وفي الحرب بين تركيا والروسيا سنة 1877، فصقلت المعارك مواهبه الشعرية.
وكان من زعماء الثورة العرابية. وتولى رآسة وزارة الثورة سنة 1882. ثم كانت الهزيمة. ونفي مع زملائه إلى جزيرة سيلان (سر نديب) وظل في منفاه نيفاً وسبعة عشر عاماً. وأسبغ عليه المنفى سمات التضحية والبطولة.
الحنين إلى الوطن
كانت حياة الزعماء في منفاهم حياة ألم وحزن. إذ انقطعت صلتهم بالناس. وطال اغترابهم عن أرض الوطن، وبعدت الشقة بينهم وبين أهليهم ومواطنيهم. ولم يكترث لهم أحد. ولم يعطف عليهم أحد (والناس مع الغالب!) وجادت قريحة البارودي بشعر مؤثر في الحنين إلى الوطن. والحزن على فراقه، مما يعد آية في البلاغة. وبلغت سليقته الشعرية في منفاه ذروة العظمة والجلال.
قال يصف الرحيل عن أرض الوطن:
محا البين ما أبقت عيون المها مني
…
فشبت ولم أقض اللبانة من سني
عناء ويأس واشتياق وغربة
…
إلا شد ما ألقاه في الدهر من غبن
إلى أن قال:
ولما وقفنا للوداع وأسبلت
…
مدامعنا فوق الترائب كالمزن
أهبت بصبري أن يعود فبزني
…
وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن
وما هي إلا خطوة ثم أقلعت
…
بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن
فكم مهجة من زفرة الشوق في لظى
…
وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن
وما كنت جربت النوى قبل هذه
…
فلما دهتني كدت أقضي من الحزن
ولكنني راجعت حلمي وردني
…
إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن
ولولا بنيات وشيب عواطل
…
لما قرعت نفسي على فائت سني
الصبر على الشدائد
وتجلت في منفاه صفاته العالية من الشمم وعلو النفس واحتمل آلام النفي بشجاعة وإباء. وصبر وإيمان. وله في ذلك شعر يفيض بهذه المعاني السامية.
قال وهو في سر نديب (سيلان):
لم اقترف زلة تقضي علي بما
…
أصبحت فيه فماذا الويل والحرب
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني
…
ذنب أدان به ظلماً واغترب؟
فلا يظن بي الحساد مندمة
…
فأنني صابر في الله محتسب
أثريت مجداً فلم أعبأ بما سلبت
…
أيدي الحوادث مني فهو مكتسب
لا يخفض البؤس نفساً وهي عالية
…
ولا يشيد بذكر الخامل النشب
وقال مشيراً إلى مصادرة أملاكه:
يا ناصر الحق على الباطل
…
خذ لي بحقي من يدي ما طلى
أخرجني عما حوته يدي
…
من كسبي الحر بلا ناطل
من غير ما ذنب وى سمنطق
…
ذي رونق كالصارم القاطل
فإن أكن جردت من ثروتي
…
ففضل ربي حلية العاطل
وقال من قصيدة أخرى في مقاومة الظلم والصمود أمام المحن والخطوب:
إذا المرء لم يدفع يد الجور أن سطت
…
عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده
ومن ذل خوف الموت كانت حياته
…
أضر عليه من حمام يؤده
وأقتل داء رؤية العين ظالماً
…
يسيء ويتلى في المحافل حمده
علام يعيش المرء في الدهر خاملاً
…
أيفرح في الدنيا بيوم بعده؟
عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش
…
بها بطلاً يحمي الحقيقة شده
ومن قوله في الحنين إلى الوطن والصبر على الشدائد:
فيا دموع القطر سيلي دماً
…
ويا بنات الأيك توحي معي
وأنت يا نسمة (وادي) الغضا
…
مري برياك على مربعي
وأنت يا عصفورة المنحني
…
بالله غني طرباً واسجعي
وأنت يا عين إذا لم تفي
…
بذمة الدمع فلا تهجمي
أبيت أرعى النجم في سدفة
…
ضل يها الصبح فلم يطلع
فهل إلى الأشواق من غاية
…
أم هل إلى الأوطان من مرجع
لا تأس يا قلب على ما مضى
…
لابد للمحنة من مقطع
يتمنى أن يرى مصر
وقال في منفاه يتمنى أن يرى مصر:
يا حبذا جرعة من ماء محنية
…
وضجعة فوق برد الرمل بالقاع
ونسمة كشميم الخلد قد حملت
…
ريا الأزاهر من ميث وأجراع
يا هل أراني بذاك الحي مجتمعاً
…
بأهل ودي من قومي وأشياعي؟
وقال في هذا المعنى:
أبيت حزيناً في (سر نديب) ساهراً
…
طوال الليالي والخليون هجد
إذا خطرت من نحو (حلوان) نسمة
…
نزت بين قلبي شعلة تتوقد
شباب وأخوان رزئت ودادهم
…
وكل امرئ في الدهر يشقى ويسعد
وقال أيضاً في منفاه:
ردوا علي الصبا من عصري الخالي
…
وهل يعود سواد اللمة البالي؟
ماض من العيش ما لاحت مخايله
…
في صفحة الفكر إلا هاج بلبالي
أدهى المصائب غدر قبله ثقة
…
وأقبح الظلم صد بعد إقبال
لا عيب في سوى حرية ملكت
…
اعنتي عن قبول الذل بالمال
قلبي سليم ونفسي حرة ويدي
…
مأمونة ولساني غير ختال
بلوت دهري فما أحمدت سيرته
…
في سابق من لياليه ولا تالي
حلبت شطريه من يسر ومعسرة
…
وذقت طعميه من خصب وإمحال
لم يبق لي أرب في الدهر أطلبه
…
ألا صحابة حر صادق الخال
وأين أدرك ما أبغيه من وطر
…
والصدق في الدهر أعيا كل محتال
لا في (سر نديب) لي إلف أجاذبه
…
فضل الحديث ولا خل فيرعى لي
أبيت منفرداً في رأس شاهقة
…
مثل القطامي فوق المربأ العالي
إذا تلفت لم أبصر سوى صور
…
في الذهن يرسمها نقاش آمالي
علام أجزع والأيام تشهد لي
…
بصدق ما كان من وسمي وأغفالي
راجعت فهرس آثاري فما لمحت
…
بصيرتي فيه ما يزري بأعمالي
فكيف ينكر قومي فضل بادرتي
…
وقد سرت حكمي فيهم وأمثالي
أنا ابن قولي وحسبي في الفخار به
…
وإن غدوت كريم العم والخال
ولي من الشعر آيات مفصلة
…
تلوح في وجنة الأيام كالخال
ينسى لها الفاقد المحزون لوعته
…
ويهتدي بسناها كل قوال
فانظر لقولي تجد نفسي مصورة
…
في صفحتيه فقولي خط تمثالي
ولا تغرنك في الدنيا مشاكلة
…
بين الأنام فليس النبع كالضال
إن أبن آدم لولا عقله شبح
…
مركب من عظام ذات أوصال
ومن قصيدة له يتشوق إلى مصر:
خليلي هذا الشوق لا شك قاتلي
…
فميلاً إلى (المقياس) إن خفتما فقدي
ففي ذلك (الوادي) الذي أنبت الهوى
…
شفائي من سقمي وبرئي من وجدي
وقال في هذا المعنى:
طال شوقي إلى الديار ولكن
…
أين من (مصر) من أقام (بكندي)
حبذا (النيل) حين يجري فيبدي
…
رونق السيف واهتزاز الفرند
تتثنى الغصون في حافتيه
…
كالعذارى يسحبن وشى الفرند
قلدتها يد الغمام عقوداً
…
هي أبهى من كل عقد وبند
كيف لا تهتف الحمام عليه
…
وهي تسقي به سلافة قند
كلما صورته نفسي لعيني
…
قدح الشوق في الفؤاد بزند
وإلى العدد القادم حيث أتم الحديث عن البارودي وشعره الوطني.
عبد الرحمن الرافعي
في سنن الله في الاجتماع
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
الإسلام دين الفطرة. بذلك شهد الله سبحانه إذ يقول في سورة الروم (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم) فأحكام الإسلام إن هي إلا تطبيق محكم من الله للسنن التي فطر الله عليها الناس في الاجتماع.
والناس في اجتماعياتهم لم يهتدوا بعد إلى قوانين الفطرة وإنما يحدسون ويظنون. فنجاحهم في الكشف عن سنن الفطرة في المادة لا يعادله إلا فشلهم في الكشف عن سنن الفطرة في الروح، روح الفرد وروح الجماعة. وهم أنجح في تفهم روح الفرد في علم النفس منهم في تفهم روح الجماعة في علوم الاجتماع. وآية ذلك الاختلاف السائد في هذه العلوم في حين أن لا اختلاف هناك في العلوم الطبيعية، علوم المادة والطاقة، لا في قوانينها ولا في وقائعها وإن كان هناك طبعاً اختلاف في الفروض والنظريات المتعلقة بما لا يزال منها قيد البحث والنظر والتمحيص. فعلوم الاجتماع في كثرة اختلافها وقلة اتفاقها تشبه العلوم الطبيعية في جزئها المجهول وما تعلق به من فروض، أي أنها لا تزال في دور التكوين، دور الحدس والتخمين.
ودور الحدس والتخمين دور ضروري يمر به كل علم في بحث ظواهره قبل أن يصل فيها إلى يقين. لكن علوم الاجتماع يعوزها ما ليس يعوز العلوم الطبيعية من معيار يفصل به بين الحق والباطل، ونميز به بين الخطأ والصواب. فالعلوم الطبيعية تحتكم إلى التجربة العلمية في الفصل بين الفروض المختلفة التي يؤتى بها لتفسير الظاهرة الواحدة، أي تحتكم في الواقع إلى الفطرة نفسها التي تجيب دائماً نفس الجواب عن نفس السؤال كلما أحسن العلم الطبيعي توجيهه. وهذا إن هو إلا مظهر لاطراد الفطرة في سننها، ونتيجة لازمة لذلك الاطراد. لكن العلوم الاجتماعية لا تملك ما يملك العلم الطبيعي من التجربة العلمية التي يتحكم العالم في إجرائها بالصورة التي يرى أنها أدنى أن تؤدي إلى الكشف عن الحق في موضوعها. صحيح أن علماء الاجتماع يستعينون أيضاً بنوع من المشاهدة، ولولا ذلك ما كانت هناك علوم اجتماعية قط. لكن شتان بين المشاهدتين: بين مشاهدة يكيفها ويضبط ظروفها المشاهد كما في العلم الطبيعي، وبين مشاهدة لا يكاد يكون هناك سبيل إلى التحكم
فيها أو ضبط ظروفها وتكيفها كما في العلم الاجتماعي. وهذا الفرق الأساسي هو سبب نهوض العلوم الطبيعية، وقعود العلوم الاجتماعية عن أن تبلغ من الدقة والإصابة المبلغ الذي يليق.
هذه النتيجة ليست راجعة إلى فضل فريق من العلماء على فريق، وإنما ترجع إلى طبيعة الموضوع في كل علم. فموضوع العلم الطبيعي هو المادة والطاقة والحياة في غير الإنسان. وما نفقد أو نخسر من ذلك أثناء التجارب لا يكاد يهم لأنه ممكن تعويضه. كلما تلفت أثناء التجربة الفاشلة كمية من المادة مثلاً أعدنا التجربة بكمية جديدة في ظروف جديدة حتى نهتدي إلى ما نريد. لكن مادة العلم الاجتماعي هي الإنسان متفرقاً أفراداً أو مجتمعاً بطوناً وشعوباً. ومن المحظور أن تعرض الفرد أو الجماعة إلى تجربة تؤدي إلى التلف أو حتى إلى ضرر ملحوظ، بل نفس احتمال الضرر في التجربة يكفي لمنعها وتحريمها قانوناً. فليس أمام العالم الاجتماعي إلا أن يشاهد ما يجري في حياة الجماعات من غير أن يكون له سلطان على تكييف ظروف الحياة تكييفاً يصل من خلاله إلى ما يريد من اختبار فرض أو اختيار الأرجح من رأيين والأصح من نظريتين. وهذا معناه أن سيطول الأمد على العلم الاجتماعي أو الفلسفة عموماً قبل أن يصل أو تصل إلى إثبات سنة من سنن الفطرة في الاجتماع كما قد وصل العلم الطبيعي إلى إثبات الكثير من سنن الفطرة فيما هو موضوعه من مادة الكون عدا الإنسان من حيث هو إنسان.
وعجز العلم الاجتماعي عن الوصول إلى الحق، مهما تكن أسباب ذلك العجز، لن يعفي أحداً من عواقب الخطأ أو التخبط في الحياة الاجتماعية نتيجة لجهل سنن الله التي طبع عليها الفطرة في الاجتماع. فليس ميدان الروح والحياة الإنسانية بأقل خضوعاً لنواميس الفطرة من ميدان المادة والطاقة، وليست نواميس الفطرة في ناحيتها الإنسانية الاجتماعية بأقل دقة وصرامة من نواميس الفطرة في ناحيتها المادية وإن خفي ذلك على الأكثر الأغلب من الناس. فالفطرة في حقيقتها كل شامل متصل وإن جزأه الإنسان ميادين وعلوماً متباينة لعجزه عن دراسة الفطرة دفعة واحدة. إن الإنسان مضطر إلى التحليل أولاً ليتوصل بعد إلى التركيب؛ مضطر إلى دراسة الجزء قبل أن يستطيع إدراك الكل في أمر من الأمور. فإذا قدر للإنسان في علومه المختلفة أن يحيط بالفطرة أجزاء منفصلة فسوف
يستطيع إذا اهتدى إلى فلسفة غير فلسفته الحاضرة أن يبصر الطريق إلى ضم بعض تلك الأجزاء، على تباينها، إلى بعض ضماً يجعل منها كلاً متصلاً تتجلى فيه الفطرة وحدة موحدة يجلوها علم عام جامع لشتات العلوم كلها هو علم الفطرة. عندئذ يرى الإنسان أن سنن الله في الكون واحدة في اطرادها وتناسقها، وفي دقتها وصرامتها، لا سبيل إلى تغييرها ولا إلا لإفلات من عواقب مخالفتها سواء في ذلك ناحية المادة والطاقة منها وناحية النفس والروح في الأفراد والجماعات.
ومهما عذر الناس في جهل أن الفطرة وحدة واحدة في طبيعياتها واجتماعياتها فالمسلمون من بينهم لا عذر لهم؛ لأن كتاب الله فاطر الفطرة قائم بينهم يخبرهم من ذلك بما جهلته الفلسفة ولم يدركه العلم، في آيات هي في أيدي المسلمين وا أسفاه كالمصابيح في أيدي العميان، من نحو قوله تعالى من سورة تبارك (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ومن سورة فاطر (فهل ينظرون إلا سنة الأولين! فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً).
والعجيب أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن لم تنزل في سنن الله في المادة وإنما نزلت في سنن الله في الاجتماع لتنذر الناس عواقب كفرهم إن كفروا بالدين الذي هو دين الفطرة، وليبين لهم أن لله في هذه الناحية سنناً لا تتخلف جرت في الأولين بالإهلاك حين عصوا واتبعوا أهواءهم، وهي جارية لا شك في الآخرين إن هم عصوا أيضاً وخرجوا عن سننه سبحانه التي فطر عليها الناس، سواء أكان خروجهم ومخالفتهم عن جهل أم عن عناد.
ولقد بين الله سبحانه هذه الحقيقة في كتابه الكريم بشتى صور البيان. فتارة يجمل كما في نحو قوله تعالى من سورة الحج (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير. فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها). وتارة يفصل ثم يدل على موضع الحجة والعبرة في التفصيل كما تجد في سورة القمر مثلاً إذ قص سبحانه ما جر التكذيب بسننه ورسله على قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون، حتى إذا بين سبحانه من ذلك ما شاء تفصيله التفت إلى كفار قريش مخاطباً بقوله (أكفاركم خير من
أولئكم؟) فدل بذلك على أن سنته في الكافرين المكذبين بكتبه ورسله سنة عامة لا استثناء لها ولا منجى منها إلا بالإيمان والعمل بالدين الذي تتمثل فيه قوانين الدين في الفطرة، وتتضمن أحكامه التطبيق المحكم لسننه سبحانه في الاجتماع؛ تلك السنن التي علم الله أن السبيل إليها وإلى تطبيقها غير ميسور للناس على الزمن ولا مضمون خلافاً لسننه سبحانه في المادة والطاقة وما إليهما فأمرهم أن يطلبوا هذه بأنفسهم ومن عليهم بتلك مطبقة محكمة في أحكام الإسلام.
ونحن اليوم نرى صدق عموم تلك السنن رأي العين فيما حاق بمخالفيها في الغرب وفي الشرق؛ فالغرب قد نال من العلم الطبيعي عن طريق البحث التجريبي ما نال حتى ظن أنه قد ملك الأرض يفعل فيها ما يريد غير مراقب في الناس إلاً ولا ذمة، ولا مراع في اجتماعياته شرعاً لله ولا سنة. فإذا بنفس علوم المادة تنقلب عليه نقمة، وإذا بأمواله تتحول بتلك العلوم مناجل وقنابل تحصد أهله، وتمزق شمله، وتترك دياره العامرة بلاقع ومدنه الزاخرة حطاماً (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد) وسيان أن يهلك العاصون لله وسننه بحجارة من سجيل يمطرونها على أيدي الملائكة، أو بقنابل زرية وغير ذرية يمطرونها على أيدي أمثالهم من الناس مصداقاً لقوله تعالى (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون).
ومن عجب أن الغرب لاقى ببغيه ومعصيته حربين هائلتين أنسته أولاهما حروب التاريخ، وأنسته أخراهما أهوال الأولى، وكان في كل منهما يبكي ويستبكي، ويدعو ويتضرع، ويعد ويمني؛ حتى إذا خرج من الأولى نسي ما عاهد عليه الله ونقض ما عاهد الناس فأذاقه الله بالثانية لباس الجوع والخوف فلم يعتبر ولم يرتدع ورجع إلى بغيه الذي ألف كما تشهد أعماله في مصر وفلسطين، وفي المغرب الأقصى وإيران وفي كينيا وكوريا وما إليهما. فلم يبق إذن إلا الثالثة تأتيه فلا تبقى منه ولا تذر. وأنى له أن يتجنبها وهو ينحدر إلى هاويتها بالاستعداد لها - زعم - كالمنزلق من جبل لا يستطيع إلا أن يزداد انزلاقاً حتى يهلك. فكان الغرب في ماضيه وحاضره مثلاً آخر مرعباً مؤسفاً للمكذب المغتر الظالم لنفسه ولغيره؛ فهو يوشك أن تحق عليه كلمة الله فيلقى ما لاقاه قوم قال الله فيهم (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين. فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين).
وأعجب من أمر الغرب أمر هذا الشرق الإسلامي الذي لا يزال يتخذ الغرب في اجتماعياته إماماً، كأن فشلها وخطلها لم يثبت بما أشاعت في الغرب من فرقة وبغض، وما جرت عليه من ويل وحرب. أو كأن هذا الشرق ليس بيده نور الله يهديه ودين الله يعتصم به. فلئن لم يتدبر قوله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) وقوله سبحانه (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) فيسمع لأول كل منهما ويطيع، ليوشكن أن يحق عليه سائرهما؛ فإن رأس سنن الله أن يطاع، وأن من لا يطيع يهلك. وسنن الله لا تتخلف كما يشهد به العلم في المادة، وكما يشهد به القرآن في الاجتماع.
محمد أحمد الغمراوي
الشهيد الأعزل.
.!
للأستاذ محمد عبد الله السمان
(سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر
فأمره ونهاه. . فقتله)
حديث شريف.
إن الأسبوع الثاني من شهر فبراير من كل عام، ليحمل في طياته ذكرى هي من أجل الذكريات لدى الشبيبة المسلمة، والقلوب المؤمنة - لا في مصر وحدها - بل في كل بقعة أشرقت بنور الإسلام، وفي كل رقعة سلطت عليها شعاعات التوحيد.
أما الذكرى، فهي ذكرى الشهيد الأعزل (حسن البنا)، والحديث عن (حسن البنا) يعتبر جديداً في موضوعه، مهما طال، ومهما تكرر، إذ ليست شخصيته بالشخصية العادية التي يكفيها من الحديث أقله، فقد كان (حسن البنا) ملء السمع والبصر، دوى صوته في الشرق، فاهتزت جوانبه مؤذنة ببعث جديد، ومعلنة ميلاد فجر مشرق، ومنذرة بالرحيل استعماراً بغيضاً أصر على الخلود بين أرجاء الشرق، ليتخذ منه مطية ذلولا، وبقرة حلوبا، وضيعة ضائعة لا صاحب لها، ولا حارس عليها، ولا مسئول عنها، ودوى صوته في المسلمين فأيقظهم من سباتهم، وأزاح عنهم كابوس الدعة، وهيأهم ليليقوا بالإسلام في عزته ورقيه وعظمته.
ظل (حسن البنا) زهاء عشرين عاما يدعو إلى الله وحده، ويصيح من أعماق قلبه: الله غايتنا. . وتردد وراءه الألوف المؤلفة من الشباب المصوغ في بواتق من الإيمان بالله والثقة به، وظل زهاء عشرين عاما، يدعو إلى الإسلام المصفى. . الإسلام الذي يشيد بالعزة والمنعة والقوة، وينفر من الذلة والضعف والمسكنة. . الإسلام المرن السمح، الذي لا ثقل فيه ولا تعقيد، ولا جمود ولا تزمت، الإسلام الخالص من شوائب الجهلة من الحمقى، والأنذال من المرتزقة. .
وظل (حسن البنا) زهاء عشرين عاما، يكافح الاستعمار في مصر والشام وجزيرة العرب، والمغرب وجنوبي أفريقيا وجزائر الهند الشرقية وغيرها، فلم يخمد له صوت، ولم تفتر له
همة، ولم يهن له عزم، ولم تتزعزع له عقيدة، ويكافح الحكم الإقطاعي القائم على استغلال الحكم، كمورد للثروة، ومصنع للجاه، ومرتع قذر للرشوة والمحسوبية، ويكافح ضعف الشعوب المغلوبة على أمرها، حتى تعرف قدر نفسها، وتؤمن بحقها على الحكومات الإقطاعية المسلطة عليها، لتذيقها ألواناً من العنت والتعسف والإرهاق!
وظل (حسن البنا) زهاء عشرين عاما، يكافح من أجل الشباب حتى انتشله من حضيض التدهور والتفكك والانحلال، وخلصه من مواخير العربدة والاستهتار والمجون، وغذاه بالمثل العليا والمعاني الحية، وصبه في بواتق من الشرف والإباء والطموح، وأعده إعدادا كاملا للكفاح من أجل الإسلام القابع في زوايا الإهمال، وأوطانه الرازحة تحت أعباء الاستعمار والاحتلال، وتجلت قيمة هذا الشاب فوق تربة فلسطين الذبيحة، وأرض القنال يوم معركة القنال. . .
كانت كلمة (حسن البنا) شبحا هو مصدر قلق للديمقراطية الفاجرة في إنجلترا وفرنسا وبلاد العم سام، ومصدر قلق للشيوعية المضللة في الصين الشيوعية وروسيا الحمراء، كما كانت مصدر فزع للعروش الاستبدادية، ولذا كانت المؤامرة على دعوة الشهيد الأعزل ثلاثية، الديمقراطية بالإيعاز والإيحاء، والشيوعية بالدس والوقيعة، والدكتاتورية الممثلة في العروش الطاغية بتنفيذ المؤامرة، مستعينة بالحكومات الهزيلة التي لم تكن تملك من أمرها شيئا، ولم نكن نستطيع أن نكون في حكمها أكثر من أداة مسخرة حمقاء!
ولقد قامت مصر بدور البطل في المؤامرة على الدعوة الإسلامية ولم يكفها أنها بدأت بالضربة الأولى، بل إنها أخذت على عاتقها أن تريح الاستعمار الممثل في الديمقراطية الفاجرة، والفوضى الممثلة في الشيوعية المضللة، والديكتاتورية الممثلة في العروش المستبدة - أخذت على عاتقها أن تريح هؤلاء جميعا من (حسن البنا) ولتقدم بعدئذ رأسه قربانا للصبي العربيد (فاروق) في عيد ميلاده، ولتضيع دماء (حسن البنا) الشهيد الأعزل هدرا، في غوغاء الاحتفالات، وضوضاء المهرجانات، وزحمة السرادقات التي كانت تملأ شوارع القاهرة، حفاوة بعيد ميلاد الجالس على العرش، الصبي المدلل، والمعتوه المقدس، والملك الخليع الذي ورث عرش مصر عن رع وأمون!
وبينما كانت المارة تسمع أزيز دماء الشهيد وهي تنزف في شارع الملكة، كانت الشياطين
تصغي لجوانب القصر (الخرب) تتماوج لهواً وفجوراً وعبثاً، لتقدم فروض الولاء والتهنئة للصبي المخلوع. .!
لقد قتل (الشهيد الأعزل) غيلة وغدرا، وظن الصبي الفاجر أن ملكه أقوى وأعز وأمنع من أن تتسرب إليه الشبهات، ولم يكن يدري أن البقية من الشبيبة المؤمنة خارج القضبان، كانت تعد منشورات بعد ساعات من استشهاد الشهيد الأعزل، جاء فيها (لقد قتل حسن البنا، وعرف القاتل، ولكن يدا خبيثة تحميه، ويد الله أقوى منها، ستصل إليه وترديه والله أكبر ولله الحمد)، وظن القتلة السفاكون أنهم سيظلون في حصن منيع، وفي أمن من قبضة القضاء، وأيقنا نحن بأن عين الله لم تنم، وعدالة السماء لم تغفل، والقصاص آت لا ريب فيه. .
ومرت سنون أربع، فإذا الملك المخلوع يحتفل بعيد ميلاده في منفاه على موائد الميسر والخمر، وبين أحضان العابثات والساقطات، وإذا مصر تحتفل بعيد التحرير من سلطان فاجر أبى إلا أن يتربع على عرش من العربدة والفسق والفجور، وحوله شرذمة من الأفاقين، وإذا بالسفاكين المجرمين في قبضة العدالة، وفي انتظار القصاص العادل، الذي ادخرته السماء لمصر حتى تطمئن أرضها، وإذا بالدعوة الإسلامية بخير تؤدي رسالتها، وتقطع منهاجها الذي رسمته لنفسها، وإذا بالقلوب المسلمة في مصر والشرق، لا تكاد تذمر مأساة الملك مخلوع، حتى تذكر دماء الشهيد الأعزل (حسن البنا) الذي خر صريع البغي في سبيل الحق، فلم تنصفه الأرض، وأنصفته السماء. .!
إن استشهاد (حسن البنا) سيظل خالدا إلى أن تقع السماء على الأرض، ورمزا للفكرة الإسلامية التي أخذت على عاتقها أن تحرر الإسلام من الشوائب، وأن تحرر وطنه من جراثيم الاحتلال والاستعمار، ولئن كان من الممكن للتاريخ أن يجور ويظلم، ويتصنع التهاون والإهمال، فلن يقوى بحال من الأحوال أن يجور أو يظلم ذكرى الشهيد الأعزل، أو يتصنع الإهمال والتهاون فيها، لأن ذكر حسن البنا قد سجلت لنفسها الخلود، ونقشت في القلوب، وامتزجت بالعقائد. .!
محمد عبد الله السمان
حياة المازني
المرأة في حياة المازني
ما أكثر ما عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي
المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
رثى المازني زوجته فكأنما كان يرثي نفسه أو بضعة منه، لا مجرد زوجة، ويناجيها في تفجع مرير (وا أسفي عليك، لا بل على، لم يبق إلا طيف يعتاد ذاكرتي. لا أثر على الرمال الخائنة التي كنا نمشي فوقها ونرقد عليها ونملأ أكفنا منها، وندع ذراتها تتساقط خيوطاً من بين فروج أصابعنا. ولقد نسيتك النجوم التي كنت تحبينها وتشيرين إليها ببنانك وتعدينها، ولم تستوحش خلو مكانك إلى جانبي تحت عيونها المتلامحة، بل هي لم تذكرك حتى يقال نسيتك. والقمر، الذي كنت تأنسين بطلعته وتخالسينه النظر من بين خصل شعرك الدجوجي المرخى على وجهك تحت ضوئه الفضي اللين، لا يزال يبتسم كالعهد به ابتسامة السخر والسهوم كأنه لم يفتقدك. كلا ما من شيء فيما أرى يحس افتقادك، كأنك لم تحبي وجه هذه الطبيعة الخامدة الحس الميتة المشاعر، التي تروعنا ولا تحفلنا، وتنبينا ولا تذكرنا. . وماذا أنا الآن؟ حي من الأحياء لا يدري الناس أني مت منذ سنين، وأني قبر متحرك كشمشون ملتون، أو جثة لم تجد من يدفنها، أو صورة باهتة لما كنته في حياتي. ولقد كنت كما يتوهمني الناس الآن، حياً تتدفق الدماء الحارة في عروقي، فلما تأملت مصائر الخلق ركدت الدماء قليلاً وابتردت، ومات مني شيء. ثم قضى ولدانا فأحسست دبيب الغناء، وضحى ظلك فتساقطت أزهار الحياة بين يدي وذوت نوارات آمالي تحت عيني، وإذا كفي ملأي بميت الزهر مما قطفت قدماً).
وكان يتخذ بيته في ذلك الحين على تخوم العالمين أو على حدود الأبد، ويستريح إلى قضاء لياليه في الصحراء حيث يلفه الظلام في شملته، ويرقد على الرمال كما كان يفعل مع زوجته، ويجعل عينه قيد السماء، يراعي النجوم ويناجيها، وتذهله خواطره السود عن نفسه وما حوله.
وإنه لغارق في لجج هذه الخواطر ذات ليلة - والجو ساج شاحب بدره - (إذا بفتاة ورد تعدو إلي وتناديني باسمي، فأفقت ورددت إلى الدنيا ولكن كما يفيق المغشي عليه؛ يتلفت في كل ناحية ويسأل أين هو؟ ويعجب لنفسه ولمن حوله وبذهنه بعض الكلال، وعلى عينيه كالغشاوة. ثم اعتدلت فوق الرمل ونبهت حواسي ومداركي بجهد، وقلت: من عسى تكونين يا فتاتي؟ قالت: لقد ذهبت أملأ جرتي من بيتكم هذا كعادتي كل ليلة بعد أن تنقطع الرجل، ألم ترني قبل الليلة؟ قلت: نعم ولكني لم أذكرها. فمضت في كلامها وهي تلهث وتلقي علي الأسئلة ولا تنتظر جوابها: إني كل ليلة أتسلل إلى البيت وجرتي تحت ملاءتي وأدفع الباب برفق. لماذا لا توصد بابك؟ ألا تخشى سارقاً؟ ولكن لو كنت توصده لتعذر علي أحياناً الدخول، ولكنت أخجل أن أزعجكم كل ليلة من أجل جرة ماء! وبعد أن أدخل وأضع جرتي في الحوض أتركها تمتلئ على مهل وأرود الحديقة، ولكني والله لم أقطف منها شيئاً، وإن كنت أحب ثمر الحناء. وقد انتهرتني ليلة وأنا أتمشى تحسبني أريد أن أسرق، فخفت وبكيت في الطريق وقلت كيف يسيء الظن بي. نعم، كيف أسأت الظن بي؟ فقلت: لم أكن أعرفك يا فتاتي فلا تغضبي، وخذي ما شئت من الحديقة فما بها ما يستحق أن يضن به المرء. فانحنت إلي وأنا قاعد على الرمل ووضعت راحتيها على ركبتيها وأكبت بوجهها على وجهي وحدقت في عيني وقالت بلهجة العاتب المحاسب: كيف لم تكن تعرفني؟ ألست أحييك كلما دخلت ورأيتك جالساً في ذلك الركن المظلم تحت الكرمة؟ فتناولت وجهها بين كفي وجذبته إلي في رفق وقبلتها، إذ لم يكن ثمة بد من ذلك، وقلت: لا تغضبي يا فتاتي، وإذا كنت تريدين ثمر الحناء فاجنيه كله، أو العنب فعناقيده لك، ولكن خبريني من ذلك على مكاني؟ ونهضت، فعادت إلى التحدث وقالت: من دلني؟ يا له من سؤال! كأن الدنيا كلها لا تعرف، ولقد وجدت بابك الليلة موصداً فعلمت أنك خرجت إلى هنا فجئت أبحث عنك لتفتحه لي، فإني أستحيي أن أقرعه قلت: أحسنت، فتعالي إلى هذه الصخرة. قالت: لماذا؟ قلت: لتعدي لي النجوم؟ قالت: أو هذا ممكن؟ إنها كثيرة جداً جداً! قلت: نعم، ولكنك كلما عددت نجماً وأسرت إليه بإصبعك اختفى واستسر حتى لا يبقى في السماء ولا الأرض إلا عيناك! قالت: أصحيح هذا؟ وجعلت تثب وتصفق حتى لخلتها إحدى بنات الليل. ومضينا إلى الصخرة وجلست وأجلستها على ركبتي وطوقتها بذراعي،
وانطلقت هي تعد النجوم وأنا ألثم فاهاً كلما عدت واحداً، وهي فرحة بلثماتي، تردها مضاعفة حارة، وتهز رأسها وتنفض شعرها ثم تلقي بنفسها على ذراعي كرة أخرى وتستأنف العد ووجهها إلى السماء وشعرها المرسل متدل إلى الأرض. . .)
وأياً ما كان أمر هذه العلاقة العابرة وحظها من الواقع أو الخيال فثمة علاقة أخرى مما عرض للمازني في تلك الفترة من حياته، بعد وفاة زوجته، لا شك في أنها حقيقة مؤكدة وواقع صرف. وذلك حيث يذكر في مقدمة روايته (إبراهيم الكاتب) أنه عرف سيدة نمسوية تزاول الصحافة والتعليم في آن معاً؛ وتوثقت بينهما الصداقة فقد طال مقامها في مصر. وكانت - كما يصفها - حسناء في مقتبل العمر، عالمة واسعة الاطلاع في الآداب والفلسفة على الخصوص. ويقول المازني إنها أطلعته على صفحة من حياتها حافلة بالكروب والمتاعب. ولعلها وجدت فيما حدثها به من قصة حياته - وكانت لا تزال تعاوده صبابة من الحزن على فجيعته بفقد زوجته - ما جعلها تعطف عليه وتأنس به وزاد ذلك بينهما حتى آض، على الأيام، صغوا وتعاطفا وودا. . . (حتى لقد هممت بأن أتخذها زوجة، ثم عدلت عن ذلك وصرفت نفسي عنه، وصارحتها بالسبب، وإن كنت لا خطبتها، ولا كان بيننا ما يخطر ببالها أني قد أعرض عليها الزواج.
كلا! لم يحي المازني قط بمعزل عن المرأة، فقد كانت أكبر علائق الحياة عنده، وعليها درس فلسفة الغريزة والجنس، ومن معرفته وفهمه لطبيعتها كانت شخوص قصصه من النساء نماذج طبيعية للمرأة تصدر جميعاً عن فطرة سليمة وعاطفة مستقيمة. على أنه لم يكن يرتفع بالمرأة فوق مكانها من الجنس أو ينأى بها عن وظيفتها إزاء الرجل والنوع كله، فهي عنده الأنثى التي هيأتها الطبيعة لتكون أداة حفظ النوع وصيانته.
وقد ماتت عنه زوجته الأولى فما لبث أن تزوج بعد سنوات لأنه لم يستطع كما يقول أن يشيح بوجهه عن أهم جانب من جوانب الحياة. وما كان ليعترف بالعزوبة أو يؤمن بجدواها في حياة الأديب. ويقول إن أكبر مزية للزوجة هي أنها (سكن) وأنها تفيض على نفس الرجل وتفرغ على قلبه سكينة هي في رأيه السعادة التي يحق للإنسان أن يطمع فيها ولا بعجز عن الفوز بها. والزوجة عنده سبيل معرفة المرأة فليس يعرف المرأة من لا يعرف الزوجة ولو عرف ألف امرأة غيرها).
والحب، أو هذه العاطفة التي تكون بين الرجل والمرأة، أو بين الذكورة والأنوثة على الإطلاق، هو عند المازني مظهر الغريزة النوعية في الإنسان أو هو الوسيلة التي تتخذها الحياة لبقاء مظهرها الإنساني، والأداة التي تستخدمها لحفظ النوع. وهو بهذه المثابة، ليس إلا ضرباً من الجوع، كالجوع إلى الطعام، وإنما يشتهي المرء بغريزته النسل فيطلب المرأة، وتشتهي المرأة فتطلب الرجل. وليس الرجل أو المرأة بعد، كما يقول المازني، بالغاية المنشودة من هذا الشعور الدافع الذي نسميه الحب، وإنما الغاية هي استخدام هذا الشعور لاتصال الرجل بالمرأة اتصالاً يؤدي إلى التناسل أي حفظ النوع.
وعند المازني أن الحب أشد استغراقاً للمرأة، لأن مدار حياتها على حفظ النوع. ولهذا كانت الغريزة الجنسية فيها أقوى منها في الرجل.
ولا يؤمن المازني بما يسمى الحب العذري أو الأفلاطوني ويقول إنه (مظهر شذوذ أو ضعف في الطبيعة الإنسانية) وآية ذلك عنده ما ينتهي إليه في أكثر الحالات من الخبل أو الجنون. . (وإذا كان الحب لا يدفع إلى طلب الجنس الآخر فلابد أن تكون هناك علة أو آفة كالعلة التي تصرف الجائع عن الطعام).
وليس الحب عنده بعد ذلك تضحية أو إيثاراً أو شيئاً من هذا القبيل، بل هو أنانية صارخة من كلا الجانبين على السواء (فكل محب همه الاستيلاء على محبوبه والاستئثار به دون خلق الله جميعاً).
على أن أهم ما ذهب إليه المازني في فلسفة الحب هو رأيه المعروف القائل بالتعدد، وأن القلب الإنساني يتسع لأكثر من حب واحد في وقت واحد، أو في أوقات متقاربة، وإن اختلف كل حب في القوة والنوع والوجهة، وهو بعد حب صحيح يعلق القلب ويحرك الحس ويغير في النظرة إلى الحياة. ويؤكد المازني أن الإنسان لا يعرف التوحيد في الحب، (فلا الرجل يعرفه ولا المرأة تعرفه، والحقيقة أنه أكذوبة ضخمة وخرافة يلهج بها اللسان ولا يصدقها القلب.) وقد كانت زوايتاه الطويلتان إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني تطبيقاً لهذا الرأي وتمثيلاً له في هذه الحدود.
والكلام عن المرأة في حياة المازني لا يتم بغير الإشارة إلى شخصية كان لها أثرها البارز في حياته وأدبه.
تلك هي أمه. وقد مر في بعض هذه الفصول وصف وجيز لها. وهنا نقول إنها كانت لابنها أكثر من أم؛ فقد كانت له في طفولته أمه وأباه، وكانت له في رجولته أخته وصديقه. وكان، وهو أب وزوج، يعود حيالها طفلاً لا رأي له دونها، ويكل إليها كافة شأنه تصرفه له وتعينه عليه. ومن الحوادث التي تدل على شخصيتها القوية وأثرها الموحي، أنه جاءها يوماً، عقب استقالته من وزارة المعارف وكان ذلك في بدء الحرب الكبرى، فألقى بين يديها بقراطيس فيها (مرتبه) نقوداً فضية، وقال لها: هذا آخر ما أقبض من مال الحكومة. قالت: يعني؟ فأخبرها أنه استقال، فلم تزد على أن قالت: على بركة الله.
ومن حنانها عليه وحبها له أنها كانت تقاسمه الدواء إذا مرض، وتجرع منه أمامه قبل أن تقدمه إليه، فينكر ذلك منها ويقول لها يا أمي كفي عن هذا. فلا يكون جوابها إلا أنه قلب الأم.
وقد كان المازني ينطوي لها على الحب والاحترام والوفاء وأهدى إليها في حياتها كتابه (رحلة الحجاز) وكان لا يفتأ يذكر فضلها عليه، ويسرد حوادثها معه، ويتحرى فيما يعمل مرضاتها وهناءتها. ويقول: لو وسعني أن أجعل حياتها نعيماً خالداً وسروراً دائماً وجذلاً لا تنضب ينابيعه ولا تجف موارده لما قصرت ولا كنت صانعاً إلا بعض ما يجب لها). فلما ماتت ظل يستوحيها في كل ما يقوم بخلده أو ما يمضي عزمه عليه، كأنها حاضرة معه لم تفارقه وكان ربما عن له الشيء فلا يلبث أن يستدبره وينصرف عنه، لما يقوم في نفسه من أن أمه لم تكن لترضاه له أو تشير عليه به لو كانت بقيد الحياة.
محمد محمود حمدان
صور من الحجاز
الموقف الأكبر. . .
للأستاذ محمد كامل حته
أدى الكاتب فريضة الحج هذا العام، وقد نشرنا له في عدد مضى من الرسالة فصلاً عن (الدعوة الوهابية وأهدافها الدينية والسياسية) وفيما يلي يحدثنا عن الموقف الأكبر في عرفات. . .
قال صديقي:
- هنيئاً لك حجك في هذا اليوم؛ إنه يعدل سبعين حجة!
قلت: وما ذاك؟
قال: لقد كانت حجة الوداع في يوم الجمعة، وهو يومنا هذا؛ ولهذا قيل إن الحج إذا وقع في يوم جمعة، تضاعف أجره سبعين مرة. . .
قلت: إن الذي يضاعف أجر الحج ليس وقوعه في هذا اليوم أو ذاك، وإنما في وقوعه من القلوب بمنزلة الإيمان الواعي البصير، الذي تنعكس أنواره فتسري في المشاعر كالكهرباء، ثم تترجمها المشاعر إلى أعمال مبرورة، وكلم طيب يرتفع بصاحبه إلى السماء!
ولاحت لنا عرفات، ذلك السهل المنبسط الفسيح؛ وقد أقيمت فيه الخيام على مد البصر، وفي أقصاه جبل (إلال) أو جبل الرحمة كما يقولون، وقد بدا كأنه جبل من البشر لا من الصخور. . .
إن آلاف الحجاج يغطون جوانبه حتى القمة، وإنك لتشهدهم هكذا حتى في وقت الظهيرة تحت وهج الشمس المحرقة، وفي أتون الحر اللافح الشديد!
وا رحمتاه لأولئك المسرفين في العبادة، تنطلق بهم أشواقهم إلى بعيد، حتى لتكاد تبلغ بهم المهالك، وهم هائمون ذاهلون. . .
وليس ذلك من الإسلام في شيء أيها الأخوة المسرفون.
أيها المسرفون على أنفسهم، وعلى دينهم السمح اليسير؛ هذا الدين الذي لن يشاده أحد إلا غلبه، مهما أوتي من قوة وطاقة، ومهما أسرف على نفسه من جهد وعناء.
خذوا ذلك عن سيد العابدين، وأوغلوا في الدين برفق كما يقول.
ثم ما هذا الوقوف على جبل (إلال) وما مكانه من مناسك الحج كما شرعها محمد بأفعاله وأقواله؟
إن الحج عرفة، ذلك السهل المنبسط الفسيح. وكل مكان فيه موقف لأداء هذه الفريضة، وقد وقف الرسول عند جبل (إلال) ولم يصعد جانبه أو يتسم قمته كما يفعل هؤلاء الغلاة المسرفون؛ وأقر مئة ألف من أصحابه على الوقوف حيث هم من ذلك السهل المنبسط الفسيح، يتوجهون إلى الكعبة بالتهليل والتسبيح والدعاء.
وا رحمتاه لأولئك المسرفين على أنفسهم وعلى دينهم!
إن منهم من يقدم إلى الحج في أخريات أيامه، محطماً هزيلاً متهالكاً من شيخوخة وإعياء؛ وليست لديه إلا أمنية واحدة، هي أن يموت في هذه الأرض الطاهرة البيضاء. . .
وهو في سبيل تحقيق هذه الأمنية التي تملك عليه كل مشاعره؛ يحاول جاهداً أن يستعجل هذه النهاية، ويختصر في الوصول إليها أسباب الحياة!
إنه يجد في أشعة الشمس المحرقة خيوطاً ترقى عليها روحه إلى السماء، فهو يتعرض لها ويتشبث بأسبابها ليبلغ من أمنيته ما يريد. . .
وهو يقسو على شيخوخته وضعفه، بل إنه ليمد هذه الشيخوخة وذلك الضعف بما يدفعهما به دفعاً إلى مصيره الرهيب الحبيب!
إنه الانتحار. . . الانتحار على أخبث صورة وأبعدها فتنة وضلالة؛ لأنه انتحار بلبس ثوب الشهادة في سبيل الله؛ والله ورسوله من ذلك براء.
وجدير بي وأنا أتحدث عن أولئك المسرفين على أنفسهم وعلى دينهم، من أمثال أولئك الشيوخ الفانين، وغيرهم ممن لا تتوافر فيهم شرائط (الاستطاعة) كهذا الذي يقدم على الحج وهو ضعيف معتل، لا يقوى على متاعب الحج ومشاقه؛ أو ذاك الذي يبيع كل ما يملك من حطام الدنيا ليظفر بأداء هذه الفريضة، لا يعنيه بعد ذلك أن يعود إلى بلده معدماً يستجدي الناس ما يعول به نفسه وأهله.
جدير بي في هذا المقام أن أضرب مثلاً بما فرضته دولة إسلامية ناهضة هي إندونيسيا؛ إذ اشترطت على من يريد أداء فريضة الحج شروطاً منها: ألا تزيد سنه على خمسين عاماً، وأن يجتاز فحصاً طبياً تثبت به سلامته من العلل والأمراض، وتدخل في ذلك المرأة أيام
حملها؛ وأن يكون لديه من المال - عدا نفقات السفر والإقامة - ما لا يقل عن سبعين جنيهاً. وإذا ثبت أنه باع عقاراً لا يملك سواه لينفق منه على رحلة الحج، منع من السفر ورد إليه عقاره.
ولم يكن من نتائج هذه السياسة أن انصرف الإندونيسيون عن الحج؛ فإنهم ليفدون على البيت الحرام أفواجاً مؤلفة؛ وإنما كان من نتائجها أنها جنبت العجزة منهم كثيراً من المهالك والمآثم، وبعثت إلى موسم الحج بالنماذج القادرة الصالحة لأداء هذه الفريضة.
. . . واجتمع في عرفات ثلاثمائة ألف أو يزيدون. وفي هذا الموقف تتجلى روعة الحج وحكمته؛ هذا المؤتمر الإسلامي العظيم الذي يهرع إليه المسلمون من جميع أقطار الأرض ليشهدوا منافع لهم.
ولكن أي منافع تلك التي شهدناها في هذا الموقف الجامع، وأي ثمرات جنيناها من ذلك المؤتمر الخطير الذي لا تتهيأ أسبابه المادية والروحية إلا يوم عرفه؟
. . . وأخذتني سنة من النوم وأنا جالس في المخيم الذي أعده فندق مصر لنزلائه، أتفيأ الظل وأقرأ في كتاب. وإذا بي أشهد جبل (إلال) قد أقيمت عليه مظلة كبيرة تخفق فوقها عشرات الأعلام، وقد جلس تحتها نفر من الناس في لباس الإحرام، على منصة ذات أسوار. وإذا رجل منهم يقف أمام جهاز للإذاعة فيهتف:
- الله أكبر، ولله الحمد.
ثم ينطلق في حديث تردده أجهزة للإذاعة أقيمت بين الخيام. . .
إنه يتحدث عن هذا الموقف العظيم، ويرجو أن يكون شهوده جديرين بأن يباهي الله بهم ملائكته في السماء!
ثم هو يتلو على الناس ما اتخذه مؤتمر الحجيج في الموسم السابق من قرارات، وما قامت به الدول الإسلامية لتنفيذ هذه القرارات من جهود. وهو يستعرض بعد ذلك قضايا العالم الإسلامي، وعلاقاته بغيره من الدول، في إحاطة وإيجاز. ويتنحى عن مكانه بعد أن يقدم للحديث أولئك النفر الذين يجلسون حوله واحداً بعد الآخر. . .
فهذا آية الله الكاشاني يتحدث عن تأميم الزيت في الحقول الإسلامية؛ وعن مشروع الكتلة الثالثة، التي تحفظ على العالم الإسلامي والعربي كيانه، ويعتدل بها ميزان الأمن والسلام
الذي تتأرجح كفتاه بين الشرق والغرب.
وهذا محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء في الجزائر، يرسم الخطوط العملية لتحرير المغرب العربي من نير الاستعمار.
وهذا سردار عبد الرب نشتر وزير الزراعة في باكستان يتحدث عن تجارب بلاده في سياسة الاكتفاء الذاتي، ويعرض مشروعاً للتعاون الاقتصادي بين البلاد الإسلامية.
وهذا بشير السعداوي زعيم طرابلس، يكشف عن المؤامرات الاستعمارية التي أحالت استقلال ليبيا بعد جهادها الدامي أربعين عاماً، إلى أسطورة سياسية. . .
وهذا الدكتور محمد حتا نائب رئيس الجمهورية الإندونيسية، يروي قصص البطولة النادرة، التي صرعت الاستعمار الهولندي وإسناده فيما وراء البحار. . .
وهذا عبد الله الفاضل المهدي، يعدد جرائم الاستعمار البريطاني في السودان، وخاصة فيما وراء الستار الحديدي في الجنوب.
وهذا الأمير سيف الإسلام عبد الله، يتحدث عن الكنوز المعدنية المخبوءة في حقول اليمن وجبالها، ويدعو أهل الفن وأرباب المال في البلاد العربية والإسلامية، لكشف هذه الكنوز واستغلالها؛ وبذلك تزداد موارد الثروة الاقتصادية في العالم الإسلامي، وتتخلص اليمن مما هي فيه من فقر وجهل ومرض وتخلف عن ركب الحياة.
وهذا أمين الحسيني يؤبن الفردوس المفقود، ويردد أنات شعب فقد الوطن، وفقد معه حقه في الحياة، وأنكر الأولياء من أبناء عرقه وملته؛ قبل أن ينكره الأباعد والأعداء.
وهذا حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة، يتحدث عما ابتدعه المسلمون في دينهم من طقوس، وما أحدثوا من ضلالات؛ الأمر الذي أوشك أن يعود بالإسلام غريباً كما بدأ، وأوشك أن يجعل المؤمنين به، القائمين على شريعته غرباء في هذه الحياة!
وهذا نجيب الراوي سفير العراق في مصر، يعرض مشروعاً أعدته بلاده لتعمير ملايين الأفدنة الغامرة على ضفاف دجلة والفرات، ويرى أن نجاح هذا المشروع في العراق؛ وقيام مثله في مصر؛ كفيل بأن يمحو عنهما وصمة استيراد (الحبوب) من البلاد الأجنبية، ويفتح مجالاً واسعاً لترقية مستوى المعيشة، بازدياد الإنتاج الزراعي، وإنعاش الحياة الاقتصادية في البلاد.
وهذا حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية، يتحدث عن التقريب بين المذاهب، وعن الاجتهاد في الشريعة، حتى توائم تطور العصر وتواجه مشكلات المجتمع. وحتى يصبح التشريع الإسلامي مادة حية في المجتمع الإسلامي، وليس أثراً جامداً في الكتب الصفراء. . .
وهذا الأمير فيصل يتحدث عن مشروع خمس السنوات الذي وضعته الحكومة السعودية للنهوض بمرافق الدولة ومستوى الشعب، ورصدت له مائة مليون من الجنيهات.
ثم عاد التحدث الأول إلى (الميكرفون) يقول:
- والآن، أيها الأخوة، نختتم هذه الجلسة الأولى للمؤتمر. وموعدنا معكم أيام التشريق في (منى) حيث تجتمع اللجان الفنية لدراسة ما لديها من مشروعات، وما تقدمونه إليها من مقترحات، ثم تعرض تقاريرها على المجلس الأعلى للهيئات النيابية، فيحولها إلى مواثيق تأخذ طريقها إلى التنفيذ.
- الله أكبر، ولله الحمد!
وأفقت من غفوتي على ضجة في المخيم، وتلفت فإذا الخدم يحملون أكواب الشراب المثلج، والناس يتصايحون ليطفئوا ظمأهم الشديد.
ثم هدأت الضجة، ولم يزل أثر هذا الحلم الجميل يداعب أجفاني، ويراودني على الإغفاء من جديد!
وساءلت نفسي: أين نحن في موقفنا هذا من تلك الصورة التي طافت بي في المنام؟ وأين هي تلك المنافع التي جئنا لنشهدها في هذا الموقف الجامع العظيم؟
إن جبل (إلال) ما يزال ماثلاً أمامي تغطي جوانبه وقمته آلاف الحجاج، تصهرهم أشعة الشمس المحرقة، ويرمضهم حرها الشديد؛ ولا تطوف بخواطرهم إلا معان غامضة ساذجة، ليس بينها وبين تلك المعاني المشرقة الرشيدة التي طافت بخواطر أولئك النفر الذين تخيلتهم في منامي، إلا ما بين الحقائق والأحلام.
وإن هؤلاء النفر الذين يمثلون الصفوة المفكرة المجاهدة من رجالات الأمة الإسلامية، والذين تخيلتهم في موقفهم ذاك على جبل (إلال) يتحدثون ويلهمون؛ فتهتز لحديثهم جنبات الوادي، وتتجاوب مع كلماتهم قلوب الملايين من مسلمي الأرض، وتنخلع أفئدة زبانية
الاستعمار وقراصنة الشعوب. . . ها هم أولاء بذواتهم يؤدون فريضة الحج، ويقفون في عرفه. ولكن وقوفهم هذا أبعد ما يكون عن وقوفهم ذاك؛ بعد الأرض عن السماء.
إنهم هنا لا يؤدون تلك الأمانة العظمى، فيتحدثون إلى مئات الألوف، ومن ورائهم مئات الملايين؛ ومن ورائهم دول العالم ترهف السمع والقلب - حديث التوجيه والإلهام والبعث والبناء؛ ولكنهم يقفون كغيرهم من عامة الناس، ممن لا يحملون أمانة، ولا يضطلعون بمسؤولية. وإذا تحدث أحدهم لا يتجاوز حديثه بضعة أفراد، ولا يتخطى أبواب الخيمة وآذان سامعيه!
أين هي إذن تلك المنافع التي جئنا لنشهدها في هذا الموقف الجامع العظيم؟
إن منفعة واحدة هي التي أزعم أنني أفدتها. ويزعم الكثيرون.
هي الشعور بهذا النقص الخطير في تمثل حكمة الحج وتلك المسؤولية الكبرى في إهدار هذه الفرصة التي لا تتاح للمسلمين إلا مرة كل عام.
محمد كامل حتة
شعر مختار
رباعيات
للدكتور عبد الوهاب عزام
ينبع الشعر والشواغل شتى
…
كانبجاس الزلال بين الرمال
أبصر الماء صافياً لست أدري
…
كم فياف سرى بها وجبال
قد عبدنا حدائق الحسن في الأرض
…
ترينا الثمار كل شهي
وكبرنا عن أن نسف إليها
…
فمضينا كطائر وحشي
قلت لليل كم بصدرك سر
…
أنبئني ما أروع الأسرار؟
قال: ما ضاء في ظلامي سر
…
كدموع المنيب في الأسحار
قد تهاوى إلى الحضيض أناس
…
وخذوا حين حوسبوا بالظواهر
ليت شعري فما يكون أناس
…
ما يكونون يوم تبلى السرائر؟
قالت النفس لا تسل لست أدري
…
في خضم الحياة بالمقصود
غير أني أرى شراعاً وريحاً
…
ومناراً يلوح لي من بعيد
لا يبالي الأخيار في هذه الأر
…
ض بباغ ومفتر وحسود
لو يبالون لم يشقوا طريقاً
…
بين هذى الآفات نحو الخلود
كم سمعنا وكم رأينا عجيباً:
…
في أناس طبيعة الحرباء
فهم يبدلون لوناً فلوناً
…
في غداة وضحوة ومساء
لا ترج الثواب عند عباد
…
خاب من يرتجي ثواب العباد
كم يجازون بالإساءة إحسا
…
نا وبالكفر ما لقوا من أيادي
لا يعادي الإنسان كلباً عقوراً
…
أو يخاف الملام إن فر منه
كم عقور من الأناسي فأحذر
…
هـ ولا تخز إن تباعدت عنه
علماء الزمان في درجات
…
لا من العلم بل من الأموال
إنما هذه الوظائف أثم
…
ن بها قومت قدور الرجال
عبد الوهاب عزام
لقد (أنجبت) أرض الكنانة منقذاً
للشاعر الفلسطيني الأستاذ مصباح العامودي
معاذ العلا أن تقبل الخسف مورداً
…
وتغدو مسوداً بعد أن كنت سيدا
وحاشاك أن تحيا على الناس عالة
…
وتهجر ميدان الكفاح وتقعدا
وأنت الذي أحنى له الدهر هامه
…
وسطر للأمجاد سفراً مخلدا
بنى فوق هام الشهاب أهرام مجده
…
ومن مهج الأبطال صرحاً مشيدا
أغرت على الأهوال سهما مسدداً
…
وصلت على الأحداث سيفاً مجردا
فأوشك ثغر الصبح يفتر باسماً
…
وكاد طريق النصر يبدو معبدا
ولكن (شيوخ) العرب (لله درهم)
…
أبوا لك إلا أن تكون مشردا
عجبت لكم فيم التفاخر بينكم
…
فهل ظل غير (البيت) أن يتهودا
ويا ليت هذا البيت أضحى مهدماً
…
وصينت لنا الأغراض بيتاً ومسجدا
تشاء بيوت الله إما تهدمت
…
وما انهار من أعراضنا لن يشيدا
محرر وادي النيل إعجاب شاعر
…
يرى فيك للإسلام عزاً وسؤددا
فلسطين لن تنساك براً بأهلها
…
حيفا ولن تنساك عوناً ومنجدا
وأن دماً أهرقته فوق تربها
…
سيبقى على الأيام هدياً ومرشدا
لنا فيك آمال كبار أجلها
…
قبولك جيش اللاجئين مجندا
نشارك في تحرير مصر وحسبنا
…
نرد جميلاً أو نموت فنحمدا
فنحن وهبنا المجد ما في أكفنا
…
ونحن مهرناه نفوساً وأكبدا
إذا دعت العلياء يوماً فإننا
…
لأول شعب مستجيب إلى الندا
بلادي لك البشرى ولي فرحة اللقا
…
ظلامك قد ولى وصبحك قد بدا
فقد (أنجبت) أرض الكنانة منقذاً
…
وقد بعثت كف السماء (محمدا)
غضبة ريح الشمال
للأستاذ محمود عماد
لبثت الدهر يا ريح الشمال
…
رخاء سجسجاً في الانتقال
يناشدك العليل شفاء داء
…
ويسألك الحزين صفاء بال
فكيف غدوت عاصفة تذري
…
ديار القوم تذرية الرمال؟
كأنك مارد شرس غضوب
…
يروع بالمزيف وبالصيال
تركت البر بحراً ذا سفين
…
ولج البحر براً ذا جبال
فأغرق طائر إذ طار خوت
…
إلى شجر بأقصى الشط عال
وأفلتت الشباك الصيد إلا
…
أوابد من نساء أو رجال
ولاقى الغرب ما لاقاه منه
…
أخوه الشرق من سوء الفعال
فمن للريح بالتأديب أوحى
…
وعلمها التفوق في النزال؟
وأشهدها بمصر وإندنسيا
…
وفي مراكش هول النكال؟
لئن جاز الشمات لنا شمتنا
…
وقلنا عشت يا ريح الشمال!
ويا ريح الجنوب ترسميها
…
غلواً في الدمار وفي الوبال
ولكنا لآدم انتسبنا
…
إذا انتسبوا إلى وحش الدغال
وأن يعوزهمو خلق جميل
…
ففي أخلاقنا سمة الجمال
فيا ريح ارحمي الظلام مما
…
به نكبوا الأواخر والأوالي
مسرح وسينما
مسرحية (ست البنات)
تأليف: الأستاذ أمين يوسف غراب. إخراج: الأستاذ حمدي
غيث. تمثيل: فرقة المسرح المصري الحديث.
للأستاذ علي متولي صلاح
بدأ التنافس يشتد بين المؤلفين وبين الفرق المسرحية عندنا على تقديم المسرحيات الهزلية (الكوميدية) حتى أوشكت أن تستغرق المسرح المصري كله. ومرد ذلك - من غير شك - إلى أن هذه المسرحيات قريبة من أهواء الجماهير، محببة إلى نفوسهم، وإلى أنها تجلب من (الإيراد) ما لا تجلبه سواها من المسرحيات!
ولست أدري ما الذي يهدف إليه الكثيرون من مؤلفي هذه المسرحيات؟ اللهم إن كان كل ما يهدفون إليه هو إضحاك الجماهير - دون نظر إلى أي اعتبار آخر - فليس عليهم من بأس إذا هم تركوا المسرحية واكتفوا (بالنكتة) الشعبية، أو (القافية) البلدية، أو هز البطون وتلعيب الحواجب وإخراج اللسان وما إلى ذلك، فإن في هذا غناء لهم أي غناء، ومتسعاً لهم أي متسع!
أما إذا كانوا يهدفون إلى الإضحاك عن طريق (المسرحية) فإن لزاماً عليهم أن يراعوا قواعد هذه المسرحية، وأن يدرسوا أصولها، وأن يجعلوها غرضهم الأول بحيث يكون الضحك منبعثاً عنها، متشععاً من داخلها، لا منصباً عليها انصباباً من الخارج في افتعال وإقحام؛ ليستمر ضحك الجمهور، وترتفع قهقهته، فيضمن المؤلف والفرقة ازدحام الناس ووفرة الإيراد!
وليست المسرحية التي نعالجها اليوم نموذجاً أعلى لهذا اللون من المسرحيات التي يقصد منها إلى الإضحاك وحده وإن أخذت بالكثير من أسبابها - ولكن هذه الظاهرة واضحة في مسرحياتنا الهزلية، حنح إليها المؤلفون جنوحاً كبيراً حتى جعلوا مقدار نجاحهم يساوي تماماً مقدار ما تؤدي إليه مسرحياتهم من إضحاك، دون نظر إلى مقومات المسرحية أو إلى الغرض التهذيبي أو العقلي منها!
ومسرحيتنا اليوم (ست البنات) تقوم على قصة شاب يشتغل محامياً تزوج حديثاً، ولكنه ظل سادراً في غيه وضلاله، منصرفاً عن بيته وعن مكتبه إلى عشيقاته الكثيرات اللائى اتخذ لهن مسكناً خاصاً أنيقاً يقضي فيه معهن السهرات الممتعة والليلات الملاح! ولكن زوجته - وقد ضاقت بذلك كثيراً - اتخذت صورة خادمة المنزل واتفقت مع وكيل مكتبه - بعد أن بذلت له الوعود المعسولة! - على أن يوافيها بأنبائه جميعاً، ويطلعها على حركاته وسكناته، ويفضي إليها بأسراره ومواعيده مع عشيقاته. واتخذت - من ناحية أخرى - صفة مندوبة جمعية وهمية تسمى (جمعية الهلال الأخضر). وجعل وكيل المكتب - وقد سحره جمالها وجمحت به رغبته في تحقيق وعودها! - يفضي إليها كل يوم بتلك الأنباء والمواعيد. وأخذت هي - بصفتها مندوبة جمعية الهلال الأخضر - تتصل بأباء عشيقاته. وتعمل جاهدة على أن تفسد عليه كل خطة. وأن تأخذ عليه كل سبيل.
ثم انتهت إلى أن عرفت مكان مسكنه الخاص ومأوى عشيقاته. ففجأته فيه ذات ليلة. ولكنها لم تجده به. وإنما وجدت صديقاً له كان قد استبقاه وطلب إليه القيام بخدمة كبرى! فقد اجتمع له في مساء تلك الليلة موعدان مع عشيقتين يريد إحداهما ويأبى الأخرى. ولن يستطيع أن يجمع بينهما في صعيد واحد! فطلب إلى صديقه هذا أن ينتظر بالمنزل حتى تحضر هذه (الأخرى) فيحاول أن يتخذ معها موقفاً مريباً يفجؤهما فيه هذا الزوج فيثور عليها ويطردها من المنزل فيصفو له الجو مع عشيقته التي يهواها!
ولكن الزوجة هي التي حضرت - قبل العشيقة المرتقبة - فحسبها الصديق تلك العشيقة ورغب في القيام بالمهمة التي طلبها إليه صديقه. ورغبت هي أيضاً - بينها وبين نفسها - في ذلك لإشعال نار الغيرة في صدر زوجها. فالتقت الرغبتان. وجاء الزوج فرأى هذا الموقف المريب. فتاب وأناب. وأقسم لها بالله العظيم أن يهجر هذا المنزل. وأن يثوب إلى زوجته وإلى عمله مدى الحياة.
ذلك هو الخط الرئيسي لمسرحية (ست البنات)؛ ولست أفهم سبباً لإطلاق هذه التسمية على مسرحيتنا هذه إلا أن هذه الكلمة من صميم كلام الشعب. وليس مما يصح في الأذهان أن يسمي المؤلف إحدى بطلات مسرحيته باسم (ست البنات) مثلاً، قاصداً إلى ذلك متعمداً إليه. ثم يجعل من هذا الاسم المفتعل اسماً للمسرحية كلها دون أن توجد أدنى علاقة بين
هذا الاسم وبين موضوع المسرحية. فإن هذا خداع للناس وتضليل لهم يجب أن ينأى عنه كرام المؤلفين. وقد أشرت إلى ذلك عند حديثي عن (صندوق الدنيا). .
والعجيب في أمر (ست البنات) هذه - وهي زوجة المحامي - أنها ظهرت لنا في الرواية - أول ما ظهرت - طيبة القلب ساذجة سليمة الفؤاد صابرة مؤمنة تقول بأن (الست تعيش مرة واحدة وتتجوز مرة واحدة) - وإن كان ذلك يؤذي شعور بعض السيدات ويخالف ما شرع الله! - وتقول بأن (الدموع في بيت الزوج أحسن من الضحك في بيت الأب). . . ثم إذ بنا نراها بعد قليل جداً من الزمن. وقد انقلبت امرأة لعوباً خبيثة ماكرة تمثل دور الخادمة في حذق وإتقان. وتلعب بعقل وكيل مكتب زوجها - وهو رجل كهل كثير التجارب - وتغريه بالأماني المعسولة، وتستدرجه فيفضي لها بكل ما تريده، وتمثل - في نفس الوقت - دور مندوبة جمعية الهلال الأخضر - وهي جمعية وهمية كما قدمت - وتستمر في هذا التمثيل طويلاً دون تعثر أو اضطراب حتى تحقق ما تريد! فمن أين جاءها كل هذا المكر والدهاء على حين فجأة؟. . . وعلى العكس منها تماماً كان زوجها، فهو - كما بدا من أول الرواية حتى قبيل نهايتها - رجل عابث مستهتر، زير نساء، واسع الحيلة، كثير التجارب في أمور النساء خاصة، ثم هو محام فوق ذلك كله، وهو قد أستشعر التجسس عليه وأحسه ولمسه حتى قال (كل الناس بيتجسسوا علي حتى التليفون!). . . رجل هذا شأنه كيف لا يدرك أن موقف زوجته مع صديقه - في منزله الخاص - تمثيل منها وصناعة؟ كيف لا يدرك ذلك وهو يعرف أخلاق صديقه، ويعرف أن زوجته لم تلتق به ولم تعرفه إلا منذ لحظة؟ ويعرف أن الأمر يقع في منزله الخاص الذي لم تدخله زوجته إلا هذه المرة، والذي لا تأمن فيه أن يحضر زوجها في أي وقت لأنها تجهل نظام المنزل ومواعيد حضوره فيه - وهذا في نظر الزوج طبعاً - كيف يجتمع له كل ذلك ثم ينخدع في هذا الموقف ويؤمن بأنه حقيقة خالصة؟
ثم لماذا تاب وأناب؟ ألأنه قد انكشف أمره؟ إن ذلك لا يكون سبباً فهو يعلم أن أمره مكشوف من زمن بعيد، وأن الناس يتجسسون عليه، وأن التليفون يتجسس عليه أيضاً كما قدمنا! أم لأنه انخدع فظن السوء بصديقه وبزوجته، وذلك أمر لا يعني من كان على شاكلته، ثم هو قد علم بعد لحظة يسيرة بأنه كان تمثيلاً من الزوجة وكان خطأ من الصديق
كما صرح له بذلك! إن الممثل الذي كان يقوم بدور الزوج - وهو الأستاذ صلاح سرحان - قد أختلج واضطرب عندما أراد أن يقوم بهذه التوبة والإنابة فأكبرناه وحمدنا له هذا الاختلاج والاضطراب! إنه إحساس منه بحرج الموقف، وشدة المفارقة، والنقلة المفاجئة من الضلال البعيد إلى الهدى والاستقامة!
وكم كان خيراً لو أن المؤلف نأى عن الكلام الذي يمس الناحية الجنسية كقول الخادمة مثلاً عن وكيل المكتب الذي طلب أن يكون متقدم أتعابه قبلة (إذا كان المنيل بيعمل كده على المقدم!) وكقول المؤلف - متهكماً عن نظام علاقة الزوج بعشيقاته إن (جلساته تنعقد في البارات، والحكم على السلم، والتنفيذ هنا في الشقة!) وغيرها فإن هذا - وإن أضحك البعض كما يقصد إليه المؤلف - فإنه يؤذي شعور البعض الآخر والمسرح للناس جميعاً.
وكم كان خيراً لو أنه نأى عن الكلام الذي فيه تعريض ببعض الناس أو زراية ببعض الطوائف مثل قوله للخادمة (أنت خدامة ولا مدرسة إنشاء!) ومثل قوله (إنها متخرجة من حي زينهم) ومثل زرايته المستهجنة بالشعراء وإظهاره لأحدهم وهو يخور كالثور قائلاً (عا - عا) ويدق صدره بيده كالمجنون، ويقبض قبضات من الهواء يضحك لها الناس فيرضى المؤلف ويمتلئ سروراً بضحكهم! وأرجو ألا تجمع الرغبة في الإضحاك ببعض المؤلفين إلى هذا الحد. وكم كان خيراً لو قال - نوعاً ما - من الاعتماد الكثير على التليفون الذي استمر معه طول الرواية والذي يذكرنا بالمغني الضعيف الذي يجعل أكبر اعتماده على (التخت)!
ولا أدري كيف يشهد الزوج الريبة بين زوجه وصديقه ويؤمن بهما إيماناً تاماً، ثم يدور الحوار بينهم طويلاً، وصديقه ينحيه ويبعده عنها - باعتبار أنها صديقته التي صارت خليلة لصديقه هذا - ويستمر هذا الحوار ربع ساعة دون أن يعلن أنها زوجته؟ كيف يحتمل الزوج هذا كله؟ وما الذي عقل لسانه عن إعلان أنها زوجته؟ بل ما الذي أقعده عن قتله أو قتلها وهو ما يفعله الكثيرون في مثل هذا الموقف؟
أما المخرج والممثلون فأشهد أنهم - في جملتهم - قد أمدوا هذه المسرحية بحياة ليست منها في شيء، فإنهم قد بذلوا جهداً مشكوراً وحملوا مشقة كبيرة، وأخص بالذكر منهم (أحمد الجزيري)، (نور الدمرداش) ولكني أسأل الأستاذ المخرج: كيف - وقد جعل المؤلف فصل
الرواية الأول يمثل نهاراً كاملاً - لم يعمل فاصلاً يوضح به مرور هذا الزمن الطويل، ولم يغير الإضاءة كما تتغير في واقع الحياة؟ وكيف يجعل الخادمة تقابل الضيف الكبير وهي تحمل (المقشة) بل تضعها أمامه على المنضدة وهو أمر غير مألوف في الحياة؟ وكيف يظلم مكتب المحامي إظلاماً دامساً ويدعه فارغاً من كل صوت ومن كل إنسان فترة من الزمن؟ وكيف يملأ القسمين اللذين انقسم إليهما المسرح - في الفصل الثاني - بالحركات الكثيرة هنا وهناك فتشغل إحداهما عن الأخرى وتكون سبباً في إضعافها وإماتتها؟
وأسأل الأستاذ (عدلي كاسب) لماذا يتشبث بمحاكاة (بشارة واكيم) في هيئته وحركاته وكلماته فيذكر الناس (بشارة) وينسون (عدلي)؟ وكيف يمد يده - مغازلاً - لمندوبة جمعية الهلال الأخضر في بيتها بمجرد لقائه بها في منزلها بدون أي مقدمات تشجعه على ذلك؟ وكيف يطلق العنان لأنفه فيسترسل في (التشخير) مرات عديدة اللهم إلا إذا كان ذلك لأنه رأى الجمهور يستريح لهذا الشخير ويضحك منه؟ ولماذا يطلق الرصاص على الوكيل - الذي حسبه المحامي - بافتعال واضح وهو يقفز ويضحك ويجري؟ ويطلقه في الهواء دون هدف؟
وأسأل (صلاح سرحان)، (سميحة أيوب) لماذا يطلبان التليفون بإدارة أربعة أرقام لا خمسة كما يجب - وقد تكرر هذا منهما - وهما يعلمان أن التمثيل يجب أن يمثل الحقيقة بحذافيرها وأنه إذا دخله الزيف فقد انهار من أساسه؟
وأسأل (أحمد الجزيري) لماذا يخلع الحذاء ويهم بأن يضرب به المحامي وصديق المحامي ثم لا يفعل - دون أن يرده أحد عن هذا الفعل - وهو عمل غير مستحب؟ ولماذا - وهو يحاول إفهام السيدة أن اسمه دردير أفندي بالدال - يشير بيديه - ممثلاً صورة حرف الدال - إشارة تمثل أحد الأعضاء الجنسية في الإنسان، ليضحك الناس، وهو يعلم أن هذا الشيء لا يجوز؟ وكيف يسمح المخرج بهذه الفعلة؟
وأسأل (سميحة أيوب) كيف تجري وراء زوجها وهو يفض الخطاب كأنها تستطلع ما فيه مع أنها قرأت صورته كاملة أمامنا - نحن جمهور المشاهدين - منذ لحظة يسيرة مع أنها وقفت خلفه بحيث نراها نحن ولا يراها هو؟
أرجو أن يتنبه الممثلون إلى أن هذه الدقائق في أعمالهم ليست دقائق في أعين الجمهور
الذي يرقب كل حركاتهم في يقظة شديدة وانتباه كبير.
علي متولي صلاح
أخبار أدبية وعلمية
المحلة الغامضة
يصدر نفر من كتاب الطليعة الأوربيين في روما العاصمة الإيطالية مجلة جديدة من نوع غريب تحمل اسم (الحوانيت الغامضة يشترك في تحريرها بعض الناشئين من الكتاب الإيطاليين والفرنسيين والإنجليز باللغات الثلاث. وتدعي هذه المجلة أنها لسان حال الأدب العالمي الجديد. وقد اتبع محررو هذه المجلة أسلوباً مستحدثاً في الكتابة والتعبير. فهم لا يتقيدون بقواعد الصرف والنحو وأبواب القريض التقليدية. فالنقط والفواصل وما إليها من الإشارات التعبيرية والكتابية والتحريرية مفقودة من نص المقالات أو مدونة في أماكن لا يصح أن تستعمل فيها.
وعدد صفحات المجلة 479 وتصدر في غير انتظام، وبعض مقالاتها وأشعارها رؤوس أقلام لأعمال أدبية فخمة. يطمح كتابها أن يتوسعوا فيها حين يطيب لهم مثل هذا التوسع! والغموض يكتنف مجلة (الحوانيت الغامضة) حتى ولو حاول القارئ استيعابها في ضوء أشد المصابيح إشراقا.
ترجمة جديدة لأشعار بودلير
صدرت في هذا الشهر ترجمة إنجليزية جديدة لديوان (زهور الشر) للشاعر الفرنسي المعروف بودلير. وقد أثارت هذه الترجمة جدلاً حول صعوبة ترجمة المنظوم من الأدب الأجنبي والصعوبة التي واجهها المترجم في نقل الروح الشعرية واللفظية التي يتميز بها الشعر بين أدب وآخر من الآداب العالمية.
وقال نفر من النقاد إن أسلوب ترجمة الأشعار الكلاسيكية لأشعار بودلير يجب أن يتفاوت ما استطاع الابتذال في التعبير، وأن يتعمد صياغة الترجمة في الأسلوب اللغوي القديم الذي من شأنه أن يحيط الترجمة بهالة الجلال الأدبي الذي يتناسب مع عظمة التراث الأدبي للمترجم له.
وقال نفر آخر من النقاد إن القارئ المعاصر يجب أن يزود بترجمة خالية من التعبيرات القديمة وإن جاء ذلك على حساب الأمانة الأدبية في النقل.
ويبدو أن الاتجاه الثاني هو السائد في حاضر الأدب الإنجلو سكسوني. وليس أدل على هذا
من المجهود الأخير الذي قامت به الكنيسة البروتستانتية في إعادة ترجمة التوراة في لغة عصرية تخلصت من بعض التعابير البائدة التي كان الكثيرون من عشاق (الكتاب المقدس) يعتقدون أنها خير ما في هذا الكتاب من مزية أدبية.
كتاب جديد لجابرييل مارسل
يعتقد جابرييل مارسل الفيلسوف الفرنسي المعاصر وأحد اتباع المدرسة الوجودية بأن أخطر ما يهدد الحضارة الغربية اليوم هو (رجل الشارع) ورجل الشارع كما يعرفه جابريل مارسل علم على الاتجاه الأدبي والفكري والفني الذي يحاول أن يبسط الفن والأدب والثقافة بشتى ألوانها بحيث يسهل هضمها على رجل الشارع الذي لا تتوفر لها مؤهلات ثقافية وملكات أدبية وفكرية تعينه على استيعاب الأدب والفن كما يطمع في معالجتهما المبدعون من الكتاب والفنانين.
وجابرييل مارسل يدعو إلى توطيد دعائم الحضارة المسيحية كما يفسرها أتباع المدرسة الوجودية. وهو أميل إلى تقليد الفيلسوف كيير جيكار منه إلى الانطواء تحت علم بول سارتر. وكلاهما من أئمة المدرسة الوجودية.
وجابرييل مارسل في دعوته إلى إحياء الأسس الروحية للحضارة المسيحية لا يصر على التقيد بألوان التعصب الديني الذي يحلو للكنيسة الكاثوليكية التشبث به. ومارسل في انتقاده للكنيسة الكاثوليكية ينتقد الصوفية الغامضة التي يطيب للأدباء الكاثوليك تمجيدها وبث الدعوة إليها في إنتاجهم الفكري المعاصر. ويعتقد مارسل بأن هذا اللون من الصوفية هروب من المسؤولية الأدبية؛ فكما أنك لا تطلب من (رجل الشارع) أن يتذوق الأدب والشعر لذلك لا يليق بك أن تطلب من المثقفين الدخول في عوالم الصوفية وأجوائها الغامضة.
وجابرييل مارسل لا يؤمن بالشيوعية ويعتقد بأنها في دعوتها لتبسيط الأدب والفن والثقافة لتكون في متناول (رجل الشارع) تبتذل الفكر وتهين الأدب والفن والثقافة الرفيعة، وتقيد من حرية الفنان والمبدع وتنكر الأسس الروحية للحضارة الإنسانية.
ومارسل لا يؤمن بأن العالم الإنجلو سكسوني خير من يحفظ تراث الحضارة المسيحية. فذلك العالم مادي في جملته إلحادي في روحه. ولكن مارسل مع ذلك لا يجد بأساً من أن
تتحد فرنسا مع العالم الإنجلوسكسوني لأن (مادية) الأمريكان والإنجليز أقل تطرفاً من مادية السوفييت، ولأن القيود المفروضة على الحياة الروحية والإنتاج الأدبي والفني والثقافي في أمريكا وإنجلترا ضئيلة بالقياس إلى تلك التي يفرضها الاتحاد السوفييتي على حفظة التراث الثقافي.
وقد ترجم كتاب مرسل الجديد إلى الإنجليزية بعنوان:
، ، 1953.
مكافحة الاضطهاد الفكري على المسرح الأمريكي
من بين المسرحيات القوية التي افتتحت بها برود واي (حي المسارح في نيويورك) موسمها الشتوي الجديد مسرحية (التنكيل) وهي من وضع الروائي الأمريكي الشهير أرثر ميللر مؤلف المسرحية الخالدة (موت البائع) التي استمر تمثيلها ثلاث سنوات متتابعات على أحد المسارح الكبرى في برود واي، والتي تعالج فقدان الطمأنينة الروحية في عالم تكتنفه المادة من كل الجهات.
والمسرحية الجديدة تتخذ حقبة من التاريخ الأمريكي مجالاً لانتقاد موجة الاضطهاد الفكري الذي يواجهها الفنان الأمريكي حين يتطرق إلى معالجة موضوعات فكرية أو سياسية يشوبها طابع متطرف لا يتمشى مع سياسة الحكومة الأمريكية في مواجهة الشيوعية السوفييتية.
وتدور وقائع المسرحية في مدينة (سالم) الأمريكية التي شهدت في أواخر القرن السابع عشر موجة من الاضطهاد الفكري تولى إثارتها نفر من رجال الكنيسة ضد بعض المتحررين من قيود الفكر المسيحي العتيق، والذين أصبحوا فيما بعد من دعائم الفكر المسيحي البروتستانتي المعاصر في العالم الجديد.
وقد تعمد المؤلف في صلب الحوار أن يقسوا أشد القسوة على بعض محترفي السياسة الأمريكان الذين أعمتهم مصالحهم السياسية عن تقدير الرغبة الطبيعية في الانطلاق من القيود الثقيلة التي تهيمن على الفنان المبدع وعلى المثقفين إجمالاً.
والواقع أن عدداً كبيراً من المسرحيات الأمريكية لهذا الموسم الشتوي هزلية أو جسدية تحمل في ثناياها طابع الثورة على هذا النفر من الساسة الأمريكان الذين أخذوا في الآونة
الأخيرة يكيلون التهم لكل من يعالج موضوعاً لا يتقيد بأصول الفكر السياسي والاجتماعي الذي يتبعه رجال الحكم الأمريكان.
معجم روسي - إنجليزي جديد
خصصت المؤسسة القومية للعلوم الطبيعية في نيويورك مبلغ 40 ألف دولار لوضع معجم روسي - إنجليزي جديد يعنى بشرح المصطلحات العلمية الروسية ليعين طلاب العلم ودوائر الاستخبارات العسكرية الأمريكية على متابعة التقدم الصناعي والعسكري في الاتحاد السوفييتي بعد أن تشعبت المصطلحات العلمية في اللغة الروسية في ظل الحكم السوفييتي مما جعل من الصعب إدراك مفاهيمها من المعاجم الروسية - الإنجليزية القديمة.
ويشترك في وضع هذا المعجم الجديد أكثر من 200 مترجم ويعاونهم عدد من خبراء وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الأمريكيتين ونفر من علماء الروس الذين هجروا الاتحاد السوفييتي في الآونة الأخيرة. وقد تولت دائرة العلوم السلافية في جامعة كولومبيا في نيويورك الإشراف على وضع هذا المعجم.
رواج تجارة اللوحات الفنية المزورة
يواجه تجار اللوحات الفنية الأثرية موجة من التزوير المتقن لعدد من كبار الفنانين الخالدين بدأت في فرنسا بعد أو وضعت الحرب العالمية الأخيرة أوزارها وبلغت من الإتقان حداً أذهل كبار الخبراء في فن الرسم، وقد بلغ عدد اللوحات المزورة أكثر من 600، ابتاع أكثرها السواح الأمريكان الذين يؤمون باريس بحثاً عن اللوحات الفنية في مونمارتر والضفة اليسرى من نهر السين.
وهذا النوع من التزوير الفني يقتصر على أئمة الفن القدامى الذين ضاع أكثر إنتاجهم.
وقد تخصص أحد تجار الرسوم الفنية في باريس مؤخراً في فحص هذه اللوحات المزورة وأصبح مرجعاً وثيقاً يؤمه الناس من كل مكان. والرجل (وأسمه أندريه شولر) في الرابعة والسبعين من عمره وقد جنى ثروة طيبة من هذا التخصص.
سلسلة أفلام ملونة عن جحا
شرعت إحدى الشركات السينمائية التركية في إصدار سلسلة من الأفلام السينمائية الملونة
عن (جحا) الشخصية الفكاهية المعروفة في الأدب الشعبي. وستتعمد هذه الأفلام إبراز النوادر المليحة التي حيكت حول هذه الشخصية الفكاهية المحبوبة، وبعض هذه النوادر من صنع الرواة والبعض الآخر من صنع جحا نفسه. وقد اقتبست الشركة التي تولت هذا الإنتاج أسلوبها في بناء هذه السلسلة السينمائية عن هوليود وعن كتاب القصص الفكاهية المتسلسلة التي يحسن الأمريكان صنعها. وهذه القصص تدور حول شخصية شعبية معينة وتستمر في استعراض نوادره وما صاحبها من ظرف وعبث في حقبة بعض حقبة وقد تطول هذه السلسلة إلى أعوام في أعمدة الصحف أو في الأفلام السينمائية القصيرة التي يرجع تاريخ بعضها إلى أكثر من عشرة أعوام ولا تزال تصدر بانتظام.
وسيسجل الفلم التركي الأول عن (جحا) وحياته كمدرس في إحدى قرى الريف التركي وصاحب هذه الحقبة من تاريخ هذه الشخصية الفكاهية من ألوان النوادر والملح.
في عالم الكتب: نقد وتعريف
بعد الغروب
تأليف الأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله
للدكتور عبد القادر القط
هذه قصة للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله نشرت قبل هذا العام ثم أعاد نشرها نادي القصة منذ شهرين. وهي تصور أزمة عاطفية في حياة شاب تخرج في كلية الزراعة فمضى يبحث عن عمل. وانتهى به المطاف إلى أن يشتغل ناظر زراعة في مزرعة يملكها أديب كبير. وكان المالك وابنته أميرة يزوران القرية لماماً فيمضيان بها أياماً أو أسابيع يعودان بعدها إلى القاهرة. وكذلك أحب الفتى أميرة حباً صامتاً لم يرد أن يفصح عنه لأنه كان يرى نفسه أفقر من أن يتطلع إلى من كانت في مثل ثرائها. ولكن خادمته زينب - وكانت بدورها تحبه حباً يائساً - تقرب بين الحبيبين حتى يتصارحا. ويعرف عبد العزيز - وهذا هو اسما الفتى - أن والد أميرة يريد أن يزوجها لابن عمها سامي فيستبد به الحزن ولكنه يحاول أن يعرف شعور أميرة نحو هذا الخطيب ويتكفل له بذلك صديقه صالح الذي يقيم في القاهرة فيراقبها ويتتبعها وينتهي إلى أنها لا تحمل لابن عمها شيئاً من الحب. وتعد أميرة بأن تحدث أباها في الأمر، ولكنها تتريث وتتردد حتى تجد أباها فجأة على فراش الموت يبارك بنظراته المعبرة زواجها من أبن عمها. وهكذا تجد أميرة نفسها مضطرة إلى اصطناع الانصراف عن عبد العزيز لأنه فقير. ويفترق الحبيبان.
والقصة كما ترى قصة (رومانسية) تصور سلسلة من التضحيات المفتعلة البعيدة عن واقع الحياة. فالأب يضحي بمستقبل ابنته في سبيل الوفاء لأولاد أخيه، والبنت بحبها في سبيل الوفاء لذكرى أبيها وتحقيقاً لرغبته وهو على فراش الموت؛ وزينب تضحي بحبها لتسعد سيدتها فتجعل من نفسها رسولاً بين العاشقين؛ وصالح يبذل تضحية من نوع آخر فيكلف نفسه أن يراقب بيت أميرة في إحدى الضواحي عدة أيام ليتابعها ويعلم مبلغ علاقتها بابن عمها، حتى القصة القصيرة التي كتبها سيد العزبة ترمز إلى هذه المثالية المفرطة، فبطلها العامل الفقير يضحي بحبه لتتزوج فتاته ثريا تنتفع أسرتها الفقيرة بثروته. وقد تحسن
المثالية في القصة إذا كانت ثورة على قيم زائفة وأوضاع خاطئة وصراعاً بين عواطف سامية وأخرى وضيعة، أما إن كانت استسلاماً مطلقاً لمشاعر بينة الانحراف فهي عيب لا شك فيه. فإغراق الأب في الوفاء لأولاد أخيه على حساب ابنته عاطفة زائفة، وتبرع زينب للتوفيق بين سيدتها وسيدها الذي تحبه هي نفسها شيء غريب، وما صنعه صالح في سبيل صديقه أمر يتنافى مع الكرامة والجد. وقل ذلك في سائر التضحيات التي تحفل بها هذه القصة. وأبطال القصة بهذه المثالية الزائفة يتنكرون لأنانيتهم ويذعنون لقضاء قيم باطلة تتحكم في مصايرهم دون أن يكون هناك على الأقل صراع عنيف قد ينتهي بالفشل أو النجاح، ولكنه في كلتا الحالين يؤكد إنسانية الشخصية وبطلان هذه القيم سواء خرجت من الصراع منتصرة أو مخذولة.
واختفاء الصراع القوي نتيجة لهذه الفضائل المفتعلة يفرض على المؤلف أن يختلق مبرراً لكل عمل يجانب - في رأيه - المثل الأعلى للسلوك الفاضل؛ فأميرة تحب عبد العزيز وتنصرف عن ابن عمها لا لأنها أحست ميلاً فطرياً نحوه، ولا لأنها إنسانة يمكن أن تتحول مشاعرها إذا ما لقيت رجلها المنشود، لا. . . فإن ذلك لا يتسق مع العالم الفاضل الذي يرسمه المؤلف إذن فليكن ابن عمها شاباً (ألذ الأوقات التي يقضيها في أربع وعشرين ساعة وقت يمضيه عند الحلاق أو في الحمام أو واقفاً أمام واجهة أحد المحال ليرى أكثر الألوان انسجاماً على ذوي الوجوه البيض. . . يجيد التحدث عن الأفلام ويحفظ أسماء الممثلات خاصة حتى لقد نظمت إحدى المجلات الأسبوعية مسابقة عويضة الموضوع فكان الفائز فيها. وكانت هذه المسابقة هي أن رسمت المجلة عشرة أزواج من عيون الممثلات بين غربيات ومصريات وكتبت في أعلى الصفحة (أتستطيع أن تعرفهن من عيونهن) وكان الأستاذ سامي هو الذي عرفهن جميعاً بما له من عبقرية. . . يمضغ الكلمة مرة أو مرتين قبل أن يتفضل بها عليك فيخرجها من فمه ثم يرسلها من بين شفتين تأخذ سفلاهما وضعاً وتأخذ علياهما وضعاً آخر عند مخرج الكلمة. يحرك عنقه بتقدير لأنه يخاف على بنيقة قميصه المنشاة أن تنكسر، وعلى عقدة رباط العنق أن تتحول الخ) وهكذا يجد المؤلف عذراً لبطلته إذا ما انصرفت عن ابن عمها المخنث إلى الفتى الجاد المستقيم دون أن يمس ذلك ما ينبغي لها من عفة العواطف ومثالية الأحاسيس، وهذا بعينه ما فعله
السباعي في قصته (إني راحلة) حين وصف زوج بطلته بأقذع من هذا ليبرر فرارها منه إلى حبيبها. وإذا جاز للوالد في قصة السباعي أن يزوج ابنته لهذا المخنث سعياً وراء الجاه والمال فكيف جاز للوالد في قصتنا هذه أن يرتكب هذا الإثم وهو الأديب الكبير والقصاص الخبير بدخائل النفوس ولم يكن له من وراء ذلك مغنم؟ وكيف استباح أن يقول لابنته (إن سامي شاب لا أرى فيه ما يمنع أن يكون زوجاً لك) وفيه تلك الخصال الذميمة التي وصمه بها المؤلف! إن أية فتاة في موقف أميرة يمكن أن تحب أي فتى يعترض سبيلها ما دام فيه شيء من رجولة تناقض ما في سامي من تخنث. وعندئذ يكون حبها فراراً من خطيب خلا من كل ما يجتذب المرأة لا استجابة لشعور طبيعي بأن في ذلك الرجل مقومات الرجولة المتمثلة في نفسها. وتلك عاطفة لا يمكن أن ترضي المحبوب ولا تتأصل في نفس المحب. لذلك خلت القصة من الصراع الجدي الذي يخلق من المواقف والمشكلات ما يعقد الأحداث ويرتفع بالأزمات النفسية إلى مستوى يتجاوب معه القارئ وينفعل به. فالقصة تمضي هادئة رتيبة، انتظار من عبد العزيز لمقدم أميرة وأبيها إلى القرية، ومناوشات عاطفية غامضة مكبوتة، ثم رحيل مفاجئ إلى القاهرة، ثم انتظار جديد من عبد العزيز، ثم عودة من أميرة. والبطلان في كل ذلك لا يكادان يبذلان أية محاولة جدية للتغلب على ما في طريقهما من صعاب. ومن العجب أن تتخاذل أميرة وتستسلم لمصيرها المحتوم في مثل هذا الفتور وقد صورها المؤلف ذات شخصية قوية يهابها عمال المزرعة أكثر مما يهابون أباها.
هذا عن شخصيات القصة وطابعها العام. أما بناؤها الفني وتسلسل حوادثها ففيها أيضا كثير من التكلف. وترتيب الوقائع كما يشتهي المؤلف لا كما يقتضي منطق الواقع وطبائع الأشياء. وأضرب لذلك مثلين: الأول حين يكتب عبد العزيز إلى صديقه صالح في القاهرة يطلب إليه أن يراقب أميرة ليعرف مدى علاقتها بابن عمها سامي. ودعك مما في هذا الطلب من غرابة ومما في استجابة الصديق له من تبذل، وأنظر كيف تسنى لصالح أن يعرف أن أميرة تحب صديقه عبد العزيز. لقد انتظر أمام بيتها عدة أيام دون طائل ثم أسعفه الحظ فرآها خارجة مع أختها الصغيرة. وتسأل الصغيرة عن سر نزولهم إلى القاهرة بلا سيارة فتجيبها: أتعتقدين أنه من الضروري أن يركب كل الناس سيارة خاصة. .
سنركب القطار والترام. ونفهم من هذا الحوار أن هذه كانت أول مرة تخرج الفتاتان فيها بلا سيارة، لا لشيء إلا ليتيح المؤلف لصالح أن يتبعهما. ثم تدخل الفتاة مسكناً في الطبقة الأولى من إحدى العمارات عرف صالح أن ساكنه يحترف قراءة الكف. وهكذا يقتضي تلفيق الحوادث مرة أخرى أن تختار الفتاة هذا اليوم من بين الأيام جميعاً لتستشير العراف في أزمتها العاطفية وأن يكون مسكنه في الطابق الأول حتى لا يتكلف المطارد من أمره عسراً. .! ثم تدخل السينما فيوفق الحظ (صالح) فيجلس بالقرب منها ثم تكون المفاجأة الأخيرة حين تصور القصة على الشاشة مأساة عبد العزيز وأميرة، ويلتفت صالح فإذا هي تكفكف دمعها بمنديلها الأبيض فهي إذن تحب صديقه عبد العزيز!
أما المثال الثاني فحين يستشير عبد العزيز صديقه صالح (قاموس الحب) ماذا يفعل حتى تصرح أميرة بحبها له فيشير عليه بأن يثير غيرتها، ودعك من سذاجة هذه النصيحة وانظر كيف رتب المؤلف الحوادث بعد ذلك. تقدم أميرة إلى العزبة في إحدى زياراتها المتقطعة، ولأول مرة نرى بصحبتها صديقة (مرحة طائشة ذات ضحكة ناعمة، وصنوعة الزينة الخ. . .) ويفهم القارئ بلا عناء أن المؤلف قد ساق هذه الفتاة إلى القرية وصنعها بهذه الصورة ليطبق عليها عبد العزيز الدرس الذي تلقاه من صديقه. وهكذا كان. . . وفي لمحات خاطفة اشتبك الاثنان في غزل صريح مكشوف دون مقدمات لينتهي المؤلف من غايته سريعا فيثير غيرة أميرة. وقد كان المؤلف يستطيع ألا يقدم لهذه التجربة بتلك النصيحة من صالح وكان يستطيع أن يصور الزائرة طيبة متزنة وكان طبيعياً حينئذ أن يحتفي بها عبد العزيز إكراماً لها كزائرة وأن تضيق صاحبته بهذه الحفاوة فيفطن إلى هذه الحقيقة النفسية البسيطة ويمضي في استغلالها، ويكون الموقف عندئذ من واقع الحياة. لا من (القاموس).
وبمناسبة الحديث عن القاموس نحب أن نقول كلمة قصيرة عن لغة القصة وأسلوبها؛ فالمؤلف حريص أشد الحرص على الأسلوب العربي الرصين الذي لا يتلون كثيرا باختلاف المواقف والأشخاص. وهو يفضل الحوار العربي على العامي ولو كان الأخير أقدر على تصوير الشخصية أو الموقف. وقد يكون في هذا مجال لاختلاف وجهات النظر ولكني لا أستطيع أن أقره على استعمال (المحط) مثلاً بدل (المحطة) تلك الكلمة الحية
المألوفة. وإذا كانت لغتنا الأدبية غير قادرة على التطور الذي ينبعث من استعمال اللغة في الحديث فلا أقل من أن نتيح لها التطور على أقلام كتابها. وفي القياس متدوحة عن هذا التزمت فكلمة المحطة لها نظائر في اللغة كالمنزلة والمنزل بمعنى مكان النزول وسلطان الثقافة العربية القديمة واضح كل الوضوح في صور المؤلف وتشبيهاته، فهو يقول مثلاً إنه قبل عنق صاحبته (فكأنما قبل عاجاً دافئاً)! ترى لو قبل المؤلف قطعة دافئة من سن الفيل أكان يستعذب هذه القبلة! إن التشبيه أداة فعالة في يد الروائي تغنيه في كثير من الأحيان عن الوصف المطول والتحليل المبسوط وخير له إذا لم يوفق إلى تشبيه معبر طريف ألا يلجأ إلى الصور التقليدية التي لا معنى لها، خاصةً أن تشبيه العرب الجلد العاج كان يقصد به دائماً اللون لا الملمس.
بقيت كلمة قصيرة أخرى عن نهاية القصة فإن بها شيئاً من الغموض. فالبطل يقص علينا أنه نشر قصة حبه فلما قرأتها أميرة جاءت تفسر موقفها وتعتذر عن زواجها من ابن عمها. والقصة التي بين أيدينا هي قصة حبه كذلك فهل هي طبعة ثانية من القصة الأولى أضيفت إليها الخاتمة!
عبد القادر القط
آراء وأنبياء
بين الأزهر ودار العلوم
أولى بالذي يريد الإصلاح أن يجادل بالتي هي أحسن وأن يبرز العيب في صورة النصيحة. . وبذلك يستطيع النفاذ إلى غرضه.
أنا لا أجرد الأزهر من العيب عامة، ولا أجرد الأستاذ الطاهر مكي من النية الحسنة عامة، ولكن العيب غير ما ذكر، والنية الحسنة تعثرت في سوء التعبير وكان حرياً به أن يذكر الحقائق مجردة عن التهويل والمبالغة، وألا يستند في اتهامه إلى الكلمات التي يرددها طلاب الأيام الأولى من السنة الأولى الابتدائية، يدعي كل أن الحكمة والفلاح في مذهب الإمام الذي يدرس الفقه على طريقته.
والحضور والغياب وعملية التفريغ ليست بالوجه الذي ذكره الأستاذ وإن كان القليل منها وباء قد أصيب به جسد التعليم في مصر عامة لا في الأزهر فحسب. وليس بخاف علينا جميعاً تفنن بعض الطلاب في طرق الغش وأساليبه، وإقبال نفر من المدرسين على بيع أسئلة الامتحانات لمن غمرت جيوبهم الأموال، أو كانوا على قسط من المحسوبية أو القرابة. . والتخلص من هذا الوباء يحتاج إلى علاج جماعي يرتكز على تلقين مبادئ الأخلاق والاعتماد على النفس للتلاميذ والطلاب على اختلاف أشكالهم، وتباين مدارسهم ومعاهدهم. والمكافأة والجراية وبدل الغداء وبدل الكتب، قد أخطأ الأستاذ في عهدها. وأغلب الظن أن المسألة قد عالت في يده - من ثلاثة إلى أربعة - من غير موجب، أو لموجب يعلمه هو. فالجراية وبدل الغداء شيء واحد فقط، ثم كيف تكفل هذه الدراهم القليلة حياة نظيفة؟! فبدل الكتب لا يفي بشراء اليسير منها، وبدل الغداء لا يطعم وجبتين والمكافأة ثلاثمائة قرش للطالب في كلية اللغة العربية ومائتان للطالب في كليتي الشريعة وأصول الدين، والطالب في القسمين الابتدائي والثانوي لا يتقاضى مكافأة ما. . . اللهم إلا إن كان للحياة النظيفة مقياس خاص عند الأستاذ الطاهر.
هذه هي الحقائق التي نشرت مزيفة نقدمها للأستاذ؛ فإن كان يريد الإصلاح حقاً - والأزهر في حاجة إلى إصلاح شأنه شأن جميع مرافق الدولة - فليسلك في نقده مسلكاً حسناً، ولينهج في علاجه نهجاً مستقيماً، وليرم بفأس الهدم بعيداً فما أمس حاجتنا في هذا الوقت إلى
الترميم والتعمير، والتشييد والبناء.
عبد اللطيف فايد
سي وست
نشرت مجلة الرسالة الغراء في عددها 1020 الصادر في 19 يناير سنة 1953 ما كتبه الأستاذ جمال مرسي بدر إلحاقاً لما كتبه في العدد 1016 من تلك المجلة. فرأيت أن أقول:
1 -
كان نشر في العدد 766 من مجلة الرسالة الصادر في 8 مارس سنة 1948 شيء حول كلمة ست نقلاً عن رسالة الغفران.
2 -
وأيضاً ورد في الصفحة 76 من (معجم عطية في العامي والدخيل) تأليف الشيخ رشيد عطية؛ المطبوع عام 1944 في دار الطباعة والنشر العربية: سان باولو: برازيل. ما أعيد نقله هنا (ست: يعنون بها سيدة. قال الفيروز بادي: وستي للمرأة أي يا ست جهاتي وهو لحن. الصواب سيدتي. وفي الشفاء: وقولهم ستي بمعنى سيدتي خطأ وهي عامية مبتذلة، ذكره أبن الأعرابي وتأوله أبن الأنباري فقال يريدون يا ست جهاتي وتبعه الفيروز بادي وهو تكلف وتمحل وإليه أشار البهاء زهير:
بروحي من أسميها بستي
…
فتنظرني النحاة بعين مقت
يرون بأنني قد قلت لحناً
…
وكيف وأنني لزهير وقتي
ولكن غادة ملكت جهاتي
…
فلا لحن إذا ما قلت ستي
3 -
ومن مراجعة الصفحة 122 من كتاب شفاء الغليل في ما في كلام العرب من الدخيل تأليف شيخ الإسلام وخاتمة العلماء الأعلام شهاب الدين أحمد الخفاجي قاضي العساكر بمصر. المطبوع بالمطبعة الوهبية سنة 1282 كما ورد في الصفحة 413 ج3 مجلد 23 من مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق - نجد أن المؤلف المذكور قال: (سيدة: وقولهم ستي بمعنى سيدتي خطأ وهي عامية مبتذلة ذكره ابن الأعرابي وتأوله ابن الأنباري فقال يريدون يا ست جهاتي وتبعه الناموس فقال وستي للمرأة أي يا ست جهاتي كناية عن تملكها له ولا يخفى أنه تكلف وتمحل وإليه أشار إليها زهير وذكر الأبيات.
4 -
وقبل أن أقفل كلمتي هذه أقول: لا أدري كيف قال الشيخ رشيد عطية - على سعة
إطلاعه - الفيروز بادي وكان يجب أن يقول الفيروز أباذي كما ذكر في كتاب (ضبط الأعلام) وهذا ما كنت ذكرته للأستاذ عباس خضر في عدد الرسالة 812 وجاوبني عليه في العدد 813 منها فأنظرهما والعدد الذي بعدهما أيضاً.
أكتفي بما ذكرت حول كلمة ست. وسلامي واحترامي إلى السيد جمال مرسي بدر أولاً وأخرا.
أحمد الظاهر
إلى الدكتور أحمد فؤاد الأهواني
قرأت في العدد (1022) من الرسالة الغراء مقالة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني عن ترجمة الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار لكتاب (الزنابق الحمر) لطاغور.
وقد استوقفني فيه قوله: (والمترجم من مكة المكرمة، ولكنه درس في مصر، ولذلك لا يحس في أسلوبه أو عبارته أي غرابة عن اللغة المصرية. وهو يعرف اللغة البنغالية. . الخ)
والذي كنت أعرفه عن مصر - إلى وقت قريب - أن لغتها العربية، وأنها أكبر معقل لهذه اللغة التي هي أيضاً لغة الحجاز والعراق وكل قطر عربي، وإن هذه اللغة على الاختلاف البسيط في لهجاتها العامية - شأن كل لغة - إذا كتبت صحيحة، كانت واحدة أينما كتبت، ومن أي بلد عربي كان كاتبها.
فهل يتفضل الدكتور فيفيدنا شيئاً عن هذه (اللغة) الجديدة التي درسها المترجم الحجازي الفاضل فأتقنها، حتى خلص أسلوبه وعبارته من (شوائب) لغته الأصلية. . وهي العربية، فيما أظن. . . وهل له أن يدلنا - مشكوراً - أين يمكن تعلم هذه اللغة وهل هناك كتب خاصة لتعليمها؟
نجدة فتحي صفوة
مصر تساهم في تشييد مدرسة إسلامية في كرديف
أعلنت الحالية الإسلامية في كرديف التي تشرف على جامع (نور الإسلام) في تلك المدينة أنها قد انتهت من وضع الخطط الخاصة ببناء مدرسة جديدة لتعليم الأطفال المسلمين اللغة
العربية قراءةً وكتابةً مع دراسة شاملة للقرآن الكريم.
وجدير بالذكر أن كرديف تضم أكب جالية إسلامية في بريطانيا إذ يبلغ تعداد أعضائها خمسة آلاف مسلم منهم العربي والصومالي والأفريقي والهندي والباكستاني.
وقد نظم مسجد (نور الإسلام) تحت إشراف إمامه الشيخ أحمد حسن القلمي، دراسات مسائية لأطفال الجالية يحضرها حوالي 250 طفلاً. ومعظم هؤلاء الأطفال تقريباً يتكلمون العربية بطلاقة تامة كما درسوا سنن الرسول صلوات الله عليه. ومع أن جميع هؤلاء الأطفال يتلقون العلم في المدارس الإنجليزية إلا أن الجالية فكرت في تشييد هذه المدرسة للمحافظة على الثقافة الشرقية وما تمتاز به من طابع خاص.
وستشيد المدرسة الجديدة بجوار مسجد (نور الإسلام) وهي تتكون من طابقين وتضم خمسة فصول تتسع لعدد يتراوح بين 120 و150 طفلاً. وسوف تستغرق عملية البناء أربعة عشر شهراً، كما سيكون المبنى على الطراز العربي، أما تكاليف البناء فتبلغ 35 ألفاً من الجنيهات الاسترلينية ستجمع تبرعات من المسلمين في مختلف أنحاء المعمورة. ويشرف على هذه التبرعات الشيخ عبد الله الحكيمي الذي يقوم بجولة الآن في الشرق الأوسط لهذا الغرض. ويؤخذ من الأنباء التي بعث بها الشيخ الحكيمي من القاهرة أن الرئيس اللواء محمد نجيب وكبار المسئولين في الأزهر قد وعدوا بتقديم المساعدات لتشييد مدرسة كرديف، كما وعدت مصر أيضاً بإيفاد ثلاثة من المدرسين للعمل في هذه المدرسة.
حول العروض في قصيدة
طالعت بمجلة (الكتاب) الشهرية عدد فبراير، رسالة بعث بها من القطيف الأستاذ محمد سعيد المسلم فحواها أنه قرأ الملحمة الشعرية التي نشرتها مجلة الكتاب ويلاحظ ما يأتي:
أن مطلع القصيدة مختل، فصدره من بحر بينما عجزه من بحر آخر ووزنه هكذا.
فدع الشماخ ينبئك عن قو
…
واسها البائر في حيث أتاها
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن
…
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
(من بحر المديد التام)
…
(من بحر الرمل التام)
ثم يقف عند هذه الأبيات الثلاثة حائراً لا يدري إلى أي بحر يردها. كيف قال الشيخ؟ كلا! إنها بعضي! والمال؟ بل المال فداها!
إنها الفاقة والبؤس نعم! هذا غنى! كلا. . وشاها.
بل كفاني فاقة. . لا كيف أنساها؟ وإني! وهواها
وأنا أوافق الأستاذ على ملاحظته في البيت الأول فصدره من بحر وعجزه من بحر ولكني أقول له إن التفعيلة الأولى من الصدر (فعلاتن) لا فاعلاتن فهي مبدوءة بمتحركين لا بمتحرك فساكن.
أما الأبيات الثلاثة الأخيرة فأستطيع أن أجيب عن حيرته في البيت الأول بأنه من بحر الرمل.
كيف قال الشيخ كلا إنها بع
…
ضي والمال بل المال فداها
فدخل الخبن (وهو حذف الحرف الثاني الساكن) في كل تفعيلة من تفعيلات العجز. والوزن مختل بالنسبة للبيتين الأخيرين إذ يلزم لكل منهما تفعيلة كاملة حتى يصير مثل سابقه.
وتحياتي للأخ (المسلم) وساكن القطيف.
محمود بخيت الربيعي
جعجعة ولا طحن
دأب الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي أن يدفع إلى مجلة (الكتاب) بقصائد لأمير الشعراء فاتها حظها من الذبوع واحتلال مكانها بديوانه إلى جوار أخواتها.
وقد دفع إلى تحرير مجلة (الكتاب) عدد أكتوبر 1952م بقصيدة (الله) ص974. ولقد وفق في نشرها وأصاب وألذ الشراب ما صادف غليلاً.
واستوقفني وأنا أطالع عدد ديسمبر 1952م من المجلة: استوقفني هذا العنوان (شوقية أخرى) وذيل بكلمة ما أراها إلا من أسرة تحرير المجلة جاء فيها (. . . وهاهو ذا اليوم يتحف القراء بشوقية جديدة لم ترد في الديوان بل نشرت في جريدة اللواء بتأريخ 14 أبريل 1904م. . .)
وأخذت أقرأ القصيدة الجديدة فإذا هي قصيدة (ضجيج الحجيج) المنشورة في ديوان شوقي جزء أول ص252!
ورجائي أن نتعود التحري، وأن نحد من غلواء الثقة. وسوء الظن عصمة.
محمد محمد أحمد التاجي
إلغاء جائزة تيسير الكتابة العربية
قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية إلغاء الجائزة، التي كان قد أعدها منذ سنوات، لتيسير الكتابة العربية، ومقدارها ألف جنيه. وكان قد تقد لها كثيرون بمقترحاتهم.
دواء للسل يفيد في الجزام
تلقى المكتب الإقليمي التابع للهيئة الصحية العالمية من ريو دي جانيرو وسان باولو، حيث عقد مؤتمر خبراء الهيئة للجذام - أنباء تفيد أن الأبحاث التي تناولوها قد تدعو إلى أمل كبير في إمكان مكافحة هذا المرض وعلاجه.
وكان من أهم الآراء التي ظهرت في المؤتمر أن استئصال الجذام لا يتمشى مع نبذ المصابين به وأن المجذوم أقل نشراً للعدوى من المصاب بالسل، وأن العقاقير الحديثة التي يتناولها المرضى عن طريق الفم يظهر لها مفعول ناجع.
وان الـ (ب. س) الذي يتقى به السل الآن له نفس الخواص الوقائية للجذام، كما أن المرأة المصابة تستطيع أن تلد أطفالاً أصحاء.
ويقول الدكتور إيف بيرود ممثل الهيئة الصحية العالمية في المؤتمر إن آمالاً جديدة تبدو لإمكان سيطرة الطب على هذا المرض.
طرائف وقصص
قارئ الأفكار
للأستاذ كمال رستم
ما أسعد هؤلاء الذين يستطيعون قراءة الأفكار! إنهم يحيطون بنظرة واحدة بكل ما يدور في رؤوس الناس فيدركون ما يكنونه لهم من حب أو بغض. ولا تجدي في خداعهم هذه الوجوه التي تكتسي بمظاهر انفعالات كاذبة، ولا هذه الكلمات التي لا تنطوي حقيقتها إلا على الحقد والشر! فيدركون بنظرة واحدة تنفذ إلى أعماق النفس، وتسبر أغوار القلب إن كان من يخاطبونهم صادقين أو كاذبين! مخلصين أو مخادعين! أشراراً أو أخياراً! ويعيشون بفضل هذا العلم سعداء مجدودين!
تواردت هذه الخواطر على ذهنه وهو جالس إلى المائدة أمام صديقه الجندي الهندي، وكان قد التقى به لأول مرة في إحدى القهوات العامة وعلم منه أنه أحد أفراد الوحدات الهندية التي جاءت إلى مصر فيمن جاء من جنود الحلفاء للدفاع عن الإمبراطورية! واتصلت بينهما صداقة متينة فقد كان الجندي (نهرو) مثالاً لدماثة الخلق ولين الطباع. وكان إلى ذلك ملماً إلماماً واسعاً بعلم قراءة الأفكار!
بهر أحمد هذا العلم الذي يمزق أستار المجهول ويرده في نظرة واحدة واقعاً ملموساً. . ولقد قرأ نهرو أفكاره وتحقق له أن ما قاله كان صحيحاً كله!
ود أن يبلغ مبلغ نهرو من القدرة على قراءة أفكار الناس. . واستغرق في تأمل عميق حلو وقد شبه له أنه وهب هذه القدرة. . وبدا له أنه ليس على أديم الأرض من هو أسعد منه!
لقد صارت له نظرة نهرو الفاحصة النافذة. . ولن يعود في مستطاع عملائه الكثيرين أن يخدعوه، وسيعرف من منهم الذي يبيت له النيات الطيبة ومن الذي يبيت له النيات الخبيثة. . فيعامل الأول ويجفو الثاني. . وسيحرر نظره في وجوه أصدقائه الكثيرين فيعرف المخلص من المنافق. . والطيب من الخبيث ويستخلص لنفسه منهم هؤلاء الذين اجتازوا بنجاح امتحانه الصامت الرهيب الذي لا يعلمون عنه شيئاً لأنه لن يطلع أحداً على أنه أوتي هذه الموهبة الفذة!
أما هؤلاء الذين يريد أن يفيد منهم، فإنه سيمرر في وجوههم نظره الثاقب فيعرف المرتشي
الذي لا يؤدي عملاً إلا بالرشوة، ومحب الملق الذي لا يقدم صنيعاً إلا إذ تملقه الناس وخدعوه. . ويعرف الذي ينتوي خدمته من الذي يعطيه وعداً لا يزمع إنجازه. . كل شيء سيحيط به وفي نظرة واحدة فلا يعود ثمة ما يخفى عليه من أفكار الناس ولا من أخلاقهم. . فيراهم كما يرون أنفسهم. . وكأنه كامن فيهم!
طافت بذهنه هذه الخواطر فانتشى لها وطرب. . ونازعته نفسه إلى أن يكاشف صديقه نهرو برغبته في أن يتعلم منه علم قراءة الأفكار. . وتردد طويلاً قبل أن يتهادى إلى أذنيه صوت صديقه نهرو يقول:
- لقد قرأت يا صديقي ما يدور بذهنك. . وليس أحب إلى نفسي من تحقيق أمنيتك!
وشاعت الفرحة في قلبه وهو ينصت إلى قول صديقه الطيب وقال والدنيا لا تكاد تسعه من فرط سروره وسعادته.
- إني عاجز عن شكرك يا صديقي نهرو. . ولست أدري بماذا أكافئك على هذا الصنيع الذي لن أنساه لك مدى حياتي!
شرع نهور يدرس لصديقه أحمد علم قراءة الأفكار وبذل في سبيل ذلك من الجهد والوقت ما جعل لسانه يلهج بشكره والثناء عليه. . ولم يدخر أحمد من ناحيته وسعاً في استيعاب دروس أستاذه واستذكارها والرجوع إلى (المراجع) التي وضعها تحت يده، فقد كانت تشتعل في نفسه الرغبة في إجادة هذا العلم الذي أحبه وعشقه والذي سيعود عليه بالنفع والخير ويسلكه في عداد السعداء المجدودين!
وكان لا يني عن القراءة في الليل وفي النهار. . في المنزل وفي الطريق وفي القهوة التي كان يختلف عليها هو وصديقه نهرو. . وكانت تستغرقه السعادة وهو يطالع هذا العلم الحبيب، وراح يرقب في صبر أرعن ذلك اليوم الذي يفرغ فيه من دراسته ويخرج إلى الناس إنساناً جديداً موهوباً بعلم ما لا يعلمون!
ولم يسفر لأحد عن سره. . حتى أفراد أسرته لم يكن بينهم فرد واحد يدري سر وحدته المطرقة وانكبابه على تلك الكتب التي كان يحرص على ألا تمتد إليها يد أو تقع عليها عين! إنه كان زوجاً مخلصاً وأباً باراً لابن وابنة، وكانوا سعداء به كما كان سعيداً بهم. . ولكنهم في هذه الشهور الأخيرة وقد لمسوا منه انصرافاً عنهم وعزوفاً عن ملا بستهم.
زايلتهم السعادة وتقبضهم الحزن وأمضهم الألم. . ولكن أحداً منهم لم تبد منه معارضة أو جأر بشكوى فقد كان العهد بهم أن يرضوا عن كل تصرف منه دون جدل أو نقاش!
عكف على دروسه يستذكرها، وقبل أن يضع مواهبه تحت اختبار أستاذه نهرو قام برحلة استغرقت أشهراً استعاد في غضونها ما حصله، وامتحن فيها تجاربه. . ولما اطمأن إلى النتيجة التي حصل عليها، واقتنع بأنه بلغ مبلغ الرضا من أستاذه عاد إليه تواً ووضع مواهبه تحت الاختبار العسير الذي أجراه له. . ويا للسعادة الكبرى التي استغرقته حين قال له أستاذه نهرو:
- تستطيع الآن يا صديقي أن تطمئن إلى أنك وصلت. . فإليك تمنياتي! وشد على يده فقال له:
- إن الفضل فيما أحرزته من نجاح إنما يرجع إلى صدق عزيمتك وعظيم إخلاصك. . .
أجابه نهرو قائلاً:
- لا تقل ذلك يا رجل!
. . ودرج في الطريق وهو عظيم الثقة بنفسه، قوي الإيمان بالمستقبل السعيد الهانئ الذي ينتظره، واستطاع في نظرة واحدة إلى الوجوه التي صافحته. . وجوه الرجال والنساء أن يحيط بما كان يدور في رؤوسهم من الأفكار وكانت تسكن هذه الرؤوس الأفكار الطيبة والأفكار الخبيثة والآمال القريبة والآمال البعيدة الطائشة. . أدرك من السعيد المجدود ومن التعس المنكود. . والمؤمن والملحد. . ومن المخلص والمخادع. . وبهرته النتيجة التي حصل عليها، والنجاح الذي أحرزه فشاعت الفرحة في أعطافه وأيقن أنه ملك ناحية السعادة وحقق غارب أمانيه!
وتقدم من أحد باعة الفاكهة ليبتاع منه بطيخة، واستملى البائع الماكر من وجهه نظرة عابرة وحدث نفسه قائلاً:
- إنه رجل ثري. . هذا ما يبدو لي من ثيابه ومن مظهره النبيل. . وأغلب ظني أنه رجل طيب القلب ساذج وإذا لم تخذلني فراستي فإنني لن أجد أدنى صعوبة في أن أتقاضى ثمنها منه مضاعفاً. . سأطلب منه عشرين قرشاً!
وضحك أحمد في نفسه، فقد قرأ أفكار الرجل ووعى ما طاف بذهنه وقال في هدوء.
- أتبيعها بعشرة قروش؟
وأجابه الرجل وهو يصطنع الاستخذاء والضعف:
- أقسم لك يا سيدي أنني أخسر إن بعتها بأقل من عشرين قرشاً. . من أين يأكل رجل فقير مثلي رب أسرة كبيرة إذا لم يربح ربحاً حلالاً من رجل كريم مثلك. . أقسم لك أن هذا هو الثمن الذي أبيعها به لكل إنسان. . فأنا لا أفرق أبداً بين زبائني!
وكان يعلم أنه يغرر به فقال له:
لا تجهد نفسك فلن أدفع أكثر من عشرة قروش ومضى في سبيله، وما كاد يخطو بضع خطوات حتى تناهى إليه صوت البائع يقول:
- تعال يا سيدي. . هات العشرة قروش. . عوضي على الله: علم الله أنني أخسر فيها!
ولج به السرور عندما ذكر أنه اعتاد أن يبتاع نظائر لها بأضعاف هذا الثمن، لأن الباعة كانوا وقتذاك يخدعونه ولكنه ابتداء من اليوم لن يستطيع أحد خداعه أبداً!
ونقد البائع الثمن وحمل (البطيخة) على ذراعه ومضى!
وبلغ البيت، واستقبلته زوجه بابتسامة آسرة رفت على شفتيها وقالت له في صوت يسيل رقة وعذوبة:
- يا زوجي الحبيب!
وتطلع إلى وجهها. . . وفي نظرة واحدة بلغ ما لم يبلغه في سنوات طوال. . . وكانت تتواكب في ذهنها هذه الخواطر.
لم عاد هكذا سريعاً؟ لشد ما أبغضه! لو يدري هذا الرجل أنني لم أشعر يوماً واحداً ولا لحظة واحدة بأنني أحبه. . لو يدري أنني أخدعه وأخونه!
هاله ما قرأ من أفكارها. . وكانت الصدمة أن تذهب برشاده، وتطيح بلبه بعد أن تحقق له أنه كان مخدوعاً فيها. . وكان قد حول بصره عنها فعاد وصعده في وجهها الذي بدت عليه البراءة والسذاجة. . وشعر بالامتعاض والتقزز حينما مر بذهنه خاطر خيانتها. . وعجب لامرأته كيف تحمل وجهاً صافياً ونفساً كدرة كالماء الآسن. . وزخرت بالألم نفسه، ونهش الحزن صدره، وأنسرقت قواه فتهالك على المقعد في تراخي بدن مجهد. . وأحس بيد ناعمة تعبث بشعره وطرق سمعه صوت ابنته الحبيبة تقول له:
- فيم تفكر يا أبي. . ألا تخلع ملابسك وتمضي معي إلى المائدة؟
ورفع إليها بصره، وعلقت عيناه بوجهها الجميل. . وفي لحظة واحدة. . أحاط بكل ما كان يدور بذهنها. . وكانت تحدث نفسها قائلة:
- إن أبي يقف حجر عثرة في سبيل سعادتي. . فهو لن يرضى مطلقاً عن زواجي ممن أحب لأنه يريد لي زوجاً ثرياً. . إنني لا أحب أبي. . والفرار مع من أحب هو السبيل الوحيد لتحقيق سعادتي!
أذهله ما قرأ من تفكير ابنته. . وهاله ألا يكون نصيبه من جملة مشاعرها سوى شعور الكراهة والبغض، وأن ينحط تفكيرها إلى حد أن تزمع الفرار مع شاب غريب. . غير عابئة بالألم والعار اللذين يخلفهما فرارها لأبيها! وعجب لأنه عاش ردحاً من الزمان بين زوجة تخدعه، وابنة لا تتردد في أن تثلم شرفه وتمرغه في العار وقالت له ابنته.
- لم تنظر إلي هكذا يا أبي؟
أجابها!
- لا شيء يا ابنتي، لا شيء.
. . وخلع ملابسه ومضى معها إلى المائدة. . فرأى هناك ابنه. . ابنه الذي وقف على مستقبله سعادته وآماله. . واستملى من وجهه نظرة عابرة ألمت بأفكاره كلها. . وكان يقول لنفسه:
- إن أبي قوي البنية شديد الأسر. . وقد يدركني الموت ويتخطاه. . فكيف السبيل إلى الخلاص منه لأرثه. . سأدس له السم في كوب الشاي الذي ألف أن يحتسيه عصراً. . وسوف لا يدور بذهن أحد أنني الذي فعلت ذلك. وإنما سينصرف الذهن إلى أن تناول الشاي في الخارج. .
وتحدر بصره عن وجه ابنه. . ابنه المجرم الذي يريد أن يغتاله. وأحس بالألم الممضي يعتلج في صدره وشق عليه الأمر فنهض دون أن يقرب الطعام وارتدى ملابسه وانطلق إلى الطريق!
وفي الطريق قابله بعض الأصدقاء وقرأ في وجوههم ما يضمرون له. . فرأى أنهم خبثاء كذابون مخادعون. . رأى أنهم يريدون أن يغشوه. . أن يسرقوه. . أن يدنسوه. .
وقرأ كذلك أفكار الناس الذين كانوا يعبرون الطريق فرأى أن غايتهم إلحاق الضرر بالوادعين من الأصدقاء. . بالضعفاء من الناس. . وجد أنهم كلهم مراءون. . مخا تلون لا تنطوي نفوسهم على ما تبديه وجوههم من رداعة ونبل!
وجفل من الناس، وأوى إلى أفكاره يعايشها. . بدا له الآن أنه خسر الحياة منذ تعلم قراءة أفكار الناس. . ولقد كان يحدس أنه سيغدو سعيداً إن هو بلغ ذلك يوماً. . ولكن ها قد تحقق له الآن.
- وقد تم له ما أراد - إنه شقي تعس! يريد به أعز الناس لديه وأقربهم إليه الشر والأذى!
وقال لنفسه:
- لقد كنت سعيداً وقتما كنت جاهلاً بنيات الناس. . وكان الخير في أن أبقى كذلك!
ولكن لم يكن في مستطاعه الآن أن يعود كما كان. . فيتحرر من علم اكتسبه. . وأيقن أنه سيعيش مدى حياته شقياً تعساً ما دامت فيه هذه الموهبة المشئومة وما دام كل الذين يحيطون به ويعيشون معه لا تنطوي نفوسهم إلا على أحط الغرائز وأبشعها. .
وفي اليوم التالي وجدوه مشنوقاً في غرفته بعد أن ترك لهم رسالة أثبت فيها موهبته المشئومة وأنه اطلع على خداع الزوجة. . وعقوق الابنة وشروع الابن في قتله. .
وكانت وصايته لهم أن يجردوا أنفسهم من نوازع الشر ما استطاعوا. . .
كمال رستم
لغويات
عنبر
ترى وتسمع وتقرأ وتكتب: عنبر البضائع، وعنبر المرضى أو المستشفى، وعنبر السجن أو المساجين وعنبر العمال أو الورشة وعنبر التلاميذ أو المدرسة وتعرف المراد، ولكن إذا رجعت إلى المعاجم اللغوية القديمة والحديثة لا تجد فيها (العنبر) بالمعاني الحديثة المألوفة اللهم إلا ما جاء في (محيط المحيط) ونص عبارته العنبر. . . ومخزن الغلة مولدة (ج) عنابر اهـ.
وأنا أقول إن العنبر محرف عن (عنبار) وهذا أصله (أنبار) والآنبار له معان منها:
(1)
المخزن والحاصل والكلار والبيت. . وما أشبه ذلك من المستودعات.
(2)
الأهراء والأكداس والأكوام. . وما أشبه ذلك من الودائع والمحفوظات. ويؤخذ من بعض النصوص أن المخزن ونحوه هو المعنى الأصلي، ويؤخذ من بعضها العكس كما أن الهري له معنيان كما ترى وإليك الأدلة:
(1)
جاء في (الألفاظ الفارسية ص150: الأنيار: فارسي محض أي الهري وأصل معناه الممتلئ ومنه. . . أنبار أو عنبار بالتركية والكردية الخ.
(2)
وجاء في (كنز لغات) أنبار: مخزن. حاصل. هري. كلار.
وجاء فيه: أنبارجي وكيل المخزن. مخزنجي. كلارجي.
(3)
وجاء في المعاجم الأنبار: بيت التاجر ينضد فيه المتاع.
(4)
وجاء في مادة (هري) الهري بضم الهاء وتسكين الراء بيت كبير يجمع فيه طعام السلطان والجمع إهراء قال الأزهري ولا أدري أعربي هو أم دخيل وجمعه اهراء مثل قفل وأقفال اهـ.
(5)
وجاء في شرح القاموس: الهري بالضم وكسر الراء وتشديد الياء؟. . . قلت والعامة تكسر الهاء والراء ومنها الاهراء التي بمصر في بنسويه (بني سويف) من الصعيد الأدنى تجمع فيها الحبوب مير، الحرمين الشريفين في زماننا اهـ. وضبطه للهري أولاً وأخيراً خطأ كما سبق والعامة تكسر الهاء فقط مثل جسم وأجسام.
(6)
وجاء في معجم البلدان في الكلام على مدينة الأنبار. . . وقيل إنما سمي الأنبار لأن
بخت نصر لما حارب العرب الذين لا خلاق لهم حيس الإسراء فيه وقال أبو القاسم سميت بالأنبار لأنه كان يجمع بها أنابير الحنطة (القمح) والشعير والقت (البرسيم) والتبن وكانت الكاسرة ترزق (تمون) أصحابها منها وكان يقال لها الاهراء فلما دخلها العرب عربتها فقالت الأنبار، وقال الأزهري الأنبار اهراء الطعام واحدها نبر، ويجمع على أنابير جمع الجمع، وسمي الهري نبراً لأن الطعام (الحبوب) إذا صب فيه إنتبر أي ارتفع الخ اهـ.
(7)
وجاء في المعاجم اللغوية الانبار اهراء الطعام (القمح ونحوه) وأكداسه، واحدها نبر بكسر الباء وفتحها.
(8)
ويقال فيه عمبر بالميم كما هو مقرر في المعاجم اللغوية بالنسبة لمعاني العنبر الأخرى.
المبنى المجمع
أسم أطلقوه على البناء الحكومي في ميدان الحرية لأنه يجمع شمل المصالح الحكومية المتناثرة. ولا يخفى أن هذه التسمية غريبة وشاذة فبعضهم يقول (المجمع) بفتح الميمين، وبعضهم يضم الميم الأولى ويشدد الميم الثانية مكسورة أو مفتوحة، وأرى تسميته (ديوان المصالح) أو ما أشبه ذلك من الأسماء الطريفة المألوفة.
علي حسن هلالي