الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 105
- بتاريخ: 08 - 07 - 1935
الميت الذي لا يموت
الشيخ محمد عبده
بمناسبة ذكراه الثلاثين
(عجب عجيب!! شيخ يلبس حلة مقطوعة الكم، ضيقة الردن، مبنقة الجيب، ويعتم على طربوش كطرابيش الأفندية، وينتعل حذاء كأحذية الفرنجة، ثم يتكلم الفرنسية ويصاحب الخواجات، ويغشي بلاد الكفر، ويترجم كتب أوربا ويأخذ عن جمال الدين، ويدرس المنطق على رغم ابن الصلاح، ويريد أن يدخل في الأزهر علوم المدارس، ويشتغل بالأدب، وينشئ المقالات للصحف؛ ثم يحرم (الدوسة) وينكر الوسيلة ويحلل الموقوذة، ويسوغ لبس القبعة، ويجيز الربا في صناديق التوفير، ويحاول الاجتهاد، ويفسر القران على غير طريق السلف. . .!!
نعوذ بالله من شر هذه المحنة وعواقب هذه الفتنة، ونسأله أن يقبضها على منهج السنة وعقيدة الجماعة. . . .)
هكذا كان يقول جمهور (العلماء) في صحن الأزهر حين انبلج نور الإصلاح من جبين محمد عبده، كما كان يقول مشركو قريش في فناء الكعبة حين انبثق نور الهدى من غرة محمد رسول الله! لأن دعوة الدين فجأت الكعبة على دنيا مقلوبة الأوضاع، في الأخلاق والطباع، فقال الناس حين رأوا رجلاً رأسه في السماء ورءوسهم في الأرض: انظروا كيف يريد أن يبدل نظام الكون ويغير خلق الله؟! ولأن دعوة الإصلاح باغتت الأزهر على سكون كذهول البله، وخمود كغشية الموت، واستغراق كخدر الأفيون، من طول ما تنكرت له الأحداث، وطغت عليه البدع، وعثت فيه الجهالة، فارتد إلى مثل تكايا الصوفية، أو صوامع الرهبان، يقطع أهله عن الناس، ويجري بهم إلى الخلف، ويعيش معهم في الماضي، ويجعل المثل الأعلى لرجل الدين أن يتوفر على مسائل الفقه، ويتقيد بآراء السلف، ويتعبد بألفاظ الموتى؛ فلما نبههم الإمام إلى أن الدين للدنيا، والعلم للعمل، والعلماء إنما يخلفون الأنبياء ليظل أثر الدعوة شديداً، وحبل الدين جديداً، وخلافة الله قائمة، فتحوا أعينهم على رجل يخالف سمته سمت البيئة، وزيه زي القوم، ورأيه رأي الحلقة، فاستوحشوا من ناحيته وأنكروه، ثم قالوا معتزلي مبتدع!
قال الأستاذ الإمام وهو ينفض باسماً ما حثوه على عطفيه من الظنون والتهم: لا صلاح للدين إلا بصلاح الأزهر، ولا قيامة للدنيا إلا بقيامة أهله! ثم استعان على خصومه بالإحسان والنصيحة والصبر حتى آمن من آمن، وهادن من هادن، فوضع يمناه في أيديهم، ويسراه في أيدي أولئك الذين فتنهم الغرب فانغضوا رءوسهم إلى مدينة الإسلام، وذووا وجوههم عن ثقافة العرب، يحاول أن يصل بين الثقافتين، ويوفق بين العقليتين، ويجعل من هؤلاء وهؤلاء وحدة متسقة الفكر، متفقة الهوى، متحدة الغرض، تؤلف بين الدين والعلم، وتقرب بين الشرق والغرب، وتصل بين الماضي والحاضر؛ فنجح على قدر ما ينجح الأنبياء والمصلحون في إبان الدعوة، يهيئون الأرض في رجف من الخصومة، ويبذرون البذر في عصف من المعارضة، ثم ينفثون في اتباعهم القليلين المخلصين أرواحهم الخالقة وقواهم الخارقة، ليكونوا من بعدهم أوصياء على الغراس، وشهوداً على الناس، وأدلاء على المحجة
لا ريب أن الإمام محمداً كان من أولئك الأعلام المصطفين الذين يوضح الله بهم طريق الإنسانية من قرن إلى قرن؛ وأخص ما تميزهم به الطبيعة متانة الخلق، وصلابة الرجولة، وشدة الأسر، وقوة الحيوية، وحدة الذهن، وصفاء الملكة. ورث عن أبيه وثاقة التركيب، وشجاعة القلب، فشب نابياً على الضعف، أبياً على السكون؛ يريد أبوه أن يكون تلميذاً كلداته في المكتب، فيأبى هو إلا أن يكون زارعاً كأخوته في الحقل! ويرسله أبوه إلى المعهد الأحمدي يطلب العلم، فيفر منه إلى مدارج السبل يطلب الفلاحة! لان حفظة القران وحملة الفقه كانوا موضع العطف من القلوب لقلة الكسب وضعف الحيلة؛ وحيويته تأنف الخمود، وحريته تأبى القيود، ورجولته تعاف الشفقة
ثم لجأ إلى الشيخ درويش خال أبيه، وهو صوفي عالم من أهل البحيرة، سار في الأرض حتى بلغ طرابلس الغرب، فأخذ الشريعة والطريقة على السيد محمد المدني؛ والتصوف في المغرب يقوم على ذكر الله بالاستحضار، وتلاوة القران بالاستذكار، ورياضة النفس بالتأمل؛ فأخذ يروض جموح طبعه بالصلاة، ويلطف حميا شبابه بالذكر، ويطفئ غليل قلبه بالدرس، حتى فتح السبيل بين نفسه وبين الوجود الأبدي والكمال المطلق
ثم اتصل بالسيد جمال الدين فتولى عقله يثقفه بالمنطق، ويكلمه بالحكمة ويقويه بالملاحظة؛
فكان لهؤلاء الثلاثة: أبيه مربي جسمه، وشيخه مربي روحه، وأستاذه مربي عقله، أبلغ الأثر في تكوين صفاته وتوجيه حياته وتبليغ رسالته. . .
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات
-
5 - كلمة وكليمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
أرادوا مرة امتحان السياسيين في بلاغة السياسة، فطرحوا عليهم هذا الموضوع:
سرقت حقوق أمة ضعيفة، فاكتب كيف تشكرها على هديتها. . .
عندما يشرب الضعفاء من السراب الذي تخيله السياسة لأعينهم - يقدمون لهم المناديل النظيفة ليمسحوا أفواههم. . .
لو سئل السياسي العظيم: أي شيء هو أثقل عليك؟ لقال: إنسانيتي
قد يبطل المنطق كل الحجج إلا اثنتين: حجة السياسي القوي حين يغتصب الضعيف، وأختها حجة اللص الفاتك حين يسأل من أين اشترى؟ فيقول: اشترت يميني من شمالي. . . . .
قالوا. نظم الصقر قصيدة من الغزل في عصفور جميل مصبغ الريش، فكان مطلعها:(ما ألذ) ريشك أيها العصفور! هكذا لغة السياسة
مر فيلسوف برجل مصور بين يديه صورة امرأة قد صورها فاكثر عليها الحلي من الذهب والجوهر، فسأله في ذلك، فقال المصور: لم استطع أن اجعلها حسناء فجعلتها غنية. . . . كذلك أحزاننا السياسية لما عجزت عن حقيقة السياسة جعلتنا أغنى الناس بالكلام الفارغ
من تمام فضيلة الرجل السياسي أن يكون له كلامان: أحدهما سكوته
في الحب والسياسة لا يبدأ الإثم إلا كالفلتة المفردة؛ ولكن متى وقع الشاذ في السياسة والحب، صار هو القاعدة. . . .
إذا رأيت شباب أمة يتنبلون بالثياب والزينة، فاعلم أنها أمة كذب ونفاق: يغطون الحقيقة الرخيصة بالثوب الغالي، ويكذبون حتى على الأعين
فضيلة الملائكة عند الناس أنهم لا يكابدون ولا يحزنون؛ أفلا تكون فضيلة الناس عند الملائكة أنهم يكابدون ويحزنون؟
قالت العشرة للألف: أنت سرقت مني صفرين. . . . هكذا رأيت غرور بعض أدبائنا
يكبر بعض الأدباء من صغر المحيطين بهم؛ قالوا بعرت شاة حول قطعة من حجر، فنطقت بعرة فقالت للحجر: يا ما أعظمك أيها الجبل الشامخ. . .
يكون في بعض الأدباء في سخافة الحقد ما لا يكون مثله إلا في بعض النساء من دناءة الغيرة: لو ماتت ضرتها لبقى من ذنبها أنها كانت ضرة. . .
من فرض على الناس أن يعرفوه نابغة فقد فرض عليهم أن يعرفوه معتوهاً أو مغروراً
إذا أردت أن تتكلم عن ميت، فضع نفسك في موضعه ثم تكلم
من اكثر الشكوى إلى الناس، علمهم كيف يسمعون كلامه خالياً من الشكوى
إذا صدق الحب كانت بعض اللعنات فيه أحياناً ضرباً من التحايا (غيابياً). . .
كل معشوقة هي أعظم من عاشقها بحاجته إليها، ولو كان ملكاً وكانت خادما؛ فما أحقر العظمة أحيانا ً
علمتني التجربة أنه لا يحسن استعمال البلاغة مع عجائز النساء، فإنهن يحسبنها غزلاً. . . فمن كتب لإحداهن فلا يجعلن كتابه متقدماً في الأدب بل متقدماً في السن. . .
لا تكن صورة المرأة اجمل من الأصل إلا عند اثنين: العاشق، والمصور المكره على التزوير. . .
المرأة التي لا تعرف كيف تجعل كبرياءها وسيلة حب، لا تجعلها إلا وسيلة مقت
إذا أصبت زوجين يتمنى أحدهما موت الآخر، فلن تجد لهذا الآخر عملاً إلا أن يغيض صاحبه كل يوم بأنه لم يمت. .
اعظم الشعراء واعظم الفلاسفة من بلغ درجة الطفل. . . في جعل حكمه على الدنيا من الشعور لا من الفكر
تزول صفة الجمال عن الحبيب إذا لم يره محبه متصفاً بها؛ ولكن المشكلة هي: كيف يستطيع أن يراه غير جميل، وهو كأنما خلق من اجل عينيه خاصة؟
أيهما الذي تحبه المراة؟ الرجل القوي بأنواع القوة يعجبها فتراه سيدها وسيد قلبها، أم الرجل الضعيف أنواع الضعف ترى نفسها سيدته؟
هذا هو جواب طبيعة المرأة على طلب المساواة بين الرجال والنساء
من سخرية الحياة بالنابغة العبقري، أنه حين يؤخر عمله من عجز أو ضعف، يكون هذا هو كلما يستطيعه النابغة العبقري. . . .
لو اجتمع الذين ملأوا الدنيا بشهوتهم لما ملأوا داراً صغيرة؛ كأن منهم ممالك للتاريخ
كممالك الأرض فلا يتسع إلا. لعدد محدود
لو كنت قاضياً ورفع إلي شاب تجرأ على امرأة فمسها أو احتك بها أو طاردها أو اسمعها، وتحقق عندي أن المرأة كانت سافرة مدهونة مصقولة متعطرة متبرجة - لعاقبت هذه المرأة عقوبتين: إحداهما بأنها اعتدت على عفة الشاب. . .، والثانية بأنها خرقاء كشفت اللحم للهر. . . .
لن يكون الإلحاد من العلم، فأساس العلم هو هذا: ما عرفته فقد عرفته، وما لم تعرفه فلا اقل من أن تقر بأنك لا تعرفه
إذا كنت قائداً عظيماً في أمة ذليلة فقيرة، استطعت أن تكون نبياً فيها بنصب شناقتين؛ وما أسرع ما يعتقدون أن الذي معه عزرائيل كالذي معه جبرائيل. . . .
ليس المصلح من استطاع أن يفسد عمل التاريخ فهذا سهل ميسر حتى للحمقى؛ ولكن المصلح من لم يستطع التاريخ أن يفسد عمله من بعد
كل أب يضرب أولاده المساكين هو نابليون، ولكنه نابليون داره فقط. . . .
دجاجة القفص امرأة متحجبة في نظر الثعلب؛ وحجابها جهل وحماقة ورجعية وتخلف عن زمن الثعالب. . . .
هنا مسالة اقتصادية: فهذا مسجد واسع مفتوح لا يؤجر بإيجار ينتفع به؛ وهذه كنيسة قائمة لا تستوفي الدولة عليها ضريبة. أفليس الإصلاح أن يحول المسجد دار صناعة مثلاً، وتنقلب الكنيسة مثلاً (خمارة)؟
بلى أيها الحاكم. إن هذا هو إصلاحك الطبيعي ما دام عقلك كيس دراهم، وما دامت بلادك بلاد إفلاس. . . .
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
دستور قناة السويس وهل نسخه ميثاق عصبة الأمم؟
للأستاذ محمد عبد الله عنان
منذ يناير الماضي تجوز السفن الإيطالية قناة السويس في كل يوم تقريباً، مشحونة بالجند والسلاح والذخيرة في طريقها إلى الإرترية والسومال؛ ولا تخفي إيطاليا الفاشستية بعد أن حشدت قواتها الزاخرة في شرق أفريقيا إنها مصممة على تنفيذ مشروعها الاستعماري الضخم في المنطقة الحبشية، وأنها لا تقبل ثمناً للعدول عن غزو الحبشة اقل من بسط حمايتها الفعلية عليها؛ إما الحبشة فأنها من جانبها تشهد جلدة متحفزة تلك الأهبة الضخمة التي تنظمها دولة قوية من دول الغرب المتمدين للبطش بها وسحقها من عداد الأمم الحرة، وزجها إلى حظيرة الأمم المستعبدة بعد أن لبثت آماد التاريخ دولة كاملة السيادة والاستقلال
وهذا المنظر الذي نشهده اليوم هو أحد هذه المناظر العديدة التي شهدها كثير من الأمم الشرقية والأفريقية الضعيفة منذ أواخر القرن الماضي، والتي تعرف في لغة الاستعمار الأوربي (بافتتاح أفريقية)؛ منظر الدول الغربية الكبرى تتسابق إلى بسط حمايتها على تلك الأمم، ثم تتقدم استعمارها واستبعادها خطوة فخطوة باسم المدنية والمصالح الاقتصادية والتهذيب الأوربي
ليس من موضوعنا أن نعرض إلى شيء من نواحي ذلك الصراع الذي سينشب في القريب العاجل في شرق أفريقيةوالذي تخوض فيه الحبشة معركة الحياة والموت؛ ولكنا نريد أن نعرض إلى مسالة يثيرها هذا الصراع في الوقت الحاضر، هي مسألة قناة السويس ونظامها الدولي في مثل هذا الظرف، وسنقتصر في بحثنا على الشرح الفقهي والتاريخي المحض
أبدى السير نورمان آنجل الكاتب الإنكليزي الكبير، واحد أقطاب الدعوة إلى السلام، رأيه أخيراً بأنه إذا نشبت الحرب بين إيطاليا والحبشة، فانه لا يجوز أن تبقى قناة السويس مفتوحة في وجه الفريقين المتنازعين، بل يجب أن تغلق دونهما، وإلا تمكن السفن الإيطالية من المرور فيها، كما أنه يجب إلا تمكن الحبشة من استيراد الذخائر عن طريقها؛ ويستند السير آنجل في رأيه إلى أن المعاهدات الدولية التي تكفل حرية الملاحة في القناة أثناء الحرب والسلم معاً قد نسختها نصوص ميثاق عصبة الأمم
ولبيان ذلك نقول إن النظام الذي تخضع له قناة السويس اليوم هو نظام الحيدة الدولية المطلقة، وهو النظام الذي كفلته معاهدة 29 أكتوبر سنة 1888 التي وقعت في استانبول بين الباب العالي، وبريطانيا العظمى، والمانيا، والنمسا والمجر، وفرنسا وإيطاليا، وأسبانيا، وهولنده، وروسيا؛ ونص في ديباجتها على أن الغرض من عقدها هو (الاتفاق الحر على نظام نهائي يكفل في كل الأوقات ولكل الدول حرية الملاحة في قناة السويس). وتحتوي المعاهدة على سبع عشرة مادة تنظم شروط الملاحة في القناة في أوقات السلم وفي أوقات الحرب
وهذه الحيدة المطلقة للقناة وقت الحرب تنص عليها المادة الرابعة من المعاهدة فيما يأتي: (تبقى القناة مفتوحة وقت الحرب. وقد اتفق المتعاقدون أعلاه على أنه لا تفرض أية ضريبة حربية أو يعمل أي عمل من شانه أن يخل بحرية الملاحة في القناة ذاتها أو في موانئ الوصول إليها، أو في قطاع من هذه الموانئ طوله ثلاثة أميال بحرية، وهذا حتى لو كانت الدولة العثمانية هي إحدى الدول المتحاربة). وتنص المادة السادسة من المعاهدة على (أن قناة السويس تبقى مفتوحة في وقت الحرب شأنها وقت السلم، لكل سفينة تجارية أو حربية، لجميع الدول بلا تفريق. . . وتتعهد الدول الموقعة بأنها لا تقوم بأي عمل لعرقلة حرية الانتفاع بالقناة وقت الحرب، مثلما يجب ذلك وقت السلم؛ ويجب ألا تعرض القناة مطلقاً لمزاولة حق الحصار)
على أنه يحظر على سفن الدول المتحاربة المارة بالقناة وقت الحرب، بمقتضى نص المادة الرابعة أيضاً، أن تتزود من المؤن في القنال أو موانيه إلا بالقدر الضروري؛ ويجب عليها أن تخترق القناة بسرعة، وإلا تمكث في موانئ القناة اكثر من أربع وعشرين ساعة؛ ولا يسمح لها بان تنزل جنوداً أو ذخائر إلى البر. ويمكن أن يسمح لسفينتين حربيتين، كلتاهما بالبقاء في ميناء الوصول، ولكن لا يسمح لأي سفينة حربية بالبقاء في مياه القناة)
هذه هي خلاصة النصوص التي يقوم عليها نظام المرور في قناة السويس وقت السلم ووقت الحرب؛ وما تزال معاهدة سنة 1888 هي المرجع والحكم في هذا الشأن، وإن كانت بعض نصوصها الأخرى قد ألغيت بفعل الظروف والتطورات الدولية. مثال ذلك أنه قد نص في المعاهدة على أن تقوم الحكومة العثمانية باتخاذ ما يجب لتنفيذ المعاهدة؛ ولكن
الدولة العثمانية قد ذهبت واختفت من عالم الوجود، وفقدت تركيا كل حقوقها القديمة على مصر بمقتضى نصوص معاهدة الصلح (معاهدة سيفر) أولاً، ثم بمقتضى نصوص معاهدة لوزان (سنة 1923)؛ وهي حقوق يقضي المنطق والقانون بأن تؤول إلى مصر؛ ولكن مصر لم يعترف لها بهذا الحق؛ وينص تصريح فبراير سنة 1922 الذي تعترف فيه بريطانيا العظمى باستقلال مصر، على أن بريطانيا العظمى تحتفظ ضمن المسائل المعلقة بمقتضى التصريح بمسالة المواصلات الإمبراطورية، أو بعبارة أخرى بمسألة قناة السويس؛ ومن جهة أخرى فقد اختفت بعض الدول الأخرى التي اشتركت في عقد المعاهدة مثل إمبراطورية النمسا والمجر وروسيا القيصرية؛ وفقدت ألمانيا بمقتضى معاهدة الصلح كل حقوقها في مصر وفي جميع المعاهدات التي عقدتها مع مصر؛ وفيما عدا ذلك فنصوص معاهدة سنة 1888 ما تزال قائمة، وما تزال إلى اليوم دستور قناة السويس
والآن لنرى إلى أي مدى يمكن أن يتأثر هذا الدستور الذي يقضي بحرية الملاحة في القناة وقت الحرب، بنصوص ميثاق عصبة الأمم. وما يشير إليه السير أنجل من أن هذا الميثاق ينسخ دستور القناة نجده في المادة 20 من ميثاق العصبة؛ وهذا نصها؛ (يعترف أعضاء العصبة بان الميثاق الحالي يلغي كل التعهدات أو الاتفاقات الخاصة التي تتعارض مع نصوصه، وتتعهد بأنها لا تعقد في المستقبل أية معاهدة تتعارض مع هذه النصوص)، ولما كان دستور العصبة يقوم على فكرة السلام العام بين الامم، وعلى مبدأ التفاهم والتحكيم في تسوية المنازعات التي تقع بينهما، فان مثل هذا الدستور الذي وضع لقناة السويس منذ نحو نصف قرن، والذي يقضي بأن تسهل حرية المرور في القناة لسفن الدول المتحاربة، لا يتفق مع الغاية التي تعمل لها عصبة الأمم، وهي توثيق أواصر السلام بين الأمم، بل يغدو بالعكس عاملاً في تشجيع الحرب؛ ومثل هذه النصوص التي تتعارض مع روح ميثاق العصبة يجب أن تعتبر منسوخة لاغية
ولكنا نجد من جهة أخرى في ميثاق العصبة نصاً آخر ربما كان يناقض هذا الراي، فالمادة 21 من الميثاق تنص على (أن التعهدات الدولية مثل معاهدات التحكيم والاتفاقات الإقليمية مثل نظرية مونرو، وهي التي يقصد بها توطيد السلم، لا تعتبر متعارضة مع أي نص من نصوص هذا الميثاق). فإذا اعتبرنا معاهدة سنة 1888 داخلة في باب التعهدات الدولية أو
في باب الاتفاقات الإقليمية وهو الأرجح، فان ميثاق العصبة لا يمكن أن يؤثر على نصوص معاهدة سنة 1888. ونظرية مونرو كما نعلم هي قاعدة السياسة الأمريكية، وبمقتضاها تعتبر الولايات المتحدة الأمريكتين منطقة نفوذ معنوي خاص، لا يصح أن تمتد إليها يد أية دولة أوربية بالتدخل في شؤونها أو محاولة بسط نفوذها الاستعماري على أي جزء من أجزائها، وألا اعتبرت هذه المحاولة عملاً عدائياً موجهاً إلى الولايات المتحدة ذاتها. وكما أن النص هنا صراحة على استثناء نظرية مونرو الأمريكية قد وضع نزولاً على رغبة السياسة الأمريكية، صاحبة الفكرة الأصلية في إنشاء عصبة الأمم، فكذلك قد يكون النص على استثناء الاتفاقات الإقليمية هنا تحقيقاً لرغبة السياسة البريطانية؛ وهي قد أصرت على اعتبار قناة السويس منطقة إقليمية تعلق عليها أهمية خاصة أولاً في تصريح فبراير سنة 1922 حيث احتفظت بمسالة المواصلات الإمبراطورية، وثانياً في التبليغ الذي اقترن بهذا التصريح إلى الدول، وفيه تعتبر أن التدخل في أمر العلائق المصرية الإنكليزية يعتبر عملاً غير ودي بالنسبة لإنكلترا
على أن المعاهدات والنصوص وحدها لا تكفي، وهنالك الجانب العملي؛ واحترام هذه النصوص يتوقف دائماً على الظروف والاتجاهات السياسية. فمثلاً حينما قامت الحرب الروسية اليابانية سنة 1904، وكانت إنكلترا تميل فيها إلى جانب اليابان، لم تسمح إنكلترا بفتح قناة السويس في وجه الأسطول الروسي المسافر إلى الشرق الاقصى، واضطر هذا الأسطول أن يطوف حول إفريقية، وان يسير إلى الصين من طريق رأس الرجاء الصالح، وكان هذا السفر الطويل من عوامل إنهاكه وهزيمته بعد ذلك في موقعه تسوشيما (سنة 1905) وخسران روسيا للحرب، هذا مع أن روسيا إحدى الدول الموقعة على معاهدة سنة 1888 كما قدمنا. وفي الحرب الكبرى لم تحترم حيدة القناة ولم تحل المعاهدة الدولية دون تحصينها وإغلاقها في وجه الدول المعادية لإنكلترا ودول الحلفاء؛ وقد استأثرت إنكلترا وحلفاءها أثناء الحرب باستعمال القناة؛ ومن جهة أخرى فان ألمانيا وتركيا لم تحترما من جانبهما حيدة القناة؛ ونظمتا سنة 1915 أكثر من هجوم محلي على مصر من جهة القناة، وضربت شواطئها بالقنابل المخربة؛ واستمرت طوال الحرب منطقة حربية محضة تستأثر إنكلترا بالإشراف عليها
وكذلك لا نستطيع في الظروف الحاضرة التي يحلق فيها شبح الحرب في شرق أفريقية أن تقف عند المعاهدات والنصوص في تقدير الدور الذي يمكن أن تؤديه قناة السويس في إذكاء هذه الحرب أو وقفها؛ فإيطاليا تستعمل القناة بملء الحرية لإرسال الجند والذخائر إلى شرق أفريقية؛ فإذا نشبت الحرب بينها وبين الحبشة فماذا يكون شأن القناة؟ هل تظل مفتوحة أثناء الحرب لمرور الإمداد الإيطالية، أو تغلق في وجهها؟ إن معاهدة سنة 1888 صريحة كما بينا في وجوب فتح القناة وضمان حرية الملاحة فيها أثناء الحرب بالنسبة للفريقين المتحاربين؛ ولكن النصوص وحدها لا تكفي هنا. وكل شيء يتوقف على ظروف العلائق بين إنكلترا وإيطاليا؛ فإذا كانت هذه العقائد مما يسمح بتأييد السياسة البريطانية لمشروع إيطاليا في غزو الحبشة، فان القناة ستبقى مفتوحة حرة؛ وإذا كان لدى السياسة البريطانية ما يحملها على الوقوف في وجه مشاريع ايطاليا، فقد تغلق القناة بالاستناد إلى ميثاق عصبة الأمم أو غيره من الأسانيد والنصوص.
وعلى أي حال فان المسالة في منتهى التعقيد والدقة، وأمرها مرهون بالظروف والمفآجات التي قد نثيرها الحوادث دون توقع أو تقدير
محمد عبد الله عنان
مات الشيخ بدر الدين!
للأستاذ على الطنطاوي
اليوم انقطعت رواية الحديث:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي
كان أقل مزايا الشيخ بدر الدين الحسني أنه يحفظ صحيحي البخاري ومسلم بأسانيدهما، وموطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي وأبن ماجة، ويروي لك منها ما تشاء كأنه ينظر في كتاب؛ وأنه يحفظ أسماء رجال الحديث وما قيل فيهم، وسني وفاتهم، ويجيبك عما شئته منها، وأنه يحفظ عشرين ألف بيت من متون العلوم المختلفة كالألفية والزبد والشاطبية والطيبة الخ. . . وأنه ألف نحواً من خمسين مؤلفاً قبل أن يتجاوز عمره الثلاثين؛ وأن له إطلاعاً في كافة العلوم حتى الرضيات العالية فقد أقرأها لطلاب شعبة الرياضيات في المدرسة التجهيزية فأدهشهم وأدهش بإطلاعه معلميهم؛ وأنه ما انقطع عن الدرس والتدريس يوماً واحداً منذ سبعين سنة على زهادة عجيبة، وورع نادر، وترفع عن الدنيا ولذاذاتها مع الغنى الواسع والمال الكثير، وهو على الجملة آخر علماء السلف الصالح رضي الله عنهم
مر على دمشق في هذه السنين العشرين، من جليل الحوادث وفادح الخطوب، ما لو مر على الشامخات الرواسي لجعلها دكاً، أو وقع على الجلاميد الصم لصيرها هباء. فأعدت له الإيمان الذي لا يزلزله رزء، والثبات الذي لا تزيله مصيبة، وصبرت عليه (صبر العظيم على العظيم). . . . حتى تعودت مس الضر، وألفت قوارع الدهر
(وصارت أن أصابتها) سهام
…
تكسرت النِّصال على النصال
وغدا أبناؤها لطول ما رأوا من البلاء، وما راضوا نفوسهم عليه من الصبر، لا يألمون لمصيبة، ولا يجزعون لنائبة، ويهتفون بالزمان كلما تعب من مساءتهم، فأقلع عن إيذائهم:
إن كان عندك يا زمان مصيبة
…
مما تسوء به الكرام فهاتها
نكبت دمشق الحرب، فقلت الأقوات، حتى أكل الناس العشب. . . وباد الرجال: من لم يمت منهم برصاص الإنكليز والفرنسيين، ومن لم يمت من الجوع، مات على مشانق جمال باشا، حتى لم يبقى في دمشق إلا شيوخ ركع، ونساء جوع، وأطفال رضع. . .
فشيعت دمشق من مات، وحدبت على من بقى، ما خارت ولا جزعت. . . (وصبرت دمشق)!
ثم كانت (ميسلون) فذبح (العمروط الأفاق) رب البيت، واستباح الحمى، وأراد أن يعدو على سليلة الشرف، وبنت الأكرمين، فصدته أروع صد، فأتى على الديار فجعلها حصيداً، كأن لم تغن بالأمس؛ وعادت دمشق من ميسلون، فإذا كل شيء قد انهار، وإذا الدار قواء، كأنما لم يشد فيها ملك، ولم تقم فيها دولة، ولم يكن لها استقلال. . .
فدفنت دمشق بيدها أبناءها، وأقسمت على قبورهم (القسم الأحمر) وما بكت ولا شكت. . . (وصبرت دمشق)!
ثم كانت الثورة فهبت دمشق تعلن في أبنائها بأن قد جاء (الامتحان الأول) فاروني ماذا حفظتم من الدرس. . .
وكان الامتحان في دق الباب
فدقه الأبطال من أبناء دمشق دقاً ضوضى على جوانب السين، فثار الناس فزعون يقولون: ماذا؟
قيل: بردى يشتعل!. . . قالوا: أطفئوه بالنار!
فكانت المعركة بين الماء والنار. . . بين الدم والحديد. . . فرد الفتية العزل الجيش اللجب، فوقف سنتين دون نهر تورا لا يجتازه، وما عرضه بأكثر من (ستة أمتار)
ثم انتهى الامتحان، فدفنت دمشق أبناءها، وقامت دمشق المفجوعة على أنقاض دمشق المحرقة المهدمة فجددت القسم، وكانت ميسلون فصارتا ميسلون والغوطة. . . . . . (وصبرت دمشق)!
ثم كان يوم (20) كانون، فأعلنت دمشق أن قد جاء الامتحان الثاني، وكان الامتحان في فتح الصندوق
فقالت القوة: لا! وقال الحق: نعم!
فكانت المعركة بين القوة والحق، فانتصرت نعم، وكسر الصندوق، ودفنت دمشق أبناءها، وجددت القسم، وصرن ثلاثة: ميسلون والغوطة والمرجة! (وصبرت دمشق)!
صبرت دمشق، ولم تجزع ولم تضطرب، ولم تقلقها هذه الحادثات ولم تبكها؛ ولكن كلمة واحدة سرت أمس في دمشق، فتقلقلت لها دمشق واضطربت، وخفت منها الأحلام، وضل عنها الصبر، فلم تعد تطيق صبراً، فانفجرت تبكي في نكبة اليوم النكبات كلها!
تلك هي الكلمة الرهيبة: مات الشيخ بدر الدين. . . .
كان الشيخ سر قوة دمشق، تلجأ إليه كلما دهمتها الخطوب، فتفئ منه إلى جنة وارفة الظلال، وتفزع إليه كلما حاق بها اليأس، فتجد عنده الأمل الباسم الذي يشق طريقاً للحياة وسط شعاب الموت، والثقة بالله التي تسمو بصاحبها حتى يجتاز العقبات كلها طائراً بجناحين من الشجاعة والثبات
وكانت كلمات الشيخ كأنما هي السحر، ينصب في أعصاب الشاميين إذ يسمعونها، فيقدمون لا يهابون شيئاً، كذلك الذي شرب ماء الحياة فلا يبالي - وهو لن يموت! - أي أودية الموت سلك!
وكان الشيخ رمز العصور الذهبية الأولى، وصفحة حية من تاريخ المجد الإسلامي، وآية من آيات الله قامت في هذه الأيام المظلمة لتنيرها بنور الصدر الأول، كما ينير البدر الليل الداجي بنور الشمس المشرقة، ولكن ذاك بدر الدنيا، وهذا (بدر الدين)!
وكانت غرفة الشيخ في دار الحديث حمى قد حماه الله بهيبة العلم، وحجبه بجلال الإخلاص، فهي من دمشق الأموية أو العباسية، أو دمشق صلاح الدين، لا من دمشق (القرن العشرين)، وقفت عند عتبتها سطوة جمال باشا، وقوة الانتداب فلم يجتزها منهما شيء؛ وكان يجيبئها أبداً العتاة الجبارون الذين يخشاهم البلد، ويجري حكمهم لا يرده أحد، فكانوا جميعاً من بشاوات وموسيوات. . . يخلعون نعالهم بأيديهم، ثم يدخلون مطأطئي رءوسهم حتى يجلسوا على ركبهم بين يدي الشيخ، خاشعة أبصارهم، ترهقهم ذلة، ثم لا يتكلمون إلا أن يسألهم، أو يأذن لهم بالكلام، وربما أعرض عنهم، وربما وعظهم أو علمهم، ولا يقول لهم إلا كلمة الحق، ولا يكلمهم إلا بلسان عالم من دمشق صلاح الدين!
فكان الشاميون حين يرون هذا لا يبالون، وفي دار الحديث هذا الجيش، بما كان في دمشق
من جيوش ودبابات وطيارات. . أفليس عجيباً أن هذا الشيخ ألهم أبن التسعين، قد:
سدّ الطريق على الزما
…
ن وقام في وجه الخطوب!
والشيخ لا جرم نسيج وحده في هذا العصر، وهو بقية من المحدثين الأولين الذين ألفوا بسيرهم تاريخ المسلمين العلمي، أجل تاريخ علمي كتب أو يكتب إلى يوم القيامة. فقد لبث سبعين سنة، يشتغل بالدرس والتدريس والتقوى والعبادة، على خطة معروفة، وسنة مألوفة، ما تبدلت يوماً ولا تغيرت، إلا لمرض مقعد، أو أمر قاهر، أو سفر لازم؛ وقد بلغ من ثبات الشيخ وحسن ظنه بالله عز وجل أنه كان مرة في قطار الحجاز فوقف القطار في عرض البادية لشيء طرأ عليه، (وقد رأينا هذه البادية فإذا هي رمال ملتهبة، وشمس محرقة، ولا شيء سواهما) فنزل بعض القوم يصلون، ونزل الشيخ، فلما أحرموا بالصلاة وكادوا يركعون، صفر القطار، فانفضوا إليه فتعلقوا به وتركوا الشيخ قائماً. وسار القطار؛ (قال الراوي) فنظرت إليه فلا والله ما ألتفت ولا تحرك، فكدت والله أُجَنَّ، وأقبلت على من بيدهم أمر القطار فرجوتهم أن يقفوه فأبوا، فسقطت على قدمي كبيرهم حتى لان فأمر بالقطار فتقهقر حتى وقف على الشيخ فإذا هو جالس لم يسلم، فلما سلم قام فركب، وما يبالي بانقطاعه في البادية، ولا بالموت الذي يحوم حوله، ما دام قائماً بين يدي رب الأرض والسموات، ومن بيده الموت والحياة.
لبث سبعين سنة يفيق إذا عسعس الليل، فيصلي ما شاء الله أن يصلي، فيشعر بلذة العبادة، ويحس حلاوة الإيمان، ويسمو بنفسه عن الدنيا ولذاذتها حتى يحقرها وتهون عليه، فيصبح وهو يطير بنفسه في سموات الجنان والناس يمشون في حضيض الأرض
ثم يمضي إلى الجامع الأموي فيصلي الصبح مع الجماعة، في مكانه الذي لم ينقطع عنه ثلاثة أرباع القرن، وربما ثبت عليه أكثر من ذلك، فقد جاوز رحمه الله التسعين، فإذا قضيت الصلاة عاد إلى غرفته، فلبث يقرأ ويقرئ إلى ما بعد العتمة، إلا أن يكون يوم الجمعة فيجلس للدرس العام يحدث الناس تحت قبة النسر من الظهر إلى العصر، لا يسكت ولا يتنحنح ولا يقف؛ يبدأ بحديث فيرويه مسنداً، ويستقري طرقه كلها، ويتحدث عن رواته، ثم يذكر شواهده من الكتاب والسنة، فلا يروي حديثاً إلا رفعه، ولا كلمة إلا عزاها، ثم يذكر ما أخذه منه الفقهاء من الأحكام ويوازن بينها، ويبسط الكلام فيما يتصل بذلك من
الفلسفة والتصوف والعلوم، وكان الشيخ في الفلسفة الإسلامية منقطع النظير
وطالما حضر هذا الدرس جلة علماء دمشق ومن يزورها من علماء الأقطار، فخرجوا معجبين مُكْبرين؛ وطالما حضره الأطباء والمحامون وأهل الفلسفة والطبيعة، فخرج كل وقد امتلأ وطابه من وسائل الفن الذي يشتغل به، أو العلم الذي انقطع إليه
وكان يمضي الدرسان والثلاثة ولم يتعد الشيخ شرح حديث واحد
ولم يكن يرد سائلاً، أو طالب علم؛ وكان يوليه ما شاء من وقته ووجهه؛ وكان إذا استفتى قال للسائل، أنظر كتاب كذا، وكتاب كذا؛ وربما دله على الصفحة التي يجد فيها المسألة، لا يحب أن يفتيه هو
وكان يصوم الدهر، فإذا كان المساء أكل ما قدم إليه، ولم يعرف عنه في سفر ولا حضر أنه اشتهى طعاماً أو كرهه إلا مرة كان في سفر، فقيل له: ما نطبخ؟ فقال: ما شئتم!
قالوا: عندنا بامياء وفول وعدس. . . .
قال: هل قلتم إن عنكم فولاً؟
ففهموا أنه يشتهيه، ولم يرو عنه في هذا الباب أكثر من هذا. ولم يكن يشتم رجلاً أو يغتابه، ولم يكن يدع أحداً يغتاب في مجلسه وكان غاية تأنيبه إذا غضب أن يقول:
- (يابا - وكانت تلك كلمته - لماذا أنتم هكذا؟)
تواضع لله، فأناله الله رفعة ما أنالها سلطاناً ولا ملكا، وانصرف عن الدنيا فأقبلت عليه الدنيا، ودر عليه المال فما مسه ولا مد إليه يداً، واعتزل الناس ورغب عن الجاه، فأقبل عليه الناس، ورغب فيه الجاه، فما غيره ولا أقام للجاه وزناً، وابتعد عن الحكام، فتزلف إليه الحكام، ووضعوا بين أيديه دنياهم فما حاد عن دينه ولا رزأهم دنيا، ولا كتمهم نصحاً. . .
عاش فكانت حياته أعظم حياة، ومات فكان موته أفخم موت. وكيف لا يكون فخما، وقد كان الشيخ دولة وحده، وقد كان تاريخاً، وقد كان مجموعة كاملة من الفضائل كلها، تأكل وتشرب وتمشي؟
رحمك الله يا أيها الإمام العالم العظيم، ورزق دمشق الصبر على فقدك، وعوض منك المسلمين خيراً. . . .
فقد كنت تدراً للديانة مشرقاً
…
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
علي الطنطاوي
الشعر الوطني في الأندلس
للأستاذ عبد الله كنون الحسني
كثر الشعر الوطني عند العرب في العصر الحديث كثرة عظيمة حتى طغى على غيره من الأغراض الشعرية، فأصبح لا يكاثره غرض آخر منها. وما ذلك إلا لأن البلاد العربية كلها قد مزق الاستعمار شملها، فأصبح أهلها خاضعين للنير الأجنبي يتشوقون ليوم الحرية تشوق الظمآن للماء البارد؛ فهم تارة يتغنون بالنصر الباهر الذي يكسبونه في موقعة ذلك اليوم، وتارة يستعرضون مواقف المجد والبطولة في تاريخهم الأدبي والحربي، فيثيرون بذلك شعور مواطنيهم للسعي إلى تقريب أمد ذلك اليوم الذي تشرق شمس الحرية فيه على ربوعهم فيعود إليها ما فقدته من العز والعظمة، وتارة ينعون على قومهم تخاذلهم وقعودهم عن حرب العدو المغير على أوطانهم، لافتين أنظارهم إلى ما يسومونهم من الخسف والعذاب، وما يبتزونه من أموالهم وخيرات بلادهم
وأخيراً، وعلى هذا المنوال، تكوَّن الشعر الوطني في العربية، وأصبح في المقام الأول من أغراضه الشعرية، فخلف بذلك المديح الذي كان يحتل هذا المقام من قبل
ونحن إذا رجعنا إلى ما قبل العصر الحديث من العصور المختلفة وقلبنا تطورات الشعر العربي في تلك العصور، لم نجد للشعر الوطني ذكراً ولا أثراً بين أقسام الشعر، ولم نعثر على ما يفيد أن هذه الظاهرة التي غلبت على الشعر العربي اليوم أمكنها في عصر من العصور أو طور من الأطوار أن تظهر، بَلْه أن تغلب على شعر شاعر من العرب أو من غير العرب فيمن نظم بالعربية، فتجرف غيرها من الظواهر وتكون هي المسيطرة على كثرة أشعار الشعراء كما هو الحال اليوم. ولذلك لما قال أبن الرومي أبياته المشهورة في هذا المعنى كانت عنقاءَ مُغرِب الشعر الوطني، فتداولتها الألسنة وأصبحت مثلاً يُضرب في طبيعة حب الناس لأوطانهم، وتلك الأبيات هي:
ولي وطن آليت ألا أبيعه
…
وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا
وحبب أوطانَ الرجال إليهمُ
…
مآرب قضَّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرتهمُ
…
عهود الصبا فيها، فجنوا لذالكا
ولا نعني بالشعر الوطني ما كان من قبيل العواطف المجردة عن المعاني المذكورة كهذا
الذي يكثر قوله في بلاد الغربة تشوقاً إلى معاهد الأحباب ومواطن الشباب، فإن هذا قد زخرت به العربية قديماً وحديثاً، ولم يخل عصر من أعصارها من لدن الجاهلية إلى الآن عن قوله والمكثرين منه. وما أشعار نجد والحجاز والعقيق ورامة وغيرها إلا بعض من كل، وقُل من جل، مما يتمثل فيه هذا اللون من الشعر العاطفي أحسن مثال. ولكن ما نعني هو الشعر الوطني بمعناه الشائع الذي يصطبغ بالفكرة السياسية التي ألمعنا إليها من قبل؛ وهذا هو الذي يصح القول فيه أنه وليد التجديد الأدبي في العصر الحديث، وأنه لم يكن له وجود في العصور المتقدمة التي ازدهرت فيها الآداب العربية سواء في شبه الجزيرة نفسها، أو فيما اصطنع لغتها من البلدان بعد إشراق نور الإسلام فيها - اللهم إلا هذا القطر الأندلسي الذي عقمت الأيام أن تلد مثله في رقيه وحضارته، فإنه لابد أن يستثنى من العموم
ذلك أن عرب الأندلس الذين تقدموا الزمن بكثير في النضوج العلمي لم يجز أن يتخلفوا عنه في الإحياء الأدبي، فطلعوا على العالم العربي بالتوشيح الذي لم يستطع التجديد العصري حتى الآن أن يأتي بما يشبهه من حيث التأثير البليغ في تحرير الشعر من قيود البحور والقافية الثقيلة، وقد حاول المشارقة أن يأتوا بشيء في هذا الصدد فاستظهروا بالدوبيت، والكان وكان، والقوما وغيرها، ولكنه كان شيئاً غريباً عن الذوق العربي غرابة هذه الكلمات في اللغة العربية، وكذلك قالوا الشعر الوطني وأكثروا منه وتفننوا فيه، فانفردوا به عن سائر الشعوب العربية، وسبقوا إليه الأجيال الحديثة، وكان إحدى مأثراتهم الجليلة في النهوض بالأدب العربي من وجه عام
ولقد كان باعثهم عليه هو نفس ما بعث إخوانهم اليوم من تكالب دول النصرانية عليهم وإذلالها لهم في عقر بلادهم، ولذلك لم يوجد في عهد الفتح وعهد الأمويين إذ أمر العرب مقبلٌ وشملهم جميع، وإنما وُجد بعد أن ضعف لسانهم ودالت دولتهم وصاروا يشهدون سقوط ممالكهم الواحدة بعد الأخرى، وحصون بلادهم في قبضة العدو فلا ترجع إليهم أبداً؛ وعرفوا الغاية التي إليها يسيرون، والمصير الذي منه يقتربون، فاشتد رعبهم وهلعت قلوبهم، فبكوا واشتكوا ونظموا الأشعار الوطنية في تحميس الناس للدفاع عن حقيقتهم والاستماتة في صون كيانهم، معرضين بما يؤول إليه أمرهم هناك من الذل والاستكانة وطمس معالم الحضارة والدين
ولقائل أن يقول إن مثل هذه الأحوال قد صار في بلاد المشرق ولا سيما في عهود الحروب الصليبية يوم سلبت من الإمبراطورية العربية أثمن درة في تاجها: مصر وبلاد الشام، ومع ذلك فلم تتفق قرائح الشعراء هناك بالشعر الوطني ولم يظهر منهم من جال في ذلك الميدان، فما السبب في ذلك؟ لعل للعجمة التي كانت قد بدأت تعقل اللسان العربي في ذلك العهد من جراء ظهور سلطان الأعجام في بلاد العرب وضعف الإنتاج الأدبي تبعاً لذلك، تأثيراً مباشراً في عدم ظهور هذا النوع من الشعر في بلاد الشرق وإن وجدت البواعث. على أن هذه الأحوال وإن لم تبعث على قول الشعر الوطني كانت السبب في ظهور فن من فنون الأدب لا يقل خطراً عن الشعر مطلقاً وهو فن القصص، فان من المعلوم أن كثيراً من هذه القصص الحماسية كعنترة وسيف بن ذي يزن وغيرها إنما وضعت في هذا العهد الصليبي، وفي مصر بالخصوص، لتضرب للناس أمثلة من الشجاعة العربية يخلق بهم أن يحتذوها في صد هجمات المغيرين من ذئاب الغرب على بلاد الإسلام، وهي وإن كانت عامية التأليف تدل على أن المشرق لم يقف واجماً بازاء تلك الحوادث الكبرى وإن لم يهتد إلى الشعر الوطني كما اهتدت إليه الأندلس!
ونقفك الآن على نماذج من الشعر الوطني الأندلسي لترى أنه لا يكاد يتميز عن الشعر العصري الوطني في وصف من الأوصاف. ولا ننقل لك شيئاً من قصيدة صالح بن شريف الرندي في رثاء الأندلس، وإنما نشير إليها فأنها شهيرة لا تخفى على تلاميذ المدارس الابتدائية الإسلامية!
فانظر إلى هذه القطعة للأديب أبي عبد الله الفازاني يصف فيها الفوضى الغاشية على بلاد الأندلس وتخاذل أهلها عن الدفاع عنها بل وإعانة الأعيان منهم على خرابها! ويستشف من الغيب المآل الذي تؤول إليه إن دامت على تلك الحال، فيسأل الله تعالى أن يلطف بعباده ويرحمهم:
الرُّوم تضربُ في البلادِ وتغنمُ
…
والجورُ يأخذُ ما بقى والمغزمُ
والمالُ يورد كله قشتالةً
…
والجند يسقط والرعيةُ تسْلَمُ
وذوو التعيش ليس فيهمُ مسلمٌ
…
إلا معين في الفساد مُسَلِّم
أسفي على تلك البلاد وأهلها
…
الله يلطفُ بالجميع ويرحم
وانظر إلى هذه القطعة أيضاً لأبي المطرف بن عميرة يقف فيها موقف اليائس البائس يمتنع حتى عن الاستسقاء لبلاده، ويتساءل في حزن وحقد كيف يمكن أن يدوم وداده لهذه الديار، التي ألقت بطاعتها للأغيار:
زدنا عن النائبين عن أوطانهم
…
وإن اشتركنا في الصبابة والجوى
أَنا وجدناهم قد استسقوا لها
…
من بعدما شطَّت بهم عنها النوى
ويصدنا عن ذاك في أوطننا
…
مع حبها، الشِّركُ الذي فيها ثوى
حسناء! طاعتها استقامت بعدنا
…
لعدونا، أفيستقيم لها الهوى؟
وله أيضاً يشير إلى انتقاله من بلد إلى بلد لاستيلاء العدو على البلاد واحدة فواحدة، من قصيدة طويلة:
كفى حزناً أنَّا كأَهلِ مُحَصَّبٍ
…
بكل طريق قد نفرنا وننفر
واستمع إلى هذين البيتين اللذين قيلا في أهل بلنسية، وما أكثر انطباقهما علينا اليوم:
لبس الحديدَ إلى الوغى ولبستمُ
…
حلل الحرير عليكمو ألوانا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها
…
لو لم يكن ببَصَرْنَهٍ ما كانا!. .
ولابن الأبار من قصيدة طويلة يخاطب بها السلطان أبا زكريا ابن أبي جعفر صاحب أفريقية:
أدرك بِخَيْلك خيلِ الله أندلسا
…
إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست
…
فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جَزراً
…
للحادثات وأمسى جدّها تعسا
في كل شارقة إلمام بارقة
…
يعود مأتمها عند العدا عُرُسا
يا للمساجد عادت للعدا بِيَعاً
…
وللنداء غدا أثناءها جرسا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها
…
مدارساً للمثاني أصبحت دُرُسا
وقصائد الاستنجاد بملوك العدوة كثيرة، يستدعي إيرادها أو الإشارة إليها فصولاً، ولكن لا بأس بإيراد شيء من قصيدة في هذا المعنى لإبراهيم بن سهل الإسرائيلي، وهي كافية للدلالة على قوة العاطفة الوطنية عند أهل الأندلس، لأن هذا الجنس من الناس ملموزٌ بضعف هذه العاطفة، فصدور هذه القصيدة عن فرد منه دليل على ما قلنا:
وِرْداً فمضونٌ نجاح المصدرِ
…
هي عزة الدنيا وفوز المحشر
يا معشر العرب الذين توارثوا
…
شيم الحميةِ كابراً عن أكبرَ
إن الإله قد اشترى أروحكم
…
بيعوا! ويهنيكم وفاء المشترى
أنتم أحقُّ بنصر دين نبيكم
…
وبكم تمهد في قديم الأعصر
أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا
…
ذاك البناء بكل لدن أسمر
لكم عزائم لو ركبتم بعضها
…
أغنتكم عن كل طرف مضمر
الكفر ممتد المطامع والهدى
…
متمسك بذناب عيش أغبر
والخيل تضجر في المرابط غيرة
…
ألاَّ تجوس حريم رهط الأصفر
كم نكروا من معلم، كم دمّروا
…
من معشر، كم غيروا من مشعر!
كم أبطلوا سنن النبي وعطلوا
…
من حيلة التوحيد صهوة منبر!
أين الحفائظ مالها لم تنبعث؟
…
أين العزائم مالها لا تنبرى؟
أيهز منكم فارس في كفه
…
سيفاً ودين محمد لم ينصر؟
ونختم هذه الكلمة بتنبيه قومنا إلى تاريخ هذه الفاجعة العظيمة فان فيها عبرة لمن يعتبر
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني
عمل عظيم
للأستاذ محمد بك كرد علي
لو كل بلد إسلامي قام بواجبه قيام المسلمين في مدينة بيروت ثغر الشام، لاضمحلت الأمية علة العلل في هذا المجتمع، ولزاد في بنيه عدد المتعلمين وأرباب الصنائع، وعلى تلك النسبة كانت تزيد الثروة والرخاء، ولنجا المسلمون من مشاكل كثيرة، وبرئوا مما يتهمهم به أعداؤهم من أن دينهم لا يفسح لهم مجالاُ للنور والثقافة
أسس المسلمون في بيروت في سنة 1296هـ جمعية دعوها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وعنيت مدة بتعليم النشء الجديد يومئذ ثم طرأت عليها طوارئ شلت حركتها، ومن أهمها أن الحكومة العثمانية ما كانت تحب استرسال المسلمين في سبل التعليم، على حين كانت تتغافل عن المسيحيين يتعلمون في مدارسهم الطائفية ومدارس المبشرين ما شاءوا وشاءت دول الاستعمار
ولما انتدبت فرنسا على الديار الشامية بعد الحرب العامة، كان أول ما فكر فيه المسلون إعادة جمعية المقاصد الخيرية الملغاة، خصوصاً وقد رأوا كلمة التبشير تقوى، فهبوا إلى التذرع لإحياء جمعيتهم في سنة 1338هـ وأخذوا يجمعون أموالاً، واستوهبوا أرضاً عظيمة من الأوقاف أقاموا عليها مخازن وحوانيت ومقاهي، فكان لهم منها باخرة ريع لا يقل عن عشرة آلاف ليرة عثمانية ذهباً في السنة يدخرون نحو ثلثها مالاً احتياطياً، ولا يفتأون كل عام يجمعون مبلغاً تنتظم به مالية جمعيتهم
وجعل أولئك العاملون هدفهم الأسمى إنشاء مدارس لتربية البنين والبنات، وتثقيفهم بالثقافة الحديثة التي تنطبق على التعاليم الإسلامية، وإعدادهم ليكونوا عاملين منورين أقوياء في عقيدتهم الدينية والقومية؛ وزادوا في مناهج البنات على مناهج البنين - والعلوم النظرية واحدة في جميع مدارسهم - دروساً عملية في تدبير المنزل، تتناول الطبخ، والخياطة على اختلاف أنواعها، والأشغال اليدوية، والرسم، والموسيقى، وتربية الأطفال
أصبح لهذه الجمعية في مدينة بيروت سبع مدارس للذكور والإناث، منها مدرستان ثانويتان، إحداهما للصبيان والثانية للفتيات، أطلق على كل واحدة منهما اسم (كلية). وقد نجح تلاميذها في السنة الغابرة نجاحاً باهراً، وكان فيهم ثلث من نجحوا في الجمهورية
اللبنانية في إحراز شهادة البكلوريا؛ هذا وبيروت مدينة المدارس، ومنها ما يرد عهد تأسسه إلى ستين أو سبعين سنة. وبلغ مجموع ما في مدارس البنين والبنات في بيروت في سنة 1934 - 3130 طالباً وطالبة؛ وللجمعية عناية فائقة بمدارس رياض الأطفال
ساهم المسلمون على اختلاف درجاتهم في الثروة في قيام هذه المدارس، يمدونها بما تصل إليه أيديهم من المال كل سنة، وكانت مدارسهم في هذه الأزمة الخانقة أقل دور العلم تأثراً بالحالة الاقتصادية والمالية، ذلك لأن مدارس الجمعية تدار بأيدٍ رشيدة، لا يسرف في مالها أيام الرخاء، ويراعى في الإنفاق العام الحاضر كما تراعى الأعوام المقبلة
ولما رأت الجمعية أن التبشير يسري بسرعة في القرى الإسلامية من عمل بيروت هبت لجنة من أعضائها وغيرهم بمعاونة الجمعية نفسها، وكونت لها رأس مال وبدأت بإنشاء المدارس في القرى في سنة 1340هـ فكان لها منها الآن ثنتان وأربعون مدرسة فيها ما يربو على الألفي طالب وطالبة يتلقون التعليم الابتدائي الصحيح على منهاج التعليم في الجمعية
ولم تكتف جمعية المقاصد بما أتت، بل عمرت لها في بيروت مستشفى ذا طبقتين يحتوي على اثنتين وثلاثين غرفة، منها ما هو بمساحة مائة وعشرين ذراعاً مربعاً، وجهزته بستة وسبعين سريراً، وبلغ ما أنفق على بنائه 2 ، 311 ، 159 غرشاً سورياً أو نحو أربعة آلاف ومائتي جنيه عثماني ذهباً، ونشطت المدارس الأهلية الأخرى وعاونتها، وتولت برجالها مراقبتها وإرشادها، ورممت بعض المساجد في الحاضرة والضاحية، ومنحت معاونات لمن يريد التخصص في مدارس الشرق أو مدارس الغرب، وعاونت حفظة القرآن وسهلت سبل إتقان حفظه، كما بسطت يد معونتها للمولعين بالفنون الجميلة إلى غير ذلك
هذه الأعمال الجليلة قامت بقروش قليلة جمعت من أهل البر والخير جمعها الغُيُر على أبناء دينهم، فتألف منها رأس مال لا يستهان به؛ وبهذه الصورة يكافح البيروتيون الأمية، ويرجعون إلى حظيرة الدين من كانوا على وشك أن ينسلخوا منه، وكل ذلك بمعاونة المستنيرين من المسلمين وفضل رئيس الجمعية عميد بيروت وعين أعيانها عمر بك الداعوق الذي كانت طريقته وطريقة أعوانه أن يعملوا ولا يقولون، ويبذلون مالهم ووقتهم ولا يمنون ولا يتبجحون
قرت العيون بهذا العمل الخطير الذي كان سداه الإخلاص، ولحمته حب الدين والمدينة، فدفعت جمعية المقاصد الخيرية أبناء أمتها خطوة إلى الأمام، وغدا الأمل بالمستقبل أعظم من الماضي، في محيط تنفق فيه مدارس التبشير للأميركان والفرنسيين وغيرهم عن سعة؛ وقل في الشرق الأدنى بلد ظهر فيه نشاط المبشرين ظهوره في هذه القطعة الصغيرة من الديار الشامية؛ وقل أن كتب لبلد قاوم المبشرين بمثل سلاحهم كمدينة بيروت. ونعود فنؤكد لو أن كل بلدة حذت حذو النابهين من أبناء بيروت لقضى مع الزمن على الأمية في المسلمين. وجوهر كل نهضة في عقول الرجال، ولا نجاح في الأعمال لغير المخلصين المثابرين
دمشق
محمد كرد علي
دولة المماليك في حكم التاريخ
للأستاذ ظافر الدجاني
لعل تاريخ الشرق الأدنى في عهد الحكومة الإسلامية أحفل التواريخ بما يملك على النفس جوانب الفكر والخيال، ويوحي إليها أبلغ ضروب الحكمة والموعظة، لأنه كان مسرحاً لظهور بعض الدويلات الإسلامية الغريبة في نشوئها ومظاهر حكمها ومبلغ تأثيرها في مجرى تاريخه العام ولعل أغرب هذه الدويلات، دولة المماليك في مصر، التي اختلست من الدهر ما يزيد على خمسين ومائتي سنة، كان المملوك فيها مالكاً والمغلوب غالباً، فكان يتخللها من المؤامرات والدس وأهوال الاستبداد ما لا نظير له في تاريخ المجتمع البشري. على أنها والحق يقال ليست أول محاولات هذه الطائفة البشرية لاغتصاب الحكم والاستبداد به والانتقام من الجنس الإنساني عامة لما ألحقه بها من ضروب الفظاعة والقساوة، فقد شهد تاريخ رومة الخالد، قبل ظهور النصرانية، كثيراُ من هذه المحاولات الجامحة التي باءت جميعها بالفشل والخذلان بعد أن روعت العالم وضربت له مثلاً صارماً فيما يستطيعه أبناء المماليك، بل أبناء كل طائفة مظلومة، في ميدان التمرد والانتقاض ومقايضة الجور والأذى الصاع منهما بصاعين. ولعل هذه الدولة كانت أكبر انتصار أحرزته هذه الطائفة، بل لعلها أروع مظهر لجموح أخلاقها، وتعدد الخوالج التي كانت تتجاذب نفوسها وتتنازعها إلى مسالك الخير والرجولة وجلائل الأعمال ومفاوز الشر والجريمة والآثام!
ففي الحق أن هذه الدولة لعبت دوراً خطيراً على مرسح الحياة السياسية العمرانية في الشرق الأدنى حتى ليعزى إليها أكبر الفضل في صد هجمة التتر المنبعثة من أعماق المشرق؛ قال ابن خلدون: (حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف، ولبست أثواب البلاء والعجز، ورميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسي الخلافة وطمسوا رونق البلاد، وأدالوا بالكفر عن الإيمان بما أخذ أهلها عند الاستغراق في التنعم والتشاغل في اللذات والاسترسال في الترف من تكاسل الهمم، والقعود عن المفاخرة، والانسلاخ من جلدة البأس وشعار الرجولة؛ فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بإحياء رمقه وتلافي شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها العزيزة المتوافرة أمراء حامية وأنصاراً متوافية يجلبون من دار الحرب
إلى دار الإسلام في حقارة الرق) فكانت تنقضي أيام هذه الطائفة في التنقل من ميدان إلى ميدان، ومن حصن إلى حصن، في مختلف أنحاء سوريا وفلسطين، وقد اندحر التتر في أكثر من واقعة واحدة؛ كواقعة (عين الجالوت) التي كان النصر فيها حليف المسلمين، فهلك كتبوغا زعيم التتر، ومزقت جموعه كل ممزق كما هلك خليفته أيضاً وجموعه من بعده، عند ما حاربهم الملك الظاهر بيبرس، وردهم على أعقابهم خاسرين متعثرين في أذيال الهزيمة، وكانت سوريا في خلال ذلك ميداناً لجهاد هؤلاء المماليك العنيف ضد الحملات الصليبية فامتلأت بجيوشهم وزهرة فرسانهم، وما زالوا يذرعون أرضها صعوداً وصدوداً، متكاتفين متكالبين حتى انتزعوا السلطة من أيدي الصليبيين، واستخلصوا منهم القلاع والحصون، فافتتح الملك الظاهر بيبرس حصن صعذ وسيس، وسيس هذه كانت كعبة المجاهدين من أبناء المماليك لأنها مدينة نصرانية، فكان أهلها يظاهرون الأرض على جيوش المسلمين
وكان العلويون والحشاشون، وهم من الباطنية، أصحاب سلطة ونفوذ، وكان قد دوخهم هولاكو في حملته المشهورة، ودمر حصونهم وقلاعهم فاستأصل أبناء المماليك شأفتهم، وحرروا سوريا من ربقة مظالمهم في عهد الملك الظاهر بيبرس المذكور. وكان الملك الظاهر بيبرس هذا قد استقدم ابن الخليفة الظاهر بأمر الله آخر خلفاء الدولة العباسية في بغداد، فأكرمه وقلده الخلافة ولقبه (المستنصر بالله)، فأصبحت القاهرة مركز الخلافة الإسلامية بعد أن كان مركزها بغداد. وبقيت هنالك حتى مقدم العثمانيين. ولكن الواقع أن سلطة هؤلاء الخلفاء كانت مقيدة لا تعدو أمور الدين والزعامة الدينية. وإنما أكد حاجة المماليك إلى هذه الخلافة الوهمية رغبتهم في وسم حكومتهم بطابع ديني شرعي حتى تنهض حجتهم ويستقيم أمرهم بين جماعات المسلمين
وأخيراً لا ينبغي أن ننسى أن هؤلاء المماليك قد خلفوا كثيراً من الآثار والأبنية التي تشهد لهم بالتقدم في فن العمارة وفي الري والعمران، فقد شيدوا المساجد والمدارس والقصور والمستشفيات، وعمروا القناطر والترع، وحفروا الخلجان، ووسعوا الأوقاف من كل ناحية. وكانوا يتبارون في ذلك حتى عمر القطر المصري والبلدان المجاورة التي خضعت لحكم المماليك بجليل الآثار. فعمر الملك الظاهر الحرم النبوي، وقبة الصخرة، وقناطر شبرامنت
بالجيزة، وقلعة دمشق، وعمر المدرسة بين القصرين بالقاهرة، وحفر خليج الإسكندرية، وبنى قرية الظاهرية. وشيد الملك الناصر القصر الكبير الأبلق، وعمر الديوان الكبير والجامع الكبير الذي بالقلعة، وعمر المجراة وأجراها من بحر النيل إلى القلعة، وحفر الخليج الناصري، وعمر قناطر أم دينار
على أنه مهما قيل في حسنات هؤلاء المماليك فثمت ما يقال في سيئاتهم وفيما خلفوه من آثار البطش والجور والإرهاق، لخبث سيرتهم وعظيم جورهم، وغلبة القسوة وشهوة الاستبداد على طبائعهم، أولئك الذين كانوا في الأمس عبيداً أرقاء! فكان السلطان منهم مستبداً في أمره لا وازع يكفه عن عمل الموبقات؛ وكانوا فوق ذلك لا يعرفون (مبدأ الوراثة) في الحكم، فكان القوي منهم ينتهز الفرص للتفرد بالحكم والاستبداد بالضعيف، فكان ذلك الوقت وقت تشاغل وفرص، بل وقت مؤامرات تحاك في الخفاء، فلا يسلم منها الشعب، ويصيبه من جرائها كثير من الجور والإرهاق. وكانت الضرائب غير مقيدة بقانون أو وازع ديني أو إنساني، وإنما كانت تتفاوت في الزيادة والنقصان حسب الظروف والأحوال ومشيئة السلطان
ولم تكن مصر مع ما ذكرنا بأسوأ حالاً من سورية وفلسطين، ولا سيما وأن الأخيرتين كانتا ميداناً للحروب والمناحرات. وهكذا ضج الناس وعم الفقر، وانتشر الجهل والبلاء. وكان المجد العربي والعزة العربية والخلق العربي قد أمحت جميعها من أذهان العامة، فأصبح الناس لا يبالون بمن يولونه قيادهم، ويسلمون له زمام أمورهم، وإنما يطلبون العدل والإنصاف!
وفي وسعنا المضي في هذا السبيل القاتم، ولكننا نخشى ألا يكون في ذاك فائدة بعد أن دللنا بالقليل على الكثير، وهذه كتب التاريخ حفلة بمظاهر الجور بل بمشاهد الفقر والذل التي سادت الشرق العربي في ظل حكم المماليك
يافه
ظافر الدجاني
أ. ع
من مشاهير الشرق
1 -
طائفة البهرا في الهند ومجالسهم في عدن
بقلم محمد نزيه
منذ عنيت الصحافة المصرية بأنباء الهند، وهي تذكر عن مكاتبيها في تلك البلاد النائية جماعة البهرا وشيخ البهرا بكثير من الإجلال والعناية، ولقد طالما رأيت مذ شهدت الشيخ ومسست حياة جماعته أيام رحلتي في الهند أنهما حقيقان بعدة فصول تجمع إلى طرافتها فائدة التعريف بجماعة من جماعات الإسلام لها خطرها في الهند، على الرغم من أنها قليلة العدد لا يكاد أفرادها يجاوزون الثلثمائة ألف هندي مسلم، إلا أن التماسهم أرقى وسائل التعاون وأجدى أسباب الارتباط قد أغناهم عما يراد بالكثرة من قوة وعتاد
والبهرا طائفة من طوائف الشيعة يطلق عليها في العربية اسم (الشيعة الداوودية) نسبة إلى رئيسها الأول، وقد كان باليمن ثم انتهى به العزم إلى الهند، فحط الرحال في صحبة من أتباعه بمدينة كجرات، على ساعات بالقطار من (بمبي)، منذ نيف ومائة سنة، وبمبي إذ ذاك في عالم الغيب
وإذا كانت جماعات الشيعة قد عرفت بأوضاعها الخاصة وتقاليدها المستقلة في الدين والاجتماع، فإن شيعة البهرا أو شيعة الداوودية قد عرفت في جماعات الشيعة نفسها بعقائد وتقاليد تدير حولها سياجاً يفصلها عن غيرها فصلاً تاماً؛ فهي تعتقد أن المهدي المنتظر سيكون من سلالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وتذهب إلى تخصيص فرع معين من فروع الدوحة النبوية، على أن المهدي سيكون من ثمره، أو على أن نبوة المهدي تكمن فيه، وهي إذ كانت لا تعرف موعد ظهور الرسول الجديد، لا تفتأ تنتظره دون تعجل ولا ملالة، وتتمثله في واحد من الأحياء الذين ينتظمهم هذا الفرع المعين، فإذا حان حينه فقد استخلف على رسالة المهدي وريثاً من أبنائه، وما تزال أمانة النبوة تتنقل في صندوقها المقفل من وريث إلى وريث، ومن عصر إلى عصر، حتى يتهيأ الزمن لاستقبال هذه النبوة الجديدة، وحتى يرى الله أن قد استفحل الضلال فلا مناص من إنقاذ الدنيا، فيأمر فإذا بصاحب الصندوق قد فتحه وأصاب فيه عدة النبوة وخاتمها، وإذ ذاك يظهر المهدي المنتظر. أما هذا الذي تكمن فيه نبوة المهدي، فيظل نكرة لا يعرف سره من الناس إلا الشيخ الأعلى لجماعة
البهرا، يجتمع به كل ليلة في خلوة مهيئة بالمسجد الخاص، وما يزال هذا أمره حتى يقبل اليوم الذي يسفر فيه الناس
وشيخ البهرا هو همزة الوصل بين المهدي المنتظر وأتباعه، وهو مستودع سره ومثار نجواه، يستشيره ويستلهمه ويخرج بتعاليمه على الناس؛ وأما الطائفة فتنشر الدعوة إلى المهدي المنتظر، وتنشرها بأن تزين مبادئها للناس، وما تزال ماضية في مهمتها حثيثة السير حيناً ووئيدته حيناُ حتى يدخل المسلمون جميعاً في طائفة البهرا، يقدسون مذهبها، ولا يحيدون عن عقائدها
وشيخ البهرا في العالم هو اليوم مولانا طاهر سيف الدين، وهو الذي يقيم على جماعاتها في كل بلد توجد بها شيخاً من قبله يأتمرون بأمره وينتهون بنواهيه - وقد رأيت أول من رأيت من أولئك الشيوخ، في عدن، بعد أن علمت أنه من أجل أهل الإقليم مقاماً، ومن أرفعهم شأناً، فإذا رجل يحف به الوقار، ويتهلل وجهه الذي استتر نصفه خلف لحيته البيضاء، بالبشاشة والأنس، حديد البصر، أخضر الأحداق، أبيض اللون، نحيل الجسم بعض النحول، يستر رأسه بعمامة بيضاء ويبتسم عن سنين أو ثلاث في فمه، فقد بلغ بالستين مبلغ الشيوخ - ولعل أبرز ما في الشيخ لحيته الطويلة ولسانه لعربي المبين: أما لحيته فكأنها قطن منقى، يتفرق على صدره خصلاً رقيقة منفوشة، إن تكلم اهتزت أطرافها، واتبعت في اهتزازها حركات فمه، كأن بين لسانه ولحيته صلة من فضل ومن وقار. وكأنما عاهد الشيخ نفسه على ألا ينطق بغير العربية الفصحى، فما سمعه الناس متكلماً إلا بها، وقد حاسب نفسه على الضمة والفتحة حساباً عسيراً
ولقد كنت في جملة من دعاهم الشيخ إلى مأدبة عشاء أقامها في دار البهرا بعدن، وهي من أفخم دور المدينة وأكثرها أناقة، تجمع بين منزل الشيخ والمسجد الخاص الذي لا يصلي فيه غير البهرا، ولا تصح صلواتهم في سواه. والشرفة الفسيحة التي يستقبل الشيخ فيها زواره، تحف بها حجرات كثيرة أعدت لشؤون الطائفة، وقد بنيت هذه الدار على نفقة (البهريين) المقيمين في عدن، وعددهم لا يجاوز الألف، كلهم ملتحون
كانت الشرفة الرحيبة التي هيئت ليستقبل الشيخ فيها ضيفه مفروشة بالحصير، وفي صدرها صفت الوسائد إلى الجدار، واتكأ على أوسطها صاحب الدار، ويطلق عليه في
أساليب (البهرا) اسم (الداعي) لأنه أحد هؤلاء الدعاة العديدين الذين يكل الشيخ الأكبر إلى نشاطهم البارع، وذكائهم الخلاب أمر الدعوة إلى اعتناق هذا المذهب من مذاهب الشيعة في جهات كثيرة من أنحاء العالم، فكان الرجل لا ينهض من مجلسه إلا ليستقبل المدعوين من غير جماعة (البهرا) بينما يقبل المدعوون من هذه الجماعة وفيهم من يدخلون في وجوه عدن وخير تجارها، فيقدمون على الشيخ وهو مستو في مجلسه، حتى إذا صار كل منهم قيد خطوة منه انحنى كانحناء المصلي، وكاد يلمس الأرض بيمينه، ثم رفعها إلى مفرقه، وتراجع إثر ذلك إلى مجلسه من المكان
وطفق الشيخ يتحدث إلى خاصة مدعويه وأقربهم إلى مجلسه، وهو لا يفتر عن رعاية المدعوين جميعاً، يقسم بينهم بشاشة محياه، ويلقي عليهم من نظرات عينيه أشعة تحمل في حرارتها معاني الشكر والترحيب والرعاية، وإنك لتنظر إلى هاتين العينين فتلمح في إشراقهما عواطف الحدب والرفق والإشفاق
اكتمل المدعوون عداً في أربعة صفوف طوال ثم دار اثنان أو ثلاثة من البهرا بأباريق الماء بين الصفوف يصبون منها على الأيدي، وفي إثرهم حملة المناشف، وفي دقائق معدودة غسلت الأيدي جميعاً، وتهيأ القوم لاستقبال الطعام. وما هي إلا برهة يسيرة حتى مد المتطوعون للعمل من أبناء الطائفة سُمطاً طويلة من قماش أبيض على أديم المكان، ثم صفوا فوقها أطباقاً رحيبة من الليف، وثبتوا على كل طبق قاعدة أسطوانية جوفاء ترفع أخونة الطعام
انتظم المدعوون حول الموائد، وكنت في مائدة الشيخ، فلم نلبث أن توسط خواننا إناء صغير من البلور فيه ملح مجروش يضرب إلى الاحمرار، ولقد ماثلت جميع الأخونة خواننا فيما عليه، ولم يعسر على أن أدرك أن لابد للتقاليد البهرية من يصيب فيما يحتوي عليه هذا الإناء، ولم أتبين أنه الملح، وحرك الفضول يدي فتناولت أصابعي حصوات منه، فلم تكد تبلغ فمي حتى أحسست كأنما مسني عقرب
وقال الشيخ في صوت جهير بعد البدء بسم الله الرحمن الرحيم، وهو يضع سبابة يمناه وإبهامها في الإناء:(ليكن الملح فاتحة طعامنا حتى يكون بيننا) فإذا الجمع كله يذوقه. . . وجيء بجفان الأرز فكانت تقلب في الخوان جفنة تلو جفنة حتى اكتظ على سعته، ثم
حملت صحاف الأطعمة إلى الشيخ، فكان يتناولها ويضعها بين يديه تحت المائدة، ثم يتولى سكب ما فيها على الأرز واحدة بعد واحدة، بين برهة وبرهة، وهو لا يفتأ يذكر الله ويذكر باسمه كلما فعل، فأما حرصه على أن يضع الطعام بيديه بين أيدي الطاعمين فلعل سببه أن أبناء طائفته يلتمسون في ذلك خيراً وبركة. . . بل لقد خيل إلي أنني أجد ما يلتمسون كلما رأيت الشيخ يخرج مما بينه وبين المائدة صحافاً من الطعام كان يشغلني ما أنا فيه، وربما شغل غيري عن رؤيته وهو يتناولها من الخدم المتطوعين. . . وكأنما كانت بسملته المرتفعة الرهيبة التي تصاحب يديه كلما ارتفعتا وبينهما لون من ألوان الطعام في طريقه إلى الأرز، توحي إلى الناس أنه يستنبته مما بينه وبين المائدة، وكان الطاعمون جميعاً يتناولون الأرز بأصابعهم إلا من طلب الملعقة من خاصة الضيوف
وما إن فرغنا من الطعام حتى عاد الناس إلى مجالسهم صفوفاً وطيف عليهم بأباريق الماء فغسلوا أيديهم، ثم بالمناشف فجففوها، ومرت دقائق معدودة، ثم أقبل الخدم يمرون بين الصفوف ينثرون عليها ماء الورد، ويبدون بعده زجاجات من عطر عربي فياح، فتمتد الأيدي، وتنال كل كف حظها منه، وفي إثر هذا وذاك يمضي حملة البخور في طريقهم وهم يديرون أوانيها حول الرؤوس ثم يدخلونها تحت الأثواب، فيتصاعد بخار المسك والعود من فتحاتها. . . وثم شيء اسمه (التمْبُل) وهو ورقة شجرة هندية تعرف بهذا الاسم، تطوى على مزيج من توابل مرة المذاق جميلة الرائحة، يقال إن بينها نوعاً مخدراً، يمر بهذا التمْبُل بين الصفوف رجال من البهرا، فيحبون كل مدعو بواحدة إلا من رفض، فما إن يطبق المرء عليها فكيه حتى تروعه منها مرارة بالغة، ولقد روعتني أكثر مما روعتني ملوحة الملح، فتلفت أبحث عن وسيلة للخلاص منها، ولما لم أجد حثثت أسناني على مضغها حتى أستطيع ازدرادها، وإن هي إلا دقيقة أو بعضها حتى خفت وطأتها على لساني، وما فتئت تخف حتى زالت، وهي تزدرد بعد ذلك فتتعطر بها روائح الأفواه، وتطيب أنفاسها. وغادرنا دار الشيخ وفي أثوابنا شذى المسك، والعود، وفي وجوهنا عبير ماء الورد، وفي أكفنا نفح الطيب، بل وفي أفواهنا أريج القرنفل. . . فكأنما لمسنا نسيماً رفيفاً من نسائم الجنة، يمضي في طريقه فيهمس في آذان أهل الأرض بما ينقله عن أهل السماء
ولقد كان لي مع الشيخ بعد ذلك في مجالس أخر حوار لعله لم يسغه، ولم يقبل على الاشتراك فيه راضياً؛ فقد كنت أتبين رغبته عنه في صعوبة خلال أدبه الجم. . . ولكن طالب العلم من السفر حريص على أن يطل بعقله على كل ما عسى أن تراه عيناه
القاهرة
محمد نزيه
من ذكريات مصر
ساعات مع الكاظمي
للأستاذ كمال إبراهيم
مات الكاظمي! فطويت بموته للعبقرية صفحة زاهرة، كانت سامية المثال، علوية الروح، عراقية النشأة؛ نمت نبتتها متسقة الأصول على دجلة المبارك، وعلت دوحتها مبسوطة الأفانين على ضفاف النيل السعيد؛ وما زالت تصوب إلى السماء صعداً حتى اجتاحها للمنية إعصار شديد، فجالدها أعواماً، وغالبها أياماً، حتى هوى بها من باسق الذرى إلى الأرض، حيث النهاية التي لا تراغم، والقدر غير المدفوع
مات الكاظمي! فسكت لسان عربي مبين، كان فخر لغة الضاد، وحادي الأبناء إلى المجد، وباعث العزائم في الخطوب السود؛ وكان لسان العروبة الناطق بحقها في حياتها، ومخذمها المذرب عند الخصام، فكم ذاد عن الحسب الكريم، ونافح عن الحق الهضيم، وتغنى بالمجد القديم، يوم لم نكن نجد في هذه الأمة إلا الخافر لذمتها، والمنتهك لحرمتها، والكافر بنعمتها، والمظاهر لأعدائها عليها
وا لهفتا على العروبة الهضيمة! لقد أخرس الردى شاعرها الصيداح، فاشتملت بالأسى أباطح الحجاز، وصوحت أزاهير اليمن الخصراء، وحالت ربى حائل والرياض، وجلل السواد سواد العراق، وفاضت عيون النيل، وجرت باكية معولة عيون الشام ومحاجر لبنان، ترجع أنغامها الحزينة بنات الهديل بين لفائف الأغصان. .
كان الشعر العربي قد بلغ من الإسفاف الحضيض، فعدت به عن مجاراة الحياة أثقال تلك الصناعة الممقوتة التي حملها إياه شعراء الفترة المظلمة، وضيقت عليه الخناق تلك القيود المحكمة من زخارف اللفظ وبهارج البديع وأفانين الصناعة، حتى أخرجته عن طبيعته، وزاغت به عن سمته، فجاء متكلفاً نابياُ، وغثاً بالياً وجامداً بغير روح، لولا ذماء ضعيف يشعر ببقية الحياة. كان الشعر كذلك، وكانت البيئة الأدبية في العراق متأثرة كل التأثر بشعر (الأخرس، وصالح التميمي، والشاوي، والحبوبي، وأضرابهم) حتى أتاح القدر للشعر من نفخ فيه من روحه؛ فأطلقه من عقاله، وأنهضه من كبوته، وسما به صعداً إلى السماء يرف بجناحين من نور، بعد أن كاد يحثى عليه التراب في حفير مظلم عميق، وكفى
الكاظمي سبقاً أنه بذ المتأخرين ومعظم المتقدمين في ارتجال الشعر من غير كلفة في أي غرض، تستقيد له شوارد القوافي بديهة حاضرة، وذاكرة نادرة، وحافظة وعيت من شعر الأولين عيونه، وما أجدر شاعرنا أن يكون لسان حاله ما قال (ابن هانئ الأندلسي) عن نفسه:
ما ضرني إن لم أجئ متقدماً
…
السبق يعرف آخر المضمار
وإذا اغتدى ربع البلاغة بلقعاُ
…
فلرب كنز في أساس جدار
وكما كان الكاظمي السابق في حلبة البيان، كان كذلك علو كعب في ميدان الجهاد والإصلاح. عرفت منه هذه النزعة وهو طرير لم يكتهل، وغرير لم يعجم حوادث الزمان، فكان صوته في الإصلاح يرن في مجتمعات بغداد، ولكنه كان قليل العائدة، حتى قدم الزوراء إذ ذاك رجل الإصلاح المشهور (الشيخ جمال الدين الأفغاني) فوجد شاعرنا فيه ضالته، فكان من أشياعه، فضاقت عليه البلاد بما رحبت، وقذفت به نوى شطون، شرق فيها وغرب، حتى احتضنته (مصر)؛ فألقى بها عصاه
وبوادي النيل الجميل حيث القوة تصارع الحق، والظلم يناهض العدل، والحرية تنتحب، يأبى الكاظمي إلا الصدع بالحق، فيقارع الاستعمار، ويتغنى بالحرية، ويشيد بمجد العرب الضائع، حافزاً للأبناء على استرداد ذلك المجد؛ وخلصت له في مصر صفوة ممتازة من أعلام البيان وقادة الفكر وزعماء الأمة، عرفوا له فضله، فصدقوه الولاء، وأحلوه السويداء. واستوثقت الصلات بينه وبين (الوفد المصري) فكانا لساناً من ألسنته مشرعاً لا ضد حزب من الأحزاب، ولكن ضد سياسة الاستعمار فحسب. . .
عرفت الشيخ الكاظمي أول هبوطي مصر (عام 1929) فكنت أسأل عنه من أتعرف إليهم، حتى أرشدني (محرر بالأهرام) إلى داره في (مصر الجديدة) فذهبت إليه في لمة من الإخوان، جئنا إليه من بلده، ومسقط رأسه. فما كان أشد ابتهاجه بنا، وطربه بمقدمنا، لقد استعاد بتلك الزيارة ذكريات ماضيه حلوة في العراق. فكان رحمه الله يحدثنا عن أيامه تلك بشوق وإقبال ليس فوقهما مزيد
وقد كانت داره مصاقبة لدار أستاذنا المرحوم (الشيخ عبد المطلب) وكانت بينهما صلة وثيقة، وصداقة قل أن تعرف بين الأصدقاء، فكنت أقصد (مصر الجديدة) في الغالب لزيارة
الشيخين وتجديد العهد بهما؛ فأقضي ساعات هي أمتع ما تكون للنفس، وأشهى ما يلذ للعقل، ويقرأ عليّ شاعرنا ما استجد له من شعر
ما أنس لا أنس تلك الأيام السعيدة التي كنت أخرج فيها مولياً وجهي شطر (هليوبوليس) يحدوني الشوق إلى تلك العبقرية الفياضة، والصفحة النادرة، والشخصية الفذة، فأجلس إلى الشاعر، أتلقف من حكمته، والتقط من درر فوائده وجواهر فرائده، وشاعرنا محدث كما هو شاعر، يهدر كالسيل إن أفاض في الحديث، يصله ببعضه، ويزن مجلسه بطرائف الأخبار، وروائع الحكم، وأوابد الملح والمفاكهات؛ فلا تكاد تسأم له لهجة، ولا تمل منه لغة. وكان رحمه الله حريصاً على أن يكشف لنا عن صفحات القضية العربية في عهدها الأخير ويجردها بغير طلاء، ويجلو لنا حقائق التاريخ ناصعة غير مموهة، ويبعث فينا من روحه لمواصلة العمل والجهاد. . .
لقد كان شاعرنا ذخراً لأمته، ولكنه كان مضاعاً تنكر له وطنه الأول كما تنكر له دهره، وظل وفياً لهذا الوطن يلاحي عنه بمهجته، على حين لم يجد منه طوال حياته غير الجفاء ونكران الجميل، ظل وفياً له حتى قضى نحبه. فلما قضى نحبه جئنا بعده نذرف الدمع عليه نادمين. . .
فاذهب كما ذهب الوفاء فإنه
…
عصفت به ريحاً صبا ودبور
(بغداد)
كمال إبراهيم
خريج دار العلوم
دراسات في الأدب الإنجليزي
المذهب الواقعي وفن الدرامة
بقلم محمد رشاد رشدي
في المسرح الأغريقي:
أول ما يتبادر إلى ذهن الباحث في هذا الموضوع أن ينقب عن الواقعية في عناصر الدرامة الثلاثة: في الموضوع والأشخاص والأسلوب. غير أن نسبة الواقعية في كل من هذه الأجزاء قد تختلف نظرياً - أي فيما يكتبه نقاد العصر عن الفن المسرحي - عما يباشر عملياً فوق مسرح العصر. ولذلك رأينا من الأوفق في معالجة هذا الموضوع أن نلقي نظرة سريعة على النقد المسرحي نتبعها بمطابقة هذا النقد للمسرح نفسه. والناقد الوحيد الذي نستطيع الاعتماد عليه في حديثنا عن المسرح الإغريقي هو أرسطو. .
كتب (أرسطو) في رسالته عن الشعر يتحدث عن الواقعية في الموضوع قال: (يتضح مما سبق أن مهمة الشاعر هي أن يصف - لا الشيء الذي حدث - بل الشيء الذي من المحتمل وقوعه - أي مال قد يكون ممكناً أو ضرورياً). وعلى هذا فوحدة الموضوع إنما تنشأ من مبادئ الواقعية الأساسية؛ فحوادث القصة يجب أن يتصل بعضها ببعض اتصالاً ممكناً أو ضرورياً تحتمه ظروف القصة نفسها وجوها الخاص بها. وكتب هذا الناقد عن أسلوب القصة المسرحية، قال:(يمكننا الآن أن نرى أن على الكاتب أن يخفي نفسه حتى يستطيع أن يتحدث طبيعياً لا صناعياً). ومن الجدير بالذكر هنا أن الأثر الذي يحدثه أسلوب (شكسبير) على المسرح لا يختلف واقعياً عن الأثر الذي يحدثه أسلوب (أوسكار وايلد) - أو (كونجريف) أو (شريدان) أو (برنادشو). أما عن شخصيات الدرامة فقد قال أرسطو: (من البدهي أن أشخاص القصة إما أن يكونوا أشخاصاً صالحين أو طالحين - ويتبع هذا أن بطل القصة إما أن يكون فوق مستوانا الخلقي والاجتماعي، أو تحت هذا المستوى - أو في نفس المستوى ومثلنا تماماً - غير أن من يتأمل الدراسة الإغريقية لا يجد فيها متسعاً لهذا الصنف الثالث من الشخصيات التي هي في مستوانا ومثلنا تماماً - على أن ذلك لا يمنع أن يكون للدرامة الإغريقية الحظ الأوفر من الواقعية، وان تكون بعيدة
بعداً شاسعاً عن كل ما هو رمزي أو مثالي. وقد يبدو هذا مخالفاً للمألوف - غريباً - غير أننا سنحاول بسطه وتفصيله
(فالتراجيدية) الإغريقية تعالج في مجموعها ماضي الإغريق واساطيرهم؛ وهي لذلك يمكن أن تعد في القصة التاريخية - ويتضح قولنا هذا أن استطعنا تصور جماعة المتفرجين في مسرح أثينا، عند ازدهار الدرامة وانتشارها. فقد كان هؤلاء القوم على قسط من البداوة يسمح لهم بان يعدوا كل ما نظمه الشعراء من قصص الآلهة وأنصاف الآلهة تاريخاً قومياً لبلدهم وشعبهم؛ وان ما نراه نحن اليوم غريباً خرافياً في شعر أولئك الشعراء مثل ظهور الآلهة على المسرح، أو انبعاث الأشباح من قبورها، لم يكن هكذا غريباً أو خرافياً عند الإغريق الأوائل، بل كانت حقيقة تروى وتاريخاً يقص - نسبة إلى دينهم وحياتهم وقوة خيالهم الطفل - أما أن الدرامة التاريخية هي اقرب أنواع هذا الفن إلى الواقع والحياة فهذا مما لا ريب فيه - وقد كتب الناقد الإنجليزي (كولريدج) يقول (لأجل أن تكون الدراسة حقيقة تاريخية يجب أن يعالج موضوعها تاريخ القوم الذين تمثل لهم وتقص عليهم، - ونحن إذا أنعمنا النظر قليلاً وجدنا أن من الصعب أو من المستحيل أن تنشأ لشعب عاطفة وطنية ما لم يكن هذا الشعب على علم - ولو خاطئاً - بتاريخه وتاريخ بله - ومن هذا ينتج أنه في الدرامة التاريخية تكون العلاقة بين حوادث القصة على المسرح وبين المتفرج على مقعده قوية متصلة أقوى منها في أي نوع آخر من الأدب المسرحي. ومن المشاهد أن الكاتب المسرحي يتوخى ذكر هزائم التاريخ وسقطات الأبطال وفشلهم، فان هو ذكرها فإنما يذكرها معكوسة فلا توحي إلى نفس المتفرج يائساً ولا خيبة، ولكن تشعلها حماسة ووطنية، وإنا لنذكر حظ الشاعر الأثيني البائس الذي بنى قصته على فشل (أثينا) البحري في حربها مع (إسبرطة)، فكانت النتيجة أن الزمه قومه بدفع قسط من المال كبير عقاباً له وتأديباً وظهاراً لاحتجاجهم وسخطهم. فخلال هذا الشعور الذي تتاجج به نفس المشاهد، وخلال إحساسه بوحدة بلده وقوميته واتصال ماضيه بحاضره تقوي حوادث القصة التاريخية على المسرح إحساسه هو بنفسه وكيانه كما يقوي وجوده هو حقيقة القصة وصحتها ولونها الواقعي. ومهما يكن في المسرحية التاريخية من شذوذ أو بعد عن الإمكانية فان لونها الواقعي يظل أقوى الألوان جميعاً مادام التاريخ يكسوها ويظللها بظله
غير أن هناك مأخذاً واحداً، هو أن أبطال تلك المسرحية هم دائماً أبداً فوق المستوى الاجتماعي العادي
الدرامة الرومانية:
لم تتقدم (التراجيدية) عند الرومان عما كانت عليه عند أسلافهم الإغريق - إن لم تكن قد انحطت وضعفت؛ أما في (الكوميدية) فقد كتب الناقد اللاتيني (دوناتس) ما يدهش له أقطاب المذهب الواقعي الحديث، قال:(الكوميدى هي مرآة الحياة البشرية) - وهو يذكر في موضع آخر أن (الكوميدية) تصف أشخاصاً معينين تتكون حياتهم من حوادث بسيطة عادية، في حين أن (التراجيدية) تختار لمسرحها قاعات الملوك الذين تتكون حياتهم من حوادث جسام ذات أثر خطير. وقد أصبحت مطابقة (الكوميدية) الرومانية للحياة والواقع أمراً مشهوراً عند كل من قرأها، فأسلوب كاتبيها (ترنس) و (بلوتس) هو أقرب أساليب الآداب القديمة إلى اللغة اليومية، كما أن جل أبطالها هم من الطبقة الوسطى، وحوادثها بسيطة عادية قد تقع كثيراً للقارئ أو للمشاهد في حياته الخاصة
إلى هذا الحد كانت (الكوميدية) الرومانية تطابق الواقع، غير أنا نشاهد فيها اتجاهاً غريباً يتنافى مع صبغتها الواقعية - وأعني به (تصنيف الشخصيات) - وينحو هذا الاتجاه نحو اختيار مثل خاص لكل شخصية من الشخصيات. فللابن مثل خاص معروف به لدى كل كتاب المسرح ورواده - كذلك لكل من العبد والأب والعاهر وكل شخصية يتكون منها المسرح مثل خاص؛ فلكل منهم أحاديث خاصة، وملابس خاصة، وصفات خاصة يعترف بها الجميع، حتى أن لونهم الإنساني وصبغتهم الواقعية تكاد تكون معدومة على المسرح
الدرامة الإنجليزية في عصر شكسبير:
ازدهرت الدرامة في هذا العصر بأنواعها الثلاثة: التاريخية والبيتية والشعرية أو الغرامية. أما النوع الأول فقد سبق أن تحدثنا عنه وسنتحدث الآن عن اللون الواقعي في كل من النوعين الآخرين
يحسب الكثير من الناس أن الشعر يتعارض مع الحياة والواقع، وأن القصة الشعرية يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن الحياة، وخالية كل الخلو من اللون الواقعي؛ غير أن هذا الظن
- في رأيي - خاطئ كل الخطأ
وإن أوضح تعريف للشعر أن نقول أنه ترتيب تجارب الشاعر في الحياة ترتيباً خيالياً عكس كل ترتيب لآخر فكري أو فلسفي. والشعر على العموم يأخذ شكلاً من تعبيرين: فهو إما أن يأخذ شكل الأسطورة، أو شكل المجاز والصورة، أو شكل الأسطورة والمجاز معاً. فشعر (ملتون) مثلاً يأخذ شكل الأسطورة، وشعر (دن) يأخذ شكل المجاز والصورة. أما في مسرحيات (شكسبير) العظمى فالشعر في القصة نفسها - في الموضوع - قبل أن يكون في الكلام والصورة - ونحن إن قصرنا الشعر على الكلام والألفاظ وجردنا منه موضوع القصة فاخترناه موضوعاً نثرياً مما قد يقع كل ساعة وكل يوم كان الأثر الذي لابد أن تحدثه القصة أثراً ضعيفاً بعيداً عن الواقع والحقيقة؛ وليس معنى الواقعية أن تكون القصة خالية من الشعر، فوجود الشعر لا يمنع وجود هذا اللون، بل هو يقوه ويزيده نضرة ووضوحاً؛ ويكفي أن يفكر المشاهد في نفسه أنه لو حدث له مثل ما يرى في القصة أمامه، ولو كانت له من الصفات مثل ما للبطل نفسه فسيحدث الحادث بنفس الطريقة، ومثلما حدث للبطل تماماً. . .
وقد يعترض البعض بأن اللغة الشعرية تجرد الكلام من لونه الواقعي - ولكن من منا قد دهش لروميو يتحدث شعراً، أو (لهاملت) يناجي نفسه ويحدثها حديثاً؛ لو أن (شكسبير) صاغه صياغة غير الشعر لجاء باهتاً، وضعيفاً، لا يؤدي معنى، ولا يحمل صورة. وإن من يقرأ قصة شكسبير (أنطونيو وكيلوباتره) ثم يقرأ بعدها قصة شو (قيصر وكليوباترة)، والأولى شعر والثانية نثر - ليرى إلى أي حد استطاع شكسبير أن يكسو القصة بشعره لوناً واقعياُ قوياً، في حين أنه لا يتمالك نفسه من الضحك أو ذوقه من النفور عندما يسمع (كليوباتره) تودع قيصر قائلة: ،
فلأجل أن يكون الشاعر واقعياً يجب أن يكون الشعر في عناصر قصته الثلاثة: في موضوعها وأبطالها وأسلوبها؛ وإن من يتأمل (شكسبير) من كل نواحيه يتضح له أن الشاعر الكبير كان إمام الواقعيين وسيدهم، فهو يسمعك شعراً ولكنه شعر يصف الحياة أدق وصف - حياة الجسم وحياة الروح - وأنت تحس وأنت تقرأه أن (ياجو) ما كان ليستطيع أن يقول غير ما قاله، أو يفعل (هملت) غير ما فعله
ولقد قرأت قصة (مكبث) مراراً، فكنت في كل مرة أقف مبهوتاً أمام هذه السطور يحادث بها (مكبث) نفسه بعد أن منته الساحرات أمانيهن الخلابة، فأصبح في حيرة من أمره وأضحى خياله ملتهباً، وعقله مشتتاً:
(المخاوف الحاضرة أقل عناء من التخيلات الواسعة البعيدة، وإن عقلي الذي لم يقتل بعد كل القتل - يعصف هكذا بكياني كله - حتى لقد قبر الفكر في الحلم والتخيل، ولم يبق كائناً أمامي غير كل ما هو ليس بكائن). أقول إن شاعراً غير (شكسبير) ما كان يستطيع أن يعطينا وصفاً أدق من هذا، وأكثر مطابقة للواقع والحقيقة، لو استطعنا تأمل حالة (مكبث) الذهنية وهو يلفظ تلك الكلمات - و (شكسبير) دائم الجهد في أن يصبغ قصصه باللون الواقعي، فتراه في أعظم قصصه (التراجيدية) يدخل فصولاً وأشخاصاً مضحكة خفيفة، تقرب ما بين جو القصة وبين جو الحياة العادية - والأثر الواقعي الذي ينشأ من هذا لا ينتج من أن المضحك والمبكي يسيران جنباً إلى جنب في حياتنا، بل لأن اللون الواقعي في الشخصية المضحكة أشد وأظهر منه في شخصيات (التراجيدية)
فالشخصية المضحكة هي في الغالب تحت مستوانا الاجتماعي، ولذلك نميل نحن إلى تصديق صحتها والاعتقاد بوجودها أكثر من ميلنا إلى الاعتقاد بوجود شخصية أو شخصيات فوق مستوانا؛ ومن هذا كان (شكسبير) يستخدم أهل الطبقة الدنيا ليصبغ الكثير من قصصه بلون واقعي؛ خذ مثلاً شخصيتي حافري القبور في (هملت)، والبستاني في (ريبشارد الثاني)، وجماعة الممثلين القرويين في (حلم منتصف ليلة صيف)، وظهور شخصية (فالستاف) الفكهة بعد كل من المعركتين في (هنري الرابع)، وظهور شخصية المهرج (النول) في منظر العاصفة في (الملك لير)؛ والأمثلة غير هذه كثيرة، كما أن (شكسبير) لا ينهي رواية بنهاية حوادث القصة الأساسية، بل يعرض عليك فصلاً، وربما عرض فصولاً لا قيمة لها في القصة، غير أنها تكسبها لوناً واقعياً يدلك على أن الحياة ما زالت كما هي بعد موت بطل الرواية أو بطلتها
محمد رشاد رشدي
بكالوريوس بامتياز في الأدب الإنجليزي
محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
قال: الحكاية يا صديقي هي كما يأتي: فأولاً إذا نظرت إلى الأرض من أعلى رايتها تشبه إحدى هذه الكور التي تكسوها أغشية من الجلد في اثنتي عشر قطعة، وهي مختلفة الألوان، فليس ما يصوره المصورون في هذه الدنيا من الألوان إلا مثال منها، أما هنالك فالأرض كلها مصبوغة بها، وهي اشد لمعاناً ونصاعة من ألواننا، فثم أرجواني عجيب الرونق، وثم ذهب يتألق، والأبيض في أرضها انصح من كل ثلج أو طباشير. تلك الأرض مصبوغة بهذه الألوان وغيرها، وهي اكثر عدداً وأروع جمالاً مما وقعت عليه عين الإنسان، والفجوات نفسها (التي كنت أتحدث عنها) يغمرها الهواء والماء، فتراها كالضوء الوامض بين سائر الألوان، ولها لون خاص بها يخلع على تباين ما في الأرض نوعا من التآلف، وكل شيء مما ينمو في هذه المنطقة الجميلة - أشجار وأزهار وفاكهة - اجمل - بنفس الدرجة - من إضرابه هنا؛ وثم تلال، صخورها اشد صقلاً، واكثر شفافية، واجمل لوناً - بنفس الدرجة - مما نغلو بقدره عندنا من زمرد وعقيق ويصب وسائر الجواهر التي أن هي إلا نثرات منها ضئيلة، فالأحجار كلها هنالك كأحجارنا الكريمة، بل أروع منها جمالاً؛ وعلة ذلك إنها نقية، وإنها لم تفسدها ولم تبرها العناصر الملحة الفاسدة، كما فعلت بأحجارنا الكريمة، تلك العناصر التي خثرت عندنا فتولد منها الدنس والمرض في التراب وفي الصخور على السواء، كما تولدا في الحيوان والنبات، تلك هي جواهر الأرض العليا، وفيها كذلك يسطع الذهب والفضة وما اليهما، وليست تلك الجواهر بخافية عن العين وهي كبيرة وكثيرة، وتوجد في مناطق الأرض جميعاً، فطوبى لمن يراها. ويعيش فوق الأرض ناس وحيوان، منهم من يستوطن إقليما داخلياً، ومنهم من يسكن حول الهواء، كما نسكن نحن حول البحر، ومنهم من يعيش في بلد يتاخم القارة، ويهب حوله الهواء. وجملة الأقول انهم يستخدمون الهواء كما نستخدم نحن الماء والبحر، وللأثير عندهم ما للهواء عندنا؛ هذا
وحرارة فصولهم هي بحيث لا يعرفون معها مرضاً، فيعمرون أطول بكثير مما نعمر نحن، ولهم بصر وسمع وشم، وسائر الحواس كلها، وهي ابعد كمالاً من حواسنا بنفس الدرجة التي بها الهواء أنقى من الماء، أو الأثير أصفى من الهواء. كذلك لهم معابد وأماكن مقدسة فيها يقيم الإلهة حقاً، فهم يسمعون أصواتهم ويتلقون إجاباتهم، وهو يشعرون بهم ويديرون بينهم وبين أنفسهم أطراف الحديث، وهم يرون الشمس والقمر والنجوم كما هي في حقيقة امرها، وعلى هذا النحو كل ما هم فيه من أسباب النعيم
تلك هي طبيعة الأرض كلها، وما حول الأرض من أشياء وفي الفجوات التي على ظهر الأرض أصقاع متباينة، بعضها اعمق وأوسع من فجوتنا التي نقيم فيها، وأخرى اعمق وأضيق فوهة منها، وبعضا أوسع واقل عمقاً، وتربطها جميعاً بعضها ببعض ثقوب عدة وممرات عريضة وضيقة في باطن الأرض. وهنالك يتدفق فيها ومنها - كما يتدفق في الأحواض - تيار عظيم من الماء، وثم مجار ضخمة لانهار تحت الأرض لا ينقطع جريانها، وينابيع حارة وباردة، ونار عظيمة، وانهار كبيرة من النار، ومجار من طين سائل، منها الرفيع والسميك (كأنهار الطين في صقلية وما يتبعها من مجاري الحمم) فتغمر المناطق التي تتدفق حولها. وهنالك في باطن الأرض نوع من الذبذبة يحرك هذا كله إلى أعلى والى اسفل، والحركة الآن في هذا الاتجاه: وبين الفجوات هوة هي أوسعها جميعا، تنفذ خلال الأرض كلها، وهي التي وصفها هوميروس بهذه الكلمات:
(أن أغور تحت الأرض جد سحيق)
وقد أطلق عليها في مواضع أخرى اسم جهنم، وكذلك فعل كثير غيره من الشعراء. وسبب الذبذبة هو تلك الأنهر التي تتدفق في هذه الهوة ومنها، ولكل منها طبيعة التربة التي تجري فيها، وإنما كانت تلك الأنهار دائمة التدفق دخولاً في الهوة وخروجاً منها لان عنصر الماء ليس له قاع ولا مستقر، وهو يعج ويهتز صعوداً وهبوطاً، وهكذا تفعل الريح والهواء المحيطان به، إذ هما يتبعان الماء في صعوده وهبوطه وفي اندفاعاته فوق الأرض هنا وهناك، مثل ذلك مثل الشهيق والزفير لا ينقطعان حين نتنفس الهواء، وباهتزاز الهواء تبعاً للماء دخولاً وخروجاً نشأت عنها العواصف المروعة القاصفة: فإذا ما تراجعت المياه مندفعة إلى الأجزاء السفلى من الأرض - كما تسمى - انسكبت في تلك المناطق خلال
الأرض وغمرتها، كما يحدث إذا تحركت مضخة الماء الحركة الثانية، فإذا ما خلفت تلك المناطق وراءها وكرت إلى هنا مندفعة، فأنها تملأ ما هنا من فجوات مرة أخرى، حتى إذا امتلأت هذه، فاضت تحت الأرض في قنوات لتلتمس سبيلها إلى أمكنتها العديدة؛ فتكون بذلك البحار والبحيرات والأنهار والينابيع، ومن ثم تفور في الأرض ثانية، فيدور بعضها دورة طويلة في أراض فسيحة، ويذهب بعضها إلى أمكنة قليلة وإلى المواضع القريبة، ثم تهبط مرة أخرى إلى جهنم، فيبلغ بعضها حداً دون ما كان ارتفع إليه بمقدار كبير، ولا يهبط بعضها الأخر دون ذلك الحد هبوطاً كثيراً، لكنها جميعاً تكون أوطأ من نقطة الانبثاق إلى حد ما، ثم ينهمر بعضها ثانياً في الجانب المقابل، وينهمر بعضها الأخر في الجانب نفسه، ويدور بعضه حول الأرض في ثنية واحدة أو في عدة ثنايا تشبه حنايا الثعبان، وتنزل ما استطاعت النزول، ولكنها دائماً تعود فتصب في البحيرة، إما الأنهار التي على كلا الجانبين فلا تستطيع النزول إلى ابعد من المركز، لان في الجانب المقابل لهذه الأنهار هاوية
(يتبع)
زكي نجيب محمود
على دار النيابة
للأستاذ فخري أبو السعود
يا دارُ قد عبثتْ بكِ الأقدارُ
…
وبغى عليك المعشرَ الأشرار
عُطِّلْتِ في رَيْع الشباب وصُدَّ عن
…
ناديك ظلماً رهطك الأبرار
وخَلَوْتِ حتى صرتِ ربعاً موحشاً
…
يُشجي النفوسَ حِيَالة التذكار
لم يبقَ منكِ - وَلمْ يَطُلْ بِكِ عَهْدُنا -
…
يا دارُ إلاَّ الرَّسْمُ والإخبار
غاضتْ بشاشَةُ صفحتَيكِ وإن تكُنْ
…
حفَّتْ بكِ الأغصانُ والأزهار
وعَلَتْ لِوَاَءكَ ذلةُ وكآبة
…
ولغَيْرِهِ التبجيلُ والإكبار
مهجورة في مواطنٍ عَمَرتْ به
…
للظالمين الآثمين ديار
وُئِدَتْ بِكِ الآمالُ في إبَّانها
…
وخبا ضياءٌ للهُدى ومَنَار
ما كان يبَغيكِ اللئَامُ بِريبةٍ
…
لو صَدَّ عنكِ الجحفل الجرَّار
للهِ رهطُ فيكِ أمْسِ تَجَمعَّوا
…
تَرْضى الكنانُة سَعْيَهم، أَخْيارُ
من كلِّ عال النفس أرْوَعَ مالَهُ
…
في الدَّهر إلاَّ مَجْدَ مِصْرَ شِعَارُ
لا يَطَّبيهِ زَيْفُ جاهٍ كاذبٍ
…
كلا ولا يغتَّرُّهُ الدينار
خُلصَاءُ مِصْرَ هُمُ وَصَفْوَةُ آلها
…
والأوفياءُ لِعهدِها الأحرار
فَخَرتْ بِهِمْ مصرٌ وعَزَّتْ في الورى
…
وبمثلهم تتفاخر الأقطار
رهطٌ من الصِّيِد الكرام إمامهم
…
سعدُ الرئيسُ القائِدْ المغوار
كم رَنَّ في ناديكِ عالي صوته
…
بالحقِّ يَستخِذى له الفُجَّار
ما كان أفْخَمَ ذاك مظهَر سُؤْدُدٍ
…
لَوْ دَامَ منه سُؤْدٌدٌ وفخار
غيظَ العداةُ له وكادوا كيدهم
…
حتى عَلَاكِ الوهن والإِقْفَار
سَدُّوا الطريق إليك أو بعثوا بمن
…
لا تترضي مصرٌ ولا تختار
يا دارُ أنت رجاءُ مصرَ وفي سوى
…
ناديكِ ليستْ تُبْلَغُ الأوْطار
لن يستقيم لآل مصرَ بناؤُهم
…
يوماً ورُكنُكِ بينهم مُنْهار
مادام ربعُك موحشاً قفراً فلن
…
يَلْتاَمَ شَمْلٌ أو يعَّز ذمار
يَبقى بغيركِ أَمْرُهم فوضى به
…
يلهو اللئاَمُ ويعبث الأغرار
لو يعلمون سَعَوْا إليكِ ومَّسحُوا
…
إما سَعَى للكعبة الزُّوَّار
حتى يعودَ الحقُّ فيكِ لِحِضْنِهِ
…
وَيَعِزَّ فيكِ ذمارُهم يا دار
فخري أبو السعود
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
13 -
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فرديريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
ونظرة واحدة إلى المواد التي شاء أن يلم بها ترينا ما بدل صاحبها من قلبه وعقله في التحليل والاستقراء، معالجاً الأدب اليوناني وتاريخ اليونانية القديمة، والفصاحة اليونانية وتاريخ الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون. وبعض نظرات عميقة ينفذ بها إلى بعض فلاسفة أو شعراء. وقد قدر بنفسه أنه منجز خلال سبعة أعوام أو ثمانية درس كل ما يتعلق ببراعة اليونان. واقدم على المفادة بعشر سنوات من عمره ليكمل درس المسألة اليونانية من جميع وجوهها، ولكن - ويا للأسف - ظلت هذه الأفكار صوراً مقتضبة ومقاطيع صغيرة غير كاملة. لان صحته المختلة حالت بينه وبين تقديم ما ينبغي له لمثل هذا الامر، فانثنى عن عمله هذا، ولكن الصور التي تركها تكاد لا تخفى عنا الفكرة العامة التي أراد نيتشه أن يصورها وينشرها
يعتقد نيتشه بما اعتقد به معلمه (شوبنهاور) بان جوهر الوجود هو الإرادة، وهذه الإرادة واحدة عند كل الكائنات، وهي تتجلى بثباتها وقوتها في جثمان الخليفة؛ على أن هذه الإرادة هي شقية تفتقر إلى الرحمة لأنها تثابر على الجهاد والمقاومة في هذا الوجود، وهي موقنة عالمة أن نتيجة المعركة عليها لا لها. (وهل الحياة إلا أن تريد شيئاً بدون سبب، وان تتألم دائماً، ثم لا ينتهي الألم إلا بالموت. . . وهكذا تقابل الحياة الأحياء حتى يتفطر الكون ويعمر فساده). أن الوجود في نظر العقل غير كامل، لان نواقصه كثيرة، وعنصر الألم فيه غالب على السعادة والراحة، وبهذا يقضى على العقل أن يطوي الإرادة على نفسها ويسحقها من وجوده، وإذا أنعدمت الإرادة أنعدم الوجود نفسه، لان الوجود ما هو إلا الإرادة الفعالة، ولكن نيتشه لا يذهب إلى هذه النتيجة التي أدركها (شوبن هاور). فالوجود الذي لا يكمل في نظر العقل - عند (شوبنهاور) - فانه يكمل كأثر فني يحمل إلى صاحبه الغبطة الفنية. وفي مثل هذا الافتراض الذي يفترضه نيتشه يرى من واجب كل إنسان أن يستنفد
وسعه ويبذل جهده في امتلاك نصيبه من هذا الجمال، باحتوائه على ما في نفسه من معنى الجمال، وبتأمله للوجود ولنفسه بعين الجمال
أننا في ساعة الإبداع الفني نشعر بغبطة لا تحد ولا تحس إذ هي غبطة المبدع. وإذا كان الإنسان في هذه الحياة فرداً قائماً بذاته، يحيا في عالم المادة، فهو فنان بطبيعة خياله المبدع الوثاب. يستطيع أن يبدع إبداع من يخلق ويصور - أن كان فناناً مبدعاً، ويقدر أن يكون مبدعاً في تفكيره في الأثر الفني الذي يبعث في نفسه خياله الباطني، لأنه يشاطر المبدع فنه ويتحد معه في تحليقه. وهو في كلتا الحالتين متخيل صوراً وألوانا جديدة تبعث فيه الغبطة الفنية، ولا يضر هذه الصور أن تكون أخيلة أو أحلاماً، لان أجزاءها مقتبسة من الوجود، ولا ينبغي لهذه الصور أن تكون صوراً ضاحكة تملأ الجو افراحاً، فقد تكون صوراً تملأ الأفئدة ذعراً والنفوس شقاء، وتكون بعد ذلك كله جميلة. . .
هذه الخاصة العاملة على إبداع الصور والأوهام، وتغليب الناحية الخيالية على الناحية الحقيقية يدعوها نيتشه (الخاصة الأبولونية: نسبة إلى (أبولون)، والفن الأبولوني عنده هو النحت والتصوير والشعر القصصي. أن الرجل الأبولوني يستنقذ نفسه من التشاؤم باستسلامه للجمال. يقول للحياة: أنا أريدك، لأن صورتك جميلة، يجدر بها أن تكون مادة للحلم والخيال. . .
ولكن الإنسان ليس بكائن يمكن تحديده بالذاتية، أو بالانفصال، فهو كائن يشعر بنفسه كإرادة متفوقة، ويحس أنه قطعة من هذه الإرادة المتوزعة في الوجود كله، ويدرك أنه متحد مع كل ما يحيا وما يتألم، تام الاتحاد مع الوجود. والإنسان - في حالة ذهول أو سكر ناشئ عن مادة مخدرة، أو إزاء حوادث طبيعية كعودة الربيع - يشعر بان هذا الحاجز الذاتي الذي يفصله عن الوجود قد وهى وزال، ويجد نفسه متحدة مع الطبيعة كلها، وهذا الطور ما يدعوه نيتشه (الطور الديونيزوسي)، نسبة إلى الإلهة (ديونيزوس) ولغة الرجل الديونيزوسي هي الموسيقى التي يعتبرها شوبنهاور لغة الإرادة الخالدة بل صورة الرغبة الدائمة المستترة في باطن الوجود، والإنسان - في هذا الطور - يحس بالألم الشامل والوهم الباطل وشقاء الفردية، فكاد يجنح إلى التشاؤم، ولكنه يهتز قليلاً ويشعر بخلوده ويدرك أن إرادته المفصولة إنما هي جزء من إرادة الوجود، فتراه حيال كل مظهر من
مظاهر الفناء، أو مصرع بطل من الأبطال، تراه يشعر بان حياة الإرادة الباقية لم تطفأ بموت البطل. إن الرجل الديونونيزوسي ينقذ نفسه من التشاؤم لأنه يبصر خلود الإرادة، والحادثات تمر والتقلبات تستمر؛ هو يقول للحياة: أنا أريدك! لأنك أنت الحياة الخالدة
وبهذين المذهبين يرى نيتشه أن اليونان قد قهروا التشاؤم، وجعلوا الحياة جميلة زاهية؛ ويرى أن التفاؤل اليوناني لم يكن وليد الخفة والعبث، أو تجاهل لما يغمر الوجود من شقاء والم، ولكنه تفاؤل تولد من مثل أعلى وغاية أسمى؛ والمؤرخ الذي يستقرأ هذه التأثيرات في مطلع تاريخهم يتبين له أن القوم عرفوا الألم كما عرفناه؛ وتذوقوا الشقاء كما تذوقناه
سأل ملك (ميدا) الفيلسوف (سيلين) ما عساك تجد خير شيء للإنسان؟ فأجاب الفيلسوف: (يا ذرية التعس والألم، وأبناء المصادفات والمتاعب! لماذا تنقمون علي إذا جئتكم بما لا ترتاح له اذانكم؟ إن الخير الذي لا خير بعده هو إلا تكون - أيها الإنسان - مولوداً، وإلا تكون موجوداً، وإلا تصير شيئاً؛ والخير العاجل لك إن تلقى مصرعك الآن!) فهذا الألم المنبعث من أعماق الروح الشاعرة بالأوجاع والشقاء الغامر الأرض، هو الذي أهاب باليونان ودعاهم إلى أن يكملوا معنى الحياة الناقصة بخلقهم آلهة هي آلهة جبال (أولمباوس)، هذه الإلهة هي نتيجة إبداع الروح (الأبولونية) وانتصارها. أرادوا أن يستنقذوا أرواحهم من حقيقة الوجود المروعة فعمدوا إلى خلق شعب من الإلهة وجملة أوهام طبقوها على الحياة التي يرونها صالحة للظهور؛ وهم مؤمنون بأن هذه الإلهة تعمل معهم على مجابهة التشاؤم. وهكذا لبست الحياة عندهم لباساً جديداً، وظهرت ظهوراً جديداً، وغدت جميلة في عيونهم لان إلهة جميلة تتصرف بها وتقبل بأقدارها؛ وهوميروس هو المثل الأعلى للروح الأبوبونية؛ ومقاطيعه وقصائده هي نشيد انتصار الحضارة اليونانية على سيئات الأجيال الغابرة، وهي التي خلقت هذه الروح التي تغلب اليونان بأوهامها وأخيلتها على كآبة الحياة الحقيقية وقبحها. وإزاء هذه البراعة الأبولونية نشأت البراعة (الديونيزوسية) أو براعة المأساة.
(يتبع)
خليل هنداوي
القصص
من أساطير الإغريق
نهاية هرقل
للأستاذ دريني خشبة
12 -
رحلة هرقل إلى الدار الآخرة
لم تكن محفوفة بالمكاره هذه الرحلة إلى الدار الآخرة؛ فقد سلك هرقل سبلاً من قبل كان الموت يجثم له في كل خطوة فوقها، وكانت المنايا تتربص به، ثم تفر منه أخر الامر، كأنما كان هو موتاً للموت، ومنية للمنية، وفناء للفناء
اسقط في يد حيرا حين عاد هرقل بتفاحات هسبريا، واستولى عليها الجزع حين رأت إلى التنين لادون مضرجاً بدمه، فوسوست في صدر يوريذوس أن يأمر البطل فيحضر له سير بيروس من الدار الآخرة!!
وسير بيرسون هو ذلك الكلب الهائل ذو الرؤوس الثلاثة، الذي رأيناه يعدو في اثر بلوتو - إله الموتى - حينما زار هذه الدار الأولى ليخطف برسوفنيه، وهو أبدا يربض عند قدمي سيده الجالس فوق عرش هيدز، يقلب في غيهب السفل أعينه الستة، كأنها انجم تحترق في فحمه ليل بهيم، وهو أيضاً أداة تعذيب في دار الأبدية، ينشب أظفاره في أرواح المجرمين، ولا يفتأ يكرع من دمائهم حتى يروى!
وكانت الحرية تشيع بالآمال في قلب هرقل، وكان هو قد برم بهذا الرق الأسود الذي كتبته عليه السماء؛ فانطلق يعدو إلى دار الموتى، وبين يديه طائفة من الآلهة تهديه وترشده؛ حتى إذا كان قاب قوسين من السدة القاتمة الدجوجية، ووجد سير بيرسو مقعياً يغط في نوم عميق، وإله الموتى مستلقياً يقلب في حضنه القوي برسفونيه الجميلة، انقض على الكلب فخنقه حتى لا يعوي فتعاويه كلاب الجحيم كلها وتكون هنالك الطامة. . .! وانتفتل من دار الظلمات وفي نفسه من الرحمة لهذه الأرواح الهائمة ما أسال دموع الحنان من عينيه الحزينتين!
وانخلع قلب يوريذوس حين لمح الكلب الهائل!
لقد كانت الظلماء تتدجى في أشداقه فتكسف الشمس الوضاءة، وترد نور النهار المتلألئ ديجورا يلج في ديجور!!
وكان الزبد ينتثر من أفواهه كأنه ندف يساقط من علٍ في ليل عاصف!
وكان ذيله الطويل الضخم يتلوى ويتثنى كأنه ذنب هيدرا أو ذيل لادون!
وكان يعوي وينبح فيقلقل الجبال المجاورة، ويزلزل قصور أرجوس!
وانظر إلى الملك الجبان!
لقد قفز من عرشه مما ألم به من الهلع، وانطلق إلى مخزن الغلال المجاور فاختبأ في خابية عظيمة أغلقها على نفسه حتى كاد يختنق، والى لا يخرج حتى يعود هرقل بسير بيروس إلى هيدز!
وهكذا أصبح هرقل حراً، وألقيت عن كاهله هذه الربقة التي أذلته طويلاً، وتلفت حوله فوجد الحياة تتبرج كأنها غانية، ووجد كل شيء بساماً ضاحكاً يدعوه إلى اللهو والمرح، والأخذ بنصيب مما تفيض به هذه العاجلة من مباهج ومغريات
وذهب في رهط من أصدقائه والمعجبين به من الإلهة إلى الأولمب ليلقى أباه وليقدم له طاعته، وليرى هل يتوب عليه من غضب لا يستحق منه كثيراً ولا قليلاً. . .
ولقيه أرباب الأولمب هاشين باشين، واخذوا يتندرون بمجازفاته العجيبة التي انتصر فيها على سبع نيميا والأفعوان هيدرا ومحاربات الأمازون. . . . .
واغرقوا في الضحك حين ذكر أطلس وما كان من أمر الحيوية!!. . . . واقترح هرمز على الإلهة أن يصارعوا هرقل ويلاكموه، ويباروه في العدو والسباحة والعاب القوى، لتتم بذلك بهجة لقائه، وليعبروا عما يكنونه له من حب، ويضمرون من إعجاب. فأقيم ملعب الأولمب الفخم، وشيدت على جوانبه المدرجات العجيبة التي تتسع لألف ألف من الإلهة وأنصاف الإلهة وكبار المدعوين من عباد برومثيوس
وتم مهرجان الألعاب، وحاز هرقل قصب السبق في اكثر المباريات؛ وكان هذا هو الأولمبياد الأول الذي اخذ اليونان يحتفلون بمثله كل خمس سنوات
وتتابعت السنون. . .
ومر هرقل بقوم يبكون؛ وقيل له أن أدميتوس ملك تساليا مرض، فتمنى على الإلهة أن
تمنحه الخلود في هذه الدار الدنيا، فأجيب إلى ما تمنى، بشرط أن يحل محله أحد أهل بيته إذا حضره الموت، وهنا تقدمت زوجه المخلصة ألسستيس فضحت بنفسها كي ينجو بعلها من الموت، وليخلد ما شاء له الخلود. وماتت الزوج الوفية فداء للملك. وينظر أرميتوس إلى ملكه الشاسع فيراه بغيضاً لا خير فيه؛ ويكون في حاشيته فيشعر بوحشة وانقباض كأنه يعيش في صحراء؛ ويقدم إليه الطعام فلا يكاد يسيغه؛ وترقص القيان بين يديه فيثرن في نفسه الاشمئزاز كأنهن جنة تدمدم في ظلام غابة. . .
ويبغض الدنيا. . .
ويود لو كانت زوجه الجميلة المخلصة إلى جانبه لحظة واحدة وتتلاشى الحياة بكل من فيها. .!!
لذلك يبكي الملك، ويبكي حوله شعبه الأمين!
ويذكر هرقل أنه وحده يستطيع أن ينفذ إلى هيدز - دار الموتى - فيستنقذ ألسستيس من براثن الفناء، ويردها معززة مكرمة إلى زوجها المسكين فيهدأ قلبه، ويرقأ دمعه، وتستقر نفسه، ويفيء إلى أمر هذا الشعب الذي تكبكب حوله يعول وينتحب. . .
ونفذ البطل إلى ظلمات الدار الآخرة، وسأل الأرواح الهائمة فدلته على منامة ألسستيس؛ فتغفل حارسها الجبار وخنقه، واختطف الفتاة الناعسة وفر بها دون أن تشعر به زبانية بلوتو
وعادت الطمأنينة إلى قلب الملك، ورفرف السلام على المملكة
هرقل وأومفاليه
وذهب هرقل يذرع الأرض، واشترك في حملة الأرجونوت ضد السنتور، وأنضم إلى الإغريق في حصارهم الأول لطروادة
ولقي رجلاً ذا خيلاء وكبر فقتله ظالماً، وكان زيوس ينظر من علياء الأولمب، فعبث وبسر، وقضى أن يظل هرقل في خدمة أومفاليه ملكة ليديا بضع سنين
وتجهم هرقل، ولكنه لم يكد يبدأ خدماته التافهة للملكة، حتى راعه جمالها، واستهوته مفاتنها، وأحس للمرة الأولى في حياته المشحونة بالمخاطر أن قبساً يتأجج في قلبه يوشك أن يجعله ضارماً
وحلا في فمه ما مر من الذل، وطاب ما كره من العبودية، وود لو قضى الحياة في ظلال هذا الحب الأول مغموراً برضى الملكة، سعيداً بما أفاء عليه جمالها من هناء ونعيم وبال. ولكن الإلهة لم تقر بهذه السعادة فأرسلت بطلها لمآرب أخرى
زواج هرقل
وطوف هرقل في أقصى الأرض حتى انتهى إلى كاليدون، مملكة أونيوس، ولقي ابنته الناهد الهيفاء تجمع الزهور في خميلة غناء. وكان قلبه قد نهل من خمرة الحب، وكانت عيناه قد ثقفتا نظرات الغزل، وكان لسانه قد انحلت عقدته عن وحي الهوى، فانطلق يلاعب الفتاة ويداعبها، وينمق لها من الورد والرياحين باقات تتكلم بالشذى، وتهتف بالخضرة والحمرة، وتصافح الروح بالعبير الفياح
وأنست ابنته الملك بهرقل واطمأنت إليه، وبثها وبثته، وتشاكيا ما شاء لهما الغرام الروي، والحب الفتي، والدمع المسكوب!
وعلم منها أن أخيلوس، أحد إلهة الأنهار، قد خطبها إلى والدها، وان الملك قد أجابه إلى ما أراد:
(فهل اسعد بان تزيح هذا الكابوس عن قلبي؛)
(وتقف حائلاً بيني وبين الشقاء الذي يتربص بي؛)
(فنكون اهنأ زوجين ينعمان بلذة الحب، ويرفلان)
(في برد السعادة، ويتغنيان مع الطير الحان الهوى)
(والحياة!!. . . . . . . . . . . . . . . . . .)
هكذا بكت ديانيرا إلى هرقل، فهاجت في قلبه نخوة البطولة ونحيزة المغامرة، وأطلقت في كل عظلة من جسمه المكتنز كهرباء الحماسة والاستبسال:
(قري عيناً أيتها الحبيبة، فليس ايسر)
(على هرقل من حرب الإلهة. لقد صرعتهم)
(جميعاً في حفل الأولمب؛ وقد مر بي من المغامرات)
(ما ينخلع من بعضه من قلب أخيلوس. . . . . .)
وستأذن هرقل على الملك، وحيا احسن تحية، ثم طلب يد ديانيرا. . . . وكان أونيوس
يعرف من بأسس البطل وعظيم قوته ما يعرف كل ملوك هيلاس وأمرائها؛ وكان قد أجاب أخيلوس إلى خطبته وهو يعلم من سخط ابنته على هذا الزواج ما يعلم؛ فلما تقدم إليه هرقل استبشر وقال: (. . . . . . لقد كنت يا بني وعدت أخيلوس أن يبني على ديانيرا، وهو من تعلم في الحول والطول والجبروت، ولكني مع ذاك لا أفضله عليك، بل نجعل لكما يوماً تلتقيان فيه؛ فمن يصرع صاحبه كان كفؤاً لديانيز)
وقبل هرقل، ورضى أخيلوس؛ واجتمع الناس من كل فج يشهدون الصراع العظيم بين الجبارين العنيدين. . . وكان كل واثقاً بنفسه، لا يخامره أدنى شك في أنه فائز على صاحبه. فلما تقابلا، ثار من حولهما النقع، وكانت أنظار الناس كالمتصلة بسواعدهما بأمراس شداد؛ وبعد قليل أخذت الأرض ترجف من تحتهما، وطفق الملعب يهتز بمن فيه من خلق كثير. . . وكانت ديانيرا تشرف من مقصورتها وتكاد تغص بريقها إشفاقاً على هرقل، وكان هو كذلك، كلما خارت قواه، نظر أليها النظرة تتجد بها روحه وتتضاعف مرنه ويمتلئ قلبه بالآمال. . . . . . وكان أخيلوس قد فطن إلى جبروت هرقل، وكان يستطيع أن يتشكل بأي خلق اراد، فجعل يتقلب من ثعبان ضخم الجثة، إلى تنين عظيم الجرم، إلى أسد بادي النواجذ، إلى. . . ما شاء له سحره وقوة حيلته من أشكال وأوضاع. .: ثم انقلب إلى عجل جسد ذي قرنين كبيرين، وشرع ينطح هرقل، وهرقل يتقيه، حتى استطاع البطل أن يأخذ بقرنيه بكلتا قبضتيه، وجعل يخبط برأسه الأرض في عنف وغل، حتى كسر أحد القرنين وفر أخيلوس من الميدان هارباً. . . لا يلوي على شيء. . . ودوى الملعب بالتصفيق، واندلعت الحناجر بالهتاف، وتدفق الناس نحو هرقل يحملونه على الأعناق. . . وتقدمت ديانيرا فحياها البطل بقبلة فردوسية خالدة، ما يزال صداها يرن على شفاه المحبين. . وتم العرس. . . وانطلق هرقل بزوجه يجوب الآفاق. .
وحدث أن اعترضه نهر عظيم لم يستطع أن يعبره ومعه ديانيرا. فبينما كان يعمل فكرته كيف يقتحمه، إذا سنتور عظيم يعرض عليه أن يحمل زوجه فيعبر بها إلى العدوة الثانية سالمة آمنة، ثم يرتد فيحمله إليها كذلك؛ وقبل هرقل، ونسى ما كان بينه وبين السنتور من عداوة وبغضاء، وحرب قديمة تدمى لها قلوبهم، وتقرح نفوسهم، وأعان هرقل زوجه فاستوت على ظهر السنتور، وخاض بها الماء وهو يطفر من الفرح، ويحلم بالمنى
والآمال. فما كاد يبلغ الشاطئ الأخر حتى عدا عدواً شديداً ليكون بمنجاة من سهام هرقل. ولكن ديانيرا صرخت صرخة داوية نبهت ما غفل من سمع زوجها؛ فلما فطن إلى خيانة السنتور، شد قوسه العظيمة، وأرسل إلى دبر السنتور سهماً مراشاً كان قد شرب من دم هيدرا حتى ارتوى!
وأحس السنتور بسم الموت يخترم حشاشته، وبرودة الفناء تشيع في جسمه البدين، فاقسم ليكدن لهرقل، فيذقه من هذا السم الذي سقى به سهامه ما يودي به. فقال لديانيرا:(أيتها الفتاة! لا تثقي أن حب هرقل دائم لك، بل اكبر الظن أنه منصرف عنك إلى فتاة أخرى تكون أسبى وأصبى. وما أحسبك إلا ذاكرة كيف كان يتفانى في حب أومفاليه. فخذي قميصي هذا فاحفظيه لديك، حتى إذا أحسست من زوجك جفوة، أو رأيت فيه ازوراراً، فابعثي به إليه ليلبسه، والقي في روعه أنه يحفظه من أعدائه. فانه أن فعل، عاد إليك بقلب مفعم بالحب، ونفس ملتاعة كلها شوق وتوق. . .) وخر السنتور ميتاً!
وأخذت ديانيرا القميص المضرج بالدماء المسمومة، وفي نفسها من الهم شيء عظيم! (من أومفاليه هذه؟! كان يحب أومفاليه؟ كان يحب فتاة غيري؟ وحق زيوس لأسألنه! هاهو ذا قد سبح إلى الشاطئ!)
ولقيته فسالته، فاعترف لها بكل شيء، وطمأنها على محبته وإخلاصه. . . . ولكن قلب المرأة لا يعرف هذا الاستسلام المعسول للكلمات الناعمة! فقد ظل الوسواس يدب في نفس ديانيرا، حتى كان هرقل في إحدى جولاته، وكانت هي عند أبيها ملك كاليدون؛ فطالت غيبته، وذهبت بها الظنون من اجل ذلك كل مذهب
وذكرت القميص ورددت عبارات السنتور، فنهضت من توها وأرسلته مع إحدى وصيفاتها إلى هرقل في منآه البعيد. وأوصت الوصيفة أن تذكر له من مآثر القميص ما وسوس به السنتور. فلما لبسه هرقل، التصق به التصاقاً، واخذ السم يشيع في جسمه الحديدي فيذيبه ويفتته. . .
وصرخ البطل بلا جدوى! وكلما حاول انتزاع القميص، كان جلده يتمزق، ولحمه يتهرأ، ويتصبب الدم من فوق ومن تحت. . . ثم أخذت نفسه تساقط أنفساً. . . وطفقت روحه تودع هذا الجثمان الهائل في دموع سخينة وآهات حارة. . .
ولفظ نفسه الأخيرة وهو يبكي ويقول: (فدى لك نفسي. . . يا. . . ديا. . . نيرا!)
(وهوى إلى الأرض ما كان من الأرض، ورفرفت)
(الروح الكبيرة في جمهرة من أرواح الإلهة التي أقبلت)
(من الأولمب تزف ابن زيوس العظيم. والكل ضاحك)
(مستبشر أن ألقى أخوهم حمله الثقيل، وخرج الأولمب)
(جميعاً يستقبل البطل ويهتف باسمه في عليين!. . .)
وحمل الجثمان الطاهر إلى جبل أوتيا، حيث دفن في إجلال وإعظام، وحيث وقفت ديانيرا ترويه بدمعها العزيز.
دريني خشبة
قلب فتاة
للآنسة ابنة الشاطئ
لعلها حنقت على حينما تقدمت إليها في لوعة صامتة ثائرة ورجوتها أن تبكي وان تسرف في البكاء؛ ولعلها أنكرت مني أن أفاجئها في وحدتها وقد استنامت إلى أحزانها وأسلمت أفكارها إلى ذلك الفضاء الرحب الواسع الذي نود لو نفر إليه، وان كنا نجهل أين مكانه منا وأين السبيل إليه! لقد كنت اعلم يقيناً أن هذه الكلمات التي اصطلحنا على تسميتها كلمات المواساة، والتي تعود المرء منا أن يلقيها على مسامع المحزون، لا تحمل عن هذه المسكينة شيئاً مما ترزح تحته من أعباء أثقال، وكنت اعتقد أنني إذا كنت لا املك إلا الوقوف بجانبها افرض عليها سماع كلمات المواساة المحفوظة، واحتم عليها أن تزدردها كلما تزدرد قطع الثلج، فخير لها أن تظل هكذا في ذهولها وأطرافها، لعلها واجدة من خداع الخيال ما ينسيها شيئاً من رهبة الحقيقة الواقعة، ولو إلى فترة قصيرة! لكني كنت احبها، وأتألم لها، وكان هذا الحب من القوة والعنف، بحيث ينكر علي أن أظل واجمة وهي تكاد تحترق أمامي في صمت، وان اقف مكتوفة الايدي، بينما أرى ذرات كيانها المضطرب تكاد تتبخر في الفضاء الأثيري المخلخل بعد العاصفة. . . آه! كم كنت أود أن احترم صمتها، وان اتركها في جلستها المفجعة ومكانها المنفرد؛ ولكني خشيت أن يهدمها الحزن المكتوم. وكان لابد لي أن أقول شيئاً، فلم أجد ما أقوله إلا أن اخذ رأسها بين يدي وألح عليها أن تمعن في البكاء
لم تكن هذه الفتاة من أولئك الفتيات اللائى يحملن قلوبهن في اكفهن ويخرجن بها إلى الأسواق للبيع أو الاستئجار، وكان كل من يعرفها لا يكتم إعجابه بذكائها وجاذبيتها وسمو اخلاقها، ولكنها كانت لا تكترث لشيء من هذا إلا كما يكترث الغني ببضعة مليمات! كانت تعلم يقيناً أن اثمن شيء لديها، هو قلبها الحي الكبير، وكانت تعتز به اعتزاز الإنسان باثمن ما يملكه؛ وكلما أثنى الناس على ذكائها أو حسنها، ابتسمت ابتسامة يتجسم فيها عدم الاكتراث، وتساءلت في نفسها: إذا كان هذا هو مقدار احتفال الناس بتلك الظواهر المادية التافهة، فكم يكون مدى احتفالهم بالكنز الذي في صدرها؟! ذلك القلب المليء بالحياة، الشغوف بالتضحية، النزاع إلى المثل العليا، والذي يود لو تتاح له الفرصة لإسعاد
الآخرين!
ولقد أحبت هذه الفتاة! أحبت بكل ما في طبيعتها من إسراف وغلو، وبكل ما في قلبها من قوة وحياة، وما في نفسها الشعرية من ثورة وحرارة! وكان حباً نبيلاً تسامى شيئاً فشيئاً حتى تخلص من أدران الماديات. . . ولعل الشاب الذي أحبته لم يكن بادئ ذي بدء يفهم معنى ذلك النوع من الحب، ولكنه أدرك على ممر الأيام أنها قدمت إليه قلباً من ذهب، وحباً نبيلاً أشبه بالخيال لغرابته وندرته، فهاله ما قدمت، وصمم على الاحتفاظ بحبها حتى يضمهما اللحد، وعلى أن يمهد لها حياة سعيدة ولو كلفه ذلك حياته. واستبد به بعد ذلك حب قوي غلاب جعله يرى الحياة بدونها جحيماً لا يطاق؛ وكان كلما تسامى إليها وتوغل في فمها ودراستها، اتضحت له قيمة ذلك الحب الذي لا يعرف الأثرة ولا الاستهتار، وغمرته لذة روحية تجعله في شبه ذهول. . . ذهول الحالمين السعداء
عرفته في أكتوبر سنة 1929، وكان لا يزال طالباً بالسنة الأولى بإحدى المدارس العليا، وكان تعارفهما طبيعياً ووليد المصادفة البحتة. فقد نزح والداه من الريف إلى القاهرة، ليحميا وحيدهما من بلدة المغامرة واللهو والفساد؛ واتخذت الأسرة مسكناً متواضعاً في بين كانت تسكن به أسرة الفتاة؛ ومرضت الأم مرضاً أقعدها عن مباشرة أعمال أسرتها الصغيرة، فتطوعت الفتاة لمساعدتها، لأنها جبلت على حب الخير؛ ثم كانت ساعة من تلك الساعات التي ينسى المرء فيها نفسه وتقاليده وأرادته، فتقابلت الفتاة المحتجبة الحريصة، بالفتى الشاب المثقف، ولم يكن لأحدهما يد في تلك المقابلة. كان ذلك في مساء ليلة ليلاء من ليالي الشتاء القاسية، وقد آوت الجنوب إلى المضاجع فراراً من ثورة الطبيعة؛ ولاذ الناس بالبيوت ينشدون الدفء في صمت وسكون. وكان هناك شعاع حائل ضئيل، ينبعث من نافذة الأم المريضة، ويفنى بعد قليل في جوف الظلام. وقد رقدت المسكينة حين استبدت بها نوبة قاسية أذهلتها عن كل ما حولها؛ وكان صوت الريح يذهب بأنات الأم العليلة، فلم يكن يسمعها أحد سوى الشبح الأبيض الواقف بجانب سريرها، كأنه ملاك هبط من السماء. كان هذا شبح الفتاة النبيلة الحنون التي قامت بتمريض العليلة. وفتح الباب فجأة، ودخل الابن الشاحب المحزون يصحبه الطبيب، فلم تتمكن الفتاة من الخروج، فقد كان عليها أن تصغي إلى تعليمات الطبيب، وان تشرح له ملاحظاتها عن درجة حرارة
العليلة، وبصاقها وطعامها، ولم يتمكن الفتى من الخروج، فقد كان الممرض الليلي لامه، وكان عليه أن يصغي لما يقوله الطبيب، عن سير المرض؛ وهكذا جمعهما الحزن المشترك؛ وأنستها رهبة الموقف، وشدة تفجعها للمريضة وابنها، ما درجت عليه من تحفظ واحتجاب
وكان لابد للفتى بعد أن شفيت أمه أن يشكر تلك الإنسانية النبيلة، وكان لابد لها أن ترد على رسالته، لتؤكد له أن ما قامت إلا بواجبها الانساني، ثم اختفت تلك المراسلات الرسمية، لتفسح المجال للتراسل الأخوي والتفاهم الروحي، بين الشاب المعجب بنبل الفتاة، وبين الفتاة الثائرة الحنون؛ ووجد كلاهما لذة مبهمة في ذلك النوع من الإخاء والصداقة، ولذ لهما أن يفرجا عن أنفسهما بالكتابة، وكلاهما يفهم أخاه ويحيا في بيئة تكاد لا تسمح لهما باستنشاق الهواء
لم يكن مرض الأم الذي أصابها في شتاء عام 1929 والذي كان سبباً لتعارفهما، إلا نوبة من نوبات مرض صدري يرعى في رئتها ويأتي في مهل على ما احتازته المسكينة من جلد واصطبار، وهاقد تمكنت العلة منها وأصبحت شبحاً هزيلاً يدب إلى القبر، ويهدي أخر أنفاسه إلى حياتنا العاجلة
وقرر الأطباء أن تبادر العليلة إلى مصحة حلوان. . . وإلا عجل إليها الموت؛ ولكن كيف؟ أن الوالد الشيخ لا يملك إلا ما يسد به رمق أسرته الصغيرة، كان يملك بضعة فدادين في مديرية الشرقية، وكانت زوجته تملك شيئاً من الحلي، فبذلا كل ذلك عن طيب خاطر في تعليم وحيدهما، ولكنه نال شهادة التعليم ليعلقها على جدران الحجرة الحقيرة التي استأجروها أخيراً يقيموا بها. ثم قبع في كسر داره بجانب أمه العجوز المريضة، وأبيه الشيخ الفاني! وإلا فهل يجمع الصبيان في الطرق ليلقى عليهم الدروس، ويطبق مبادئ روسو وأراء فريدريك هربرت سبنسر مستعملاً (هدايا) فروبل و (جهاز) مدام منتسورى؟ أم يفتح مدرسة أهلية قد تراكمت المدارس في أحياء البلاد، وهو بعد لا يملك ما يشتري به الدواء لامه المصدورة العليلة؟
كان مرهف الحس مهذب الوجدان، وقد عز عليه أن يفقد أبوه ثروتهما في سبيله، حتى إذا ما بلغ مبلغ الرجال كان حميلة عليهما. كان يشعر بأنه مسئول عن كل ما أصاب ويصيب
والديه؛ وقد عذبه ذلك الخاطر وأمعن في إيلامه، فاخذ يبحث عن عمل كل يوم، ولكن ما الذي يستطيع حامل دبلوم المعلمين العليا أن يعمله، وهو لا يملك إلا تلك الثروة العلمية المخزونة في دماغه، لا يدري كيف يستغلها! ولقد صبر على الجوع حيناً وتحمل الضيق أحياناً، ولكنه الآن لا يستطيع الصبر، إذ يرى أمه التي غمرته بالعطف والحنان، تجود بحياتها مع أنفاسها الخافتة اللاهثة؛ ويرى أباه يجلس ذاهلاً مطرقاً، ينظر نظرات حزينة جوفاء إلى تلك الإنسانية المخلصة الراقدة، التي قاسمته حلو العيش ومره ثلاثين عاماً، غمرته فيها بكل حب وإيثار؟!
وقف الشاب يوماً بين أبويه وقد نفد صبره وعذبه عجزه فرفع يديه إلى السماء في حركة ضارعة مبتهلة، وتساءل بصوت متهدج حزين:
(أبتاه.! ألا أستطيع أن اصنع شيئاً لها؟ حياتي يا أبي ما قيمتها إذا لم تكن لكما وفي سبيلكما؟ إلا يمكنني فداؤها؟ (فابتسم الشيخ الحزين بعد أن تحجرت الابتسامة في شفتيه أعواما، وقام إلى ولده البار يضمه إلى صدره، ويغمره بقبلاته، ثم اسر إليه أن لا وسيلة لإنقاذ الأم المعذبة إلا بزواجه من ابنة عمه التي ورثت عن أبيها كثيراً من المال والعقار
طعنة أصابت قلب الفتى فأدمته! لقد كان مستعداً للتضحية بحياته لأنها ملك له؛ أما أن يضحي بقلبه وقد وهبه، وبفتاته وقد وثقت به واطمأنت اليه، فهذا ما لا طاقة له به. . يتزوج؟ ولمن إذن يترك الفتاة الصغيرة المثقفة؟ لقد تمكن الحب من قلبيهما ثلاث سنوات، وكانا من الاعتزاز بهذا الحب بحيث لم يلوثاه باباحة منكرة! كانا يخشيان على حبهما وهو الثوب الأبيض الناصع، أن يلوثه القليل من الغبار، ولم تعد لهما حيلة في التخلص من سلطان هذا الحب الذي نما مع الأيام، فكيف يفرض عليه أبوه ذلك الثمن الغالي؟ لا. . أنه لن يحطم قلبها ولن يكفر بالنعمة التي منحته إياها. . أنه بشر ولاحتماله حد معقول؛ وقد احب بكل قواه؛ ولئن كان مسئولاً عن سعادة امه، فهو مسئول كذلك عن سعادة فتاته، فقد منحته الأولى حبها وحنانها لأن عاطفة الأمومة فيها أرادت ذلك، بينما منحته الثانية حبها منة منها وتفضلاً. . .
لقد يستطيع أن يخنق حبه ويحطم قلبه، ليشتري بذلك سعادة أمه، ولكنه لا يستطيع أن يحطم قلب فتاته الصغيرة النبيلة. . .
ولكن الفتاة كانت أقوى منه. . لقد أحبته حباً صادقاً، والمرأة إذا أحبت فعلت المستحيل في سبيل سعادة من تحب. . . لقد عجز عن السير في طريق التضحية الشائك، فلتحمله هي على كتفيها غير آبهة بالأشواك تمزق ثياب راحتها، وتسيل دماءها. ولقد أعماه الحب عن الواجب، فلتفتح بأناملها الرشيقة عينيه، وتوقظ شهامته ورجولته، وحسبهما سعادة بعد ذلك إنقاذ الأبوين الكريمين
ولكن كيف تقنعه بوجوب التضحية؟ حدثتها نفسها أن توهمه أنها تحب غيره، ولكنها رجعت عن تلك الفكرة الروائية التي فرضها (إسكندر ديماس) على المحبين، وعز عليها أن تلوث الحب العالي بمثل هذه الأفكار، وهو آخر ما تبقى لها من سعادة! وأشفقت على فتاها أن تنهدم المثل العليا أمامه فيجزع وربما جحد الفضيلة وأنكر الحياة! ثم فكرت في أن توهمه أن أباها يفرض عليها الزواج من غيره، ولكن هذا لن يفيد في إيقاظ نخوته وشهامته، وإذن فلتتقدم إليه في صراحة وحزم، لتعلنه أن حبها وقد تنزه عن الماديات، أضعف من أن يحتمل تبعة موت الأم الحنون، وجنون الأب الشيخ، وأنها تحبه إلى الدرجة التي تخشى عليه فيها من فقد احترامها له إذا قتل أمه بأنانيته. إنها تحبه، ولكنت هذا الحب نفسه هو الذي يفرض عليها أن تتنكر له إذا لم يؤدي واجبه كرجل وكابن، فإذا ما سألها عما ستفعله بنفسها بعده، أجابته في رفق حازم أن لا شأن له بها، وأن عليه أن يتزوج من ابنة عمه. . .
لها الله!! ما كان أنبلها وهي توصي حبيبها الذي انتزعته الأقدار منها بالرفق بابنة عمه وإسعادها وتمهيد الراحة لها؟!
لها الله!! ما كان أنبلها وقد وقفت تهمس في أذنه ألا يحدث أمه عن تضحيته، وألا يقدم إليها الدواء مسموماً بإشعارها أن حياتها أنقذت بهذا الثمن الغالي. . .
ما كان أنبلها وقد وفقت تبعده عنها أشد ما تكون حباً له وشغفاً به!!
من يدري؟! ربما كان هول الموقف قد شغلها عن النظر إلى الأفق البعيد، حيث تتجمع قطع الظلام ويتصل بعضها ببعض! وربما كانت تجهل أن انتزاع الكلمات التي حرضت بها الفتى على الزواج من ابنة عمه، أقسى وأشد إيلاماً من قطع لحمها وهي حية. . . ظنت نفسها سعيدة ساعة خضع الفتى لحكمها، وقامت تودعه وتشد على يده بكلتا يديها وهي
تبتسم ابتسامة شاحبة ذاهلة، حتى إذا ما تركته وتزودت منه بالنظرة الأخيرة، أحست بالألم يحز في قلبها، فهرعت إليَّ - وأنا صديقتها الواحدة - كالمجنونة، تشكو وتلتمس التشجيع؛ ثم ركنت إلى الصمت والهدوء، ولكنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة! وكنت أعلم أن وراء مشيتها الميكانيكية المفجعة ما وراءها! وأن تلك البسمة الصفراء الباهتة المتحجرة على شفتيها، تخفي وراءها ناراً ترعى قلب الفتاة المسكينة. كان هدوؤها المصطنع يقتلني، وكنت ألمح عن كثب وميض النار تتأجج بين جوانحها وتختفي تحت رماد الحياء والمداراة، كزبد الأفران العالية، يبدو سطحه للعين ترابياً أدكن، حتى إذا انفرج الزبد نرى حممه! ولم أكن أرجو شيئاً، إلا أن يمن الله عليها بنعمة البكاء!!
كان حبها من نار ونور، فلما حرمت نوره، رأت أن تحترق بناره في صمت! فقد كان عليها أن تظهر للناس بسّامة ضاحكة وإلا ولغت ألسنة السوء في سمعتها، ولوثت حبها الطاهر النبيل، وعبثت بمستقبل الحبيب النائي البعيد!
وكان عليَّ أنا، أن أتغنى بشهامتها، وأن أؤكد لها أنها ظفرت من الحياة بأوفى نصيب، حين اشترت بسعادتها سعادة ثلاثة آخرين! وكانت تنصت لكلماتي أحياناً ثم يغلبها الضعف فتفر إلى حيث تختلي بنفسها لا لتبكي، فليتها كانت تفعل، وإنما لتحترق في صمت!
ولمحت عن بعد شبح العاصفة يقترب في بطء، فلازمت الفتاة وأنا أكاد أختنق من الحزن والألم؛ فلما أعلن أخوها أن فتاها تزوج بابنة عمه، أرسلت نظرات محمومة مبهمة جوفاء! وفي بطء حزين، قامت إلى حجرتها، فركضت وراءها، ولم أجد ما أقوله إلا أن أطلب إليها أن تسرف في البكاء، فقد هالني تحجر الدمع في مقلتيها أشد مما يهولني الصراخ والنواح وانهمار الدموع!!
ابنة الشاطئ
البريد الأدبي
الرصافي في دينه
دفع إلي اليوم وأنا مار في سوق الحميدية أخ لنا من الوراقين الأدباء متدين غيور، كتاباً جديداً لأمين الريحاني اسمه: قلب العراق، صدر في هذه الأيام في بيروت، وأقرأني فيه الفقرة الآتية (ص 265)، ولست أعرف من الكتاب أكثر منها، فأحببت أن أنشرها ليقول فيها الرصافي كلمته، فهو المتهم فيها، وإليه تنسب هذه الآراء. . . وليطلع عليها فحولة الكتاب، وحماة الدين، وورثة البيان القرآني: الرافعي والزيات وعزام، ويروا رأيهم في هذه (الأفكار الجديدة)!
وهذه هي الكلمة بنصها وفصها:
قال:
(إن للرصافي رأياً في الوحي الشعري غريباً: هو لا يؤمن بالوحي، أو بالحري الوحي المنزل، إنما يعتقد أن القوة الشعرية في الإبداع تتعلق بقوة ألباه في الجماع، وأن الضعف الذي يعتري القوة الواحدة يتصل بالأخرى، إذن لابد من التوازن بينهما، بل هو ضروري. . . (إلى أن قال):
. . . ثم ذكر النبي محمداً، وهو في نظر معروف شاعر عظيم على أن أجمل قصائد النبي، أي أجمل السور القرآنية، إنما هي التي جاء بها في عهد الاعتدال الجنسي يوم لم يكن له غير خديجة زوجاً، أما بعد وفاة خديجة فقد أصبح محمد مزواجاً، وكانت القصائد - السور - في هذا العهد مثل نسائه (كذا) أي دون ما تقدم منها ومنهن
فقد كتب الرصافي سيرة النبي محمد، وأطلعني عليها مخطوطة بيده، في سبعة دفاتر من الدفاتر المدرسية، فما أدهشني منها ما فيها من العلم والتحقيق لأن مصادر الموضوع متوفرة لمن شاء معالجته، وأحسن البحث والموازنة، إنما أدهشتني القوة النافذة والمقدرة على التحليل والاستخراج، والتفلسف في عقائد لا تستقيم بغير الإيمان والجرأة والصراحة مع الاتكال على العقل والعلم فيهما
فقد استخدم في (سيرته) المصباح الذي استخدمه العلماء الأوربيون في نقد التوراة، أي مصباح النقد الأعلى الذي ينير العلم بنور العقل والمقارنات التاريخية، ومما يزيدك إعجاباً
بالرصافي أنه لا يحسن لغة أجنبية، فقد ركن في كل ما حلل وأول واستخرج واستنتج إلى اجتهاده الخاص وإلى علومه الواحدة العربية
وإنك لتدرك الروح في مصنفه هذا إذا ما علمت رأيه بالله، فقد قال لي مرة: إن الآية لا إله إلا الله، لا معنى لها ويجب أن تبطل، أو تبدل بالآية، لا إله إلا الوجود، أي أن الكون هو الله، والله هو الكون، هي عقيدة البانيتزم أي الحلول وهو فيها على اتفاق والزهاوي، قد يهمل وينسى كثير من شعر الرصافي في المستقبل، وتظل سيرته النبوية من الكتب التي تقرأ وتكتنز
ذاك هو الرصافي في دينه) اهـ
فما هو رأي الشاعر الكبير الأستاذ معروف الرصافي؟. . .
دمشق
علي الطنطاوي
(الرسالة) لم نقرأ كتاب الريحاني لأنه لم ينشر في مصر؛ ولكنا نعلم أن حكومة العراق صادرته؛ وربما كان هذا الهتر من أسباب هذه المصادرة؛ على أن الرصافي قد يقول شيئاً من هذا الكلام في ساعة لهوه ليطوي في بساط الشراب، لا لينشر على الناس في كتاب! فذنب (الفيلسوف) الذي روى، أقبح من ذنب (الأديب) الذي تحدث! والكلمة قبل كل شيء للأستاذ الرصافي
إلى الدكتور عزام
في العدد 87 من (الرسالة) نشر الدكتور عبد الوهاب عزام (قصيدة تاريخية) خطيرة بعثها بعض أهل جزيرة الأندلس للسلطان بايزيد العثماني يستغيثون به مما حل بهم من القواصم والدواهي في دينهم ودنياهم بعد أن نقض الأسبان العهد والميثاق الذي أخذ عليهم. وقد وصلت القصيدة للدكتور عزام بواسطة العلامة الشيخ الجليل الراوية خليل الخالدي الذي نقلها من نسختين بقلم مغربي رآهما بمدينة فاس، وختم الأستاذ عزام تمهيده للقصيدة النائية بقوله: ولسنا ندري ما كان جواب السلطان بايريد على هذه الدعوة الملهوفة والقصيدة الباكية. فمن عرف شيئاً في هذا فليخبرنا مشكوراً)
وأنا اخبر الأستاذ الفاضل - ولا شكر - بان القصيدة النائية ذكرها كلها الشهاب احمد المقري صاحب نفح الطيب في كتابه: (أزهار الرياض. في أخبار القاضي عياض)(1: 94) وهو كتاب طبع جزؤه الأول بتونس سنة 1322 ويوجد بعض ثانيه خطاً؛ كما ذكر القصيدة ميمية بعثها أبو عبد الله بن الأحمر لسلطان المغرب يعتذر فيها عما فعل وذلك بعد نزوحه لفاس واستقراره بها حيث توفي وترك ذرية
إما جواب السلطان (أبا يزيد الثاني ابن محمد الفاتح ووالد سليم الأول) فيظهر أنه سعى لأغاثتهم بما أمكنه مع ما عرف به من الرغبة عن الحرب والإخلاد إلى السلم، فقد ذكر الأستاذ حسين لبيب في كتابه تاريخ الأتراك العثمانيين (3: 39) أن (كمال ريس) أول مشاهير أميرالات الترك، كان أول ما ظهر اسمه:(سنة 1483 لما جعل قائداً للأسطول الذي أرسله السلطان بايزيد غوثاً وإعانة لمسلمي غرناطة الذين أرسلوا لسلطان البحرين والبرين مستجيرين به من ظلم وتعدى نصارى أسبانيا)
فيكون بذلك قد كاتب الأسبان في خطبهم أولاً:
وقد بلغ المكتوب منكم إليهم
…
فلم يعملوا منه جميعاً بكلمة
وما زادهم إلا اعتداءً وجرأة
…
علينا وأقداماً بكل مساءة
(كما تقول القصيدة) فلما لم يسمع له نداء أرسل أسطولاً لإغاثتهم وإعانتهم في محنتهم ولكن الشمس كانت إلى الغروب
رباط الفتح (المغرب الأقصى)
عبد الكريم بن الحسن
تكريم الأزهر للأستاذ الأكبر
أقام الأزهر علماؤه وطلابه في مساء الأربعاء الماضي حفلة تكريمية للأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي دُعي إليها ألوف، وألقيت فيها خطب، وأنشدت بها قصائد؛ وكانت الرسالة تود أن تسجل هذه الظاهرة الجديدة في حياة الأزهر لولا أن لجنة الاحتفال أغفلت دعوتها، لسبب ترجو أن يكون كل شيء غير المروق أو الفسوق. . . .!!
لوبي دي فيجا
تحتفل إسبانيا بذكرى شاعرها الأكبر لوبي دي فيجا بمناسبة مرور ثلثمائة علم على وفاته، وفي الأدب الإسباني اسمان خالدان يفوقان في العظمة والبهاء كل اسم آخر: هما سير فانتس دي سافدرا، ولوبي دي فيجا، الأول في النثر والخيال الرائع، والثاني في الشعر؛ وقد عاشا في عصر واحد، ولكن سير فانتس دي سافدرا قد غدا اسماً عالمياً، وغدا أثره الشهير (الدون كيشوتي) أثر من أعظم الأثر العالمية، هذا بينما يبقى لوبي دي فيجا إسبانياً فقط وينحصر صيته وأثره في الأدب الإسباني، ولك لوبي دي فيجا يبذ من هذه الناحية مواطنه ومعاصره، فهو عميد الأدب الإسباني الحديث وأعظم أقطابه، وهي لوبي فيلكس دي فيجا، ولد بمدريد في 25 نوفمبر سنة 1562، وربى تربية عسكرية، وانخرط في سلك الجيش بادئ ذي بدء، وفي سنة 1582 أشترك في الحملة التي بعثتها إسبانيا إلى جزائر الآزور، وبعد ذلك بأعوام أشترك في الحملة البحرية الكبرى التي جردتها إسبانيا لغزو إنكلترا وهي المعروفة بحملة (الأرمادا)، (سنة 1588)؛ ثم أنتقل إلى الحياة المدنية، وعمل سكرتيراً للدوق آلفا (دوق إلبه) وزير فيليب الثاني الشهير، وأشتغل بعد ذلك سكرتيراً للمركيز ملبيكا. وفي سنة 1613 دخل الرهبنة وأنقطع للنظم والكتابة حتى وفاته في 27 أغسطس سنة 1635
كان لوبي دي فيجا شاعراً عبقرياً ومؤلفاً مسرحياً عظيماً؛ وكان يضطرم ابتكاراً وطرافة، وكان ينثر في شعره كل العواطف البشرية وضاءة ملتهبة من الحب والأسف والغيرة والأمل والحزن والطمع وطموح المجد؛ وكان شاعر الحقيقة في الوقت نفسه يتنقل بين مراحل الحياة البشرية؛ وكان أنيقاً في لفظه يتخير التعبير المنسجم، فيجمع نظمه بين الفلسفة الحية والخيال الساحر والبيان الرائع. وكان تقلبه في ميادين الحياة المختلفة، من الجندي، إلى الحياة المدنية، ثم إلى حياة الكنسية، من أكبر عوامل الخصب والتنوع في خياله؛ وكان يحب مسقط رأسه (مدريد) ويخصها ويخص مجتمعاتها بكثير من نظمه الممتع، بيد أن لوبي دي فيجا كان شاعر الخاصة، ولم يغز نفوس الكافة، ذلك لأنه كان يرتفع عن مستواهم في تفكيره وفي وحيه؛ أما معاصره وشريكه في الخلود، سير فانتيس، فقد كان أبعد صيتاً منه في نفوس الكافة، لأنه كان أكثر تنزلاً إليهم وأقرب إلى إفهامهم
ومشاعرهم
وكتب لوبي دي فيجا كثيراً للمسرح الإسباني، وكان من أعظم عوامل مجده وإزدهاره؛ وقد بلغ ما كتبه من القطع المسرحية زهاء ألفي قطعة؛ ولم يتبوأ مكانه في الأدب الإسباني بقريضه وأناشيده قدر ما تبوأها بهذا التراث المسرحي الرائع، وله أيضاً كثير من المؤلفات القصصية، ونظم كثيراً من الأناشيد والشعر الخالص في مختلف الفنون والنواحي، وكان يتبوأ في عصره ذروة النفوذ، ويمكن أن نقارن نفوذه الروحي في عصره وفي أمته بنفوذ فولتير في فرنسا في القرن الثامن عشر
وفاة المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني
استعز الله بمحدث الشام وعلامة الإسلام الأستاذ الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني والد رئيس الحكومة السورية عن تسعين عاماً قضاها في الإقراء والإفتاء والعبادة. وقد عرا الشام من هول مصابه رجفة من الحزن لم تسكن على الصبر والعزاء بعد. وقد نشرنا عنه في هذا العدد مقالاً للأستاذ الطنطاوي يُبين عن فضله ويكشف عن عظم المصاب فيه
أربعون عاماً من السينما
في أواخر سنة 1895، أذاع لوي لوميير أنه قد أتم اختراع جهاز ضوئي جديد ينقل صور الأشخاص والكائنات في حركاتها الطبيعية. وفي شهر ديسمبر من هذا العام أقيمت التجربة العملية الأولى لهذا الاختراع في البهو الأسفل لمقهى يقع في البناء رقم 14 من شارع الكابوسين؛ وكل هذا الاختراع هو السينما، فأجتمع لشهوده ثلاثة وثلاثون شخصاً؛ ولم يكن المعروض (فلماً) شائقاً بالمعنى الصحيح، ولكن مناظر متقطعة من الأشخاص والأعمال
وقد عمل لوي لوميير وأخوه أوجست لوميير بعد ذلك على تحسين هذا الاختراع الذي درسه مخترعون آخرون قبل ولا سيما هنري ماريه العلامة الطبيعي الشهير. وعاش لوميير ليرى بعينه كيف نما اختراعه وأضحى أداة مدهشة من أدوات المتعة والثقافة العالمية. وقد تناوله أثناء هذه الحقبة مخترعون عظماء مثل أديسون وتعهدوه بطائفة من الابتكارات المدهشة حتى أضحى من أعظم مدهشات عصرنا
وفي الأنباء الأخيرة أن بلدية باريس قد احتفلت بمرور أربعين عاماً على اختراع لوي
لوميير لآلة السينما؛ وشهد لويس لوميير الاحتفال بظفره بعد أربعين عاماً من تحقيقه؛ وألقيت خطب بديعة، وأنعم على المخترع خلالها بوسام الاستحقاق الذهبي
كتاب عن مصر
أخرجت شركة درلانجر للطباعة والنشر في إنجلترا كتاباً جديداً بعنوان (آخر بلاء لمصر) وهو يتضمن تاريخ حياة اللواء رسل باشا حكمدار القاهرة وقصة مكتب المخدرات
مؤتمر المستشرقين
سيعقد في مدينة روما مؤتمر المستشرقين التاسع عشر بين 23 و29 من شهر سبتمبر القادم، وسيمثل مصر فيه الأساتذة طه حسين وأحمد أمين ومصطفى عبد الرازق
وسيشهده طائفة أخرى من رجال الأدب واللغة في مصر وفلسطين وسورية، وقد أسندت وكالته إلى الدكتور كارلو ناللينو أستاذ الأدب العربي بجامعة روما وعضو المجمع الملكي للغة العربية بالقاهرة
مجلة الفجر الفلسطينية
توفرت طائفة من شباب العرب في فلسطين على إخراج مجلة أدبية أسبوعية باسم (الفجر) تصدر عن مدينة يافا
ويقوم على تحريرها نخبة ممتازة من الكتاب في فلسطين؛ كالأساتذة محمود سيف الدين الإيراني، وعارف سليمان العزوني، والدكتور أبي غنيمة، وسامي السراج. يعاونهم في تحريرها من مصر الأساتذة محمود تيمور وإبراهيم المصري ومحمد أمين حسونه؛ وقد صدر منها عددان دلاً على نزعة طيبة وجهد محمود
لإحياء ذكرى ليسنج
كانت قد ألفت في فينا قبل الحرب لجنة خاصة للنظر في إقامة أثر تذكاري كبير للكاتب والنقادة الألماني الكبير ليسنج ومرت اللجنة بأدوار وأحداث كثيرة، وتوقفت أعمالها أثناء الحرب، بيد أنها وفقت أخيراً إلى إتمام مهمتها بعد صعاب جمة، وأفتتح الأثر الذي صنعه المثال شارو برسم ليسنج في حفلة كبيرة جمعت رجال الفن والأدب وأساتذة الجامعة؛ وخطب رئيس أكاديمية الفنون وهو رئيس لجنة الذكرى الدكتور ردليخ فنوه بالعلائق
الفكرية التي تربط ليسنج بمدينة فينا إذ زارها مرتين، وأقام بها ردحاً من الزمن، وكان يحلم فيها بأن يغدو مديراً للمسرح الإمبراطوري حيث كانت تمثل رواياته بنجاح مستمر؛ وأشار إلى أن الأثر الذي يقام للكاتب في فينا إنما يراد به تحية الآراء والمبادئ التي كافح ليسنج من أجلها، وهي مبادئ الإنسانية والعدالة والتسامح؛ وهي مبادئ تخلو اليوم منها بعض المجتمعات (يشير إلى ألمانيا). وخطب وزير المعارف النمسوية الدكتور برنتر؛ فأتى على حياة ليسنج ومؤلفاته، وقل إن النمسا الحالية تكرم في شخصه ألمانيا العالمية، وتدلل على أنها ما زالت بلد الثقافة الروحية والفن الرفيع؛ وأنها على أهبة دائماً لأن تكرم النبوغ الفكري؛ وأعلن حاكم مدينة فينا أنه يضع يده على الأثر باسم المدنية؛ وأن الميدان الذي يقام فيه سيسمى قريباً بميدان ليسنج
وليسنج كما هو معروف من أكبر كتاب ألمانيا المسرحيين في القرن الثامن عشر
أثر جديد لجان لوران
نشرت مجلة (الأخبار الأدبية) الفرنسية (نوفيل لترير) في أحد أعدادها الأخيرة فصلاً عنوانه (خاتمة مسيو دي بوجرلون) وهو أثر لم ينشر من قبل للكاتب الفرنسي جان لوران؛ وتتمة لكتاب قصصي بقلم لوران عنوانه (مسيو بوجرلون) ظهر في سنة 1897، ولقي في عصره نجاحاً عظيماً، وطبع مراراً في أعوام قليلة، ولآثار جان لوران قيمة خاصة، فهو كاتب اجتماعي وافر السحر والطرافة، وقلما تجد في الآداب الفرنسية نظيراً لأسلوبه المطبوع أو تصويره الدقيق. وقد أمتاز لوران بأنه يصف من المجتمع جوانبه الخفية، ومثالبه المروعة، فليس أبدع ولا أروع من قلمه في وصف أوكار البغاء والرذيلة، ومهابط الفجور والتدهور الاجتماعي، وصرعى المخدرات والشهوات السافلة. وقد توفي هذا الكاتب المبدع سنة 1906 بعد أن تبوأ في أدب عصره أرفع مكانة
نادي المثنى بن حارثة
في بريد العراق أن شباب بغداد أسسواً نادياً بهذا الأسم، غايته بث الثقافة العربية، وأحياء التقاليد القومية، وإذكاء روح الرجولة في الشبان بالطرق المشروعة، ومحاربة كل ما يضعف الأخلاق ويوهن الصحة
وفي النادي لجان مختلفة، منها لجنة الثقافة القومية، تعد المحاضرات والخطب والنشرات العلمية، وتقوم بأحياء الأيام والحوادث القومية، وتكافح الأمية، وتعنى بالآثار العربية، وتعد مكتبة منظمة تحوي الكتب العربية المختلفة، وتتصل بالحلقات العلمية في البلاد العربية
واللجنة الاجتماعية، ومهمتها الخدمة الاجتماعية: وتقوم بالإرشاد الصحي والاجتماعي والتهذيبي، وتعالج المرضى من الفقراء، وتعنى عناية خاصة بالفلاح والعامل وترقية شؤونهما
ولجنة الفنون الجملية، وهذه تعنى بالأناشيد العربية والموسيقى وتمثيل الروايات القومية والقيام بترقية الرسم والتصوير والنحت والاعتناء بالعربية
واللجنة الاقتصادية، تأخذ على عاتقها تشجيع المصنوعات الوطنية، والسعي إلى إيجاد مصانع وطنية تقوم بإحياء بعض الصناعات الوطنية التي كان لها الشأن الكبير فيما مضى، وهي تعمل كذلك على إيجاد صناديق للتوفير وغير ذلك من الأمور الاقتصادية التي تحتاج إليها البلاد
ولجنة محبي القرى، وهي تعني بإيجاد قرية عراقية عصرية كاملة من جميع الوجوه العمرانية والصحية
ثم اللجنة الرياضية، وتقوم بتشجيع الرياضة والألعاب على أتلاف أنواعها، من فروسية ورماية وركوب خيل وصيد وسباحة، وتعنى بصورة خاصة بأحياء الألعاب القومية الموروثة ومثل هذا النادي المفيد يحتاج إلى عون الحكومة ليأمن عوادي الانحلال وجوائز الفوضى
الكتب
رسالة في الإسلام
بين هيجل ومحمد عبده
تأليف الأستاذ محمد محمد البهي
عضو بعثة تخليد ذكرى الأمام
من أولى نتائج الدرس الذي عكف عليه أعضاء بعثة تخليد ذكرى الأستاذ الإمام محمد عبده، كتيب قيم وضعه باللغة الألمانية الأستاذ محمد محمد البهي، الذي لازال يتابع دراسته في جامعة هامبورج بألمانيا
ويقول المؤلف في مقدمة كتيبه هذا إن الدافع له على إصداره هو ما رآه في ألمانيا من أن الناس فيها لا يفقهون الإسلام على حقيقته، وقد كوّن رأيه هذا بعد استماعه لأستاذه (نوك) في محاضراته عن (فلسفة التاريخ) لهيجل، وبعد اشتراكه في مساجلة الأستاذ شتروتمان لتلاميذه في عدد من المؤلفات عن الإسلام. وبذلك أتيحت له الفرصة ليوزان بين آراء (هيجل) في الإسلام، كما جاءت في كتابه (فلسفة التاريخ)، وأراء فيلسوف الإسلام الإمام محمد عبدة، كما جاءت في كتابه (الإسلام والنصرانية، والعلم والمدنية). وأراد الأستاذ البهي أن يتقدم برسالة في هذا الموضوع لينال بها الدكتوراه في الفلسفة، ولكن غيرته على العلم والدين لم تمهله حتى يستوفى البحث، فأصدر هذا الكتيب لينفس عن روحه وليطلق فكرته من عقالها، وكان حقاً موفقاً في سرد أهم آراء الفيلسوف الألماني هيجل الخاصة بالإسلام، وبرغم الإجمال الذي ألتزمه المؤلف فإنه ألم بتلك الآراء إلماماً حسناً. فذكر كيف أن الإسلام في نظر الفيلسوف هيجل، هو صورة صادقة للعقلية الشرقية، فهو يجمع بين المتناقضين: المسائل التجريدية والمسائل الواقعية. وأن فكرة الإله عند اليهود هي غيرها عند المسلمين - على حد ما يعتقده هيجل، فيهوا هو رب الشعب الإسرائيلي فقط، أما الله فرب العالمين؛ ويرى هيجل أن المسلمين يعيشون ويحيون من أجل دينهم وتحقيق مبادئه، وأن حياتهم الدنيوية ليست إلا وسيلة لبلوغ الآخرة وما فيها من متاع. ولهذا كانت فتوحاتهم العظيمة في آسيا وأفريقيا وأوربا. وكان التعصب ضد الكفرة على أشده في بادئ الأمر، إلا
أنه تراخي بعض الشيء، فأستعيض عن قتل الكافر بفرض جزية سنوية على شخصه؛ ومع ذلك لم يكن التعصب في الإسلام مدعاة تخريب وهدم، كما هي طبيعة التعصب، بل كان فوق ذلك مدعاة تشييد وبناء. ثم تدرج المؤلف إلى ذكر رأى هيجل في أن الإسلام كدين يبرر أعمال العنف والقوة لنشره، كما برر روبسبير أعمال العنف والقوة لبلوغ الحرية؛ وأن الفردية في الإسلام من التناقض بدرجة تجعل الحاكم الذي يبغي المجد والعظمة والسيطرة لا يتوانى في أن يضحي بها جميعاً في سبيل الدين، وقد لا يلبث إلا قليلاً حتى يستردها دون هوادة، وأن الخليفة عمر - على حد ما ذكره هيجل - هو الذي أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية، بينما الخلفية المنصور كان يجمع العلماء في مجلسه ويغدق عليهم العطايا؛ وبحسن معاملته لهم أزدهر الأدب والعلم في أيامه. ثم ذكر بأن الحريات كانت مكفولة للناس كافة، لا فرق بين رجل وامرأة، ولا بين طبقة وأخرى، حتى كان الرجل من رعاع الناس يدخل على الخليفة في مجلسه فيحدثه مطمئناً عن كل ما يريد؛ ولكن عقب ذلك أعتكف الخلفاء والحكام في قصورهم وأبعدوا الشعب عنهم، فأنقلب الحال إلى الضد. ويرجع (هيجل) أسباب ذلك إلى أن التعصب الديني كانت قد بردت حرارته، فبدأت المفاسد تسود المجتمع، وأصبح الاستمتاع بملذات الحياة شهوة الناس في هذه الدنيا، ثم تراجع الإسلام كما يقول (هيجل) إلى أفريقيا وآسيا، ولم تطقه النصرانية إلا في ركن ضيق من أوربا. وتلاشى الإسلام كقوة مسيرة لتاريخ العالم. ويعترف هيجل بأن الغربيين أخذوا عن العرب مختلف العلوم والفنون والمعارف، وبخاصةً الفلسفة؛ ويقر فيلسوف الألمان أم الإسلام هو أكبر ظاهرة في تاريخ العالم
غير أن الأستاذ البهي يرى أن هيجل حكم على الإسلام من خلال أعمال بعض المسلمين، وكان الأولى به أن يرجع إلى مصادر الإسلام وهي: القرآن والحديث وما أجمع عليه الأئمة. وعاب على هيجل طريقته في البحث، وقال بأنه (أي المؤلف) لن يكون عادلاً في حكمه إذا ما نسب إلى الدين المسيحي عداءه للعلم ومحاربته لحرية الفكر، مستنداً في ذلك إلى بعض الحوادث التي منها:
(1)
إعدام (حيباتيا) المصرية وكانت سيدة من أفذاذ العلماء الرياضيين، عام 415 ميلادية أثناء تعقب النصارى للفلاسفة
(2)
إحراق 1220 شخصاً بالنار فيما بين سنة 1481 و1499م، وهم أحياء تنفيذاً لأحكام الرقابة الموضوعة على الكتب وأصحابها
(3)
إحراق جيوردانو بروفو الذي قال بالوحدانية الربانية
(4)
إحراق الكردينال زيمنس 8000 مجلد من الكتب العلمية في غراناطة
إن كل هذه الأعمال لا تؤديها التعاليم الدينية المسيحية، وكل بحث يرتكن إلى مثل هذه الأشياء يكون خاطئاً. وهكذا كان هيجل في بحثه عن الإسلام؛ واستشهد المؤلف برأي الأستاذ هورتن الذي ذكر في أحد كتبه:(إن انحطاط المسلمين وعدم قيامهم بأعمال مجيدة سامية لا ترجع إلى روح الإسلام، ولكن إلى سوء تصرف الخلفاء وإلى غيره من الأمور، ونشأ عن ذلك أضرار عديدة بالدين والعادات وسمعة الإسلام)
ثم ناقش الأستاذ البهي ثماني مسائل من آراء الفيلسوف هيجل أولها: الفريدة في الإسلام. فهي ليست العمل للآخرة دون سواها، كما تصورها هيجل، ولكن العمل للدنيا أيضاً؛ وأستشهد بما جاء في الذكر الحكيم:(ولا تنس نصيبك من الدنيا)، وما جاء في الحديث:(أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لأخرتك كأنك تموت غدا)
وتكلم في المسألة الثانية عن الصوم وأن الغرض منه ليس مجرد صحة الأبدان، بل له غرض معنوي آخر هو إشعار الصائم بوجوب العطف على الفقراء والمساكين
أما المسألة الثالثة فقد حاول فيها الأستاذ البهي أن يثبت بأن الإسلام لم يكن في كل الحروب التي خاضها إلا مدافعاً عن كيانه. أما فكرة الغزو لإجبار الناس على اعتناق الإسلام، فليس لها أصل في الدين. وقد أستشهد بآراء هورتن الذي ذكر في أحد كتبه بأن الحروب الدينية في الإسلام لم تكن إلا للدفاع عن هجمات الأعداء أو لإخماد فتنة. ولهذا كانت الفكرة القائلة بأن الدين الإسلامي يبرر أعمال العنف والقوة فكرة خاطئة
وعالج المؤلف في المسألة الرابعة مسألة الجزية على الذميين، وقال بأن الغرض منها لم يكن إجبار الناس على اعتناق الإسلام بل كانت مجرد ضريبة للمحافظة على أرواح الناس وأملاكهم
أما عن التعصب في الدين، وهي المسألة الخامسة فالإسلام لا يعارض العلم، ولا يعاقب الأحرار من العلماء أو يتعقبهم، بل دعا الدين الإسلامي إلى الدراسة، وإلى العلم والمعرفة،
وقد أحيا المسلمون العلماء أيا كانوا، وأشادوا بذكرهم واحترموهم ويجلوهم؛ ويكفي إن علماء اليهود في سورية وعلماء النصارى في مصر، كانوا يجلسون مع غيرهم من العلماء في مجالس الخلفاء والحكام. ولقد نقل المسلمون العلوم إلى بلاد الغرب، كما إن الإسلام لم يحظر على الناس حرية البحث، بل ضمن لهم الحرية الكاملة سواء أكانوا من الأولياء أم الأعداء
أما مسألة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية، وهي النقطة السادسة، فإن هذه الدعوى لم تأت في أي كتاب علمي للتاريخ، وقد كذبتها دائرة المعارفة الإسلامية، كما كذبها الأستاذ موللر في كتابه (الإسلام في المشرق والمغرب)
وعالج المؤلف في النقطة السابعة عفاء الدولة الإسلامية، وقال إن ذلك يرجع إلى أسباب سياسية واقتصادية، مما ليس له علاقة بالدين، وأستشهد برأي الفيلسوف شبنجلر حيث يقول:(وإذا كان هيجل قد ختم بحثه عن الإسلام بقوله: (إن قوة الإسلام اختفت كعامل لتكييف تاريخ العالم. . .) فعلينا أن نتذكر بأنه يوجد اليوم ثلثمائة مليون مسلم في العالم)
وأعقب الأستاذ البهي ذلك البحث بآراء الأستاذ الأمام الشيخ محمد عبده في الإسلام، مستنداً في ذلك إلى كتابه (الإسلام والنصرانية، والعلم والمدنية) - كما ذكرنا في البدء. وإنا نكتفي هنا بالإشارة إليه، ليراجعه من يهمه الإطلاع عليه
إبراهيم إبراهيم يوسف
شرح الإيضاح
في علوم البلاغة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
المدرس بكلية اللغة العربية
ذكر جلال الدين الخطيب أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن القزويني أنه ألف كتابه (الإيضاح) وجعله على ترتيب مختصره الذي سماه (تلخيص المفتاح) وبسط القول فيه ليكون كالشرح له، فأوضح فيه مواضعه المشكلة، وفصل معانيه المجملة، وعمد إلى ما خلا عنه المختصر مما تضمنه (مفتاح العلوم) للإمام السكاكي، وإلا ما خلا عنه المفتاح من كلام
الشيخ الإمام عبد القاهر في كتابيه (دلائل الأعجاز وأسرار البلاغة) وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما - فأستخرج من ذلك كله زبدته، وهذبه ورتبه حتى أستقر كل شيء منه في محله، ثم أضاف إلى ذلك ما أداه إليه فكره ولم يجده لغيره، فجمع بهذا أشتات هذه العلوم كلها، واستقامت له فيها هذه الطريقة البديعة التي فتن بها الناس بعده وجاراه فيها كل من كتب في علوم البلاغة الثلاثة إلى الآن
وهو يميل في مختصره (تلخيص المفتاح) إلى طريقة السكاكي في العناية بجمع القواعد دون إيراد الشواهد، ويميل في الإيضاح إلى الجمع بين طريقة السكاكي في ذلك، وطريقة عبد القاهر في العناية بإيراد الشواهد، وقد أمتاز في إيضاحه على السكاكي في طريقته بحسن الترتيب، وبوضوح العبارة وجريها على الأسلوب العربي، كما أمتاز على عبد القاهر بالقصد في إيضاح القواعد على ما يليق بأسلوب الكتابة العلمية
ولكن العلماء الذين أتوا بعد الخطيب لم تعجبهم طريقة (الإيضاح) على ما تمتاز به من هذه الميزات العظيمة، وفتنوا أيما فتنة بطريقة (التلخيص) في العناية بجمع القواعد، وإهمال إيراد الشواهد من منظوم العرب ومنثورهم، فوضعوا عليه من الشروح المبسوطة ما لا يحصى، ووضعوا على تلك الشروح شروحاً سموها حواشي، ووضعوا على تلك الحواشي شروحاً سموها تقارير، وجروا فيها كلها على إهمال ما أهمله الخطيب في تلخيصه من تلك الشواهد التي لا يستقيم النظر في هذه العلوم إلا بها، فجاء كل ما كتبوه على هذه الطريقة حشواً لا فائدة إلى في القليل منه، حتى أصبحت طريقة غاية في العقم، وغدت دراسة هذه العلوم بها خالية من الثمرة، عاجزة عن تربية الذوق البياني
وقد أحسنت كلية اللغة العربية من كليات الجامع الأزهر بالعدول عن درس هذه العلوم في التلخيص وشرحه للسعد التفتازاني إلى درسها في الإيضاح وحده، ولكن طلاب هذه الكلية يجدون أنفسهم في حاجة إلى الرجوع إلى هذه الشروح والحواشي والتقارير في كثير من مواضع الإيضاح في سائر أبوابه، فيضطرون بحكم هذه الحاجة إلى الرجوع إليها كلها، واستيعاب النظر فيها، وتضيع بذلك الفائدة المقصودة من إيثار درس الإيضاح عليها
ولا شك أن هؤلاء الطلاب وغيرهم من طلاب هذه العلوم في حاجة إلى شرح على الإيضاح يجاريه في طريقته، ويكمل من شواهد ما لم يكمله، ويزيد عليها ما تدعو الحاجة
إليه، وينظر في ذلك الحشو الكثير الذي أتخمت به هذه العلوم فيختار منه ما فيه فائدة تتصل بها وما أقل ذلك بينه، ويهمل ما لا اتصال له بها وما أكثره فيه، ويؤدي مع ذلك كله واجب النظر العلمي الحديث في بعض مسائلها، وقد وفق الله واضع هذا الشرح الجديد على الإيضاح إلى ما أراده من هذه الأغراض، فجزاه الله عنه خير الجزاء
(ص)