الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 103
- بتاريخ: 24 - 06 - 1935
بين والد وولده
مثل من الشباب الصالح
عرفت منذ أيام فتى غريض الشباب رقيق الإهاب وضيء الطلمة؛ يتكلم فيشع عقله في معانيه، ويشيع ذكاؤه في مراميه، ويسيل شعوره على ألفاظه؛ وهو لا يتكلم إلا عن العمل، ولا يناقش إلا في الواقع، ولا يرمي إلا إلى غرض؛ طموح النفس فلا يحصر أفقه يأس، ولا يحد غايته مطلب؛ بعيد الهمة فلا يضله شارد الخيال، ولا يغره خادع الأمل؛ رفيع الهوى فلا يشوب غرضه سوء، ولا يفسد طموحه أثره. نبت في أكرم المنابت من إقليم الغربية، فأبوه عميد أسرته، وزعيم بلدته، وسريّ نابه من سراة إقليمه؛ رباه في مهد النعيم، ونشأه في ظلال الغنى، وقلبه في أحضان الترف، فكان خليقاً أن يمسه الغباء وهو داء الغنى، وأن يصبه الخمول وهو بلية الترف، ولكنه لقوة الطبع واستعداد الفطرة شب ذكى الفؤاد إلى درجة الحكمة، مشبوب العزم إلى حد المغامرة؛ يذهب نفسه غالباً إلى الاعتداء الواثق، ويميل بحياته أحياناً إلى الجرأة المؤدبة، وينظر إلى غاية الحياة - وهو لا يزال في بدايتها - نظر الكيّس اللبيب المجرب، فيهاجم السياسيين من ناحية استخفافهم بالخلق، والموظفين من ناحية استهانتهم بالواجب، والفلاحين من حيث اعتمادهم في الإنتاج على القديم الرث، وفي العلاج على القدر والمصادفة. على أنه أمام أبيه - وهو قرة عينه - مثال البر ورمز الطاعة، فلا يفند له رأياً، ولا يعصى له أمراً، ولا يخالف له نصيحة.
تخرج منذ أسبوع في إحدى المدارس العالية، وكان الثاني في ترتيب الناجحين، وإن شئت فقل الأول، لأن الفرق بينه وبين سابقه لا يقدم لضآلته ولا يؤخر، فالوظيفة بحكم أوليته في النجاح ومعونة أسرته بالنفوذ، تنتظر في كل مكان وتطلبه في كل وزارة، ولكنه زارني منذ يومين فوجدته على غير عادته مشغول القلب منقبض الصدر مشترك الخاطر، لا أثر عليه لنشوة الفوز، ولا للذة الراحة، ولا لفرحة المنصب، كأنما هو آخر الدبلوم أو فقير متقدم من غير وسيلة!!
- مالك ساهم الوجه، مكروب النفس يا فهمي؟ هنيئاً لك الدبلوم والأولوية! فقال ولأسى يبين في صوته ولهجته: ليتني لم أنل هذه الدبلوم، ولم أحز خطر هذا السبق؛ فلقد كان في لذة المدارسة، وشهوة المنافسة، وترقب النجاح، وانتظار الحرية، رضىً لنفس الطامحة،
وكفاية لقلبي الرغيب. أما الآن فالفراغ يثقل حتى يقتل نفسي، والوقت يطول حتى يمك روحي، والأمل يضيق حتى يظلم حياتي! أريد أن أعمل فيمنعني أبي، لأنه يضن بصحتي على مخاطر الفلاحة، وبراحتي على متاعب الفلاحين، وبسعادتي على هموم المسؤولية
- إذن ماذا يريد لك أبوك؟
- يريد لي الوظيفة! والوظيفة سجن لنفسي الطليقة، وتعطيل لملكاتي الموهوبة، ومحو لمعارفي المكسوبة، وقتل لآمالي الناشئة، وتوجيه لميولي الطبيعية إلى الغرض الذي لا أحب والقصد الذي لا أريد.
إن في مزارعنا الواسعة مجالاً فسيحاً لنشاطي، ومراداً بعيداً لعلمي، ومختبراً صالحاً لتجاربي، ومغرساً كريماً لآمالي فأنا أوثر أن أحمل عبء العمل عن والدي، وأستغل علمي وعملي في تحقيق مقاصدي، فأحافظ بالاستقلال الذاتي على خلقي وحريتي، وأساهم بالعمل المنتج في نفع أمتي وإسعاد أسرتي.
ماذا تجدي عليّ الوظيفة؟ عشرة جنيهات في الشهر؟ لقد كان أبي ينفق عليّ خمسة وعشرين وأنا طالب، فكم جنيهاً ينفقها عليّ وأنا موظف؟ إذن سينفق عليّ أضعاف مرتبي لأخدم غيره، وأفارق بيته، وأظل السنين الطوال موظفاً وضيع المكانة، مسلوب الإرادة، محدود الرزق، خامل الحياة!
إن شهادتي في فن الزراعة؛ والوظيفة الفنية كالوظيفة العلمية لا تصلح طريقاً إلى السلطان، ولا وسيلة للجاه، ولا أداة للثروة؛ إنما الفن مجده في استقلاله، وخيره في حريته. على أن وظائف الحكومة - بعد أن خفضوا أجرها، وأخسّوا قدرها، وحفوا طريقها بالمكارة، وهددوا معاشها بالنقص، وزعزعوا ضمانها بالكيد، ورعوا أمنها بالسياسة - أصبحت مطلباً لقصار الآمال، ومذهباً لصغار النفوس، وملجأً لضعاف الحيلة. فأما الذي يجد في نفسه شعور القدرة، وفي بيته رأس المال، وفي أرضه مكان العمل، ثم يتشوف إلى قيد الوظيفة وذل التبعية، فلا أدري بما أعتذر له أمام النبّل والرجولة؟
فقلت له وأنا موزع النفس بين الإعجاب به والرثاء له والحدب عليه: كلامك هذا يا بني عنوان عقلك وبرهان فضلك ودليل دعواك. وليت شعري ما حجة أبيك الكريم أمام هذا الخلق العظيم والمنطق الواضح! لعله من أولئك الذين يعتقدون أن الولد إذا دخل المدرسة،
ثم خرج بالشهادة، ثم لم يوظف، كان ما أنفقه خسارة لا تعوض، وما تعلمه عبثاً لا يفيد فقال: كلا! إن أبي من أرجح الناس عقلاً، وأسدهم رأياً وأعلمهم بمزايا العمل الحر، ولكنها التقاليد الموروثة، والعواطف الغالبة، وسأنتهي آخر الأمر على هواي ومناي إلى رأيه فقلت له إذن دعني على الأقل أنقل عنك هذا الحديث ليكون خطاباً إلى أبيك، ودرساً لإخوانك، وموضوعاً للرسالة!
أحمد حسن الزيات
الطائشة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
تتمة
وهذا محصّل رواية (الطائشة) نقلناه من خط الكاتب على مساق ما دونه في أوراقه، وعلى سرده الذي قصّ به الخبر. وقد أعطانا من البرهان ما نطمئن إليه أن هذه. (الطائشة) هي من تأليف الحياة لا من تأليفه، وأنه لم يخترع منها حادثة، ولم يأتفك حديثاً، ولم يزدها بفضيلة، ولم ينقصها بمعرّة؛ وأشهد على قوله كتب صاحبته الأديبة المستهترة التي لا تبالي ما قالت ولا ما قيل فيها. وهذه الكتب رسائل منها الموجز ومنها المستفيض، وهي بجملتها تنزل من الرواية منزلة الشروح المفتنة، وتنزل منها الرواية منزلة اللمع المقتضبة؛ وكل ذلك يشبه بعضه بعضاً، فكل ذلك بعضه شاهد على بعض
قال كاتب (الطائشة):
كنت رجلاً غزلاً ولم أكن فاسقاً، ولست كهؤلاء الشبّان الذين أصيبوا في إيمانهم بالله فأصيبوا بإيمانهم بكل فضيلة، وذهبوا يحققون المدنية فحققوا كل شيء إلا المدنية ترى أحدهم شريفاً يأنف أن يكون لصاً وأن يسمى لصاً، ثم لا يعمل إلا عمل اللص في استلاب العفاف وسرقة الفتيات من تاريخهنّ. وتراه نجداً يستنكف أن يكون في أوصاف قاطع الطريق، ثم لا يأبى إلا أن يقطع الطريق في حياة العذارى وشرف النساء.
أكثر أولئك الشبان المتعلمين يعرضون للفتيات المتعلمات بوجوه مصقولة تحتمل شيئين: الحب والصفع. . . ولكن أكثر هؤلاء المتعلمات يضعن القبلة في مكان الصفعة، إذ كان العلم قد حلل الغريزة التي فيهن فعادت بقايا لا تستمسك، وبصّرهنّ بأشياء تزيد قوة الحياة فيهن خطراً وتوحي إليهنّ وحيها من حيث يشعرن ولا يشعرن، وصوّر في أوهامهم صوراً محل الصور التي كانت في عقائدهن، وأخرجهن من السلب الطبيعي الذي حماهن الله به؛ فلهنّ العفة والحياء ولكن ليس لهنّ ذلك العقل الغريزيّ الذي يجيء به الحياء والعفة، وكثيرات منهن يخشين العار وسمته الإجماعية ولكن خشية فقهاء الحيل الشرعية قد أرصدوا لكل وجه من التحريم وجهاً من التحليل، فأصبح امتناع الإثم هو ألا تكون إليه حاجة. . . .
والعقل الذي به التفكير يكون أحياناً غير العقل الذي به العمل؛ ففي بعض الجاهلات يكون العقل الحياء والعفة والشرف والدين ـ غريزة كغرائز الوحش، هي الفكرة وهي العمل جميعاً، وهي أبداً الفكرة والعمل جميعاً لا تتغير ولا تتبدّل ولا يقع فيها التنقيح الشعريّ ولا الفلسفي. . . . وما غريزة الوحش إلا إيمانه بمن خلقه وحشاً؛ وكذلك غريزة الشرف في الأنثى هي عندي حقيقة إيمانها بمن خلقها أنثى.
وشرف المرأة رأس مال للمرأة، ومن ذلك كان له في أوهام العلم اشتراكية بحسبه تنظر فيه نظرها وتزيغ زيغها وتقضي حكمها، وأكثر من عرفت من المتعلمين والمتعلمات قد انتهوا بطبيعتهم العلمية إلى الرضى بهذه الاشتراكية، وإلى التسامح في كثير، وإلى وضع الاعتذار فيما لا يقبل عذراً، ومن هاهنا كان بعض الجاهلات كالحصن المغلق في قمّة الجبل الوعر، وكان بعض المتعلمات دون الحصن، ودون القمّة، ودون الجبل، حتى تنزل إلى السهل فتراهنّ ثمّة.
لقد غفلت الحكومات عن معنى الدين وحقيقته، فلو عرفت لعرفت الإنسانية لا تقوم إلا بالدين والعلم كليهما؛ فإن في الرجل إنساناً عاماً ونوعاً خاصاً مذكراً، وفي المرأة إنسان عام كذلك ونوع خاص مؤنث. والدين وحده هو الذي يصلح النوع بتحقيق الفضيلة وتقرير الغاية الأخلاقية، وهو الذي يحاجز بين الغريزتين وهو الذي يضع القوة الروحية في طبيعة المتعلم؛ فإن كانت طبيعة التعليم قوية كانت الروحية زيادة في القوة، وإن كانت ضعيفة كما هي الحال في هذه المدنية لم تجمع على التعلم ضعفين يبتلي كلاهما الآخر ويزيده.
فلان وفلان تعلّقا فتاتين جاهلة ومتعلمة؛ وكلتاهما قد صدّت صاحبها وامتنعت منه؛ فأما الجاهلة فيقول (فلانها) إنها كالوحش وإن صدودها ليس صدوداً حسب، بل هو ثورة من فضيلتها وإيمانها، فيها المعنى الحربيّ مجاهداّ ومتحفّزاً للقتل. . . .
وأما المتعلمة فيقول (فلانها) إنها ككل امرأة وإن صدودها ثورة ولكن من دلالها ترضى بها أول ما ترضى وآخر ما ترضى كبرياء الجمال فيها لا الإيمان ولا الفضيلة. فكأنها إيحاء للطامع أن يزيد طمعاً أو يزيد احتيالاً
وفلان هذا يقول لي: إن ضعفاء الإيمان من الشبان المتعلمين - وأكثرهم ضعفاء الإيمان - لو حققت أمرهم وبلوت سرائرهم، لتبيّنت أنهم جميعاً لا يرون قلب الفتاة المتعلمة إلا كالدار
الخالية كتب عليها: (للإيجار). .
يقول كاتب (الطائشة):
أما أنا فقد صحّ عندي أن سياسة أكثر المتعلمات هي سياسة فتح العين حذراً من الشبّان جميعاً وإغماض العين لواحد فقط. . . .
وهذا الواحد هو البلاء كله على الفتاة فإنها بطبيعتها تتقيد ولا تنفصل إلا مكرهة، وهو بطبيعته قيده لذّته فيتصل وينفصل، غير أنها لا بد لها من هذا الواحد، ففكرها المتعلم يوحي إليها بالحياة لا يجعل في ذلك للتنكير عندها، والحياة نصف معانيها النفسية في الصديق؛ فالأنوثة بغيره مظلمة في حياتها راكدة في طباعها ثقيلة على نفسها ما دام (الشعاع) لا يلمسها. .
والدين يأبى أن يكون ذلك الصديق إلا الزوج في شروطه وعهوده كيلا تتقيد المرأة إلا بمن يتقيد بها، والعلم لا يأبى أن يكون الصديق هو الحب؛ والفن يوجب أن يكون هو الحب، وليس في الحب شروط ولا عهود إلا وسائل تختلق لوقتها وأكثرها من الكذب والنفاق والخديعة. ولفظ الحب نفسه لصّ لغويّ خبيث يسرق المعاني التي ليست له وينفق مما يسرق. وليس من امرأة يخادعها عاشق إلا انكشف لها حبه كما ينكشف اللص.
يقول كاتب (الطائشة):
تلك فلسفة لا بد منها في التوطئة للكتابة عن (عزيزتي رغم أنفي). ومن كانت مثلها في أفكارها واستدلالها وحججها وطريقتها ـ كان خليقاً بمن يكتب قصتها أن يجعل القصة من أولها مسلحة. .
لقد تكارهت على بعض ما أرادت مني ما دام الحب (رغم أنفي)، وما دامت السياسة أن أداريها وأتبع محبتها؛ غير إني صارحتها بكلمة شمسية تلمع تحت الشمس؛ إنها الصداقة لا الحب، وإنما هو اللهو البريء لا غيره، وأن ذلك جهد ما أنا قويّ عليه وفيّ به. قالت: فليكن، ولكن صداقة أعلى قليلاً من الصداقة. . . ولو من هذا الحب المتكبر الذي لا يصدق كيلا يكذب. . . إن هذا النوع من الحب يطيش بعقل المرأة ولكنه هو أول ما يستهيمها ويعجبها ويورثها التياع الحنين.
كتبت لي: أنا لا أتألم في هواك بالألم، ولكن بأشياء منك أقلها الألم، ولا أحزن بالحزن،
ولكن بهموم بعضها الحزن، إنك صنعت لي بكاءً ودموعاً وتنهدات، وجعلت لي ظلاماً منك ونوراً منك، يا نهاري وليلي. ترى ما أسم هذا النوع من الصداقة؟
اسمه الحب؟ لا
اسمه الكبرياء؟ لا
اسمه الحنان؟ لا
اسمه حبك أنت، أنت أيها الغامض المتقلب. ألا ترى ألفاظي تبكي، ألا تسمع قلبي يصرخ، بأيّ عدل لك أو بأيّ عدل للناس تريد أن أحيا في عالم شمسه باردة. . . هذا قتل، هذا قتل
فكتبت إليها: إن لم يكن هذا جنوناً إنه لقريب منه
فردّت على هذه الرسالة:
أتكاتبني بأسلوب التلغراف. . . لو أهديت أليّ عقداً من الزمرد حبّاته بعدد من الكلمات لكنت بخيلاً، فكيف وهي ألفاظه؟ إني لأبكي في غمضة واحدة بدموع أكثر عدداً من كلماتك، وهي دموع من آلامي وأحزاني؛ وتلك ألفاظ من لهوك وعبثك.
ما كان ضرّك لو كتبت لي بضعة أسطر من تلغرافات روتر. . . ما دمت تسخر مني أأنت الشباب وأنا الكهولة، فليس لك بالطبيعة إلا الانصراف عني، وليس لي بالطبيعة إلا الحنين إليك؟
لا أدري كيف أحببتها ولا كيف دعتني إليها نفسي، ولكن الذي أعلمه أني تخادعت لها وقلت أن المستحيل هو منع هذا الشر، والممكن هو تخفيفه؛ ثم أقبلت أرثى لها، وأخفف عنها، وأقبلت هي تضاعف لي مكرها وخديعتها، وكان الأمر بيننا كما قالت: في الحب والحرب لا يكون الهجوم هجوماً وفيه رفق أو تراجع.
إن المرأة وحدها هي التي تعرف كيف تقاتل بالصبر والأناة؛ ولا يشبهها في ذلك إلا دهاة المستبدّين
سألتني أن أهدي إليها رسمي؛ فاعتللت عليها بأن قلت لها: إن هذا الرسم سيكون تحت عينيك أنت رسم حبيب، ولكنه تحت الأعين الأخرى سيكون رسم متهم وظننتني أبلغت في الحجة وقطعتها عني؛ فجاءتني من الغد بالبرد المفحم، جاءتني بإحدى صديقاتها لتظهر في الرسم إلى جانبي كأنني من ذوي قرابتها. . . فيكون الرسم رسم صديقتها، ويكون مهدى
منها لا مني، وكأنني فيه حاشية جاءت من عمة أو خالة. . . .
وأصررت على الإباء، ونافرتني القول في ذلك، تردّ عليّ وأردّ عليها، وتغاضبنا وانكسرت حزناً وذهبت باكية؛ ثم تسببت إلى رضاي فرضيت.
حدّثتني أن صديقتها فلانة استطاعت أن تستزير صاحبها فلاناً في مخدعها في دارها بين أهلها منتصف الليل؛ قلت وكيف كان ذلك؟
قالت إنها تحمل شهادة. . . وهي تلتمس عملاً وقد طال عليها؛ فزعمت لذويها أنها عثرت في كتاب كذا رقية من رقي السحر، فتريد أن تتعاطى تجربتها بعد نصف الليل إذا محق القمر؛ وأنها ستطلق البخور وتبقى تحت ضبابته إلى الفجر تهمهم بالأسماء والكلمات، ثم إنها اتّعدت وصاحبها ليوم وأجافت باب دارها ولم تغلقه، وأطلقت البخور في مجمر كبير أثار عاصفة من الدخان المعطّر وجعل مخدعها كمخدع عروس من ملكات التاريخ القديم، وبقي صاحبها تحت الضبابة يهمهم وتهمهم. . ثم خرج في أغباش السحر.
هكذا قالت؛ وما أدري أهو خبر عن تلك الصديقة وفلانها أم هو اقتراح عليّ أنا من (فلانة) لأكون لها عفريت الضبابة. . .؟
لم يخف عليها لذعة حبها وقعت في قلبي، وأن صبرها قد غلب كبريائي، وأن كثرة التلاقي بين رجل وامرأة يطمع أحدهما في الآخرـ لا بد أن ينقل روايتهما إلى فصلها الثاني، ويجعل في التأليف شيئاً منتظراً بطبيعة السياق. . . وإلحاح امرأة على رجل قد خلها وجفا عن صلتها، إنما هو تعرضها للتعقيد الذي في طبيعته الإنسانية. فإن هي صابرته وأمعنت فقلّما يدعها هذا التعقيد من حلّ لمعضلتها. وبمثل هذه العجيبة كان تعقيداً وكان غير مفهوم ولا واضح، وقد ينقلب فيه أشد البغض إلى أشد الحب وقد تعمل فيه حالة من حالات النفس ما لا يعمل السحر. وكذلك يقع للرجل إذا أحب المرأة فنبت عن مودته فعرض للتعقيد الذي في طبيعتها وأمعن وثبت.
رأت الجمرة الأولى في قلبي فأضمرت فيه الثانية حين جاءتني اليوم بكتاب زعمت أن فلاناً أرسله إليها يطارحها الهوى ويبثها له الحنين والتياع الحب، ويقول لها في هذا الكتاب: أنا لم أشرب خمراً قط ولكني لا أراني أنظر إلى مفاتنك ومحاسنك إلا وفي عينيّ الخمر، وفي عقلي السّكر، وفي قلبي العربدة. جعلت لي نظرة سكّير فيها نسيان الدنيا وما
في الدنيا ما عدا الزجاجة. . . ويختمه بهذه العبارة:
آه لو استطعت أن أجعل كلامي في نفسك ناعماً، ساحراً، مسكراً، مثل كلام الشفة للشفة حين تقبلّها. . .
عند هذا وقع الشيء المنتظر في الفصل الثاني من الرواية، وختم هذا الفصل بأول قبلة على شفتي (الممثلة).
قالت: هذه القبلة كانت (غلطة مطبعية) ومضت تسميها كذلك واستمرت الطبعة تغلط. . . وما علمت إلا من بعد أن ذلك الكتاب الذي استوقدت به غيرتي، إنما كان من عملها ومكرها.
وجاءتني اليوم بآبدة من أوابدها، قالت:
أنت رجعي محافظ على التقاليد، قلت لأني أرى هذه التقاليد كالصباح الذي يتكرر كل يوم وهو في كل يوم ضياء ونور
قالت: أو كالمساء الذي يتكرر وهو في كل يوم ظلام وسواد
قلت: ليس هذا إليّ ولا إليك، بل الحكم فيه للنفع أو الضرر
قالت: بل هو إلى الحياة، والحياة اليوم علمية أوربية، والزمن حثيث في تقدمه، وأصحاب (التقاليد) جامدون في موضعهم قد فاتهم الزمن، ولذلك يسمونهم (متأخرين). أما علمت أن الفضيلة قد أصبحت في أوربا زياً قديماً فأخذ المقص يعمل في تهذيبها، يقطع من هنا ويشق من هنا. .
أسمع أيها (المتأخر) وتأمل هذا الرهان الأوربي العصري أخبرتني صديقتي فلانة حاملة شهادة. . . أنها كانت في القطار بين الإسكندرية والقاهرة وكانت معها فتاة من جيرتها تحمل الشهادة الابتدائية؛ فجمعهما السفر بشاب وسيم ظريف يشارك في الأدب، غير أنه رجعيّ (متأخر). وصديقتي تعرف من كل شيء شيئاً، وتأخذ من كل فن بطرف؛ فجرى الحديث بينهما مجراه، وتركت الصديقة نفسها لدواعيها وانطلقت على سجيّتها الظريفة، ووضعت فن لسانها في الكلام فجعلت فيه روح التقبيل، ولم تبلغ إلى القاهرة حتى كانت قد سحرت ذلك (المتأخر) ووقعت من نفسه ودفعته إلى الزمن الذي هو فيه. فلما همت بوداعه سألهما: أين تذهبان؟
فأغضت صاحبة الشهادة الابتدائية، وأطرقت حياء ورأت في السؤال تهمة وريبة، فأنّبتها الصديقة وأيقظتها من حيائها، وقالت لها: ألا تزالين شرقية متأخرة. إن لم يسعدنا الحظ أن تكون لنا حرية المرأة الأوربية في المجتمع وفي أنفسنا؛ أفلا يسعنا أن تكون لنا هذه الحرية ولو في أنفسنا؟
ثمّ ردّت على الشاب فأنبأته بمكانها وعنوانها، فأطمعه ردّها فسألها أن تتنزه معه في بعض الحدائق، فأبت صاحبته الابتدائية ولجت عمايتها الشرقية المتأخرة، ورأت في ذلك مسقطة لها، فلوت إلى دارها وتركتهما إنساناً وإنساناً لا فتى وفتاة، وتنزّها معاً، وعرف الشاب الرجعيّ الحب والخمر التي هي تحية الحب
ولم تستطع الفتاة الماكرة أن ترجع إلى دارها وهي سكرى فأوت إلى فندق، وختمت روايتها بأعراض من الشاب أجابت هي عليه بقولها: ألا زلت (متأخراً). . . . .؟
قالت (الطائشة):
نعم يا عزيزي (المتأخر) إن مذهب المرأة الحرة. . . في الفرق بين الزوج وغير الزوج، أن الأول رجل ثابت، والآخر رجل طارئ. والثابت ثابت معها بحقه هو؛ والطارئ طارئ عليها بحقها هي. . . . فإن كانت حرة فلها حقها. . .
قال كاتب الطائشة: وهنا كاد الشيطان يرفع الستار عن فصل ثالث في هذه الرواية، رواية (الطائشة). . .
نقول نحن: وإلى هنا ينتهي نصف الرواية؛ أما النصف الآخر فيكاد يكون قصة أخرى أسمها: (الطائش والطائشة).
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
كيمياء الأفكار والعواطف
للأستاذ أحمد أمين
كان القدماء يفهمون من (الكيمياء) الإكسير المنشود، الذي إذا عثر عليه وأضيف إلى الزئبق أو الفضة بكمية محدودة، تحت حرارة معينة، انقلب الزئبق أو الفضة ذهباً إبريزاً، وليس يعنينا هنا أن نبين ما أنفق الناس من جهد في الوصول إليه، ولا ما أنفقوا من مال وزمان في سبيل العثور عليه، ولا ما ملئت به كتب الفلسفة الإسلامية من جدل في إمكان ذلك أو إستحالته، إنما يعنينا هنا أن نقول إن العلماء والأدباء نقلوا استعمال هذه الكلمة إلى المعاني بعد أن كانت قاصرة على المادة، فسمى (الغزالي) كتاباً من كتبه (كيمياء السعادة) يعني بذلك الإكسير الروحي الذي إذا عثر عليه الإنسان حظي بسعادة، وقد استعملها ابن الرومي استعمالاً ظريفاً في معنى قريب من هذا، فقال يهجو أبا الصّقر
عَجبَ الناس ' مِنْ أبي الصّقْ
…
رِ إذولّي - بعد الإجارة - الديوانا
إنّ للجَدّ كيمياَء إذا مَا
…
مَسّ كلباً أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء ' كما شا
…
ء متى شاء كائناً ما كانا
ثم سار الزمن الذي يغير كل شيء، فغيّر - فيما غيره - مدلول كلمة (الكيمياء) وجعله قسيماً للطبيعة، فكما أن الطبيعة اختصت بالظواهر التي تغير صفات الأشياء ولا تغير جوهرها، اختصت الكيمياء بدراسة الظواهر التي تغير جوهر الأشياء، فاتسع مدلولها، وصار آخر ما تفكر فيه تحويل المعادن إلى ذهب إن كانت تفكر فيه، والذي أريد أن ألفت إليه النظر في مقالي أن هناك كيمياء في الأفكار والعواطف تشبه تلك التي في المادة، إلا أنها أعقد منها، وأصعب حلاً، وأغمض اكتشافاً - وإلى الآن لم توضع كتب - على ما أعلم - في كيمياء المعاني على كثرة ما وضع في كيمياء المادة - وإن كانت كتب علم النفس أحياناً تمس هذا الموضوع مسّاً رفيقاً.
فلكيمياء الأفكار والعواطف فصول وأبواب لا عداد لها، قد ينطبق عليها في كثير من الأحيان فصول الكيمياء المادية وأبوابها، ففي كيمياء المعاني ترشيح وتبخير وذوبان كالتي في كيمياء المادة، وفيها تبلور وتقطير، وفيها عناصر ومركبات ومخاليط، وفيها أحماض وأملاح وقواعد، وفيها جزيئات وذرات لها أوزان وكثافات - ولها رموز وقوانين أدق من
رموز الكيمياء المادية وقوانينها، ولها معادلات أصعب حلاً وابعد منالاً
هل علمت - مثلا - أن الماء يتكون من غاز الأوكسجين والأيدروجين بنسبة واحد من الأول واثنين من الثاني باعتبار الحجم - فكذلك الشأن في الأفكار والعواطف، فقد يكون لديك فكرة من نوع ما، أو عاطفة من نوع ما، ثم تسمع فكرة من محدث أو تقرأ فكرة في كتاب، وتكون فكرتك من وزن خاص، والفكرة التي سمعتها أو قرأتها من وزن آخر، فتتحد هاتان الفكرتان، وتتولد منها فكرة جديد لا هي من النوع الأول وحده، ولا من النوع الثاني وحده، بل هي نوع خاص، علاقته بالفكرتين كعلاقة الماء بالأوكسجين والأيدروجين
وهل علمت أنك إذا ملأت قارورة ثلثها بالأوكسجين وثلثيها بالهيدروجين ثم قربت فوهتها من لهب تسمع لذلك دوياً هائلاً؟ كذلك الشأن في العواطف، فقد يكون لديك عاطفة من نوع خاص، ثم تسمع خطبة من نوع يناسبها فتنفجر نفسك لهذا الاتحاد انفجاراً هائلاً، وتحس ناراً تملأ نفسك، وتذكى حسك - أو ليس الغضب يحمر وجه صاحبه وتنقدح عيناه، ويجعله يقذف بالكلمات الحادة العنيفة، ولا تهدأ ثائرته حتى ينتقم - ضرباً من ضروب هذا التفاعل الذي يشبه تفاعل الغازين؟ أو ليست الحماسة تدفع الجندي ليرمي بنفسه في خط المار، ولا يقيم للحياة وزناً، أثراً من آثار ما يسمع من كلمات القائد وما يشعر من جو وبيئة؟ أو ليس الحب يذيب النفس، ويرهف الحس، ويملأ القلب أسى حيناً، وفرحاً وغبطة حيناً إلا نوعاً من هذا التفاعل دونه التفاعل المادي، والاتحاد الكيماوي؟
وكل ما تدرك من فرق بين التفاعل المادي والتفاعل الروحي أنا استطعنا أن نخضع المادة لبساطتها فنحلل أجزائها بالكهرباء أو ما أشبهها ونقيس مقدار العنصرين أو العناصر المتحدة، ونعرف مقدار كل منها، ونرصد أثر التفاعل. أما في الأفكار والعواطف فليس الأمر بهذه السهولة، فلكل إنسان آراءه وعواطفه وهي تختلف فيما بينها كل الاختلاف، في جوهرها، وفي قابليتها لأفكار الآخرين وعواطفهم، فقد نلقي الكلمة على عدد محدود من الناس فنشعر بأن أثرها عند كل إنسان يخالف أثرها عند الباقين، كضوء النهار يفتح أعيننا ويغمض عين الخفاش، وقد يقرأ أحد كتاباً فيزعم أنه غيّر مجرى حياته، وقلّب تفكيره رأساً على عقب، وألهمه من المعاني ما استحال بها إنساناً آخر، وأحدث في نفسه ثورة فكرية لم يحدثها أي كتاب غيره، ويقرؤه إنسان آخر فلا يشعر هذا الشعور ولا قريباً منه ولا يحس
له ميزة ولا يجد له طعماً، وهذا بعينه ما يحدث في الأجسام، تقرب عود ثقاب مشتعل من ورق فيشتعل، وتقربه من ثلج فيذوب، وتقربه من رخام فلا يشتعل ولا يذوب، وأؤكد لك أن الرواية تعرض في السينما أو تمثل في المسرح على عدد كبير من الناس تؤثر في كل راء بمقدار لا يتفق تماماً وأثر الباقين، وأن تأثر المشاهدين متعدد بتعدد رؤوسهم. ذلك [ان الرواية وإن كانت واحدة وممثلوها متحدين فإن هناك عاملاً آخر من عوامل الوزن مختلفاً كل الاختلاف، وهو عواطف الرائي وآراؤه، وأن نتيجة التفاعل تختلف دائماً باختلاف أحد الممزوجين المتفاعلين.
إن أردت التوسع في تطبيق هذه النظرية وجدت القول ذا سعة، فالبائع الناجح في المتجر ليس هو الذي يكثر الكلام أو يقل الكلام، وليس هو الخفيف الحركة، ولا هو المهندم الثياب، وإنما هو الذي يعرف شيئاً واحداً ويتقنه وهو (قانون التفاعل) ينظر إلى المشتري نظرة نافذة فيعلم نفسه، ويعلم نواحيها، ويعرف المواضع الحساسة منه، ويعرف في مهارة نقط التأثر عنده، ومقدار الأثر، ثم يستعمل في هذا العرض والكلام وما يتفق وما درسه من نفس المشتري، وإذا بما يصدر من البائع منسب لنفس المشتري ومنفعل معها على نحو خاص، وإذا الصفقة قد تمت في سهولة ويسر، على حين إن زميله ومن بجواره لا يبيع مثل بيعه لأنه يخطأ في فهم نفسية المشتري فيتفاعل تصرفه تفاعلاً عكسياً مع نفسية المشتري، فينتج من ذلك نوع من الغضب أو نوع من الكراهية أو نوع من الغضاضة ينتهي عادة بالأعراض عن الشراء، فإن سألت كيف جهل هذا وعلم ذاك، وأين درس أحدهما ولم يدرس الآخر فنجح الدارس وفشل الجاهل؟ قلت إن هذا الدرس لا يتعلم في المدرسة وإنما يتعلم في السوق، ويتعلمه من حسن استعداده الفطري وغريزته الطبيعية، بل إن شئت طبقة هذه النظرية على كل ناجح وفاشل في الحياة، فالمدرس الناجح من استطاع أن يتعرف نواحي تلاميذه ويعرف ما يلقى وما لا يلقى، وما يقال وما لا يقال، ويصدر منه ما يتفاعل وهذه النفوس، فيصدر من ذلك التفاعل عطف وحنان وحب، ورغبة في المعلم، ورغبة في علمه، ورغبة في ما يقول، وتأثر بما يشير إليه.
وما الأسرة السعيدة؟ وما الأسرة الشقية؟ أليست السعيدة من عرفت فيها الزوجة نفسية زوجها والزوج نفسية زوجته وعمل كل منهما على أن يصدر منه ما يتفاعل ونفس الآخر
حتى ينتج هذا التفاعل تآلفاً، فإذا انحرف أحدهما عن هذا الوجه عن جهل أو عن علم ساء البيت ونشأ تفاعل من جنس آخر نتج عن البغض والكراهية والشقاق. الحق إن هذه كلها معادلات في الكيمياء النفسية تشبه تمام الشبه المعادلات الكيماوية التي تجرب في المعمل، ومع الأسف لم يصل الناس إلى حد بعيد في دراسة هذه الكيمياء النفسية ولم ينشئوا لها المعامل الناجحة نجاح المعامل للكيمياء المادية، والخطأ في النفس كثير الوقوع لصعوبة تعرف الذرّات النفسية وتكوين المعادلات الدقيقة. وإذا أدرك الإنسان هذا التفاعل واختلافه ودقته أدرك خطورته، وخاصة فيمن يتصل مركزه بنفوس كثيرين كالصحفي والأديب، والمعلم والخطيب، والزعيم، فقد يصدر عنه ما ينفعل ونفوس الناس فيكون سماً ناقعاً، وقد ينتج عنه ما يكون دواء ناجعاً.
أحمد أمين
2 - النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزّام
ويقول آخرون أن الترك احتفظوا بالخلافة ما استطاعت قوتهم، ووسعت ثروتهم. فلما نكبتهم الأحداث بما نكبتهم، وضاقت رقعة دولتهم، عجزوا عن الاضطلاع بهذا العبء الثقيل، والتمسك بهذه الأمانة العظيمة فتركوها كارهين.
وجوابنا أن بعض زعماء الترك أشاروا بأن يدعى المسلمون إلى مؤتمر عام ويقال لهم هاكم خلافتكم قد عجزنا عن حملها، فتشاوروا بينكم، وتبينوا أمركم، وسنّوا للخلافة سنة تلائم زمانكم، وتؤاتي أحوالكم. واتفق رجال الحكومة التركية على هذا وأعلموا به عصمت باشا وهو في لوزان. فلماذا نقض أولو الحول منهم ما أبرموه، وسارعوا فنفضوا أيديهم من المسلمين وخلافتهم وآذنوهم أن لا أخوة بيننا وبينكم؟
المسلمون والتقليد
إذا نقدت أمة أمورها، ونظرت في أحوالها، فنفذت إلى بواطنها جهد النظر الثاقب، والروية والفكر، ثم هداها نظرها إلى أن تستبدل سنة بسنة، وحالاً بحال، فتلك أمة رشيدة حميدة وإن أخطأتا الصواب - وقل أن يخطئها - لأنها بذلت جهد الإنسان في تبين الحق، واجتهدت وسعها في إيثار الرشد، ولم تأل في التريث والتمحيص والنقد المتثبت والنظر الصحيح
وإذا أخذت أمة بأسباب التقليد، وأغرمت بالمحاكاة، كلما لاح لها لألاء من أمة عشت إليه، وكلما سمعت نغمة قوم هامت بها، فتلك أمة ضالة وإن نقلت عن غيرها هدى، مخطئة وإن أخذت عن غيرها صواباً. ذلكم بأنها حقرت عقولها، وأغمضت عيونها، وأسلمت إلى يد غيرها أزمّتها؛ لم تنظر لنفسها فتأخذ وتدع ولم تختر بعقلها فتستحسن وتستقبح، بل خبطت خبط عشواء، وانطلقت كالحاطب في الظلماء. هي في ذلك قد أهدرت إنسانيتها بما ألغت إرادتها واختيارها. وإن استمسكت في ظاهرها بما أخذت من نظام، واعتصمت قي رأي العين بما نسخت عن غيرها من سنن، فذلكم ظاهر ليس وراءه باطن، ورواء ليس وراءه حقيقة. تلكم أمة ممسوخة. وقد سمعنا إن أمماً مسخت فأنكرنا، وقيل إنها مسخت قروداً فعجبنا، ثم رأينا عمل بعض الناس في هذا العصر فصدّقنا
قد ابتلى كثير من المسلمين في هذا العصر بداء التقليد، وفشا فيهم خلق العبيد، وحرموا النظرة النقّادة، والعزيمة النفّإذة، والهمّة الخلاقة. رأوا سلاحهم أضعف من سلاح أوربا، وعلمهم أقل، ونظامهم أوهن، فجعلوا ذلك تعلّة إلى نبذ ما عندهم من خلق ودين وحضارة لتتحلل النفس من تكاليف الإنسانية، وتنطلق في بحبوحة هذه المدنية. وزيّن لهم الهوى أن يقيسوا الدين والأخلاق على العلوم والصناعات، فمضوا يرون كل شيء عندهم باطلاً، وكل شيء في أوربا حقاً، فاستحسنوا أن ينبذوا كل ما عندهم ويأخذوا كل ما عند الأوربيين، وخافوا أن يؤخذ عليهم الاستمساك بدينهم وأخلاقهم، فتنافسوا في هجرها وتحقيرها، فما يحافظون على رأي أو خلق إلا أن تأتيهم شهادة عليه من عالم أو كاتب أوربي، بل هم مدينون لأهل أوربا بما عندهم من ظن حسن في حضارة الإسلام وتاريخه، ومن زيّن منهم داره بفرش عربية فإنما يسميها (أربسكا) ويحاكي فيها أهل أوربا وهلم جرا، حتى الأزهريون وهم أبعد الناس عن أوربا آثروا أن يسموا الجامع الأزهر جامعة ليترجموا كلمة وسمّوا كل قسم من أقسامه كلية ليوافقوا كلمة
وكم قلت وقال غيري أن المدنية الخلقية والدينية ليست كالمدنية الصناعية، فالصناعات قائمة على علوم طبيعية لا تختلف فيها الأمم، ولا يمتاز فيها الشرق من الغرب؛ ليست مشتقة من نفس الإنسان، ولا صلة لها بقلبه، فتستطيع أمة أن تأخذ عن غيرها علوم الطبيعة والكيمياء والحساب والفلك ونتائج هذه العلوم في الصناعات دون أن تغير دينها أو تبدل أخلاقها؛ ويستطيع زنجي من السنغال أن يذهب إلى فرنسا فيتعلم الطيران أو يدخل في زمرة الجند فيصير عما قليل في البصر بآلات الطائرات، والدربة على نظام الجيش كالفرنسي، ولكنه لا يستطيع أن يغير أخلاقه وعاداته ويكون فرنسياً في خمسين سنة؛ والحضارة النفسية هي الإنسانية حقاً، والمدنية في صميمها وهي مشتقة من نفوس الأمة تفسد بفسادها وتصلح بصلاحها ذلكم ما ينبغي أن نفكر فيه، ونتوفر على درسه، فإن الأمم لا تصلح على الفوضى، ولا تسيّر بالأهواء والشهوات؛ ذلكم ما يجب أن يعنى به أولو الرأي من المسلمين ليأخذوا بحجز أممهم أن تتهافت في هذا التقليد، وتتردّى في هذه المهالك؛ ذلكم ما يجب أن ينهض به الشعراء والكتّاب، ليضروا في النفوس الذليلة عزة تمنعها المحاكاة العمياء، وكرامة تعصمها أن تسير كالعجماء. من لي في المسلمين بعشرين
رجلاً من كبار النفوس عظماء الهمم، البصيرين بالمدنية الحاضرة، ظاهرها وباطنها، العالمين بحضارة الإسلام جليّها وخفيها، العارفين بأدواء الأمم وأدويتها، لينيروا الطريق في هذه الضلالات المظلمة، والفتن المدلهمة؟ من لي فيهم بعشرين رجلاً كهذا العالم الكبير والشاعر المبدع الذي تنفخ أنفاسه الروح في الأجسام الهامدة، والأمل في القلوب اليائسة، الرجل المبارك محمد إقبال الذي انبعث صوته في الشرق بالحياة والهدى والعزة والكرامة، والطموح إلى العلياء، والسمو بالنفس إلى أعلى درجاتها، تلك النفس الكريمة التي تسيل في شعرها حسرات، وتتطاير في كلماتها زفرات، فما تزال تقدح قلبها لتبعث شرارة بعد أخرى تنير الطريق الحالكة، وتشعل النفوس الخامدة، ذلك الرجل الحر الذي وقف من حضارة أوربا وفلسفتها موقف الناقد البصير، يكشف عن زيوفها ويبين عن بهرجها
كم رأينا فينا علماء وأدباء وشعراء ومتفلسفين، ولكن أكثرهم لا يفكرون ولا ينطقون إلا بما سمعوا وما قرءوا، وهم لا يسمعون ولا يقرأون إلا عن أوربا. ليس فيهم رجل حر يفجر في قلبه من الحياة ينبوعاً، أو يضرم فيه من الغيرة ناراً، ليلقي على كل قلب نضحة من هذا الماء، وفي كل نفس جذوة من هذه النار، إيه يا ضلال التقليد! وعبّاد الأصنام في القرن العشرين!
إن عند المسلمين كنوزاً سفت عليها أعاصير الزمان فترت هممهم، وانطفأت نار الغيرة في نفوسهم، فآثروا الدعة حتى يأتي أهل أوربا يدلونهم عليها ويستخرجونها لهم! وإن عندهم لنفائس تنادي هممهم وعزائمهم، ولكنهم يؤثرون أن يتلقوا عن أوربا أشياء مهيأة في علب مذهّبة! ومن ركن إلى الدعة ذلّ، ومن آثر اليسير من الأمور وأشفق من لقاء المصاعب فهو حيّ أشبه بميت؛ وإليكم مثلاً من مئات:
لنا شريعة جاء بها القرآن والسنة وعملت فيها قرائح المسلمين بحثاً واستنباطاً ثلاثة عشر قرناً. فما بقيت واقعة إنسانية إلا اشتق لها حكم يلائم الزمان والمكان، فصارت هذه الشريعة جماع تجارب الأمم في عصور مختلفة وبلاد كثيرة. فلما أراد المصريّون أن ينظموا القضاء عجزوا عن النظر في هذه الكنوز المدخرة، وأشفقوا من الاضطلاع بهذا العبء الثقيل، فأجلسوا نفراً يترجمون لهم قانون نابليون، فتهيأ لنا قانون مختصر مرتب مفصل، وأصبحنا نجاري فرنسا في نظامها، فقد طوينا مسألة القرون في أشهر قليلة. وماذا علينا
بعد ذلك أن يكون هذا القانون في دين الأمة نكراً، وفي أخلاقها شذوذاً، وفي أفكارها أعجوبة، وفي جسمها شللاً، وفي نفسها موتاً؟ لا ضير فقد أخذنا قانون نابليون وناهيك بذلك فخراً وتمدناً. . .
لو أن في المسلمين أناسّ يستوحون عقولهم ويستفتون قلوبهم لخلقوا لأنفسهم نظاماً، وشرعوا لأنفسهم من دينهم قانوناً، لو أنهم أصحاب همم لسلطوا هممهم على الزمان فأسرته، ثم صرفته طوع المشيئة، ورهن الإرادة، ولما لبثوا يتعللون بالعصر ومقتضياته والزمان وفرائضه، فإن الرجل الحر سيد الزمان والمكان يسخرهما ولا يذل لهما. أين العزائم التي تلقي الزمان بملء خطوبه هيبة، وترد أحداثه بأشد منها صولة؟ آمين ثم آمين. . .
ومما أخذ فيه المسلمون بتقليد أوربا غلوهم في النعرات القومية، والتكاثر بالمفاخر التاريخية، واعتزاز كل فريق بمآثره الجاهلية، كأنهم لم يكونوا على الأحداث أعواناً، ولم يلبثوا أربعة عشر قرناً إخواناً!! قيل للمصريين: أنتم أبناء الفراعين فارجعوا إلى حضارة المصريين القدماء، واعبدوا العجل لتكونوا بذلك شهداء. وقيل لأهل الشام: وأنتم يا بني الفينيقيين تمسكوا بتاريخ الأقدمين، وائتوا بآبائكم إن كنتم صادقين! وقيل للفرس: يا بني الأكاسرة لقد فتح العرب بلادكم، وأزالوا ملككم، وفرضوا دينهم عليكم فانقضوا أيديكم من أخونهم، وردّوا إليهم دينهم، وارجعوا إلى زردشت وإن لم تعرفوه، واقرءوا كتابه وإن لم تفهموه، فالباطل الإيراني خير من الحق العربي! وقيل للترك! وأنتم يا سلالة جنكيز المقدس، وعبدة الذئب الأطلس، قد كانت لكم في سيبريه حضارة، ثم كانت لكم في قره قروم دولة، فارتدوا إلى حضارتكم الأولى، وانزعوا إلى وثنياتكم القدامى، ودعوا مجدكم في الإسلام، واكفروا بمآثره عليكم، ومآثر آبائكم في تاريخه
دعيت كل أمة إلى جاهليتها، فذهب المسلمون ينبشون القبور ليعتزوا بحجر قديم وعظم رميم، ويفخروا بعلامة من حضارة، أو آثارة من مدنية، وغفلوا عن مجدهم في الإسلام يرجف به المشرق والمغرب، وتضيء به الشمس والقمر. وليس أمة إسلامية ذات مجد في الجاهلية إلا مجدها في الإسلام أبهى وأبهر، وأعلى وأعظم، ولكنها عصبيات الجاهلية، والفتن الأوربية، تركس الإنسان في بهيميّته، وتردّه إلى وحشيته
بينما يجهد عقلاء المسلمون لإيقاظهم من رقدتهم، ويحرقون أنفسهم لإشعال الحياة فيهم، إذا (النهضة التركية الأخيرة) فقلنا حياة في المسلمين جديدة، ويقظة لا تلبث أن تصير شاملة. قلنا أولئك إخواننا زعماء المسلمين ينفخون في الصور، ليبعثوهم من القبور؛ لعل هذه النفوس الكبيرة تخلق أمة جديدة، أو تخترع لنا سنّة رشيدة، تصل عزة الماضي بمجد المستقبل وتذهب بذل الحاضر؛ إن يخلقوا فالرجل الحر خلاق، وإن يسبقوا فالكريم إلى المعالي سباق - لا ريب إننا سنرى فيهم عمر بن الخطاب، وهارون الرشيد، وعبد الرحمن الناصر، وصلاح الدين الأيوبي، وسليمان القانوني، ولكن في القرن العشرين يفتحون صدورهم لعلومه، ويتوسلون بوسائله إلى الغايات الشريفة والمثل العليا التي سعى إليها المسلمون من قبل. ثم نظرنا فإذا نفخة الصور، لا تدعوا إلى النشور، وإذا الهمم العالية تسف، والعزائم الماضية تهن، وإذا حياة تجفل من نفسها وتعتز بغيرها، وإذا نهضة من المحاكاة عليلة، وخطة من التقليد ذليلة، قصاراها:(اقطع كل من يربطك بالإسلام وأممه، وأحكم كل ما يصلك بأوربا وسننها) فانظر ماذا صنعوا إنفاذاً لهذه الخطة:
(له بقية)
عبد الوهاب عزام
1 - شمس الدين السخاوي
حياته وتراثه
للأستاذ محمد عبد الله عنان
أتيحت لي في الأعوام الأخيرة فرصة لدراسة شخصية بارزة تتبوأ مكانة رفيعة في آداب مصر الإسلامية، وفي الآداب العربية بوجه عام، وتمثل وحدها مدرسة فكرية زاهرة، وتمتد عبقريتها الشاملة إلى عدة نواح وفنون مختلفة، وما زال تراثها إلى اليوم يكون مجموعة قوية حافلة في تراث الأدب العربي والتفكير الإسلامي
أريد بتلك الشخصية، شمس الدين السخاوي الذي تملأ شخصيته الحركة الأدبية المصرية زهاء نصف قرن
كان السخاوي إحدى هذه العبقريات الأدبية التي تفتحت بمصر في القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) واختتمت بها مصر الإسلامية حياة أدبية باهرة سطعت مدى قرنين؛ وكان ظهوره في النصف الأخير من هذا القرن، حينما أخذت عوامل الانحلال تفت في هذا الصرح الباذخ الذي شادته دول السلاطين بمصر، وأخذت الحركة الأدبية التي كانت في النصف الأول من القرن التاسع في أوج عنفها وازدهارها، تميل إلى الضعف والسقم، وتستبدل ألوانها القوية الساطعة بألوان سطحية باهتة؛ فكان ظهور السخاوي وتلميذه ومنافسه السيوطي في أواخر هذا القرن نفثة أخيرة من نفثات هذه الحركة القوية التي لم تلبث أن خبت بعد ذلك وانهارت أمام الفتح العثماني
- 1 -
ومن حسن الطالع إننا نستطيع أن ندرس شخصية السخاوي على ضوء حسن؛ فلدينا أولاً معظم آثاره نقرأ فيها خواص تفكيره وأدبه؛ ولدينا ترجمته لنفسه وعدة أخرى من التراجم المعاصرة، نتتبع فيها حوادث حياته وظروف تكوينه
ولد السخاوي، كما يحدثنا في ترجمته لنفسه، بمدينة القاهرة، بحارة بهاء الدين، في ربيع الأول سنة831 هـ (1428م) في أسرة أصلها من بلدة سخا من أعمال الغربية، واستقرت في القاهرة قبل ذلك بجيلين. وهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان،
شمس الدين أبو الخير السخاوي؛ ولما بلغ الرابعة من عمره تحولت أسرته إلى منزل جديد في نفس الحي اشتراه أبوه؛ وكان موقعه بجوار دار علامة العصر الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ وكان لهذا الجوار أكبر أثر في حياة السخاوي، كما سنرى. وأنفق السخاوي بضعة أعوام في المكتب وحفظ القرآن؛ ثم أخذ يطوف بأشياخ العصر يتلقى عنهم مختلف العلوم والفنون؛ ودرس النحو والعروض واللغة والفقه والحساب والميقات والأصول والبيان والتفسير والمنطق؛ وهنا يعدد لنا السخاوي ثبت أساتذته وما أخذه عن كل منهم، وما درسه من مختلف الكتب؛ وتجلت مواهبه ومقدرته بسرعة مدهشة؛ وأجاز له الكثيرون من شيوخه، بل أجازوا له الإفتاء ولما يبلغ العشرين بعد
وقد كان ابن حجر في مقدمة أساتذته؛ وكان ذلك الجوار الذي رتبته ظروف الحياة مبعث هذه الصلة الوثيقة التي استمرت مدى الحياة بين الأستاذ وتلميذه، والتي بثت غير بعيد إلى نفس الفتى نوعاً من العبادة الروحية لهذا الذي كان يعتبر يومئذ إمام الأئمة وقطب العلماء والباحثين. والواقع إن ابن حجر كان يتبوأ يومئذ مركز الزاعمة العلمية في مصر الإسلامية، وكان في ذروة نضجه ومجده، وقد انتهت إليه الرياسة في معظم علوم العصر، ولا سيما الحديث والشريعة. وكان بدء اتصال السخاوي بأستاذه في سنة 838هـ، أعني وهو طفل لم يجاوز الثامنة؛ وكان يذهب مع أبيه ليلاً إلى مجالس الشيخ فيستمع إلى دروسه في الحديث. ويصف لنا السخاوي علاقته بأستاذه في عبارات مؤثرة تنم عما كان لهذه العلاقة من عظيم الأثر في تكوينه فيقول متحدثاً عن نفسه:(وقبل ذلك كله سمع مع والده ليلاً الكثير من الحديث على شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته، فلازم مجلسه، وعادت عليه بركته في هذا الشأن. وأقبل عليه بكليته إقبالاً يزيد على الوصف بحيث تقلل ما عداه. . . وداوم الملازمة لشيخه حتى حمل عنه علماً جماً، واختص به كثيراً بحيث كان من أكثر الآخذين عنه؛ وأعانه على ذلك قرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر. . . وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. وعلم شدّة حرصه على ذلك فكان يرسل خلفه أحياناً بعض خدمه لمنزله؛ يأمره للمجيء للقراءة)
وهنا يفيض السخاوي في ذكر الكتب والمتون التي قرأها ودرسها على شيخه ابن حجر،
سواء من تصنيفه أو تصنيف غيره، ومعظمها في الحديث، ودرس عليه أيضاً التاريخ والتراجم؛ ودرس في الوقت نفسه على كثير من شيوخ العصر؛ ويعدد لنا السخاوي كثيراً من شيوخه ويقول لنا انهم بلغوا أكثر من أربعمائة؛ بيد أن ابن حجر كان دائماً إمامه وشيخه المفضل، وقد أذن له غير بعيد في الإقراء والإفادة والتصنيف؛ ويقول لنا السخاوي إنه لم ينفك عن ملازمة أستاذه، ولا عدل له بملازمة غيره من علماء الفنون خوفاً على نقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية بل ولا حج إلا بعد وفاته؛ لكنه حمل عن شيوخ مصر الواردين إليها كثيراً، وفي الأوقات التي لا تعارض وأوقاته سيما حين اشتغاله بالقضاء وتوابعه). وقد لبثت هذه العلاقة الوثيقة بين التلميذ وشيخه حتى توفى ابن حجر في أواخر سنة 852هـ
وهنا تبدأ المرحلة الثانية في حياة السخاوي؛ وهي مرحلة درس وتحصيل أيضاً ولكن خارج مصر. وكان السخاوي يومئذ في الثانية والعشرين من عمره؛ ولكنه كان رغم حداثته قد برز في كثير من العلوم التي تلقاها؛ وكان قد استأثر في هذه الأعوام الطويلة التي قضاها إلى جانب ابن حجر بكثير من علمه ومعارفه، وتأثر أعظم تأثير بأساليبه ومناهجه؛ بل نستطيع أن نقول أن السخاوي كان بعد ابن حجر، مستودع علمه وتراثه، وكان أشد تلاميذه تمثيلاً لمدرسته؛ بل كان بعد شيخه زعيم هذه المدرسة وأستاذها القوي يرفع لواءها ويحمل مناهجها حتى خاتمة القرن التاسع؛ وقد أشار ابن حجر نفسه في أواخر أيامه إلى تلك الحقيقة، وكثيرا ما وصف السخاوي بأنه (أمثل جماعته) أو (ممثل جماعته)
وسافر السخاوي عقب وفاة أستاذه إلى دمياط ودرس على شيوخها حيناً؛ ثم سافر مع والدته بحراً إلى مكة ليؤدّي فريضة الحج؛ وانتهز هذه الفرصة فدرس على شيوخ مكة والمدينة، وطاف بالبقاع والمشاهد المقدسة كلها؛ ثم عاد إلى مصر، وسافر إلى الإسكندرية وقرأ بها مدى حين؛ وزار معظم عواصم الوجه البحري وقرأ على شيوخها الأعلام جميعاً، وحصل كثيراً من الفوائد والمعارف. ثم رأى أن يقوم برحلة إلى الشام ليزور معاهدها، ويتعرف بشيوخها؛ فسافر إلى فلسطين وطاف بيت المقدس والخليل ونابلس؛ ثم قصد إلى الشام، وزار دمشق وحمص وحماه، ثم استقر حيناً في حلب؛ كل ذلك وهو يدرس ويقرأ على أعلام هذه العواصم؛ ويقول لنا إنه (اجتمع له في هذه الرحلة من الروايات بالسماع
والقراءة ما يفوق الوصف)؛ ويبدو من تعداده للكتب التي درسها وقرأها في هذا الطواف، إنه كان يعنى بدراسة الحديث والقراءة والنحو والفقه وعلوم البلاغة والتصوّف. ولم يعين السخاوي لنا تواريخ تنقلاته في هذه الرحلة، ولكن الظاهر إنها استغرقت بضعة أعوام.
ولما عاد السخاوي إلى مصر، عكف على التدريس، ولا سيما تدريس الحديث، أحياناً بمنزله، وأحياناً بخانقاه (معهد) الصوفية المعروف بسعيد السعداء؛ وكذا انتدب في أوقات مختلفة للتدريس في أعظم مدارس القاهرة كدار الحديث الكاملية والصرغتمشية، والظاهرية، والبرقوقية، والفاضلية وغيرها، وذاع صيته وأقبل عليه الطلاب من كل صوب. وفي سنة 870 هـ - سافر مع أسرته - وكان قد تزوج يومئذ ورزق بعض الأولاد كما يفهم ذلك من إشارته إلى مولد ولده أحمد - ومع والده وأكبر أخويه إلى الحج للمرة الثانية؛ وصحبه أيضاً في تلك الرحلة صديقه وأستاذه والنجم بن فهد الهاشمي - وكان من أعلام العصر. ودرس بمكة مدى حين، وقرأ بالمسجد الحرام بعض تصانيفه وتصانيف غيره. ولما عاد إلى القاهرة استأنف دروسه وإملاءاته؛ وتبوأ مركز الزعامة يومئذ في علم الحديث، وشغل فيه نفس المركز الذي كان يشغله فيه أستاذه ابن حجر قبل ذلك بثلاثين عاماً
ثم حج السخاوي للمرة الثالثة في سنة 885هـ، وقضى بمكة عاماً في التدريس والدرس؛ ثم حج سنة 87 وقضى ثمة حين في الدرس والإقراء؛ وحج للمرة الخامسة في سنة 92هـ وقضى ثمة عاماً آخر في الدرس والإقراء؛ ثمّ حج في سنة 94، وقرأ الكثير من دروسه وتصانيفه، وغدت مكة وطناً ثانياً له؛ وكتب بها كثيراً من مؤلفاته كما سنرى
ولما عاد إلى القاهرة في سنة ثمان وتسعين (898هـ) استقر بمنزله، وأبى الدرس والإقراء في المعاهد والحلقات العامة (ترفعاً عن مزاحمة الأدعياء) حسب قوله، وترك الإفتاء أيضاً واكتفى بالإقراء في منزله لخاصة تلاميذه؛ وكان السخاوي قد اشرف يومئذ على السبعين من عمره، ولكنه استمر منكباً على الدرس والتأليف؛ وكانت قد انتهت إليه الرياسة يومئذ في معظم علوم عصره، ولا سيما الحديث، حتى قيل أنه فاق شيخه ابن حجر في ميدانه، وانتهى إليه فن الجرح والتعذيب، حتى قيل لم يبلغ أحد مكانته فيه منذ الحافظ الذهبي؛ وكانت شهرته قد تعدت حدود مصر منذ بعيد وذاعت في أنحاء العالم الإسلامي،
ولا سيما في الشام والحجاز حيث تلقى عليه مئات العلماء والطلاب؛ ولبث السخاوي رغم مكانته العلمية الرفيعة ونفوذه القوي بعيداً عن ميدان السياسة ودسائس البلاط والمناصب الرسمية؛ واقترح عليه صديقه الأمير يشبك الداوادار أن يقرأ التاريخ بمجلس السلطان الظاهر خشقدم فأبى؛ ثم عرض عليه أن يتولّى القضاء بعد ذلك، فاعتذر وأشار بتعيين خصمه ومنافسه السيوطي رغم ما كان بينهما من الخصومات الأدبية الشهيرة
وأقام السخاوي حيناً في القاهرة؛ ثم سافر إلى مكة ليحج للمرة السابعة؛ وعكف بعد أداء الفريضة على الإقراء والدرس، وتردد حيناً بين مكة والمدينة؛ ثم استقر أخيراً بالمدينة؛ واستمر في الإقراء بها حتى توفّى في 13ذي القعدة سنة 902هـ (1497م) في الحادية والسبعين من عمره.
(للبحث بقية)
محمد عبد الله عنان المحامي
مكتبتي
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
مكتبتي شيء عظيم جدا ً - ولست أعني إنها كبيرة ضخمة، وإن في خزاناتي آلافاً مؤلفة من المطبوع والمخطوط، فما عندي مخطوط واحد، ولا ولوع لي بجمع هذا الضرب من الكتب، وما يمكن أن تبلغ كتبي الآلاف بعد أن احتجت أن أبيع منها مرات، وإني لمجنون بالكتب، ولكن جنوني بما فيها لا بأشكالها وألوانها على رفوفها. وقد اعتدت ألا أبالي أن يبقى الكتاب عندي بعد أن أقرأه أو أن يذهب، ولم أكن كذلك، ولكن المرء مما تعود. على أنه سيان أن أتحفظ بالكتاب وأن أبيعه كما اشتريته، أو أهبه، فما إلى الوصول إليه سبيل في هذه الخزانات، ولأهون عليّ أن أشتري منه نسخة أخرى من أن أهتدي إلى موضعه وأعرف أين اختبأ. ومتى كان هذا هكذا، فما حرصي على كتاب يحاورني ويهرب مني وأنا أدور بعيني على الرفوف؟؟ وليس أثقل عليّ، ولا أشقّ على نفسي من الإقامة في بيت واحد زمناً طويلاً، ولو وكل الأمر لاختياري لاتخذت كل يوم بيتاً، ولكن الكتب راضتني على السكون وردتني على مكروهي، فأنا الآن كالمقعد لا أكاد أتحول، إلا أن أحمل على انتقالي حملاً؛ ذلك إني كلما سكنت بيتاً أروح أتخير للكتب أوسع الحجرات وأكثرها شمساً وهواء، ثم أقول دعوا الصناديق والغرارات حتى افتحها وأخرج ما فيها وأرتبه بنفسي، فتترك شهوراً، تنقلب الحجرة في خلالها مزبلة، فيتبرم أهلي ويلحون عليّ على أن أفرغ الصناديق،
فأقول: (لا بأس. موافق)
فتسألني زوجتي: (ومتى تفعل؟)
فأعدها خيراً، فتلح عليّ، فأؤكد لها إني فاعل ذلك غداً إن شاء الله
فتقول: (إن شاء الله معناها عندك إنك لن تفعل أبداً)
فأقول: (أستغفر الله يا امرأة! إن شاء الله يعني إن شاء الله، أليس كذلك؟)
فتقول: (ولكني أريد تنظيف الغرفة! ألا ترى هذا التراب؟)
فأقول: (صحيح! كثير) لأني أحب أن أقرأ بالحق وأكره المكابرة، فتهمل الثناء على ذلك وتقول:(وهذه الصراصير؟ والفئران؟ لا. لم يعد هذا بيتاً يسكن)
فأقول: (ألا أقول لك وأريحك؟)
فتقبل عليّ مسرورة وتسألني: (ماذا؟)
فأقول: (أفرغي أنت الصناديق، ورصي الكتب على الرفوف - عليّ أي ترتيب - وارفعي التراب، واقتلي الصراصير، وطاردي الفيران - وعلى الجملة نظفي الغرفة - هيه؟ ما قولك؟)
فتوافق، وأعود من عملي فألقي المكان نظيفاً، فلا فيران ولا صراصير ولا تراب، ولا صناديق، ولكني أحتاج إلى أن أرجع إلى كتاب، فأفتح خزانة بعد أخرى وأنظر إلى ما تكدّس على رفوفها فأرتد يائساً وأصيح بزوجتي:(يا امرأة! أين وضعت ابن الرومي؟) مثلاً!
فتقول: (عندك بالطرد) فأسألها: (أواثقة أنت أنك لم تضعيه في المطبخ؟)
فتقول محتجّة: (المطبخ؟ كيف تقول هذا؟ أهذا جزاءي على تعبي؟)
فأقول: (معذرة، ولكني لا أراه هنا) فتقول: (ابحث عنه) فأبحث - أعني إني أروح أخرج من الخزانة صفاً بعد صف، وأضع ما أخرج على الأرض هنا وههنا، حتى تخور قواي، وينفذ صبري، ويهي جلدي، وأنظر إلى ما فرشت به الأرض فأجزع، وأغافلها - أعني زوجتي - وأتسلل خارجاً، وأرد الباب ورائي حتى لا ترى شيئاً وأعود في الليل، وفي ظنّي إنها نائمة، وفي عزمي أن أعيد الكتب إلى الرفوف، فأفتح الباب برفق، فإذا الكتب قد وثبت بقدرة ربك، وصفت نفسها على الرفوف، وتزاحمت، ودخل بعضها في بعض - خوفاً من الفئران ولا شك! فأتنفس الصعداء وأفرك كفّي، وأقول:(الحمد لله! يا ما أكرمك يا رب!)
وإذا بزوجتي تقول: (وأخرتها معاك! ألا يمكن أن تعيد كتاباً إلى موضعه بعد إخراجه؟ ألا بدء أن ينشف ريقي كل يوم بسبب هذه الكتب؟ شيء غريب والله! كيف ومتى يمكن أن أفرغ للبيت إذا كانت هذه الغرفة همّاً لا ينقضي؟ وأحب مرة أخرى أن أقرأ في كتاب، فأدخل الغرفة، فتدخل ورائي تجري، وتتناول ذراعي وتشدني فأستغرب وأسالها (ماذا؟)
فتقول بحدة (ماذا أنت؟) فيزيد عجبي وقول: (ماذا أنا؟ ألا تعرفين ماذا أنا؟ سيدك يا ستي!)
فتقول وهي تجاهد أن تعبّس، والضحك يغالبها:(دع المزاح الآن! ماذا تريد أن تصنع؟)
فأقول: (شيء جميل! وكيف يعنيك هذا يا امرأة؟)
فتقول: (يعنيني مصير الغرفة - هذا ما يعنيني يا سيدي - ولست أنوي أن أدعك تقلبها مزبلة فقد ورمت كفاي من العمل فيها)
فأقول: (وماذا تصنع هذه العجوز؟ تأكل وتشرب فقط وتقبض أجرها آخر الشهر؛ وهذه الفتاة الخفيفة لماذا لا أراها تعمل شيئاً غير اللعب مع الأولاد؟ وتلك الثالثة. . . أهو بيت أم دكّان مخدم؟ أريد أن أعرف هذا أولاً)
فتقول: (لا تحاور. إن الكتب لا يمسّها غيري، فإني أخاف عليها التمزيق. .) فأشكرها،
فتقول: (العفو! ولكني أخاف منك على الغرفة فاصنع معروفاً وارجع عنها)
فأسألها: (ولكن كيف أرجع وأنا أريد كتاباً؟)
فتقول: (لا تتعبني. . . من فضلك. . . أرجوك) فأشعر لها برقّة وأقول: (يا امرأة! هل استطعت قط أن أرفض لك رجاء!؟) وأتبعها، وأنصرف عن الكتب والقراءة، وأعزي نفسي بأني كنت سأنصرف لا محال عن ذلك مرغماً، فما أطمع أن أجد كتاباً أطلبه من هنا صار المعقول إني إذا اشتهيت أن أقرأ كتاباً أو أرد أن أراجعه، أن أشتريه، وقد أشتريه، وأضعه على المكتب إلى المساء، فتراه زوجتي فتفتح خزانة وتدسه في صف، وأعرف ما صنعت به، فأشتري نسخة أخرى، ومن أجل هذا أيضاً صار عندي من بعض الكتب ثلاث نسخ أو أكثر.
وقال لي أخي مرة: (يحسن أن ترتب هذه الكتب)
قلت: (يا أخي، كيف أصنع؟)
قال: (أجيئك ببطاقات، تكتب فيها أسماء الكتب مرتبة على حروف المعجم، فإذا طلبت كتاباً، راجعت البطاقات، فسهل عليك إخراجه)
قلت: (رأي سديد - هات البطاقات) فجاءني ببضع مئات منها، ودفع بها إليّ، فنظرت إليها وشكرته ثم قلت له:(أما البطاقات فجاءت، وأما الكتابة فيها فأحسبها تقتضي أن أخرج الكتب واحداً واحداً، وأقيّد أسماؤها، ثم. . .)
فصاحت زوجتي: (لا لا لا لا! أرجو. . . أرجو ألا تفعل. . .)
فالتفت إليها وقلت: (يا امرأة! كيف ترضين عن هذه الفوضى؟ بل لا بد من الترتيب)
فقالت: (أنا واثقة أن الكتب لن ترتّب. وكل ما يحصل هو أن تخرجها وتكوّمها على الأرض وتتركها، فيغطّيها التراب، وتجتمع عليها الصراصير، فأعود إلى نفض التراب وطرد الصراصير. . . لا يا سيّدي! لن أسمح بهذا أبداً!) فنظرت إلى أخي وقلت: (أتسمع؟ إنها لا تسمح! فما رأيك؟)
قال: (الحق معها. ولو كنت أنا مكانها. . .) فلم أدعه يتم الجملة وصحت به: (أعوذ بالله!) فشكرني، وقال (إنما أعني. . .) فعدت إلى مقاطعته وقلت:(دع ما تعنيه، من فضلك، وحسبك إنك نغصت على حياتي!) فدهش وقال: (كيف؟)
قلت: (سأرى وجهك بعد الآن كلما نظرت إلى امرأتي. . . أعوذ بالله. . . يا ساتر يا رب. لطفك اللهم!) وقد حرصت على البطاقات، لأقيّد فيها أسماء الكتب مرتّبة على حروف المعجم، فما من هذا مفر، ولكن العقدة إن زوجتي تؤثّر الترتيب الحالي، وقد بلغ من رضاها عنه وخوفها عليه أن يضطرب أو يفسد، إنها أخفت مفاتيح الخزانات لا أدري أين؟ بارك الله فيها - أعني لا الخزانات.
إبراهيم عبد القادر المازني
ساعة في البقيع
للأستاذ علي الطنطاوي
خرجنا إليه في صفرة الطفل، وقد سكرت الريح، وسجى المساء. وكان اليوم روحاً، فما تجاوزنا أزقّة المدينة الضيّقة الملتوية وبدا لنا سور البقيع الهائل الذي أقاموه في وجه مدينة الموت كيلا تبتلع مدينة الحياة. . . حتى هبّت الرياح لواقح، فأنشأت سحاباً ما لبث أن أكفهر وتطخطخ وعمّ السماء، فأظلمت الأرض واسودّت، وعادت كئيبة تملأ النفس غمّاً. وكنّا قد بلغنا البقيع، فرأيته موحّشاً مظلماً رهيباً:(قاتم الأعماق خاوي المخترق) وشممت منه رائحة الموت، فتهيبت دخوله في هذه الأمسية، وأزمعت العودة، ولكن صاحبي أصرّ عليّ وشجّعني، ثم أخذ بيدي فإذا أنا وراء السور، وإذا ساح فسيحة، ممتدّة الجوانب، مظلمة الأرجاء، ساكنة سكون الموت، ليس فيها بناء ولا قبّة ولا تابوت، كأنما لم يسمح لبشر أن ينصّب في حرم الموت معالم الحياة، أو يدنس دار البقاء بشارات الفناء. . . فأغمضت عيني، وشددت على ذراع صاحبي، وجعلت أدنو منه لما أجد من الوحشة وأحس من الجزع، وما عاهدتني من قبل أعرف الخوف أو أدري ما الجزع، فسار بي يقودني حتى هبط بي غوراّ عميقاً، حال بيني وبين الفضاء، وحجب عنّي السور الذي كنت أراه فأنس برؤيته، وأذكر إنها لا تزال وراءه دنيا حافلة بالنور والجمال والحياة. . . فلم أعد أرى شيئاً، وأمحت من خيالي كل صورة، وطارت من رأسي كل فكرة، إلا فكرة الفناء، وصورة الموت، وأحسست وأنا أهبطه إني هابط إلى القبر! وخيّل إلى إن أشباح الموتى ترقص من حولي، وتدنو مني وتمسّني وتهم بعناقي، فتقف كل شعرة في جسمي، ويزداد قلبي خفقاناً، وتتخاذل ركبتاي حتى أهم بالسقوط، ويطن في أذني صوت رهيب مستطيل يلقى في روعي إنه نشيد الفناء. . . وكان كل ما يحف بي مخيفاً رائعاً، فالقبور، والظلام الشامل، والسكون العميق، والسماء التي لا تطرف فيها من النجم عين، والمكان الذي لا تبلغه نسمة من نسمات الحياة، وجلال الموت، كل أولئك كان يخيفني، ويصب في قلبي الوحشة والفزع. . . ثم صاحت بومة على سور المقبرة. . . فاستمسكت بصاحبي وقلت: عد ويحك!
قال: كيف أعود وقد بدأت الزيارة. . . هذا قبر عثمان! وكأن ذكر عثمان قد رجّع إلي
نفسي، فنظرت فلم أجد قبراً ولا شيئاً يشبه القبر، وإنما وجدت حجارة صغيرة قد صففت على وجه الأرض، وفرشت من حولها رمال حمراء ناعمة، كحوض أعدّ لزرع فيه الورود، فقلت: أتهزأ بي يا. . .
قال: لا والله. ولكنّي أقول الحق. هذا قبر عثمان
قلت: يا لسخرية القدر! أتحرثون موضع قبر عثمان أمير المؤمنين لتزرعوا فيه الورود؟
قال: أي ورود؟ كل القبور هكذا. . .
قلت: لعلّك أخطأت القبر. اذهب فاقرأ اسمه
قال: قد طمست الأسماء، فما عليه من أسم. ولكن ثق إنه هو. أعرفه من هذه الغضاة!، أشار إلى غضاة قريبة منه لا أدري كيف دخلت حرم الموت فأنست بها. وذكرني الغضى دنيا مليئة بالصور، مترعة بالحياة نفت عني بعض ما أنا فيه من الغربة والجزع، فقلت: وكيف تعرف غيره من القبور؟
قال: ما أعرف إلا قبور آل البيت، وقد كنت أعرف قبر مالك فاختلط على ونبيسته، ولكن يعرفه إذا شئت (العم حمد) خادم المقبرة، وبعض الشيوخ من أهل المدينة. . .
وانقطع الحديث فقد استشرى البرق وائتلق، ورعدت السماء، ثم هطلت بمطر بعاق قشرة وجه الأرض. وجعل فيها بركاً وأنهاراً، فلم نجد شيئاً يعصمنا من الماء نأوي إليه، إلا هذه الغضاة وما تكاد تعصمنا. . . والمطر في الحجاز أعجب شيء رأيته: فبيّنا الشمس طالعة، والأرض متسعرة، واليوم خدر عصب، وإذا السماء قد تلبّدت بالغيوم، ودوت بالرعد، والأمطار قد نزلت كأفواه القرب، واليوم قد عاد قرّاً بارداً، ثم لا تلبث حتى تنجلي السحب، وتصحو السماء، فتنظر فإذا الأرض قد بدّلت غير الأرض، وإذا السيول قد جرفت البيوت، وخرّبت الطرق، وطمّست المعالم، كما يطمس سطر سال عليه ماء. . . ولقد ضنناها سحابة صيف ولكنّها لم تنقشع، ولم تزدد الأمطار إلا شدّة وتهطّلاً، ولم يزدد الرعد إلا قعقعة وقصيفاً، حتى كأن الدنيا مجنونة، عاودتها نوبتها، فهي تصرخ وتقفز وتمزّق ثوبها بيدها، وتشق حنجرتها بصراخها. . . بيد إني لم أكن أحفل بالبرد ولا بالمطر، ولم أكن أذكر الخوف ولا الجزع، ولم أكن أفكر إلا في هؤلاء الأبطال الذين فتحوا الدنيا، وملكوا العالم، ثم ظنّوا عليها بقبر يعرف، أو اسم يقرأ، أفكر في هؤلاء العظماء. . .
كم انحنت تحت أقدامهم هام الجلاميد الصم حتى وطئوها، كم استكانت لهم هذه الرمال الهائلة حتى قطعوها، كم دانت لهم البادية المهلكة حتى جابوها، ليخرجوا منها فاتحين إلى أرض الرياض والعيون، فيبلغوها رسالة الصحراء، وينشروا فيها دين الصحراء! لقد انتصروا على البادية المهلكة، والشمس المحرقة، والجوع القاتل، والعطش المميت، والعدو الجبار، والجيش الجرار، ثم انتصر عليهم البقيع، فإذا هم مستقرّون في أحشاءه، وإذا هم قد ناموا فيها إلى الأبد، فلن يذهبوا إلى الحرم ليقيموا الصلاة، ولن يمتطوا ظهور جيادهم ليمشوا إلى الجهاد، ولن يحملوا الراية الإسلامية لينصبوها إلى أقصى العالم، ولن تستقبلهم زوجاتهم وأولادهم وإذا عادوا ظافرين، بل هم لا يرون طلعة الشمس ولا يبصرون صفحة القمر، ولا يسيرون على وجه الأرض. . . انتصرت أيّها البقيع؛ فما وفّيت ولا أنصفت. . . جاءك الأبطال الذين فتحوا الدنيا، ونشروا راية العدل على الأرض، وأضاءوا طريق الهدى للناس، ليستريحوا في إرجائك، ويناموا في حماك، فحرمتهم قبراً يعرف لهم، وحجراً تكتب عليه أسماؤهم ما نريد منك أن تنقش على قبورهم آيات التبجيل والثناء. فإن لهم من أسماؤهم الكبيرة، غنيّة عن كل تبجيل وثناء لكنّا نريد ألا تنسى هذه الأسماء
سيموت الشيوخ الذين يعرفون هذه القبور، أف يرضيك أيها البقيع أن يأتي الجيل الجديد، فيفتّش عن هذه القبور فلا يجدها، فيقول: هاتوا المعول، هاتوا الأحجار. . . أبنوا هنا ملعباً! لا نجد في هذه المدينة خيراً من هذه الساحة، إنها لا تترك أرض سدى! ثم بينما هم يتقاذفون الكرة، إذا بهم يخطئون فيتقاذفون واحدة من هذه الجماجم. . . أنسيت أيها البقيع إن كل مسلم يحس إنه يملك في هؤلاء الأبطال ملكاً، وإن هذا الرفات ليس من حقّك وحدك، ولكنه حق لكل مسلم ولد أو يولد إلى يوم القيامة. . . وإنك إن طمست هذه الأسماء، حتى يجهلها المسلمون، أسأت إلى كل المسلمين؟
أنسيت أن أضيافك عظماء البشر، أف تستحق العظمة هذا الإهمال الشائن، وهذا النسيان المخزي، أم ذنبهم إنهم لم يكونوا فرنجة ولا إنكليز؟! أف يكون البانتيون لأبنائه أوفى منك لأبنائك أيّها البقيع؟ إنه لم ينقص من مجدهم إنها لم تشيّد لهم القبور، ولم تنقش أسماؤهم على صفائح الحجر، وحسبهم إنهم شيّدوا مجداً وبنوا أمة وكتبوا تاريخاً، فإذا نسى التأريخ أبطاله ومنشئيه، فقدماً نسى التاريخ الأبطال! وهل ذكر التاريخ أولئك الجنود الذين سقوا
الأرض بدمائهم حتى أنبتت مجد نابليون فأقتطفه؟. . هل ذكر أولئك القصاص الذين أهدوا إلى شكسبير قصصهم الرائعة فرواها؟ هل ذكر أولئك الملاحين الذين غامروا بأرواحهم حتى أوصلوا كولومب إلى الساحل الجديد وأمسكوا بيده حتى نزل إليه؟. . ماذا كان نابليون وشكسبير وكولومب لولا أولئك الأبطال المجهولون الذين نسيهم التاريخ؟ لا بأس أيها البقيع فإن البطل الحق هو الذي لا يعرفه أحد!
وازداد الرعد قرقرة وهزيماً، وعقّ البرق وتكلّح، وأغدقت السماء وجادت، وعصفت الريح وأعجّت وجنت الدنيا جنونها، فنظرت فإذا السيل قد جرف قبر عثمان فلم يبق له من اثر. .!
فقلت: أطبقي يا سماء، وتشقّقي يا أرض، وتصدّعي يا جبال. . . إن من ملكوا العالم لا يجدون القبور. . .
علي الطنطاوي
القاضي النسوي
للأستاذ قدري حافظ طوقان
ما أكثر الذين لم يوفّهم التاريخ حقّهم من البحث والتنقيب وقد أحاط بهم الغموض والإبهام وراحوا ضحية الإهمال فلا ترى لهم اسماً في الكتب التاريخية ولا ذكراً في معاجم الأعلام والعلماء! من هؤلاء الذين كاد يطغى عليهم النسيان أبو الحسن علي أحمد النسوي، فهو من رياضي القرن الخامس للهجرة من بلدة نسا بخرا سان، لم يكتب عنه إلا ما لا يشفي غلة المنقب، وقد أهملته المصادر إهمالاً معيباً، وإذا أطلعت على تاريخ الرياضيات (لسمث) وجدت عنه نبذة لا تتجاوز عشرة كلمات، وهي أن النسوي ألف في الحساب الهندي وشرح بعض المؤلفات لأرشميدس؛ وتجد أيضاً في كتاب آخر يبحث في الأرقام الهندية العربية تأليف سمث وكاربنسكي: إن النسوي من الذين استعملوا كلمة الهندي لتدل على الحساب في القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وأما كتاب الآثار الباقية فيقول عن النسوي إنه لم يتمكّن من العثور على شيء عن حياته، ومع ذلك فقد استطاع أن يكتب عنه بصورة أوسع من غيره من المؤلفين معتمداً في ذلك مقدمة كتاب المقنع لصاحب الترجمة. ومن هذه الترجمة يفهم إن النسوي ينتسب لمجد الدولة بن فخر الدولة حاكم العراق الفارسي. ويقال إن مجد الدولة هذا طلب من النسوي أن يؤلّف له كتاباً في اللغة الفارسية يبحث في الحساب الهندي على أن يكون موافقاً لديوان محاسبته يمكن الانتفاع منه، قد كان ما أراد الحاكم وخرج الكتاب إلى الناس فانتفع منه وعنه اخذوا الشيء الكثير لمعاملاتهم؛ وقد اطّلع شرف الدولة أمير بغداد على هذا الكتاب، ويظهر أنه رأى فيه فائدة وانتفاعاً فأمر النسوي بأن يؤلّف له كتاباً باللغة العربية يكون على نمط الكتاب المذكور، وقد كان لشرف الدولة ما أراد، فأخرج النسوي كتاباً سمّاه (المقنع) وقد وفّق فيه كثيراً، فيقول عنه صالح ذكي:(إن المقنع هو نموذج حقيقي يدلّنا على المرتبة التي بلغها الحساب الهندي في العراقيين العربي والفارسي في أوائل القرن الحادي عشر للميلاد. .) ولهذا الكتاب مقدمة ينتقد فيها الذين تقدّموه من المؤلّفين الرياضيين وينتقد فيها أيضاً معاصريه من واضعي كتب الحساب، وينحى باللائمة على كل هؤلاء ويقول إنه وجد تشويشاً وتطويلاً في الكتب الحسابية التي وضعها الكندي والانطاكي، كما أنه وجد في مؤلّفات علي بن أبي نصر في الحساب تفصيلاً
لا لروم له، وإنه هناك كتباً أخرى (في الحساب) للكلوازي فيها صعوبة وفيها التواء وفيها تعقيداً لا تعود على القارئين بالفائدة المتوخّاة. ويقول أيضاً إنه لا يريد أن يجعل بحوثه في كتابه تدور على موضوع واحد، وإنه لا يريد أيضاً أن يحذو حذو الدينوري الذي ألّف كتاباً عنوانه يدل على إنه كتاب يتناول موضوعات الحساب المختلفة بينما هو في الحقيقة يتناول حساب النجوم فقط وليس فيه تعرّض لأي فرع من فروع علم الحساب، وهذا (على رأيه) ما لا يجيب أن يكون؛ والنسوي لا يريد أيضاً أن يكون في كتابه هذا مثل كوشيار الجبلي الذي وضع كتاباً في الحساب تعب منه الإيجاز وعنوانه لا يدل بحال من الأحوال على ما تضمنه من بحوث حسابية وأعمال رياضية
ولهذا كله (يقول النسوي): فقد رأى الضرورة تدعوه أن يخرج إلى الناس كتاباً يتجنّب فيه الأغلاط التي وقع فيها غيره من إيجاز يجعل المادة صعبة غير واضحة، ومن إطناب يدخل إلى نفوس القارئين السائم والملل. وبالفعل أخرج للناس كتاباً كان فريداً في بابه جمع فيه أحسن ما في كتب المتقدّمين والمعاصرين، وقد أضاف إليه كثيراً نظريّاته ومبتكراته، ووضع كل ذلك في قالب سهل المأخذ لا صعوبة فيه ولا تطويل، يمكن للطالب والتاجر والراصد ولكل من يريد الوقوف على أصول المعاملات المتنوّعة في الأمور الحسابية أن يستفيد منه؛ ولقد جعل النسوي هذا الكتاب في أربع مقالات، تبحث الأولى في الأعمال الصحيحة، والثانية في الكسور، والثالثة في الأعمال الصحيحة مع الكسرية، والرابعة في حساب الدرج والدقائق. فالمقالة الأولى تتناول الموضوعات التالية: أشكال الأرقام وترقيم الأعداد، جمع الأعداد الصحيحة، ميزان جمع الأعداد الصحيحة، تضعيف الأعداد، طرح الأعداد الصحيحة، ميزان طرح الأعداد الصحيحة، تنصيف الأعداد الصحيحة وميزانها، ضرب الأعداد الصحيحة وأنواعه، ميزان ضرب الأعداد الصحيحة، تقسيم الأعداد الصحيحة وأنواعه، ميزان تقسيم الأعداد الصحيحة، استخراج الجذر التربيعي للأعداد الصحيحة، ميزان استخراج الجذر التربيعي للأعداد الصحيحة، استخراج الجذر التكعيبي للأعداد الصحيحة وميزان استخراج الجذر التكعيبي للأعداد الصحيحة. وأما المقالة الثانية فتبحث في الأبواب الآتية: ترقيم الكسور، جمع الكسور، طرح الكسور، ضرب الكسور، تقسيم الكسور، استخراج الجذر التربيعي للكسور واستخراج الجذر التكعيبي للكسور.
وتتناول المقالة الثالثة البحوث الآتية: الكسور المركّبة وترقيمها، جمع الكسور المركبة وطرحها وضربها وتقسيمها وكيفية استخراج الجذرين التربيعي والتكعيبي لها. وأما الرابعة فتتضمّن ما يلي: أصول ترقيم الكسور الستينية وكيفية جمعها وطرحها وضربها وتقسيمها، واستخراج الجذرين التربيعي والتكعيبي لها. ومن الإطلاع على محتويات هذا الكتاب يتبيّن للقارئ إن الكتاب قيّم وفيه بحوث تفيد الناس على مختلف طبقاتهم في متنوّع معاملاتهم. ومما يدل على طول باع النسوي في الرياضيات وعلو كعبه فيها اعتراف الطوسي بفضله وعلمه، فقد كان يلقّب النسوي بالأستاذ، ولهذا اللقب أهمّيته عند الطوسي، ولا سيما إنه من الذين يعرفون قيمة العلماء ومن الذين لا يخلعون الألقاب على الناس بدون إستحقاق؛ ولا عجب في أن يكون من المعجبين بالنسوي المقدّرين لنبوغه وعبقريّته، فلقد استفاد كثيراً من كتاب (تفسير كتاب المأخوذات لأرشميدس) في مؤلفه (المتوسّطات) وهذا الكتاب أي (كتاب التفسير) من الكتب التي كان لها أهميتها الكبيرة في تاريخ الرياضيات، وقد ترجمها إلى العربية ثبت بن قرة. قال صاحب كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون:(مأخوذات أرشميدس مقالة ترجمة منها ثابت بن قرة خمسة عشر شكلاً وقد أضافها المحدثون إلى جملة المتوسّطات التي يلزم قراءتها فيما بين اقليدس والمجسطي. . .) وكان للنسوي فخر تفسيرها وشرحها شرحاً دلّ على مقدرته وقوّة عقله. . .
نابلس
قدري حافظ طوقان
عرائس المولد النبوي في الأدب الفرنسي
للأستاذ م. هداية
أليس غريباً هذا العنوان؟ أو ليس فيه إشارة لطيفة إلى تقصير أدبائنا؟ هنري تويل أديب فرنسي أقام في مصر ردحاً من الزمن حتى جعلها في أشعاره وطنه الثاني. وقد هام بجمال مصر وتقاليدها، وسجّل كثيراً من أعيادها القومية والدينية، ووصف كثيراً من شوارعها وجوامعها الأثرية أبرع وصف. وله ديوان مطبوع باسم (شرق وأدب) حوى الكثير من الأسرار الساحرة في مصر، أحس بها هو ولم نحس بها نحن! ولست هنا في صدد تعريف هذا الشاعر الثائر أو تحليله، وإنما قصدت أن أنقل إلى القرّاء (الرسالة) جزءاً نم قطعة له كتبها سنة 1923 وعلى أثر جولة جالها ليلاً بشارع الموسكي في مولد سيّدنا الحسين - قال:
(. . . وعلى جانبي الجامع كانت الأنوار المنبعثة من دكاكين الحلوى تشع في الليل المتأخر فتجعل منه ظهراً. وكانت هذه الحوانيت متقاربة متلاصقة: اتصل بعضها ببعض اتصالاً لا تقطعه ثغرة، حتى لا ترى من مجموعها سوى نضد واحد ممتد. وقد غطيت كلّها بأنواع شتّى من الحلوى: فمنها (الحمصية) وهي حلاوة رصعت بالحمّص، و (السمسمية) وهي مثلها إلا أنها بالسمسم - وهذه كثيراً ما يتهافت عليها صغار التلاميذ في الأيام العادية، فيقبلون على شرائها من الباعة المتجوّلين كل يوم منجذبين إليها بلذاذة طعمها وبجمال النداءات ذات النغمة الساحرة التي يغنّيها الباعة، مع الملبن الملفوف حول خيوط رفيعة. . . ثم (الجوزية) وهي نوع تتلاشى أمامه (النوجا) الفرنسية وتحسدها عليه مدينة مونتلمار. . . يلي ذلك صفوف طويلة من (العرائس) تكاد تتشابك أذرعتها فتخالها في مجموعها كأنها في موكب!
عرائس جذّابة، عذارى نم الحلوى! أبكار توشك أن تزف إلى عرسها قد صبوها صباً من السكر المذاب! وقد صبغوا لهن. . . خدودهن الصغيرة بشيء من (الأحمر. . .)، وكحّلوا عيونهن بالكحل الشرقي الساحر، ثم ألبسوهن فساتين ساذجة لوّنت بألوان زاهية من أصباغ اليمن. وأما الشعر فقد رصع بأنواع برّاقة من الخرز الفضّي الملوّن، وحجاب رقيق من الشاش المهلهل النسج زيّن أيضاً بفتائل من القصب الوهّاج، وأشرطة من الورق المذهّب،
قد أسدل بلباقة وكياسة على رأسها، ثم تدلّى بعضه إلى الأمام ليحجب عنك أيها المحب الشغوف وجهها الحلو الباسم، فلن ترى جمال تقاطيعه إلا حين تكشف عنه بيدك - يوم الزفاف!
(كم حدّثتني نفسي في هذه الساعة أن أحمل واحدة من هذه العرائس المصرية الصغيرة فأضمها إلى قلبي، ثم اذهب بها هنالك، في ركن منعزل، نائياً عن أعين الناس، بعيداً عن كل ضوضاء، وفي هدوء وراحة نفس، أسبل عيني ثم أضع شفتي على شفتيها الحمراوين فأتذوّق منهما شيئاً. .!)
هكذا الشاعر يخلق من كل شيء جمالاً
وبينما أنا أمر ليلة المولد بهذه (العرائس) تذكّرت خيال هذا الشاعر فوقفت سابحاً في أحلامي. . .
ولكن جدة تقتاد حفيدين لها قد دفعتني على غير قصد واقتحمت الزحام. وبعد مساومة ليست بالطويلة خرجت تحمل (سريراً) صغيراً زيّن بأستار هفهافة من القماش الملوّن بالأحمر والمذهّب والمفضض، وأبت الطفلة إلا أن تحمل (عروستها) بنفسها، وأما الطفل فقد حمل حصاناً أحمر عليه فارس. . .
وهذا الثالوث المزاحم قد أخرجني من حلم ليدخلني في حلم آخر:
الجدة فخورة لأنها أنجزت تقليداً تعتبره مقدّساً، وهي مسرورة لأنها عاشت واشتركت في ذكرى الرسول للمرة السبعين
أما الطفلة فأي سرور يملأ قلبها! أنظر إليها وهي تجذب جدّتها من ملاءتها لتسرع الخطى. . . فهي تريد أن تصل البيت أسرع ما يمكن لترى أمّها عروستها الجميلة وسريرها البديع، وهي تريد أن تقابل صويحباتها زكية وتفيدة وإحسان لتقنعهنّ بأن عروستها أكبر. . وإنها تملك سريراً. .
وقد بلغ الثلاثة البيت؛ فالجدّة متذمّرة لأنها لم تجد الدكاكين مزدانة بالثريات والبيارق الحمر والخضر والصفر مثل (زمان). . ومحمود الصغير أقتنع مسافة الطريق بأن حصانه لا يستحق الاحتفاظ به طويلاً. . وانه لا يحقق له أملاً واحداً من آماله: هل أستطيع أن أركبه وأضربه بالسوط؟. . إذن. . . وبقضمة واحدة يطير رأس الفارس بأسنانه! ثم أبتدأ في
رأس الجواد. . . أما فاطمة فعروستها سنحيا عندها طول حياتها، لأنها صورة منها، ولأنها تمثّل أحلامها الحلوة، فهي قطعة من نفسها! أنظر إليها الآن قد عادت فرحة بعد أن قابلت صويحيباتها، أنظر إليها قد جلست في انهماك ترتّب السرير (لعروستها) أستمع إليها الآن وهي تغنّي لها بصوتها العذب الحلو غير الفصيح أنشودة من أناشيد الزفاف!
انهض يا شاعري العزيز وتعال مسرعاً، ثم أنصت في جلال. تعال يا شاعري (فهاهنا سحر وجمال!)
م. هداية
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم
صلة حديثه
وأخذت حياة بستور تصير إلى غير ما عهد العلماء من حياة قابعة قاسية. وأصبح يجري تجاربه ليجيب بها على ما قام حول نظريته الجرثومية من اعتراضات كثيرة، فكانت إجابات قوية مفحّمة رنّانة دوت أصداؤها في الجماهير، لأنها أجريت لتنقع غلّة الجماهير أكثر مما تنقع غلّة العلم الهادئ والبحث الرزين. ولكن على الرغم من استدراجه العلم إلى الأسواق وسحبه إلى غمار العامة، كانت تجاربه رائعة الصنع محذوفة الأجراء، وكانت كأقباس من نار مسّت خيالات الناس فألهبتها، وآمالهم فأحييتها وجلب على نفسه خصوماً صخابة أقامه بينه وبين رجلين فرنسيين طبيعيين يدعى أحدهما إتريكل دارت حول الخمائر والطريقة التي بها تحيل عصير العنب خمراً. فأقرّ (إفريمي) بأن الخمائر لا بد منها لهذه الإحالة، ولكنه أدّعى إن هذه الخمائر تنشأ من ذات نفسها في باطن العنب، وأقام في الأكاديمية يناقش هذه الدعاوى في جهالة فسخر أعضاؤها منه وضحكوا جميعاً، إلا بستور فكان من المحنقين
(إفريمي يقول إن هذه الخمائر تنشأ داخل العنب من ذات نفسها! إذن فلأصنع له تجربة تقطع لسانه). وأخذ بستور عدّة قوارير مستديرة، ووضع فيها شيئاً من عصير العنب، ثم مطّ رقابها ولواها كأعناق الإوز، ثم أغلاها دقائق وتركها أياماً ثم أسابيع، فلم تظهر في العصير فقاقيع، ولم يعله رغاء، ولم يختمر أصلاً؛ ثم ذهب إلى كرمه فقطف منها بضع عنبات بلغت النضج ولم تعده، وغسل ظاهرها بماء نقي بقلم من الشعر عقّمه بالتسخين قبلاً، وأخذ قطرات من ماء الغسول ونظرها تحت المجهر فوجد بها قليل من كريات الخمائر المعهودة. وعندئذ أخذ عشراً من تلك القبابات الملتوية الأعناق، وبمهارة فائقة لحم في جانبها أنبوبة مستقيمة طويلة، ومن هذه الأنبوبة أسقط قطرات من ماء الغسول ذي
الخمائر. ولما جاء القبابات بعد أيام وجدها جميعاً مرغية إلى عنقها رغوة تضرب إلى الحمرة دليل اختمار طيب مرضي. وتبقى من ماء الغسول بقية، فأغلاها وأسقط قطرات منها في عشر قبابات أخرى فلن يحدث فيها اختمار لأن الإغلاء قتل الخمائر
قال بستور: (الآن وقد أثبت أن الخمائر توجد على ظاهر العنب، سأثبت لهذا الجاهل إفريمي بتجربة رائعة إن هذه الخمائر لا توجد في باطن العنب)، وأخذ أنبوبة جوفاء رفيعة كان قد أسخنها في النار ليقتل ما قد يكون علق بها من أحياء، ثم سدّ طرفها، وكان رفيعاً حاداً، فرفعه برفق إلى داخل عنبة خارقاً جلدها، ثم كسر هذا الطرف داخل العنبة فاندفع بعض عصيرها في الأنبوبة، وبمهارة ولباقة لا تباري نقل هذا العصير إلى قبابة بها عصير عنب كان قد عقّم بالتسخين. ورجع إليها بعد أيّام فما وقع بصره عليها حتى صاح:(لا حياة لإفريمي بعد اليوم، فعصير العنب بالقبابة لم يختمر، وبطن العنب خلو من الخمائر). ثم أستطرد فنطق بقضية جامعة شاملة؛ قال: (إن المكروبات لا تنشأ من ذات نفسها في بطون الأعناب وديدان الخز وأجسام الحيوانات الصحيحة، وهي لا توجد في دم الحيوان ولا في بوله. فإن هي وجدت في شيء من ذلك فإنما دخلت إليه من الخارج) ولكأني بك تسمعه يتحدّث إلى نفسه: (وستعلم الدنيا قريباً ما تؤدّي إليه هذه التجربة البسيطة من إحداث معجزات بليغة)
- 8 -
ولم يمضي وقت طويل على هذا حتى ظهر أن أحلام بستور لم تكن أضغاثاً، وإنما خاله من إمحاء الأمراض على ظهر الأرض لم يكن أملاً جامحاً. فجاءه كتاب من الجرّاح الاسكتلندي (لستر) يذكر فيه إعجابه الشديد به وسروره الكثير بأعماله، ويصف له فيه طريقة جديدة لفتح أجسام المرضى وإجراء العمليات الجراحية في نجوى من ذلك الوباء الخفي الذي أعتاد أن يذهب في المستشفيات بحياة ثمانية من كل عشرة من الرجال والنساء. كتب له لستر يقول: (فأنا أستمحيك في أن أشكرك شكراً خالصاً إذ هديتني بأبحاثك المجيدة إلى الحق في أمر هذه الجراثيم التي تسبب التعفّن والفساد، وأثرت لي السبيل إلى النظرية الوحيدة التي لا ينجح تعقيم إلا بها. وإذا أنت تحملت المشقّة فزرتنا في أدنبرة فسوف لا تأسف على هذه الزيارة إن شاء الله، لأنك سترى بعينك في مستشفياتنا
كثيراً من الخلق المساكين قد استفادوا استفادة كبرى من أعمالك)
ففرح بستور بهذا الخطاب فرح الطفل أنجز تركيب قاطرة فدار بها على إخوانه يريهم ما صنعت يداه. ولم يكتف بهذا بل نشر الكتاب بكل مديحه في المجالات العلمية، وزاد فنشره في كتاب له عن البيرة!! ولم يشاء أن ينقضي هذا الحادث دون أن يلكم إفريمي المسكين لكمة أخيرة، وقد يحسب حاسب أن تجارب بستور كان فيها لإفريمي لكمات مشبعات كافيات. ولم ينل من إفريمي نيلته الأخيرة بذمه، وإنما نالها بمدح نفسه وتمجيد تجاربه والثناء على نظرياته. قال:(إن محك النظريات مقدار أثمارها وكمية نفعها). وصمت إفريمي فلم يحر جواباً
وشغل حديث المكروب أوربا كلها، وعلم بستور إنه هو الذي وجه نظار الناس إلى المكروب وإلى خطورته فلم يعودوا ينظرون إليه نظرتهم إلى اللعبة الغريبة المسلّية، بل عرفوا مقدار نفعه لبني الإنسان واستيقنوا من ذلك، وكانوا على وشك أن يعرفوا مقدار ضرره لبني الإنسان كذلك، وكيف إنه على صغره يعيث فيهم تلصصاً واغتيالاً. وأوّلت فرنسا بستور شرفاً كبيراً إذ نصّبته أول رعاياه. وشرّفته الأمم - حتى بلاد الدانمارك أقام خمارها له التماثيل في معاملهم وأثنوا عليه خيراً ومات فجأة (كلود برنار) فقام أصدقاء هذا الرجل الكبير بنشر مؤلف له لم يبلغ تمامه، وكان مؤلفاً في تخمّر عصير العنب، ختمه برنار بدحض نظرية بستور كلها وعزز دعواه بأسباب عدة، وبلغ بستور الخبر فلم يصدّق أذنيه. برنار يفعل هذه الفعلة! برنار العظيم، جليسه في الأكاديمية ومطريه ومطري أعماله دائماً! برنار الذي سارقه الضحكات وبادله الغمزات وناقله الفكاهات في أكاديمية الطب عن أولئك الأطباء ذوي الثياب الزرقاء، والأزرار النحاسية الصفراء، والأنوف الوارمة والرؤوس الجوفاء، أولئك الأطباء الذين قاموا حجر عثرة في سبيل التجربة الصحيحة إلى الطب والتطبيب! وأخذ بستور يتمم لنفسه:(ناقضني هؤلاء الأطباء الأغبياء، وناهضني أولئك الطبيعيون الحمقى، وكان في هذا من السوء ما فيه. ووازرني العلماء، ومجد إعمالي الكبراء، فما بال برنار يأتي اليوم بالذي أتاه. .؟)
ذهل بستور، ولكن لم يطل به الذهول. وقام يطلب أصول المؤلّف والأوراق ذاتها التي خطّها برنار بيده، فأعطوه إيّاها. فقعد يجمع أشتات فكره لدراستها، فوجد إن ما صنعه
برنار لم يكن إلا مبادئ تجريبية ومحاولات تقريبية. وسرّه أبهجه أن كشف إن أصدقاء برنار لم ينشروا ما كتبه بنصّه كاملاً، بل زادوا وحذفوا، فأحكموا الحذف وحذقوا الزيادة، كي يستقيم الكتاب ويصح لدى القارئين. وذات يوم قام في الأكاديمية فعرّ أعضاءها، وأساء إلى رجالات فرنسا إذ أنحى باللوم اللاذع القبيح على أصدقاء برنار لتهجّمهم بنشر كتاب يجرؤ على التشكك في نظرياته، وإذ صرخ صرخات عنيفة مرذولة إلى برنار، وبرنار في قبره لا يستطيع دفعاً عن نفسه، وعقّب على هذا بنشر رسالة في نقل أبحاث صديقه القديم، رسالة أعوزها الذوق السليم، رسالة تهتم برنار - وهو رجل عالم من قمّة رأسه إلى أخمصه - باقتباسه الخرافة من كثرة صحبته للأدباء النابهين من أعضاء الأكاديمية، رسالة تحاول أن تثبت أن برنار في آخر أبحاثه كلّ بصره فلم يعد يرى الأشياء، وتهزأ به فتقول احتمالاً إن بصره طال طولاً لم يعد معه يرى الخمائر القريبة. وألحّ بستور في هذا النقد حتى ترك العامة تحسب إن برنار أصابه خرف الشيخوخة في آخر أيامه عندما كتب كتابه هذا. وفقد بستور الحس بالحسن والقبيح، وفقد مقاييس الليباقات، فأخذ في ثروته يدق بقدميه على قبر برنار دقّات ثقيلة كادت تقلق جثّته تحت التراب
وأخيراً ثاب إلى رشده، وسلك في ردّه على برنار السبيل التي يؤثرها كل عاقل على مقالة السوء ولغو الكلام. تلك سبيل التجربة. فأجرى تجارب غاية في الإبداع. وجرى على طريقة الأمريكيين إذ إذا هم أرادوا بناء ناطحة من ناطحات سحابهم في ستة أيام. فهرع إلى مخازن البيع فاشترى قطعاً من الزجاج عظيمة، وهرع إلى النجّارين، وطلب إليهم أن يصنعوا من هذا الزجاج بيوتاً كمرابي النبات يسهل حملها ويستطاع نقلها وتركيبها. وقام على أعوانه يستحثهم في إنجاز قبابات وتجهيز ميكروسكوبات وتعقيم لفّافات من القطن، فنسوا الطعام وعزّهم النوم. وفي وقت بالغ القصر جمع كل هذه الأشياء وسافر بها إلى بيته العتيق في جبال الجورا. ونفض يده في أثناء ذلك من كل عمل، وأشاح بوجهه عن كل اعتبار، واتجه بكل نفسه قدماً إلى إثبات إن نظريته في التخمّر نظرية صحيحة
وما بلغ بلدته أربوا حتى ذهب إلى كرمته، ولم يضع وقتاَ سدى، فقام على بيوت الزجاج التي جاء بها فنصبها على بعض أعنابها فحجبتها عن الهواء الخارج حجباَ محكماً. وأخذ يفكّر: (هذا الصيف قد تنصف، والعنب لا يزال فجّاً، وأنا أعرف إن العنب في هذا الوقت
لا يحمل على جلده خمائر أصلاً). وأراد أن يزيد وثوقاً من ذلك، فلفّ بعض العناقيد في بيوت الزجاج بلفَات القطن التي كان سخنّها مساعدوه ليقتلوا ما علق بها من الأحياء. وأسرع في العودة إلى باريس واصطبر بها على أحرّ من الجمر حتى ينضج العنب، ونفذ صبره يوماً فجاء أربوا وكله أمل أن يثبت أن برنار كان خاطئاً، ولكنه وجد العنب لا يزال فجّاً فعاد خائباً. ونضج العنب أخيراً، فأخذ يمتحن جلود العنب ببيوت الزجاج تحت المجهر، فلم يجد عليها خميرة واحدة. وقام من على المجهر ثائراً، فأخذ شيئاً من هذا العنب فعصره في قبابات أجاد تسخينها لتعقيمها، وتركها فلم تظهر في عصيرها فقاعة للتخمر واحدة. وعصر عنباً من كرمة خارج بيت الزجاج، فهذا استحال عصيره إلى خمر سريعاً. وما انتهى من هذا حتى جمع بعض تلك العناقيد الطهور الخالصة من الخمائر، واعتزم ليحملنها إلى الأكاديمية ويهدي كل عضو أحب عنقوداً ثم يتحدّاهم أجمعين أن يخرجوا من هذه العناقيد المصونة خمراً. . . وقد أيقن إن هذا محال إلا إذا هم أدخلوا الخمائر إليها. . . وأمل من وراء كل هذا أن يثبت لهم إن برنار خانه الحظ في الذي قال، وركبوا القطار إلى باريس، وظلّت مدام بستور المسكينة في جلستها الطويلة مستقيمة الظهر تحمل أمامها عناقيد العنب حذر أن تسقط لفائف القطن عنها.
وجاء موعد انعقاد الأكاديمية، فقام بستور يصف لرجالها كيف صان عنبه من الخمائر فلم تنلها. وصاح فيهم:(أليس عجيباً إن أرض كرمتي يوم بدأت تجاربي لم تكن بها حصوة إلا استطاعت أن تخمّر عصير العنب! وما يصدّق على كرمتي يصدق على كروم الدنيا الواسعة. ثم أليس عجيباً بعد هذا إن بيوت الزجاج التي نصبتها خلت أرضها من الخمائر فلم تستطيع لعصير العنب تخميراً! ثم أتدرون لماذا؟ لأنّي في الوقت المناسب حجبت هذه الأرض عن الهواء بتلك البيوت من الزجاج!. . .)
وخرج من هذا إلى نبوءات عجيبة، إلا أنها على غرابتها قد تحققت اليوم. نبوءات كالوحي، وخيالات كالشعر، تجعلك تنسى خصومته القبيحة المرذولة التي أثارها على برنار. قال:(أفلا يجوز لنا بعد هذا أن نؤمن بيوم هو لا بد آت يستطيع فيه الإنسان أن يحمي نفسه من الوباء حماية أرض هذه الكرمة من خمائر الهواء). وكانت الحمّى الصفراء أصابت أرليانزة الجديدة فتركت عامرها خراباً، فقام يصوّر لهم تلك النازلة الفادحة
تصوير فنان ماهر، وصوّر لهم كذلك فعل الطاعون الأسود على شواطئ الفلجا، فلما روّعهم وقشعر أجسامهم، ضرب نغمة جديدة سرّت فيهم بالرجاء
وفي هذه الأثناء، في قرية صغيرة في شرق ألمانيا كان طبيب بروسي صغير السن، مدوّر الرأس، حرون، آخذ في ترسم الطريق الذي يؤدي به إلى نفس تلك النبوءات التي تنبأ بها بستور هذا الدكتور الشاب كان يسارق مرضاه الوقت ليفرغ لتجارب يجريها على الفئران، وليستخرج طرائق في معالجة المكروب يتعرف بها شخصية كل نوع فلا تختلط عليه أجناسها، وليأتي بأمر لم يستطع بستور إتيانه على رغم حذقه وعلو كعبه
والآن، فلندع بستور إلى حين، ولنقف عند هذه المرحلة من حياته، ولو إنها مرحلة ستأتي من بعدها تجارب قام بها بستور كانت من أروع ما قام به في حياته، ومناقشات أثارها كانت نم أفكه المناقشات؛ لندع ذلك لنعرج إلى روبرت كوخ لنرى كيف غزا دولة المكروب وقد كانت وقفاً على بستور سنين طوالاً
(يتبع)
أحمد زكي
محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- حدّثني إذن ما هو الشيء الذي يجعل الجسم حيّاً بحلوله فيه؟
فأجاب: هو الروح
- أهذه هي الحال دائماً؟
فقال: نعم، بالطبع
- إذن فمهما يكن ما تملكه الروح، فإنها إذا تأتيه تحمل إليه الحياة؟
- نعم، يقيناً
- وهل ثمة ضد للحياة؟
فقال: نعم هناك
- وما هو ذاك؟
- الموت
إذن فلن تقبل الروح أبداً، كما اعترفنا، ضد ذلك الذي نسوقه. ثم قال: والآن، بماذا سمّينا ذلك العنصر الذي يقاوم الزوجي؟
- الفردي
- والعنصر الذي يقاوم الموسيقيّ أو العادل؟
فقال: غير الموسيقيّ وغير العادل
- وبماذا نسمّي ذلك العنصر الذي لا يقبل الموت
فقال: الخالد
- وهل تقبل الروح الموت
- كلا
- إذن فالروح خالدة؟
فقال: نعم
- أيحق لنا القول بأن ذلك قد ثبت بالدليل؟
فأجاب: نعم يا سقراط، لقد ثبت بأدلّة كثيرة
- وإذا فرضنا أن الفرديّ لا يخضع للفناء، أليس يلزم أن ثلاثة غير قابلة للفناء؟
- طبعاً
- وإذا كان الشيء البارد غير قابل للفناء، ثم جاء العنصر الدافئ يهاجم الثلج، أفلا ينبغي أن يتراجع متماسكاً متجمّداً لأنه عندئذ يستحيل عليه أن يفنى كما كان يستحيل عليه أن يبقى مع قبوله للحرارة؟
فقال: حقاً
- وكذلك لو كان العنصر الذي لا يبعث لبرودة، أي الدافئ، مستعصياً على الفناء، لما فنيت النار وما انطفأت حين تغير عليها البرودة، ولكنها تنأى بغير أن تتأثر؟
فقال: يقيناً
- ويمكن أن يقال هذا القول نفسه عن الخالد: لو كان الخالد مستعصياً كذلك على الفناء، لاستحال فناء الروح حين يهاجمها الموت، إذ يدخل البرهان السابق على أن الروح لن تكون قط ميتة، فلن تقبل الموت أكثر مما تقبل ثلاثة أو العدد الفردي الزوجي، أو النار، أو الحرارة التي في النار، البرودة، ومع ذلك فرب أحد يقول:(ولكن على الرغم من أن الفردي لن يصير زوجياً حين يقترب الزوجي منه، فلماذا لا يجوز أن يفنى الفردي وأن يحل مكانه الزوجي؟) ونحن لا نستطيع أن نجيب من يتقدم بهذا الاعتراض بأن العنصر الفردي مستعصياً على الفناء لأن ذلك لم يعترف به بعد، فلو قد اعترف بهذا لما أشكل علينا الزعم بأن العنصر الفردي والعدد ثلاثة يهمان بالرحيل حين يقترب الزوجي، وهذا البرهان بعينه كان يصح عن النار وعن الحرارة وعن أي شيء آخر
- جداً صحيح
- ويجوز هذا القول نفسه عن الخالد: لو كان الخالد مستعصياً كذلك عن الفناء، إذن لكانت الروح مستعصية على الفناء كالخالد سواء بسواء، فإن لم يكن، وجب أن يقام برهان آخر على استحالة فناءها
فقال: ليس بنا من حاجة إلى برهان آخر، إذ لو كان الخالد - وهو سر مدى - عرضة للفناء، للزم ألا يستحيل الفناء على شيء
فأجاب سقراط: نعم، فكل الناس مسلّون بأن الفناء مستحيل على الله وعلى صورة الحياة الروحية وعلى الخالد بصفة عامة
قال: نعم، كل الناس بذلك مسلمون - هذا صحيح، وأكثر من هذا، فهم مجمعون - إن لم أكن مخطئاً - على أن الآلهة كالناس في ذلك
- وإذن فما دمنا قد رأينا أن الخالد لا يناله التخريب، أفلا يلزم أن تكون الروح مستعصية على الفناء كذلك - ما دامت خالدة؟
بكل تأكيد
- إذن فحين يهاجم الموت إنساناً، فقد يتعرض الجزء الفاني منه للموت، أما الخالد فينأى عن طريق الموت حين يحفظ مصوناً سليماً؟
- حقاً
إذن يا سيبيس فالروح خالدة بغير شك، وهي مستعصية على الفناء، وستحيا أرواحنا حقاً في عالم آخر!
فقال سيبيس: إني مقتنع يا سقراط، وليس لدي بعد ذلك ما اعتراض عليه. فإن كان عند صديقي سمياس، أو عند أحد سواء اعتراض آخر، فيجمل به ألا يلتزم الصمت وأن يعلنه. اللهم إن كان لديه شيء يريد أن يدلي به، أو كان يود لو أدلى به، فلست أرى أن يجود عليه الدهر بأنسب من هذه اللحظة، حتى يجوز له أن يرجئ إليه الحديث
فأجاب سمياس: ولكن ليس عندي ما أقوله بعد ذلك، بل لست أرى مجالا للشك، إلا ما ينشا حتماً عن ضخامة الموضوع وضعف الإنسان، فذلك ما لم يسعني إلا أن أشعر به
فأجاب سقراط: نعم يا سمياس فقد أحسنت قولاً: أضف إلى ذلك أن المبادئ الأولى يجب أن تبسط للبحث الدقيق حتى وإن كانت تبدو يقيناً، فإذا ما استوثقنا منها وثوقاً مرضياً، استطعنا بعدئذ، فيما أضن، في شيء من الإيمان المزعزع بالعقل البشري، أن نتتبّع مجرى البرهان، فإن ألقيناه واضحاً لم يكن بنا بعد ذلك حاجة لسؤال
فقال: ذلك صحيح
(يتبع)
زكي نجيب محمود
أبو العباس أحمد المقّري
1041هـ - 1631م
بقلم عبد الهادي الشرايبي
تتمة
هذا ولا نثني عنان القلم دون أن نشير إلى تلك القصة الشعرية استعراضية لحوادث الدهر وأيام الأول، وهي طويلة نجتزئ منها ببعض فقرات يقول في فاتحها:
سبحانَ مَن قَسّمَ الحظو
…
ظ فلا عتابَ ولا ملامه
أعمى وأعشى ثمَّ ذو
…
بَصَر، وزرقاءُ اليمامه
ومسدد، أو جائر
…
أو حائر يشكو ظلامه
لولا استقامة مِن هدا
…
هـ لما تَبَيَّنت العلامه
. . . فالعَيش في الدنيا الدنيّة
…
غير مَرجو الإدامه
مَن أرضعَته ثَديَها
…
في سرعَة تبدي فطامه
مَن عزَّ جانبِهِ بها
…
تنوي على الفورِ اهتضامه
وإذا نظَرت فأين مَن
…
منعَته أو منحَت مرامه
أينَ الذين قلوبهم
…
كانت بها ذاتَ استهامه
أينَ الذين تفيئوا
…
ظلّ السيادَةِ والزعامه
أينَ الملوكِ ذو الريا
…
سةِ والسياسةِ والصرامه
أم أينَ عنترة الشجاع
…
وذو الجدا كعب بن منامه
والزاعِمونَ بجهلِهِم
…
أنّ القبورَ صَدى وهَامه
والمكثِرونَ مِنَ المجو
…
نِ إذا شَكا الفِكرُ اغتمامه
أينَ الغَريض ' ومعبد
…
أو أشعب وأبو دلامه
أينَ الألى هاموا بسعدي
…
أو بثينَة أو أمامه
وبَكوا لفرط جواهم
…
والليلُ قَد أرخى ظَلامه
وتَتَبّعوا آثارَ مَن
…
عَشَقوا بِنَجدٍ أو تهامه
وتَعَلّلوا، والشَوقُ يَغلِبُ
…
بالأراكةِ والبِشامَه
وسَقاتها المتَلاعِبونَ بلَب
…
مَن أعطوهُ جامه
مِن كلِّ أهيفٍ يزدري
…
بالغصنِ إن يَهزز قِوامه
ذي غَرَّةٍ لألاؤها
…
يمحو عَنِ النادي ظَلامَه
فالشمسُ في أزرارِه
…
والبدرُ في يَدِهِ قَلامَه
يصمي القلوبُ إذا رَمى
…
عَن قوسٍ حاجِبَهُ سِهامَه
وَيَروقُ حَسَناً إن رَنا
…
وَيَفوقُ آراماً بِرامه
ثم يشكو صروف الدهر وفجائعه بفخر الأدب (ذي الوزارتين لسان الدين بن الخطيب):
راعَت صروفُ الدّهرِ دو
…
لته، وما راعَت ذمامه
حتى ثَوى إثرُ التَوى
…
في حفرَةٍ نثِرَت عِظامه
مَن زارها في أرض (فا
…
س) أذهَبَت شَجوا منامه
إذ نَبهَته لِكلّ شَملٍ
…
شَتّتَ الموتُ التئامه
هذا لِسانُ الدينِ أسكَتَهُ
…
وأسكَنَهُ رجامه
ومَحا عِبارَتِه فمَن
…
حَياهُ لَم يردد سَلامه
فَكَأنّهُ ما أمسَكَ ال
…
قَلَم المطاع ولا حسامه
وَكَأنّه لَم يعلُ مَت
…
ن مطهم باري النَعامَه
وَكَأنّهُ لَم يرق غا
…
رب الاعتزاز ولا سنامه
. . . مذ فارَقَ الدنيا وقَو
…
م ض عن مَنازِلَها خِيامه
أمسى بِقَبر مفرَداً
…
والتربُ قَد جَمَعَت عِظامه
مِن بَعدِ تَثنِية الوزا
…
رة، جاده صَوبُ الغَمامه
لَم يَبقَ إلا ذِكرُهُ
…
كالزهرِ مفتَرِ الكمامه
- 4 -
وله في الشعر المنثور رسائل بليغة، ومساجلات أدبية رائقة؛ ويكفي أن نلقي نظرة على كتابه الحافل (نفح الطيب) الذي هو سجل لألوان الأدب الأندلسي، وديوان لأخبارهم وطرائفهم، والذي تدين له العروبة والتاريخ والأدب والفن بأكبر الفضل في جمع أشتاتها،
ونظم متناثرها، فخلد بعمله ذاك صوراً حية من الحضارة الأندلسية، ومدنية العرب في أوربا (من مطلع فجرها حتى مغرب شمسها)!. . .
وإليك ما يقول في وصف البحر حين نزوحه عن مسقط رأسه إلى ديار الشرق والحجاز:
(. . . ثم جد بنا السير في البر أياماً، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حبالها وهياماً، وكنا عن تفاعيل فضلها نياماً، إلى أن ركبنا البحر، وحللنا منه بين السحر والنحر، وشاهدنا من أهواله، وتنافي أحوالها، مالا يعبر عنه، ولا يبلغ له كنة. فكم استقبلتنا أمواجه بوجوه بواسر، وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر، قد أزعجتها أكف الرياح من وكرها، كما نبهت اللجج من كسرها، فلم تبق شيئاً من قوتها ومكرها، فسمعنا للجبال صفيراً، وللرياح دوياً عظيماً وزفيراً، وتيقناً أنا لا نجد من ذلك إلا فضل الله مجيراً، وإذا مسّكم الضر في البحر ضلّ ما تدعون إلا إيّاه، وأيّسنا من الحياة لصوت تلك العواصف والمياه، فلا حيا الله ذلك الهول المزعج ولا بياه، والموج يصفق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطرب، فكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب، فيبتعد أو يقترب، وفرقه تلتطم وتصطفق، وتختلف ولا تكاد تتفق، فتخال الجو يأخذ بنواصيها، وتجذبها أيديه من قواصيها، حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها، وعنان السحب يخطف في استقلالها، وقد أشرفت النفوس على التلف من خوفها واعتلالها، وأذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها، وساءت الظنون، وتراءت في صورها المنون،. . . . ونحن قعود، كدود على عود، ما بين فرادى وأزواج، وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا، وتوهمنا إنه ليس في الوجود، أغوار ولا نجود، إلا السماء والماء، وذلك السفين، ومن في قبر جوفه دفين، مع ترقب هجوم العدو، في الرواح والغدو، لاجتيازه على عدة من بلاد العدو. . لاسيما مالطا الملعونة، التي يتحقق من خلص من معرتها أنه أمد بتأييد إلهي ومعونة. فقد اعترضت في لهوات البحر الشامي شجا. وقل من ركبه فأفلت من كيدها ونجا،. . . وتشتت أفكارنا فرقا، وذبنا أسى وندماً وفرقا، إذ البحر وحده لا كميّ يقارعه، ولا قويّ يصارعه، ولا شكل يضارعه؛ لا يؤمن على كل حال، ولا يفرق بين عاطل وحال، ولا بين أعزل وشاكي، ومتباكي وباكي، فكيف وقد انظمّ إليه خوف العدو الغادر الخائن، إلى أن قضى الله بالنجاة وكل ما أراد فهو الكائن.) إلى أن يقول: (فترى الأنفاس
تعثر في زفرة الأشواق، والأجسام قد زرت عليها من التعب الأطواق، وتساوي في السير نهار مشرق، وليل مقمر أو داج. . ثم وصلنا بعد خوض بحار، يدهش فيها الفكر ويحار، وجوب فياف مجاهل، يضل فيها القطا عن المناهل، إلى (مصر) المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع، وشاهدنا كثيراً من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي والأسجاع، وتمثلنا في بدائعها التي لا نستوفيها، بقول ابن ناهض فيها:
شاطئُ مصر جَنّة
…
ما مِثلها في بَلَد
لا سيما مذ زخرِفَت
…
بِنَيلِها المطرد
وللرِياحِ فَوقِه
…
سَوابِغُ من زرد
مَسرودَة ما مَسَّها
…
داودَها بِمبرد
سائلة، وَهوَ بها
…
يَرعدُ عاري الجسد
والفلكُ كالأفلاكِ بي
…
ن حادر ومصعد
- 5 -
وبعد فلعل هذه الكلمة تكون حافزاً لأدباء العرب إلى دراسة هذا الأديب الكبير والاهتمام بآثاره القيمة، وتوفيها حقها من البحث والاستنتاج، ومن هاتيك الخدمة إعادة طبع كتابيه الكبيرين (نفح الطيب) و (أزهار الرياض) في شكل يلائم قيمتها الأدبية والتاريخية مع مراجعتها على الأصول وتتميم النقص الذي بهما
(فاس)
عبد الهادي الشرايبي
أجدّ ' وأمزح
اندفاعات
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
أنا ما بَرِحتُ ولا أراني أبرَح
…
بينَ الضلالةِ والهدى أترَجّح
طوراً بإبليسِ المسوّسِ أقتَدي
…
طَرِباً وطوراً للإله أُسَبّح
إنّي أرى إن السلامة في التّقى
…
لَو كانَ شَيطاني بذلكَ يَسمَح
إبليسُ يغويني فإن لم يهدني
…
رَبّي فإنّ به مَصابي يفدح
وإذا استقرت في الحياة عَقيدَة
…
يوماً فبالبِرهانِ لا تتزَحزَح
في الشكِّ وَخز واليَقينِ قناعَة
…
فانظر لأيّ المَسلَكَينِ ترَجّح
لم أطمَئِنّ إلى الحياة فإنها
…
عبء وتحتَ العِبءِ ناس ترزح
تَبكي اليتامى ثمّ إنّي لا أرى
…
لِدموعهم مَذروفة مَن يمسَح
سألَ القطيع المالكيه راعياً
…
فأجيبُ هاكَ الذئبُ فهو الأصلح
إن كانَ في ذِكرِ الحقيقة جَهرةً
…
قبح فكتمان الحقيقةِ أقبَح
مَن لي بصبحِ أهتدي في ضوئِهِ
…
فالليلُ داج والكواكبُ جنّح
ما كلُّ أقوالي بَناتُ عقيدَتي
…
إني لفي شِعري أجد وأمزح
وإذا ذَمَمتُ فلا أذمّ سوى الذي
…
يأتي من الأفعالِ ما استقبح
إنّا بعهدٍ للعروبةِ حاجة
…
فيه لإصلاح وأين المصلِح
لم يَكتبُ الله البَقاءُ بأرضهِ
…
إلا لمن هو للوغى يتسلّح
أمّا الطبيعةُ فهي خَرساء إذا
…
ساءلتها عن أمرها لا تفصح
ما زالَ هذا الكونُسِرّاً غامِضاً
…
ولَعَلّ ما هوَ غامِض يتوَضّح
إن الحياةَ رواية قد أحسنوا
…
تمثيلها والأرضُ نِعمَ المَسرَح
دهري تربّاني ودهري هَدّني
…
أأذمّ دهري أم لدهري أمدَح
ذهبَ الشبابُ مخلّفاً أغلاطهِ
…
ووددت لو أن المشيبُ يصَحّح
عمر بمختلف الحوادثِ حافل
…
وَليّ فما للنفس فيه مَطمح
قد ذقتُ حلوَ العيشِ فيه ومرّه
…
وخلت يدي حينا وكانت تطفح
كم بائسٍ يطوي سجلّ حياته
…
يأساً كما يتطوّح المتطوّح
وأرى الكآبَة للسرورِ ذريعةً
…
من لا يلاقي غَمّةً لا يفرح
قد كنتُ في عهدٍ مضت أيامهُ
…
أمسي على ضوءٍ كأني أصبِح
لم امتدحُ عهد الشبابِ وطبيهِ
…
حتى علتني كبرة لا تمدح
بقيت بنفسي في الحياةِ لبانة
…
أدنو إليها وهيَ عنّي تنزح
في الصبحِ غرّد يا هزار فإنما
…
قبل الصباحِ الوردُ لا يتفتّح
وأشممهُ وألثم ثغرهِ قبل الضحى
…
فالورد إن جاَء الضحى يتصوّح
صاحَ الغرابُ على كراهة صوتِهِ
…
في الروضِ واختارَ الصّموتَ الصيدح
ودّوا لو إني قد جنحت عنِ الهوى
…
في كبرتي لكنني لا أجنح
إن كنت ' شيخاً قد كَبرتُ عن الصّبا
…
فالقلبُ لم يكبرُ وروحي تمرح
شقّوا فؤادي وانزَعوا منه الهوى
…
ولعلّها عملّية لا تنجح
إني بأوطاني التي أحبَبتها
…
بالشعرِ للآتي البعيد ألوح
يا حبّذا لو إنّ روحي بعدما
…
تلقي المنييّة في المجرةِ تسبح
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي
فصول ملخصة عن الفلسفة الألمانية
11 -
تطور الحركة الفلسفية في ألمانية
فرديريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
- 2 -
وهنالك علاقته مع المرأة تبدي ناحية من نواحي نفسه، فقد زعم أناس إن نيتشه كان يذهب مع المرأة مذهب معلمه (شوينهاور) كاره المرأة، ويستشهدون على ذلك بقوله:(أيها الذاهب إلى المرأة! لا تنس عصاك وسوطك) ولكن هذا الحكم يسهل نقضه على المدقق في تعاليم نيتشه، فالمرأة التي طعنها نيتشه في الصميم هي المرأة المترجّلة التي تريد أن تزاحم الرجل في علمه وجهاده واقتصاده، أما غير هذه المرأة فهو مقدر لها محترم لفضلها، مقدس لمعنى المرأة فيها؛ ولقد كان له من هنّ صديقات وصاحبات فضليات، وهو - وإن لم يتذوّق من امرأة ذلك الهوى العاصف والحب اللاعج فقد تذوّق عطفها الرقيق وعاطفتها الخالصة. وقد ذكرت شقيقته في مذكراتها (إن أخاها كان يجهل الحب العادي. . . وإنما كان همه الشاغل له التفتيش عن الحقيقة). على إن هذا الفيلسوف السئم (المنطوي على نفسه) الذي لم يستسلم للأهواء المصطخبة والميول الملتهبة، قد تذوّق في أيام نكبته من عطف المرأة ما لم ينعم بمثله إلا قليل. . . فهو صاحب مثل أعلى في الحب كما كان في الصداقة
وهنالك نشأته المدرسية فقد دلّت على طبعه (الأرستقراطي) الذي ينفر من كل شيء مبتذل شائع، ولا يميل إلا إلى كل جميل لامع، وطبعه هذا هو الذي حمله على اعتزال رفاقه الذين يدرسون معه، وذوقه هذا الجانح إلى محبة الأشكال الجميلة هفا به إلى عشق الجمال القديم وحب العبقرية الفرنسية الغابرة والحاضرة. ونفوره هذا من السوقة والعامة جعله ينفر من المسيحية، ويصفها ويصف أصحابها ورسلها وصفاً قاسياً، ويكره كل المبادئ التي تبشّر بها الديمقراطية والإنسانية الاشتراكية. وكل تعاليمه الأخلاقية إنما تؤول إلى هذه الغاية:(هل هذه العاطفة شريفة أو غير شريفة؟) ولعلّ نيتشه كان يمثّل نفسه الجبارة في
هذه الكلمة التي يرددها (زرادشت) حين يقول: (تسألونني لماذا؟ أنا لست ممن يسألون حين يعملون لماذا؟) وهذه صفة نفس لا تعتمد إلا على إرادتها، تحتمل الألم وتصدمه ثم تهزمه، وتقابل القدر وتعلن سيادتها عليه
أطوار حياته
كان هوى نيتشه الراسخ في صدره هو العثور على الحقيقة، فلننظر أي طريق ركب إليها، وما هي الدوافع التي هيمنت عليه؟
كان نيتشه يمت بنسب قوي إلى أسرة مغرقة في دينها، متشددة متعصبة، مع ميل إلى الدراسة العلمية، قرن والده العلم إلى الدين؛ وما كان لنيتشه أن يبدل هذا السبيل الذي اختاره له والده واختارته طبيعته، وقد عرفه أصدقاء حداثته مغالياً في دينه وفي تقواه، ولا عجب إذا أطلقوا علي - وهو في السادسة من عمره - أسم العابد الصغير؛ حتى إذا ما أتم دراسته الأولى خرج إلى الحياة وهو لا يزال يفكر في ربّه، ولا يفكر بنعمته، ولا يجحد وجوده. وما هي إلا أعوام كرت حتى أخذ يرتاب في الدين الملاصق للعلم، لأن ما في الدين من إيمان لا يلائم في رأيه ما في العلم من حرية وانطلاق! وهو عندما يعمل على درس الطبيعة والتاريخ متوخياً الحقيقة من وراء دراساته يجد في عمله هذا ما يسمح له بأن يكون طليقاً حراً لا يسترقه شيء. ومنذ ذلك الحين بدأ يطمع في الحقيقة العلمية التي يقتفي أثرها فكره الضائع دون أن يفقد الله الساكن في أحناء صدره. ولكن ناشد الحقيقة العلمية لا يتسنى له أن يوفق زمناً طويلاً بين حقيقته المنشودة وبين إيمانه الموروث. فهما حقيقتان متضادتان، إذا تلائمتا في أول الطريق فنزاعهما حقيق في وسطه، وإذا توافقتا في وسطه فالخلاف ناشب في منتهاه. وهاهو ذا نيتشه يفصل الآن بين هاتين الحقيقتين، ويكتب عام 1862 تجربة فلسفية على القدر والتاريخ، يحدثنا إنه قاس بعقله (أوقيانوس الأفكار الواسع، وهم بأن يجازف بنفسه في بحر الشك، ولكنه وجد إن مجازفة مثل روحه الضعيفة تجاربها ضرب من الجنون وهي لا تملك عدة، ولا تحمل سلاحاً) ومنذ تلك اللحظة ألقى إن الديانة المسيحية مبنية على افتراضات وهمية. إما وجود الله والخلود والوحي فستبقى جميعها مسائل لا حل لها. (إنني جربت أن أكفر بكل هذا، وما أيسر الهدم! ولكن الهدم يستلزم البناء. . . على إن الهدم والتخريب هما أصعب مما تتمثله عقولنا، فنحن في
الحقيقة لا نعيش لأنفسنا ولا نملك أنفسنا وقفاً علينا. فهناك أوهام الطفولة وأساطيرها تحتل مكاناً منا، وهناك تعاليم الآباء والمعلمين تؤثر فينا، وكلها عوامل مترابطة متلاحمة لا يسهل على العقل أن يخترق سياجها، ولا يمكن المنطق أن يقوم اعوجاجها.
إن قوة العادة المتوارثة وتسامينا إلى الكمال وانفصالنا عن العالم الحالي، وحل كل عقد المجتمع، والشك في حقائق الوجود، كلها نوازع تتنازعنا وتملك علينا إرادتنا، والنكبات المفجعة، والتجارب المؤلمة، هي التي تسوق قلوبنا إلى الإيمان الذي ولد مع طفولتنا، وصاحب حداثتنا)
وبعد ثلاثة أعوام ألقينا (نيتشة) يخطو خطوته الأخيرة، ويعلن إن الإنسان بين حالتين لا ثالث لهما: فهو إما أن ينتخب الإيمان وما في الإيمان من هدوء ووقار واستقرار، وإما أن يمشي على طريق محفوفة بالأخطار: هي طريق الباحثين عن الحقيقة، الذين لا يتّخذون الهدوء والسكينة مأرباً لهم، وإنما يجدون مأربهم في نجدان الحقيقة. يمشي الباحث منهم وحده مضطرب النفس قلق الضمير، ممزق القلب، نحو ضالّته المقصودة، نحو ما يتجلى له من حق وجمال وخير، وهو إذا غادر طريق الباحثين ورضى لنفسه ذلك الهدوء فقد قتل البطولة في نفسه، وحكم على رجولته بالموت.
انفصل (نيتشه) عن المسيحية التي كان يؤمن بها قبل عهد الانفصال إيمانه بشيء رمزي قائم على قواعد رمزية، شأن الحقائق السامية تكون رموزاً لحقائق أسمى منها وأعلى. وظل يدرك خطر العمل الذي أقدم عليه، ويتكلّم في كل فصوله (عن موت الآلهة) كأن موته - عنده - حادث عظيم في تاريخ البشرية أو عمل نفّذ اليوم أوله والأجيال الآتية ستتممه. ولكن (نيتشه) اعدم هذه الآلهة ليبعث إله الحقيقة. (هذا الإله (الأدبي)، قد مات ليعيش الإله العلمي) وهكذا حمله حنينه الهاجع في أحناء نفسه للدين إلى الإيمان بآلهة الحقيقة. وعندما وجد نفسه يتنازعها إلهان سلطانهما نافذ: الإله الذي ورثه، والإله الذي لقيه، رأى أن يضحي بالأول ويبقى على الثاني. وهذا الإله هو الذي يسيطر وحده على كل تعاليم نيتشه ومبادئه، ولم يعش مع إلهه هذا كما يعيش أولئك مع آلهتهم مستسلمين قانعين بما نزل على قلوبهم من برد اليقين، فهو يهب عاملاً على تحطيم كل عمارة مشيدة على الإيمان بذلك الإله الأول، وهو - الآن - لم يعد يؤمن بنظام الطبيعة ولا بجمالها. ولا يميل إلى
محاسنها، ولم يعد يرى في صفحات التاريخ ذلك القضاء الإلهي والنظام السماوي الذين يقودان الإنسانية إلى مرابعها التي خلقت لها، ولم يعد يستسلم لذلك القدر الذي يذهب بحياتنا ما يشاء، ولا لتلك الإرادة الإلهية التي تود أن تهدينا إلى سبيل النجاة والسلام.
بحث (نيتشه) جميع الأديان والشرائع منذ العصور الأولى والمذاهب التي نزلت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور. وبعد أن شكك في هذه المذاهب وارتاب في حقائقها وأغرق في الإنكار عاد إلى هذه الفكرة التي قالها جازماً، وزعم إنه بهذه الفكرة حلّ مسألة الوجود:(إلا أن الآلهة جميعهم قد ماتوا! والآن نريد أن يحيا الإنسان الكامل. . السوبرمان) وهكذا أضاع نيتشه إلهه ووجد نفس.
بحث الناقدون كثيراً في فكرة نيتشه التي كانت تتطور وتتبدل تبعاً لما يحيط بحياته. وهو قبل بلوغه هذا المرفأ خاض بحاراً كثيرة وجاز شواطئ كثيرة. وقد أدرك بذاته تطور ذاته فشبه نفسه بالأفعى التي تنسلخ من جلدها أو النسر الذي ينسل ريشه. والحياة - عنده - ليست بواجب يلقى ولا بعمل يفرض ولا بوهم يحسب، وإنما هي مادة شأنها شأن المواد التي تقع بين يدي الباحث. وكان ينظر نفسه كالمتنقل بدون انتهاء. همّه النضال تهذبه انكساراته تهذبه كما انتصاراته، أو كالقافز بين الصخور يكاد يذهب بنفسه ضحية على رؤوس الصخور الشاهقة. وهو - بلا كلل ولا فتور - يصعد من عال إلى أعلى، ومن قمّة إلى قمّة، مبدّلاً كل لحظة أفقه عازما على ألا يقف أبداً ولا ينثني أبداً. رداؤه الشجاعة والصرامة، لا يروعه البرد ولا تخيفه الهاوية. ولا يجزع من العزلة التي يتنفس فيها ريح الثلج المنهمر. . . هو دائما في صعود وارتقاء. وهكذا يعتقد نيتشه الذي فهم الحياة إنها تفوق بعضها على بعض؛ يعتقد إن التطور لا غنى عنه، ولا بدّ منه لأنه مادة ضرورية في تحول الحياة. يعتقد نيتشه ذلك ويدأب على أن يوفق بين حياته وإرادته مع هذا المثل الذي اعتقد به، وقد كان توفيقاً كاملاً وكان تلائماً كاملاً، وصارت مسألته في الحياة هذه المسألة:(ما عسى يكون عندي معنى الحياة إذ لم يكن إله؟) ويجيب على هذه المسالة بهذه الكلمة: (إن اللاشخصية ليس لها قيمة على الأرض ولا في السماء. إن الحب الأكبر هو جوهر ضروري وجوده في كل مساء الوجود الكبرى. وهذا الحب وحده جدير بالأرواح القوية النشيطة ذات اليقين الراسخ. هنالك فرق كبير بين المفكر الذي يقابل مسائل الوجود
بشخصيته، يرى فيها قدره وفاقته كما يرى فيها سعادته، وبين المفكر الذي يتوجه إليها مجرّداً عن شخصيته. لا يعرف أن يلمسها إلا بفكره البارد الغريب. إن هذا المفكر لا يستطيع أن يلمس شيئاً. وهب أن مسائل الوجود قد أمكن لمسها فلن يقدر للضفادع أن تلمسها ولا للدجاج المسترخية أن تحسها. .
ونيتشه وجد في المسألة الكبرى شقاءه وسعادته. وقد ناضلها بدون ضعف ولا هوادة، ونازلها جسداً لجسد دون أن ينفذ إلى قلبه الوهن. حتى إذا أصابه الجنون وقضى على شعوره أعلن نشيد الانتصار. أو ليس هذا بعد ذلك كله قدراً جميلاً بين الأقدار؟
(يتبع)
خليل هنداوي
القصص
من أساطير الأغريق
مجازفات هِرَ قل
للأستاذ دريني خشبة
1 -
إلى غابة نيميا
كانت الغابة تثير الرعب في قلوب الجن، وكانت الظلمات تضرب في أنحائها فتجعلها تيهاً يعج بالأفاعي، ويضج بالتنانين
وكان ملكها الضرغامة يربض في المغارة المفزعة، المنشقة كالقبر في أول الطريق المؤدي إليها؛ وكان يخرج في أول الليل فيصول في القرى المجاورة ويجول؛ وكان الأهلون التعساء يلقون من بطشه وشدة أذاه الشيء الكثير؛ فلم يكن يبقى على دابة في الأرض، ولا إنسان في الطريق. ينقض كالقضاء على فريسته فيجندلها، ثم يحتملها إلى كهفه فيلتهم منها، وينبذ الباقي لخدمه وعبيده الكثيرين من سائر السباع
ولم يكن كهذه الأسود الضئيلة التي يتحدث عنها السودان هذه الأيام، بل كان أسداً في جرم الفيل وقوته، ورشاقة النمر وخفته، وخباثة الثعلب وحيلته. . . يثور فينقدح الشرر من مقلتيه، وتمور الأرض وتسجد الجبال بين يديه. وكانت له لبدة نسجتها له الآلهة من أشواك الجحيم، وبطنّها بحمّى المنية!
وكان زئيره يقصف كالرعد فيزلزل شعاف الجبل؛ ويهز جوانب السماء، ويهيج الجنون والفزع في رؤوس الوحوش، فترى إلى الغابة كأنها ترقص على فوهة بركان!!
ولقى هرقل أصدقاءه فنصحوا له ألا يلقى هذا الأسد، وأن يضنّ بشبابه. . . على أنيابه؛ وبماء الحياة المتدفق في بردتيه، على جمر الغضى المتأجج في حدقتيه. . .
ولكنه أبى!! وانطلق كالعاصفة إلى حيث يربض أبو أسامة. . . وإنه لعلى خطوات من الكهف، وإنه لينظر إلى السيف الذي كان إلى هذه اللحظة في يمينه فلا يجده!!
(أين؟ أين سيفي؟. . . آه! ها ها. . . لقد سرقته حيرا!! أرادت الخبيثة أن تجردني من السلاح الذي أنازل به خصمي! خاب فألك يا حيرا!! سأنازله بغير ما سلاح. . . سأحطمه.
سأشدّ لسانه حتى أنتزعه من غلاصمه. . . إليّ يا سبع نيميا. . . إليّ يا ملك الغابة وسيد وحوشها. . . الساعة ساعتك. . . لا مفر لك يا أبا لبدة!. . . . . . . . .)
وطفق هرقل يرعد كالمجنون؛ وكان سبع نيميا نائماً فاستيقض على هذه الصيحات الداويات، ووثب وثبة هائلة كان بها أمام هرقل، وجهاً لوجه. . .
وبدأت الزوبعة. . .
والتقى الجبل بالجبل، وتصارع الجبّاران ساعة، لا هذا ينال من ذاك، ولا ذاك يصل إلى وطر من هذا. . . وأقبلت وحوش الغابة تشهد المعركة وتتعجب. . . وغضب أبو أسامة، وهالة ألا يقوى على رجل بمفرده يكاد يصرعه. . .
وتعب هرقل. . . ونال منه الجهد، ورأى أن لا بد من آلة، فدار دورة اقترب بها من شجرة باسقة، فانتزعها، وألقى بجذعها في شدقي الأسد، ثم أسرع فقبض على لسانه العظيم فانتزعه، وانقذف الدم يتدفق من هنا وهناك. . . وتسيل به أودية الأرض!!
وكأن نشوة الظفر قد ضاعفت قوة هرقل، فقبض على فكّي الأسد، وشدّ على الرأس الكبير فتحطّمت عظام المخ، وخرّ ملك الغابة يتقلّب في لجة من دمه الغزير!.
وهمهمت الوحوش مشدوهة!
لقد قتل ملكها. . . فلا خوف عليها بعد اليوم! ستكون حرة طليقة، تجيء وتروح، وتقتات لنفسها غير منتظرة ما كان ينبذه لها أبو أسامه!! ونظر هرقل، فرأى سيفه وراء ظهره!!
لقد جاءت به حيرا بعد إذ شهدت من جبروت البطل ما بهرها وتناول السيف باسماً، ثم تقدم إلى الأسد فسلخ جلده الكبير، وأبقى على اللبدة الهائلة، وعاد أدراجه إلى يوريذوس، ملتفعاً دثاره الغريب الذي كان إلى لحظة قريبة يضم جثمان ملك الغابة وسيد وحوشها.
2 -
مع الأفعوان الهائل (هيدرا)
ولقي صديقه يولوس، وتحدث عما كان من أمره مع سبع نيميا، فأخذه العجب، ونذر ليصحبن هرقل في جميع مجازفاته.
ثم فصلا، وما كاد يفعلان حتى قابلهما رسول الملك برسالة تأمر هرقل بالتوجه إلى مستنقعات ليرنا حيث الأفعوان الأرقم هيدرا: (. . . فإذا لقيته ثمّة فعليك به، ولا تعودن إلا برأسه. فقد حدثنا من عرفه إنه لا يبقي على دابة ولا بهيمة، ولا يعفي من القتل أحداً. . .
ونحن أرفق برعايانا من أن ندعهم فرائس لهذا الأفعوان. . .)
وانطلقا، حتى إذا كانا عند المستنقعات المترامية، شهد هرقل حيواناً ضخم الجثة فضيع المنظر، يتقلب فوق صفحة الماء المغطاة بزهرات اللوتس وأوراقه العريضة النامية. وأيقن إنه هيدرا، فتناول قوسه الكبيرة، وأرسل إلى الوحش سهماً يهيجه به، ليخرج من الماء، وليأخذ معه في نزال وقتال. . . وتم له ما أراد. وخرج هيدرا الفظيع يقلب رؤوسه السبعة.
ويقلب في كل فم لساناً طوله ذراعان، وبرزت أنيابه تنفث سمها الزعاف، وأرسلت العيون الصغيرة البراقة شررها، وشرع الفحيح المرعب يصم أذني هرقل وأذني صاحبه
وبدأت المعركة. . .
وامتشق هرقل سيفه الكبير المرهف، وبضربة قاضية أطاح رأساً من الرؤوس السبعة. . .
ولكن. . . يا للعجب!! لقد نبتت في لحظات قليلة، في مكان الرأس المقطوع، رؤوس سبعة أخرى، أخذت تنمو بسرعة فائقة، حتى أوشكت أن تساوي الرؤوس الكبيرة في حجمها. . .
وريع هرقل، وهتف بصاحبه يولوس قائلاً:(أوقد النار يا صاح، وأجج هذا الجذع فاكو به كل رأس يطيح. . . إنني أخشى أن ينبت لهيدرا ألف رأس!)
ونفخ في النار وأجج الجذع؛ وأخذ كلما طاح رأس كوى مكانه بالنار وحدث ما لم يكن بالحسبان. . . لقد أرسلت حيرا سرطانا بحرياً يعض قدما هرقل وهو يحارب هيدرا، تود بذلك لو تشغله فيستطيع الأفعوان الظفر بخصمها العنيد. . . ولكن هرقل تنبه للسرطان فوطأه، وسحق عظامه سحقاً وانتصر هرقل. . .
وطفق يغمس سهامه في دم الأفعوان ليسممها، حتى إذا أصابت رمية لم تفلتها من الموت. وعاد إلى يوريذوس ثملاً بخمرة النصر
3 -
ظبي سيرينيا
وأسقط في يد يوريذوس حين رأى هرقل يختال في بردة السبع ويتيه، وفي قبضته القوية رؤوس هيدرا هامدة خامدة
وكان في مقاطعة سيرينيا ظبي له قرنان من ذهب، وأيطلان من نحاس، وساقان من معدن ليس له فيما نعرف من المعادن من ضريب. وكان الملوك إذ أرادوا إعجاز أحد من الناس ليقتلوه، كلّفوه باقتفاء ظبي سيرينيا وإمساكه؛ فإن لم يفعل، ولن يستطيع أحد أن يفعل، لشدة
عدو هذا الظبي، كان جزاءه القتل. وقد أراد ملك أرجوس أن يعجز هرقل هذه المرة، فأمره باقتفاء ظبي سيرينيا:(. . . فإن لم تعد إلينا به، فأنت أعلم بما ينتظرك من الموت الزؤام. . . .)
ولم يستطع هرقل أن يمسك الظبي، لأنه كان يعدو كزوبعة، فما تكاد حوافره تلمس الأرض إلا كما تلمس السماء كف سكران، فلجأ إلى الحيلة؛ واحتفر في طريق الحيوان حفرة عميقة غطّاها بوشائج رقيقة من الثلج، وطارد الظبي حتى ألجأه إلى الحفرة، ووقع فيها، فنزل إليه واحتمله، ومضى به إلى الملك الغاشم
4 -
خنزير أرمنثيا
ثم أمره بقتل خنزير بري مخرب، كان يأوي إلى غابات أرمنثيا، ويقطع الطريق على القبائل الرحل، ويقتل كل من تحدثه نفسه بمحاربته أو الوقوف معه في ميدان. وكان ذلك الخنزير لا يبالي شيئاً في الأرض أو في السماء، وكانت بينه وبين قبائل السنتور مودّة في الشر، وتحالف على إيذاء الناس. فلما اشتبك هرقل وإياه في نزال تشيب من هوله الولدان، وشعر الخنزير إنه مقضي عليه لا محال، خار خواراً عالياً يستنجد حلفاؤه السنتور، ولكنهم لم يصلوا إلى مكان المعركة إلا بعد أن أجهز هرقل على خنزيرهم العزيز، فنشب قتال مروع بينهما، وأخذ هرقل البطل يسدد سهامه التي كان قد غمسها في دم هيدرا، إلى صدور أعدائه حتى كادوا يبيدون جميعاً. وأقبل شيرون - وهو كما علمنا مؤدّب هرقل وأستاذه - ليحسم النزاع بين قبيله وبين تلميذه، ولكن وا أسفاه! لقد أصماه هرقل بسهم مسموم فأراده وهو لا يعرفه! فلما أدرك إنه أستاذه، أقبل عليه، وعنى به، وجمع من الأعشاب الطبية ما حسب إنه ينقذ أستاذه من براثن الموت، ولكن بلا جدوى! ومات شيرون، وأهوى عليه هرقل يقبله، وفي عينيه دموع المحبة والاعزاز
وتعاون هرقل ومن بقي من السنتور فدفنوا القتلى، ثم أقاموا قبراً مشيّداً دفنوا في ثراه شيرون، ومضى كل لطّيته. .
5 -
زرائب أوجياس ملك اليس
كان ملك أوجياس، ملك إليس، يقتني عدداً عظيماً من الماشية والخيل والغنم، تزدحم في
زرائب متجاورة مع آلاف من الخنازير مؤلفة. وكانت النظافة في هذه الزرائب مهملة إهمالاً تاماً، حتى لكانت الروائح الخبيثة تنتشر منها فتصدم أنف عابر السبيل على فرسخ أو فرسخين، وأنتن الروث فأحدث طاعوناً مروعاً أوشك أن يأتي على جميع الأهلين، وقرر الأطباء أن لا سبيل إلى مقاومته إلا إذا عنى بتنظيف زرائب الملك. . .
وعلم يوريذوس بما شغل بال صديقه ملك إليس، فابتسم ابتسامة صفراء، وقال لهرقل وهو يحدثه حديث السينتور:
(إذن فعليك أن تتوجه إلى صديقي أوجياس، ملك إليس، فتنظّف زرائبه مما بها من خبث، وتكون بذلك قد أديت خمساً من المسائل الاثنتي عشرة، التي كتبتها عليك الآلهة)
وامتعض هرقل في أعماقه وعبس عبوسة كادت تنفجر بالسخط على هذا المالك الغبي؛ ولكنه ذكر نصيحة أريتية، فصدع بالأمر، وذهب من فوره إلى إليس، ليرى كيف ينظف زرائب الملك. . .
وثمة، رأى مجرى عظيماً من الماء، يتدفق من الجبل الشاهق إلى يمين الزرائب وينحدر انحداراً شديداً حتى ينتهي إلى البحر؛ فبدا له أن يغير مجرى الماء؛ بحيث ينصب في الزرائب نفسها، فيكتسح الروث، وينجو الناس من هذا الرهق الشديد وأنقذ هرقل مدينة الملك وثروته وحياة الأهلين!
وحاول ملك إليس أن يستبقيه ليجزيه، ولكن هرقل أبى شاكراً، وقصد إلى يوريذوس يتلقى أوامره
6 -
عجل مينوس
وكان نيتيون إله البحار قد أهدى عجلاً جسداً لصديقه مينوس ملك كريد، كي يقدمه قربانا للآلهة في العيد الأكبر الذي يحتفل فيه بميلاد نيتيون؛ ولكن العجل راق مينوس الملك فانتقى من عجوله أحسنها، وضحّى به مكان هذا العجل الإلهي السمين، واستبقى لنفسه هدية الإله وغضب نيتيون، وأقسم ليكونن هذا العجل نقمة على مينوس وقومه، فسخّر عليه طائفاً من الجنون، فطفق العجل يخرّب ويدمّر، ويقتّل الناس تقتيلا. . .
وعلم يوريذوس بما كان من مصيبة صديقه ملك كريد في عجله، فلما قدم هرقل أرسله ليقتل العجل، أو على الأقل ليقيده فيرتفع عن الناس أذاه. . .
وأبحر هرقل، ولقيه مينوس فرحاً متهللاً، وذهب من فوره لينازل العجل، فكانت معمعة وكانت حرب عوان! لقد كان هرقل يحمل العجل فيرفعه، فيخبط به الأرض فتندك، مع ذاك ما استطاع أن يقتله! وأخيراً اكتفى بأن صفّده بسلاسل وأغلال، وعاد أدراجه إلى أرجوس، وودعته كريد كلها
(لها بقية)
دريني خشية
من الأدب الإيطالي
الليالي العشر
ترجمة الأديب أحمد الطاهر
4
قصة زوجة صبور
جريزلدا
(النساء لا يقمن على العهد، ولا يثبتن على الولاء) ذلك ما يقوله الرجال وما يعتقدون. ولكن هذه القصة التي سأذكر تنقض هذا الرأي وتدل على ولاء المرأة مع غلظة الرجل، وثباتها مع جفوته، وما أحسبكم إلا تشتهون سماع هذه القصة:
جالتيري كان أميراً على دوقية سالوزو، وكان من زعماء الرأي الظالم للمرأة، لا يؤمن بوفائها ولا يثق بإخلاصها. وحال هذا الرأي بينه وبين الزواج، فصد عنه، وانصرف إلى صيد الوحش واقتناص الطير، يجد في ذلك ملهاة ولذة وسلوه. ولكن رعية هذا الأمير كانت مشفقة على البلاد أن يموت أميرها وليس ورائه من يجلس على العرش، وذهب مسعاهم في حمله على الزواج أدراج الرياح، واتخذوا له كل وسيلة فلم يزد إلا صداً ونفوراً
قال الملأ من قومه: (إنا لنراك في وحدة وسأم شديد، وهذه أجمل فتياتنا نقدمها إليك راضين، وإنا لأمرك لمنتظرون) قال:
(لو كانت بي إلى الزواج رغبة لاخترت شريكتي في الحياة لنفسي، لا أكلفكم في ذلك عناء ونصبا، وهذه الفتاة التي تقدمون إليّ مهما يكن من شأنها في أصالة الحسب، وعزة النسب - أرفضها مع احترامي لقدرها، وإجلالي لشرفها؛ وإني لأحذركم عاقبة ما يقع بي من حسرة، وما أجد من غضاضة إذا حملتموني كرهاً على أن أتخذ زوجة لي لا أرضاها ولا أبغي السبيل إليها). وانصرف القوم خائبين نادمين
خرج هذا الأمير يوماً يدور حول قصره، فأبصر إحدى راعيات الغنم: فتاة بهية الطلعة،
ساحرة الجمال، وكانت تحمل في جرتها ماء إلى منزل أبيها، فسألها:(ما اسمك أيتها الفتاة؟) قالت: (جريزلدا)، قال:(إنني يا فتاتي أبحث عن زوجة تشاطرني النعيم، فهل إذا اتخذتك زوجة لي تعملين على هناءتي ولا تعصين لي أمراً بالغاً ما يبلغ من الشدة دون أن يكون في صدرك حرج مما تؤمرين؟). قالت الفتاة: (نعم يا مولاي) وأرسل الأمير إلى المدينة رسولاً فأحضر للفتاة من الثياب أغلاها ومن الحلل أبهاها؛ وعقد على ناصيتها تاجاً من الزهر، وأركبها جواداً وسار بها إلى قصره، وأقام للزفاف ليلة كانت غرة في جبين الدهر، ودرة في تاج الليالي
وسكن الأمير إلى زوجه الصالحة فوجد في طبعها الهدوء والسكينة، وفي شمائلها العذوبة والطمأنينة، وألفاها رفيعة الحاشية كريمة الأخلاق حتى لقد رأى نفسه في الدنيا أكمل الناس سعادة وأتمهم توفيقاً. ولم يكن الشعب أقل سروراً بهذا الزواج. فقد تجلى حبهم وولاؤهم للأميرة وإكبارهم لأخلاقهم وصفاتها ودانوا لها بالمحبة وعقدوا لها القلوب على الولاء
ومضت الأشهر ثم وضعت الأميرة. ولكن وضعتها أنثى! وعادت إلى الأمير عقيدته العتيقة، ولعبت برأسه الهواجس وركبه الشيطان فصد عن سواء السبيل وقال في نفسه:(ما كان لهذه الفتاة أن تبغي عن سواء السبيل حولاً وهي في نعمة سابغة وهناء مقيم. فلو إنني أسأت إليها وبلوتها بشيء من الشدة والبأساء لبرزت طبيعتها الخبيثة وصدق رأيي في النساء)
واستدعاها إلى مجلسه. فلما مثلت بين يديه قال لها: (إن وضاعت أصلك وخسة منبتك كانتا سبباً لسخط الشعب واستيائه، وزاد هذا السخط إنك وضعت أنثى لا تصلح لأن أستخلفها على العرش)
قالت الأميرة: (مولاي! إني أعلم خسة منبتي وإنني أقل من أحط أوزاع الناس شأناً. وما هذه المنزلة التي رفعتني إليها إلا فضل لا أستحقه ونعمة لم أكن أتسامى إلى التطلع إليها. فاتخذ معي فيما بيني وبينك من شأن ما يزكو بشرفك ويرضى نفسك غير آبه لإحساسي وشعوري، فما أنا من المنزلة بحيث أشغل بال مولاي أو أستحق رعايته) وانصرفت الأميرة المبتئسة وفيما هي مطرقة كاسفة البال إذ دخل عليها أحد وصفاء الأمير قال: (مولاتي: إنني بين أمرين أحدهما مر: إما الموت ينزل بي لا راد له ولا دافع، وإما أن آخذ
منك ابنتك) وما كاد يتم رسالته حتى أدركت الأميرة أن الملك قد ساقه البغي إلى الأمر يقتل أبنتها. فنهضت إلى مهد الطفلة البريئة وقبلتها قبلة الوداع، وأسلمتها إلى الرسول في رفق وأسى والتياع، وفي العينين عبرات، وفي النفس حسرات، ولكن الأمير بعث بالطفلة إلى بولونيا أن كان له فيها أقرباء يقومون على تربيتها وتنشئتها
ومضت سنون والأميرة تحمل بين جنبيها فؤاداً كليماً ونفساً تتنزى ألماً، ولكنها لا تظهر الأمير على ما تحمل، ثم أدركت أنها أصبحت جفن سلاح فتعزت بعض العزاء، ثم وضعت غلاماً وحسبت أن الأمير ستهدأ ثورته، وتذهب عنه حدّته، وقد وضعت له ذكراً يرث العرش من بعده
ولكنه استدعاها مرة أخرى، وقال لها في غلظة وجفاء:(لقد أصبحت لا أطيق الصبر على ما ألقى بسببك من مذلة ومهانة يصبهما عليّ الشعب صباً. فلقد أثار سخطهم وألّبهم على أن رأوا هذا العرش الذي أجلس عليه وأحكم بسلطانه سيؤول بعدي إلى غلام ينتسب إلى رعاة الأغنام أهون الناس شأناًً وأقلهم مكاناً. ولقد تدبرت الأمر فلم أجد خيراً من أن أريح نفسي من هذا الغلام كما أرحتها من أخته) واقتطع الغلام من قلب أمه كما اقتطعت أخته من قبله
قالت الأميرة: (مولاي! لك الأمر وعلي الطاعة. ولا أحبّ إليّ من أن تعمل ما يشفي صدرك، ويضع الهمّ عن نفسك، ويحمل إليك السعادة بأوفى كيل، فما أجد سعادتي إلا حيث تجدها ولا تطمئن نفسي إلا حيث ترضى، وانكفأت إلى مقصورتها وقد بضع الهمّ من فؤادها بضعة
وبعث الأمير بالغلام إلى حيث كانت أخته
وشاع في الملأ أن الطفلين قد قتلا، واضطربت النفوس بالحقد على هذا الأمير الطاغي الذي غالى في الضلالة، وتبسط في الأثم، والعدوان، وأفعمت القلوب حباً وعطفاً على هذه الأميرة المنكودة التي صبرت حتى ملها الصبر، وبالغت في الرضا بالمذلة والهوان، ووصل صدى النفوس والقلوب إلى سمع الأميرة فأنكرت على الشعب أن يثور على مولاه، ودافعت عن مسلكه ما وسعها الجهد، على أن هذا كله لم يكن ليحمل الأمير على الثقة بولائها ووفائها وأربت سنو العشرة بين الأمير وزوجته على الستة عشر عاماً وهي تصابر القضاء، وتعاني البلاء. وبقدر ما أقامت على الصبر، كان الأمير يمعن في الغدر
ثم أراد أن يبلوها مرة أخرى:
قال لها: (أيتها الأميرة: لقد عزمت على أن أتخذ لي زوجة غيرك، وسأردك إلى أهلك الذين نشأت بينهم، وإلى كوخك الذي درجت فيه، لتعودي إلى ما كنت فيه من بؤس وفاقة. فما يزكو بمن كان في مكاني من الشرف والعظمة أن تتسامى إلى الاقتران به فتاة وضيعة مثلك، وإني لواجد بين بنات الأشراف والنبلاء من تصلح لهذه المكانة العليا.)
قالت الأميرة وهي تكظم الغيظ وتحبس الدمع: (سمعاً وطاعة يا مولاي طبت نفساً ورضيت الطلاق مخرجاً)
ثم جاء الوصفاء وجردوها من فاخر الثياب وسني الحلل وألبسوها من الثياب رديماً قديماً وبعثوا بها إلى كوخ أبيها وأعلن الأمير أنه سيبني بابنة أحد النبلاء
ثم بعث إلى جريزلدا زوجه المشردة من قال لها: (إن الأمير على نجز الزفاف إلى عروسه النبيلة الجديدة، وهو في حاجة إلى فتاة تعد له مقاصير الزفاف والاستقبال، وتقوم على شؤون الوليمة والاحتفال. ولم يجد من هو أبصر منك بهذه الغاية وأقدر على هذا الشأن لسابق خبرتك بالقصر وما فيه، وهو يأمرك أن تعودي إلى القصر كخادم تعمل بضعة أيام تقوم فيها بما يحتاج إليه الزفاف من دعوة المدعوات، فإذا انتهيت من هذا الأمر تعودين إلى كوخ أبيك كما كنت فيه.)
هذه نصال تحز في قلب الفتاة حزاً، وتمزقه تمزيقاً، وهي لا تستطيع للبلاء رداً، ولا للأمر رفضاً. فسمعت وأطاعت وهي تكاد تنشق غيظاً وكمداً. ولم يكن هيناً عليها أن تنزل عن حب زوجها والوفاء له، وقد هان عليها أن تنزل عن النعيم الذي كانت فيه، والترف الذي تقلبت بين أعطافه وحواشيه
مضت إلى القصر في خفة ونشاط وعليها ثيابها البالية، وعملت مع الخدم في تنظيف المقاصير وإعدادها، ثم خلت إلى نفسها وأعدت الدعوات لسيدات البلاد ليشهدن العرس العظيم
وأقبل يوم الزفاف فاستقبلت المدعوات في ثيابها الخشنة، وابتسامتها الناعمة!
ثم مد سماط العشاء وأقبل الأمير وزوجه الجديدة وكانت بارعة الحسن رائعة الجمال. وأقبل عليها الناس رجالاً ونساءً يقدمون إليه وإلى الزوجة ولاؤهم وطاعتهم وإعجابهم، وطوعت
لهم الزلفى أن يهنئوه على ما وفق إليه من استبدال زوجه الجديدة بزوجه القديمة
ثم نادى الأمير زوجه القديمة جريزلدا وقال لها في غير خجل ولا رعاية لإحساسها: (ماذا تقولين في زوجي الجديدة؟)
قالت: (مولاي! إني لأشعر لها بالحب من أعماق قلبي. وأرجو أن يكون نصيبها من رجحان العقل وسعة الإدراك بقدر نصيبها من الجمال. إذا تتم السعادة لمولاي الذي أتوسّل إليه بكل عزيز لديه ألا يكسر قلبها، وألا يثلم فؤادها، ولا يقرح كبدها، ولا يجرح عزتها، كما كان يفعل بزوجه القديمة. فهذه يا مولاي فتاة صغيرة نبتت في أعطاف النعمة، ودرجت في حواشي العز والترف، وأما أنا فقد تعودت منذ نشأتي شظف العيش وقسوة الدهر ونكد الحياة.)
قال الأمير وقد خلق الليلة خلقاً جديداً: (عفواً أيتها الفتاة وصفحاً جميلاً، لقد بلوتك في البأساء والضراء فما زادك بلائي إلا صبراً على البلاء، واعتصاماً بالولاء؛ ولقد كنت أحسب النساء لا يقمن على العهد ولا يدن بالصبر. وما صدفت عن هذا الرأي إلا بعد أن خبرتك فسلبتك سعادتك وهناءك: دعيني الليلة أرد عليك في لحظة واحدة هذه السعادة التي حرمتك إياها مدى ستة عشر عاماً: هذه الفتاة التي أحببتها الليلة والتي يحسبها الناس جميعاً زوجي الجديدة هي ابنتك وابنتي التي انتزعتها منك منذ كانت في المهد، وهذا الواقف إلى جوارها هو ابننا الذي حرمتك إياه رضيعاً. أقبلي يا زوجتي على ولديك وقبليهما ما وسعك الحب لهما.)
واستوت على الوجوه دهشة شادهة، ووجوم يشبه البله! ثم تقدم النساء إلى جريزلدا وقدنها إلى مقصورة فاخرة وألبسنها ثياباً لم يطل بينها وبينها العهد، وجلسن يحدثها في إكبار لقدرها وإجلال لنفسها
وأقيمت في القصر ليال غر، وشمل الفرح والسرور كافة الشعب، وطابت نفوس وقرت عيون
وبعث الأمير إلى والد جريزلدا وأتم نعمته عليه، فاقطعه من القصر جناحاً يقيم فيه، وعاش الأمير وزوجه الصبور، ووالدها الطيب، وولداها الطاهران في سعادة ونعيم، حتى فرق بينهم الدهر كما يفرق بين كل الأحياء.
(عن الإنجليزية)
يوزباشي أحمد الطاهر
البريد الأدبي
كتاب في تاريخ الإسلام: (فرسان الله)
أصدر الكاتبان الفرنسيان الأخوان جيروم وجان ثارو كتاباً بعنوان (فرسان الله) ، هو الجزء الأول من كتب ثلاثة يزعمان إصدارها تحت عنوان (ألف يوم ويوم في تاريخ الإسلام)؛ وسيكون عنوان الجزء الثاني (حبوب الرمانة)، والثالث (الشعاع الأخضر). وسيعنى الكاتبان في هذه السلسلة بوصف أولئك الذين يسميانهم (فرسان الله) وهم المسلمون (أتباع محمد)، أولئك الذين حملوا راية الإسلام (إلى بلاد الكفر النائية)، وإلى (بحر الظلمات)(المحيط الأطلانطيقي)
ويحتوي الجزء الأول (فرسان الله) على تاريخ موجز لمكة وقت أن ولد بها (محمد بن عبد الله)(صلعم)، وموجز لتاريخ الدعوة الإسلامية والإسلام حتى قيام ملك الأدارسة بالمغرب الأقصى؛ وقد اظهر الكاتبان على رغم هذا الإيجاز، قوة في الوصف، ولا سيما حين استعرضا الدولة الأموية، ويتخذ هذا العرض صورة القصة. ولم يبرأ الكاتبان من ذلك التحامل الذي نراه مائلاً في كل تاريخ غربي يكتب عن نبي الإسلام
وللمؤلفين عناية خاصة بوصف نفسية الشعوب المغلوبة ولا سيما البربر، وكيف غلب عليهم (ذوق الوثنية) أحقاباً
الأستاذ محمد عبد الله عنان
قرر مجلس الوزراء تعيين صديقنا الكاتب المؤرخ والصحفي البارع الأستاذ محمد عبد الله عنان للعمل في قلم المطبوعات بعد إقراره على النظام الجديد. واختيار الأستاذ لهذا المنصب توفيق من الله يضمن اطراد الإصلاح والنجاح في هذا القلم بعد أن أصبح اختصاصه يتناول الإدارة والسياسة والصحافة والتاريخ. ويكاد الأستاذ عنان يكون بلغاته العربية والإنجليزية والألمانية والفرنسية حركة متصلة للإطلاع والبحث والتأليف والتحرير؛ فقد تخرج في مدرسة الحقوق الملكية سنة 1918، واشتغل بالمحاماة حيناً من الدهر، ثم عالج منذ سنة 1924 التحرير في الصحافة السياسية والأدبية، وتوفر على دراسة التاريخ السياسي والمسائل الدولية، وعكف في أثناء ذلك على فقه التاريخ الإسلامي في مصر وإسبانيا، فألف: ديوان التحقيق والمحاكاة الكبرى؛ ومواقف حاسمة في تاريخ
الإسلام، ومصر الإسلامية وتاريخ الخطط المصرية، وابن خلدون: حياته وتراثه الفكري، وتاريخ العرب في إسبانيا، وتاريخ الجمعيات السرية، وتاريخ المؤامرات السياسية، ذلك عدا المقالات القيمة والدراسات الممتعة في التاريخ والسياسة والأدب التي نشرها في (الرسالة) وفي غيرها من المجلات؛ وكلها تنم عن صبر شديد، وعقل سديد، وفهم ذكي، وثقافة شاملة. وإنا لنرجو أن يجد الأستاذ في عمله الجديد ما يساعده على المضي في خطته، ومواصلة هذا الجهاد المخلص في نفع أمته
عيد الأكاديمية الفرنسية
في يوم الاثنين 17 يونيه بدأ الاحتفال الرسمي الكبير بعيد الأكاديمية الفرنسية الثلاثمائة، وهو العيد الذي تقرر إحياؤه منذ شهر يناير الماضي، واستعدّت الحكومة الفرنسية، والأكاديمية وجميع الهيئات العلمية والأدبية لإحيائه بما يليق به العظمة والفخامة. وقد افتتح هذا الاحتفال بإقامة قدّاس رسمي في كنيسة نوتردام عن روح الكردينال ريشليو وزير لويس الثالث عشر ومؤسس هذه الهيئة الأدبية الخالدة؛ ثم أقيمت في عصر ذلك اليوم حفلة رسمية شائقة حضرها رئيس الجمهورية ورجال الحكومة، وأعضاء الأكاديمية ومائتا مندوب يمثلون مختلف الهيئات والمجامع العلمية في أنحاء العالم، (ومنهم رئيس مجمع اللغة العربية الملكي ممثلاً له)؛ وألقيت الخطب الرسمية المعتادة؛ وأقيمت في الأيام التالية حفلات رسمية أخرى
وقد سبق أن أتينا على تاريخ تلك الهيئة الأدبية الشهيرة التي تضم دائماً أربعين من (الخالدين) صفوة ما تخرجه عبقرية فرنسا الأدبية؛ وبينا كيف نشأت متواضعة جداً منذ ثلثمائة عام في منزل سيد يدعى فالنتان كونراد كان من أمناء لويس الثالث عشر، وكان أديباً يجمع حوله عدة من الأصدقاء الأدباء والشعراء، وكان ذلك في سنة 1629؛ ولبث أولئك السادة يجتمعون من آن لآخر مدى خمسة أعوام، ويتجاذبون في اجتماعهم شتى المحادثات الأدبية، حتى علم الكردينال ريشيلو بخبرهم؛ ففكر في إخضاع هذه الجماعة الأدبية لنفوذه، وفي أن ينظمها ويجعل منها (أكاديمية)؛ وانتهى الأمر بأن صدرت الأوامر الملكية بإنشائها في يناير سنة 1635، وصودق عليها من البرلمان في يوليو سنة 1635
واستمرت (الأكاديمية) تنمو وتترعرع، وتجمع في سلكها أكابر النثر والشعر حتى كانت
الثورة الفرنسية، فألغيت مع باقي الهيئات العلمية الأخرى في سنة 1793، وأنشأ مكانها (المجمع العلمي الوطني)، وفي سنة 1803 قسم هذا المجمع إلى أربعة أقسام منها (الأكاديمية الفرنسية) التي استردت اسمها الأصلي بعد ذلك في عهد لويس الثامن عشر (سنة 1816)، وقامت إلى جانبها (أكاديمية النقوش والآداب) و (أكاديمية العلوم) و (أكاديمية الفنون الجميلة). وفي سنة 1832 أنشأت أكاديمية خامسة هي أكاديمية العلوم الأخلاقية
وهذه هي الفترة الوحيدة التي اعترضت حياة الأكاديمية الفرنسية وما زالت الأكاديمية تقوم خلال هذه القرون الثلاثة بدورها التاريخي في الأشراف على الآداب الفرنسية، وإن كانت مهمتها الأصلية التي حددت في الأوامر الملكية أن تشرف على (تحسين اللغة وتوسيعها)؛ وما زال الظفر بالانخراط في سلكها أسمى ما يطمح إليه كاتب أو شاعر، وما زال الانتماء إليها عنوان (الخلود)
ذكرى شومان أستاذ النقد الموسيقي
احتفلت الدوائر الفنية الألمانية في الثامن من يونيه الجاري بالذكرى الخامسة والعشرين بعد المائة لمولد الموسيقي الألماني الأشهر روبرت شومان، ونظمت لهذه المناسبة حفلات موسيقية عظيمة في أنحاء ألمانية عزفت فيها قطع شومان وأذاعت المحطات اللاسلكية مختارات موسيقية من آثاره في برلين وفينا. ويعرف شومان في عالم الموسيقى بأنه (روح الإبداع الموسيقي). وكان مولد شومان في زفيكاو من أعمال سكسونيا. ودرس الحقوق أولاً، ولكنه رغب عنها إلى دراسة الموسيقى. ودرس العزف على (البيانو) في ليبزج على يد فيكس وهو من أبرع أساتذة العصر؛ ولكنه أصيب بإصابة في يده اضطرته إلى ترك العزف والاشتغال بالتأليف الموسيقي؛ ودرس هذا الفن على دورن أولاً. وفي سنة 1843 عيّن أستاذاً في معهد ليبزج، ثم عين بعد ذلك قائداً موسيقياً في دوسلدورف سنة 1850، واستمر في هذا المنصب نحو أربعة اعوام، وأنفق شومان معظم حياته يطوف المدن الألمانية مع زوجه كلارا
وبدأ شومان حياته كمؤلف موسيقي في سنة 1834 إذ بدأ تحرير (المجلة الموسيقية الجديدة) وكان ينشر فيها فصولاً نقديةً قويةً تلفت الأنظار بحسن أسلوبها وقوة منطقها؛ وقد
وصل شومان في هذه الناحية النقدية إلى ذروة البراعة حتى اعتبر أستاذ النقد الموسيقي. وكان شوبين وبراهمس وهما يومئذ من أعلام الموسيقى ينوهان بنبوغه وتفوقه في هذا المضمار؛ وأعظم آثاره في التأليف الموسيقي قطعه الخاصة بالمعزف (البيانو) ومنها رباعيات ومقطوعات بديعة للقيثارة. وألف أيضاً قطعة أوبرا عنوانها (جينوفيزا)، وعدة أوبرات موسيقية
وكان لجهود شومان وطرائقه أثر كبير في تطور الموسيقى الألمانية المعاصرة. وقد كتب ترجمة حياته عدة من الكتاب والفنانين الأكابر، ومنهم باترسون وريزمان. وخصص له فاسليفسكي ترجمة كبيرة وكذلك فولر ميثلاند وغيرهما
تخليد ذكرى شاعرة فرنسية
وضعت بلدية مدينة نانت لوحة تذكارية باسم الشاعرة أليزا ماركير التي توفيت منذ مائة عام في الخامسة والعشرين من عمرها، على المنزل الذي كانت تسكنه هذه الشاعرة الفنية التي بلغت رغم حداثتها في الشعر مرتبة كبيرة حتى كان لامرتين يقول عنها (إني أتوقع أن تمحونا هذه الصغيرة جميعاً)
وفاة فكتور هوجو - صورة خبرية واقعية
ما زالت فرنسا تحتفل بالذكرى الخمسينية لوفاة شاعرها الأكبر فيكتور هوجو حسب ما ذكرنا في فرصة سابقة وقد قرأنا أخيراً في إحدى المجلات الفرنسية الكبرى بقلم مسيو (ارمان برافيل) وصفاً بديعاً للظروف التي أحاطت بوفاة الشاعر الكبير صيغت في قالب رواية خبرية، ونحن ننقله لقراء (الرسالة) في ما يلي: باريس في 22 مايو سنة 1885
اليوم في الساعة الأولى والدقيقة السابعة والعشرين بعد الظهر توفي المسيو فيكتور هوجو عضو الأكاديمية الفرنسية، متأثراً بالالتهاب الرئوي الذي اشتد عليه منذ أيام وكان يثير في نفس أسرته والمحيطين به انزعاجاً وقلقاً. وقد أشار الدكتور زي وزميله الدكتور فولبيان في تقريرهما هذا الصباح إلى أن (الحالة في منتهى الخطورة). وكان الشاعر الكبير في الثالثة والثمانين من عمره وقد أسلم الشاعر الروح يحيط به حفيداه جان وجورج، ومسيو لوكروي ومسيو فيكتوريان ساردو، ومسيو اسكندر ديماس، وبعض شخصيات أخرى.
ويروي بعضهم أنه قال حين فاضت روحه: (وداعاً يا جان)، وبعضهم يروي أنه قال:(هاهنا معركة النهار والليل) أو أنه قال: (ليس هذا هو النور، ولكن ليس هو الظل أيضاً).
وعرض المونسنيور جيبر أسقف باريس أن يقوم بالرسوم القدسية الأخيرة للشاعر الأكبر، ولكن أسرته اضطرت إلى الرفض عملاً بوصية فيكتور هوجو نفسه، إذ قال:(إنني أرفض رثاء كل الكنائس، وأطلب صلاة لكل الأرواح).
ومنذ 19 مايو كان قد فقد كل أمل في إعادة الصحة والحياة إليه؛ وقد أصابه بالليل إغماء طويل، وبالأمس بدأ النزع الأخير وما ذاع النبأ المحزن حتى هرع الجمهور إلى منزل شارع إيلاو وما زال في ازدياد مستمر، وبدأت الزيارات الرسمية، وكان أول القادمين مسيو بريسون رئيس الوزراء، ولحق به مسيو فلوكيه رئيس مجلس النواب
وبعد بضع دقائق ألقى مسيو لي رواييه رئيس مجلس الشيوخ في المجلس. كلمة مؤثرة حين أعلن وفاة (شيخ) الميسرة المتطرفة وشاعر الجمهورية والديمقراطية الأكبر؛ ولا ريب أن جميع السلطات الكبرى ستشترك في تكريمه؛ وقد طلب مجلس باريس البلدي أن تنقل رفات الشاعر إلى (البانتيون)؛ ومن المحقق إن الجناز سيكون قومياً تحفه أعظم مظاهر الجلال، وسوف يكون مناقضاً لرغبة الميت الذي أوصى بأن يتقل إلى مقره الأخير في نعش الفقراء؛ وهي الرغبة الوحيدة التي ستحترم.
السبت 23 يوليو
حفلت كل الصحف بفصول مؤثرة تذيلها أعظم الأسماء؛ وقد نشرت (الفيجارو) قصيدة لمسيو الكونت دي ليل عنوانها (التحية الأخيرة)، وقد دهش لقرائتها الذين يعرفون خصومة الشاعرين، وما تبادلا قبل من قارس اللفظ؛ بل يرى أن دي ليل قال حينما وقف على مرض هوجو:(لقد شرب المجد وأكله، فعليه الآن أن يهضمه)، فرثاؤه اليوم لا يمكن أن يعتبر بعد هذه الشماتة إلا بطاقة زيارة تودع عند باب الأكاديمية وقد هرع عدد من الكتاب الشبان إلى سرير الميت ليسهروا إلى جانبه، وبين هؤلاء حفيد الشاعر، وليون دوديه، وكاتيل مانديس، وبول آرين، وجان إيكار، وأميل بليمون. وقدم مسيو ليو بولد هوجو في منتصف الليل ليصور عمه في فراش موته
26 مايو
نشرت الجريدة الرسمية ما يأتي: (سيدفن جثمان فيكتور هوجو في البانتيون، والبانتيون ليس بناءً كنسياً ولا يتبع أية دائرة كنسية، وإنما هو من أملاك الدولة؛ وقد رأت الوزارة أن تحقق رغبة البرلمان في هذا الشأن)
وسوف يحدث هذا المرسوم استياء في الدوائر الكنسية التي ما زالت تعتبر البانتيون من توابعها وأنه في حرم كنسية سانت جنفياف. وسيكون جناز شاعر البؤساء بلونه المدني مقوياً لصفة البانتيون المدنية؛ وسوف يثور هذا الجدل حول تابوت الشاعر وما زالت صفوة فرنسا تنحني أمام الميت العظيم؛ وقد حنطت جثته بمنتهى العناية؛ وما زال كل يعجب برأسه الشاحب الجميل الذي يكاد يضارع بياضه بياض لحيته
الجمعة 30 مايو
وضع المسيو فيكتور هوجو في ناووسه ووضعت إلى جانبه باقة من الورد قدمها فلكييه وبعض تذكارات شخصية، وقد قرر برنامج الجناز وخلاصته أن ينقل الجثمان في نعش يوضع تحت قوس النصر، ويترك هناك يوماً وليلة في حراسة الشعراء، والسلطات المدنية والجيش وشعب باريس، ثم يحمل في حفل ظافر إلى البانتيون، وستلقى بعض الخطب عند مبدأ سير الجناز وعند مقدمه
الأحد أول يونيه
منذ صبيحة الأمس بدأ حفل الشاعر النبيل مؤلف (سير الدهور) و (التأملات)، وسار وراء تابوته إلى (الاتوال) عمد باريس العشرون، والصحفيون، والكتاب، وكلهم بالثوب الرسمي والربطة البيضاء، وحولهم من الجانبين جموع حاشدة لبثت تحيط طول الليل بمنزل الميت؛ وكان قوس النصر قد جلل بغطاء أسود رهيب، وحول إلى محراب يحرسه حرس شرف من الجند والفرسان وطلبة المدارس، والشعراء الشبان، ولم ينقطع سيل الناس طوال اليوم، يحملون الباقات والأزهار؛ وهكذا ظهر أن فيكتور هوجو ما زال يغزو جميع الأرواح والقلوب
الاثنين 2 يونيه
خصص يوم الأمس كله لظفر فيكتور هوجو؛ ولم يحتفل قبل قط بجناز شاعر لمثل هذا
الجلال. ولعل كاتباً لم يمثل من قبل قط تطور عصره كما تمثل؛ فقد مثلت في شخصه الديمقراطية التي استطاعت أن تصل إلى الحكم بعد طول النضال؛ وهو شاعرها ولسان حماستها الغنائية، وهو يتنفس آمالها ومخاوفها في كتابه (البؤساء)، ويتنفس غضبها وأحقادها في كتابه (العقوبات) وكان الجو بديعاً فاتراً؛ وفي نحو الساعة التاسعة أتى الموظفون وممثلوا مسيو جرافي رئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء بكامل هيئته، وأعضاء الأكاديمية الفرنسية، والجنرال سوسييه حاكم باريس وأركان حربه، واجتمعت الوفود في شارع (الجيش الأكبر) وقد احتلوا شارع نيبي بأكمله
وألقيت طائفة من الخطب منذ الساعة العاشرة؛ منها خطاب مسيو لي روييه باسم مجلس الشيوخ، وفلوكيه باسم مجلس النواب، وجوبليه وزير الداخلية باسم الحكومة، وأميل أوجييه باسم الأكاديمية؛ وكان أروع الخطباء جميعاً ولا سيما حينما صاح بصوت قوي:(ليس هذا دفناً، وإنما هو تقديس).
ثم تحرك الموكب بعد نشيد المارسليز، وعزفت موسيقى الجيش لحناً محزناً لشوبان
وإليك ترتيب الموكب: سارت في الطليعة فرقة من الحرس الجمهوري، ثم سرية من الفرسان، ثم حاكم باريس وحاشيته، ثم الموسيقى العسكرية، فطلبة المدارس، فإحدى عشر عربة تحمل أكاليل الزهر، ثم أربعة من عمال الكوميدي فرانسيز، يحملون وسادة عليها أوسمة المتوفي، ثم نعش المتوفى وهو نعش الفقراء، وإلى جانبه أفراد أسرته وخاصة أصدقائه، مثل جورج هوجو، وأوجست فاكيري، وليو بولد هوجو، وبول فويت، وكاميل بيلاتان، والفونس دوديه، واميل زولا وغيرهم، ثم أعضاء المجمع العلمي في أثوابهم الخضر، ثم أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب بشاراتهم المثلثة اللون، ثم أساتذة الجامعة بأثوابهم الرسمية المختلفة، وأعضاء جمعية الكتاب، وسيل لا نهاية له من الوفود المختلفة
وكانت جوانب الطرق تغص بالجماهير الحاشدة، وكانت النوافذ والأشجار والأسطحة حافلة بالنظارة
وبلغ الموكب البانتيون من شارع سوفلو في منتصف الساعة الثالثة، وقد جلله السواد والأعلام القومية، وهنالك ابتدأت الخطب الختامية، فألقى منها إحدى عشرة؛ وكانت بين الخطباء مسيو أوديه باسم مدينة بيزانصون مسقط رأس الشاعر، ومسيو مادييه باسم
المنفيين في يوم 2 ديسمبر ومسيو جورد باسم نقابة الصحافة الباريسية، وهنري دي بورنييه باسم كتاب المسرح وبعض الأجانب باسم بعض المعاهد العلمية الأجنبية
ثم عزفت الموسيقى لحن فيكتور هوجو الذي وضعه مسيو سان ساينس، وعلى أنغامه أودع التابوت في مثواه الأخير إلى جانب توابيت فولتير وروسو وغيرهم من العظماء الخالدين
واستمر تعاقب الوفود حتى مغيب الشمس، وانتهى فيكتور هوجو إلى أن يرقد هادئاً في عالم الخلود