المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1025 - بتاريخ: 23 - 02 - 1953 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٢٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 1025

- بتاريخ: 23 - 02 - 1953

ص: -1

‌الرسالة تحتجب!

في الوقت الذي كانت (الرسالة) تنتظر فيه أن يحتفل أصدقاؤها وقراؤها، وأولياء الثقافة والصحافة في وادي النيل، وزعماء الأدب والعلم في أقطار الشرق، بانقضاء عشرين سنة من عمرها المبارك المثمر؛ وفي الوقت الذي أشرق فيه على مصر صباح الخير بثورة الجيش المظفر، بعد ليل طال في الظلام، وافتر ثغر الأمل، وشعر كل مصري في ظلال العهد الجديد أن وجوده إلى سمو، وعمله إلى نمو، وأمره إلى استقرار؛ نعم في هذا الوقت الذي نشأ فيه لتوجيه الإرشاد وزارة، ولتنمية الإنتاج مجلس، ولتعميم الإصلاح خطة، تسقط (الرسالة) في ميدان الجهاد الثقافي صريعة بعد أن انكسر في يدها آخر سلاح، ونفد من مزودها آخر كسرة؛ فكأنها جندي قاتل اليهود في فلسطين على عهد فاروق، أو فدائي جاهد الإنجليز بالقناة في حكومة فاروق! ولكن فاروقاً دال ملكه وزال حكمه، فبأي سبب من أسباب الفساد يؤتي المجاهد من جهة أمنه لا من جهة خوفه، ويقتل بيد شيعته لا بيد عدوه؟

تموت الرسالة اليوم في ضجة من أناشيد النصر في مصر، وأهازيج الحرية في السودان، فلا يفطن إلى نزعها هاتف، ولا يصغي إلى أنينها منشد! ومن قبل ذلك بشهر ماتت أختها (الثقافة) وكان الناس يومئذ في لهو قاصف من مهرجان التحرير، فلم تبكها عين قارئ، ولم يرثها قلم كاتب! كأن عشرين سنة للرسالة، وست عشرة سنة للثقافة قضتاها في خدمة الأدب واعلم والفن والإسلام والعروبة لم تهيئ لهما مكاناً في الوجود، ولم تنشئ لهما أثراً في الخواطر! وكأن هاتين المجلتين اللتين أنشأنا في أدب العصر مدرستين نشّئ فيها جيل، وابتدأت بهما نهضة، واجتمعت عليهما وحدة، لم تكونا إلا ورقاً مما ينشر في الطريق للإعلان، يجيء به الموزع وتذهب به الريح!

وما أحب أن أحمل تبعة ما أصاب الرسالة والثقافة على زهادة الناشئين في الأدب الجد، ولا على فشل المعلمين في تعليم القراءة؛ فإنا اخترنا هذا النوع من الصحافة ونحن نعلم ما يعترضه من عوائق، وما يكتننفه من مكاره، أقلها هذه الأمية المدرسية التي تقنع من الثقافة (بفك الحظ) وقشور العلم، فلا تهيئ المصاب بها إلا للقراءة السهلة الضحلة، ليرى نكتة تملأ فمه بالضحك، أو صورة تدغدغ جسده بالشهوة!

اخترنا هذا النوع من الصحافة المجاهدة المستشهدة، ووقفنا بالرسالة على الأعراف بين آخر النقص وأول الكمال، تأخذ بيد الأدنى ليصعد، ونثبت قدم الأعلى ليستمسك؛ ثم تدفع

ص: 1

المرتفع صعداً في السماء ليكون باستعداده أقرب إلى الحق المطلق والخير المحض والجمال الكامل.

وبحسبنا أن يصحبنا في هذا الطريق من تهبهم فطرهم السليمة لبلوغ الغاية منه، وهم بحكم الندرة في الكمال والكرم قلة. ومن السهل القريب أن تصلح القلة لتصلح الكثرة، وأن ترفع الخاصة لترفع العامة. وليس وراء القلة مال يبتغى ولا جاه يرتجى، وإنما سبيل المال والجاه لمن أرادهما، العامة يستميلها بالتهريج، والسياسة يستغلها بالدجل، والحكومة يستدرها بالملق، والعدة إلى ذلك يسيرة المنال: حنجرة صلبة تخطب، ويراعة مداهنة تكتب، ونية فاسدة تملي! ولو أرادت (الرسالة) زهرة الحياة الدنيا لعرضت ضميرها للبيع وقلمها للإيجار. ويومئذ تتحول أكداس الورق في مطبعتها العجيبة من أوراق طبع إلى أوراق نقد!

ولكن الله الذي يحبب في سبيله إلى المجاهد الاستشهاد وليس في مزوده إلا حفنة من سويق أو قبضة من تمر، حبب إلى (الرسالة) الجهاد في الميدان المجدب الموحش ولا عدة لها إلا الصدق والصبر والزهد، لتظفر بنصر المجاهد إذا فاز، أو بأجر الشهيد إذا قتل!

إنما التبعة في خذلان الرسالة والثقافة على الحكومة بوجه أعم، وعلى وزارة المعارف بوجه أخص.

كانت الحكومات الحزبية لا رحمها الله تخاف ولا تختشي، كانت تبذل العون في صور المختلفة للمجلات التي تعارض لتسكت، وللمجلات التي تؤيد لتقول، أما الصحف التي لا نملك لها نفعاً ولا ضراً في سبيل الحكم والغنم، فكانت لا تلتفت إليها إلا كما تلتفت إلى الشعب المسكين: تأمره ليطيع، أو تسخره ليعمل، وما كانت طاعته أو عمله في رأيها إلا واجباً مفروضاً لا شكر عليه ولا أجر له!

ومن عدلها الذي أخجل عدل عمر أنها أرسلت إلى الرسالة مأمور الضرائب الذي ترسله إلى الجرائد العظمى، والمجلات السياسية الكبرى؛ فلما رأى إيرادها ثلاثة أرقام وربحها رقماً أو صفراً، أخذه الدهش، وملكه العجب، وقال بلهجة المستنكر: كيف يكون إيراد المصور وأخبار اليوم وروز اليوسف كذا متعددة، ويكون إيراد الرسالة كذا واحدة؟! لا بد أن يكون السجل ناقصاً والدفاتر مزورة! ورفض المأمور الذكي الدقيق الوثائق وعمد إلى

ص: 2

التقدير الجزاف، فصال وجال، وتخيل ثم خال، وفرض فيما فرض أن في كل عدد من أعداد المجلة خمسين إعلاناً على التقدير الأقل، أجرتها في الأسبوع كذا، وفي السنة كذا؟ فلما نبهته عيناه اللتان في رأسه إلى أن كل عدد لا يزيد ما فيه على إعلانين في الواقع، أمرهما ألا تدخلا فيما لا يعنيهما! ومضى بسلامة الله يكره القواعد الأربع على أن (تعمل له حساباً) كما فكر وقدر، حتى بلغت جملة ما على الرسالة لمصلحة الضرائب:(24855) جنيهاً في سبع سنوات! فكم كان الربح إذن! وهالت أرقام هذا التقدير (لجنة التقدير) فخفضتها إلى (12607) بالتقدير الجزاف أيضاً، ثم حجزت على المطبعة والدار، وأمرتنا بتنفيذ هذا القرار! ولما لجأنا إلى القضاء عوقه محاموها سنتين عن الفصل، وما زالوا يعوقونه بالتأجيل العابث، والمصلحة لا تكترث ولا تهتم ما دامت تطالب وتهدد، والممول يسارع ويسدد!

ثم كانت الحكومة تبعث إلى الرسالة ببعض الفتات من إعلانات الوزارات في حدود الفائض من الصحف المؤيدة، فلما نقصت الموارد وضاقت الميزانية قصوا الأطراف الزوائد من (المصروفات) فكان منها على زعمهم نصيب المجلات الأدبية!

أما التبعة التي على وزارة المعارف خاصة فهي أثقل من أن يحملها ضمير مسئول، كانت هذه الوزارة ولا تزال تعين المدارس الحرة، وتمون المكتبات العامة، وتعول الفرق التمثيلية، وتدير الجامعة الشعبية، وتعنى بألوان الثقافة على الجملة، ولكنها - وا عجباً - لم تدرك إلى اليوم أن المجلة الأدبية الجدية مدرسة متنقلة، وتفعل ما لا تستطيع أن تفعله الوزارة نفسها من إحياء اللغة، وإنهاض الأدب، وتبسيط العلم، وتعميم الثقافة، وتوجيه الرأي، وتأليف القلوب، وتوحيد العرب، والسفارة بين مصر وأقطار العروبة، والتمكين لزعامتها الفكرية في بلاد الشرق فلو أنها أدركت ذلك لأعانت المجلات الأدبية على أداء رسالتها ببعض ما تعين به معاهد التعليم ومسارح لتمثيل ومراكز الثقافة؛ ولكنها - وا أسفا - لم تدرك منذ العام الماضي إلا أن اشتراكها في خمسمائة نسخة لمدارسها مكتباتها من الرسالة والثقافة، هو الذي أثقل كفة المصروفات في ميزانية التعليم فألغته لتعتدل الكفتان! وبهذه القشة المباركة قصمت ظهر البعير!

كانت الرسالة منذ فحش غلاء الورق، وقدحت نفقات الطبع، تكفي نفسها أو تخسر قليلاً،

ص: 3

وكنا نواجه هذه الحال بالتعفف والتقشف والصبر فتنساغ مرارتها أو تخف، فلما شاءت الضرائب ألا تعقل، وأرادت الحكومة ألا تعلن، وقررت المعارف ألا تشترك، أخذت الخسارة تنمو وتطرد حتى بلغت في العام المنصرم ألفاً ومائة وعشرين جنيهاً، فرأينا في مطلع هذا العام أن تقوى الرسالة لتصمد، وأن نعيد (الرواية) لتساعد، فإذا بالخسارة تتسع، وبالطاقة تضيق، وبالأزمة تشتد، وبالأمل يضعف؛ فلم نجد بداً من الإذعان لمشيئة القدر!

لقد قلنا يوم بلغت الرسالة عددها الألف أو عامها العشرين: (إنا نطمع في فضل الله أن تزيد الرسالة قوة في عهد مصر الجديد، وما تسأل الرسالة العون إلا من الله، فقد عودها جل شأنه ألا تفزع إلا إليه فيما يحزب من أمر وفيما ينوب من مكروه، ولعل السر في بقائها إلى اليوم على ضعف وسيلتها وقلة حيلتها، أنها عفت عن المال الحرام فلا تجد لها اسماً في (المصروفات السرية)، ولا فعلاً في المهاترات الحزبية، ولا حرفاً من الإعلانات اليهودية.

وإذا لم يكن للفضيلة رواج في عهد غرق فيه (القصر) في الفحش والمنكر والبغي والاغتصاب والاستبداد والقتل، وارتطمت فيه (الحكومة) في الاختلاس والغش والخيانة والرشوة والمحاباة والختل، فإنا لنرجوا أن يكون لها من السيادة والفوز نصيب، في عهد يتولى الأمر فيه بإذن الله محمد نجيب).

ولكن القضاء غالب، والرجاء في الله أولى، ولكل أجل كتاب، ولكل سافرة حجاب، ولكل بداية نهاية!

أحمد حسن الزيات

ص: 4

‌الحكم في الإسلام

جمهورية مدى الحياة

للأستاذ علي الطنطاوي

يا أهل مصر، هذا هو الطريق فماذا التردد بين الإقدام والإحجام؟ لماذا تقدمون رجلاً نحو (الجمهورية) وتؤخرون أخرى؟

إن هذه (الملكية الوراثية) بدعة في الإسلام ابتدعها سيدنا معاوية، غفرها الله له، فخالف بها عن طبيعة العرب التي طبعهم الله عليها، وشريعة الإسلام التي شرعها الله لهم، وأحالها كسروية قيصرية، وقد كانت بكرية عمرية، وجعلها ملكية بغي واستبداد، وقد كانت خلافة عدل ورشاد.

بدعة جرت ذيلها على تاريخنا، فمحت كثيراً من فضائله، وخلفت فيه رزايا وبلايا، صيرته مثل تواريخ الأمم، وقد كان تاريخنا ما ولدت أم التاريخ قبله، ولن تلد بعده تاريخنا يساويه أو يدانيه. كان تاريخ خير وبر وعدل وإحسان، تاريخ قوم هم لباب البشر، وهم خلاصة الناس، وهم هداة الدنيا، وهم ملائكة الأرض.

أفسدت تاريخنا على صلاح الزمان، وأضاعت دنيانا على قوة الدين، وأذكت في النفوس غرائز البغي وطبائع الشر على قرب العهد بالإسلام، فكيف بنا اليوم والزمان فاسد، والدين ضعيف، والعهد بعيد، والقلوب قاسية، والمنكرات فاشية؟

ما لنا نجرب المجرب ومن جرب المجرب حلت به الندامة؟ وتعود فنمد أيدينا إلى الجحر الذي لدغنا منه ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ونرجع إلى الهاوية فنتردى فيها بعد أن أنقذنا الله منها، ولما نكد!

أنتبع الإسلام، ثم نأتي بما ينكره الإسلام؟

إن الحكم في الإسلام جمهورية انتخابية تدوم مدى الحياة، ما لم يبدل الرئيس أو يتبدل، فنستبدل به.

وإن دعائم الحكم في الإسلام هي الانتخاب الصحيح، والديمقراطية الصادقة، والرقابة الدائمة.

ولا عبرة بقول من أخذ من الفقهاء بظواهر الأمور، بلا نفاد إلى بواطنها، وأمسك بطرف

ص: 5

المسألة وترك أطرافها، فقال بأن الخليفة تثبت خلافته بانتخاب النفر من أهل الحل والعقد - أخذاً من انتخاب أهل السقيفة أبا بكر، أو بالعهد استناداً على عهد أبي بكر لعمر، فإن أبا بكر ما صار خليفة إلا بالبيعة العامة، ولو خالف عليه أهل قطر من الأقطار لما كان لهم (على الحقيقة) بخليفة - إلا أن يكونوا خارجين على إرادة لأكثر فيعاملوا معاملة الخارجين، وإن عمر لم يستخلف بعهد أبي بكر بل بالبيعة؛ وخلاصة ما جاء في بيعته من النصوص - هو ما جمع في كتابي (أبو بكر الصديق) الذي طبع في دمشق من نحو ثماني عشرة سنة.

وفيه أنه لما ثقل أبو بكر واستبان له من نفسه جمع الناس إليه، فقال:

- إنه قد نزل بي ما ترون وما أظنني إلا ميتاً، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني، كان أجدر ألا تختلفوا بعدي.

فقاموا في ذلك، فلم يستقم لهم أمر، فرجعوا إليه، فقالوا:

- رأينا يا خليفة رسول الله رأيك.

- قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده ثم أنه دعا بعد ذلك عبد الرحمن بن عوف - فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب.

- قال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني.

- قال: وإن!

- قال: هو والله أفضل من رأيك فيه.

ثم دعا عثمان، فقال له مثل ذلك، فقال:

- علمي به أن سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله.

ثم شاور سعيد بن زيد وأسيد بن الحضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار - فقال أسيد:

- اللهم، اعلم الخيرة بعدك، ويرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.

عند ذلك كتب العهد المعروف وخرج به عثمان على الناس مختوماً، وأشرف أبو بكر من كوته على المسجد (وقد كان هو البرلمان الإسلامي)، فقال:

ص: 6

- يا أيها الناس إني قد عهدت عهداً، أفترضونه؟

- فقال الناس، رضينا وقام علي فقال:

- لا نرضى إلا أن يكون عمر!

- قال: أنه عمر!

فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به ثم بايعوا. . . (إلى آخر ما جمعت في الكتاب، من أخبار هذا الباب.) والستة الذين سماهم عمر، لم يكونوا إلا لجنة استشارية، عملها تنظيم المرشحين، والعمل على فوز مرشح واحد بالتزكية وهذا ما فعله عبد الرحمن، وما ثبتت خلافة عثمان إلا بالبيعة.

فالبيعة هي الدعامة الكبرى في الحكم الإسلامي، ولم يستطيع الخلفاء المستبدون، في أكثر العصور ظلماً، وأشدها ظلاماً، أن يهدموا هذه الدعامة، فكانت البيعة هي الأساس، وإن تحولت، كما تحولت حقائق الإسلام عند أكثر المنتسبين إليه - من جسد وروح، ومظهر وجوهر، إلى أجساد ومظاهر فقط.

أما الديمقراطية الصادقة، فهي الدعامة الثانية؛ فالخليفة ليس أفضل الأمة ولكنه أكثرها عملاً، وليس المالك لرقابها ولكنه أجيرها، ولا يمتاز دونها بمطعم ولا ملبس ولا مسكن، هكذا كان الخلفاء الأولون، قبل أن تصير الخلافة ملكاً، وهذي خطبهم و (تصريحاتهم)، وهذي سيرهم وأعمالهم، شاهدة على أكثر مما نقول:

والدعامة الثالثة الرقابة، كل فرد من الأمة شرطي يراقب الحاكم، يطيعونه ما أطاع الله، ويقومون بأمره ما أقام الدين، إن أحسن أعانوه، وإن نسي ذكروه، وإن أعوج قوموه، وكان عمر يتمنى أن ينصب الناس أميراً إن استقام أطاعوه، وإن جنف قتلوه.

قال له أحد الصحابة (نسيت اسمه):

- أفلا قلت: عزلوه؟

- قال: لا، القتل أنكى لمن بعده!

ونحن لا نبالي إن اجتمعت لنا هذه الخلال في رجل: البيعة والديمقراطية والاستقامة، أن يسمى رئيساً أو ملكاً أو إماماً أو أمير المؤمنين. هي اصطلاحات لا تقدم ولا تؤخر، لكن منها ما يخفف على الأذن سماعه، وعلى القلب احتماله، كاسم الرئيس، ومنها ما يشعر

ص: 7

الظلم والاستبداد والعبودية والمذلة، كاسم الملك.

أما وراثة الحكم، فلا تجتمع مع الإسلام في دستور، أيرث الولد ملك رقابنا، نحن الشعب كله، كما يرث الابن بقرات أبيه وعنزاته؟ أعوذ بالله! وهل بعد هذا مهانة أو ذل؟

إنه لا شيء أثقل على نفوس الناس، ولا أفسد لنفس صاحبة من ولاية العهد. أتخضع رقابنا، وتنحني جباهنا لطفل يحدث في لباسه؟ لماذا بالله؟

ألأنه خرج من فم أمه أو من أذنها، وسائر الناس يخرجون من حيث يخرج سائر الناس؟ أخلق الناس من ماء وطين، وخلق هو من الحليب والشكولاتة؟

أله دماغان في رأسه - وأربعة عيون في وجهه - ويطير بجناحين، لا يمشي كالناس برجلين؟

لقد ألف الناس الخضوع للرجل القوي الأمين، أما الخضوع لطفل، أمثاله يؤمرون فيطيعون، ويؤدبون فيضربون، أو لامرأة، فشيء لم نألفه، وما نألفه أبداً.

يقولون إن الملك رمز، كملك الإنكليز يملك ولا يحكم

والجواب، أنه ليس في الإسلام رئيس يملك ولا يحكم، بل الرئيس في الإسلام يحكم (بحكم الله) ولكن لا يملك؛ لأن الناس في نظر الإسلام أحرار لا يملكهم أحد.

الرئيس عندنا هو الذي يجتهد في وضع الشرائع مستنبطة من أصولها، وهو الذي يقضي القضاء، وهو الذي يدير الإدارة، وهو الذي يقود الجيش، وله أن يوكل عنه من تتحقق أمانته ومقدرته، أي أن أقرب الأنظمة اليوم إلى نظام الإسلام، جمهورية كجمهورية أمريكا، على أن تكون مدى الحياة.

وفي مقابلة هذا السلطان، لا يمتنع الحاكم على انتقاد ولا يترفع عن نصح، ولا يكون له في القضاء ما ليس للناس، وليس في الإسلام تهمة القدح بالذات الشاهانية، ولا محاكم خاصة للملك وأهله، بل ليس لأهل الملك ميزة أبداً، ولا يأخذون من مال الدولة، أو ينالون من خيرها فضلاً عن آخر فرد من الأمة.

وليس للحكم طبقة ولا قبيلة، وما ورد من أن الخلافة في قريش، هو أولاً حديثاً معارض بحديث عمر: لو كان حذيفة حيا لوليته، وحذيفة كان مولى؛ وحديث: لو ولى عليكم عبد حبشي. . . وهو ثانياً حديث مبتور له تتمة، والقاعدة عندهم، أن الزيادة من العدل مقبولة،

ص: 8

وتتمته: ما أقاموا الدين.

وطبيعة الإسلام تنافي هذا الحديث إلا يكون المراد منه غير عموم لفظه، فالقيم في الإسلام معنوية، ولا عبرة بالأنساب أبداً، والشريف هو الشريف بعمله لا بنسب إلى الرسول، وهو على الغالب نسب ملفق مكذوب كأكثر أنساب (الأشراف. . .) اليوم، والنبي يقول لبنته فاطمة سيدة النساء: يا فاطمة بنت محمد، لا أغنى عنك من الله شيئاً.

وهذا الحديث إن صح، يدل على أن القرشية تكون من أسباب الترجيح، إن استوى مرشحان للخلافة في خلال الخير كلها وكان أحدهما من قريش.

وإلا فأين قريش اليوم؟ وأين غير قريش من قبائل العرب؟ لقد تغيرت الدنيا، وتبدل الزمان، وشريعة الرسول لكل زمان ومكان، ولو أن الرسول قال هذا الحديث حقاً، وبعث اليوم من رووه عنه لما فهموا منه ما يفهمه اليوم من يفكر بعقول فقهاء الظاهرية، وهم أضيق الفقهاء فكراً، وأقربهم نظراً، وأبعدهم عن درك مقاصد الشريعة إلا ابن حزم، وما كان ظاهرياً مثلهم وإن تفقه بكتبهم.

فإذا نحن لم نقبل أن تكون الخلافة قاصرة على قريش وهم سرة الأرض، وأسرة النبي، وسدنة البيت الحرام، أفنقبل أن يكون الملك مقصوراً على قريش الأناؤوط، وأسرة فاروق، وأهل قولة؟

حسبكم من فضائل هذه الأسرة، أنها سرقت الأرض، وانتهكت العرض، وأضاعت الدين، وأفسدت الخلق، وأذلت الرقاب!

حسبكم إسماعيل وتوفيق وفاروق، لا تجلبوا لأنفسكم فاروقاً جديداً، كلهم فواريق!

يا أهل مصر، هذا هو الطريق، فاسلكوه. يا أهل مصر لا تترددوا، ليس بينكم وبين الغاية إلا خطوة واحدة!

علي الطنطاوي

ص: 9

‌شعراء الوطنية

البارودي

للأستاذ عبد الرحمن الرافعي

تتمة

في مقالنا السابق تحدثنا عن (محمود سامي البارودي) وعن شعره في منفاه، واليوم نتم الحديث عن شعره الوطني.

يشيد بعظمة الأهرام

قال يصف (الأهرام) ويشيد بعظمتها:

سل (الجيزة) الفيحاء عن (هرمي) مصر

لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري

بناءان ردا صولة الدهر عنهما

ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر

أقاما على رغم الخطوب ليشهدا

لبانيهما بين البرية بالفخر

فكم أمم في الدهر بادت وأعصر

خلت وهما أعجوبة العين والفكر

تلوح لآثار العقول عليهما

أساطير لا تنفك تتلى إلى الحشر

رموز لو استطلعت مكنون سرها

لأبصرت مجموع الخلائق في سطر

فما من بناء كان أو هو كائن

يدانيهما عند التأمل والخبر

وختمها بقوله:

فيا نسمات الفجر أدى تحيتي

إلى البرج المطل على النهر

ويا لمعات البرق إن جزت بالحمى

فصوبي عليها بالنثار من القطر

عليها سلام من فؤاد متيم

بها لا بربات القلائد والشذر

ولا برحت في الدهر وهي خوالد

خلود الدراري والأوابد من شعري

شعر القتال

ومن قصيدة له في وصف إحدى المعارك التي خاضها منها مبلغ شجاعته وصبره على أهوال القتال:

ولما تداعى القوم واشتبك القنا

ودارت كما تهوى على قطبها الحرب

ص: 10

وزين للناس الفرار من الردى

وماجت صدور الخيل والتهب الضرب

ودارت بنا الأرض الفضاء كأننا

سقينا بكأس لا يفيق لها شرب

صبرت لها حتى تجلت سماؤها

وإني صبور إن ألم بي الخطب

الفساد في عهد إسماعيل

وقال من قصيدة سوء الحكم وظلم الحكام في عهد إسماعيل، وينصح قومه بالمطالبة بحقوقهم والمبادرة بإصلاح شؤونهم قبل أن تسوء العقبى، وهي من شعره السياسي الوطني الرائع:

قامت به من رجال السوء طائفة

أدهى على النفس من بؤس على ثكل

من كل وغد يكاد الدست يدفعه

بغضاً ويلفظه الديوان من ملل

ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت

قواعد الملك حتى ظل في خلل

إلى أن قال:

فبادروا الأمر قبل الغوث وانتزعوا

شكالة الريث فالدنيا مع العجل

وطالبوا بحقوق أصبحت غرضاً

لكل منتزع عنهما ومختتل

حتى تعود سماء الأمن ضاحية

ويرفل العدل في ضاف من الحلل

الجيش والدستور

وقال في أوائل عهد الخديوي توفيق يدعو إلى الشورى وتقوية الجيش:

أمران ما اجتمعا لقائد أمة

إلا جنى بهما ثمار السؤدد

(جمع) يكون الأمر فيما بينهم

(شورى) وجند للعدو بمرصد

يندد بالدسائس

وقال من قصيدة يشكو فيها من الدسائس التي كانت تحاك حوله:

نقموا على حميتي فتألبوا

حزباً علي وأجمعوا ما أجمعوا

وسعوا بفريتهم فلما صادفوا

سمعاً يميل إلى الملام توسعوا

لا عيب في سوى حمية ماجد

والسيف يغلبه المضاء فيقطع

العودة إلى الوطن

ص: 11

وقد عاد إلى الوطن سنة 1900 بعد أن فقد نور عينيه في منفاه، فاستقبل مصر بقصيدته التي مطلعها:

أبابل مرأى العين أم هذه مصر

فإني أرى فيها عيوناً هي السحر

فإن يك موسى أبطل السحر مرة

فذلك عصر المعجزات وذا عصر

إلى أن قال:

وإني امرؤ تأبى لي الضيم صولة

مواقعها في كل معترك حمر

أبى على الحدثان لا يستفزني

عظيم ولا يأوي إلى سباحتي ذعر

عبرة الحوادث

ومن قصيدة له قالها بعد عودته من المنفى تفيض توجعاً لحالة البلاد بعد أن جثم الاحتلال على صدرها. وقد تذكر عندما مر بقصر الجزيرة أيام إسماعيل حين كان في أوج سلطانه. وما انتهى إليه أمره من خلع وخسران وتذكر أخطاءه التي كان لها أثرها في التمهيد للاحتلال. فلم يترجم على عهده. ونظم هذه القصيدة معتبراً ومذكراً وهي من آيات الشعر في العظة والاعتبار. قال:

هل بالحمى عن سرير الملك من ينزع

هيهات قد ذهب المتبوع والتبع!

هذي (الجزيرة) فانظر هل ترى أحداً

ينأى به الخوف أو يدنو به الطمع

أضحت خلاء وكانت قبل منزلة

للملك منها لوفد العز مرتبع

فلا مجيب يرد القول عن نبأ

ولا سميع إذا ناديت يستمع

كانت منازل أملاك إذا صدعوا

بالأمر كادت قلوب الناس تنصدع

عاثوا بها حقبة حتى إذا نهضت

طير الحوادث من أوكارها وقعوا

لو أنهم علموا مقدار ما فغرت

يد الحوادث ما شادوا ولا رفعوا

دارت عليهم رحى الأيام فإنشعبوا

أيدي سبا وتخلت عنهم الشيع

كانت لهم عصب يستدفعون بها

كيد العدو فما ضروا ولا نفعوا

أين المعاقل بل أين الجحافل بل

أين المناصل والخطية الشرع؟

لا شيء يدفع كيد الدهر إن عصفت

أحداثه أو بقي من شر ما يقع

ص: 12

زالوا فما بكت الدنيا لفرقتهم

ولا تعطلت الأعياد والجمع

والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر

وإنما صفوه بين الورى لمع

لو كان للمرء فكر في عواقبه

ما شاب أخلاقه حرص ولا طمع

وكيف يدرك ما في الغيب من حدث

من لم يزل بغرور العيش ينخدع

دهر يغر وآمال تسر وأع

مار تمر وأيام لها خدع

يسعى الفتى لأمور قد تضربه

وليس يعلم ما يأتي وما يدع

يا أيها السادر المزور من صلف

مهلاً فإنك بالأيام منخدع

دع ما يريب وخذ فيما خلقت له

لعل قلبك بالإيمان ينتفع

إن الحياة لثوب سوف تخلعه

وكل ثوب إذا ما رث ينخلع

وظل البارودي بعد عودته من المنفى في عزلة عن الناس، لا يجتمع إلا بالصفوة المختارة من الأدباء والشعراء والحافظين لعهده، إلى أن أدركته الوفاة سنة 1904، فخلف مجداً لا يبلى على الزمان.

عبد الرحمن الرافعي

ص: 13

‌غرارة ملقاة

للأستاذ محمود محمد شاكر

إليك عني، أيتها النفس، فإنا وأنت كما قال عبيد ابن الأبرص:

إذا أنت حملت الخؤون أمانة

فإنك قد أسندتها شر مسند

وقد أبيت على أن أكتب ما كنت أريد، لأنك أردت أن تكوني لي غير عهدي بك منذ ساعات قلائل، فدعيني أحدث عنك بما أسررت من مضمر أو مكنون.

ما كدت أجلس إلى مكتبي حتى تبعثرت خواطري، وتهاربت مني أفكاري، وانتشرت على عزيمتي، وتفرقت عني إرادتي، وتطايرت في الآفاق سواكن نفسي، وغادرتني همتي، وكأني غرارة ملقاة على مدب الحياة.

وربما هجس في نفسي الهاجس، فما أكاد أقول: هذا هو! حتى أجدني على جناح أمر آخر، وإذا بينهما مسيرة ما بين مشرق الشمس ومغربها. فأين المفر! وكيف القرار! لا أين ولا كيف! بل ألتمس مذهباً لا غاية له، لعلي واجد فيه بعض ما أسري به حيرتي: أن أقيد ما يعن لي - أم ينبغي أن أقول: أن أقيد ما أعن أنا له - على عجل، وبلا ترتيب، وكما يتفق.

ولكن ما نفع هذا لك أنت أيها القارئ؟ هل يعنيك شيئاً أن تطلع على حيرة نفس في ساعة من حياتها؛ أم هل يجدي عليك أن تطلع؟ بل مالي ولك! أتراني أكتب لأنفعك؟ ما أسخف هذا! وماذا عندي مما تنتفع به؟ كيف أستطيع أن أدعي أني أنفع بالذي أكتب آلافاً من القراء مثلك؟ وأنى لي علم هذا السحر: أن أجمع في أسطر معدودات حاجة كل نفس؟ أو ليس من السخف، ومن الغرور أيضاً، أن يزعم امرؤ أنه يملك القدرة على نفع أحد، فضلاً عن آلاف؟ وما أملك إلا أن أصارحك بأني ما كتبت قط إلا لنفسي وحدها، ثم لا ألبث أن أعرض عليك ما أكتب - لا لأعلمك أو أنفعك، بل لتعرف كيف يفكر إنسان مثلك! وكيف يخطئ وكيف يصيب! وكيف يصدق وكيف يخون؟ فإذا كان ذلك كذلك فلا بأس عليك إذن، إذا تصفحتني في ساعة من شتاتي وحيرتي، كما تتصفحني في ساعة هدأتي وسكينتي.

كيف! هل يمكن هذا؟ هل يمكن أن يصبح الإنسان غزارة ملقاة على مدب الحياة، ثم هي إنسان يحس بالحياة وأحيائها يمرون عليه غادين أو رائحين. هذا واطئ يطؤه، وهذا مقتحم

ص: 14

يقتحمه، وهذا ذاهل عنه وفي عينيه نظرة المتأمل، وهذا متلفت إليه يرمقه كالمتعجب! وكلهم لا يبالي. وهو أيضاً لا يبالي أن يكون ما كان: غرارة ملقاة على مدب الحياة والأحياء.

ومادامت الغرارة الملقاة تحس بالحياة وأحيائها يمرون عليها غادين أو رائحين، أفليس هذا حسبها من الحياة وأحيائها؟ وما الحياة؟ هل الحياة إلا إحساس محض؟ إحساس بالألم، وإحساس باللذة. إحساس بالرضى، وإحساس بالسخط. إحساس بالجمال، وإحساس بالقبح. إحساس بالنور، وإحساس بالظلام. إحساس بالشبع، وإحساس بالجوع. إحساس بالحلو، وإحساس بالمر. إحساس بالشذا الطيب، وإحساس باللخن الكريه. إحساس مجرد مرهف نافذ لا يعوق نفاذه شيء. إحساس حر كشعاع الشمس.

أو هؤلاء الغادون والرائحون أعرق في حس الحياة من الغرارة الملقاة على مدبها؟ وما الحركة التي تسير بهم غادين أو رائحين؟ أهي تزيد الإحساس وتضاعفه، أم هي تنقص منه وتتحيفه؟ أو ليست الحركة شاغلاً يشغل عن تجريد الإحساس وإمحاض للمحسوس؟ وأيهما أنفذ: غرارة ملقاة يستغرق حسها نابض الحركات حتى تظل حية هامدة، أم غاد ورائح، تتخون الحركة من حسه حتى يكل مرهفه ويفل مضاؤه؟

بل كيف يستغرق الحس الحركة؟ يا عجباً كل العجب! أنه أمر لا يكاد يدركه إلا من مارسه في سريرة نفسه. لذة لا توصف، ولكنها تعقب أحياناً ألماً لا يستقر. لذة تتملى بها وحدك، وإذا هي تنسرب بك إلى جنة مونقة تدلت عليك بأثمارها. أما الألم، فهو الذي يلذعك إذا روعك عن استغراق حسك طارق لم تكن تتوقعه.

أجدني أحياناً في أمر والناس معي، ثم يستغرقني عنهم حس أنفرد به، وإذا أنا معهم ولست معهم. ثم ينبري سائل فيسألني عن شيء غير الذي أنا فيه، فإنتبه كالمذعور، ويختلط علي ما أنا فيه بما سئلت عنه. وعندئذ أرى كل شيء يفر مني كأني ما عرفته من قبل، ويأخذني ما قدم وما حدث، ويخرجني التنبه فسراً من استغراق الحس إلى حركة لم تتهيأ لها، وتتضارب على لساني كلمات لم أردها، وأقول ذاهلاً، ما لو تأنيت قليلاً حتى أستقر لما قلته. أنه قول منزعج عن حقيقته، لو اطمأن لاستقام على وجهه. فمن لي بمن يحس به، حتى يتفق حسي وحسه، ثم يقظتي ويقظته!

ص: 15

أمن الممكن حقاً أن تجعل إنساناً يحس بما تحس به؟ باطل محض. الحس عمل متصل لا ينقطع، بعضه يأتي في أعقاب بعض. أجل، ليس من الممكن أن تفرغ نفس إنسان من ماضي إحساسها، وتفرغ نفسك من سالف إحساسها، كي تبتدئا معاً، وتسيرا معاً إلى النهاية. هذا مستحيل. وإذا استحال، فيستحيل معه أيضاً أن تجعل إنسانا يحس بما تحس به. نعم قد يستقيم في بعض الكلام أن تقول لأخيك:(إني أحس بما تحس به) ولكنك تعني عندئذ أنك توجهت بإحساسك إلى شيء كان إحساسه قد توجه إليه. أما لو ظننت أن إحساسك به مثل إحساسه، فهذا باطل. وألفاظ اللغة تضلل من لا يتوقى مجاهلها

كل امرئ منا عالم وحده، لأنه يحس إحساساً واحداً لا يشركه فيه أحد من بني جلدته. وكل امرئ منا هو في أصل طبيعته يعيش في خلوة تامة - في غرفة مغلقة الأبواب. وإذا فسدت عليه هذه الخلوة، فسد إحساسه بالحياة وأحيائها. وإذن، فمن الإثم والعدوان، أن تحتال على أحد، متوهماً أنك قادر على أن تجعل إحساسه بالأشياء كإحساسك. إنك آثم لا محالة. إنك تفسده وتفسد عليه حياته. إنك تعنف به حتى يخرج من خلوة الفطرة من حرية الحس. نعم، بل أنت تتلذذ باستلحاقه في إحساسك، تتلذذ بخضوع سر حريته لسطوتك، تتلذذ بشعاً باستعباده!

باطل الأباطيل أن يحس جماعة من البشر بإحساس واحد. أنه خلط قبيح. أنه إذلال كل فرد لطاغوت مكذوب يقال له الجماعة. كل امرئ منا له حس منفرد، يجرد للإحساس لشيء واحد، هو ما انطوت عليه هذه الحياة الدنيا، كما فطرها فاطر السموات والأرض ومن فيهن. والذي يجمع البشر في هذه الحياة، هو هذه القضية المركبة: حس ينفرد به كل امرئ منهم، يتجرد للإحساس بعالم واحد يتعايشون فيه. العالم الواحد هو الذي يربطهم، لا تطابق إحساسهم تطابقاً تاماً أو غير تام

والإنسان ليس مدنياً بالطبع، كما يزعمون، بل هو مدني بالضرورة. والضرورة هي هذا العالم الواحد الذي نعيش فيه، والذي لا فكاك منه إلا بحسام المنية. هذا العالم الذي يأسرنا، هو وحده الذي يربط بيننا، وهو وحده الذي يؤلف بين هذه الأحياء المحسة به، وكل حي منها منفرد بإحساسه، مستقل به وحده

لا يتطابق حسان بإحساس واحد أبداً، بل يتطابق حسان على الإحساس بشيء واحد ولا

ص: 16

مفر. وهما قضيتان مختلفتان في أصلهما، مختلفان في نتيجتهما

أنبل جهدك أن توقظ إنساناً حتى يحس، وسبيلك أن تفطن إلى شيء واحد: هو أنك أحسست بهذا الشيء أو ذاك. فإذا فطن له وتهيأ أن يحس به، فذلك حسبك وناهيك. غايات الغايات: أن توقظ حسه لكي يحس. والذي لا ريب فيه، أنه سيحس بغير الذي أحسست. هذا غاية جهد أعلم العلماء وأبلغ الأنبياء، وهو الأمانة التي كتب عليه أن يؤديها بما آتاه الله من علم وبيان. فإذا جاوز هذا إلى أن يحتال عليك ويختلك ويماسحك، ثم يتلصص إلى خلوتك ليضع فيك إحساسه، لكي تبلغا (اتحاد الإحساس) فاعلم أنه لم يزد على أن أفسدك وشوهك. فأحذره. أنه يستعبدك! أنه يميت إحساسك! أنه يتركك تقلد الحس وأنت لا تحس، كالببغاء تقلد الكلام وهي لا تتكلم!

هذا إثم يرتكبه كثير من الجماعات ومن أصحاب المذاهب. يزعمون إصلاح الناس، وحقيقة فعلهم تخريب الناس، وإماتة الإحساس الحي، واستعباد الحس الحر المنفرد في كل نفس. أنه تدمير الفطرة في سبيل الجماعة، أو في سبيل المذهب، أو في سبيل الدولة! حذار من فتك هؤلاء الفتاك، وإن جاءوك في ثياب النساك.

صورة الإنسان واحدة، مذ كان الناس على الأرض. الآلاف بعد الآلاف منذ أقدم الدهر. بنية واحدة بها يعرف الجنس أنه (إنسان)، ولكنهم متباينون، فلا يتشابه إنسانان أبداً. وكذلك الحس أصل واحد في كل إنسان، ولكن يتباين الحس، فلا يتشابه حسان أبداً، ولا يتطابق إحساسان البتة.

لا حيلة لأحد حتى يستطيع أن يدمج إنساناً في إنسان ولو رام ذلك أحد لدمرهما جميعاً. أما الحس، فبالختل يتطابق، وبالخداع يندمج. ختل هو القسر، وخداع هو الاعتساف. ولا يتم ذلك إلا بتشويه الحس وتدميره. والذي هون على الناس أمر هذا التشويه والتدمير، هو أن من الممكن أن يعيش المرء حياته بحس مدمر خرب، وإن كان مستحيلاً أن يعيش بصورة مدمرة خربة.

ومن هوانه على الناس، أن يفعله غير متحرج أكثر الآباء والأمهات، وأكثر المعاهد والمدارس، وأكثر الجماعات والمذاهب والدول. يدمرون حس الإنسان بالختل والخديعة، حين يزعمون إصلاح الناس بتطابق إحساسهم واندماجه. يدمرون الحس لأنه باطن، ولأنه

ص: 17

لا قوام له يحول بينهم وبينه، كما يحول قوام صورة الإنسان الظاهرة بينهم وبين ما فعلوه في شقيقها وقرينها.

الحياة إحساس محض، والحس حر مطلق، فأيما مذهب أو جماعة أو دولة، حاولت أن تدمج بالختل حساً في حس، وأن تطابق بالخديعة إحساساً في إحساس، فلا غاية لها إلا استعباد أحرار الحياة، وتدمير سر النشأة وتخريب بنيان الله بأحسن الأسلحة: بالكذب والمكر والتغرير والختل والخديعة والعبث. إنهم يريدون أن يجعلوا المذهب أو الجماعة أو الدولة، طاغوتاً يعبده المضللون داعين متضرعين (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).

أليس هذا بحسبك بعد الذي أفضت فيه. وقد عرضت لك جانباً من خواطر نفس حائرة تتصفحها، فتفكر وتدبر، وأحذر ما يقول القائل.

فبينما الأمر تزجيه أصاغره

إذ شمرت فحمة شهباء تستعر

تعي على من يداويها مكايدها

عمياء، ليس لها شمس ولا قمر

محمود محمد شاكر

ص: 18

‌ثلاثة حوادث من التاريخ الإسلامي ساعدت على نمو

‌العربية وانتشارها

للأستاذ عبد الحميد العبادي

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

نظرت في حوادث التاريخ الإسلامي فوجدت أن ثلاثة منها كانت ذات تأثير عميق بعيد المدى في نمو اللغة العربية وانتشارها العظيم. أول هذه الحوادث تعريب الدواوين على عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65هـ 86هـ). الثاني أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز (99 - 101هـ) بتدوين الحديث النبوي. الثالث أمر الخليفة المأمون العباسي (198 - 218هـ) بنقل كتب الفلسفة من اليونانية إلى العربية. وسأتكلم على هذه الأحداث واحداً واحداً، مبيناً الباعث عليه، وكيف تم، وأثره في نمو اللغة العربية وانتشارها. ثم أختم كلامي بالمقارنة بين ما حصل منذ أكثر من ألف سنة وما هو حاصل بالفعل بالإضافة إلى نهضة العربية في عصرنا الحاضر.

إن نظام الديوان نظام مستحدث في الدولة الإسلامية ظهر في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما توالت الفتوح وتدفقت الأموال من الأقطار المفتوحة، فاقتضت الحال اتخاذ نظام لتقييد أسماء المقاتلة وقبائلهم ومبالغ أعطياتهم، فاستشار عمر ذوي الرأي على عادته في كل أمر حازب وحدث مهم، فأشاروا عليه بوضع الديوان.

و (الديوان) كما جاء في دائرة المعارف الإسلامية لفظ إيراني الأصل له صلة بكلمة (دبير) ومعناها (الكاتب). وقد أطلق في أيام الفتوح العربية على السجلات التي كانت تشتمل على حساب أموال الدولة، ثم أصبح يضاف في العصر العباسي إلى كل فرع من فروع الإدارة العباسية، فقالوا ديوان الزمام وديوان التوقيع وهكذا.

ولقد كون عمر لجنة لتدوين أسماء الجند وبيان أنسابهم وأعطياتهم على نظام اتفق عليه وفصله الماوردي في كتاب (الأحكام السلطانية) فكان من ذلك الديوان المعروف بديوان الجيش. وهو أول ديوان وضع في الدولة الإسلامية وكان يحرر بالعربية من أول أمره. ثم تلاه ديوان آخر هو ديوان المال والجباية، وكان مقر دواوين الأموال في عواصم الأقطار

ص: 19

المفتوحة. وكانت تسجل فيها أسماء القرى ومساحاتها ومقادير ارتفاعها وتوزيع ذلك على هيئة جزية أو خراج. وكان هذا الديوان يكتب في كل قطر بلغة أهله أو لغة الدولة التي كانت لها السيادة عليه قبل الفتح الإسلامي فكان ديوان العراق وفارس يكتب بالفارسية، وديوان الشام بالرومية، وديوان مصر بالرومية والقبطية. وكان يتولى شئون هذه الدواوين عمال من أهل الإقليم، فكان عمال ديوان العراق من موالي الفرس، وعمال ديوان الشام من الروم، وعمال ديوان مصر من الروم والقبط.

وقد ظلت دواوين المال والجباية تكتب في الأقطار المفتوحة باللغات الأجنبية المذكورة يتولاها عمال من موالي الفرس والروم والقبط حتى كان زمن عبد الملك بن مروان. وكانت العربية قد انتشرت بين الأعاجم وحذفها قوم منهم إلى جانب لغاتهم الأصلية. ثم أن الدولة الأموية قد أصبحت راجحة النفوذ في الميزان الدولي؛ هذا إلى عصبيتها الشديدة لكل ما هو عربي، فلم يكن من الطبيعي أن تظل دواوينها تكتب بغير العربية. واتجهت سياسة عبد الملك إلى تعريب إدارة الدولة، وبدأ بالعملة فضربها عربية بعد أن كانت رومية وفارسية. قال البلاذري بإسناده أن عبد الملك أول من ضرب الذهب بعهد عام الجماعة أي سنة 74. وضرب الحجاج الدراهم آخر سنة 75 ثم أمر بضربها في جميع النواحي سنة 76هـ.) ثم اتجهت عزيمة عبد الملك وعامله الحجاج إلى تعريب الدواوين.

يروي البلاذري نقلاً عن المدائني عن أشياخه في بيان السبب الذي من أجله نقل ديوان العراق فيقول (قالوا لم يزل ديوان خراج السواد وسائر العراق بالفارسية، فلما ولى الحجاج العراق استكتب زادان فروخ ابن بيري، وكان معه صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم يخط بين يديه بالفارسية والعربية. . . فوصل زادان فروخ صالحاً بالحجاج وخف على قلبه، فقال له ذات يوم إنك سببي إلى الأمير وأراه قد استخفني، ولا آمن أن يقدمني عليك وأن تسقط. فقال لا تظن ذلك! هو أحوج إلي منه إليك؛ لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري. فقال والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لحولته. قال فحول منه شطراً حتى أرى، ففعل، فقال له تمارض! فتمارض، فبعث إليه الحجاج طبيبه، فلم ير به علة. وبلغ زادان فروخ ذلك فأمره أن يظهر. ثم إن زادان فروخ قتل في أيام عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث الكندي. . . فاستكتب الحجاج صالحاً مكانه فأعلمه الذي كان جرى بينه

ص: 20

وبين زادان فروخ في نقل الديوان، فعزم الحجاج على أن يجعل الديوان بالعربية وقلد ذلك صالحاً. فقال له مراد نشاه بن زادان فروخ: كيف تصنع بدهويه وشيشويه؟ قال اكتب عشر ونصف عشر! قال فكيف تصنع بويد؟ قال: اكتبه (وأيضاً) والويد النيف والزيادة تزاد. فقال: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية! وبذلت له الفرس مائة ألف درهم على أن يظهر العجز عن نقل الديوان ويمسك عن ذلك، فأبى ونقله. فكان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد يقول لله در صالح! ما أعظم منته على الكتاب!). ويقال إن الحجاج أجل صالحاً أجلاً حتى قلب الديوان).

هذا عن نقل ديوان العراق وفارس. أما ديوان الشام فيروي البلاذري أيضاً سبب نقله فيقول (قالوا ولم يزل ديوان الشام بالرومية حتى ولى عبد الملك بن مروان. فلما كانت سنة 81هـ أمر بنقله، وذلك أن رجلاً من كتاب الروم احتاج أن يكتب شيئاً فلم يجد ماء فبال في الدواة، فبلغ ذلك عبد الملك فأدبه، وأمر سليمان بن سعد بنقل الديوان، فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة، ففعل ذلك وولاه الأردن. فلم تنقض السنة حتى فرغ من نقله وأتى به عبد الملك، فدعا بسرجون كاتبه، فعرض ذلك عليه، فغمه، وخرج من عنده كئيباً، فلقيه قوم من كتاب الروم، فقال: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة! فقد قطعها الله عنكم! قال وكانت وظيفة الأردن التي قطعها له معونة مائة ألف وثمانين ألف دينار).

أما ديوان مصر فيقول الكندي في كتاب (القضاة والولاة) في أمر نقله (وبويع الوليد بن عبد الملك. . . فأقر أخاه عبد الله على صلاة مصر وخراجها وأمره بالدواوين فنسخت بالعربية، وكانت قبل ذلك تكتب بالقبطية، وصرف عبد الله بن أشناس عن الديوان وجعل عليه ابن يربوع الغزاري من أهل حمص)

ومهما يكن ما ترويه المصادر القديمة من أسباب مباشرة لتعريب الدواوين فالذي لا شك فيه أن عبد الملك وابنه الوليد وعاملهما الحجاج كانوا شديدي العصبية لكل ما هو عربي، وأن الدولة قد اتجهت إلى تعريب إدارتها كما قدمنا، استكمالاً لمظاهرة سيداتها وتوفير لكرامتها.

ولقد ترتب على هذا الحادث التاريخي الهام عدة أمور خطيرة: -

فالعربية الفصحى أفادت ألفاظاً جديدة كثيرة كما يؤخذ من ترجمة دهوية وشيشوية وويد، فهي مثال لما حصل، بالفعل على نطاق واسع. وظهرت في العربية ألفاظ كثيرة إما معربة

ص: 21

أو منقولة عن أصولها الأعجمية المستعملة في الحساب والمساحة والزراعة والتجارة والصناعة مما لم يكن للعرب عهد به من قبل.

ثم إن الأعاجم مسلمين أو غير مسلمين أقبلوا على تعلم العربية، بعامل المصلحة الذاتية، وذلك للانتظام في أعمال الكتابة والخراج وما يتصل بهما، ولسهولة التقاضي في المنازعات التي كان ينظر فيها قضاة من العرب بطبيعة الحال. وبذلك لم يكد ينصرم القرن الأول الهجري حتى كانت العربية قد عمت أهل فارس والعراق والشام ومصر وغلبت الفارسية والرومية والقبطية على أمرها فأخذت هذه تتضاءل وتضمحل حتى صارت إلى الزوال أو ما يقرب من الزوال.

وبانتشار العربية بين الأعاجم واضمحلال اللغات الأجنبية ثم ذهابها ظهرت في الأقطار المفتوحة لهجات عربية شعبية تبين لنا المصرية منها خاصة مجموعات البردي التي كشفت في مصر والتي تصاحب تاريخ مصر الإسلامي من أول الفتح العربي إلى القرن السادس.

تشتمل هذه الوثائق النفيسة على رسائل صادرة عن ولاة مصر مثل قرة بن شريك وغيره وبعض المثقفين من العرب ومكتوبة بلغة صحيحة فصيحة، كما تشتمل على عدد عظيم من وثائق المبايعات والمداينات، وعقود الزواج والتمليك والشئون اليومية؛ وهذه مكتوبة بلغة شعبية مباينة للفصحى وفيها كثير من خصائص العامية المصرية الحاضرة، من ذلك إبدال الضاد من الظاء في (إحفض) بدلاً من (إحفظ) وإسقاط الهمزة رسماً ونطقاً وإسقاطاً يكاد يكون مطرداً فيقال (ويضاً) بدلاً من (وأيضاً) و (وحد عشر) بدلاً من (أحد عشر) وعدم المبالاة بالإعراب فيقال (اثنين) حيث يجب أن يقال (اثنان) وهلم جرا. وقد نشر جانباً من هذه البرديات المحفوظة بدار الكتب المصرية الأستاذ المستشرق أودلف جروهمان النمسوي في ثلاثة أسفار كبار طبعتها دار الكتب قبل الحرب الأخيرة كما وضع جنابه حديثاً كتاباً قيماً في هذا الموضوع أسماه (من عالم البرديات العربية) وقد نشرته جمعية الدراسات التاريخية المصرية.

وأهم النتائج التي ترتبت على تعريب الدواوين من حيث مستقبل الثقافة الإسلامية أن أصبحت اللغة العربية الأداة الوحيدة للتخاطب لتتبادل الآراء والأفكار في العالم الإسلامي

ص: 22

الذي كان يمتد إذ ذاك من حدود الهند والصين إلى سواحل المحيط الأطلسي.

هذا، عن تعريب الدواوين وما ترتب عليه من الآثار. أما تدوين الحديث النبوي فالمعروف أنهم كانوا طوال القرن الأول يكرهون كتابة الحديث حتى لا يكون إلى جانب القرآن الكريم كتاب آخر يشغل المسلمين عن تلاوته وتدبر معانيه؛ بيد أن هذا التحرج لم يمنع نفراً من الصحابة والتابعين أن يكتبوا مجموعات من الأحاديث لأنفسهم خاصة لا بقصد النشر والتداول. فلما ظهرت أحاديث لا يعرفها أعلام الصحابة والتابعين قوى الاتجاه إلى تدوين الأحاديث الصحاح يروي الخطيب البغدادي في كتاب (تقييد العلم) أن ابن شهاب الزهري قال لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق تنكرها ولا تعرفها ما كتبت حديثاً، ولا أذنت في كتابته. فلما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز أمر ابن شهاب الزهري بجمع السنة وكتابتها. وعن إبراهيم بن سعد قال (أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً دفتراً فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً). ثم استفاض تأليف الكتب في الحديث بعد ذلك حتى كانت الكتب السنة المشهورة.

والذي نخصه بالملاحظة من هذه المظاهرة العظيمة أن الأحاديث سواء كانت مروية باللفظ أو بالمعنى، هي في طبقة عالية من البلاغة فأفادت اللغة من تدوينها نموذجاً للعبارة البليغة مكن للفصحى بعد المنزلة التي بلغتها بالقرآن الكريم أي تمكين. وإن حرص المسلمين في كل عصورهم على هذين المصدرين الأقدسين وبالغ عنايتهم بهما أقام الفصحى على أساس راسخ لا يتطرق إليه وهن ما دام في الأرض مسلمون وإسلام.

ثم إن الأحاديث المروية عن الرسول العربي تعتبر المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، ومن ثم وضعت كتب في الحديث مرتبة على أبواب الفقه كموطأ الإمام مالك وصحيح البخاري فكان منها مادة عظيمة غذت لغة الفقه الإسلامي وعلوم الحديث وانبعثت فيها تغييرات ومصطلحات يعرفها من يطلع على الكتب المؤلفة في هذين العلمين الجليلين.

ثم انتقل، إلى الحادث الثالث وهو أمر المأمون بنقل كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية، فأقول لما فتح العرب بلاد الشام والعراق مصر وجدوا في أمهات مدنها مدارس للسريان والفرس والقبط تدرس بها العلوم القديمة وخاصة علوم اليونان وكانت هذه العلوم قد نقلت إلى السريانية في الشام والعراق رغبة من النساطرة واليعاقبة في درسها بلغتهم مبالغة منهم

ص: 23

في مقاطعة اللغة اليونانية، لغة الكنيسة البيزنطية التي انفصلوا عنها من الناحية الدينية. وكان أكثر ما يدرس في هذه المدارس الفلسفة اليونانية وخاصة المنطق وما وراء الطبيعة ثم الطب والنجوم والكيمياء. وقد نقلوا كذلك كتباً عدة في الرياضيات وغيرها عن الفارسية والهندية والقبطية والنبطية

واستمرت هذه الحال في العصر الأموي وأخذ المسلمون يتصلون شيئاً فشيئاً بهذا الجو العلمي الذي كان يسود الشرق الأدنى يفضل مدارس الإسكندرية وأنطاكية وقيصرية ونصيبين والرها وجند يسابور حتى رووا أن الأمير خالد بن يزيد بن معاوية درس الكيمياء على راهب إسكندري اسمه ماريانوس وأنه ألف في الكيمياء ثلاث رسائل. فلما كان زمن العباسيين الأوائل ازداد إقبال المسلمين على دراسة هذه العلوم، وكان للخليفة المنصور ولع خاص بالطب والنجوم فترجمت له كتب في هذين العلمين عن السريانية. وكان للبرامكة أثر كذلك في تشجيع النقل عن السريانية والفارسية، فلما جاء المأمون وكان ميالاً بطبعه إلى البحث الفلسفي وآراء المعتزلة كالقول بخلق القرآن وغيره من مسائلهم، فقد سلك مسلكاً جديداً بالمرة، إذ أنشأ في بغداد (بيت الحكمة) للدرس والبحث. والظاهر أنه حذا بيت الحكمة هذا على مثال مدارس السريان التي أشرت إليها، ثم أنه أحب أن تنقل كتب الفلسفة الإغريقية عن اليونانية رأساً دون وساطة لغة أخرى كالسريانية وغيرها.

ويروي ابن النديم في (الفهرست) السبب الذي بعث المأمون على ذلك وهو أن المأمون رأى في منامه أرسطوطاليس وسأله بعض الأسئلة، فلما نهض من نومه طلب ترجمة كتبه، فكتب إلى ملك الروم يسأله الأذن في إنفاذ ما يختار من الكتب القديمة المدخرة ببلد الروم، فأجابه إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق، وسلم (صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل. ثم أنه جعل يحرض الناس على قراءة تلك الكتب؛ ويرغبهم في تعلمها كما يذكر ابن العبري في كتابه مختصر تاريخ الدول

واقتدى بالمأمون كثير من رجال الدولة وجماعة من أهل الوجاهة والثروة في بغداد، فتقاطر إليها المترجمون من أنحاء جزيرة العراق والشام وفارس وفيهم النساطرة واليعاقبة والصائبة والمجوس والروم والبراهمة يترجمون من اليونانية والفارسية والسريانية

ص: 24

والهندية والنبطية واللاتينية وغيرها. وأقبل الناس على الاطلاع والبحث أيما إقبال. وقد ظلت الحال على ذلك حتى أنه لم يكد ينتهي القرن الرابع حتى كان قد تم نقل أهم كتب القدماء إلى العربية.

ولقد كان أثر هذا النقل الواسع المدى عظيماً بالإضافة إلى اللغة العربية فقد نقل المترجمون مئات الألفاظ الفلسفية والطبية والكيميائية والرياضية وغيرها إلى اللغة العربية، مترجمين بعضها إلى ما يقابله في العربية وناقلين بعضها بلفظه مما جعل من علماء اللغة على أن يخصوه بتأليف خاصة مثل كتاب (المعرب والدخيل) للجواليقي. ومهما يكن من شيء فقد كسبت اللغة العربية مادة غزيرة وفيرة مكنت النحاة والمتكلمين والفلاسفة الإسلاميين من خوض مسائل علومهم المختلفة بلغة مواتية وألفاظ دالة على المعاني التي يريدون التعبير عنها.

وبعد فإنا إذا اعتبرنا ما أداه تعريب الدواوين إلى اللغة العربية في مجال المصطلحات الإدارية المالية، وما أنتجه تدوين الحديث في مجال السنة والفقه، وما أثمره نقل كتب الفلسفة والطب والرياضة والكيمياء في ميدان العلوم العقلية والطبيعية فإنا نجد أن اللغة العربية قد أصبحت في القرن الرابع بحراً خضماً مما اقتضى وضع معاجم تجمع مادتها وتشرح معاني مفرداتها. وهذا كله بفضل ما في هذه اللغة نفسها من قوة وحيوية عجيبة، ثم بفضل السياسة التي انتهجتها الدولة بأزائها على النحو الذي بيناه.

وأخيراً أختم كلمتي فأقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، فبعد مضي أكثر من ألف سنة عادت اللغة العربية إلى شبه الحال التي كانت عليها في أزهى عصور الإسلام. لقد عربت دواويننا بعد أن كانت بلغات أجنبية بين تركية وفرنسية وإنجليزية، ثم هاهي ذي حركة نقل قوية عن اللغات الأوربية في مختلف العلوم والفنون والآداب يقوم مجمعنا الموقر على توفير المصطلحات العربية اللازمة لإنجاحها. وكما كانت العربية أداة التفاهم وتبادل الرأي والفكر في الدولة الإسلامية القديمة، فإنها بسبيل أن تصبح كذلك في عالم شرقي حديث يمتد من أقاصي إندونيسيا إلى مراكش. وهو لعمري أوسع وأشمل من العالم الإسلامي القديم. ولكن هذا معناه تزايد العبء الملقى على أبناء العروبة وحماة لغة الضاد، وأخص منهم بالذكر رجال مجمعنا الموقر، أن الآمال المعقودة عليهم في جعل العربية تنهض في

ص: 25

المستقبل القريب نهضتها في الماضي البعيد لآمال قوية لا يعرف اليأس إليها سبيلاً. فإذا ما تحققت هذه الآمال وهي متحققة بإذن الله فسيكون للعربية شأن أي شأن في نشر الثقافة العليا في القارتين الآسيوية والأفريقية والله ولي التوفيق.

عبد الحميد العبادي

ص: 26

‌من وحي الثورة وأهدافها

الفرد وقيمته في المجتمع المصري

للأستاذ محمود الشرقاوي

أمران هما اللذان حركا فكري لأن أتناول بالكتابة هذا الموضوع. وكلا الأمرين من وحي الثورة المباركة، كما أعتقد أن الغاية التي يحققها هذان الأمران وأمثالهما، هي من أهداف ثورتنا، أو يجب أن تكون من أهدافها.

أول الأمرين ما سمعته أذناي، عرضاً، وأنا أسير إلى جوار رجلين من عامة الشعب. فقد سمعت أحدهما يقول لصاحبه: الآن لا كبير ولا صغير، ولا سيد ولا عبد، فيجب أن تطلب حقك، وتشكو ظلمك، وأنت مطمئن شجاع. وقد أحسست في نفسي شعوراً بالعزة، والرضى إذ أجد هذا الإحساس الذي هو وليد الثورة بلا شك، في قلوب المهضومين من أبناء الوطن.

ولكني وددت لو أستطيع أن أقول لهذين المتحدثين وأمثالهما من الناس، أنه لا يوجد الآن سيد ولا عبد حقاً، ولكن يوجد ويجب أن يوجد دائماً، كبير وصغير، فهذه هي الحياة. وهكذا خلق الله الناس. ولكنه أمرهم أيضاً أن يرعى كل حق أخيه. فحق الصغير على الكبير البر والمودة والمواساة. وحق الكبير على الصغير، العرفان، والمحبة.

أما ثاني الأمرين، فهو ذلك الخطاب الذي قرأته، عرضاً أيضاً، والذي ترسله الهيئة المشرفة على توزيع معونة الشتاء.

فقد جاءت إلى امرأة فقيرة، معدمة، عمياء. تمد يدها تحمل ورقة. وعلى وجهها الأسود البائس شيء من أمل وشيء من سرور. وقرأت ما احتوته هذه الورقة من سطور فإذا هي قليلة الكلمات، ولكنها تحمل من الدلالات، والمعاني ما ليس بالقليل. وما بلل عيني بالدمع، بعد أن تلوثه.

كان كتاباً جاءها من المشرفين على توزيع هذه المعونة يطلب إليها أن تذهب إليهم في مقرهم. وليس في هذا كله شيء جديد، ولا أمر يستحق أن يكتب فيه. ولكن صيغة الكتاب هي التي تحمل من المعاني والدلالات، كما قلت، شيئاً كثيراً. فهي تدعوها، وأندادها من الفقراء، الذين لم يكن يدعوهم أحد، (بالمواطن). وهي، أي لجنة الإشراف على التوزيع، (تتشرف) بدعوتها فقط، وفي ذلك من الرقة، وحسن اللياقة، والأدب في الخطاب، ومراعاة

ص: 27

الشعور الإنساني ما فيه، وما ليس يخفى. ثم يوقع الخطاب، بعد هذه الصيغة المهذبة الرفيعة باسم اللواء أركان حرب محمد نجيب.

فهؤلاء القوم الذين طحنهم البؤس، والحرمان واليأس، والذين لم يكن يذكرهم أحد إلا بالسخط، ولا يخاطبهم أحد إلا بالزراية، يوجه إليهم مثل هذا الخطاب الذي يفيض أدباً، ورقة، وحناناً، ورعاية من رئيس الحكومة، وقائد الجيش الذي أحدث أعظم انقلاب في تاريخ مصر كله!

ذلك شيء جديد لم يروه من قبل، ولم يكن يخطر بأحلامهم. ثم هم بعد هذه الدعوة المهذبة يذهبون فيجدون من بر إخوانهم ما يكسوهم من عري، ويغنيهم عن سؤال، ويجدون أن ما أخذوه ليس صدقة ولا منة، بل هو حق الفقير عند القادر.

وهذا شعور جديد عند الحاكم لم يألفه وطننا مغزاه أن كل (مواطن) أخ كريم له من العزة والكرامة والحقوق ما لكل أخ قبل أخيه مهما يكن هذا المواطن فقيراً بائساً محروماً.

وهل قامت هذه الثورة البارة الخيرة إلا ليسعد بها الفقير، والبائس، والمحروم؟

ولست أعتقد أن هذا الأسلوب المهذب في خطاب الفقراء كان أدباً في الخطاب فحسب، بل أحب أن أعتقد أنه يبطن وراء هذا الأدب غاية أخرى هي إشعار الفرد بقيمته الذاتية وكرامته الإنسانية التي هي حق كل مواطن، والتي هي الركن الأول لكرامة الوطن والجماعة، فلن تكون جماعة كريمة عزيزة إلا وأساسها فرد كريم عزيز، ولن يكون وطن كريم عزيز إلا وأساسها فرد كريم عزيز، ولن يكون وطن كريم عزيز إلا وأساسه ولبناته أفراد كرام على نفوسهم أعزاء عند مواطنيهم.

والقيمة الذاتية للفرد هي أيضاً، أساس الحكم الديمقراطي المستقيم النظيف المنتج؛ فعلى قدر الإحساس الذاتي بالكرامة يكون الحرص على الحقوق الخاصة للفرد، والحقوق العامة للجماعة.

ولن تجد إنساناً يشعر بقيمته الذاتية وكرامته ثم يرضى بحكم فاسد أو جائر يظلمه أو تحكم به جماعته، أو يخضع له وطنه، والذي يعرف لنفسه قدرها يحرص عادة على أن يعرف أقدار الآخرين فلا يظلمهم، ولا يرضى بما يقع عليهم من ظلم غيره.

ولن تجد إنساناً يشعر بقيمته الذاتية وكرامته ثم يرضى بأن يكون عاطلاً أو ضعيف

ص: 28

الإنتاج، ولا أن يعيش في الحياة على مستوى مادي أو ثقافي يأباه لنفسه الرجل الكريم.

فالقيمة الفردية لكل إنسان، هي الأساس الأول لكل إصلاح، وخير، ونهضة متينة البنيان، والأساس الأول لبناء الوطن الحر القوي الكريم.

وقد قرأت في الأيام الأولى لهذه الثورة أن القائد الرئيس محمد نجيب لاحظ وهو يسلم على أحد الأفراد أنه ينحني، ويخفض رأسه، فهز يده وهو يقول: ارفع رأسك، وانظر في عيني فقد مضى زمن الخضوع.

وهذه هي الروح التي لا بد للثورة أن تنميها، وتزكيها في مجتمعنا المصري، والتي أعتقد أن كثيراً من قوانين الثورة كقانون إلغاء الرتب والألقاب، وقانون الإصلاح الزراعي، وكانت تهدف إليها، في ضمن ما تهدف.

كما أعتقد أن هيئة التحرير، التي تشمل فروعها بلادنا كلها الآن، ستجعل من أهم أهدافها تعزيز هذه الروح وإشعار الفرد بقيمته مع رعاية حق الآخرين.

وحبذا لو احتذت مصالح الحكومة في خطاب الأفراد حذو هذا الكتاب الذي أرسلته الهيئة المشرفة على معونة الشتاء إلى الفقراء، وخرجت عن أسلوب خطابها الذي يوحي بالاستعلاء، والتفرد.

وحبذا لو اهتدى موظفوها بهدي هذه الروح في معاملة أصحاب الحاجات من روادها.

محمود الشرقاوي

ص: 29

‌الإسلام والفن والحياة

للأستاذ منصور جاب الله

ما زال القلم ينازعني في التعقيب على نبأ طالعته في الصحف قبل أشهر، وما برحت أطامن نفاره وأرده عن جماحه حتى غلبني على أمري فكان هذا المقال!

وقصارى هذا النبأ أن (جمل المحمل) نفق، وليس في هذا شيء، فما كان نفوق حيوان ليسترعي الأذهان، ولكن بعض الصحف أبرز هذا الخبر في إطار مبالغة في الاهتمام به ولفت النظر إليه، إذن فليس الأمر أمر حيوان نفق وصار جيفة من الجيف، فلا بد أن للخبر وجهاً آخر يعادل هذا الوجوم المرتسم على كثير من الوجوه التي طالعها الخبر.

إن الذين قرءوا نبأ نفوق جمل المحمل، عرفوا من قبل أن (طلعة المحمل) قد ألغيت منذ هذا العام، وأن أهل القاهرة سوف يحرمون هذه (البدعة) التي جرت بها التقاليد منذ عهد (أم خليل المعتصمية) المشهورة في التاريخ باسم شجرة الدر، ومن ثم كان الحزن وكان الوجوم، وكان التساؤل: أي خير فات الأمة من بقاء المحمل؟ ومتى نهى الدين عن المحمل؟ وهل من الخير أن نقحم الدين في كل شأن من الشئون؟

وقبل عام وبعض عام كانت المعركة محتومة بيننا وبين الطغاة المحتلين على ضفاف القناة، وكنا نعبئ قوانا ونستنهض الهمم والعزائم، وإذا بشيخ جليل القدر كبير المكانة، يطلع علينا بمقال ضاف في إحدى الصحف بأن تقبيل زمام جمل المحمل حرام، وأن الدورات السبع لجمل المحمل لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وقرأنا هذا الكلام ونحن في قتام المعركة وقبل أن ينجلي عن الملحمة غبارها، نهد للشيخ الوقور من يقول له إن تقبيل زمام الجمل لا يعني إلا تمجيد المعنى الذي يعنيه سفر المحمل إلى البقاع القدسية وأن التقليد القائم على دورات المحمل السبع لا يعني إلا التمثل بالأشواط السبعة حول الكعبة المشرفة أو بالأشواط السبعة بين الصفا والمروة.

وكنت أحب أن أرد على الشيخ، وكانت النفس في سورة جامحة، ذلك أن إثارة ذلك الموضوع في هاتيك الأيام لم يكن يقصد به وجه الله، وإنما كان يراد به صرف الأذهان عن مجاهدة الأعداء.

واليوم أرجو أن أستميح القارئ عذراً إذا تحدثت في هذا الموضوع، فلقد كثر الحديث في

ص: 30

هذه الأيام حول ولاية علماء الدين في الإسلام وتعرض الأزهر الشريف لمحنة سوف يخرج مها إن شاء الله منصوراً مبجلاً من أهله ومن غير أهله.

ولقد قدمنا الحديث بجمل المحمل، ولا نريد أن نتزيد أو نحمل الألفاظ أكثر من معانيها؛ وإنا نقولها صريحة إن (المحمل) ليس من الدين، ولم يكن ثمة (محمل) في عهد رسول الله ولا في عهود الخلفاء الراشدين ولا ملوك الأمويين ولا العباسيين، وإنما ابتدع المحمل في نهاية الدولة الأيوبية، ليكون هو دجالا لشجرة الدر، ثم جرى به العرف والتقليد من ذلك العصر، فكانت قافلة تعبر القاهرة المعزية إلى السويس ثم تجتاز صحراء سيناء، والركب البقاع المقدسة التي ضمت بيت الله الحرام وقبر الرسول الأعظم عليه صلوات الله وقابر الصحابة والتابعين عليهم رضوان من الله أكبر.

فأي جلال هذا الجلال، وأي جمال هذا الجمال!

أبعد قرابة ألف عام يطلع علينا من يزعم أن المحمل (بدعة) في حين أن البدعة على ما فهمها الفقهاء (كل شيء ليس له أصل في الدين) وليس المحمل بمندرج تحت هذه البدعة، وإنما هو مظاهرة دينية فيها فن وفيها جمال، ولقد بصرت بعيني مواكب المحمل ورأيت الألوف من المشاهدين تموج عيونهم بالدمع، وهم يودعون ركب المحمل ويقبلون الكسوة وهي في طريقها إلى الكعبة أو إلى قبر الرسول، لقد رأيت الناس يذرفون الدمع الهتون شوقاً إلى البقاع المقدسة ويعاهدون الله أن يزوروها إذا مد لهم في الأجل، فإذا لم يكن للمحمل إلا هذه الفائدة، لكفاه فخراً، وهل بعد التشويق لزيارة البيت الحرام زيادة لمستزيد؟

وإني لأذكر الساعة أن ركب المحمل منع من السفر من مصر إلى الحجاز أحد عشر عاماً، ثم أذن له بالسفر عام 1937 وتواكب الناس لرؤيته من كل فج حتى عمرت القاهرة واكتظت جنباتها، وقيل إن عدد المشاهدين بلغ ألف ألف، وأذاع المسئولون عن النظام يومئذ أنه رغم هذا الجمع الهائل لم تحدث سرقة واحدة ولا حادث مخل بالآداب، أبعد هذا يقال إن المحمل (بدعة) لأنه لم يكن في عهد النبي ولا في عهد الخلفاء الراشدين!

لقد كان المحمل ضرباً من (الفن) قضينا عليه بأيدينا ليعلم غير أهل الآلام - بغير حق - أن الإسلام عدو للفن والتقاليد الصالحة، ولأننا صرنا إلى الحال من الفوضى الدينية لا يرضى عنها عدو ولا نصير، ولسنا نعرف والله ماذا يضير الإسلام في قواعده الخمس

ص: 31

التي لا يأتيها الباطل إذا بقيت التقاليد التي لا تمس الجوهر والتي فيها الجمال الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى (ولكم فيها جمال).

إن رجال الأديان الأخرى فهموا الدين على حقيقته الطبيعية، فجعلوا منه فناً وتزاويق وموسيقى تغري الناس باعتناقه ونحن في القرن العشرين نريد أن نجعل من الإسلام ديناً تجريدياً لا يفهمه إلا الفلاسفة، وهيهات أن يكون الناس كلهم فلاسفة.

فإذا رخم المؤذن صوته بالآذان وحلاه، قلنا هذه بدعة، وينبغي أن يكون الآذان خالياً من الطلاوة والحلاوة وأن يؤديه صاحبه بجلافة وكأنما يفجر قنبلة أو يلقى حجراً، وكأنما غاب عنا أن لحلاوة الصوت مدخلاً للآذان ومعبراً إلى الإيمان، ولقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري يرتل القرآن بصوت حنان فأعجبه الصوت الندي وأثنى على صاحبه بقوله (كأنما أوتيت مزماراً من مزامير داود) وهش أبو موسى لهذا الثناء وقال (والله يا رسول الله لو كنت أعلم أنك تستمع إلي لحبرته لك تحبيراً) أي لزاد في حلاوة الصوت وجمال الترتيل.

فهذا خاتم المرسلين قد قدر الفن وشجع أهل الفن وجئنا من بعده ندعو إلى غير ما يدعو، وصرنا نرمي كل ذي رأي بالابتداع أو الوثنية.

ولقد انصرف كثير من الوعاظ عندنا إلى التنفير من كل فن وغاب عنهم أن الإسلام مجد الفنون ودعا إلى الأخذ بها، وإنما نهى عن الشرك بالله، ودعا إلى إقامة دعائم الدين، وليس من الذين أن يقصر كثير م الشيوخ حديثهم حول الوسيلة والشفاعة، والقول بأن الصلاة على النبي بعد الآذان بدعة وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة بدعة.

وهنا أقف قليلاً لأرى في صيغة الصلاة على النبي بعد الأذان ضرباً جميلاً من فن النغم، وليس في المر بدعة وإنما هو شيء طبيعي، وليس لدي الساعة مرجع تاريخي يسعفني لأذكر الميقات الحقيقي لدخول هذه الصيغة المحببة على الآذان، وإن كنت أستبعد أنها وقعت في العهد الأيوبي كما ذكر بعض المؤرخين، وإنما أرجح أنها جاءت لعهد عمر بن عبد العزيز الذي استبعد سباب أهل البيت بعد الآذان.

كذلك أبعدنا الإسلام عن كل فن حين قلنا بهدم القبور والانصراف عن زيارة مقابر الأولياء، وزعمنا أن كل أولئك (بدعة) بل هو ضرب من الوثنية، في حين أننا نقرأ في السيرة

ص: 32

النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دفن وحيده إبراهيم سوى عليه بيده الشريفة ورش الماء وأعلم عليه بعلامة وقال (إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي).

ولما طاف عمر بن الخطاب بالكعبة في أول خلافته استلم الحجر الأسود وقال (اللهم إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) وورد في بعض المراجع أن ابن عباس شوهد يوماً - وهو في طريقه إلى الحج - راكباً ناقة يدور بها حول شجرة، ولما قيل له في ذلك أجاب بأنه رأى مرة ناقة الرسول عليه السلام تطوف بهذه الشجرة فأراد أن يتبرك بآثار ناقة الرسول.

وفي القرآن الكريم ما يدل على التبرك بآثار الصالحين في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً)(فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا)

ونمضي في القول بأنه فضلاً عن التبرك بآثار الصالحين فإن في إقامة هذه المقابر ضرباً من الفن، لأن الأضرحة تشيد على أنماط خاصة وزخرفة خاصة تأخذ العين وتستهوي القلب وتدفع النفس إلى التذكرة، والاستشهاد بالحديث الشريف (لا يشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) لا ينفي على الإطلاق زيارة مساجد الأولياء؛ فكما أن المرء يشد رحاله لزيارة صديق أو قريب لا عليه أن يسافر ليصلي الجمعة في مسجد الإمام الحسين أو في مسجد السيد البدوي مثلاً.

ويجرنا هذا الحديث عن الإيمان التجريدي مرة أخرى ذلك الإيمان الذي لا يعرفه حق المعرفة إلا خاصة الخاصة ممن اصطفى الله، ولسنا نطالب عامة الناس بمثل هذا النوع السامي من الإيمان، فالناس يخاطبون على قدر عقولهم، وقد سأل النبي مرة جارية أعجمية (أين الله؟) فأشارت إلى السماء فعدها الرسول الكريم مسلمة.

ولقد كان الخليفة المأمون رجلاً فيلسوفاً يؤمن بالله إيماناً مجرداً، بيد أنه رزي في أخريات أيامه بصحبة القاضي أحمد بن أبي دؤاد فزين له أن يجعل رعاياه كلهم على شاكلته أي من المعتزلة، فأوقعهم في المنازلة الكبرى التي سودت تاريخه ولطختة، ونعني بها محنة خلق القرآن، ومات المأمون، وبلغت المحنة أقصى حدتها في عهد الخليفة المعتصم وكان رجلاً فظاً لا يعرف من الدين إلا أوليائه، ووقع بين براثنه الإمام العظيم أحمد ابن حنبل، وأبى

ص: 33

أن يقول بخلق القرآن، فلطمه على وجهه وأمر به فجلد حتى غشي عليه.

ولما جاء بعده الخليفة الواثق خفت حدة المحنة، حتى إذا تولى (المتوكل على الله) أمر برفع المحنة وقال بالرجوع إلى الكتاب والسنة؛ ولذا ذهب في الناس قولهم (الخلفاء ثلاثة: أبو بكر في حروب الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة).

ولم يكن الخليفة المتوكل في علم سلفه المأمون ولا في فقهه، بيد أنه أدرك من خلائق البشر ما لم يدركه المأمون؛ ذلك أن الدين سجية وفطرة وليس حكرة لأحد من العالمين، وليس لمسلم وصاية على مسلم ما دامت قواعد الإسلام الخمس الأصيلة مرعية الجانب، وليس لإنسان أن يقحم نفسه في دقائق الأمور وتفصيلاتها، ولقد ذهب العهد الذي يرمي فيه المسلم بالإلحاد أو الزيغ لأنه خالف فعل إمام من الأئمة أو تزيد أو ابتدع.

وما دمنا نتحدث عن صلة الإسلام بالفن والحياة، فلا علينا أن نعرج على رجل عظيم الشأن من علماء الدين ما زالت تعاليمه تحدث الفتنة وتجعل المسلمين يخبون فيها ويضيعون، ونعني به شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فأكبر الظن أن الرجل كان يبغي خير الأمة، وإن شذ في بعض الأمر حتى بدعه طائفة من علماء عصره من سبعة عشر وجهاً، وحتى اتهمه التقي السبكي بالزيغ من ثلاثة وجوه، نقول أنه كان رجلاً عظيماً لاشك في ذلك، قال ما اعتقد، ولا احسبني غالياً في القول إذا زعمت اليوم أن عظامه تضطرب في قبرها لما أحدثت تعاليمه التي تأولها المتأولون من الفتنة والفرقة؛ إذ قام من بعده الشوكاني وابن القيم الجوزية ولم يكن لهما علمه ولا فضله، فلجأ في الأمر وكفرا جماعة المسلمين، ثم تبع هذين محمد بن عبد الوهاب الذي بالغ في تكفير المسلمين ورفع حد السيف لمحاربة المسلمين بدعوى أنهم (كفار) وأسرف في هدم الأضرحة والقباب في نجد، ثم عدا أتباعه على الأرض المقدسة فهدموا أضرحة الصحابة الأمجاد وأزالوا القباب ذات الأثر الفني الرائع وكادوا يأتون على مسجد الرسول الأكبر لولا صرخة ارتفعت من ضمير العالم الإسلامي.

نستطيع أن نقول إن هؤلاء الناس فهموا الدين فهماً مجرداً لا فن فيه، فهو عندهم مجرد ركوع وسجود، وزكاة وحج وصوم ومعاملات، وأن المسلم عندهم ينبغي له أن يكون أداة صماء تنفذ التعاليم المكتوبة دون تصرف ولا مرونة، ودون مجاراة لروح العصر، ودون أخذ لما يقتضيه علم الاجتماع وطبائع البشر، فإذا لم يفعل المسلم هذا فهو ملحد وأي ملحد!

ص: 34

ومن هنا اتهموا أتباع الطرق الصوفية بالكفر في حين أن الطرق الصوفية كان لها فضل كبير على المسلمين في الحروب الصليبية وفي حروب المغول وفي وقعة عين جالوت بالذات، فإن العز بن عبد السلام الذي نفر المصريين للقتال لم يكن إلا شيخ طريقة. على أن هؤلاء معذورون فيما يرون؛ فعندهم أن أتباع الطرق الصوفية إن هم إلا حواة يروضون الثعابين ويأكلون الحديد ويلعبون بالنار، وغاب عنهم أن سوء استعمال الشيء ليس دليلاً على فساده، وإنما الفساد أن يرمي المؤمن البريء بالكفر، وأن يكون راميه على غير حجة أو بينة.

ونخلص من هذا الحديث إلى أن الإسلام ليس ديناً ودولة فحسب، كما يحلو لطائفة من جلة المؤمنين أن يقولوا، وإنما هو دين ودنيا، وعلم وفن، بل هو مرادف للحياة في ذاتها، الحياة في هذه الدار، وفي تلك الدار، وإن المتزمتين المتنطعين الذين يفهمون الإسلام على أنه تعاليم كتبها فقهاء طوتهم الأجيال، هؤلاء لم يعد لهم مكان في دنيا الإسلام، ولا في دولة الإسلام، ولا في دين الإسلام.

منصور جاب الله

ص: 35

‌العلل النحوية

للأستاذ علي العماري

بالرغم من الصيحات المتتابعة من العلماء القدامى والمحدثين بأن العلل النحوية لا غناء فيها ولا جدوى منها؛ وبالرغم من الشكوى الأليمة المرة من المتعلمين والمعلمين على السواء من تعقيد النحو العربي وصعوبته وكثرة الفضول فيه؛ بالرغم من ذلك كله فلا يزال بعض العلماء ينادي بأن النحو العربي خلق مبرأ من كل عيب وأن العلل النحوية بالذات - في هذه الكتب هي الذهب الأبريز. ولا يزال المشرفون على التعليم في المعاهد العلمية التي تدرس تلك الكتب القديمة بكل ما فيها. وواجب الطلاب والمعلمين أن يصبروا وأن يطيلوا الصبر على تجرع هذه الأدوية المريرة فإنها الشفاء الوحيد من داء الجهل. ويعلم الله أنها تزيد الداء شدة وبأساً، فكم في هذا النحو من فضول. هذه الأمثلة التافهة التي تحدثنا عنها في حديثنا الماضي وهذه الخلافات فيما لا يتصل بسلامة النطق كاختلافهم في إعراب الأسماء الخمسة هل هو من مكانين أو من مكان واحد، وكاختلافهم في إعراب المثنى وجمع المذكر السالم: هل الألف والواو والياء إعراب أو حروف إعراب أو دالة على الإعراب أو انقلابهما هو الإعراب؟ وهكذا من مثل هذه الخلافات التي لا يقصد منها أكثر من إطالة الجدل والتمرين على صناعة الأدلة؛ وهذه الخلافات ستكون موضوع حديثنا المقبل - إن شاء الله - وهذه العلل النحوية التي نحن بصدد الحديث عنها الآن، ما قيمتها؟ ما جدواها على العلم؟ ما مدى صحتها في نظر العقل والمنطق؟ هذه أسئلة يجيب عليها بعض علمائنا السابقين، يجيبون عليها في صراحة وصرامة بأنها تكثير في مواد الكتب ولا غير؛ ولكن بعض المؤلفين من علمائنا يؤمنون بأنها الزبدة والخلاصة ومدرسة النحو المتعيشون من تدريسه يقسمون بالطلاق والعتاق وكل محرجة من الأيمان أنها الركن في دراسة النحو، وأن الطالب إذا لم يحسنها فهو ليس بطالب! وكم لقينا من أساتذتنا في الامتحانات الشفوية من مشقة وإعنات في سبيل هذه العلل وتخريجها وتطبيقها، وكم لقي منا تلامذتنا فنحن نتفلسف أمامهم لنظهر قدرتنا وضعفهم: ونحن إذا عجزنا عن سؤال خالص سليم أغربنا عليهم بالسؤال عن العلة والقياس والدليل، وبذلك نرضى عن أنفسنا حين نرى تخبطهم أمامنا وضربهم في كل مذهب من القول والرأي.

ص: 36

هذا بعض علمائنا يعلق على بعض الفقرات من كتاب من الكتب القديمة التي تحدثت عن هذا الموضوع فيقول: اشتهرت هذه الكلمة عن أدلة النحو وعلله وهذه كلمة من لم يمارس العلم الجليل ممارسة الباحث المنقب ولم يؤت سعة صدر تسهل عليه احتمال المكاره وركوب الصعاب فإن آتاه الله نفاذ بصر وقوة عارضه وسعة اطلاع وكان مع ذلك عالماً باستعمالات العرب خبيراً بما يكثر في كلامها وما يقل وما يأتي على جهة الندرة والشذوذ؛ إذا اجتمعت هذه الأمور لامرئ أدرك تماماً أن هذه الأدلة التي يذكرها النحاة أدلة مستقيمة على أحسن وجوه البحث).

ومع احترامي لهذا الأستاذ الجليل أكره جد الكره أن يرمي كل إنسان يتكلم بما يخالف آراء بعض العلماء السابقين أن يرمي بالجهل وبعدم نفاذ البصر وسعة الاطلاع وأن يرمي بعدم الصبر. وسأسوق طرفاً مما قاله العلماء في هذا الشأن ليعرف من لم يعرف أن هؤلاء الذين تكلموا في العلل النحوية لم يقولوا عن جهل باستعمالات العرب ولا عن ضيق في آفاق عقولهم.

يقول الأمير أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد ابن سنان الخفاجي في كتابه سر الفصاحة:

(فأما طريقة التعليل فإن النظر إذا سلط على ما يعلل النحويون به لم يثبت معه إلا الفذ الفرد، بل ولا يثبت شيء البتة؛ ولذلك كان المصيب منهم المحصل من يقول هكذا قالت العرب من غير زيادة، فربما اعتذر المعتذر لهم بأن عللهم إنما ذكروها وأوردوها لتصير صناعة ورياضة ويتدرب بها المتعلم ويقوي بتأملها المبتدئ؛ فأما أن يكون ذلك جارياً على قانون التعليل الصحيح والقياس المستقيم فذلك بعيد لا يكاد يذهب إليه محصل).

ويقول ضياء الدين بن الأثير صاحب كتاب (المثل السائر) ما نصه (فإن قيل لو أخذت أقسام النحو بالتقليد من وضعها لما أقيمت الأدلة عليها وعلم بقضية النظر أن الفاعل يكون مرفوعاً والمفعول منصوباً؟

فالجواب عن ذلك أنا نقول: هذه الأدلة واهية لا تثبت على محك الجدل. فإن هؤلاء الذين تصدوا لأقامتها سمعوا عن واضع اللغة رفع الفاعل ونصب المفعول من غير دليل أبداه لهم فاستخرجوا لذلك أدلة وعللاً. وإلا فمن أين علم هؤلاء أن الحكمة التي دعت الواضع إلى

ص: 37

رفع الفاعل ونصب المفعول هي التي ذكروها؟)

وكلام ابن الأثير يذكرنا بما كان يقول لنا أشياخنا حين نجادلهم في مدى صحة هذه العلل فيقولون: إن علل النحو كالوردة تشم. . ولا غير، كما تذكرنا بقول ذاك الشاعر الظريف في وصف صاحبته

ترنو بطرف ساحر فاتر

كأنه حجة نحوي

وقد فصل قاضي القضاة ابن مضاء القرطبي في كتابه (الرد على النحاة) فجهل من العلل مقبولاً ومردوداً قال: ومما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث وذلك مثل سؤال السائل عن (زيد) من قولنا قام زيد لم رفع؟ فيقال لأنه فاعل وكل فاعل مرفوع، فيقول ولم رفع الفاعل. .؟ فالصواب أن يقال له: كذا نطقت به العرب ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر. ولو أجبت السائل عن سؤاله بأن تقول له: للفرق بين الفاعل والمفعول به فلم يقنعه ذلك وقال فلم لم تعكس القضية بنصب الفاعل ورفع المفعول؟ قلنا له: لأن الفاعل قليل لأنه لا يكون للفعل إلا فاعل واحد والمفعولات كثيرة فأعطى الأثقل الذي هو الرفع للفاعل وأعطى الأخف الذي هو النصب للمفعول. لأن الفاعل واحد والمفعولات كثيرة ليقل في كلامهم ما يستثقلون. ويكثر في كلامهم ما يستخفون؛ فلا يزيدنا ذلك علماً بأن الفاعل مرفوع. ولو جهلنا ذلك لم يضرنا جهله إذ قد صح عندنا رفع الفاعل الذي هو مطلوبنا باستقراء المتواتر الذي يوقع العلم)

ثم يمضي ابن مضاء فيقسم العلل إلى ثلاثة أقسام. قسم مقطوع به. وقسم فيه إقناع. وقسم مقطوع بفساده. ويمثل لكل قسم من هذه الأقسام ثم ينهي القول بوجوب إلغاء أكثر العلل النحوية لأنها لا تفيدنا شيئاً في صحة النطق.

حتى الإمام عبد القاهر الجرجاني وهو من علماء النحو المشاهير وكاد يقال له (عبد القاهر النحوي) وله آراء تنقل عنه في كتب النحو وقد ألف في النحو كتاب (المغني) على شرح الإيضاح في ثلاثين مجلداً.

عبد القاهر هذا مع دفاعه الحاز في أول كتابه (دلائل الإعجاز) عن النحو لم يستطع أن يأتي بما يقنع في الإبقاء على العلل النحوية. ويظهر أن الحملة على النحو لعهد عبد القاهر كانت قوية وكانت منتشرة ولذلك نجده يبالغ في الدفاع حتى يجعل التصغير من شأن النحو

ص: 38

والتهاون به أشبه بأن يكون صداً عن كتاب الله وعن معرفة معانيه؛ ومع ذلك لا يستطيع أن يقول عمن يزهدون في معرفة العلل إنهم أساءوا الاختيار. ومنعوا أنفسهم ما فيه الحظ لهم ومنعوها الاطلاع على مدارج الحكمة وعلى العلوم الجمة؛ ولكنه يسامحهم ويعذرهم. ولعل من الحسن أن ننقل كلامه في هذا الموضع حتى يكون القراء على بصر من نظرة القدامى المنصفين إلى هذا النحو حتى أصحاب النحو أنفسهم. قال الشيخ وهو يتحدث عمن زعموا الاشتغال بالنحو وحطوا من شأنه (فإن قالوا إنا لم نأب صحة هذا العلم، ولم ننكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى، وإنما أنكرنا أشياء كثرتموه بها؛ وفضول قول تكلفتموها، ومسائل عويصة تجشمتم الفكر فيها، ثم لم تحصلوا على شيء أكثر من أن تغربوا على السامعين وتعايوا بها الحاضرين، قيل لهم: خبرونا عما زعمتم أنه فضول قول وعويص لا يعدو بطائل، ما هو؟ فإن بدءوا فذكروا مسائل التصريف التي يضعها النحويون للرياضة ولضرب من تمكين المقاييس في النفوس كقولهم كيف تبني من كذا كذا؟ وكقولهم ما وزن كذا؟ وتتبعهم في ذلك الألفاظ الوحشية كقولهم: ما وزن عزويت؛ وما وزن أرونان. وكقولهم في باب ما لا ينصرف: لو سميت رجلاً بكذا كيف يكون الحكم؟ وأشباه ذلك. وقالوا أتشكون أن ذلك لا يجدي إلا كد الفكر وإضاعة الوقت؟

قلنا لهم: أما هذا الجنس فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تعنوا به، وليس يهمنا أمره فقولوا فيه ما شئتم وضعوه حيث أردتم. فإن تركوا ذلك وتجاوزوه إلى الكلام على أغراض واضع اللغة وعلى وجه الحكمة في الأوضاع وتقرير المقاييس التي اطردت عليها وذكر العلل التي اقتضت أن تجرى على ما أجريت عليه، كالقول في المعتل وفيما يلحق الحروف الثلاثة التي هي الواو والياء والألف من التغيير بالإبدال والحذف والإسكان، أو ككلامنا مثلاً على التثنية وجمع السلامة. لم كان إعرابهما على خلاف إعراب الواحد؟ ولم تبع النصب فيهما الجر، وفي النون أنه عوض عن الحركة والتنوين في حال وعن الحركة وحدها في حال؟ والكلام على ما ينصرف وما لا ينصرف ولم كان منع الصرف وبيان العلة فيه والقول على الأسباب التسعة وأنها كلها ثوان لأصول، وأنه إذا حصل منها اثنان في اسم أو تكرر سبب صار بذلك ثانياً من جهتين؛ وإذا صار كذلك أشبه الفعل لأن الفعل ثان للاسم والاسم المقدم والأول وكل ما جرى هذا المجرى قلنا: إنا نسكت عنكم في هذا

ص: 39

الضرب أيضاً ونسامحكم فيه على علم منا بأنكم قد أسأتم الاختيار ومنعتم أنفسكم ما فيه الحظ لكم ومنعتموها الاطلاع على مدارج الحكمة وعلى العلوم الجمة)

ونستطيع من كلام الشيخ عبد القاهر هذا أن نأخذ دليلاً واضحاً قوياً من عالم نحوي عظيم بأن هذين المبحثين مبحث التمارين العملية ومبحث العلل، لا ضرورة لهما لمن يريد أن يعرف القواعد النحوية التي تمكنه أن يأمن الخطأ إذا خاض في التفسير وتعاطى التأويل وإن كنا نزيد على ما قاله الشيخ مباحث أخرى كالاختلافات الكثيرة التي لا تتصل بصحة النطق، التي لا جدوى منها مطلقاً. . .

ولو أننا جردنا النحو من كل هذا الفضول لاستطعنا أن نحصل ما بقي من القواعد الأصلية في زمن وجيز. ولكن المؤسف حقاً أن يقضي الطالب - في الأزهر مثلاً - ثلاثة عشر عاماً يدرس النحو ثم يخرج إلى المدارس أو إلى المعاهد ليعلمه ثم هو بعد كل ذلك لم يحصل منه على طائل ولم يستطع أن يقيم لسانه من الخطأ!

ولقد قال صاحب كتاب (الإرشاد والتعليم) عن السبب في هذه الحال (أن كتب النحو التي يؤخذ منها في عامة البلاد هي من أحط الكتب قدراً وأكثرها حشواً وأقلها فائدة وأن الاشتغال بها قاطع عن علم العربية لا مفض إليه).

وإني أدعو - هنا - كما دعا عدد غير قليل من قبلي إلى طرح هذه الكتب التي ألفت في العصور المتأخرة وإلى تنقية النحو من كل ما سبقت الإشارة إليه. ويجب ألا يثنينا عن ذلك غضبة جماعة ألفوا هذه الكتب ودرسوا النحو على تلك الطرق الملتوية فإنهم لا يقولون إلا كما قال الأخفش للجاحظ، قال الجاحظ (قلت لأبي الحسن الأخفش. أنت أعلم الناس بالنحو فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها؟ وما لك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ قال أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلت حاجاتهم إلي فيها. . . وإنما قد كسبت في هذا التدبير إذ كنت إلى التكسب ذهبت).

وما ننكر أن في هؤلاء الذين يعكفون على النحو من خلصت نياتهم وسمت أغراضهم، ولكنهم يمارون ويضنون بما ألقوا؛ فلنكن أكثر إخلاصاً وأشد طلباً لما عند الله. ولنرح المعلمين والمتعلمين من هذا الجدل العقيم الذي لا فائدة منه إلا ضياع الوقت وتصديع

ص: 40

الرؤوس.

على العماري

ص: 41

‌شعر مختار

بلا أمل!

يا. . . أنت

لقد عجب الناس من صمتي الذي طال، وظنوا بي الظنون!

وما صمت، ولكنني كتمت. . .

واليوم أبوح! الشاعر الحائر!

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

تغنى بها قلبي، وغنت رسائلي

وإن كنت أهواها على غير طائل!

عرفت هواها حين صرت مقيداً

بأخرى، لها شأن كشأن العقائل

ولو علقتها النفس، وهي طليقة

لما قام فيما بيننا أي حائل

كذلك حظي. . . حرقة وتشوق

إلى كل ممنوع على كل سائل!

ولو كان قلبي لا يضل مع المنى

لطابت حياتي، واطمأنت بلابلي

ولكنه يمضي إلى غير غاية

وراء الأماني سادراً غير حافل

كأني به في لجة البحر زورقاً

يسير ولا يدري إلى أي ساحل

تعلقت يا قلبي بحب مضيع

كما علقت طير الربا بالحبائل

نصيبك منه الوجد والسهد والجوى

ولهفة زهر ثاكل النبع ذابل

وحظك منه غيرة مستبدة

لها في دمي غلي كغلي المراجل

كأن سهاماً أطلقتها يد الأسى

فمرت فقرت كلها في مقاتلي

نصيبك منه أن ترى الحسن زاهياً

وترحل عنه، والأسى غير راحل

وأن ترد الينبوع كالطير ظامناً

وترجع مقهور المنى غير ناهل

ولست على ما كان منك بلائم

ولست على ما كان منها بعاذل

فإن الهوى معنى سني مقدس

تسامى، فلا تلقى له من مماثل

وإن الهوى سر خفي محير

فلا يدعى علماً به غير جاهل

وإن الهوى ما ضمه قلب عاشق

وليس الهوى ما ضمه قول قائل

ص: 42

صحبت الهوى طفلاً صغيراً ويافعاً

وما زال بي حتى استقر بداخلي

فأحسسته نبعاً جرى فوق ما حل

بعمري، فواها إذ غدا غير ما حل!

وأحسسته نوراً يعانق مهجتي

وينساب في قلبي انسياب الجداول

وأحسسته شعراً يغنيه خافقي

فترويه عنه شاديات الخمائل

وأحسسته سحراً تسرب في دمي

كما غاب في الصهباء ماء المناهل

وأحسسته عطراً يبوح لعالمي

بأسرار ما ضمت رقاق الغلائل

وأحسسته خمراً ترنح مهجتي

كما رنح الأزهار قر الشمائل

وأحسسته طيراً يرفرف شادياً

بآفاق أيامي كشدو البلابل

وإني لأهوى الحب لو إنه

يعذب قلبي بالشقاء المواصل

عرفت به معنى الحياة وروحها

وأدركت سر الكائنات الأوائل

وردت به في كل حين مجاهلاً

فأحدثت لي علماً بتلك المجاهل

وعشت به عمراً قصيراً، وإن يكن

بأسراره فوق المدى المتطاول

فيا حبها زدني التياعاً وحرقة

وهب لي لهيباً في الحشا غير زائل

فإن لهيب الحب يذكي مشاعري

فينساب منها مثل ضوء المشاعل

ويا من رماني الدهر فيها بنأيها

وضن على قلبي بسحر التواصل

ومن جن قلبي في هواها صبابة

وإن كان عقلي لم يزل شبه عاقل!

هبيني أضعت العمر فيك، ألم أفد

من الشعر مجداً عمره غير آفل؟

وإن كان قلبي أصبح اليوم يائساً

فما كان يوماً في هواك بآمل!

ولست بناس إذ بعثت رسالة

إلي بأمر من وصالك عاجل

فجن خيالي باللقاء وسحره

وصور لي أني سأحظى بنائل

وأنك قد وافيتني في خميلة

عليها نسيج من ضياء الأصائل

فأمسكت كفي بين كفيك ساعة

فأسكر روحينا عناق الأنامل

وأنشدت شعري فيك، وهو مدامع

من القلب، أصفى من دموعي السوائل

وغنيتني شعر الهوى، فكأنني

ذهلت عن الدنيا، ولست بذاهل

وأنا أقمنا وحدنا طول عمرنا

فأصبحت لي وحدي برغم الحوائل

ص: 43

ولكن حظي كان حظي! فأخطأت

خطاك مقامي بين تلك المنازل

وعشنا على الأوهام، تجمع شملنا

رسائل حب. . يا لها من رسائل!

وما في يدينا غير أوهام موعد=وأحلام لقيا كالورود الذوابل

فلا تحسبن أني سأنساك لحظة

فإنك شغلي دون كل الشواغل

سأحيا على حبيك ما دمت باقياً

وإن كنت أدري أن حبك قاتلي

إبراهيم محمد نجا

ص: 44

‌أخبار أدبية وعلمية

(فضيحة) أدبية جديدة في فرنسا يسببها اليهود

هذا مثل جديد على نفوذ اليهودية العالمية في حلقات الأدب العالمي فوق نفوذهم في عالم المال والسياسة الدولية.

فقد حدث مؤخراً أن نال كاتب روماني يقيم في باريس جائزة أدبية رفيعة لكتاب نفيس بعنوان (الساعة الخامسة والعشرون). وقد كانت الأوساط الأدبية المديح لهذا الكتاب الذي قام الفيلسوف الفرنسي جابرييل مارسيل بتقديمه إلى حلقات الأدب الفرنسي.

ولكن حدث بعد ذلك أن اكتشفت إحدى الجمعيات اليهودية الفرنسية أن قد سبق لهاذ الكاتب الروماني رابح الجائزة أن وضع كتاباً منذ بضع سنوات يثني فيه على النازية ويوجه بعض النقد لليهودية العالمية ونشاطها الأناني الواسع النطاق.

وسرعان ما سحبت دور النشر والكتب المؤلف الجديد من نوافذها (ومعظم دور النشر والكتب في فرنسا وغيرها من العالم الغربي يملكها اليهود) وأعلن المسيو جبرييل مارسل براءته من المقدمة التي وضعها لكتاب (الساعة الخامسة والعشرون) وأظهر سخطه على مؤلفه.

كتاب جديد عن (جورج صاند) الشاعرة الفرنسية

أعلنت مدام أندريه موروا أرملة الكاتب الفرنسي الذي توفي مؤخراً أنها في سبيل الفراغ من كتاب عن (جورج صاند) الشاعرة الفرنسية الخالدة الذي كان زوجها قد أنجز الجزء الأكبر منه قبل الوفاة وقامت هي بإتمامه.

رأي طريف في تطور الإنسان

يدعى الأستاذ جوليان هكسلي أحد أقطاب علم الحيوان والرئيس الأسبق لمؤسسة (اليونسكو) في كتاب صدر في بريطانيا هذا الشهر أن حلقة التسلسل الذي ابتدأت بتطور الإنسان من (نطفة فعلقه) قد انتهت في الصورة التي يخلق الإنسان في العصر الحاضر على شاكلتها، وأن لا سبيل إلى أي تطور بيولوجي جديد في تكوين بني آدم بعد (الكمال) الجسماني الذي وصلوا إليه في التكوين الجسماني والعقلي الذي هم عليه الآن. وأن على

ص: 45

الإنسان في عالمنا الحاضر أن يسعى ما استطاع لكي يحتفظ بهذا التكوين وأن يتفادى كل ما من شأنه أن يخلق فيه تشويهاً يؤثر في النسل والأجيال القادمة.

والأستاذ هكسلي ينتمي إلى بيت خاصم النظرة الدينية للخلق وكان جده الأكبر أول من ناصر شارل دارون صاحب نظرية النشوء والارتقاء مما أثار عليه حفيظة الكنيسة المسيحية والذين يؤمنون بوجهة نظر الأديان السماوية في أصل الإنسان وتطوره.

ولا تزال بعض كتب هكسلي محرمة على المسيحيين الكاثوليك.

التوسع في تدريس العلوم الاجتماعية

في نشرة (اليونسكو) نبأ عن ازدياد الرغبة في نشر العلوم الاجتماعية في المدارس الثانوية والمعاهد العليا في معظم أنحاء العالم. وتقول النشرة بأن الحكومات الأسيوية قد غمرت اليونسكو بالطلبات راغبة معونتها في تأسيس كراسي جامعية لتدريس العلوم الاجتماعية على أحدث الأساليب.

حملة جديدة لترويج متعة القراءة النافعة

اشترك 67 قطباً من أقطاب الأدب والفن والثقافة بمختلف أنواعها من أوربا والعالم الجديد في شن حملة دعاية واسعة لترويج قراءة الكتب على نطاق واسع بعد أن انتشرت ألوان من المتع الرخيصة التي همها التسلية لا تربية الذوق ولا توسيع المدارك - كالسينما والصحف السيارة وأبواب الأدب الرخيص والقصص المبتذلة التي تسود معظم الإنتاج الصحفي وبعض المجلات الواسعة الانتشار.

وقد قام كل من هؤلاء الأقطاب بوضع بحث دقيق بليغ عن اختباره في تذوق المتعة الصافية التي توفرها الكتب الجدية والأدب الرفيع والفن الخالص كما تنقله مجلات الاختصاص في شتى اللغات.

وقد تعهدت دور النشر في أمريكا وأوربا الغربية بترويج هذا الكتاب الجديد على نطاق شعبي واسع بتخفيف ثمنه وتوزيعه على طلبة المدارس العليا وعلى الجامعات وعلى المؤسسات الثقافية والاجتماعية والرياضية.

قصة الذرة

ص: 46

تغرم دور النشر في أمريكا بتبسيط العلوم الطبيعية لغير أهل الاختصاص بصياغة البحوث العلمية في قالب أدبي يسهل هضم محدثاته العلمية الجافة. ومن هذا القبيل كتاب جديد عن (قصة الذرة) راج في الأسواق الأمريكية مؤخراً، وهو يستعرض تاريخ الذرة ويرجع إلى عصر اليونان ليثبت أن غرام علماء الطبيعة باكتشاف سر تركيب الذرة كان سابقاً لمجهود الألمان (ومن بعدهم الأمريكان والروس) في صنع القنابل الذرية والأسلحة الفتاكة المتفرعة عنها.

الذكر - الأنثى

يبدو أن بلاد الدانمارك تمتاز بخاصة غريبة مزعجة، وهي كثرة الشبان الذين تحولوا إلى شابات فيها. وقد تكررت هذه الظاهرة الغريبة في الدانمارك في الآونة الأخيرة. ومن الأنباء الطريفة أن أحد هؤلاء الذين اختبروا حياة الذكر والأنثى (كرتسين جور كينسون) الجندي السابق في الجيش، الذي تحول إلى فتاة رشيقة منذ بضعة أسابيع سيقوم بوضع ترجمة لحياته يشرح فيها بصراحة اختباراته الغريبة. وقد ابتاعت إحدى دور النشر في أمريكا حق نشر هذا الكتاب مقابل 20 ألف دولار نقداً.

عربي في أمريكا ينشئ مجلة أدبية إنجليزية

قام السيد منصور أبو رجبله (أحد المهاجرين السوريين في أمريكا) بإصدار مجلة دورية جديدة تقتصر في بحوثها على إنتاج الأدباء المغمورين ولا تستكتب أحداً من الكتاب المعروفين. واسم المجلة الجديدة (اكتشاف).

وقد لقي العدد الأول منها رواجاً كبيراً.

طريقة مبتكرة لبيع الدواوين الشعرية

دواوين الشعر في جميع اللغات محدودة البيع بالقياس إلى المؤلفات الأدبية والثقافية الأخرى.

وقد اكتشفت دور النشر التي تتولى طبع أشعار (كارل ساندربرغ) الشاعر الأمريكي المعروف طريقة جديدة لبيع دواوينه إذ كلفته بأن يجلس وراء مائدة في مقهى شعبي ويوقع إمضاءه على كل نسخة تباع. وانتشر الخبر في الناحية واستطاع الشاعر أن يبيع أكثر من

ص: 47

600 نسخة وهي فوق ما بيع من الكتاب في سنة بأكملها.

الطفولة في أدب التراجم

يدور في أوساط الأدب الأنجلو سكسوني هذه الأيام نقاش حول أدب التراجم. فقد اشتد في السنوات الأخيرة غرام الأدباء في بكتابة سيرهم؛ وقال النقاد إن أبلغ ما في هذه السير هي الحقبة الأولى من عمر الأديب - طفولته! وفتوته وشبابه. أما خريف الحياة فلا يوحي بأي متع عقلية أو أدبية. وخالف بعض النقاد والأدباء هذا الرأي، وقالوا إن حقبة الطفولة والفتوة تكون عادة زاخرة بألوان المتع الحسية التي تنافس المتع العقلية منافسة جدية.

ويقول المستر فإن دورتن أحد كبار كتاب المسرح (وهو هولندي الأصل إنجليزي الثقافة) إن الأديب حين يجلس ليستعرض نموه الفكري في ثنايا الأعوام لا يجد لذة أعمق من تلك التي يستوحيها من ذكريات الطفولة وحقبة الشباب والفتوة، وعلى ذلك فإن تسجيله لهذه الذكريات هو في الواقع إبداع أدبي يصور فيه الأديب تلك الذكريات على نحو ما يصور القصصي أبطال رواياته وحوادثهم.

ويستشهد كاتب آخر بالشغف الذي يملكنا جميعاً حين نجلس إلى الشيوخ من عائلتنا يقصون علينا حوادث طفولتنا فيكشفون لنا عن عالم يلهب فينا الخيال ويبعث في أنفسنا الرضى أو السخط وحسن ما تغيره الانفعالات التي تكتنف الأديب حين ينظم أو ينثر.

مجلة جديدة في الموسوعة الروسية

صدر هذا الأسبوع مجلد آخر من الموسوعة الروسية الجديدة التي يعدها العهد السوفييتي لتكون مرجعاً للثقافة الروسية شأن الموسوعات (القومية) الأخرى.

وفي هذا المجلد الجديد بحث طويل (عن اليهود) ويؤكد كاتب البحث بأن (اليهودية) ليست أكثر من مذهب ديني لا يستند إلى عنصر أو إقليم معين وليس لها طابع (القومية) التي تدعي الحركة الصهيونية بأن اليهود علم عليها.

وتهاجم الموسوعة الروسية الصهيونية مهاجمة شديدة وتقتبس آراء لينين وستالين عن الصهيونية، ويرجع تاريخ هذه الآراء إلى ثلاثين عاماً. وتقول الموسوعة بأن إسرائيل (وهي رمز القومية الصهيونية) ليست إلا نقطة ارتكاز للاستعمار الأمريكي بعد أن كانت

ص: 48

من قبل مركزاً للاستعمار البريطاني.

وتستعرض الموسوعة المجهود الذي قامت به الحكومة الروسية لإنشاء ولاية سوفييتية خاصة باليهود الروس في (بيروبايجان) يكون شأنها شأن معظم الولايات (القومية) الأخرى التي تكون الاتحاد السوفييتي (كارمينيا)(وجورجيا) و (وأكرانيا) والولايات السوفيتية الآسيوية التي يقطن بعضها أكثريات إسلامية.

وسبب فشل هذا المجهود الروسي يعود إلى تعلق اليهود بحياة المدن التي توفر لهم فرصاً ذهبية لجمع المال بسرعة وخصوصاً في العواصم والثغور التي يشتد فيها النشاط التجاري.

وتدعى الموسوعة الروسية بأن النظام الشيوعي السوفييتي قد وفر لليهود ولجميع الأقليات الطائفية الأخرى في روسيا فرصاً للاندماج في بوتقة الاتحاد السوفييتي ولذلك فإن ميل بعض العناصر اليهودية الروسية إلى الصهيونية وإسرائيل أمر تكافحه الحكومة الروسية الآن.

ص: 49

‌آراء وأنباء

مدرسة الرسالة في السنغال

أجد من الأمانة أن أنقل إلى صاحب الرسالة وإلى قرائها هذه القصة، فهي تسجل فضلاً من أفضال (الرسالة) التي أدتها وما تزال تؤديها إلى العربية (لغة القرآن). أما في هذه المرة فقد امتد الفضل بعيداً عن مركز الدائرة إلى 9500 كيلومتراً عندما دخلت الرسالة مدينة (داكار) حاضرة السنغال.

كنا نستمر يوم السبت الماضي في ندوة (الكيلاني) وقد أم الندوة لفيف من أهل العلم والفضل منهم عطوفة السيد أحمد حلمي زعيم فلسطين، والسيد مفتي الجزايرلي، والإمام البشير الإبراهيمي، والأستاذ الفضيل الورتلاني.

وبينا نحن جلوس إذ قدم إلينا صاحب الندوة رجلاً أسود اللون، يلبس العقال العربي عرفنا من بعد أنه حجازي الأصل، وأنه هاجر منذ اثني عشر عاماً إلى السنغال: هو السيد محمود عمر الذي يشغل الآن منصب مدير المعارف الأهلية بالسنغال. ومعه طالبان سنغاليان. وأخذ يروي الأستاذ كامل الكيلاني قصة عجيبة، هي أن الشاعر الأستاذ محمود غنيم كان قد التقى في الندوة بهذه الجالية السنغالية، فما إن عرف أحد الشبان اسمه حتى أستأذن في أن يقول شيئاً، فلما أذن له فاجأ الحضور بقصيدة طويلة من شعر غنيم. .

. . وتوقف الأستاذ الكيلاني ليتم القصة السيد عمر فقال: منذ اثني عشر عاماً عندما فكرت في أن أسافر إلى السنغال لأعلم اللغة العربية لأهلها، لم يكن في استطاعتي الحصول على شيء مطلقاً من المؤلفات أو الكتب نظراً لبعد المسافة وطول الشقة. . وعدم وفرة هذا النوع من الكتب في الحجاز، ولذلك صح عزمي على أن أحمل معي كل ما كان عندي من أعداد مجلتي الرسالة والإسلام، وقد بلغت خمسة آلاف عدد لأني حرصت أن أحصل على أكثر من نسخة للعدد الواحد ما أمكن ذلك. وكان هناك في السنغال 300 طالب يلتفون على كل عدد من الرسالة لينقلوا منه شعره ونثره ليحفظوه عن ظهر قلب. وقد استطعنا بهذه الطريقة وحدها، وعلى يدي مجلة الرسالة أن نعلم اللغة العربية لثلاثة آلاف وخمسمائة من الطلاب العجم. .

وهنا وقف هذا الشاب الأعجمي العربي. . . كما أسماه الأستاذ الإمام السيد البشير

ص: 50

الإبراهيمي. . . وأخذ يتلو هذه القصيدة العامرة التي كان الأستاذ محمود غنيم قد أنشأها في عدد من أعداد الهجرة الممتازة التي كانت تصدرها (الرسالة) في مستهل العام الهجري من كل سنة، والتي نرجو ألا تحرمنا منها.

وكنا نستمع إلى الشاب الأعجمي العربي وهو يتلو هذا الشعر في لكنة خفيفة، وقد بدت تلك المعاني أكثر جلالاً، فكانت تهز النفس هزاً، وتبعث ذلك الإحساس القهار حينما نرى شاباً حدثاً من السنغال على بعد الشقة يحفظ هذا الشعر ويتلوه ويترنم به. .

ولقد علق السيد البشير الإبراهيمي على ذلك بقوله: إنني قرأت هذه القصيدة عندما نشرت لأول مرة، وقرأتها مرة أخرى هذا الأسبوع في ديوان الشاعر. . ولكني لم أهتز لها كما استمعت إليها الليلة من هذا الشاب العربي الأعجمي.

ومما يذكر في هذا المجال أن هؤلاء الشباب كانوا قد أفادوا في بدء تعلمهم اللغة العربية من قصص الأطفال التي كتبها الأستاذ كامل الكيلاني، ولذلك كانوا غاية في السرور عندما صادفتهم بالقاهرة واجهة دار مكتبة الأطفال ودار الرسالة، فقد صفقوا طويلاً عند كل واحدة، وهتفوا وهم يعجبون فيما بينهم كيف تحقق حلمهم البعيد وعاشوا لحظة في هذه الأماكن التي تلقوا عنها في أواسط أفريقيا لغة الضاد.

ولذلك رأيت أن أسجل هذه القصة وأن أبعث بها إلى صاحب الرسالة تحية مجددة لفضل الرسالة على شباب العروبة، هذا الفضل الذي يمتد إلى كل مكان.

أنور الجندي

إلى أخي الأستاذ سيد قطب

قلت في كلمتك القيمة (وكل كلامك قيم) في العدد 1022 من الرسالة، أن عدالة السماء لا تمنع القاضي الذي (يصدر الحكم ثم تبين له خطؤه أن ينقض حكمه بنفسه) والذي أعرفه أن القاضي في الإسلام ليس له أن ينقض حكماً أبرمه، لأن مضرة اضطراب الأحكام، وتعرضها أبداً للنقض بعد الإبرام، أكبر في نظر الشرع والعقل من مضرة الخطأ في حكم واحد، والقاعدة أنه إن لم يكن بد من أحد الضررين يرتكب أخفهما وإلا لم تبق للقضاء قيمة، ولا للأحكام ثبات، وعمر لما تبدل اجتهاده، لم ينقض ما كان أبرمه، بل حكم بغير ما

ص: 51

كان حكمه، وقال:(تلك كما قضينا وهذه كما نقضي) والمسألة مشهورة وأقوال فقهائنا كثيرة معروفة.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته

علي الطنطاوي

حول كلمة قدوم

قرأت ما كتبه الأستاذ علي حسن هلالي في العدد الأخير 1022 من مجلة الرسالة عن - القدوم - تحت عنوان (لغويات) فرأيت أن أقول كلمة في هذا الموضوع.

ومن الرجوع إلى مؤلف (الرأي الحاسم، في الكلام الصحيح الذي خلت منه المعاجم) للشيخ أمين ظاهر نجده قال: ويجمع قديم على قدم كعتيق على عتق وكذلك قدوم (بمعنى مقدام) على قدم قال حسان:

ليوث إذا غضبوا في الحرو

ب لا ينكلون ولكن قدم

وفي المعاجم أن القدم مفرد صفة للشجاع، فلو صحت هذه لكانت كجنب وهي في الأصل جمع جنيب. وزعم الصباح أن قدماً جمع قدوم بمعنى آلة النجارة. على أن شعر حسان يأتي بقدم جمعاً لقدوم بمعنى مقدام. والقياس يقبله مثل صبر جمع صبور. ومجيء جمع قدوم اسم آلة وجمع قدوم صيغة مبالغة على وزن واحد يتنافى مع حكمة؛ اللغة فالخال بمعنى الشامة والخال بمعنى أخي الأم يتفقان في اللفظ المفرد ويختلفان في صيغ الجمع. وهذا بحث لم يرد في معجم ولا في كتاب صرفي. فعلى من يظن في نفسه اقتداراً على وضع معجم أن يتجرد له ويثبت بالدليل العلمي بصيغة جمع قدوم بمعنى مقدام وصيغة جمع قدوم بمعنى آلة النجار في قول الشاعر:

فقلت أعيراني القدوم لعلني

أخط به قبراً لأبيض ماجد

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر أقول: إن المؤلف المذكور كان ذكر في أول كتابه المذكور - وإن شئت فسمها رسالته - بأنه يتعهد بالجوائز الآتية لمن يحل القضايا اللغوية الآتية:

1 -

ذهب واحدة أي جنيه: لمن يجيء بالفرق بين جمع قدوم بمعنى مقدام وقدوم بمعنى آلة النجار.

ص: 52

2 -

عشر ذهبات: لمن جاء بمفردات الجموع التي أوردها الجاسوس على القاموس في صفحاته من 207 - 210.

3 -

خمس ذهبات: لمن يجيء بأجوبة القضايا السبع الواردة في الصفحتين 52و53 من تلك الرسالة. وقد اشترط على من يجيب:

أ - أن يأتي بالقواعد التي يبني عليها حكمه.

ب - أن يؤكد كلامه بالتنظير الصحيح.

ج - ولا يتعهد بشيء لمن يعجز عن الوفاء بهذين الشرطين أو من يبني على قاعدة لا تصح. ولئلا أكلف القارئ مؤونة الرجوع إليها أنقلها هنا إليه بالحرف الواحد وهي:

1 -

كيف جاء ارعوى من رعا؟

2 -

جاء في شعر حسان:

فتشهد أنك عبد المليك

أرسلت نوراً بدين قيم

ولم يرد قيم في المعاجم فكيف يجب ضبطه ومن أين جيء به؟

3 -

روى الجاحظ عن ابن الأعرابي في كتابه البيان والتبيين ما يأتي:

ليس يستوجب شكراً رجل

نلت خيراً منه من بعد سنه

كنت كالهادي من الطير رأى

طمعاً أدخله في سجنه

فكيف يضبط سجنه ومن أين وردت هذه الصيغة؟

4 -

قال مسلم بن الوليد

ومجهل كاطراد السيف محتجز

عن الأدلاء مسجور الصياخيد

كأن أعلامه والآل يركبها

بدن توافى بها نذر إلى عيد

فكيف يضبط نذر وما الدليل على صحة الضبط؟

5 -

جاء في ديوان جرير للبعيث قوله

وجئنا بأسلاب الملوك وأحرزت

مناصلنا مجد الأربة والأكل

فكيف يصح ضبط الحرفين الأخيرين من العجز وكيف يؤتى بالدليل على صحة اللفظ؟

6 -

في القاموس علية القوم وعليهم - بكسر فسكون - أي جلتهم فما هذان الحرفان؟

7 -

كم جمعاً لنار وكم جمعاً لنور. وهل كل منهما أصل مستقل أو أحدهما فرع عن

ص: 53

الآخر؟

وبعد هذه السياحة الطويلة أقول - وأرجو ألا أذيع سراً -

أنني كنت ليلة 14121947 أصغي إلى سلسلة أحاديث الأستاذ

السيد عادل جبر - عضو مجلس الأعيان العالي الأردني الآن

- التي كان يذيعها من محطة القدس وعنوانها - خواطر في

اللغة والأدب - وقد ذكر بأن قدوم مؤنثة جمعها قدم واستشهد

على ذلك بقول الشاعر:

نعم الفتى لو كان يعرف ربه

ويقيم وقت صلاته حماد

نفخت مشافره الشمول فإنفه

مثل القدوم يسنها الحداد

وبعد ذلك كتبت له كتاباً ذكرت له به ما ذكره الشيخ أمين في

كتابه المذكور فتفضل علي بجوابه المؤرخ في 27121947

الذي قال فيه إن الشيخ أمين وقع في خطأ في بيت الشعر الذي

استشهد به وزاد أن الرواية الصحيحة هي:

فقلت أعيراني القدوم لعلني

أخط بها قبراً لأبيض ماجد

وذكر بأنه رآها في كتاب - المخصص - لابن سيده وأن جمع - قدوم بمعنى مقدام - قدم - كصبور وصبر وأن هذا لا خلاف فيه. وأما قدوم - آلة النجار - فإنها تجمع على قدم و - قدائم - كما ورد في أمهات كتب اللغة - دون أن يذكر شيئاً منها - وأضاف إلى ذلك أنه لا غضاضة في أن تأتي صيغة الجمع واحدة لكلمتين مختلفتين في المعنى لأن جموع التكسير سماعية كلها. وأن السلف الصالح يقول بأن سياق الكلام كفيل بالدلالة على المعنى المراد، وأن مما جاء على صيغة - قدائم - جمعاً للآلة عجوز وعجائز. وأنه يحضره من الأمثلة على اتفاق صيغ الجمع مع اختلاف صيغ المفرد قول - صاحب فقه اللغة - الإمام

ص: 54

الثعالبي

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها

فانف البلابل يا حتساء بلابل

فإن البلابل الأولى جمع بلبل وهو الطائر الغريد المعروف، والثانية جمع بلبال أي الهم والبرحاء في الصدر، والثالثة جمع بلبلة وهي قناة الإبريق التي يصب منها الماء والشراب. وأن العيون للماء والنواظر. والوجوه جمع وجه الإنسان وجمع ذوي الوجاهة وهلم جرا.

شرق الأردن

أحمد الظاهر

ص: 55

‌محاضرات ومناظرات

أداة الحكم على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته

كانت هذه المحاضرة ختام السلسلة الأولى من المحاضرات العامة التي نظمها قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية في موضع (العهد الجديد - فلسفته واتجاهاته في بناء المجتمع المصري) وقد ألقاها الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، وهو في هذا الموضوع حجة، فكانت الأرقام والإحصائيات تنطلق من فمه وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح! ونلخص المحاضرة بما يأتي:

يمكننا أن نحدد اتجاهات العهد الجديد في كلمتين: إصلاح ونهوض، إصلاح في الريف وفي المدينة وفي مرافق الحياة وفي أداة الحكم، ونهوض بمصر يسمو بها إلى مكان الصدارة بين الأمم. ولستم في حاجة إلى أن أذكركم بهذا الرمز الثلاثي الذي جعله العهد الحاضر شعاراً له وهو (الاتحاد والنظام والعمل). . اتحاد يقضي على الفرقة القضاء الأخير، ونظام يمحو الفوضى محواً أبدياً، وعمل منتج مثمر خصب يأخذ بيد مصر إلى المكان الذي ترمقه وتبتغيه.

فما هي الصورة التي ينبغي أن تكون عليها الأداة الحكومية لتتلاءم مع هذا العهد الجديد؟

الأداة الحكومية جهاز يجب أن يجاري الزمن، وإذا لم يؤد الجهاز وظيفته ولم ينهض بالغرض الذي خلق من أجله وجب تعديله وتحويره. وفي كل البلاد يعملون على تعديل الأداة الحكومية وتنقيح نظمها وقوانينها حتى تتفق مع سير الزمن وتطورات الحياة، وقد رأيناهم في الولايات المتحدة مثلاً قد شكلوا لجنة سنة 1912م، ثم شكلوا لجنة أخرى سنة 1943م، وقضت اللجنة الأخيرة التي كان يرأسها رئيس الجمهورية نفسه عامين كاملين في اجتماعات متواصلة وانتهت بتعديلات جوهرية بعيدة الأثر في إصلاح الأداة الحكومية عندهم.

وللأداة الحكومية - كما تعلمون - وظيفتان: إشراف وتوجيه، عمل وتنفيذ. وإن ما نراه اليوم من أنظمة حكومية يرجع إلى سنة 1883م إذ حاول اللورد (دوفرين) أن يضع مبادئ النظام الحكومي فعنى بالجزئيات والشكليات وأغفل الجوهر! ثم حصل أن شكلت عندنا لجان بعد لجان، ولكنها - جميعاً - كان كل وكدها أن تعالج شئون الموظفين من علاوات

ص: 56

إلى ترقيات إلى غير ذلك! وليست المشكلة مشكلة الموظفين فقط، ولكنها مشكلة الأنظمة واللوائح والأساليب العتيقة الركيكة المتعفنة التي يعمل الجهاز الحكومي في ظلها، والبطء الذي يشبه الموت في سير الأعمال الحكومية. ولعلكم تذكرون حكاية الأستاذ نجيب الريحاني عن الورقة التي انتقلت من امبابة إلى الجيزة في ثلاث سنوات!

. . إن جهازنا الحكومي غير منتج، وإذا أنتج فإن إنتاجه كثير التكاليف، فعلينا أن نختزل الكثير والكثير جداً من خطوات الأعمال الحكومية التي لا طائل وراءها سوى الأبهة للرؤساء والصولة لأصحاب النفوذ!

هل أدت السينما المصرية رسالتها نحو المجتمع؟

كان هذا الموضوع محل مناظرة حامية بدار نقابة السينمائيين المصريين مساء الأحد الماضي، رأسها الأستاذ الرقيب أنور حبيب، وحضرها الأستاذ محمد فؤاد جلال وزير الإرشاد القومي الذي افتتح المناظرة بكلمة اعترف فيها أن السينما إحدى السلطات الكبرى في الدولة؛ لأنها توجه عقول الناس والعقول هي التي تحكم، ولأنها يغشاها الناس جميعهم على اختلاف أعمارهم وثقافتهم، وهذه الجماعات هي أساس الديمقراطيات الحديثة التي تعتمد عليها الحكومات وتلتمس ثقتها وتأييدها.

وقد تكلم مؤيداً للرأي الأستاذان رشيد النحال ويوسف وهبي، وتكلم مخالفاً له الأستاذان أحمد بدر خان وعبد المنعم شميس. وكان الوقت المقسوم لكل منهم ربع ساعة ولكنهم بعد أن انتهوا من كلامهم عادوا فتكلموا مرة أخرى، واشترك بعض الحاضرين في المناظرة، وحمى وطيس الجدل، وانقسم المستمعون قسمين متناجزين بالتصفيق والهتاف والعبارة!

وقد جرت المناظرة على الوجه الآتي - في إيجاز -:

تكلم الأستاذ رشيد النحال فذكر أن الدفاع عن قضية السينما إنما هو الدفاع عن رواد السينما القدامى الذين انحسرت عنهم كل معاونة وحرموا كل تشجيع. ولا تنتظروا أن أقول إن السينما قد بلغت عندنا مثل الذي بلغته في أوربا وأمريكا، ففي إنجلترا - مثلاً - يغشى دور السينما ثلاثون مليوناً من الناس، وفي أمريكا يغشاها مائة مليون. أما في مصر فما زال الناس يرونها وسيلة للتسلية وتزجية للفراغ! وما زالت الدولة تأبى أن تمد لها يد المساعدة الجدية النافعة. لذلك وقف جهد رجال السينما عند حد لم يستطيعوا أن يتجاوزوه ولم يكن

ص: 57

في وسعهم - وهم بشر كسائر الناس - أن يصلوا إلى أبعد منه. وقد أعطت السينما في مصر للدولة وللناس أكثر مما أخذت، ونهضت وجاهدت واحتملت الكثير من مصاعب الجهاد ولم تلق من الجزاء إلا صيحات الهدامين الذين كل همهم الهدم والهدم دون سواه. وقد يأخذ البعض على السينما أنها كثيراً ما تجنح إلى أن يكون أبطالها من التافهين الذين يروقون في أعين الجماهير الساذجة، فأقولها كلمة صريحة لا لبس فيها ولا التواء: - إن الرقابة هي المسئولة عن ذلك وهي التي كانت تطلب أن يكون أبطال الأفلام من هذا النوع التافه الرخيص دون سواه.

وتكلم بعده الأستاذ أحمد بدر خان قائلاً: أعترف لكم - قبل كل كلام - أن السينما لم تؤد واجبها نحو المجتمع. ولكن على من تقع مسئولية ذلك؟ إنها تقع على الجمهور الذي لا يهوى إلا الأفلام التهريجية، وعلى الحكومة التي لم تبذل لها العون الكافي، وعلى الرقابة التي تغمض العين على كل ما في الأفلام من مباذل وسيئات. ولا أدري لمصلحة من هذا الإغضاء؟ وعلى الصحافة التي تسرف في المدح وتسكت عن النقد الحق والتوجيه الصحيح. . . ولا أفهم لماذا لم يصدر قانون حماية الملكية الأدبية حتى الآن فيمنع هذا النقل والسطو والتشويه؟ ولماذا لا تحدد النسبة التي يتقاضاها الممثلون من الأرباح؟ إن للسينمائيين مطالب عديدة لم تحقق لهم الدولة شيئاً منها. إنهم يطلبون - فيما يطلبون - أن يلغى هذا القانون الذي يجعل منها نقابة عمالية لا فنية كنقابة الصحفيين، ويطلبون أن يكون من أقسام وزارة الإرشاد قسم خاص للسينما يقوم على تذليل الصعوبات التي تعترضهم، ويطلبون أن تشتري الحكومة بعض نسخ من الأفلام الممتازة فتعرضها في المدارس والمعسكرات والمستشفيات، ويطلبون تسهيل استيراد الأفلام الخام التي هي للسينما بمثابة الوقود للسيارة! ويطلبون خفض الضرائب التي ترهقهم. فإذا تحقق لهم ذلك استطاعوا أن يؤدي رسالتهم نحو المجتمع وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها!

ثم وقف الأستاذ يوسف وهبي وبدأ كلامه صائحاً هائجاً، فرمى الصحافة بأنها سبب البلاء ومصدر الشقاء، واتهمها بأنها صحافة مأجورة لا تمدح إلا بأجر ولا تذم إلا بأجر، وأنها مليئة بالعناوين (السوداء) والمقارنات (العمياء) - كما يقول الأستاذ المهذب - وأنك لا تكاد تجد فيها إلا صورة لفنان أجنبي بالمجان، أو صورة لفنان مصري دفع ثمنها مقدماً!. . .

ص: 58

واستمر الأستاذ الفاضل يكيل التهم للصحافة المصرية بدون حساب، وبطريقته التمثيلية وصوته الذي يصك الآذان، وحركاته البهلوانية التي يضحك بها على أذقان الدهماء من الناس، فكان ذلك منه عدواناً بالغاً على الصحافة الكريمة التي تبذل له ولأمثاله العون والنقد والتوجيه السديد.

ولكنه تخاذل وضعف وانبهرت أنفاسه وخفت صوته عندما انبرى له الأستاذ عبد المنعم شميس ففند أقواله، وفضح تهريجه، وصاح في وجهه بأن رجال الصحافة الذين يرميهم بهذه التهم الباطلة كانوا - من أجل دفاعهم عن الحق - يزج بهم في غياهب السجون ويلقون أشد العقاب بينما الأستاذ يوسف وهبي يرفل في الحرير ويركب أفخر السيارات! وأن هؤلاء الكتاب الأحرار كانوا الأداة الفعالة في إيقاظ الشعب وتنبيهه إلى حقوقه بينما كان بعض رجال السينما أداة تخدير وتنويم للشعب وتلهية له عما يكبله من أغلال وذلك بما يقدمون له من رقص وتهريج. . وإن الباحث المدقق ليجد أن هذا التهريج قد أخذ - في العهد الجديد - يتلاشى من السينما رويداً رويدا لأن العهد الجديد لا يهدف إلى تخدير الشعب وتلهيته عن حقوقه، وإنما يهدف إلى إيقاظه وتعريفه بهذه الحقوق. . ولقد أفلتت من الأستاذ يوسف وهبي كلمة تدل وحدها على مقدار فهمه لوظيفة السينما! أنه سماها (صناعة السينما) والصناعة - كما تعلمون - تهدف إلى الربح الكثير والكسب الوفير! وليس من أهدافها ترقية الإحساس والشعور والذوق، وتعريف الناس بالمثل العليا، ومعالجة المشكلات الاجتماعية والفساد المتغلغل في الحياة، وما إلى ذلك من أغراض.

إن السينما المصرية لا طابع لها حتى الآن، ولكنها بضاعة مجلوبة من الخارج وكل عملنا فيها أن نلبسها زياً مصرياً ونقول للناس إنها بضاعة وطنية! وإن قصاراها - حتى الآن - هو الرقص الفاجر والغناء الداعر، إنهما يحشدان في الأفلام حشداً وبدون مناسبة ليهرع إليهما الجمهور فترتفع حصيلة الفلم وتنحدر أخلاق الناس!

ثم وقف الأستاذ أنور أحمد - عن جمهور المستمعين - فعلق على المناظرة قائلاً: - ن كلمات المؤيدين - وهما الأستاذان رشيد النحال ويوسف وهبي - كانت طوافاً وتحويماً حول الموضوع ولم تكن من جوهر وهي المكافحة الأولى لكل فساد وانحلال في مصر. . . وإنه من الخير ألا نخدع أنفسنا وأن نرضى غاية الرضا عن أنفسنا فذلك ضلال بعيد،

ص: 59

ولو أننا خدعنا أنفسنا وقلنا إن السينما المصرية قد أدت رسالتها لجمدنا ووقفنا عند الحد الذي نحن فيه اليوم وتلك نهاية لا أرضاها لكم.

إن السينما في مصر لم تؤد رسالتها، فابحثوا عن السبب في ذلك. ابحثوا عن الصعوبات التي اعترضت السينما والعقبات التي وقفت في طريق تقدمها، والعوامل التي قصدت بها عن أن تؤدي هذه الرسائل. . . ابحثوا عن ذلك ولا يشغلكم الجدل الفارغ في هل أدت السينما رسالتها نحو المجتمع أو لم تؤد عن تقصي هذه الأسباب وتلمس أنواع العلاج، وبذلك تكون خلاصة مناظرتكم اليوم هي أن السينما لم تؤد رسالتها ولكنها كافحت لتذليل الصعوبات التي تعترضها ويجب أن تتظافر الجهود على تذليل تلك الصعوبات.

وطلب الأستاذ أنور حبيب رئيس المناظرة أن تؤخذ أصوات الحضور - بالوقوف - على أي الرأيين هو الأصوب؟ فوقفت أغلبية تؤيد الرأي القائل بأن السينما المصرية لم تؤد رسالتها نحو المجتمع!.

علي متولي صلاح

ص: 60

‌طرائف وقصص

فصل سالافان

للكاتب الفرنسي المعاصر جورج دوهاميل

للأستاذ لبيب السعيد

لست أنقم من (السيد سورو) أي شيء، ولئن كنت غير راض البتة عن فقدي مركزي، وهو ما علمت مركز طيب، فإنه لم تعلق بنفسي موجدة على (السيد سورو). أما أنه لمحق. وما أدري ماذا كنت أفعل لو كنت مكانه. على أني لسوء حظي أفهم كثيراً من الأشياء.

ويقتضني الواجب أن أقول إن (السيد سورو) أبى أن يفهم، وكان ينبغي أن أبسط له إيضاحاً، ولكني - على حسب تفكيري الممعن - أحسنت صنعاً إذ لم أشرح له شيئاً، هذا إلى أن (السيد سورو) لم يتح لي وقتاً أسترد فيه حواسي، وأصلح فيه موقفي، لقد بدا جاداً، وبعبارة أخرى: لقد بدا فظاً، بل متوحشاً، ولا علينا من هذا، فما وقع في نفسي أن أحقد عليه.

فأما عن (السيد يعقوب) فأمره غير الأمر، فلقد كان يسعه أن يقدم شيئاً أفيد منه، ذلك أني أقمت معه خمس سنين كان يراني طوالها وأنا أعمل مصبحاً وممسياً، وكان يعلم أني لست رجلاً غير عادي، نعم، فلقد بلاني، ولو أن هذا - بعد التفكير - يعني أنه لم يحط بي خبراً أبداً، ومهما يكن من شيء فقد كان يملك أن يقول كلمة. . . كلمة واحدة، ولكنه لم يقلها، ولا والله ما ألومه؛ فإن له زوجة وأولاداً، وإن له سمعة لا يمكنه التهاون فيها، على أن الحق كل الحق أني لو أذعت ما أعلمه عن السيد يعقوب، لفلت شيئاً. . . ولكن، لينم هادئ البال فلن أقول شيئاً.

إنه خذلني، فلم ينصرني ولم ينقذني، ومع هذا فصدري ليس به غل له هو الآخر، ولقد أحاطت بي مجموعة ملابسات جد ناصبة، ولكن لنذهب الآن إلى أنى وحدي أزر كل الوزر، فالدنيا هي ما قد علمت وما أبرئ نفسي، بل أقر أني ارتكبت خطيئة، وبيان هذا بعد حين.

لقد تقضى على هذه المغامرة زمن متطاول، وما كنت لأتكلم عنها لو لم توقظ في ذكريات

ص: 61

ممضة، ولقد وقعت لي منذ ذلك الحين وقائع تنسيني بعض التفاصيل، ولا بد لي أن أسترعي نظرك إلى أني في مدى خمس سنين لم ألق (السيد سورو) غير ثلاث مرات، وهذا قليل. والسبب أن مؤسسة (سوك دسورو) عظيمة الشأن، وليس في إمكان سادتها أن يتصلوا بمستخدميها الألفين الذين يشتغلون لديهم، أما في صدد اختصاص عملي فلم تكن له صلة بالإدارة.

وذات صباح، أخذ التليفون يصيح، ولست أدري أتثيرك النواقيس والأجراس الكهربية والأجهزة الأخرى التي من هذا النوع الجهنمي، فأما أنا فقد وطنت نفسي لها، وإن كان حسبي لإشقاء حياتي أن يوجد جرس كهربي حيث أكون، ولهذا السبب ولا شيء غير هذا السبب أجدني في بعض اللحظات أهنئ نفسي على أن تركت العمل في المكاتب، إن صوت الجرس ليس كالأصوات، وإنما هو مثقاب يخترق الجسم فجأة، ويودي بالأفكار، ويقف كل شيء حتى دقات القلب، وذلك ما لا قبل لإنسان أن يألفه.

هذا جرس التليفون يدق، فكل من في المكتب يرعبه سمعه ولو لم يظهر عليه الاهتمام، ويكف الصياح، وينتظر الجميع، ولست أشد من غيري عصبية، ولكن هذا الانتظار هو الآخر عذاب، فكل يرتقب ليعرف أوراء الصيحة صيحة أخرى، فإذا كانت واحدة فالمطلوب هو (السيد يعقوب)، وإن كانتا اثنتين فهما على (بفلج) السويسري، فأما أنا فكانت تناديني ثلاث صيحات، ومنذ تركت المكتب وهذه الثلاث تنادي (أودن) الذي كان على عهدي يجيب على أربع.

و (أودن) هو الآخر ليس عصبياً، وهو منذ الصيحة الأولى يأخذ في أكل أنامله من غير أن يبدو عليها شيء وقد انتهى به الأمر إلى أن أصيب ب (دوحس) في ظفره.

وفي ذلك اليوم، بعث الجرس رنة واحدة ليس غير، رنة واحدة طويلة مستقيمة مثيرة بقوة تأكيدها.

وبرز (السيد يعقوب) من وراء حاجزه النصيفي، برز من هذا المخبأ الذي يلزمه كما يلزم حصان السباق صندوقه وأمسك (يعقوب) بسماعة التليفون، وكما هي عادته استند إلى الجدار ملصقاً به رأسه الذي خلف شعره بتوالي الأيام بقعة دهنية على الحائط.

ويبدأ الحديث، وأنصت إلى بعضه، وهو دائماً يثير العجب، فثمة رجل طيب يتحدث إلى

ص: 62

اللاوجود، ويبتسم له، ويلقي إليه بالملق، رجل ينظر فجأة وبإمعان إلى الطلاء البني على الحائط كأنما يبصر شيئاً عجباً.

ومع هذا ففي ذلك اليوم لم يبتسم (السيد يعقوب) في حديثه، ولم يتملق محدثه. ومنذ الكلمات الأولى كانت تتخايل عليه أمارات القلق، وقد دبت الحمرة إلى وجهه، وما لبث أن رمى ببصره إلى أسفل، متطلعاً إلى المدفأة التي كانت قابعة في ركنها كأنها كلب غاضب.

أما أنا فكنت أبري قلماً، وما بي حاجة إلى أن أقول لك، إني كنت اكسر رصاصة القلم ما بين ثانية وأخرى، وكان يتناهى إلى صوت (السيد يعقوب) وهو يتمتم:(ولكن يا سيدي. . . ولكن يا سيدي) وكنت أقول في نفسي: (لئن لم ينته من تكرار قوله: (ولكن يا سيدي. . .) لألطمنه لطمة يدوي صوتها (بان. .) ولأدفعن برأسه إلى الجدار).

غير أني كثيراً ما أحدث نفسي بأشياء من هذا الطراز ولكني في الحق رجل رزين الحصاة، ولست أستجيب أبداً لشيء مما أحدث به النفس، وإنك لتعلم علم اليقين أني ما كنت لألطمه.

وقد كنت لا أزال أكسر رصاص قلمي، وأوسخ أطراف أصابعي، وكان (السيد يعقوب) يذكرني بهؤلاء الروحانيين الذين يدعون الاتصال بالأشباح، مستدلين بهذا الاتصال على أن للأشباح نوعاً من الوجود، وأثناء الصمت الغالب كان ينبعث أزيز متهدج كأنما يتهادى من نهاية العالم، وكنت أتبين في هذا الأزيز رويداً رويداً جلبة صوت متقطع.

وترك السيد يعقوب الجهاز بغتة، وظل يتحسس حلقة التليفون أكثر من عشر مرات حتى تمكن من وضع السماعة، وكنت بلغت من الغضب غايته، ولكن ذلك ظل خافياً قطعاً وانتهيت إلى صنع طرف جيد لقلمي، ومسحت أصابعي في أسفل بنطلوني حيث لا تظهر علامات الرصاص.

انقلب (السيد يعقوب) إلى صندوقه، وفتح بعض الأضابير، وأمسك ببعض الأوراق، ثم صاح فجأة: - سالافان. . . تعالي لحظة

كنت متوقعاً ذلك، فنهضت مطيعاً، ووجدت السيد يعقوب ينزع شعرات من أنفه، وهذا عنده دليل قوي على القلق، وقال لي:

- دونك هذه الكراسة، فاحملها بنفسك إلى (السيد سورو)، ستلقاه في مكتبة بالإدارة، فأبلغه

ص: 63

أني متوعك.

وأمسك عن الكلام، ثم صرف بصره تلقاء النافذة، وغمز بعينه لأنه انتزع شعرة طويلة من أنفه، ووضع الشعرة على ورقة النشاف، وأضاف وهو يحس رغبة شديدة في العطاس، وهي رغبة جعلت عينيه تمتلآن بالدمع:

- امض يا سلافان؛ أسرع.

ولبلوغ مكتب (السيد سورو)، ولا بد من اجتياز عدة أجنحة من المبنى، وفي الصيف عندما تكون النوافذ مفتحة، وعندما تتثاءب الأبواب متأرجحة أمام النسيم، يلحظ الإنسان أقساماً مختلفة، بعضها فوق بعض، والرجال فيها يعملون.

وفي الردهة المؤدية إلى مكتب (السيد سورو) يقف أحد السعاة في بزته الرسمية وجوربه الأبيض، وقد سألني عن مهمتي، وأدخلني حجرة فسيحة وهو يخافت بقوله:(إنك منتظر).

عرفت توا مكتب (السيد سورو) الذي لم أكن رأيته إلا مرة واحدة، ذلك أن رؤيتي للسيد سورو في المرتين السالفتين كانت في قسمنا.

وقد رأيت أستاراً من القماش الأزرق، ولوحات بلون النبيذ، وطالعني في أحد أركان الغرفة رسم قطاعي للآلة الدارسة (سوك دسورو) والأوسمة التي ظفرت بها في المعارض.

أما هو فقد كان هناك، ولعلك تعرفه، وتعرف أنه لا يزال يحتفظ بجانب من حميا شابه، وأنه فارع القامة، حليق شعر الوجه، وله شارب كأنه الفرجون، وذقن حادة التدبب، وشعر كله تقريباً بلون الرماد، وتحت جبهته منظار دائم الارتعاش لأنه لا يضم غير قطعة صغيرة من الجلد.

ونظر إلى (السيد سورو) طولاً وعرضاً، وقال لي في اختصار.

- أمن قسم التحرير أنت؟ وماذا يفعل السيد يعقوب؟

- إنه متعب.

- آه! هات!

وظللت واقفاً في مواجهة المكتب الكبير الإمبراطوري الطراز، وكنت لا أعرف أيهما أحرى بي أن أضم قدمي وأقف معتدلاً أو أن أتخذ وضع الجندي في حركة الراحة.

ويجب أن أعترف لك أني قطعت العمر في مؤسسة (سوك وسورد) متوحداً منفرداً، وكنت

ص: 64

لا أميل إلى المناسبات التي تنأى بي عن عملي ومألوفي، وكان اختصاصي هو تصحيح النصوص لا المثول بين واحد من أمراء الصناعة.

ولذلك كنت في هذه الساعة ألعن (السيد يعقوب) وطففت أدير له في ذهني بعض العبارات التي كنت أتفنن في صوغها والتي لم أنبس بها حتى النهاية، وقد كنت أحمل هم جسماني الذي لم أكن أعرف ماذا أفعل به، فكنت أحس بعض عضلاتي تتقلص في وضع يضايق باقي العضلات، وكنت أشعر شعوراً غريباً بأن شكلي يؤلف أضحوكة ضخمة، ليس بوجهي فحسب، ولكن أيضاً بصدري، ثم بأعضائي، ثم أخيراً بجسدي كله.

ومن توفيق الجد أن (السيد سورو) لم يلحظني، وكان يقلب في الكراسة التي قدتها إليه، وكان يبدو أنه يعاني غضباً ثقيلاً استطاع أن يكظمه.

وفجأة وضع سبابته على الصفحة، وقال من غير أن يرفع أنفه:

- خط رديء لا يكاد يقرأ، ما هذه الكلمة؟

فتقدمت آلياً أربع خطوات إلى الأمام، وانحنيت، وقرأت في غير حبسة وبصوت جهير، (خير أكثر مما يلزم).

وقد وضعتني حركتي هذه إلى جوار السيد سورو، وفي متناول الذراع اليسرى لمقعده.

هنالك فحسب، لاحظت أذنه اليسرى، وإنيلأصدقك حين أقرر لك أن الأمر لم يعد أن يكون عادياً؛ فهذه الأذن كانت أذن رجل من النوع الدموي قليلاً، أذناً كبيرة بها شعرات، وتخللها بقع بلون النبيذ. ولست أعرف على الحقيقة ماذا حملني على التطلع في اهتمام بالغ إلى هذا الركن من إهاب سورو. ولقد تضخم اهتمامي هذا حتى صار بعد هنيهة أمراً شاقاً. كان هذا الجزء أقرب شيء مني، ولكنه بدا لي أبعد شيء عني وأغرب شيء لي، وأعملت فكري قائلاً في نفسي: ذاك جلد آدمي، وإن من الناس من يعتبرونه شيئاً طبيعياً جداً، وإن منهم من يعتبر لمسه أمراً مألوفاً.

وتتابعت على خاطري صور شتى، ووجدتني عفو الساعة أحرك ذراعي اليمنى قليلاً تتقدمه سبابتي، وأدركت حالاً أن بي نزعة إلى وضع إصبعي على أذن (السيد سورو).

وفي تلك اللحظة زمجر الرجل الضخم، وغير رأسه من وضعه، فعراني لذلك غضب، وعرتني في الوقت نفسه راحة؛ بيد أنه عاد إلى القراءة، فشعرت بذراعي تعاود التحرك

ص: 65

في رفق.

كنت بادئ الرأي خجلان أنكر على يدي ما تشتهيه من لمس أذن السيد سورو، ولكني شعرت تدريجياً أن عقلي يطيب لهذه الحركة ويقرها، ولأسباب كثيرة كانت تبدو لي غامضة مبهمة، كان لزاماً على أن، ألمس أذن (السيد سورو) لأثبت لنفسي أن هذه الأذن ليست شيئاً ممنوعاً أو منعدم الوجود أو خيالياً، ولأنفي أنها ليست لحم آدمي مثل أذني أنا نفسي.

وبغتة، مددت ذراعي بطولها، ووضعت سبابتي بمنتهى اللطف والرقة. . . وضعتها حيث أحببت، فوق لولبة الأذن بقليل، على هذا الجزء من الجلد الأحمر بلون الآجر.

سيدي! لقد سيم (دميان) العذاب لأنه صوب مديته إلى الملك لويس الخامس عشر، وإن تعذيب رجل لظلم مخز، على أن (دميان) نال الملك ببعض الأذى والمساءة، فأما أنا فأقولها لك أكيدة إني لم أضر (السيد سورو) شيئاً، ولم تختلج همامة نفسي بأن أتعمده بأي شر، وقد تقول لي إنهم لم يعذبوني، والصدق ما تقول إلى حد ما.

لم أكد ألمس أذن (السيد سورو) بطرف سبابتي بكل رفق حتى كان هو وكرسيه يثبان إلى الخلف، ولا بد أني كنت وقتها شاحب اللون قليلاً، فأما هو فقد استحال لونه إلى الزرقة كما يقع لمرضى فقر الدم حينما يشحب لونهم ثم أقبل من فوره على درجه فأخرج منه مسدساً.

تسمرت ووجمت، فقد شعرت أني جئت شيئاً نكراً وكنت كليلاً لا يضيء لي عقل ولا يستقيم لي رأي.

ووضع (السيد سورو) المسدس على النضد بيد ترتعش في قوة جعلته يحدث صوتاً كصوت اصطكاك الأسنان، وصرخ (السيد سورو). . . صرخ. . .

لست أعرف على وجهه الدقة ماذا جرى، فقد تلقاني عشرة من فراشي المكتب، وجروني إلى غرفة مجاورة، وهناك نزعوا عني ثيابي، وفتشوني، ثم ما لبثت أن استعدت ثيابي، وجاءني رجل بقبعتي، وأنهى إلى أنهم يرغبون في كتمان المر على أن أخرج من المؤسسة فوراً وأوصلوني إلى الباب.

وفي الغداة، حمل إلى (أودن) ما كنت أستعمله في مكتبي من أداة وأشياء خاصة.

تلك هي القصة الحزينة التي أكره أن أقصها لأني لا أستطيعذلك دون أن يساورني ضيق

ص: 66

هو فوق التعبير.

لبيب سعيد

ص: 67