المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 106 - بتاريخ: 15 - 07 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١٠٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 106

- بتاريخ: 15 - 07 - 1935

ص: -1

‌الميت الذي لا يموت

2 -

الشيخ محمد عبده

بمناسبة ذكراه الثلاثين

تولدت حيوية الأمام القوية من جبله أبيه الحرة في (محلة نصر)، وتكونت نفسيته الدينية من صوفية خاله النقية في (كنيسة أورين)، وتفتحت عقليته العلمية في شمس جمال الدين المشرقة بالقاهرة؛ فكان سر الوراثة يجريه في الاعتقاد على الإخلاص، وفي العزم على المضاء، وفي القول على الصراحة، وفي العمل على الجرأة، وفي الحياة على التمرد؛ فالقلق المقدس الذي يشبه في الحكماء، والإرهاص في الأنبياء، كان لا يفتأ منذ الحداثة يساوره في كل هم يحاوله، وعمل يزاوله، وموضع يستقر فيه؛ وذلك القلق مبعث في المصلح صفاء النفس ولطف الحس وحدة الفطنة، فهو وحدة يدرك النقص فيروم الكمال، ويلحظ الخطأ فيطلب الصواب، ويسام الركود فيبتغي التحول؛ ولذلك كان الأمام لا يكره طبعه على حال، ولا يلبس سمعه على رأي، ولا يملك لسانه عن نقد، ولا يكف عزمه عن تغيير، ولا يخزل جهده عن إصلاح

دخل المعهد الأحمدي فبرم بالتعلم لفساد الطريقة وسوء الكتب، فكان وَكْدُه طول عمره أن ينعش الدين من هذا الخمود، ويخرج الأزهر من هذه الفوضى، وينقذ الطلاب من هذا العنت؛ وظهرت مقالاته في (الأهرام) وهو لا يزال في صدر الطلب تحمل دعوة هذا العقل المتجدد المتمرد إلى العلوم العقلية، والمعارف العصرية، والأدب المنتج؛ ثم تولى رآسة المطبوعات وتحرير الجريدة الرسمية فثار على الأساليب الكتابية في الدواوين، والتقاليد الإدارية في الحكم، والبدع الفاشية في الدين، والعادات المنكرة في المجتمع؛ وكانت مقالاته في (الوقائع المصرية) دستوراً للغة، ونظاماً للكتابة، ومنهاجاً للفضيلة، قام على نفاذها سلطان من شجاعته وقوة من نفوذه

ثم شايع العرابيين في الغضبة المصرية الأولى مشايعة البصير الحازم، فأعقبته النفي إلى سورية؛ وهناك دله ذلك الشعور النبوي فيه إلى ما جره سوء سياسة السلطان، من انفراج الحال بين الأديان، وجفاف الثرى بين الأخوان، فوضع دستوراً لإصلاح التعليم الديني قدمه إلى شيخ الإسلام، ومشروعاً لإصلاح القطر السوري قدمه إلى والي بيروت، ولو أخذت

ص: 1

بهما الحكومة العثمانية لكان شأنها غير ذلك الشأن، وعاقبتها غير هذه العاقبة

ثم أتسع أفق تفكيره، وأنفسخ مدى نظره، فراعه حال المسلمين من قناعتهم بالدون، واستنامتهم إلى الهُون، وقعودهم عن مسايرة التمدن، فوافي الأفغاني إلى باريس، ودعا في (العروة الوثقى) أشتات الأمة إلى الوحدة، وأموات الجهالة إلى البعث وأسرى العبودية إلى التحرير

ثم ولوه يعد العفو عنه القضاء، فلاءم بين الأحكام المدنية والدينية، وساوى في النظام بين المحاكم الأهلية والشرعية، وأرتحل لهذه من الإصلاح ما حقق من وجودها النفع، وجدد في قضاتها الثقة، وضمن لقضائها التنفيذ

ثم عاد فحصر إصلاحه الداخلي، الديني والمدني، في إصلاح الأزهر، لأنه منشأ الدعاة والهداة والقضاء والمعلمين في مصر وغير مصر، فإذا قلبه على الوضع الذي يريد فقد وضع المكواة على أصل العلة، وأختصر الطريق إلى بلوغ الغاية؛ ولكن أبا لهب وأشياعه في الجامع وفي القصر أرادوا وا أسفاه أن يطفئوا بأفواههم نور الله، فأطفأوا بكيدهم سراج حياته!!

ذلك سر الوراثة الفلسجية عن أبيه القروي الفقير الباسل، أما سر الوراثة الروحية عن خاله التقي العارف، فرجوعه إلى مشاريع الدين الصافية، وعقائد القرآن الأولى. قال ذات يوم لخاله: ما طريقتكم؟ قال: الإسلام، قال: وما وردْكم؟ قال القرآن. فلم يتبع منذ يومئذ غير سبيل المؤمنين ومنهاج الأئمة: أيقظ همه للإسلام فقرت عقائده من الأفهام، وقطع عنه ألسنة المبشرين والمستعمرين بالأدلة النواهض والحجج الملزمة؛ وجعل عزمه للقرآن ففاز منه برياض مونقه، وأعلام بينه: فبراهين قضاياه من قواعده، وبينات دعاواه من شواهده، ومضامين عبقرياته من هدية، وأفانين بلاغاته من وحيه، وعناوين مقالاته من آيه؛ فكأنه رسول الرسول ظهر في عصر العلم الشاك والمدنية الملحدة ليكشف عما غيب الله من نور الكتاب وسره!

أما سر الوراثة العقلية عن أستاذه الحكيم الثائر، فذلك النفوذ البعيد في علوم الفلسفة، والبصر الشديد بضروب المعرفة، والإلمام المحيط بثقافة العصر، والعلم الواسع بقواعد العمران وتاريخ الأديان وطباع الشعوب وأخبار الأمم! وسر النتائج في هذه الوراثات

ص: 2

الثلاث: طبع ذكي، ونبوغ فطري، ونفحه من روح الله ليعيد كلمته على لسنه، ويبعث شريعته عن قلبه

كان الأمام محمد عبقرية ثائرة ناقدة لا تعرف القيود ولا الحدود ولا السطحية، ولكنها انحصرت بحكم الظروف في الإصلاح الديني، فوقفت بين الدين الذي تأخر، والعلم الذي تقدم، موقف ابن رشد وابن سينا من قبل: تحاول التأليف بين القلب والعقل، والتوفيق بين الرأي والنقل، فذهب أكثر جهده باطلاً بين الجامدين الذين يرون في تجديده الدين بالعلم بدعة، وبين المسرفين الذين يرون في تقييده العلم بالدين رجعية! فلو أنه عالج الإصلاح الاجتماعي من طريق العلم، أو السياسي من طريق الحكم، لدفع الأمة إلى الأمام قرناً على الأقل

وبعد، فإن في ميدان الأزهر الجديد موضع التمثال العتيد لمجدد الإسلام ومصلح الأزهر! ولو كنا اقترحنا هذا الاقتراح في عهد (الفلان) وأشباهه لاستغفرنا الجهل سبعين مرة، ولكننا نقترحه اليوم في عهد المراغي تلميذ الأمام وخليفته! فهل يتحقق الظن ويصدق الأمل؟

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌فلسفة الطائشة

للأستاذ مصطفي صادق الرافعي

. . . وهذا مجلس من مجالس الطائشة مع صاحبها، مما تسقّطَه من حديثها؛ فقد كان يكتب عنها ما تصيبُ فيه وما تخطئ، كما يكتب أهل السياسة بعضُهم عن بعض إذا فاوض الحليف حليفه أو ناكر الخصمُ خصمه؛ فان كلام الحبيبِ والسياسيّ الداهية ليس كلام المتكلم وحده، بل فيه نطق الدولة. . . . وفيه الزمن يقبل أو يُدبر

وصاحب الطائشة كان يراها امرأة سياسية كهذه الدولة التي ترغم صديقاً على الصداقة لأنه طريقها أو طريق حوادثها. وكان يسميها (جيشَ احتلال)، إذ حطت في أيامه واحتلتها فتبوأت منها ما شاءت على رغمه، واستباحت ما أرادت مما كان يحميه أو يمنعه. وقد كان في مدافعته حبها واستمساكه بصداقتها كالذي رأى ظل شئ على الأرض فيحاول غسله أو كنسه أو تغطيته. . . فهذا ليس مما يغُسل بالماء ولا يكنس بالمكنسة ولا يغطى بالأغطية، إنما إزالته في إزالة الشبح الذي هو يلقيه أو إطفاء النور الذي هو يثبته

في كل شيء على الأرض سخرية من الحسن الفاتن الذي تقدسه، تأتي من اشتهاء هذا الحسن؛ فذاك إسقاطه سقوطاً مقدساً. . . أو ذاك تقديسه إلى أن يسقط، أو هو جعل تقديسه بابا من الحيلة في إسقاطه. لابد من سفل مع العلو يكون أحدهما كالسخرية من الآخر؛ فإذا قال رجل لامرأة قد فتنته أو وقعت من نفسه:(أحبك) أو قالتها المرأة لرجل وقع من نفسها أو استهامها، ففي هذه الكلمة الناعمة اللطيفة كل معاني الوقاحة الجنسية، وكل السخرية بالمحبوب سخرية بإجلال عظيم. . . وهي كلمة شاعر في تقديس الجمال والإعجاب به، غير أنها هي بعينها كلمة الجزار الذي يرى الخروف في جمال اللحميّ الدهنيّ، فيقول:(سمين. . .!)

لهذا يمنع الدين خلوة الرجل بالمرأة، ويحرم إظهار الفتنة من الجنس للجنس، ويفصل بمعاني الحجاب بين السالب والموجب، ثم يضع لأعين المؤمنين والمؤمنات حجاباً آخر من الأمر بغض البصر، إذ لا يكفي في ذلك حجاب واحد، فان الطبيعية الجنسية تنظر بالداخل والخارج معاً. ثم يطرد عن المرأة كلمة الحب إلا أن تكون من زوجها وعن الرجل إلا أن تكون من زوجته، إذ هي كلمة حيلةٍ في الطبيعة أكثر مما هي كلمة صدقٍ في الاجتماع، ولا

ص: 4

يؤكد في الدين صدقها الاجتماعي إلا العقد والشهود لربط الحقوق بها، وجعلها في حياطة القوة الاجتماعية التشريعية، وإقرارها في موضعها من النظام الإنساني؛ فليس ما يمنع أن يكون العاشقُ من معاني الزوج، أما أن يكون من معنى آخر أو يكون بلا معنى فلا؛ وكل ذلك لصيانة المرأة ما دامت هي وحدها التي تلد، وما دامت لا تلد للبيع. . . .

وفلسفة هذه الطائشة فلسفة امرأة ذكية مطلعةٍ محيطة مفكرة، تبصر بالكتب والعقل والحوادث جميعاً، وقد أصبحت بعد سقطةِ حبها ترى الصواب في شكلين لا شكل واحد؛ فتراه كما هو في نفسه، وكما هو في أغلاطها

وقد أسقطنا في رواية مجلسها ما كان من مطارحات العاشقة، واقتصرنا على ما هو كالإملاء من الأستاذة. . . .

قال صاحب الطائشة: ذكرت لها (قاسم أمين) وقلت: إنها خير تلاميذه. . . . حتى لكأنها تجربه ثلاثين سنة لآرائه في تحرير المرأة. فقالت إنما كان قاسم تلميذَ المرأة الأوربية، وهذه المرأة بأعيننا فما حاجتنا نحن إلى تلميذها القديم؟

قالت: وابلغ من يرد على قاسم اليوم هي أستاذته التي شبت بها أطوار الحياة بعده، فقد أثبت قاسم - غفر الله له - أنه أنحصر في عهدٍ بعينه ولم يتبع الأيام نظره، ولم يستقرئ أطوار المدنية، فلم يقدر أن هذا الزمن المتمدن سيتقدم في رذائله بحكم الطبيعة أسرع وأقوى مما يتقدم في فضائله، وأن العلم لا يستطيع إلا أن يخدم الجهتين بقوة واحدة فأقواهما بالطبيعة وأقواهما بالعلم، وكأن الرجل كان يظن أنه ليس تحت الأرض زلازل ولا تحت الحياة مثلُها

مزق البرقع وقال: (إنه مما يزيد في الفتنة، وإن المرأة لو كانت مكشوفة الوجه لكان في مجموع خلْقها - على الغالب - ما يرد البصر عنها) فقد زال البرقع، ولكن هل قدر قاسم أن طبيعة المرأة منتصرة دائماً في الميدان الجنسي بالبرقع وبغير البرقع، وأنها تخترع لكل معركةٍ أسلحتها، وأنها إن كشفت برقع الخزّ فستضع في مكانه برقع الأبيض والأحمر. . . .؟

وزعم أن (النقاب والبرقع من أشد أعوان المرأة على إظهار ما تظهر وعمل ما تعمل لتحريك الرغبة، لأنهما يخفيان شخصيتها فلا تخاف أن يعرفها قريب أو بعيد فيقول: فلانة،

ص: 5

أو بنت فلان، أو زوج فلان كانت تفعل كذا. فهي تأتي كل ما تشتهيه من ذلك تحت حماية البرقع والنقاب) فقد زال البرقع والنقاب، ولكن هل قدر قاسم أن المرأة السافرة ستلجأ إلى حماية أخرى فتجعل ثيابها تعبيراً دقيقاً عن أعضائها، وبدلاً من تلبس جسمها ثوباً يكسوه تلبسه الثوب الذي يكسوه ويزينه ويظهره ويحركه في وقت معاً، حتى ليكاد الثوب يقول للناظر: هذا الموضوع أسمهُ. . وهذا الموضع اسمهُ. . وأنظر هنا وأنظر هاهنا. . ما زادت المدنية على أن فككت المرأة الطيبة ثم ركبتها في هذه الهندسة الفاحشة!

وأراد قاسم أن يعلمنا الحب لنرتبط به الزوج معنا، فلم يزد على جرأنا على الحب الذي فر به الزوج منا، وقد نسى أن المرأة التي تخالط الرجل ليعجبها وتعجبه فيصيرا زوجين - إنما تخالط في هذا الرجل غرائزه قبل إنسانيته، فتكون طبيعية وطبيعتها هي محل المخالطة قبل شخصيهما، أو تحت ستار شخصيهما؛ وهو رجل وهي امرأة، وبينهما مصارعة الدم. . . وكثيراً ما تكون المسكينة هي المذبوحة. وقد أنتينا إلى دهرِ يصنع حبه ومجالس أحبابه في (هوليود) وغيرها من مدن السما، فإن رأي الشاب على الفتاة مظهر العفة والوقار قال: بلادة في الدم، وبلاهة في العقل، وثقل أي ثقل. وأن رأى غير ذلك قال: فجور وطيش واستهتار أي استهتار. فأين تستقر المرأة ولا مكان لها بين الضدين؟

اخطأ قاسم في إغفال عمل الزمن من حسابه، وهاجم الدين بالعرف؛ وكان من أفحش غلطه ظنه العرف مقصوراً على زمنه، وكأنه لم يدر أن الفرق بين الدين وبين العرف هو أن هذا الأخير دائم الاضطراب، فهو دائم التغير، فهو لا يصلح أبدا قاعدةً للفضيلة. وهانحن أولاء قد انتهينا إلى زمن العرى، وأصبحنا نجد لفيفاً من الأوربيين المتعلمين، رجالهم ونسائهم، إذا رأوا في جزيرتهم أو محلتهم أو ناديهم رجلاً يلبس في حقويه تبّاناً قصيراً كأنه ورق الشجر على موضعه ذاك من آدم وحواء، إذا رأوا هذا المتعفف بخرقه. . . . أنكروا عليه وتساءلوا بينهم. من؛ من هذا الراهب. . . .؟

ونسى قاسم - غفر الله له - أن للثياب أخلاقا تتغير بتغيرها فالتي تفرغ الثوب على أعضائنا إفراغ الهندسة، وتلبس وجهها ألوان التصوير - لا تفعل ذلك إلا وهي قد تغير فهمها للفضائل، فتغيرت بذلك فضائلها، وتحولت من آيات دينية إلى آيات شعرية. وروح المسجد غير روح الحانة، وهذه غير روح المرقص، وهذه غير وروح المخدع، ولكل حالة

ص: 6

تلبس المرأة لبساً فتخفي منها وتبدي. وتحريك البيئة لتتقلب، هو بعينه تحريك النفس لتتغير صفاتها، وأين أخلاق الثياب العصرية في امرأة اليوم، من تلك الأخلاق التي كانت لها من الحجاب؟ تبدلت بمشاعر الطاعة والصبر والاستقرار والعناية بالنسل والتفرغ لإسعاد أهلها وذويها - مشاعر أخرى أو لها كراهية الدار والطاعة والنسل، وحسبك من شر هذا أوله وأخفه!

كان قاسم كالمخدوع المغتر بآرائه، وكان مصلحاً فيه روح القاضي، والقاضي بحكم عمله مقلدٌ متبع، أليس عليه أن يسند رأيه دائماً إلى نص لم يكن له فيه شأن ولا عمل؟ من ثم كثرت أغلاط الرجل حتى جعل الفرق بين فساد الجاهلة وفساد المتعلمة أن الأولى (لا تكلف نفسها عناء البحث عن صفات الرجل الذي تريد أن تقدم له أفضل شيء لديها وهو نفسها؛ وعلى خلاف ذلك يكون النساء المتعلماتُ، إذا جرى القدر عليهن بأمر مما لا يحل لهن لم يكن ذلك إلا بعد محبة شديدة يسبقها علم تام بأحوال المحبوب (. . . .) وشمائله وصفاته، فتختاره من بين مئات وألوف ممن تراهم في كل وقت (!!!!) وهي تحاذر أن تضع ثقتها في شخص لا يكون أهلاً لها، ولا تسلم نفسها إلا بعد مناضلة يختلف زمنها وقوة الدفاع فيها حسب الأمزجة (؟؟؟؟) وهي في كل حال تستتر بظاهر من التعفف (؟؟؟؟). . .)

أليس هذا كلام قاض من القضاة المدنيين المتفلسفين على مذهب (لمبروزو) يقول لإحدى الفاجرتين: أيتها الجاهلة الحمقاء كيف لم تتحاشي ولم تتستري فلا يكون للقانون عليك سبيل؟

وحتى في هذا قد أثبت قاسم أنه لا يعرف الأرنب وأذنيها وإلا فمتى كان في الحب اختيار، ومتى كان الاختيار يقع فيما يجرى به القدر، ومتى كان نظر العاشقة إلى الرجال نظراً سيكولوجياً كنظر المعلمة إلى صبيانها. . . . فتدرس الصفات والشمائل في مئات وألوف ممن تراهم في كل وقت لتصفيها كلها في واحد تختاره من بينهم؟ هذا مضحك!

إليك خبراً واحداً مما تنشره الصحف في هذه الأيام؛ كفرار بنت فلان باشا خريجة مدرسة كذا مع سائق سيارتها، ففسر لي أنت كلام قاسم، وأفهمني كيف تكون اثنان واثنان خمسة وعشرين؟ وكيف يكون فرار متعلمة أصيلة مع سائق سيارة هو محاذرة وضع الثقة فيمن لا

ص: 7

يكون أهلاً لها؟

لقد أغفل قاسم حساب الزمن في هذا أيضاً، فكثير من المنكرات والآثام قد أنحل منها المعنى الديني وثبت في مكانه معنى اجتماعي مقررٌ، فأصبحت المتعلمة لا تتخوف من ذلك على نفسها شيئاً، بل هي تقارفه وتستأثر به دون الجاهلة، وتلبس له (السواريه)، وتقدم فيه للرجال المهذبين مرة ذراعها، ومرة خصرها. . .

أقرأت (شهرزاد)؟ أن فيها سطراً يجعل كتاب قاسم كله ورقاً أبيض مغسولاً فيه شيء يقرأ:

قالت شهرزاد المتعلمة المتفلسفة، البيضاء البضة، الرشيقة الجميلة؛ للعبد الأسود الفظيع الدميم الذي تهواه:(ينبغي أن تكون أسود اللون؛ وضيع الأصل؛ قبيح الصورة، تلك صفاتك الخالدة التي أحبها. . . . . .)

فهذا كلام الطبيعة نفسها لا كلام التأليف والتلفيق والتزوير على الطبيعة

قال صاحب الطائشة:

فقلت لها: فإذا كان قاسم لا يرضيكِ، وكان الرجل مصلحاً دخلته روح القاضي، فخلط رأياً صالحاً وآخر سيئاً، فلعل (مصطفى كمال) همك من رجل في تحرير المرأة تحريراً مزق الحجاب وأل. . .؟

قالت إن مصطفى كمال هذا رجل ثائر، يسوق بين يديه الخطأ والصواب بعصا واحدة، ولا يمكن في طبيعة الثورة إلا هذا، ولا يبرح ثائراً حتى يتم انسلاخ أمته. وله عقل عسكري كان يمكر به مكر الألمان حين أكرههم الحلفاء على تحويل مصانع (كروب) فحولوها تحويلاً يردها بأيسر التغيير إلى صنع المدافع والمهلكات. وليس الرجل مصلحاً ألبتة، بل هو قائد زهاه النصر الذي أتفق له، فخرج من تلك الحرب الصغيرة وعلى شفتيه كلمة:(أريد. . .) وجعل بعد ذلك إذاً غلط غلطة أرادها منتصرة، فيفرضها قانوناً على المساكين الذين يستطيع أن يفرض عليهم وهم اليوم لا يملأون قبضة دولته، فيقهرهم عليها ولا يناظرهم فيها، ويأخذ كيف شاء، ويدعهم كيف أحب؛ وبكلمة واحدة: هو مؤلف الرواية والقانون نفسه أحد الممثلين. . .

وحقده على الدين وأهل الدين هو الدليل على أنه ثائر لا مصلح؛ فإن أخص أخلاق الثورة حقد الثائرين، وهذا الحقد في قوة حرب وحدها، فلا يكون إلا مادة للأفعال الكثيرة

ص: 8

المذمومة. والرجل يحتذي أوروبا ويعمل على أعمال الأوربيين في خيرها وشرها، ويجعل رذائلهم من فضائلهم على رغم أنفهم يتبرأون هم منها ويلحقها هو بقومه، فكأنه يعتنف الآراء ويأخذها أخذاً عسكرياً، ليس في الأمر إلا قوله أريد. فيكون ما يريد. هو لم يحكم على شبر من أوروبا يجعله تركيا، ولكنه جعل رذائل أوروبا تتجنس بالجنسية التركية. . .

وتالله إنه لأيسر عليه أن يجئ بملائكة أو شياطين من المردة، ينفخون أرض تركيا فيمطونها مطاً فيجعلونها قارة من أن يكره أوروبا على اعتبار قومه أوربيين بلبس قبعة وهدم مسجد. إنه لا يزال في أول التاريخ، وهذا الشعب الذي أنتصر به لم تلده مبادئه ولا أنشأه هدم المساجد وشنق العلماء، بل هو الذي ولدته تلك الأمهات، وأخرجه أولئك الآباء، وما كان يعوزه إلا القائد الحازم المصمم، فلما ظفر بقائده جاء بالمعجزة؛ فإذا فتن القائد بنفسه وأبى إلا أن يتحول نبياً فهذا شيء آخر له أسم آخر

ولنفرض (الأثير) كما يقول العلماء، لنستطيع أن نجعل مسألتنا هذه علمية، وأن نبحثها بحثاً علمياً، فليكن مصطفى كمال هو اللورد كتشنر في إنجلترا، فيكسب اللورد كتشنر تلك الحرب العظمى لا حرب الدويلة الصغيرة، وينتصر على البراكين من الجيوش لا على مثل براميل النبيذ. . . ثم يستعز الرجل بدالته على قومه ويدخله الغرور، فيتصنع لهم مرة ويتزين لهم مرة، ثم يأتيهم بالآبدة فيسفه دينهم، ويريدهم على تعطيل شعائرهم وهدم كنائسهم لأن هذا هو الإصلاح في رأيه. أفترى الإنجليز حينئذ يضوون إليه ويلتفتون حوله ويقولون: قائدنا في الحرب، ومصلحنا في السلم، وقد انتصرنا به على الناس فسننتصر به على الله، وظفرنا معه بيوم من التاريخ فسنظهر معه بالتاريخ كله. . .؟ أم تحسب كان كتشنر كان يجسر على هذا وهو كتشنر لم يتغير عقله؟

إنه والله ما يتدافع اثنان أن هدم كنيسة واحدة لا يكون إلا هدم كتشنر وتاريخ كتشنر، ولكن العجز ممهد من تلقاء نفسه، والأرض المنخسفة هي التي يستنقع فيها الماء فله فيها أسم ورسم؛ أما الجبل الصخري الأشم، فإذا صب هذا الماء عليه أرسله من كل جوانبه، وأفاضه إلى أسفل. . .!

قال صاحب الطائشة: فأقول لها: إذا كان هذا رأيك للنساء فكيف لا ترين مثل هذا لنفسك؟

فتضعضعت لهذه الكلمة ولجلجت قليلاً ثم قالت: أنت سلبتني الرأي لنفسي، ووضعتني في

ص: 9

الحقيقة التي لا تتقيد بقانون الخير والشر

قلت: فإذا كانت كل امرأة تغلط لنفسها في الرأي وتنصح بالرأي الصائب غيرها، فيوشك ألا يبقى في نساء الأرض فضيلة ولا يعود في المدرسة كلها عاقل إلا الكتاب

فتضاحكت وقالت: لهذا يشتد ديننا الإسلامي مع المرأة، فهو يخلق طبائع المقاومة في المرأة، ويخلقها فيما حولها، حتى ليخيل إليها أن السماء عيون تراها، وأن الأرض عقول تحصى عليها. وهل أعجب من أن هذا الدين يقضي قضاء مبرماً أن تكون ثياب المرأة أسلوب دفاع لا أسلوب أغراء، وأن يضعها من النفوس موضعاً يكون فيه حديثها بينها وبين نفسها كالحديث في الراديو له دوي في الدنيا، فيقيم عليها الحجاب وغيرة الرجل وشرف الأهل، ويؤاخذها بروح طبيعتها، فيجعل الهفوة منها كأنها جنين يكبر ولا يزال يكبر حتى يكون عار ماضيها وخزي مستقبلها

هذه كلها حجب مضروبة لا حجابٌ واحد، وهي كلها لخلق طباع المقاومة، ولتيسير المقاومة، ومتى جاء العلم مع هذه لم يكن أبداً إطلاقاً، ولم يكن أبداً إلا الحجاب الأخير كالسور حول القلعة. ولكن قبح الله المدنية وفنها؛ أنها أطلقت المرأة حرة ثم حاطتها بما يجعل حريتها هي الحرية في اختيار أثقل قيودها لا غير. أنت محمل بالذهب، وأنت حر، ولكن بين اللصوص، كأنك في هذا لست حراً إلا في اختيار من يجني عليك. . . .!

لم تعد المرأة العصرية انتصار الأمومة، ولا انتصار الخلق الفاضل، ولا انتصار التعزية في هموم الحياة؛ ولكن انتصار الفن، وانتصار اللهو، وانتصار الخلاعة

قال صاحب الطائشة: فضحكت وقلت: وانتصاري. . . .!

طبق الأصل (طنطا)

مصطفي صادق الرافعي

ص: 10

‌حول المسجد

للأستاذ أحمد أمين

ساقني حسن الحظ إلى الحديث مع سيدة إنجليزية فاضلة، وكان ذهني مستغرقاً في برنامج (الأخلاق والتربية الوطنية للمدارس الثانوية) والمتحدثون - عادة - يلونون حديثهم - ولو من غير شعور - بما يشغل أذهانهم ويستغرق أفكارهم - ومهما بعد المتحدث عن الموضوع يستولي عليه فسرعان ما يعود إليه، وينغمس فيه

لقد بدأنا الحديث في الجو وانتقلنا إلى غيره، وإذا بنا نتكلم في (التربية والتعليم وشؤونهما) وإذا بي أسأل السيدة:

- ما برنامج الأخلاق والتربية الوطنية للمدارس الثانوية في إنجلترا؟

- ليس لهما في المدارس برنامج معين ولا دروس خاصة، ولكن تلقى فيهما محاضرات في مناسبات، وأهم ما يقوم بهذه المهمة (الكنيسة) فهي تنظم دروساً للشبان والشواب في هذا الموضوع، ويقوم بها رجالها، فيكفوننا بذلك مؤونة الدروس في المدارس؛ وإلقاؤها في الكنائس يجعل لها معنى أجمل، واحتراما أوفر، وطعماً أحلى

أنتقل ذهني في سرعة البرق من الكنيسة عندهم إلى المسجد عندنا، وساءلت نفسي:

ما الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها المسجد للأمم الإسلامية؟

إني أفهم أن لمسجد الحي وظيفة هامّة بجانب وظيفته الدينية، هي الإشراف على تجلية الروح وتهذيب النفس بتنظيم المحاضرات في الموضوعات التي تمس العصر، والمشاكل التي تعرض في كل زمن، كما أن من وظيفته الإشراف على حالة الحي الاجتماعية، وما يصاب به بؤس وفقر وانغماس في المخدرات ونحو ذلك؛ ثم تنظيم الإحسان والقيام بالخدمة العامة بين الأغنياء والفقراء، وإسداء النصائح للأسر فيما يعرض لهم من متاعب وصعاب

إني أفهم من مسجد الحي أن يكون كمستشفي الحي، وغير أن المستشفي يداوي الأمراض الجسمية، والمسجد يداوي الأمراض الروحية والاجتماعية

إني أفهم أن يكون إمام المسجد رئيس المستشفي يعرف مرضى الحي، ويعرف علاجهم، ويكون صلة تآلف وتعارف بين أهل الحي، يأخذ من غنيهم لفقيرهم، ومن صحيحهم لمريضهم، ويقضي على المنازعات والخصومات ما استطاع، ويثقف الجهلاء، ويتخذ من

ص: 11

المثقفين من أهل الحي أعواناً وأنصاراً، يخطبون ويعظون، ويعلمون ويثقفون - وإذ ذاك يشعر أهل الحي بأن المسجد ضرورة من ضروريات الحياة، يقوم لهم بما تقوم به المدرسة وبما تقوم به المحكمة، وبما تقوم به جمعيات الإحسان، وبما هو فوق هذا وذاك

بل لم لا يكون المسجد معهداً للمرأة كما يجب أن يكون معهداً للرجل، فيخصص مسجد كل حي وقتاً لنساء الحي تعلمّ فيه المرأة واجباتها الدينية والاجتماعية، وتفقه فيه في دينها ودنياها، وترشد فيه إلى طرق إسعاد البيت، وتثار همتها إلى العطف والإحسان وتنظيمهما

فالمرأة الآن محرومة من غذائها الروحي والديني، لأنها بعيدة عن المسجد، حرمت منه من غير حق، وهو سلوتها في الأزمات، وهو منهل عواطفها وغذاء روحها - لقد حرمت المرأة من المسجد، فحرم أبناؤها وبناتها من العاطفة الدينية، لأن الأم - غالباً - هي مصدر هذا الإيحاء، وإذا انحرفت مرة فلم تجد المسجد يهديها ويعزيها، جمحت وغوت؛ فهي الآن بين بيت وملهى ولا مسجد بينهما يذهب ملل البيت ويكسر من حدة الملاهي

هذا هو المسجد كما أتصوره، وكما ينبغي أن يكون - قوي الأثر في النواحي الروحية والاجتماعية والتعليمية، في الرجل والمرأة، قلوب الحي معلقة به، يغارون عليه، ويعملون على ترقيته من حيث نظامه ونظافته وإمامه وخطباؤه، ويرون أنه لهم وهم له، وأن منارته ينبعث منها الإصلاح في جميع نواحيه؛ متعلمو الحي جنوده في نشر الثقافة، وأغنياؤه جنوده في محاربة الفقر، ونساؤه دعاة أبنائهم وبناتهم إليه

هذا هو الوضع الصحيح للمسجد، فأين مسجدنا منا، وأين نحن من المسجد؟

لقد أعتزل الناس واعتزله الناسُ، ولم يشعر شعوراً قوياً بوجودهم، ولم يشعروا شعوراً قوياً بوجوده

نظرت دار الآثار إلى بنائه فعدته (آثاراً) ونظر الناس إلى نظامه فعدوه كذلك (آثاراً) فليس يؤمه - مع الأسف - إلا الطبقة الفقيرة البائسة، أو الموظف الذي أحيل إلى المعاش، أو من تقدمت به السن من عامة الناس. أما الشباب المثقفون ومن أنعم الله عليهم بشيء من رغد العيش فلا يفكرون في المسجد ولا تحدثهم أنفسهم بزيارته، وإن دخلوا لا يعرفوا كيف تؤدى شعائره إلا القليل النادر، كأن السينما والمساجد أقتسما الناس، فخص المسجد بالشيوخ والعجائز والفقراء، وخص السينما بالفتيان والفتيات والأغنياء، وهي حال لا تشعر بأمل،

ص: 12

ولا تبشر بخير

ووزارة الأوقاف كذلك عدت المساجد (آثاراً)، فهي تسير في تعيين أئمتها وخطبائها وفي مراقبتها سير القرون الخالية كأن الزمن لا يسير

والأئمة والخطباء يعاملون معاملة (الآثار) فهم يقرأون غالباً الخطب التي ألفت في القرون الماضية، فلا نفساً ولا تحيي همه - كل ما فيها (أتقو الله) إجمالا من غير تفصيل. أما ما يحدث بيننا من أحداث، وأما ما نشعر به من مصائب وما ينتابنا من كوارث، فلا دخل لهم فيه، لأن دواوين القدماء لم تنص عليه

ورحبت السياسة بهذا النظر الأثري إلى المساجد فاطمأنت إليه لأنه يخدمها، وإلا فما بالنا نرى المسجد بعيداً عن الناس هذا البعد، هل لو أراد الخطباء غير الإمام أن يخطبوا في المسجد في إصلاح الحالة الاجتماعية أجيب طلبهم؟ وهل لو نظمت محاضرات ثقافية في المسجد للشباب مرة والشواب مرة في الأخلاق والتربية الوطنية تسمح وزارة الأوقاف بذلك؟ أكبر الظن أن لا

الحق أن للناس بعض العذر في الانصراف عن المساجد، فلو عرف الخطباء كيف يكلمون الناس وعرف رجال الدين كيف يصلون إلى قلوبهم، وشعر الناس أنهم يجدون في المسجد متعة روحية وغذاء دينياً واجتماعياً، لتغير الحال وازدحم المسجد بالناس من جميع الطبقات

وقد كان المسجد في الإسلام يقوم بهذه النواحي التي ذكرنا، فالخلفاء ونوابهم كانوا يخطبون في المشاكل الحاضرة - وكانوا يخطبون كلما حز بهم أمر أو عرض لهم مهمّ، وكان المسجد مدرسة للعلماء والمتعلمين والشعراء والمتأدبين، وكان المسجد مكتبة للواردين والمترددين، وكان المسجد مجمع الناس في الأعياد والمواسم، وكان المسجد مكتب الصغار ومدرسة الكبار، ولو سار في طريقة وتأقلم مع الزمن لكان يؤدي كل الخدم الاجتماعية التي أشرنا إليها من قبل ولكن (خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، وأتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب)

هل للأزهر ووزارة أن يتعاونا على إصلاح المسجد ويضعا البرامج له على أنه مرفق اجتماعي كما هو مركز ديني؟؟. . إن إصلاحه على هذا الوضع تقوية للدين، وإصلاح للناس؟

ص: 13

في القطار إلى (رأس البر)

أحمد أمين

ص: 14

‌بين الأسطورة والتاريخ

هل أحرق فاتح الأندلس سفنه؟

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تتخذ شخصية طارق بن زياد فاتح الأندلس مكانها بين عظماء الفاتحين، لا في التاريخ الإسلامي وحده، ولكن في تاريخ الأمم القديمة كلها؛ وتعتبر موقعة شذونه أو (مدينا سدونيا) من أعظم الوقائع الحاسمة في تاريخ الإنسانية، ففيها افتتح العرب أسبانيا وغنموا ملك القوط، وشادوا صرح تلك الدولة الأندلسية الزاهرة التي لبثت قروناً تبهر أمم الغرب بقوتها وفخامتها وراع حضارتها وفنونها. بيد أنه من الغريب أن شخصية الفاتح العظيم - طارق - بينما تبدو في بعض نواحيها وضاءة مشرقة، إذا بها تبدو في البعض الآخر خفية يكتنفها الغموض؛ فالرواية الإسلامية تختلف حول نشأة طارق وحول نسبته وجنسيته، وتكاد تسدل على مصيره بعد الفتح ستاراً من الصمت والنسيان

ولسنا نعرض في هذا البحث لشخصية طارق أو تاريخه أو اختلاف الرواية في شأنه، ولكنا نعرض لواقعة ترتبط باسمه، وقد يغلب عليها لون الأسطورة، وإن كانت مع ذلك تعرض علينا في لون التاريخ الحق، تلك هي واقعة إحراق السفن التي نقل عليها طارق جيشه من الشاطئ الأفريقي إلى شاطئ الأندلس. ونحن نعرف أن فتح الأندلس قد تم بدعوة من الكونت يوليان القوطي حاكم سبتة والمضيق لخصومة سياسية وشخصية بينه وبين رودريك (لذريق) ملك القوط، وأنه عاون العرب بخدماته ونصحه، وأنه هو الذي قدم السفن التي عبر العرب عليها إلى الأندلس في بعثتهم الاستكشافية الأولى بقادة طريف بن مالك (رمضان سنة 91) ثم في حملتهم الغازية بقيادة طارق بن زياد (رجب سنة 92 - أبريل 711م). وهنا تذكر الرواية أن طارقاً ما كاد يعبر بجيشه إلى أسبانيا حتى أمر بإحراق السفن التي عبر عليها جيشه وذلك لكي يدفع جنده إلى الاستبسال أوالموت أو الظفر، ويقطع عليهم كل فكرة في التخاذل أو الارتداد. فما بلغ هذه الرواية من الصحة؟ إن جميع الروايات الإسلامية التي تحدثنا عن فتح الأندلس لا تذكر شيئاً عن هذه الواقعة، ولا تذكرها سوى بعض الروايات النصرانية المعاصرة أو المتأخرة؛ ولا تذكرها الرواية الإسلامية إلا في موطن واحدة، فقد ذكر الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي الشهير (نزهة المشتاق)

ص: 15

عند الكلام على جغرافية الأندلس أن طارقاً أحرق سفنه بعد العبور بجيشه إلى الأندلس؛ وقد نقلت الروايات النصرانية المتأخرة هذه الرواية عن الإدريسي فيما يرجح؛ وفيما عدا ذلك فان جميع الروايات الإسلامية تمر عليها بالصمت المطبق

وهنالك وجه آخر لتأييد هذه الرواية هو الخطاب الذي يقال إن طارقاً ألقاه في جنده قبيل نشوب الموقعة الحاسمة بينه وبين القوط؛ ونحن نعرف هذا الخطاب الشهير الذي مازال يحفظه الطلاب كنموذج من إبداع نماذج البلاغة العربية؛ فقد أستهله طارق بقوله: (أيها الناس؛ أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم؛ وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. . .) وفي ذلك ما يمكن أن يحمل على أن الجيش الفاتح قد جرد من وسائل الارتداد والرجعة إلى الشاطئ الأفريقي، أو بعبارة أخرى قد جرد من السفن التي حملته في عرض البحر إلى أسبانيا؛ ولكنا نلاحظ من جهة أخرى أن هذا الخطاب الحربي الشهير الذي تنسبه الرواية الإسلامية المتأخرة إلى طارق، لم يرد في روايات المؤرخين المتقدمين؛ فمثلاً لم يذكره ابن عبد الحكم والبلاذري وهما أقدم رواة الفتوحات الإسلامية؛ وذكره ابن قتيبة، ولم يشر إليه ابن الأثير وابن خلدون، ونقله المقري عن مؤرخ لم يذكر أسمه، وهو على العموم أكثر ظهوراً في كتب المؤرخين والأدباء المتأخرين؛ وعلى ذلك فليس في وسعنا أن نتخذه دليلاً مادياً على واقعة إحراق السفن؛ ولو صح أن طارقاً قد ألقى مثل هذا الخطاب فعلاً - وهو ما نراه موضع الشك - فانه يمكن تفسيره بأن السفن التي عبر عليها طارق وجيشه كانت ملكاً للكونت يوليان القوطي، ولم تكن سوى أربع، وقد عبر الجيش الإسلامي عليها تباعاً في مرات عدة، فمن المعقول إذا أن يعتبر طارق أنه في حالة الهزيمة لم تكن لديه وسيلة سريعة للارتداد وعبور البحر إلى إفريقية

على أنا نستطيع مع ذلك أن نأخذ برواية الشريف الإدريسي؛ وإذا كان احتراق السفن على هذا النحو لقطع الرجعة والارتداد على جيش فاتح عمل بطولة رائع، فانه لما يتفق مع بطولة فاتح الأندلس، وليس موقف قيصر في غالباً أو موقف بونابارت في إيطاليا فيما بعد بأدعى للإعجاب من موقف طارق في سهل شريش (مكان اللقاء الحاسم)

والظاهر أن إقدام الغزاة على إحراق السفن على هذا النحو الذي تنسبه الرواية لفاتح الأندلس نوع من أساطير البطولة الخارقة التي ترجع إلى أقدم عصور التاريخ؛ ففي كثير

ص: 16

من مواطن التاريخ القديم الممزوج بخوارق الأسطورة تعرض مثل هذه الواقعة للتنويه بعمل بطولة خارق. على أننا لا نعدم أيضاً في التاريخ الحق أمثلة واقعة منها. ففي التاريخ الروماني مثل رائع لهذا الحدث هو مثل الإمبراطور يوليان في حملته الفارسية. وكان يوليان مذ جلس على عرش قسطنطينية، يتوق إلى غزو فارس وتحطيم تلك الدولة الشامخة التي مازالت منذ الحقب تناهض دولة القياصرة، وكان مثل الاسكندر المقدنوي يحفزه ويذكي عزمه؛ ففي سنة 363م، سار يوليان من إنطاكية حيث كان ينظم أهبته في جيش ضخم، واخترق صحراء الشام من جهة الشمال، ثم سار جنوباً بحذاء الفرات، وسار في نفس في الوقت الفرات أسطول روماني ضخم يحمل أقوات الجيش؛ ثم عبر يوليان نهر الفرات، واجتاح بلاد الآشوريين، واشرف على نهر دجلة حيث كان الفرس في انتظاره في الضفة الأخرى؛ وحمل الرومان سفنهم المشحونة بالمؤن والذخيرة من الفرات إلى الدجلة بعد جهود ومشاق هائلة؛ واعتزم الإمبراطور أن يعبر الدجلة بجيشه ليقابل سابور ملك الفرس في قلب مملكته كما فعل الاسكندر من قبل حيث هاجم الفرس في عقر أرضهم؛ وهنا أعتزم الإمبراطور فجأة أن ينفذ فكرة جريئة جالت بخاطره وهي أن يحرق أسطوله الراسي في دجلة؛ وفي الحال نفذت الفكرة واحرق الأسطول الروماني الضخم ولم تنقذ منه سوى سفن قلائل استبقيت لاجتياز الأنهر، ولم يتزود الجيش الإمبراطوري إلا بمؤونة عشرين يوماً؛ وكان يوليان يرمي بذلك الأجراء إلى غاية حربية حكيمة هي ألا يمكن القوات الفارسية المحصورة في مدينة اكتسيفون قاعدة الجزيرة من انتهاز فرصة توغله في الداخل ومهاجمة أسطوله والاستيلاء عليه وعلى المؤن التي يحملها غنيمة باردة. وقد حكم التاريخ على يوليان ولم يحكم له، ذلك لأنه لم يكن موفقاً في غزوته، وقد لقي جزاء في نكبة جيشه أمام الفرس وفي مصرعه متأثراً بجراحه؛ وارتد الجيش الروماني مهزوماً ممزقاً ونجت فارس بحريتها واستقلالها مدى ثلاثة قرون أخرى حتى كان الفتح العربي

وفي التاريخ الحديث مثل واقعي رائع أعدمت فيه سفن الجيش الفاتح، هو مثل هرناندو كورتيز فاتح المكسيك؛ ومن غرائب القدر أن يكون أروع نموذج لهذا الضرب من البطولة أسباني يذكرنا بطارق فاتح أسبانيا وما ينسب إليه في هذا الصدد. ومن المرجح جداً أن يكون فاتح المكسيك قد تأثر بالمثل الرائع الذي تنسبه الرواية لفاتح الأندلس؛ وقد كان

ص: 17

طارق وكورتيز في الواقع كلاهما أمام ظروف متماثلة: مغامرة مجهولة الظروف والعواقب، ومحاولة جريئة لافتتاح أرض جديدة وعالم جديد، وجيش قليل العدد ليواجه جيوشاً زاخرة لا يعلم نوعها ولا مدى قوتها. بيد أن مغامرة كورتيز وقعت في ظروف أكثر دقة وخطورة؛ فقد كانت أسبانيا من أمم العالم القديم ولم تكن مجهولة تماماً من العرب وكان بها شعب قديم يتمتع بحضارة لا بأس بها؛ ولكن كورتيز كان أمام عالم مجهول تكتنفه الظلمات من كل ناحية، ولم يكن يعرف ما هي الأرض، وما هي الأمم التي يزمع اقتحامها بجنده القليل

وصل كورتيز في أسطوله المتواضع إلى مياه المكسيك في سنة 1519 لغزو إمبراطورية (الازتكيين) الهندية، ولم يكن يعرف الأسبان يومئذ عنها شيئاً إلا أنها إمبراطورية ضخمة غنية تفيض بالنعم والذهب والوهاج؛ وما كاد كورتيز وجنده يضعون أقدامهم في الأرض الجديدة، حتى فكر الفاتح الجريء في إعدام سفنه؛ وأعدمت في الحال بغراقها؛ وكان كورتيز يرمى بهذا الإجراء إلى غاية ظاهرة هي ألا يدع إلى قلوب جنده سبيلاً إلى الخور أو أملا في الارتداد. إما الظفر أو الموت: هكذا كان شعار كورتيز، وهكذا كان عزمه وخطته، وكان عملاً جريئاً، ولكن ضرورياً، حتى لا يجد الناقمون أي وسيلة لمغادرة إخوانهم، وحتى يرتمي الجميع في أحضان الموت لا يلتمسون به بديلاً سوى الظفر. ولا ريب أن عمل كورتيز عمل بطرق خارقة، وربما كان أعظم عمل من نوعه في التاريخ، لأن الفاتح الأسباني تقدم في جرأة مدهشة لافتتاح الإمبراطورية الهندية العظيمة بجيش لا يعدو عدة مئات، ولم يحجم مع ذلك عن إعدام أسطوله، وهو وسيلته الوحيدة للنجاة في حالة الهزيمة والفشل؛ وكان ظفره بافتتاح ذلك العالم الجديد عظيماً مدهشاً

ومثل هذه الحوادث تبدو في التاريخ كالأسطورة وقد تمتزج أحيانا بالأساطير؛ وكلما بعدت في ثنايا التاريخ كلما كان امتزاجها بالأسطورة أشد وأقوى. بيد أننا هنا أمام أمثلة واقعة. وفي التاريخ حوادث من نوع مماثل في شذوذه وروعته مازالت في عصرنا تبدو كالأعاجيب الخارقة، فمثلاً يذكر التاريخ أن محمداً الثاني سلطان الترك العثمانيين وفاتح قسطنطينية، حينما حاصر قسطنطينية من البر والبحر، ولم يستطع أسطوله أن يقتحم خليج القرن الذهبي الذي تقع عليه المدينة من البحر، اعتزم في الحال أن ينقل أسطوله إلى البر،

ص: 18

مما يلي مؤخرة القرن الذهبي، ونفذ مشروعه الخارق بالفعل ونقل أسطوله الضخم على طريق من الخشب المطلي بالدهن والشحم، ثم دفعه إلى داخل القرن الذهبي؛ وبذلك تم تطويق المدينة، ولم تلبث أن سقطت في أيدي الغزاة (1453م). بيد أن هذه الحوادث والأعمال الخارقة لا تبدو في روعتها الحقيقية إلا إذا اصطبغت بألوان العصر الذي وقعت فيه، وقد ينتقص من قدرها إذا قدرت بمعيار عصرنا، وتفهمها بروح العصر الذي وقعت فيه هو وحده الذي يسبغ عليها هذا اللون القوى من البطولة الخارقة، وهذا السحر الذي تبثه إلينا أعمال تشبه الأساطير في روعتها

محمد عبد الله عنان

ص: 19

‌التشجيع.

. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

سيدي. . . . . صاحب الرسالة، أنت لا تحب الثناء، ولكن القراء يحبون الحقيقة، فأرجو أن تنشر لهم هذا الفصل (على)

قرأت ما كتب عنى وعن كتابي (أبو بكر الصديق) أستاذنا أديب العربية الأستاذ الزيات، فقرأت فيه صفحة من كرم السجايا، ونبل الأخلاق، والتشجيع الذي يتفضل به الكبير على الصغير، فيسدد به خطواته، ويأخذ بيده، ويصب من قوته في أعصابه، حتى يقوى ويشتد ويتقدم، فأحببت أن أعلق على هذا التقريظ بكلمة في التشجيع وماله من الأثر في العلوم والآداب، وأن أفي للحق والواجب، بأن أسجل للأستاذ وللرسالة، ماله علينا من منة، وما للرسالة علينا من يد؛ وأنا وأصحابي هنا مدينون للرسالة، بما نجد من قوة، وما نحس من نشاط، ما كنا لولا (الرسالة) نحس منه شيئاً؛ وما رأينا قبل الرسالة مجلة أدبية راقية، فتحت أبوابها لأدباء العربية جميعاً، لا تفرق بين أبناء قطر وقطر، وبلد وبلد، ولا تزن الأدباء بالشهرة الواسعة، ولكن بالإنتاج القيم، فكانت بذلك الرسالة ديوان العرب المشترك، وسجل الأدب الحديث، وجعلت من قرائها - وقراؤها كل الناطقين بالضاد - أسرة واحدة، تجمعها وحدة المبدأ، ووحدة الغاية. وهل أجمل في إثبات هذه الوحدة، من رجل يكتب مقالة عن الأوزاعي من فلسطين، فيعقب عليه آخر من الشام، ويجيبه ثالث من مصر، ويعلق عليها رابع من سنغافورة ثم يكتب في الموضوع خامس من دمشق؟. . . . كأن الرسالة قد محت بسحرها ما بين سنغافورة والشام من صحارى وبحار، وجبال وأنهار فغدت هذه من تلك، كالمقعد من المقعد في الصف الواحد، يخرج رأي من هنا، ورأي من هنا، ويسمع الأستاذ وهو على منبره الرأيين ليقول القول الفصل، وينطق بالكلمة الحاسمة

وما الأستاذ إلا الزيات وما المنبر إلا الرسالة!

أشكر للأستاذ هذه السنة التي يتبعها في تشجيع صغار الأدباء، والأخذ بأيديهم، لأن التشجيع مذ كان أصل التقدم، وسبب النجاح؛ وقد قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع! وقالت: أنها في تلك السنّ، بعد تلك

ص: 20

الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضى إلى الأمام وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير

وإن من أظهر الأسباب في ركود الأدب في الشام في القرن الماضي، وانقطاع سبيل التأليف، هو فقدان التشجيع، وذلك (الاحتكار العلمي) الذي قتل كثيراً من النفوس المستعدة للعلم، وخنق كثيراً من العبقريات المتهيئة للظهور، فقد كان العلم في الشام مقصوراً يومئذ على بيوت معروفة، لا يتعداها ولا يجوز أن يتعداها، هي: بيت العطار، والحمزاوي، والغزي، والطنطاوي، والشطي، والخاني، والكزبري، والاسطواني، والحلبي. . . وكانت كلها متجمعة حول المدرسة البادرائية؛ في القميرية والعمارة، وزقاق النقيب، حيث يسكن الأمير العالم المجاهد عبد القادر الجزائري رحمه الله عليه وعليهم؛ وكان لهذه البيوت كل معاني الامتياز و (الاحتكار العلمي)، فإذا سمع أن شاباً أشتغل بالعلم من غير هذه البيوت، وقدروا فيه النبوغ، وخافوا أن يزاحمهم على وظائفهم الموروثة، بذلوا الجهد في صرفه عن العلم، والعدول به إلى التجارة؛ أو ليست الوظائف العلمية وقفاً على هذه البيوت؟ أو ليس للولد ولاية العهد في وظيفة أبيه، تنحدر إليه الإمامة أو الخطابة أو التدريس عالماً كان أو جاهلاً، فكيف إذن يزاحمهم عليها أبناء التجار، وهم لا يزاحمون أبناء التجار على (حوانيتهم)؟ أولا يكفي أبناء التجار هذا القسط الضئيل من النحو والصرف والفقه والمنطق الذي يمن به عليهم هؤلاء العلماء؟. . .

حتى إنه لما نشأ محمد أمين (ابن عابدين) وأنسوا منه الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقد، والعقل الراجح، خافوا منه فذهبوا يقنعون أباه - وكان أبوه امرأً تاجراً - ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكب به طريق العلم، وجعلوا يكلمونه، ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلصائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيراً، فثبت الوالد فكان من هذا الولد المبارك، ابن عابدين صاحب (الحاشية)، أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي

بل لقد أرادوا أن يصرفوا أستاذناً العلامة محمد بك كرد علي عن العلم، فبعثوا إليه بشقيقين من آلـ. . . بشقيقين قد ماتا فلست أسميهما، على رغم أنهما قطعاً عن العلم أكثر من أربعين طالباً - فمازالا بأبيه - ولم يكن أبوه من أهل العلم - ينصحانه أن يقطعه عن

ص: 21

العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع، ولا منه فائدة. . . ويلحان عليه ويلازمانه، حتى ضجر فصرفهما فكان من ولده هذا، الأستاذ كرد على أبو النهضة الفكرية في الشام وقائدها، ووزير معارف سورية ومفخرتها، والذي من مصنفاته: خطط الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإدارة الإسلامية، والإسلام والحضارة العربية. . . والمقتبس. . . ومن مصنفاته:(المجمع العلمي العربي بدمشق)، ومن مصنفاته هؤلاء:(الشعراء والكتاب من الشباب)!

ولعل في الناس كثيرين كانوا لولا الاحتكار والتثبيط كابن عابدين أو ككرد علي. وهاهو ذا العلامة المرحوم الشيخ سليم البخاري مات وما له مصنفٌ رسالة فما فوقها، على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه؛ وسبب ذلك أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلة عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه، فسخر منه وأنبه، وقال له:

أيها المغرور! ابلغ من قدرك أن تصنف، وأنت. . وأنت. . ثم أخذ الرسالة فسجر بها المدفأة. . فكانت هي أول مصنفات العلامة البخاري وآخرها!

وقد وقع لي أنى كنت في المدرسة وكنت أحاول أن أنظم الشعر، فآخذ أبيات قديمة فأغير قوافيها، وأبدل كلماتها، وأدعيها لنفسي، كما يفعل اليوم بعض الأدباء (الترجمة) حين يترجمون الكلمة الإنكليزية أو الفرنسية حتى إذا بلغوا التوقيع ترجموه هو أيضاً، فكانت ترجمة أسم المؤلف أو الكاتب اسم الترجمان أو (السارق)! وكان الكتاب أو الفصل المترجم من وضع أديبنا البارع. . .

كنت أنظم أبياتاً من الشعر أو اسراقها، كما ينظم كل مبتدئ ويسرق، حتى إذا اجتمع عندي كثير من القطع، عرضته على أستاذ العربية، وكان لسوء الحظ تركياً يسمى إسماعيل حقي أفندى، يعلمنا النحو العربي باللسان التركي! فلما قرأه سخر منى وسبني وتهكم علي، وجاء من بعد أخي أنور العطار - فنظم كما كنت أنظم حتى إذا اجتمع عنده كثير من القطع، عرضه على الأستاذ كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي، فأقام له حفلة تكريمية!

فكانت النتيجة أنى عجزت عن الشعر، حتى لنقل البحر بفمي أهون علي من نظم خمسة أبيات، وأن أخي أنور العطار غدا شاعر الشباب السوري، وسيغدو شاعر شباب العرب!

ص: 22

وأول من سنّ سنة التشجيع في بلدنا هو العلامة المرحوم مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري، الفيلسوف المؤرخ الجدلي، الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية، والأستاذ محمد كرد علي بك، وخالي الأستاذ محب الدين الخطيب. . . . ومما كتب في ذم التثبيط:

(. . . وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم، في هذا الوقت الذي يتنبه فيه الغافل. . .

وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولم نرَ أحد من المثبطين قديماً أو حديثاً أتى بأمر مهم، فينبغي للجرائد الكبييرة، أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة، والتحذير منها، ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم)

وكان الشيخ في حياته يشجع كل عامل، ولا يثني أحداً عن غاية صالحة، حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة ايام، فلا تقل له إن هذا غير ممكن. فتفل عزيمته، وتكسر همته، ولكن أقرئه وحبب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته

ثم أن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتثمر ثمرها، وتؤتي أكلها؛ ورب ولد من أولاد الصناع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالماً من أكابر العلماء، أو أديباً من أعاظم الأدباء! وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والتشجيع من منوال الحياكة، إلى منصب الإفتاء، وكرسي التدريس تحت القبة.

نشأ الشيخ محمد إسماعيل الحائك عامياً، ولكنه محب للعلم، محب للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس لا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه ويلطف به، لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشدّ ذلك من عزمه، فاشترى الكتب يحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهراً حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحد زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها؛ وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مشكلات المسائل، وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحولة العلماء.

ص: 23

وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشرّ، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في (القيمرية) وهو على أتان له بيضاء، فيسلم فيردون عليه السلام، فمر يوماً كما كان يمر، فوجد على الباب أخا للمفتي، فردّ عليه السلام، وقال له ساخراً:

- إلى أين يا شيخ! أذهب أنت إلى (اسطبول) لتأتي بولاية الإفتاء؟ وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال:

- أن شاء الله!

وسار في طريقه حتى إذا ابتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله، وأعطاهم نفقتهم، وسافر!

ومازال يفارق بلداً، ويستقبل بلداً، حتى دخل القسطنطينية فنزل في خان قريب من دار المشيخة، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب، أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيه أنه عربي فيحترمونه ويجلونه، ولم يكن الترك قد جنوا الجنة الكبرى بعدُ. . . فكانوا يعظمون العربي، لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناساً. . .

واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يوماً رجل منهم:

- إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيرت علماءها ولم يجدوا لها جواباً، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعل الله يفتح عليك بالجواب؟

قال: نعم

قال: سر معي إلى المشيخة

قال: باسم الله

ودخلوا على ناموس المشيخة (سكرتيرها)، فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة فرفع رأسه فقلب بصره فيه بازدراء، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضى، ثم ألقاها إليه وانصرف إلى عمله، فأخرج الشيخ نظارته فوضعها على عينه فقرأ المسألة ثم أخرج من منطقته هذه

ص: 24

الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة وللدفاع عن النفس، فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقط فقطها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل حتى سود عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب. فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام وقرأها، كاد يقضى دهشة وسروراً

- وقال له: ويحك! من كتب هذا الجواب؟

- قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت. . .

- قال: علي به

فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وان عليه أن يشير بالتحية واضعاً يده على صدره، منحنياً، ثم يمشي متباطئاً حتى يقوم بين يديه. . . . إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ، ولم يحفظ منها شيئاً

ودخل على شيخ الإسلام، فقال له:

- السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه. وعجب الحاضرون من عمله ولكن شيخ الإسلام سرّ بهذه التحية الإسلامية وأقبل عليه يسأله حتى قال له:

- سلني حاجتك

- قال: إفتاء الشام وتدريس القبة

- قال: هما لك. فاغدَ علي غداً!

فلما كان من الغد ذهب إليه فأعطاه فرمان التولية وكيساً فيه ألف دينار

وعاد الشيخ إلى دمشق فركب اتانه ودار حتى مرّ بدار العماديين فإذا صاحبنا على الباب، فسخر منه كما سخر وقال:

- من أين يا شيخ؟

- فقال الشيخ: من هنا، من اسطنبول. أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني

ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، فركع له وسجد وسلم الشيخ عمله في حفلة حافلة

ومن هذا الباب قصة الشيخ علي كزبر، وقد كان خياطاً في سوق المسكية على باب الجامع

ص: 25

الأموي، فكان إذا فرغ من عمله ذهب فجلس في الحلقة التي تحت القبة فاستمع إلى الشيخ حتى يقوم فيلحق به فيخدمه، وكان الشيخ يعطف عليه لما يرى من خدمته إياه، فيشجعه ويحثه على القراءة فقرأ ودأب على المطالعة، حتى صار يقرأ بين يدي الشيخ في الحلقة، ولبث على ذلك أمدا وهو لا يفارق دكانه ولا يدع عمله، حتى صار مقدماً في كافة العلوم

فلما مات الشيخ حضر في الحلقة الوالي والأعيان والكبراء ليحضروا أول درس للمدرس الجديد، فافتقدوا المعيد فلم يجدوه. ففتشوا عليه فإذا هو في دكانه يخيط، فجاءوا به، فقرأ الدرس وشرحه شرحاً أعجب به الحاضرون وطربوا له. فعين مدرساً ولبث خمسة عشر عاماً يدرس تحت قبة النسر، وبقيت الخطبة في أحفاده إلى اليوم

على أن للتشجيع عيباً واحداً هو الغرور، فأنا أعوذ بالله أن أغتر فأصدق أني أهل لكل ما تفضل به علي الأستاذ من النعوت، وأرجو أن أوفق إلى الجد والتقدم بتشجيع الأستاذ وفضله، وأشكر للأستاذ الزيات باسمي وأسم أخواني هنا، أياديه علينا وعلى الأدب العربي، الذي سمت وتسمو به (الرسالة)!

علي الطنطاوي

ص: 26

‌4 - النهضة التركية الأخيرة

للدكتور عبد الوهاب عزام

الحروف اللاتينية

أنتشر الإسلام بين الأمم فدخل الناس في الاخوة الإسلامية وصاروا أمة واحدة، واتخذوا اللغة العربية لسان الدين والعلم، لا يكتبون غيرها

ولما حيت لغاتهم على مرّ الزمان بجانب العربية كتبوها بالخط العربي الذي ألفوه، وترك من كان ذا كتاب منهم كتابته الأولى. ولم يخسروا في هذا شيئاً إذ كانت الكتابة العربية على علاتها أوضح وايسر مما كان عندهم

- 1 -

كان الفرس يكتبون بالخط الفهلوي، وهو مشتق من الخط الآرامي القديم، والخط الفهلوي مبهم مشكل. قال الأستاذ براون إنه يصدق فيه ما قاله أحد الفرنسيين عن الخطابة إنها فن إخفاء الأفكار، يعني أنه خط يخفي الألفاظ. ذلك بما تشابهت حروفه، وبما اشتركت الأصوات المختلفة في بعض الحروف. وقد أدى هذا اللبس إلى ما لم يعهده التاريخ في لغة أخرى. كان الكتاب يكتبون كلمة آرامية مكان كلمة فارسية خوفاً من اللبس، فإذا قرأوا نطقوا بالكلمة الفارسية غير المكتوبة، وتركوا الآرامية المكتوبة. روي عن ابن المقفع أنه قال: إن في اللغة الفهلوية ألف كلمة تقرأ ولا تكتب. ورى ابن النديم في الفهرست من أمثلة هذا أنهم كانوا يكتبون كلمة (بسرا) الآرامية ويقرءون كوشت (لحم) بالفارسية، ويكتبون (لهما) الآرامية ويقرأون نان (خبز) بالفارسية

ولم تكن الألفاظ الآرامية مقصورة على ما يستعار من لغة إلى أخرى من الأسماء، بل كان فيها أفعال وضمائر وإشارات. وكانوا يلحقون بالكلمات الآرامية خواتم فارسية الخ، ومن أجل صعوبة الخط الفهلوي ندر القارئون في ذلك العهد

فكان خيراً للفرس أن كتبوا لغتهم بالحروف العربية لهذا، وللأخوة العامة التي أدخلهم الإسلام بها حين مدّ ظله على الأمم وأراد أن يمحو الفروق بين بنى آدم

- 2 -

ص: 27

وأما الترك فكان أكثرهم قبائل أمية لا تعرف قراءة ولا كتابة، وتسربت إلى طوائف منهم كتابات الأمم المجاورة. كتبت بعض الأسماء والألقاب التركية بالهيروغليفية الصينية في القرنين السابع والثامن بعد الميلاد. ولما أريد تنصير الترك النازلين على بحر الخزر في القرن السادس ترجم لهم الكتاب المقدس، وكتب بالحروف اليونانية. وكذلك كتبت التركية بالحروف اليونانية في جهات الطونة، وكذلك كتبت التركية بالعبرية، والنسطورية، والهندية، والسلافية، والأرمنية الخ الخ

وقد أثر عن جماعات من الترك ضربان من الكتابة يمكن أن يعدا كتابة تركية. وهما الخط الأورخوني الذي دلت عليه الآثار التي عثر عليها حوالي نهر أورخون في سيبريا، والخط الأويغوري. والأول كتبت به تركيا الشمال، وبالثاني كتبت تركية الجنوب

فأما الخط الأورخوني فيرى أكثر العلماء أنه مشتق من الخط الآرامي القديم. وقد كتب به فئات من الترك من القرن الرابع الميلادي إلى القرن الثامن. وهو مؤلف من ثمانية وثلاثين حرفاً، أربعة منها حروف حركة، وثلاثة منها مركبة. ويوصل به غالباً كلمتان أو ثلاث معاً. وأحيانا يستغني بالحرف من الكلمة فتكتب (ت) للدلالة على آت (فرَس) و (ز) للدلالة على آز (قليل) وهكذا. ولا ريب أن هذا الخط لا يقاس بالخط العربي وضوحاً ويسراً وكمالاً

وأما الخط الأويغوري وهو أحدث الخطين، وأطولهما عهداً، وأوسعهما انتشارا، فيظن أنه حل محل الخط الأول منذ القرن الثامن الميلادي. كتبت به أول الأمر ترجمة الكتب البوذية، وبقى بين الأويغوريين وغيرهم من الترك، بعد أن دخلوا في الإسلام فكتبت به الدولة الخاقانية في كشغر (320 - 609هـ) والدولة الجنكيزية، والايلخانية (654 - 744) ودولة آلتون أوردو في قفجاق (621 - 907). وكتبت به بعض الكتب الإسلامية حتى القرن العاشر الهجري. وهذا الخط مشتق من الخط الصْغدي والصغْدي مأخوذ من الآرامية أيضاً، وهو أربعة عشر حرفاً يدل بعضها على أصوات مختلفة. وهو من اللبس والعسر بحيث لا يقاس بالخط العربي أيضاً

فكان من نعم الإسلام أن بدل بهذين الخطين الخط العربي الذي صار خط الأمم الإسلامية جمعاء. ثم الآثار القليلة التي أثرت في الخطين الأورخوني والأويغوري في بقاع ضيقة،

ص: 28

وموضوعات تافهة لا تقاس بما كتب باللغة التركية والحروف العربية في العهد الإسلامي إذ أفاد الترك من الحضارة الإسلامية، ودخلوا في جماعة المسلمين، وتمكن سلطانهم بينهم

- 3 -

والتركية العثمانية التي اختيرت لها الحروف اللاتينية أخيراً لم تعرف في تاريخها غير الحروف العربية، ولم تدوّن إلا في ظل الحضارة الإسلامية بعد سبعة قرون من الهجرة

دخل السلاجقة في الإسلام ثم أقاموا دولتهم في القرن الرابع وفتحوا بغداد سنة 447، وامتد سلطانهم على آسيا الغربية من أفغانستان إلى البحر المتوسط. ثم تقسم الخلف ميراث السلف فكان من الدول السلجوقية المتعددة دولة سلاجقة الروم وهي التي نشأت في الأناطول وما يصاقبه

وكان الأدب الفارسي في القرن الخامس قد أزدهر بجانب الأدب العربي، فأخذ السلاجقة حضارة الإسلام باللغتين العربية والفارسية. فكانت العربية لغة العلم عند سلاجقة الروم والفارسية لغة الدواوين. وكان الأدب التركي مقصوراً على العامة، غير مدوّن

ولما نشأت إمارة قرمان بعد منتصف القرن السابع صارت التركية أول مرة لغة الدواوين وكتبت بالحروف العربية

وقد اشتملت هذه التركية المكتوبة على كثير من الكلمات العربية والفارسية

- 4 -

وكانت الكتابة التركية في عهدها الأول تقارب الأسلوب العربي لا تكتب فيها حروف الحركة إلا قليلاً. ثم أثبتت حروف العلة والهاء للدلالة على الحركات دون تعميم. ثم انتهى الأمر في العصر الأخير إلى أن كتبت حروف الحركة في كل كلمة فصارت الكتابة التركية كالكتابة اللاتينية: كل حرف صحيح يليه حرف معتل للدلالة على الحركة

فإذا قرأنا مثلاً في ديوان سلطان ولد ابن مولانا جلال الدين الرومي وهو أول ناظم بالتركية العثمانية نجد رسم الكلمات الآتية على هذا النسق: أل (هذا) كُررُ (يرى) بقمز (لا ينظر) كنش (الشمس) ألرُ (يكون) أيقدا (في النوم) أجَر (يطير)، فإذا قرأنا في كتب المتأخرين وجدنا الرسم قد تغير على هذا النسق: أول، كورووو، باقماز، كونش، أولور، أويقوده،

ص: 29

أوجار

وإذا قرأنا في الكتب التي كتبت قبل ثلاثين سنة لا نجد حروف الحركة مثبتة في كل مقطع. فإذا نظرنا في الكتب التي كتبت من بعد وجدنا اطرد حروف الحركات في مقاطع الكلمة. كانت الكلمات الآتية ترسم كما ترى:

تميز (نظيف) آرقداش (أخ) كنيش (واسع) دها (أيضاً) كبى (مثل) قدر (مقدار) دكل (ليس) درين (عميق) كوزل (ظريف)

فصارت بعد كما يأتي:

ته ميز (الهاء علامة الفتحة الخفيفة) أرقاداش، كهنيش داها، كيبى، قادار، ده كيل، ده رين، كوزه ل

وكان يسع الكماليين أن يسيروا على هذه السيرة واصلين حديثهم بقديمهم مبقين على ما دوّن أسلافهم، ولكنهم آثروا، إنفاذا لخطتهم، أن ينبذوا الحروف العربية، وهي الحروف التي يكتب بها مسلمو العالم كافة، ولفقوا هجاء من الألمانية والفرنسية والإيطالية فبلغوا الكمال المطلوب ولحقوا بالسادة الأوروبيين. ولست أقول ما قاله أحد كبراء الفرس لأديب تركي يناظره في الحروف اللاتينية:(إنكم معشر الترك ليس لكم من آدابكم ما تفخرون به فآثرتم أن تسدلوا عليها ستراً من الحروف اللاتينية ولكن لنا من آدابنا ما نفخر به ونحرص على قراءته في كل جيل فلسنا نريد أن نغير كتابتنا). لست أقول هذا ففي الأدب التركي القديم ما هو جدير بالرعاية، وقد أفتن الترك في تجويد الخط حتى صاروا أئمة فيه وصار لهم من آياته ما يجدر بكل أمة أن تحرص عليه

مسألة الحروف اللاتينية ليست فيما أرى ضرورة أو إصلاحاً ولكنها فتنة من فتن تقليد أوربا التي ضربت الشرق عامة والمسلمين خاصة بالذلة والهوان، وقد بلغ الأمر أن يرى بعض الناس أن تكتب اللغة العربية أيضاً بالحروف اللاتينية، فإذا قلت لهم فما تصنعون بأحد عشر حرفاً من الهجاء العربي ليست في الحروف اللاتينية؟ قالوا نضع لها حروف لاتينية بالتركيب أو النقط. فياسبّة الأمم، وعار الأجيال، وموتى النفوس، لماذا تجعلون من أنفسكم واظعين مخترعين في حروف اللاتينية، ولا تكملون ما في حروفكم من نقص، وتصلحون ما بها من عيب؟ جرى الجدال بيني وبين واحد منهم فكان منه الحوار الآتي:

ص: 30

قلت: كيف تكتب، خاشعاً وخاضعاً، بالحروف اللاتينية؟

قال هكذا: ، و ، فأركب للدلالة على الخاء، وللشين واضع مدا على وأدل على العين بالحرف مفصولاً عما قبله بشولة كما يفعل المستشرقون

قلت فلماذا كل هذا العناء؟ لقد اضطررت أن تنقط وتشكل في الحروف اللاتينية، أترى هذا أيسر وأبين من خاشع وخاضع، قال: لا، ولكن الكلمتين بالخط العربي خاليتان من حروف الحركة

قلت: فضع كسرة تحت الشين والضاد. وهذا حسبك، بل لست في حاجة إلى هذه الكسرة فوزن الكلمة يعين حركتها. قال هذا صحيح في هذا المثال، فما بال الكلمات الأخرى. قلت: صدقت فهلم نتناول الموضوع على عمومه

- ماذا تنقمون من الكتابة العربية؟

- ننقم منها أنها كتابة لا تبين عن الألفاظ، فهذه الصورة (حسن) تقرأ حَسَن، وحُسْن، وحَسُن، وحَسّن، وحُسّن. . . . الخ

- قد كانت كتابتنا أول عهدها غير معجمة ولا مشكوله، مثلاً كانت الجيم والحاء والخاء ترسم بصورة واحدة فأعجم السلف الحروف فامتاز بعضها من بعض، ثم وجدوا الحرف الواحد في اكثر حالاته مبهم الحركة، فشكلوا الحروف فتعينت الحركات، واستبانت الألفاظ، وكان للحروف صور غير صورها الحاضرة، مازال بها الأختراع، والتجميل والتجويد حتى بلغت جمالها الحاضر، وتعددت الخطوط، وجعل لكل مقصد ضرب يواتيه، فكان خط الثلث والنسخ والرقعة وغيرها. فان كنتم يا رجال القرن العشرين أحياء قادرين على الإبداع، أباة آنفين من المحاكاة، وإن تكن عقولكم غير سقيمة، وقرائحكم غير عمقية، فانظروا في كتابتكم، فان رأيتم عيباً فأصلحوه، وأن آنستم نقصاً فأكملوه، ولا تكونوا في عصور العلم ضلالاً، وفي نور القرن العشرين ظلالاً، أدخلوا في الكتابة حروف الحركة إن شئتم، أو افعلوا غير ذلك إن استحسنتم، فأما أن تقولوا كتبت أوربا فنكتب مثلها فذلك ضلال العقول، وهوان النفوس، والموت الذي لا يستره باطن الأرض

ثم تنسى يا أخي أن اللغة العربية لغة أوزان وصيغ، فليست كل كلمتها في حاجة إلى الشكل، ولو أتسع المجال لأبنت لك أن الكاتب العربي يستطيع أن يكتب سطوراً لا يحتاج

ص: 31

فيها إلا إلى شكلات قليلة، وقد ضربت مثلاً من هذا في مقدمة الشاهنامه

- هب ما قلت صواباً، فماذا ترى في شكاوي أصحاب المطابع من كثرة صور الحروف العربية: للحرف صورة في أول الكلمة وأخرى في وسطها وثالثة في آخرها، على حين لا يرى الطابع الأوربي أمامه للحرف إلا صورة واحدة

- بل صورتين صغيرة وكبيرة

- أجل وهذه ميزة أخرى للحروف اللاتينية

- هذه الشكاوى هي شكاوى أصحاب المال من كثرة العمال؛ كل صاحب مطبعة يود أن يديرها عامل واحد، ليأخذ كثيراً ويعطي قليلاً، وأما القارئ فسيان عنده أن يكون الذين هيأوا الجريدة خمسة عمال أو مائة، ثم أخبرني: ما الذي جعل للحروف اللاتينية هذه الميزة؟

- صور هذه الحروف، ثم فصل بعضها عن بعض

- قد كانت الحروف اللاتينية كلها موصولة ولا تزال توصل في كتابة اليد، فلما كانت المطابع أستحسن الأوربيون أن يفصلوا بعضها من بعض، فما الذي يمنعكم أيها المقلدون أن تفصلوا حروفكم فلا يكون للحرف في المطبعة إلا صورة واحدة؟

- هذا يبدوا لي صواباً ولكنه عجيب غريب

- أعجب منه أن نفكر في كتابة لغتنا بالحروف اللاتينية. قد هانت علينا نفوسنا حتى صار التقليد يسيراً قريباً، والاختراع مهما قل عجيباً غريباً

- لا تنسى أن العلوم والمخترعات قربت بين الأمم وطوت المسافات بين أطراف الأرض. والأمم صائرة إلى التوحّد فلماذا لا تكتب لغات الأمم كلها بالحروف اللاتينية؟

- أجل قربت العلوم والمخترعات بين الأمم، ولكن أوربا لا تعرف الأخوة بين الناس، ولا تزال تفرق بينهم بأتفه الأشياء وهي الألوان. والتوحيد الذي تريده أوربا أن تكون هي آكلة ونحن مأكولين. وهذا حديث يضيق عنه مقامنا الآن. وبعد فلماذا يكون توحيد الكتابة بالحروف اللاتينية ولا يكون بالحروف العربية؟ أن أردت أن تمتحن صدق الداعين إلى التوحيد فادعهم إلى استعمال الحروف العربية فستبلغ بهم الكبرياء والازدراء والسخرية والعجب ألا يجيبوك بكلمة. ولن يكون ذلك لما عرفوا من فضل حروفهم على حروفنا، بل

ص: 32

لأن هذه حروفهم وتلك حروفنا. وسيشترك في السخرية من لم ير الحروف العربية قط. ثم هل اتفق الأوربيون على الكتابة بحروف واحدة؟ وهل استعملوا الحروف التي اتفقوا عليها بأسلوب واحد؟ أذكر أنه منذ ثلاث سنين جاء إلى أستاذ كبير في الجامعة المصرية كتاب من جماعة في أوربا يدعونه إلى العمل معهم على تعميم الحروف اللاتينية في العالم، فسألني رأيي فيما يجيبهم به فقلت إن كان لابد أن تجيب فاكتب إليهم أن ابدأوا بكتاباتكم فوحدوها فإذا صار الروسي واليوناني والألماني والفرنسي والإنكليزي والأسباني الخ يكتبون بحروف واحدة، وأجمعوا في كتابة هذه الحروف على نمط واحد فاكتبوا إلينا لنفكر في الأمر

وبعد، فاللغات يا أخي مهما أحكمت كتابتها، لا تؤخذ من الكتب وحدها بل لابد لها من التلقين. تعرف الكلمة بالسماع ثم تدل الكتابة عليها دلالة تامة أو ناقصة. وكثيراً ما تكون الحروف كالرموز أو العلامات يلمحها الإنسان فيعرف ما وراءها من لفظ قبل أن يكمل قراءتها، ويدرك اللفظ من صورة الحروف مجتمعة بل كأنه يفهم المعاني من النقوش دون توسط الألفاظ. وإذا أسرع القارئ سلط عينية على المكتوب وقصّر لسانه عن مجاراة عينية، ثم يا أخي هل بلغت الحروف اللاتينية التي فتنتم بها درجة الكمال، وبرئت من العيوب؟ ألست ترى الصوت الواحد تدل عليه حروف عدة فصوت الكاف تدل عليه ، ، والحرف الواحد يدل على أصوات مختلفة فالحرف يلفظ مرة ك وأخرى س، ويكون حيناً س وحيناً ز وهلم جرا

والكتابة الفرنسية، وهي أدق الكتابات الأوربية، فيها عيوب كثيرة فاللفظ الواحد أو الألفاظ المتحدة في الصوت تكتب بصورة مختلفة مثل و ، و ، و ، و ، و ' ، فالصوت وحده لا يدل على رسم الكلمة. وكم في الفرنسية من حروف تكتب ولا تلفظ أحياناً كما ترى في الكلمات السابقة

وأنت تعرف الكتابة الإنكليزية، ودلالتها على الألفاظ بالجملة لا التفصيل، وكم من حرف فيها يلفظ ولا يكتب وآخر يكتب ولا يلفظ وحسبك مثل و ، ولو قرأ قارئ الكلمات الإنكليزية كما تدل عليها حروفها ما فهم عنه أحد، وقل أن تسأل رجلاً أو صبياً إنكليزيا عن أسمه أو أسم الشارع إلا أتبع الاسم بهجائه علماً بأن الصوت لا يدل على الحروف

ص: 33

والإمبراطورية الإنكليزية، مع هذا، لم تضمحل بهذه الكتابة، والأساطيل البريطانية لم تصطدم بهذه الحروف وما رأيت مصرياً من العيابين الطعّانين في الحروف العربية جرؤ مرة على عيب الإملاء الإنكليزي أو تنبه إلى عيوبه. وذلك بأن الحروف العربية لا تحميها إمبراطورية ولا أساطيل، نعوذ بالله من ضعف الهمم، وذل الأمم

وإن للحروف العربية لمزايا عظيمة فهي أيسر كتابة. لا تملى على صبىّ كلمة فيخطئ كتابتها إلا الكلمات المهموزة. وهي كذلك أخصر رسماً يستطيع كاتبها أن يساير خطيباً أو مدرساً فيكتب كل ما يقول، وهي في جملتها أوضح من كتابة اليد في اللغات الأوربية. قال لي مستشرق ألماني كبير قد أتقن اللغات العربية والفارسية والتركية، وحذق كثيراً من لغات أوروبا:(ما أشكل علي قط قراءة رسالة عربية وقد أشكل علي وعلى غيري مرات كثيرة قراءة رسائل ألمانية)

هذا إلى ملاءمة الكتابة العربية للعين. قال لي طبيب كبير من أطباء العيون: إن الحروف اللاتينية بكثرة زواياها أشق على البصر من الحروف العربية

إن مجال القول يا صاحبي واسع. وما بكم صعوبة الحروف العربية، ولكن الغرام بمتابعة أوربا، والخجل من التمسك بما أورثكم آباؤكم. ما بكم علة الحروف العربية ولكن علل الذلة والمهانة، واحتقار أنفسكم وتعظيم غيركم. إن المريض يكثر التحدث عن صحته، ويكثر اتهام الأطعمة والأشربة، كلما أحس السقم ظن أن الماء الذي شربه قد أضرّ به، أو أن الطعام الذي طعمه لم يلائمه. فكذلك أنتم تخلعون علل أنفسكم على اللغة أو الكتابة أو غيرهما وإنما الداء الدوي في أنفسكم، والعلة القاتلة في سرائركم

(له بقية)

عبد الوهاب عزام

ص: 34

‌المؤتمر الثامن للجمعية الطبية المصرية بدمشق

للأستاذ عز الدين التنوخي

كاتب سر المجمع العلمي العربي

مطالب جليلة، ورغائب جميلة، وقلوب كبيرة نبيلة، إلى معارف شبيبة مثقفةٍ، ومدارك كهولةٍ ممحصة، وتجارب شيخوخة محنكة، مع كثيرٍ من الخيرات والبركات، قد حل دمشق أولئك جميعاً بحلول رجال المؤتمر الطبي الثامن فيها

أجل تغيرت بهم في دمشق أحوال المجتمع والحياة، فأصبح مؤتمرهم حديث الأندية وملهج الألسنة، فلم يبق في أحياء الفيحاء من لم يتحدث به من الرجال والنساء؛ وتبدلت كذلك فنادق دمشق بأبهائها وموائدها وبما قام فوق صروحها من خضر الأعلام المصرية الزاهرة بأنجمها الثلاثة وهلالها خفاقة إلى جانب تلك الأعلام الشامية الزاهية بألوانها الأربعة وجمالها

ويا حبذا يوم نشاهد هذه الأعلام العربية بلغة أبنائها وبلدانها، تقر عيوننا بكثرة أنواعها وألوانها فيتماوج غداً على المؤتمرات العربية في دمشق: العلم المصري والشامي والعراقيّ والحجازي واليماني والبرقي والتونسي والجزائري والمراكشي، وتتمازج فيها لهجات العرب المنتشرة في أقطار هذه الأعلام، فيتألف من مجموعها لحن عربي نديّ يرتفع له حجاب السمع، ويهتز له شغاف القلب

بل قل ما أسعد ذلك اليوم الأغر المحجل الذي نرى فيه للأقطار العربية المتحدة - والقاهرة (وشنطونُها) يومئذ - علماً عربياً واحداً، ونسمع لها فيه نشيدا عربياً واحداً، كما يرى اليوم أبناء العالم الجديد لولاياتهم المتحدة الأمريكية لواءً وطنياً واحداً، ويسمعون في جميع أنحائها نشيداً قومياً واحداً!!

عيدان أظلاّ دمشق واجتمعا للدمشقيين في يوم واحد، وعلى صعيد واحد: عيدُ المولد النبويّ، وعيد المؤتمر الطبيّ، فكأنما اندمجت بذلك ولادة هذه الأمة الدينية الغابرة، بولادتها السياسية والدنيوية الحاضرة! فليس اليوم في الفيحاء إلا قلوب تخفق لذكرى ذلك النبيّ العربي العظيم الذي أحيا من هذه الأمة مواتها، وجمع بعد صدع النوى شتاتها؛ وليس فيها اليوم إلا قلوبٌ طاهرة وعقول ناضجة، تفكر في إحياء هذه الفصحى المحبوبة وإزالة بلبلتها

ص: 35

بتوحيد لغتها العلمية، وإعادة عزتها بجمع كلمة أبنائها؛ وليس فيها كذلك إلا حفلات وولائم متتابعات في قصر أمية والقصر الملكي، وردهة محاضرات الجامعة، وحديقة الأمة الرائعة، ورياض الغوطة الفيحاء، وربى بلودان الشماء

كذلك تبدلت بالمؤتمر الثامن في دمشق لهجة صحافتها، فذهلت بنشر أخباره جريدة (الأيام) عن صراحتها، و (القبس) عن معارضتها و (الجزيرة) عن ميثاقها، و (ألف باء) عن اعتدالها، و (فتى العرب) عن كفاحه، و (الشعب) عن طماحه، و (المضحك المبكي) عن ظريف هزله ومزاحه

إن هذا المؤتمر - وهو دليل يقظة الأمة العربية وبرهانُ رشدها الاجتماعي - ليرمز إلى شعورها بقوتها الكامنة اليوم، وبقدرتها الفاعلة غداً؛ ولذا ورد علي من خبر انعقاده في دمشق ما خفف من بث قلبي الملتاع بتشتت هذه الأمة، والمرتاع لمصيرها المظلم، فشعرت لعمري به شعور الأمل الحالم أغتبط بتوهم الحقيقة، والهائم الحائم على مواقع القطر ابتهج برؤية أمنيته فلمع نور البشر في غرته

ولمَ لا أغتبط - ليت شعري - ولا أبتهج، أو لا تغلبني نشوة الطرب، وبعيني رأيت حسن ذلك الخيال مجسماً، وبأذني سمعت لحن ذلك الوصال مرنماً، في بعض مجامع المؤتمر من عتاب الأحباب على الهجرْ، والأقرباء على الجفاء، وجيرة المنازل والديار، على تناسي حقوق الجوار؛ والجوار - عمرك الله - رحم شابكة وصلة واشجة؟ وكان مما استرقته الأذن من قول أديب شاميّ لطبيب مصري وهو يعاتبه:

- (إن لم تنضموا إلينا فضمونا إليكم، فما كان لحواجز الاستعمار أن تقوى على فصم عرى الجوار؛ ألسنا نحن الشاميين نشارك إخواننا المصريين في أفراحهم وأتراحهم؛ أما كنا نفرح بالأمس لسعد، ولفوز سعد، وأنصار سعد؛ ألم ترمض جوانحنا (سيشل) بذكراها، وتقض مضاجعنا (دنشواي) ببلواها؛ أولسنا نشارككم اليوم في نعيم الواحي (الراديو) فنطرب أمثالكم لألحان أم كلثوم وعبد الوهاب، مثلما نساهمكم في العلوم والآداب بسماع الآيات والخطب والمحاضرات؟

أوليس علماؤكم في الأزهر والجامعة علماءنا، وأدباؤكم من الكتاب والشعراء أدباءنا، وتاريخ القطرين الشقيقين يكاد يكون واحداً، ومطالعاتنا اليوم في الكتب والمجلات

ص: 36

والصحف المنتشرة، تكاد تكون واحدة أيضاً؟ أولا تعلم أن (الرسالة) يقرأها في دمشقنا هذه جمهرة العلماء والأدباء من الجنسين العنيف واللطيف على السواء؟)

وكان الطبيب المصري يجيبه على أسئلته هذه العذبة الرقيقة بقوله:

- بلى، بلى، ونحن لكم اليوم يا أخي كذلك، وفوق ذلك فهذا الحديث وأمثاله هو من بعض بركات المؤتمر المصري على العرب والعربية معاً. ومن أيمن تلك البركات المأثورة العزم على توحيد المصطلحات العلمية، ففي جلستها الخطيرة بحث الخطباء في تاريخها وطرق وضعها ووسائل توحيدها، وقد أشار كاتب سر المؤتمر الحكيم الدكتور عبد الواحد الوكيل في فاتحة الجلسة إلى أن الجمعية الطبية المصرية قد اهتمت في جميع مؤتمراتها السابقة بتوحيد المصطلحات الطبية، فكان كل واضع يتعصب لوضعه فخرجنا من مؤتمراتنا كلها بدون فائدة؛ ويجب الآن بعد تكوين المجمع اللغويّ الملكي مع وجود المجع العلمي الشامي أن تخرج هذه القضية من أيدينا إلى المجمعين

وقد شجعت جمعيتنا الدكتور محمد شرف على وضع معجمه وآزرته الحكومة فوزعه على الجمعيات اللغوية في الممالك العربية، واقترحنا أن يجعل أساساً لأعمال المصطلحات الفنية، وأن يضاف إليه في كل طبعة ما يتمحص منها، وما يوضع من الألفاظ الجديدة فيتألف منه على الأيام معجمنا العربي المنشود

ثم بحث الخطباء في طرق الوضع وهي جمة، فذكروا منها قبول الأسماء الأعجمية الواردة على أوزان عربية، وليس في لغتنا ما يدل عليها، وقبول النحت عند الضرورة في الأسماء الأعجمية المركبة، وترجمة الأسماء التي لا يصح تعريبها؛ وفي الأسماء العلمية المركبة من جنس ونوع قد يجب تعريب الجنس، والنوع ذو المعنى مما يجب ترجمته لا تعريبه؛ وأما الأسماء المنسوبة إلى الأعلام والأماكن فلا يجوز غير تعريبها، إلى غير ذلك من الأساليب التي لا يجنح إليها إلا بعد التثبت من أن دواوين اللغة وكتب الطب والعلم لا تشتمل عليها، فإذا ظفرنا بمثل كلمة التعايش لكلمة وقد ذكرها الزمخشري، لم نحتج إلى نحتها أو ترجمتها أو تعريبها

وفي خلال المباحث حدث جدال قليل بين بعض الأطباء في الدفاع عن الأوضاع، لا محل لتفصيله، فانبرى لفصل الجدال بينهم الدكتور محجوب ثابت فرأينا منه خطيباً حلو النادرة،

ص: 37

طلق البادرة، يتدفق في إيراد بيناته وفكاهاته تدفق اليعبوب، فيملا الأسماع والقلوب، ومما قاله:

إن العمل المشوش (المهرجل) لا يثمر أبداً، والجمعيات الطبية العربية - وهي بحمد الله كثيرة في بلاد العرب - لا تثمر ولا تنتج إن لم تعمل كذلك بطريقة علمية منظمة، فلو أن شعبة المصطلحات الفنية في الجمعية الطبية المصرية أخذت مثل كتاب: وقسمت ألفاظه على عدد أعضاء الشعبة، وفي آخر كل شهر يعرضون ما وضعوه على الجمعية مجتمعين، وبعد تمحيصها وتحقيقها، ترسلها الجمعية إلى مجمع اللغة الملكي بمصر ليحكم لها أو عليها، فيعتبر حكمه عدلاً، وقوله فصلاً

لا جرم أن من الأنصاف والحصانة أن تجمع كلمة الأقطار العربية على مجمع مصر الملكي لأنه يمثلها بالأعضاء اللذين اختارهم من علمائها فإذا ما حكم بصحة لفظة فكأنما حكمت بها مجامع العرب كلها، إذ هي ممثلة فيه ومحكمة في ناديه؛ وأما مجامع اللغة في البلاد العربية فتعتبر روافد لمجمع مصر أو مؤتمرها اللغويّ، بما ترسله إليه من الأوضاع الجديدة، وأعضاء المجمع المرسل يبيّنون لإخوانهم في مصر توجيهاتها، وأسباب تعديلها وتفضيلها، وبذلك يكون الإنتاج خصيباً، والرأي على الأغلب مصيباً، وقديماً قيل: المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ومجمع اللغة المصري ضعيف بواحده، قويّ بروافده

إن هذا المؤتمر الطّبي الثامن لغزير النفع، كثير الرجع على الأمة العربية، فمن منافعه الجليلة تمهيدهُ السبيل إلى توحيد المصطلحات العلمية، وتمهيده السبيل إلى تعليم الطبّ في المدارس الطبية باللغة العربية وبهما يتمهّد السبيل إلى توحيد مناهج التربية والتعليم في بلاد العرب الذي هو لعمري من أقوى البواعث على توحيد الثقافة العربية المؤدي إلى توحيد الأمة العربية، وإلى سيادتها في العالم بتعارفها وتآلفها وتحالفها:

فنحن في الشرق والفُصحى بنور رحمٍ

ونحن في الجُرح والآلامِ إخوانُ

عز الدين التنوخي

كاتب سر المجتمع العلمي

ص: 38

‌الدرامة في الأدب الإنجليزي

المذهب الواقعي وفن الدرامة

بقلم محمد رشاد رشدي

تتمه

الدرامة الإنجليزية في عهد (دريدق)

من أهم ما يميز هذا العصر - منتصف وأواخر القرن السابع عشر - انتشار عادة غريبة، هي محاولة حل كل شيء في الوجود بواسطة العقل والتفكير؛ وقد كان (بوالو) على حق حينما قال:(إن ديكارت قد ذبح الشعر) - على أن هذه العادة نشأت نتيجة لحضارة هذا العصر التي كانت قائمة على أكتاف الطبقة الوسطى - ونحن لا نجد عصراً من عصور إنجلترا كان نصيب الفلاح فيه أقل مما كان في ذلك العصر؛ مع أن مادة الفن الغزيرة تأتى دائماً من الفلاح حيث يعيش الرجل جنباً إلى جنب مع الطبيعة، ويواجه صعابها وشؤونها كل ساعة وكل يوم فيتحايل على فهمها وإدراك أسرارها لا بالعلم والتفكير بل بالدين والفن

في هذا العصر لبست الدرامة ثوب النثر وأخذت (الكوميدية) تنقد عادات الناس وأحوالهم، فهي تارة ساخرة وتارة مهذبة ناصحة، وأخرى مستهترة متهتكة - على أن حوادثها وشخصياتها كانت كثيرة المطابقة للواقع، حتى أن بعض الكتاب كان يبنى قصصه بناء تاماً على حوادث شخصية وقعت له أو لمن يعرفهم - وإن كان ثمة شيء ينقص من واقعية هذه (الكوميدية) فهو أن الكاتب كان كثير الحضور والظهور في قصته - فهو يكاد يكون دائم الحديث على ألسنة أبطاله، إما ناصحاً أو متفكهاً أو ناقداً أو جاعلاً هؤلاء الأبطال الذين لا يمتون للشعر بسبب - وللحياة اليومية بكل سبب - يتحدثون بلغة هي أبعد ما تكون عن لغة الحديث العادية. أما (التراجيدية) فقد اتجهت اتجاهاً آخر كان فيه القضاء عليها، فباتت تصور عالماً كله بطولة وحب وشجاعة، وأضحى أبطالها آلات تتغنى بالفضيلة والطهر والمروءة في كلام موزون مقفى ثقيل على الأذن لا مرونة فيه ولا عبقرية؛ وإنما كان هذا التصوير الخاطئ للحياة رد فعل للجو الإباحي المستهتر الذي كان يعيش فيه شعراء العصر وطبقته العليا - كما كانت الفضيلة والبطولة مثل الفروسية الأعلى في القرون الوسطى -

ص: 39

رد فعل لخلو الحياة في ذلك العصر خلواً يكاد يكون تاماً من كل ما هو فاضل بريء

نهضة الدرامة في القرن التاسع عشر:

كانت حياة المسرح الإنجليزي في القرن الثامن عشر حياة خاملة لا نشاط فيها ولا جدة، ولو أن نجماً أو نجمين سطعا في سمائه ثم أفلا - وأعني بهما (شريدان) و (جولد سمث). والآن ونحن نريد أن نعالج نهضة القرن الفائت الحديثة يجدر بنا أن نذكر شيئاً عن كل من الاتباعية (الكلاسزم) مذهب العهد المنقرض، والإبتداعية (الرومانتسزم) مذهب العهد الناهض الجديد. والحق أن كلا من المذهبين ينشأ عن وجهة نظر خاصة نحو الطبيعة البشرية. (فالاتباعية) تعتبر الإنسان حيواناً حقيراً بطبيعته، وتعتبر أنه لا يستطيع أن يرقى وينهض إلا بالطاعة وحكم النفس والعمل الدائم. ومن هذا كانت الطاعة وضبط النفس أظهر مميزات هذا المذهب، وأنت تجدها تتجلى في الفن (الاتباعي) في دقة الأشكال والأوضاع، وفي صقلها صقلاً تاماً، ثم في خلوه من كل ما من شأنه التطرف والعنف. أما الإبتداعية فتعتبر الإنسان نبيلاً بطبيعته، غير أن الأوضاع والأنظمة التي وضعها لنفسه هي التي حطت من قيمته وجعلته ذليلاً ضعيفاً. ومثل هذه الأنظمة المجتمع نفسه - الأخلاق - والقانون وغيرها - وإن عبارة (روسو) الافتتاحية في كتابه العقد الاجتماعي:(الإنسان حر بطبيعته ولكنه يجد نفسه مكبلاً بالقيود أينما كان) هي أول تعبير صادق (للابتداعية) وهي تتجلى في الفن في نبذٍ متعمد لكل القواعد والتعاريف، وفي الاعتماد اعتماداً تاماً على قوة تعبير الفنان تعبيراً لا يقيده شكل ولا تحده قاعدة - فإن أراد الفنان (الابتداعى) أن يعالج الطبيعة لم يكن محتاجاً إلى الفلسفة تقوده وتهديه - كما كان يفعل شعراء وكتاب القرنين السابع والثامن عشر، بل إن عليه أن يلاحظ ظواهرها فقط، وأن يدون ملاحظاته دون تعديل ولا تهذيب

ومن هذا يتضح قرب المذهب (الابتداعي) من المذهب الواقعي - أعني اتجاه (الابتداعية) اتجاهاً واقعياً قوياً بطبيعتها - واتصالها أساسياً بالحقيقة والواقع. وإن شعر الشاعر الإنجليزي (وردسورث) ونظريته في الأسلوب الشعري - أن يكون خليطاً من الأساليب والألفاظ التي يتحدث بها الناس في حياتهم العادية - لشاهد على ذلك

ومما يشاهد في الدرامة في أواخر القرن التاسع عشر نبذ بعض كتابها - عن عقيدة وعمد

ص: 40

- كل ما هو شعري نبذاً تاماً كاملاً. ولقد نشأ هذا عن رغبة أصحاب المذهب الجديد في إدخال طرق البحث العلمية في الأدب، إذ يجب أن تكون الملاحظة دقيقة لا تحيز فيها كما يجب أن يكون الملاحظ مختفياً لا أثر لوجهة نظره الخاصة، بل يدوّن كل ما يلاحظه تدويناً صادقاً واضحاً. وقد كتب (زولا) يقول:(لقد ترك الكيميائيون اليوم البحث عن الذهب - على أنهم لو اهتدوا يوماً إلى صنعه، فسيكون دليلهم البحث العلمي الجديد، وإني أشبه نفسي بهم - فأنا أكدّوا وأبحث محولاً إتمام الطريقة الحديثة التي ستهدينا ولا ريب شيئاً فشيئاً إلى الحقيقة كاملة)؛ على أن (زولا) نفسه كان يدرك أن الدرامة لأجل أن تكون فناً، يجب أن تجمع عناصر أخرى غير عناصر العلم. وهو يذهب في كتابة أخرى له إلى أن للواقعية نفسها لوناً شعرياً فنياً لا يستطيع أحد إنكاره، إذ يقول:(من يستطيع أن ينكر أن في حجرة العامل الفقير شعراً أكثر مما في قصور التاريخ جميعاً؟)

ومن ظواهر هذه الواقعية العلمية التي ظلت تسود الدرامة منذ نهضتها في أواخر القرن الماضي إلى عهدنا الحالي ظاهرة التشاؤم والانقباض. والحق أن الواقع والتشاؤم يسيران دائماً جنباً إلى جنب، فالعقل الإنساني يميل إلى صبغ ما يخشى حدوثه بصبغة الحقيقة، وما يرجوه وما يأمله بصبغة الحلم والخيال؛ ولقد كانت آلهة الإنسان الفطري - وقد كان يخافها كل الخوف - أقوى في مخيلته وأوضح شكلاً من حوادث حياته اليومية

أقطاب النهضة الحديثة: أنتوق تشيكوف

تؤكد شخصية (تشيكوف) وجو مسرحياته الخاص وأسلوبها أنه أول الكتاب الحديثين الذي حقق المثل الأعلى للواقية؛ فتشاؤمه ونظرته الخاصة نحو الحياة تبدو كأنها ليست نظرة شخصية خاصة بل نظرة أهل عصره العامة - نظرة الروسي البائس الفقير الذي كان يعيش في روسيا في القرن الماضي. فأنت لا تجد (لتشيكوف) دعاية خاصة يدعو بها أو عقيدة يدافع عنها، بل هو يصور الحياة كما يراها، هادئاً قابعاً مختفياً وراء صورته. . .

هنريك ابسن:

كذلك مسرحيات هذا الكتاب النرويجي هي مثل أعلى للواقعية الحديثة؛ ولو أنها تختلف كثيراً عن كتابات (تشيكوف)، ولقد تبدو قصصه - لأول نظرة - قصصاً تعالج شئوناً

ص: 41

اجتماعية مثل الزواج وتحرير المرأة وغير ذلك؛ ولقد يتبادر إلى ذهن القارئ أنه بزوال هذه الشؤون وحلها ستزول قيمة القصص وتقل أهميتها. على أن هذا الزعم خاطئ، فروح (إبسن) ليست بروح المصلح الاجتماعي فحسب، بل هي قبل كل شيء روح شاعر كان إذا ما فكر في مشكلة اجتماعية ملكت عليه كل حواسه فأصبح لا يرى للعيش قيمة إذا هو لم يهتد إلى حلها وإزالة خطرها

ومسرحيات (برنارد شو) تعالج هي الأخرى موضوعات اجتماعية؛ على أن الفرق بين الكاتبين عظيم، فمعالجة (شو) لموضاعته هي معالجة علمية بحتة، أعني أنها لا تهمه شخصياً بل اجتماعياً - أما مع (إبسن) فهي كما قدمت موضوعات شخصية قبل أن تكون اجتماعية أو عالمية - موضوعات تهمه مباشرة كأنما كان يتعلق بها كيانه ووجوده. وقد كتب (إبسن) مرة يقول:(كل ما أكتبه له علاقة وطيدة بكل ما أحيا خلاله؛ وفي كل قصة أو قصيدة أكتبها أبغي تحرير نفسي وصفاءها). ومن الجلي أن هذا يختلف كثيراً عن تفكير الكاتب الايرلندي الذي يهمه تحرير إنجلترا قبل تحرير نفسه هو؛ وقد كان تحرير النرويج يهم (إبسن) أيضاً، على أن الأهمية لم تأت مباشرة، بل أتت عن طريق نفسه وروحه. ولقد يبدو من حديثنا هذا أن مسرح (شو) أكثر مطابقة للواقع وللروح العلمية الجديدة من مسرح (إبسن)، على أن هذا خطأ وعكسه صحيح. والسبب في ذلك هو أن الناس يختلفون في آرائهم أكثر مما يختلفون في مشاعرهم واحساساتهم - (فبرنارد شو) الذي يعتمد اعتماداً كلياً على الفكرة والرأي، والذي يعيب مسرحياته من الجهة الواقعية كثرة ظهور المؤلف في القصة - سيهرم ويذوي عندما تهرم الموضوعات التي يعالجها وتموت - أما (إبسن) الذي لا يعتمد على الفكرة اعتماد (شو)، والذي لا يجعل من أبطال مسرحه ألاعيب ودمى لا قيمة لها إلا إظهار الفكرة والدعاية لها، بل يجعل منها أشخاصاً آدميين نافذاً إلى أعماق نفوسهم - مظهراً منها ما قد خفى ومضيئاً ما قد أظلم أو قتم - فسيظل حياً ما دام الإنسان والنفس البشرية حية على ما هي عليه

ويرينا (إبسن) أن أعلى أنواع الواقعية في الدرامة كما في كل فن آخر - إنما يعتمد على الخيال القوى الوثاب الذي يستطيع أن يعالج مسائله الشخصية معالجة يفهمها الجميع وتصل إلى كل القلوب حتى لقد تبدو لها وكأنها مسائلها هي لا مسائل الشاعر، ونبضاتها

ص: 42

هي قد سجلت على الورق لا نبضات الكاتب النرويجي أو الروسي أو الإنجليزي؛ وعلى هذا ففي معنى أدق مما كان يقصده الفيلسوف الإغريقي (أرسطو) تكون شخصيات مثل هذه الدرامة (مثلنا تماماً)

فليست الواقعية وليدة بحث علمي أو مذهب أو عصر خاص، بل هي جزء لا ينفصل عن الشاعرية الفذة والخيال القوي الذي يصور لك ما يرسمه تصويراً حياً قوياً، يجعلك تراه وتؤمن به وتشترك فيه حساً وعاطفة وفكراً

محمد رشاد رشدي

بكالوريوس بامتياز في الأدب الإنجليزي

ص: 43

‌7 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

ومما يدل على أن أبا العتاهية كان يحمل نفسه من أسباب اللهو ما ليس من سجيتها في الزهد لأغراض له في ذلك - ما رواه صاحب الأغاني قال: حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار. قال حدثني أبن أبي الدنيا قال حدثني الحسين بن عبد ربه قال حدثني علي بن عبيدة الريحاني قال حدثني أبو الشمقمق أنه رأى أبا العتاهية يحمل زاملة المحنثين، فقلت له: أمثلك يضع نفسه هذا الموضع مع سنك وشعرك وقدرك؟ فقال له: أريد أن أتعلم كيادهم، وأتحفظ كلامهم

وهو في أخذه بما كان يأمره به الرشيد منه ليتقي به حبسه وسجنه إنما كان يأخذ بالتقية التي يأخذ بها الشيعة، وقد كان على ما سيأتي من رجالهم، فجرى بذلك مع الرشيد كما جرى به مع الهادي والمهدي، وكان إذا خرج من سجنه، وجرى على ما يهواه منه، مضى معه كأن لم يكن هناك شيء يخيفه منه في دخيلة نفسه ومدحه بشعره أحسن مدح، وأخذ عليه منه جزيل صلاته وجوائزه، حتى إذا غلبته نفسه نبا عليه، وأخذ في زهده ونسكه، وأخذ الرشيد في الغضب عليه وسجنه وحبسه، وأبو العتاهية رابح في الحالتن، قاض لنفسه غرضها من مال العباسيين، ولمذهبه السياسي الذي سنشرحه غرضه من ذم دنياهم، والنعي على ما في دولتهم من فساد ديني وسياسي واجتماعي

وقد أخبر أبن أبي العتاهية أن الرشيد لما أطلق أباه من الحبس لزم بيته وقطع الناس، فذكره الرشيد فعرف خبره، فقال: قولوا له صرت زير نساء، وحلْس بيت! فكتب إليه أبو العتاهية:

بَرِمتُ بالناس وأخلاقهم

فصرت أستأنس بالوْحدَه

ما أكثر الناس لعمري وما

أقلهم في منتهى العدَّهِ

ثم قال: لا ينبغي أن يمضي شعر إلى أمير المؤمنين ليس فيه مدح له، فقرن هذين البيتين بأربعة أبيات مدحه فيها وهي:

عاد لي من ذكره نَصَبُ

فدموعُ العين تنسكبُ

وكذاك الحبُّ صاحبهٌ

يعتريه الهمُّ والوَصَبُ

ص: 44

خَيرُ من يُرْجىَ ومن يهَبُ

مَلِكٌ دانت له العرب

وحقيق أن يُدَانَ له

من أبوه للنبي أب

ولما عقد الرشيد ولاية العهد لبنيه الثلاثة: الأمين والمأمون والمؤتمن، قال أبو العتاهية:

رحَلْتُ عن الرّبع المحيل قَعودِى

إلى ذي زُحُوفٍ جمّةٍ وجنود

وراع يراعي الليل في حفظ أمة

يدافع عنها الشر غير رَقود

بألوية جبريلُ يقدم أهلها

ورايات نصر حوله وبُنُود

بَحَاَفيَ عن الدنيا وأبقن أنها

مفارقةٌ لبست بدار خلود

وشدُّ عرى الإسلام منه بفتية

ثلاثة أملاك وُلاةِ عهود

هُمُ خير أولاد لهم خير والد

له خير آباء مضت وجدود

بنو المصطفى هارون حول سريره

فَخيرُ قيامِ حوله وَقُعود

تقلِّب ألَحاظَ المهابة بينهم

عُيُونُ ظباء في قلوب أسود

خدودُهمُ شَمْسٌ أتت في أهلة

تبدت لراءٍ في نجوم سُعُود

فوصله الرشيد بصلة ما وصل مثلها شاعراً قط

ثم أنقض عهد الرشيد وجاء بعده عهد أبنه الأمين، وحصل ما حصل من الخلاف بينه وبين المأمون، فاضطرب أمر الدولة، ووجد أبو العتاهية من ذلك ما يساعده على المضي في سبيله من الزهد، واستخدام شعره في دعوة الأمة إليه، وتهوين أمر الدنيا التي فتنوا بها عن الآخرة، ولم يعد يقول الشعر في التغزل والمجون وما إليهما؛ ولكن لم يقطع صلته بملوك العباسيين ولم يتحرج من مدحهم الحين بعد الحين طمعاً في أموالهم. وسنتكلم بعد في أمر ذلك الزهد

حدث عكرمة عن شيخ له من أهل الكوفة قال: دخلت مسجد المدنية ببغداد بعد أن بويع الأمين محمد بسنة فإذا شيخ عليه جماعة وهو ينشد:

لهفي على وَرَقِ الشباب

وغصونه الخُضْرِ الرِّطابِ

ذهب الشباب وبان عني

غير منُتَظَرِ الإياب

فلأبكينّ على الشبا

ب وَطيبِ أيام التصابي

ولأبكينّ من البِلىَ

ولأبكينّ من الخِضَابِ

ص: 45

إني لآملُ أن أُخَلَّ

دَ والمنية في طِلَابي

قال فجعل ينشدها وإن دموعها لتسيل على خديه، فلما رأيت ذلك لم أصبر أن ملت فكتبتها، وسألت عن الشيخ، فقيل لي: هو أبو العتاهية

وحدث حبيب بن الجهم النميري قال: حضرت الفضل بن الربيع متنجزاً جائزتي وفرضي، فلم يدخل عليه أحد قبلي، فإذا عون حاجبه قد جاء فقال: هذا أبو العتاهية يسلم عليك، وقد قدم من مكة، فقال: أعفني منه الساعة يشغلني عن ركوبي، فخرج إليه عون فقال: إنه على الركوب إلى أمير المؤمنين، فأخرج من كمه نعلاً عليها شراك مكتوب عليه:

نعلٌ بعثت بها ليلبسها

قرْمٌ بها يمشي إلى المجد

لو كان يصلح أن أشرِّكها

خدِّي جعلت شراكها خدي

ثم قال لعون قل له أن أبا العتاهية أهداها إليك، فدخل بها عليه فقال له احملها معنا، فلما دخل على الأمين أخبره بها، وأنه رأى أن أمير المؤمنين أولى بلبسها لما وصف به لا بسها، فقرأ الأمين البيتين فقال: أجاد والله وما سبقه إلى هذا المعنى أحد، هبوا له عشرة آلاف درهم، فأخرجت والله في بدرة وهو راكب على حماره، فقبضها وأنصرف

ولما تولى المأمون بعد أخيه الأمين حسن حال أبي العتاهية في عهده، وكان المأمون أحسن حالاً من الملوك العباسيين قبله، فقرب أبا العتاهية منه، وأكثر من بره وصلته والإحسان إليه بما لم يفعل مثله معه سلفه؛ ومن ذلك أن أبا العتاهية كان يحج كل سنة، فإذا قدم أهدى إلى المأمون برداً ومطرفاً ونعلاً سوداء ومساويك أراك، فيبعث إليه بعشرين ألف درهم

ودخل عليه مرة فأنشده:

ما أحسن الدنيا وإقبالَها

إذا أطاع الله من نالها

من لم يوُاس الناس من فضلها

عرّض للأدبار إقبالها

فقال له المأمون: ما أجود البيت الأول! فأما الثاني فما صنعت فيه شيئاً، الدنيا تدبر عمن واسى منها أو ضن بها، وإنما توجب السماحة بها الأجر، والضن بها الوزر. فقال: صدقت يا أمير المؤمنين، أهل الفضل أولى بالفضل، وأهل النقص أولى بالنقص، فأمر المأمون بأن يدفع إليه عشرة آلاف درهم لاعترافه بالحق. فلما كان بعد أيام عاد فأنشده:

كم غافل أوْدىَ به الموت

لم يأخذ الأهْبة للفوت

ص: 46

من لم تزلْ نعمته قبلهُ

زال من النعمة بالموت

فقال له: أحسنت، الآن طببت المعنى، وأمر له بعشرين ألف درهم

فإذا رأينا المأمون بعد ذلك يزهد في هذا الملك العظيم لأهله من بني العباس، ويؤثر به من بعده الإمام عليا الرضى من آل علي بن أبى طالب رضى الله عنه، فيزوجه بنته أم حبيب، ويجعله ولي عهده، ويضرب اسمه على الدينار والدرهم، فان لشعر أبي العتاهية أعظم الأثر في ذلك؛ وهذه هي النتيجة والثمرة التي جاهد به من أجلها، فقد سعى في تزهيد الناس في كل أسباب الدنيا والتكالب عليها، ليزهد العباسيين في التكالب على هذا الملك الذي يملكونه منها، ويعودوا به إلى سيرته الأولى، فيتولاه أصلح الناس له، ولا يستأثر به أحد على غيره؛ وهذا هو ما فعله المأمون مع علي الرضا، فقد كان بمدينة مرو وفيها علي، فاستحضر أولاد العباس الرجال منهم والنساء، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين الكبار والصغار، وأستدعى علياً فأنزله أحسن منزلة، وجمع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في أولاد العباس وأولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فلم يجد في وقته أحد أفضل ولا أحق بالأمر من علي الرضا، فبايعه وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام؛ وقد قام بسبب ذلك تلك الفتنة المعروفة بينه وبين عمه إبراهيم بن المهدي، فقضت على تلك الفكرة الصالحة، ومضى العباسيون في أمرهم إلى أن ملكهم خولهم وجنودهم من الترك وغيرهم، وانتهى أمرهم بتلك النكبة التي انتهى بها، ولا يعلم إلا الله ماذا كان يعود من الخير على المسلمين لو تم للمأمون من ذلك ما أراده، ورجع أمر المسلمين إلى ما كانوا عليه من الشورى في عهد النبوة والخلافة

وقد بلغت سن أبي العتاهية في عهد المأمون تسعين سنة، وأدركه أجله في تلك السن سنة 209هـ ـ وقيل سنة 211هـ ـ.

وروى محمد بن أبي العتاهية قال: آخر شعر قاله أبي في مرضه الذي مات فيه:

إلهي لا تعذبني فأني

مقرٌّ بالذي قد كان مني

فما لي حيلة إلا رجائي

لعفوك إن عفوتَ وحسن ظني

وكم من زلة لي في الخطايا

وأنت عليّ ذو فضل ومنِّ

إذا فكرتُ في ندمى عليها

عضضتُ أناملي وقرعتُ سني

ص: 47

أجَنُّ بزهرة الدنيا جنوناً

وأقطع طول عمري بالتمني

ولو أني صدقتٌ الزهد عنها

قلبتُ لأهلها ظهر المجنِّ

يظن الناس بي خيراً وإني

لشر الخلق إن لم تعف عني

ثم أمر أن يكتب على قبره

أذْن حّي تسمعي

أسمعي ثم عي وَعي

أنا رهنٌ بمضجعي

فاحذري مثل مصرعي

عشت تسعين حجة

أسلمتني لمضجعي

كم ترى الحيّ ثابتاً

في ديار التزعزع

ليس زادٌ سوى التقى

فخذي منه أوْ دعي

عبد المتعال الصعيدي

ص: 48

‌29 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

تتمة الحوار

فهذه الأنهار عديدة وقوية ومنوعة، منها أربعة رئيسية أعظمها وأقصاها نحو الخارج هو ذلك المسمى بالاقيانوس الذي يجرى في دائرة حول الأرض، ويسير في الاتجاه المضاد له نهر أشيرون يجرى تحت الأرض في ربوع جدباء حتى يصيب في بحيرة أشيروزيا هذه هي البحيرة التي تذهب إلى شواطئها أرواح الدهماء حين يدركهم الموت، حيث يلبثون أجلاً مضروباً، يكون طويلاً لبعضها قصيراً لبعضها الآخر، ثم تعود ثانية لتحل في جسوم الحيوان. وينبع النهر الثالث فيما بين ذينك النهرين، وهو يصب على مقربة من منبعه في منطقة شاسعة من النار، حيث يكوّن بحيرة أوسع من البحر الأبيض المتوسط، يغلي فيها الماء والطين، ثم يخرج منها عكراً مليئاً بالوحل، فيدور حول الأرض حتى يبلغ فيما يبلغ من مواضع أطراف بحيرة أشيروزيا، لكنه لا يختلط بمائها، وبعد أن يتحوى في عدة ثبايا حول الأرض، يغوص إلى جهنم أدنى مما كان مستوي. هذا هو نهر بيرفليجثون - كما يسمى - الذي يقذف في كل مكان بفوارات من النار. ويخرج النهر الرابع في الجهة المقابلة، ويسقط أول ما يسقط في منطقة همجية متوحشة، تصطبغ كلها باللون الأزرق القاتم الذي يشبه حجر اللازورد، وهذا النهر هو ما يسمى نهر ستيجيا وهو يصب في بحيرة ستكس التي يكوّنها، وبعد أن يصب في البحيرة ويستمد لمائه قوى عجيبة، يجري تحت الأرض، دائراً حولها في اتجاه يضاد نهر بيرفليجثون، ويلتقي به في بحيرة أشيروزيا من الجهة المقابلة، ولا يختلط ماء هذا النهر أيضاً بغيره، بل يجري في دائرة ويتدفق في جهنم، مقابلاً لنهر بيرفليجثون ويسمى هذا النهر كوكيتوس كما يقول الشاعر

تلك هي طبيعة العالم الآخر، فلا يكاد الموتى يصلون إلى حيث تحملهم شياطينهم وحداناً حتى يقضي في أمرهم بادئ ذي بدء، إن كانوا أنفقوا الحياة في الخير والتقوى أم لا، فمن

ص: 49

ظهر منهم أن حياتهم لم تكن لا إلى الخير ولا إلى الشر، فانهم يذهبون إلى نهر أشيرون، ويركبون ما يصادفونه من وسائل النقل، فيُحملون فيها إلى البحيرة حيث يقيمون ويطهرون من أوزارهم ويعانون جزاء ما أساءوا به للناس من أخطاء، ثم يغتفر لهم وينالون جزاء وفاقاً بما قدمت أيديهم من خير. أما أولئك الذين لا يرجى لهم إصلاح، فيما يظهر، لفداحة ما أجرموا، أولئك الذين أتوا من الآثام المنكرة شيئاً كثيراً، كتدنيس المعابد وإزهاق الأنفس إزهاقاً خبيثاً عنيفاً أو ما أشبه ذلك - أولئك يلقى بهم في جهنم لا يخرجون منها أبداً، فهي لهم أنسب مصير. أما هؤلاء الذين أجرموا أجراماً لا يجل عن العفو على هوله - أولئك الذين قسوا على والد أو والدة مثلاً وهم في سورة من الغضب ثم أخذهم الندم مدى ما بقى من حياتهم، أو الذين قتلوا نفساً مدفوعين بظروف تخفف من جرمهم - هؤلاء يغمسون في جهنم، ولزام عليهم أن يصلوا عذابها حولاً، وفي نهايته تقذف بهم الموجة: أما قاتل النفس فتقذف به إلى مجرى نهر كوكيتس، وأما قتلة الآباء والأمهات فإلى نهر بيرفليجيثون - فيحملون إلى بحيرة أشيروزيا حيث يرفعون عقائرهم صائحين بضحاياهم القتلى، أو بمن نالتهم منهم إساءة، عسى أن تأخذهم بهم رحمة فيتقبلوهم ويسمحوا لهم بالخروج من النهر إلى البحيرة. فان نالتهم الرحمة من أولئك، خرجوا ونجوا من عذابهم، وأن لم يرحموهم حملوا إلى جهنم مرة أخرى، ومنها إلى الأنهار، وهكذا دواليك حتى يظفروا ممن أساءوا إليهم بالرأفة، فهكذا قضى عليهم قضاتهم. أما من امتازت حياتهم بالتقوى، فأولئك يطلق سراحهم من هذا السجن الأرضي، فينطلقون إلى عليين حيث يقيمون في مقامهم الطاهر ويعيشون على تلك الأرض وهي أنقى؛ وأما أولئك الذين طهروا أنفسهم حقاً بالفلسفة فهم يعيشون منذ الآن متحللين من أجسادهم في منازل أجمل من تلك، يعجز عنها الوصف ويضيق الوقت أن أحدثكم عنها

إذن ياسمياس، وقد رأيت هذه الأشياء كلها، فماذا ينبغي لنا ألا نفعله لكي نظفر بالفضيلة والحكمة في هذه الحياة؟ ألا إن الجزاء لجميل، والأمل لعظيم

لست أريد أن أقطع بصدق الوصف الذي قدمته عن الروح ومنازلها - فما ينبغي لرجل ذي فطنة أن يقطع بهذا، ولكنه في رأيي حقيق، وقد أتضح خلود الروح، أن يجازف بالظن، لا خاطئاً فيه ولا عابثاً، أن يكون الصواب شيئاً كهذا، وأنه منه لظن عظيم، ولابد له أن

ص: 50

يسري عن نفسه بمثل هذه الكلمات، فمن اجلها أطلت حكايتي، ولهذا أوصيكم ألا يأخذ أحد على روحه الأسى، مادام قد طرح زينة الجسد ولذائده، واعتبرها غريبة عنه، بل هي أدنى إلى إيذائه بما تجر وراءها من أثر، ومادام في هذه الحياة قد تعقب لذة المعرفة، إلا أن أولئك الذين يزينون أرواحهم بلآلئها الصحيحة، وهي: الاعتدال والعدل والشجاعة والنبل والحق - أولئك تكون أرواحهم، إذا ما ازينت بتلك اللآلئ، مهيأة للرحيل إلى العالم السفلي حين يدركها الموت. فأنتم، أي سمياس وسيبيس، ويا سائر الرجال، سترحلون في وقت قريب أو بعيد. أما أنا، فهاهو ذا يناديني صوت القدر على حد قول شاعر المأساة، ولابد أن أجرع السم عما قريب، ويجمل بي فيما أظن أن أذهب أولا إلى الحمّام حتى لا يشق على الناس غسلُ جثماني بعد موتي

فلما أن فرغ من الحديث، قال كريتون: أعندك ما تشير علينا به يا سقراط؟ ألديك ما تقوله عن أطفالك، أو عن أي شيء آخر نستطيع أن نعينك في أمره؟

فقال: ليس عندي شيء بعينه: غير أني أحب لكم، كما كنت أحدثكم دائماً، أن تنظروا في أنفسكم، فذلك فضل تستطيعون أن تواصلوا أداءه من أجلى، وهو أيضاً فضل مني لكم. ولا ينبغي لكم أن تكونوا أدعياء فيما تقولون، لأنكم لو جهلتم أنفسكم وصدفتم عما أوصيتكم به، وليست هذه أول مرة أوصيكم فيها، فلن تجدي عليكم حماسة الادعاء شيئاً

قال كريتون: سنبذل جهدنا، ولكن كيف تريدنا أن نواريك الثرى؟

على أي وجه تشاءون، غير أنه لابد لكم أن تمسكوا بي، وان تحذروا فلا ألوذ منكم بالفرار. ثم التفت إلينا وأضاف باسماً: لا أستطيع أن أقنع كريتون أنني سقراط ذاته الذي كان يتحدث ويوجه الحوار، فهو يحسبني سقراط الآخر الذي سيشهده بعد حين جثة هامدة - وهو يسائل: ماذا عسى دفني أن يكون؟ مع أني قد أفضت في الحديث محاولاً إقامة الدليل على أني مخلّفكم حين أجرع السم، حيث أتوجه إلى لذائذ أصحاب النعيم - ويظهر أنه لم يكن لحديثي هذا الذي سرّيت به عن أنفسكم وعن نفسي، أثر في كريتون، لذلك أريدكم أن تكونوا لي الآن عنده كفلاء، كما كان هو كفيلي عند المحاكمة: على أن يختلف وعدكم عما وعد، فقد كان كفل للقضاة أني سابقى، ولكن عليكم أن تكفلوا له غير باق، بل إني ظاعن راحل، فتقل بهذا لوعته عند موتي، ولا يحزنه أن يرى جثماني يحترق أو يهال

ص: 51

عليه التراب. إني لا أحب له أن يتحسر على جدي العاثر، بأن يرتاع لدفني، فتأخذه الحيرة: على هذا النحو نكفن سقراط، أو هكذا نشيعه إلى القبر أو نواريه التراب. إن الأقوال الباطلة ليست شراً في ذاتها فحسب، بل إنها لتصيب الروح بشرها. لا تحزن إذن، أي عزيزي كريتون، وقل إنك لا تقبر منى إلا الجثمان، فاقبره على النحو الذي جرى به العرف، وكما تفضل أن يكون

ولما فرغ من هذه العبارة، نهض ودخل غرفة الحمام، يصحبه كريتون، الذي أشار إلينا بأن ننتظر، فانتظرنا نتحدث ونفكر في أمر الحوار وفي هول المصاب. لقد كنا كمن ثكل في أبيه، وأوشكنا أن نقضي ما بقى من أيامنا كالأيتام، فلما تم اغتساله جيء له بأبنائه - (وكانوا طفلين صغيرين ويافعاً) كما وفدت نساء أسرته، فحادثهن وأوصاهن ببعض نصحه، على مسمع من كريتون، ثم صرفهن وعاد إلينا

هاقد دنت ساعة الغروب، فقد قضى داخل الحمام وقتاً طويلاً، وعاد بعد اغتساله فجلس إلينا، ولكنا لم نفضْ في الحديث، وما هي إلا أن جاء السجان، وهو خادم الأحد عشر، ووقف إلى جانبه وقال: لست أتهمك يا سقراط بما عهدته في غيرك من الناس، من سورة الغضب، فقد كانوا يثورون ويصيحون في وجهي حينما آمرهم باجتراع السم، ولم أكن إلا صادعاً بأمر أولي الأمر. أما أنت فقد رأيتك أنبل وأرق وأفضل ممن جاءوا قبلك إلى هذا المكان، فليس يخامرني شك أنك لن تنقم عليّ، فليس الذنب ذنبي، كما تعلم، إنما جريرة سواي. وبعد، فوداعاً، وحاول أن تحتمل راضياً ما ليس من وقوعه بد، وإنك لعليم فيم قدومي إليك. ثم استدار فخرج منفجراً بالبكاء

فنظر إليه سقراط وقال: لك مني جميل لجميل. فسأصدع بما أمرتني به. ثم التفت إلينا وقال: ياله من فاتن! إنه ما أنفكّ يزورني في السجن، وكان يحادثني الحين بعد الحين، ويعاملني بالحسنى ما وسعته. انظروا إليه الآن كيف يدفعه فضله أن يحزن من أجلي فلزام علينا يا كريتون أن نفعل ما يريد. مر أحداً أن يجئ بالقدح إن كان قد تم إعداد السم، وإلا فقل للخادم أن يهيئ شيئاً منه

فقال كريتون: ولكن الشمس لا تزال ساطعة فوق التلاع؛ وكثير ممن سبقوك لم يجرعوا السم إلا في ساعة متأخرة بعد إنذارهم. إنهم كانوا يأكلون ويشربون وينغسون في لذائذ

ص: 52

الحس، فلا تتعجل إذن، إذ لا يزال في الوقت متسع

فقال سقراط: نعم يا كريتون، لقد أصاب من حدثتني عنهم فيما فعلوا، لأنهم يحسبون أن وراء التأجيل نفعاً يجنونه، وأني كذلك لعلى حق في ألا أفعل كما فعلوا، لأنني لا أظن أني منتفع من تأخير شراب السم ساعة قصيرة. أنني بذلك إنما أحتفظ وأبقي على حياة قد انقضى أجلها فعلاً، أني لو فعلت ذلك سخرت من نفسي. أرجو إذن أن تفعل بما أشرت به ولا تعص أمري

فلما سمع كريتون هذا، أشار إلى الخادم فدخل، ولم يلبث قليلاً أن عاد يصحبه السجان يحمل قدح السم، فقال سقراط: أي صديقي العزيز، أنك قد مرنت على هذا الأمر، فأرشدني كيف ابدأ. فأجاب الرجل: لا عليك إلا أن تجول حتى تثقل ساقاك ثم ترقد، فيسري السم، وهنا ناول سقراط القدح فحدق في الرجل بكل عينيه، يا أشكراتس، وأخذ القدح جريئاً وديعاً لم يرَع ولم يمتقع لون وجهه. هكذا تناول القدح وقال: ما قولك إذا سكبت هذا القدح لأحد الآلهة؟ أفيجوز هذا أم لا يجوز؟ فأجاب الرجل: أننا لا نعدُّ يا سقراط إلا بمقدار ما نظنه كافياً فقال: أني أفهم ما تقول، ومع ذلك فيحق لي بل يجب علي أن أصلي للآلهة أن توفقني في رحلتي من هذا العالم إلى العالم الآخر - فلعل الآلهة تهبني هذا، فهو صلاتي لها. ثم رفع القدح إلى شفتيه وجرع السم حتى الثمالة رابط الجأش مغتبطاً، وقد استطاع معظمنا أن يكبح جماح حزنه حتى تلك الساعة، أما وقد رأيناه يشرب السم، وشهدناه يأتي على الجرعة كلها، فلم يعدْ في قوس الصبر منزع، وانهمر مني الدمع مدراراً على الرغم مني، فسترت وجهي، وأخذت أندب نفسي، حقاً أني لم أكن أبكيه بل أبكي فجيعتي فيه حين أفقد مثل هذا الرفيق. ولم أكن أول من فعل هذا، بل أن كريتون، وقد ألفى نفسه عاجراً عن حبس عبراته، نهض وأبتعد، فتبعته، وهنا أنفجر أبولودورس الذي لم ينقطع بكاؤه طول الوقت، بصيحة عالية وضعتنا جميعاً موضع الجبناء، ولم يحتفظ بهدوئه منا إلا سقراط، فقال: ما هذه الصرخة العجيبة؟ لقد صرفت النسوة خاصة حتى لا يسئن صنيعاً على هذا النحو، فقد خبّرت أنه ينبغي للإنسان أن يسلم الروح في هدوء، فسكوناً وصبراً

فلما سمعنا ذلك، اعترنا الخجل وكفكفنا دموعنا، وأخذ سقراط يتجول حتى بدأت ساقاه تخوران - كما قال - ثم استلقى على ظهره، كما أشير له أن يفعل، وكان الرجل الذي

ص: 53

ناوله السم ينظر إلى قدميه وساقيه حيناً بعد حين، ثم ضغط بعد هنيهة على قدمه بقوة وسأله هل أحس فأجاب أن لا، ثم ضغط على ساقه وهكذا صعد ثم صعد، مشيراً لنا كيف أنه برد وتصلب، ثم لمس سقراط نفسه ساقيه وقال: ستكون الخاتمة حين يصل السم إلى القلب. فلما أخذت البرودة تتمشى في أعلى فخذيه كشف عن وجهه، إذ كان قد دثر نفسه بغطاء، وقال:(وكانت هذه آخر كلماته) إنني يا كريتون مدين بديك لاسكلبيوس فهل أنت ذاكر أن ترد هذا الدين؟ ولم يكن لهذا السؤال من جواب؛ وما هي إلا دقيقة أو دقيقتان حتى سمعت حركة، فكشف عنه الخدم، وكانت عيناه مفتوحتين، فأقفل كريتون فمه وعينه

هكذا يا اشكراتس قضى صديقنا الذي أدعوه بحق أحكم من قد عرفت من الناس، وأوسعهم عدلاً وأكثرهم فضلاً

تم الحوار

زكى نجيب محمود

ص: 54

‌زهرتي

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

قد تصوَّحتِ عند شرخ الشباب

زهرتي بغتةً فجلَّ مصابي

زهرتي قد جاء الربيع بما ازدا

ن به من نبتٍ ومن أعشاب

ولقد قام مهرجان على الأر

ض جميعاً بطاحِها والهضاب

لعزيزٌ عليّ ألا تكوني

طاقةً فوق الكالىء المعشاب

نبت الزهر كله فلماذا

أنتِ يا زهرتي بجوف التراب

ضقتِ بالقبر فاخرجي من ظلام ال

أرض للنور فوقها والرحاب

أخرجي من جوف الثرى وابسمي لي

عن رضًى أو تجهّمي للعتاب

أخرجي من جوف الثرى من جديد

واسحريني بلحظكِ الخلاَّب

وأعيدي إليّ أسعد عهدٍ

كنتُ فيه وذاك عهدُ شبابي

قرِّبيني إذا أردتِ سلامي

واصرميني إذا أردتِ خرابي

وافتحي العينَ والمسامعَ دوني

واسمعي شدوي وانظري إعجابي

أنا يا زهرتي دعوتكِ للحبّ (م)

مراراً فلم تردّى جوابي

لا تقولي إني هلكتُ فلا تر

جُ لميتٍ ذاق الردى من مآب

أنتِ تحيين في فؤادي وعيني

ودمي فائراً وفي أعصابي

أيقظي من هذا الرقاد فإن الشْ

مسَ قد ذرَّت من وراء الحجاب

أنتِ للحب والغرام بوجه ال

أرض لا للرقاد تحت التراب

أنتِ لا تخلقين يا زهرتي أن

تختفي في غياهب الأحقاب

يتهاوى دمعُ الأسى من عيوني

كشهابٍ ينقضّ إثرَ شهاب

متِّ قبلي فلو سبقتُكِ عاهد

تِ دموع الأسى على التسكاب

لا سلامٌ على الربيع إذا ثا

بَ ولم تصحبيه عند المثاب

ارجعي لي وقبّليني ولا تخ

شَيْ رقيباً على الهوى لا يُحابى

ارجعي ارجعي كما كنتِ قبلا

أو خذيني بأقرب الأسباب

إِنني لم أزرْ أجَلْ بَعْدُ قبري

غير أني منه على الأبواب

ص: 55

آهِ إن الحياة أعجزُ من أن

تستطيعَ الرجوعَ بعد الذهاب

بين شعرٍ أقوله وأنيني

شعبة من وشائج الأنساب

ذهبت زهرتي التي كنتُ أشدو

باسمها خالياً وبين صحابي

زهرةٌ قد سقيتُها بدموعي

مزَّقتها المنون بالأنياب

إنني كنت أعبد الحسن فيها

ولقد كان وجهُها محرابي

خطفتها المنون منى كعاباً

ما على الموت بعدها من عتاب

خطفتها منى ذئابُ المنايا

وذئاب المنون شرُّ الذئاب

قلت أسلو فأستريح ولكن

كيف أسلو والحب ملء أهابي

كل شيء مذكرٌ لي بليلَي

ليْتَ شعري ماذا يذكرها بي

هدّدتني إذا تصديتُ عيني

وفؤادي والنفس بالإضراب

وكأن الدنيا العريضةَ بحرٌ

وكأنا عليه بعض الحباب

خضتُ بحرَ الهوى وكان خِضَمَّا

ثم منه ركبت متنَ العباب

ثم صارعتُ الموج منه فما كن

تُ سوى مغلوبٍ إلى غلاّب

عن يميني وعن شماليَ ماءٌ

ثم إني أعدو وراَء السراب

بغداد 4 تموز

جميل صدقي الزهاوي

ص: 56

‌فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

14 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

فرديرريك نيتشه

للأستاذ خليل هنداوي

على أن الروح (الديونيزوسي) يكاد يكون فاشياً في كل أصقاع العالم القديم. وهو عند البرابرة كان يزجيهم إلى الانهماك في المنكرات، وإشباع البهيمية الإنسانية باللذائذ. واليونان برغم حضارتهم وبعدهم عن البربرية سرت إليهم العدوى، ومشى فيهم هذا الروح. ولكن انهماكهم لم يكن انهماكا بهيمياً. أقاموا الأعياد والأندية حيث تنطلق الطبيعة ويذهل الإنسان متحداً بعاطفته مع الوجود. ومن هذا الانهماك تولدت المأساة اليونانية. والمأساة اليونانية يرجع أصل نشأتها إلى فريق (الساتير) وهؤلاء عند اليونان هم أرواح من الطبيعة تحيا، ولا يتسرب إليها الفناء؛ تعيش بعيدة عن الحضارة، وظهورها في شعب متحضر يقضي على حضارته ويقذف بالحواجز التي تفصل الإنسان عن الطبيعة. وهم يظهرون أن الطبيعة ثابتة قوية مخصبة برغم تقلب الأمم وتبدل الشعوب. واليونان اعتقدوا أن هذا الفريق مخلوق طبيعي مجرد من كل براعة، ولكنه ليس بهيمي. يتجلى فيه شيء من السمو الإلهي، وهو رمز الغريزة الأكثر قوة وسيطرة على الإنسان. هو سريع الهيام يذهله تقرب الإله منه. كثير الإشفاق والعطف لأنه يقاسم (ديونيزوس) آلامه. وهو يسالم حكمة الطبيعة. وهو رمز خصب الحياة التي يعبدها اليونان عبادة دينية. كان هذا الفريق يبدو في بدء نشأته وهو نشوان (بالسكر الإلهي) ويرقصه، وموسيقاه تغادر روح الناظر في شبه ذهول عميق، يمحو من نفسه ذكر الحضارة، ويجرده عن ذاته حتى يرفعه إلى مرتبته، ويشركه في ذهوله وسكرته. حتى إذا وجبت القلوب واستسلمت النفوس يلوح وراء هذا الفريق خيال الإله (ديونيزوس) وهذا السكر الإلهي قد ولد خيالاً شعرياً لم يكن في حقيقته إلا تعبيراً خاصاً عن حالة نفسية واضحة ولدها هذا السكر الصوفي. فالمأساة اليونانية هي بحقيقتها موسيقية شعرية. وهي هتاف ظفر الإرادة التي تشعر بخلودها إزاء تقلب الكائنات وتحولها. بطل كل مأساة هو الإله (ديونيزوس)، وهي عاطفية لأنها نشأت لتكون أنشودة

ص: 57

في مدح الإله. ثم تطورت المأساة لتكون أشد تأثيراً في المخيلة، فأصبحت صورة رمزية لسحابات يلوح بينها الخيال الإلهي الذي يظهر على السكارى الهائمين في الوادي، السكارى بالإله. ولكن (ديونيزوس) لم يعد يظهر بشكله الإلهي. وإنما يظهر بهيئات الأبطال الذين يتمثل فيهم تحت قناع البطل (كيروموني) أو (أوديب). و (ديونيزوس) هو البطل الحقيقي في كل مأساة، يبدو بأشكال مختلفة. وهو في ظهوره هذا يشبه الإنسان في حياته، يتيه ويضل، يناضل ويتألم. (ديونيزوس) هو هذا الإله المتألم الذي تكلمت عنه الأساطير. هذا الإله الذي يحس في نفسه بآلام الفردية. هذا الإله الذي قالوا عنه إنهم جزأوه وهو صغير وعبدوه باسم الإله (زاكروس) ومن ابتسامته تولدت الآلهة، ومن دموعه نشأ الرجال

إن روح هذا الإله قد فتحت للعلم مجالاً عند اليونان. فهم بعد أن أطلقوا الأرواح من التشاؤم بتأملهم للجمال أو بشعورهم بخلود الإرادة، ذهبوا إلى طريقة ثالثة، هي المعرفة العقلية للوجود وأجزائه. فجاء العلم حليفاً ثالثاً معهم يناضل التشاؤم. فبينما يقول الفنان للحياة (يليق بنا أن نحياك، أيتها الحياة! لأن صورتك جميلة) يقول العالم لها (أنا أريدك أيتها الحياة! لأنك جديرة بأن تعرفي. . .) وهكذا وجد العالم في اكتشافاته العلمية من اللذة والبهجة ما يجده الفنان في أوهامه وأخيلته. وتآزرت هذه الأوهام كلها لتجعل وجه الحياة المشوه جميلاً. ويجب ألا نجحد أن فضيلة العلم إنما هي تتمثل في البحث الدائم والتنقيب المتواصل. لا في الحقائق التي يكتشفها. أو النتائج التي يبلغها. وخطيئة العلم القطعي هي أنه لا يقف عند معرفته للوجود واقتناعه بما أدرك وتفهم من أحاجيه وإنما يثب إلى إصلاحه وإتمامه، فتسعده حالتها الأولى مادام يبحث وينقب، ويشقى في الحالة الثانية مادام يطمح ويطمح إلى ما لا قبل له به. يعتقد ببساطة نفسه أن الوجود سهل فهمه بجملته وبأجزائه، وأن رأس كل فضيلة هي المعرفة، وأن الجهل هو مصدر كل بلاء، وبالعلم وحده يستطيع أن يبلغ الإنسان ما يشاء من أمهات الفضائل

جاء سقراط وهو أعظم مفكر يوناني جاحد للوحي، يؤمن بأن العقل وحده يقوم مقام الغريزة والفطرة في الحياة. والرجل العاقل له من عقله سلاح يدرأ عنه أخطاء الغريزة وضلال الفطرة. سلك سقراط طريقاً خالف به قومه واستطاع في النهاية أن يقهر معاصريه بسمو منطقه، وباختياره لمصرعه الذي لقيه. ترك الحياة هادئ النفس، لا يعضه أسى ولا يقرعه

ص: 58

ندم، كأنما كان يثبت بهذا المصرع إيمانه في الحياة إيماناً متفائلاً لا يتضعضع ولا يتزعزع

هذا هو عقل سقراط الذي هزم (المأساة عند اليونان) وحق لهذه المأساة أن تتلاشى أمام مجلس العقل، لما يطغى عليها من تعاليم لا يجمع بينها قياس ولا منطق. يستند كل ما فيها من تأثير على الموسيقى. المأساة لا توحي ولا توضح عن أية حقيقة نافعة؛ وقد تجيء فاحشة المغزى، أو ليس يبدو بعد هذا أنها تعمل على تحطيم أجمل النماذج التي تخلقها الإنسانية. فإذا كان هنالك أواصر متينة بين العلم والفضيلة والسعادة الحقيقية - كما يريد العلم المتفائل - فان المغزى الفاجع يغدو بدعة خطرة

إن سقراط لم يهدم فن المأساة وحده، بل هدم كل البراعة اليونانية. كان المثال الذي تجسد فيه العقل يوم كان اليونان يتبعون بأهوائهم شريعة الفطرة والغريزة. كانوا يريدون الحياة قوية جميلة، وهو يريدها منطقية، تفقه نفسها بنفسها؛ كان مظهر سقراط مظهر المزدري لروح عصره، وهو وحده أعلن بين معاصريه أنه لا يدري شيئاً، وأنه على حق في خصامه معهم. يعرج على نوادي الشعراء والمفكرين والخطباء والمعلمين، فيقول: إن هؤلاء الواثقين بأنفسهم يفكرون ويجادلون بدافع الفطرة وحدها، وهم لا يفقهون ما يصنعون. تراه حيثما توجه وأينما أنطلق لا يبصر إلا وهماً باطلاً، وخطأ فاشلاً، مما أضطره أن يعلن أنه مقدم على إنشاء حضارة جديدة يديرها العقل وحده. فهدم الحضارة الأولى ولم يبق على شيء منها، فعل ذلك وهو لا يشعر بأن العالم الذي هدمه هو أسمى من العالم الذي راح يبنيه بعقله

هذا ملخص ما رآه نيتشه في (المأساة اليونانية) وهو جد آسف على ذهاب ذلك الماضي النبيل. وقد لا يغنينا أن ننظر إلى مذهب (نيتشه) من حيث تعلقه بالتاريخ. فهو ليس في الحقيقة إلا مذهباً يستخلصه من بعض نظراته المختلفة إلى أدب اليونان. وللعلم الحق وحده أن يتقبل هذه النظرات أو يأباها

يقول نيتشه عن شوبنهاور: (أنا بعيد جداً عن الاعتقاد بأني فهمت شوبنهاور، ولكني مؤمن جد الإيمان بأن شوبنهاور قد أعانني على تفهم نفسي) وحال نيتشه في درسه العبقرية اليونانية قد تشاكل هذه الحال، فهذه الدراسة قد كشفت عن تفكيره وأبانت عن منحاه في الحياة. وهذه الإرادة التي يذرع بها (ديونيزوس) مجابهاً أخطار الموت والشقاء والألم تعبر

ص: 59

عن عاطفة عميقة من أسمى عواطف (نيتشه)؛ ومهما كانت قيمة كتابه هذا فهو بعد هذا كله كتاب خالد يتلو علينا كيف شعر نتيشه بذاته حين درس براعة اليونان

(يتبع)

خليل هنداوي

ص: 60

‌القصص

من أساطير الإغريق

بسِيشِيهْ وكيوبيد

أروع قصص الحب في التاريخ القديم

للأستاذ دريني خشبة

كان الليل الهادئ المقمر أصفى من قلوب العذارى؛ وكان النسيم العليل الحلو يرف كالأماني في قلوب المحبين؛ وكالبدر العاشق المُسهَّدُ يرسل القبَلَ فتنطبع على خدود الورد، وتلثم أعواد الزنبق، ثم تنتشر بالشذى فتعطر أحلام المدنفين!

وكان كيوبيد الصغير يتميز من الغيظ حين أنطلق حاملاً سهامه ليقتل بسيشيه ابنة الملك، التي أهانت بجمالها كبرياء أمه فينوس!

كان الناس يعبدون ربة الجمال والحب حتى ترعرعت بسيشيه وتدفّق ماء الشباب في جسمها الريان، فهويت إليها نفوسهم، وخفقت بحبها قلوبهم، وآثروها بعبادتهم من دون فينوس!

وكان للفتاة أختان حسناوان، ذواتا دلٍ وفتون، ولكنهما كانتا مع ذاك دونها قسامة ووسامةً ولانهائية!

أجل، كانتا دونها لا نهائية، فلقد كانت العيون تغرق من جمال بسيشيه في لجَّةٍ من الحسن الغامض ما لها من قرار؛ وكان غموض حسنها هو سر عبادة الناس لها، وافتتانهم بها، وانصرافهم إليها عن كل ربات الجمال!

ودعت إليها أبنها ربةُ الحب، فأثارت في قلبه العداوة لهذه الغادة وجسمت له ما يحيق به وبأمه من انصراف الناس عن عبادتهما إلى هذه المخلوقة التعسة:

(أفيرضيك يا بني أن تكون من آلهة الأولمب نكرتين لا يخبت لهما شعب من العباد المخلصين؟ أم يرضيك أن يتغامز بي الآلهة كلما مررت بهم، وهم كما تعلم مغيظون مني، فيقولون هاهي ذي فينوس التي هدمت كبرياءها امرأة، وصرفت الناس عن عبادتها غادة؟ اذهب إذن فتربص لها، وأنفذ إلى أغوار قلبها سهماً يودي بها إلى هيدزْ، وبئس القرار!

ص: 61

وإنه لا ضير على أن تهيم بها أرواح الموتى، أو يفتتن بها بلوتو وملؤه. . . . . .

ومضى كيوبيد إلى قصر الملك في طريق حفَّت بالورد:

وعبقت فيها أرواح البنفسج، وتأرج النرجس الغض، واختلط كل أولئك بالقمراء الفضية فرققت من غيظ الإله الأصغر، وجعلته يحس الجنة التي يخطر فيها ليقتل فتاة بريئة، كل ذنبها جمالها، وأقصى ما ارتكبته من وزر أن بدت للناس فشغفوا بها، وفنوا فيها. . .

وكبر في قلب كيوبيد أن تنتهي هذه الجنة إلى جحيم تعج بالجريمة؛ وتفيض بالآلام؛ فجلس تحت سوسنة نامية يتأمل، وكان ضوء القمر ينعكس على الأزهار ثم يرتد عنها شعراً وسحراً وموسيقى صامته؛ تنعزف ألحانها على أوتار قلبه الخفاق!

وصدح بلبل غرد في هدأة الليل الفضي، فانتفض الإله الأصغر وحمل قوسه وسهامه ومضى. . . . لا يأبه بجمال الطبيعة الساحرة، ولا يأسر لبه هذا البهاء الإلهي الذي يغمر الكون حوله، حتى كان عند أسوار القصر الملكي الراقدة في طوفان زاخر من أزهار الشيبر والياسمين والبابونيا

وبرفتين من جناحيه الصغيرين كان في حديقة القصر. . .

هاهو ذا يصعد على الدرج الرخاميّ، متبختراً، دون أن يلمحه الحرس. . .

وانفتل في غرفة بسيشية النائمة، واندس خلف الستائر الحريرية يوتر القوس الذهبية، وينتقي من كنانته سهماً تقطر المنية من سيته، ويرقص الموت على شباته!

وتقدم نحو الفتاة. . . . . .

يا للجمال النائم فوق الأريكة! ويا للفتنة العائمة ملْء السرير!

لقد كانت متجردة كلها! وكان نهدها البارز المثمر مجللاً بثديين ناضجيين، يتحلبان لذاذة ويلتهبان إغراءً!!

ونامت هذه الذراع هنا، واطمأنت تلك الذراع هناك؛ لدْنتان وإن كانتا كالمرمر؛ رخصتان وإن كانتا لتمثال معبود!!

وكان السحر يهمهم فوق الساقين الملفوفتين، ويهوم من تحتهما، كأنه يرقيهما من نفسه، أو ينفث فيها من روحه وبأسه!. . .

والرأس الصغير فوق الطنفسة الوردية، مستسلماً لأحلام الشباب الحلوة، متلألئاً في شعاعة

ص: 62

من ضوء القمر سقطت عليه من النافذة القريبة، رسولاً من لدن ديانا البارة، أقبل ليقول للإله الأصغر:(مكانك أيها الرامي الحبيب! ماذا جنى عليك هذا الحسن فتسلمه للردى، وتجرعه كأس المنون؟! افتح له ما انغلق من قلبك تنعم به، فأنك لن تجد في ربات الأولمب من تخلص لك الحب كما يخلصه لك هذا الهدف البريء. . .!)

وخطا كيوبيد خطوتين، وحملق في وجه بسيشيه. . . . . .

وبهره الجبين المشرق، والهدب الناعس، والخد الأسيل. . . . وأخذ بلبه هذا الشعر العسجدي تفضض حواشية أضواء القمر فتزيده بهاءً ورونقاً، فإلى لا يهدرن هذا الجمال البارع، وانثنى مسلوب اللب، مشدوه القلب، موزع الفكر؛ وانتزع السهم فألقى به في كنانته. . . وقبل أن يخرج يده الصغيرة الناعمة، شاء القدر أن يخدشها سهم ذهبي من سهام الحب، ملأ كيوبيد هوى وأفعم قلبه صبابة، فتقدم نحو بسيشيه لهفان، يتزود لأوبته من جفنها النعسان وجمالها الفينان

وطبع على الفم الدقيق قبلة دقيقة حلوةً، وعاد أدراجه عاشقاً وامقاً لا يبالي بسخط أمه فينوس!!

وأنصدع عمود الليل، وتنفس الصبح فهبت الأرواح النائمة، وأقبلت فينوس ربة الحب لتسمع إلى النادبات النائحات في قصر الملك. . . . . . بيد أنها، بدلاً من ذلك، رأت بسيشيه، بسيشيه بعينها، تمرح في حدائق القصر، وقد برزت عرائس الماء من الغدران الصافية تحييها وتغني لها، وتضفر لها أفواف الزهر. . .!!

وحنقت ربة الجمال والحب، ونادت بالويل والثبور على ولدها كيوبيد، وأقسمت لتجعلن مباهج الحياة ووضاءتها ظلاماً في عيني الفتاة!!

فسلطت عليها الأشباح تروعها وتفزعها، وأغرت بها خفافيش سوداء جعلت تنوشها وتهاجمها، وسخرت عليها ريح السموم تلفحها وتصهر روحها، فانطلقت المسكينة مذعورة إلى داخل القصر، وطفقت تصرخ وتعول، ولا يدري أحد لماذا تصرخ ابنة الملك وتعول. . . وازدحم حولها أبواها وأخوتها والخدم والحشم ينظرون ويعجبون ولا يكادون يحيرون. . .

ومضوا بها إلى المعبد يستوحون الآلهة، ولكنها ما كانت لتزداد إلا شكاةً وأشجاناً!!

ص: 63

وكرت الأيام. . .

وانسربت بسيشيه إلى الجبل القريب المشرف على البحر، وفي نفسها أن تلقي بحمل الحياة من شاهق، فتستريح مما يطيف بها من آلام!

ورآها كيوبيد. . .

وظلت هي ترقب الموج الهائج، وتشهد اليم المصطخب، وتلقي على البطاح نظرة مودع عجلان، وعلى المروج الخضر تحية مأخوذة القلب أسوان؛ ثم صرخت صرخة هائلة، وألقت بنفسها من علٍ. . . . . .

وكأن كيوبيد كان قد أحس بما تعتزمه حبيبته من الانتحار، فدعا إليه صديقه ونجيه زفيروس، آله الريح الجنوبية، وأطلعه على ما يكن من الحب:(لهذه الفتاة التي تكاد تلقي بنفسها من قمة الجبل يا صديقي زفيروس. فإن رأيت أن تكون لك على هذه اليد، أذكرها لك أبد الدهر، فخذ أهبتك، ولا تدعها تغوص في اليم، بل تلقها في يديك الرفيقتين، واذهب بها إلى الجزيرة المقابلة حيث الشاطئ المنظور بالرياحين؛ فدعها ثمة، فقد أعددت لها مستراداً وملعباً. . . . . .)

ولشد ما دهشِت بسيشية إذ رأت طيفاً نورانياً كريماً يبرز من الماء فجأة فيلتقطها في يديه الكريمتين، ثم يترفق بها فيضعها على ظهره العريض الرْحب، كأنه أريكة من أرائك الجنة التي وعد المتقون، ويخوض بها اليم المضطرب فتعنو له الأمواج ويسجد من تحته الثبج، ويصير البحر في لمحةٍ كأنه مرآة صافية ملساء، كأنها صفحة السماء. . .

ويصل إلى الشاطئ المزدهر فيبسم للفتاة ثم يجيبها بتمتمةٍ، وينطلق في البحر الذي يعود إلى سابق اصطخابه واضطرابه. . .

وتجلس بسيشيه على الكلأ فتفرك عينيها مما استولى عليها من ذهول، لترى هل هذا الذي هي فيه حلم، أم هي قد ماتت فعلاً ولكنها دخلت الجنة؟!!

بيد أنها تذكر أن الأرواح فقط هي التي تنفذ إلى دار الموتى؛ وأنه ليس في دار الموتى شمس ولا إياء، وهي تتحسس نفسها فترى جسمها البض الجميل كما هو لم يتغير، وهي ترى أيضاً إلى الشمس مشرقة تغمر بآرادها البر والبحر، وتنشر إياءها في الأكوان جميعاً. . .

ص: 64

إذن هي لم تمت، وهذا الطيف الكريم الذي أنقذها من الموت، والذي ترفق فحملها إلى تلك الجزيرة هو رسول أحد الآلهة؛ وإذن فلتنهض ولتضرب في هذا الفردوس المنعزل حتى يكون أمر غير هذا الأمر. . .

ومضت في غياضٍ وأرباض، ورأت في الأفق القريب قصراً باذخاً ذا شرفات وأحياد، فيممت إليه، وما كادت تدنو منه حتى فتحت بوابة السور الكبرى على مصراعيها، وامتدت منها أذرع نورانية تصافحها، وانبرت أصوات رقيقة موسيقية تحتفي بها وتحييَّ وتبيَي!. . . . . .

وفركت بسيشيه عينيها كذلك!

وظنت أنها تحلم، ولكن كل شيء حولها حدَّثها أنها ترى رؤيةً حقيقة، لا رؤيا منامية. . . . فدخلت القصر، وفي نفسها من الحيرة وشدة العجب ما أخذ يتضاعف في كل خطوة ويزداد. . .

وحاولت أن ترى أحداً ممن لهم هذا الصوت الرقيق. . . ولكن عبثاً. . . ليس هناك إلا أذرع من نور تمتد إليها محتفية بها، تقودها إلى المخدع الوثير الذي أعدته العناية لها. . .

ودار الحديث بينها وبين طيف لا تراه:

- (. . . ويدهشني أنكم تحتفون بي. وتبالغون في إكرامي، وأنا لا أرى منكم أحداً، فهل كلكم يلبس قلنسوة هرمز؟)

- (كلا أيتها العزيزة؛ ولكنا أمرنا ألا ننكشف لك. .)

- (ومن ذا الذي أصدر إليكم هذا الأمر؟)

- (ونهينا أيضاً عن ذكر أسمه. . .)

- (أنتم كرام، ولكنكم تضايقونني إلى حد الإزعاج. .)

- (ليفرخ روعك أيتها العزيزة، ففي المساء، تلقين الآمر الكريم صاحب هذا القصر، وصاحب القصور الكثيرة في أطراف الأرض)

- (وهل لي أن أجول جولةً في قصركم المنيف عسى أن تذهب هذه الوحشة الجاثمة على قلبي. . .)

- (ولم لا. . . بسيشيه العزيزة؟)

ص: 65

- (بسيشيه؟!. . . ومن أنبأكم أسمى؟)

- (رب هذا القصر أيتها العزيزة. . .)

وجالت الفتاة في القصر الجميل المنسق، وكان مثار عجبها هذه الصور البارعة المرسومة على الجدران، كلما وقفت عند واحدة دبت فيها الحياة، وتحركت على الحائط متهللة مستبشرة، محيَّية بابتسامةٍ خفيفة، أو انحناءة مؤدبة. . .!!

وكانت التماثيل في زوايا الغرف، وأوساط الردهات، وفي حنايا الحديقة، وفوق الربى المكسوة بالسندس الرطب، تحيّي الضيفةَ، كأن حياة تدب في مرمرها كلما وقع بصر بسيشيه عليها، فتتحرك الأذرع، وتومئ الرؤوس، وتمر الفتاة وقد أخذ الدهش من نفسها كل مأخذ. . .

وكانت العنادل تهتف بها ترجوها أن تتلبَّث فتسمعها أنشودة الخلد، ولولا العجلة لوقفت بسيشيه عند كل حتى ينتهي من غنائه الحلو، وتغريده الرنان

وعادت إلى المخدع مع مغيب الشمس

(لها بقية)

دريني خشبه

ص: 66

‌أقصوصة عراقية:

بداي الفايز

للأستاذ محمود. أ. السيد

- 1 -

كان اليوم العاشر من شهر مايو. . .

كان الفرات فائضاً توشك أمواهه الطاغية أن تجرف السدود المقامة على ضفتيه. وكان الفلاحون من أبناء القبائل المختلفة، في منطقة خضراء بين ذي الكفل والكوفة - كأمثالهم في مناطق الفرات الأخرى - ساهرين عليها، مقيمين حولها ليلاً ونهاراً وجلين، يخيفهم الخطر الجاثم حيالهم منذ شهر، وقد أشتد بعد أن كان ضعيفاً مبهماً

وكان الصبح. . .

وكان النسيم يهب بليلاً فينعش هؤلاء المساكين، ويحيي فيهم عنصر النشاط الذي كانوا في أشد الحاجة إليه؛ فقد أنهكهم النصب، وآذاهم الجهد الذي بذلوا مذ طغى الماء، وهم يصارعونه ليحولوا بينه وبين زرعهم - مع أنه جزء قليل من زرع الرؤساء المالكين - وماشيتهم؛ وهما لهم قوام الحياة

وكانت سنابل القمح المنتشرة المتكاثفة في الحقول على مقربة من بيوتهم - وهي من القصب البالي والحصر وجريد النخل - ومن النهر، مصفرة ناضجة تبهج الناظرين. وكان وقت حصادها جد قريب

وحان الضحى؛ فحانت ساعة العمل لتقوية السدود وتمكينها فانتشرت جموعهم كالنمل تحمل إلى المواقع الواهنة منها التراب من أطرافها، ثم تعود لتحمل إليها التراب كذلك والحطب والقصب والحصر والعَمدَ والحبال وما إليها؛ ثم تعود مرة أخرى، فأخرى، يسوقها المهندسون والرؤساء المالكون في غير ما لين ولا إمهال

وحان الظهر؛ فاستراحوا قليلاً ثم عادوا يعملون

وتغير الطقس، آنئذ، تغيراً مفاجئاً - ومثل هذا التغير مألوف ومعتاد في العراق - فحجبت وجهِ الشمس عاصفةٌ شديدة أثارت الموج في النهر، وعظم بها الخطر، لأن السدود قد كانت

ص: 67

احتملت من جريان المياه الطاغية وتيارها القوي أكثر مما تطيق احتماله، فكيف بها الآن وقد أخذ الموج يلطّمها فيوهنها ويكاد يهدّمها تهديماً

وكان الخطر أعظم ما يكون في الضفة اليسرى من النهر، لأن أهلها كانوا أقل عديداً من جيرانهم أهل الضفة اليمنى، وأرضهم أوطأ من أرضهم، وسدودهم أضعف من سدودهم

وكان الرؤساء جميعاً، هنا وهناك، مع وفرة غناهم، وامتلاكهم الدور والأحراز والأرضين دون الفلاحين، أحرص منهم على حفظ السدود لحفظ الزروع. فداروا حولهم يشجعونهم ويضربون المقصّر المتخلف منهم عن صحبه بالعصي والسياط

ونحن الآن في الضفة اليمنى

حان الأصيل، وبدأت قصتنا؛ فوقف فتى طويل القامة مفتول الساعدين، آدم اللون، يدعونه (بدَّاي الفايز) ويتميز بخنجر مفضض لا يفارق حزامه، أمام رئيس من رؤساء القبيلة التي ينتمي إليها، معتدلاً يعلوه الشمم، وتهز كيانه نخوة الأعراب؛ وقد أصابته منه ضربة عصا كما أصابت غيره ضربات، وسواء أكان لتلك الضربة سبب من تقصير في العمل أم لم يكن، فان (بداي) الذي كان شاذا في قبيلته في بعض خلاله، قوي الشكيمة، عزيز النفس، معتزاً بقوة جسمه، لم يحتملها؛ فوقف يغمغم متظلماً في شبه ثورة وعصيان

وبهت الرئيس، فنظر إليه مستغرباً مستنكراً: مستغرباً شممه ونخوته وقد حسبهما طيشاً ونزقاً وخنزوانة عبد، وحمله خنجره المفضض حتى في ساع العمل العسير، مستنكراً تظلمه، وكيف لم يحتمل منه ما احتمل الآخرون أذلة خاضعين

وأقبل عليه يريد أن يضربه مرة ثانية؛ ثم انثنى عنه في لحظة فانشأ يرميه بما هو عند القبائل شر من ضرب العصي وأنكى، قال يعيره:

- (ويلك يا جبان! هل يرفع أنفك فيميزك عن أخوتك الطائعين هؤلاء خنجرك المفضض هذا!؟ ولأي يوم كريهة تحمل هذا الخنجر وتلك البندقية التي تعلقها بالسدرة؟ وأين كان هذا السلاح يوم قتل جسام أخاك عباس؟ ولماذا لم تثأر له به حتى الآن أيها الجبان الذليل؟!)

وإذ نطق باسم (جسام) شدّد (السين) تشديداً غريباً ومد (ألفه) وهو يشير بعصاه إشارة ذات معنى إلى ضفة النهر المقابلة؛ ثم إذ أتم كلمته أبتسم ساخراً متهكماً وتولى، وهو مدرك أية طعنة نجلاء طعن الفتى

ص: 68

وسمع بداي هذه الكلمة الطاعنة أمام الجمهور الحاشد من الفلاحين الذين كان يراهم دونه شمماً وإباء للضيم ونخوة، وهو في أسوأ حال من الاضطراب النفسي والغيظ، وعضّ على شفته إذ أخذته (العزة)؛ فصاح صيحة كاد ينفطر لها فؤاده:

- (أخسأ! أنا أخو شمسة! ولأنتقمن ولأدفعنّ عني عاري!)

وترك العمل وهو حانق غضبان. وشعر بأن حياته أضحت عبئاً ثقيلاً عليه. و (النار ولا العار!) وهل يهمه بعد الزرع وغير الزرع؟ (لقد قتل جسام من أبناء القبيلة المجاورة أخاه عباساً، في نزاع على دين قديم، منذ عهد قريب، وتلكأ عن أداء ديته. هذا ما كان يعلمه؛ ولكنه لم يكن راضياً بالعار الذي خلع عليه هذا الحادث منه جلباباً أسود ضافياً. لم يكن ساكتاً عن حقه، والثأر في القبائل كالدية، حقٌ. على أنه لم ير بداً من التريث حتى تنجلي هذه المصيبة التي حلت بالقبائل الفراتية كافة: مصيبة الفيضان. فكان من المروءة تركه وشأنه؛ أما وقد سبق السيف العذل؛ فعيرّ أمام الناس، فلا كانت الحياة إن لم يثأر وينتقم. . . . .)

هذا ما فكر فيه في دقائق مسرعة كالثواني، ونفض عباءته ليزيل ما علق بها من تراب حين العمل، ثم تناول بندقيته غير ملتفت وراءه، وتوارى عن الأنظار

- 2 -

ونحن الآن في الضفة اليسرى

أقبل الليل؛ وانقلب الفلاحون إلى بيوتهم، وهم يتوقعون الخطر الجاثم حيالهم، يتوقعون أن تتدفق المياه عليهم في هذه الليلة إن لم تنقص قليلاً، وبقيت الريح العاصفة على شدتها تثير أمواجها فتوهن السدود. وكان الإعياء آخذاً منهم مأخذه فرقدوا متوكلين على الله؛ إلا الحراس منهم الذين أقاموا على السدود، فكانوا متحفزين للعمل، يروحون ويجيئون كأشباح الجن؛ يلفهم نور القمر الضئيل الذي حجبت سطوعه الريح الذارية وما كانت تحمله للقوم من غبار كثيف

وكان جسام القاتل واحداً من هؤلاء الحرس

وكان وهو في جماعته، مطمئناً غافلاً، لا يدري أن بداي قد أقسم لينتقمن لشرفه في تلك الليلة؛ لا يدري أنه جاء دارة القوم خلسة وقد عبر الفرات على زورق من زوارق الصيد

ص: 69

صغير، بعد لأي وجهد كبير؛ وأنه كان - وقد مضى الهزيع الأول من الليل - يكمن له وراء نخلة في طرف حديقة مجاورة لبيوت القبيلة مما يلي مضرب الحرس ملثماً بكوفيته، متلفعاً بعباءته السواء؛ مصمماً على قتله

وكان موقع الحارس جسام قريباً من الحديقة؛ وكان خصمه يتبينه؛ وكان يعرفه مستدلاً عليه بصوته الذي كان يرتفع بين دقائق ودقائق إذ ينادي صحبه نداء الحذر والانتباه

وكان ينظر إليه وهو واقف في الظلام، ظلام الحديقة الذي كان يستره كالخنزير الحانق على الصياد؛ ويقول بصوت خافت؛ وكأنه يتوعده:

- (اصبر لي قليلاً يا ابن الكلب. . . .)

ثم حشا بندقيته؛ وقد اشتدت ضربات قلبه؛ وبدت على وجهه سيماء الإنسان الوحشي القديم؛ وثنى ركبتيه وأطال النظر في عدوه ليسدد الرمي؛ وكاد يطلق رصاصاته الخمس التي أعدها لقتله، لولا أن رأى بجانبه حارساً آخر أقبل عليه مسرعاً. فكان على بداي لقتل واحد منهما أن يقتل الاثنين معا، وهذا ما لم يكن يريده؛ لأن ثأره على تلك الصورة يخلق له مشكلة يصعب عليه التخلص منها، فقد يغتفر له ذوو جسام وأبناء قبيلته قتله لأنه قاتل أخيه، ولكنهم لا يغتفرون له قتل الثاني؛ ولابد لهم من قتله بعدئذ ليثأروا به منه

وتملكته الحيرة فلم يدر ماذا يفعل

ثم بدا له أن يتوقع عودة القادم، لينفرد بفريسته، وبينما هو في موقفه هذا، ارتفعت من جانب بعيدً قيدَ غلوة صيحة حارس يستغيث

لقد حم الأمر؛ وتفجرت المياه من ثلمة حدثت في السد المصاقب، ومضى الحرس وفي طليعتهم جسام، يعدون مستبقين لسد الثلمة، فلم يتمكنوا من ذلك، ولم يكن دفع المياه المتدفقة المتحدرة تحدر السيل من أعالي الجبال مستطاعاً

واستيقظ أبناء القبيلة فروَّعهم الحادث، وشعروا بوقوع الكارثة، فأضاعوا رشدهم، كما أضاعوا من قبل جهودهم كلها في الزرع وفي إقامة السدود. وحاولوا كفاح المياه العرمة فحاولوا عبثاً، وراموا مستحيلا

وما كان أمامهم إلا الهرب، فكان النساء يولولن، والأطفال في خوف ورعب يتصارخون. وكان جسام ذا أسرة تتألف من زوج، وثلاثة أطفال، وأم عجوز، وأخت. وكان الرجل آخر

ص: 70

هارع إلى أمه وإلى أطفاله لينقذهم من الغرق، وقد خسر مع الخاسرين نصيبه في الزرع، ونسي بقرته وغنمه؛ وعلى هذه البقرة والغنم تقوم حياتهم بعد الزرع. . .

وأدركت الرحمة الطبيعة حينئذ، فسكنت الريح، وانقشع الغبار، فهذا القمر المنير زاهياً متلألئاً يطل على هذه الفاجعة في قسوة وجمود

- 3 -

وبعد ساعة أو أقل كانت الثلمة متسعةً، تنصب منها في السهل الكائن وراءها حيث البيوت ثم الحقول، مئات الألوف من الأمتار المكعبة من الماء. وكان بداي يشهد هذه الفاجعة التي فجعت بها القبيلة في دهش وتألم. وكانت نفسه ساكنة هادئة بعد أن أفلتت فريسته منه، وأحس شيئاً يتمزق في جوفه. ثم أستيقظ في نفسه شعور غريب جديد، هو غير الشعور بالضراوة والرغبة في الانتقام والثأر؛ وذهل عما جاء من أجله؛ فاقترب من بيوت القوم قليلاً، فرأى - مما رأى - أطفال جسام الثلاثة في صراخهم وعويلهم، والأب يحمل منهم الاثنين الكبيرين وكانا في الرابعة والخامسة، نحيفين واهنين من مرض أو جوع، وزوجه تحمل بعض المتاع وتقتاد البقرة، وأخته تريد أن تحمل أمها العجوز، والطفل الثالث، وهو في الثالثة من العمر ما يزال على الأرض متشبثاً بأذيال أمه يرتجف ويعول باكياً، والأم ذاهلة تحني فتتناوله لتحمله فوق المتاع، فيفلت منها زمام البقرة؛ ثم يذكر الأب، وهو دهش يحمل طفليه، غنمه فيذهب إليها حيث كانت في زريبة مجاورة ليسوقها أمامه. . . وأبناء القبيلة كل منهم مشغول ببلائه، وقد اختلط الحابل بالنابل؛ فكانوا في مثل يوم المحشر الموعود

وكانت الكلاب تنبح شاعرة بالخطر نباحاً صاخباً يملأ الجو

وحينئذ كان بداي يحكم لثامه شداً، ويتنكب بندقيته، ويشمر عن ساعديه؛ ويبادر لنجدة هذه الأسرة وعونها. وأقبل على الأم الذاهلة فتناول منها طفلها فخفف عنها حملها الثقيل. وحسبه جسام، وقد حانت منه التفاتة إليه في الزحام، واحداً من أبناء عمه، فخاطبه مرشداً ومشجعاً:

- (دونك السد)

وكان السد الممتد على طول النهر والمؤدي إلى قرية قريبه، الطريق الوحيد الذي لجأ إليه

ص: 71

القوم طلباً للنجاة من الغرق لقربه من بيوتهم وارتفاعه عن السهل المنبسط الذي أخذ الماء يغمره شيئاً فشيئاً. . .

وإذ تخلصت زوج جسام من وليدها، واطمأنت لنجاته، استطاعت سحب البقرة وراءها واستنقاذ ما حملت على ظهرها من متاع البيت. وحملت أخته أمها العجوز. وبلغوا يخوضون الماء المتدفق خوضاً، معه، وهو حامل طفليه. واستعدوا ليمشوا وراء قافلة القبيلة التي رحلت من مستقرها وقد مسها ضر أليم. وأقبل أثرهم الرجل الملثم حاملاً الطفل الصغير فأنزله إلى الأرض، واقترب حتى قابل جساماً فحل عنه لثامه، ونظر إليه، في ضوء القمر، محملقاً كأنه يقول له:

- (هلا عرفتني؟ فأنا خصيمك طالب ثأر عباس؟)

ولبثا دقيقة ينظر الواحد منهما إلى الآخر، وقد أوشكت أن تثور فيهما نوازع الرغبة في الاقتتال، هذا ليدافع، وهذا ليثأر وينتقم

ونحَّى جسام طفليه عنه في تأن وحذر، ومد يمناه إلى خنجر

بيد أن بداي أخلف ظنه فما زاد على أن هز رأسه، وقال له بصوت أجش:

(اذهب الآن!. . مع السلامة. . خلصت. . ولكن لا تنسى أن لك ساعة أخرى!)

وانكفأ إلى زورقه مسرعاً، تاركاً ثأره وزوجه التي انتبهت إليه آخر الأمر، في حيرة واستغراب

وآب بداي الفايز إلى قبيلته ساكناً هادئاً، فخوراً بالفعلة التي لم يفعل مثلها أحد قبله، إذ أنجد أسرة حين لم يكن له من إنجادها بد، واستحيا لأجلها، ولو إلى حين، نفساً ما كان لها إلا أن تموت

- 4 -

ومر عام على هذا الحادث. فعادت قبيلة جسام إلى أرضها الأولى، بعد أن زال عنها الماء الذي غمرها أشهراً؛ وأنشأت لها سداً جديداً على ساحلها؛ فجاءها رسل من القبيلة الثانية يسعون بين بداي وجسام بالصلح، ويحملون دية القتيل مالاً وامرأة وهي أخت القاتل، فتزوجها بداي زواج (الفصل) على سنة القبائل الموروثة وتقاليدها

ولم يعد أحد يجرؤ، بعد ذلك، أن يعير الفتى بأنه نام عن ثأره نوم الجبان الذليل

ص: 72

(العراق - الأعظمية)

محمود. أ. السيد

ص: 73

‌البريد الأدبي

تبسيط اللغة الإنكليزية واهتمام الإنكليز بنشرها

يبدي الإنكليز في الوقت الحاضر اهتماماً بنشر اللغة الإنكليزية، ويحاولون بمختلف الوسائل أن يجعلوا منها لغة دولية عامة، كاللغة الفرنسية في الشؤون والمعاملات الدولية والتجارية؛ ويرجع هذا الاهتمام إلى ما بعد الحرب الكبرى إذ أتسع نطاق الإمبراطورية البريطانية أتساعاً عظيماً، وضمت إليها شعوب وأمم جديدة، وزاد نفوذ إنكلترا الدولي تبعاً لذلك، واتسع نطاق تجارتها اتساعاً عظيماً. والإنكليز أقل الأمم اهتماماً بدرس اللغات الأجنبية، وقد حاولوا أن يتلافوا هذا النقص بفرض لغتهم على الشعوب التي تنضوي تحت لوائهم، ولكنهم يرغبون اليوم في التقدم خطوة أخرى، وذلك بالعمل لجعل اللغة الإنكليزية لغة دولية اختيارية. وقد رأوا أن أنجع وسيلة لتحقيق هذه الغاية هو تبسيط اللغة الإنكليزية إلى أبعد حد، وانتهوا فعلاً إلى عمل هذه التجربة، فقام الأستاذ أجدن أحد أعضاء المعهد اللغوي بجامعة كامبردج باختيار الألفاظ الإنكليزية التي تعبر عن أكبر عدد من المعاني المطلوبة، وانتهى إلى حصرها في 850 كلمة تكون وحدها لغة إنكليزية جامعة وافية بالتعبير عن كل ما يرغب، ويكفي لدرسها وحفظها ثلاثون ساعة، وليس فيها أي تضارب ولا تعقيد، وليس فيها من الأفعال سوى 18 فعلاً، وقد سميت هذه اللغة (بالإنكليزية الأساسية). ويعلق الإنكليز على هذا التبسيط المدهش للغة تبلغ كلماتها عشرين ألفا آمالاً كبيرة، وتنوه الصحف العلمية بهذه المناسبة بأن أحب الكتاب الإنكليز إلى الشعب الإنكليزي هم أبسطهم لغة وبياناً مثل سويفت وبرناد شو، ومن ينحو نحوهما في التعبير الجزل البسيط الذي لا يتخلله حشو ولا ترادف ولا تعقيد

أزمة الديموقراطية

تشغل أزمة الديموقراطية أذهان الساسة والكتاب الأحرار، وقد صدرت في موضوعها في الآونة الأخيرة مؤلفات عديدة ولا سيما مذ تولت عصبة الهتلريين الحكم في ألمانيا وسحقت كل أنواع الحقوق والحريات العامة؛ ومنذ أسابيع قلائل ظهر كتاب جديد في الموضوع بقلم مسيو دي روفيرا الكتاب والسياسي الأسباني عنوانه (تجربة سياسية) ومن رأي هذا الكتاب أن الديموقراطية تجتاز أزمة الموت، بيد أنه من المستحيل أن يظفر المؤرخ أو

ص: 74

السياسي المعاصر بجراثيم الداء التي تنخر أسس الديموقراطية؛ وأكبر الظن أن مؤرخ القرن الثاني والعشرين أو الثالث والعشرين سيكون أقدر منا على تفهم الصلات والحوادث التي تربط الثورة الفرنسية بالحركات الثورية الجديدة مثل الشيوعية والفاشستية، وأقدر منا على تفهم المراحل التي جازتها المبادئ الثورية السياسية حتى انتهت إلى نواحيها الاجتماعية؛ وقد يرون أن نحول العالم القديم إلى العالم الجديد قد أستهدف لسلسلة من النزعات والعوامل المضطربة. ثم يقول مسيو روفيرا: إننا نشعر الآن في جميع أوربا بضرورة الإرادة العاملة؛ ولنا أن نسميها (سلطة) أو (طغياناً) فان المهم هو أننا نريد أن نعمل. ويجب علينا إلا نحكم على آبائنا بالبله والعجز لأنهم لم يبتوا في المسائل بشيء. والواقع أنه يجب أن نعتبر خاتمة القرن التاسع عشر وفاتحة القرن العشرين مرحلة الهدم بالنسبة للعالم القديم، ومرحلة التجارب الهائلة؛ وليس ثمة ما يدهش إذ نرى ما نرى من ذلك الاضطراب الهائل الذي يسود شؤون العالم اليوم. وقد أثارت ملاحظات المسيو دي روفيرا كثيراً من الاهتمام والجدل لأنها تتعلق بمسألة تعتبر مسألة العصر، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً

رسائل جديدة لشارلس دكنز

صدر في لندن مجلد من رسائل جديدة لشاركس دكنز الكاتب الإنكليزي الفكه، محتوياً على جميع الرسائل التي كتبها دكنز لزوجته كاترين هوجارت من سنة 1835 إلى سنة 1867 وكانت مدام دكنز قد أوصت بهذه الرسائل لبناتها، وأودعتها ابنتها الثانية كات بيروجيني بالمتحف البريطاني وأوصت بأن تبقى في طي الكتمان بعيدة عن النشر والإذاعة حتى تموت هي، والسير هنري فلدنج دكنز آخر من بقي على قيد الحياة من نسل الكاتب الشهير. وقد عمل المتحف البريطاني بهذه الوصية ولم يسمح بإذاعة الرسائل حتى تحقيق شرط الانقراض. وليس في هذه الرسائل جديد مما لم يعرف عن حياة دكنز، ولكنها تلقي ضياء جديداً على ما كان بينه وبين زوجه من الخلاف وما كان بينهما من أسباب النفرة والاحتكاك مذ عرفها باسم كاترين هوجارت. والرسائل الجديدة على وجه العموم صورة حية من خواص دكنز ومواهبه الكتابية، وهي تسبغ على الحوادث والمسائل التي تتناولها حياة جديدة لم تتوفر في أية ترجمة من التراجم التي تناولت حياة الكاتب الكبير، وفيها يبدو

ص: 75

دكنز في ذروة براعته المعروفة في التصوير الفكه المبكي معاً. وقد تلقى الجمهور الإنكليزي الرسائل الجديدة لهذا الكاتب المحبوب بلهفة واشتياق. واللذين قرأوا من أبناء العربية شيئاً من قصص دكنز ولا سيما قصته الخالدة (دافيد كوبرفيلد) أو (نادى بكويك) أو (نيكوك س نيكلباي) أو غيرها يذكرون كيف يستطيع هذا الكاتب المبدع أن يصور حياة البؤس والتشريد في صور بسيطة مبكية معاً، وكيف يستطيع أن يهز أوتاراً القلوب بعرضه المؤثر وبيانه الخلاب

وليم كوبيت

تحتفل الدوائر الأدبية الإنكليزية الأدبية بذكرى كاتب مازالت كتابته تطبع أذهان النشء الإنكليزي بطابع قوي: ذلك هو وليم كوبيت الذي توفي منذ مائة عام. وقد ولد كوبيت سنة 1762 في فرنهام من أعمال سوري، في أسرة ريفية فقيرة، وقضى حداثته في فلاحة الأرض، ثم تقلب في مهن صغيرة مختلفة، فاشتغل كاتباً وجندياً ولما ترك الجندية سافر إلى أمريكا وقضى بها ردحا من الزمن ثم عاد إلى إنكلترا؛ واشتغل ذلك بالصحافة آنا وبالزراعة آناً آخر، ولقي في حياته العملية صعاباً جمة نظراً لمناوأته رجال الحكم؛ واستقر في إنكلترا منذ سنة 1800 وأخذ يعالج الصحافة السياسية أولاً إلى جانب حزب الأحرار، ثم إلى جانب المحافظين؛ وكانت صرامته وعنفه وشدة حملاته تثير عليه السخط في الجانبين، ولكنه مع ذلك كان يبدي براعة ظاهرة في حملاته، وكان مرهوب القلم. وفي سنة 1817 سافر إلى أمريكا مرة أخرى ومكث بها عامين ثم عاد إلى إنكلترا؛ ورشح نفسه للانتخاب النيابي فسقط لأول مرة، ثم عاود الكرة بعد ذلك ونجح في الانتخاب كنائب عن أولد هام. بيد أنه لم يبد في مجلس العموم مقدرة خطابية. ولم يلبث أن توفي بعد ثلاثة أعوام، في يونيه سنة 1835

وقد كان كوبيت من أعظم النقدة في عصره، وكان كاتباً وصفياً لا يجارى، وكان يملك زمام البيان بقوة مدهشة؛ وكان أشد تأثيره في شباب عصره؛ وأشهر مؤلفاته (نزهات ريفية) و (نصيحة إلى الشبان والشابات) وهو من خير ما كتب وخير ما ظهر في عصره؛ ثم رسائله السياسية الأسبوعية وهي تملأ مجلدات كثيرة

الذكرى الثلاثون للإمام محمد عبده

ص: 76

أقامت رابطة الشباب الأدبية في الساعة السادسة من مساء الخميس الماضي بالدار الجديدة لجمعية الشبان المسلمين احتفالاً رائعاً بذكرى مرور ثلاثين عاماً على وفاة المصلح الكبير الإمام محمد عبده، شهده صفوة من رجال العلم وجمهرة من شباب الأمة، وتكلم فيه الأستاذ عبد الوهاب النجار عن حياة الإمام، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق عن الإمام في الأزهر، والدكتور محمد حسين هيكل عن الإمام في الصحافة، والأستاذ عبد الله عفيفي عن دفاع الإمام عن الإسلام، والأستاذ الهلباوي بك عن الإمام في القضاء؛ وكادت هذه الخطب الممتعة تؤلف للإمام ترجمة وافية لولا أن ضيق الوقت أعجل الأستاذين النجار والهلباوي عن لم الموضوع واستيفاء البحث

ص: 77

‌الكتب

1 -

فتح العرب لمصر: للدكتور بتلر

ترجمة الأستاذ محمد فريد أبو حديد

2 -

فنون الطهي الحديث

لمؤلفيه السيدين أبي زيد أمين وطغيان سعيد

للأستاذ محمد بك كرد علي

من الكتب كتاب واحد يغني عن عشرة، وقلما أغنى قط كتاب عن كتاب. وهذا الكتاب في فتح العرب مصر يدخل في باب ما لا يستغني عنه من الكتب لفائدته وطرافته. صرف مؤلفه في وضعه وقتاً طويلاً يدرس ويبحث، ثم يستقرئ ويستنتج، فجاء كتابه ناضجاً من كل وجه، حرياً بأن يتعلم بعض من يؤلفون بالعربية أصول التأليف المنقحة بالنظر إلى هذا الكتاب وكيف يدرس الغربيون أبحاثهم ليفيدوا العلم ويأتوا بالمتقن من صفحاته

استعان المؤلف في تأليفه بشذرات قليلة مما كتبه الروم ومؤرخو الكنيسة القبطية، وما كتبه أهم المؤرخين من العرب والإنجليز والفرنسيين والألمان، وما عثر من أوراق البردي في أرجاء مصر، وما كشف من عادياتها القديمة، ورجع إلى عالم عصره الشيخ محمد عبده فأعطاه بعض قطع اختارها أو كتبها، وكانت خاصة بالفتح، وساعده غير واحد من أعلام مصر في قراءة جمل من القبطية وغيرها فجلا تاريخ هذه الحقبة بأجمل أسلوب عصري، صوَّر لك ما وقع من حوادث الفتح العربي كأنك تشهدها

قال: (ولعل القارئ يستطيع من مطالعة الملاحق التي ألحقناها في آخر الكتاب أن يتبين شيئاً من مقدار ما هنالك من خلط في التاريخ، ومقدار ما عانيناه من المشقة في ابتداع طريقة لضبط تواريخ، الفتح الفارسي والفتح العربي، فالظاهر أن مؤرخي العرب لا يعرفون شيئاً عن تيودور القائد الأعلى لجيوش الروم، فهم يخلطونه ببعض أصاغر القواد، وهم كذلك يخلطون بين قيرس (المقوقس) وبنيامين، وبين فتح قطر مصر وفتح مدينة مصر، وفتح الإسكندرية، ولا يميزون بين فتح الإسكندرية الأول الذي كان صلحاً وبين

ص: 78

فتحها الثاني الذي كان عنوة، وكانوا يذهبون إلى أن القبط قد ساعدوا العرب ورحبوا بهم. وقد ظلم التاريخ القبط في ذلك ظلماً فاحشاً على نحو ما ظلم العرب ظلماً كثيراً بنسبة حريق خزانة كتب الإسكندرية إليهم) قال: وما كأن لنا إلا قصد واحد وهو أن نصل إلى الحق، وقال إنه ممن يحمل لكل من الشعبين العربي والقبطي أكبر الإعجاب

ومن براهينه في تبرئة العرب من حريق خزانة الإسكندرية أن هذه القصة لم تظهر إلا بعد نيف وخمسمائة عام من وقت الحادثة وقد فحص هذه الحكاية وحللها (شأن عشرات من علماء المشرقيات) فألفاها كما رأوها سخافات مستبعدة ينكرها العقل، وقال أن الرجل الذي ذكر أنه كان أكبر عامل فيها مات قبل غزو العرب بزمن طويل، وإن القصة قد تشير إلى واحدة من خزانتين: الأولى خزانة المتحف، وقد حرقت في حريق قيصر، وإذا لم تتلف كلها كان ضياعها فيما بعد في وقت لا يقل عن أربعمائة عام قبل فتح العرب. وأما الثانية وهي خزانة السرابيوم أما أن تكون تلفت قبل عام 391، وإما أن تكون قد ضاعت، وعلى كل فقد ضاعت أخبارها قبل فتح العرب بقرنين ونصف قرن، ولو كانت هذه الخزانة باقية عندما عقد قيرس صلحه مع العرب على تسليم الإسكندرية لنقلت الكتب، وقد أبيح ذلك في شروط الصلح الذي يسمح بنقل المتاع والأموال في مدة الهدنة وقدرها أحد عشر شهراً، وإن كتاب القرنين الخامس والسادس لا يذكرون شيئاً عن وجود الخزانة، كذلك كتاب أوائل القرن السابع، وأنه لو صح أن هذه الخزانة قد نقلت أو لو كان العرب قد أتلفوها حقيقة لما أغفل ذلك كاتب من أهل العلم وهو يوحنا النقيوسي، وكان قريب العهد من الفتح، ولما مرّ على ذلك بغير أن يكتب حرفاً الخ

وقال المؤلف في الحاشية إنه لم يقصد سوى إثبات الحقيقة، وما قصد الدفاع عن العرب، وليس الدفاع بضروري، ولو كان ضرورياً لما تعذر أن نجد شيئاً يليق الاعتذار به عن ذلك، ولا شك أن العرب عنوا فيما بعد بجمع كثير من الكتب القديمة وغيرها مما وقع في أيديهم، وعنوا بحفظها، وترجموا منها في كثير من الأحوال. قال: وفي الحق أنهم أقاموا مثلاً يجدر بفاتحي هذه الأيام أن يحذوا حذوه، فقد نقل سيديليو في تاريخ العرب العام أن الفرنسيين عندما فتحوا مدينة قسطنطينية في شمال أفريقية أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم (كأنهم من صميم الهمج)؛ ووجد الإنجليز عند فتح مدينة مجدلة خزانة

ص: 79

كبرى من الكتب الحبشية فحملوها معهم، ولكنهم لم يلبثوا أن تركوا أكثرها في كنيسة على جانب الطريق إذ وجدوا في حملها عناءً. وقيمة الكتب التي نجت وحفظت تدل على فداحة الخسارة التي لحقت العلم بضياع ما ترك منها أهم

بهذا الإنصاف، وهذه العناية، وهذا الجهد، ألف المؤرخ الإنجليزي تاريخ الفتح العربي في مصر، فرسم صورة جميلة، وكان إعجابه بعمرو بن العاص لا يقل عن إعجابنا معاشر العرب به وبأمثاله من الصحابة الفاتحين. وعناية المترجم الفاضل شديدة بتجويد ترجمته على صعوبتها لما حوت من النقول العربية وغيرها من اللغات ليرد الوثائق إلى أصلها؛ وقد وقع له تحريف في بعض الأعلام، ومنها ترجمته اذاسا وهي الرُّها وأطلق عليها الترك (أورفه)؛ ومنها (افيسوس) وهي (إفسس) مدينة في آسيا الصغرى أطلالها قرب أزمير اليوم؛ ومنها (برجاموس) وهي (فرغاموس)، وفي قاموس الجغرافية القديمة للعلامة أحمد زكي باشا أن فرغامس هو الاسم الوارد في كتب العرب للدلالة على مملكة قديمة بآسيا الصغرى اسمها عند الإفرنج ومنه اشتقوا الكلمة التي يطلقونها على الرق (بفتح الراء) أي الجلود المستعملة للكتابة، لأنها أول ما صنعت بهذه المملكة، فيقول الطليانيون والفرنساويون الخ. وقال مدينة (بيرويه) وهي مدينة حلب ذاتها. هذا إلى هنات قليلة لا يكاد يخلو منها كتاب منقول إلى لغتنا من لغة أعجمية. أما الترجمة في مجموعها فيستحق عليها المترجم كل ثناء وشكر

- 2 -

أحسن مؤلفا فن الطهي الحديث على الطراز العربي والغربي وضعه. ألفاه بعد أن عانيا صناعة الطبخ بالعمل في مصر وبلاد الغرب سنين طويلة وعملا في قصور الملوك والأمراء وفنادق النبلاء والملآء، فجاء الكتاب نافعاً في بابه لا تستغني عنه ربة دار، ولا طاهٍ يروقه أن يزين خُوانه بشهيّ الألوان، ويتفنن في تلذيذ الآكلين بطعام صحي منوع. جاء الكتاب في 1170صفحة كبيرة وصفت فيه الأطعمة والحلويات والمتبلات مشفوعة بالمقادير الواجب استعمالها وبصورة وضعها وصنعها بحيث لا يكاد يحتاج من يريد الاقتباس منها إلا إلى قليل من الدقة والعناية حتى يتفنن في طبخ الطعام ويجهز ألواناً رائعة شائقة شكلاً وطعماً. وكنا نتمنى لو دفع المؤلفان كتابهما إلى من يصقل عباراته ويترجم

ص: 80

أسماء بعض الألوان الإفرنجية بألفاظ عربية تدني مفهومها من ذهن من لا يحسن لغة من اللغات الأجنبية من أبناء العرب

وقديماً ألف أجدادنا في هذا الموضوع بما دل على رسوخهم في الرفاهية، وقرأنا في الكتب أن الخليفة الفلاني أو الملك الفلاني كان يقدم على مائدته عشرات بل مئات من ألوان الطعام. والتفنن في الطبخ دليل الحضارة، ولطالما كان بعض الأمراء يرسلون إلى الأقطار البعيدة بعض طهاتهم ليأخذوا عنها صنع أطعمة لا يعرفونها، والمطابخ الإفرنجية اليوم أرقى من المطابخ الشرقية؛ لأن طعامها يطهى على أساليب كيماوية صحية لا نزاع في خفتها وطرافتها. وحضارة الغرب أرقى من حضارة الشرق، اللهم إلا في مسائل يتفرد بها الشرقيون

فليس البحث في الأكل الجيد إذاً بالذي يعد انحطاطاً، ونحن لو أنعمنا النظر لا نفسر هذا الجدال القائم بين البشر اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم إلا على الرفاهية، وما فلسفة الأمم إلا فلسفة خبز في الواقع. ودعوى خدمة المدنية والإنسانية صورة مبهرجة يراد بها غير ما تعطي ظواهرها. والأمة التي يكثر خبزها وتتلون أطعمة المتوسطين والموسرين فيها هي أمة راقية سعيدة، والعرب الذين عهدنا لهم تلك الخشونة في المطعم لما فتحوا الممالك وخرجوا من جزيرتهم أغرقوا في التنطع والتنوّق إغراق غيرهم من الأمم

محمد كرد على

ص: 81