الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 107
- بتاريخ: 22 - 07 - 1935
محمد حافظ إبراهيم
بمناسبة ذكراه الثالثة
كان الجيل الماضي بمصر لا يزال يعيش على بقايا تخلفت من تقاليدنا الجميلة في الجماعات والأسر، فالناس يجرون على أثر من خلال الفتوة، يرتاحون للندى، ويتنافسون في العرف، ويهتزون للبطولة، ويطربون للبيان، ويجيزون على الشعر؛ و (مناظر) الدور وأبهاء القصور تأخذ في كل مساء زخرفها من أهل الأدب ورجال السياسة وأصحاب الجاه وأرباب الحكم؛ وكان مدار الحديث فيها على النكتة البارعة، والخبر الطريف، والمسألة الدقيقة، والبلاغة المأثورة، يتساقطها السامرون على محض المودة ووثوق الألفة، فتفتق الذهن، وتصقل الذوق، وتوجه الميل، وتنيل الحظوة؛ وكانت المواهب والملكات تتفتح في جوانب هذه الأندية فتدل على نفسها أهلَ النفوذ فيُشبلون عليها حتى تزهر وتثمر؛ وكانت النهضة الأدبية والحركة الفكرية يومئذ في طور الانتعاش، تتحركان للنمو والسمو على نفحات المرصفي والبارودي والأفغاني وعبده وسلمان وحمزة والشنقيطي واليازجي والمويلحي ونديم وسعد وفحتي ومصطفى وقاسم؛ فالمجالس تُشيع جر الكلام، والصحف تذيع بارع النقد، والخديويون يتخذون من الأدباء ندامى، ومن الشعراء بطانة، حتى قر في نفس حافظ وأنداده من ناشئ الشباب الطامحين أن الأدب كان سبيل الثراء (لليثي)، وسبب المجد (لسامي)، ووسيلة الزلفي (لشوقي)، فتجهز لهذه الغاية بجهاز هذه البيئة، فروى رقائق الشعر، وجمع مقطعات الحديث، وراض نفسه على معاناة القريض.
كان عمر حافظ سنتين حين توفى أبوه فقيراً في (ديروط)، فنشأ في مهد اليُتم والعُدم لا يجد حانياً غير أمه، ولا كافياً غير خاله، فجاز مرحلة التعليم الابتدائي في ضيق وشدة، ثم قضى بضع سنين في طنطا متبطلاً يُزَجِّى فراغه بالقراءة ويدفع ملاله بالقريض، ولم يستطع خاله لسبب ما أن يجلو عنه غمة البائس، وذلة اليتيم، فكان لا يفتأ متبرماً بالعيش، متأففاً من الناس، متجنياً على القدر، لا ينشئ الشعر إلا في ذاك؛ ثم دفعته الحاجة إلى مكاتب المحامين - وكانت يومئذ مفتحة الأبواب لكل داخل - فتبلغ من العمل بها حيناً، حتى أسعفته الفرص فدخل المدرسة الحربية، وهي مطمح بصره وحديث أمانيه؛ ثم خرج منها ضابطاً إلى السودان ليشهد صلف الإنجليز وضراعة المصريين، فيثور مع إخوانه الضباط
على جور المحتل وفضول الدخيل، فينفى فيمن نفي من السودان والجيش.
عاد حافظ كما كان يضطرب في الحياة النابية المبهمة، لا يستريض لعمل، ولا يستقر على أمر، ولا يتشوف إلى غاية، لأن طفولته الشاردة المهملة طبعته على الكسل والملل والتشاؤم والوحشة؛ ولأن عقيدته التقليدية الخاطئة أن الشعر وحده يشغل الحياة، ويبسط الرزق، ويكسب الحقوق، أحيته على نمط مسلم ابن الوليد وأبي نواس وأضرابهما، ممن عاشوا صنائع للملوك، وحمائل على الجوائز، ووسائل للهو؛ فأبى الوظيفة وهي على حبل ذراعه، وآثر أن يعيش في ظلال الإمام محمد عبدة ينتفع بجاهه ويفئ إلى رفده، ويغشى مع ذلك أبهاء النعمة يسامر أهلها بعذل حديثه، وينادمهم برقيق شعره، ثم يتطلع الحين بعد الحين إلى صلات القصر فيحجبه عنها شاعر الأمير بحوله وقوله.
ومن أدب الشعراء الكاسبين بالشعر أن ينفقوا إلى حد السفه إذا عاشوا في الحاضر كصريع الغواني وابن هاني، وأن يمسكوا إلى حد الكزازة إذا عاشوا في المستقبل كأبي العتاهية والبحتري، ومن الأولين كان حافظ!
تمتلئ يداه بالمال اليوم فيعتريه حال من البرم والقلق لا تنفك عنه حتى كله قبل الغد على إخوانه الكثيرين من طرائد البؤس وصرعى الأدب، ثم يطارحهم بعد ذلك على مقاعد القهوة الشعر الباكي في لؤم الزمان، وظلم الإنسان، وشقاء الأديب.
قطع حافظ مراحل عمره على هذا المنهج البوهيمي لا يدخل في نظام، ولا يصبر على جهد، ولا يرغب في عمل، ولا يطمئن إلى تبعة، وإنما يضطرب نهاره من قهوة إلى قهوة، ويتقلب ليله من مجلس إلى مجلس؛ وأينما كان كان الأنس الشامل، والظرف الناصع، والأدب الغض، والحديث المشقق الذي يمتزج بالروح، ويغمر بالنشوة جوانب النفس.
تقوضت أسرة حافظ وهو في المهد، فشب وحشي الطبع معري الغريزة لا يتضح في نفسه معنى البيت، ولا يجري في حسه شعور الأسرة؛ ثم وقفت به قناعته الشاعرة عند الخد القريب من معالجة الأدب، فقصر جهده على صوغ الشعر في المناسبات، وجمع النوادر للسمر، حتى بلغ من ذلك مكاناً لا يتعلق به درك. ولكنه حين أريد على ترجمة البؤساء، وكتاب الأخلاق، ووكالة دار الكتب، أدركته علة النشأة، فقعدت به عن التمام، وخذلته عن الاحادة، وشلته عن العمل. . .
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
كفر الذبابة.
. .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال كليلة وهو يعظ دمنة ويحذره ويقضي حق الله فيه؛ وكان دمنةُ قد داخله الغرور وزهاه النصر، وظهر منه الجفاء والغلظة، ولقى الثعالب من زيغه وإلحاده عنتاً شديداً:
. . . وأعلم يا دمنة أن ما زعمته من رأيك تاماً لا يعتريه النقص، هو بعينه الناقص الذي لم يتم، والغرور الذي تثبت به أن رأيك صحيح دون الآراء، لعله هو الذي يثبت أن غير رأيك في الآراء هو الصحيح.
ولو كان الأمر على ما يتخيل كل ذي خيال لصدق كل إنسان فيما يزعم، ولو صدق كل إنسان لكذب كل إنسان؛ وإنما يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ليجيء حق الجميع من الجميع، ويبقى الصغير من الخطأ صغيراً فلا يكبر، ويثبت الكبير من الصواب على موضعه فلا ينتقص، ويصح الصحيح ما دامت الشهادة له، ويفسد الفاسد ما دامت الشهادة عليه، وما مثل هذا إلا مثل الأرنب والعلماء.
قال دمنة وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن أربناً سمعت العلماء يتكلمون في مصير هذه الدنيا، ومتى يتأذن الله بإنقراضها، وكيف تكون القارعة؛ فقالوا: إن في النجوم نجوماً مذنبة لو ألتف ذنب أحدها على جرم أرضنا هذه لطارت هواء كأنها نفخة النافخ، بل أضعف منها كأنها زفرة صدر مريض. فقالت الأرنب: ما أجهلكم أيها العلماء! قد والله خرفتم وتكذبتهم، ولا تزال الأرض بخير مع ذوات الأذناب، والدليل على جهلكم هذا -، قالوا: وأرتهم ذنبها. . .!
قال كليلة: وكم من مغرور ينزل نفسه من الأنبياء منزلة هذه الأرنب من أولئك العلماء؛ فيقول: (كذبوا وصدقت أنا، وأخطأوا جميعاً وأصبت، والتبس عليهم وانكشف لي، وهم زعموا وأنا المستيقن). ثم لا دليل له إلا مثل دليل الأرنب الخرقاء من هنة تتحرك في ذنبها. وكان يقال: إنه لا يجاهر بالكفر في قوم إلا رجل هان عليهم فلم يعبأوا به؛ فهو الأذل المستضعف؛ أو رجل هانوا عليه فلم يعبأ بهم، فهو الأعز الطاغية. ذاك لا يخشونه فيدعونه لنفسه وعليه شهادة حمقه، وهذا يخشونه فيتركون معارضته وعليه شهادة ظلمه؛ وما شر من هذا إلا هذا. وقالت العلماء: إن كنت حاكماً تشنق من يخالفك في الرأي، فليس
في رأسك إلا عقل اسمه الحبل؛ وإن كنت تقتل من ينكر عليك الخطأ، فليس لك إلا عقل اسمه الحديد؛ وإن كنت تحبس من يعارضك بالنظر، ففيك عقل اسمه الجدار. أما إن كنت تناظر وتجادل، وتُقنع وتقتنع، وتدعو الناس على بصيرة، ولا تأخذهم بالعمى - ففيك العقل الذي اسمه العقل.
قال كليلة: وأنا يا دمنة، فلو كنت قائداً مطاعاً، وأميراً متبعاً، لا يعصى لي أمر، ولا يرد عليّ رأي، ولا ينكر مني ما ينكر من المخلوق إذا أخطأ، ولا يقال لي دائماً إلا إحدى الكلمتين: أصبت أصبت؛ ولا يلقاني أحد من قومي بالكلمة الأخرى، رهبة من سخطي رهبة الجبناء، أو رغبة في رضاي رغبة المنافقين، وزعموا أنهم على ذلك قد خلص لي باطنهم جميعاً، وصحت نياتهم كلها - فلو كنت وكانوا على هذا، لأحالني نقصهم إلى نقص العقل بعد كماله، وردتني فسولتهم إلى فسولة الرأي بعد جودته، فأخلق بي أن أعتبر وضعهم إياي في موضع الآلهة هو إنزالهم إياي في منزلة الشياطين، وإلا كنت حقيقاً أن يصيبني ما أصاب العنز التي زعموا لها إنها أنثى الفيل. . .
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أنه كان في إحدى خرائب الهند جماعة من العظاء، وكان فيها عضرفوط كبير فملكته الجماعة وذهبت تأتمر عن أمره وتنتهي. فمر بهذه الخربة فيل جسيم من الفيلة، لم يحس بالعظاء، ولم يميز فرقاً بين هذه الأمة وبين الحصى منثوراً يلتمع في الأرض هنا وهنا؛ فنظر العضرفوط كيف يصنع به، وكان قائداً عظيماً، ثم تدبر أمر الفيل، فرآه لا يتحرك إلا بأقدامه ينقلها واحدةً واحدة؛ فقدر عند نفسه أنه لو أزال قدم الفيل عن الأرض زال الفيل نفسه؛ فجاء فاعترض الطريق، ودب دبيبه إلى قدم الفيل؛ فلما رفع الفيل قدمه أهتبل هذه الغفلة منه. . . واندس تحتها، فأندس مقبوراً في التراب! ثم إن العظاء افتقدت أميرها. فلما مضى الفيل لسبيله، ورأت ما نزل بها نفرت إلى أحجارها وإستكنت فيها ترتقب وترربص؛ فدخلت إلى الخربة عنز جعلت تتقمم منها وترتع فيها، ورأتها العظاء فاجتمعن يأتمرن. .
فقال منها قائل: هذه أنثى الفيل. فسألت عظاية منهن: وأين النابان العظيمان؟
قالت الأولى: إن الإناث دون الذكورة في خلقها، والأنثى هي الذكر مقلوباً أو مختصراً أو
مشوهاً، ولذلك هن يقبلن الحياة أو يختصرنها أو يشوهنها. أفلا ترين النابين العظيمين البارزين في ذلك الفيل الجسيم، كيف نبتا صغيرين منقلبين فوق رأس أنثاه؟
فقالت واحدة: إن جاز قولك في الرأي فأين الخرطوم؟
قالت الأخرى: هو هذه الزَّنمة المتدلية من حلقها، وهو خرطوم على قدر أنوثة الأنثى. . . .!
قالوا؛ ثم اجتمع رأيهن على أن يملكن أنثى الفيل هذه؛ وان يهبن لها الخربة وأمتها. وسمعت الماعزة كلامهن فقالت: لا جرم أن تكون العنز فيلة في أمة من العظاء، فقد قالت العلماء: إنه لا كبير إلا بصغير، ولا قوي إلا بضعيف، ولا طاغية إلا بذليل؛ وان العظمة أن هي شهادة الحقارة على نفسها، وانه رب عظيم طاغية متجبر ما قام في الناس إلا كما تقوم الحيلة، ولا عاش إلا كما يعيش الكذب، ولا حكم إلا كما يحكم الخداع. وهذه الدنيا للمحظوظ كأنها دنيا له وحده، فحتى جاءت إليه فقد جاءت، وإذا أدبرت عنه من ناحية رجعت من ناحية اخرى، ليثبت الحظ انه الحظ.
وتقدم العظاء إلى العنز فقلن لها: أيتها الفيلة العظيمة، إن قرينك العظيم قد مس أميرنا العضرفوط بقدمه فغيبه تحت سبع ارضين، واننا قد اخترناك ملكة علينا، ووهبنا لك الحربة وما فيها.
قالت العنز: فإني أتهب منكن هذه الهبة، ونعماً صنعتن؛ غير أن بينكن وبيني ما بين العظاية والفيل، وما بين الحصاة والجبل؛ فإذا أنا قلت؛ وإذا أنا أمرت، فأنا أمرت؛ وإذا أنا فعلت، فأنا فعلت. هنا في هذه الأمة كلها (أنا) واحدة ليس معها غيرها؛ لأنه هاهنا في هذا الرأس دماغ فيلة، وفي هذا الجسم قوة فيلة، وفي الخربة كلها فيلة واحدة؛ فلا اعر فن منكن على الصواب والخطأ إلا الطاعة، طاعة الأعمى للبصير. إلا وان أول الحقائق أنني فيلة وإنكن عظاء؛ ومتى بدأ اليقين من هنا سقط الخلاف من بيننا وبطل الاعتراض منكن، وقوتي حق لأنها قوة، وباطلي كذلك حق لأنه من قوتي؛ وقد قال حكماء الفيلة: إن القوي بين الضعفاء مشيئة مطلقة، فهو مصلح حتى بالافساد، حكم حتى بالحماقة، أمام حتى بالخرافة، عالم حتى بالجهالة، نبي حتى بالشعوذة. . . . .!
قالوا؛ وتنكر عليها عظاية صالحة عالمة كانت ذات رأي ودين في قومها، وكن يسمينها:
(العمامة)، لبياضها وصلاحها وطهارتها، فقالت: ولا كل هذا أيتها الفيلة؛ لقد تخرصت غير الحق فانك تحكمينا من أجلنا لا من اجلك، وما قولك إلا كلمات لا يحققها إلا أعمالنا نحن؛ فلك الطاعة فيما يصلحنا لا فيما يفسدنا، ورأيك شيء ينبغي أن تكون معه اراونا، لتتبين الأسباب أسباب الموافقة والمخالفة، فنأخذ عن بينه ونترك عن بينه؛ وقد كان يقال في قديم الحكمة: انه يجب على من يقدم رأياً للامة الحازمة كي تأخذ به، أو يضع لها شرعاً ليحملها عليه، أو يسن لها سنة لتتبعها - يجب على هذا المتقدم لتحويل الأمة وتحريرها أن يتقدم لأهل الشورى وفي راسة الرأي، وفي عنقه حبل؛ ثم يتكلم برأيه ويبسطه ويدفع عنه، ويجادله ويجادلونه؛ فان كان الرأي حقاً اخذوا الرأي، وان كان بطلاً اخذوا الحبل فشنقوا فيه هذا المتهور.
وفي ديننا أن الطاعة في المعصية معصية أخرى؛ ولقد كان لنا عضرفوط بحاثة في الأديان دراسة لكتبها؛ فكان مما علمنا إن المخلوق مبني على النقص إذ هو ماضٍ إلى الفناء، فيجب إلا يتم منه شيء إلا بمقدار، وألا تكون القوة فيه إلا بمقدار؛ ولهذا كان العقل التام في الأرض هو مجموع العقول كلها، وكان أتم الآراء وأصحها ما أثبتت الآراء نفسها أنها أصحها وأتمها. فلا الدين أتبعت أيها الفيلة ولا أتبعت فينا العقل.
فلما سمعت العنز ذلك تنفشت وغضبت، وقالت: إياكم وهذه الترهات من ألسنتكم، وهذه الأباطيل في عقولكم؛ لا اسمعن منكم كلمة الدين ولا كلمة الأنبياء ولا العضافيظ. . . فذلك وحي غير وحي أنا؛ وإذا كان غير وحيي أنا فأنا لست فيه، وإذا لم أكن أنا فيه فهو لا يصلح للحكم الذي شرطه أن الدولة ليس فيها إلا أنا واحدة. وذلك إن لم يجعلكم غرباء عني جعلني غريبة عنكم، ما بد من إحدى الغربتين، فهو أول القطيعة، والقطيعة أول الفساد. وما دام في الدين أمر غير أمري، ونهي غير نهيي، وتحليل وتحريم لا يتغيران على مشيئتي - فأنا مجنونة إن رضيت لكم هذا. . .!
فضحكت (العمامة) وقالت للماعزة: بل قولي: أنا مجنونة بـ. . . أنا. أفلا يجوز وأنت خلق من الخلق أن يعتري عقلك شيء مما يعتري العقول؟ ولسنا ننكر أنك قوية الرأي في ناحية القوة، حسنة التدبير في ناحية الشجاعة، متجاوزة المقدار في ناحية الحزم والحرص على مصالح الدولة؛ ولكن ألم يقل الحكماء: إن الزيادة المسرفة في جهة من العقل تأتي من
النقص المتحيف لجهة أخرى، وإنه رب عقل كان تاماً عبقرياً في أمور لأنه ضعيف أبله في غيرها؛ يُحسن في تلك ما لا يُحسنه أحد، ويُحكم منها ما لا يُحكمه أحد؛ ثم يغلط في الأخرى ما لا يغلط أحد فيه؟
قالوا؛ فجاشت العنز وفارت من الغضب فورة الجبار، وخيل إليها من عمى الغيظ أنها ذهبت بين الأرض والسماء، وأن زنمتها أمتد منها خرطوم طويل، وأن قرنيها أنبعج منهما نابان عظيمان؛ وقالت: ويحكم! خذوا هذه (العمامة) فاشنقوها؛ فأنها كما قالت؛ تقدمت إلينا بالرأي والحبل. . .!
وكان في العظاء ضعاف ومهازيل وجبناء ومأكولون لكل آكل؛ فتشبح لهم أن أنثى الفيل هذه. . . ستخلقهم فيلة إن هم أطاعوها؛ فإذا مردوا عليها فأنها من صرامة البأس بحيث تجعل كل ظلف من أظلافها جبلاً فوقهم كأنه ظله فتسوخ بهم الأرض. ثم أنهم إنخزلوا وتراجعوا وأخذت (العمامة) الصالحة فشنقت، وخمد الرأي من بعدها وانقطع الخلاف والدين والعقل الحر. . .؛ وأقبلت دولة العظاء على العنز تجرر أذيالها. . .
قالوا؛ واغترت الماعزة وأحست لها وجوداً لم يكن، وعرفت لنفسها وهي ماعزة نباهة شأن الفيل القوي، فلجت في عمايتها وكفرت بجنسها، وقالت: لم يخلقني الله فيلةً وخلقت نفسي؛ فأنا لا هو. . .
وثبت عندها أنها ليست بعنزٍ وإن أشبهتها كل عنز في الدنيا؛ وذهبت تقلد وتعيش على مذاهب الفيلة بين العظاء؛ فإذا مشت إرتجَّت وتخطَّرت كأنها بناء يتقلقل، وإذا إضطجعت أنذرت الأرض أن تتمسك لا تدكها بجنبها. . .!
ومر ذلك الفيل بهذا الخراب مرةً أخرى، فلاذت العظاء كلهن بالفيلة. . . وتأهبت هذه للقتال وتحصفت في المبارزة والمناجزة. . . والمعانزة فنصبت قرنيها، وحركت زنمتها، وطأطأت، وشدت أظلافها في الأرض، وثبتت قوائمها، وصلبت عظامها، ونفشت شعرها، وتشوكت كالقنفذ، وأصرت بكل ذلك إصرارها؛ وكانت عنزاً نطيحة منذ كانت تتبع أمها وتتلوها، فكيف بها وقد تفيلت. . . .؟
ثم إنها ثبتت في طريق الفيل ليرى بعينه هذا الهول الهائل. . . فأقبل، فمد خرطومه، فنالها به، فلفها فيه، فقبضه، فرفعه، فطوحها، فكأنما ذهبت في السماء. . .!
وتهاربت العظاء ولذن بأجحارهن، ثم غدون على رزقهن فإذا جيفة العنز غير بعيد، فذببن عليها وإرتعين فيها وعلمن أنها كانت ماعزة فيلها جنونها، وأدركن أن الكذب على الحقائق قد جعل الله له حقائق أخرى تقتله، وأن من غلب أمة العظاء على أمرها فليست الأيام والليالي عظاء فيغلبها؛ وأن تغيير المخلوقات إنما يكون بتحويل باطنها لا بتحويل ظاهرها، وإن الإناء الأحر يريك الماء مُحمراً والماء في نفسه لا حمرة فيه، حتى إذا انكسر الإناء ظهر كما هو في نفسه؛ وكل ما يخفي الحق هو كهذا الإناء: لون على الحق لا فيه؛ ثم أيقن أن محاولة إخراج أمةٍ كاملة من نزعات ماعزةٍ مأفونة، هي كمحاولة إستيلاد الفيل من الماعزة. . .!
قال كليلة: وأعلم يا دمنة، انه لولا أن هذه العنز الحمقاء قد كفرت كفر الذبابة لما أخذها الله أخذ الذبابة.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال: زعموا أن ذبابة سوداء كانت من حمقى الذبان، قُدرت الحماقة عليها أبدية، فلو انقلبت نقطة حبر لما كُتبتْ بها إلا كلمة سُخف.
ووقعت هذه الذبابة على وجه امرأة زنجية ضخمة، فجعلت تقابل بين نفسها وبين المرأة؛ وقالت: إن هذا لمن أدل الدليل على إن العالم فوضى لا نظام فيه، وإنه مرسل كيف يتفق على ما يتفق عبثاً في عبث، ولا ريب إن الأنبياء قد كذبوا الناس؛ إذ كيف يستوي في الحكمة خلقي (أنا) وخلق هذه الذبابة الضخمة التي أنا فوقها. . .؟
ثم نظرت ليلةً في السماء، فأبصرت نجومها يتلألأن وبينها القمر؛ فقالت: وهذا دليل آخر على ما تحقق عندي من فوضي العالم وكذب الأديان وعبث المصادفات؛ فما الإيمان بعينه، إلا الإلحاد بعينه، ووضع العقل في شيء هو إيجاد الألوهية فيه، وإلا فكيف يستوي في الحكمة وضعي (أنا) ورفع هذا الذبان الأبيض ويعسوبه الكبير إلى السماء. . .؟
ثم إنها وقعت في دار فلاح، فجعلت تمور فيها ذهاباً وجيئة حتى رجعت بقرة الفلاح من مرعاها؛ فبهتت الذبابة وجمدت على غرتها من أول النهار إلى آخره، كأنها تزاول عملاً؛ فلما أمست قالت: وهذا دليل أكبر الدليل على فوضى الأرزاق في الدنيا، فهاتان ذبابتان قد ثقبتا ثقبين في وجه هذه البقرة واكتفتا فيها تأكلان من شحمها فتعظمان سمها؛ والناس من
جهلهم بالعلم الذبابي يسمونهما عينين. . . وأنا قضيت اليوم كله أخمش وأعض وألسع لأثقب لي ثقباً مثلهما فما انتزعت شعرة؛ فهل يستوي الحكمة في رزقي (أنا) ورزق هاتين الذبابتين في وجه البقرة. . .؟
ثم أنها رأت خنفساء تدب دبيبها في الأرواث والأقذار فنظرت إليها وقالت: هذه لا تصلح دليلاً على الكفر؛ فإني (أنا) خيرٌ منها؛ (أنا) لي أجنحة وليس لها (وأنا) خفيفة وهي ثقيلة؛ وما كأنها إلا ذبابة قديمة من ذباب القرون الأولى ذلك الذي كان بليداً لا يتحرك، فلم تجعل له الحركة جناحاً. ثم إنها أصغت فسمعت الخنسفاء تقول لأخرى وهي تحاورها: إذا لم يجد المخلوق أنه كما يشتهي فليكفر كما يشتهي؛ يا ويحنا! لِمَ لمْ نكن جاموساً كهذا الجاموس العظيم، وما بيننا وبينه فرق إلا أنه وجد من ينفخه ولم نجد. . .؟
فقالت الذبابة: إن هذا دليل العقل في هذه العاقلة، ولعمري إنها لا تمشي مثاقلة من أنها بطيئة مرهقة بعجزها، ولكن من أنها وقور مثقلة بأفكارها، وهي الدليل على أني (أنا) السابقة إلى كشف الحقيقة. . .!
وجعلت الذبابة لا يُسمع من دندنتها إلا: أنا، أنا، أنا، أنا. . . من كفرٍ إلى كفرٍ غيره إلا كفر غيرهما، حتى كأن السماوات كلها أصبحت في معركة مع ذبابة. . .
ثم جاءت الحقيقة إلى هذا الإلحاد الأحمق تسعى سعيها؛ فبينا الذبابة على وجه حائط، وقد أكلت بعوضةً أو بعوضتين، وأعجبتها نفسها، فوقفت تحك ذراعها بذراعها - دنت بطةً صغيرة قد انفلت عنها البيضةُ أمس، فمدت منقارها، فالتقطتها. ولما انطبق المنقار عليها قالت: آمنت إنه لا إله إلا الذي خلق البطة. . . . . . .!!
مسالك الأبصار
ومؤلفه الشهاب العمري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في سنة 1924 أخرجت دار الكتب المصرية الجزء الأول من أثر ضخم، هو كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لشهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري، وذلك بإشارة المغفور له العلامة الأستاذ أحمد زكي باشا وبتحقيقه. ثم وقف مشروع إخراج الكتاب في مستهله لأسباب نجهلها حتى اليوم، ولكنا علمنا أخيراً أن دار الكتب قررت استئناف العمل في (مسالك الأبصار) وإخراجه تباعاً إلى جانب الآثار القديمة الأخرى التي تعنى بنشرها.
وهو نبأ يستقبله الباحثون والأدباء بمنتهى الغبطة. ذلك أن (مسالك الأبصار) من الآثار الإسلامية الضخمة التي تمتاز بغزارة مادتها وتنوع موضوعاتها ونفاسة معلوماتها؛ وهو ثالث ثلاثة من الموسوعات العربية المصرية الضخمة، التي كتبت في عصور متقاربة، وامتازت على جميع الآثار الإسلامية بضخامتها وتنوعها وطرافتها؛ وهي: مسالك الأبصار، ونهاية الأرب للنويري، وصبح الأعشى للقلقشندي. وقد أخرجت لنا دار الكتب (صبح الأعشى) كاملاً في أربعة عشر مجلداً، وأنجزت لنا من نهاية الأرب نحو ثلثه في أحد عشر مجلداً، وما زالت ماضية في إخراجه، وبقي عليها أن تستأنف العمل في ثالثة هذه الموسوعات الكبرى، ونعني (مسالك الأبصار).
كان القرن الثامن الهجري في مصر عصر الموسوعات الأدبية والتاريخية العامة؛ وإذا لم تكن فكرة الموسوعات الجامعة في الأدب العربي مصرية محضة، فقد بلغت ذروتها على الأقل في مصر، وأخرج الكتاب المصريون أعظم وأبدع نماذجها. وكان شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري هو أول كتاب الموسوعات ورأس هذه المدرسة الغزيرة الباهرة (660 - 732هـ) وقد وضع لنا موسوعته الفريدة (نهاية الأرب في فنون الأدب) في أوائل القرن الثامن الهجري في أكثر من ثلاثين مجلداً كبيراً، فجاءت أثراً ضخماً لم تشهد مثله الآداب العربية من قبل في غزارة المادة وتنوع الموضوعات وطرافة الأوضاع؛ ثم تلاه العمري الذي نريد أن نتحدث اليوم عنه وعن مجهوده، بوضع موسوعته (مسالك
الأبصار)؛ وجاء القلقشندي ليختم هذا الثبت في أوائل القرن التاسع بوضع موسوعته (صبح الأعشى).
كان العمري دمشقي المولد؛ ولكن مصري التربية والموطن والتكوين؛ وهو شهاب الدين أبو العباس بن فضل الله أحمد بن يحيى؛ وينتهي نسبه إلى عمر بن الخطاب، ومن ثم كان تلقيبه بالعمري. ولد في ثالث شوال سنة سبعمائة (1300م)، وتلقى تربيته الأولى في دمشق؛ ثم وفد على القاهرة حدثاً ودرس بها واتخذها وطناً وموئلاً، ومال إلى التخصص في علوم الفقه واللغة، وبرع بالأخص في الكتابة والإنشاء، وتقلد في البلاط القاهري عدة مناصب هامة أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون في ولايته الثالثة (709 - 741هـ) وانتهى إلى تقلد ديوان الإنشاء والرسائل، فاستحدث فيه كثيراً من الأساليب والأوضاع البديعة، ووضع له دستوراً لبث عمدة الكتاب والسلاطين مدى عصور.
ولبث العمري إلى جانب اضطلاعه بأعباء المناصب العامة رجل البحث والدرس؛ وعني عناية خاصة بدرس الجغرافية الطبيعية والسياسية أو الممالك والمسالك وطبائعها وخواصها؛ ودرس تواريخ الأمم وأحوالها وعجائبها، ولا سيما أمم الشرق النائية مثل أمم التتار والهند والصين، ودرس الفلك أيضاً، ولم يكتف في درسه بقراءة المصادر والمصنفات القديمة، فتجول في أنحاء الشام والأناضول والحجاز وبعض الممالك الإسلامية الأخرى، حسبما يبدو ذلك في أكثر من موضع من سياق موسوعته، وحسبما يشير إجمالاً في مقدمته، واستعان في تعرف أحوال الأمم والممالك التي لم تتح له زيارتها بأقوال العارفين والثقاة ممن زاروها أو درسوا أحوالها دراسة خاصة، حتى اجتمعت له من ذلك مادة غزيرة تمتاز في كثير من الأحيان بدقتها وطرافتها.
وقد تبوأ العمري إمامة البلاغة والبيان والترسل في عصره حتى أن الصفدي معاصره وصديقه يفضله في هذا الفن على القاضي الفاضل، وبصف خلاله ومواهبه الأدبية في تلك العبارات البليغة: (يتدفق بحره بالجواهر كلاماً، ويتألق إنشاؤه بالبوارق المستعرة نظاماً، ويقطر كلامه فصاحة وبلاغة، وتندى عباراته انسجاماً وصياغة، وينظر إلى غيب المعاني من ستر رقيق، ويغوص في لجة البيان فيظفر بكبار اللؤلؤ من البحر العميق، قد استوت بديهته وارتجاله، وتأخر عن فروسيته من هذا الفن رجاله، يكتب من رأس قلمه بديها ما
يعجز القاضي الفاضل أن يدانيه تشبيهاً، وينظم من المقطوع والقصيدة جوهراً يخجل الروض الذي باكره الحيا مزهراً، صرف الزمان أمراً ونهياً، ودبر الممالك تنفيذاً ورأباً، ووصل الأرزاق بقلمه، ورويت تواقيعه وهي سجلات لحكمه وحكمه، لا أرى أن اسم الكاتب يصدق على غيره ولا يطلق على سواه). ثم يصفه الصفدي بعد ذلك بالأديب (الكامل) وينوه بقوة ذاكرته، وحسن ذوقه، ويقول لنا إنه، أي العمري، كان آية في النثر والنظم والترسل البارع عن الملوك، وأنه (لم ير من يعرف تواريخ الملوك المغل من لدن جنكيزخان معرفته، وكذلك ملوك الهند والأتراك. وأما معرفته الممالك والمسالك، وخطوط الأقاليم والبلدان وخواصها، فأنه فيها إمام وقته).
ولأقوال الصفدي، وهو إمام النقد في عصره، قيمتها في التنويه بخلال العمري الأدبية، والعلمية الفائقة. بيد أن تراث العمري نفسه ما زال خير شاهد بعبقريته ولا سيما في فن الإنشاء والترسل، وقد كان العمري فوق ذلك شاعراً مجيداً؛ ومن رقيق شعره قوله:
أأحبابنا والعذر منا اليكمو
…
إذا ماشغلنا بالنوى أن نودعا
أبثَّكموا شوقاً أباري ببعضه
…
حمام العشايا رنة وتوجعا
أبيت سمير البرق قلبي مثله
…
أقضى به الليل التمام مروعاً
وما هو شوق مدة ثم ينقضي
…
ولا أنه يلقي محباً مفجعا
ولكنه شوق على القرب والنوى
…
أغص الأماقى مدمعاً ثم مدمعا
ومن فارق الأحباب في العمر ساعة
…
كمن فارق الأحباب في العمر أجمعا
وقطع العمري حياة قصيرة ولكن باهرة؛ وتبوأ ذروة المناصب العامة، كما تبوأ إمامة التفكير والأدب، واستمرت حظوته لدى الملك الناصر طوال عهده؛ ثم توفى سنة 749 هـ (1348م) دون أن يبلغ الخمسين.
- 2 -
ترك لنا العمري تراثاً حافلاً ينم عن غزارة مادته ورفيع مواهبه، منه موسوعته الكبرى (مسالك الابصار في ممالك الأمطار) و (الدعوة المستجابة) و (صبابة المشتاق) وهو في المدائح النبوية و (سفرة السفرة) و (دمعة الباكي) و (يقظة الساهر) و (نفحة الروض) وكلها من كتب الأدب والبيان، وكتاب (فواصل السمر في فضائل آل عمر) وكتاب
(الشتويات) وهو رسائل في الشتاء و (النبذة الكافية في معرفة الكتاب والقافية) وكتاب (التعريف بالمصطلح الشريف) وهو مجموعة نماذج من الرسائل الملوكية والأميرية، وسنعود إليه؛ وطائفة كبيرة من القصائد والموشحات والتقاليد والمناشير.
وقد انتهى إلينا من هذا التراث أهمه وأنفسه؛ فلدينا أولاً كتاب (مسالك الأبصار) وهو أهم آثار العمري وأضخمها؛ وهو في الواقع موسوعة كبرى تملأ عشرين مجلداً كبيراً، ويقول لنا العمري إنه أثر الحياة وإنه (قطع فيه عمر الأيام والليالي) وإنه شرع فيه أيام التحاقه بخدمة الملك الناصر؛ وقد يكون ذلك حوالي سنة 730 هـ؛ ويبدو من مقدمته أيضاً ومن دعائه للملك الناصر بدوام أيامه، أنه أنجز نسخته الأولى قبل سنة 741هـ أعني قبل وفاة الناصر، بيد أنه يبدو من جهة أخرى أنه زاد فيه بعد ذلك لأنه يصل في رواية الحوادث إلى سنة 743 هـ.
ومن المحقق أن العمري تأثر في وضع موسوعته بمثل سلفه العظيم النويري صاحب موسوعة (نهاية الأرب) وهي أول موسوعة من نوعها. غير أنه ينحو في تقسيمها ومحتوياتها نوعاً آخر؛ وبينما يسبغ النويري على موسوعته صبغة علمية أدبية ناريخية، إذا بالعمري يسبغ على موسوعته صبغة جغرافية تاريخية، وهو يقسمها إلى قسمين كبيرين: الأول: (في الأرض) والثاني (في سكان الأرض)، ويشمل القسم الأول ذكر الأرض وما استملت عليه براً وبحراً، وهو نوعان كبيران: المسالك والممالك، ويدخل في النوع الأول الكلام على أحوال الأرض وصفاتها وعناصرها وما تحتويه من أنهار وجبال ثم الكلام على الأقاليم السبعة وهي أساس الجغرافية القديمة وما فيها من المدن والجزائر وما يؤثر عنها من العجائب، ثم الكلام عن الرياح والكواكب والأعراض الطبيعية؛ ويدخل في القسم الثاني الكلام عن ممالك العالم المعروف يومئذ مبتدئاً بممالك الهند والسند والتتار ثم الترك ومصر والشام والحجاز واليمن، ثم ممالك السودان والحبش وإفريقية والأندلس، وفيه بيانات ضافية عن أحوال هذه البلاد ونظمها وخواصها ومحصولها وحيوانها؛ ويبدي العمري هنا دقة البحث والتحري، ويقدم إلينا أسانيده ومصادره كلما شعر بمبالغة أو غرابة فيما يروي. ويختم هذا القسم بالكلام عن العرب الموجودين في عصره وأماكن وجودهم ولا سيما في مصر، وهو فصل له قيمته في تعرف الأصول والأنساب. ويشغل هذا القسم
الأول من الكتاب نحو عشرة مجلدات.
ويتناول القسم الثاني الكلام على سكان الأرض من طوائف الأمم وفيه حديث مستفيض عن طوائف العلماء في الشرق والغرب، ثم الكلام على الأديان والنحل المختلفة؛ وبعدئذ يجيء الكلام على التاريخ، وهو قسمان، تاريخ الدول التي كانت قبل الإسلام، ثم تاريخ الدول التي قامت بعد الإسلام حتى عصر المؤلف، ويستطرد فيه إلى ذكر الحوادث حتى سنة 743هـ أعني قبل وفاته بنحو خمسة أعوام.
ولم ينشر إلى يومنا من كتاب (مسالك الأبصار) سوى الجزء الأول كما قدمنا؛ غير أنه قد نشرت منه بعض فصول ونبذ متفرقة منها فصل من فصول القسم الأول عنوانه (كلام إجمالي في أمر مشاهير ممالك عباد الصليب في البر دون البحر) نشره المستشرق أماري (سنة 1883) مقروناً بترجمة إيطالية، وهو فصل يمتاز بدقته وطرافته ويتناول الحديث عن أحوال الممالك النصرانية والجمهوريات الإيطالية في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، وينسب العمري ما أورده فيه من المعلومات إلى رجل إيطالي يدعى (بلبان الجنوي) عرفه في بعض رحلاته واستقى منه معلوماته وهي معلومات في منتهى الدقة ولا سيما ما تعلق منها بنظم الجمهوريات الإيطالية في ذلك العصر. وعني صديقنا العلامة السيد حسن حسني عبد الوهاب بنشر الفصل الخاص بوصف أفريقية والأندلس؛ ونشر أحد المستشرقين الألمان أخيراً الفصل الخاص بوصف بلاد الأناضول.
- 3 -
على أنه قد انتهى إلينا من تراث العمري اثر ذو أهمية خاصة هو كتاب (التعريف بالمصطلح الشريف) وقد كان العمري كما رأينا مدى أعوام طويلة ناظراً لديوان الإنشاء والرسائل، وقد استحدث في هذا الديوان الكثر من الأساليب والأوضاع الجديدة سواء في توجيه الرسائل والمخاطبات أو صيغها؛ ويجب أن نعلم أن ديوان الإنشاء كان في تلك العصور مجمع المراسلات الداخلية والخارجية، فمنه تصدر الرسائل والمناشير والأوامر والتواقيع إلى الأمراء والحكام وكبار الموظفين؛ ومنه توجه الرسائل الخارجية إلى مختلف الملوك والدول التي ترتبط بمصر بعلائق سياسية أو تجارية؛ وإذا فقد كان اختصاصه يتناول ما يسمى اليوم في لغة السياسة الحديثة بنظم (البروتوكول) وهي عبارة عن الرسوم
والإجراءات التي تجري عليها الدولة في تنظيم علائقها الخارجية، سواء في إجراء المفاوضات السياسية أم في عهد المعاهدات أو مخاطبة الدول الأخرى أو استقبال ممثليها ومعاملتهم أو في تحرير المكاتبات الدبلوماسية. وتسمى هذه الرسوم والنظم في الدولة الإسلامية 0بالمصطلح الشريف) وقد كان للعمري اكبر الفضل في تجديد هذه النظم، وعلى يده بلغت ذروتها من الافتنان والتناسق في الدقة؛ وللتعريف بهذه النظم وشروحها وضع العمري كتابه (التعريف بالمصطلح الشريف) وفيه يشرح رتب المكاتبات السلطانية وإجراءاتها، ويعرض نماذج من العهود والتقاليد والتفاويض والمراسيم والمناشير وكذلك نماذج عديدة من الوثائق والمكاتبات الدبلوماسية؛ ثم يتحدث عن أوضاع الممالك وتقاسيمها الإدارية، وعن مراكز البريد ووسائل المواصلة البحرية. ويعتبر كتاب العمري دستور المصطلح الشريف في مصر الإسلامية؛ ويعتبره القلقشندي صاحب صبح الأعشى أنفس الكتب المصنفة في هذا الباب. وقد انتفع به القلقشندي في موسوعته أعظم انتفاع، ونقل إلينا فوق ذلك طائفة كبيرة من الرسائل والمكاتبات السلطانية التي دبجت بقلم العمري في ظروف ومناسبات مختلفة، وكلها دليل على ما كان يتمتع به العمري من المواهب الإنشائية السامية.
وللعمري آثار ورسائل أخرى كما قدمنا، ولكن معظمها لم يصل إلينا، وما يزال بعضها بعيداً عن التداول في بعض المكاتب الأوربية. على أن (مسالك الأبصار) يبقى دائماً أعظم آثاره؛ ورجاؤنا أن تعمل دار الكتب لمصرية لإخراجه بهمة مضاعفة فلا تمضي أعوام قلائل حتى تضعه كاملاً بين أيدي الباحثين.
النقل ممنوع
محمد عبد الله عنان
خواطر وأفكار
للأستاذ أديب عباسي
يغلب أن يسيطر على الحياة في كلا عنصريها من السعادة والشقاء قانون المرجحات العام الذي يسيطر على جميع حوادث الطبيعة ويسير بها جميعاً، كلما امتد الزمن وتوالى الحدوث، إلى التعادل والاستواء، وما نرى من فروق شاسعة بين حظوظ الناس من السعادة والشقاء سببه - فيما نرى - قصر مدى التجربة والاختبار. واعتقد انه لو أتتيح للأحياء من الناس عمر أطول أو لو كانت أمواج السعادة والشقاء وأصداء اللذة والألم اقل لبثاً واقصر مكثاً، لتداني من التعادل نصيب كل امرئ من حظي السعادة والشقاء.
حياة كل امرئ (متوالية) من الآمال والآلام والأحلام والأعمال ولست بمستطيع أن تجرد الحياة حلقة واحدة من هذه الحلقات: الآمال تثير الآلام والأحلام، والأحلام لابد مفضية في نهاية الأمر إلى الأعمال، والأعمال بدورها تبتعث آمالاً جديدة، والأمل الجديد يثور آلاماً وأحلاماً جديدة، وهكذا تظل تدور بين حدين من الأمل والعمل يتوسطهما واسطان هما ما نألم وما نحلم إلى أن تتلمأ علينا القبور، وترص علينا الجنادل والصخور.
ليس مما يُنقص قيمة العمل الطيب أن يكون حاديه ورائده اللذة منشودةً أو حاصلةً، بل نحن نعتقد أن من مصلحة الأخلاق، ومن الخير العميم للناس أن يتعلم الناس كيف يستشعرون السعادة ويتذوقون الغبطة في العمل الطيب بدءاً وختاماً، حساً وخيالاً.
كذلك نعتقد أن من مصلحة الأخلاق ونشر الفضيلة وتعميم الصلاح أن يشعر المرء أن عمل الخير مجزي عليه في هذه الحياة الدنيا، وأن ليس على المرء يصنع الخير أن ينتظر إلى اليوم الأخير ليثاب على عمله الصالح وينال جزاء ما قدم من خير وأسلف من صلاح.
يكاد يكون الإحساس بالحق ونصرة العدل من فطرة البشر ومن هنا نرانا - في الأحوال العادية - نهلل للعدل ونمقت الجور، سواء أكنا نحن المعنيين بالجور أم كان المعنى غيرنا.
من غرائب الطباع أمرؤ يثني عليك بما أنت أهله أو بما لست أهلاً له، ثم تراه لغير سبب واضح أو علة مقبولة ينقلب عليك، ولا يتعفف أن يهجوك بعكس ما كان يمتدحه فيك! هذا الصنف من الناس هم، في إعتقادي، من المتسولة الجبناء الذين يستجدون امتداح الناس
بامتداحهم الناس؛ فإذا خاب ما يؤملون، ولم يبادلهم ممدوحهم مدحاً بمدح انقلبوا قادحين مشنعين.
ما أشبه بناء الأمة ببناء الهرم؛ ما يزال قائماً ثابت الإتزان، ما شغل الرأس منه مكان الرأس، والقاعدة مكان القاعدة؛ وما أسرع ما ينهار الهرم ويتفكك حينما تنقلب الأوضاع فتسمو القاعدة إلى مكان الرأس، ويهبط الرأس إلى مكان القاعدة؛ ومن هنا أضحى الهرم المقلوب مضرب المثل في سخافة البناء ووهن الثبوت. . .
لست أدري أي خير وأية سعادة كانا يصيبان البشر لو أقصى من مجال الدين جميع المتجرين به. فليتق الله المتاجرون وليجعلوا في غير مجال الدين تجارتهم.
تظل تجربة المرء ناقصة ما لم تتكرر. . . .
خصومتك الصغير تورثك المهانة، سواء أكنت المنتصر في هذه الخصومة أم كنت الخاسر.
الأغراب والتكلف في أساليب الحياة والأخلاق دليل على فساد الطبع والتواء التكوين.
قد تكون المحافظة على القديم ناجمة من خوف الحديث وحسب، لا من حب للقديم صحيح.
ثم صنف غريب من الكُتاب والمفكرين يعمدون إلى الرأي الواهن الواهي، أو الفكرة الميتة يثيرون حولها حرباً شعواء ويوسعونها طعناً وضرباً، ثم يلتفتون إلى الناس ولسان الغرور يقول: انظروا ماذا صنعنا وإلى أي المقاتل قد نفذ سلاحنا؟ وقد نسوا - حفظهم الله وكلأهم - أن سلاحهم يُجرد على موتى ويُشرع على أشلاء.
قد يعيش الكاتب بشهرته الأدبية أعواماً بعد أن يُصفى. وهذا سرُّ ما نراه من مدح يكال وتقدير يُسرف في توزيعه على أناس لا يستحقون بعض أبعاضه. والحقيقة أن من الكتاب اليوم من يعيشون بقوة الاستمرار وحسب، لا بقوة العمل وصدق الإنتاج.
ما أسرع ما يلتفُّ صغار النفوس حول صغير النفس، أما كبير النفس فلا يسمح لهم بالدنو منه لئلا تعلق به من نتنهم عالقة. الاتجار بالوطنية في الشرق علة مستحكمة لا يزيلها إلا صرامة النقد، وصراحة المقت، وقسوة التشهير.
يموت العظيم في الغرب، ولكن ما أسرع ما تُسدُّ الثغرة ويقوم الخلف. ويموت العظيم الشرقي فيظل محله خالياً جيلاً أو أجيالاً. وذلك أن تربيتنا الاجتماعية الناقصة لا ترفع إلى
مستوى الزعامة الصحيحة القوية في الجيل الواحد إلا نفراً قليلاً جداً، فإذا أودي هذا النفر ظل محلهم خالياً إلى أن تتمخض الأمة بعد حمل طويل وآلام مبرحة وتجارب شاقة فتلد المولود الجديد الذي يُقدَّر له أن يستأنف السير ويتولى القيادة.
قد يعمل الرجل الشرير إلى بعض الخير يصنعه ليتبين كيف يكون أثر ذلك، كما قد يسعى الرجل الطيب إلى بعض الشر يصنعه لمثل غرض الشرير في صنعه الخير. وإلى هذا قد يُردُّ بعض ما نراه من شذوذ في الخلق السوي.
قد يبدو الفكر العميق للقارئ السطحي الضحل متناقضاً، وذلك إن ذا الفكر العميق قد ينتهي إلى أغوار لا يستطيع أن ينفذ إليها ضحل التفكير، ويدرك من العلائق والوشائج الخفية بين الأشياء مالاً يدركه ذو الفكر الرقراق الذي لا غور له.
المصادفة بليغة الأثر في حياة الفرد، أما في حياة الأمة فهي ضئيلة الأثر أو لا أثر لها البتة.
ما من رأى إلا ودار في أكثر من ذهنٍ واحد، ولكن شخصاً واحداً يكتب له أن يخلِّد هذا الرأي.
الرأي يرتأي كالصدى بكثر تجاوبه كلما أستوعر طريقه.
الألم كالنار يصهر القوي ولكن لا بلاشيه، كما لا تلاشي النار الحديد، أما الضعيف فيحيله الألم دخاناً يصَّاعد.
قد يتصدى المرء أحياناً للرأي العام لا ليتحداه، إنما هو يتصدى له ليدرك مبلغ قوته ثم ليدرك مدى الرأي العام ومجراه، فيحول شراع العمل على هواه.
الرجل القوي حق القوة لا يخلق بهذه القوة عبيداً وآلات ناطقة، إنما يخلق بها رجالاً أقوياء. وكل مظهر من مظاهر القوة لا يفضي إلى هذه النتيجة يجب أن يشككنا في هذه القوة.
يجب أن ندخر خصومة الصراحة وجهد المقاومة للأمور الجسام والمسائل العظام. أما الصراحة العادية في كل ما يعرض للمرء من شؤون الحياة اليومية تافهها وجليلها على السواء فجهد غير مبرور وعمل غير مشكور، ولا يعود على المصارح منه إلا خصومات لا تنتهي وعدوات لا تنقضي.
ما تزال المرأة طفلة حتى تحب، وما يزال الرجل رجلاً حتى يحب. ومتى أحبت المرأة
بلغت أوج الأنوثة؛ أما الرجل السليم القوي فيندر أن يجعل الحب آخر مرحلة من مراحل الحياة، وهو - أي الحب - عند الرجل مرحلة إلى رجولة أسمى. فالمرأة تتجه إلى الحب لا لتتعداه، أما الرجل فيحب ليكون الحب مرحلة من مراحل حياته. وهذا يشير إلى إن الحياة تريد من المرأة الحب فقط، وتريد من الرجل فضلاً عن الحب الجهاد والمغامرة.
يجب إلا يغر الشبان بيت شوقي (نظر فابتسامة. . .) ثم ما بعد ذلك. فبين النظرة والابتسامة - في كثير من الأحيان - وبين قلب الفتاة سبعُ قلاع بسبعة أسوار.
رُكِّب في طبيعة المرأة التلويح من بعيد والإغراء. فهي قد تتبذل أحياناً ولو لم تنو السقوط، وتدنو ولكن لا لتصل، وتقترب ولكن لا لتُنيل. فكأنها تعمد إلى ذلك لتقيس مقدار فتنها وتختبر قوة أنوثتها.
الرجولة لا تكون كاملة إلا إذا خالطها بعض طبائع الأنوثة. فكأن الطبيعة في ذلك لا تريد للرجل أن يتخلص من إرث الأنوثة الأقدم، حينما كانت الذكورة لا تزال في ضمير الغيب، وكانت الأنوثة كل ما في يد الطبيعة من مواد التجريب والاختبار.
ثورة الحب تفضي إلى أسر الزواج، وثورة الحقد والطمع تفضي إلى أسر السجن.
نداء الأمومة عند المرأة أقوى من نداء الحب. وكثيراً ما تضحي المرأة بحبها في سبيل الأمومة السالمة والنسل القوي القويم.
لا يستطيع إبليس - في كثير الأحيان - أن يتراءى للرجل إلا عن طريق المرأة. فهي - في أغلب الأحيان - سفيره إليه. وكثيراً ما تنجح هذه السفارة كما نجحت من قديم في جنات عدن.
حياة المرأة أنشودة يتناوب إنشادها الملائكة وإبليس.
حب الأم أشرف أنواع الحب وأعمقه وأدومه. وذلك أن فيه من حب الابنة وحب الأخت وحب العاشقة وحب العابدة. فالأم إذ تحب وليدها وترأمه كوليد فقط، إنما هي ترأمه وتحبه، ولو في غير شعور، حب الابنة أبويها، والأخت اخاها، والعاشقة عاشقها، والعابدة معبودها.
من مظاهر الفسولة وصغار الرجولة أن يتعشق الفتى فتاته، ثم لا يفتأ يعلن عن هذا العشق وينبه إليه في كل مناسبة وعند كل حديث؛ فكأنه الكلب يلغ في الإناء أو يبول فيه لينفر منه بقية السباع!
في الزمان غير المحدود والمكان غير المحدود يكون احتمال الحدوث غير محدود أيضاً. ولا ادري لم يستبعد أو ينفى حدوث حادث يقدر أو يفترض بحجة بعد الاحتمال
أديب عباسي
النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
الحروف اللاتينية والألفاظ العربية
وقد عجل القانون في إنفاذ قانون الحروب اللاتينية، واشتدوا في ذلك لا يستثنون الكتب التي في المطابع، قد طبع بعضها بالحروف العربية ولما يتم طبعها، فسارع بعض المؤلفين إلى إكمال كتبهم قبل الموعد المحدود، ودون الكمال المنشود، ويئس آخرون أن يتموا كتبهم قبل الأجل المضروب وعجزوا بل كرهوا أن يكملوها بالحروف الجديدة فيجعلوها ذات خطين أعجمي وعربي، فوقفوا بها حيث وقف بهم القانون الجديد. واعجب ما في هذا أن أحد الأدباء الكبار كان يطبع معجماً كبيراً واخرج منه مجلدين، ولم يسوغ له القانون أن يكمله بالحروف العربية فيما يحتاج إليه من وقت، وعجز هو وعجز الفكر الإنساني أن يكمل هذا المعجم بالحروف اللاتينية على ترتيبها بعد أن طبع معظمه بالحروف العربية على ترتيبها فبقى ناقصاً حائراً بين القديم والجديد.
كأنما محا الترك العثمانيون من تاريخهم ستة قرون حين اختاروا للغتهم الحروف اللاتينية. فهل هم يعترفون، كما قال ذلك الأديب الفارسي، إن لهم تاريخاً لا يضيرهم أن يمحي منه ستة قرون؟ وليت شعري هل لهم في التاريخ غير هذه القرون الستة؟ مثل لنفسك صبياً تركياً ممن تعلموا القراءة بالحروف الجديدة يدخل اليوم جامع الفاتح أو سليمان فينظر إلى أسماء الصحابة فلا يدري ما هي وينظر إلى اسم الفاتح واسم سليمان القانوني فلا يدرك منهما حرفاً وتصوره في بروسه في اولو جامع (الجامع الكبير) الذي جعل الخطاطون الترك على مر العصور جدره معرضاً لبدائع الخط وفنونه، تصوره ينظر إلى آثار أسلافه فلا يتبين منها شيئاً ويودلو كتبت بالحروف اللاتينية. وتصوره كذلك أمام كل اثر عظيم من آثار المسلمين. وتصوره وقد شب وقوى على الدرس والبحث يذهب إلى مكتبات استانبول فيرى من آثار أسلافه، وكل المسلمين أسلافه أكداساً لا يفقه منها حرفاً إلا بدرس خاص. الست ترى هذا الناشئ مقطوعاً من تاريخه، غريباً عن قومه، الست تراه يتيماً حرم ميراث آبائه وجنى عليه سفه أوصيائه؟
وقد ذهب مع الحروف العربية فن جميل بلغ فيه الترك الغاية وتنافس في تجويده سلاطينهم
وأمراؤهم وكبراؤهم فأتوا فيه بآيات الجمال وحلى التاريخ؛ وشد ما يهيج الحسرة أن تسير في شوارع استانبول عند الباب العالي فترى الخطاط التركي الماهر وقد كدست بضاعته، وحاولت أن تجاري الزمان صناعته، فكتب على مكتبه بالحروف اللاتينية أي خطاط.
سيقول بعض الناس أن هذه العواطف لا ينبغي أن تعوق سير الامم، وانا أقول لو كان هذا سيراً ما اعترضناه، ولو كان إصلاحا ما عارضناه، ولكنه تقليد يعصف بتاريخ الآباء ويزلزل أقدام الأبناء، ويقطع سنن الأمة كما تقطع جذور الشجرة.
وقد وصل الكماليون عملهم في الحروف العربية باجتهادهم في نبذ الكلمات العربية والفارسية. زعموا أنهم يريدون إنقاء اللغة التركية من الكلمات الدخيلة، فما بالهم يخرجون كلمة عربية ليضعوا مكانها كلمة أوربية؟ كانوا يسمون معهد الأبحاث التركية (تركيات مؤسسه سنى) فمحوها وكتبوا (تركيات أنستيتوسي) فلماذا آثروا كلمة على مؤسسة، وهي كلمة هم واضعوها في العربية وعنهم أخذها العرب؛ وكم كان لهم من حذق وذوق سليم في وضع مصطلحات علمية باللغة العربية التي اتخذوها هم وسائر المسلمين كاللاتينية عند الأوربيين. وكانوا يسمون الجامعة (دار الفنون) فسموها وكذلك وضعوا مكان معلم ومدرس وغيرهما من ألقاب الجامعة ألقاباً أخرى أخذوها من الألمانية، ومثل هذا كثير. فليس بالقوم الإصلاح أو العصبية التركية، ولكنه بغض العربية. وإذا تحكم البغض والحب في تصريف الأمور لم يبق للحق والهدى مكان.
وكان لهم في العام الماضي مؤتمر لغوي تكلم فيه أستاذ في الجامعة فقال: إن بين العربية والفارسية والتركية علائق يجب الإبقاء عليها، فطرد من المؤتمر ومن الجامعة، تقديساً للحرية التي يتغنى بها الكماليون! وسمعت أن حسين جاهد، وهو من الدعاة الأولين إلى العصبية التركية في اللغة قال في المؤتمر إن إنقاء اللغة يتم على مر الزمان، ولا تصلح فيه الطفرة. فشتم وأُسكت وأوذى، ولو كان الأمر بحثاً وإصلاحاً لا تسع للآراء المختلفة، وأخذ فيه بالنظر والرؤية. وقد سمعنا أن الفرس يريدون أن يحذوا حذو الترك في هذا. ونحن لا نكره أن يأخذ الشرقيون بعضهم عن بعض، وأن يزول العداء القديم بين الفرس والترك، وينسوا ما تصفه الشاهنامه من حروب إيران وتوران، وما يحدث به التاريخ من جلاد الصفويين والعثمانيين. أجل، أدعو الله أن يؤلف بين الأمتين، ولكن لا أحب أن يقلد
بعضهم بعضاً في هذه الترهات، وتتقيل إحداهما الأخرى في هذه الضلالات.
نحن لا ننكر على الترك والفرس أو يؤثروا الكلمات التركية والفارسية على الكلمات العربية حين يحسون الحاجة إلى ذلك، ويدعوهم إليه إصلاح اللغة وتجميلها، وإنما ننكر عليهم أن يفعلوا ذلك بغضاً للغة العربية، وإيثاراً لتقطيع الأوصال بين الأمم الإسلامية. إن في الفارسية والتركية اصطلاحات علمية وأدبية كثيرة، بل تكاد تكون اصطلاحات الآداب والعلوم كلها عربية، وهذه الاصطلاحات هي من أعظم الروابط بين الأمم الإسلامية. وفي حذفها مفاسد كثيرة، منها إنهم يحرمون أنفسهم اصطلاحات وضعت واستقرت، وتحددت، وأحكمها الاستعمال في عصور متطاولة. وليس الاصطلاح على الكلمات، وخلق اللغة العلمية بالأمر اليسير، والثاني أنهم يباعدون بين اللغة العلمية القديمة واللغة العلمية الحديثة، وفي ذلك ما فيه من الفصل بين قديم الأمة وحديثها، والحيال بين المحدثين وما كتب أسلافهم، وبين مؤرخي الآداب وفقه أطوار الأدب الأولى.
والثالث أنهم يقطعون الوشائج بين آدابهم والآداب الإسلامية الأخرى التي شاركهم أهلها في تأليف حضارة واحدة، على حين يسعى الناس للتقريب بين الآداب واللغات ولا سيما اللغات العلمية، وهم أنفسهم من الساعين للتقرب إلى أهل أوربا أو الفناء فيهم. فلماذا الوصل من ناحية والقطع من ناحية أخرى، والتقرب إلى قوم والتباعد من آخرين؟ بل لماذا التقرب من الأعداء، والتباعد عن الأصدقاء، وحب الأمم الأوربية وبغض الشعوب الإسلامية؟ هل لذلك من تأويل؟
والرابع أنهم يعسرون لغتهم على طلابها من الأمم العربية خاصة والأمم الإسلامية عامة، والأمم تسعى اليوم لتيسير لغاتها وتسهيلها على طلابها.
لست أقول هذا إشفاقاً على اللغة العربية، أو عصبية لها، فليس يحس المتكلم بالعربية والقارئ فيها أن ألفاظاً منها مستعملة في الفارسية والتركية أو غير مستعملة، ولا يهتم بهذا إلا حين يدرس الفارسية والتركية، ودراسة هاتين اللغتين من شؤونهما لا من شؤون العربية، وإنما يعني إلا تقطع الصلات بين أمم عاشت دهوراً متآخية متعاونة كأنها أمة واحدة. وإنما يدعوني إلى الجدال أن الأخوة الإسلامية، والجامعة الإنسانية، تنفر من هذه العصبيات القاطعة، والنعرات المفرقة.
وفي اللغة العربية كثير من الكلمات الفارسية عُربت وأدمجت فيها، وصيغت على أوزانها، وما يفكر العرب في إخراجها من لغتهم؛ ثم إلا يرى الفرس أنهم إن ذهبوا مذهب الترك في أمر اللغة ثار عليهم الأفغان والهند المسلمون وأهل كثغر وما وراء النهر ثورة أدبية فنبذوا إليهم لغتهم التي اتخذوها لساناً أدبياً، ثم اجتهدوا في إخراج الكلمات الفارسية من لغاتهم؟
أضرب لإخواننا مثلا أوربياً، فأن الشرقيين لا يعرفون الحق إلا إذا شهدت به (ماركات) من أوربا:
هذه اللغة الإنكليزية، وهي ما هي انتشاراً بين الأمم، وذيوعاً في الشرق والغرب، فيها كثير من الألفاظ اللاتينية والجرمانية، ومعظم اصطلاحاتها في الآداب والعلوم لاتينية. وقد وقع ما وقع بين الأمم اللاتينية والإنكليز من حروب متمادية، وما فكر الإنكليز في أن يجمعوا الكلمات اللاتينية وينبذوها إلى اللاتين كراهة لهم، أو عصبية للغتهم، ما فعل القوم هذا، لأن لهم من جلائل الأعمال ما يشغلهم عن هذه السفاسف.
القوم يذهبون مع الحياة مذاهبها، ويتوسلون لها بخير وسائلها، فلا تتسع أوقاتهم للمناقشات في الحروف والألفاظ، ونحن نغمض أعيننا عن أواصر تجمعنا، وآلام وآمال تقرب بيننا، وتقلب تاريخنا لنعثر على عداوة قديمة، أو حرب ذهب الزمان بذكراها وآثارها، لنخلق منها قطيعة جديدة، ونثير بها خصومة جديدة. كاد الإنكليز والألمان يتفانون ويفنوا الأمم معهم منذ خمسة عشر عاماً؛ وهم الآن يمدون أيديهم للتعاون والتعاهد! فأين يذهب بكم أيها الشرقيون وإلى أين تساقون أيها المسلمون؟ ذلك كلام واسع الجوانب، بعيد الأغوار، لا يتسع له هذا المجال. ولعل لي إليه عودة إن شاء الله.
(له بقية)
عبد الوهاب عزام
من مشاهير الشرق
طائفة البهرا في الهند
في الطريق إلى داعي الرعاة
بقلم محمد نزيه
وأذن الله أن أبرح عدن إلى الهند، فلم تبرح النفس تواقة إلى رؤية الشيخ الأكبر لطائفة البهرا، ولم تزل تستنفر عزيمتي حتى عاهدت كل منهما صاحبتها على أن تكون زيارة الشيخ أول ما أتكاف له بعد مطالعة (بمبى)، فلم أكد أنيخ الراحلة في هذه المدينة، حتى طالعني أبناء هذه الطائفة زرافات ووحداناً! تموج بهم المدينة؛ فهم في شوارعها ودروبها وحوانيتها يعرفون بطول اللحى، وبالعمائم البيضاء، و (البنطلونات) تحت المعاطف القصيرة، وبالنشاط الذي لا يفتر، وبالوقار الذي لا يُذهل عنه؛ فأنهم قوم جبلوا على النشاط حتى لتحسبهم في سرعتهم إذا ساروا وفي دأبهم إذا عملوا، أضعاف أضعافهم، هم لا يتجاوزون العشرين ألفاٍ في مدينة تزخر بمليون وثلثمائة ألف نسمة؛ ولكن دأبهم جعل الواحد منهم عشرة أشخاص! لا تكاد تراه هنا حتى تشهده هناك، كأنه من عالم الأرواح. . هم كالموج المتلاطم على سطح المحيط، يضيق به الخضم وهو منه كالحصاة من الجبل، بل وتمضي السفن في طريقها تشق العباب ولا تحفل به، حتى إذا دوى الموج ارتعدت فرقاً، واهتزت رعباً، وكانت تهتز عجباً.
ليس من جماعة البهرا من لا يجمع إلى فصاحة الأردية طلاقة الكجراتية، ورطانة الإنجليزية؛ وليس فيهم من يعرب لباسه عن حاجة؛ أو ينم ضعفه على هوان، فكلهم عند نفسه كريم، وفي قومه عزيز.
كنت راغباً في زيارة الشيخ الأكبر، فلم يزدني ما تحققته من طوابع طائفته إلا رغبة أمست رؤى، وأصبحت هواجس - والشيخ لا يحظى بالاستئذان عليه إلا كل عظيم بارز في قومه، ولا مناص - لمن شاء - من رجاء يتقدم به إلى رئيس الوزارة البهرية، فإذا انتهى هذا به إلى الشيخ فأذن، حدد الموعد بحساب الدقائق فيما لا يستنفد من الساعة إلا أقلها، وعلى أن يذكر الزائر أن الدقيقة ستون ثانية، والثانية ستون ثالثة، فكأن دقات القلب لا تسعف في هذه الحساب.
وكان أن تفضل الشيخ الأكبر، فأذن لرئيس وزرائه أن يستقدمني، ضارباً للقاء موعداً من مساء يوم قريب. . . فلما أن أقترب الموعد، ركبت إلى قصر الشيخ، وكعبة الحجيج من أبناء الطائفة، في (وال كيشر).
ووال كيشر، هو من ثغر بمبى حي الطبقة الرفيعة من سراة الإقليم، أقيم على ربوة عالية تطل على المحيط وتشرف على المدينة كلها - لكأنه نجم سها عن ذكره الفلكي - ليس بين قصوره وعمائره إلا متاحف تنطق بغنى الهند وتفصح عن جاهها وترفع النقاب عن فنونها - من شاء أن يعلم أين تنصب كنوزها ففي هذا الحي السعيد مصبها، وفيه يستحيل الذهب فنوناً، وتقوم الرياض على قنة الجبل كأنها البنود المرفوعة. أليس زرعها يتماوج من مداعبة النسيم كما تتماوج البنود، أليست مطرزة بألوان من الزهر مختلفات بين أحمر القرنفل وأبيض النرجس وأصفر الورد وأزرق البنفسج، على صفحة من خضرة مذهبة؛ ثم لعل ما ينفح الناس من طيبها فينبههم إلى تحيها إذا أغفلوا، إنما يقوم في موضع تلك القداسة المعنوية التي تنبه الناس إلى تحية العلم.
بلغت السيارة بنا حي وال كيشر، فتباطأت عند أقدامه وتهيأت للتصعيد في مراقيه، وأخذت تطوي مسالكه ونحن في داخلها كأننا تحت أجنحة طائرة وقد مهد الطريق على شدة صعوده وكثرة متعرجاته، وامتد الزرع على جانبيه، وقد امتزج سكون الليل إذ ذاك وسكون العظمة يزدهي بها هذا الجبل الذي لا يحمل على أكتافه ولا يضم إلى صدره إلا العظماء وفنونهم؛ فإذا رهبة زاد بلوغها في النفس هذه الأضواء الخافقة التي تشع من مصابيح الطريق، ولا راجل في مراقي هذا الجبل بل سيارات تصعد بأهلها أو تهوي بهم فينة بعد فينة وفيم يقدم الراجل على ركوب هذا الجبل؟ وهو لا ناقة له فيه ولا جمل؟ أما خفوت الأضواء، فلعل له غاية لا تمت بسبب إلى مبادئ الاقتصاد، هذه المبادئ التي يلفظها هذا الجبل، بل لعله يرتفع بساكنيه معتصماً بالعلو من سيلها، وعاصما لهم منه إنما هي دعوة الجمال ومن آياتها إلا يطغي النور الصناعي على النور الطبيعي، على نور القمر وما أحاط به من كواكب.
كنا نجتلي مفاتن هذا المنظر السحري، والسيارة توغل فيه كأنما نسيت أنها تقصد بيتاً، فاندفعت على غير هدى تريد أن تصل إلى أعماق هذا الإبداع؛ أما أنا فقد مرت بي برهة ما شككت أثناءها في أنني اترك العالم، وفي أنني لن البث طويلاً حتى ابلغ ما وراء
الكون، واهتدي إلى أسرار الخلق وغوامض الحياة والموت. . ثم ليكن ما يكون، وما زالت أرواحنا تسمو ويخلص جوهرها من شوائب الدنيا وأعراضها وشهواتها حتى صارت كأنما فرغ الله من صنعها منذ طرفة عين، ذلك كله والسيارة تهتز في منعطفات الجبل كأنها سكرى. . . بل هي سكرى! ولم لا؟ وهي تسبح في خمر الطبيعة ثم لم لا؟ ومن شان هذا الجمال ان يشيع الحياة في الجماد.
انتهينا إلى بوابة رحيبة الجانبين مفتوحة المصراعين، وكلت حمايتها إلى حارسين عليهما أزياء الجند، ما إن نفذت سيارتنا منها ثم هوت خطوات في جادة القصر، حتى كنا في قلعة ذات أبراج تكاد تقطع بيننا وبين معالم الدنيا، وكأنما أعدت لتقارع الفناء وليمتنع بها الأبد.
ثم استقرت السيارة بنا في منتصف هذه الجادة عند ردهة على يمينها ذات ثلاثة أبواب وهنالك ابتذرنا خادمان ملتحيان هما من أبناء الطائفة بالسؤال، فاجبنا، وان هي إلا برهة حتى استقبلتنا غرفة الانتظار عن يمين الردهة فلما شرعت إليها ساقي، همس سائق السيارة في أذني بإنجليزيته المفهومة على أي حال، أن اخلع نعليك فذلك عند القوم سنة مؤكدة، وقد فعلت، ودخلت فإذا غرفة تتسع لنحو سبعة أمتار في نصفها، صفت إلى جدرانها كراسي نظيفة ليست بالوثيرة ولا بالخشنة، وكل أبهتها في سجادتها البيضاء المتسمة بأبهى الألوان في أبدع الشكول، وفي تلك الصور القليلة تحف بها إطاراتها الثمينة وقد ثبتت إلى الجدران وبينها صورة الحرم القدسي رصعت بالأصداف وقد علمت أنها كانت فيما حمله وفد المؤتمر الإسلامي إلى الهند من هدايا؛ فكانت نصيب هذه الغرفة
ظللت أتأمل محتويات الغرفة دقائق لعلها بلغت عشراً، حتى اقبل علي رجل معتدل القامة كريم الوجه، هو في ضحى العقد السادس من العمر، ينبئ الجد في ملامحه والنفوذ في عينيه خلف منظاره الأبيض، والانتصاب في قامته، والهدوء في نبرات صوته عن ان له في هذه الدنيا شأناً؛ طويل اللحية أسودها، يرتدي معطفاً قصيراً من أقمشة الصيف خفيف الاسمرار مشدوداً إلى عنقه، تحته بنطلون من القماش نفسه، وقد تعمم على طربوش، فحيا، ثم استوثق من أنني صاحب الموعد المضروب، فاقتداني إلى مجلس داعي الدعاة.
ذاك رئيس الوزارة البهرية، وكاتم سر إمامها، واقرب القوم إلى نفسه، وهو من وجوه المدينة واعلام رجال المال فيها، وهو ممن يلقي الحاكم إليهم سمعه، ولا يضن بالطاعة له
المحكوم. . . ثم هو قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك، خادم للشيخ لا يعدل بمرتبته تلك مرتبة إلا أن تكون في السماء.
القاهرة
محمد نزيه
حافظ بك إبراهيم
اثر حياته في أخلاقه وشعره
بمناسبة ذكراه
بقلم السيد احمد العجان
تمهيد
لست أحاول التحدث عن نواحي الدراسات المختلفة في أدب حافظ، فان مباحث شعره المتعددة لا تأتى عليها لمحة سريعة ووقت قصير؛ ذلك لان العاطفة في رثائه موضوع دراسة، وتداعي المعاني في خمرياته موضوع دراسة، وظرفه وفكاهته ومدحه ووصفه كلها محل بحث وتناول وتحليل. ولقد تكلمنا عن حافظ (الشاعر الوفي لمصر) في ذكراه الثانية، وسنتكلم اليوم عن ناحية جديدة لها متين الصلة بالمجتمع، وكبير الأثر في حياتنا العامة، وهي اثر حياته في أخلاقه وشعره.
- 1 -
نشأ حافظ إبراهيم رحمه الله نشأة شعبية قد زخرت بألوان العيش تقلبت بين متع دنيا لم تشبعه، وبؤس زمان غلب عليه، وعاش مسكيناً وبائساً في مجموع حياته، لا نستطيع أن نحدد صفوه ونعيمه بشهر معلوم، ولا بسنة، ولا بفترة من الزمان طويلة؛ فانه قد يكون في اليوم الواحد شقياً وسعيداً، بائساً وغياً، إلا انه في المجموع متغلب البؤس، متداني الرزء، غير مجدود
وما النعيم لديه إلا فترات يخلقها ما فيه من ظرف ومرح، وتبعثها مداعباته وفكاهته، ويولدها تفاؤله بالمستقبل، ويقينه في الظفر، ثم ما يراه في العلم والفضيلة من تقريب للسعادة، وسمو بالروح.
وهذا القدر من الظرف والمرح هو الذي هيأ لحافظ عطفاً على فقره، وولد فيه حناناً من بؤسه، وحببه إلى الصحاب والعارفين، ودفعه إلى مواساة البائسين، ومشاركة المحزونين، فلئن صح ان في البؤس ذلة وانكساراً؛ فان في الحنان ميلاً إلى البر، واندفاعاً إلى الصدقة.
كان لهذه النشأة اكبر الأثر في صدق شعوره وإحساسه بالآلام، وتعبيره عنها أدق تعبير،
ورسمه صوراً شفافة واضحة لألوان البؤس التي يكتوي بنارها الشعب، ويقاسي بسببها العذاب وجدير بنا أن نتساءل: أكان مدفوعاً إليه بنفسه، مطبوعاً في حنانه؟ أم هو البيان يثيره والشعر يحفزه؟ أجاب حافظ رحمه الله بما يقطع كل شك ويقضي على كل تأويل:
ذقت طعم الأسى وكابدت عيشاً
…
دون شربي قذاه شرب الحمام
فتقلبت في الشقاء زماناً
…
وتنقلت في الخطوب الجسام
ومشى الهم ثاقباً في فؤادي
…
ومشى الحزن ناخراً في عظامي
فلهذا - وقفت استعطف النا
…
س على البائسين في كل عام
ولقد عرف إحساسه خلق كثير: عرفه صديقه الجليل الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري، فقال في المرآة،:(على انه ما فتئ طوال أيامه يشكو البؤس. . . ولعل هذا من انه نضجت شاعريته في باب (شكوى الزمان)، وقال فيه ما لم يتعلق بغباره شاعر، فهو ما يبرح يطلب البؤس طلباً، ويتفقده تفقداً) ولا ينبئك مثل صديق
وعرفه كل من خالطه وعاشره، بل عرفه كل من قرا شعره، وتصفح ديوانه الذي هو صورة من نفسه
(قد دروا أن الشعر في كل ارض
…
هو من نفس أهلها منزوع)
- 3 -
إذن كان حافظ يتطلب البؤس والبائسين تطلباً، ويتفقدهم تفقداً، وكانت لديه رغبة قوية صادقة في مشاركة البائسين آلامهم، ومشاطرته احزانهم، (والرغبة الحق هي تلك القوة الروحية التي توحي إلى الشخص القيام بالشيء بهمة لا تعرف الكلل، ولا تقف دونها عقبة: رغب (ابراهام لنكولن) في تحرير العبيد يوم ذهب مع بعض العمال إلى السوق، فوجد جارية تباع وتشترى، فتألم لبيع الإنسانية وشرائها الألم كله، وتمنى أن لو أعطى سلطة حتى يضرب على الاسترقاق بيد من حديد، فأعطى الفرصة بعد زهاء ثلاثين عاماً، بانتخابه رئيساً للجمهورية في ولايات أمريكا المتحدة، فكان من أوائل اعماله، العمل على تحرير العبيد وان شدة الرغبة في الإصلاح الاجتماعي هي التي جعلت (شارلز ديكنز) اكبر كاتب ومصلح اجتماعي بانجلترة في القرن التاسع عشر.
وان الرغبة في أعمال الآلات هي التي جعلت (اديسون) اكبر مخترع في القرن العشرين. والأمثلة كثيرة لا حصر لها) وهذه الرغبة كانت قوية لدى الحافظ، تهزه ويجيش بها صدره، صادقة غاية الصدق، أراد بها إنقاذ الشعب من ذله، وتحريره من إساره وعبوديته؛ فلست احسب رجلاً وهبه الله إشفاقاً على البائسين، وحناناً على صرعى الفقر، وضحايا الإملاق، ومنكوبي الزلازل والغرق والحريق كشاعرنا العظيم؛ فهو يرسم ببيانه الذي يطاوعه صوراً ناطقة تكاد تتجسم أمامك، وتمثل بين يديك، تسمعك أنينها وتوجعها، وتبثك آلامها وتفجعها، وتحرك فيك ما كمن من عطف واستتر من حنان. فما سنحت فرصة إلا غرد بالألم، ولا حانت مناسبة إلا دعا إلى الرحمة.
- 4 -
ولهذا نراه شديد الولوع بقصص المرزوئين وروايات المعدمين. شغف (بالبؤساء) فترجمها، وهام بها فنقلها إلى لغة قومه، لان فيها إرواء لعاطفته، وغذاء لنزعته، وتعبيراً صادقاً عن خلجات فؤاده، ولأنها منتجع خاطره، ومهوى قلبه. واختار لها من الألفاظ والأساليب ما يذيب قسوة الصلد رقة وليناً، ويخترق إذن الأصم فيضحى سميعاً. ولأنها تمثل لوناً من الإنسانية المعذبة، وطائفة من أسرى العوز، وضحية من ضحايا تتكرر على الدوام ولا تنقطع، تتكاءدها الهموم، وتمثل بها خطوب الزمن، وتنهشها أفاعي الضنك على مرأى من السراة وأولي الأمر؛ فلا يخلصها منقذ، ولا يدافع عنها نصير.
- 5 -
ثم لهذا نرى الغزل في شعره قد توارى واختبأ، ولا نستطيع أن ننسب حافظاً إليه، لأنه أحس بما يشغله عن تتبع المرأة، ويصرفه عن طلابها
وقد يكون ذلك لضيق اليد، وخلو الجيب، إذ من شان الاتصال أن يتطلب المال، والوقت، والثراء. ولكني ارجح الأول؛ لسمو غايته، ونبل مقصده، وموافقته لحياة شاعرنا ثم لهذا أيضاً بكى كل مصاب ومفجوع، وناح على كل ضائع وشريد، واستبكى المحسنين معه ليستدر عطفهم ويستميل قلوبهم
- 6 -
وإذ أحس أن كثيراً من أهل العسرة وضيق اليد يرمقون المال ويتشهونه، حتى إذا لم ينالوه
يئسوا من الدنيا، وسخطوا على الحياة، اخذ رحمه الله يعالج أدواءهم، ويهدم مذهبهم فهو مع فقره لم يتبرم بالحياة إلى حد القنوط، ولم يسخط عليها حتى اليأس. فليس التجرد من المال فقراً، وتكدس الخزائن به غنى، ولكنه وسيلة ترفيه وأداة رغد، فان لم يفد متاعاً ولم يكسب مغنماً، فلا خير فيه ولا منفعة منه. وانه كثيراً ما اجتمع له المال الوفر من كتب ألفها وترجمها ومقالات كتبها وسطرها، ووظيفة قبضها، فما استقر عنده، ولا عمل على إبقائه. قال الأستاذ البشري في المرأة:(وهو أجود من الريح المرسلة، ولو انه ادخر قسطاً من الأموال، لكان اليوم من أهل الثراء، على انه ما فتئ طوال أيامه يشكو البؤس، حتى إذا طالت يده الألف جن جنونه، أو ينفقها في يوم أن استطاع)
- 7 -
ثم امسك بأيديهم، ونهض بهم إلى حيث المجد يبتغي، والشرف ينال، وعزة النفس تكتسب: بالعلم، بالآباء، بالكرامة والرزق ووفرة المال، بالسعى، بالهجرة، فارض الله رحبة واسعة:
وفيها لمن رام الحياة سعادة
…
وفيها لمن رام النعيم مقام
والتفت إلى الحاكمين والسراة يستثير عطفهم، ويحرك الشفقة والحنان نحو مساكين تنتابهم غير الدهر، وتتوالى عليهم أحداث الزمان، وبائسين يؤلمهم الفقر، ويؤذيهم العرى
- 8 -
وعاطفة المواساة ترتقي بحافظ: فلا تقتصر على مواساة الفقراء والمنكوبين، وأسرى الحروب والمملقين، ولكنها تنوح بالألم، على كل حالة يعتبرها صاحبها شقاء ويظنها تعساً. على كل حالة تصرع الرجل فيه الشدائد، وتضعضعه النوائب، وتهده العظائم والشوائب. على كل حالة يتبدل فيها شان الإنسان من رضى وسكون ودعة، إلى تبرم وسخط وكراهة، من شعور بالراحة والسعادة والهناء، إلى تذمر وامتعاض وموجدة، فنراه يواسي ملوكا غاب عن جبينهم التاج، وسلاطين خلت أيديهم من الملك، تواسى ملوكاً غاب عن جبينهم التاج، وسلاطين خلت أيديهم من الملك، وأصبحوا يحتمون بالقانون بعد أن كانوا مصدر القانون! ويخضعون للنظام وقد كانوا يصدرون النظام! ويبتدئون بالتحايا العارفين وقد كانوا بها يبتدأون، ولهم مراسيم تقضى وواجبات تؤدى. . .!!
هذه الإمبراطورة (أوجيني) زوجة نابليون الثالث تقدم مصر بعد زوال ملكها، فيرفع لها
حافظ تحيته، بل مشاطرته ومواساته:
إن يكن غاب عن جبينك تاج=كان بالغرب أشرف التيجان
فلقد زانك المشيب بتاج
…
لإيدانيه في الجلال مداني
ذاك من صنعة الأنام وهذا
…
من صنيع المهيمن الديان
فأعذرينا على القصور كلانا
…
غيرته طوارئ الحدثان
وقال في فتنة الآستانة موجهاً إلى السلطان عبد الحميد صورة من التأسي والتصبر، مشفقاً عليه باكياً، بعد أن كان مغيظاً خانقاً، يعيب على الشامتين شماتهم، وينتقص رجولتهم، ويبين أنه لا زال خارج الحكم عبد الحميد كما كان مملكاً حاكماً:
كنت أبكي بالأمس منك فمالي
…
بت أبكي عليك عبد الحميد
فرح المسلمون قبل النصارى في
…
ك قبل الدروز قبل اليهود
شمتوا كلهم وليس من الهم
…
ة أن يشمت الورى في طريد
ما عهدنا الملوك تبكي ولكن
…
علها نزوة الفؤاد الجليد
شفح الدمع فيك عند البرايا
…
ليس ذاك الشفيع بالمردود
دمعك اليوم مثل أمرك بالأم
…
س مطاع في سيد ومسود
ولعل هذه الفواجع المتكررة، والأرزاء المتتابعة، التي يستوي فيها الفقير لا يجد قوتاً، والشريد لا يعثر على مأوى، والملك لا يأمن غدر الدهر وخيانة الزمن، والسلطان لا يستقر به الجاه، ولا تدوم له العزة - لعل هذه الفواجع - هي التي جعلت حافظاً ينحى باللائمة على حواء أمنا الأولى؛ لأنها ولدتنا ولم توص الزمان بنا خيراً، مع عرفانها بصروفه وأكدراه:
لم تلدنا حواء إلا لنشقى
…
ليتها عاطل من الأولاد
سلمتنا إلى صروف زمان
…
ثم لم توصها بحفظ وداد
ولكنه في غضبه هذا لم يذهب كما ذهب غيره: يدعو الموت ويتطلب مبارحة الحياة وفراق الدنيا، ولم يكن كمن قال:(فيا موت زر إن الحياة ذميمة)؛ ولا من قال: (ألا موت يباع فأشتريه)؛ بل فطن لما فرط منه، وأنتبه لما بدر، فنفض عن نفسه غبار الشجو، وكابوس الجزع، فهو يسوءه أن يضيق ذرعاً بدنياه، ويؤكد أن الاستسلام للألم مما يشينه، وقد يعوقه
عن تأدية رسالته. فالمواساة ليست بكاء فقط، أو ألماً فحسب، ولكنها: تسرية هموم وتخفيف مصاب، ثم هي فوق ذلك جلب منفعة، وإكساب غنيمة، وليس في مقدوره أن يخدم الفقراء والبائسين إذا ضاق بالحياة وسخط على الدنيا، وأتروى بعيداً، لا يتصل بالحاكمين، ولا يتعرف ما عند المحسنين.
- 9 -
ولقد عرف أن تخليد الذكر إنما يكون بالإحسان، فهو أبقى على الزمن، وأدوم في التاريخ؛ فأخذ يغري الحاكمين بالعطف على أبناء الشعب والعمل على إسعاده، ولا سيما إن منصب الوزارة ليس دائماً، ولكنها الصالحات والمؤسسات الخيرية أبقى وأكثر دواماً:
إن المناصب في عزل وتولية
…
غير المواهب في ذكر وتخليد
وأغرى السراة بالإنفاق على الفقراء، فلقد يكون منهم الزعيم السياسي يخلص الوطن وينقذ البلاد، أو الرئيس الديني يرعى الأخلاق ويحمي الشريعة، أو الشاعر النابغة يهز القلوب طرباً، ويثقف العقول بياناً وحكمة:
أيها المثرى إلا تكفل من
…
بات محروماً يتيماً معسراً
أنت من يدربك لو أنبته
…
ربما أطلعت بدراً نيراً
ربما أطلعت (سعداً) آخراً
…
يحكم القول ويرقى المنبرا
ربما أطلعت منه شاعراً
…
مثل (شوقي) نابها بين الورى
ربما أطلعت منه (عبده)
…
من حمى الدين وزان الأزهرا
كم قضى البؤس على موهبة
…
فتوارت تحت أطباق الثرى
كل من أحيا يتيما ضائعاً
…
حسبه من ربه أن يؤجرا
ثم نراه يبين لأولئكم السراة أن لا قيمة للمال إذا لم يعصمنا من الفقر، ولم نؤسس به الملاجئ، ودور العلم، وبيوت الشفاء؛ فإن الدينار نفرح به ما دام في أيدينا، حتى إذا ما دخلنا به السوق كان والدرهم سواء. والمال الكثير إذا حل الغلاء؛ يكون قليلاً يمضي سريعاً.
نهش إلى الدينار حتى إذا مشى
…
به ربه للسوق ألفاه درهما
فلا تحسبوا في وفرة العلم لم تفد
…
متاعاً ولم تعصم من الفقر مغنما
فإن كثير المال والخفض وارف
…
قليل إذا حل الغلاء وخيما
- 10 -
ولقد بصر بلذع السؤال ومرارته، وألم الاستجداء وحرقته فأهاب بالمحسنين أن يصدروا عن عاطفة، وألا يحرجوا المحروم؛ فأن خير الصنائع ما تنبو بحاملها عن الإهانة، وإن الذي يجود بعد إلحاح وطلب كثير؛ لهو المعدود من البخلاء:
خير الصنائع في الأنام صنيعة
…
تنبو بحاملها عن الإذلال
وإذا السؤال أتى ولم يهرق له
…
ماء الوجوه فذاك خير نوال
من جاد من بعد السؤال فإنه
…
وهو الجواد يعد في البخال
وهو لذلك يربأ بنفسه أن تمديده لذي منة، وأن تبسط لمن يستعذب سؤال المحتاج، أو من يعتز بغناه ليسخر من مسهب معوز؛ فيعف ويود لها البلى قبل سؤال الدنيء اللئيم.
أيا يد ما كلفتك البسط مرةً
…
لذى منه أولى الجميل وأنعما
فلله ما أحلاك في أنمل البلى
…
وأن كنت أحلى في الطروس وأكرما
- 11 -
لحافظ رحمه الله مذهب في الإحسان، فهو يرى أنه ليس منة وفضلاً يفخر به ذووه، وتعلو به رؤوسهم وتشرف أقدارهم، وإنما هو واجب على المثري أن يؤديه، وحق للفقير يجب أن يوفيه، ودين لا يفر من قضائه إلا مماطل، ولا يهرب منه إلا نذل دنيء. والإحسان في نظره يستطيع كل إنسان أن يؤديه:
بالقول!! يخفف به الألم عن الشاكي، ويثير به همم أولي العزم والمروءة والنجدة.
وبالدمع!! مشاركة للمحزون فيما أحزنه، وللمهموم فيما أفجعه وللمصاب فيما أصابه.
وبالمال!! الذي هو العون في قضاء الصوالح، والجالب للنفع، والدافع للضر، به نقضي الرغبات ويؤدي المطلوب قال في زلزال إيطاليا:
سلام على الأول أكل الذئ
…
ب وناشت جوارح العقبان
وسلام على امرئ جاد بالدم
…
ع، وثني بالأصفر الرنان
ذاك حق الإنسان عند بني الإن
…
سان. لم أدعكم إلى إحسان
(البقية في العدد القادم)
السيد محمد العجان
إلى الأستاذ أمين الخولي:
حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني
للأستاذ صالح بن علي الحامد العلوي
قرأت ما كتبتم رداً على مقالي عن الفقه الإسلامي والروماني وأشكركم على حسن ما ظننتم بي من الغيرة الدينية وجميل الأدب في النقاش. وبما أنك أيها الأستاذ قد تنكبت في ردك جوهر الموضوع في مقالي إلى ناحية أسلوب التفكير وصحة الانتقال والاستنتاج - كما عبرت - مكتفياً ببيان أنك قد أطلعت على الموضوع نفسه وأنه قد نشر في مصر - وربما بنصه - منذ ربع قرن مضى الخ، وقلت إنك قرأته ولا تزال تذكره جيداً ومع ذلك قلت فيما قلت عن تأثر الأوزاعي بالفقه الروماني الخ.
فإني أقول لك - على تسليم ما ذكرت -: إني لم أكتب ما كتبت متهماً لك في معارفك ومعلوماتك، ولا لأن أقنعك أنت وحدك فقط دون الجم الغفير من قراء (الرسالة) الغراء الذين قد قرأوا ولا شك رأيك ورأي غيرك في الموضوع إلا لما كان الأمر في حاجة إلى نشره في صحيفة سيارة كا (لرسالة)، فالأمر قد صار أعم من أن يختص بي أو بك. أفليس من اللازم أن تجيب - ولو بإيجاز عن كل ما كتبت ونبسط للقراء رأيك مدعماً ببراهين لا تنقص - على الأقل - عن براهين مناظرك، وبذلك تكون قد أنرت السبيل للقراء لأن يهتدوا برأيك ويتفقوا معك على تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني. وإلا فلا معنى لأن تفتح باب البحث مختاراً، ثم إذا دعيت إلى بسطه عمدت إلى سده متعللاً بضيق الوقت.
لا يا أستاذ! إن الوقت الذي تعتذر بضيقه الآن قد أتسع لدرس علوم وفنون وصنائع قد ضاق عن أقلها الزمن الماضي، فلماذا يضيق ذرعاً بالخوض في هذا البحث وحده؟
وإذا كان قراء الصحف الأسبوعية لا ينشطون للمناقشة الفنية كما قلت فإني اجل قراء (الرسالة) بخاصة عن ذلك فالرسالة في اعتقادي هي الصحيفة الأسبوعية الجدية الوحيدة التي ينبغي أن تضطلع برسالة العلم - كما يعبر اليوم - والأدب والفن، وارى أن قراءها كذلك يمتازون من قراء غيرها من الصحف على أن الصحيفة الراقية هي التي ترفع قراءها إليها لا التي تنزل إليهم والآن اخذ في ذكر ملاحظاتك على مقالي والرد عليها.
وابدأ أولاً بأخذك عليَّ قولي: إن الأخذ والتأثر يجريان إلى مدى واحد بقولك: (إن التأثر قد
يكون سلبياً صرفاً، ثم استشهادك لذلك بان الوثنية العربية قد أثرت في الإسلام في تحريم التصوير والنحت الخ، والحق أيها الأديب أن تحريم التصوير ليس من موضوعنا في شيء، وليس إلا من باب سد الذرائع وهي القاعدة المعمول بها في الإسلام ولا تزال أصلاً في مذهب مالك؛ ومن أمثلة ذلك في الإسلام تحريم آلات اللهو سداً للذريعة في تعاطي الخمر، وضرب الحجاب على المرأة للذريعة في افتتان الرجل بها، كالعكس إلى غير ذلك، فلماذا أيها الأستاذ لا تجعل تلك من هذه؟ ولا تكون في حاجة لتكلف هذا التأثير السلبي غير المفهوم، اللهم إلا إذا كان كتأثير الشيء بضده في ظهوره ووضوحه عند المقابلة كالبياض مع السواد فيكون هذا من باب: وبضدها تتبين الأشياء
ثم اني أخشى أن يعد ما قلته أيها الأستاذ خطوة في التهرب من الموضوع والتملص منه، ذلك لان اصل البحث الذي نحن فيه انه وجد في الفقه الروماني تشابه مع الفقه الإسلامي فهم منه البعض وجود علاقة بين الفقهين، فادعى كولدزهير ومن قلده تأثر الفقه الإسلامي بالروماني، فقلنا كما قال غيرنا أيضاً: إن الأحرى والأنهض بالدليل أن يكون الروماني هو المتأثر. هذا هو حاصل الموضوع، فلو سلمنا صحة تقسيم التأثير إلى إيجابي وسلبي كما قلت أيها الأستاذ فما السلبي مما نحن فيه في قليل ولا كثير. وإذا كنت ترى تأثر الفقهاء بالفقه الروماني إنما هو تأثير سلبي بهذا المعنى فقد لا يبقى بيننا ما يستوجب النزاع والمناقشة
(2)
وقلت أيها الأستاذ عند قولي: إن الإسلام في ذاته جاء خارقاً لقاعدة البيئة والثقافة، إذ قام به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي الذي نشأ ابعد الناس عن أن يطلع على قانون روماني أو حكمة منقولة، وإني بهذا الدين الأقدس مناقضاً كل المناقضة لما عليه قومه. . . الخ. قلت:(إن هذا القول غريب من. . . لأنه لا يصح إلا على تقدير أن هذا الدين من صنيع الرسول نفسه وهو أمي. . . الخ فعمله ناقض لقاعدة البيئة والثقافة، أما على أن الإسلام كما في حقيقته وحي إلهي فلا يستقيم هذا التمثيل مطلقاً في نقض قاعدة البيئة والثقافة الخ).
فلولا حسن ظني بسلامة نيتك أيها الأستاذ لعددت هذا منك مغالطة غير سائغة من مثلك؛ ذلك لأني لم أقل فيما كتبت إن الإسلام بظهوره بهذه الصفة ناقض لقاعدة البيئة والثقافة قط،
ولكني قلت: إن الإسلام في ذاته خارق لها، لأنه دين سماوي ووحي إلهي لا تتحكم فيه بيئة ولا تؤثر عليه ثقافة؛ على أن قولي خارق أحرى بأن يفهم منه إثبات قاعدة البيئة والثقافة؛ لأن الخارق ما خرق العادة وخالف مقتضاها، والغرض مما قلت بيان أن الإسلام في فقهه وعقائده وعباداته لا يتطرق إليه تأثير البيئة والثقافة، لأنه في كل ذلك جاء خارقاً لقانونها، ولم أقل قط إن الإسلام ناقض لقاعدة البيئة والثقافة كما فهمت أيها الأستاذ، بل قلت: إنه خارق؛ وفرق بين مدلولي اللفظين، فليشهد القراء وليحكموا!
(3)
وقلت أيها الأستاذ عند قولي: إن الشريعة الإسلامية وجدت كاملة دفعة، أو بعبارة أصح جاءت في زمن واحد. . . الخ (إن هذه العبارة أوضح من أن تحتاج مخالفتها إلى دليل). فلماذا أيها الأديب الفاضل؟ فهل كنت تنكر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يمت إلا وقد تركنا على المحجة البيضاء، حتى ترى أن بعض الشريعة لم يوجد إلا بعد زمنه؟ ألم يقل الله جل ذكره في كتابه العزيز:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي)؟ ويقول أبن عباس السدي في تفسيرها: إن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي تنزيل ما أنزلت وتبيين ما بينت لكم، فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم؟ حتى غال بعض نفاة القياس فأحتج بها على إنكاره.
(4)
ثم ذكرت أيها الأستاذ قولي: وهيأ لنا شريعة كاملة، وقانوناً ربانياً منظماً يصلح لأن يطبق على أي جيل وعلى أية أمة، ولم يزد فيه الفقهاء شيئاً قط إلا تصنيفه ونقله. . . إلخ، فقلت:(إن هذا الكلام ليس أحسن حالاً من سابقه، فالفقهاء قد فهموا وطبقوا واستنتجوا واستنبطوا. . . الخ) ونحن لا ننكر هذا، وعبارتي لا تفيد نفيه إذ لست ظاهرياً، وقد شاء قلمك أيها الأديب أن يقتضب من عبارتي ما شاء فقط، وإلا ففي آخر الفقرة بيان المراد، فقد قلت في آخرها إنهم (أعني الفقهاء) فيما لم يجدوا فيه نصاً صريحاً يطبقونه على قواعده الأساسية، وهذا هو معنى الفهم والاستنباط، ولا يقال له زيادة ولا تعارض في العبارة، لأن المراد بما لم يزد فيه الفقهاء شيئاً أصوله وقواعده الأساسية، وهي التي لم يلحق المشرع الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى إلا وقد تركنا منها على سبيل واضح وقانون رباني منظم وشريعة كاملة، فيحسن أن نقول هنا إننا والأستاذ الفاضل على خطة اتفاق.
(5)
وقلت أيها الأستاذ إن قولي (. . . والنصوص الفقهية كلها صريحة بينة الأغراض واضحة المرامي، يناقضه قولي في القرآن: على إن الاختلاف في تفسيره ليس إلا لإيجازه المعجز مع بعد مراميه الغيبية، وقلت: (إن هذا الإيجاز المعجز لم يفت آيات الإحكام كذلك وبعد المرامي يشملها. وجوابي عليك أن آيات الإحكام قد جاءت مفسرة بالسنة إلا ما ندر منها كآية الربا، فلم يبق مجال للاختلاف فيما أوضحه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما يمكن أن يكون في غيره مما لم يفسر بالسنة، وبهذا يتضح الفرق بين أدلة الإحكام والتفسير المختلف فيه، ويصح به لنا القول بألا يقاس بالفقه التفسير، وحسبك دليلاً على الفرق بين فهم الكتاب وفهم السنة ما صنع الإمام علي كرم الله وجهه عند إرساله ابن عباس رضي الله عنهما لجدال الخوارج، إذ أمره أن يتوخى جدالهم بالسنة حرصاً على إلا يخطئوا في فهم القرآن وتأويله، وما ذاك إلا لما ذكرنا.
(6)
وتقول أيها الأستاذ (وإذا كانت النصوص صريحة بينة الأغراض ففيم أختلف فقهاء المذاهب الكثيرة المتعددة الخ.
وأقول لك إن سبب الخلاف بين فقهاء المذاهب ليس اختلاف البيئة والثقافة مع غموض الأدلة، ولكن السبب الأكبر هو اختلاف علمهم بالأدلة أولاً، ثم تفاوت مراتبها عندهم قوة وضعفاً، وقد كانت السنة آنئذ تتلقى من أفواه الشيوخ. وقد يبلغ الفقيه حديث لم يبلغ الآخر، أو يكون هذا سمعه بطريقة أقوى من طريق الآخر، وهذا عندي السبب الأكبر في اختلاف الفقهاء.
ولذلك قال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي. ونحن لا ننكر اختلاف الأفهام في الاستنباط أصالةً، ولكنا ننكر لزوم أن يكون ذلك من آثار البيئة والثقافة، فاختلاف الإفهام جار حتى بين أبناء المدرسة الواحدة والبيئة الواحدة كما هو مشاهد، فلا يصلح دليلاً لتأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني.
(7)
واستطرفت أيها الأستاذ الأديب تمثيلي للصراحة بقولنا مثلاً لا تكذب قائلاً: (إن هذه المسألة على وضوحها الشديد محل خلاف تعدى إلى كتب البلاغة) والكلام إنما هو تمثيل للصراحة لغة، وفرق بين رسوم الألفاظ وحدودها المنطقية وبين صرائح مؤدياتها اللغوية.
ثم إني لم أمثل بهذا إلا توضيحاً لكون الكلام العربي الصريح لا يختلف معناه على حسب
الأزمان والبيئات؛ ويدل على هذا قولي بعد ذلك: وأرى أننا لو نقلنا خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع مثلاً ونشرناها اليوم لما فهم منها، أي إجمالاً، من يعرف مدلولات الكلام العربي من مثقفي اليوم إلا ما فهمه عشرات الألوف من المسلمين حينما خطبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الرهيب قبل ثلاثة عشر قرناً ونصف).
وهذه ميزة للغة الضاد يجب ذكرها على حين أن بعض اللغات سواها قد تغيرت وتطورت تطوراً كاد يجعلها مقطوعة الصلة بينها وبين ماضيها قبل مائتي سنة.
(8)
وأما استغرابك لقولنا إن أغلب النصوص الفقهية من السنة، فيذهب إذا علمت إن آيات الأحكام جاءت جلها إن لم نقل كلها مفسرة موضحة بالسنة، فالسنة مع كونها مصدراً خاصاً لبعض الأحكام فهي في بعض واسطة بين الكتاب وبين الفقهاء في فهم آيات الأحكام، وبهذا تعلم أغلبية الأدلة الفقيهة التي من السنة وإن كان أغلبها في الحقيقة تفسير ما أجمل الكتاب، وهذا معنى التبيين في قوله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم) آية.
(9)
ثم قلت أيها الفاضل مستدلاً على تأثر الأوزاعي بالفقه الروماني: (إن الرومانية حكمت الشام قطعاً، وكان ذلك الحكم لقرون كثيرة قطعاً، وكانت الدولة الرومانية وحكمها الشام قبل الإسلام قطعاً. . . ثم قلت وكان الإسلام هو الذي خلف على ذلك بلا شك، وكان لهذا على طول الزمن أثره الذي تختلف به الشام عن الحجاز مثلاً، ولا بد والأوزاعي أبن هذه البيئة الحديثة العهد بهذه الحال الرومانية فلتلك البيئة وهاتيك الثقافية وأثرهما المحتوم في تكوين الأوزاعي الخ. فلو سلمنا جدلاً بصلاحية الفقه الإسلامي وقبوله للتأثر بالبيئة والثقافة كما تعتقد أيها الأستاذ الفاضل، فالشام لم يفتح في عهد الأوزاعي ولكنه فتح في عهد عمر رضي الله عنه، والأوزاعي - وهو من تابعي التابعين، ومن الطبقة السابعة من الرواة، ومن أهل القرن الثاني - لم يأت إلا وقد أنصرم، أو كاد ينصرم بعد رسوخ الإسلام في الشام جيل كامل. ثم إن الإسلام من شأنه أنه لم يفتح بلاداً وتطأها أقدام جنوده الأبطال إلا وينقل إليها معه حضارته وآدابه وأحكامه، وأصرح من ذلك أن أقول إن الإسلام لم يفتح البلاد ويتولى الشعوب إلا لينسخ أدياناً ويقر مكانها ديناً واحداً، ويهدم قوانين ويبني بدلها قانوناً جديداً مفرداً، ويجتث حضارات ويغرس محلها حضارة واحدة؛ فالإسلام لم يفتح
أرضاً ولم يحكم شعباً إلا ليؤثر فيه - يا مولاي الأستاذ - لا ليتأثر به.
وقد تولى الإسلام الشام منذ عهد الخليفة الثاني وأسبغ عليه من روحه وثقافته وتعاليمه حتى غدا إسلامياً صبغةً وروحاً، ومضى على ذلك زمن، ولم يأت الأوزاعي إلا والشام في دينه وروحه وثقافته إسلامي صرف، ولم يبق به من ثقافة الرومان عين ولا أثر. فالأوزاعي وليد بيئة إسلامية وثقافة إسلامية، فتسرب الثقافة الرومانية إليه بعد أن اندثرت وسحب الدهر عليها ذيل النسيان وحل محلها ما هو خير ثقافة وأعدل حكما - من البعد بحيث لا يستسيغه عقل المتثبت الحازم.
(10)
والعجيب أيها الأستاذ الفاضل أنك في آخر ردك على مقالي قلت لا أدع منه عبارة ختامية تلك هي. . . إن الفقه الروماني جديد لفقه جماعة من العلماء وتحقق أنهم أخذوه من الفقه الإسلامي، وهذا ما يجب إلا يعتقد خلافه كل مسلم، قائلاً بل أقول. . . لسنا في شيء من المطالبة بهذه العقيدة في الفقه الروماني، فليست أصول الإسلام ستة، تلك الخمسة المعروفة ثم سرقة الفقه الروماني من الفقه الإسلامي الخ).
ولا أدري ماذا أردت بأصول الإسلام الخمسة؟ فإن كنت تريد بها أركانه التي أولها الشهادتان وآخرها الحج، فالاستنتاج عجيب، لأنني لم أقل إن هذا الاعتقاد ركن من أركان الإسلام، بل غاية ما في الأمر إني قلت إنه واجب؛ وواجبات الإسلام يا مولاي الأستاذ أكثر من أن تكون ستاً أو ضعفها، فإذا ضممت إليها الواجبات الاعتقادية والأعمال والتروك صارت أكثر من أن تحصر! فبأي منطق استنتجت من قولي ما لم أقله، وألزمتني على هذا القول بأن أصول الإسلام ستة؟ ولا يفوتني هنا أن أقول لك أيها الأستاذ إن أدبك الجم قد سمح لك أن تنصحني بأن أعدل رأيي في هذه الأشياء قبل أن أهتم بمسألة الفقه الروماني وأخذه أصوله من الفقه الإسلامي أو تأثر الفقه الإسلامي فتلك مسائل متأخرة، ولكني هنا لم يطاوعني أدبي معك - مهما كان بالنسبة إلى أدبك - أن أقول لك مقال الناصح المشفق إنه يحسن أن تصلح منطقك أولاً قبل التعرض لتطبيقه على مثل هذه الأمور.
وفي الختام أقول لك إنه ليس من الخير أن يتذرع الكاتب للتغلب على مناظره بتحقيره أو مغالطته، وأعتقد أنك أعلم بأدب الحوار والمناقشة من أن أنبهك إليه والسلام عليك.
سنغافوره
صالح بن علي الحامد العلوي
نهر النيل
كما ذكره العلامة أبن خلدون في مقدمة
بقلم رشوان أحمد صادق
جاء ذكر النيل في كثير من المؤلفات العربية التي وضعها جغرافيو العرب من أمثال الإدريسي وياقوت الحموي والإصطخري وابن سعيد الجبهاني وغيرهم كثير. على أن ابن خلدون وصف هذا النهر وصفاً بديعاً في مقدمته المشهورة.
وقبل أن نتحدث عن مقال أبن خلدون عن نهر النيل يحسن بنا أن نذكر الحقائق الآتية:
أولاً: أطلع ابن خلدون على أبحاث من سبقه إلى هذا الموضوع وحاول أن يوفق بينها وبين ما سمعه من الأحاديث المختلفة عن نهر النيل.
ثانياً: لم يذهب أبن خلدون إلى أعالي النيل ولكنه ربما زار بعض أجزاء النهر السفلى مثل الأراضي المصرية.
ثالثاً: ابن خلدون قد وصف بعض أجزاء نهر النيل بدقة جعلت الكثير من العلماء يهتم برسالة هذا الرجل الفيلسوف.
رابعاً: إن العهد الذي كتب فيه أبن خلدون كان عهد اجتهاد من حيث البحث عن منابع النيل، إذ كانت مسألة النيل من الأمور الغامضة، ولم تتح الفرص لفك لغزه أو الحصول على معلومات حقيقية عنه مبنية على أبحاث دقيقة إلا بعد أن وطد محمد علي الأمن في أعالي النيل، وبذلك سهلت مهمة من قام بهذا العمل.
والآن نذكر أقوال ابن خلدون عن نهر النيل ثم نعقب عليها.
قال: (فأما النيل فمبدؤه من جبل عظيم وراء خط الاستواء بست عشرة درجة على سمت الجزء الرابع من الإقليم الأول ويسمى جبل القمر ولا يعلم في الأرض جبل أعلى منه. تخرج منه عيون كثيرة فيصب بعضها في بحيرة هناك وبعضها في أخرى، ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء على عشر مراحل من الجبل، ويخرج من هذه البحيرة نهران يذهب أحدهما إلى ناحية الشمال على سمته ويمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر، فإذا جاوزها تشعب في شعب متقاربة يسمى كل واحد منها خليجاً وتصب كلها في البحر الرومي عند الإسكندرية، ويسمى يبل مصر وعليه الصعيد
من شرقيه والواحات من غربيه. ويذهب الآخر منعطفاً إلى المغرب ثم يمر على سمته إلى أن يصب في البحر المحيط وهو نهر السودان وأممهم كلهم على ضفتيه).
من ذلك يتبين إلى أي حد كانت معلومات ابن خلدون عن هذا النهر. أما عن أعالي النهر فمعاوماته قاصرة على السماع وعلى ما وصل إلى علمه من كتب من سبقه إلى ذلك الموضوع. وعلى الأخص كتاب بطليموس الذي ذكر ذلك بوضوح ونقل عنه الإدريسي وغيره. ولكن في كلام ابن خلدون مسألة مهمة إلا وهي ذلك النهر الذي يتجه غرباً ويصب في البحر المحيط.
ما هو ذلك النهر الغربي؟
أكان ابن خلدون متأثراً بالآراء القديمة من أمثال رأي هيرودوت الذي يقول بأن النيل يتجه غرباً إلى المحيط؟ أم كانت عنده معلومات عن نهر الكنغو وظن أنه يتصل بالنيل كما كانت هذه الفكرة سائدة إلى زمن ليس ببعيد؟ أم كان يعرف نهر النيجر وظن أنه فرع من النيل لقرب منابع بعض نهيراته من منابع بعض نهيرات حوض تشاد القريبة من منابع بعض نهيرات النيل؟
ولكي نوضح هذه المسألة نقول: إن ابن خلدون ربما كان يقصد أحد هذه الآراء الثلاثة الآتية:
1.
يقول أبن خلدون إن هناك نهيرات تنبع من جبل القمر ثم تصب في بحيرتين، ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الاستواء، ويخرج من هذه البحيرة نهران يتجه أحدهما نحو الشمال والآخر نحو الغرب ويصب في المحيط.
لعله كان يقصد بحيرة فكتوريا وبحيرة أدورد، وإن البحيرة الثالثة هي بحيرة البرت، والنهر المتجه شمالاً هو بحر الحبل والمتجه غرباً هو الكنغو.
والقاعدة في هذا الفرض أن المنطقة بين النيل والكنغو غير محدودة تماماً، كذلك ليست شديدة الإرتفاع، وفي زمن الأمطار الشديدة قد تكون هذه المنطقة عبارة عن شبكة من المجاري المائية التي يصبح من المتعذر تتبعها خصوصاً وأن تلك الجهات كانت غير معروفة تماماً، وإن المعلومات عنها كانت منقولة عن التجار العرب والزنوج.
فإن كان ابن خلدون يقصد ذلك - وهو الأرجح - فذلك دليل على ذكاء ذلك الرجل
الفيلسوف والعالم المحقق.
ولقد ظلت فكرة اتصال النيل بالكنغو زمناً طويلاً في عالم الوجود قبل أن يكشف تماماً عن نهر الكنغو.
2.
أما عن الرأي الثاني فنقول إن أبن خلدون ربما قصد بالبحيرة الثالثة منخفض بحر الغزال (بحيرة نو وأقليم السدود ومنخفض بحر الغزال). فالواقع إننا عندما نتتبع هذه المنطقة على الخريطة قد لا نتبين تماماً مقدار عظمها، ولكن إذا ما اطلعنا على مذكرات بعض التجار الذين قطعوا هذه المسافات من أمثال الزبير باشا نتبين تماماً إن هذه المنطقة تظهر لأول وهلة كأنها مستنقع عظيم السعة. فلقد ذكر الزبير باشا في مذكراته أنه ضل الطريق وسط هذا المستنقع أثنى عشر يوماً حتى كاد يشرف على الهلاك.
فربما كان أبن خلدون يقصد بالبحيرة الثالثة هذا المستنقع العظيم. وإن النهر الذي يتجه غرباً هو بحر العرب وروافده. وربما وصلته أخبار عن النيجر وحوض تشاد فظن أن بحر العرب يتصل ببحيرة تشاد وهذه الأخيرة تتصل بالنيجر إلى (البحر) المحيط.
ولقد كان يظن أن النيل يتصل بنهيرات بحيرة تشاد وهذه تتصل بأعالي النيجر، وبقيت تلك الفكرة سائدة إلى إن ذهبت البعثة الفرنسية وطافت حول بحيرة تشاد وأثبتت أن حوض تشاد منفصل عن النيل وعن النيجر تماماً.
وربما كانت تلك الفكرة بعيدة عن ذهن أبن خلدون، ومع ذلك لا مانع من ذكرها خصوصاً وإن فكرة اتجاه النيل غرباً كانت سائدة في قديم الأزمنة.
3.
أما عن الرأي الثالث فربما قصد ابن خلدون بالبحيرة الأولى، بحيرة رودلف، وظن أن نهر أومو الذي يتصل بها متصل بنهر أوكوبو أحد أفرع السوباط، وأن البحيرة الثانية هي فكتوريا، والبحيرة الثالثة هي نو (ومنخفض بحر الغزال وأقليم السدود)، وأن النهر الغربي هو بحر العرب ويتصل بحوض تشاد، ثم حوض تشاد يتصل بحوض النيجر، ثم ينصرف الأخير إلى المحيط كما سبق أن بينت ذلك في الرأي السابق.
ومما جعلنا نحتمل وجود هذا الرأي على الرغم من ضعفه هو قرب بحيرة رودلف من ساحل أفريقية الشرقي، إذ أنه معروف أن التجارة كانت تنقل من أعالي النيل إلى ساحل أفريقية الشرقي حيث يمكن تبادلها مع سكان الساحل الآسيوي المقابل لساحل أفريقية
الشرقي، وكانت الأخبار تنقل مع التجار العرب أو الزنوج، ومن ضمن هذه الأخبار المعلومات المختلفة عن منابع النيل وإقليم البحيرات.
ولما كانت بحيرة رودلف قريبة من ساحل أفريقية الشرقي فلا يبعد على الظن أن تكون ذكرت كمنبع للنيل.
ولعل تلك الفروض كانت راجعة إلى عدم معرفة هذه الجهات بالدقة أيام أن كتب ابن خلدون رسالته، وان كل ما ذكر عنها كان عن طريق النقل والسماع الذي لا يخلو من المبالغة والخطأ، زد على ذلك قلة المعدات العلمية وآلات الضبط والمقاييس المختلفة بعكس ما نحن عليه الآن من تقدم.
والآن ندخل في التفاصيل التي ذكرها الفيلسوف ابن خلدون عن بقية نهر النيل.
قال يصف البحيرة الثالثة: (في أسفلها جبل معترض يشق البحيرة من ناحية الشمال ويقسم ماءها إلى قسمين فيمر الغربي منه إلى بلاد السودان مغرباً حتى يصب في البحر المحيط).
وفي ذلك إشارة إلى خط تقسيم المياه بين النيل والكنغو، ونرجح ذلك إذا ما علمنا أن شاطئ بحيرة ألبرت من الجهة الغربية تحف به الجبال، ثم خلف هذه المرتفعات أي في الجهة الغربية منها توجد المجاري المائية التي تمد نهيرات الكونغو، فلا يبعد على الظن أن يكون ابن خلدون قد اعتبر منابع الكنغو وراء هذه الجبال المتاخمة لشاطئ بحيرة ألبرت الغربي جزءاً متمما لهذه البحيرة خصوصا وهذه المنطقة تحتوي على عدد عظيم من النهيرات، فهي عبارة عن شبكة مائية يصعب تحديدها خصوصاً في أوقات الأمطار الشديدة والفيضانات حيث تظهر كمتسع عظيم من المياه.
وربما قصد ابن خلدون بهذه المرتفعات مرتفعات دارفور التي تفصل مياه وادي الكوه ووادي جندي المتصلين ببحر العرب عن وادي بحر السلامات المتصل بنهر شادي المتصل ببحيرة تشاد.
وربما قصد بهذه المرتفعات مرتفعات بندا التي تفصل بين مياه الغزال من جهة ونهر شادي المتصل ببحيرة تشاد من جهة أخرى. إذ أن نهري الجبل والغزال يكونان حوضا منخفضا في الوسط وحافاته مرتفعة، وما ارتفاع الجهات التي تفصل حوض الغزال عن حوض تشاد إلا لهبوط الانخفاضات المجاورة التي فيها بحر الغزال وحوض تشاد.
أما عن بقية نهر النيل فقد قال ابن خلدون: (ويخرج الشرقي منه ذاهباً إلى الشمال على بلاد الحبشة والنوبة وفيما بينهما. وينقسم في أعلى أرض مصر فيصب ثلاثة من جداوله في البحر الرومي عند الإسكندرية ورشيد ودمياط، ويصب واحد في بحيرة ملحة قبل أن يتصل بالبحر في وسط هذا الإقليم).
وفي ذلك إشارة إلى فروع النيل وتغيرها في عهد العرب وما بعده عما كانت عليه في عهد البطالسة، فقد زالت المصبات الشرقية كلها تقريباً.
ويقول أيضاً (وعلى هذا النيل بلاد النوبة والحبشة وبعض بلاد الواحات إلى أسوان، وحاضرة بلاد النوبة مدينة دنقلة وهي في غربي هذا النيل، وبعدها علوة وبلاق، وبعدهما جبل الجنادل على ست مراحل من بلاق في الشمال، وهو جبل عال من جهة مصر ومنخفض من جهة النوبة فينفذ فيه النيل ويصب في مهوى بعيد صبا مهولا فلا يمكن أن تسلكه المراكب بل يحول الوسق من مراكب السودان فيحمل على الظهر إلى بلد أسوان قاعدة الصعيد، وكذا وسق مراكب الصعيد إلى فوق الجنادل، وبين الجنادل وأسوان اثنتا عشرة مرحلة، والواحات في غربها عدوة النيل وهي الآن خراب وبها آثار العمارة القديمة).
وفي ذلك إشارة صريحة إلى الشلالات التي تعترض النيل قبيل أسوان والتي تكون بمثابة عقبة، إذ نجد الانحدار شديداً. ويظهر أن المنطقة التي يصفها أبن خلدون هي المنطقة المسماة الآن شلال حلفا، وتبدأ بعد سراسن، ومن بعدها بقليل نجد شلالات جيمي وأبكه وطولها معاً أكثر من 16 ك. م، وينحدر عندها النيل انحداراً شديداً. وهذه الجنادل هي التي يطلق عليها عادة شلال حلفاً وهي كغيرها من الشلالات السابق ذكرها يرجع تكوينها إلى اعتراض الصخور البلورية الشديدة الصلابة في مجرى النهر وتتكون منها الجزر.
وأما عند لفظ (واحات) فربما قصد بذلك بقايا المدن الأثرية التي قامت على أنقاضها المدن الحديثة، أو ربما أطلق هذا اللفظ على البلاد الموجودة في هذه المنطقة الجدبة والتي تعتمد على الآبار لبعدها عن النيل.
أما عن قوله إن الحبشة على النيل فربما قصد بذلك الفرع الذي يأتي من بلاد الحبشة وهو الأرجح، إذ يقول: (بلاد الحبشة على واد يأتي من وراء خط الاستواء ذاهباً إلى أرض
النوبة فيصب هناك في النيل الهابط إلى مصر). ويقول (وقد وهم فيه كثير من الناس وزعموا أنه من نيل القمر، وبطليموس ذكره في كتاب الجغرافيا وذكر أنه ليس من هذا النيل).
وهذه إشارةً إلى أنه لم يكن يعرف هضبة الحبشة ولا منابع النيل الأزرق. على أنه يتفق مع بطليموس في أنه ينبع من جهات غير منابع النيل في جبل القمر. وهذه المسألة مدهشة، إذ أن النيل الأزرق كان معروفاً منذ أيام أراتستين، وأن هضبة الحبشة كانت مجاورة لبلاد اليمن وذات حضارة، فكيف لم يعلم شيئاً عن منابع النيل الأزرق بينما رسم كل من بطليموس والإدريسي بحيرة تسانا؟
ثم ذكر المحيط الهندي والبحر الأحمر والخليج الفارسي، وقال عنهما: البحران الهابطان، ثم ذكر بوغاز باب المندب والمنطقة المعروفة الآن باسم الأرتريا، ثم تكلم عن التجارة بين اليمن والسويس، وذكر سواكون، وتكلم عن الواحات الداخلة وعين مكانها، وذكر النيل في المنطقة بين المقطم (وجبل الواحات). وذكر بلدة اسنا وأرمنت وأسيوط وقوص وصول، وقال عند الأخيرة يتفرع النهر إلى فرعين: فرع يذهب إلى اللاهون ويقصد بذلك بحر يوسف، ثم ذكر عيذاب.
من ذلك يتبين لنا أن معلومات ابن خلدون عن نهر النيل كانت مستمدة من كتابات من سبقوه إلى هذا الموضوع ومن الرواة كذلك، ولكن يجب أن نعترف بأن ذكاء هذا الرجل ومقدرته العلمية جعلاه يضع هذه المعلومات في قالب يقبل العقل الجزء الأكبر منه. فلقد ذكر بعض الجهات وعلل وجودها أحسن من غيره بكثير، ومع ذلك فإن له عذره، مقدرته العلمية جعلاه يضع هذه المعلومات في قالب يقبل العقل الجزء الأكبر منه. فلقد ذكر بعض الجهات وعلل وجودها أحسن من غيره بكثير، ومع ذلك فإن له عذره، إذ أن السياحة إلى مثل تلك الجهات كانتمن الصعوبة بمكان، ولم يكن هناك آلات دقيقة ولا معدات علمية تساعد على ضبط الأماكن بالدقة، زد على ذلك فان كتابات ابن خلدون جاءت معتدلة خالية من القصص الخرافية بعيدة عن المبالغة والخلط بين المعلومات والمعتقدات.
رشوان أحمد صادق
الجغرافيا
في أوطانهم غرباء
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
إنما في بلادنا الشعراء
…
فئةٌ في أوطانهم غرباء
لا رخاءٌ ولا أمانٌ ولا ما
…
لٌ ولا عزّة ولا سرّاء
ألمن يكذبون ذاك التملى؟
…
ولمن يصدقون هذا الشقاء؟
ما جروحٌ تدمى الجلود بها مث
…
لُ جروح تدمى بها الأحشاء
ما شكوا أعباء الحياة وأن كا
…
نت ثقالاً عليهم الأعباء
وإذا دافعوا عن الحق جهزا
…
فهناك الولايات والأرزاء
لم أجد للجمهور عطفاً عليهم
…
وكأن الجمهور منهم براء
إنهم لا يرون من قومهم بر
…
اً ولا تقديراً وهم أحياء
وإذا مالقوا الردى فعليهم
…
يكثر الحزن منهم والبكاء
تلك أخلاقهم وقد ورثتها
…
سنناً من آبائها الأبناء
ليس هذا في يومنا وحده جا
…
رٍ على الأيام طراً سواء
إنما دنيانا لقوم جحيم
…
ولأقوامٍ جنة غناء
ولقد أخر الألي قرضوا الشع
…
ر نفوسٌ لهم بها كبرياء
واجتناب الرياء منهم بعصر
…
شاع من أجل العيش فيه الرياء
شعراء العراق كل سنيهم
…
سنة فيها تخلف الأنواء
أنني أطلب العزاء لنفسي
…
في أساها، وأين مني العزاء؟
لهف نفسي على القرين فقد هب
…
ت عليه تشله النكباء
عبثت في الربيع بالروض حتى
…
ملأته من زهره الأشلاء
وإذا الورد في الربيع تولى
…
فعلى ذلك الربيع العفاء
جفت الدوحة التي كل صبح
…
فوقها كانت تهتف الورقاء
وعلى الزهر قد تصوح عندي
…
زفرة تصطلي بهاء الأحشاء
بسمت في ربيعها لذكاء
…
كلما أشرقت عليها ذكاء
أيها البلبل الذي يتغنى
…
لا يسمك الهوان هذا الغناء
أيها الشعر أنت أشجى أنين
…
نزعته من نفسها الحوباء
أنت في أسماع الأشايب موسي
…
قى في أعين الشباب ضياء
وإذا كنت الدهر للعشر أطرى
…
فقليل مني له الإطراء
وكأن السماء ديوان شعر
…
بعض أبياته النجوم الوضاء
وكأن المجر والليل صافٍ
…
كدموعي قصيدة عصماء
لم يكن بالشعر الغرام قليلاً
…
غير أن العراق منه خلاء
أحسن الشعر ما بنته على ما
…
شعرت في حياتها الشعراء
غير أن التقليد فيه كثير
…
وقليل على الشعور البناء
وأجل القريض ما استحسنته
…
حين يتلى العقول والأهواء
ونصيب الكثير منه بوار
…
ونصيب القليل منه البقاء
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي
المساء
بقلم أمجد الطرابلسي
هوَ ذا الليلُ قد أطَلَّ من الأف
…
قِ فعمَّ الفضاَء صمتٌ رهيبُ
جاَء يختالُ في غَلائله السُّو
…
دِ وفي وجهِه عُبوسٌ مِهيبُ
فتولتْ ذُكاء جازِعَةَ النُّو
…
ر وفَرَّت وقد علاها الشُّحوبُ
بسطت للوَداعِ أيَّ شُعاعٍ
…
شاحبٍ قد أمَضَّه التأويبُ
ما تَرى الأُفْقَ قد تَوَرَّدَ حزناً
…
إنَّهُ منْ دَمِ النهارِ خَضيبُ
كانَ ساحَ الوَغَى قد ظَفِرَ الَّلي
…
لُ كما يظفَرُ القوىُّ الغَضوبُ
وتولَّى النهارُ، أيَّ طعينٍ
…
مُستضامٍ تسيلُ منهُ النُّدوبُ
مأنَم الشَّمسِ! هكذا الكونُ بغى
…
ودماء طليلة وحُروبُ
إن غَدَا الليلُ ظافراً فكذا النُّو
…
رُ على الأرضِ عاجزٌ مغلوبُ
هكذا يَظْفَرُ الظلامُ ويخْبو
…
لهب النور في الدُّنا ويَخيبُ
هكذا سُنَّةُ الحياةِ غِلابٌ
…
وكذا الحَقُّ هَيِّنٌ مَغْصوب
وأطلَّ الرَّاعي ينوح على الشم
…
س كما ناحَ في الرُّبى العندليب
هَبَطَ القريةَ الخزينة يبكي
…
وتعالى حُداؤُهُ والنّحيب
أكذاك الأكواخُ يَغمرُهَا الصَّم
…
تُ ويَعلو الحقولَ هذا القُطوب؟
أكذاك الطيورُ تَنْدُبُ شَجْوَاً
…
وَيَعُمُّ الرُّبى الظلامُ الرحيب؟
أيْنَ سهلٌ يموجُ في لجج النو
…
رٍ ووادٍ جمّ الظلالِ عشيب
أينَ لَحنُ الحياةِ تَنشده القر
…
يةُ؟ أينَ المِراحُ؟ أينَ الوُثُوب
فبكى والقَطيعُ بينُ يديهِ
…
خافتُ الخطْو والثُّغاءِ، كئيب
ومشى في الظلامِ يبكي على النو
…
رِ كَمَا سَارَ ثاكلٌ مَحْروب
يصرُخُ النَّايُ في يديه فتبكي
…
لِبُكى النايِ أعيُنٌ وقلوب
هي أُنشودةُ الوَدَاع يُغَنِّي
…
ها وقد حانَ للضياءِ غُروب
هي أنَّاتُ شاعرٍ عَبقري
…
عشقَ النّورَ واستبته الغيوب
أيُّهذا المساءُ فيكَ منَ المَو
…
تِ دُجَاهُ وسِرُّهُ المَحجوب
العفاءُ الدجى مثلُكَ رَحبٌ
…
وَشَبيهٌ بِكَ الَفنَاءُ الجديب
هكذا تَنْطَفِي الحياةُ وَيَغشا
…
ها سُكونٌ مِنَ الفَناءِ مُريب
هكذا تَسْكُنُ الأمانيُّ لِلْمَوْ
…
تِ وَيَبْلى ثوبُ الحياةِ القَشيب
وَتَغوصُ الرِّكابُ في ثَبَجِ الرَّمْ
…
لِ وَتَخْفَى مَهامهٌ وسُهُوبُ
ويَضيع الضَّجيجُ في العَدَمِ القَفْ
…
رِ وِتثمْحى معالمٌ وَدُروب
نَامَتِ القَرْيةُ الحَزينةُ إلا
…
ساهرا نومُهُ الهنيُّ سليب
لِمُنُاهُ بيْنَ الاضالعِ هَمْسٌ
…
وَلِخفَّاقِهِ الملحِّ وجيب
ظلَّ سَهرانَ يَرْقب الأنجمَ الزُّ
…
هْرَ تَهَادي كما تهادى حَبيب
عَلِقت عينُهُ السماَء ذُهولاً
…
وإستباهُ هذا الفُتونُ العَجيب
في فِجاجِ السماءِ عُرْسٌ بَهىٌّ
…
وعلى الأرْضِ مْأتَمٌ وكُروب
فَهُناك النجومُ تطْفَحُ بِشْراً
…
وهنا الليل حالِكٌ غريب
زَغردَتْ في السماءِ أنْجُمُها الفَرْ
…
حى وَغنَّى بعيدها والقريب
وتَبدتْ تَختالُ عُجباً كما تَخْ
…
تال بيْنَ الشُّفوفِ خُودٌ لعوب
هكذا تَضْحَكُ السماءُ منَ الأر
…
ض كما يضحكُ الخلِيُّ الطروب
إيهِ يا لَيلُ رُفَّ فَوْقَ خِلىٍ
…
لم تُؤَرِّقْهُ لَوْعَةٌ وخُطوبُ
وانْشُرِ الحُلْمَ والطّيوفَ لِصَبٍّ
…
لم يُنَغِّصْ نعيمَه تعذيب
لستَ يا لَيلُ للذي ألفَ السُّهْ
…
دَ كما يأْلف الغَرِيبَ الغريبُ
أنا يا ليلُ ليس لي من سكونِ ال
…
كون أو هَدْأةِ الظلامِ نصيب
حسبُ قلبي ظلامهُ ودُجاه
…
وأساهُ المُبرَحُ المَشْبوبُ
لِيَ لَيْلانِ ساهرانِ وغيري
…
ليلُهُ باسِمُ الطيوفِ خصيب
أنا أحيا الحياةَ ليلاً طويلاً
…
أفَيَصْفو لِيَ الدُّجى ويطيب؟
إطْوِ يا ليلُ هذه السُّجُفَ السُّو
…
دَ فكم تَحْتَ جُنْحِها مَكروب
كم قلوبٍ وجيعَةٍ ونفوسٍ
…
تحت هَذا الدُّجى تكادُ تذوب
يا إلهي سئمْتُ هذي الدَّياجي
…
إن في القلْبِ ظُلْمًةً لا تَغيب
أنا كَهفٌ مهدم مُستباحٌ
…
فيه لِلْحُزْنِ والشكوكِ نَعيب
يَصفِرُ الَغّمُّ في دُجاهُ كما تَصْ
…
فِرُ في اللَّيلِ شَمْأَلٌ وجَنوب
أقطعُ الليل سَاهراً ذاهِلَ الفِكْ
…
رِ وفي الصَّدْرِ لْلهُموم شُبوب
غارِقاً في هَواجسي وَذُهولي
…
وعلى العَيْنِ لِلسُّهاد رَقيب
شاقني النورُ يا إلهي ولكنْ
…
أْيَن منى السنا وأيْنَ الَّلهيب؟
شاقني الشَّدْوُ والغِناء ولكنْ
…
أيْنَ منى الُّلحونُ والتَّطريبُ؟
للضِّياءِ الحبيب يا نفس في الأر
…
ضِ مغِيبٌ ولْلحياةِ مغيب
لا يَرُعْكِ الظلامُ إن ملأَ الكَوْ
…
نَ فإِنَّ الصَّبَاحَ سوف يَؤوبُ
دمشق
أمجد الطرابلسي
ما يحنو به قانون العقوبات الألماني الجديد
نظريات جديدة
في فهم العقوبة والمجتمع
كانت الحكومة الألمانية قد انتدبت منذ حين لجنة من كبار المشترعين (الهتلريين) لبحث مبادئ العقوبة الجنائية التي يجب أن تتمشى مع مبادي الثورة الاشتراكية الوطنية ومبادي حزب (النازي)؛ وفي الأنباء الأخيرة أن التعديلات الجديدة لقانون العقوبات الألماني قد صدرت متضمنة لمبادي جديدة عجيبة في تعريف الجريمة وتحديد معنى العقوبة الجنائية لم يسمع بها من قبل في أي بلد متمدين. وقد قرأنا في هذا الموضوع مقالاً قيماً لكاتب فرنسي كبير، فرأينا أن نترجمه لقراء (الرسالة) فيما يلي:
يقول زعماء الإمبراطورية الألمانية الثالثة (الزعماء الهتلريون) إن قانون العقوبات هو (مرآة صادقة للروح القومي).
ونحن في فرنسا نتأثر منذ قرون بالقانون الروماني القديم الذي اشتقت منه ثورة سنة 1789 (الثورة الفرنسية) مبادئه الجوهرية، ولكن الهتلريين يرفضون هذه المبادئ باشمئزاز، ويقولون ما معنى هذا الإجلال الخالد لقصاصة من الورق؟ إن التعلق بحرفية النصوص ينم عن ذهنية متأخرة وضيعة. والقانون يقوم على حقيقة حية هي (ضمير الشعب)، ولا غاية لقانون العقوبات إلا أن يحمي هذا الضمير.
ونحن في بلادنا ذات المبدأ الإنفرادي، نقدس ذلك المبدأ الأساسي العظيم:(لا عقوبة بغير نص) ولكن المشترعين الألمان الجدد يقولون: إنه لا يوجد قانون في العالم يمكن أن يتحوط بنصوصه العقابية لكل الأعمال البشرية الممكنة، وإذن يجب على قضاتنا أن يعاقبوا أيضاً على الأعمال التي لم ترد في القانون (متى كانت تثير الرأي السليم المتزن للمجتمع) وكذلك نبذ المشترعون النازيون مبدأ أساسياً آخر هو (عدم رجعية القوانين)(أو عدم سريانها على الماضي)، وعلى هذا فإن محكمة لايبزج العليا قد حكمت بالإعدام على فان درلوبي مع أنه في الوقت الذي وقع فيه حريق الريخستاج لم يكن القانون يعاقب على هذه الجريمة إلا بالأشغال الشاقة. وإذا كنا نحن نرى من المثير أن نطبق على المجرم قانوناً كان يستحيل عليه أن يعرفه، فإن المشترع الألماني يقول إنه يجب عليه (أي المجرم) أن
يعرف إلى أي حد يمكن أن يثير بعمله السخط العام.
ونحن من جانبنا يصعب علينا أن نعترف بقانون عقوبات لا يعترف (بالحريات الفردية)، فإنه إذا عدمت هذه الحريات أضحى المشترع حكماً متعسفاً لا غير. وهذا ما حدا برجل مثل رامون فرنانديز أن يقول إن صوغ القانون الشيوعي الجديد، والقانون الفاشستي الجديد (لا يتميز فقط بسحق القانون القديم، وإنما يتميز بسحق الحقوق جميعاً)؛ بيد أنه يجب أن نعترف على رغم إشمئزازنا بأن الهتلريين يقومون بتحويل الحقوق. ذلك أن الشعب هو الذي يرفعونه فوق كل شيء؛ والشعب، لا الفرد، هو الذي يريدون حمايته بادئ ذي بدء؛ وهو تحويل في القيمة يتمشى مع استبدال المبادي الحرة القديمة (بمجتمع دولة عام).
ومن مبادئنا أننا نريد أن تحدث القوانين والظروف دائماً أثرها لصالح الفرد، فإذا عدل قانون، فإننا نطبق عليه أخف النصوص؛ فإذا تطرق الشك إلى ذهن القاضي وجب عليه أن يحكم بالبراءة؛ وكل متهم يعتبر بريئاً حتى يفصل في قضيته، وهذه كلها مبادئ يمقتها الهتلريون.
فهم يصيحون: أليس فظيعاً أن نضع المجرم في ذروة قانون العقوبات؟ وأن نعكف بشغف على درس نفسيته باسم الدفاع عنه؟ لقد انحدر علماء الجنائيات في الأمم الديمقراطية إلى هذا الدرك، أعني إلى درك (الحق الزائف) أو (الحق المعدوم).
والواقع إن ميولنا الفردية تجنح إلى التساهل مع المجرم؛ فمتى حللنا البواعث التي دفعت المجرم إلى ارتكاب جرمه، فقد فهمناها، وعندئذ نعطف على المجرم عطف الإنسان على الإنسان، بل لقد انتهى مشترعونا الجنائيون شيئاً فشيئاً لا إلى تحديد العقوبة، ولكن إلا حب الإصلاح.
وهذه حالة ذهنية لا يسيغها مشرعو الإمبراطورية الألمانية الثالثة؛ فهم يرفضون، لا أن يحكم على بريء - ولكن أن يفلت مجرم من العقاب. وإذا القضاء لم يقدم ترضية كافية لسخط الشعب العادل حينما يطالب بالعقوبة، فإن النظام الاجتماعي يغدو في خطر، وتسري إلى الشعب عوامل الهياج العام.
ومن خواص هذه النظرية تقرير صنوف المشبوهين. وإذا كان القاضي يمثل الشعب حقاً، فإنه في زعم أولئك المشترعين لا يمكن أن يرتكب خطأ قضائياً، ويكفيه دون أن يفتح
القانون أو يرجع إلى ضميره الشخصي، أن يستشير ضمير الشعب، والشعب معصوم لا يخطئ، وهو يكاد يتكهن، وعواطفه هي التعبير عن العدالة ذاتها.
ويقرر قانون العقوبات الاشتراكي الوطني أنه يمكن معاقبة مجرم لم يتمم جريمته، ولكن (أراد أن يرتكبها). وفي رأيه أن الجريمة ليست هي عمل القتل في ذاته بل هي (اعتزام القتل) ونحن في فرنسا نعاقب على (الشروع) في بعض الأحوال؛ فلا يعاقب مثلاً ذلك الذي يجس جيب إنسان من الخارج بنية سرقته، ولكنه يقع تحت طائلة القانون إذا حاول أن يدخل يده في ذلك الجيب. فهذه الفروق القضائية الدقيقة يخشاها المشترع الألماني أيما خشية؛ ولهذا يتخذ الرأي المناقض ويرى أن يضع تحت نظرية (العزم المهدد) أقل حركة تمازجها الشبهة.
وهكذا نرى أن قانون العقوبات الألماني الجديد وكذلك الإجراءات الجنائية قد بسطت كل التبسيط. وقد ألغيت (الظروف المخففة) ولم يعترف (بسبق الإصرار) بحيث أضحت جريمة الهوى والجريمة التي دبرت طويلاً سواء في العقوبة، ذلك أن المجموع يجب أن ينتقم بسرعة وبلا هوادة من أولئك الذين يعكرون صفوه؛ وللقاضي أن يوقع عقوبات تبعية بعد تنفيذ العقوبة الأصلية مثل الجلد والصوم الجبري، ومصادرة الملك؛ وهكذا يراد أن يدفع الجانح الذهن إلى مرتبة إنسان منحط من الوجهة الجسمية والعقلية.
وقد ذهب المشترعون النازيون إلى حد اعتناق الروح الإسبارطي؛ فالدولة لها الحق (أن تقضي بصفة إدارية بالموت على بعض الأفراد الذين ليست لهم قيمة جوهرية) فرجل مثل بيرون (لورد بيرون شاعر الإنكليز) يمكن أن يلقي في الماء منذ مولده؛ ورجل مثل هلدرلن الشاعر الهائم يمكن أن يعدم؛ ويصرح قانون العقوبات الجديد للطبيب بأن يعدم المريض الذي لا يرجى برؤه متى طلب إليه ذلك. وبعكس ذلك فإنه لما كان الفرد السليم مديناً بحياته للمجتمع، يعتبر الانتحار جريمة، ويعاقب الشركاء في محاولته. ثم إنه لما كان الشرف أثمن من الحياة، فإن القانون يعترف بإجراء المبارزة بين المتخاصمين.
ويكشف لنا المشترعون الهتلريون عن غايتهم النهائية فيما يأتي: ليس المجتمع هو الذي يكون غاية في ذاته، ولكنه الجنس أو الأمة؛ والعمل لعظمتها يجب أن يكون هو غاية الحياة لكل فرد.
إن النزعة الفردية وحدها هي التي تدفع الفرد إلى حب الإنسانية. ولكن الهتلريين باعتمادهم على القيم الاجتماعية، يجنحون إلى أهم عناصرها، أعني (القومية).
وعلى هذا فإن قانون العقوبات عندهم يقرر صنوفاً جديدة للجرائم؛ فمثلاً يعتبر (خائناً للوطن) من يجرج الاشتراكيين الوطنيين في عزتهم، أو يهزأ بإحتفالاتهم، أو يسخر من أغنيتهم، أو من ينوه بأعمالهم الهمجية؛ وكذلك من يتنقص من أقدار الأبطال الماضين، أو من يهين المحاربين القدماء. وهكذا نقلت الحماية الشرعية لشخص الإنسان إلى حماية الحزبوإلى حماية الأمة.
ثم إن الأمة عندهم تقوم على الجنس، ويجب أن يحتفظ الدم الشمالي القديم بنقائه وتفوقه. وعلى هذا فإنه ترتكب جريمة (خيانة الجنس) كلما امتزج الألماني (أو الألمانية) باليهود أو بالأجناس الملونة، أو إذا امتزج علناً بزنجي وجرح بذلك (العاطفة الجنسية) لأمته. ويعاقب الزنجي بعقاب أشد لاعتباره إنساناً منحطاً.
ونحن نعرف أن الهتلريين أصدروا في العام الماضي قانوناً للتجارة ينظم العلائق بين العمال وبين أصحاب الأعمال على أسس جديدة. وقانون العقوبات الجديد يتأثر بهذه الأسس؛ إذ المقصود أن ترتب بين المخدوم والعامل نفس العلائق التي كانت سائدة في العصور الوسطى بين السادة والأتباع. فالعامل يجب عليه الطاعة والإخلاص، ولا يستطيع بعد أن يتولى الدفاع عن نفسه بنفسه، بل يعتبر واقعاً تحت حماية المسيد، وعلى السيد أن يقوم بحماية مصالحه المادية والأدبية. صحيح أن قوانين العمل الاشتراكية (مثل قانون الثماني ساعات، وقانون التأمينات وغيرهما) لم تلغ، وصحيح إنها ما زالت تطبق، ولكن لا لحماية حقوق العامل، بل من وجهة اجتماعية مشتركة لأن القضاء على النزعات المتمردة يؤكد تعاون العمل ورأس المال.
فهل يعني ذلك كله إن حماية الفرد قد ألغيت بتاتاً؟ كلا؛ ولكن قانون العقوبات لا يهتم بشأن الفرد إلا باعتباره عضواً في
الجماعة، وعلى هذا فإن الملكية الفردية لا تجب حمايتها إلا بقدر ما يبديه المالك من السداد في إدارتها بحيث تعاون في تحقيق الخير العام. وفي القانون الفرنسي ما زالت تعرف الملكية بالتعريف الروماني القديم؛ فهي الحق في أن تتمتع بشيء وأن تستعمله أو تسيء
استعماله؛ والواقع أن هذا الحق قد قيد فيالعصر الأخير بقيود مازالت في ازدياد. ولكن الهتلريين يرون إلغاء المبدأ ذاته؛ فالملكية الفردية لا يعترف بها، وإنما يعترف بوضع اليد على الأملاك، بشرط إلا يتصرف الفرد فيها إلا في صالح الدولة.
وكذلك الأسرة تحميها نفس المبادئ العامة؛ فإنه يحظر على كل فرد (أن يتلف أو ينقص كفايته لإنتاج النسل).
وقد ذهب الهتلريون بعيداً في تحديد واجب الفرد نحو الأمة، فقرروا أن التضامن إجباري.
تلك هي الأسس الجديدة لهذا التشريع الهائل؛ وقد اتبع المشترعون الألمان إجراءات محاكم التحقيق (التفتيش) لكي يصلوا إلى غايتهم بأية وسيلة، وهي تحقيق خير الجماعة القومية وسيادتها، فجعلوا من القاضي شخصية مطلقة السلطة، وجعلوه مشرفاً دائماً على أخلاق الفرد، فمن يحاول غير الزعماء أن يميز نفسه من المجموع، كان عرضة للقبض والعقاب.
وإذا كان في هذه المبادئ ما يروع، فذلك لأننا منذ عصر الأحياء، ومنذ عصر الثورة الفرنسية بنوع خاص، قد شهدنا القوى الفردية تنمو وتتسع إلى أعظم حد، ولم يفعل الإصلاح الاشتراكي في عصرنا شيئاً لوقفها. واليوم وقد انتهت الفردية إلى هذا الإفراط، فإن الرجعة التي كانت تبدو مستحيلة بالأمس تصبح اليوم محتومة. ذلك أن الحرب، والأزمة الاقتصادية، وروح الأثرة المتسلطة على المنتجين، وكبرياء عظماء الفنانين، قد أدت إلى الرجعة الجماعية الحاضرة؛ وسوف تنتهي هذه النزعة بلا ريب إلى صنوف جديدة من الإفراط، وإلى تناسق لا يطاق. ولعلنا نرى الفردية والنزعة التعاونية وهما النزعتان الجوهريتان المتناقضتان اللتان تتجاذبان الإنسان، تنتعشان، وتشرفان بالتناوب على الحركات الاجتماعية، دون أن يتحقق بينهما توازن ما؛ والتوازن كمال يناقض الحياة ذاتها.
القصص
من أساطير الإغريق
بسيشيه وكيوبيد
للأستاذ دريني خشبة
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
فلما كان الغسق سمعت إلى الباب ينتفح، ويدخل فتى خفيف الخطى، ويقبل عليها فييحي أحسن تحية بأرق صوت، ثم يستأذن فيجلس إلى جانبها.
وكان الظلام شاملاً، فلم تستطع بسيشيه أن تتبين وجه الجالس إليها أو خلقه، ولكنها كانت تسمع إلى موسيقى تمتزج بصوته الحنون، وكانت تحس كأن عبرات تكاد تخنقه، لأنه يريد أن يبوح بشيء يمنعه الخجل من البوح به. . . واقترب منها. . .
وأخذا في حديث شهي، ولكن الحياء كان ما يزال يعقد لسانيهما. . .
وأقترب منها كذلك. . .
وتماست الأجسام المرتجفة، وليس كتماس الأجسام مفرجاً عن الحب!
وأخذ الحبيب يد حبيبته بين كفيه، فانتقلت الحرارة من هنا إلى هنا، ثم دنا الفم من الفم، واستراح الخد على الخدن، وبدأ طوفان القبل. . .
وتمتم كل من الحبيبين بهذه الكلمة السماوية الخالدة:
(. . . أنا. . . أحبك. . .)
- (كأنك أنت أيها الحبيب الصغير الذي أنقذتني من براثن الموت!!)
- (أجل يا منية النفس، ورجية القلب، بمعونة الإله الرفيق زفيروس).
- (أفأنت إله إذن؟)
- (لا أستطيع أن أذكر لك من ذلك الآن شيئاً. . .)
- (إذن ما اسمك؟)
- (ولا هذا أيضاً!)
- (أحب أن أراك، فهل تأذن بإيقاد المصباح؟)
- (إذا حاولت أن تريني، كان فراق بيني وبينك!!).
- (أنت تزعجني أيها الحبيب الصغير. . .)
- (ولم أزعجك؟. . . ألست قد أنقذتك من الموت، وأسكنتك هذا القصر المنيف، ولست أمن عليك!!).
- (برغم هذا فأنك تزعجني. . .)
- (هاتي قبلة. . . ودعى هذا الحديث الشاجن. . .)
- (. . . .؟. . . .)
وظل يزورها كلما أقبل الليل، فيمكث معها حتى مطلع الفجر آخذين في عناق وقبل، وحديث ألذ من قطع الروض، وأروح من رفيف النسيم؛ ثم يفصل على أن يعود لميعاده من اليوم التالي. . . وبسيشيه راضية قانعة، لا يضيرها إلا تعرف من هذا الحبيب الوفي. . . ولا ما يكون اسمه. . .
وذهبت تنشق أنفاس البحر فوق الشاطئ الطويل المزهر فلقيت أختيها فجأة تخرجان من زورق جميل، فتعانقهما عناقاً حاراً، ويغمرها للقائهما فرح كبير، وتعود بهم إلى القصر، وتطوف معهما حدائقه وغرفاته، وتقف عند الصور والتماثيل ونافورات الزئبق؛ وتدخلهما (هيكل الحب) كما إتفقت وحبيبها أن يسميا المخدع؛ ثم تقص عليهما قصتها منذ اعتزامها الإنتحار إلى أن تلقاهما. . .
وتكون الغيرة قد أنشبت أظفارها في فؤادي الفتاتين، ويكون الحسد قد شاع في نفسيهما الخبيثتين، فتضمران لها الشر المستطير.
- (ولكن كيف تطمئنين إلى هذا الحبيب يا أختاه؟ إلا تخافين أن يكون غولاً أو هولة أو سعلاة؟ لماذا إذن يأبي عليك أن تنظري إليه؟ أليس يخشى أن تفزعي من إذا رأيته على حقيقته؟ أيغرك منه كلامه الناعم الموشي؟ لا يا أختاه! نحن نخشى أن يقلاك يوماً أو يجفوك فيقتلك. . .! لابد أن تأخذي حذرك منه! ولابد أن تنتهزي فرصة يكون غاطاً في نوم عميق فتوقدي المصباح وتنظري إليه، فإن كان وحشاً أو هولة، فإليك هذا الخنجر المرهف فأغمديه في قلبه واستريحي منه، وعودي معنا إلى أبينا الملك فإنه جد مشتاق إليك. . .)
ودفعتا إليها الخنجر المسمم بغلهما، وولتا عنها تختبئان في أجمةٍ دانية. . . .
وفعل كلامهما في قلب أختهما فعله، فلما كان الليل، وغفا الحبيب الصغير مما ألم به من سكرة الحب، نهضت بسيشيه إلى مصباحها فأوقدته، وإلى الخنجر فشرعته، وذهبت تنظر إلى العاشق البريء. . .
فماذا رأت؟
أجمل مخلوق على وجهك أيتها الأرض!. . .
لقد كان نائماً حالماً، فيه دعة وفيه فتون. . . وملأ الفتاة حباً. . . فارتجفت. . . واهتز المصباح فأيقظته. . . وفتح عينيه. . . فرأى إلى الخنجر المرهف في يمين بسيشيه. . .
يا للهول. . .!!
لقد قفز الحبيب قفزة هائلة، ورف بجناحيه الصغيرين، وقال:(بسيشيه. . .! ياشقية. . .! وداعاً. . .! فلن نلتقي بعد اليوم!!) وشاعت الحسرة في قلب الفتاة فسقطت على الأريكة من الجزع والإعياء. . .
ما كاد كيوبيد يرف بجناحيه فيغادر القصر حتى امتلأ المخدع أرواحاً شريرة طفقت تهاجم نفس بسيشيه في شدة وعنف، وكلما نظرت هنا أو هناك رأت أفعوانات هائلة تنفث الموت الأسود من أنيابها البارزة الحواني، ثم أحست كأن القصر يرتجف ويميد، ويكاد ينقض، فهرعت إلى الخارج مهرولة، وهرعت في أثرها المخاوف والأشجان، يحدوها الذعر والفزع الشديد.
ونظرت في السماء فلم تجد قمرها المنشود تبثه وتشكو إليه، بل وجدت سحباً قاتمة تنعقد في المشرقين والمغربين، والودق يخرج من بينها كما تخرج الزفرة من صدر المكروب! وبدأت العاصفة الهوجاء تزلزل الجزيرة وتميد بالدوح وترفع شياطين الموج فتجرف العامر واليباب!
وأخذت الرياح الهوج تلاحق الفتاة حيثما ذهبت، وترجم وجهها الكاسف المغضن بجمرات البرد أيان ولت.
ووهنت أعصابها فراحت تصيح فوق الشاطئ كالذي يتخطفه الشيطان من المس، فلما لم يلب نداءها أحد، انثنت نحو القصر، وأطوفت بالأسوار تتفقد الباب الكبير الضخم. . . ولكن. . . هيهات! لقد كان السور كتلة واحدة ليس بها منفذ، ولم يكن غارقاً هذه المرة في
الطوفان الزاخر من أزهار الشيبر والياسمين والبابونيا، وكان عالياً على غير عهدها به، حتى كاد يستتر وراءه القصر الباذج؛ فلما استيأست من الدخول، وشعرت بقلبها يتحطم، وبنفسها تذهب شعاعاً، استلقت على الكلأ، واستسلمت لنوم ممتلي بالأشباح.
وأشرقت الشمس فاستيقظت بسيشيه، وتلفتت حولها فلم تر السور ولم تجد القصر، وفركت عينها تخال أنها تحلم، ولكنها ترى الجزيرة جرداء إلا من شجرات قليلة من الشاهبلوط؛ وإلا من غدير صغير به بقية غير مباركة من الماء النمير. . .
وبكون صوابها قد ثاب إليها، فتمم شطر الشاطئ تتفقد وروده ورياحينه، ولكنها لا تجد إلا آلافاً من السراطين الميتة لفظها البحر فعل العاصفة، وإلا أكواماً من الودع والمحار تجلل كثبان الرمال الممتدة فوق الجزيرة، كأنها قوافل من آلام بسيشيه وأشجانها!
(ويلاه!
(لقد حملت إليك أيتها الجنة الصغيرة وبردك برد الشباب، وريعانك ريعان الصبي، وفي أعطافك تنهل سلافة الحب، وتحت شطئانك ترقص عرائس الماء، وفي غدرانك تترقرق أمواه الهوى؛ وكل ما فيك تدب فيه حياة إلهية ناضرة.
(أفهكذا يذبل شبابك، ويذوي ريعانك، ويغيض حبك وتفقر شطئانك، فليس يرف فوقك إلا هامة، ولا يهتف فيك إلا صدى الوحشة، ولا تهب ريحك إلا كأنفاس الجحيم؟!
(ويلاه!!
(لقد كنت أفرك عيني أحسبني منك أيتها الجنة في حلم، الآن أفرك عيني أرى هل أنا من خرابك اليوم في حلم؟!
(لقد نعمت بالحب فوقك أيتها الجزيرة، فلماذا لقيت أختيَّ؟! أين ذهبتا؟ 1 أحسبهما ذعرتا من العاصفة، وفزعتا من الزلزال، ففرتا. . . فصبر جميل!!. . .).
هكذا ظلت تبكي بسيشيه، وهكذا غبرت بها الأيام فوق الجزيرة تنظر أوبة حبيبها. . . ولكن. . . بلا جدوى!!
وكانت تأكل ثمرات من الكستناء تذهب بها سغبها، وترشف من بقية الماء في الغدير رشفات تبل بها أوامها، ثم تعدو في الجزيرة باحثةً عن. . . لا شيء!!
ووقفت يوماً عند ضفاف الغدير ترتوي، فما شدهها إلا أن ترى الماء يزداد ويزداد، والغدير
يتسع ويستع، حتى تكون على عدوة نهر عظيم دافق، تزخر أمواجه وتجرجر أواذيه. ويبدو لها أن تلقي بنفسها في أعماقه، لأنها لم تعد تحتمل هذا الألم المتصل والشجن الطويل الممض. . . وإنها لتنظر إلى الماء فيجيش قلبها بالذكريات، وتفيض عيناها بالدمع، ويشجب جبينها الكاسف الحزين، ثم يتأود غصنها اليابس الهش، فتنحدر إلى اليم، وتتلقفها اللجة.
ولكن رب النهر الذي كان واقفاً يسمع ويرى يسرع إلى الفتاة فينتشلها، ويصيح ببناته عرائس الماء فيأتين من كل فج عميق، ويترفق باللاجئة الشقية فيواسيها بكلمات تقطر حناناً وتفيض رحمة، ثم يتركها لبناته يداعبنها ويلاعنها.
وتأنس بسيشيه إلى العرائس الحلوة، ولا يخجلها أن تأخذ معهن في حديث حبها، فإذا سألنها عن صفة حبيبها، قالت:(كان صغيرا كالطفل إلا حين يكون في ذراعي، مسنداً رأسه على صدري، فيكون إذ ذاك أكبر من الدنيا بما فيها من مباهج ومفاتن. وكان طيب الأنفاس، فما قبلني أو قبلته إلا شممت عبق الورد في فمه، وأرج البنفسج في خده. وكان إذا عانقني أو عانقته، تحسست له جناحين على ظهره، صغيرين ناعمين، فإذا ساءلته عنهما، أنكر عليّ وصرفني برفق ودعة عن الحديث عنهما، فنأخذ في أمور أخر. وكان يحمل قوساً من ذهب ما تفارقه، وكنانتين من حرير فيهما سهام من رصاص وذهب. . . وما دهاني في الليلة المشؤومة إلا أن أراه يثب من النافذة، فيحلق في كبد السماء كأن له قصراً فيها. . . فبحق زيوس عليكن يا عرائس إلا ما أعلمتنني من هذا الحبيب، فأنتن بنات إله مبارك، ولابد أن يعرف أبو كف من أمره كل شيء).
وصمتت بسيشيه، ونظرت إلى العرائس فرأتهن يحدجنها نظرات دهشةٍ حائرة، ثم يتهامسن، ثم لا يحرن جواباً؛ فقالت لهن:
(أنتن تزعجنني يا عرائس، فهل هكذا يلقي الضيف لديكن؟)
فقالت كبراهن: (لا عليك يا فتاة، ولكنك كنت أتعس مخلوقة على وجه الأرض حين عصيتِ أمر كيوبيد!!)
- (كيوبيد؟ ومن كيوبيد تعنين؟!)
- (كيوبيد بن فينوس، فهو هو الذي كان يهواكِ وكنتِ تهوين!!؟)
- (كيوبيد الإله! كيوبيد حبيبي! يا ويح لي. . . لابد أن يعود لي إلهي الجميل الحبيب. . . لن تحلو لي الحياة بدونك يا كيوبيد. . .)
هامت بسيشيه على وجهها في أقصى الأرض، وكلما مرت بروضة أو ميضة، وكلما وقفت عند ضفاف نهر أو ألمت بحفافي غدير، برزت لها عرائس الماء فشكت إليهن، وسألتهن إن كن يعرفين أين يأوي كيوبيد؟ وقالت لها عروس:
- (أترين يا فتاة إلى هذا الجبل البعيد الذي يحمل السماء بروقيه؟ إذا كنت عنده فتلبثي حتى يعود بان من صيده فتعلقي به، واذرفي من دموعك تحت قدميه، فإذا هش لك وبش، فاذكري له حاجتك يقضيها لك، أو يدلك على من عنده قضاؤها).
- (ومن عسى أن يكون بان يا أختاه؟).
- (رب المراعي، وإله الصيد، وحامي القنص. ألم تقربي له؟ ألم يفعل أبواك؟).
- (بل فعلنا. . . . .).
ونهدت إلى الجبل وكأنما بها عُقل من الجنون، وجعلت تطوف به حتى مالت الشمس إلى الغروب، فرأت (بان) قادماً يدب بحافريه، ويردد في الآكام ناظريه؛ فلما لمحها أقبل عليها دهشاً متعجباً، ثم أخذ يتفرس فيها كأنما بهره حسنها، وسباه منظرها. . .
وشكت إليه، فما هالها منه إلا قوله:(تعسة! أنت غريمة فينوس!!) فقالت، وفي عينها دموع تخنق منطقها:(غريمة فينوس؟ ومالي أنا ولفينوس؟) فقال بان: (جمالك هذا جنى عليك. . . لقد صرف الناس عن ربة الجمال والحب إلى عبادتك أنت أيتها الشقية، ولذلك حنقت عليك، وأصابك من الأذى ما أصابك. . . اسمعي يا فتاة. . . لقد مررت اليوم بربة الخيرات ديميتير؛ هل تعرفينها؟ أُم برسفونيه، فتاة الربيع التي خطفها أخي بلوتو لتؤنسه في هيدز! مررت بها فسمعتها تتحدث عن كيوبيد وهيامه بك! بك أنت! أليس اسمك بسيشيه؟).
- (. . . . . . . .؟. . . . . . . .)
- (تحملي إليها إذن. . . . . إنها ليست بعيدة من هنا. . . إنها شفيقة رفيقة، وهي ترثى لأمثالك من العاشقات الوامقات؛ تحدثي إليها عن كيوبيد واستمعي إلى ما تقوله لك وتشير به عليك. . . أترين إلى هذه الغابة الملتفة الوارفة؟ إنها هناك تنتظر ابنتها في أوبتها من
هيدز).
وعجلت إلى الغابة، ولقيت ديميتر الطيبة الوقور، فانحنت تحييها، وما كادت تسرد شاكتها حتى انهمر الدمع من عينيها الحزينتين، وتخاذلت فخرت مغشياً عليها!. وتقدت ربة الخير فباركت الفتاة، وطفقت ترش على وجهها الماء من غدير قريب، فكان الزهر ينبت حول بسيشيه كلما أنتثرت قطرات على الأرض فلما أفاقت، بهرها هذا السرير الربيعي من منضود الورد يحف بها، ويحنو عليها. . . حنو المرضعات على الفطيم!
وبسمت ديميتير، وواست الفتاة الوالهة وآنستها، ثم ذكرت لها إنها رأت كيوبيد بكرة ذلك اليوم، وفي كتفه جرح دامٍ أحدثته فيه أمه فينوس، لماذا؟ لا يدري أحد! - (. . . فإذا كان لابد لك من لقاء كيوبيد، فأذهبي إلى فينوس وتبتلي إليها، وأدخلي في خدمها وحشمها، وأثبتي لها بتفانيك في طاعتها أنك من عبادها المخلصين؛ عسى يا بُنية أن ترضى عنك، ويذهب عنك هذا الحزن. . .)
ثم قادتها إلى قصر فينوس، وزودتها بما ينبغي لها من النصح، وعادت إلى غابتها الوارفة تنتظر برسفونيه.
وبرهنت بسيشيه على حسن إخلاصها وجميل توبتها، وكانت ربة الحسن تسخرها فيما لا طاقة لبشر به، فكانت تقوم بما تُكلف به وتؤديه خير الأداء.
وأعجب ما حدث لها من ذلك أن أمرتها فينوس بالتوجه إلى هيدز - دار الموتى - وإقتحامها، ثم لقاء برسفونيه، ربة الربيع، وزوج بلوتو، وسؤالها صندوق الطيب الذي تدهن عنه العجوز الشمطاء فيرتد إليها صباها، ويتدفق ماء الشباب في أعطافها، وتعود كما كانت، شرخ صبى، وعنفوان شباب!
وأسقط في يد بسيشيه! ولم ترد كيف السبيل إلى هيدز!! ولكنها حين ذكرت برسفونيه، بدالها أن تذهب إلى فتستشير أمها ديميتير عسى أن ترشدها أو تزودها خالص نصيحتها. فذهبت إلى الغابة، ولقيت لحسن حظها ديميتير تودع أبنتها، لتعدو أدرجها إلى هيدز، إذ كان الربيع الحلو قد صوح، وأزف الشتاء ببرده وزمهريره. . .
وهشت لها ديميتير، وعقدت بينها وبين أبنتها أواصر الصداقة، ولما حان موعد الافتراق، أبدت بسيشيه رغبتها في أن تصحب ربة الربيع لتؤنسها في ظلمات دار الفناء. فلم
تعارض الفتاة، بل أذنت لها راضية.
وسارا بين صفين من أرواح الموتى تغني وتنشد. . . وتبكي!! وكم كان عجب بلوتو شديداً حين لمح الفتاة الرشيقة الهيفاء تسير إلى جانب زوجته، وبلغ به التأثر مبلغه، فغادر لهما غرفة العرش المظلمة. . .
وتلطفت بسيشيه فسألت مليكة هيدز صندوق الطيب الثمين؛؛؛ فوجمت برسفونيه؛ وكانت على وشك أن ترفض هذا الطلب، لولا أن ذكرت الفتاة أن فينوس هي التي أرسلتها لتطلبه وتجيئها به. فنهضت برسفونيه إلى دولاب قريب، وعادت بالصندوق، ترتجف به يدها العاجية الجميلة، وقدمته للفتاة وهي تقول:
(لاتفتحيه. . . لا تفتحيه أيتها الصغيرة!!).
واستأذنت بسيشيه، وعادت أدراجها إلى. . . هذه الدار الأولى.
وفي طريقها إلى قصر فينوس، ذكرت كلمات ربة الجمال عما يحتويه الصندوق من دهان يرد القليل منه جمال الشباب وريعان الصبى. . . وذكرت كذلك تلك الليالي الطوال التي ظلت فيها مسهدة العينين تبكي كيوبيد وتحن إليه، حتى شفها الوجد، وأوهنها السقم، وبرح بها الهيام الشديد؛ فتحدثت إلى نفسها تقول:(فلم لا أدهن بقليل منه وجهي وبشرتي؟ ولم لا أرتد جميلة كما كنت، ما دمت أطمع في لقاء كيوبيد؟ أن ربة هيدز حذرتني من فتح الصندوق، لا أدري لماذا؟ فإذا كان ما به شر، فلم تريده فينوس الجميلة؟ لا! لابد أن أتطيب به، وليكن بعدها ما يكون!!).
وداعبت أناملها الصندوق ففتحته. . . ولكن. . . وا أسفاه!! لم يكن به غير هذا الروح الشرير المنكر. . . روح النوم. . . ولقد وثب في وجه بسيشيه فخلق في عينها الزرقاوين الصافتين، ثم ما هي إلا لحظة حتى انكفأت المسكينة على الحشيش المندى تغط في نوم عميق. . .!!
وكان كيوبيد يتنزه في الحدائق المجاورة، فما دهاه إلا أن يرى ملاكه المحبوب ممدداً على الكلأ، وصدره يعلو ويهبط، كأن كابوساً مستقر عليه.
ودنا إله الحب من بسيشيه، وسرعان ما هاجت به ذكريات غرامه الأول، وثار في قلبه الحنين إلى الليالي المقمر الحلوة التي كان يقضيها إلى جانب الرشأ الغرير، الذي يترنح
أمامه في قبضة الروح الشرير. . . روح النوم!
ونظر كيوبيد بعينيه السحريتين، فرأى الروح يصارع بسيشيه صراعاً هائلاً. . . . فثارت فيه نخوة الوفاء، وأنفذ إلى العدو سهاماً متتابعة متلاحقة، حتى قهره، واضطره إلى العودة من جديد إلى الصندوق الصغير، وما كاد يستقر فيه حتى أغلقه عليه، ودفنه في غورٍ من الأرض.
ثم تقدم إلى حبيبته، وطفق يروح على وجهها، ثم أيقضها بقبلة أهتز لها الروض، وطرب الورد، وشاعت في الطبيعة الضاحكة أسراً وسحراً!!!
(أختاه!! أنهضي! انظري إليَّ! هأنذا كيوبيد! هلمي فلن نفترق بعد اليوم!!).
وأغذا السير، حتى إذا كانا في دولة الأولمب صاح كيوبيد في معشر الآلهة:(أن أشهدوا أيها الأرباب، لقد اخترت بسيشيه الجملية زوجة لي مباركة. . . .) وطرب الآلهة، وأقيم المهرجان الفخم؛ ورقصت ديانا ربة القمر، وعزف أبوللو على موسيقاه، وتقدمت فينوس فباركت الزوجين الحبيبين، ورسمت بسيشيه ربة للروح الخالدة التي لا تفنى. . . ومنذ ذلك اليوم وهي ترف بأجنحة فراشة جميلة في جنة الأولمب، وإلى جنبها حبيبها كيوبيد.
دريني خشبة
البريد الأدبي
حول كتاب فتح العرب لمصر
عزيزي الأستاذ الفاضل صاحب (الرسالة)
قرأت اليوم في (الرسالة) الغراء صحيفة النقد التي تسميها (الرسالة) صحيفة (الكتب)، وقرأت فيها للأستاذ الجهبذ العلامة محمد بك كرد على كلمتين، إحداهما عن كتاب (فتح العرب لمصر)؛ والثانية عن كتاب (فنون الطهي الحديث).
ولقد عناني أن أقرأ ما كتبه الأستاذ الفاضل عن كتاب فتح العرب لمصر بنوع خاص، لأن ذلك الكتاب حبيب إلى نفسي لصيق بها. ورأيت الأستاذ الفاضل يذكر عن الكتاب بعض حسناته فشكرت له ذلك، فالكتاب جدير من الناطقين بالعربية بكل تقدير وإعجاب، إذ هو مثل عال من أمثلة البحث الدقيق العادل، فوق ما يمتاز به من قوة الأسلوب وجماله في لغته.
ثم عرج الأستاذ على الترجمة والمترجم، فتفضل بأن وصف المترجم بأنه أعتني عناية شديدة (بتجويد ترجمته على صعوبتها لما حوت من النقول العربية وغيرها من اللغات ليرد الوثائق إلى أصلها). ثم ذكر ما سماه تحريفاً في الأسماء، وذكر من ذلك أمثلة على إني وإن شكرت له قوله إن المترجم قد عنى بالترجمة عناية (شديدة) أرجو أن أراجعه في زعمه أن ترجمة تكون محرفة إذا قلنا هي (أذاسا)، فإن إطلاقي ذلك الاسم على المدينة كان مقصدواً، فالمدينة معروفة بالرها وبأذاسا، والاسم الثاني أقرب إلى التسمية العامة في اللغات المختلفة، فكان هذا سبباً في تفضيل (أذاسا) على الرها؛ وأما برجاموس أو فرغاموس فلا أدري وجه التحريف فيها، فإن الباء والفاء والجيم والغين كانت دائماً موضع اختلاف في وضع العرب للاسماء، ولا سيما المحدثين منهم، وقد آثرت أن أكتب الاسم بالعربية قريباً كل القرب من الاسم القديم الذي كان ولا يزال معروفاً يطلق على المدينة التي كانت في آسيا الصغرى. وأما (أفسس) و (أفيسوس) فلم أفطن إلى وجه التفرقة بينهما، ولا إلى وجه التحريف في الاسم الذي أوردته في الترجمة، فليس بين الكلمتين من فارق إلا إثبات حركات الكلمة على النحو الذي يسهل النطق بها.
على أن الأستاذ الفاضل لم يكتف بعد ذلك بتوجيه النظر إلى هذا التحريف الذي زعمه، بل
ذكر كلمة عامة عن (هنات قليلة) لا يخلو منها كتاب منقول إلى لغتنا من لغة أعجمية؛ وكنت أود أن يجعل حضرته من ذلك الوجه بحثاً قيماً يوجه فيه الترجمة وجهةً صالحة، غير أنه أكتفي بالتعميم والإشارة والإيجاز في موضع كان الأوجب فيه الإفاضة والإطناب، ذلك بأن عمل المترجم إن هو إلا النقل، وما يكون نقله جديراً بالتقدير إلا إذا سلم من العيوب التي تؤخذ على أساليب اللغات الأعجمية. ولعل اشتغال الأستاذ الفاضل بالكتابة عن الكتاب الآخر (فن الطهي الحديث) في نفس اليوم قد جعله لا يجد الوقت لذكر شيء من تلك الهنات، فرجاؤنا أن يتفضل بإعادة الكرة وبيان ما أجمل؛ ورجاؤنا كذلك أن يبين وجه النقد حتى نكون على بصيرة من رأيه، نفعنا الله بعلمه وفضله وعلى أمثاله من أعلام العلماء.
محمد مزيد أبو حديد
وفاة دريفوس
من أنباء فرنسا الأخيرة أن الكولونل ألفرد دريفوس قد توفى في الخامسة والسبعين من عمره، ولم يشتهر في تاريخ فرنسا المعار اسم بقدر اسم دريفوس، ولم يقترن باسم آخر مثل ما أقترن به من الحوادث والحركات العظام؛ كان اسم دريفوس منذ أربعين عاماً ملء الأسماع في فرنسا والعالم بأسره، وكانت القضية الشهيرة التي ارتبطت باسمه، واتهم فيها ظلماً بالخيانة، أعظم قضية عرفها التاريخ من حيث أتساع مداها، وتشعب نواحيها، وتعقد إجراءاتها، وما أثارته مدى عشرة أعوام في فرنسا من الأحقاد والشهوات التي كادت تزلزل أسس الحياة العامة فيها وتثير ضرام الحرب الأهلية. وقد كان دريفوس يهودياً، وهو سر المسألة كلها؛ فقد كانت الخصومة السامية أو حركة العداء ضد اليهود يومئذ على أشدها في معظم البلاد الأوربية، وكانت الكنيسة والعسكرية في فرنسا تضطرمان بهذا العداء، وكانت قضية دريفوس نفثة من نفثات هذه الحركة التي أريد بها القضاء على اليهودية في السياسة والجيش فاتهم دريفوس الضابط اليهودي (سنة 1896) بالخيانة العليا، وبأنه يقدم إلى بعض البلاد الأجنبية (ألمانيا) معلومات عن الدفاع الفرنسي، وضبطت ورقة سميت فيما بعد (بالبردرو) نسبت إلى دريفوس، وحوكم الضابط البريء وقضي عليه ظلماً بالنفي إلى
جزيرة الشيطان؛ ولكن العدالة لم تعدم أنصاراً؛ فقد أثار خصوم العسكرية وخصوم الكنيسة على هذا القضاء الظالم دعاية شديدة؛ وبذلت جهود قضائية وسياسية فادحة لتبيان براءة الضابط اليهودي، وتبين فيما بعد أن (البردرو) وقد زُور عليه؛ وما زالت المعركة بين (الدريفوسيين) وبين الوطنيين خصومهم تضطرم وتنتقل من دور إلى دور حتى تقرر إعادة النظر في القضية مرةً بعد مرة؛ ونزل إلى المعركة كتاب عظام مثل فرانسوا كوبيه في جانب الوطنيين، وأميل زولا في جانب (الدريفوسيين)؛ وأرسل أميل زولا صيحته الشهيرة:(إني أتهم!)؛ أي يتهم القضاء والعسكرية بالتآمر والتزوير، واستمرت المعركة نحو عشرة أعوام أعيد النظر خلالها في القضية عدة مرات، وانتهت أخيراً محكمة النقض بأن قضت ببراءة الضابط اليهودي (سنة 1906) وردت إليه مراتبه وحقوقه، وأسدل الستار على تلك المأساة الشهيرة التي هزت حياة فرنسا العامة أعواماً طوالاً.
هذا وسنفرد في فرصة قادمة فصلاً خاصاً لهذه القضية الشهيرة، التي تعتبر من أعظم قضايا التاريخ.
السخاوي
سيدي الأستاذ. . . قرأت بالرسالة بالعدد 104 كلمة الأستاذ البحاثة مقريزي هذا العصر محمد عبد الله عنان في ترجمة السخاوي ما لفظه: (ونجد أخيراً في تراث السخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة، وقد انتهى كلاهما إلينا: أولهما كتاب تحفة الأحبابا وبغية الطلاب. في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) إلخ. . .
والواقع إن هذا الكتاب كما ذكر العلامة النبهاني في كتابه (جامع كرامات الأولياء) ليس للحافظ السخاوي إذ قال عاطفاً على ما إستمد من الكتب ما لفظه: (وتحفة الأحباب في الكلام على الأولياء المدفونين بمصر للسخاوي من أهل القرن التاسع وهو غير الحافظ السخاوي) أه وذلكلأنه ذكر في فاتحته أن اسمه محمد بن أحمد الحنفي، وقد ذكره ابن مخلوف في طبقات المالكية وأنه فرغ من تأليفه سنة ست وخمسين وتسعمائة، وأنه كان حياً سنة ستين وتسعمائة، فنسبة كتاب تحفة الأحباب للحافظ السخاوي المتوفي بالمدينة المنورة سنة تسعمائة واثنتين خطأ دخل على كثير من أهل العلم يجب إلا يضيع ولا يفوت على الباحثة عنان. . . فلذلك لزم التصحيح، وإني أحيل الأستاذ عنان على كتاب مصرع الإمام
الحسين ليزداد علماً والسلام.
(جرجا)
محمود عسّاف أبو الشباب
منتدى النشر بالنجف
تألف في النجف هذا المنتدى من صفوة العلماء والأدباء للسعي إلى تعميم الثقافة الإسلامية والعلمية، وإحياء لغة الضاد، ونشر المعارف الدينية والأخلاقية في ربوع البلاد بكل ما لديه من شتى الوسائل المشروعة.
وهاهو ذا اليوم في أول أدواره يضع الخطط التي تساعده على إنجاز مهمته العالية وتحقيق رغبته المنشودة ومن بينها دعوة العلماء والمؤلفين إلى مشاركته ومساعدته بأقلامهم وثروتهم العلمية.
ويذيع مجلس إدارته أنه مستعد من الآن لتلقي كل سؤال أو استفتاء ديني أو علمي يرد عليه فيحيله إلى اللجنة المختصة للنظر فيه ولاستجواب العلماء ممن تشرف المنتدى بانتسابهم إليه ومن غيرهم من العلماء الأعلام.
المؤتمر الدولي السادس لتاريخ الأديان
قرر مجلس الوزراء اشتراك الحكومة المصرية في المؤتمر
الدولي السادس لتاريخ الأديان الذي سيعقد بمدينة بروكسل بين
16 و21 من شهر سبتمبر سنة 1935، وندب الأستاذين
مصطفى عبد الرزاق وأمين الخولي لتمثيل الحكومة في هذا
المؤتمر؛ وربما مثلا الأزهر بعد ذلك في المهرجان الذي
ستقيمه جامعة بودابست في أخريات شهر سبتمبر بمناسبة
إحتفالها بالعيد المئوي الثالث على إنشائها.
أحب شاعرة إلى الإنكليز
احتفل أخيراً في إنكلترا بالذكرى المئوية لوفاة مسز (هيمانس) الشاعرة المؤترة التي تعرف في الأدب الإنكليزي (بحبيبة إنكلترا) وكانت وفاتها في مايو سنة 1835. وهي شاعرة العواطف، وشاعرة الأمومة الرقيقة، ومسرات الأسرة والورع والرضى؛ وما زال شعرها الرقيق في كتابيها (كازابيانكا) و (قبور العائلة) مثالاً للنظم الأنيق المبدع الذي يملأ القلب سحراً وتأثراً. وكانت مسز هيمانس أستاذة للخيال الواضح والصور الرقيقة والانفعالات العميقة؛ وكانت تتبوأ في عصرها مقاماً عظيماً في الشعر، ولو أن أسلوبها اليوم قد عفا؛ وكانت ثقافتها الواسعة، ومواهبها الفنية موضع الإعجاب، وكانت تشتهر بالأخص بخلالها الرفيعة وجلدها ورقتها وتوضعها، حتى كانت تحمل عباقرة العصر مثل وردسورث وشيللي وبروننج وبيزون على إحترامها وإكبارها. وكانت ظروف حياتها المؤثرة تزيد في هذا التقدير، فقد كانت مسز هيمانس تنظم لتعيش، ولم يكن يهمها اختبار الجيد من الشعر، وإنما كان يهمها اختيار أكثر النظم قبولاً وانتشاراً.
وقد قطعت مسز هيمانس حياة قصيرة مؤثرة. فقد تزوجت الكبتن هيمانس في الثامنة عشرة، ولم تمض ستة أعوام حتى رزقت منه أربعة أولاد، ثم لم يلبث أن غادرها وحيدة. وهنا يبدو نبل هذه الشخصية، فقد احتملت كل أعباء الحياة صابرة جلدة، لا يضلها جمالها الباهر عن الطريق السوي؛ وسرعان ما ذبل هذا الجمال في حياة ملئها الشجن وهموم الأسرة؛ وفي سن الحادية والأربعين غادرت مسز هيمانس هذه الحياة بعد أن طبعت أمومة العصر بطابعها، وتركت لجنسها تراثاً ما زال يحمل على التقدير والإكبار.
استدراك
كتب إليّ جماعة يسألونني عن مؤلفات الشيخ بدر الدين الحسني رحمة الله عليه فحققت عنها فإذا هي قد أحترق مسوداتها حين احترقت مكتبة الشيخ. ولست أعرف للشيخ مؤلفاً باقياً. أما الفقرة التي سقتها بين يدي مقالتي عن الشيخ في (الرسالة) الخامسة بعد المائة فهي من ترجمة الشيخ المنشورة في جريدة ألف باء الدمشقية صبيحة وفاته مكتوبة بقلم أستاذ كبير من كبار تلاميذ الشيخ رحمه الله.
وقد كتبت هذا التنبيه كيلا يسجل في (الرسالة) ما يوهم غير الحقيقة. و (الرسالة) سجل خالد. ومن حق (الرسالة) على كتابها إلا يكتبوا فيها إلا حقيقة، ومن حق قرائها عليها إلا يجدوا فيها إلا حقيقة.
علي الطنطاوي
الكتب
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: لأبى الحسن الأشعري.
التيسير في القراءات السبع: لأبى عمرو عثمان بن سعيد
الداني
للأستاذ محمد بك كرد علي
في مطبعة الدولة في استانبول طبعت لجنة (النشريات الإسلامية لجمعية المستشرقين الألمانية) هذين الكتابين المعتبرين. نشر الكتاب الأول منهما: العلامة ريتر. وكتب الأشعري مفخرة أهل السنة والاستقامة على كثرتها لم يطبع منها سوى كتابين في الهند: (الإبانة عن أصول الدين) و (استحسان الخوض في الكلام) وهذا الكتاب في مقالات الإسلاميين، هو الذي عنى بتصحيحه والتعليق عليه، ووضع فهارسه السيد ريتر، وقال فيه: إنه مهم في بابه لمعرفة فرق أهل الإسلام، لان تأليفه أقدم من (الملل والنحل) للشهرستاني و (الفرق بين الفرق) لعبد القاهر البغدادي و (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الظاهري، وأن الأشعري أدرك المتأخرين من المعتزلة وغيرهم من أهل المذاهب، فأضطر في نقل بعض ما ينقله عن أوائلهم إلى الأخذ من الكتب المؤلفة قبله في مقالات الناس مثل مقالات الكعبي والكرابيسي واليمان بن رباب وزرقان وغيرهم، وهذه قد ضاعت كلها.
وقد علل الناشر ضياع الكتب بقوله: إنه كلما كان الكتاب أقدم عهدا كانت نسخه أعزَّ وجودا واقل عددا، وذلك لعدة أسباب: منها استيلاء الفناء عليها بتقادم العهد، وجريان حكم الزمان عليها بالمحو والإفساد، ومنها ضياعها وتلفها عند استيلاء الإعداد على البلاد وجنايتهم على الكتب بالإحراق والانحراق، ومنها اعتداء بعض أهل المذاهب على كتب مخالفيهم، ومنها أن المعلمين والمدرسين الذين كان جلُّ همهم أن يضبطوا قواعد كل علم بأقصر لفظ، عمدوا إلى تهذيب مؤلفات من سبقهم، وتنسيق المباحث وترتيبها، ووصل كل بحث بما يجانسه، وضم كل فرع إلى اصله واختصروها إيثارا للإيضاح والتقريب، وتسهيلا للتعليم والتعلم، فاثر المحصلون كتبهم على الكتب القديمة من أجل ذلك فصارت المؤلفات السابقة
كأنها منسوخة باللاحقة فتركت ونسيت.
وكتاب مقالات الإسلاميين بحث مستوفى في المذاهب والفرق الإسلامية، لم يستعمل فيه مؤلفه السباب والمهاترة على ما وقع في مثل ذلك ابن حزم والبغدادي وغيرهما ممن كتبوا في مناقشة أهل الأهواء وأصحاب المقالات. فالأشعري عمد إلى لسان العلم يستخدمه في ذكر مقالات مخالفيه، وقد حوى كتابه فوائد تاريخية وسياسية ولاسيما في تدوين وقائع من طالبوا بالخلافة من العلويين في كل عصر، وفي أحكام الإمامة واعتقاد أهل الفرق فيها، وفي الحكمين والحكم عليهما بما فعلا. أطلق في كل ذلك العنان لقلمه حتى لا تكاد تستبين أن المؤلف خالف أصحابه المعتزلة في شيء، بل هو معتزلي تربية ومنشاً وربما جاءه الفيض من الأخذ عن علمائهم، وإلا ففيها عاديا من فقهاء عصره ومحدثيه.
وفي الكتاب وصف دقيق لمسائل علم الكلام وما أختلف فيه أرباب المذاهب، كتبه بلهجة سلسة يتفهما لأول وهلة حتى من ليس له أنسة بمثل هذه الأفكار والعبارات، وذلك لان المؤلف هضم ما تعلمه وتمثله، فوصفه بدقائقه وصفا قرَّبه من الأذهان. وهذه الموضوعات من أبحاث قدماء العلماء، واليوم لا يهتم لها إلا خواص الناس ومن هم بسبيلهم من طلاب العلم الديني.
والكتاب في مجلدين بلغا أكثر من ستمائة صفحة، هذا عدا الفهرس الذي وضعه الدكتور ريتر في أسماء الرجال والنساء، ذكر فيه المكان الذي وردت فيه تراجمهم تسهيلا على القارئ، وهناك فهرس بأسماء الفرق والطوائف، وثالث بأسماء البلدان والأماكن، وقد تجلى التوفيق والعناية في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب الذي يعدُّ بلا جدال من الأمهات في هذا الموضوع.
الكتاب الثاني هو (التيسير) في القراءات السبع للإمام أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني، نشره العلامة برتزل وقال في المقدمة التي وضعها له بالعربية: (إن علم قراءة القران أقدم العلوم الإسلامية نشأة وعهداً، وأشرفها منزلة ومحتدا، وكان أول ما تعلم الصحابة من علوم الدين حفظ القران وقراءته، ثم لما اختلف الناس في قراءة القران وضبط ألفاظه مست الحاجة إلى علم يميز بينالصحيح المتواتر، والشاذ النادر، ويتقرر به ما يسوغ القراءة به وما لا يسوغ، وقاية لكلماته من التحريف، ودفعا للخلاف بين أهل القران، فكان ذلك العلم
علم القراءة الذي تصدر لتدوينه الأئمة الأعلام من المتقدمين.
قال وفي الحق إن تدوين علم القراءة أفاد المسلمين فائدة لم تحظ بها أمة سواهم، وذلك أن البحث في مخارج الحروف والاهتمام بضبطها على وجوهها الصحيحة لتيسير تلاوة كلمات القران على أفصح وجه وأبينه، كان من ابلغ العوامل في عناية الأمة بدقائق اللغة العربية الفصحى وأسرارها، وكانت ثمرة هذا الاجتهاد والجهد أن القراء تشربوا بمزايا اللغة العربية وقواعدها ودقائقها. ومما يؤيد ذلك أن الكثيرين من قدماء النحويين كانوا مبرزين في علم القراءة، كما كان الكثيرين من أئمة القراء كأبي عمرو والكسائي بارعين في علم النحو.
ويرى الناشر أن على كل من يتصدى للنظر في تاريخ اللغة العربية ودرس المسائل التي تتناولها كتب النحويين، أو للبحث في تنوع اللغات واختلافها بحسب الأقطار والأمصار، ينبغي له أن يتتبع علم القراءة والتجويد؛ ومن شرع في درس معاني القرآن، واستقصاء لطائفه واستخراج حقائقه، ثم اعتمد على القراءة الوحيدة التي يجدها في المصحف الذي بين يديه فقط من غير التفات إلى رواية الأئمة الآخرين؛ فقد غفل عن أمر ذي بال أه.
والمؤلف كان شيخ مشايخ المقرئين في الأندلس، رحل في أخذ القراءات عن الأئمة في الشرق (وكان هو من الأئمة في علم قراءة القرآن، وطرقه ورواياته وتفسيره ومعانيه وإعرابه، ولم يكن في عصره ولا بعده من يضاهيه في قوة حفظه وحسن تحقيقه، ونقل عنه أنه كان يقول: ما رأيت شيئاً قط إلا كتبته، وما كتبته إلا حفظته، ولا حفظته فنسيته؛ وكان أيضاً عارفاً بعلوم الحديث وطرقه وأسماء رجاله، وبارعاً في الفقه وسائراً أنواع العلوم) خلف فيما قيل مائة وعشرين مصنفاً، لا يزال بعضها محفوظاً في بعض خزائن الكتب في الغرب والشرق، واعتمد الناشر في طبع كتاب التيسير على ست نسخ منها ما هو في دار الكتب ببرلين وفي دار الكتب في مونيخ وفي خزانة ليدن وبعض خزائن إستانبول.
وكتاب التيسير كما قال فيه مصنفه مختصر في مذاهب القراء السبعة بالأمصار، يتضمن من الروايات والطرق ما أشتهر وأنتشر عند التالين، وصح وثبت عند المتصدرين من الأئمة المتقدمين. افتتح كتابه بذكر أسماء القراء والناقلين عنهم، وأنسابهم وكناهم وموتهم
وبلدانهم، واتصال قراءتهم وتسمية رجالهم، واتصال قراءتنا نجن بهم، وتسمية من أداها إلينا عنهم رواية وتلاوة وأتبع ذلك بذكر مذاهبهم واختلافهم.
دمشق
محمد كرد علي