المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 104 - بتاريخ: 01 - 07 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 104

- بتاريخ: 01 - 07 - 1935

ص: -1

‌كلكم حواريون

فمن يهوذا؟

لا تسمع من أي إنسان في أي مكان إلا تذمراً على حال المجتمع،

وتضجراً من نظام العيش، وتضوراً من فساد الحكم، وتحسراً على

أخلاق الناس! فما من سياسي تلقاه إلا رأيته لهيف الجوانح، ذاهب

القلب، لا يملك عينه من الدمع، ولا قلبه من الوجد، ولا لسانه من هذه

الشكاة: أضاعوا استقلال البلاد، ووأدوا دستور الأمة، ونشروا بخطلهم

على الشعب سوء النبأ! فقد كان لنا بجانب (الاحتلال) مكان، ومع (دار

الاستشارة) رأي، وقبل نفاذ الأمور كلمة، وفوق كل اعتبار كرامة؛

وكان لهذا كله على ضآلته وهزاله ثمن فادح مرهق، أديناه ضحايا برة

من أرواح الشباب في ساحة الجهاد، وملايين تسعة من أموال الأمة في

(قانون التضمينات)، ثم أصبحنا وإذا المكان خلاء، والإشارة أمر،

والكلمة رجاء، والكرامة ضراعة!!

أجل! يقول كل سياسي هذا الكلام، ويلوم هذا الملام، حتى أولئك الذين قتلوا بأيديهم الدستور أمس، يبكون عليه اليوم بأربعة آماق، لأن الإنجليز أكرموه فدفنوه!!

وما من موظف تراه إلا حدثك والهم يعتلج في صدره، والأسى يتلضى على وجهه، كيف تحكمت المحاباة في دوائر الحكم، وفشا التواكل في دوواين الحكومة! (فالشهادة العالية) في التعيين زور مع التوصية، والكفاية البارعة في الترقية خرق مع الهوى، وحسن العمل في سبيل الحظوة جناية مع سوء الحظ؛ ثم ترى (الأقلام) غاصة بالكتبة، والمكاتب مكتضة بالأضابير، والوزارات مزدحمة بالسائلين، والمستعجلين، والأوراق الحائرة تنتقل من يد إلى يد، وتخرج من مكتب إلى مكتب، وترحل من بلد إلى بلد، لأن (التواكل) الماهر قضى على كل كاتب أو حاسب أن يزيح همها عن نفسه، ويخرج حكمها من اختصاصه، فتلبث

ص: 1

على هذه الحال بين الحال والترحال شهوراً وسنين، وهي مع الجد لا تستغرق تفكير لحظة وعمل ساعة!

يقول كل موظف هذا الكلام، ويتهم هذا الاتهام، حتى أولئك الطفيليون الذين عينوا لقبض المرتب، وظلوا على الشيوع من غير عمل ولا مكتب!!

وما من أديب تخلوا إليه إلا نثر عليك دموع الخنساء، ونظم في مسمعيك تشاؤم أبى العلاء، وسألك وهو متبلد من الحيرة، متلدد من الدهش: متى كان البذاء من الأدب، والهجاء من النقد، والإدعاء من الفن، والتقليد البهيم من العبقرية، والكيد اللئيم من الصحافة؟؟

كان الأدب سبيلاً بين الله والنفس، وسلاماً بين الروح والجسم، ولساناً بين الجمال والحس، ودليلاً بين الهوى والخير، ونسباً بين القرابة والبعد، فأصبح كما ترى سبباً من أسباب العداوة، وسبيلاً من سبل الفرقة، وبوقاً من أبواق الفتنة، ومظهراً من مظاهر الجهالة!

يقول كل أديب هذا الكلام، ويلقي عليك هذا الاستفهام، حتى أولئك السفهاء الذين يلبسون ظلماً مسوح الأدب، ثم يلتمسون الظهور بالوقيعة في كل من كتب!!

وما من رجل من رجال الدين تجلس إليه إلا قال لك ودموع الحسنين تنهل على ردنه العريض انهلال القطر: لم يبق للدين في هذه الدنيا سلطان، ولا للخلق في هذه الفوضى مكان، ولا للفضيلة في هذه المادية قيمة! ولقد استشرى فساد العصر حتى نال من تقوى العلماء فأصبحوا يأنفون من الورع، وينفرون من البساطة، ويتأبهون عن العامة، ويمدون أعينهم لشهوة الحياة، ويذهبون أنفسهم على فتنة الحكم، ويتخلون عن الدعوة إلى سبيل الله إلى الدعوة إلى أهواء الفرد!!

يقول كل عالم هذا الكلام، ويهتم هذا الاهتمام، حتى أولئك الضعفاء الذين اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وجعلوا من نفوسهم إلى الباطل سبيلا ودليلا!

وما من تاجر تعامله، أو صانع تقاوله، إلا ابتدرك بالزراية على الذين نفقوا على الغش، وآثروا على الخداع، وسلبوا ثقة الشعب باسم الاخوة، وسرقوا مال الجمهور باسم الوطن، حتى جعلوا التجارة والصناعة فيما بينهم وبين الناس معنى من معاني النهب، وحيلة من حيل الشطارة؛ فأنت تدخل المتجر أو المصنع وفي حسك لا محالة انك مغبون في السعر، أو مخدوع في النوع، أو مظلوم في التقدير!

ص: 2

يقول ذلك كل تاجر وكل صانع حتى أولئك الذين قضى عليهم موت الضمير أن يصدقوك في البيع ويكذبوك في التسليم، ويعاهدوك على نوع فيغيروه ولا يزيد رجعهم من غشه على مليم!

وهكذا تسمع هذا السخط الحاقد والنقد اللاذع والتعريض الممضّ والزراية الساخرة من كل لسان في أي طبقة، وفي كل حديث في أي مجلس، فتقف موقف المشدوه بين العجب والغضب وتسأل:

إذا كنتم يا قوم جميعاً حواريين، فمن الذي خان الوطن بدوانقه الثلاثين؟؟ كلكم يلوم فمن الملوم؟ وكلكم يتهم فمن المجرم؟ وعظ مالك بن دينار عظةً تقاطرت عليها دموع أصحابه، ثم افتقد مصحفه! فنظر إليهم وكلهم من اثر كلامه لا يملك عينه! وقال ويحكم! كلكم يبكي فمن سرق المصحف؟؟

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌دموع

من رسائل (الطائشة)

للأستاذ مصطفي صادق الرافعي

ورسائل هذه الطائشة إلى صاحبها، تقرأ في ظاهرها على أنها رسائل حب، قد كتبت في الفنون التي يترسل بها العشاق؛ ولكن وراء كلامها كلاماً آخر، تقرأ به على أنها تاريخ نفس ملتاعة لا تزال شعلة النار فيها تتنمى وترتفع؛ وقد فدحتها الحياة إذ حصرتها في فن واحد لا يتغير، وأوقعتها تحت شرط واحد لا يتحقق، وصرفتها بفكرة واحدة لا تزال تخيب

وأشدّ سجون الحياة فكرة خائبة يسجن الحي فيها، لا هو مستطيع أن يدعها، ولا هو قادر أن يحققها؛ فهذا يمتد شقاؤه ما يمتد ولا يزال كأنه على أوله لا يتقدم إلى نهاية؛ ويتألم ما يتألم ولا تزال تشعره الحياة أن كل ما فات من العذاب إنما هو بدأ العذاب

والسعادة في جملتها وتفصيلها أن يكون لك فكر غير مقيد بمعنى تتألم منه، ولا بمعنى تخاف منه، ولا بمعنى تحذر منه. والشقاء في تفصيله وجملته انحباس الفكر في معاني الألم والخوف والاضطراب

وقد اخترنا من رسائل (الطائشة) هذه الرسالة المصورة التي يبرق شعاعها وتكاد تقوم بازاء نفسها كالمرآة بازاء الوجه. وهي فيها عذبة الكلام من أنها مرّة الشعور، متسقة الفكر من أنها مختلة القلب، مسددة النطق من أنها طائشة النفس. وتلك إحدى عجائب الحب؛ كلما كان قفراً ممحلاً اخضرت في البلاغة وتفننت والتفت، وعلى قلة المتعة من لذاته تزيد فيه المتعة من أوصافه. ولكأن هذا الحب طبيعة تروى بالنار فتخصب عليها وتتفتق بمعانيها، كما تروى الأرض بالماء فتخصب وتتغطى بنباتها؛ فإن روى الحب من لذاته وبرد عليها، لم ينبت من البلاغة إلا أخفها وزناً وأقلها معاني، كأول ما يبدو النبات حين يتفطر الثرى عنه؛ تراه فتحسبه على الأرض مسحة لون أخضر؛ أو لم ينبت إلا القليل القليل كالتعاشيب في الأرض السبخة

إن قصة الحب كالرواية التمثيلية، أبلغ ما فيها وأحسنه وأعجبه ما كان قبل (العقدة) فإذا انحلت هذه العقدة فأنت في بقايا مفسرة مشروحة تريد أن تنتهي، ولا تحتمل من الفن إلا ذلك القليل الذي بينها وبين النهاية

ص: 4

وهذه هي رسالة الطائشة إلى صاحبها:

. . .

ماذا أكتب لك غير ألفاظ حقيقتي وحقيقتك؟

يخيل إلى أن ألفاظ خضوعي وتضرعي متى انتهت إليك انقلبت إلى ألفاظ شجار ونزاع!

أي عدل أن تلمسك حياتي لمسة الزهرة الناعمة بأطراف البنان، وتقذفني أنت قذف الحجر بملء اليد الصلبة متمطية فيها قوة الجسم؟

جعلتني في الحب كآلة خاضعة تدار فتدور، ثم عبثت بها فصارت متمردة توقف ولا تقف؛ والنهاية - لا ريب فيها - اختلال أو تحطيم!

وجعلت لي عالماً، أما ليله فأنت والظلام والبكاء، وأما نهاره فأنت والضياء والأمل الخائب. هذا هو عالمي: أنت أنت. . .! سمائي كأنها رقعة أطبقت عليها كل غيوم السماء، وأرضى كأنها بقعة اجتمعت فيها كل زلازل الأرض! لأنك غيمة في حياتي، وزلزلة في أيامي

يا بعد ما بين الدنيا التي حولي وبين الدنيا التي في قلبي!

ما يجمل منك أن تلزمني لوم خطأ أنت المخطئ فيه

سلني عن حبي أجبك عن نكبتي، وسلني عن نكبتي أجبك عن حبي

كان ينبغي أن تكون لي الكبرياء في الحب، ولكن ماذا أصنع وأنت منصرف عني؟ ويلاه من هذا الانصراف الذي يجعل كبريائي رضى مني بأن تنسى!

ليس لي من وسيلة تعطفك إلا هذا الحب الشديد الذي هو يصدك، فكأن الأسباب مقلوبة معي منذ انقلبت أنت

ويخيل إلي من طغيان آلامي أن كل ذي حزن فعندي أنا تمام حزنه!

ويخيل إلي أني أفصح من نطق بآه!

عذابي عذاب الصادق الذي لا يعرف الكذب، بالكاذب الذي لا يعرف الصدق

كم يقول الرجال في النساء، وكم يصفونهن بالكيد والغدر والمكر؛ فهل جئت أنت لتعاقب الجنس كله فيّ أنا وحدي. . .

ما لكلامي يتقطع كأنما هو أيضاً مختنق؟

لشد ما أتمنى أن أشتري انتصاري، ولكن انتصاري، عليك هو عندي أن تنتصر أنت إن

ص: 5

المرأة تطلب الحرية وتلج في طلبها، ولكن الحياة تنتهي بها إلى يقينٍ لاشك فيه، هو أن ألطف أنواع حريتها في ألطف أنواع استعبادها

حتى في خيالي أرى لك هيئة الآمر الناهي أيها القاسي. لا أحب منك هذا، ولكن لا يعجبني منك إلا هذا. . .!

ويزيدك رفعةً في عيني أنك لم تحاول قط أن تزيد رفعة في عيني

فالمرأة لا تحب الرجل الذي يعمل على أن يلفتها دائماً ليرفع من شأنه عندها

إن الطبيعة قد جعلت الأنوثة في الإنسان هي التي تلفت إلى نفسها بالتصنع والتزيد، وعرض ما فيها وتكلف ما ليس فيها؛ فإن يصنع الرجل صنيعها فما هو في شيء إلا تزيين احتقاره!

التزيد في الأنوثة زيادة في الأنثى عند الرجل، ولكن التزيد في الرجولة نقص في الرجل عند الأنثى!

ارفع صوتك بكلماتي تسمع فيها اثنين: صوتك وقلبي ليست هي كلماتي لديك أكثر مما هي أعمالك لدي وليس هو حبي لك أكبر مما هو ظلمك لي!

ما أشد تعسي إذا كنت أخاطب منك نائماً يسمع أحلامه ولا يسمعني!

ما أتعس من تبكيه الحياة بكائها المفاجئ على ميت لا يرجع، أو بكائها المألوف على حبيب لا ينال!

ولكن فلأصبر ولأصبر على الأيام التي لا طعم لها، لأن فيها الحبيب الذي لا وفاء له!

إن المصاب بالعمى اللوني يرى الأحمر أخضر، والمصاب بعمى الحب يرى الشخص القفر كله أزهار

عمى مركب أن تكون أزهاراً من الأوهام ولها مع ذلك رائحة تعبق

وعمى في الزمن أيضاً أن ينظر إلى الساعة الأولى من ساعة الحب، فيرى الأيام كلها في حكم هذه الساعة

وعمى في الدم، أن يشعر بالحبيب يوماً فلا يزال من بعدها يحي خياله ويغذيه أكثر مما يحي جسم صاحبه

وعمى في العقل، أن يجعل وجه إنسان واحد كوجه النهار على الدنيا، تظهر الأشياء في

ص: 6

لونه، وبغير لونه تنطفئ الأشياء وعمى في قلبي أنا، هذا الحب الذي في قلبي!

ليس الظلام إلا فقدان النور، وليس الظلم في الناس إلا فقدان المساواة بينهم

وظلم الرجال للنساء عمل فقدان المساواة لا عمل الرجال

كيف تسخر الدنيا من متعلمةٍ مثلي، فتضعها موضعاً من الهوان والضعف بحيث لو سئلت أن تكتب (وظيفتها) على بطاقة، لما كتبت تحت اسمها إلا هذه الكلمة:(عاشقة فلان). . .؟

وحتى في ضعف المرأة لا مساواة بين النساء في الاجتماع، فكل متزوجة وظيفتها الاجتماعية أنها زوجة؛ ولكن ليس لعاشقة أن تقول إن عشقها وظيفتها. . .

وحتى في الكلام عن الحب لا مساواة، فهذه فتاة تحب فتتكلم عن حبها فيقال: فاجرة وطائشة، ولا ذنب غير أنها تكلمت؛ وأخرى تحب وتكتم فيقال: طاهرة وعفيفة، ولا فضيلة فيها إلا أنها سكتت

أول المساواة بين الرجال والنساء أن يتساوى الكل في حرية الكلمة المخبوءة. . .

لا لا، قد رجعت عن هذا الرأي. . .

إن القلق إذا استمر على النفس انتهى بها آخر الأمر إلى الأخذ بالشاذ من قوانين الحياة

والنساء يقلقن الكون الآن مما استقر في نفوسهن من الاضطراب، وسيخربنه أشنع تخريب

ويل للاجتماع من المرأة العصرية التي أنشأها ضعف الرجل! إن الشيطان لو خير في غير شكله لما اختار إلا أن يكون امرأة حرة متعلمة خيالية كاسدة لا تجد الزوج. . .!

ويل للاجتماع من عذراء بائرة خيالية، تريد أن تفر من أنها عذراء! لقد امتلأت الأرض من هذه القنابل. . . ولكن ما من امرأة تفرط في فضيلتها إلا وهي ذنب رجل قد أهمل في واجبه

هل تملك الفتاة عرضها أو لا تملك؟ هذه هي المسألة. . . إن كانت تملك، فلها أن تتصرف وتعطي، أو لا، فلماذا لا يتقدم المالك. . .؟

هذه المدنية ستنقلب إلى الحيوانية بعينها، فالحيوان الذي لا يعرف النسب لا تعرف أنثاه العرض

وهل كان عبثاً أن يفرض الدين في الزواج شروطاً وحقوقاً للرجل والمرأة والنسل؟ ولكن أين الدين؟ وا أسفاه! لقد مدنوه هو أيضا. . .! طالت رسالتي إليك يا عزيزي، بل طاشت،

ص: 7

فأني حين أجدك أفقد اللغة، وحين أفقدك أجدها.

ولقد تكلمت عن الدين لأني أراك أنت بنصف دين. . .

فلو كنت ذا دين كامل لتزوجت اثنتين. . . . . لا لا، قد رجعت عن هذا الرأي. . .

(طنطا)

طبق الأصل

مصطفى صادق الرافعي

إلى (ب) في دمشق

خير ما أرى لك أن تدع للغد حل مشكلة اليوم، وليس بين اليوم والغد إلا أن تصبر، وأنت كالذي رأى نفسه في غبش الفجر ويزعم أنه أمسى. .

(الرافعي)

ص: 8

‌2 - شمس الدين السخاوي

حياته وتراثه

للأستاذ محمد عبد الله عنان

ولنستعرض الآن تراث السخاوي وآثاره، بعد أن أتينا على حوادث حياته وظروف تكوينه؛ وللسخاوي تراث حافل ينم عن غزير مادته ونشاطه؛ ولقد تلقينا منه الكثير، وتلقينا بالأخص أهمه وأقيمه. ويعني السخاوي في ترجمة نفسه بتعداد رسائله ومؤلفاته؛ ويستغرق تعدادها عدة صفحات من ترجمته؛ ويضم هذا الثبت الحافل كتباً ورسائل في عدة فنون مختلفة؛ ولكنا نستطيع بوجه عام أن نقسم آثاره إلى قسمين: قسم الحديث، وقسم التاريخ

وقد كان السخاوي كما رأينا محدثاً كبيراً، انتهى إليه علم الحديث في عصره؛ بيد أنه كان أيضاً مؤرخاً بارعاً، ونقادة لايجاري؛ والجمع بين الحديث والتاريخ خاصة لكثير من أقطاب المؤرخين المسلمين مثل كتاب السيرة، والطبري، والذهبي؛ وعلم الحديث بما يحتويه من قواعد الإسناد وتمحيص الرواية، والجرح والتعديل، خير معوان للمؤرخ الناقد على تحري الحقائق؛ وهكذا كان السخاوي محدثاً ومؤرخاً؛ وكانت براعته النقدية في التاريخ ترجع في كثير من الوجوه إلى براعته في الجرح والتعديل كمحدث؛ وهذه الصبغة النقدية البارزة هي التي تسبغ على آثاره التاريخية قوتها وطرافتها

ويحدثنا السخاوي في ترجمته بأنه شرع في التأليف (قبل الخمسين)؛ ولكن هنالك ما يدل على أنه وضع بعض التصانيف قبل سنة 870هـ، أعني وهو في نحو الأربعين من عمره؛ فهو يحدثنا أنه لما حج للمرة الأولى سنة 70، قرأ بعض تصانيفه في مكة، وإذا فهو قد بدأ التأليف في سن متقدمة؛ بيد أنه أنفق شبابه في استيعاب النصوص والمراجع، ونزل ميدان التأليف مزوداً بمادة غزيرة؛ ولبث مدى الثلاثين عاماً التالية يخرج الكتب والرسائل تباعاً، ولم ينقطع عن الكتابة حتى أعوام حياته الأخيرة

وبدأ السخاوي التأليف في ميدان الحديث، فوضع فيه عدة كتب ورسائل يعنى بتعدادها في ترجمته، ولكنا لم نتلق منها سوى القليل؛ وأشهرها كتاب (المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة)، وهو من كتب الحديث المتداولة، ومنها (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث) و (الغاية في شرح الهداية) و (الأخبار المكللة في الأحاديث المسلسلة) و (شرح الشمائل

ص: 9

النبوية للترمذي) و (التحفة المنيفة فيما وقع من حديث أبي حنيفة)، وعدة كتب ورسائل أخرى في شرح متون الحديث، وعدة حواش وذيول لبعض كتب الحديث المعتبرة يذكرها كلها في ترجمته، ولا يتسع هذا المقام لذكرها

وكتب السخاوي في هذه الفترة الأولى أيضاً عدة رسائل عن رحلاته المختلفة؛ منها الرحلة السكندرية وتراجمها؛ الرحلة الحلبية وتراجمها؛ الرحلة المكية؛ والثبت المصري؛ وفيها يصف تجواله ودراساته في تلك الأنحاء؛ ووضع كتاباً في تراجم شيوخه وأساتذته اسمه (بغية الراوي فيمن أخذ عنه السخاوي)

على أن أهم ما في تراث السخاوي هو مجهوده التاريخي والأدبي، ففيه يرتفع السخاوي إلى ذروة القوة، وفيه تبدو شخصيته في أبرز خواصها ومواهبها؛ وقد انتهت إلينا نخبة من هذا التراث القيم. ومن الصعب أن نتتبع الترتيب الزمني في استعراض هذه الآثار؛ ولكن يلوح لنا أن السخاوي قد استهل مجهوده التاريخي بوضع كتاب (التبر المسبوك في ذيل السلوك) والسلوك الذي وضع هذا الكتاب ذيلاً له هو كتاب (السلوك في دول الملوك) لتلقي الدين المقريزي، وقد تناول فيه تاريخ دول المماليك المصرية حتى سنة844 هـ؛ وتناول السخاوي في كتابه تاريخ مصر الإسلامية من سنة 845 - 857هـ؛ وكتبه كما يقرر في مقدمته نزولاً على رغبة الداوادار يشبك المهدي وزير السلطان الظاهر خشقدم؛ وعني السخاوي بتدوين حوادث هذه الفترة المعاصرة بإسهاب، وذيل كل عام بوفيات أعيانه، واتبع فيه طريقة الترتيب الزمني؛ وكتب السخاوي أيضاً ذيلاً لكتاب شيخه ابن حجر (رفع الأصر عن قضاة مصر) وهو الذي يتناول فيه تراجم القضاة المصريين حتى عصره، وسماه (ذيل رفع الأصر)، وفيه يتناول تراجم القضاة المصريين حيث وقف شيخه ابن حجر وأعظم آثار السخاوي بلا ريب هو كتابه الضخم (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع)، وهو موسوعة حافلة تقع في عدة مجلدات وينم عنوانها عن موضوعها، ويبسط لنا السخاوي موضوع كتابه في ديباجته على النحو الآتي: (فهذا كتاب. . . جمعت فيه من علمته من هذا القرن الذي أوله سنة إحدى وثمانمائة، ختم بالحسنى، من سائر العلماء والقضاة والصلحاء والرواة والأدباء والشعراء، والخلفاء والملوك والأمراء، والمباشرين والوزراء، مصرياً كان أو شامياً، حجازياً أو يمنياً، رومياً أو هندياً، مشرقياً أو مغربياً، بل

ص: 10

وذكرت فيه بعض المذكورين بفضل ونحوه من أهل الذمة. . .) وقد هيأت حياة السخاوي نفسه وتجواله في مصر والشام والحجاز؛ ولقاؤه لمئات العلماء والأدباء في عواصم هذه الأقطار، وما قيده عنهم في مختلف رحلاته، مادة حسنة لكتابة المستقبل. وأنفق السخاوي بلا ريب أعواماً طويلة في إعداد مواده وتنظيمها واستكمالها؛ والظاهر أنه لم يبدأ في كتابة معجمه إلا في أواخر القرن التاسع حوالي 890هـ وأستمر في الكتابة فيه حتى سنة 897هـ أو 898هـ؛ يدل على ذلك أنه يصل في ترجمة نفسه حوادث حياته حتى سنة 897هـ، وأنه يذكر ضمن كتبه (كتاب التوبيخ لمن ذم أهل التاريخ) وقد كتبه حسبما يقرر في خاتمته بمكة سنة 897هـ؛ هذا فضلاً عن أنه يترجم لكثيرين توفوا سنة 897هـ

ويمتاز (الضوء اللامع) بقوة فائقة في التصوير ليس لها نظير في كتب التراجم الإسلامية، ويمتاز بالأخص بروحه النقدية اللاذعة؛ وهنا يبدو السخاوي في أعظم خواصه وكفاياته الأديبة نقاده لا يجارى؛ بيد أن هذه النزعة النقدية تحمله بعيداً في مواطن كثيرة، فينزع عندئذ إلى التجريح والهدم بقسوة، ويطبع نقده تحامل بين؛ وقد ترجم السخاوي كثيراً من أقطاب العصر، ولكن أحداً منهم - إلا شيخه ابن حجر - لم ينج من تجريحه اللاذع؛ وتراجم المقريزي وأبن خلدون وأبن تغري بردى والسيوطي أمثلة واضحة لهذه النزعة الهدامة، ففيها يبدو شغف السخاوي بالتجريح والانتقاص ظاهراً؛ وهو لا يكاد يطيق عبقرية بارزة من عبقريات هذا القرن إلا هاجمها بشدة؛ وهو يبدو في أحيان كثيرة في حملاته قوياً صارم الوطأة، غير أنه يبدو في أحيان أخرى سقيما تعوزه الحجة فينحدر عندئذ إلى ما يشبه القذف المجرد؛ وقد كان السخاوي أشد الناس شعوراً بقوته ومضاء قلمه، وكان كثير الاعتداد بهذه القوة، يشيد بها في مقدمة الضوء اللامع فيما يأتي:(ولكني لم آل في التحري جهداً، ولا عدلت عن الاعتدال فيما أرجو قصداً، ولذا لم يزل الأكابر يتلقون ما أبديه بالتسليم، ويتوقون الاعتراض عما ألقيه والتأثيم، حتى كان العز الحنبلي والبرهان بن ظهيرة المعتلي يقولان، انك منظور إليك فيما تقول، مسطور كلامك المنعش للعقول، وقال غير واحد ممن يعتد بكلامه وتمتد إليه الأعناق في سفره ومقامه، من زكيته فهو العدل، ومن مرضته فالضعيف المعلل. . . بل كان بعض الفضلاء المعتبرين يتمنى الموت في حياتي لا ترجمه بما لعله يخفي عن كثيرين. . .). ويفرد السخاوي لنفسه في كتابه، كما

ص: 11

رأينا، ترجمة ضافية؛ ويذيلها بنبذ عديدة من أقوال شيوخ العصر وأعلامه في مديحه والإشادة بغزير علمه، والتنويه بنبوءة مركز الرياسة والزعامة في علم الحديث، ومنها ما خصه به بعض خصومه كالبقاعي قبل أن تنشب بينهما الخصومة، ثم يتبع ذلك بإيراد بعض القريض الذي قيل في مديحه وتقديره. وقد كان كتاب (الضوء اللامع) حادثاً أدبياً عظيماً؛ تردد في كثير من مواطنه أصداء تلك المعارك الأدبية الشهيرة التي نشبت مدى حين بين السخاوي وبين بعض أقرانه وتلاميذه ولا سيما البقاعي والسيوطي؛ واتخذت صوراً من العنف لم تعرفها الآداب العربية من قبل؛ وأستمر صداها يدوي مدى حين بعد وفاة السخاوي وخصومه، وكانت من أهم وأغرب الحوادث الأدبية في هذا العصر. وكتب السخاوي إلى جانب الضوء اللامع كتباً أخرى في التراجم منها حسبما يذكر كتاب (الشافي من الألم في وفيات الأمم) وهو ثبت لوفيات الأعيان في القرنين الثامن والتاسع مرتب حسب السنين، وعدة تراجم مطولة لبعض الأئمة؛ بيد أنه لم يصلنا من هذه الكتب سوى ترجمة شيخه ابن حجر في مجلد ضخم أسماه (كتاب الجوهر والدرر)، وقد حصلت دار الكتب أخيراً على نسخة فوتوغرافية لهذا الكتاب، وفي خاتمته ما يفيد أن السخاوي كتبه في مكة سنة 871هـ؛ وفيه يتحدث بإفاضة عن نشأة أبن حجر، وتربيته، وصفاته، ومواهبه، وعن حلقاته ودروسه وتصانيفه، ثم يورد مختاراته من كلامه وفتاويه، وما قيل في رثائه من نثر ونظم

وهناك عدة مؤلفات تاريخية أخرى يذكر السخاوي أنه كتبها، ولكنها لم تصل إلينا مثل (التاريخ المحيط) الذي يشغل ثلاثمائة رزمة، وتاريخ المدنيين، وتلخيص تاريخ اليمن، ومنتقى تاريخ مكة، ثم طائفة أخرى منوعة منها: ختم السيرة النبوية لأبن هشام، القول النافع في بيان المساجد والجوامع، القول التام في فضل الرمي بالسهام، عمدة المحتج في حكم الشطرنج، الكنز المدخر في فتأوي شيخه أبن حجر، القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع؛ ومن هذا الأخير نسخة بدار الكتب

ونجد أخيراً في تراث السخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة، وقد انتهى كلاهما إلينا؛ أولهما كتاب (تحفة الأحباب، وبغية الطلاب، في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) وهو دليل لخطط المشاهد والمزارات والبقاع المقدسة، ولا سيما مصر القاهرة؛

ص: 12

وفيه وصف لأحياء مصر القاهرة التي تقع فيها هذه المشاهد في أواخر القرن التاسع؛ وذكر لكثير من المشاهد والمدافن التي لم يمن بها المقريزي في خططه، ولا يزال الكثير منها باقياً إلى اليوم؛ ومن ثم كانت أهمية الكتاب في تاريخ الخطط المصرية، إذ نستطيع بالرجوع إلى معالمه أن نحدد كثيراً من مواقع القاهرة القديمة وأحيائها وشوارعها في القرن التاسع الهجري

وأما الثاني، فهو كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) وهو رسالة نقدية قيمة، يعرف السخاوي فيها علم التاريخ ويشيد بفضله؛ ويتناول طائفة كبيرة من المسائل والمباحث النقدية التي تدخل في حيز التاريخ؛ ثم يذيلها ببيانات ضافية لجميع المؤلفات التاريخية الإسلامية التي ظهرت في مختلف أبواب التاريخ وعصوره، مثل كتب السيرة، وكتب التراجم المختلفة، وما ألف في تواريخ الطوائف والجماعات المختلفة، مثل تواريخ القضاة والحفاظ والشعراء واللغويين والأطباء والأشراف والأدباء والعشاق والصوفية وغيرهم؛ فهو بذلك فهرس بديع شامل لأمهات الكتب التي وضعت في هذه النواحي المختلفة، ويتخلل ذلك مواقف نقدية كثيرة تجعل لهذا الأثر قيمة خاصة. هذا هو استعراض موجز لتراث السخاوي وآثاره، ولا ريب أن مجال البحث والقول يتسع لأضعاف هذا العرض الموجز، إذا أردنا أن نفي شخصية السخاوي ونواحيه الأدبية والنقدية المتعددة حقها من التحليل والبحث؛ وقد كان السخاوي بلا ريب من أعظم شخصيات مصر الإسلامية والعالم الإسلامي في القرن التاسع الهجري

(تم البحث)

محمد عبد الله عنان

ص: 13

‌2 - فريزر ودراسة الخرافة

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

ثبتت الخرافة كذلك دعائم الملكية الشخصية وحفظتها، إذ مما لاشك فيه إن هذه الملكية متأخرة في الوجود عن الملكية العامة، فالناس عرفوا متاع الجمعية ومال القبيلة قبل أن يعرفوا مال زيد وعمرو. والملكية العامة نفسها ظهرت في شكلها الأول على صور الملكية المقدسة، فنشأت في أعمال الخرافة وتربت على حسابها. وقد كان التقديس ولا يزال وسيلة من وسائل احترام الملكية والمحافظة عليها. وللخرافة يد أخرى في الدفاع عن الملكية، فقد حاربت السرقة والسراق، وحمت مال الفرد والجماعة، وقضت على عامل كبير من عوامل الاضطراب. وإذا تتبعنا عقائد وتقاليد الأمم الهمجية المعاصرة، وجدنا فيها خير برهان على هذه القضايا

ففي البولينيز أحد أقسام الأقيانوسية، لا يجرؤ أحد على الاعتداء على أملاك الشيوخ والرؤساء والمحاربين لما لها من صفة مقدسة تبعاً لأصحابها، فحرام على أي شخص أن يعدو عليها بالسرقة أو النهب أو التبديد؛ ومن اقترف إثما من ذلك استوجب غضب الآلهة ولعنة الملائكة والناس أجمعين، وجر على قبيلته بوجه خاص السخط والنكال لهذا كان عدوّ الجماعة التي تعمل على محاربته ورد المال المسلوب إلى أهله. يقول براون:(إن كل ما يملكه السيد أو يحيط به مقدس في نظر عبيده من سكان زيلنده الجديدة. لذلك لا يستطيع أحدهم - برغم حبه للتبغ - أن يمس ورقه منه علم أنها من مال السيد. وقد حدث مرة أن أعطى صديق لي حفنة من التبغ إلى عبد لم يكد يمضغها حتى علم أنها أخذت من منزل سيده، فأسقط في يده، وسارع المسكين إلى مولاه يقص عليه القصص، ويسأله المغفرة وإباحة التبغ الذي مضغه، خشية أن يجر عليه صنعه نتائج مهلكة) فبيت السيد إذا حرم آمن لا يستطيع مخلوق أن ينتهك حرمته. وكثيراً ما ترك رؤساء القبائل التي نتحدث عنها أموالهم وأمتعتهم معرضة للجمهور دون أن تصاب بسوء. وإذا أراد فرد عادي أن يحمي ماله، اكتفي بأن يميزه بشارة من الشارات المقدسة. ووسائل التقديس كثيرة: منها أن يقام في الحقل شاخص على هيئة صليب أو سمك نهري خاص أو أن يوضع تحت شجرة الفاكهة صورة فأرة إذا رآها السارق ولى مدبراً، أو أن يربط في عنق الشخص خيط أحمر

ص: 14

علق فيه رمز لتمساح أو قطة أو وطواط، تلك الحيوانات التي تثير في نفوس القبائل الهمجية عوامل الخوف والرعب، أو التقديس والاحترام، وقد تحمى قرية بأسرها بواسطة عزيمة أو رقية معلقة في رجل دجاجة، فالخرافة حلت محل القوانين والشرائع المختلفة في حماية الملكية الفردية والعامة لدى بعض الشعوب المتوحشة، وربما كان لها على نفوس معتنقيها سلطان لا يعد له سلطان قوانيننا المنظمة. فكثير من البدو تأنف نفوسهم من الإذعان لأمر، اللهم إلا ما أملته تقاليدهم الخرافية أو قيودهم الجمعية. يقول بعض الرحالة:(أنه ما كان يمكن حكم الزيلنديين بمجموعة من القوانين غير تلك التي جاءت بها خرافتهم. ذلك لأن هؤلاء القوم الحربيين يأبون أن يخضعوا اللوائح ومراسيم لم تصدر عن الآلهة، ولا يترددون لحظة في أن يرفضوا في احتقار أي أمر بشري، وفوق هذا فأنه من الخير أن يقاد شعب قيادة هينة بواسطة خرافة يدين بها بدل أن ترغمه القوة الغاشمة إرغاماً). وقد حاربت الخرافة السرقة بشكل يدعو إلى التقدير والإعجاب، فكان مدغشقر يعتقدون أن من سرق بيضة أصيب بالجرب، ومن سرق قطعة من الحديد حلت به عاهة جسمية أخرى. وكي يحمي أهل صيام حقولهم ينصبون فيها راية خافقة، فإذا ما جرؤ لص واعتدى على هذه الحقول أصيب برعدة وأضطرب اضطراب العلم الخافق ولم يقو على الهرب. ويقال أن صياداً كان يفقد كل يوم جزءاً كبيراً من صيده، فرأى أن يحصن شباكه وفخاخه بتلك الراية الآنفة الذكر، فلم يدن اللص منها في الغد إلا وارتعدت فرائصه، ولم يبرح مكانه حتى قبض عليه. وجرت عادة السومطريين (سكان سومطرة) أن يبتهلوا إلى آلهتهم ويستنزلوا لعنات السماء على من سرق شيئاً من أمتعتهم، فلا يلبث السارق أن يعلن عن نفسه وعما سرق. ويروى أنه سرق مره أرز سومطرية، فأخذت تدعو علناً على السارق، وفي الصباح وجدت الأرز المسروق قد وضع خفية أمام بابها. وهاك نموذجاً من هذه الأدعية الغريبة: (شياطين الماء وملوك الأرض والسماء، أسألكم المعونة والثأر لي ممن اعتدى عليّ. فأن كان السارق رجلاً فيخفق في جميع مشروعاته، وليصب بمرض يعذبه عذاباً أليماً دون أن يقتله، ولتخنه زوجه، وليعصه ولده، وإن ذهب إلى الحرب فليقتل، وإن ركب سفينة فليغرق دون أن يعثر له على أثر، وإن قطع شجرة فلتسقط عليه، ولتصب الآلهة عليه جام غضبها فتهلك زرعه ولا تمن عليه بشيء يأكله حتى يضطر أن يتكفف

ص: 15

الناس ولا يجيبون سؤاله فيموت جوعاً. وأن كان السارق امرأة فلتبق عاقراً إلى الأبد، وليسيء زوجها معاملتها، وليهجرها بنوها، ولتصب بأمراض لا شفاء منها.) ويظهر قدماء الإغريق كانوا يلجئون إلى أمثال هذه الأدعية والابتهالات لحفظ أموالهم، فكانوا يكتبونها على ألواح خاصة يضعونها في الأمكنة التي يراد حمايتها، ولا يزال بعض هذه الألواح باقياً إلى اليوم. وقد استخدموا هذه الأدعية كذلك في إرغام السارق على الاعتراف بسرقته، وهذا ضرب من وسائل التحقيق أن عيب بخرافته فهو يمتاز بسهولته. أما الرومان فقد ذهبوا إلى ما هو ابعد من ذلك، واعتقدوا أن هناك آلهاً خاصاً يتولى حراسة الحدود بين الحقول المتجاورة، فكل من اعتدى على جاره كان عرضة لسخط هذا الإله العظيم. ويخيل إلينا أن إله الحدود هذا يفسر ما كان عليه الرومان الأول من عناية بالزراعة وشؤونها. وجملة القول أن الخوف الناشئ عن أسباب خرافية صرف الناس عن السرقة في كثير من الشعوب القديمة ولدى القبائل الهمجية المعاصرة، فنتج عن هذا احترام للملكية الفردية وأمن مكمن المالك من الانتفاع بها. ولا يفوتنا أن نضم إلى الملاحظات السابقة ما نشاهده بيننا من أثر الخرافة في حفظ المال والمتاع. فالعجل إن قيل أنه (للسيد) قضى الليل والنهار في الحقل وخارج الدار دون أن يصاب بأذى، وأن كان من عجول عباد الله الآخرين أضحى عرضة للسرقة والنهب والسم والذبح. وكيف لا (والسيد) الذي جاء بالأسير من بلاده كفيل بأن يحمى ماله غائباً أو شاهداً، حيا أو ميتاً! ولا أضننا نجهل الأحلام المتواترة والقائلة بأن فلاناً رأى (الإمام) مثلاً يطارده طوال الليل، لأنه، فيما يزعمون، لم يوف بنذر نذره له من قبل. وما أشنع هذا الزعم الذي يناقض أصلاً من أصول الدين، ويسمح بالتقرب إلى غير الله، وقد وصل الأمر ببعضهم أن ادعوا أن هذا البلد بلد (الدسوقي)، والآخر ملك (البهنساوي)، والثالث من نصيب (العريان)، ويعنون بذلك أن كل واحد من هذه الأمكنة دخل في حوزة حارس أمين وحام عظيم. فلم يكن بدعاً أن تلجأ طائفة من الناس إلى نقل ملكيتهم - إن صح هذا التعبير - ولو ادعاء إلى بعض الأولياء والمقربين ليحفظ مالهم من الضياع. أما التمائم والرقى فتعمل فيها ما شئت، وحدث عنها ولا حرج: فتارة يقال أن هذه التميمة تحفظ من السرقة والغرق والحرق، وأخرى يظن أن هذه الرقية ما تلبث في دار إلا أمنت كل مكروه، وعل عادة وضع التماسيح على الأبواب تعتمد على خرافة من الخرافات

ص: 16

التي ترمي إلى حماية المال والمتاع.

إبراهيم بيومي مدكور دكتوراه في الأدب والفلسفة

ص: 17

‌التربية عند الإنكليز

التعاون في سبيل تربية الطفل بين المدرسة والمنزل

للأستاذ محمد عطية الأبرشي المفتش بوزارة المعارف

من مظاهر التربية الحديثة أن التعاون في المدرسة يجب أن يحل بالتدريج محل المنافسة، وأن المدرسة والمنزل يجب أن يعملا يداً بيد في سبيل تربية يصلح بها للحياة التي تنتظره، تربية اجتماعية كاملة، بحيث يتعود التعاون مع غيره من الصغر، حتى يستطيع أن يقوم بأعمال جليلة في الكبر. قد لا يستطع الآباء في المنزل أن يروا الغرض من الحياة، أو معنى الحياة، وقد يكونون محبين لأنفسهم، يأخذون ولا يعطون. وهنا تبدو الحاجة إلى المدرسة، فأنها تأخذ وتعطي، وتدرك معنى الحياة، وتستطيع القيام بمساعدة المنزل في تربية الطفل تربية عملية علمية صحية، تتفق والبيئة التي ينسب إليها. وأحسن الوسائل التي بها يستطيع المنزل والمدرسة معاً إعداد الطفل للحياة الكاملة هي:(1) العناية بالدور الأول من الحياة وهو دور الطفولة، فأنه هو الأساس الذي يبنى عليه مستقبل الطفل وحياته. وقد بلغت بالإنجليز العناية بالطفل لدرجة أنهم يفكرون فيه حتى قبل أن يولد بخمسين سنة على الأقل، فالطبقة الراقية منهم تفكر في أثر الوراثة، فلا يتزوج أحد من هذه الطبقة بمن به أو بها مرض من الأمراض العقلية أو العصبية أو الرئوية؛ خوفاً من التسبب في إيجاد طفل معتوه أو مجنون أو مستعد للسل مثلاً

(2)

أن يعطى الطفل حرية كبيرة لتنمية مواهبه وقواه التي تعد هبة للحياة الاجتماعية، ولا نقصد بذلك أن ندع الطفل يفعل كل ما يشاء، بل نعطيه فرصة في أن يعمل ويجرب، ونراقبه عن بعد حتى يظهر خطؤه، وندعه يحاول إصلاحه بنفسه، ونساعده عند الحاجة، ونعمل على أن يعرف نفسه، ويعتاد ضبط شعوره وعواطفه، والصبر، والتجربة والمثابرة، والتفكير في الجماعة، وفي روح الجماعة، بحيث تضحي في سبيله بكل شيء آخر؛ فلا تفكر إلا في الطفل وفي تقويمه وتهذيبه ليكون المثل الأعلى في الحياة

(3)

الاهتمام بالألعاب الرياضية؛ فأنها أحسن وسيلة لتقويم خلق الطفل وتقوية جسمه؛ بها نبث فيه حب العمل والتفكير لا في نفسه بل في الفرقة التي يشترك فيها، وبذلك نميت فيه ذلك المرض النفسي: مرض حب الذات والتفكير في النفس ليس غير

ص: 18

(4)

الحاجة إلى معرفة أن الطفل يحتاج أحياناً إلى الهدوء والصمت

(5)

العمل على الإصلاح دائماً. والتفاهم بالمحادثة الودية خير طريقة للعلاج والإصلاح. وأن المراقبة في دور البلوغ، والمراهقة واجبة، لان هذا الدور أكثر أدوار الحياة خطراً

(6)

العناية بالفنون والأعمال اليدوية كوسيلة للنمو العقلي والخلقي وكسب المهارة

(7)

يجب أن يتم التعاون بين المدرسة والمنزل، للوصول بالطفل إلى الكمال. فإذا لم يكن هناك تعاون بينهما فمن المحال أن نصل إلى الغرض الأسمى من التربية

وفي الأمم المتدينة، وبخاصة إنجلترا والولايات المتحدة بأمريكا تجد الثقة متبادلة بين المدرسة والمنزل، والرابطة بينهما كبيرة، يتعاون كل منهما على تثقيف الطفل وأفادته، فليست المدرسة في وادٍ والمنزل في آخر نقطة وإني آسف لان أقول أن المدرسة وحدها في مصر هي التي تجاهد منفردة في سبيل تربية الطفل؛ فالمنزل في الغالب منفصل عنها كل الانفصال، وقد يهدم ما تبنيه أحياناً. ولا سبب لذلك إلا انتشار الجهل والأمية وحبذا الأمر لو قامت المدرسة بدعوة المتعلمين من الآباء في وقت معين كل ثلاثة أشهر مثلاً للتفاهم والبحث معهم في الأمور التي تتعلق بشؤون الأطفال، والنظر في أحوال التعليم، ومستقبل التلاميذ، والعمل على رفع مستواهم العلمي والخلقي والصحي والاجتماعي وفي (نيويورك) مثلاً تجد المدرسة تعمل على التقريب بينها وبين المنزل؛ فالآباء في الولايات المتحدة بأمريكا أعضاء عاملون في الحياة المدرسية يذهبون إلى المحاضرات العامة التي تلقى في المدرسة، ويشتركون في مناظراتها، ويساعدون في مقاصفها، ويعاونون في محافلها الاجتماعية وبأمريكا الآن جمعيات للآباء والمدرسين في كل مكان تلقى فيها محاضرات عن: أعمال المدرسة، والغرض من المدرسة، والطفل، ونفسيته، وتربيته، ومعاملته

والكل يفكر في الطفل ثقة بأن طفل اليوم هو رجل الغد، وآثر التربية اليوم يظهر في الغد، وما تزرعه اليوم تجني ثماره غداً. وأن غداً لناظره قريب. والوسيلة الوحيدة لإصلاح الجيل المقبل وترقيته هي العناية بالجيل الحاضر. فإذا عنينا بأطفال اليوم وتربيتهم تربية صالحة في المدرسة والمنزل، والملعب، انتظرنا ثمرة طيبة وشعباً راقياً في المستقبل

وفي مدارس الأطفال في (ونتكا) بأمريكا يشترط لقبول التلاميذ أن يقبل الآباء معاونة

ص: 19

المدرسة والاشتراك مع موظفيها في العمل، وبغير ذلك لا تقبل الأطفال. وفي إنجلترا قد بذلت جهود كبيرة في السنوات العشر الماضية للتوحيد بين هذين العاملين: المدرسة والمنزل، وتوثيق عرى الرابطة بينهما. ولقد نجحت هذه المجهودات وأصبح الآباء يعنون بأمور التعليم، يسترشدون برأي المدرسة، ويستعيرون من مكتبتها إذا شاءوا، ويدعون للمجتمعات الموسيقية والتمثيلية والرياضية لكي يروا أبنائهم يغنون أو يمثلون أو يلعبون، ويشاهدوهم كرجال يقومون خير القيام بكثير من الأعمال من إدارة مطعم، وتنظيف فصول، وتنظيم حديقة، ومراقبة ألعاب رياضية، وإدارة مكتبات، وتوزيع الأدوات وجمعها بعد الانتهاء منها، وإصلاح كل ما يحتاج إلى الإصلاح في المدرسة. فالطفل عضو عامل في المدرسة يعوّد من صغره الاعتماد على نفسه، والاستعداد للحياة العملية العالمية باشتراكه مع رفقائه في الفصل والمعمل والمصنع والمحفل والملعب الرياضي

وفي المنزل يجد الطفل الإنجليزي مدرسة أخرى صغيرة؛ فالبيئة علمية، والجو علمي؛ أم تعلمه، وأب يرشده، وخادمه تقرأ له. فالكل يفكر فيه صباحاً ومساءً. في الصباح يأتي الطفل إلى أمه بالصحيفة اليومية فتقرأ له الجزء الخاص به من الصحيفة عن الفيل والنمر مثلاً، فيعرف ما تم من أمرهما. ثم تقطع له هذا الجزء فيضعه بين كتبه الخاصة، في حجرته الخاصة بكتبه ولعبه، وفي الساعة السابعة مساءً يتناول كوباً من اللبن أو فنجاناً من المرق بعد الاستحمام، ثم تأخذه إلى فراشه، وتقرأ له بعض الحكايات السارة، وتنشده شعر الطفولة، وتغني له بعض الأغاني بصوت هاديّ جميل حتى ينام، فتتركه إلى الصباح

وترحب المدرسة الإنجليزية بالآباء، وتريهم الأعمال التي يقوم بها أولادهم فيها، وتعمل على إيجاد روح التعاون بينها وبين المنزل

والمدرس الحازم يستطيع أن يساعد الآباء في معرفة أن الحياة لا تقصد طفلاً واحداً، أو أسرة واحدة، أو مدرسة واحدة ليس غير، بل تقصد المجتمع الذي ينسب إليه الفرد، والذي يجب أن يقوم الكل بواجبه نحوه؛ حتى نزول الأثرة التي تظهر في بعض الآباء الذين لا يفكرون إلا في أبنائهم وبناتهم. فالمدرسة تستطيع بمعاضدة المنزل أن تقوم بجلائل الأعمال نحو الأخلاق والإنسانية وتحسين المستوى الصحي والاجتماعي والعلمي والخلقي. ولسنا في حاجة إلى تكرار القول بأن التعاون بين المدرسة والمنزل هو الوسيلة الوحيدة لنجاح

ص: 20

التعليم. وبالمنتديات يمكن الجمع بين الآباء والمدرسين لاستماع روايات أو مناظرات مثلاً يقوم بها الطلبة والمدرسون، وبهذه الطريقة تتم الرابطة، ويلم الشعث، ويعمل الجميع لإسعاد الطفل وتربيته تربية حسنة

ولقد أوحت روح (بستالونزي) إلى المدرسين بأن يكسبوا تقدير الآباء، فأن هذا التقدير هو العامل الأول لنجاح الإدارة المدرسية، وان كانت المدرسة في حادة فإنها في حاجة إلى مساعدة المنزل؛ فالمدرسة هي التي تتسلم البضاعة التالفة؛ يأتي الطفل إليها يتكلم لغة غير لغتها، ويتخلق بأخلاق سيئة، وحينئذ نجد عمل المدرسة مضاعفاً؛ فتبتدئّ تعلمه لغة جديدة أو لغتين، وبجانب بث الأخلاق الفاضلة فيه تعمل على تقويم المعوج منها

وإني أعتقد أن الطفل يتمنى أن يأخذ والده في إحدى يديه، وأستاذه في يده الأخرى؛ حتى يعمل الكل وحدة (ثلاثية) متينة الاتصال تعمل لشيّ واحد هو رقي المجتمع، والوصول إلى الحياة الكاملة.

محمد عطية ألابراشي

ص: 21

‌3 - النهضة التركية الأخيرة

للدكتور عبد الوهاب عزام

شذرات من كلام محمد إقبال

أقفى على ما كتبته في المقال السابق عن موقف المسلمين من تقليد أوربا بشذرات من الفيلسوف الشاعر الهندي محمد إقبال تؤيد ما قلت. وهي شذرات من كتابه جاويدنامه، وهو رحلة خيالية في الأفلاك والجنة تضمنت آراء إقبال في الإسلام والمسلمين، وسأتكلم عنها في مقالات أخرى، وإن تكن هذه الشذرات طويلة فالحق لا يضره الطول. قال على لسان سعيد باشا حليم حينما لقيه في فلك عطارد مخاطباً المسلم:(قم فصوّر بنفسك عالماً آخر، وامزج العشق بالذكاء الباهر. إن شعلة الإفرنج أصابها الماء فهي خامدة، فالعيون ناظرة والقلوب هامدة؛ أصابت سيوفهم منهم المقاتل، فسقطوا كصيدهم في المجاهل. فلا تطلب الحرقة والنشوة من كرومهم، ولا ترجّ عصراً جديداً في أفلاكهم. في نارك أنت حرقة الحياة ونورها، وعليك أنت بعثها ونشورها قال مصطفى وهو يتغنى بالتجديد: (لابد أن كل قديم عتيد.) إن الكعبة لا تجد فيها الحياة، إذا جاءها من أوربا اللات ومناة. وا أسفا ليس في رباب التركي نغمة جديدة، جديدة قديم أوربا الغالبة. لم يكن غير هذا النفس في صدره، ولم يكن سوى هذا العلم في ضميره. فلا جرم سكن إلى العالم الموجود، وذاب كالشمع في حرقة العلم المشهود. وكم في طباع الكائنات من طريف وجديد، ليس في تقويم الحياة هذا التقليد، إن القلب الحي يخلق العصور، وينفر من التقليد أي نفور

إن يكن لك قلب المسلم الولهان، فأنظر في ضميرك والقرآن، كم عالم جديد في آياته. وحسب العصر الحاضر واحد من عوالمه، إن نفذ قلبك إلى بواطنه، إن المؤمن من آيات الله الوهاب، يابس العوالم لبس الثياب. كلما قدم عليه عالم منحه القرآن عالماً آخر. . . الخ

وهذا حديث من الكتاب نفسه بين نادر شاه ملك إيران وزنده رود (محمد إقبال) حينما التقيا في الجنة:

نادر:

مرحباً بالشاعر المشرقيّ، الذي يجدر به اللسان الفارسيّ، إني محرم للأسرار فأفش أسرارك، ماذا عندك عن إيران الوطن المبارك؟

ص: 22

زنده رود:

فتح عينه على نفسه حيناً، ثم وقع في الشرك سريعاً. هو صريع دلال أوربا الفاتنة هام بها فأتبعها، وفتن بزينتها فقلدها، همّه اليوم الملك والنسب، وذكر سابور وتحقير العرب، أوقاته من الواردات خاليه، يطلب الحياة من القبور البالية. تحدث بالوطن مذهل عن نفسه، وترك حيدراً وهام برستمه! الخ

ويقول على لسان إبدالي ملك الأفغان في القرن الثاني عشر حينما لقيه في الجنة

أبدالي:

ذهل الشرق عن نفسه بما قلد الغرب واتبعه، ولابد للشرق أن ينقد الغرب فيفهمه، ليست قوة الغرب من العود والرباب، ولا من رقص الفتيات بغير حجاب، ولا من سحر ورديات الخدود، ولا من الساق العارية والشعر المجدود. وليست هيبة الغرب من نبذ الدين، ولا بهاؤه من حرف اللاتيني. ما قوة الإفرنج إلا العلوم والفنون، وما ضوء مصباحهم إلا من هذه النار. ما الحكمة صورة من الزي واللباس، وما تمنع العلم والفضل عمامة على الرأس؛ إن للعلم والفن أيها الشاب النافر، سراً وراء هذه الظواهر؛ وإنما يغنى في هذه السبيل العين النظارة، لا هذه العمارة أو تلك العمارة؛ حسبك الفكر النفاذ، وناهيك بالطبع الدرّاك. إن ملك المعنى لم يحجره أحد، ولا يناله إلا الجهاد والجلد، لقد غفل التركي عن نفسه، وسكر من الإفرنج رأسه، فشرب من يدهم السم حلو المذاق، وترك عامداً ترياق العراق، ولست أدعو له إلا بالهداية والسداد. إن عبد الإفرنج قد أولع بالظهور، فأخذ عنهم الغناء والفجور، يضني روحه في اللهو والفتون، ويستصعب الجد فيركن إلى المجون. يؤثر السهل إيثاراً لراحته، ويرى في السهل كفاء لفطرته. وإنما طلب السهل في هذه المحن إيذان بأن الروح قد فارق البدن)

ويقول في خاتمة كتابه خطاباً للجيل الجديد:

(آسيا موطن الشمس ومشرقها ترى غيرها وتحتجب عن نفسها، قلبها محروم من الواردات الجديدة، فهي اليوم لاتزن شعيرة؛ وقتها في معترك هذه الدار جامد ساكن لا يلذ التسيار. هي صيد الشيوخ وقنيص الملوك، وغزال فكرها ظالع منهوك. العقل فيها والدين والعلم والشرف والعار من ربقة السادة الإفرنج في إسار. هجمت على عالم أفكارها، ومزقت

ص: 23

حجاب أسرارها، وجعلت قلبي في صدري دماً حتى صبغت عالمها لوناً آخر. . . .

شباب عطاش كؤوسهم فارغة، ووجوههم نضرة، ورؤوسهم مضيئة، وأرواحهم مظلمة، ضعاف البصر قد حرموا اليقين والأمل، لم تدرك أعينهم شيئاً في هذا العالم، يكفرون بأنفسهم ويؤمنون بغيرهم؛ إن منكر الحق عند الشيوخ كافر، ومنكر نفسه عندي أكفر)

ثم أعود إلى الكلام فيما فعله الكماليون فيما يسمى (النهضة التركية الأخيرة)، وأقدم قبل الكلام ترجمة البلاغ الذي أذيع على الناس قبل فتح المجلس الكبير بأنقرة ليتبين القارئ أين ابتدأت هذه النهضة وأين انتهت:

نشرت الهيئة التمثيلية التي مهدت لاجتماع مجلس الأمة الكبير بأنقرة هذا البيان قبل فتح المجلس:

1 -

بمنة الكريم سيفتح مجلس الأمة الكبير في أنقرة يوم الجمعة الثالث والعشرين من نيسان بعد صلاة الجمعة

2 -

اختير يوم الجمعة لفتح مجلس الأمة الكبير الذي سيؤدي الوظائف الحيوية الخطيرة مثل إنقاذ مقام السلطنة، والخلافة، واستقلال الوطن. ويستفاد من بركة هذا اليوم فتؤدى صلاة الجمعة في جامع الحاج بايرام ويحضرها المبعوثون كلهم، للتيمن بأنوار القرآن والصلاة. وبعد الصلاة يسار باللحية المباركة واللواء الشريف إلى الدائرة المخصوصة

وقبل الدخول إلى الدائرة يتلى دعاء وتذبح الذبائح. وفي هذه المراسم تنظم الفرق العسكرية، من الجامع إلى الدائرة المخصوصة.

3 -

لأجل تأكيد قدسية اليوم المذكور يبدأ اليوم بتلاوة الختمة الشريفة والبخاري في مركز الولاية بترتيب الوالي، وتؤخر الأجزاء الأخيرة من الختمة الشريفة لتتلى أمام الدائرة يوم الجمعة بعد الصلاة

4 -

لأجل تأكيد قدسية اليوم المذكور يشرع منذ اليوم (في كل الجهات) في قراءة الختمات الشريفة والبخاري، وتقرأ الصلوات الشريفة على المنارات يوم الجمعة قبل الآذان؛ وحينما يذكر أثناء الخطبة الاسم الهمايوني العظيم أسم حضرة صاحب الخلافة سلطاننا يدعى بصاحب الشوكة ولممالكه الشاهانية ولرعاياه بالخلاص والسعادة. وبعد أداء الصلاة يكمل الختم وتلقى المواعظ في تبيين خطر وقداسة المساعي الملية التي يراد بها خلاص مقام

ص: 24

الخلافة المعلى والسلطنة وأقسام الوطن كلها، وفيما يجب على كل فرد من المؤازرة في تأدية الوظائف الملية التي يقوم بها المجلس الكبير المؤلف من نواب الأمة. ثم يدعى بالخلاص والسلامة والاستقلال لخليفتنا وسلطاننا، وديننا ودولتنا، ووطننا وملتنا، وبعد إيفاء هذه المراسيم الدينية، والخروج من الجامع، يجتمع الناس في مركز الحكومة في كل البلاد العثمانية، للتهنئة بفتح المجلس. ويقرأ المولد الشريف في كل جهة قبل صلاة الجمعة بصورة مناسبة

5 -

وتتخذ كل الوسائل لاذعة هذا البيان، ويبلغ سريعاً إلى أبعد القرى، وأصغر الفرق العسكرية، وكل مؤسسات الدولة، ويعمل في لوحات مخصوصة، ويطبع ويوزع مجاناً حيث ما أمكن ذلك

6 -

نضرع إلى جناب الحق أن يهبنا التوفيق الكامل

باسم الهيئة التمثيلية

مصطفى كمال

ذلك ما أفتتح به الكماليون عملهم؛ فلما أتيح لهم النصر شرع القادة منهم يتنكرون للإسلام. وكان أشدهم إفراطاً في ذلك الغازي مصطفى كمال باشا الذي كان المسلمون جميعهم يعدونه بطل أبطالهم غير مدافع. ولست أدري أيعود الكماليون فيتوسلون بالدين إذا وقعوا في محنة أخرى. ولست أود لهم المحن بل ادعوا لهم بالعافية والهدى. حدثني من أثق به عن الشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله أن الغازي قال له مشيراً إلى القرآن الكريم: (لن تفلحوا ما دام هذا الكتاب البالي أمامكم) وحدثني آخر من كبار الرجال أن الغازي رمى بالمصحف ساخراً؛ وكان يأمر فتترجم له بعض آياته ليتخذها هزواً. ألم يكن للنهضة التركية بدّ من هذا؟ لقد سبقنا الأوربيون في كل سبيل وما سمعنا عن ملك من ملوكهم أو زعيم من زعمائهم أنه فعل هذا بالتورات والإنجيل. ولو فعله بعضهم لكان فعلة شنعاء لا يقتدي بها العقلاء. وقد قرأت في إحدى الجرائد الإنكليزية منذ سنين بعدااأن ملك الإنكليز يواظب على قراءة فصول من التورات منذ أربعين سنة لأن أمه أوصته بهذا

وقد كتب الكماليون في دستورهم أول الأمر أن دين الدولة الإسلام، ثم عادوا فمحوا ذلك

ص: 25

منادين بأن الدولة لا دين لها. ثم عمدوا إلى القوانين المدنية، وهي مستنبطة من الشريعة الإسلامية فنبذوها واستبدلوا بها قانون سويسرا. وليسوا أول من يلام على ذلك، فقد سبقهم المصريون فسنوا للمسلمين هذه السنة السيئة، ولكن الكماليين كانوا بدعاً من الأمم في اختيار قانونهم الجديد. فما كان هذا القانون وليد عاداتهم، ولا نتيجة حاجاتهم، ولا منتهى ما رآه أولو الأمر منهم، بل أتوا بالقانون السويسري مجموعاً مطبوعاً مجلداً، وعرض على المجلس هذا المجلد مطبقاً، وأخذت الآراء فأجمع عليه الأعضاء، فأنتقل قانون سويسرا إلى الأناظول في ساعة، وصار الأناظول سويسرا، وصار أهله سويسريين، وأنجاهم الله من القوانين الإسلامية البالية، إذ أنزل عليهم قانوناً جديداً مطبوعاً مجلداً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!

ومما ابتدعه الكماليون التأذين باللغة التركية. وقد ترجموا القرآن من قبل إلى لغتهم فعذرناهم وقلنا لابد للمسلم أن يفهم قرآنه، والتركي لا يستطيع أن يفهم القرآن بالعربية فلا مناص من ترجمته إلى لغته؛ والأمر في الأذان غير هذا، فهو تسع كلمات ممدودات صارت شعاراً للمسلمين في أقطار الأرض كلها يفهمونها على اختلاف لغاتهم؛ ليس في الأرض مسلم لا يعرف معنى الله أكبر ومحمد رسول الله، والصلات والفلاح، وأن يكن في الأرض مسلم لا يفهمها وجب عليه أن يفهمها احتفاظاً بهذا الشعار، واستمساكاً بهذه الكلمات الجامعة بين المسلمين. فما بال الكماليين أصروا على التأذين بالتركية؟ ذلك بأنهم لا يبالون بالرابطة الإسلامية، وما أحسبهم إن استمرت لهم هذه السيرة إلا سيلغون الأذان كله فيستريح السادة المترفون من هذه الضوضاء. ذهبت مرة إلى جامعة أكسفورد فتعشيت في إحدى كلياتها مع الطلبة. فلما جلسنا على الموائد أقبل جماعة من الأساتذة إلى مائدة تسمى المائدة العالية، فوقف الطلبة، وتلا أحد الأساتذة دعاء باللاتينية. ولما انتهى الطعام وقف الطلبة خاشعين فاستمعوا إلى دعاء آخر باللاتينية. وهناك شواهد كثيرة على احتفاظ الأمم في بعض أمورها بكلمات من لغات غير لغاتها احتفاظاً بذكرى تاريخية أو إبقاء على سنة دينية. وأذكر هنا أن في أكسفورد تسع عشرة كلية مع كل واحدة منها كنيسة، والطلبة ملزمون بالتناوب على الصلات في أوقات معينة، فهل منع هذه الإمبراطورية البريطانية من أن تسود العالم؟ أو كان هذا بعض الأسباب التي مكنت لها في الأرض؟

ص: 26

ولا ننسى هنا أن الجامعة المصرية حينما شيد بناؤها على طراز أوربي لا مصري ولا عربي لم يتم بنائها التقليد ببناء المساجد، ييسر للطالب المصلي تأدية الصلاة، فكأنه أكره على ترك الصلات إكراهاً. وقد تكلمت في هذا فقيل لي أن في تخطيط الجامعة م سجداً. ولست أدري متى يشيّد هذا المسجد المخطط؟ لماذا نؤمن ببعض سنن الأوربيين ونفكر في بعض؟ ولماذا يا قوم نقلدهم في المراقص ولا نقلدهم في بناء المعابد في الجامعات؟ وقد كان لنا مصليات في مدارسنا، وكان لها أئمة يصلون بالطلبة، ولكنا شعرنا بتوغلنا في المدينة وتقدمنا في العلوم والفنون فخجلنا من الإبقاء على هذه السنن القديمة فأهمناها فدرست ونسيت!

ومما فعله الكماليون آخراً تحويل جامع آيا صوفيا كنيسة بمحو ما فيه من آيات قرآنية وأحاديث، والكشف عما ستره المسلمون من صور القديسين والملائكة والصلبان ونحوها من نقوش المسيحية؛ وقد أحتج لهم من يدافع عنهم بالحق وبالباطل بأن بناء المسجد وهي، ولم يبق صالحاً لإقامة الصلوات فجعلوه متحفاً وكشفوا عن هذه الصور الأثرية، فهل معنى هذا أن الكماليون أشفقوا على المصلين أن يخرّ عليهم المسجد فأرادوا أن يفدوهم بروّاد المتاحف لا يبالون أن يسقط عليهم المتحف أو لا يسقط؟ هل بلغ الولع بالآثار القديمة عندهم أن يمحوا الآيات القرآنية ليكشفوا عن الرهبان والصلبان؟ على أن هذه الآيات قد كتبت بخط جميل يجعلها من الفنون الجميلة، ومضت عليها عصور تجعلها من الآثار القديمة

لست أرى في ما صنعه الكماليون بآيا صوفيا إلا إنفاذاً للمنهاج الذي وضعوه. فهذا جامع كان كنيسة معظمة عند النصارى، وقد فتح المسلمون القسطنطينية فجعلوا من آيات الفتح والظفر تحويل الكنيسة إلى جامع فطمسوا نقوش النصرانية فيها، وبنوا لها منارتين، ونصبوا أمامها لوحاَ كتبوا فيه حديثاً مروياً عندهم:(لتفتحن القسطنطينية! ولنعم الجيش جيشها، ونعم الأمير أميرها!) ولا يزال التركي كلما مرّ بهذا الجامع ذكر الفتح والفاتح، وغلبت الإسلام في هذه المدينة ونحو هذا مما لا يلائم (النهضة التركية الأخيرة) ولا يساير المدنية الحديثة، ثم لا يزال هذا الجامع حسرةً في نفوس النصارى، ما نسوه قط، وقد أعربوا عن أملهم في تحويله إلى كنيسة يوم احتل الحلفاء الآستانة في الحرب الكبرى

ص: 27

فتجمع الروم حول آيا صوفيا ليستولوا عليه فيعود سيرته الأولى. فكان لزاماً أن يمحوا الكماليون هذه الآية من نفوس الترك وغيرهم من المسلمين، لينسوا الماضي وينظروا إلى الحاضر. وليتقربوا إلى أوربا النصرانية التي التزموا محاكاتها في كل شيء. وما بالكم أيها المسلمون تكرهون هذا التسامح في الدين وأنتم تزعمون إن دينكم دين التسامح؟ ستقولون أن أوربا النصرانية لا تتسامح معنا فنجزيها تسامحاً بتسامح، ولا يزال كثير من مساجدنا في الأندلس والبلقان كنائس في أيدي النصرانية. وفاتكم أيها المسلمون أننا أولى بالتسامح منهم فلماذا لا نبدؤهم به!!!

وقلد بلغني أخيراً أن الحكومة التركية هدمة المسجد الجميل مسجد المدرسة البحرية هيبه لي أطه، هذا المسجد الذي كان يشرف على بحر مرمرة يوحي إلى المسلم أن دينه ينبغي أن يعز في البر والبحر، فأن صدق هذا الخبر، ولست على يقين منه، فهو حلقة من هذه السلسلة

(له بقية)

عبد الوهاب عزام)

ص: 28

‌الديمقراطية والانتخاب

في التربية

للأستاذ فخري أبو السعود

مبدأ التعليم العام حديث العهد وليد الديمقراطية في نظم الحكم الحديثة، إذا اقتضت الديمقراطية المساواة بين جميع أفراد الأمة في الفرصة التي تتاح لهم لتقويم طباعهم واستثمار مواهبهم؛ ففي نصف القرن الأخير جعلت مرحلة التعليم الأولى في دول الغرب الراقية عامة إجبارية مجانية، لينال كل فرد حظاً من التعليم، وعاونت الحكومات ذوي المواهب من أبناء الطبقة الفقيرة على المضي إلى غايات التعليم دون أن يكون فقرهم عائقاً لهم عن ذلك، وبذا انتشر النور وأطلقت المواهب التي كانت من قبل معقولة

على أن التعليم العام لم يخل انتشاره من مساوئ: من ذاك أن معظم أبناء الطبقة السفلى يغادرون المدرسة تواً عقبة إنهاء مرحلة الدراسة الأولى ويعودون إلى مزاولة مهن آبائهم وينسون ما تعلموه في المدارس إلا النزر اليسير الذي لا يساعدهم إلا على قراءة غث الكتب وفارغ القصص؛ ومن ثم انتشر الأدب الرخيص وطغى على الأدب العالي، وتدلت الصحف، وكثر الكتاب المرتزقون الذين لا يتوخون سوى إرضاء تلك العقلية المنحطة، وقد آذى هذا الأدب المنحط الثقافة الرفيعة: إذ اجتذب غير قليل من المتعلمين تعلماً راقياً، لأن من طبيعة الإنسان أن يؤثر الهين من الأبحاث على الصعب منها، إلا أن يكون له وازع من نفسه شديد يقسره على التسامي عن الفضول؛ وما من وسيلة من وسائل التثقيف الحديثة كالراديو والسينما والمحاضرات إلا أسئ استعمالها كما أسئ استعمال الكتابة إرضاءً لفضول أشباه المتعلمين، وكانت النتيجة أن التعليم العام حين رفع مستوى الطبقة السفلى درجة هبط بعقلية الطبقة العليا مثلها

على أننا إذا فرضنا أن التعليم العام كان خيراً كله في بلاد الغرب التي سبقتنا إليه فهل هو كذلك في مصر؟ لقد أخذنا مبدأ التعليم العام فيما أخذنا عن أمم الغرب؟ وقلنا: ما دمنا نطلب الديمقراطية في السياسة والحكم فلابد من اتباعها في التعليم؟ وما دمنا نريد النهوض ببلادنا فلننشر فيها العلم لننقيها من خرافات الجهل وجموده، وأغرقنا وتسرعنا في تطبيق ذلك المبدأ شأننا في كل ما ننقل عن الغربيين: فأنشأنا عشرات المدارس وزججنا الناشئين من

ص: 29

كل صوب، وأنفقنا على ذلك الأموال الطائلة، وتخرج من معاهدنا ألوف الشبان، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة فشل لم يكن في الحسبان: فأولئك الشبان يزيدون على حاجة البلاد، وتعليمهم ناقص مشوّه، وأخلاقهم لا تحمد، والتعليم عامة يتقدم في طريق الضعف والانحلال سنة بعد سنة باطراد

ذلك بأننا أخذنا بمبدأ الديمقراطية في التربية مطلقاً غير محدود، وهو مبدأ غير طبيعي ولا يصلح به وحده مجتمع ولا نظام، وإنما المبدأ الساري في الطبيعة هو مبدأ الانتخاب: فالأصلح في الطبيعة هو الذي يرقى ويسود؛ وقد فطن إلى ذلك أول الشعوب أخذاً بالديمقراطية في حياتهم الاجتماعية ونظمهم الحكومية، وهم اليونان: فديمقراطية أثينا لم تكن في الواقع إلا أرستقراطية إذ تذكرنا أنه كانت بها دائماً طبقتان ممتازتان غير متساويتين في الحقوق والواجبات: طبقة الأحرار وطبقة العبيد. ولما بحث فلاسفة اليونان الكبار في النظم الحكومية لم يؤثر واحد منهم الديمقراطية المطلقة، ومالوا إلى الأرستقراطية لأنها هي النظام الطبيعي؛ وحين عالج أفلاطون التربية وضع لها نظاماً أرستقراطيا قائماً على مبدأ انتخاب الأصلح، لا ديمقراطياً على مبدأ المساواة التامة: فجعل التعليم على ثلاثة مراحل يتمتع الجميع بالأولى منها ولا يرتقى إلى الثانية فالثالثة إلا من أظهروا استعداداً طبيعياً لذلك، ومن المرحلة الأولى يتخرج أرباب المهن اليدوية، ومن الثانية يتخرج المقاتلون، ومن الأخيرة الفلاسفة والحكام

فالطبيعة لم تجعل أبناءها متساوين في المواهب، بل هي ترفع بعضهم فوق بعض درجات، ومادام هذا كذلك فسيظل في كل مجتمع في كل عصر طبقات متفاوتة، ولن ترقى أمة إلى أن تعترف ضمناً بالتفاوت بين هذه الطبقات، والغفلة عن هذا التفاوت خطأ قاتل

وأشهر الشعوب بالديمقراطية في العصر الحديث الإنجليز، ولكن من يتأمل في حياتهم يرى أن ديمقراطيتهم أرستقراطية كديمقراطية أثينا: فالفوارق بين طبقات النبلاء والأوساط والسوقة قائمة محددة يشعر بها أفراد كل طبقة، والنبلاء يترفعون على من عداهم ترفعاً شديداً، والآخرون ينظرون إليهم نظرة رهبة وإكبار، حتى لتكاد تكون طبقة النبلاء هذه أمة داخل أمة؛ وهذا الشعور باختلاف الطبقات والتسليم به والاعتراف بالأمر الواقع دليل على نزعة الإنجليز العملية، وهو هو سر صلابة بنيان نظامهم الاجتماعي والحكومي، وخلوّ

ص: 30

تاريخهم من زعازع التقلبات

وهو أيضاً أكبر أسرار نجاح نظم التربية عندهم: فالنظام الأرستقراطي يتمثل في المدرسة الإنجليزية كما يتمثل في المجتمع الإنجليزي: فالتعليم عام مباح للجميع، ولكن هناك مدارس للخاصة قاصرة على أبناء من يأبون لأبنائهم مخالطة أبناء السوقة، ومعظم أبناء الطبقة السفلى ينقطعون عن المدرسة بمجرد إنهاء المرحلة الإجبارية وينزلون إلى ميدان الحياة العملية، ونظم المدارس من الشدة والدقة وجوهاً من النقاء بحيث لا يسمح بالاستمرار في مراحل التعليم إلا لمن حسنت أخلاقهم ونضجت مداركهم، والحكومة ومجالس الأقاليم والجماعات الخيرية لا تنفق أموالها إلا على النابغين المتفوقين، وهكذا يبدأ التعليم في أول مراحله ديمقراطياً عاماً ثم تتناوله يد الانتخاب بالتهذيب والتنقية فلا يبلغ القمة إلا الأكفاء خلقاً وموهبةً، ولا يصل إلى مراتب الإدارة والحكم وقيادة مصالح البلاد وتوجيه مصايرها إلا صفوة أبنائها، ويظل الأوشاب في أسفل

أما في مصر فأننا لطول لهفتنا إلى الديمقراطية والعلم - بعد أن عصف بنا الاستبداد والجهل أجيالاً - اندفعنا إلى مبدأ التعليم العام اندفاعاً، وأخذنا بمبدأ الديمقراطية وحده، وهو مبدأ كما تقدم غير طبيعي ما لم يماشه جنباً لجنب مبدأ الانتخاب، وما لم يراع معه قيام الفوارق بين الطبقات، فأدى هذا الاندفاع إلى هبوط مستوى التعليم هبوطاً ذريعاً: فكثر عدد المتعلمين ولكن قلت قيمة الواحد منهم بما يحمله من علم وخلق، والجانب الخلقي هو الذي يعنينا هنا أكثر من غيره، وقصارى ما يقال في أخلاق أبناء مدارسنا وخريجيها أن النفس تمتلئ أسى ويأساً من مستقبل قضية الوطن العزيزة حين تذكر أن هؤلاء هم ذخر البلاد لغدها، وما جنى على أخلاق متعلمينا هذه الجناية إلا حشد التلاميذ في المدارس من جميع الطبقات بلا تمييز

في كل أمة في العالم طبقة سفلى، فلا ضير علينا في الاعتراف بوجود هذه الطبقة بيننا، بل يجب علينا ونحن نلتمس موضع الداء ونحاول إصلاح عيوب التربية أن نذكر أن الطبقة الدنيا في بلادنا كبراً يفوق ما بالبلاد الراقية، وأن أخلاق يلك الطبقة في منتهى الضعة، لأنها ما تزال تحمل بين أطوائها آثار عصور الاستبداد والجهل التي أوهنت الأخلاق وبثت الكذب والنفاق والغش والخيانة والخشونة والوقاحة، وما يزال أبناء الطبقة

ص: 31

الوضيعة عندنا متسمين بهذه الصفات، وهم لا يرون بها بأساً ولا يعدونها إلا إمارات مهارة وحنكة ووسائل اختيال للعيش وانتهاز للفرص

ومن سوء حظ التعليم في مصر أن أبناء تلك الطبقة أقبلوا على التعليم في السنين الأخيرة إقبالاً شديداً، لا لقدرهم العلم قدره ومعرفتهم بفضل الخلق الكريم العالي، بل طمعاً من الآباء في أن يروا أبناءهم يرفلون في أزياء الأفندية والبكوات، ويترشحون لعالي المناصب والمرتبات، فوجد أبناء السائقين والإسكافيين والخدم والبوابين ومن إليهم أبواب المدارس مفتحة لهم على مصايعها فجلسوا على أرائكها بجانب أبناء الأسر الطيبة الذين نشئوا في بيوتهم على حسن الذوق ولطف الخطاب وطهارة الطوية، فبثوا في جو المدرسة خشوتة طبائعهم وجلافة خطابهم، وسفالة أفكارهم، وضعة نفوسهم ولم تكن إلى سنون حتى تسمم جو كل مدارسنا، وصارت تطبع كل من أمها من التلاميذ - سوقهم وراقيهم - على غرار واحد لا يتصف بصفة حميدة واحدة

والذي أراه أن مدارسنا لن تقال من كبوتها، وأخلاق ناشئتنا لن ترفع من حطتها، حتى يصد هذا الذي يحق أن نسميه (غارة السوقة على المدارس) ويفصل بين أبناء السوقة وأبناء الأسرات الطيبة في معاهد العلم، ومادام هذا الزج الذي لا تمييز فيه فستظل أخلاق سوقتنا تطغى على أخلاق عليتنا ونحن نمكن لهذا الطغيان بأيدينا في مدارسنا

في الأمة سوقة وفيها أسرات طيبة، ونحن الذين نريد الرقي ببلادنا نبني الخير للجميع بلا نزاع، ولكن هذا المزج بين الفريقين بدعوى الديمقراطية لا يؤدي إلى غرضنا المنشود، هو يهبط بأخلاق العلية ولا يرفع السفلى، كالذي يمزج قليلاً من الماء النقي بكثير من الماء العكر لن يحصل إلا على ماء عكر، والأجدر بنا ألا نتعجل الأمر فنحاول ترقية الأمة جميعاً وتعليمها وتهذيبها دفعةً واحدة

إن الأجدر بنا أن نصرف عنايتنا أول الأمر إلى أبناء الطبقة المهذبة فنمدهم بالتعليم الذي ينشرونه وهم بمنأى عن مخالطة السوقة والتطبع بطباعهم، فهؤلاء صفوة أبناء الأمة، ومتى خلص لنا تعليمهم وتهذيبهم فقد أهدينا إلى البلاد طبقة من أبنائها الأكفاء ذوي الخلق العظيم القادرين على تدبير أمورها وقيادة نواحي النشاط العام في حياتها، ولنا أن نلتفت بعد ذلك - أو مع ذلك - إلى أبناء السوقة فنفسح لهم في مجال التعليم والتربية بما يؤدي

ص: 32

إلى ترقية أخلاقهم ورفع مستواهم، ولكن على أن يظلوا بنجوة لا يبثون السموم في بيئة أرفع من بيئتهم، وان رفع مستواهم لأمر يحتاج إلى أجيال، كما أنهم إنما هبطوا إلى دركهم ذاك في أجيال، فجدير بنا أن ننبذ التسرع جانباً

ومن ثم نرى ضرورة إنشاء مدارس منفصلة لأبناء الطبقة المهذبة والأسرات الطيبة كما أشرت إليه في كلمة سابقة، يقبل بها التلاميذ على أساس الانتخاب الخلقي والعقلي لا على أساس الديمقراطية العمياء، فمما لا نزاع فيه أن بالبلاد أسرات طيبة ينشأ أبناؤها في بيوتهم نشأة طيبة، فلننتخب أبناء هذه الطبقات - بخير الطرق المستطاعة - ولنفرد لهم مدارس تمدهم بالثقافة ولا تفسد أخلاقهم بمخالطة الدون

ولا شك أن اليسر المالي من دواعي رقي الأسرة ورقي المجتمع كله. فالأسرة التي تشعر باليسر وترى امتيازها المالي على غيرها تسعى ليكون لها امتياز خلقي أيضاً، فتنزع إلى الحياة المنظمة النظيفة وتتسامى عن الشرور وعن السفساف، وتسود فيها رقة الحاشية وسلامة الذوق، والأخلاق الطيبة تبدأ تطبعاً وتستحيل طبعاً وتبتدئ بالمظهر ثم تأخذ بالجوهر. أما الأسرة السوقية المدقعة فيورثها كفاحها في طلب القوت وضيع الرذائل وقذر العادات، ومن ثم يمكن أن يتخذ اليسر المالي مقياساً لرقي أسرة الطالب وسموها عن أدران السوقية كما تتخذ مهنة والده مقياساً لذلك أيضاً، ويجب بعد أن يقبل الطالب في المدرسة أن تستمر الرقابة المدرسية الصارمة، فمن ثبت عدم استحقاقه للبقاء في بيئتها الراقية فصل على الفور ليظل جو المدرسة دائماً نقياً يسمو بأخلاق أبنائها

كذلك يجب أن تسمو المدارس بالعقول: بأن يرفع مستوى الامتحانات التي يتوقف عليها تقدم الطالب في مراحل العلم - أياً كان نوعها وكيفما أدخلت على أنظمتها الإصلاحات - حتى لا يسمح باجتياز مراحل التعليم المختلفة إلا لمن هيأتهم الطبيعة بالمواهب الصحيحة، فيسمح للجميع بطرق مرحلة التعليم الأولي، ولكن لا ينال الإجازات العلمية إلا من هم جديرون بها

هكذا يطبق مبدأ الانتخاب في التربية بناحيتيها الخلقية والعقلية؛ وبأتباع هذا المبدأ ترقى أخلاق المتعلمين ويرتفع مستوى الحاصلين منهم على الإجازات العلمية ويقل عددهم فلا يزيد على حاجة البلاد ولا يكونون طبقة عاطلة، ومن تخلفت به مواهبه منهم عن أدراك

ص: 33

غايات العلم الصحيح يعرج على ما يناسبه من مهن وأعمال

فمبدأ الانتخاب، مبدأ الاعتراف بالتفاوت بين الأفراد والطبقات، مبدأ اختيار الأصلح، الذي هو المبدأ الطبيعي، هو المبدأ الذي به تصلح نظم التربية عندنا وتبرأ من عللها الكثيرة؛ أما مبدأ الديمقراطية المطلقة، مبدأ فرض المساواة التامة بين الجميع في كل شيء، مبدأ إفساح المجال لكل من هب ودب، فهو مبعث آفات التعليم، وهو الذي أدى إلى حشد التلاميذ في المدارس ذلك الحشد الذي عزا إليه تقرير معالي وزير المعارف معظم مساوئ التعليم في مدارسنا

فخري أبو السعود المدرس بالعباسية الثانوية

ص: 34

‌إبليس يتوب.

. .!

للأستاذ محمد سعيد العريان

(ليس أسمج من الرذيلة تكون وجدها في الأرض، إلا الفضيلة

تكون وحدها. . .!)

الرافعي

اطلع إبليس ذات مساء على الأرض؛ يستروح من نسمات الليل والدنيا نائمة - روح الفردوس الذي طردته الكبرياء من رحمته. وانبث زبانيته ينفثون الشر عن أمره في أوكار الظلام؛ ففي كل منعطف شيطان صغير يتربص، وبين كل اثنين ثالث لا يريانه. . .

وسمع إبليس في هدأة الليل عابداً يتهجد، ما يبدأ ولا ينتهي من سجدة إلا لعن الشيطان. . .!

وأحس إبليس لعنات الشيخ العابد تنصب عليه كما ينهال التراب على نار تتلهب، أو ينصب الماء على جمرة تؤجج

وصرت أسنان الشيطان من الغيظ، وانقدح من حجاجيه شرار كاللهب، أن عجز وعجزت زبانيته معه عن فتنة مثل هذا الشيخ الزاهد وإرادته على أن يتعلق بحظه من الدنيا وشهوات النفس، على حين لم يعجز الشيطان أن يطرد أباه من الجنة!

أفكان يعصم الشيطان من اللعنات أن يسلط على الناس جميعاً شهواتهم ويغري بهم أنفسهم؟ فكيف وإن عباده من أهل الغواية والمعصية ليذكرونه باللعنة على مقدار ما ييسر لهم شهواتهم ويضاعف لهم من مسراتها؛ وإنهم ليسرعون إلى لعنته إسراعهم إلى طاعته. . .؟

وهبّت نسمة السحر تعطر الدنيا بأنفاس الجنة، فاستروح منها إبليس روح الماضي يذكره أيامه كلها منذ بدء الخليقة ويلقي التاريخ بين يديه. وتغشه الذكرى وعاد الزمان القهقري أمام عينيه؛ فإذا هو ملك بين الملائكة يسبحون بحمد ربهم حافين من حول العرش؛ ثم إذا هو يفسق عن أمر ربه أبياً مستكبراً أن يسجد لبشر من طين؛ وإذا هو من بعد مطرود من رحمة الله، مذموم مدحور يلعنه الفضاء ويسبُّه الأبد؛ ثم ينفث نفثته في صدر حواء فينزلها وزوجها عن الجنة فيخرجهما مما كانا فيه، ويتعقب أبناءهما من بعدهما على الأرض

ص: 35

يصنع منهم حطب جهنم، فما بشر من الناس إلا شيطانه يسعى بين يديه. . .

ثم هو في موقفه ذاك تتناثر من حوله لعنات الناس سواء منهم طائعه وعاصيه. وتصك أذنيه من مكان سحيق زفرات عباده في نار جهنم تكوى جباههم وجنوبهم بما أغواهم الشيطان وأضلهم سواء السبيل!

ولأول مرة استشعر إبليس لذع الندم فدمعت عيناه. . .!

يا لها من سخرية. . . إبليس يتوب. . .! لقد كفاه ما اقترف منذ هبط من السماء انتقاماً لكبريائه التي زعمها ديست يوم أمر أن يسجد لصلصال من حمأ مسنون!

أكانت توبة نصوحاً، أم مبالغة في الانتقام، أم هو يشتهي أن يعيش بشراً بين البشر عمراً من عمره، ليذوق بعض لذّات البشرية، ويرى بعيني حسه كيف يفتتن بها الناس جميعاً منذ كانوا فتسرع بهم شهواتهم إلى طاعة الشيطان. . .؟

وطلع إبليس على الأرض فتى وسيماً يمشي على قدمين مشي الناس. وشعر لأول ما لبسته البشرية أنه جائع، فعاجَ على ندى ساهر له به عهد، لأنه هو الذي أنشأه وأقامه حجراً على حجر، وطالما قضى الليالي ذوات العدد من حيث لا يراه الناس؛ ينفث الشر، ويبذر بذور الخطيئة، ويفتن في وسائل الإغواء. . .

كانت مصابيح الندى ترمي أضوائها إلى بعيد، وتمد من أشعتها شركاً بصيد الناس ويأخذ عليهم طريقهم؛ وكان كل ما ينبعث منه يشعر أن هناك حركة وعملاً يغريان من يلتمس إرضاء شهواته. . .

ولكن. . . ولكن ها هو ذا إبليس يصعد الدرج في أناة ورفق، ويدفع الباب في هدوء وخفة، ويخطو إلى البهو في سكون وحذر، فيرى، ولكنه يرى أجساداً لا تكاد تتحرك، ويسمع، ولكنه لا يسمع إلا مثل أنفاس النائمين؛ ويشهد، ولكنه لا يشهد إلا عيوناً محدقة في الفضاء تتأمل. لم يكونوا سكارى ولا مغيبين، ولكن فكرة واحدة كانت تسيطر عليهم جميعاً، فكرة بين السخط والرضى، وبين الندم والاستغفار!

وجلس الشيطان إلى مائدة وحده وطلب طعاماً، وراح يدير عينيه فيما حوله ومن حوله، ويتسمع نجوى الضمائر الخفية تهمس في أعماق أصحابها

ورأى مائدة خضراء مبسوطة، قد تناثر عليها هنا وهاهنا نقد وورق، ورأى كؤوساً فارغة

ص: 36

وممتلئة، ورجالاً ونساء قد تحلقوا حول المائدة، ذراعاً إلى ذراع، وامرأة بين كل رجلين. . . ولكن يداً واحدة لا تمتد إلى شيء، وفماً واحداً لا ينبس بكلمة. . .

وأبصر رجلاً يهتز في موضعه هزة خفية وهو يتحدث إلى نفسه: كيف يصنع وقد فقد كل ما كان معه من نقد، إنه ليرى ماله أمامه على المائدة ولكنه ليس من حقه، لأن حظه في اللعب قضى به لغيره، وهو قضاء غير مشروع ولكنه حكم العرف فما عليه إلا الطاعة؛ وقالت له نفسه: ما أنت والقمار؟ شد ما نهيتك فلم تنته! الآن فذُق ألم الحرمان مما تملك، فلعلك من بعد ألا تستمع إلى إغواء الشيطان. . .

واختلج إبليس حين ذكر أسمه اختلاجه كادت تنم عليه؛ وهمّ أن ينهض، لولا أن أقبل النادل عليه بالطعام

وشُغل إبليس لحظة بالأكل، يزدرد اللقمة بعد اللقمة يكاد لا يحرّك بها فكيه؛ وعرف لأوّل ما ذاق الطعام - لماذا كانت شهوة البطن أول هم الإنسان. . .!

وعاد ينظر إلى وجوه الناس وضمائرهم، فما راعه إلا هذا المقامر الرابح محدقاً في الفضاء يتفكر، وإن وجهه لتتعاقب عليه شتى ألوان الندم والخزي والحياء. . . ثم لم يلبث أن نهض يجمع المال على المائدة فيفرقه في سماره وهو يقول: معذرة يا صحابتي، فإنما هو مالكم ليس لي حق منه في شيء، وما لعبت لأسلبكم ما تملكون، إنما أردت السلوة وإزجاء الفراغ. وعضّ على شفته واحمر وجهه، إذ كان يعلم أنه يكذب في اعتذاره؛ فما كان ليقامر إلا مؤملاً أن يربح، وما كان ليربح مرة إلا وهو يعلم أنه يأخذ ما لا يملك؛ وقد ربح الليلة، ولكنه حين ضمّ يديه على المال أحسّ كأنه يقبض على جمر؛ ورفت به سانحة من الخير، فتعفف أن يأكل مال الناس فخرج عنه لأهله. . .!

ونظر الرجل إلى يمين، فإذا صاحبته مطرقة قد تغرغرت عيناها، فمال عليها وهو يهمس:

(أيكون قد أغضبك ما فعلت يا سيدتي؟)

قالت المرأة: (عفواً ليس لي شأن بذاك، ولكن أمراً يقتضيني أن أعود مسرعة إلى الدار. . .!)

وهبت واقفة، فقال الرجل:(خير. . . .! أتأذنين لي أن أصحبك؟)

قالت: (شكراً. . .!)

ص: 37

وسارت في طريقها فما ألح الرجل ولا تعوقت المرأة، ومالت إلى غرفة في الندى تأخذ زينتها في المرآة فأدركتها صديقة، ونظرت كل منهما في وجه صاحبتها فأطالت النظر ثم أطرقتا. .

منذ بعيد تقارف هاتان المرأتان الإثم في غير حذر ولا تذمم؛ أما إحداهما فضحية شاب غوى أغراها حتى نال منها ثم اختفى من وجهها وخلّف بين أحشائها بضعة منه، ففرّت بجريمتها من قانون الجماعة إلى حيث تشفي قلبها بالانتقام من الرجال

وأما الأخرى فزوج كالأيم، أو هي أيم وإن تك ذات بعل؛ فما شعرت يوماً أن لها حقاً على رجلها، وإنه لذائب التجوال بين البلاد، ولا تستقر به الدار في حضن زوجته أياماً حتى تعرض له الأماني تغريه أن يضرب في الأرض يطلب المجد بالثمن الغالي. . . بشرف زوجته. . .!

لم تحس المرأتان قبل الليلة معنى من معاني الندم؛ فمالها الليلة مطرقتين لا تنبسان؟

أرأيت إلى المجرم إذ يفجَأ وهو يقارف جريمة منكرة، فليس يملك أن ينكر ولا أن يعتذر؟

وعاد نظر المرأتين فالتقيا فإذا هما تتعانقان وقد أجهشتا باكيتين، وأطفأت دموع الاستغفار وقد النار ولذع الندم، فكأنما حلت في جسد كل منهما روح جديدة قد خرجت من الجنة لساعتها لم تتعلق إنما ولم تجترح معصية

وتلفت إبليس فإذا الندى مقفر خالٍ ليس فيه إلا الندل يسعون بين الموائد الخالية، يرفعون الأوراق والأقداح ويصففون الكراسي والمناضد

وتنفّس الصبح فأبدل إبليس ثياباً بثياب، وانطلق تبانه وبرنسه إلى سيف البحر، يستمتع به ما يستمتع البشر، ويملأ عينيه وقلبه من مفاتن دنيا الناس. لقد كان له في البحر معهد يرتاده زبانيته يعلمون الناس السحر وينصبون شرك الفتنة؛ وهو ذا البحر، فأين فتنته وسحره، وأين مباهجه التي كانت؛ أين الأجسام البضة، والأذرع الغضة، والسيقان اللفاء، والصدور النواهد؛ وأين العيون التي ترمي فتصمي، وأين لآلي البحر تغوص وتطفو، وأين الزبد الأبيض يلاطم الزبد الأبيض

لقد خلا البحر من عرائسه، إلا عجوزاً مقرورة مستلقية على الشاطئ، ما يبدو منها إلا عينان كصدفتين ملقاتين في كومة رمل!

ص: 38

وهذه فتاة تمشي على استحياء مستندة إلى ذراع أخيها، فما تعرت من برنسها إلا ليسترها الماء. وهذا رأس رجل يبدو سابحاً من بعيد، ما يكاد يرى الفتاة حتى يتنكّب عن الطريق لئلا تتأذى منه الحسناء السبوح

وأحس إبليس أول آلام البشرية في الوحدة والفراغ والضجر، فمضى على وجهه ممتلئ النفس فارغ الفؤاد. لقد ودّع عالمه الموحش تحت الرغام ليظفر بالأنس في عالم البشرية، فما ظفر إلا بالوحشة وألم الشعور بالحرمان؛ وخلع عنه شيطانيته تائباً ليهب للناس الاستقرار والسلام، فما لقي هو في بشريته إلا الاضطراب والألم

واطمأنت الحياة بالناس، فاجتمعوا على الرضى والطاعة في حالٍ شر منها السخط والعصيان؛ إذ لم يكن ثمَّت عدوان يدعو إلى المقاومة، أو تربُّص ينبه إلى الحذر، أو كيد يستتبع الحرص واليقظة؛ وعاد كل فرد أمة وحده، يعيش في رضى وقناعة على أكمل ما يكون الإنسان صلاحاً وحباً في الخير، ولكن الجماعة لم تجد ما يشد وحدتها ويربطها آصرة إلى آصرة. ودب النعاس إلى أجفان الحياة: فمات الطموح لأنه باب من التكبر؛ وخمد النشاط، لأنه جهاد في غير عدو؛ واستنام الناس إلى القدر، لأن التمني ضرب من الأثرة؛ وعاش نصف الناس عيالاً على نصف الناس؛ فليس ثمت عمل للشرطة والجيش ورجال الحكم؛ وأنى لهم أن يعملوا ما دام لا سرقة ولا قتال ولا عدوان؟

وكسدت سوق القفال والزراد والصيقل والرماح؛ وما حاجة الناس إلى الأقفال والدروع والسيوف والرماح؟

وقال فتى لصاحبه: تعال نلتمس نزهة في غير ساحة (المولد)؛ فما لنا ولهذه المهرجانات التي لا تجتمع إلا على شر ولا تحشد الناس إلا لمعصية؛ حسبي أن أعمر قلبي بذكر الله وأتخذ أولياءه قدوتي وإمامي. . .

وأمن صاحبه على قوله؛ ولكن البدال، والبقال، والبزاز، وبائع الحمص، وصانع الحلوى، ومدير الملهى - لم يعرفوا لماذا هجر الناس المولد؛ فمضى الموسم ما باعوا ولا اشتروا ولا تعوضوا، وقوض كل منهم خيمته ومضى غير مأجور على جهاده!

وقال بعضهم لبعض: (أترون الناس قد نسوا أولياءهم فتمردوا على ما اعتادوا؟)

فأجاب شيخ كبير: (ذلك من عمل الشيطان. . .!)

ص: 39

وأراق الخمار أحمره وأصفره وهو يقول: (ليت خمري كانت خلاً. . . .!)

وجلس قاضيان يداولان بينهما الرأي:

(أيهما خير: أن تعيش الفضيلة وحدها على الأرض، أو أن تنبت بين أشواك الرذيلة والمنكر والشر، فيكون للإنسانية منها أفراح ثلاثة: فرح النفس المؤمنة بها، وفرحها بالصبر على المجاهدة لها، وفرحها بالظفر بعد مشقة الجهاد. . .؟)

ونظر الشيخ الزاهد في صحيفة أعماله، فإذا هي بيضاء أو كالبيضاء؛ فليس يضاعف الأجر إلا المقاومة. ولو أن عابداً قضى الدهر كله راكعاً ساجداً، ما عدل أجر عبادته كلها ثواب ساعة لشاب تتجاذبه شهوات الدنيا، كلما هفت نفسه إلى معصية رده عنها الأيمان والتقى، فهو أبداً في مجاهدة لا يهدأ، وهو أبداً مأجور أجراً لا ينتهي!

وإنما يقظة الحياة في الجهاد والمقاومة وتوقع ما يأتي به الند على شتى ألوانه؛ فإذا عدم الجهاد، وفقدت دواعي المقاومة، وعاش الإنسان لساعته التي هو فيها - أعمى أو كالأعمى لا يبصر ما أمام - فقدت الحياة معناها الأسمى، وعاش الناس في هدى أشبه بالضلال، وفي فضيلة شر من الإثم والفسوق والعصيان!

ليتك تدري أيها الزاري على القدر. . .! هل تستوقد النار إلا بالحطب؟ فمن أين لك ما دمت تشفق على الغصن اليابس والهشيم الجاف!

وهل يعلم الفسّاق والعصاة من بني آدم، أنهم قبل أن يكونوا في أخراهم حطب جهنم ـ كانوا في دنياهم سلم البشرية إلى مثلها الأعلى. . .؟

وتثاءب الشيطان وتمطى إذ أدركه النعاس الذي ضرب على عيون البشر؛ وإذا هو وقد خضع لناموس البشرية قد ناله ما ينال الناس من الضيق والملل وتقلب الرأي؛ إذا تقلقلت دنياه طلب الاستقرار، فإذا استقر عاد ينشد الحركة ويتبرم بالسكون. . .!

وقلب وجهه في السماء كاسفاً محزوناً، ثم أسند رأسه إلى راحته وجلس يتفكر. . .

أي خير كان يقدم هو للجماعة البشرية على حين كان لا ينبغي إلا الكيد والانتقام؟ هذه الدنيا تنام بعد يقظة، وتسكن بعد حركة، وتسترخي بعد نشاط، لأنه هو قد بطل سحره، وإذ لم يعد في الدنيا شر، مات في الجماعة روح الانبعاث إلى الخير. .!

أيها الخالق العظيم، ما أعجب تدبيرك وأدق حكمتك! خلقت الشر والخير يصطرعان في

ص: 40

هذا العالم لتوجد منهما الخير الأعظم، وأنا - أنا الشيطان المشئوم - حسبتني يوماً أكبر مما أنا، حين ذهبت أهدم ما تبني، وأعصي ما تأمر، وأدعو إلى ما تنهي، فلما آذنت أن تذل كبريائي، أريتني نفسي إلى جانب عظمتك، فإذا أنا، أنا الذي زين له الغرور يوماً أنه أكبر من أمرك، إذا أنا أعصى عصياني في طاعتك، وأفسد إفسادي لإصلاح عبادك على قدر منك وتدبير حكيم. . . .!

وشعر الشيطان بالخيبة تلاحقه في كل مكان، فلا هو هناك - في عالمه الشيطاني - كان موفقاً فيما يحاول الانتقام من بني آدم، ولا هو هنا. . .

وعاودته نزعة شيطانية لم يلبث أن قمعها في صدره وانطلق في سبيله

وانتهى إلى البستان المعشوشب المخضل وقد نال منه الإعياء فارتمى على العشب الرطب يستريح في ظل وارفة لفاء، وطلع له من بين ملتف الحدائق حسناء وضاءة، تمشي كما يهتز الغصن وترنو كما يبتسم الزهر

وأحس إبليس مرة أخرى أن قانون البشرية يعمل في دمه وأعصابه، وأطال النظر إلى الحسناء الفاتنة ثم أطبق عينيه وهو يتنهد، كأنما قد توهم أنه قد احتوتها أجفانه، وشعر بمس الحب في قلبه فأشرق وجهه بابتسامة فيها لمحة من السرور وغير قليل من الألم

وجلست الحسناء جلستها على العشب غير بعيد، وضمت إليها أطراف ثوبها يستر شيئاً ويكشف عن شيء، مستأمنة مطمئنة

وخطا إبليس خطوتين إلى حيث جلست يسألها شيئاً، فاستحيت حواء الصغيرة وأرخت فضل ثوبها على الوجه الفاتن، ووقف إبليس ينشد قصيدة غزل طويلة، وعتها حواء كلمة كلمة ومعنى معنى، ولكنها لم تنبس، ومد إليها يداً يستنهضها فما نهضت وازورت عنه معرضة، وسكت ولكن عينيه ظلتا تتحدثان حديثهما

وأربد وجه المرأة من غضب، فما رأى إبليس غضبتها إلا فناً جديداً من فنون جمالها، فقالت وقد ضاقت به:(إليك عني يا فتى وخل سبيلي. . . .!)

وضاق صدر الشيطان بهذه الإنسانة العنيدة، وثقل عليه أن يعجز عن نيلها وهو هو!

كم فتاة وامرأة قبل صاحبته تلك كانت من عباده وأتباعه ما تأبت واحدة منهم على ما أراد لها؛ على أنه اليوم يريدها لنفسه هو، فليس به اليوم حاجة لأن يسعى لغيره وقد خلع شيطا

ص: 41

نيته!

ماذا. . .! أيعيش هذه الآلاف من سنيه الماضية يتحكم في البشرية كلها، وعلى إرادته، ويسعى بين الناس، ويصل بين الأحباب، ويقدم الثمرة لكل من يشتهيها؛ حتى إذا اشتهى هو أن يذوق تلك الثمرة أعجزه أن ينالها. . .؟

وللمرة الثانية منذ خلق شعر أن كبرياءه جريح. . .!

لقد أبى أن يسجد لأبي البشرية كلها وفسق عن أمر ربه، أفتفسق عن إرادته امرأة؟ وما هو إن لم ينلها؟ وما هي حتى تتأبى عليه كل هذا الإباء؟

وعاود احتياله يستجدي الحسناء بعض الرضى، فولّت عنه معرضة مستكبرة، ومضت تدوس بقدميها الصغيرتين قلب إبليس. . .!

وعاد إلى نفسه يستلهمها الحيلة فما أمدته بشيء، وبدا إبليس في بشريته إنساناً ضعيفاً قليل الحول، لا قدرة له على التصرف ولا طاقة له بالاحتمال. . .

ووجدت له شغلاً من فراغ. . . وعدا خلف المرأة يحاول أن يدركها ما يبالي نظرات الناس؛ فإذا زوجها يلقاها على الطريق فيصحبها إلى الدار يداً في يد وجنباً إلى جنب!

وأحس إبليس فوق ألم الحب الذي يجد ألماً جديداً من آلام البشرية، وقذف منظر الزوجين المتحابين في قلبه الحسد. . .!

وآده العجز والشعور بالحرمان، فعاودته شيطانيته ثائرة محنقة. على أنه وقد ذاق بعض لذات البشرية في آلامها لم يكن يريد أن يرتد إلى عالمه، إنما كان حسبه أن يستمد الحيلة من طبيعته الأولى بمن يحب وهو باق في بشريته!

ولكنه - وا أسفاه! - لم يستطع أن يكون شيطاناً ورجلاً في وقت معاً؛ وحين ألهمته طبيعته الأزلية بالرأي فقذف بالفكرة المحرمة في قلب المرأة - كان خلقاً آخر ليس من البشرية ولاحظ له من المرأة. ونظرت الحسناء إلى وراء تفتقد عاشقها المد نف فما رأته، وما كان لها أن تراه وقد عاد شيطاناً لا يخضع لنواميس هذا العالم؛ ورآها هو تنظر متلهفة مشتاقة، فما نالته نظرتها ولا مسّت قلبه؛ لأن إحساس البشرية ونوازعها كانت قد فارقته حين لبس جناحي شيطان. . .!

وكتب في تاريخ الأرض، أن إبليس قد تاب مرة، ولكن ردته إلى شيطا نيته امرأة. . . .!

ص: 42

(طنطا)

محمد سعيد العريان

ص: 43

‌6 - شاعرنا العالمي

أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

وروى مخارق أن أبا العتاهية جاءه فقال: قد عزمت على أن أتزود منك يوماً تهبه، لي فمتى تنشط؟ فقلت متى شئت! فقال: يكون ذلك في غد؛ فجئته فأدخلني بيتاً له نظيفاً، ودعا بطعام وفاكهة فأكلنا، ودعا بألوان من الأنبذة فقال اختر ما يصلح لك منها، فاخترت وشربت، ثم صب قدحاً وقال: غنني في قولي:

أحمدٌ قال لي ولم يَدرِ ما بي

أتحب الغداة عُتبَةَ حقاً

فغنيته، فشرب قدحاً وهو يبكي أحر بكاء، ثم قال: غنني في قولي:

ليس لمن ليست له حيلةٌ

موجودةٌ خيرٌ من الصّبر

فغنيته وهو يبكي وينشج، ثم شرب قدحاً آخر، ثم قال: غنني فديتك في قولي:

خليلي ما لي لا تزال مضرتي

تكون مع الأقدار حتماً من الحتم

فغنيته إياه؛ وما زال يقترح على كل صوت غنى به في شعره، فأغنيه ويشرب ويبكي، حتى صارت العتمة، فقال أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع، فجلست، فأمر ابنه وغلامه فكسرا كل ما بين يدينا من النبيذ وآلته والملاهي، ثم نزع ثيابه واغتسل، ثم لبس ثياباً بيضاء من صوف، ثم عانقني وبكى، ثم قال: السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم، سلام الفراق الذي لا لقاء بعده؛ وجعل يبكي، فانصرفت وما لقيته زماناً

وروى أبو سلمة الغنوي أنه قال لأبي العتاهية: ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟ فقال: إذن والله أخبرك، إني لما قلت:

الله بيني وبين مولاتي

أهدتْ لي الصد والْملَالَاتِ

منحتها مهجتي وخالصتي

فكان هجرانها مكافأتي

هَيَّمني حبها وصَيّرني

أحدوثة في جميع جاراتي

رأيت في المنام في تلك الليلة كأن آتياً أتاني فقال: ما أصبت أحداً تدخله بينك وبين عتبة يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله تعالى، فانتبهت مذعوراً، وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل

ص: 44

فإذا كانت هذه الروايات كلها في حادثة واحدة فهي متضاربة متدافعة ينقض بعضها بعضاً؛ وإذا كان الرشيد هو الذي كان يأخذ على أبي نؤاس اندفاعه في اللهو ويحاسبه على ذلك في شعره، ويحبسه عليه مرة بعد مرة ويزج به في سجنه، فكيف يتفق هذا مع ذلك المسلك الذي كان يسلكه مع أبي العتاهية، وهو لم يكن أرق غزلاً من أبي نؤاس ولا غيره من جمهور الشعراء الذين كانوا يلتفون بالرشيد، وكان لهم من رقيق الغزل ما يغنيه عن غزل أبي العتاهية؟ وليس هذا وذاك كل ما يعنينا من هذه الروايات، بل يعنينا منها أيضاً أنها لا تصل بنا إلى غور نفس أبي العتاهية وصلتها بتلك النزعة الصوفية التي صارت أليها، وقد كان في ظاهر أمره أبعد الناس منها، فلا تبين لنا تلك الروايات إلا أنها حالة طرأت عليه في بغداد، ولا تتصل إلى سابق أمره بصلة، وتردها الرواية الأخيرة إلى تلك الرؤيا المنامية السابقة، وهي إذا صحت لا تكفي وحدها في الأخذ به إلى كل ما أخذ به من ذلك الغلو في أمره؛ فإذا أمكننا أن نصل إلى هذه النواحي الغامضة من أمر أبي العتاهية أمكننا أن نفهم من أمره ما لم يفهمه الناس منه إلى الآن. وسنجلو من أمر ذلك ما نحتاج إليه هنا، ونترك ما بقي من ذلك إلى موضعه من هذه الدراسة لأبي العتاهية، ليكون لنا منها دراسة منظمة لا يسبق شيء منها على موضعه ولا يتأخر عنه

وإنه ليهمنا في الأول أن ننفي ما يفيده ظاهر تلك الروايات من أن تلك النزعة الصوفية في أبي العتاهية كانت نزعة طارئة عليه في بغداد، والحقيقة أنها كانت نزعة قديمة عنده، وأن أمرها يرجع إلى مبدأ أمره بالكوفة، وأنه كان يخفي ذلك في نفسه ليظهر به في الفرصة التي يكون له فيها أثره في الناس جميعاً، لا في نفسه وحده. ودليلنا في هذا هذه الرواية التي تنطق بأن القول في الزهد كان أول ما أخذ به في شعره

روى محمد بن عبد الجبار الفزاري أن أبا العتاهية اجتاز في أول أمره وعلى ظهره قفص فيه فخار يدور به في الكوفة ويبيع منه، فمر بفتيان جلوس يتذاكرون الشعر ويتناشد ونه، فسلم ووضع القفص على ظهره، ثم قال: يا فتيان! أراكم تذاكرون الشعر، فأقول شيئاً منه فتجيزونه، فإن فعلتم فلكم عشرة دراهم، وإن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم، فهزئوا به وسخروا منه، وقالوا نعم، قال: لا بد أن يشتري بأحد القمرين رطب يؤكل، فانه قمر حاصل، وجعل رهنه تحت يد أحدهم، ففعلوا، فقال أجيزوا:

ص: 45

(ساكني الأجداث أنتم)

وجعل بينه وبينهم وقتاً في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس، ولما لم يجيزوا البيت غرموا الخطر، وجعل يهزأ بهم وتممه:

ساكني الأجداث أنتم

مثلنا بالأمس كنتم

لين شعري ما صنعتم

أربحتم أم خسرتم

وهي قصيدة طويلة في شعره

فهذه نزعة أبي العتاهية في الزهد والتصوف ظاهرة فيه تمام الظهور من أول أمره، ولا شك أنه رأى بعد هذا أن يتصل بشعراء الكوفة ليظهر بينهم أمره في الشعر، وأنه في سبيل هذه الغاية أخفى هذه النزعة في نفسه، وأخذ يسلك في اللهو والشعر مسلك هؤلاء الشعراء، ثم تركهم إلى بغداد عاصمة المملكة العباسية لينال من ظهور الشأن بالاتصال ببني العباس ما لا يناله لو بقي بالكوفة، فنال من ذلك بغيته وأكثر من بغيته، وأخذت نفسه تنازعه ميلها إلى الزهد، والى الظهور بمظهره الحقيقي الذي يريد أن يعكر فيه صفو هؤلاء الملوك، ويطلع الرعية على إسرافهم في الحياة، وغفلتهم عن الآخرة، وانصرافهم عن مناهج الخلفاء الراشدين، وسبل الملوك الصالحين، ويخدم في ذلك بمهارة فائقة أغراضاً سياسية له، سنبينها بعد في موضعها أيضا

ولا غرابة بعد هذا في أن يهتم الرشيد بأمر أبي العتاهية في هذه الحال الجديدة، ويعرف سوء أثر شعره في الزهد وما إليه في نفوس الرعية بالنسبة إليهم، وقد كان يشاهد افتتان الناس بأبي العتاهية وشغفهم بشعره الذي قرب إليهم ألفاظه ومعانيه، وفتح لهم من أبوابه ما أغلقه الشعراء السابقون، فصار يلهج به العابد في خلوته، والراهب في صومعته، والملاح في سفينته، والفلاح في حقله، والراعي في غدوه ورواحه، والعامل في شغله وفراغه، حتى صار شاعر الشعب بحق، ولسان الرعية الناطق بالصدق. وأنا نسوق من ذلك ما يدل على مقدار تعلق الناس بشعر أبي العتاهية وافتتانهم به:

قال يحيى بن سعيد الأنصاري: مات شيخ لنا ببغداد، فلما دفناه أقبل الناس على أخيه يعزونه، فجاء أبو العتاهية إليه وبه جزع شديد فعزاه ثم أنشده:

لا تأمن الدهر والبَس

لكل حين لباساً

ص: 46

لَيَدْفِنَنَّا أناس

كما دفنا أناساً

وانصرف الناس وما حفظوا غير قول أبي العتاهية

وقال محمد بن صالح العلوي أخبرني أبو العتاهية قال: كان الرشيد مما يعجبه غناء الفلاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم، فقال قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعراً يغنون فيه، فقيل ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس، قال فوجه إليّ الرشيد: قل شعراً حتى أسمعه منهم، ولم يأمر بإطلاقي، فغاظني ذلك فقلت: والله لأقولن شعراً يحزنه ولا يسره، فعملت شعراً ودفعته إلى من حفظه من الملاحين، فلما ركب الحراقة سمعه وهو:

خانك الطَّرْفُ الطَّموحُ

أيها القلبُ الجُموحُ

لدواعي الخير والش

ر دُنُوٌّ ونُرُوح

هل لمطلوب بذنب

توبة منه نَصُوح

كيف إصلاحُ قلوب

إنما هُنّ قُرُوح

أحسن الله بنا أ

ن الخطايا لا تفوح

فإذا المستور منا

بين ثوبيه فُضُوح

كم رأينا من عزيز

طُوِيتْ عنه الكُشوح

صاح منه برحيل

صائحُ الدهر الصّدُوح

موتُ بعض الناس في الأر

ض على قوم فُتُوح

سيصير المرء يوماً

جسداً ما فيه روح

بين عيني كل حيٍّ

عَلَمُ الموت يلوح

كلنا في غفلة وال

موتُ يغدو ويروح

لبني الدنيا من الدن

يا غبوق وصَبُوح

رُحْنَ في الوشى وأصبح

ن عليهن المُسُوح

كل نَطَّاحٍ من الده

ر له يوم نَطوح

نُحْ على نفسك يا مس

كين إن كنت تنوح

لَتَمُوتَنّ وإن عُمَّ

رْتَ ما عُمَّرَ نُوح

ص: 47

فلما سمع الرشيد ذلك جعل يبكي وينتحب، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعاً وقت الموعظة، وأشدهم عسفاً في وقت الغضب والغلظة؛ فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا

وقد اختار أبو العتاهية عهد الرشيد لإظهار ما كان يخفيه في نفسه من ذلك لأنه كان أقل غلظة من أبيه المهدي، وأخيه الهادي، وأخف منهما عسفاً وبطشاً. وقد ذكر ابن خلكان أنه أراد أن يظهر بذلك في عهد المهدي، فأمر المهدي بحبسه في سجن الجرائم، فلما دخله دهش ورأى منظراً هاله، فطلب موضعاً يأوي فيه، فإذا هو بكهل حسن البزة والوجه، عليه سيما الخير، فقصده وجلس من غير سلام عليه، لما هو فيه من الجزع والحيرة والفكر، فمكث كذلك ملياً وإذا بالرجل ينشد:

تعودتُ مسّ الضر حتى ألفته

وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر

وصيرني يأسي من الناس واثقاً

بحسن صنيع الله من حيث لا أدري

فاستحسن أبو العتاهية البيتين وثاب إليه عقله، فقال له: تفضل أعزك الله عليّ بإعادتهما، فقال: يا إسماعيل ويحك! ما أسوأ أدبك وأقل عقلك ومروءتك! دخلت فلم تسلم عليّ تسليم المسلم على المسلم، ولا سألتني الوارد على المقيم! فقال له: اعذرني متفضلاً! فدون ما أنا فيه يدهش! قال: وفيم أنت تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم، وسببك إليهم؟ ولا بد أن تقوله فتطلق، وأنا يدعى الساعة بي فأطلب بعيسى بن زيد بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن دللت عليه لقيت الله تعالى بدمه، وإلا قتلت، فأنا أولى بالحيرة منك؛ ثم دعى بهما فطولب الرجل بأن يدل على عيسى بن زيد فأبى، فأمر المهدي بضرب عنقه. ثم قال لأبي العتاهية: أتقول الشعر أو ألحقك به؟ قال بل أقول، فأمر به فأطلق

وقد كان الرشيد أشفق بكثير مع أبي العتاهية في ذلك من أبيه. والذي أراه أن الرشيد كان يحبسه في ذلك ثم يعفو عنه، وأن ذلك تكرر منهما بقدر ما حدثتنا به تلك الروايات السابقة

عبد المتعال الصعيدي

ص: 48

‌27 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

قال: أما إن كانت الروح يا أصدقائي خالدة حقاً، فما أوجب العناية بها، ليس في حدود هذه الفترة من الزمن التي تسمى بالحياة وكفى، بل في حدود الأبدية! وما أهول الخطر الذي ينجم عن إهمالها بناء على هذه الوجهة من النظر. لو كان الموت خاتمة كل شيء، لكانت صفقة الأشقياء في الموت راجحة، لأنهم سيغتبطون بخلاصهم، لا من أجسادهم فحسب، بل من شرهم ومن أرواحهم معاً. أما وقد اتضح في جلاء أن الروح خالدة، فليس من الشر نجاة أو خلاص إلا بالحصول على الفضيلة السامية والحكمة العليا، لأن الروح لا تستصحب معها شيئاً في ارتقائها إلى العالم السفلي، اللهم إلا التهذيب والتثقيف، اللذين يقال عنهما بحق إنهما ينفعان الراحل أكبر النفع أو يؤذيانه أكبر الأذى، إذا ما بدأ حجته إلى العالم الآخر

فبعد الموت، كما يقولون، يقود كل امرئ شيطانه الذي كان تابعاً له في الحياة، إلى مكان معين يتلاقى فيه الموتى جميعاً للحساب، ومن ثم يأخذون سمتهم نحو العالم السفلي، يقودهم دليل نيطت به قيادتهم من هذا العالم إلى العالم الآخر، فإذا ما لقوا هناك جزاءهم ولبثوا أجلهم، رجع بهم ثانية بعد كر الدهور المتعاقبة دليل آخر، وليست هذه الرحلة للعالم الآخر، كما يقول اسكيلوس في (التلفوس) طريقاً واحدة مستقيمة، وإلا لما احتاج الأمر إلى دليل، فلم يكن أحد ليضل في طريق واحدة، ولكن الطريق كثيرة الشعب والحنايا، وإني لأستنتج ذلك مما يقدم إلى آلهة العالم السفلي من الشعائر والقرابين، في أمكنة من الأرض تتلاقى عندها سبل ثلاث. فالروح الحكيمة المنظمة تكون عالمة بموقفها وتسير في سبيلها على هدى، أما الروح الراغبة في الجسد، والتي لبثت أمداً طويلاً - كما سبق لي القول - ترفرف حول الهيكل الذي لا حياة فيه، وحول عالم الرؤية، فيحملها شيطانها الملازم لها في عنف وعسر، وبعد عراك متصل وعناء كثير، حتى تبلغ ذلك المكان الذي تجتمع فيه سائر

ص: 49

الأرواح. فإن كانت روحاً دنسة، خبيثة الصنيع بأن انغمست في الفتك المنكر، وفي أخوات الفتك من الجرائم الأخرى، وتلوثت بهذه السلسلة من الآثام - فإن كل إنسان يفر من تلك الروح وينصرف عنها، فلن يكون أحد لها رفيقاً أو دليلاً، بل تظل تخبط وحدها في أرذل الشر، حتى ينقضي أجل معلوم، فإذا ما انقضى ذاك الأجل، حملت خانعة إلى مستقرها الملائم؛ كذلك لكل روح طاهرة مستقيمة، مضت في حياتها مرافقة للآلهة مترسمة خطوهم، مقامها الخاص

هذا وإن في الأرض لربوعاً مختلفة عجيبة، تختلف في حقيقة أمرها - كما اعتقد معتمداً على رأي ثقة لن أذكر اسمه - تمام الاختلاف عن آراء الجغرافيين من حيث طبيعتها ومداها. فقال سمياس: ماذا تعني يا سقراط؟ لقد سمعت للأرض أوصافاً كثيرة ولست أدري مع أيها تذهب، وأحب أن أعلم ذلك

فأجاب سقراط: حسناً يا سمياس، لا أظن أن حكاية تروى تستلزم لروايتها فن جلوكس ولست أرى أن فن جلوكس يستطيع أن يقيم الدليل على صدق حكايتي، التي أنا عاجز تمام العجز عن إثباتها بالدليل، وحتى لو استطعت ذلك، لخشيت يا سمياس أن أختتم حياتي قبل أن يكمل الدليل، ومع ذلك فقد أستطيع أن أصف لك صورة الأرض وربوعها كما أتصورها!

قال سمياس: حسبي منك ذلك

قال: حسناً، إذن فيقيني أن الأرض جسم مستدير، وهو من السماوات في مركزها. لهذا لم يكن بها حاجة إلى الهواء أو ما إلى الهواء من قوة أخرى، ليكون لها عماداً، بل هي قائمة هنالك، تحول موازنة السماء المحيطة بها، وتوازنها هي نفسها، بينها وبين السقوط أو الانحراف في أية ناحية، ذلك لأن الشيء الذي يكون في مركز شيء آخر منتشر انتشاراً متوازناً، ويكون هو نفسه متزناً، لن ينحرف بأية درجة في أي اتجاه، بل سيظل ملازماً لحالة بعينها دون أن يحيد. ذلك هو أول رأي لي

فقال سمياس: وهو بغير شك رأي صحيح

- كذلك أعتقد أن الأرض فسيحة جداً؛ وإننا، نحن الذين نقيم في المنطقة التي تمتد من نهر فاسيس إلى أعمدة هرقليس وبمحاذاة البحر، إنما نشبه النمل أو الضفادع احتشدت حول

ص: 50

مستنقع، فلسنا نأهل إلا جزءاً ضئيلاً، وأعتقد أن كثيراً من الناس يقيمون في أمكنة كثيرة كهذه. فلا بد من القول بأن هنالك فجوات في أنحاء الأرض جميعاً، مختلفاً أشكالها وحجومها، يتجمع فيها الماء والضباب والهواء، وأن الأرض الحقيقية أرض نقية تقيم في السماء النقية حيث سائر النجوم - تلك هي السماء التي يجري عنها الحديث عادة بأنها أثير، وليس الأثير منها إلا أر سابا يتجمع في فجواتها، وأما نحن الذين نقيم في هذه الفجوات، فنظن مخدوعين بأننا إنما نقيم على سطح الأرض، كما يخيل للكائن الذي في قاع البحر بأنه على سطح الماء، وبأن البحر هو السماء التي يرى خلالها الشمس وسائر النجوم - فهو لم يطف على سطح الماء قط لوهنه وفتوره، ولم يرفع رأسه ليرى، ولا سمع دهره ممن شهد تلك المنطقة الثانية، وهي أشد نقاء وجمالاً من منطقتنا. والآن، فتلك حالنا تماماً: فنحن مقيمون من الأرض في فجوة، ونخيل لأنفسنا أننا على السطح، ونطلق على الهواء اسم السماء ثم نتوهم أن النجوم سابحة في تلك السماء. ولكن ذلك أيضاً يرجع لما بنا من ضعف وفتور، فهما اللذان يحولان بيننا وبين الصعود إلى سطح الهواء: فلو استطاع إنسان أن يبلغ الحد الخارجي، أو أن يستعير جناحي طائر ليطير بهما صُعُداً، فيكون كالسمكة التي تطل برأسها لتشهد هذا العالم، إذن لرأى عالماً قاصياً، ولاعترف الإنسان، إذا ما شحذت طبيعته من بصره، بأن ذلك هو مكان السماء الحق والضوء الحق والنجوم الحق، لأن هذه التربة وهذه الصخور، بل وكل هذه المنطقة التي تحيط بنا قد فسدت وتآكلت كما يتآكل ما في البحر من أشياء بفعل الأجاج. فيندر في البحر أن ينمو شيء نمواً رفيعاً كاملاً، فكل ما فيه شقوق ورمال وحمأة لا نهاية لها من الطين، لا بل يجوز أن نقرن البر بما في ذلك العالم من مناظر هي أروع في جمالها، فالعالم الآخر أسمى بدرجة عظيمة جداً. والآن أستطيع أن أقص عليك يا سمياس حكاية رائعة عن تلك الأرض العليا التي تحت السماء، وهي جد جديرة بالإنصات

فأجاب سمياس ونحن يا سقراط يسرنا أن نصغي

(يتبع)

زكي نجيب محمود

ص: 51

‌الكاظمي

للأستاذ معروف الرصافي

// ليس من غاية الحياة البقاء

فإذا خاب في الخلود الرجاء

غير أن الحياة بالعز عند الرَّ

جُل الحر غاية غراء

أي فخر للناعمين بعيش

لم تجلله عزة قعساء

حسب من رام في الحياة خلوداً

أنه بعد موته علواء

وكفى المرء بعد موت حياةً

أن ذكراه حلوة حسناء

قد قضى الكاظمي وهو جدير

أن تعزى في موته الشعراء

عاش منسيَّ عارفيه ولما

مات فاضت بنعيه الأنباء

ذكرته نعاته بنعوت

قبله حاز مثلها العظماء

فلئن كان ما يقولون حقاً

إنهم بالذي نسوا لؤماء

كيف ينسون في الحياة أديباً

عبقرياً عَنَتْ له الأدباء

أَفَيُنْسى حياً ويُذْكر ميتاً

إن هذا ما تنكر العقلاء

إن هذا أمر يتيه ضلالاً

في بوادي تفسيره الحكماء

ضحكوا منه في الحياة ومذ ما

ت تعالى نحيبهم والبكاء

أيها النادبون غيريَ غُروا

بَرَح اليوم للبيب الخفاء

يُكرم الميت بالثناء وتحيا

عندكم في المهانة الأحياء

كل من يخبر الأناسِيَّ خُبْرِي

لا يبالي أأحسنوا أم أساؤا

أنا جربتهم إلى أن تساوى الْ

يَوم عندي سبابهم والثناء

قد تمادى في القائلين غلوٌّ

وتوالى في الفاعلين رياء

أيها الكاظمي نم مستريحاً

حيث لا مبغض ولا إيذاء

عشت في مصر باحترام يؤدي

هـ إليك الأماثل الفضلاء

إن للنيل من جرائك شكراً

ستؤديه دجلة اللْسناء

لم تعش عيشة الرفاه ولكن

لك في العيش عزة وعلاء

أي حرفي الشرق عاش سعيداً

لم تشب صفو عيشه الأقذاء

ص: 53

وهنيئاً إِن لم تعش في العراقيي

ن مضاعاً تنتابك الأرزاء

من شقاء العراق إن ذوي النعْ

مة فيه أجانب غرباء

إن جَفَتنا بلادنا فهي حب

ومن الحب يستلذ الجفاء

لم نحل عن عهودها مذ جفتنا

بل لها الود عندنا والوفاء

قد بكينا شجواً عليها ومنها

وعناناً سقامها والشفاء

كم أردنا سخطاً عليها ولكن

غلب السخطَ في القلوب الرضاء

إنما هذه المواطن أُمٌّ

مستحق لها علينا الولاء

إن خدمنا فلا نريد جزاءً

ومن الأم هل يراد جزاء؟

إنما نحن مصلحون وما إنْ

غاية المصلحين إلا الرفاء

نحن كالشمع حين ذاب اشتعالاً

فهدى الظالمين منه الضياء

بغداد

معروف الرصافي

ص: 54

‌البقاء

بقلم الياس قنصل

أزهدُ الناسِ في الحياةِ يُمنّي

نفسه بالبقاءِ رغم شكاتِهْ

والذي أفنت الليالي صباه

ورماه زمانُه بأذاتِهْ

يطلب الموتَ وهو أمّا أَتاه

ردَّه عنه ملغياً كلماته

وإذا خاضَ قائدهٌ غمرةً ير

سبُ فيها بسيفه وقناته

حدّثَ النفسَ بالرجوع سليماً

وسماتُ النجاح في قسماته

وإذا قامَ رائدٌ يطلبُ المرّ

يخ حيث الحِمام بعض هداته

ودّعَ الأرضَ آمناً مطمئناً

واثقاً من معادِه ونجاته

كلّنا يعشقُ الحياةَ ويهوى الم

عيشَ فوق الثرى على عِلاّته

ربّ ساعٍ إلى الخلود مجدِّ

يغلبُ الناس والقضا بثباته

ليس يسعى وإن يُرَقْ دمُه إِلاّ

ليحيا مكرَّماً في حياتِهْ

عاصمة الأرجنتين

الياس قنصل

ص: 55

‌فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

12 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

فرديريك نيتشه

للأستاذ خليل هنداوي

حاسته الفنية

لم يكن نيتشه مفكراً فحسب، بل كان فناناً ذا حاسة فنية عميقة، يدل على ذلك ميله خلال طفولته الأولى إلى الموسيقى وعشقه لأربابها. وهل كان إلا غرامه بها الذي جعله ينظر إلى (فاجنر) كمثل أعلى لموسيقى عصره؟ وقد انكب على تلقن أصولها ومبادئها في صباه الأول، ودفعته حاسته إلى نظم بعض المقاطيع الموسيقية. وما هي إلا خطوة واحدة لو خطاها نيتشه لأشرف على عالم غير عالمه، ولأشفى على وجود قد يبدل كل أفكاره وكل آرائه. وهو يقول عن نفسه (لو لم ترجح كفة التفكير عندي لكنت الآن موسيقياً!) على أن ذوقه الموسيقي لبث حياً في طوايا نفسه. يرتاح للموسيقى أينما صدحت، ويغيب في عوالمها حيث تفتحت عوالمها. وهو أكثر ما يطمئن لتلك العوالم الفنية المظلمة التي تذهل فيها النفس وتدرج إلى أعماقها حيث يلتقي الفيلسوف والفنان. وقد يؤاخي هذه الحاسة - عنده - حاسته الشعرية. فهو شاعر بالفطرة، يبدي آراءه الفلسفية بطريق الشعر؛ وله في الشعر جولات صادقة تدل على فن عميق وابتكار رائع. وهو وان صدف عن عالم الشعر فإن حاسته الشعرية لم تخمد، بل ظلت تعاوده في كل ما كتب وسطر. وإنشاؤه يغلب عليه الشعر والعاطفة. لا يرى قارئه في تأملاته عقل نيتشه وحده، وإنما هو واجد كل كيانه يفكر ويكتب، يطلع عليك بوجوده كله لا بفكره وحده

الانعتاق

تكاد تكون تفاصيل حياته الشخصية محدودة. فهو قد ولد عام (1844) في (روكن، حيث كان أبوه قسيساً. وقد تيتم في الخامسة من عمره. فأتم دروسه الثانوية وتوجه إلى الدروس العالية. وبينما كان يتهيأ للموضوع الذي ينال به (الدكتوراه) في (ليبزيج) دُعي ليكون أستاذاً في جامعة (بال) وقد مُنح (الدكتوراه) بدون أن يعرض موضوعه

ص: 56

قضى ستة أعوام هادئ النفس في الجامعة يقوم بتدريس اليونانية، وهو خلال هذه الأعوام كالمقيد بصحبة أصدقائه لا يخرج من حلقتهم، وهؤلاء الأصدقاء هم زملاؤه وبعض رفاقه، أضف إلى ذلك بعض زيارات متتالية إلى منزل الفنان (فاجنر). وقد كان يختلس بعض الفرص فيذهب في بعض سياحاته القصيرة إلى البحيرات والجبال، ولم يعكر عليه هذا الهدوء إلا إعلان الحرب السبعينية، فهجر الجامعة وتطوع في الجيش الألماني، ولكن صحته خانته، فاضطر إلى العودة مريضاً، وأعظم ما قام به من الآثار الأدبية خلال هذه الفترة كتابه (نشوء المأساة) ونقده للحضارة الحديثة. في الكتاب الأول يعالج نبوغ اليونان وعبقريتهم المختلفة في الفنون، وفي الكتاب الثاني يعرض (تأملات في غير حينها) وهو ينطوي على أجزاء: في الجزء الأول يحمل على (دافيد ستراوس)، وفي الجزء الثاني يبحث فائدة التاريخ وأخطاره، وفي الجزأين الأخيرين يبسط عبقرية الفيلسوف (شوبنهاور) وعبقرية الفنان (فاجنر) معتقداً أن في إمكان هذين النابغتين أن يقودا الإنسانية إلى مثلها الأعلى

وفي سنة 1876 عرا حياته الداخلية ما عرا حياته الخارجية من تطور وتبدل، وأعظم ما نزل به نزاعه مع صديقه (فاجنر) أضف إلى هذا ما حاق بصحته من سوء واعتلال، حتى منحته الجامعة فرصة يقضيها إذا شاء في إيطاليا أو على هضاب سويسرا. وبعد هذه الراحة عاد إلى بذل الجهود برغم أن صحته كانت تنذر ولا تبشر. فجمع سنة 1878 كتابه (أشياء إنسانية، إنسانية جداً) وكتاباً آخر يضم (آراء مختلفة) و (المسافر وظله) فزادت صحته ضعفاً حال بينه وبين التعليم، فاعتزل الجامعة لكي يجد المجال الفسيح والقوة الكافية لتتميم رسالته الفلسفية

وها هنا بدل القدر صفحة حياته، ومنحه حياة جديدة يغمرها الاعتزال، وحرية التفكير والانفصال، يكمل تحت ظلها هذه الرسالة التي خُلق لها

لم يكن ميل نيتشه إلى دراسة اللغات القديمة مجرد هوى أو هيجان ابن ساعة ثم ينطفئ. فقد مال نيتشه إلى هذه الدراسة بقلبه وعقله، ذلك لأنه يريد أن يظهر أمره في علم ضيق المساحة ليدرك العلم فضله. وهو أكثر الناس علماً بقيمة العلماء الناقصين الذين يعلمون كل شيء ولا يعلمون شيئاً. وها هو ذا الآن لا يريد أن يعرف كل شيء، وإنما يريد أن يعرف

ص: 57

شيئاً معرفة متقنة، فبذل ما بذل من صبر وجهد بذل الأمين الراعي لأمانته. مدرعاً بالأناة التي لا غنى عنها للذاهب مذهبه. راضياً بأن يزهق روحه في سبيل العلم وخدمته. ولكنه سالك فيه مسلكاً جديداً لا أثر فيه للتعاليم الدراسة، وللتقاليد التي لا تجدي شيئاً. وهو يمزج هذه الدراسة مع الفلسفة والفن ويجعل من هذا المزج مزجاً جديدا

يعتقد نيتشه بأن المثل (الكلاسيكي) سيبقى خالداً لا يهدده الفناء. فلا العلم ولا الخلق ولا التثقيف بمستطيعة أن تنقذنا من البربرية إذا سلخنا المثل الكلاسيكي، وكفرنا بالبساطة الشريفة التي تتجلى في الفن اليوناني والبراعة اليونانية. وإذا شاء رسل العلم أن يجحدوا هذه البراعة وينكرونها على اليونان، فإنها براعة سائدة خالدة مسيطرة على براعتنا، تدل على أن اليونان كانوا أكثر توفيقاً منا في حل مسائل الوجود

وهكذا تظهر مهنة (دارس علم اللغات) مهنة جميلة سامية هو لا يعنى بإحياء الآثار العافية، والنصوص البالية، ولكنه كادح دائب على إحياء روح اليونان القديمة، يريد أن يتفهم كيف قدر لهذه الروح أن تتسامى وتتعالى في الآثار التي تركتها، والفنون التي أنجبتها، والمؤثرات التي تركت تأثيرهم بادياً في أدبنا وفلسفتنا، فجعلت منهم أساتذة لا يزال الغرب يتلقن عنهم. هذا هو أدب نيتشه يوم دخل جامعة (بال) مدرساً. يقول في إحدى محاضراته (إن دراسة علم اللغات ليست بآلهة شعر ولا بنبية رحمة، لكنها رسولة الآلهة، والآلهة، والآلهة في القديم كانت تهبط على القرويين المحزونين. واليوم تهبط هذه الرسولة على عالمنا القاتم الألوان، المظلم الرسوم، المفعم بالآلام والشقاء الذي لا يشفى، حاملة إلينا بلسم العزاء، عارضة علينا بأحاديثها تلك الوجوه الجميلة المتألقة في قطر خصب أزرق سعيد)

(يتبع)

خليل هنداوي

ص: 58

‌القصص

من أساطير الأغر يق

هرقل في سبيل التفاحات الذهبية

للأستاذ دريني خشبة

7 -

خيول ديوميديز

وكان للملك ديوميديز، ملك تراقيه، يقتني مجموعة طيبة من خيول السباق التي لا يشق لها غبار، ولا تباريها خيول في مضمار؛ ولكنها لم تكن كهذه الخيول التي يقتنيها الناس، بل كانت بالوحوش أشبه، والى السباع أقرب، لأنها لم تكن تذوق الحشيش ولا تُسيغ النبات، بل بالعكس، كانت لا تأكل إلا اللحم تنهشه نهشاً. .

وكانت تأبى لحم الحيوان والبهائم، وتستطيب لحم الإنسان وتستلذه، ولم يكن الملك القاسي يبخل عليها به. ولكي يوفر لها هذا الغذاء الغريب، أصدر أمره بالقبض على كل أجنبي تطأ قدماه أرض البلاد بدون إذن من الملك! فلما نمى الخبر إلى يوريدوس، أرسل هرقل لمعاقبة ديوميديز ولتخليص الناس منه ومن خيوله

وشد هرقل رحله إلى أرض تراقيه، ودخلها غير مستأذن ولا مستأنس، فلما سأله ديوميديز في ذلك، انقض عليه كأنه الحتف، واقتلعه من عرشه كأنه نبتة ومضى به إلى خيوله فألقاه إليها. . .

وانقضت الخيول على الملك فمزقته تمزيقاً، واغتذت بلحمه الملكي الفاخر!! وطرب الشعب لتخلصه من حاكمه الظالم، ونثر الورد والريحان تحت قدمي هرقل، ومضى البطل فألجم الخيول كلها، وساقها هدية غير مبرورة إلى يوريذوس!!

8 -

منطقة هيبوليت مليكة الأمازون

وكانت ليوريذوس ابنة ذات كبرياء وذات خيلاء، مشغوفة باقتناء الحلي والجواهر النادرة، تضحي في سبيلها بسلام المملكة وأرواح البرايا، إذا اقتضت الحال حرباً من أجل ياقوتة أو زبرجدة!!

وكان أبوها الأفين يلبي رغباتها ولا يكاد يرفض لها أمراً، فلما وصفت لها منطقة هيبوليت،

ص: 59

مليكة الأمازون، وما رصّعت به من اللآلئ، ثار في نفسها فضول الذهب، وألم بها مرض الحصول عليه. فانطلقت إلى أبيها تبكي، وتشكو العطل وقلة الحلية، ولو أن خزائنها تحوي نصف ثروة المملكة

وسألها أبوها ما بكاؤها؟ فتاهت قليلاً ودلَّت، ثم ذكرت منطقة هيبوليت!!

وربت الملك على كتفي ابنته، ودعا إليه هرقل، وأمره بالذهاب إلى الأمازون والحصول على منطقة الملكة ولو أدّى دمه ثمناً لها!!

أما الأمازون، فقبيل عظيم من النساء المحاربات، يحيين حياة عسكرية حافلة بضروب من الشجاعة تحيّر الألباب وتذهل العقول. فمنهن فريق يعمل في الحصون ويسهر على قلاع المملكة، وفريق للغزو ومناوشة الأعداء، وثالث يقوم بمهمة الشرطة والعسس، ورابع للعمل في الأسطول الذي يلقي الرعب في الشواطئ. . . . . . لإ

إلخ

ولا يعيش بين شعب الأمازون أحد من الرجال، فإذا جازف رجل، وانسرق بينهن، ترصّده الموت في كل مكان!

وكانت مملكتهن في جزيرة نائية قاصية، ذهب هرقل في البحث عنها كل مذهب، واستعان بأقربائه من الآلهة ليرشدوها إليها

ونصح له أحدهم أن يدع هذه الرحلة القاسية إلى مملكة الأمازون، ولكنه أبى، لأن مجازفاته التي يتعرض بها للهلاك، إن هي إلا ثمن الحرية التي ينشدها ويحلم دائماً بها!

ووصل هرقل إلى المملكة، وتحايل حتى مثل بين يدي الملكة، فلقيته بما هو أهله من التجلة والإكرام، كابن إله عظيم. . وأبدى رغبته في الحصول على المنطقة الغالية التي تزين وسط الملكة، وتحلّي خصرها، ليقدمها ثمناً لحريته الضائعة، للفتاة المزهوة (أدميت) بنت ملك أرجوس. . .

وتبسمت الملكة، ووعدته أن تخلعها عليه، ليصنع بها بعد ذلك ما يشاء. ثم تفضلت فدعته إلى حفلة راقصة، وعشاء فاخر. . .

وهنا تبرز حيرا لتمثل دورها!!

لقد هالها هذا النجاح المطرّد الذي يظفر به خصمها في كل مكان، فتحولت إلى أمازونة

ص: 60

جميلة، واندست بين رعايا الملكة، وألقت في روعهن أن هرقل هو ألد أعدائهن، وأنه إنما أقبل لسبي الملكة، وليفر بها إلى ملك أرجوس، وأنه اتخذ المنطقة تعِلَّة لذلك جميعاً، فثارت ثائرة الأمازون، وتجمهرن حول الملكة، وصارحنها بما قالت لهن حيرا. فأمرتهن بالحرب. . . ولكن هرقل، البطل الأعزل، انقض كالمنية على الأمازون ففرّق شملهن، وأظفرته شجاعته بهن، ثم هجم على الملكة فاختطف منطقتها، ونظر فرأى حيرا تشهد المعركة فوق رابية قريبة، فأشار إليها قائلاً:(وهنا أيضاً أنتصر عليك، وسأنتصر عليك دائماً!)

9 -

وطربت ابنة الملك بمنطقة هيبوليت أيما طرب، وكبرت في نفسها منزلة هرقل، فاستوصت به أباها خيراً.

واستجاب يوريذوس لشفاعة ابنته في هرقل، فلم يكلفه هذه المرة شططاً، بل اكتفى أن أمره بالتوجه إلى بحيرة ستيمفالوس ليبيد طيورها ذوات المخالب النحاسية التي تدوم فوق الماء الآسن وتغطس فيه تصيد السمك، ثم تذهب فتأكله قريباً من القرى، فتنتشر بذلك الأمراض والطواعين. ولم يكن أيسر على هرقل من أن يبيد هذه الجوارح ومعه قوسه المرنان، وفي كنانته سهامه التي رويت من دم هيدرا

10 -

قطعان الجريونز

وكان يأوي إلى سفوح الجبال في مقاطعة أريثيا مارد مخوف مرهوب الجانب يدعى جريونز. وكانت له قطعان كبيرة من الماشية والغنم عرفت في سائر هيلاس بجودة ألبانها ونعومة أوبارها، حتى لكان يضرب بها المثل كلما فاخر الرعاة بقطعانهم

وطمع يوريذوس في نعم جريونز وشائه، فأمر هرقل أن ينصرف إلى أريثيا فلا يعود إلا بها

وأغذّ هرقل السير؛ وألقى المارد مُمداً في كهفه السحيق يغط في نوم عميق، فانقض عليه كأنه الشهاب الراصد، وقبض بيديه الحديديتين على عنقه الغليظ فلم يفلته إلا جثة لا نامة فيها ولا نفس! وساق القطعان، وتولى إلى ملك أرجوس بالثروة الطائلة، والوفر الكثير

وأرخى الليل سدوله، ولما يبلغ هرقل نصف الطريق، فأناخ في منحدر معشوشب، ولعبت

ص: 61

سنة من النوم بعينيه فغفا، وأسكرته نسمات الربيع فاستسلم لأحلامه الخمرية الحلوة. . .

وكان يأوي إلى هذا الجبل، جبل آفنتين، مارد لص قاطع طريق، يدعى كاكوس، وجد هرقل غاراً في سبات ناعم، فذهب بنصف القطيع أو يزيد. . .

واستيقظ البطل على رُغاءٍ يتجاوب في حدود الأفق، فلما تفقد قطعانه انطلق في أثر اللص حتى لحق به، وحطمه تحطيماً!

وقبيل شروق الشمس، كانت مدينة أرجوس كلها عند الأبواب تستقبل الرزق والغنم، وتهتف باسم البطل الحلاحل الذي بهرها بشجاعته، وخلب ألبابها بما أبدى، وما ينفك يبدي، من ضروب القوة والاستبسال

وأحس يوريذوس بما انطوت عليه قلوب الأهالي من المحبة والافتتان بهرقل، فتسخّط وحنق، وبيَّت الشر المستطير

11 -

تفاهات هسبريا الذهبية

وأدركت حيرا ما ينقم الملك من هرقل، فوسوست إليه أن يأمره بالحصول على تفاحات هسبريا الذهبية، وهيهات هيهات أن يستطيع أحد الحصول عليها!

ولقد أهديت هذه التفاحات إلى حيرا، ليلة زفافها إلى زيوس، رب الأرباب، فيما أهدى إليها من تقدمات وتحف؛ أهدتها إليها (جي) ربة الأرض، فكانت أثمن الهدايا جميعاً وأغلاها. لأنها فضلاً عن أنها من الذهب الخالص، فقد رصعت بأندر اللآلئ، وزينت بصور الآلهة، ونقشت فيها حدائق الأولمب؛ ثم تستقل بميزة ندر أن تكون لحلية مهما غلت: ذلك أنها إذا غابت الشمس، وأقبل الليل بظلامه، شعَّت أضواءً ولآلاء قل أن تصدر إلا عن كواكب درِّي، أو شمس وضاءة، فتنقشع الغياهب وتنجلي الدياجير!

وحسبك أن تعلم أن حيرا نفسها لم تأمن آلهة الأولمب وحُرّاسها الغلاظ على هذه القُنْية النادرة، فأرسلت بها إلى الهسبريد، بنات هسبروس إله الغرب العظيم، ليحرسنها. ولتكون عندهن في مأمنٍ من كل ساربٍ بليلٍ، أو سارقٍ في نهار، وقد عرف الهسبريد لهذه التفاحات قيمتها، فعلَّقها في دوحة باسقةٍ في حديقة قصرهن المنيف، وأقمن على حراستها التنين الهائل لا دون، الذي قيل في صفته إن له سبعين ألف رأس في كل رأس سبعون ألف عين، وسبعون ألف ناب يتدفق السم منها جميعاً. ثم إنه يبلغ ألف ذراع طولاً وخمسين

ص: 62

سُمكاً، وإن له لأظافر كأن كل واحد منها جراز هرمز، وإن له لفحيحاً تضيع فيه زمزمة الجن، ومُكاءُ الشياطين!!

وانقلب هرقل على وجهه في الأرض حيران!

أين هي تفاحات هسبريا هذه؟

(أفي الأرض أم في السماء؟ لأمضِ! فرب إله دلني إليها. . . .)

وشرّق وغرّب، وذرع الأرض من أقصاها إلى أقصاها، وانسرق إلى الكهوف والغيران، وأوْقل في الجبال، وتحدّر في القيعان، ومر بكل حنيَّة، ووقف عند كل عين، حتى كان لدى نهر أريدانوس، ووقف بشاطئه يتناجى؛ فخرجت من الماء النمير عرائسه، ورُحن يُسرِّين عن هذا اللاجئ الحزين

وإنه ليسائلهن عن تفاحات هسبريا، فيحدثنه ويتلطفن معه، ثم ينصحن له أن يطلق إلى نريوس إله البحر، عسى أن يهديه إلى ما يريد

ويهيم في الأرض محاذياً سيف البحر، حتى يكون آخر الأمر أمام شيخ هرم، وخط الشيب رأسه، وتدلى شعر لحيته الكث فوق صدره العريض ذي النتوء؛ وبرزت أهدابه حتى لكادت تحجب عينين تزدحم فيهما السنون، وتطل من حدقتيهما الأحداث!

وجده جالساً القرفصاء مُقلِّباً ناظريه في مملكة الماء التي تتصل باللانهاية، فألقى عليه تحية هيّنة، رد عليها الشيخ بهذه العبارة:

(أيها الفتى لم قطعت عليّ تأملاتي؟!)

(فقال هرقل: (أستحلفك بسيد الأرباب يا أبتاه إلاّ ما أخبرتني عن حدائق الهسبريد، فتكون لك عليّ يد أذكرها لك أبد الدهر وأشكرها!)

وتجهّم نريوس وقال: (حدائق الهسبريد! أوْه! أنت هرقل إذن!)

فبهت هرقل وأجاب: (أي وحقك أنا هو، فمن ذكرني عندك!؟)

- (ليس هذا من شأنك يا بني، ولكن لعلك تبتغي تفاحاتها الذهبية؟)

- (أي وزيوس يا أبتاه!)

- (بشراك إذن! فلن يحصل عليها إلا أنت، ولكنك لست أنت الذي ستنفذ إلى حدائق الهسبريد! اذهب إذن فالتمس المسكين برومثيوس مكبلاً فوق جبال القوقاز، فأحسن إليه،

ص: 63

وسله حاجتك، فهو وحده الذي يستطيع إرشادك إلى ما تريد. .!)

وشكره هرقل، وحياه، وأطلق ساقيه يطوي الفيافي إلى القوقاز. وهناك وجد برومثيوس والرخ ينوشه، بحيث يمزق كبده ويهر أه، ويغتذي به؛ فوتر قوسه، وسدد إلى الطير سهماً أصماه، وخلص إلى الإله البائس فأزال أصفاده، واحتمله إلى السفح، وما زال به حتى أقبل الليل والتأمت جراحه، ثم تحدث إليه عن حدائق الهسبريد وتفاحاتها الذهبية. فحدجه برومثيوس بنظرة فاحصة، وقال له:(لكأنك هرقل إذن؟)

- (أجل أنا هرقل يا أبتاه!)

- (وأنت عدو حيرا يا بني؟)

- (عدوها المبين يا أبتاه!)

- (مسكين!!)

ولم يلبث الفتى أن انهمرت عبراته، وطار لونه وهاجت في فؤاده البلابل والأشجان؛ ثم اتصل الحديث، وقال برومثيوس:

- (انطلق يا بني إلى أخي أطلس؛ هناك. . . هناك في إفريقية المظلمة شمالاً بغرب؛ تجده على قمة جبل شامخ يحمل السماء على منكبيه، ويتشح بوشاح من اللازورد يرفرف بين المشرق والمغرب. فأقرئه سلامي، وزُفّ إليه بشرى خلاصي مما أوقع زيوس بي، ثم حدّثه بحاجتك يقضها لك، فهو وحده يعرف أين حدائق الهسبريد، وهو وحده يستطيع أن ينفذ إليها، وهو وحده يستطيع قتل لا دون التنين الهائل الذي يحرس تفاحات هسبريا الذهبية؛ فإذا أتاك بها، فاحذر أن يأخذك بشيء من مكره، فإني علمت أنه بدأ يتململ من حمله الثقيل، ويود لو ينجيه منه أحد، ولو انتثرت الكواكب، وانتقض نظام الكون!)

هرقل يصارع أنتيوس

وفي طريقه إلى أطلس، لقي من الأهوال والخطوب ما تفتأ تتحدث به الأيام إلى زماننا هذا. من ذلك أنه مرّ يقوم من الأقزام ضئال الأجسام قصارها؛ كانوا يؤجرون مارداً عظيم الجسم مفتول العضل: ليحميهم من جيرانهم الأعزّاء الأقوياء، وليدفع عنهم غائلة الغربان النحاسية التي كانت تتلف أعنابهم وتبيد زروعهم كلما تم نضجها في كل عام. وكان ذلك المارد - أنتيوس - ذا حول وذا طول، حتى لكان يخشاه الوحش، ويتخوفه الجن، وترجف

ص: 64

من صولته أفعوانات البحار، فلما شهد هرقل يخبُّ في أفق البلاد كأنه جبل يتدهدى، أخذ أهبته لمنازلته، ولم تساوره ذرة من الشك أنه منتصر عليه

فلما وصل هرقل، حيا أحسن تحية، ولكن أنتيوس لم يجب، بل إنه سارع فأخذ بتلابيب البطل عابر السبيل!!

- (ماذا بك أيها الأخ! دعني فليست لي عندك حاجة!)

- (لا، لا نجوت إن نجوت! لا أرى إلا أن أصرعك!)

- (ولِمه؟!)

- (هذا ما لا أعرف، ولكن لا بد من أن أصرعك على أية حالة!)

وتصارع الخصمان، وأقبلت الأقزام ترى إلى هذين الجبلين يأخذ أحدهما بعناق الآخر فيلببه تلبيباً!

وكان أنتيوس كلما خانته قواه، وأيقن أن هرقل لا بد صارعه، وقف قليلاً على أديم الأرض يستمد منها قوة، ويستلهم الحول من أمه (جي). . .

فهو ابن جي إذن، ولن يسر ربة الأرض أن يصرع ابنها أحد، إذن فلتمده بكل ما في سرها من قوة ليصرع هرقل!

وخارت قوى البطل! وراح يلهث من شدة النصب؛ بيد أنه تنبه إلى السر آخر الأمر، عندما لحظ أن أنتيوس يزداد قوة كلما مست قدماه الأرض؛ فرفعه رفعة هائلة، ولم يمكنه من الوقوف لحظة على قدميه؛ ثم أخذ يضغط عنقه الغليظ العبل، حتى شهق شهقة كانت هي شهقة الموت. .!

فألقى به. . . ومضى لشأنه!!

وتلفت فرأى عرائس ماء يلعبن على الشاطئ، ويترامين بلآلئ مما يعد لديهن من حصباء البحر؛ فوقف غير بعيد وهتف بهن:

(يا عرائس الماء الجميلات! هل لكن أن تهدينني إلى أطلس الذي يحمل السماء، ويمسك كواكبها أن تقع!؟)

وفزع عرائس الماء وهرعن إلى البحر، ولكن فتاة جريئة وقفت ترقص على رأس موجة وقالت: (امض أيها الرجل حتى إذا لقيت السد الذي يفصل البحر المحيط من مائنا هذا

ص: 65

(وكان البحر الأبيض)، فإذا استطعت أن تنفذ فانك تكون على فراسخ من أطلس. . .)

وشكرها هرقل، وانطلق. . .

وكان أمام السد؛ ولكنه كان جبلاً شامخاً ذا قُنن وقُلل وأحياد؛ فلما لم يستطع أن يتسلقه؛ ضربه بيمينه ضربة، وبشماله أخرى، ففتح ثغرات كبيرة نفذ منها، وترك الجبل وراءه أعمدة عالية، ما تزال تعرف إلى يومنا هذا بأعمدة هرقل!!

ونظر فما هاله إلا هذا الإله العظيم سامقاً في الأفق، يحمل على كتفيه العريضتين قبة السماء. والنجوم منتشرة حوله كأنها قطرات أمطار في يوم عاصف!

وتقدم هرقل فحيّا الإله الضخم، وحياه الإله الضخم بأحسن مما حيا هرقل، ثم أقرأه هذا تحية برومثيوس، وزف إليه بشرى خلاصه من الصخرة التي ظل مُكبّلاً فوقها أحقاباً وأحقاباً!

وطرب أطلس لهذه البشرى، وأفتر عن ثنايا كأنها قمم الجبال مُغطَّاة بالثلوج، ثم قال:

- (ومن أنقذه من عذابه الطويل يا صاح!)

- (أنا إن كان يسرك ذاك النبأ)

- (أنت؟ أنت من المكرمين إّن! مرحباً بك أيها المخلص الأمين!)

- لقد كدت ألقي بهذا الحمل الذي ترى لأنقذ أخي، ولكني خفت أن يهلك العالم بمن فيه. . . و. . . على ذكر أخي، كيف هؤلاء الناس الذين خلق؟ أبخير هم؟ وهل يخبتون له حقاً؟ إن زيوس مغيظ منهم، وامرأته حيرا محنقة كذلك، أعندك من أخبار هؤلاء شيء؟

- (عندي أشياء يا أبتاه. . أنا ابن زيوس من الكمين، وقد نقمت حيرا على والدتي، فأرادت أن تفجعها فيّ، وقد أغرت رب الأرباب بي، فقضى أن أخدم النذل يوريذوس سنة بتمامها أصدع له خلالها بما يأمر، وقد أرسلني أجوب الآفاق وأذرع الأرض من أجل تفاحات هسبريا الذهبية، وقد ذكر لي أخوك، بعد إذ أطلقته، إنك وحدك تعرف مكان حدائق الهسبريد وإنك وحدك تستطيع الحصول على هذه التفاحات، فهل أسعد بأن تؤدي لي هذه اليد؟ لقد كادت حيرا كيدها هذا، وإلا تنصرفي أكن من الهالكين!)

وشاءت الخيلاء في أعطاف أطلس، وسرت حميّا الزهو في ظهره الشاسع، فقال: (أجل يا صاح، لن يستطيع قتل لا دون غيري، ولن يدخل حدائق الهسبريد سواي، ولكن كيف أترك

ص: 66

حملي هذا لآتيك بالتفاحات؟)

ونظر هرقل إلى القبة الهائلة نظرة تفيض كبرياء وقال: (أنا أحمل عنك هذه القبة يا أبتاه، حتى تعود بالتفاحات!!)

وما كاد يتم كلمته، حتى تقدم فركز كتفيه تحت السماء، وانطلق أطلس لأول مرة منذ أحقاب وأدهار، يمتّع نفسه بمشية حرة طليقة في حدائق الأرض الغنّاء!!

وغبرت أيام. . .

ثم ذكر تفاحات هسبريا، فذهب إلى حدائق الهسبريد، واقتحم الأسوار، وانقض على التنين لا دون فزلزلت الأرض تحتهما، ولم يدعه يفلت، برغم مرونته في الوثب وسرعته في الالتفاف، حتى خرّ صريعاً

ومد يده إلى الأيكة الذاهبة في السماء فتناول التفاحات المتلألئة الوضاءة، وعاد يزهو ويختال إلى حيث هرقل المجهود المتعب

وما كاد أطلس يلمح الحمل الثقيل الذي يؤود هرقل، حتى ذكر الأدهار السحيقة التي لبث يتململ طوالها تحت عبئه؛ فارتعدت فرائصه لمجرد فكرة العود إلى حمله الشاق. . . وبدا له أن يدع هرقل ويمضي. . . ولكن هرقل المتعب فطن إلى ما وقر في قلب أطلس؛ فناداه:(أبتاه! لعمري أن حملك لأخف من الهواء؛ ولعمري أنني لأستطيع أن أصمد له إلى نهاية الأبد!)

وبهت أطلس وقال: (إذن لتمض في حملك مادام يسرك!)

فأجاب هرقل: (ليس أيسر من هذا! ولكن هل تسمح فتحمل مكاني برهة حتى أضع حوّية فوق كتفيّ، فإني أشعر بنتوء في أديم السماء!!)

وقبل أطلس المغفّل، فنثر التفاحات من يده على الكلأ الأخضر، وتقدم فحل محل هرقل!!

والتقط صاحبنا التفاحات، وانطلق لا يلوى على شيء!!

وبعد رحلة طويلة مضنية، دخل على يوريذوس بالقُتْية الغالية التي خلبت لب فتاته أدميت؛ وخرت مغشياً عليها حين وقع بصرها عليها

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 67

‌البريد الأدبي

لورد هيدلي عميد المسلمين الإنكليز

نعت إلينا أنباء لندن الأخيرة عظيماً من عظماء الإنكليز يعرفه المسلمون جيداً في مشارق الأرض ومغاربها هو لورد هيدلي زعيم المسلمين في إنكلترا

توفي لورد هيدلي في الثمانين من عمره بعد حياة حافلة متنوعة الأطوار والأوضاع وبعد أن لبث اسمه يرن في العالم الإسلامي أكثر من خمسة وعشرين عاماً، مذ اعتنق الإسلام، وكان أول من اعتنقه من أشراف إنكلترا

ولورد هيدلي من صميم الأرستقراطية الإنكليزية، ولد في سنة 1855؛ وأبوه الشريف النسون ون ابن بارون هيدلي

وتلقى تربية جامعية حسنة في وستمنستر وترنتي وكامبردج؛ وبرع في الرياضة منذ فتوته ولا سيما (البوكس) وألف في هذا الفن رسالة ذاعت في وقتها ذيوعاً كبيراً. ثم اشتغل حيناً بالتدريس، ثم بالصحافة حيث كان يحرر جريدة (سالسبوري)؛ ثم اشتغل بالأعمال الهندسية التي تخصص فيها، وعمل مدى حين سكرتيراً للسير هنت، وسافر بعد ذلك إلى الهند حيث تولى عدة أعمال ومشروعات هندسية هامة، ولا سيما في أعمال المواني، وذاعت شهرته الفنية يومئذ واعتبر من أعلام المهندسين

وفي سنة 1911 غدا ر. ح. النسون لورد هيدلي بعد وفاة عمه البارون هيدلي؛ وفي نفس هذا العام، في مأدبة عقدتها الجمعية الإسلامية بلندن، أعلن هيدلي الجديد أنه اعتنق الإسلام، وأنه لم يقطع علاقته مع ذلك بالكنيسة البروتستانتية التي نشأ في ظلها؛ وكان إسلام اللورد هيدلي حادثاً اجتماعياً عظيماً في إنكلترا، وثار حوله الجدل مدى حين، وحملت بعض الهيئات والصحف على اللورد المسلم حملات شديدة، ولكنه لم يحفل بها واستمر في طريقه يدعو إلى الإسلام ويفاخر باعتناقه

وفي سنة 1921 تزوج لورد هيدلي للمرة الثانية بعد أن توفيت زوجته الأولى في سنة 1919؛ وكانت زوجه في هذه المدة مسز بار بارا بانيتون، وكان قد بلغ السادسة والستين من عمره. وفي سنة 1923 انتخب اللورد هيدلي رئيساً للجمعية الإسلامية بلندن تنويهاً بخدماته للدعوة الإسلامية، وفي هذا العام سافر إلى مكة وأدى فريضة الحج، وأنعم عليه

ص: 69

الملك حسين ملك الحجاز يومئذ بوسام النهضة العربية؛ ولُقّب اللورد من ذلك الحين (بالحاج هيدلي) وغلب عليه اللقب الجديد

وفي سنة 1929، تزوج الحاج هيدلي للمرة الثالثة بأرملة الماجور باسفورد وكان يومئذ في الخامسة والسبعين

وكان اللورد هيدلي رجلاً وافر النشاط والذكاء يجمع بين مصالح كثيرة مختلفة، ويدير دفة طائفة متنوعة من الأعمال الهامة، ويسير بها جميعاً في طريق التقدم والنجاح

وقد ترك اللورد المتوفى من زوجه الأولى أربعة أولاد؛ وورثه في لقب اللوردية ولده البكر رولاند باترك النسون ون

ونستطيع أن نذكر بهذه المناسبة أن هناك طائفة من مشاهير الإنكليز اعتنقوا الاسم في مختلف العصور، ومن هؤلاء رجل من اكستر يدعى يوسف بتس أسره القرصان المغاربة سنة 1678 وأرغم على اعتناق الإسلام، وأدى فريضة الحج مع سيده. ثم فر بعد ذلك إلى أزمير ونشر رسالة عن مغامراته؛ ومنهم توماس كابث الشهير الذي اعتنق الإسلام ووصل إلى منصب (الأغا) في بلاط السلطان باستنا بول، ثم انتهى بأن عين حاكماً للمدينة المنورة. ومن مشاهير الإنكليز الذين أسلموا في عصرنا الحاج عبد الله فيلبي (سنت جون فيلبي) مستشار الملك ابن السعود، واللايدي إيفلين كوبولد صاحبة كتاب (الحج إلى مكة) الذي ترجم أخيراً إلى العربية، ومنهم الدكتور نولان الذي كان مديراً للأمن العام، واعتنق الإسلام ثم سافر إلى تركيا، وهاجر بعدئذ إلى أمريكا، ومنهم كثيرون من المستشرقين الذين أسلموا لأغراض علمية وسياسية

ذكريات عن بيير لوئيس

منذ عشرة أعوام، في يونيه سنة 1925 توفي الكاتب والشاعر الفرنسي الكبير بيير لوئيس، في الرابعة والخمسين، بمنزله في شارع بولا نفلييه بباريس؛ وكان يعاني آلام المرض قبل وفاته بأعوام طويلة، والآن يحتفل أصدقاء الكاتب الكبير بذكرى وفاته، وهذه سنة مؤثرة في فرنسا، فقلما يودع هذه الحياة كاتب أو شاعر أو نابغة من نوابغ العلم أو الفن حتى تقوم جمعية من أصدقائه والمعجبين بنبوغه لتعمل على تكريم ذكراه في كل مناسبة، وتذكى في نفوس الخلف حب تراثه، وقد كان لبيير لوئيس مكانة خاصة في نفوس

ص: 70

الخاصة وذوي الشاعر الرفيعة؛ ذلك لأنه يثير بروعة بيانه ورقة أسلوبه شجناً لا تملك مغالبته، وقد بدأ بيير لوئيس حياته الأدبية بإنشاء مجلة صغيرة اسمها (لاكونك) في مارس سنة 1891، وكان يطبع منها مائة عدد فقط، ويعاونه في تحريرها كتاب تملأ اليوم أسماؤهم فرنسا، مثل أندريه جيد وبول فاليري وهنري دي رينيه

وكان أول من لفت الأنظار إلى بيير لوئيس ودفعه إلى طريق المجد، القصصي الشاعر الكبير فرانسوا كوبيه؛ ففي مارس سنة 1893 ظهرت قصة لوئيس المسماة (افروديت)، فلم تمض أسابيع قلائل حتى تناولها كوبيه بالنقد في جريدة (الجورنال) وكان مما قاله يومئذ ما يأتي:(انه لم يكتب مثلها في النثر الفرنسي منذ (قصة المومياء) و (سلامبو). ثم قال: إنها قصة خليعة جداً، فهو يوصي بقراءتها للفنانين، وللفنانين وحدهم، وكان ذلك كافياً لأن تلقى (افروديت) ذيوعاً عظيماً، وأن ينحدر بيير لوئيس بسرعة إلى طريق المجد

وما فعله فرانسوا كوبيه مع لوئيس، فعله لوئيس فيما بعد مع كلود فارير؛ فقد أصدر فارير كتابه (المتمدنون) سنة 1905، وتقدم لينال به جائزة جونكور؛ وكان بيير لوئيس أحد العشرة الذين يؤلفون المجلس، فأذاع بعد قراءتها في كل مكان أنها لا تقل في الروعة والإبداع عن قطع (مبرميه)؛ وهكذا نال فارير جائزة جونكور، وأضحى بفضل لوئيس علماً ذائع الصيت، ولم ينس فارير لبيير لوئيس هذا الفضل، فلبث طوال حياته يرعاه بحبه ورفيع تقديره

عناصر الحركة الهتلرية

ألقى المسيو هنري بيجه، وهو من أعضاء مجلس الدولة الفرنسي، في (أكاديمية العلوم الأخلاقية) محاضرة عنوانها (الدولة الألمانية الثالثة والنظريات الاشتراكية الوطنية)، وهي خلاصة بحث دقيق قام به لدرس خواص النظام الهتلري؛ وخلاصة رأي مسيو بيجه أن الحركة الهتلرية إنما هي ظفر حزب وظفر نظرية قاما على (تفاعل عناصر اليأس وعناصر الخرافة)؛ وأما مثل هذه الحركة فتنحصر في ثلاثة أشياء: نظرية الجنس أو الوحدة الشعبية ونظرية الزعيم ونظرية الاشتراك وتقوم الحركة من الوجهة النظامية على المزج بين الدولة والحزب والشعب واعتبارها أسماء ثلاثة لمسمى واحد؛ متعارضة بذلك كل التعارض مع النظام الديموقراطي الحر الذي يقوم على فكرة الفرد والدولة، ويفرق

ص: 71

بينهما أتم تفريق. ويرى مسيو بيجه أن الحركة الهتلرية رغم قوتها الحاضرة، تحمل عناصر فنائها، وأن هذا الفناء ليس بعيد الحدوث

كتاب جديد عن الملكة فكتوريا

صدر أخيراً بالإنكليزية كتاب عن الملكة فيكتوريا بقلم الكاتب الإنكليزي أ. بنسون. ومع أنه يقع في مجلد واحد، فقد ألم بحياة الملكة العظيمة إلماماً قوياً، ويستند مستر بنسون في معظم آرائه على خطابات الملكة ذاتها، ولا سيما في أعوامها الأخيرة. وهو لا يعنى بتحري الصور الشائقة أو المثيرة، ولكنه يسير في بحثه بهدوء واتزان، يحلل أخلاق الملكة وموقفها من الشخصيات الكبيرة التي كانت تعمل معها، ومما يدلل عليه مستر بنسون أن الملكة فيكتوريا أبدت مواهبها العظيمة في عصر متقدم جداً، فرسائلها وهي في الثالثة عشرة لا تختلف كثيراً عن رسائلها وهي في الخمسين من حيث القوة والاتزان وحسن التدليل، ومما هو جدير بالذكر ما يعرضه مستر بنسون عن معركة الملكة فكتوريا مع وزيرها الشهير جلاد ستون، فقد كانت ثمة بين الشخصيتين العظيمتين معركة ملأت أيام الملكة الأخيرة، وكان الحق فيها في جانب الوزير، ولكن الملكة صمدت فيها إلى النهاية

ص: 72

‌من روائع الشرق والغرب

المنصور

للشاعر الألماني هاينرخ هاينه

نقلها عن الألمانية الدكتور زكي محمد حسن الأمين العلمي

لدار الآثار العربية

هاينرخ هاينه شاعر غنائي وكاتب ألماني ولد من أبوين يهوديين بدسلدورف سنة 1797 ودرس الحقوق ولكنه هجرها إلى الأدب وذاع صيته فيه سنة 1826 وسنة 1827 حين ظهر كتابه (صور رحلة) عن طوافه في ألمانيا، وما لبث أن نشر أحسن شعره في ديوان سماه كتاب الأغاني قابله القراء في ألمانيا بحماسة تفوق الوصف

واعتنق هاينه الدين المسيحي سنة 1825، ولكنه كان في الحقيقة متشككاً في كل شيء، إباحياً جد الإباحة، مستهتراً كل الاستهتار. وفي سنة 1830 هاجر هاينه إلى باريس فاستوطنها واشتهر في أنديتها حتى توفي سنة 1851 بعد أن أقعده الشلل في أواخر حياته

وظل الألمان يعدونه من أكابر كتابهم وشعرائهم حتى كان الانقلاب الأخير، فنعى الهتلريون عليه أصله اليهودي فانقلبوا على ذكراه وهدموا ما أقيم له في ألمانيا من أنصاب وتماثيل

وامتاز هاينه بأسلوبه التهكمي اللاذع ووصفه الدقيق المشرق، بيد أن أهم ما خلّد ذكراه حتى الآن وسوف يخلدها طويلاً إنما هي أغانيه في ديوانه الذي أشرنا إليه؛ وآنا ننقل منه إلى العربية القصيدة الآتية التي يعجب الألمان بها كثيراً على الرغم من تعريضه فيها بالمسيحية قال:

في الكنيسة الكبيرة بقرطبة

تقف أعمدةٌ ثلثمائة وألف،

ثلثمائة وألف من الأعمدة الشاهقة تحمل القبة العظيمة الضخمة

وعلى الأعمدة والقبة والجدران تجري وتنحدر في كل اتجاه

آيات القرآن العربية في حروف مشبكة مزهرة مزخرفة

قديماً بنى الملوك العرب هذا البيت تمجيداً لذكر الله،

ص: 73

بيد أن أشياء كثيرة قد تغيرت في هذا الدهر ذي الأحداث المظلمة!

فعلى المنارة حيث كان المؤذن يدعو الناس إلى الصلاة،

ترسل الآن أجراس المسيحية رنين دقاتها الحزينة

وعلى المنبر حيث كان المؤمنون يرتلون كلام النبي،

يعرض الآن القسس الصغار الصلع أعاجيب قداسهم المضجر!

وهناك دوران والتفاف، حول نساء كالعرائس المنقوشة

بالألوان المختلفة، وهناك ثغاء وتبخر وأصوات نواقيس،

بينما الشموع الغبية ترسل أضواءها

في الكنيسة الكبيرة بقرطبة، يقف المنصور بن عبد الله

يتأمل الأعمدة في سكون، ويغمغم بالكلمات الآتية:

إيه أيتها الأعمدة القوية الجبارة

التي ازَّينتْ ذات يوم تعظيماً لله

هاأنت ذي الآن مضطرة إلى أن تقدمي للمسيحية المشنوءة

فروض الطاعة في ذلة وخنوع

أنت على ممر العصور ترضين وتقنعين،

وأنت تحملين العبء بصبر واستسلام،

فكان جديراً بمن هو أضعف منك أن يكون أسهل انقياداً

وأسرع خضوعاً

ثم يطأطئ المنصور بن عبد الله رأسه ذا الوجه الطلق فوق

حوض المعمودية المزخرف في الكنيسة الكبيرة بقرطبة!

وهرول المنصور من الكنيسة مسرعاً،

فامتطى جواداً عتيقاً جموحاً انطلق به،

حتى صارت خصلات شعره المبللة

وريش قبعته تهتز في الريح

في الطريق إلى القليعة على ضفة الوادي الكبير

ص: 74

حيث تزهر شجيرات اللوز وشجيرات البرتقال ذات

الرائحة الزكية

هناك يسير الفارس المرح وهو يصفر ويغني ويضحك

والطيور تشاركه في شدوه

وخرير النهر يتابعه في طربه

وفي قصر القليعة تقطن (كلارا دي الفارس)

وولدها يحارب في نافار،

فهي تتمتع بحرية أوسع وأمَنة أوفر

ويسمع المنصور على بعد أصوات الدفوف والطبول،

ويرى أضواء القصر تتلألأ بين الأشجار والحقول

في قصر القليعة ترقص أثنتا عشرة سيدة بثيابهن المزركشة،

ويرقص اثنا عشر فارساً بحللهم المطرزة

ولكن أجملهم رقصاً وسمتا هو المنصور بن عبد الله!

كأن له جناحين من البهجة والسرور!

فهو يرفرف في القاعة هنا وهناك!

وهو يعرف كيف يقول لكل حسناء،

عبارات الملق والغزل والإطراء

فيدا (إيزابلاّ) الجميلتان يقبلهما بشغف، ثم يقفز مسرعاً

ويجلس إزاء (الفيرا) فيقبل عليها بوجهه الفرح

وهو يسأل (ليونورا) ضاحكاً:

هل كانت تحبه اليوم؟

وهو يريها الصليب الذهبي المطرّز في معطفه!

وهو يؤكد لكل سيدة أن صورتها مرسومة في قلبه

مقسماً ثلاثين مرة في تلك الليلة (ما أنا مسيحي!)

في قصر القليعة انتهى المرح وساد السكون

ص: 75

واختفى الرجال والنساء، وانطفأت الأنوار

وبقيت دونا كلارا والمنصور وحيدين في القاعة الكبرى

بينما كان آخر مصباح يبعث بضوئه في عزلة وانفراد

فعلى المقعد الكبير تجلس السيدة،

وعلى الكرسي الخشبي يجلس الفارس

ورأسه الذي أضناه التعب

يستريح على ركبتي حبيبته

وتصب دونا كلارا باحتراس وهي تفكر

عطراً من قنينة ذهبية فوق خصلات شعره الأسمر

وهو يتنهد من أعماق قلبه

وتطبع وهي غارقة في لجة التفكير قبلة حلوة من فم رقيق

على خصلات شعره الأسمر

فتعلو السحب جبهته

عبرات من عيون مضيئة

تسكبها الحسناء وهي تفكر

على خصلات شعره الأسمر

فيقبض سريعاً على شفتيه

ويحلم المنصور كأنه يقف ثانية مطأطئ الرأس والجبين

في كنيسة قرطبة الكبيرة

يسمع كثيراً من الأصوات العميقة

وكل الأعمدة الشاهقة يسمعها تتمتم محتجة متضجرة

فهي لا تريد أن تحتمل أكثر من هذا

وهي تميل وترتعد

وهي تتهدم مزمجرة، ويكفهر الشعب والقسس

وتهوى القبة في صوت عظيم

ص: 76

وتولول آلهة المسيحية

زكي محمد حسن

ص: 77

‌الكتب

1 -

حياة محمد: للدكتور محمد حسين هيكل

2 -

قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث

للأستاذ جمال الدين القاسمي

للأستاذ محمد بك كرد علي

عضو مجمع اللغة العربية الملكي

عضو مجمع اللغة العربية الملكي

- 1 -

مؤلف (حياة محمد) أشهر من أن يعرف، برع في تصوير الرجال وآخر ما كتبه سيرة أعظم رجل قام في الأرض، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. وقد وضع الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي مقدمة الكتاب وأبدع؛ وكاد الإجماع يتم على استحسان ما كتب المؤلف الذي قال إنه توخى الأسلوب العلمي الجديد، وما خلا كلامه من خطابيات تكررت معانيها، فخرج السفر عن الرسم الذي وضعه له صانعه أحياناً. ووقع له غير مرة أن مثل لبعض الظواهر في التاريخ المحمدي بحوادث عصرية لا دخل لها في الموضوع، فقد مثل في قصة زينب بنت جحش بمدام ركامبيه (ص291) ولا معنى لهذا الاستطراد

وأحسن المؤلف في تعليل بعض حوادث السيرة مما كان يتخذ منه من لا يقول بالإسلام سلاحاً يحاربه به على غير هدى، على حين اختلف أحبار الأمة في توجيهه، ومن ذلك مسألة تعدد زوجات الرسول. ووقع له (ص166) في الكلام على بيعة العقبة أن وجه صيغة بيعة النساء إلى الرجال، والآية الكريمة صريحة في أن الخطاب للنساء، ولذلك سميت بيعة النساء (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم)، وعن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى (ولا يعصينك في معروف) قال إنما هو شرط شرطه الله

ص: 78

تعالى للنساء، ومعنى لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن أي بولد ملقوط ينسبنه إلى الزوج فإن الأم إذا وضعت الولد سقط بين يديها ورجليها

وقد تابع بعض المؤرخين في دعوى أن الرسول اجتمع ببحيرا الراهب في بُصرى (ص76) وأنه عليه السلام اتصل في رحلته الثانية إلى الشام (بنصرانية الشام وتحدث إلى رهبانها وأحبارها وتحدث إليه الراهب نسطور وسمع منه)، وهذه الرواية في اجتماع الرسول ببحيرا ونسطور لا تستند إلى أصل تاريخي صحيح، ولذلك أوردها ابن كثير في البداية والنهاية بصيغة الشك فقال:(زعموا) ولم يرد ذكر لبحيرا في كتب السريان؛ ومعنى بحيرا بالآرامية (المختار)، والذي يعنينا أن بحيرا اختلف الناس فيه: ومن قائل على ما في الروض الأنف أنه كان حبراً من يهود تيماء، ومن قائل على ما ورد في المسعودي أنه كان من عبد القيس واسمه سرجيس؛ وفي سيرة ابن هشام أن بحيرا كان إليه علم أهل النصرانية؛ ويقول ابن الجوزي في عيون التاريخ والسير إن أبا طالب لما ارتحل بالرسول تاجراً قَبِل الشام نزل تيماء فرآه حبر من اليهود، ويقال إنه بحيرا الراهب، فقال: من هذا الغلام معك؟ قال: هو ابن أخي، قال: أشفيق عليه أنت؟ قال: نعم، قال: فو الله لئن قدمت به الشام ليقتلنه اليهود. ويقول ابن كثير إن الذي يظهر من سياق قصة الراهب أنه كان راهباً نصرانياً. ويقول الزهري إنه كان حبراً من أحبار اليهود. واختلفوا في عمر الرسول يومئذ، منهم من قال إنه كان في الرحلة الأولى ابن سبع سنين، ومنهم من ادعى أنه كان لبن اثنتي عشرة سنة لما وافى بصرى في رواية، أو تيماء في أخرى. ويقول ابن سعد في الطبقات إن بحيرا قال لأبي طالب: احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود حسد وإني أخشاهم عليه. وتناقض هذه الروايات في دين الراهب بحيرا أكان نصرانياً أم يهودياً، وتناقض الرواية في محل هذا الاجتماع: هل كان في تيماء أو في بصرى من أرض الشام يوقع الشك في أمرها، وكذلك الحال في الرحلة الثانية واجتماع الرسول بنسطور. والجواب لمن يريدون أن يتخذوا من هذه الرواية سنداً ليقولوا إن الرهبان كانوا يعرفون أنه سيظهر من العرب رسول تختم به الرسل ويدعو الناس إلى التوحيد؛ الجواب إن ذلك لا يتعلق به أمر كبير في إثبات نبوة الرسول؛ والجواب على أعداء دين الرسول من أنه أخذ عن هذه الرهابين أن ابن سبع سنين أو اثنتي عشرة وهو عابر سبيل مع أهله

ص: 79

لا يعرف الأخذ عن أحد، والرحلة الثانية إلى الشام لم تتجاوز مدتها الشهرين في أصح الروايات جيئةً وذهاباً، ونسطور هذا مجهول الهوية والمكان

وأهم ما فات المؤلف كونه لم يذكر أن المسلمين قوي أمرهم أول الإسلام بإسلام عمر بن الخطاب، وأنهم أخذوا يدعون إلى دينهم جهرة وكانوا يدعون إليه على تقية، ويصلون في دار الأرقم خائفين يترقبون أعدائهم من قريش، فأصبحوا يطوفون في الكعبة ظاهرين

- 2 -

يقول صاحب كشف الظنون إن التأليف على سبعة أقسام لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها، وهي: إما شيء لم يسبق إليه فيخترعه، أو شيء ناقص يتممه، أو شيء مغلق يشرحه، أو شيء طويل يختصره، دون أن يخل بشيء من معانيه، أو شيء متفرق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه. قال: وينبغي لكل مؤلف كتاب في فن قد سبق إليه ألا يخلو كتابه من خمس فوائد: استنباط شيء كان معضلاً، أو جمعه إن كان مفرقاً، أو شرحه إن كان غامضاً، أو حسن نظم وتأليف، أو إسقاط حشو وتطويل أهـ

وكتاب قواعد التحديث بأسلوبه في التأليف ينطبق عليه شرط الجمع فقط، جمعه مؤلفه من مظان كثيرة لعلماء ثقات في علوم الحديث ونسقه وجوّد النقل، ولا يكاد يثبت له فكراً ولا يرجح قولاً. فقد نقل في أول كتابه نحو مائة صفحة (الكتاب في أربعمائة صفحة) من أقوال القدماء، ثم أثبت له رأياً واحداً سُبق إليه (ص101) رجح فيه رأي الجلال الدوّاني على رأي الشهاب الخفاجي في عدم التسامح بالأحاديث الضعيفة ولو كانت في شيء من الترغيب والفضائل

قدم الناشر للكتاب أربع مقدمات، ثلاثة لثلاثة من الأساتذة المعاصرين ورابعة للمؤلف، استغرقت كلها أكثر من عشرين صفحة، وما خرج الكلام في بعضها عن الدعابة والتمجيد. قلنا إن المؤلف اقتصر على نقل كلام غيره من أول الكتاب إلى آخره، ينقل عمن يروقه كلامهم من المحدثين وغيرهم، كما أخذ عن بعض المتصوفة ومَجّدَهم، وربما استشهد ببعض أقوال المعاصرين ونقل عن مجلات غاضاً عن ذكر أسمائها ترفعاً على ما يظهر

وكأن هذا السفر كان مجموعة من مفكرات يريد واضعها أن يضع كتاباً في هذا الفن ويقتبس أقوال المؤلفين الذين درجوا ثم بدا لبعضهم نشر هذه المفكرات في صورة مؤلف.

ص: 80

وكانت طريقة التأليف في عهود الاتقاء العلمي أن يأتي كلام المؤلف أكثر من شواهده، ولما ضعفت ملكة التأليف بعد عهد السيوطي أصبحت التأليفات عبارة عن نسخ أقوال من سلف، وقل أن تجد فيها جديداً للمؤلف، وربما كان الشيخ القاسمي رحمه الله، وهو من العلماء المنورين المكثرين من التأليف على هذه الطريقة في الجمع والنقل آخر من جرى على تلك الطريقة فاكتفى في أكثر تأليفه ببسط آراء غيره

أما طريقة التأليف اليوم فلإيجاز من دون إخلال بالمعاني، وإدماج آراء المتقدمين خلال تقرير المسائل، وإذا وقع للمؤلف بعض آراء متشابهة أشار إليها جملة واحدة، حتى لا يضيع على القارئ وقته وتملأ صفحات بلا داع. وعلى هذه الطريقة جرى المعاصرون من المصريين وغيرهم ممن كتبوا في موضوعات إسلامية أو عربية، تمثلوا ما وضعوه من المباحث أولاً ثم كتبوه في صحف لتنشر، مقتصرين على لباب ما قرأوا في موضوعهم، عازين ما لابد من عزوه لأصحابه تدعماً لأقوالهم من كتب القدماء أو المحدثين بأسلوب سهل سائغ خالٍ من الخطابيات والسجع، فجاءت مصنفاتهم كالسبيكة الذهبية، لا خلل في تضاعيفها ولا شقوق؛ وهم إذا اقتبسوا اقتصروا على محل الشاهد، وأعرضوا عن باقي ما قال المقتبس منه، لأن الكتاب ليس بكثرة أوراقه، بل بما حوى بين دفتيه؛ وكم من كتب للسلف وفت ورقاتها المعدودة بأكثر مما تفي المجلدات. وقد رأينا الكتب المنقحة عاشت أكثر من الكتب المطولة المنتشرة ولكل عصر ذوقه وطريقته

محمد كرد علي

ص: 81