الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 108
- بتاريخ: 29 - 07 - 1935
2 - محمد حافظ إبراهيم
بمناسبة ذكراه الثالثة
كان حافظ في ميعة شبابه يطلب الثروة على قدر طموحه، والحظوة على قدر نبوغه؛ ولكنه طلبهما من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس، لا من طريق الواجب الذي يؤديه كل إنسان إلى المجتمع. فلما أخفق بالطبع لم يرد أن يعيش كما يعيش سائر الناس على العمل الميسور، وإنما ارتد ارتداد الأنوف المحتج إلى الفلاكة الشاعرة الصابرة، يحمل بؤسه على (حرفة الأدب) كما يحمل المؤمن رزءه على حكمة القدر؛ ثم عاش عيش الطائر الغرد: عمره ساعته، ودنياه روضته، وشريعته طبيعته، ودأبه أن يطير في الغيم والصحو، ويشدو في الطرب والشجو، ثم يسقط على الحب أينما انتثر!
ولقد كان من جريرة هذه الحياة النابية العقيم التي حيها حافظ أن قتلت فيه الطموح فلم ينشط إلى سعي، وأذهلته عن الغاية فلم يسر على مبدأ، ووقفته على الشاطئ فلم يتعمق في فلسفة، وشغلته عن الدرس فلم يتكمل بثقافة. كان مبدؤه الأدبي مبدأ اليوم، كما كانت حياته المادية حياة الساعة: رأى الآمال تتهافت حيناً من الدهر على أريكة الخديويه في مصر، وعرش الخلافه في الآستانة، فجرى لسانه بالشعر المطبوع في مدح عباس وتمجيد عبد الحميد؛ ثم اتصل بالإمام وشيعته من سراة البلاد وشيوخ الأمة، ولهم يومئذ في الإنجليز رجاء موصول وظن حسن، فصدرت عنه في هذه الفترة قصيدة في رثاء الملكة فكتوريا، وقصيدة في تتويج الملك أدوار السابع، وقصيدتان في وداع اللورد كرومر، عبر بهما عن الرأي السياسي الأرستقراطي في ذلك الحين؛ ثم خلص للشعب فلابس دهماءه وخالط زعماءه، واندفع بقوة الوطنية الدافقة الشابة إلى لواء مصطفى، فمزج شكواه بشكوى البلاد، وضرب على أوتار القلوب أناشيد الجهاد، ونظم أماني الشباب من حبات قلبه، وترجم أحاديث النفوس ببيان شعره؛ ثم عطف عليه الوزير الأديب حشمت باشا فأكرمه بالعمل في (دار الكتب)، وأجزل له المرتب طمعاُ في مواهبه، وثواباُ على فضله؛ ولكن الشاعر حمل الوظيفة على باب المكافأة المفروضة فاستراح للخفض، واستنام للدعة، وفتر عن قول الشعر إلا مدفوعاُ إليه من فترة إلى فترة؛ فلما خرج على (المعاش) انضوى إلى أعلام (الوفد)، واتصل بالزعيم اتصال النديم، وحاول أن يبعث في نفسه الشعر الوطني، ولكنه
كان قد أصفى. . .
وكان فكر حافظ فيض الشعور وعفو البديهة، ينشأ في الكثير الغالب من آراء المجالس، وأقوال الصحف، ومخزون الحافظة، فلم تعنه حياته على التروية، ولم يدعه اضطرابه إلى التأمل، ولم تطلقه قيوده إلى الطبيعة، وإنما ظل صنيعه لوحي البيئة، وإلهام الفطرة، وتوجيه المناسبة؛ فهو في قصائده للإمام يذكر تعلق الناس بالأباطيل، وتهالكهم على عبادة الموتى، ولا يزيد في ذلك على نقد الإمام ونعيه؛ وفي قصائده لقاسم يذكر الحجاب والسفور بما لا يخرج عن مذهبه ورأيه؛ وفي قصيدته التي أنشدها في احتفال مدرسة البنات ببور سعيد يتكلم في تعليم الأم وسفور المرأة وعيوب الجماعة بما لا جديد فيه؛ وفي قصائده التي نظمها في مشروع الجامعة وافتتاحها يجمل ما فصلت الصحف من الموازنة بين الإكثار من الكتاتيب وإنشاء الجامعة؛ وفي رثائه لتولستوي يذكر السلم والحرب، والخير والشر، والغنى والفقر، بما لا يبعد عن متناول الناس، ولا يرتفع عن مستوى الجمهور؛ من اجل ذلك كان فكره مستقيما لا ينحرف، وواضحاُ لا يلتبس، وسديداُ لا يطيش، والسر فيه اعتماده على قوة الإجماع، لا على غرابة الإبداع
وكانت ثقافة حافظ ثقافة الشاعر العربي الأول: يتزود لمجالس الملوك بالإخبار والطرف، ولمحافل الأدباء بالأشعار واللغة، ويستعين على ذلك بسلامة الذوق، وصفاء الطبع، وقوة الحافظة، وكثرة الاطلاع، وجودة الاستماع، وإلحاح الحاجة؛ ولحافظ في كل أولئك موضع منفرد ومكان بارز
عكف منذ شب على دواوين الشعراء وأجزاء (الأغاني) يتنخلها، ويتمثلها، ويعاود النظر فيها، ويستكمل الحظ منها، حتى بلغ من مختار الرواية ومصطفى الكلام ما لا غاية بعده؛ ثم قنع من فروع الثقافة الأخرى بنتف من المسائل الأولية، ينقلها عن السماع ويأخذها عن الصحف إذا ظن أنها تدخل بوجه من الوجوه فيما يعنيه من ابتكار الأسمار وصوغ القريض؛ حتى لغته الفرنسية ظلت بكماء فلم يتقنها ولم يستفد منها لا بالقراءة ولا بالترجمة؛ وثقافة الشاعر المدني المجدد ثقافة محيطة شاملة تشارك في ضروب المعرفة مشاركة بصيرة، وتتابع تقدم الفكر متابعة حرة
أما صياغة حافظ فهي موهبته الأولى ومزيته الظاهرة، وهو في ذلك ثاني الخمسة الذين
تيقظت على دعوتهم نهضة الشعر، وتجددت على صنعتهم بلاغة القصيد. ولعله انفرد عن هؤلاء جميعاُ بالصدق في تعبيره عن هموم قلبه، وتفسيره لأماني شعبه، وتصويره لمساوئ عصره
احمد حسن الزيات
في رأس البر
للأستاذ احمد أمين
يعجبني في رأس البر بساطة العيش والقرب من الديمقراطية. يعيش الناس - كما كان يعيش آباؤهم الأولون - في أكواخ من الحصر، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم؛ ويلبسون لباساُ ساذجاُ قريب الشبه بما كان يلبس آبائهم، ويسبحون في البحر عراة، ويمشون على البر حفاة؛ ملوا المدنية وزخارفها، والحضارة وبهرجها، وهربوا من المدن وضوضائها، والأرستقراطية وأوضاعها وتقاليدها وتعقيداتها، وارتموا في أحضان الطبيعة فأفسحت لهم صدرها، ينزلون البحر فينفضون عنهم هموم الحياة، وينبطحون على الرمل ويذكرون قوله تعالى:(منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)
ليس فيها قصور شامخة بجانب أكواخ وضيعة، وليس فيها ثريات كهربائية بجانب أضواء زيتيه أو غازية، ولا ملابس أنيقة بجانب أثواب مهلهلة؛ يصعب عليك التمييز فيها بين الغني والفقير، والعالم والجاهل، إلا في الآنسات والسيدات فهن يأبين إلا الظهور، والتمسك بالفروق، وإلا في أمثالهن ممن حليتهم لباسهم، وقيمتهم مظهرهم
خلف فيها الناس وراءهم المخترعات الحديثة بجلبتها ورذائلها؛ فلا سيارات تصم الآذان بأبواقها، وتأنف الأنوف من روائحها، وتربك السائرين لسرعتها وكثرتها واضطراب حركاتها؛ ولا تلفون يرن في الهجير وفي منتصف الليل فيوقظك من نومك الهادئ، ويحملك رجاء تنوء بحمله، أو يصلك بثقيل ينغص عليك الحياة بحديثه؛ ولا راديو يسمعك اللطيف والسخيف، ويأبى عليك النوم أحوج ما تكون إليه، وأشد ما تكون رغبة فيه، لأن جيرانك يأبون إلا أن ينتفعوا به كاملاُ من بدء يمين - شمال، إلى سلام الملك!
حياة حرة طليقة، وجو مفتوح، وهواء جديد دائماُ، لم تفسده الحضارة بدخانها وغازاتها، ولم تحبسه الأبنية الشامخة، ولم تحجزه الحيطان الأربعة، تتجدد النفس بتجدده، وتمتلئ نشاطاُ من نشاطه، يغذي كل خلية غذاء حلواُ طيباُ، ويخلع على الجسم لوناُ نجاشياُ ظريفاُ، وينعش العواطف والروح، فهي قوية حادة، شديدة التنبه، شديدة الإحساس؛ حتى عاطفة الدين، فهي أقوى ما تكون، واطهر ما تكون، وأصفى ما تكون، حينما تتجلى الطبيعة في ثوبها الفطري الجميل، في السماء والماء، والمزارع والحقول، فليس الإلحاد والزندقة والتعصب الذميم
وضيق النظر إلى وليد الحضارة المعقدة والجو الخانق، والفكر الراكد ودوران الفكر حول نفسه لا حول الطبيعة
في جو المدن لا يشعر الإنسان بالسماء إلا عند المطر، ولا بجمال الشمس ولا جمال القمر، ولا يلمس الطبيعة إلا إذا ساءت من شدة الحر أو شدة البرد! كل ما حوله من جمال جمال صناعي؛ قد استغنى بجمال طاقات الزهور عن الزهور في منابتها، واستغنى بثريا الكهرباء عن ثريا السماء، وبالحسن المجلوب عن جمال الفطرة وجمال الطبيعة وجمال الخلقة. وهيهات أن يتساوى منتحل وغير منتحل، فليس التكحل في العينين كالكحل!
إنما يشعر الإنسان بجمال الطبيعة يوم يخرج من المدينة إلى الريف، ويفرمن الحظر إلى البدو، فينكشف له الخلق بجماله القشيب، وتأخذ بلبه السماء في لا نهائيتها، والبحار في أبديتها، ويشعر شعوراُ قوياُ بأنه ذرة من ذرات العالم، وجزء صغير من أجزاءه، ضعيف بنفسه، قوي بكله، وأنه لاشيء يوم ينفصل عنه، وأنه نغمة من نغماته يوم يتصل به
لوددت أني خلعت نفسي في المدينة يوم فارقتها، فقد سئمت نفسي وسئمتني، ومللتها وملتني، وتمنيت أن تكون النفس كالثوب تخلعه حيناُ، وتلبسه حيناُ، ويبلى فتجدده، وتكرهه فتغيره - إذن لاستبدلت بنفسي - ولو إلى حين - نفساُ مرحة تستغرق في الضحك من الشيء التافه ومن لا شيء، ولا تبكي على ما فات، ولا تحمل هماُ لما هو آت
بل لتمنيت أن أكون كدودة القز تكون دودة حيناُ، ثم تكون فراشة حيناُ، أرشف من هذه الزهرة رشفة، ومن هذه رشفة، وأنشر جناحي في الشمس، أعيش في جمال وأغيب في جمال، كما تغيب الشمس الجميلة في الشفق الجميل، أو كما تغني النغمة الحلوة في رنات الآلات، أو كما تنداح الابتسامة العذبة في الوجه الصبوح، أو كما تندمج الموجة العظيمة في البحر العظيم! ولكن أنى لي هذا؟ ولو كان لشكوت وبكيت، فقد خلقت كما خلق المتنبي
خلقت الوفاً لو رجعت إلى الصبى
…
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وخرجت مبكراُ والناس نيام، أمشي على الشاطئ وأرقب الشمس في طلوعها؛ والشمس على الساحل أجمل من الشمس على غيره، فليس لها تلك القوة العاتية، ولا الحرارة القاسية، ولا الأضواء المعشية؛ فيها شيء من الوداعة واللطف والحنان!
هاهي ذي قد طلعت، فأخذت الحياة تدب في النفوس، تلقي أشعتها على البحر فينعقد منه
سحاب فمطر فأنهار، فجميع ما لذلك من أعمال باهرة، وقوى ساحرة، وأفعال عجيبة! أنظر يميناُ فأرى النيل، وأنظر يساراُ فأرى البحر، وقد عاد النيل إلى البحر بعد أن أتم دوريه، وأدى مهمته؛ قد خرج هذا العذب الفرات، من هذا الملح الأجاج، كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم! قد سلسلوا النيل فعدا عليه البحر فأغتصب مجراه، وأملح ماءه، ثم فكوا قيوده، فاسترد حقوقه، وأراد أن ينتقم من أبيه، فحاول أن يحتل شاطئه، ويحلي ماءه، ولكن يعكر صفاءه، ثم ندم على العقوق فتاب وأناب وإذا هما مؤتلفان، بينهما برزخ لا يبغيان
ثم تسطع الشمس، ووددت أن تكون مذكرة في اللغة العربية، كما هي مذكرة فيما أعرف من اللغة الأوربية، لأنها تتزوج الأرض فتولدها ما شئت من أشكال وألوان وذكور وإناث، وكأن أشعة الشمس خمر معتقة تشربها الأرض فتنتشي وتبتهج، وتمتلئ قوة ونشاطاُ وحركة
وتقع أشعتها على الطير فيسرح ويمرح ويتغنى، وتحل في قلب الإنسان فيهدأ روعه، ويذهب فزعه، ويطمئن إلى حياته، وتتحرك إرادته، وتنتعش آماله
دعني أتعر فالعراء على الساحل مباح، فأملأ جسمي بأشعتها، وأملأ شعوري ودمي بقوتها، وأملأ نفسي بعظمتها وسحرها.
ومشيت إلى قلعة في رأس البر كنت آنس بها قديماُ، وكان في كل حجر من أحجارها صفحة من العزة القومية، والحمية الوطنية؛ أقامتها الأمة يوم كانت تشعر بنفسها، وتدافع بنفسها عن كيانها، وتحس بتبعاتها، وتدبر شؤونها، وتدير أمورها، كما يتراءى لها - فرأيتها وقد عدا عليها الزمان، وعلاها البلى ونقض أحجارها، وليس من يعتز بها فيقيم أنقاضها، ورأيت بها (مدفعاُ) قد هزأ به الرمل فغطاه، وسخر به الصدأ فعلاه، دفن كما يدفن عزيز أرداه الزمان بسهامه، وذل كما يذل السيد توالى عليه الدهر بأحداثه! ورأيتهم أقاموا في وسطها صهريجاُ يخزن الماء لرأس البر؛ فقلت: سبحانك ربي، جعلت من مستودع النار ماء، كما جعلت من الشجر الأخضر ناراُ! لقد كان مكانك رمز القوة واصبح رمزاُ الرقة، وكان بك جن يقذفون بالنار فبدلت بهم ملائكة يوزعون الرحمة، وكان بك دم يغلي، فأحاله الزمان القاهر زلالاُ بارداُ، وما أدرى ماذا جاش بنفسي فدمعت عيني
وقالوا قد جُننتَ فقلتُ كلا
…
وربي ما جننتُ وما انتشيت
ولكني ظُلمتُ فكدت أبكي
…
من الظُّلمِ المبيّن أو بكيتُ
فأن الماء ماء أبي وجدي
…
وبئري ذو حفرت وذو طويت
ثم صحوت فقلت: أتندب كل طلل مررت به، وتبكي كل شيء رأيته، وتحزن في معاهد الفرح، وتنقبض في مغاني المرح؟ من أجل هذا تمنيت - قبلُ - أن أخلع نفسي، ووالله لو أمكنتني الفرصة ثانية ما ترددت، ولسمحت وما حرصت، فقد برمت بها وعجزت عن حملها
هيا إلى البحر! فهناك الفرح والمرح، وهناك يضحك الناس له ويضحك لهم، ويداعبون أمواجه وتداعبهم، وأحياناً ينسون جلاله فيصفعهم! فيه الحياة، وفيه القوة، وفيه العظمة، وفيه اكبر مظهر لطاحون العالم، تطحن دائماً، وتطحن ناعماً!
رأس البر
أحمد أمين
قضايا التاريخ الكبرى
من قضايا السحرة
صفحة من الجرائم المروعة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
يعتبر عصر لويس الرابع عشر أعظم عصور التاريخ الفرنسي، لا من وجهة السلطان الباذخ فقط، ولكن من الوجهة الاجتماعية والفكرية أيضاً؛ فكما أنه عصر الفتوحات العظيمة، فهو أيضاً عصر تقدم فكري واجتماعي ساطع؛ ولم تبد الملوكية الفرنسية من قبل قط بمثل ما بدت به في عصر لويس الرابع عشر من العظمة والبهاء، ولم يزدهر المجتمع الفرنسي مثلما أزدهر في هذا العصر؛ وفيه تتفتح العبقرية الفكرية إلى الذروة، ويحتشد النبوغ الفكري أيما احتشاد، هو (القرن الأعظم) كما ينعت في التاريخ الفرنسي، وهو عصر (الملك الأعظم)؛ وهو عصر كورني وراسين وراسان ولافونتين وجمهرة كبيرة أخرى ممن يزدان بهم التاريخ الفرنسي
بيد أن هذا البهاء الساطع الذي يشع به (القرن الأعظم) تغشاه الظلمات في كثير من النواحي؛ ففيه يتكشف ذلك المجتمع الباهر عن ثغرات خطيرة من الانحلال الخلقي والاجتماعي؛ وفيه تزدهر الجريمة، وتنحط النفس البشرية إلى ضروب شائنة من الفساد والإثم تخلق بأشنع العصور
في سنة 1676 كشفت مأساة السموم الشهيرة التي أخذت فيها المركيزة دي برانفلييه بطائفة من الجرائم المروعة عن طرف من تلك الأثام الخفية التي تجثم وراء مجتمع زاهر؛ وكان ذلك الحدث المدهش مفاجأة مروعه لمجتمع ذلك العصر؛ فقد ظهر أن السم - ذلك السلاح الخفي الغادر - يحصد علية القوم حصداً، وأن كثيراً، وأن كثيراً من الوفيات الفجائية المريبة التي وقعت في تلك الفترة إنما هي جرائم قتل شائنة ترتكب في سبيل الانتقام والمال والهوى
بيد أن جرائم المركيزة دي برانفلييه كانت جرائم فردية، وكانت محدودة المدى، ولم تكن شيئاً يذكر إلى جانب ذلك الثبت الحافل من جرائم هائلة مثيرة معاً تبث الروع الخفي
الصامت إلى المجتمع الباريزي وتصمه بحمأة العار والاثم، ويدمغ شينها المثير أرفع الرؤوس والمقامات في ذلك المجتمع الأنيق الباهر
كانت جرائم (السحرة)، وذيوع الخرافات السحرية بين علية القوم، ومزاولة هذه الرسوم الوثنية الشائنة، والتماسها وسيلة لتحقيق أحط الشهوات البشرية، من ظواهر ذلك الانحلال الخفي الشامل الذي يغشى عظمة (العصر الأعظم)
كان السحر من الأمور التي طبعت أذهان العصور الوسطى بطابعها القوي؛ وكانت مزاولة السحر جريمة يعاقب عليها القانون في تلك العصور بأشد العقوبات؛ وكان يعتبر من السحر كل مالا تسيغه عقلية هذه العصور من الأمور المدهشة حتى ولو كانت مما يدخل في حيز الاكتشافات العلمية كمزاولة السيميا أو البحث عما يسمونه حجر الفلاسفة، والتجارب الكيميائية المدهشة؛ وكان السحر دائماً وسيلة الأجرام، ترتكب باسمه وفي ظله أشنع الجرائم الدموية والأخلاقية؛ وكان هذا النوع من السحر الملوث بحمأة الجريمة، والذي تخضب رسومه الفظيعة في معظم الأحوال بالدماء البشرية، يسمى (بالسحر الأسود) أو السحر الذي يقصد به وجه (الشيطان)
ولم تكن عقلية القرن السابع عشر بعيدة عن هذه الأوهام الشائنة، بل كانت تتأثر بها أيما تأثر؛ وكان المجتمع الرفيع الذي يحفزه حب المال أو لوعة الهوى أو ظمأ الانتقام أو غيرها من الشهوات البشرية أو المثالب الخلقية يجد في السحر ملاذه ويعتقد أن السحر مازال وسيلة لتحقيق هذه الأطماع والأهواء
في ظل هذا المعترك الذي تضطرم فيه الشهوات الوضيعة، ويملك الإيمان بالسحر عقول الخاصة فضلاً عن الكافة وتسري إلى المجتمع أسباب الانحلال الخلقي والاجتماعي، كان (السحرة) ومن إليهم من دعاة السيميا والكيمياء يبثون في المجتمع أباطيلهم، ويزاولون تلك الرسوم المروعة المثيرة التي تعرف (بالسحر الأسود) ويسلحون الأيدي الغادرة بالسموم المرهقة، وينظمون أشنع الجرائم الدموية والخلقية، ويستظلون للتمويه على الكافة بظل الخفاء والمقدرة على تنبؤ الغيب وتسخير القدر، وتوجيه الحظوظ
وقد بلغ الشغف بالخفاء والتماس السحر ذروته في ذلك العصر؛ وكان يتمخض بين آن وآخر عن طائفة من الجرائم الفظيعة التي يكتنفها خفاء السحر وروعته
وكانت جرائم السحرة الشهيرة التي اكتشفت فجأة في عصر (الملك الأعظم) من أروع هذه المفاجآت التي يرتجف المجتمع لهولها وشناعتها
في يوم من أواخر سنه 1678، اجتمع في باريس على مائدة سيدة تدعى (لافيجوريه) هي زوجة خياط للسيدات، محام متواضع هو الأستاذ بيران، وامرأة (عرافة) مشهورة في هذا الوقت تدعى ماري بوسي؛ ففي أثناء العشاء بدرت من العرافة تلميحات خطيرة حول جرائم ترتكب بالسم، ويشترك في ارتكابها رجال ونساء من علية القوم؛ فانزعج الأستاذ بيران، وأفضى بما سمعه إلى مدير البوليس (لاريني)
وكانت ذكريات جرائم المركيزة دي برانفلييه ما تزال حية رنانة، فأدراك (لاريني) أنه ربما كان أمام ثبت آخر من الجرائم المماثلة، فأمر بالقبض على مدام فيجوريه، وماري بوسي وابنتها مانون وولديها؛ وذلك في 4 يناير سنة 1679، وأفضت التحقيقات الأولى التي قام بها لاريني نفسه إلى أن قبض في 12 مارس على امرأة تدعى (لافوازان) أو مدام فوازان، وهي عرافة شهيرة في ذلك العصر تزاول السحر وأموراً خفية أخرى، وعلى ابنتها مرجريت، ثم على رجل يدعى (لي ساج) وهو شريك لافوازان وعشيقها، ثم على عشرات آخرين ممن ورد اسمهم في التحقيق ونسب إليهم قسط من الأعمال والجرائم المروعة التي كشفت عنها اعترافات المتهمين
كان لاريني مديراً للبوليس، يقف بحكم وظيفته على أخطر الأسرار وأفظع الجرائم، ولكنه لم يلبث أن رأى نفسه أمام معترك هائل من الجرائم التي ترتجف لهولها وروعتها أقسى القلوب وأصلبها؛ جرائم تمتد إلى النفس والعرض والمال بأشنع الآثام، وتتطاول إلى الملك وحياته ذاتها، ويشترك في تدبيرها وارتكابها نفر من العظماء نساء ورجالاً يزاولون (السحر الأسود) ويشتركون طوعاً في اجراءته المروعة المشينة، ويغمسون أيديهم في الدم البريء تقرباً إلى الشيطان، والتماساً لتحقيق أسفل الشهوات والغايات
وكانت لافوازان هي المحور الأكبر لذلك الثبت المروع من الجرائم التي سودت صحف (العصر الأعظم) وهي امرأة تدعى في الأصل كاترين ديزي، وزوجها يدعى مونفوازان، أو فوازان، ومن ثم كان اسمها. وقد بدأ الرجل حياته تاجراً في الحلي، ثم زاول أنواعاً أخرى من التجارة، ولكنه لم يفلح ولازمه النحس، فاعتزمت زوجته عندئذ أن تزاول مهنة
التنجيم والعرافة. وكانت لافوازان في الواقع ذات مقدرة خاصة في تفهم نفسية بعض الناس، وكانت قد درست شيئاً من الفلك وما يتعلق بالسحر من المسائل والرسوم التي كانت ذائعة في ذلك العصر فامتهنت العرافة والسحر، واستقرت في منزل تحيط به حديقة في فلنيف من ضواحي باريس. وأقبل عليها القوم من كل صوب يستوحون علمها ونصحها، وكانت تزاول كل ما يدخل في باب الخفاء من قراءة الكف وصنع التمائم والتعاويذ، والتنبؤ بالمستقبل بيد أنها كانت تزاول أعمالاً أخطر، فقد كانت تبيع السموم لزوجات يردن التخلص من أزواجهن، أو أقارب يترقبون وفاة المورث، وكانت تصف الأدوية لمختلف الأمراض، وتزاول التوليد وبالأخص الإجهاض؛ وكان بين قصادها سادة من الأكابر وسيدات من أرقى طبقات المجتمع
وكانت لافوازان، كما يصفها المعاصرون امرأة قصيرة القد، مليئة الجسم، وافرة الحسن، لها عينان ساطعتان ثاقبتان، وكانت بما ينهمر عليها من المال من كل صوب تعيش عيشة ترف ومتاع، تصطفي العشاق حسبما تهوى تحت سمع زوجها المسكين وبصره، وتقيم الحفلات الصاخبة، وكانت تعشق الشراب وتفرط فيه، فلا ترى دائماً إلا ثملة، تضرب زوجها أو عشاقها وهم عديدون وكانت تحيا هذه الحياة الحيوانية المحضة فوق أكداس من الإثم ترتكبها كل يوم، لا يزعجها شبح أولئك الذين ترسلهم بسمومها إلى الأبدية، ولا تلك الضحايا البشرية العديدة التي كانت تزهقها مع شركائها كلما أجرت رسوم القداس الأسود كما سنرى
وكان شريكها وساعدها الأيمن في تلك الحرفة الأثيمة رجل يدعى (ليساج) وكان أحب عشاقها إليها وأشدهم نفوذاً لديها، وكان ليساج يزاول أعمال السيميا ليكتشف ما يسمونه (حجر الفلاسفة) أو المادة التي يمكن أن تعاون في تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وتمده لافوازان كما تمد غيره من السيميائيين والمشعوذين بالأموال الوفيرة لأجراء التجارب المطلوبة. وكان هذا (الساحر) الخطر من أهل الجنوب واسمه الحقيقي آدم كيريه؛ وكان يشتغل بتجارة الصوف، ولكن غلبه شغف السحر والخفاء فاتصل بلافوازان ووثق الحب بينهما ذلك التحالف الأثيم، ووعد لافوازان بالزواج متى بدت أرملة. وفي سنة 1667 قبض عليه بتهمة (الاتصال بالشيطان) وقضي عليه بالأشغال الشاقة في الأسطول،
ولكن لافوازان سعت لإنقاذه بنفوذها واستطاعت أن تستصدر العفو عنه فعادت إلى باريس سنة 1672 وتسمى بليساج، واستأنف أعماله الأثيمة مع عشيقته
وكان ليساج وغداً سافلاً لا يحجم عن ارتكاب أية جريمة، وكان له أكبر نفوذ على لافوازان وزميلاتها، فكان يقتنص منهن الأموال الوفيرة بخبثه ودهائه؛ وكان يكتب التعاويذ للراغبين ويعقد صلاتهم بالشيطان بتمائم وأدعية مريبة، وأحياناً يتزيا بزي القسس ويقيم الصلوات والأقدسة؛ وكان منظره غريبا يضع على رأسه شعراً أحمر، ويرتدي ثوباً أشهب ومعطفاً غريباً، وكان القبض عليه للمرة الثانية عقب القبض على لافوازان في 17 مارس سنة 1679
كان اكتشافاً مروعاً ذلك الذي وقع به لاريني مدير البوليس من أعمال هذه الطغمة. ولم يكن أمر السحرة مجهولاً، وكان الهمس يسري حول آثامهم وجرائمهم في أرفع الأبهاء؛ ولكن لاريني لم يكن يتوقع قط أن يكشف التحقيق الذي أجراه وأشرف عليه مدى أشهر عن تلك الشبكة السوداء الهائلة التي تغمر العاصمة الفرنسية والتي تجذب شراكها الخطرة أعظم الرؤوس وأعظم المقامات. وقد أثبت لاريني في ملف التحقيق الذي أجراه أقوالاً ومعلومات مدهشة عن أعمال المتهمين وحياتهم الغريبة؛ ومما أثبته من أقوال لافوازان، إن أفضل ما يعمل هو أن يقبض على كل من يزاول قراءة الكف، فإن هذه الحرفة تكشف عن أمور مدهشة حيثما يمنى المحب بخيبة الأمل، وأن التسميم جرم ذائع، وأنه يدفع عن (العملية) الواحدة أحياناً عشرة آلاف جنيه (نحو خمسين ألف فرنك من العملة الحديثة)؛ وأيد ليساج هذه الأقوال، وزاد عليها أن كل أولئك الذين يزعمون أنهم يبحثون عن الكنوز أو حجر الفلاسفة أو غيرها إنما يزاولون أعمالاً خفيفة أخرى، وأولئك الذين يزاولون السحر إنما يتعاقدون على تسميم زوج أو زوجة أو أب وربما على تسميم طفل في المهد
بيد أن أروع ما سطره التحقيق أقوال المتهمين عن مزاولة (السحر الأسود) وإجراءاته الدموية المثيرة. وكانت هذه الإجراءات تقترن عادة بإزهاق طفل صغير يسرق أو يؤخذ من بين اللقطاء الذين تقذف بهم الأمومة الأثيمة. وكان يؤتى لهذه الغاية ببغي تمدد عارية بين هالة من الشموع السوداء؛ ثم يأتي الساحر في ثياب قس، وبعد أن يذبح الطفل، يلقي بعض التمائم والدعوات الشيطانية؛ وكان الساحرات يبحثن دائماً عن الأمهات الآثمات أو
البغايا الحاملات فيجرين توليدهن ويأخذن المواليد برسم القربان؛ ويلقى بهذه الجثث الصغيرة في بعض الغابات أو تحرق في منزل الساحرة. وكانت لافوازان أنشط الساحرات في إجراء هذه الرسوم الهائلة! وكان يعاونها في إجرائها غير ليساج قس وغد يدعى الأب جيبورج؛ فيقوم بقراءة (القداس الأسود) أو قداس الشيطان على أجسام النسوة اللاتي يرغبن في هذا الإجراء وكن يتمددن عاريات فوق مائدة تؤدي وظيفة الهيكل، ويوضع الإناء المقدس على البطن العاري، ويذبح وقت القربان طفل يلقى دمه في الإناء، وقد اعترفت لافوازان أنها أحرقت في فرن منزلها أو أخفت في حديقتها نحو ألفين وخمسمائة جثة من هذه الضحايا الصغيرة البريئة!
هذا طرف مما دونه لاريني في تحقيقه من أقوال المتهمين أنفسهم. ويعلق لاريني على ذلك بقوله، أنه يستحيل أن يتصور الإنسان أن تكون هذه الجرائم حقيقية أو ممكنة إذا ما تأملناها. بيد أنها اعترافات أولئك الذين ارتكبوها أنفسهم؛ وتفاصيل الاعتراف لا تدع مجالاً للريب
(للبحث بقية)
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان
جندي الأدب المجهول
للأستاذ عبد الوهاب النجار
أقول جندي فقط لأنه لم يكن ضابطاً كريماً ولا ضابطاً عظيماً ولا ضابطاً صغيراً، بل كان جنديا. وكفى
والذي أتحدث إلى حضرات الأدباء عنه، أعتقد أن أحداً منهم لا يعرف عنه شيئاً. وهو المرحوم الشيخ المعمر محمد أفندي التميمي بن المرحوم احمد التميمي مفتي الديار المصرية
وكان والده المرحوم الشيخ أحمد التميمي من أهل مدينة الخليل بفلسطين ومن علمائها ومن ذرية تميم الداري. وقد آتى به إلى الديار المصرية ساكن الجنان إبراهيم باشا جد مولانا الملك فؤاد، وعين مفتياً للديار المصرية. وظل بتلك بالوظيفة إلى ان عزل بالمرحوم الشيخ محمد العباسي الحفني المهدي - (وقد تولى الشيخ المهدي إفتاء الديار المصرية وهو طالب بالأزهر)
مات المرحوم الشيخ احمد التميمي عن ولديه عبد الرحمن أفندي ومحمد افدي؛ فإما عبد الرحمن فأسرع في تركة والده إسراعا شديداً، فانشأ له ذهبية في النيل وجعل مقابض مداريها من الذهب، والجزء الذي يغرز في الطين من الفظة، وجعل نعال خيله من الفضة! وكان أخوه محمد لا يعصي له أمراً، فكلما أراد بيع عمارة أو بيت أمضى محمد مع أخيه عبد الرحمن واعترف بقبض ثمن حصته، وهو في الواقع لا يناله من ذلك سوى النزر اليسير
فلما فرغت الراحة عمد محمد أفندي إلى اسطنبول ليجد واسطة من أصدقاء والده ليعين في وظيفة. ولست اعلم إن كان أخوه عبد الرحمن أفندي سافر إلى اسطنبول أولا
وآخر عهدي بعبد الرحمن أفندي أنه كان مأمور مركز؛ وكانت له ورشة نجارة بطنطا، لأنه أتقن فن النجارة أيام أن كان مهيمناً على عمارات والده
وأما محمد أفندي وهو أديبنا المجهول، فلما عاد بالوصية عين موظفاً بتفتيش السنطة والهياتم التابع لدائرة ثالثة زوجات المرحوم إسماعيل باشا
كان المرحوم محمد أفندي التميمي مغرماً بالتدخين في النرجيلة (الشيشة)، فلما كان في
اسطنبول خرج إلى متنزه اسمه (الكاغد خانه) ومعه النرجيلة يدخن فيها، وجاءت السيدات والأوانس من كل صوب وحدب إلى ذلك المكان النزه. ونظر فوجد بقربه سيدة جميلة رشيقة قد جلست ومعها سيدة أخرى. وحانت من السيدة التركية التفاتة فرأت ذلك الرجل الذي يلبس جبة وقفطاناً وعمة خليلية منهمكاً في كتابة شيء، فحزرت أنه يكتب عنها، فأرسلت السيدة الأخرى إليه وكانت تحذق العربية فسألته عما يكتب، فناولها ما كتبه فقرأت:
ظل قلبي في غزال
…
من بنات الترك يُفكرْ
رمت منها الوصل قالت
…
سن صقللي هيدا سكتَر
أي أنت ملتح، هلم فأذهب! فأسرعت إلى السيدة التركية وأرتها ما كتبه وترجمت لها بالتركية ما في الكتابة من ألفاظ عربية فسرها ما سمعت، وحلفت بالمحرجات من الأيمان إلا ما حل عندها ضيفاً الليلة
ولما كان بتفتيش السنطة ومركزه القرشية عين ناظراً لورشة التصليحات التي أنشأها المرحوم إسماعيل باشا لإصلاح الآلات المكانيكية، وكان بناؤها سنة بضع وسبعين ومائتين وألف هجرية؛ فمر التميمي بالحدادين يحمون الحديد إلى درجة الاحمرار ثم يفطحونه بمطارقهم. فقال موالياً أوله:
لان الحديد للمعلم والحبيب ما لان
وقد ند عن ذاكرتي باقيه
وله لطيفة وهو بالورشة، فأن المرحوم خلف الله باشا عين مفتشاً لتفتيش السنطة والهياتم؛ فلما استقر به المقام طلب إحصاء بالعمال الذين بالورشة ومرتب كل واحد منهم أو يوميته، فلما نظر في ذلك الإحصاء وجد (خوجة لتعليم العمال القراءة والكتابة وإرشادهم في أمر دينهم، ومرتبه جنيه في الشهر) فقال: هذا الخوجة لا لزوم له. فقال التميمي: إني فكرت فيما فكر فيه سعادة الباشا وأردت رفته ولكني وجدت الرجل يصلي بالناس الصلوات الخمس بالمسجد مجاناً، ويخطب الناس يوم الجمعة والأعياد بلا مقابل، فقلت أتركه الآن حتى يأتي (أبن الحلال) الذي يكون قطع رزق هذا الرجل على يده. والحمد لله سعادتكم، شرفتم ويمكنكم أن تعملوا ما لم أعمله. فقال خلف الباشا: والله لا أكون ابن الـ. . . الذي
يقطع رزق هذا الرجل على يده. وبقى الرجل في هذه الوظيفة عشرات من السنين إلى أن توفى
وكان له صديق مثر من المال، علم أن التميمي اعتزم الزواج، وما بينهما من المودة يقضي عليه بتقديم المساعدة و (النقوط)، فاحدث غضباً لا أصل له، وفطن التميمي فكتب إليه:
إن قوماً أبغضونا
…
خيفة من قول هاتِ
قل لهم في يوم عرسي
…
نقوطنا بالسكاتِ
والأمثال لا تغير
ولما نقل المرحوم إبراهيم أدهم باشا من تفتيش السنطة والهياتم وعين مديراً للغربية، طلب أحد العمد، فخشي العمدة أن يعتريه الباشا المدير بسوء، وجاء إلى التميمي ليكتب إلى الباشا خطاب عناية به فكتب:
قد ظن هذا رجائي عندكم فأتى
…
مستشفعاً بيَ فعلَ الطامع الراجي
قد ظن عكساً وقصدي من سعادتكم
…
أن تضربوه جزاءً ألفَ كرباج
وأخذ الرجل الكتاب بعد أن ألصق جوانبه بالبرشام وهو يكاد يطير من الفرح، وقدم على الباشا وناوله إياه، فأغرق الباشا في الضحك وعفا عنه
وله رجز في الفلاح حين واتاه القطن في نحو سنة 1280 عقب حرب أمريكا، واقتنى الجواري البيض والعبيد، وتأنق في المأكل والملبس، أحفظ منه:
من بعدَ خضْرَا صار يَقْني كلفدان
…
وطعامه قلدر وخادمه أمان
ولكم مصاغ علقه بعضهم
…
من فوق زوجته الكئيبة ستهم
تلقاه يرمي اللفظ كالجالوس
…
ويقول عندي نسخة الجاموس
وفي أيام اختفاء عبد الله أفندي النديم بالقرشية عند المرحوم أحمد باشا المنشاوي، وكان يسمي نفسه السيد علي الإدريسي اليمني، كان النديم يجالسه كل ليلة ولا يدري حقيقته. وكان المجلس يمتد بهما إلى ما بعد نصف الليل. ففي ليلة سأل المنشاوي باشا جليسيه عن أرباب الجرائد، فكان عبد الله النديم يسرع ويجيب ويسبق التميمي إلى الجواب، فقال المنشاوي باشا وما تقولان في صاحب الطائف؟ فسكت النديم أو السيد علي الإدريسي اليمنى وتكلم التميمي، وقد رابه شأن النديم ولم يقم من المجلس إلا وهو موقن بأن جليسه
في هذه السنوات هو عبد الله النديم
فلما رجع إلى بيته كتب إليه
يأيها الحبر الذي
…
كالبحر يبعد ساحله
من كان مثله فاضلاً
…
نمت عليه فضائله
وأرسل البيتين مع الخادم؛ فلما قرأهما النديم ارتاع وخشى على نفسه. فلما جن الليل وجاء محمد أفندي التميمي على عادته لقيه بالعناق، وكتم التميمي أمره إلى أن أعلنه الذي قال إنه علم بالنديم بالجميزة، وكان الواقع إن النديم أعلن نفسه لذلك المخبر بعد أن مضى على الحكم عشر سنوات شمسية وأحد عشر يوماً
وللتميمي قصائد لا احفضها ولا أجد من يقفني عليها الآن؛ وهو أول من أبرز رواية بالعربية وسماها أم حكيم، وقد مضى على إبرازها أكثر من خمسين سنة
وقولي انه معمر سببه أن التميمي كان قد تولى عمارة مسجد وضريح سيدي فخر الدين ببلدة طوخ مزيد في عهد المرحوم إسماعيل باشا، وكانت العمارة ينفق عليها من دائرة ثالثة أزواج الخديو إسماعيل، وأحيلت الكتابة على والدي رحمه الله وكانا قريبين في العمر. وكنت إذا سألت كلا منهما عن الآسن منهما اتهم كل منهما الأخر بأنه أسن منه، وقد توفي والدي سنة 1919 عن نحو مائة سنة، وعاش محمد أفندي التميمي بعده من أربع إلى خمس سنوات، واعتقادي انه أربى على المائة
فهذا الرجل في نظري هو جندي الأدب المجهول
عبد الوهاب النجار
النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
المرأة:
ومما أخذه على الكماليين خطتهم في تربية النساء، فقد أخذوا بيد المرأة التركية، ربة الدار الطاهرة، وأم الأشبال الباسلة، فقادوها إلى المراقص، والملاهي، ومجالس السمر أخذاً بسنن أوربا؛ وسموا هذا تحريراً للمرأة وإنصافاً لها وإعظاما، واعترافاً بقدرها، كأن المرأة لا تكون حرة إلا إذا هجرت الدار، وعمرت المراقص، وأهملت أطفالها لتجالس سمارها، وتركت سكينة الدار وسعادة الأسرة، إلى ضوضاء الملاهي ونزاع المحافل! لست آخذ على الكماليين أنهم تركوا المرأة تغشى المراقص اختياراً، ولم يردوها إلى الدار قسراً، بل آخذ عليهم أنهم هم دعوها إلى ذلك، وحرضوها عليه، وزينوه لها، بل ألزموها به بعض الإلزام حين نظروا شزراً إلى الموظفين الذي لا يأخذون زوجاتهم بإتباع السنن الجديدة، ويريدونهن على مسايرة النهضة النسوية، ويروضونهن على أفانين المعيشة الأوربية
فعل الكماليون هذا تقليدا لأوربا وتقرباً إليها، واستحياء من الاستمساك بآداب لا يعرفها الغربيون، والإبقاء على سنن ينكرها السادة الأوربيون. ثم زادوا تقرباً حين أباحوا تزوج المسلمة من غير المسلم، وقد عاشت المرأة التركية حقبا ترى واجبها أن تربي أشبالها للدفاع عن قومها ودينها، وحماية تأريخ الإسلام والترك، وترى نفسها أعز وأرفع من أن يلي أمرها غير مسلم؛ وكانت هذه الكبرياء عصمة لها ولقومها في المحن التي انتابتهم، والفتن المحيطة بهم، وفي هذا النزاع، نزاع الحياة والموت الثائر بين الشرق والغرب. فذهبت هذه (النهضة) بكبريائها، ومحت ما أورثها الإسلام والتاريخ من عزة وأباء
وأتم الكماليون إعظام المرأة وتحريرها بأن فتحوا دوراً للبغايا فسايروا بعض الأمم الأوربية، وشاركوا مصر الإسلامية في وصمة العار، وسمة الخزي، التي تحاول اليوم أن تمحوها عن جبينها. وقد بلغ من اعتدادهم بما فعلوا، وافتخارهم بما اقترفوا ما تبين عنه القصة الآتية: حدثني من لا أرتاب في صدقه قال: كنت على ظهر سفينة من عابرات المحيط، ذاهباً إلى المؤتمر البرلماني في البرازيل، وكان على السفينة جماعة من ممثلي الدول يؤمون المؤتمر، وكان فيهم مندوبو الحكومة التركية، فجلسنا مرة نتحدث، وذهب بنا
الحديث مذاهب حتى قال مندوب تركي مفتخراً متبجحاً: لقد أنفقنا كذا وكذا في بناء دور فخمة رائعة للبغاء (وذكر مقداراً من المال عظيماً جداً، لا أذكره الآن)
قال محدثي: فلما قام صاحبنا نظر مندوبو الدول الأوربية بعضهم إلى بعض ساخرين متعجبين يقولون: ماذا يريد أن يقول هذا الرجل؟
لا يحسبني أحد مجادلا في سفور المرأة واحتجابها فيقولون فيم يجادل هذا الجاهل؟ لقد سبقته المدنية مراحل كثيرة فجدال الناس اليوم في اللبس والعرى. لا يقولون أحد هذا فأني لست أنكر على المرأة أن تأخذ طريقها طليقة رشيدة، تصرف أمورها وتقوم بقسطها في الأمور العامة والخاصة على قدر ما تمكنها أعمال الدار والقيام على الأسرة. ولست أنكر أن الإسلام منح المرأة من الحقوق ما لم تظفر به نساء أمم في أوربا حتى اليوم. لا أنكر هذا ولا أجادل فيه، ولكني أظن بالمرأة أن تنزل عن عرشها في أسرتها لتتبذل في الطرق والمسارح والمراقص، وأشفق عليها أن يخدعها الرجال لحاجات في أنفسهم فيزينوا لها كل ما تنزع إليه مآربهم، ثم يكذبون فيذكرون الحرية والحق والإصلاح والكرامة ونحو هذا من الكلمات الكاذبة الخادعة، الثائرة الرائجة في هذا العصر. أيها الناس لا تخدعوا أنفسكم ولا تجحدوا أن لهو المدينة الحاضرة يدور معظمه حول جسم المرأة في الطريق والمرقص والمسرح وشاطئ البحر. وحسب المرأة ذلاً وهواناً أن تكون ألعوبة الرجال حيثما شاءوا وكيف شاءوا. وبعد هذا أمر لا يعالج بكلمات، ولا ينفد بيانه في صفحات، فحسبي أن أتناوله مجملاً موجزاً لا معدداً مناهج النهضة التركية الأخيرة
ويقتضي المقام هنا كلمة موجز عن نساء مصر: تغيرت المرأة المصرية في السنين الأخيرة تغيراً عظيماً. وبعض هذا التغير خير لا مراء فيه، فقد تعلمت وبصرت بمناهج الحياة، وهذا صلاح وخير؛ ولكن ما يسمى النهضة النسائية في مصر تشوبه شيات من الضلال، وألوان من أفن الرأي وخدعة الهوى، ويلتبس الخير والشر في كثير من جوانبها: في مصر جماعة تتكلم عن نساء مصر كل حين، وتدعى أنها تنطق بآلام المرأة المصرية وآمالها، وهي على ذلك لا تمثل إلا جماعة من النساء هن أقرب إلى أوربا من مصر، وأشبه بالأجنبيات منهن بالمصريات. وأما المرأة المصرية كما نراها وكما نود أن نراها فلا تمثلها هذه الجماعة إلا بزعمها؛ هي جماعة كثيرة القول والعمل في الجوانب اليسيرة
البراقة التي لا تكلفها إلا الكلام والاجتماع من حين إلى حين، وأما جوانب الإصلاح العسيرة التي تقتضي كد الفكر واليد وهجر الراحة والرفاهية: جوانب الإصلاح الخلقي والديني التي تحول بين الناس وبين كثير من رغائب المدنية الاوربية، فليس للجماعة غرام بها، ولا صبر عليها. لا ريب أن للجماعة أعمالاً مشكورة في تربية الفقيرات والحدب عليهن، ولكن أبرز أعمالها أن تجمع الشواب من بنات الأسر الراقية للغناء والرقص وإمتاع النظارة بظروب من المناظر وهلم جرا. يضربن بذلك للمرأة المصرية أسوأ الأمثال، ويدعونها إلى شر الخطط، ويحطمن في ساعات ما وطدته الأمة في أجيال
كثيراً ما سألت أصحابي: لماذا لا تدعو هذه الجماعة إلى طريقة خلقية رشيدة، أو سنة دينية حميدة؟ لماذا لا يطلبن - مثلاً - أن يكون للنساء الحق في غشيان المساجد أحياناً ليوعظن ويعلمن ما منح الإسلام المرأة من حق، وما فرض عليها من واجب؟ وقد اطلعت في عدد الرسالة الأخيرة على كلمة للأستاذ أحمد أمين (حول المسجد) أخفف عن نفسي بنقل شذرة منها، قال (بل لم لا يكون المسجد معهداً للمرأة كما يجب أن يكون معهداً للرجل. فيخصص مسجد كل حي وقتاً لنساء الحي تعلم فيه المرأة واجباتها الدينية والاجتماعية، وتفقه فيه في دينها ودنياها، وترشد فيه إلى طرق إسعاد البيت، وتثار همتها إلى العطف والإحسان وتنظيمهما. فالمرأة الآن محرومة من غذائها الروحي والديني لأنها بعيدة من المسجد، حرمت منه من غير حق، وهو سلوتها في الأزمات، وهو منهل عواطفها وغذاء روحها. لقد حرمت المرأة من المسجد فحرم أبناؤها وبناتها من العاطفة الدينية. لأن الأم - غالباً - هي مصدر هذا الإيحاء، وإذا انحرفت مرة فلم تجد المسجد يهديها ويعزيها، جمحت وغوت. فهي الآن بين بيت وملهى ولا مسجد بينهما يذهب ملل البيت ويكسر من حدة الملاهي)
فليت شعري ما رأي سيداتنا في هذا الكلام؟ أليس الاهتمام بالمساجد في حالنا الحاضرة أولى من الأهتمام بالمؤتمرات التي يحرصن عليها ويحاولن فيها أن يسبقن نساء أوربا؟ أذكر أن وفداً من سيداتنا المصريات ذهب إلى مؤتمر نسائي كان في رومية - فيما أذكر - فهل تدري فيما تكلم الوفد؟ تكلم في (حقوق الطفل غير الشرعي)!!
وأنا أترك القارئ لنفسه هنا يبدي ما يشاء ويقول ما يريد في هذا الموضوع. وفي هذا العام
ذهب وفد للمشاركة في مؤتمر نسائي اجتمع في اسطنبول، فنادين باسم المرأة المصرية أنهن راضيات مغتبطات بما اختطه الكماليون للمرأة التركية، وبكل ما فعله الكماليون. وتطوعت زعيمتهن فقالت للغازي مصطفى كمال باشا: إنك تسميت (أتاتورك) وأنا اسميك (أتاشرق)
وليس يهمني هنا أنها منحت الغازي لقباً لا معنى له في اللغة التركية، فأن معنى أتاتورك: التركي الاب، فمعنى (أتاشرق) على هذا القياس الشرق الأب وهو كلام لا معنى له. ليس يهمني هذا الغلط اللغوي ولكني أقول إن الوفد النسائي ما كان يبين عن آراء المرأة المصرية، ومعظم المصريين من نساء ورجال لا يرضون مذاهب الكماليين في المرأة ولا غيرها. ومعظم الشرقيين لا يرضون لأنفسهم مذاهب الكماليين، بل معظم الترك لا يرضونها، فان كانت الزعيمة أرادت أن تقول إن الغازي صار بعمله أباً للشرق كله، فهى أبوة لا يعترف بها الشرق، وهي (أبوة غير شرعية) والكلام فيها كالكلام في الطفل غير الشرعي
لست، يعلم الله، أحاول بهذا توهين المساعي النسائية في مصر، ولا تهوين أمرها على الناس، ولا الزراية على أحد من المتصديات لها، وما أريد لهن إلا الكرامة والرشد، والنجح والظفر، ولكن علينا أن ننصح ما استطعنا وأن نبين الرشد والغي جهدنا، وأن ننادي بالرأي صريحاً في غير محاباة ولا مراءاة؛ فليس من الخير للأمة أن يدهن الناس في أمورها، وان يسلموا للضلال زمامها، وللفوضى قيادها؛ وليس من البر بالنساء المصريات أن ندعهن سائرات على غير هدى، فلا نعاونهن بالنصيحة المخلصة، ونسددهن بالرأي الصريح، فنخذلهن ونقعد عن نصرتهن بالفعل وبالقول، والله يهيئ لنا من امرنا رشداً
(له بقية)
عبد الوهاب عزام
إلى الدكتور إبراهيم مدكور
التابو
للأستاذ محمد روحي فيصل
قرأت مغتبطاً دراسة الدكتور للخرافة، وقوة أثرها في الجماعة؛ وأشهد لقد أحسن العرض وأتقن البحث، ثم وفق إلى كثير من الأمثلة الواقعية الجميلة التي استقامتها من أوثق المصادر، والتي تلقي ضوءاً على الموضوع؛ ولابد أن يكون القراء قد أعجبوا كما أعجبت بعمق ثقافته وسداد تفكيره
يقول الدكتور: (وللخرافة يد أخرى في الدفاع عن الملكية، فقد حاربت السرقة والسراق، وحمت مال الفرد والجماعة، وقضت على عامل كبير من عوامل الاضطراب. فالخرافة حلت محل القوانين والشرائع المختلفة في حماية الملكية الفردية والعامة لدى بعض الشعوب المتوحشة، وربما كان لها على نفوس معتنقيها سلطان لا يعدله سلطان قوانيننا المنظمة)
وهذا صحيح! فلقد شهدت فيمن شهد الرواية السينمائية الرائعة (ضحية المعبد) التي تصورت عادات القبائل المتوحشة في جزر البحار الجنوبية، وتبرز العقلية الأولية القاصرة في إطار وضيع مهين، وتتلخص في أن فتاة لا بأس بجمالها نذرت نفسها للرب وكرست حياتها لخدمته، فغدت عذراء مقدسة لا يتزوجها ولا يخاطبها ولا يمسها أحد من الناس. وشاء القدر العابث أن تعشق شاباً طويل القامة مفتول الذراعين، ويعشقها هو الآخر فيتغازلان ويجتمعان، ثم يهربان إلى جزيرة نائية خوفاً من عقاب (التابو)!! ذلك أن من يهاجم العذارى، أو يخرق حدودهن، وينتهك حرماتهن. جزاؤه الموت؛ أفلسن للإله وحده؟ فكيف يشركه في ذلك آدمي نجس؟. . . وراح رجال القبيلة يفتشون عن المجرم ويقتفون معالمه، وبعد لأي وجهد عثروا عليه فأوثقوه بالحبال ثم هووا به إلى قاع اليم فذهب ضحية المعبد. . .!!
والتابو وسم أو علامة يضعها المتوحش على باب داره مثلاً إن أراد حمايتها، وله بعد ذلك أن يهجرها ما شاء من السنين، فلن يجرؤ امرؤ على سرقتها أو دخولها. والتحريم الذي تخلعه هذه العلامة على الأشياء والأشخاص ليس كالتحريم الذي نعهده في شؤوننا الأخلاقية
من تحبيب في الخير وتبغيض في الشر، وإنما هو تحريم خاص، ملفف بالرهبة والتقديس، ومفعم بالأسرار والمساتير
فالأمراء البولينزيون الذين يزعمون أن نسبهم الكريم يتصل بالأرباب يطلق عليهم (آريي تابو) أي الأمراء المقدسون؛ أما كلمة (نوا) فأنها تفيد العموم والاشتراك. فالمرأة في بولينيزيا توصف قبل أن تتزوج بنوا، أي أنها حرة طليقة تتزوج من تشاء، وإذا تزوجت أسدل عليها ستار صفيق من التابو فتحرم على الناس جميعاً خلا زوجها
وحدث أن رجلاً من (التونجا) مس جثة أمير ميت فحكم عليه بالحرمان التابوي عشرة أشهر قمرية لأن الأمراء مقدسون أحيا أو امواتاً، ومن يمس شعر أمير أو جسده أو عظمه أو يشترك في جنازته يطوق بالتابو. والمعروف في (نيوزيلاندة) أن القارب الذي ينقل جثة لا يجوز استعماله مرة أخرى، وإنما يطرح أبداً على الساحل بعد طلائه بالبياض
ويذكر الأستاذ ليفي برول في كتابه (العقلية الاولية) أن الرجل من قبائل (المركيزا) إذا ذبح عدوا له حكم عليه باللامساس عشرة أيام يحرم عليه في خلالها مس امرأته وإشعال ناره، فلا بد له إذن من طاه يطبخ له طعامه. والزاد الذي يحمله الشريف على ظهره يحرم على جميع الناس إلا على صاحبه! كأن التحريم أو (التتويب) قد انتقل من شخص الشريف إلى أشيائه! وشعور الأمراء محرم لمسها، ولو أن أميرا مس شعوره بإصبعه فعليه أن يدنيها من أنفه في سرعة ليستنشق رائحة القداسة التي علقت بها!
وفي الإصحاح السادس من سفر العدد من التوراة كلام مسهب عن شيء يدعى النذير، فقد أمر موسى أن يقول لبني إسرائيل: أنه إذا أنفرز رجل أو امرأة منهم لعمل نذر للرب. فالنذير يجتنب الخمر والخل ولا يشرب بمن نقيع العنب، ولا يمر موسى الحلاقة على رأسه؛ وينتهي النذر الإسرائيلي على نحو ما ينتهي التابو البولينزي، وذلك بأن يحلق النذير رأسه عند مدخل خيمة الاجتماع المقدسة فيأتي الكاهن إليه ويضع على يديه طعاماً
ومن عادات اليهود ألا يقسموا بالله الكريم، فهم يتورعون أشد الورع عن القسم باسم (يهوا) ومن يمس جثة ميت عد نجساً لمدة سبعة أيام، وتنتقل نجاسته إلى كل شيء يلمسه، وفي ختام الأيام السبعة يغسل لباسه ويستحم بالماء الطهور؛ وكذلك النفساء فهي نجسة لا تجوز مقاربتها في حال من الأحوال
أما السبت فله عندهم قواعد خاصة تتعلق بالمحافظة عليه والاستراحة فيه. حرم عليهم فيه العمل، وإشعال النار في المنزل، وطبخ الطعام، والخروج من المنزل إلى مسافات معينة. والتاريخ يروي أن بومبي الكبير قد تغلب على اليهود في القدس لأنهم لم يسعوا إلى مقاومته يوم السبت، وأن انيتو كرس الرابع السلوقي افتتح القدس عنوة لأنهم راعوا حرمة السبت
ليست تخلو فكرة التابو من خير ونفع، وذلك أنها كما يقول فريزر في كتابه (عمل بسيشه) أساس الشعور بحق التملك واحترام الأوضاع الاجتماعية والرابطة الزوجية وما إلى ذلك كله مما يتصل به الناس في حياتهم الخاصة والعامة. ولكنها على ذلك إنما تدل على انحطاط العقل، وأخذه بالعنف في فعل الخير والشر، وحاجته إلى الحدود والحواجز، وتعليله الأمور والأحداث على الطريقة الدينية الميتافيزيكية
محمد روحي فيصل
حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني
للأستاذ محمد محسن البرازي
الأستاذ بمعهد الحقوق في الجامعة السورية
صدفتني أشغال شاغلة عن قراءة (الرسالة) ومطالعة كتب الأدب عامة منذ شهر أو اكثر؛ ولما عدت، وبعد تحرري من قيود الموانع، إلى النظر فيما فاتني من أعداد مجلتنا المحبوبة، ألفيت فيها مقالين في موضوع الفقه الإسلامي والفقه الروماني، أحدهما لمواطننا السيد علي الطنطاوي بعنوان:(حول الأوزاعي أيضاً)(العدد الحادي والتسعون)، والآخر للسيد صالح بن علي الحامد العلوي السنغافوري بعنوان:(هل تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني أم الحقيقة هي العكس)(العدد السابع والتسعون)؛ فرأيت أن الواجب العلمي يدعوني إلى أن أقول كلمة في الموضوع الذي عالجاه. فجئت إلى صاحب (الرسالة) أرجو منه أن يكرم وفادة كلمتي هذه، وله الشكر خالصاً
يتلخص ما جاء في المقالين في مادتين اثنتين: (1) كون الفقه الإسلامي لم يؤخذ عن الفقه الروماني ولم يتأثر به (2) كون الفقه الروماني مأخوذاً عن الفقه الإسلامي
إنني لا أريد أن أبحث الآن في الشطر الأول من هذا الرأي، لأسباب منها أنه لا يجوز عندي الخوض في موضوع خطير كهذا بكلمة عجلى؛ وأما الشطر الثاني فلا أرى منتدحاً عن البحث فيه، وأعتقد أنه يحتمل الإيجاز
علم أصحاب المقلين أن الشريعة الرومانية هي أقدم عهداً من الشريعة الإسلامية، وأنه لا يمكن لعاقل أن يزعم ما زعماه بصورة بسيطة مجردة، ولذلك لجأ إلى تأييد دعواهما بدليل ليس بأقل منها غرابة، وهو أن الفقه الروماني المعروف اليوم هو - في نظرهما - فقه جديد (لفقه طائفة من العلماء بعد أن اندثر الفقه الروماني القديم) في كلمات لا تزيد على العشرين، وفي أقل من مدة قلم، يقضي الأستاذ الطنطاوي ببطلان ما أجمع علماء الحقوق والتاريخ بلا استثناء على صحته، وأنكر ما لم يختلف فيه اثنان منذ أن اشتغل الناس يدرس تاريخ الرومان وحقوقهم
ثم أيد الأستاذ العلوي دعوى زميله الطنطاوي، معتمداً على ما كانت نشرته مجلة حضرمية منذ ربع قرن لأحد السادة العلويين الحضارمة، فلم يخرج ما جاء به عن المناقضات
إن دعوى كهذه لا يعبأ بها في البيئات العلمية، لأنها تخالف حقيقة علمية تعد بمثابة البداهة؛ ولو أنها نشرت في صحيفة غير موثوق بها، أو مجلة من عامة المجلات، لما كنت حركت في موضوعها قلماً؛ ولكنها نشرت في مجلة لم يكتب لغيرها من المجلات العربية ما كتب لها من الحظوة عند ذوي العلم والأدب، وسعة الانتشار في مختلف الأمصار؛ تصدر عن عاصمة الأدب العربي والفكر الإسلامي في هذا العصر، وينظر الناس إلى ما يكتب فيها ممثلاً بصورة إجمالية لآراء عمدتها الذين هم من أركان النهضة الأدبية العربية الجديدة، ونزعة الإسلام الحديثة. لذلك خشيت أن يحسب علماء الغرب هذا الرأي العجيب معبراً عن اتجاه جدي للرأي العام الإسلامي المثقف، فيحكموا علينا بما لا نستحقه
أحس صاحب المقال الأول بوهن دليله، فنهج منهجاً غريباً بعد ذلك، إذ طلب التدليل على عكس ما أدعى، أي على أن الفقه الروماني الحديث هو الفقه الروماني القديم قائلاً:(ليأتونا بالأسانيد الصحيحة والروايات المضبوطة)
الله! الله! أيطلب من أحبار العلم التدليل على ما أقرته أجيال من الأعلام المحققين لمجرد دعوى انفرد بها أدبينا الطنطاوي، وهو على الرغم من تفوقه على أكثر أقرانه بذكاء كان موضع إعجابنا، لم يتح له أن يدرس الحقوق الرومانية أكثر من غيره من الطلاب في معهد الحقوق بدمشق، ولم يتأت له النظر في تأريخ الحقوق، ولم يقيض له بعد أن يطلع على ما ظهر في العالم من مؤلفات في الحقوق الرومانية وما أكتشف من آثار تاريخية
أن من يقدم على الجزم بأمر كهذا يحدث - أن صح - انقلاباً في العالم العلمي لا يعادله أي انقلاب عرفه التاريخ في الدين والسياسة أو الاجتماع، لا يحق له أن يكتفي بأن يقول لهذا العالم العلمي:(دلل أيها العالم على صحة ما عكفت على دراسته باعتباره صحيحاً منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً)
البينة على من ادعى؛ فعلى من يقول أن الفقه الروماني الذي نعرفه الآن مختلق أن يثبت اختلاقه ويبين مختلقه، ويظهر مكنون الفقه الروماني القديم، أسوة بما يفعله العلماء إذ يكشفون القناع عن الوثائق التاريخية المزورة والكتب المنتحلة
لئن جاز في نظرنا لأحد من النصارى أو اليهود المتعصبين أن يجزم بأن القرآن الذي بأيدينا هو غير القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه مختلق من
جماعة من علماء المسلمين الحديثين، مكتفياً للتدليل على ذلك بأن يقول لنا:(هاتوا دليلكم) فقد حق كذلك لصاحبي المقالين المتحمسين للإسلام هذا التحمس أن يزعما ما زعماه
لقد جمع نصوص الشريعة الرومانية وآراء فقهائها حتى بدء القرن السادس المسيحي، تلك النصوص القانونية والآراء الحقوقية التي هي أساس لدرس الحقوق وبحثها في جامعات العالم، ذلك الإمبراطور المتشرع الروماني جوستنيان (المتوفى سنة 565 ب. م) في خلال ست سنين (528 - 534 ب. م) وأضاف إلى ذلك القوانين التي أصدرها؛ وقد عرفت هذه المجموعة الحقوقية منذ بدء القرون الوسطى بـ وكان بين العلماء الذين يشتغلون تحت رعاية الإمبراطور الفقيه أساتذة في معهد حقوق بيزانس:(القسطنطينية)، ومعهد حقوق بيروت
إن هذه المجموعة الحقوقية قد انتقلت إلينا بنصها وفصها، وهي مؤلفة من أربعة كتب أو مجموعات صغيرة: الـ والـ (ديجست والـ (انستيتود الـ (نوفل ولا تزال نسخ قديمة من هذه الكتب أو المجموعات القيمة محفوظة في المكاتب الكبرى في أوربا يرجع عهد بعضها إلى القرن السادس (ب. م)، أي إلى القرن الذي عاش فيه جامعها وواضعها الإمبراطور جوستنيان نفسه
ومن أجل هذه النسخ المخطوطة نسخة من الـ كتبها خطاطون إغريقيون في القرن السادس والقرن السابع (ب. م)، معرفة بالـ (فلورنسية لوجودها في مدينة (فلورنسة) منذ سنة 1406. وقد نشرت هذه المخطوطات مصورة تصويراً فوتوغرافياً، وحققها العلماء الاختصاصيون في المخطوطات، ولم يطعن عليها طاعن؛ وعثر على مخطوطات كثيرة من عصر (جوستنيان) مكتوبة في اللغة اليونانية على الورق البردي، نشر قسماً منها العالمان الألمانيان (ميتس و (ويلكن سنة 1912 ونشر الأستاذ (جان ماسبيرو عدداً كبيراً من هذه المخطوطات المدونة على ورق البردي في مجموعة متحف القاهرة ' (سنة 1910 - 1914) بل إن المتاحف والمكاتب تحفظ أيضاً نسخاً مخطوطة أصلية لمجموعات قانونية سابقة لعهد (جوستنيان) كالمجموعة القانونية للإمبراطور (ثيودوسيوس وكتاب المتشرع (غايوس المعروف بالـ ومؤلفات أخرى، منها مؤلف معروف في القرن الرابع (ب. م) وعثر عليه في مكتبة الفاتيكان سنة 1820
ثم أن الفقه الروماني هذا قد عمل به بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية في روما، وبعد وفاة الإمبراطور جوستنيان، وبعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية، وهذا أمر لم يختلف فيه العلماء المؤرحون. فبلاد فرنسا الجنوبية ظلت خاضعة لأحكام الفقه الروماني بصفة حقوق عرفية حتى قبيل الثورة الفرنسية. هذا عدا البلاد التي تأثرت كثيراً أو قليلاً بالحقوق الرومانية، كأيطاليا وألمانيا، حتى إنكلترا بلاد العرف والتقاليد. وقد بقي الفقه الروماني معمولاً به في عصرنا هذا في بلاد جنوبي إفريقية الخاضعة لأنكلترة
أما المناقضات التي وقع فيها السيد صالح العلوي نقلاً عن السيد العلوي الحضرمي، فأشير منها إلى ما جاء في السطر الثاني من الجانب الأول من الصفحة الـ (781) من الرسالة. فبعد أن قال أن الفقه الروماني (اختفى ثم اكتشف، ولم يظهر ويعمل به إلا في القرن الثاني عشر، وانه لم يكن معروفاً حتى عند الرومان أنفسهم قبل القرن الحادي عشر)؛ وقال في السطر (22) من الصفحة نفسها: (أن دعوى اختفائه أكذوبة)، ثم ما لبث أن استند إلى قول العلامة (سافنيه):(إن القوانين الرومانية لم تختف لأنها ظلت معمولاً بها إلى اليوم من غير انقطاع)
أما وقد صح لدى السيد العلوي قول (سافنيه) هذا، فهو مضطر إلى الاعتراف إذن بان الفقه الروماني المعروف لدينا الآن، هو تلك (القوانين الرومانية التي لم تختف لأنها ظلت معمولاً بها إلى اليوم)، ومرغم على التسليم بان تلك القوانين الرومانية القديمة التي هي أقدم عهداً من الفقه الاسلامي، لم تختلق اختلاقاً ولم تلفق تلفيقاً من قبل العلماء الحديثين، ولم تؤخذ عن الفقه الإسلامي، خلافاً لما ادعى. ولا أدري كيف يورد قول سافنيه هذا ويؤيده، ثم يحاول، بعد القول المستشهد به بسطر واحد أن يأتي بأدلة على اقتباس القوانين الرومانية من الحقوق الإسلامية
قلنا انه لا يجوز مبدئياً طلب التدليل على أن الفقه الروماني الحديث هو نفس الفقه الروماني القديم لمجرد دعوى وحيدة في بابها. ثم إذا قبلنا لزوم التدليل، فما هي وسائل البينة؟
إن السيد الطنطاوي يتطلب (الأسانيد الصحيحة، الروايات المضبوطة)
إن البينات تختلف بحسب الأمور المراد إثباتها؛ فإذا كانت هذه الأمور غير مدونة بنفسها،
كالحديث الشريف فلابد حينئذ من ذكر الأسانيد وسرد الروايات، وإقامة الدليل على صدق الرواة، إلى آخر ذلك مما هو معروف في أصول علم الحديث. أما إذا كان المراد إثباته مدوناً بنفسه، لم يعد مجال حينئذ إلى الأخذ بطريقة الرواية والإسناد، وصار لابد من التدليل عليه بنسخته الأصلية التي وضع بها، أو بالنسخة التي أخذت عن هذه. فالقرآن الكريم مثلاً، لما كان قد دون في العهد الذي نزل فيه، وجمعت صحفه المدونة في عهد الخليفة الأول، وانتقلت إلينا نسخ مخطوطة منه كتبت في عهد قريب من عهد نزوله، لم يلجأ إلى الرواية لإثبات صحته
وكذلك أيضاً شأن الشرع الروماني الذي دون وجمع في عهد جوستنيان، فهو لا يثبت بالروايات والأسانيد، ولكنه يثبت بنسخة المخطوطة القديمة التي هي من عصر جامعه ومصلحه جوستنيان. وهذه النسخ قد عثر عليها ولا تزال محفوظة؛ ولو لم يكن على الفرض، بأيدينا منها، إلا ما هو منذ القرون الوسطى، لوجب أيضاً إلا نشك في صحتها، لأن علماء تلك القرون المظلمة لم يكن لديهم من الكفاية والمقدرة العلمية ما يمكنهم من وضع حقوق راقية كالشرع الروماني، فالأولى ألا يشار الروايات والأسانيد في موضوع الحقوق الرومانية وغيرها من الحقوق التي دونت عند وضعها
هل بعد الوثائق الأثرية والنسخ المخطوطة القديمة حاجة لدليل على صحة؟ إن القوانين والأحكام الحقوقي الرومانية المعروفة في عهدنا هذا هي نفس القوانين والأحكام التي عرفها الرومان في القرن السادس الميلادي وقبله
قد يغضب صاحبا المقالين فيقولان إن النسخ المخطوطة القديمة نفسها مصطنعة لفقها الأوربيون؛ فإذا بلغت بهما الحماسة الدينية القومية هذا الحد من إنكار الحقائق العلمية التاريخية الراهنة لم يعد آنئذ مجال للبحث
ولكن هل يجوز لنا أن نتهم جميع علماء الغرب بلا استثناء بالتزوير؟ وما الذي يسوغ لنا ذلك؟ أولا نجد بينهم إناسا وضعوا الحقيقة في أعلى المنازل وجعلوها فوق كل شيء؟ ألا نرى بينهم عدداً غير قليل دافع عما يعتقد أنه الحقيقة مخاصماً بذلك رجال الدين، ومعادياً في هذا السبيل السلطان الجائر؟
ألم ينافح كثير من علماء المشرقيات عن ديننا الحنيف، ونبينا العربي، وحضارتنا
الاسلامية، ومدنيتنا الشرقية، تجاه حملات المتعصبين من أبناء جلدتهم ودينهم؟
حسبنا أن نذكر على سبيل المثال أسماء الفرنسيين: (جوستاف لوبون) صاحب كتاب حضارة العرب و (وهوداس) و (منارسيه)، مترجمي صحيح البخاري للفرنسية، و (درمنغيهم) صاحب كتاب حياة (محمد)، و (ماسينيون) مدرس العلوم الاجتماعية الإسلامية في كلية فرنسا، وصاحب المؤلفات الكثيرة عن الإسلام، ومدير مجلة المباحث الإسلامية؛ ويكفينا أن ننوه بتلك الوقفة الشريفة التي وقفها هذا الأستاذ الأخير سنة 1928 دفاعاً عن المدنية الإسلامية، ورده البليغ على المسيو (لويس برتران) الذي حمل على الإسلام والعرب في مقال نشرته في ذلك العام جريدة (الفيجارو) الباريسية
أيعقل ألا يوجد رجل واحد شريف منزه عن التزوير بين علماء أوربا من فرنسيين، وألمان، وإنكليز، ومجر، وإيطاليين وأسبان، وروس الخ.؟ فلو لم يوجد إلا عالم واحد صادق يقول الحق، لكان بلا ريب قد رفع صوته عالياً أمام هذه الفرية الفظيعة التي يتهم بها السيدان، الطنطاوي، والعلوي العالم في الغرب؛ ولكنا شهدنا قبل مقالي حضرتيهما حرباً قلمية دونها حرب البسوس، وخصاماً علمياً دونه خصام الملل والنحل، ودعاوى ذم وتزوير لا تجاريها دعاوى (آثار كلوزيل الحفرية. ونحن نعلم أن العلماء في أوروبا يتجادلون ويتناظرون في أمور نعدها فرعية وزهيدة
أضف إلى ذلك أن العلماء الاختصاصيين في الحقوق الرومانية ليسوا جميعاً من عرق لاتيني أو ثقافة لاتينية، بل هم من مختلف الأعراق والأمم؛ وثم علماء من الألمان هم جهابذة في الفقه الروماني، أمثال (سافيني و (ايهرينغ لا يمكن أن نتهمهم بتعصب للرومان، وقد ساروا جميعاً في ضوء الحقيقة التاريخية المقررة مطابقة الفقه الروماني المعروف في عصرنا للفقه الروماني القديم
لم يمنع العلماء الأوربيين عامة تفاخرهم بشرع الرومان الذي ورثوه من الإقرار باقتباس الرومان شيئاً غير يسير من شرائع الأمم الشرقية التي سلفتهم أو عاصرتهم مباشرة، أو عن طريق الإغريق، حتى أن عالماً عظيم القدر هو من أكابر الأثريين الأستاذ الفرنسي وضع كتاباً دلل فيه على اقتباس قسم عظيم من أحكام قانون (الأثني عشر لوحاً) الروماني، وهو اقدم قانون لدى الرومان من شريعة المصريين القدماء مورداً للنص الروماني والنص
المصري، ومبيناً ما بينهما من شبه لا مراء فيه؛ وبهذه الطريقة العلمية، وبعد تنقيب وبحث مدة أعوام، عمد إلى إثبات دعوى الاقتباس والأخذ، لا بمجرد القول يثيره غرب الشباب
إن علماء يوجد بينهم أمثال (ريفيو)، وأمثال المستشرق الفرنسي (هوداس) الذي يقول:(إن القرآن ليحوي بصورة كامنة جميع ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري من معارف) و (كولد زيهر) الذي يقول: (يجب على المرء إذا شاء أن يكون عادلاً إن يسلم بأن في نظريات الإسلام قوة فعالة متجهة نحو الخير، وبأن توافق هذه النظريات تستطيع أن تكون حياة لا تشوبها شائبة من الناحية الخلقية؛ فهي توجب الرحمة لمخلوقات الله جميعاً، وحسن النية في المعاملات، والمحبة والوفاء، وكبح غرائز الأثرة)، والبارون (كارادي فو) الذي يكتب صراحة عن ابن خلدون (انه لم يسبق قط لعقل من العقول أن يكون لديه فكرة في فلسفة التاريخ أكثر وضوحاً من فكرة ابن خلدون؛ وأن ابن خلدون هو سلف علمائنا الاجتماعيين الحديثين الخ). وعلماء آخرون هم في هذه المنزلة أو أسمى؛ إن علماء كهؤلاء لا يمكن أن يزوروا بداعي التعصب الديني شريعة يسمونها بالفقه الروماني ويقتبسونها عن الشرع الإسلامي؛ ولا يعقل أن يسكتوا أمام تزوير كهذا
ثم إن بين أحكام الحقوق الرومانية، وأحكام الشريعة الاسلامية، ولا سيما فيما له صلة بالأحوال الشخصية، وحقوق الأشياء (حق الملك وما يتفرع عنه) اختلافاً وتبايناً لا يدعان عدا الأدلة التي ذكرناها مجالاً للشك بأن دعوى اختلاق الفقه الروماني من قبل علماء حديثين اقتبسوه عن الفقه الإسلامي ضرب من الخيال
فأولى بشبابنا ألا يكونوا أسرى عواطفهم من تعصب للدين والقومية، وكره لأوربا والثقافة الغربية، فيسرفوا في القول حتى يجانبوا المنطق
إن لحقيقة فوق العاطفة والهوى، والعلم لا وطن له. ثم إن في دعاواهم الغربية وتهمهم الفظيعة، بنية خدمة الإسلام ما قد يضر بالإسلام ويسيء بثقافة المسلمين الظنون
محمد محسن البرازي
أستاذ في معهد الحقوق بالجامعة السورية
في الإصلاح العلمي:
الأزهر بين الجامعية والمدرسية
بقلم محمد طه الحاجري
تسيطر على الدراسة العالية في مصر روحان، مازالتا تصطرعان وتنتضلان، كما يصطرع الحق والباطل، في عنف وقسوة حيناً، وفي هدوء وهينة حيناً آخر. إحداهما روح جامعية تقوم على تمثيل العلم في أصح صوره أدق معانيه، وتهذيب العقل في أوسع باحاته وأكمل مجاليه، وتربية الملكات العالية التي يقوم بها ذلك العالم الصغير، وتطلب الحقيقة في مختلف أشكالها، وبشتى وسائلها؛ والأخرى روح مدرسية تعتمد على قشور من العلم لا تغني عن العلم شيئاً، وتلقين لبعض الحقائق المقررة كأنها حقائق مطلقة، وإغفال لحرمة العقل والملكات والإنسانية لأن الأمر أهون من ذلك فيما يزعمون
والأولى روح مطلقة تأبى التقيد، بعيدة الأفق لا يكاد يحدها حد، إلا ما اقتضته طبيعة العلم واستلزمته أساليب التفكير الصحيح.
والأخرى لا حياة لها إلا في أثقال من القيود المرهقة، واسداد من الحدود الضيقة، توقف الفكر، وتبلد العقل، وتعطل المواهب، وتجعل من الرجل آلة طيعة، وكأننا منفعلاً لا فاعلاً.
ففرق ما بين الروح الجامعية والروح المدرسية، هو فرق ما بين الروح الفاعلة المختارة، والآلة المنفعلة المنقادة. تلك توجه العلم للعلم، وتطلب الحقيقة من أجل الحقيقة، وتقدر المسائل العلمية تقديراً ذاتياً، لا يخضع للهوى، ولا يتكيف بغاية معينة مرسومة، ليست من العلم ولا من الحق ولا من الحياة الفاضلة. وهذه جعلت العلم مركباً إلى العيش، ووسيلة إلى نوع من الحياة الدنيا، وآلة صماء لتهيئة غرض محدود وإصابة هدف معين، فوضعت له المناهج والرسوم، وثقل بالأصفاد والقيود، وأقيمت من حوله الاسداد والحدود، وحصن من أن تصل إليه شعاعة من أشعة الروح الجامعية النفاذة، فتثير فيه طبيعة الثورة على تلك اليد الثقيلة الباطشة
وتتنازع الروحان الهيمنة على العلم، ولكن الغلبة للروح الجامعية مهما أقيمت في وجهها الصعاب، واكتأدت سبيلها العقاب؛ ذلك أن قوتها من قوة العلم، والعلم قوي غلاب، لا يصده صاد ولا يغلبه غالب. والروح المدرسية روح مصطنعة، أوجدها الضعف، ودعمها
الاستعمار، وقام من حولها دعاة الذلة والمسكنة يسندون ماوهي، ويرأبون ما تصدع، ويلونونها بألوان فاقعة تأخذ بأبصار الغفل السذج
هذا إلى أن الروح الجامعية روح عريقة في مصر تضرب إلى حدود بعيدة من تأريخنا العلمي، وتتمثل في ذلك التوثب الفكري المجيد الذي يبدو - في أروع مظهره - في ذلك التراث العلمي الذي خلفه أجدادنا من رجال الأزهر: جامعة العلم ومثابة العلماء مدة من القرون مديدة، جديرة أن تلبسنا ثوب الفخر، وتقوي في نفوسنا الاعتزاز بالروح الجامعية، وتبث فينا القوة على تعزيزها ودفع المعتدين عليها، دون أن تفرقنا في ذلك الأهواء المقيتة، وتوزعنا العصبيات الفارغة. بل كلنا أمام العلم والتاريخ جامعيون: نستمد من روحنا العلمية وتأريخنا الجامعي قوة على قوة وعزة فوق عزة، ونستمسك بجامعيتنا ونستعصم بها من عوامل الضعف أو التسفل، ومن منازعة أهواء الحياة، والتفريط في جانب العلم
فلست أذهب مذهب القائلين بأن الروح الجامعية في مصر وليدة الجامعة الأولى والثانية، أو أنها جاءت إلينا من أوربا مع العائدين إليها من المصريين، أو مع الأساتذة الأجانب القادمين أو المستقدمين؛ فلنا جامعيتنا الأصيلة المنبعثة عن أقدم الجامعات، ولنا تقاليدنا العلمية الصحيحة التي تشبع في أنفسنا الرغبة العلمية وترضي فيها العزة القومية، وتبعث فيها المضاء والحمية، وتعصمنا من مهاوي الروح المدرسية التي يتكاتف ربائب الاستعمار وأبواقه وأنصاره والمخدعون فيه والعمون عنه على تثبيت أقدامها، ونشر سمومها، وتزيينها في أعين الغفل الواقفين عند الظواهر، المفتونين عن الحقائق، في أسماء سمومها ما أنزل الله بها من سلطان: من النظام والجمال ومراعاة الزمن ومسايرة الحياة ومطالب العيش، وما إلى ذلك من العبارات الخادعة
وتلك هي الخدعة التي نخشى أبلغ الخشية وأعظمها أعتلاجاً في القلب أن يقع الأزهر في حبلتها، وأن يتردى في مهواتها. ونرجو أن لا يكون اندفاعه في سبيل الإصلاح والتجدد مغشياً على بصره أن يتنبه إليها، وألا تكون مسايرته لروح العصر صارفة له عن روح العلم وصبغته التي صبغ عليها، وإلا ينسيه جديده الذي يشتد عدواً في طلبه وتحقيقه عن تقاليده العلمية الأولى التي تفخر بها مصر والشرق العربي بله الأزهر نفسه
وأنه لحقيق بالأزهر في وقاره ورزانته، وزمامه بيد الأستاذ المراغي في بصره وحكمته،
ألا يمنعه طلب الجديد من التمسك بتقاليده، وألا تخدعه مطالب الحياة عن روحه الجامعية التي قام عليها بناؤه، وارتفع بها مجده؛ ولعله لا يني في تعفية ما خلفه العهد المشئوم من آثار لتلك الروح المدرسية المشئومة، كانت هي القاضية عليه، لو طال بها الزمن فيه، في غفلة من هؤلاء وإغماض من أولئك، لولا لطف الله بنا ورحمته عليه
إنما ينبغي أن يكون أساس الإصلاح الأزهر هو الأخذ بأساليب البحث الحديثة، ومجاراة الرقي العلمي في مجالاته العليا، ومسايرة الحركة العلمية فيما يتصل بنواحي دراسته، والاتصال بالحياة العصرية اتصالاً نبيلاً يعينه على تأدية رسالته، إذ يهيئ له وسائل الإصلاح الاجتماعي، ويعبد له سبل الدعوة إلى الحق والفضيلة والدين، مع الاحتفاظ بتلك الروح الجامعية التي تأبى أن تتعبد لما دون العلم من المطالب الدنيا، وتلك الصوفية العلمية التي تفرض على صاحبها الفناء في العلم، والاندماج في الدرس، والترفع عن الدنيات. وللأزهر من ديمه في ذلك شواهد باهرة وآيات ظاهرة: فليس في ذلك القول ما يسوغ لقائل أن يرميه بأنه خيال شاعر أو حلم نائم
لا! بل تأريخ العلم كله، وسير العلماء الغابرين والمعاصرين، شاهد بأن الروح العلمية الخالصة التي ترفع العلم فوق كل اعتبار، وتذهب به إلى منزلة من التقديس عالية، هي وحدها التي ينبغي أن تسود جامعات الدرس ومعاهد البحث، وهي وحدها التي تخلع على صاحبها ثوب المجد، وترفعه إلى منزلة الخلود
فليس (تعصير) الأزهر أن ينزل به إلى تلك الدركة الدنيا من الحياة حيث يضطرب الناس ويتعايشون، وأن يعد أهله لمرافق الحياة وقضاء ضرورات العيش ليس غير، ليصير أحدهم معلم صبيان، أو مأذون قرية، أو إمام مسجد، أو واعضاً في مدينة. وتصبح تلك الجامعة الكبرى ولا هم لها أن تخرج لها إلا تخريج أولئك وتزويدهم بما لابد منه لأمثالهم! ويا ضيعة التأريخ المجيد إذن، ويا هوان الاسم الكبير الضخم، ويل السخرية من تلك الصفة الجامعية التي وسموا بها تلك المدرسة!
كم يمتلئ صدري أسى وحسرة حتى ليكاد قلبي أن يتفطر حين أشعر بذلك المصير الذي أخشى أن يهوى إليه الأزهر في سبيله إلى الإصلاح، ومسراه نحو التجديد، لولا أمل يغمر قلبي في حكمة الأستاذ الأكبر وبصيرته، وروحه الجامعية التي تتجلى في أحاديثه وخطبه،
وفي أنه يترسم الأستاذ الإمام (قدس الله سره) في خطواته الإصلاحية، ومراميه العلمية
إن الضعف النفسي هو الثغرة التي تنفذ منها الروح المدرسية إلى الأزهر. فما اكثر ما تضيق النفوس بالكمال، وتنوء بتكاليف المثل الأعلى. ولكن الأمر في الإصلاح العلمي يجب ألا ينزل على حكم الضعف، فأن العلم يتطلب بطبيعته القوة المتحكمة، والعزيمة المصممة، كما يجب أن يسمو المصلح فوق الأهواء فلا يداهن فيها، وفوق شهوات النفوس فلا يتألف عليها أو يتملقها
أنا لا أقول إن (العلم زبال) كما كان يقال في الأزهر، فقد تطورت الحياة الاجتماعية تطوراً لا يسيغ ذلك القول؛ ولا أقول إن العالم يجب أن يعيش في صومعة يتابع فيها دراسته، ويوالي فيها تأملاته؛ أو يقنع بالدون من العيش في مقابل طموحه العلمي، فهذا ما لا سبيل إليه مطلقاً؛ ولكني أقول يجب ألا يكون العيش غاية العلم، فأنه متى صار أداة لمرافق الحياة وجب أن يتكيف بما تقتضيه، لا بما يقتضيه البحث العلمي والحقيقة المنشودة. وأي مسخ للعلم وتحويل له عن سبيله أشنع من هذا؟ وأني أعيذ بالأزهر - وله من ماضيه المجيد معاذ ومستعصم - أن يحقر تأريخه، وينكر ماضيه، ويكون صاحب هذه الجناية. ثم لعله مع هذا لا يوفق في تهيئة الترف والرفاهية والحياة الكريمة لرجاله، ويالها من عثرة!
وما أحقه إذن بقول الله جل شأنه: خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين
على أن الحياة لا تضن على الرجل الكريم الذي يبذل نفسه في سبيل العلم بما يضمن له راحة البال، وهدوء الضمير، وكرامة النفس، ومتاع العيش. ومن فوق ذلك كله ما يستشعره من سعادة لا تعد لها سعادة في كل لحظة من لحظات حياته العلمية الموفقة
ولقد أحس بأن الناس بدأوا يمجون ذلك الصنف من المعاهد التي تهيمن على الروح المدرسية. وبدأت الحياة تلفظ هؤلاء الذين أنطبعوا بطابع تلك الروح، فصاروا بالآلات التي تملأ لتفرغ أشبه منهم بالأحياء الذين حيويتهم دائبة على الخلق والإبداع. ولئن لم يتجل هذا المظهر اليوم تجلياً قاطعاً يمتلخ الشبهة، فأن الحياة صائرة إليه، ما من ذلك بد؛ وبين أيدينا مقدماته جلية
فليعرف الأزهر ذلك وليتدبره تدبر الحكيم البصير، ولا يصرفنه المتاع العاجل عن العاقبة القريبة، وعن حسن تفهم الأمور على وجهها الصحيح، وعن النظر في منطق الحياة الذي
لا يختلف؛ ولا تغرنه الحياة الدنيا عن الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل
محمد طه الحاجري
بكلية الآداب
الجو في القصة
بقلم محمود عزت مرسي
قبل أن استعرض بعض مسائل هذا البحث، نتقدم بسؤال صغير: هل يخلق جو القصة قبل تكوين القصة ذاتها، أي قبل الإلمام التام بكل أوضاعها وشخصياتها وحوادثها؟ أن الإجابة على هذا السؤال قد تبدو مربكة، كثيرة الشعاب، والواقع غير هذا، فان أول ما يجب أن نفهمه أن الجو هو الذي (يؤدي) أو هو الذي يساعد على تأدية عملية الخلق في الرواية أو القصة، ومعنى هذا أن القصة لا يمكن أن تخلق أو تتكون أجزاؤها بعضها إلى بعض، كما لا يمكن أن تمر على أدوار التكوين حتى تصب في قالبها الأخير قبل أن يسبق هذا وجود الجو الذي تقع فيه هذه العمليات، إذ أن القصة كأي شيء حي يحتاج إلى الجو الذي يؤهل له عملية الظهور في الحياة والنمو والاكتمال
ذكرت (آنا جريجو فنا) في مذكراتها عن زوجها فيدرو دوستويفسكي القصصي الروسي الخالد أنه لما كان في سويسرا، كان كثير الاضطراب والملل والسأم، وأنه لم يألف سويسرا ولا أهلها كثيراً، بل كان كثير التحنان إلى روسيا دائم الشوق إليها. وقد بدا هذا ظاهراً في رسائله التي كان يبعث بها إلى بعض خلصائه في روسيا، وقد كان دوستويفسكي في تلك الآونة التي قضاها في سويسرا يعاني ضيقاً ماليا خانقاً، وكانت الديون التي الزم نفسه أدائها بعدى وفاة أخيه ميشيل تجعله يرى في سويسرا مأمناً لو كان رجلاً يلوذ بالفرار من المسئوليات والدائنين الذين ينتظرون عودته إلى البلاد لمطالبته بسداد ديونهم أو زجه في سجن المدنيين حتى يوفي دينه. . لكن هذا الرجل العظيم لم يغفل قط يوماً أثناء إقامته في سويسرا إلى الحنين إلى روسيا حتى أتيح له ذلك بعد سنوات. فلم يكد يصل إلى وطنه حتى أحس بأن الحياة قد عادت تدب في عروقه قوية مشبوبة. . مع أن وفود الدائنين لم تكن لتنقطع عن زيارة بيته على أثر وصله!
كتب دستويفسكي في بعض رسائله (أنني احتاج إلى الجو الروسي حتى أستطيع أن اكتب كما أريد) وهذه العبارة الدقيقة تكاد تحل بنفسها موضوع هذا البحث. فان هذا القصصي على الرغم من انه عاش في روسيا طوال حياته إلا سنوات قليلة قضاها في الخارج، ومع انه استطاع أن يختزن في ذاكرته وقلبه وعقله الباطن كل الاحساسات والحوادث، وأن
يخلق الجو الروسي في كافة رواياته التي آلفها في سويسرا كنتيجة للاعتبارات السابقة، إلا انه مع هذا كله خشي أن هو ابتعد طويلاً عن وطنه أن يخف ويتضاءل مقدار الجو الذي اختزنه في حياته الماضية، وشعر بحاجته - على حد التعبير الأدبي - إلى أوكسجين روسي يملأ رئتيه. لأنه أستشعر بأنه مهما استنهض كل الذكريات في خلق الجو فأنه في حاجة إلى أن يكون دائماً في ذلك الجو ليطمئن على فنه من أن يختلط بأجواء أخرى فيفسد وتضعف روعته. أو تشيع فيه الفوضى والاضطراب
إن الفنان العظيم لابد أن يكون له جو خاص، هذا الجو هو ذوب مواهبه، هو العالم الذي يضع فيه افكاره، ويخلق بين جنباته أعماله الفنية؛ فإذا رأينا رجلاً مثل دستويفسكي يحتاج إلى جو روسيا لتكوين إعماله الأدبية، فهو يعطي لهذا الجو شكلاً ولوناً ورائحة تختلف عن غيره من سائر القصصيين الروسيين وإن اتفقوا جميعاً في شيء واحد، وهو الجو العام لبلادهم، إلا أن لكل منهم جوه الخاص. ومن هذه النقطة تتفاوت أقدار الفنانين تبعاً لقدرة كل منهم وسمو فنه وحذقه عن الآخرين
والقصصي الذي لا تلمح في عمله جواً خاصاً به، ولا تحس بهذا الجو أو وجوده، أو ترى جوه خليطاً من تأثرت شتى؛ هذا القصصي لا يمكن أن يكون قصصياً صحيحاً. لأن التركيز ينقصه، بل هو قصصي (اكتسب) فن القصة اكتساباً، والتقط موهبته الفنية من مواهب الكثيرين، واستلب من كل الأجواء الأدبية التي عاش فيها شيئاً، ليعيش لحظات على التقليد أو المحاكاة. وهذا الفنان تبدو حياته الفنية مهددة دائماً بالموت والانتهاء، لأنه شائع بين كافة الفنانين، لا شخصية له بينهم
إن أهمية وجود الجو في القصة لا حد لها. فأن هذا الجو هو الذي تخلق فيه الشخصيات والحوادث، وكلما كان القصصي أو المصور، أو الموسيقي، أو الشاعر، مؤمناً بالجو الذي يعيش فيه ارتفع فنه إلى الذروة، واستطاع أن يبرع في إيضاح عمله الفني
قد تكون القصة - في موضوعها - بسيطة لا شذوذ في حوادثها، ولا مؤثرات مفتعلة كما نرى في القصص الرخيص، ومع هذا فأن القصصي يستطيع أن يسمو بالحادثة الصغيرة إلى أوج الفن القصصي؛ وذلك لان طريقة العرض والتقديم والجو الذي تنطلق فيه القصة هي التي تحيا بها القصة. ومن هنا فقط نستطيع أن نقارن ونفاضل بين القصصيين، فأن
القصصي لا يمتاز عن غيره بكثرة الأغراب في الحوادث، بل هو يمتاز بجوه، هذا الجو الذي تحيا فيه شخصيات قصصه؛ حتى ليشعر القارئ بأنه يعيش في مع تلك الشخصيات، وبهذا يحس القارئ أنه أمام عمل فني مجيد، جدير بالتأمل العميق، لا يمكن أن يذهب أو يضمحل بعد قليل كما تذهب صور الحوادث التي يقرأها الإنسان في الصحف، والتي يعتقد بعض الناس - خطأ - أن هذه الحوادث من القصص، وهذه الحوادث في المعنى الفني أحط أنواع القصة وأكثرها تفاهة
ولنقرب هذا، نقول أن كثيرين يسجنون مثلاً، فإذا خرج أحدهم من السجن وأحببت أن يورد لك شيئاً عما رآه وأحسه في المدة التي أمضاها في السجن اقتصر على ذكر الحوادث، وهذا شيء عادي يمكن لكل إنسان أن يفعله؛ بينما لا يعمد إلى ذلك الفنان الذي يعيش في جو السجن، فهو يرى الحوادث التي وقعت له في السجن في المكانة الثانية. أي أن جو السجن ساعد مواهبه على أن يكون شخصاً إيجابياً لخلق الاحساسات والتأملات والأفكار، بعد أن انعكست عليه حوادث السجن المختلفة، فأخرجها على النحو الذي أحس به، وهذه هي شخصية الفنان. إذ أن الحادثة تمر به فلا تعبر بسيطة كما تعبر بسائر الناس، ويرى المنظر، فلا يراه كما يراه غيره بصورته الظاهرة؛ بل يراه بعينه الفنية التي تنفذ إلى أبعاد شتى لا يمكن أن تخطر على ذهن عادي، أو تتلفت شعوره
إن ثقافة الفنان وسعة اطلاعه لا تكفيان لكي يكون القصصي كاتباً مجيداً، يستطيع أن يخلق الجو القصصي؛ وقد يبرع القصصي في تكوين القصة من كل جوانبها، ولكنه يفشل فشلاً تاماً في إيجاد الجو، ولنضرب المثل على هذا نقول: إن الأغاني الريفية تحس فيها حرارة الإيمان بالبيئة، وهي على الرغم من صراحتها وخلوها من الزخارف الكثيرة التي تفسد طبيعة الأغاني وتباعد بينها وبين الحقائق، وقربها من الطبيعة وتعبيرها المبين عن مشاعر إنسانية مأخوذة من البيئة هي في قيمتها الفنية أسمى من الأغاني التي لا تعتمد على الجو، بل تعتمد على اللامعان في التأثير بذكر الهجر، والوصال، والدموع، وما إلى ذلك من العواطف التي يمكن حشدها في كل أغنية في أي إقليم. وقد تكون الأغنية الأخيرة في تجويدها ورقتها وزخارفها، أحسن من الأولى صنعاً، إلا أنها مفقودة الطابع
وعلى هذا الوضع نقول بأن (الجو) لا يمكن أن يخلق عند الفنان إلا إذا كان مؤمناً كل
الأيمان بالبيئة، وحقيقة الفن الذي يعالجه. . . .
محمود عزت موسى
للتاريخ
الرافعي
بقلم تلميذه وصديقه الأستاذ محمد سعيد العريان
(بيان كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم) سعد زغلول
بيني وبين الأستاذ مصطفى صادق الرافعي عهد وذمة، وله علي حرمة المعلم والأب والصديق؛ أفترى كل أولئك يمنحني الحق أن أكتب عنه كما عرفته، وأخذت عنه، واستمعت إليه، واستمتعت بفنه وأدبه ومجلسه؛ أم تراه سيغضب إذ يراني أتناول حياته وأدبه فأنشر منهما على الناس، ثم لا أنبئه بما اعتزمت إلا حين تنبئه الصحائف المنشورة، على حين أجالسه كل مساء. . . .؟
وإني لحريص على رضاه، وما أعلم أنه يغضبه أن يحسن رأيي فيه أو يسوء؛ فانه ليعلم علمي أن ذلك حق الأدب، لا يمنع منه تفاوت المنازل أو تداني الرتب، ولا يؤثر فيه حق المعلم والأب والصديق، بل لعله إذ يغضب أن يكون غضبه من أنه يؤثر العيش في عزلته التي رضيها لنفسه، بعيداً من ضوضاء الحياة وصخب الناس، منعزلاً في (طنطا) الحبيبة إليه، عن مجالي الأدب ومزدحم المتأدبين في (القاهرة)
على أني إلى ذلك لا أستطيع أن أرد طلبة للأستاذ الزيات، وهو قد طلب إلي أن أكتب هذا الفصل عن الرافعي، على علم منزلته عندي ومنزلتي عنده؛ أفتشفع لي هذه المعذرة عند الأستاذ الرافعي أم سيشفع لي الأستاذ الزيات. .؟
تمهيد
سمعت اسم الرافعي لأول مرة مقترنا إلى نشيده الخالد: (اسلمي يا مصر. . .) في حفل حاشد بطنطا؛ وكان لاسمه يومئذ في أذني رنين عذل، امتزج بأنغام ذلك النشيد، وتألف لي منهما لحن علويٌّ ساحر، فيه جمال وعذوبة، وفيه اعتزام وقوة. على أني لم أكن أعرف يومئذ أهو الرافعي صاحب (الأخبار)، أم رافعي آخر، تجمع بينهما وحدة اللقب وشرعة الوطنية
ومضت سنوات، وشدوت من العلم ما شدوت، وإذا صديق يدفع إلى كتاب (رسائل
الأحزان)
كنت يومئذ في بكرة الشباب، في تلك السن التي تدفع الفتى إلى الحياة بعينين مغمضتين، وفكر حالم، ورأس يزدحم بالأماني؛ وقلب مملوء بالثقة؛ ثم لا يكاد يفتح عينيه على حقائق هذا الوجود، حتى يعرف أن دنيه من دنيا الناس، ويحس الفرق بين علام قلبه وعالم حسه، وتسخر منه الدنيا سخريتها الأليمة؛ فيلجأ إلى وحدته الصامتة يذرف دمع عينيه ودمع قلبه، فلا يطرب إلا لأنغام الحزن، ولا يسري عنه إلا رسائل الأحزان. . .!
واستهواني عنوان الكتاب، فتناولته اقلب صفحاته، لا أكاد أفهم جملة إلى جملة. . حتى انتهيت إلى قصيدته (حيلة مرآتها) فإذا شعر عذب يخالط النفس، وينفذ في رفق إلى القلب؛ وإذا أنا أعيدها مرة ومرة، فلا أدع الكتاب حتى أستظهر القصيدة. وحبب إلي هذا الشعر الساحر أن أعود إلى الكتاب فأقرأه في روية ومهل لعلني أن استدرك ما فاتني من معانيه؛ وأدخر لنفسي قوة من سحر بيانه، وصدق عواطفه؛ وعدت إليه أقرؤه قراءة الشعر، أفهمه بفكري وشعوري، وأنظر فيه بعيني وقلبي؛ فإذا الكتاب يكشف لي عن معناه. .
وأحببت الرافعي من يومئذ، فرحت أتتبع آثاره في الصحف والكتب، لا يفوتني منها شيء. وأشهد، لقد كنت اجهد جهداً شديداً في فهم كتابة الرافعي؛ لأني لم يكن لي عهد بمثلها فيما أقرأ، وما كنت أقرأ من قبل إلا لإزجاء الفراغ، التمسه في ذلك النوع الهين من أدب القصص والصحف؛ على أنني كنت إلى جانب ذلك أحب الشعر، أقرؤه فأفهم ما أقرأ، فكان لي من ذلك ما أعنني على فهم الرافعي، ثم الإعجاب به من بعد، ثم ألا يعجبني إلا مثل ما يكتب. . .
صلتي بالرافعي:
كنت اعرفه واسمع عنه، على حين لا يعرفني ولا يسمع بي، وليس عجيباً؛ وكنت ألقاه في الطريق منطلقاً إلى غرض، يهز في يمناه العصا، ويتأبط بيسراه عديداً من الصحف والمجلات والكتب، واسع الخطو لا يتمهل، ماشياً على حيد الطريق لا يميل، ناظراً إلى الأمام لا يتلفت إلا حين يهم باجتياز الشارع؛ فإذا ألقيت إليه تحية، رفع يمناه بالعصا إلى رأسه من غير أن ينظر يمنة أو يسرة أو تضيق خطاه؛ وكنت أرى ذلك فأحسبه نوعاً من الكبر وأرستقراطية العلماء، فباعد ذلك بيني وبينه إلى حين. . .
ففي خريف سنة 1932 اجتمع بطنطا طائفة من الشباب على تأليف رابطة أدبية باسم (جماعة الثقافة الإسلامية)، تقوم أغراضها على العناية بشؤون الأدب والاجتماع، والعمل على أحياء مجد العرب والإسلام. وتذاكر المجتمعون فيمن يمكن أن ينضم إلى الجماعة من أهل الرأي لتقوى به على تنفيذ أغراضها، فكان اسم الرافعي أول هذه الأسماء
وذهبت إليه عن أمر الجماعة في وفد ثلاثة، فلقينا الرجل مرحباً مبتسماً وقادنا إلى (دار كتبه)، ثم جلس وجلسنا؛ وفي تلك الغرفة التي تتنزل فيها عليه الحكمة ويلقى الوحي، جلسنا إليه ساعة يجاذبنا ونجاذبه الحديث ما نكاد نشعر أن الزمن يمر
كان جالساً خلف مكتب تكاد تكون اكتب من فوقه تحجبه عن عيني محدثه؛ وعن يمينه وشماله مناضد قد ازدحمت عليها الكتب في غير ترتيب ولا نظام، تطل من بين صفحاتها المطوية قصاصات تنبئك أن قارئها لم يفرغ منها بعد، أو أن له وقفة عند هذا الموضع من الكتاب سيعود إليها؛ وعلى حيطان الغرفة أصونة الكتب المتراصة، لا يبدو من خلفها لون الجدار. . .
ومضى يتحدث إلينا حديث المعلم، وحديث الأب، وحديث الصديق؛ فما شئت من حكمة، وما أكبرت من عطف، وما استعذبت من فكاهة؛ وللرافعي فكاهة رائقة يخترعها لوقتها لا تملك معها إلا أن تضحك وتدع التوقر المصنوع؛ على أن له في فكاهته مذاهب عقلية بديعة، تحس فيها روحه الشاعرة، وفنه البكر، وحكمته المتزنه، وسخريته اللاذعة؛ ويكاد يكون كثير من مقالات الرافعي برهاناً على ذلك، فقلما تخلو إحداها من دعابة طريفة أو نكتة مبتكرة
وطال بنا المجلس وخشينا أن نكون قد أثقلنا عليه فهممنا بالانصراف، وإذا هو يطلب إلينا البقاء، ويلح علينا في تكرار الزيارة، ويكشف لنا عن سروره بألا نغب مجلسه، وعرفت الرافعي عرفاً تاماً من يومئذ فلزمته، وعرفني هو أيضاً فأصفاني عطفه ومودته
اختبار!
وجلست إليه في الزورة الثانية وبين يديه صحفه وكتبه، فدفع إلي صحيفة يومية كان منشوراً فيها يومئذ قصيدة لشاعر كبير، وطلب إلي رأيي في القصيدة. لم أتنبه ساعتئذ إلى غرضه، وحسبته يقصد إلى أن يشاركني في لذة عقلية أحسها في هذا الشعر؛ فتناولت
الصحيفة وقرأت القصيدة، ثم دفعتها إليه وقد أشرت بالقلم إلى عيون أبياتها ورأيي فيها، وتناولها مني ليرى اختياري، فما عرفت إلا وقتئذ أنه كان يختبرني؛ ولكني - والحمد لله - نجحت في الامتحان قدراً من النجاح. . .!
وتكرر هذا الاختبار مرات وهو لا يحسبني أدرك ما يعني، على أن إدراكي هذا قد جعلني من بعد أكثر تدقيقاً في اختيار الحسن مما أقرأ. وأولاني ثقته على الأيام، فكان علي من بعد أن أقرأ أكثر ما يهدي إليه من الكتب، لأشير له إلى المواضع التي يصح أن يقرأها منها، وأدع ما لا جدوى عليه من قراءته ضناً بوقته؛ وكنت أنا أكثر ربحاً بذاك. . .
الشيخ الرافعي. . . .
كثير من الذين يقرأون للرافعي ويعجبون به، لا يعرفون عنه إلا هذا الأدب الحي الذي يقرأون؛ بل أن اكثر هؤلاء القراء ليتخيلونه شيخاً معتجر العمامة، مطلق العذبة، مسترسل اللحية، مما يقرأون له من بحوث في الدين، وآراء في التصوف، وحرص على تراث السلف، وفطنة في فهم القرآن، مما لا يدركه إلا الشيوخ، بل مما لا يدركه الشيوخ. . . وكثيراً ما تصل إليه الرسائل بعنوان:(صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى صادق الرافعي. . .) أو (صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر. . .)
ومن طريف هذا الباب رسالة جاءته من (حلب) منذ قريب، يبدي كاتبها دهشته أن يرى صورة الرافعي منشورة في (الرسالة) إلى جانب مقالته في عدد الهجرة، مطربشاً، حليق اللحية، أنيق الثياب، على غير ما كان يحسب؛ ويتساءل كاتب الرسالة: لماذا يا سيدي أبدلت ثياباً بثياب، وهجرت العمامة والجبة والقفطان، إلى الحلة والطربوش؟ ألك رأى في مدنية أوربا في المظاهر الأوربية غير الرأي الذي نقرؤه لك. . .؟) وما كان هذا السائل في حاجة إلى جواب، لو أنه عرف أن الرافعي لم يلبس العمامة قط، وهذا لباسه الذي نشأ عليه منذ كان صبياً يدرج في طربوشه وسراويله القصيرة، يوم كان تلميذاً يدرس الفرنسية إلى جانب العربية بمدرسة المنصورة. . .
نشأته:
على أن نشأة الرافعي كان لها أثر بالغ في الاتجاه العقلي الذي برز فيه وتفرد به؛ فهو قد
نشأ في بيت له نسب عريق في الإسلام. وأنت إذا رجعت إلى تأريخ القضاء في مصر إلى قرن مضى، رأيت لاسم (الرافعي) تأريخاً في كل ديوان من دواوين القضاء والإفتاء. وقبل نزوح الشيخ محمد الرافعي الكبير من (طرابلس الشام) لم يكن معروفاً لمذهب أبى حنيفة أتباع في مصر؛ فهو شيخ الحنفية في هذه الديار غير منازع، وقد تخرج على يديه أكثر علماء الحنفية الذين نشروا المذهب، ومن تلاميذه المرحوم الشيخ محمد البحراوي الكبير؛ كما تخرج على يدي أخيه الشيخ عبد القادر الرافعي كثير منهم، ومن تلاميذ أخيه شيخ الشيوخ الآن فضيلة الأستاذ محمد بخيت مفتي الدولة السابق، مد الله في حياته. وقد مضى زمن كانت فيه وظائف الإفتاء كلها محبوسة على (آل الرافعي)، حتى ذكر اللورد كرومر في بعض تقاريره:(إن من هذه الأسرة أربعين قاضياً شرعياً). . وأبو المترجم له (الشيخ عبد الرزاق الرافعي) كان رئيساً للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم، وكان رجلاً ورعاً له صلابة في الدين، وشدة في الحق، ما برح يذكرها مع الإعجاب معاصروه من شيوخ طنطا. وبيت الرافعي في (طرابلس الشام) من البيوت الرفيعة وما يزال كعبة يحج إليها العلماء. وأسم (الرافعي) معروف في تأريخ الفقه الإسلامي منذ قرون. . .
فالأستاذ مصطفى صادق الرافعي وأن كان قد تربى تربية مدنية كالتي ينشأ عليها أكثر أبناء هذا الجيل لم يزل بعض أهله؛ وقد حمل عن آبائه الراية يقتحم بها في سبيل الدين، وينافح الشرك، ويدعو إلى الله. وما جهاده في ذلك - على تسلط أسباب الفتنة والزيغ في هذا الزمان إلا حلقة من سلسلة جهاد طويل، أفرغها آباؤه حلقة حلقة منذ انحدر أولهم من صلب الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. . .
الرافعي الشاعر
أفرأيت الرافعي وهذا منشؤه ونسبه يقنع بالقدر الضئيل من العلم لذا تلقاه في المدرسة؛ ومن أين للرافعي أن يعرف هذه القناعة. . .؟
فما هو إلا أن ترك المدرسة حتى انكب على كتب الدين والعربية يستبطن أسرارها وينبش عن دفائنها؛ فحصل ما حصل من علوم اللغة الدين، وبلغ ما بلغ من أساليب البلاغة وأسرار العربية. وكان في نفس الرافعي هوى قديم أن يكون شاعراً. . . فأخذ يقرض الشعر، أتم طبع الجزء الأول من ديوانه ولما يبلغ الثالثة والعشرين. . . وقدم بين يدي
ديوانه مقدمة بليغة، كانت وحدها البرهان على أن هذا الشاب النحيل الضاوي الجسد يعرف أين موضعه بين أدباء العربية في غد. . . وما أحاول أن أتكلم عن الرافعي الشاعر الأديب في ديوانه وعن مقدمة ديوانه بأبلغ مما قال عنه العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي، وهو يومئذ أديب العصر وأبلغ منشئ في العالم العربي؛ فقد كتب في عدد يونيو سنة 1903 من مجلة الضياء، في تقريظ الجزء الأول من ديوان الرافعي ما يأتي:
(وقد صدره الناظم بمقدمة طويلة في تعريف الشعر، ذهب فيها مذهباً عزيزاً في البلاغة، وتبسط ما شاء في وصف الشعر، وتقسيمه، وبيان مزيته، في كلام تضمن من فنون المجاز، وضروب الخيال، ما إذا تدبرته وجدته هو الشعر بعينه. . .
ثم انتقد الأستاذ اليازجي بعض ألفاظ في الديوان، وعقب عليها بقوله:
(. . . على أن هذا لا ينزل من قدر الديوان وأن كان يستحب أن يخلو منه؛ لأن المرآة النقية لا تستر أدنى غبار، ومن كملت محاسنه ظهر في جنبها أقل العيوب؛ وما انتقدنا هذه المواضع إلا ضناً بمثل هذا النظم أن تتعلق به هذه الشوائب، ورجاء أن يتنبه إلى مثلها في المنتظر، فأن الناظم - كما بلغنا - لم يتجاوز الثالثة والعشرين سنيه؛ ولا ريب أن من أدرك هذه المنزلة في مثل هذه السن، سيكون من الأفراد المجلين في هذا العصر، وممن سيحلون جيد البلاغة بقلائد النظم والنثر. . .)
الرافعي وحافظ
لم يكن الشيخ إبراهيم اليازجي وحده هو الذي تنبأ للرافعي الشاب بالمنزلة الرفيعة التي يتبوؤها اليوم؛ فقد نال يومئذ اكبر قسط من عناية الأدباء في عصره؛ وهذه أبيات لشاعر مصر الكبير المرحوم حافظ إبراهيم، بعث بها إلى الرافعي في سنة 1906 تدل بنفسها على مقدار احتفال أدباء العصر بهذا الناشئ الجبار:
أراك وأنت نبْت اليوم تمشي
…
بشعرك فوق هام الأوّلينا
وأوتيت (النبوَّة) في المعاني
…
وما جاوزتَ حدَّ (الأربعينا)
فزنْ تاج الرياسة بعد (سامي)
…
كما زانتْ فرائدُه الجبينا
وهذا الصولجان فكن حريصاً
…
على مُلْكِ القريض وكن أميناً
وحسبك أن مُطْريَك (ابن هاني)
…
وأنك قد غدوت له قريناً
نبوءتان
لم يتناول الرافعي في الجزء الأول من ديوانه إلا ما يتناوله الشباب من فنون الشعر، ولم يكن معروفاً له اتجاه أدبي إلى غير هذا اللون من شعر الشباب؛ على أن نبوءة من وراء الغيب جاءت على لسان الأستاذ الإمام (محمد عبده)، في كتاب بعث به إلى الرافعي سنة 1321هـ (1903م) تدعو إلى العجب والتأمل؛ إذ ختم كتابه إلى الرافعي بهذه العبارة:
(. . . أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق به الباطل؛ وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل.)
أفكان الشيخ محمد عبده يلقي الغيب، فيعلم من شأن الرافعي في غده مقامه في الدفاع عن الحق والذود عن لغة القرآن؛ أم استجاب الله دعاءه للرافعي كما استجاب دعاءه لحافظ. . .
وأشبه أن يكون نبوءة أخرى ما كتبه المرحوم الزعيم مصطفى كامل باشا من تقريظه ديوان الرافعي في جريدة اللواء: (وسيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان. . .)
ولما هم الكاظمي الشاعر أن يسافر إلى الأندلس في سنة 1905 كتب الرافعي: (ثق أني أسافر مطمئناً وأنت بقيتي في مصر. . .)
(للحديث بقية)
محمد سعيد العريان
حافظ بك إبراهيم
بمناسبة ذكراه
بقلم السيد أحمد العجان
تتمة
- 12 -
نصائحه إلى البائسين:
1 -
الهجرة خير للفقير:
إن ضيق العيش لا يرضى به إلا ذليل خطمه الذل، وجبان أقعده الخوف؛ والكسل والعجز والخمول آفة المصري، وكثير من الشرقيين ضربوا في الأرض، وركبوا البحار، فأثروا
أليس خيراً للمعدم أن يجوس خلال البلاد، يطلب سعة ويبتغي سعادة؟ لقد سبقه في الهجرة كثير من أبناء الشام، ورجال الشرق:
ما عابهم أنهم من الأرض قد نثروا
…
فالشهب منثورة مذ كانت الشهب
ولم يَضِرْهم سراء في مناكبها
…
فكل حي له في الكون له مضطرب
رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا
…
إلى المجرة ركباً صاعداً ركبوا
أو قيل في الشمس للراجين منتجع
…
مدوا لها سبباً في الجو وانتدبوا
وقديماً غادر هو الوطن، ونزح عن بلاده، يطلب عيشاً، ويروم رزقاً:
نزحت عن الديار أروم رزقي
…
وأضرب في المهامه والتخوم
ولولا سورة للمجد عندي
…
قنعت بعيشتي قنع الظليم
وكان في مقدوره أن يتقاعد لو كان يرتضي وجدان مواطنيه، ولكنه يأبى أن يكون خاملاً:
فيا ليت لي وجدان قومي فأرتضي
…
حياتي، ولا أشقى بما أنا طالبه
ينامون تحت الضيم والأرض رحبة
…
لمن بات يأبى جانب الذل جانبه
يضيق على السوري رحب بلاده
…
فيركب الأهوال ما هو راكبه
ويخرج بالرومي مذهب رزقه
…
فتفرج في عرض البلاد مذاهبه
وعجيب أن يقيم بيننا الغربي فيثرى ويخصب، ونحن قعود عن منافسته وسبقه ومجاراته
سابق الغربي واسبق واعتصم
…
بالمرؤات، وبالبأس اعتصاما
جانب الأطماع وانهج نهجه
…
واجعل الرحمة والتقوى لزاما
ومتط العزم جوادا للعلا
…
واجعل الحكمة للعزم زماما
ومع هذا الفقر الذي ساءل من اجله السراة والمترفين، والذي من أجله حبب الهجرة ودعا إلى الارتحال ابتغاء الرزق، ومع حاجته إلى الأنصار والأعوان يمدون له يد المساعدة، ويقدمون له العطايا، فانه جد حريص على كرامته، يحتفظ بها ويرعاها
ولقد راق لديه ما فعل (فيكتور هيجو) بعد أن زج في السجن، وحشد في زمرة السفاكين والمجرمين، وأراد الولاة الغاصبون أن يمنوا عليه بالعفو، فأبى واستكبر أن تسدي إليه العفو يد مذنب أثيم:
عاف في منفاه أن يدنو به
…
عفو ذاك القاهر المغتصب
بشروره بالتداني ونسوا
…
انه ذاك العصامي الأبي
كتب المنفى سطراً للذي
…
جاده بالعفو فأقر أو اعجب:
أبريء عنه يعفو مذنب؟
…
كيف تسدي العفو كف المذنب؟
وكثير من العلماء النابهين، والشعراء والكاتبين، والأئمة والزعماء، درجوا في منابت الفقر، وقاسوا محن العيش، فطلبوا الجاه في العلم، والشرف في الكرامة، والهيبة في الإباء، وخلقوا لأنفسهم مجداً لا يقاس به عرض الدنيا: فلقد كان بشار بن برد الشاعر النابه منى أوئلكم الفقراء، إذ كان أبوه طياناً يضرب اللبن، وكان أبو العتاهية يبيع الفخار بالكوفة، والجاحظ يبيع الخبز والسمك، وأبو تمام يسقي ماء بالجرة في جامع مصر، كما كان أبو حنيفة بزازاً، وكما هو مشاهد الآن في زعامة الأمم الراقية أمثال روزفلت، وهتلر، وموسوليني
إن الظروف القاسية تحطم عظماء الرجال ولكنها لا تجرؤ أن تحطم التفاؤل عند المتفائلين، وهؤلاء الذين يجالدون آلام الجوع والمسغبة، وفي قلوبهم إيمان وفي ضمائرهم حياة، ليس شيمتهم التفاؤل فقط، ولكنه التفاؤل الرخيص
وكان حافظ رحمه الله أحد هؤلاء المتفائلين، كما ينطق بذلك شعره صريحاً بينا:
على أنني لا أركب اليأس مركباً
…
ولا أكبر البأساء حين تغير
نفسي برغم الحادثات فتية
…
عودي على رغم الكوارث مورق
فيا قلب لا تجزع إذا عضك الأسى
…
فإنك بعد اليوم لن تتألما
ولآن تتابعت عليه تارات الأحداث، وطوارق الغير، فإن ذلك لا يثنيه عن عزمه، ولا يقعده عن غايته، مادامت العلياء رائدة، وشرف الغاية مأربه:
مرحباً بالخطب يبلوني إذا
…
كانت العلياء فيه السببا
عقني الدهر ولولا أنني
…
أوثر الحسنى؛ عققت الأدباء
- 13 -
لقد مدح حافظ كل ذي جاه في الدولة، أو ذا تصريف في أمور البلاد، أو من أنس منه الخير يجلب والشر يتقى، وهو طبيعي في رجل كحافظ تجرد من القوة، وأصفر من المال، فركن إلى الولاة والحاكمين يتقي عواديهم ويأمن جورهم، وقد يناله خيرهم، ويدركه نفعهم
ولكنه في مدحه الذي من أجله عرض ألفاظ اللغة، (ونبش بطون الكتب وقلبا أحشاء القواميس، ثم أستخرج من الألفاظ أطلاها وأحلاها، ومن المعاني أسماها وأعلاها، وصاغ من كليهما مدحة تهز الممدوح وتطربه،) لم يخالف ضميره ولم يتجر بوطنيته، ولم يرق ماء وجهه ويمتهن كرامته. بل كان يقف عند دهاء السياسة وحزم الرجولة، ولين الجانب حيث لا مغمز ولا تجريح
مدح الخليفة وسلاطين الدولة العثمانية، وخديو مصر وأمرائها، ورجال مصر وسراتها، بل مدح اللورد كرومر وملك الإنجليز ومندوب الإنجليز. ولكن ما كان يمدحهم تملقا ورياء، بل كان أشبه بالتشبيه يقدمه الشاعر لتصغي الأسماع إليه وتتعلق القلوب بما بعده، ثم يتناول مطالب الشعب يقدمها، وشكايات الوطن يلفت الأنظار إليها، وقد ينتقد في السياسة، ويتهكم بمسلك الحاكمين، كما حدث في قصيدته التي رفعها إلى عميد الدولة البريطانية بعد حادثة دنشواي
قصر الدبارة هل أتاك حديثنا
…
فالشرق ريع له وضج المغرب
أهلا بساكنك الكريم ومرحباً
…
بعد التحية إنني أتعتب
ماذا أقول وأنت أصدق ناقل
…
عنا ولكن السياسة تكذب
أنقمت منا أن نحس؟ وإنما
…
هذا الذي تدعوا إليه وتندب
أنت الذي يعزى إليه صلاحنا
…
فيما تقرره لديك وتكتب
أو كلما باح الحزين بأنةٍ
…
أمست إلى معنى التعصب تنسب؟
فأجعل شعارك رحمة ومودة
…
إن القلوب مع المودة تكسب
لقد طبع حافظ مدحه بطابع المصلحة للمجتمع، والنفع للوطن، والتعبير عن أحاسيسه وآلامه والذود عن شرفه وكرامته. وكان هذا المدح يتقدم به في قصائده كالتشبيب عند السابقين كما في قصيدته التي رفعها لسمو الأمير عباس الثاني في عيد رأس السنة الهجرية
قصرت عليك العمر وهو قصير
…
وغالبت فيك الشوق وهو قدير
وأنشأت في صدري لحسنك دولة
…
لها الحب جند والولاء سفير
فؤادي لها عرش وأنت مليكه
…
ودونك من تلك الضلع ستور
وما انتفضت يوماً عليك جوانحي
…
ولا حل في قلبي سواك أمير
ثم انتقل - بعد أن عرض للهوى والصبابة والغرام - إلى آمال الوطن ومطالبه:
أمولاي إن الشرق قد لاح نجمه
…
وآن له بعد الممات نشور
مضى زمن والغرب يسطو بحوله
…
علي ومالي في الأنام ظهير
إلى أن أتاح الله للصفر نهضة
…
فقلت غرار الخطب وهو طرير
جرت أمة اليابان شوطاً إلى العلا
…
ومصر على آثارها ستسير
وما يمنع المصري أدراك شأوها
…
وأنت لطلاب العلا لنصير
فقف موقف الفاروق وانظر لأمة
…
إليك بحبات القلوب تشير
- 14 -
في مصر فقراء وأيتام وذوو خصاصة، ولهم حقوق على المجتمع الذي يعيشون فيه ويعملون له
1 -
لهم حق التعليم حتى يرتفع مستواهم، وتعلو منازلهم وحتى يتضامنوا مع المجتمع في بناء مجده بوحي من الضمير ووازع من النفس، لا بطريق السخرة والاجبار، وحتى تكون العلاقة بين أفراده وهيئاته بعضهم مع بعض علاقة محبة وإخلاص وولاء، لا علاقة سيادة وغطرسة وكبرياء
2 -
ولهم حق تيسير سبل الرزق؛ بفتح أبواب العمل امامهم، والسهر على صوالحهم،
ورعاية شؤونهم؛ حتى يعيشوا وأسراتهم في مأمن من الجوع والخصاصة، وحتى لا يشغلوا المجتمع بسرقاتهم وسطوهم
3 -
ولهم حق المعالجة في بيوت الشفاء والمصحات، حتى تسلم جسومهم من العلل، وتصح أبدانهم من الأسقام. فنحن في ميدان نهضة، وكل نهضة لابد لها من عدة، فلتكن عدتنا رجالاً أشداء البنية أصحاء الأجساد سليمي العقل، نابهين حازمين كي يكون منهم الجندي الباسل، والزارع النشيط، والصانع الحاذق، والوطني الغيور، إلى أخر ما يتطلبه الوطن ليسلم، وتستدعيه النهضة لتدوم.
4 -
على أن منهم العاجز الضعيف، واليتامى الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، كل أولئك في حاجة إلى ملاجئ يأوون إليها، ومدارس يتعلمون بها ما ينفع الجماعة ويدر عليهم الخير
5 -
ثم من فوق ذلك، ومن قبل كل ذلك، لهم حق قد يعلو على كل الحقوق في جلال شانه وخطره، ذلك هو أن يشعروا بعطف ذوي الجاه وأرباب النفوذ وأولياء الأمور، حتى يشربوا في قلوبهم حبهم، ويولوهم الطاعة التي تحقق لهم رغباتهم
هذه حقوق الشعب المسكين كما يراها حافظ، فهو يرقب فرصة اعتلاء سعد منصة الحكم فيتقدم إليه يقول:
يا سعد أن بمصر أيـ - تاماً تؤمل فيك سعدا
قد قام بينهم وبين العلـ - م ضيق الحال سدا
مازلت أرجو أن أر - اك أبا، وان ألقاك جداً
حتى غدوت أبا له
…
أضحت عيال القطر وُلْدا
فاردد لنا عهد الأما - م وكن بنا الرجل المفدى
عليكم حقوق للبلاد أجلها
…
تعهد روض العلم فالروض مقفر
قصارى مني أوطانكم أن ترى لكم
…
يداً تبتني مجداً ورأساً يفكر
فتعلموا فالعلم مفتاح العلا
…
لم يبق باباً للسعادة مغلقاً
وقصيدته في سبيل (الجامعة) تبين رأيه في التعليم، وأنه لا يقنع في الأوليات السطحية، بل بالثقافة الرشيدة والدراسة الحكيمة، وأن ألف كتاب لا تعدل مدرسة عالية أو جامعة منظمة؛
لأننا نستبدل بالكتاتيب داء الجهل بداء اشد خطراً وهو الغرور
ذر الكتاتيب منشيها بلا عدد
…
ذر الرماد بعين الحاذق الإرب
فأنشأوا ألف كتاب وقد علموا
…
أن المصابيح لا تغني عن الشهب
هبوا الأجيرة أو الحراث قد بلغا
…
حد القراءة في صحف وفي كتب
من المداوي إذا ما علة عرضت؟
…
من المدافع عن عرض وعن نشب
ومن يروض مياه النيل أن جنحت
…
وأنذرت مصر بالويلات والحر؟
ومنى يوكل بالقسطاس بينكم
…
حتى يرى الحق ذا حول وذا غلب؟
ومن يميط ستار الجهل إن طمست
…
معالم القصد بين الشك والريب؟
فما لكم أيها الأقوام جامعة
…
إلا بجامعة موصولة السبب
والحق أن حافظاً صورة من النفسية المصرية العامة في هذه الفترة، فترة الانتقال والحيرة والاصطدام في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهو على ذلك قد أدى رسالته في الحياة، وقام بواجبه نحو وطنه وشعبه، لأنه بصر بآلامه، وتغنى بالأمل المنشود، والمصلحة المرجوة، ووقع على قيثارة الحنان أناشيد الأسى وأنات البائسين، فجزاه الله كفاء وفائه الجنة وحسن المقام وخلود الذكر
السيد أحمد العجان
سود قمصانكم حمر غداً
للأستاذ فخري أبو السعود
أمةَ الأحباش يا أُسْدَ الحمى
…
علِّمي الطليانَ عُقْبى من بغى
أنتِ لَقَّنتِهِمُ في عَدْوَةٍ
…
غَالِيَ الدرس، وطُوبى من وعى
فَنَسوهُ، فَأَعيديه عسى
…
يحفظون الدرس رنَّانَ الصدى
ويُميط القومُ عن أعينهم
…
غرراً بات شبيهاً بالعمى
ويُقلُّونَ دَعاوى لَهُمُ
…
مَلأَُوا من إفكِها الأرضَ سُدَى
مثَّلُوا الذِّئْبَ ولكن لم يَرَوْا
…
حَمَلاً يَرْهَبُ ذُؤبَانَ الفلا
هُمْ أرادُوا أن يُحاكُوا دولةً
…
مُلكُها يجمع أطراف الدُّنى
أَمَةٌ قامت تُحاكي حُرَّةً
…
ساخراً من جهلها هذا الورى
مِنْ سِويسْرَا الشَّرْقِ رَجَّوْا جَنَّةً
…
لَهُمُ طابت مَعِيناً وجَنى
طَمعوا فيها ولكن دونها
…
مربضُ الأساد مِنْ ذاك الشَّرى
حشدوا حولكِ من قمصانهم
…
جحفلاً طبَّق أجواز الفضا
وأثاروا مُرْعِدَاتٍ فوقهم
…
حائِماتٍ حجبتْ أفْقَ السما
وأعَدُّوا من جحيم العلم ما
…
يفلق الهام وما يبرى الصَّفَا
طالما بَدّدْتِ خصما عادياً
…
في عصور الجهل قِدماً والدُّجى
فانْظُرِي اليومَ عدوَّاً باغياً
…
صَالَ بالعلم وفي النُّور سَطَا
جَرَّدَ السُّمْرَ مِنَ الفَضْلِ وقد
…
قَصَرَ الفضلَ عليه والحجى
أُمةَ الأحباش فَانْضِى عزمةً
…
ما تَلَقَّتْ جحفلاً إلا أنثنى
وإذا جاءُوا فقُولي لهمُ
…
قولةً فيها رشادٌ وهُدى:
(نحن خَضَّبْنَا بكم في عَدْوَةٍ
…
جانبَ السهل وأَفْوَادَ الرُّبى
فأجمعوا أشلَاءكم مِنْ تُرْبِها
…
قبل أن تَخْطُوا إلى هذا الحِمى
نحن إن لم نَقْرَأ العلمَ ولم
…
نَحْذِق الفَنَّ ولا نَحْتَ الدُّمى
نمنَعُ الحوضَ ونَفْنى دونه
…
ونعاف العيش في ظل العدى
يا عبيدَ الأمس إنا لم نَدِنْ
…
أبَدَ الدهر لجبَّارٍ عَتَا
ما رَوَى التأريخ عنّا أبداً
…
غيرَ عزٍّ باذخٍ فيما رَوَى
لم نُغِرْ يوماً على جارٍ لنا
…
غير أنَّا كمْ رددنَا من طَغى
فإذا ساءكُمُ في أرضنا
…
- يا بني الصُّفْرِ - رقيقٌ يشترى
فغداً نَقْرِنُ منكمْ بِهِمُ
…
كلَّ مفْتونٍ على الغاب اجترا!
تَدَّعُونَ الفضل ظلماً والعلا،
…
والعلا منكم براءٌ والنَّدَى
لكُمُ في الغدر ماضٍ مظلم
…
في طَرابُلْسَ من الفضل خلا
كم غدرتم وفررتم هلعًا
…
ما صبرتم مرَّة في الملتقى
عُمَرُ المختارُ قد جَلَّلكُمْ
…
يومُه عاراً على طول المَدَى
فالبسوا العار عليكم سرمدًا
…
وأنزلوا حيث نزلتم بالظُبى
مالكم غير ظُبانا من قِرى
…
عبثاً منّيْتُم النفس المنى
سود قمصانكم حمْرٌ غداً
…
من نجيعٍ من لُهَاكم قد جرى!)
وتحايا - أُمةَ الأحباش - من
…
كلِّ حُرِ ْوَد َّلو كان الفدا
لو دَرَى الحربَ لَلَبَّى ومضى
…
في صفوف الحق لا يخشى الردى
إذ تَنَحَّى كلُّ شعبٍ طالما
…
شاد بالسلم وبالحق شدا
مَلأَ الدنيا كلاماً فإذا
…
قيل: مَن للسلم والحق؟ انزوى
أُمَمُ الغرب وما أدراك ما
…
ما أمم الغرب وما رهط العلا
ذَلّ من يطلُبُ نَصْفاً فيهمُ
…
إنما يُطْلَبُ في ساح الوغى
فخري أبو السعود
النسيان
للدكتور إبراهيم ناجي
وحبيب كان دنْيا أَملي
…
حُّبه المحرابُ والكعْبةُ بيتُهْ
منْ مشَى يوماُ على الورْد لهُ
…
فَطرِيقي كانَ شَوْكاً ومشيتُهْ
من سقى يوماً بماءٍ ظامئاً
…
فأنا مِنْ قدَحِ العُمْر سقَيتُهْ
خفِقَ القلبَ له مُخْتلِجاً
…
خَفْقَةَ المصباحِ إذ ينضُبُ زيتُهْ
قدْ سلاني فتنكَّرْتُ لهُ
…
وطَوَى صفحَةَ حُبِّي فطوَيتُهُ
إبراهيم ناجي
الطبيعة
بقلم رفيق فاخوري
تحنو على عهودها النفسُ ولا
…
تسطيع أن تصبر عن لقائها
كأنما حَلّ بجسمي روحها
…
وفي عروقي سابَ من دمائها
بكرٌ لها منها حُلىً دانيةُ
…
لكل جسٍّ بينهنَّ مسلكُ
لي من مرائيها شخوصٌ أجتلىِ
…
مَحْيايَ في وصالها وأُدرك
مطبوعةٌ طبعَ الحياة العاريهْ
…
غبطتُهَا وحزنها علانيهْ
تستقبل الأجيالَ في ثوبٍ إذا
…
أبلته عادت فأرتدته ثانيه
قديمةٌ، آذارُ يُحْيها، ولا
…
يمحو بِلَى الخريفِ من جلالها
يمشي عليه الدهرُ وهى عنه في
…
شُغْلٍ فلا تُلْقي إليه بالها
لها البقاءُ حين نغدو رمَماً
…
مَنْسِيَّةً لا تهتدي لها الذِكَرْ
يا ليت لي عيناً كمرآة الضُّحى
…
ترعى مَجاليها إذا غابَ النظر
أَحْبِبْ بها خرساَء حُمَّتْ شمسُها
…
فألهبتْ أنفاسَ كلِ ذي حَرَكْ
وهيمنَ الصمتُ على أرجائها
…
كأنْ بِمَنْعى الكونِ قد دار الفلكْ
وأستحوذتْ على الورى إغماءةٌ
…
ثقيلةٌ، سلطانُها لا يُدْفَعُ
وَعَرَتِ الأطيارَ سكتةٌ فما
…
يَنْغَمُ في سُباته مرجِّعُ
والنهرُ لهبانُ وللماءِ به
…
مَسَارِبٌ يَسْبَحُ فيها الخاطرُ
والسهلُ في غيبوبةٍ مستغرقٌ
…
مَيْتٌ وفيه تلتقي العناصر!
أحببْ بها كَسْلَى تولَّى جسمَها
…
بعد افترارٍ ومراحٍ خَدَرُ
واحتبسَ النسيمُ محروراً فما
…
يَشيعُ في الفضاء عنها خَبَرُ
أُغْرِقُ في صحرائها كآبةً
…
تَنْسُجُ في قلبي غَماماً أسودا
وأشتهي لُقْيانها سُوَيْعَةً
…
أنْسى بها نفسي ولا أرعى غداً
حمص
رفيق فاخوري
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
15 -
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فريدريك نيتشة
للأستاذ خليل هنداوي
يؤمن نيتشة بأن حياة الإنسان هي نضال دائم لكل وهم ولكل خطأ. وينتظر إلى الوجود بعيني متشائم؛ فتبدو الطبيعة له صورة تبعث الخوف، والتاريخ وحشياً خالياً من المعاني؛ ينفر ممن يؤمن بأن كل شيء هو للأحسن! ولا يعتقد بأن في وسع الحياة أن تهب لنا لحظة فرح حقيقي. وإذا كانت هذه وهي الحقيقة فواجب الإنسان السامي أن يحارب بدون هدنة ولا هوادة كل ما هو سيئ، وأن يهدم كل القيم الخاطئة والتعاليم الفاسدة وألا يرحم أي مظهر من مظاهر الضعف والرياء والجبن في هذه الحضارة. (إنني أحلم برجال كاملين، مطلقي الإرادة، لا يدارون ولا يراءون. يدعون أنفسهم الهدامين. يخضعون كل شيء لنقدهم ويضحون بأنفسهم في سبيل الحقيقة. ألا ينبغي لكل سيئ ولكل كاذب أن يظهر تحت وضح النهار؟ نحن لا نريد أن نبني قبل الساعة الموقوتة، ونحن لا ندري إذا كان بإمكاننا أن نبني، أو إذا كان الأحسن لنا ألا نبني أبداً. هنالك متشائمون كسالى خاضعون مستسلمون؛ إننا لا نكون من هؤلاء. إن المثل الأعلى الذي نتبعه ونترسمه هو الإنسان الذي قال عنه شوبنهاور، من يعتقد بأن السعادة الحقيقية هي غير ممكنة، ومن يبغض ويمقت الوجود المادي الذي تتكامل فيه الإنسانية المنحطة، ومن يسحق كل ما ينبغي سحقه ولا يشعر بألم يحز في نفسه، أو ينتشر حوله؛ ويمشي بإرادة جبارة لا يلويه عن عزمه شيء، وكل إرادته أن يكون مع الحق والصدق في كل شأن من شؤونه)
يصل شوبنهاور بإنسانه إلى سلب الحياة منه والفناء المطلق، أما نيتشة فإنه يقدس (كاليوناني الديونوزوسي) هذه الإرادة التي تريد الحياة الخالدة وتعمل على تخليدها بأية الوسائل. فهو متشائم، لكن تشاؤمه لا يدفعه إلى الاستسلام، ولكن إلى البطولة المناضلة. فهو يرى الزهد علامة من علامات الانحطاط والذل. لأن التشاؤم - عنده - فكرة مستحيل تحقيقها، لا يقبل بها واقع ولا يثبتها منطق، ولن يكون الفناء غاية الوجود، وهكذا راح
نيتشة يمجد الحياة وآلاءها بدلاً من أن يبشر بالفناء وبغض الحياة كمعلمه؛ يقدس ما يقوي في الإنسان إرادته؛ ويضاعف عزيمته للوصول إلى الهدف الأسمى
ونيتشه في هذا شأنه شأن اليونان في مآسيهم، يفخر بذاته، ويطول بسموه، ويعجب بالحضارة اليونانية لأنها أنشأت جماعة من الرجال السامين، وهل غاية الحياة إلا مثل هذا التوليد؟ والإنسانية عنده تركض وتتألم وتتمخض لتلد هذا العدد الضئيل من هؤلاء الرجال السامين. (وإنما على الإنسانية أن تعمل لتحمل إلى الأرض رجال عبقرية، هذه غايتها، ليس لها من بعدها غاية! وإن علينا أن نوحي إليها أن تعجل بتوليد الفيلسوف والفنان فينا وفي غيرنا. وأن نسعى إلى إكمال معنى الطبيعة؛ وأن على الإنسان أن يحس بنفسه أنه صنع غير كامل من صنع يدها. ولكننا نوقظ فيه - برغم نقصه - هذه العبقرية الفنية حتى يساعد الطبيعة على إكمال ما جاء ناقصاً منها، وبهذا يكمل الإنسان الفنان صنع الطبيعة. وبهذا تغدو معرفة الإنسان نفسه وشعوره بصغرها هي أساس نهضته. . .
(إلا أنني أرى فوقي شيءً يتألق؛ هو أسمى مني، فيه من معنى الإنسان أكثر مما فيَّ! فساعدني على الوصول إلى مثل هذا المثل؛ كما أنني سأعمل على مساعدة من يفكر مثلي ويتألم مثلي. . . كل ذلك لنمهد الطريق أمام ذلك الإنسان المقبل، الشاعر بكماله ومعرفته الواسعة، ومحبته العميقة التي لا تحد، وقدرته المولدة وتأمله البعيد: هذا الإنسان الذي سيحيا في الأرض حاكما، بيده مقياس كل شيء) فلا يجب والحالة هذه أن نترك للمصادفات عمل هذا الإنسان، وإنما ينبغي للناس أن يجهدوا ويعملوا بالانتخاب على خلق هذه الذرية - ذرية الأبطال - على أن هذا المذهب قد يترك جحفلاً من العبيد الذين شأنهم أن ينفذوا إرادة الأبطال. والعبودية - عند نيتشة - لازمة لتحقيق مثل هؤلاء الأبطال. إذ ليست غاية العلم والبراعة أن تخفف من نصب هؤلاء المتعبين. فعمال اليوم ليسوا بأكثر سعادة من عبيد الأمس. هؤلاء كانوا يخضعون لشرفاء ذوي غطرسة وخيلاء. وأولئك دائبون على خلق نخبة سامية من رجال العبقرية، فالبطل ليس دأبه بأن يحقد على المظلومين والمتخلفين فحسب، بل مما ينبغي له أن يقتل عامل الشفقة في صدره إذا هب لأنه عامل خطر. إذا ظفر عمل على قتل البراعة في سبيل السعادة المادية للإنسانية. وهو - هنالك - لابد مصطدم بالشريعة الغالبة التي تسيطر على الوجود. وكل من ود أن يحيا، أو حكم عليه
بأن يحيا في وجود مشحون بالألم والفناء أفينبغي له أن تشتمل نفسه على هذه المضادة المؤلمة التي تعبر عن كنه الحياة، وسر كل تطور واستحالة. . . (كل لحظة تفترس الثانية. وكل ولادة هي موت كائنات لا عداد لها. الولادة والحياة والموت كنه ذو جوهر واحد. وهكذا نستطيع أن نشبه البراعة المنتصرة بالبطل الظافر الذي يسيل دمه من جراحه، ولكنه يجر خلفه قطيعاً من المغلوبين والعبيد المقيدين بعجلته)
ينبغي لنا إذا أردنا الحقيقة أن نضرب بكل وهم باعث على التفاؤل عرض الحائط. فالرجل الغربي الذي يظن ببساطة نفسه أن العلم يبعث على السعادة، ويرى أن سعادة الجميع هي غاية الحضارة القصوى؛ هذا الرجل يجرب أن ينكر تعس (العبيد) هذا التعس اللازم للمجتمع البشري. وهو يموّه عليهم بقداسة العمل، زاعماً أن الآكل بعرق جبينه هو أشرف الناس. فياله من مذهب حقير أصبح لا يخدع أحداً! ولماذا لا نعترف بأن العبودية هي حقار وصغار، ولكنا نستطيع أن نخفف وقعها ونجعلها أقل شقاء، ونحتم على أصحابها القبول بها. . . فما ظل المجتمع الإنساني على هذا الوضع فان فيه الأقوياء الذين يرفعون عظمتهم على طائفة من المستضعفين في الأرض!
كان المدفع يدوي في جوف أوربا، ونيتشه معتزل في أحد وديان (الألب) يعالج درس الروح اليونانية وفنهم وحياتهم. ولما استقر السلام أعلن أن عصر الأحزاب قد شارف النهاية. وأن روحاَ حرة يجب أن تنهض وتعرف كيف تتعالى فوق هذه الحدود! (إن الشرق والغرب مفصولان بشحطة يرسمها قلم لأعيننا، هذه الشحطة هي التي تثير خوفنا. تقول النفس الفتية (أنا اجرب بأن أكون حرة) وحق لها أن تثور، لأنها ترى أن شعبين قد يهرقان دماؤهما لأن بحراً يفصل بينهما، أو لأن ديانتين مختلفتين عندهما لم تكونا قبل ألفى عام) وهكذا نرى نيتشة بكل ما أوتي من تفكير وقوة يريد أن يزعزع تقاليد عصره، ويشعر بنفسه بأنه لم يخلق لحاضره وإنما خلق للأجيال القادمة
(يتبع)
خليل هنداوي
القصص
من أساطير الإغريق
أدونيس
للأستاذ دريني خشبة
كان جميلاً كالكأس المترعة. وجه أبيض كالحبب، ثم تتدفق الخمر في دمه، وتكمن في عينيه، وتنثال على لسانه
رأته فينوس يستحم في بحيرة مزهرة، فوقفت تنظر إلى هذا التمثال من بلور، يسبح في لجه من لجين! ولمحها الغلام فخجل وأستحيا، وطفق يخصف عليه من أوراق اللوتس. . . . ولكن الحياء ورد وجنتيه، وصبغ خديه، وفتر ناظريه، وتصبب في شفتيه فاحمرتا! وبذلك أصبح فتنة تملأ البحيرة، وعجباً يشيع في الماء
وسبح إلى الشاطئ المقابل؛ بيد أن فينوس كانت عنده قبل أن يبلغه هو، فانثنى يريد الشاطئ الأخر، فكانت فينوس عنده كذلك؛ فأرتد يحسب أنه يسبقها إلى الشاطئ المقابل كرة أخرى، ولكن الإلهة العنيدة كانت تسابق الوهم في الوصول إلى أحد الشاطئين؛ فلما نال الجهد من أدونيس لم ير بداً من البروز إلى البر، وليكن من أمر هذه الغادة التي تهاجمه بحبها وهو لا يعرف من هي - ما يكون!
- (أدونيس. . . . أليس كذلك؟)
- (؟. . . . .)
- (ألا تتكلم؟. . .)
وكانت قطرات الماء البلورية تتحدر على جسمه الرشيق، فمن يدري؟ أهي من البحيرة أم من ماء الخجل!. . .
- (تكلم يا أدونيس! ألا تعرف من أنا؟. . .)
- (؟؟. . . . . . . .)
- (أنا التي سجد عند إخمصيها مارس الجبار! لقد ألقى سلاحه لدى النظرة الأولى التي زلزلت بها أركان قلبه! ألا تصدق؟ أدونيس؟!. . .)
- (أرجوك. . . إن رفاقي ينتظرونني، ونحن جميعاً نتخذ أهبتنا للصيد. . .
- (صيد؟. . . . وماذا تصيدون في هذه البرية الموحشة؟. . .)
- (الخنازير يا غادة. . . إنها متوحشة جداً. . .)
- (وهي خطرة أيضاً، وكل يوم لها ضحايا. . . أدونيس! ألست ترى إلى جمالك الفينان! ألا تشفق عليه أن يصيبه سفع من شمس هذه البرية المحرقة؟ ألا تقلع عن صيد الخنازير القتالة؟. . . تكلم لا تصمت هكذا؟)
- (أرجوك؟)
- (ترجوني؟ أنا التي أرجوك يا حبيبي!)
- (. . . .؟؟. . . .)
- (أراك ارتبكت إذ دعوتك حبيبي؟ وَيْ! ما للحياء يصبغك بأرجوانه هكذا يا أدونيس؟ تعال. . . هات قبلة!)
- (لا. . . لن يكون شيء من هذا! اسمعي! ها هي ذي سلوقياتي تنبح ولابد أن أسرع إليها. . . دعيني. . . دعيني!)
- (لن أدعك، ولو استجمعت شبابك كله وريعانك ما استطعت أن تفلت من ذراعي يا حبيبي!. . . . . هات قبلة قلت لك!. . . .)
- (. . . .؟. . . .)
- (إذن أنال بالقوة كل ما أشتهي تعجب! سأحرق شفتيك الباردتين بشفتي المشتعلتين!)
- (أ. . . ر. . . جوك. . . أوه. . . حس. . . بك. . .)
- (فمك جميل شهي، ولكن خديك جميلان كذلك. . . ألف قبلة على خديك وعارضيك أيها الغلام الفتان!. . .)
- (. . . . .؟؟. . . . .)
- (أنفاسك تتضوع من فمك الرقيق، وأنفك الدقيق؛ فهل فيك حديقة من بنفسج؟. . .)
- (أر. . . جوك. . . كفى. . . كفى. . . سلوقياتي تنبح، ولا بد أن أذهب!. . .)
- (تذهب؟ ولمن تترك هذا الصدر الدافئ الذي يضمك؟ حقاً غرير!. . .)
- (أرجوك. . . قلت لك!. . .)
- (كل هذه القبل أغمر بطوفانها فمك، ولا تحييها بقبلة؟. . . قبلني!. . .)
- (لا. . . أقدر. . . أرسلي ذراعيك عن عنقي. . .)
- (أنت لا تقدر؟ آه يا ساذج؟ إنني لن أفلتك ما دمت تتباله علي!. . .)
- (أرجوك، دعيني أذهب! أوه. . .)
- (قبلني قلت لك! لن يقهر كبريائي فتى غرير مثلك! إذا قبلتني أرسلتك!. . .)
- (أقبلك؟)
- (اجل، قبلني يا أدونيس!)
- (أقبلك كيف؟)
- (هكذا يا صغيري. . . . . .)
- (. . .؟. . .؟. . . دعيني إذن!)
وانتشت ربة الجمال بقبلة أدونيس اليافع، فارتجفت ارتجافة هائلة، وخرت إلى الأرض كأنما أغشي عليها؛ وأرتبك الفتى الذي لم يألف مثل هذا الموقف النادر من مواقف الحب، فأنف أن يغادر المكان قبل أن يعالج الغادة حتى تصحو، ثم يذهب إلى صيده بعد. ولكنه لم يدر ماذا يفعل؛ وعلى كل فق طفق يدلك قدميها، ويربت على صدرها، ويمر بيديه الناعمتين على خديها وجبينها، فلما لم تفق، أهوى على فمها الحلو يلثمه. . . ويرد إليه دينه من القبل! وكانت فينوس الخبيثة تحس وتصمت. . . ولا تأتي بحركة قد تطير بهذه الأحلام السعيدة التي تطيف بها، تنزل من السماء الصافية عليها، ألم تكن تضرع إليه من أجل قبلة واحدة؟ فكيف بها تطرد العشرات والعشرات من القبل؟!
ولم تطق فينوس. . . ففينوس ربة ولكنها هلوك! لقد طوقت أدونيس بذراعيها، ثم أمطرت فمه الخمري، ووجهه العطري، آلافاً من القبل العِذاب، والنولات الرطاب
حدثته عن الحب بلسان ينفث السحر، وعينان تتقدان اشتهاء، ولكنه كان يصم أذنيه ويغلق أبواب قلبه. وضمته بحرارة وعنفوان إلى ثدييها، فما زادته إلا شموساً وعناداً. . .
قالت له: (ألا تقبل عليّ إلا ميتة يا أدونيس؟ أيسرك أن اقضي نحبي أذن؟ ألست أعدل عندك خنزيراً برياً؟ أكلما خلعت عليك شبابي ونضرتي وحبي ألقيت بها في تراب كبريائك غير آبه لدموعي وتوسلاتي؟ افتح قلبك للحب قلبك يا صغيري!!. . .)
ولكن أدونيس يعبس عبوسة محنقة ويقول لها: (أهذا كله عندك هو الحب؟. .)
فتنظر في عينيه الساخرتين نظرة تستشف بها ما في قرارة نفسه وتسأله: (إذا ما هو يا أدونيس؟)
وينفجر الفتى بالحقيقة المرة فيقول لها: (إن كنت تجهلين ما هو، فالحب أجل من هذا وأقدس يا غادة. . . . . . إنك قد أسلمت وأسلمت جسمك للشهوة وتصهره، وروحك للغلمة تحرقها وتذهب بها شعاعاً. . . دعيني أذهب إذن. . . دعيني. . . سلوقياتي تنبح ولابد أن أذهب إليها. . . . . . . . .)
وكأن ثلجاً ذاب في أعصاب فينوس عندما سمعت أدونيس ينتهرها ويعيرها، فتقلص ذراعها، وفترت نفسها، وخمدت في قلبها تلك الشهوة الملحة التي سلطت عليها تعذبها وتضنيها. . . واستطاع الفتى بجهد بسيط أن يتخلص من أسرها، فأنطلق يعدو كالظليم إلى سلوقيلته التي كانت تناوش خنزيرا كبيراً بادي النواجذ بارز الأنياب
وجلست فينوس تنظر إلى أدونيس يعدو، وتجتر كلماته وتتعذب. . .
وغفت إغفاءة قصيرة، ولكنها استيقظت فجأة على صرخة راجفة من جهة الشرق، حيث كان فتاها الحبيب يتلهى بالصيد، فهبت مروعة، لأن الصوت ككان بصوت أدونيس أشبه، وانطلقت تعدو حتى كانت عنده. . .
يا للهول!!
أدونيس مضرج بدمه، وعيناه مستسلمتان للموت، وسلوقياته تبكي حوله؟! لقد أنقض عليه الخنزير الضاري فمزق لحم الفخذة، وسر في الدم سم الكلب!
ووقفت فينوس ذاهلة تنظر إلى حبيبها الصغير، ثم أهوت على فمه تقبله وترشفه وتبكي. . . ثم أسندت الرأس الذابل إلى صدرها، وجعلت تقول:
(ألم يكن حباً حبيبي يا أدونيس؟! يا للقضاء؟! كنت أعرف هذه النهاية، وكنت أشفق عليك منها، ولذا كنت أتشبث بك، وأحاول أن أنسيك بقبلي ودموعي خنازير هذه البرية، ولكنك قلت أن حبي شهوة، وصبابتي غلمة، فجنيت على نفسك وعلي!! أوه! يا لبرودة الموت؟ أدونيس؟ أدونيس؟ رد علي يا حبيبي! لقد حسبتني غادة! أنا فينوس أكلمك فرد علي. . . آه. . .)
وألقت على الكلأ السندسي، وانطلقت تبكي وتنتحب، حتى كانت عند عرش الأولمب فقالت تكلم رب الأرباب زيوس العظيم:
- (أدونيس يا أبي!!)
- (ماله؟. . .)
- (قضى. . . قتله الخنزير. . .)
- (وما لك مذعورة هكذا؟. . .)
- (مذعورة؟ وحقك إن لم تأمر برده إلى الحياة الدنيا لأذهبن معه إلى هيدز!!)
فوقف إله كان يجلس قريباً من السدة وقال: (تذهبين إلى هيدز؟! يا للهول! والجمال والحب أيذهبان في أثرك إلى دار الموتى؟ وهذه الدنيا يا فينوس؟)
- (هذه الدنيا تنعى من بناها. . . تخرب. . . لا زهر. . . لا شفق. . . لا طير. . . لا موسيقى. . . لا خمر. . . لا حب. . . لا حنين. . . لا غول. . . لن تكون دنيا كم شيئاً إذا ذهبت إلى هيدز مع حبيبي أدونيس!!)
فسجد الإله الذي تكلم أمام زيوس، ثم نهض وقال له:
- (أنا بلسان الآلهة أضرع إلى مولاي أن يلبي طلبة فينوس ربة الحب. . .)
فتبسم إله خبيث كان قريباً منه، وغمز له وقال:
- (وربة الجمال يا أبن العم!!)
وأرسل زيوس العظيم إلى أخيه. . . بلوتو. . . إله هيدز، يرجوه عن أدونيس ويستأذنه فيه؛ ولكن بلوتو كان أحرص على الجمال من سكان هذه الحياة الدنيا، فأبى أن يلبي رجاء أخيه، فألح عليه، فلم يقبل. . .
ثم أتفق الأخوان، زيوس وبلوتو، على أن يجعلا حياة أدونيس مناصفة، فيقضي ستة أشهر في هيدز، أشهر الخريف والشتاء، وستة أشهر في الدنيا، حيث تأخذ زخرفها في الربيع وتؤتي أكلها في الصيف!!
ولما لقيت فينوس حبيبها عائداً أدراجه من دار الفناء قالت له: (أتستطيع اليوم تعريف الحب؟). فقال أدونيس: (هاتي قبلة يا فينوس. . . هاتي قبلة. . . هاتي ألف قبلة. . .)
دريني خشبة
قلعة الرمل
بقلم حسين شوقي
كانا يسيران على الشاطئ غير معنيين بما حولهما وهما يتبادلان هذا الحديث:
هو - عزيزي، إني آسف إذ تأخرت عن موعدك؛ ولكن صديقاً حميماً لم أره من زمان طويل اعترضني في الطريق استوقفني ملياً. . .
هي - لا عليك من ذلك، فثمة ما يدعو للاعتذار
هو - ولكن لماذا أجدك وحدك؟ لم لم تذهبي إلى السيدة (س) لتأنسي برفقتها؟
هي - أني أوثر العزلة، كي أشهد في سكون تلك الصفحة الزرقاء العجيبة المنبسطة أمامي. . .
هو - ولكن البحر ثائر اليوم، إني لا أحبه في مثل هذه الحال؛ إنه ليشبه وجه عجوز قد غضنته السنون
هي - أنت تراه كذلك؟. . . أحسبك زعمت لي مرة أنك تحب البحر وهو هائج، لأنه يشبه قطيعاً من الخراف البيضاء اللطيفة!. . .
هو (في حيرة) - هل. . . هل ينزل البحر؟
هي - نعم، وأنت؟. . .
هو أنا سأنتظرك في المقصف، لأني على موعد هناك؛ أتأذنين لي في الذهاب؟
هي - الآن؟. . .
هو - أجل. . . .
هي - لك ما تشاء!. . . (ثم افترقا)
الفتاة في هم شديد، لأن صاحبها لم يعد يحبها؛ إنها لا تشبهك في أنه بدأ يملها، فقديماً لم يكن يسمح لها أن تنزل إلى البحر وحدها وهو كذلك مضطرب مائج، وهو لم يلاحظ ثوب البحر الجديد الجميل الذي كانت تلبسه، مع انه نال إعجاب جميع الذين شاهدوها تخطر به على الشاطئ. . . تنهدت الفتاة قائلة:(آه! لماذا لم تخلق القلوب البشرية متشابهة كلها؟ لماذا خلق كل قلب يعيش من عواطفه في دنيا وحده؟)
وبينما الفتاة غارقة في هذا التفكير، إذ وقع نظرها على أطفال يبنون قلعة من الرمل، وهم
يهللون ويلغطون فرحين. بدد هذا المنظر البهيج خواطر الحزن التي كانت تستبد بالفتاة، فوقفت ترقب في اهتمام عمل الصغار، ولما انتهى بناء القلعة وضع الأطفال في كل ناحية منها قطعة من الخشب على شكل مدفع، ثم اختلفوا على جنسية العلم الذي يرفع على القلعة، إذ كان كل منهم يحاول أن يرفع رايته؛ وبعد جدال ومداولة، اتفقوا على رفع راياتهم جميعاً عليها ونال كل منها حظه من المجد. عندئذ صاحت الفتاة في دهشة: ولكن ملك أي دولة هذه القلعة؟ فأجابوا ملك جميع الدول
فقالت الفتاة: آه ما أمهركم في السياسة أيها الصغار! لو أن آباءكم لم يعرفوا الأثرة لأراحوا العالم من مشاكل عدة! ليت رجال السياسة ظلوا أطفالاً. . .! ولكن، هاهي ذي موجة عظيمة تطغي على الشاطئ فتبتلع القلعة بمدافعها وراياتها؛ فوقف الأطفال لحظة واجمين، ولكن كم كانت دهشة الفتاة عظيمة حينما رأت هذا الوجوم ينقشع بغتة، ثم هو ينقلب إلى ضحك ومرح ونشاط، إذ استقر رأيهم على بناء قلعة أخرى من فورهم، تكون أروع وأفخم من القلعة الأولي. . كم كانت الفتاة تغبط هؤلاء الصغار على تلك السرعة التي سلوا بها أشجانهم، أنها تعطي كل ما تملك لكي تتمكن نمن أن تستبدل بقلبها الكليم أحد هذه القلوب الغضة! ثم أخذت تتذكر طفولتها السعيدة أيام كانت آلامها النفسية لا تدوم أكثر من لحظة. .
الفتاة حزينة، حزينة جداً، لأن حبها في دور النزع، فها هو ذا حبيبها يتأخر عن مواعيده، وهو ذا بدأ يتعلل بالمعاذير؛ فهل يكون ذلك إلا المقدمات المألوفة للفراق. . .؟ الفتاة تذكر في حسرة وألم مقدار ما كان تعلق حبيبها بها في بداية حبهما. . وتذكر كيف كان لا يقوى على فراقها لحظة، حتى أن أحد أقاربه الأعزاء قد مات فلم يشترك في جنازته حتى لا يفرق ذلك بينهما وقتاً ما. .! وكم زعم لها أن وجودها بجانبه ضروري له ضرورة الماء للسمك. . والآن، الآن، هو يتلمس الأعذار ليبتعد عنها. .!
ما أغلظ قلب هذا الفتى! إن هذه الأمواج الصاخبة لأرق قلباً منه، وإنها لترحب بالفتاة على حين يفرمنها! كم تود الأمواج أن تضم إلى صدرها تلك الدمية الجميلة ذات الجدائل الذهبية! أتذهب الفتاة إلى لقاء صاحبها في المقصف لا! إنه سوف يستقبلها بتلك الابتسامة المصطنعة البغيضة! وإن لقاء الأمواج لأحب إليها من لقاء هذا الحبيب. . اصبري أيتها الأمواج؟ إن الفتاة الجميلة ذات الجدائل الذهبية تراود نفسها أن تهب لك هذا الجسم الغض،
وما أراها ستمتنع عليك، وما أراها ستكون لغيرك. . . . . . وكان انتظار الفتى صاحبته في هذا اليوم وبعد هذا اليوم عبثاً. . .
حسين شوقي
البريد الأدبي
استفتاء السلام
تألفت منذ حين في إنكلترا لجنة سميت (بلجنة التصريح القومي) عن عصبة الأمم ومسائل التسليح، ونظمت استفتاءعاماً للشعب البريطاني عن مسائل السلام الدولي ليعرف العالم إلى أي اتجاه يتجه بعواطفه وتأييده؛ وتولى رئاستها الفيكونت سسل، وأنفقت اللجنة مدى أشهر جهوداً عظيمة للدعوة إلى الاستفتاء وتنظيمه، وجمع الإجابات عن الأسئلة التي طرحتها على الجمهور البريطاني. وقد أصدرت أخيراً كتاباً شرحت فيه جهودها والنتائج التي وصلت إليها، وهذه هي الأسئلة الخمسة التي طرحت على الشعب البريطاني لإبداء رأيه فيها:
1 -
هل يجب أن تبقى بريطانيا العظمى عظواً في عصبة الأمم؟
2 -
هل تؤيد تخفيض التسليح تخفيضاً عاماً بمقتضى معاهدة دولية؟
3 -
هل تؤيد إلغاء الخدمة القومية العسكرية والتسليح الجوي بمقتضى معاهدة دولية؟
4 -
هل يحضر صنع الأسلحة وبيعها للفائدة الشخصية بمقتضى معاهدة دولية؟
5 -
هل إذا أصرت أمة ما على مهاجمة أمة أخرى يجب على الأمم الأخرى أن ترغمها على وقف الاعتداء بالإجراءات الاقتصادية، وبالإجراءات العسكرية إذا اقتضى الحال؟
وقد عاونت اللجنة في عملها عدة من الصحف الكبرى، فطرحت هذه الأسئلة للاستفتاء؛ وقسمت اللجنة بريطانيا العظمى إلى مناطق توافق الدوائر الانتخابية؛ وكانت نتائج الاستفتاء التي نشرتها في كتابها كما يأتي:
السؤال الأول - أجاب عنه بالإيجاب 10 ، 624 ، 560 شخصاً، وبالنفي 337 ، 964
السؤال الثاني - أجاب عنه بالإيجاب 10 ، 058 ، 526 شخصاً وبالنفي 815 ، 365
السؤال الثالث - أيده بالإيجاب 9 ، 157 ، 145 شخصاً، وعارضة 1 ، 614 ، 159
السؤال الرابع - أيده بالإيجاب 10 ، 002 ، 849 شخصاً وعارضه 740 ، 634
السؤال الخامس - أجاب عنه بالإيجاب عن الشطر الأول أكثر من تسعة ملايين، وبالإيجاب عن شطر الثاني أكثر من ستة ملايين، وأجاب بالنفي عن الشطر الأول نحو ستمائة ألف وعن الشطر الثاني أكثر من مليونين
ولمثل هذا الاستفتاء ونتائجه أهمية عظيمة في بلد كبريطانيا تتمتع بأعرق الأنظمة الديمقراطية، ويحسب فيه اكبر حساب للرأي العام، وتتجه السياسة الخارجية تحت مؤثرات الرأي العام ورغباته. ويتضح من مجموع الإجابات أن الشعب البريطاني يميل بصفة عامة إلى السلام والسياسة السلمية. وقد عقب الفيوكنت سسل على نتائج الاستفتاء بمقال عن حالة السياسة الدولية العامة قال فيه:
(أن الموقف الأوربي قد ساء إلى اعظم حد، وقد أخذ العالم يتحرك نحو الحرب، وهزت الحوادث المخربة التي وقعت في الشرق الأقصى كل أنظمة السلام، وقامت أمة عسكرية (يريد اليابان) تتجاهل المعاهدات الدولية فاستولت على أراض شاسعة من أملاك جارتها، وتحدت معارضة جنيف بكل نجاح)
(وقد قبلت عدة أمم أوربية نظام الدكتاتورية الذي يدعو إلى استعمال القوة كأداة صالحة لتسوية المسائل الدولية، وأنذرت دولتان عظيمتان عصبة الأمم بالانسحاب، وعاونت القومية الاقتصادية التي نشأت عن الأزمة العالية، على إحياء نظريات العزلة القديمة؛ والخصومات الجنسية التي تخلق بأشنع العصور الوسطى، ولاح أن أوربا تنحدر إلى حالة الطائفية القديمة التي أنقذتها منها المدنية النصرانية)
تأريخ للصحافة
كانت جريدة (التيمس) قد أصدرت بمناسبة عيدها الخمسين بعد المائة وهو الذي احتفلت به في شهر يناير الماضي، عدداً بتاريخ الصحافة من سنة 1785 وهو عام إنشائها حتى يومنا. وقد لقي هذا العدد الخاص يومئذ رواجاً عظيماً وتفند بسرعة مدهشة حتى أن إدارة (التيمس) رأت أن تعيد طبعه ولكن في شكل كتاب يصلح للمكتبة. وقد صدر هذا المجلد أخيراً، وهو في نحو مائتين وعشرين صفحة، وهو يحتوي على تأريخ ضاف للصحافة وتطوراتها في مدى القرن ونصف القرن الذي عاشته الجريدة الإنكليزية الكبرى؛ وقد صدر بصورة فوتوغرافية لكتاب الملك جورج الخامس إلى التيمس وفيه يهنئها بعيدها؛ ونشرت صورة طريفة أخرى منها صورة تخطيطية لمدينة لندن منذ مائة وخمسين سنة حينما صدر العدد الأول من (التيمس) تحت عنوان (السجل اليومي العام). وقد طبع في ثوب قشيب في منتهى الأناقة، وجعلت منه نسخ مذهبة بديعة تناسب هذا التذكار الصحفي العظيم
آراء جديدة في التربية
تتحدث الصحف النمسوية في تلك الآونة عن العلامة المربي (البيدا جوجي) جاك دالكروزي وعن نظرياته في التربية، وذلك لمناسبة احتفاله ببلوغ السبعين من عمره. وجاك دالكروزي سويسري الأصل ولكنه ولد في فينا ونشأ بها في ذلك العهد السعيد، عهد شوبرت ويوهان شتراوس؛ ومال إلى الشعر والموسيقى، وظهر بطريف آرائه في التربية. وأنفق مدة الحرب في ألمانيا، ولكن نظرياته لم تلق هناك نجاحاً؛ ثم نزح إلى براج وهنالك ذاعت نظرياته، وأنشئت المدارس والبرامج الجديدة متأثرة بروحها، ويرى دالكروزي أن الموسيقى تولد مع الإنسان، وأن الإنسان ولا سيما الطفل يحملها في أعمق مشاعره؛ ومن ثم ابتكر دالكروزي نوعاً من الرياضة التوقيعية تتأثر بروح الموسيقى التي هي روح الإنسان. وتقوم نظرية دالكروزي الأساسية في التربية على أن الإنسان يستطيع الابتكار بطبيعته، وأن الإنسان هو الذي يخلق نفسه ويكونها، ولهذا يرى أنه يجب أن يعود الطفل الارتجال في القول والعمل؛ وهذه نظرية تخالف رأي بروكنر القائل بأن الإنسان لا يستطيع الابتكار إلا بعد التحصيل والمران الفني، ولكن جاك دالكروزي يبث روح الابتكار في تلاميذه، وينظمه كفن، ويرى أنه خير وسيلة لسرعة البت وتحقيق المجهود، وإدراك الآراء، وهو يصقل الشعور، ويوجد صلة مباشرة بين الروح الذي يتأثر ويوحي، وبين المخ الذي يفكر ويتصور؛ وقد دلت التجارب على أن الطفل يعشق الارتجال، وانه يتفوق في الابتكار أحياناً على الأحداث، وذلك لأن ذهنه لم يكن قد صفد بعد الأصول والقواعد الموضوعة، ولأن ذهنه يتمتع بالحرية الطبيعية
ولنظريات دالكروزي في التربية وتكوين النشء أثر عميق في تربية الجيل الحاضر من الشباب في النمسا وتشكوسلوفاكيا.
الكتب
1 -
المقنع في رسم مصاحف الأمصار مع كتاب النقط
لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني
2 -
المختار من شعر بشار للخالديين
نشره وعلق حواشيه الأستاذ محمد بدر الدين العلوي
للأستاذ محمد بك كرد علي
تحدثنا في العدد الماضي عن كتاب التيسير في القراءات السبع للإمام أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني الذي نشره العلامة برتزل. واليوم نتحدث عن كتابه الآخر وهو (المقنع) في رسم مصاحف الأمصار مع كتاب النقط نشره كذلك العلامة برتزل، قال المؤلف في مقدمته:(هذا كتاب أذكر فيه إن شاء الله ما سمعته من مشيختي، ورويته عن أئمتي، من مرسوم خطوط مصاحف أهل الأمصار: المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وسائر العراق، المصطلح عليها قديماً، مختلفاً فيه ومتفقاً عليه، وما انتهى إليّ من ذلك، وصح لدي منهم عن الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعن سائر النسخ التي انتسخت منه الموجه بها إلى الكوفة والبصرة والشام. وذكر كيف جمع عثمان المصحف، وروى أن علياً قال: لو وليت لفعلت الذي فعل عثمان. وقال: إن أكثر العلماء على أن عثمان بن عفان لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن، فوجه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة. ثم أفاض في رسم المصاحف وذكر ما حذفت منه الياء اجتزاءً بكسر ما قبلها منها، وما حذفت منه الواو اكتفاء بالضمة منها أو لمعنى غيره، وما رسم بإثبات الألف على اللفظ أو المعنى، وما رسم بإثبات الياء على الأصل؛ وما رسم بإثبات الياء زائدة أو لمعنى، إلى ما يتعلق بذلك، وختم هذا الكتاب بقوله: (فان قيل فلم خص زيد (بن ثابت) بأمر المصاحف، وقد كان في الصحابةمن هو أكبر منه كابن مسعود، وأبي موسى الأشعري وغيرهما من متقدمي الصحابة، قلت إنما كان ذلك لأشياء كانت فيه، ومناقب اجتمعت له، لم تجتمع لغيره، منها أنه كتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه جمع القرآن كله
على عهد رسول الله (ص)، وأن قراءته كانت على آخر عرضة عرضها النبي على جبريل عليهما السلام، وهذه الأشياء توجب تقديمه لذلك وتخصيصه به، لامتناع اجتماعهما في غيره، وإن كان كل واحد من الصحابة رضوان الله عليهم له فضله وسابقته، فلذلك قدمه أبو بكر لكتابة المصاحف وخصه بها دون غيره، من سائر المهاجرين والأنصار؛ ثم سلك عثمان رضي الله عنه طريق أبي بكر في ذلك إذ لم يسعه غيره، وإذ كان النبي (ص) قد قال اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر فولاه ذلك أيضاً وجعل معه النفر من القرشيين ليكون القرآن مجموعاً على لغتهم، ويكون ما فيه من لغات ووجوه على مذهبهم، دون ما لا يصح من اللغات ولا يثبت من القراءات. . .)
وأتبع المؤلف كتاب المقنع في مرسوم المصاحف بكتاب نقط المصاحف وكيفية ضبطها على ألفاظ التلاوة، ومذاهب القراءة، بدأه بذكر من نقط المصاحف أولاً من التابعين ومن كره ذلك، ومن ترخص فيه من العلماء، ثم عرض لكل ما يتعلق بهذا الباب. وقد وضع الناشر فهرساً للآيات الواردة في كتاب التيسير وكتاب المقنع وكتاب النقط فجاء مسهلاً للمطالع والمراجع
هذه عناية علماء المشرقيات بكتب الإسلام، أما خاصة أهله اليوم فساهون لاهون. وليت سادتنا علماء الأزهر والمعاهد المماثلة له في القطر، وأساتذة دار العلوم وغيرهم يتروون في عمل هؤلاء الأعاجم، وقد كان عليهم هم أن يأخذوا باليمين آثار السلف ليحيوها قبل أن تنتظر في الخزائن عطف الغرب
أننا مدينون لعلماء المشرقيات من الهولانديين والجرمانيين والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين والأسبانيين، وغيرهم من شعوب أوربا وشمالي أمريكا، بما تفضلوا به علينا من نشر أسفارنا. أحسن الله إليهم بقدر ما أحسنوا لمدنيتنا وآدابنا.
- 2 -
عني السيد محمد بدر الدين العلوي من أساتذة جامعة عليكرة الإسلامية في الهند بتصحيح (المختار من شعر بشار) اختيار الخالدين وشرحه لأبي طاهر إسماعيل بن أحمد بن ذيادة الله النجيبي الرقي من أهل القرن الخامس، فوقع في 341 عدا فهارس قوافي الأبيات والمصاريع وأسماء الشعراء وأسماء الرجال والنساء والقبائل والأصنام والأفراس والجمال.
وهذا من الكتب التي يزيد أحياؤها مادة الأدب القديم، وتفيد في بث الجيد من الشعر والنثر وفصيح اللغة، وفيه جواب كاف شاف لمن حاولوا أن يحذفوا من كتب القدماء ما لم يروه منطبقاً بزعمهم على مصطلح هذا العصر في هزل الأدب ومضحكاته؛ فقد نقل من صفحة 201 إلى ما بعدها قصصاً وأشعاراً من هذا القبيل، أجاد الناشر ومعلق الفوائد على الكتاب السيد العلوي في إبقائها بحالها، على ما تقضي بذلك أمانة العلم، إذ الناس يحبون أن يروا الكتاب كما ألفه مؤلفه، لا كما راق ناشره، وقد يجوز هذا لنفسه حذف مواضع لم ترقه، وعبارات لا يستحن إثباتها أصحاب الذوق الجديد، فيجيء الكتاب المشذب على هذا النحو كتاب الناشر لا كتاب المؤلف، ولو كانت هذه الطريقة من إثبات ما يسمونه الفحش اليوم مما يستنكر لما رأينا الراغب الأصفهاني في محاضراته، ولا ابن حزم الضاهري في طوق الحمامة، وهما ما هما من المكانة الدينية والعلمية، يجوزان أن ينقلا أشياء من هذا القبيل يعدها بعضهم في عصرنا نابية عن حد الادب؛ فالناشر المستعرب الهندي إذن جدير بكل احترام وإعجاب لعنايته بنشر مصنف قديم على النحو الذي وضعه واضعه
والشكر الكثير للجنة التأليف والترجمة والنشر على أحيائها هذه الكتب خدمة للمعارف والآداب سيذكرها التأريخ لجماعة متشاكلين في العلم والتربية تألفوا على غاية نبيلة واحدة، وهي خدمة العلم والأدب في مظاهره المنوعة.
محمد كرد علي
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
تأليف محمد كامل حجاج
للدكتور عبد الوهاب عزام
الأديب الأريب محمد كامل حجاج له فضل قديم على قراء العربية بما عرفهم من الأدب الغربي في كتابه الكبير (بلاغة الغرب) وأنا اعترف أني عرفت الأدب الغربي أول ما عرفته، في هذا الكتاب، وأحسب كثيراً من المتأدبين يشاركونني في هذا الاعتراف
وقد اخرج الأديب الفاضل عام أول كتاباً سماه (خواطر الخيال وإملاء الوجدان)، وهو كتاب من إنشائه يتضمن خمسة وسبعين مقالاً في موضوعات شتى. والكتاب أربعة أقسام.
وليست خواطر الخيال إلا القسم الأول منه الذي يحوي مقالات الربيع، والزمان، والزهرة، والشيطان الجميل، والأمل، والنور، والظلام ونحوها من الموضوعات الخيالية والوجدانية
والقسم الثاني فيه أبحاث فلسفية ونفسية مثل الموسيقى والحب، الموسيقى والسحر، الموسيقى والتربية، أغاني الحب عند هنود امريكا، وأكثر ما في هذا القسم يتصل بالموسيقى. وكاتبنا الفاضل له ولع بالموسيقى، وخبرة بها، واهتمام بتاريخها. وقد ألف فيها كتاباً طبعه مؤتمر الموسيقى الذي اجتمع بالقاهرة منذ سنتين
والقسم الثالث من الكتاب باب النقد وفيه مقالات كثيرة منها (بين القديم والحديث) ورواية عائدة، وألف ليلة وليلة، وعلى ضفاف الكنج، ونابغة شرقي مجهول، وفيه تراجم جماعة من أدبائنا في القرن الماضي مثل عبد الله باشا فكري، ومحمود باشا قدري، ورفاعة بك، وعبد الله نديم، ومحمود صفوت الساعاتي
والقسم الرابع سماه الكاتب متفرقات وفيه أربع مقالات
والأديب الفاضل محمد كامل حجاج مولع بالجمال حيثما تجلى. فهو كلف بالجمال في الحدائق، ذو دراية ودربة في زراعة البساتين، وهو كلف بالجمال في الموسيقى يكثر التحدث بها والكتابة عنها، وله فيها ذوق سليم. وهو كلف بالجمال في التصوير وله فيه حسنات. وهو كلف بالجمال في الفضيلة والأخلاق الطيبة، كريم الخلق مولع بالتحدث عن الخلق الكريم والدعوة إليه الخ الخ
وهو إلى هذا كله واسع المعرفة بالأدب الفرنسي، حريص على إقناع قراء العربية بطرفه وروائعه
هذا الكلف بالجمال في مظاهره المختلفة والبصر بالأدب الفرنسي يتجلى في صفحات الكتاب. ولست أستطيع تفصيل ما في الكتاب هنا ولكني أدعو المتأدبين إلى أن يقرأوا في الكتاب تفصيل ما أجملت، وبرهان ما أدعيت، فالكتاب جدير بالقراءة خليق باهتمام الأدباء وكاتبه جدير منا بالشكر والثناء
عبد الوهاب عزام