الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 109
- بتاريخ: 05 - 08 - 1935
أساليب الاستعمار
قضية الحبشة
قضية الشرق وقضية الحرية
للاستعمار الغربي تاريخ أسود، حافل بصنوف الاعتداءات الدموية على
حقوق الأمم الضعيفة، وعلى أرواح الشعوب الآمنة وحرياتها وأرزاقها؛
ولكن هذا الاستعمار الدموي الغادر، لم يبلغ في عصر من العصور،
ولا في ظرف من الظروف، ما يبلغه اليوم من الجرأة والاستهتار، بل
من الإجرام والتوحش، فهو لا يحاول حتى أن يستر نياته كما عهدناه
في الماضي أو يسبغ على تصرفه أي لون مشروع أو معقول، بل يتقدم
بكل بساطة، مسفرا عن براثنه، شاهراً سلاحه للقضاء على الفريسة،
متغنياً في غير حياء ولا وجل بما يستطيع أن يغنم من وراء الدم
المسفوك، والحريات المغصوبة، والبلد المباح
تلك هي الصورة التي يعرضها لنا النزاع الإيطالي الحبشي. ونقول النزاع من باب التجاوز، إذ أي نزاع هنالك؟ بلد حر مستقل منذ أحقاب التاريخ، وشعب آمن مطمئن في أرضه التي خصه الله بها، يريد الاستعمار الفاشستي الغاشم أن يلتهمه نهاراً جهاراً؛ ولا عذر له - إن صح التعبير - إلا أنه يريد أن يزيد في أرضه وفي ثرواته وفي سلطانه، وأن يحقق شهوة عرضت له في استباحة الهضاب الحبشية الغنية بكنوز الطبيعة، التي يضطرم جشعاً للحصول عليها. وأي طريق هذا الذي يلجأ إليه لتحقيق هذه الشهوة الوضيعة الغاشمة؟ هو القتل المنظم يسميه الحرب، والفتك الذريع يسميه الفتح؛ هو القرصنة المجردة، وهو السلب الجهر، وهو قطع الطريق؛ وهو أخيراً كل ما في الجريمة من عدوان وانتهاك وكل ذلك باسم المدنية الغربية والتهذيب الأوربي
وأوربا المتمدينة، ما هو موقفها من ذلك العدوان الآثم؟ وشرائع الله وشرائع الأمم ما
مصيرها؟ أما أوربا المتمدينة فهي تأتمر جمعاء مع هذه الفاشستية الدموية المتوحشة؛ وإذا شذت دولة فعرضت بعدوانها فإنما ذلك لغيرة أو منافسة؛ وإنما عصابة الاستعمار كلها يد واحدة تؤيد إيطاليا القوية الزاخرة بالجند والسلاح، لا باعتبارها دولة أوربية وقوة استعمارية فقط، ولكن باعتبارها دولة غربية تزمع أن تفترس أمة شرقية، وأمة بيضاء تزمع أن تفترس شعباً أسمر (ملوناً)؛ وكلها تأتمر مع القوي المعتدي ضد الضعيف المعتدى عليه، فتمتنع عن بيع السلاح للحبشة مصانعة لإيطاليا ومؤازرة لقضية الاستعمار المشتركة، لكي تعجز الحبشة عن الدفاع عن نفسها، ولكي يستطيع المعتدي أن يحصد أبنائها المدافعين عنها بأيسر أمر
وأما شرائع الله وشرائع الأمم، فإن هذا الاستعمار الباغي ينتهكها شر انتهاك؛ بل إنه ليتيه كبرياء إذ يستطيع انتهاكها دون وازع، ويزعم أنه يستطيع بما لديه من القوى والعدد أن يسخر من رأي العالم ومن الإنسانية كلها؛ فحقوق الأمم وحرياتها المقدسة، وأمن الشعوب وحياة الأمم والأفراد كلها لغو في نظره؛ ثم هو يطأ قانون الأمم (القانون الدولي) بقدميه ويسحقه سحقاً، فلا ترده عن مشروعه الآثم معاهدات سلم وتحكيم يرتبط بها، ولا يحترم معاهدات خاصة عقدها مع الأمة التي ينوي افتراسها يوم كان يخطب ودها
تلك هي إيطاليا الفاشستية، وذلك هو موقفها كما يعرضه ذلك الرجل! ذلك الطاغية الذي يزعم أنه بعدوانه الصارخ على حرية الأمم، يقود أمته في سبيل المجد والعظمة والثراء، وما يقودها إلا في سبيل الدمار والفناء
لقد كانت إيطاليا لأقل من قرن أمة ذليلة تصفدها أغلال الحكم الأجنبي، وكانت أوربا والعالم كله يعجب بكفاحها في سبيل حرياتها؛ وما زالت أسماء أولئك الزعماء الذين قادوها في سبيل الحرية أمثال مازيني وأورسيني وكافور وجاريبالدي تستثير إعجاب الخلف وتقديره. ولكن إيطاليا، ولكن ذلك الطاغية الذي يسيطر على مصايرها اليوم، يوشك أن يقضي بمعوله المخرب على ذلك الصرح النبيل الذي ما زالت تتخذه الأمم الطامحة إلى حرياته مثلا أعلى
إن هذا النزاع الذي تهتز له اليوم أرجاء العالم كله، ليس قضية إيطاليا والحبشة بل هو أجل شأناً من ذلك وأبعد مدى؛ هو قضية الغرب الظافر والشرق المغلوب، وهو قضية
الاستعباد والحرية؛ وإذا كانت قوى الاستعمار تتضافر اليوم مع إيطاليا لتزيدها جرأة على جرأتها، وقوة على قوتها، فذلك لأنها ترى في سحق الحبشة سحق آخر معقل للحرية الأفريقية؛ وإذا كانت بعض الدول الاستعمارية تحاول أن تبذل باسم عصبة الأمم جهوداً لاتقاء الحرب الأفريقية، فليس ذلك حباً منها للسلام أو عطفاً على الحبشة، ولكن لأنها تشفق أن يثير هذا الفصل الجديد في الصراع بين الشرق والغرب، وبين الاستعمار وفرائسه، اضطراباً في أملاكها ومستعمراتها، وأن يذكي في الأمم المستعبدة روح الانتقاص والثورة فتعمل على تقويض سلطانها المغصوب
إن فرصة تلوح في الأفق للأمم الشرقية، فهل تعنى الأمم الشرقية بمراقبة الحوادث، وهل تعد نفسها لانتهاز فرصتها؟
(. . .)
كلمات عن حافظ
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
ذهبت بقلبي إلى كل مكان فوجدت أمكنة الأشياء ولم أجد مكان قلبي؛ أيها القلب المسكين أين أذهب بك؟
هذا ما أجبت به (حافظ) حين سألني مرةً: ما لك لا ترضى ولا تهدأ ولا تستقر؟ وكان يخيل إلي أنه هو راضٍ مستقر هادئ، كأنما قضى من الحياة نهمته ولم يبق في نفسه ما تقول نفسه ليت ذلك لي. وكنت أعجب لهذا الخلق فيه ولا أدري ما تعليله إلا أن يكون قد خلق مطبوعاً بطابع اليتم فلم يعرف منذ أدرك ألا أنه أبن القدر؛ تأتيه الأفراح والأحزان من يد واحدة مقبلة كما تنال الصبي ألطاف أبيه ولطمات أبيه. . . .
وقد قلت له مرة: كأنك يا حافظ تنام بلا أحلام؛ فضحك وقال. أو كأنني أحلم بغير نوم. . . .
ولقد عرفته منذ سنة 1900 إلى أن لحق بربه في سنة 1932 فما كنت أراه على كل أحواله إلا كاليتيم محكوماً بروح القبر، وفي القبر أوله. ولما أزمع السفر إلى اليونان قلت له: ألا تخشى أن تموت هناك فتموت يونانياً. . . . فقال: أو تراني لم أمت بعد في مصر. . .؟ إن الذي بقي هين
ومن عجائب هذا اليتيم الحزين أنه كان قوي الملكة في فن الضحك، كأن القدر عوضه به ليوجده في الناس عطف الآباء ومحبة الأخوة. ولم يخل مع فقره من ذريعة قوية إلى الجاه، ووسيلة مؤكدة إلى ما هو خير من الغنى؛ فكانت أسبابه إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ثم حشمت باشا، ثم سعد باشا زغلول؛ وهذا نظام عجيب في زمن (حافظ) يقابل الاختلال العجيب في نفس حافظ؛ فالرجل كالسفينة المتكفئة تميل بها موجة وتعدلها موجة، وهي بهذه وبهذه تمر وتسير
وأولئك الرؤساء العظماء الذين جعلهم القدر نظاماً في زمن حافظ كانوا من أفقر الناس إلى الفكاهة والنادرة، فكان لهم كالثروة في هذا الباب، ووقع إصلاحاً في عيشهم وكانوا إصلاحاً في عيشه؛ ولو إن الأقدار تشبه بالمدارس المختلفة لقلنا إن (حافظ) تخرج منها في مدرسة التجارة العليا. . . . فهو كان أبرع من يتاجر بالنادرة
وهذه النوادر كأنها هي أيضاً صنعت (حافظ) في شكل نادرة. فكان فقيراً، ومع هذا كان للمال عنده متمم هو إنفاقه وإخراجه من يده؛ وكان يتيماً، ولكنه دائماً متودد؛ وكان حزيناً، ولكنه أنيس الطلعة؛ وكان بائساً، ولكنه سليم الصدر، وكان في ضيق، ولكنه واسع الخلق؛ وتمام النادرة فيه أنه كان طوال عمره متبسطاً مهتزاً كأن له زمناً وحده غير زمن الناس، فتتراكم عليه الهموم وهو مستنيم إلى الراحة، ويعتريه من الجوع مثل مكسلة الشبع، ويسترسل إلى البطالة وكأنه مشمر للجد، ويستمكن الحزن منه في ساعة فيتهدد حزنه بالساعة التالي. . . .
رأيته في أحد أيام بؤسه الأولى قبل أن يتصل عيشه وكان يعد قروشاً في يده فقلت: ما أمر هذه القروش؟
قال: كنت أقامر الساعة فأضعت ثلاثين قرشاً ولم يبق لي غير هذه القروش الملعونة، فهلم نتعش. ودخل إلى مطعم كان وراء حديقة الأزبكية فزعمت له أني تعشيت. . . فأكل هو ودفع ثمن طعامه ثلاثة قروش. وكنت أطالع في وجهه وهو يأكل، فما أتذكره الآن إلا كما طالعته بعد عشرين سنةً من ذلك التاريخ حين دعاني (حافظ) إلى مطعم بار اللواء وقد فاضت أنامله ذهباً وفضة. وكان رحمه الله قد أصدر الجزء الثاني من (البؤساء) ورآني في القاهرة فأمسك بي حتى قرأت معه الكتاب كله فيما بين الظهر والمغرب؛ وركبنا في الأصيل عربة وخرجنا نتنزه أي خرجنا نقرأ. . .
وكان على وجه (حافظ) لون من الرضى لا يتغير في بؤس ولا نعيم كبياض الأبيض وسواد الأسود. وهذا من عجائب الرجل الذي كان في ذات نفسه فناً من الفوضى الإنسانية حتى لكأنه حلم شعري بدأ من أبويه ثم انقطع وترك لتتممه الطبيعة!
ومن نظر إلى (حافظ) على اعتبار أنه فن من الفوضى الإنسانية رآه جميلاً جمال الأشياء الطبيعية لا جمال الناس؛ ففيه من الصحراء والجبال والصخور والغياض والرياض والبرق والرعد وأشباهها. وكنت أنا أراه بهذه العين فأستجمله، ويبدو لي جزلاً مطهماً، وأرى في شكله هندسةً كهندسة الكون تتم محاسنها بمقابحها. وكم قلت له: إنك يا حافظ أجمل من القفر. . . . . .
أما هو فكان يرى نفسه دميماً شنيع المرآة متفاوت الخلق كأنه إنسان مغلوط في تركيبه. . .
وقد سألته مرة: هل أحب؟
فقال: النساء اثنتان: فأما جميلة تنفر من قبحي، وإما دميمة أنفر من قبحها؛ ولهذا لم يفلح في الغزل والنسيب، ولم يحسن من هذا الباب شيئاً يسمى شيئاً؛ وبقي شاعراً غير تام، فإن المرأة للشاعر كحواء لآدم، هي وحدها التي تعطيه بحبها عالماً جديداً لم يكن فيه. وكل شرها أنها تتخطى به السماوات نازلاً. . .
وتهدم حافظ في أواخر أيامه من أثر المرض والشيخوخة، وكان آخر العهد به أن جاء إلى إدارة (المقتطف) وأنا هناك فلم يرني حتى بادرني بقوله: ماذا ترى في هذا البيت في وصف الأمريكان:
وتخِذتُم مَوْج الأثير بَريداً
…
حين خِلتُم أن البرُوق كُسالى
فنظرت إلى وجهه المعروق المتغضن وقلت له: لو كان فيك موضع قبلة لقبلتك لهذا البيت؛ فضحك وأدار لي خده؛ ولكن بقى خده بلا تقبيل. . .
وشهرة هذا الأديب العظيم بنوادره، ومحفوظاته من هذا الفن أمر مجمع عليه؛ وكان يتقصص النوادر والفكاهات ومطارحات السمر من مظانها في الكتب ورجال الأدب وأهل المجون، فإذا قصها على من يجالسه زاد في أسلوبها أسلوبه هو، وجعل يقلبها ويتصرف فيها ويبين عنها أحسن الإبانة بمنطقه ووجهه ونبرات في لسان ونبرات في يده
وهو أصمعي هذا الباب خاصة، يروي منه رواية عريضة، فإذا استهل سح بالنوادر سحاً كأنها قوافي قصيدة تدعو الواحدة منها أختها التي بعدها
وقد أذكرتني (القوافي) مجلساً حضرته قديماً في سنة 1901 أو 1900 وكان (مصباح الشرق) قد نشر قصيدة رائية لأبن الرومي، فتعجب المرحوم الشيخ محمد المهدي من بسطة أبن الرومي في قوافيه، فقال له (حافظ) هلم نتساجل في هذا الوزن حتى ينقطع أحدنا. وكانت القافية من وزن: قدرها، أحمرها، أخضرها الخ، وجعلت أنا أحصي عليهما؛ فلما ضاق الكلام كان الشيخ المهدي يفكر طويلاً ثم ينطق باللفظ ولا يكاد يفعل حتى يرميه حافظ على البديهة، فيعود الرجل إلى الإطراق والتفكير؛ ثم انقطع أخيراً وبقي حافظ يسرد له من حفظه الغريب
أما في لنوادر فالعجيبة التي اتفقت له في هذا الباب أنه جاء إلى طنطا في سنة 1912
ومديرها يومئذ المرحوم (محمد محب باشا) وكان داهية ذكياً وظريفاً لبقاً، وكنت أخالطه وأتصل به، فدعا (حافظ) إلى العشاء في داره؛ فلما مدت الأيدي قال الباشا: لي عليك شرط يا حافظ. قال وما هو؟ قال: كل لقمة بنادرة
فتهلل حافظ وقال: نعم لك علي ذلك. ثم أخذ يقص ويأكل، والعشاء حافل، وحافظ كان نهماً فما انقطع ولا أخل حتى وفى بالشرط. وهذا لا يمنع أن الباشا كان يتغافل ويتغاضى ويتشاغل بالضحك فيسرع حافظ ويغالط بفمه. . . .
ولكن هذه المضحكات أضحكت من (حافظ) مرة كما أضحكت به. فلما كان يترجم (مكبث) لشكسبير - وهي كأعماله الناقصة دائما - دعوه لإلقاء (محاضرة) في نادي المدارس العليا، والنادي يومئذ يجمع خير الشباب حميةً وعلماً، وكان صاحب السر فيه (السكرتير) زينة شباب الوطنية المرحوم أمين بك الرافعي. فقام حافظ فأنشدهم بعض ما ترجمه نظما عن شكسبير ومثله تمثيلاً أفرغ فيه جهده فأطرب وأعجب. ثم سألوه (المحاضرة) فأخذ يلقي عليهم من نوادره. وبدأ كلامه بهذه النادرة: عرضت على المعتصم جارية يشتريها، فسألها: أنت بكر أم ثيب؟ فقالت: كثرت الفتوح على عهد المعتصم. . .
ونظر حافظ إلى وجوه القوم فأنكرها. . . وبقيت هذه الوجوه إلى آخر المحاضرة كأنها تقول له: إنك لم تفلح
ولقد كان هذا من أقوى الأسباب في تنبه (حافظ) إلى ما يجب للشباب عليه إن أراد أن يكون شاعره، فأقبل على القصائد السياسية التي كسبهم بها من بعد. ونادرة المعتصم كالعورة المكشوفة؛ ولست أدري أكان حافظ يعرف النادرة البديعة الأخرى أم لا. فقد عرضت جارية أديبة ظريفة على الرشيد فسألها: أنت بكر أم إيش؟
فقالت: أنا (أم إيش) يا أمير المؤمنين. . .
وفن (الشعر الاجتماعي الذي عرف به حافظ؛ لم يكن فنه من قبل ولا كان هو قد تنبه له أو تحراه في طريقته. فلما جاءت إلى مصر الإمبراطورة (أوجيني) نظم قصيدته النونية التي يقول فيها:
فاعذرينا على القصور كلانا
…
غيرته طوارئ الحدثان
ولقيته بعدها فسألني رأيي في هذه القصيدة، وكان بها مدلاً معجباً شأنه في كل شعره؛
فانتقدت منها أشياء في ألفاظها ومعانيها وأشرت إلى الطريقة التي كان يحسن أن تخاطب بها الإمبراطورة. فكأنني أغضبته؛ فقال: إن الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، أجمعوا على أن هذا النمط هو خير الشعر، وقالوا لي: إذا نظمت فانظم مثل هذا (الشعر الاجتماعي)، ثم كأنه تنبه إلى أنها طريقة يستطيع أن ينفرد بها فقال: إن كل قصائد شوقي الآن غزل ومدح، ولا أثر فيها لهذا الشعر، على أنه هو الشعر
وتتابعت قصائده الاجتماعية، فلقيني بعدها مرة أخرى فقال لي: إن الشاعر الذي لا ينظم في الاجتماعيات ليس عندي بشاعر. وأردت أن أغيظه فقلت له: وما هي الاجتماعيات إلا جعل مقالات الصحف قصائد. . .؟
فالأستاذ الإمام وسعد زغلول وقاسم أمين: أحد هؤلاء أو جميعهم أصل هذا المذهب الذي ذهب إليه حافظ. وهو كثيراً ما كان يقتبس من الأفكار التي تعرض في مجلس الشيخ محمد عبده من حديثه أو حديث غيره فيبني عليها أو يدخلها في شعره. وهو أحياناً رديء الأخذ جداً حين يكون المعنى فلسفيا إذ كانت ملكة الفلسفة فيه كالمعطلة، وإنما هي في الشاعر من ملكة الحب، وإنما أولها وأصلها دخول المرأة في عالم الكلام بإبهامها وثرثرتها. . .
وكنت أول عهدي بالشعر نظمت قصيدة مدحت فيها الأستاذ الإمام وأنفذتها إليه، ثم قابلت حافظ بعدها فقال لي إنه هو تلاها على الإمام، وإنه استحسنها. قلت: فماذا كانت كلمته فيها؟ قال: إنه قال: لا بأس بها. . .
فاضطرب شيطاني من الغضب، وقلت له: إن الشيخ ليس بشاعر، فليس لرأيه في الشعر كبير معنى. قال: ويحك إن هذا مبلغ الاستحسان عنده
قلت: وماذا يقول لك أنت حين تنشده؟ قال: أعلى من ذلك قليلاً. . . فأرضاني والله أن يكون بيني وبين حافظ (قليل)، وطمعت من يومئذ
وأنا أرى أن (حافظ إبراهيم) إن هو إلا ديوان (الشيخ محمد عبده)، لولا أن هذا هذا، لما كان ذلك ذلك
ومن أثر الشيخ في حافظ أنه كان دائماً في حاجة إلى من يسمعه، فكان إذا عمل أبياتاً ركب إلى إسماعيل باشا صبري في القصر العيني، وطاف على القهوات والأندية يسمع الناس بالقوة. . . إذ كانت أذن الإمام هي التي ربت الملكة فيه، وقد بينا في مقالنا في (المقتطف)
وكان تمام الشعر الحافظي أن ينشده حافظ نفسه؛ وما سمعت في الإنشاد أعرب عربية من البارودي، ولا أعذب عذوبة من الكاظمي، ولا أفخم فخامة من حافظ؛ رحمهم الله جميعاً
وكان لأديبنا يجل البارودي إجلالاً عظيما، ولما قال في مدحه:
فمُرْ كلَّ معنى فارسيّ بطاعتي
…
وكلَّ نَفور منه أن يتودَّدا
قلت له: ما معنى هذا؟ وكيف يأمر البارودي كل معنى فارسي وما هو بفارسي؟
قال: إنه يعرف الفارسية، وقد نظم فيها، وعنده مجموعة جمع فيها كل المعاني الفارسية البديعة التي وقف عليها. قلت: فكان الوجه أن تقول: أعرني المجموعة التي عندك. . .
أما الكاظمي فكان حافظ يجافيه ويباعده، حتى قال لي مرة وقد ذكرته به:(عققناه يا مصطفى!)
وما أنس لا أنس فرح حافظ حين أعلمته أن الكاظمي يحفظ قصيدة من قصائده. وذلك أنهم في سنة 1901 - على ما أذكر - أعلنوا عن جوائز يمنحونها من يجيد في مدح الخديو، وجعلوا الحكم في ذلك إلى البارودي وصبري والكاظمي. ثم تخلى البارودي وصبري، وحكم الكاظمي وحده، فنال حافظ المدالية الذهبية ونال مثلها السيد توفيق البكري
ولما زرت الكاظمي وكنت يومئذ مبتدئاً في الشعر ولا أزال في الغرزمة قال: لماذا لم تدخل في هذه المباراة؟ قلت: وأين أنا من شوقي وحافظ وفلان وفلان؟ فقال: (ليه تخلي همتك ضعيفة؟) ثم أسمعني قصيدة حافظ وكان معجباً بها، فنقلت ذلك إلى حافظ فكاد يطير عن كرسيه في القهوة
وكان تعنت حافظ على الكاظمي لأنه غير مصري. ففي سنة 1903 كانت تصدر في القاهرة مجلة اسمها (الثريا) فظهر في أحد أعدادها مقال عن الشعراء بهذا التوقيع (*). وانفجر هذا المقال انفجار البركان، وقام به الشعراء وقعدوا، وكان له في الغارة عليهم كزفيف الجيش وقعقة السلاح، وتناولته الصحف اليومية، واستمرت رجفته الأدبية نحو الشهر؛ وانتهى إلى الخديو، وتكلم عنه الأستاذ الإمام في مجلسه، واجتمع له جماعة من كبار أساتذة العصر السوريين كالعلامة سليمان البستاني، وأديب عصره الشيخ إبراهيم اليازجي، والمؤرخ الكبير جورجي زيدان - إذ كان صاحب المجلة سورياً - وجعلوا ينفذون إلى صاحب المجلة دسيساً بعد دسيس ليعلموا من هو كاتب المقال
وشاع يومئذ أني أنا الكاتب له؛ وكان الكاظمي على رأس الشعراء فيه، فغضب حافظ لذلك غضباً شديداً، وما كاد يراني في القاهرة حتى ابتدرني بقوله: ورب الكعبة أنت كاتب المقال؛ وذمة الإسلام أنت صاحبه
ثم دخلنا إلى (قهوة الشيشة) فقال في كلامه: إن الذي يغيظني أن يأتي كاتب المقال بشاعر من غير مصر فيضعه على رءوسنا نحن المصريين. فقلت: ولعل هذا قد غاظك بقدر ما سرك ألا يكون على رأسك هو شوقي. . .
وغضب السيد توفيق البكري غضباً من نوع آخر، فاستعان بالمرحوم السيد مصطفى المنفلوطي استعانة ذهبية. . . . وشمر المنفلوطي فكتب مقالا في (مجلة سركيس) يعارض به مقال (الثريا)، وجعل فيه البكري على رأس الشعراء. . . ومدحه مدحا يرن رنيناً
أما أنا فتناولني بما استطاع من الذم وجردني من الألفاظ والمعاني جميعاً، وعدني في الشعراء ليقول إني لست بشاعر. . . فكان هذا رد نفسه على نفسه
وتعلق مقال المنفلوطي على المقال الأول فاشتهر به لا بالمنفلوطي؛ وغضب حافظ مرة ثانية، فكتب إلي كتاباً يذكر فيه تعسف هذا الكاتب وتحامله، ويقول قد وكلت إليك أمر تأديبه
فكتبت مقالاً في جريدة (المنبر) وكان يصدرها الأستاذان محمد مسعود وحافظ عوض، ووضعت كلمة المنفلوطي التي ذمني بها في صدر مقالي أفاخر بها. . . وقلت: إني كذلك الفيلسوف الذي أرادوه أن يشفع إلى ملكه فأكب على قدم الملك حتى شفّعه؛ فلما عابوه بأنه أذل حرمة الفلسفة بانحنائه على قدم الملك وسجوده له، قال: ويحكم، فكيف أصنع إذا كان الملك قد جعل أذنيه في رجليه. . . . . .
ولم يكن مضى لي في معالجة الشعر غير سنتين، حين ظهر مقال (الثريا)، ومع ذلك أصبح كل شاعر يريد أن يعرف رأيي فيه؛ فمررت ذات يوم (بحافظ) وهو في جماعة لا أعرفهم، فلما اطمأن بي المجلس قال حافظ: ما رأيك في شعر اليازجي؟ فأجبته؛ قال: فالبستاني، فنجيب الحداد، ففلان، ففلان؛ فداود بك عمون؟ قلت: هذا لم أقرأ له إلا قليلاً لا يسوغ معه الحكم على شعره. قال: فماذا قرأت له؟ قلت: رده على قصيدتك إليه: شجتنا مطالع أقمارها. قال فما رأيك في قصيدته هذه؟ قلت: هي من الشعر الوسط الذي لا يعلو ولا ينزل
فما راعني إلا رجل في المجلس يقول: أنصفت والله! فقال حافظ: أقدم لك داود بك عمون. . . . . . رحم الله تلك الأيام
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
قضايا التاريخ الكبرى
2 -
من قضايا السحرة
صفحة من الجرائم المروعة
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان لظهور هذه الحقائق المروعة عن جرائم السحرة وقع عميق في باريس وفي فرنسا بأسرها؛ ولم يكن القضاء العادي ليكفي لسحق هذه الطغمة الآثمة وتطهير المجتمع من عيثها الذريع، فرأى لويس الرابع عشر ووزرائه أن يعهد بعقابها إلى القضاء الاستثنائي، وانتدبت لذلك محكمة خاصة هي (الغرفة الساطعة) الشهيرة في ذلك العصر، وسميت كذلك لأن المحاكم الخاصة التي تنتدب للنظر في الجرائم الكبرى كانت تجلس في غرفة تجلل جدرانها بالسواد وتنار بالمشاعل والمصابيح
وعقدت (الغرفة الساطعة) جلستها الأولى في العاشر من أبريل سنة 1679، وقررت أن تكون إجراءاتها وتحقيقاتها سرية حتى لا يقف الجمهور على شيء من الأعمال السحرية أو أسرار السموم؛ وتولى الرآسة المستشار لوي بوشرا كونت دي كومبان يعاونه عدة من أعضاء مجلس الدولة؛ وتولى لاريني مهمة القاضي المحقق؛ وكانت إجراءاتها تتلخص في أن كل من تقع عليه شبهة الاتهام يقبض عليه بأمر الملك أعني بواسطة (اللتر دي كاشيه)(أو رقعة السجن)، وتقدم نتيجة التحقيق الأول إلى النائب العام، وله وحده أن يقرر المواجهة بين الشركاء، وعند انتهاء التحقيق يرفع به تقرير ضاف إلى (الغرفة الساطعة)؛ وهي تقرر ما إذا كان يجب الاستمرار في اعتقال المتهم، فإذا قررت ذلك، أستمر التحقيق معه؛ وعند نهايته، ترفع أوراق الاتهام إلى المحكمة، فيقرؤها القضاة، ويقدم نائب الملك (النائب العمومي) طلباته سواء بتبرئة المتهم أو بالحكم عليه؛ ثم تسمع أقوال المتهم فوق منصة المحكمة وبعدها تصدر المحكمة حكمها غير قابل للاستئناف
وكانت (الغرفة الساطعة) تعقد في قصر (الأرسنال)؛ واستمر انعقادها باستمرار حتى يوليه سنة 1682 عدا فترة أشهر وقفت فيها جلساتها؛ وبلغ عدد المتهمين الذين قدموا إليها 442 متهماً، تقرر استمرار اعتقال 118 منهم؛ وحكم بالإعدام على ستة وثلاثين، وتقرر تعذيبهم
بالتحقيق العادي وبالتحقيق الاستثنائي، ثم أعدموا حرقاً كما سيجيء؛ ومات اثنان في السجن؛ وحكم على خمسة بالأشغال الشاقة، وبالنفي على ثلاثة وعشرين؛ وأطلق سراح الباقين لا لأنهم أبرياء، ولكن لأن لهم شركاء في التهم المسندة إليهم من أكابر الدولة والسادة وأرفع سيدات البلاط
يقول فولتير في كتابه (عصر لويس الرابع عشر) في حديثه عن قضية السحرة، إن أعظم رؤوس في المملكة استدعوا لإبداء أقوالهم أمام (الغرفة الساطعة) ومنهم ابنتا أخت الكردينال مازاران؛ والدوقة دي بويون، والكونتة دي سواسون والدة البرنس أوجين، والمارشال دي لوكسمبورج؛ وقد كان لهؤلاء جميعاً ولغيرهم من أكابر المملكة علائق ومعاملات مع السحرة
وقد كشف التحقيق عن واقعة أشنع وأفظع هي أن حياة الملك ذاتها كانت موضعاً لائتمار السحرة، وأن التحريض على اغتيالها لم يجيء إلا من أعماق القصر، ومن أقرب المقربين لشخص الملك ذاته
كانت مدام دي مونتسبان حظية لويس الرابع عشر الشهيرة، قد وصلت في ذلك العصر إلى ذروة القوة والنفوذ، وتبوأت في البلاط أرفع مكانة، وبسطت سلطانها على المليك المتيم على مدى أعوام طويلة؛ ولكن حل عهد السأم والهجران أخيراً، ومال الملك عن حظيته القديمة إلى حظية جديدة هي فتاة من وصيفات الشرف تدعى الآنسة دي فونتاج، فلما شعرت مدام مونتسبان بأفول نجمها اضطرمت سخطاً ويأساً، وفكرت في أن تنتقم من الملك وحظيته الجديدة معاً، واتصلت بالساحرة لافوازان وزميلة لها تدعى لاتريانون، فتعهدتا بتدبير مشروع لاغتيال الملك؛ وتعهد الساحران المسممان روماني وبرتران بقتل الآنسة دي فونتانج، وبذلت مدام دي مونتسبان للسحرة مالا وفيراً
وكانت مدام دي مونتسبان إبان نفوذها وسلطانها وثيقة الصلات بلافوازان وشركائها؛ وكانت تلجأ إلى السحرة التماسا لتوطيد نفوذها بفعل السحر والتمائم؛ وكانت هذه الحسناء المتكبرة تنزل عند دجل السحرة، وتقبل الاشتراك في إجراءات السحر الأسود، فترقد عارية أمام أولئك الطغام، وتقوم لافوازان وزملاؤها بإجراء القربان الدموي والسحر الأسود، وتعتقد الحظية الهائمة أنها بذلك تذكي نار حبها في نفس الملك وتوطد دعائم نفوذها
وسلطانها
ويتلخص مشروع اغتيال الملك كما دونه لاريني من أقوال لافوازان وشركائها في أن الجناة فكروا أولاً في أن يزهقوا الملك بالسم، وذلك بأن ينثروه على ثيابه أو حيثما أعتاد أن يمر، فيستنشقه تباعاً ويموت ببطء، وتعهدت الآنسة ديزييه وصيفة مدام دي مونتسبان بتأدية هذه المهمة. ولكن لافوازان رأت بعد التفكير أن تلجأ إلى وسيلة أخرى. وذلك أن لويس الرابع عشر اعتاد طبقاً لعادة قديمة أن يتلقى بنفسه في أيام معينة العرائض التي يرفعها إليه رعاياه بالتظلم والالتماس، ويسمح لكل بالدخول عليه عندئذ دون فارق أو تمييز، ففكرت لافوازان أن تعد عريضة من هذا النوع تضمخها بنوع من السم الزعاف، فإذا تناولها الملك بين يديه سرى إليه السم وهلك؛ وتعهدت الساحرة لاتريانون بإعداد هذه العريضة، وتعهدت لافوازان بتقديمها إلى الملك. ورؤى أن يكون موضوعها طلب الغوث لشخص يشتغل بالسيميا ويدعى بلسيس ويعتقله المركيز دي ترم في قصره، وسعت لافوازان لدى وصيف بالقصر من معارفها ليسهل لها مهمة تقديم العريضة بنفسها
وارتاع الجناة لجرأة لافوازان، وتنبئوا لها بالوقوع بين براثن القضاة متهمة بجريمة دولة؛ ولم يكن الموت شر ما يخشاه السحرة في تلك العصور، بل كان التعذيب أشد ما يروعهم، بيد أن لافوازان كانت تخلبها وتغريها مائة ألف جعلتها مدام دي مونتسبان ثمناً للجريمة (نحو مليون فرنك من النقد المعاصر)، فقصدت إلى سان جرمان في يوم 5 مارس سنة 1679، ثم في التاسع منه، محاولة أن تصل إلى الملك فتقدم إليه العريضة المسمومة، ولكنها لم تفز ببغيتها، فعادت مكتئبة إلى باريس، ولكن مصممة على أن تعود في أول فرصة. بيد أن عين لاريني كانت ساهرة ترقب أعمال السحرة؛ وفي الثاني عشر من مارس قبض عليها وعلى أبنتها مرجريت، وعلى عدة من شركائها حسبما أسلفنا
ولما ذاع نبأ القبض على لافوازان وشركائها، ارتاعت مدام دي مونتسبان، وغادرت البلاط في الحال إلى الريف، فمكثت هنالك مدى حين
أنفقت المحكمة الخاصة أو (الغرفة الساطعة) أشهراً طويلة في تحقيقات وإجراءات يتسع نطاقها يوماً عن يوم، وكان التحقيق يمتد شيئاً فشيئاً إلى طائفة من الرؤوس الكبيرة، حتى أن المحقق لاريني اضطر أن يطلب حرساً خاصاً لمرافقته في زيارته لسجن فنسان حيث
اعتقل المتهمون، وكثر الهمس والوعيد حول قضاة الغرفة الساطعة، واهتم الملك ووزراؤه بالأمر، وكتب لوفوا رئيس الوزراء إلى رئيس المحكمة يقول له: إنه لمناسبة ما نمى إلى جلالته من الحديث حول (الغرفة) وإجراءاتها، فإن جلالته قد أمر بتبليغ القضاة أنه يؤكد لهم حمايته، وأنه يطلب إليهم أن يستمروا في إقامة العدالة بثبات. ثم زاد الملك على ذلك فاستدعى إليه قضاة المحكمة ليطمئنهم ويشجعهم؛ ويقول لنا لاريني تعليقاً على تلك المقابلة، إن جلالته قد أوصاه بتحقيق العدالة والواجب، وإنه يرجو تحقيقاً لخير المجموع أن ننفذ جهد الاستطاعة إلى أسرار جرائم السموم، وأن نجتث جذورها إذا استطعنا وذلك دون تفريق بين الأشخاص والمقامات
بيد أنه قد طلب إلى القضاة من جهة أخرى أن يلزموا التحفظ في بعض الأمور، وظهر أثر هذا التحفظ في الحرص على عدم إحالة لافوازان إلى التعذيب، وذلك خوفاً من أن ينطلق لسانها حين التعذيب بما لا يريد أن يذاع وأن يعرف؛ ومع ذلك فقد صرحت لافوازان في ساعاتها الأخيرة عقب الحكم عليها بالإعدام (أنها مضطرة لأن تقول إراحة لضميرها إن عدداً كبيراً من الناس من جميع الطوائف والطبقات قد لجأ إليها سعياً إلى إزهاق الكثيرين، وإن الباعث الأول لهذه الجرائم إنما هو الفجور)
ولما وقف لويس الرابع عشر على أقوال مرجريت مونفوازان ابنة لافوازان عقب إعدام أمها، كتب إلى لاريني يطلب إليه أن يدون اعترافاتها وما يترتب على هذه الاعترافات من مواجهات ومناقشات في ملف خاص، وكذلك أقوال الساحرين روماني وبرتران، وهما من شركاء لافوازان. وقد كانت أقوال مرجريت مونفوازان ذات أهمية كبيرة لأنها تتعلق بمشروع تسميم الملك، ومن جهة أخرى فقد وعد لوفوا الساحر ليساج بأن ينقذ حياته إذا قال كل شيء، ولكنه لما ذهب في اعترافاته إلى حدود مروعة، رمي بالكذب ولم يقبل المحقق أن يصغي إليه بعد؛ وأدلت متهمة أخرى تدعى فرانسواز فيلاستر بمعلومات مثيرة مدهشة، فأمر الملك بأن تودع أقوالها في ملف خاص، وأن ترفع إلى مجلسه؛ وهكذا بلغ من اهتمام لويس الرابع عشر بهذه القضية أن لبث يتتبع كل أدوارها، وأن يسحب من أوراق التحقيق كل ما لا يرغب في إذاعته؛ والواقع أن لويس الرابع عشر تأثر أيما تأثر لما كشفت عنه التحقيقات من الوقائع والحقائق المؤلمة التي تصيبه في أعز عواطفه وفي كرامته الملوكية.
ألم تلجأ حظيته التي كان يعبدها إلى السحرة، وتلوث نفسها وجسمها في معاهدهم سعياً إلى إزهاقه؟ أليست مدام دي مونتسبان أم أولاده المحبوبين؟ ومع ذلك فقد كظم الملك العظيم ألمه وتأثره؛ ولبثت هذه الوثائق الهائلة التي تكشف عن عاره في خزائنه السرية أعواماً طويلة حتى أمر بإحراقها بعد ذلك في مدفئه في يوم من أيام سنة 1709، أعني بعد هذه الحوادث بثلاثين عاما
كانت (الغرفة الساطعة) حاسمة صارمة في أحكامها، فقد حكمت بالإعدام والتعذيب على ستة وثلاثين متهماً ثبتت إدانتهم في مزاولة التسميم والأعمال السحرية الإجرامية، وذلك من مجموع قدره مائة وثمانية عشر متهماً. ونفذ الإعدام في المحكوم عليهم تباعاً؛ وكان إعدام السحرة يجري بطريق الحرق دائماً. وكانت لافوازان ولافيجوريه ولبساج في مقدمة المحكوم عليهم بهذا الموت المروع. وقد احرقوا معاً في (ميدان جريف). وتصف لنا مدام دي سفينية الكاتبة الشهيرة منظر إحراق الساحرة لافوازان - وقد شهدته بنفسها - وتقول لنا (لقد أسلمت لافوازان روحها للشيطان في لطف). وينقل ألينا الكاهن الذي تولى مرافقة الساحرة إلى المحرقة كلماتها الأخيرة وهي:(إنني مثقلة بأكداس من الجرائم، ولست أدعو الله أن ينقذني من النار بمعجزة، لأن ما سألقاه من الجزاء لا يقاس بشيء مما ارتكبت)
ويقدم إلينا فوليتر في كتابه (عصر لويس الرابع عشر) خلاصة لهذه الحوادث والمحاكمات المثيرة ثم يعلق عليها بقوله: (نستطيع أن نتصور أية إشاعات مروعة أذيعت خارج باريس. بيد أن حكم الإعدام الذي قضي به على لافوازان وشركائها قد وضع في الحال حداً لهذه الأعمال وهذه الجرائم؛ وقد كانت هذه الحرفة المروعة محصورة في شرذمة من الناس، ولم تلوث أخلق الأمة كلها؛ بيد أنها طبعت أذهان الناس بميل سقيم إلى اعتبار الوفيات الطبيعية، نتيجة الجريمة)
والواقع أن هذا الثبت من الآثام والجرائم المروعة يلقي ضياء كبيراً على روح هذا العصر وخلاله - ويؤيد حقيقة تاريخية خالدة، هي أن عصور العظمة القومية، تتكشف في الغالب عن صنوف من الانحطاط المعنوي والاجتماعي تتناسب مع ما تبثه نعماء العصر وترفه من ألوان الفساد الروحي والأخلاقي، ومع ما يذكيه العصر من الشهوات الإنسانية الوضيعة. وقد كان عصر لويس الرابع عشر بلا ريب على ما بلغه من العظمة والبهاء
يعاني فعل هذه العناصر الهدامة التي انحدرت بالمجتمع الفرنسي غير بعيد إلى درك من التفكك والانحطاط، كان نذير الثورة الفرنسية الكبرى
تم البحث
محمد عبد الله عناق
وقفة بالعقيق!
للأستاذ علي الطنطاوي
وقفة بالعقيق نطرح ثقلا
…
من دموع بوقفة في العقيق
مائل بين أربع مائلات
…
ينزع الشوق من فؤاد علوق
(البحتري)
. . . أصابتنا في المدينة عين من المطر، فحبستنا في الدار أياماً، وجاءت بعد محل من الأرض، وشح من السماء، فروت الأرض، وأسالت الأودية، فاستبشر الناس بنا إذ كان قدومنا خيراً، وزيارتنا غيثاً، ومقامنا ربيعاً؛ وليس أجمل في أرض العرب من الربيع، ولا أجدى من الغيث؛ ثم انقشعت الغيوم بعد أيام، إلا جهاماً من السحاب هفاً رقيقاً، وأفتق قرن الشمس فخلع على الدنيا حلةً نسجت من خيوط النور. . . . وحلى اليوم وطاب، فخرجنا من دورنا نستمتع بجماله وطيبه، ونملأ صدورنا بهذا النسيم الناعش، وعيوننا بهذه المناظر الخلابة، وآنافنا بهذا الأرج يتضوع من هذه التربة المعطرة (بعطر السماء). . . وسرنا في (شارع العنبرية) نريد الحرم،، فلم نكد نتعدى (المناخة) حتى قيل: قد سال العقيق. . فإذا الوجوه تطفح بالبشر، وتفيض بالسرور، وإذا على كل لسان: قد سال العقيق. . . وإذا الناس يستعدون للخروج!
وهل يملك الناس نفوسهم، فيقعدون لا يخرجون إلى العقيق، وقد سال العقيق؟ وهل يذكر عربي العقيق ثم لا يذكر الحب والشعر، والفن والجمال، والحياة الناعمة والعيش الرغيد؟ أولم يكن وادي العقيق رمز الهوى والشباب، ومغنى الغنى والغناء، ومثابة الفن والأدب، ومجمع العشاق، وندى الشعراء؟ ألم يكن العقيق قلب المدينة حين كانت المدينة قلب العالم؟ ألم يولد على جنبات العقيق ديوان كامل من أبرع دواوين الأدب العربي وأحلاها؟ ألم تعش على أطراف العقيق العشرات من القصور الفخمة، والرياض النضرة، والمغاني التي فاض منها الشعر والسحر والعطر على الدنيا كلها؟ أليس لاسم العقيق حلاوة؟ أما عليه طلاوة؟ ألا يحلو في الأذن تكراره، ويلذ اللسان ترداده؟. . .
ألم يقرأ أحاديث العقيق، ويرو أشعار العقيق، من لم ير قط العقيق، فيهوى العقيق، ويحن إلى العقيق؟ فكيف يسيل العقيق ثم لا يخرج أهل المدينة إلى العقيق؟. . .
أولم يسمع عبد العزيز بن الماجشون أن قد سال العقيق، وهو خارج من صلاة الصبح، فلا يتريث ولا يمر بداره، ويمضي إليه من ساعته، فيلهو فيه بعض اللهو، ويسمع فيه الغناء، وهو هو في مكانته ووقاره؟ فكيف بعامة الناس وشبابهم؟
خرجنا مع من خرج، فلم نجاوز السور ونترك عن أيماننا المحطة العظيمة، الخالية الخاوية، الكابية الباكية، التي أضاعها أهلوها، وأهملوها حتى نسوها. . . حتى بدت لنا الحرة السوداء الواسعة فسلكنا طريقاً فيها جديدة، على يسار الطريق القديمة التي تهبط الحرة على سلم منقورة في الصخر، وهذه النقرة هي ثنية الوداع، التي طلع منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبله الولائد بالدفوف ينشدن:
طلع البدر علينا
…
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
…
ما دعا لله داع
والتي منها أشرق (البدر) على القلوب والعقول، فأنارها فهي منه في نور إلى يوم القيامة!
وسرنا في هذه الطريق نحواً من كيلين اثنين فانتهينا إلى بئر عروة، التي حفرها الإمام الزاهد العلم عروة بن الزبير، فكانت في قصره العظيم الذي اندثر، ولم يبق له من أثر، وهي أعذب بئر في المدينة وأطيبها، وكان ماؤها يحمل إلى الرشيد في قوارير وهو مقيم في الرقة؛ وإلى جانب البئر قهوة جديدة، قامت على جذوع النخل، فجلسنا فيها على كراسي مستطيلة، تتخذ في مقاهي الحجاز مجلساً وسريراً، تطل على الوادي العظيم
والوادي رغيب، بين عدوتيه أكثر من مائة متر، وعلى العدوة الأخرى جبال حمراء جميلة المنظر، وقد غنى الوادي وامتلأ، والسيل دفاع يلتطم آذيه، وتصطخب أمواجه، يرمي بالزبد، ويطوح بالفقاقيع، ويجري متكسراً وله خرخرة، وله دردرة، وعلى جانب الماء حصباء واسعة، قد جلس فيها المدنيون حلقاً، يحفون بـ (سماورات) الشاي البراقة العالية، ويغنون ويطربون، ما سمحت لهم (الحكومة) أن يغنوا ويطربوا. . .
جلس إخواننا يتجاذبون أطراف الحديث، فيذكرون بلادهم وأوطانهم، ويحنون إلى الغوطة الغناء، والعين الخضراء، والزبداني وبلودان، وتلك الجنان، وجلست أحدق في ماء العقيق، وأحن إلى أيامه الغر، وماضيه الفخم، وأفكر في حاضره الممض، وودايه القاحل، فأطيل التحديق، وأمضي في التفكير حتى أذهل عن نفسي، وأنسى مكاني، فأرى صفحة الماء
تضطرب وتهتز، وتختلط فيها الأنوار، وتمتزج فيها الأضواء، كأنما هي سبيكة ذهب، أو قطعة ياقوت، ألقي عليها نور وهاج، ثم أراها قد استقرت وسكنت، فإذا العقيق غير العقيق، وإذا هو غارق في العطر والنور، وإذا من حوله العشرات من القصور، تضيء كأنها الثريا في السماء، فتنعكس أنوارها في الماء، فتتوارى النجوم استحياء، وتغص العين خجلاً، ثم تستتر ببرقع الغمام وتبكي، فيضحك العقيق لبكاء السماء، وتضحك الأرض لضحك العقيق!
وأرى قصر عروة العظيم، قد سطعت في شرفاته الأنوار، وحف به الشعراء والمغنون ينتظرون نزيله الجليل، الشاعر الغزل الفقيه المحدث عروة بن أذينة، ليأخذوا من شعره، ويحفظوا من حديثه، فإذا طال بهم الانتظار، وتصرم الليل، ولم يفوزا بطائل، ذهبوا إلى دورهم وقد أيسوا من لقائه تلك الليلة، وأزمعوا أن يباكروه من الغد. وسكن العقيق وخلا إلا من عاشق أرق (يناجي طيف من يهوى، ويبغي عنده السلوى) وخشع الليل، وأنصت الكون، فقام عروة على شرفة القصر، فراقه سكون الليل، وفتنه منظر العقيق، فهاج في نفسه الشوق، فاندفع ينشد:
إن التي زعمت فؤادك ملّها
…
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك التي زعمت بها وكلاكما
…
يبدي لصاحبه الصبابة كلها
ويبيت بين جوانحي حب لها
…
لو كان تحت فراشها لأقلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها
…
يوماً وقد ضحيت إذن لأظلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
…
بلباقة فأدقها وأجلها
لما عرضت مسلماً لي حاجة
…
أرجو معونتها وأخشى ذلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي
…
ما كان أكثرها لنا وأقلها
فدنا فقال: لعلها معذورة
…
من أجل رقبتها، فقلت: لعلها
فلما كان الصباح، غدا أبو السائب المخزومي علي عبد الله، فقال له: أسمعت أبيات عروة أمس؟ قال: وأية أبيات؟ قال: وهل يخفى القمر؟ قوله:
إن التي زعمت فؤادك ملّها. . . .
فأنشده إياها، فلما بلغ إلى قوله: لعلها، قال أبو السائب: أحسن والله، هذا والله الدائم العهد، الصادق الصبابة، لا الذي يقول:
إن كان أهلك يمنعونك رغبة
…
عنيّ فأهلي بي أضنّ وأرغب
وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحبك (يعني عروة) حسن ظنه بها، وطلبه العذر لها؛ ثم يعرض عليه عبد الله طعاماً فيقول: لا والله ما كنت لآكل بهذه الأبيات طعاماً إلى الليل!
وينتظر عبد الله حتى إذا حان المساء، وأثر الجوع في أبي السائب ذهب إليه فقال له:(جئت أنشدك وأحدثك) فيقول: (هات ما عندك)، فيحدثه وينشده، حتى ينشده بيتي العرجي:
باتا بأنعم ليلة حتى بدا
…
صبح تلوّح كالأغرّ الأشقر
فتلازما عند الفراق صبابة
…
أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فيقول أبو السائب: أعده عليّ، فيعيده أبو مصعب، فيستفز المخزومي الطرب فيحلف بالطلاق لا ينطق بحرف غيره حتى يرجع إلى بيته!
ويمرّ بهما عبد الله بن حسن بن حسن وهو منصرف من مال له يريد المدينة فيسلم عليه ويقول: كيف أمسيت أبا السائب؟
فيقول:
فتلازما عند الفراق صبابة
…
أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فيقول أبن حسن: مالك يا أبا السائب، إني لا أكاد أفهم عنك
فيقول:
فتلازما عند الفراق صبابة
…
أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فيقبل عبد الله بن حسن علي عبد الله، فيقول: متى أنكرت صاحبك؟ فيقول: منذ الليلة، فيقول: إنا لله! أي كهل أصيبت به قريش! ثم يمضي
ويمر بهما عمران بن محمد التميمي قاضي المدينة يريد مالاً له على بغلة له ومعه غلام على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فيسلم ويقول: كيف أنت يا أبا السائب؟
فيقول:
فتلازما عند الفراق صبابة
…
أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فيقول القاضي لعبد الله: متى أنكرت صاحبك؟ فيقول: آنفاً، فيسترجع القاضي ويهم بالمضي، فيمكر عبد الله بصاحبه ويقول: أفتدعه هكذا أيها القاضي وتمضي؟ والله ما آمن أن يتدهور في بعض آبار العقيق، قال القاضي: صدقت، يا غلام! قيد البغلة، فيضع القيد
في رجله وهو يشير بيده ويصيح:
فتلازما عند الفراق صبابة
…
أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر!
ثم يضطرب الماء ويموج، فتنطمس الصورة فلا أرى في الماء إلا أشباحاً مبهمة، مهتزة متداخلة، ثم تبين وتضح، فإذا أنا أرى قصر عروة، وقد هيئ وفرش، ودارت به الخدم والعبيد، واجتمع من حوله السراة والأعيان، وهم يتحدثون تبدو عليهم أمارات الملل والقلق، فعل الذي ينتظر شيئاً ويبطئ عليه، وأدنو منهم فأفهم من حديثهم أن القادم صاحب القصر عروة بن الزبير، أحد الفقهاء السبعة، وقد كان في دمشق فأصابته الأكلة في رجله، فأراده الأطباء على قطعها وإلا سرى الداء فأفسد عليه جسده، وقيل له نسقيك الخمر حتى لا تجد ألماً! فقال: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافية. قالوا: نسقيك المرقد. قال: ما أحب أن أسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فاحتسبه
قالوا: فما تصنع إذن؟ فأخذ في التهليل والتكبير، وقال: شأنكم بها!
ودخل عليه قوم أنكرهم، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك. فإن الألم ربما عزب معه الصبر، وأنت شيخ كبير!
قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي. فقطعت كعبه بالسكين، حتى إذا بلغ العظيم وضع عليه المنشار. . . فقطعت، وهو يهلل ويكبر. . . ثم أغلى له الزيت في مغارف الحديد، فحسم به. فغشى عليه ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، فلما رأي القدم بأيديهم، دعا بها فقلبها في يده، ثم قال:
أما والذي حملني عليك، إنه ليعلم إني ما مشيت بك إلى حرام. . . .
وأسمعهم يتحدثون كيف دخل ابنه محمد - وهو فتى المدينة جمالاً وكمالاً، وأدباً ونسباً - كيف دخل اصطبل الوليد فرمحته دابة فقتلته، وما يعلم عروة بشيء من ذلك، وكان عروة رجلاً صالحاً قد عاف الدنيا، وانصرف عنه، ولم يرد منها إلا زاداً يقطع عليه الطريق إلى الجنة:
ذكر العتبي أن المسجد الحرام جمع مرة بين عبد الملك أبن مروان وعروة وأخويه عبد الله ومصعب، على عهد معاوية أبن أبي سفيان فقال بعضهم لبعض: هلم فلنمن
فقال عبد الله: منيتي أن أملك الحرمين، وأنال الخلافة
وقال مصعب: منيتي أن أملك العراقين، وأجمع بين عقيلتي قريش: سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة
وقال عبد الملك: منيتي أن أخلف الأرض كلها - وأخلف معاوية
فقال عروة: لست في شيء مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا، والفوز بالجنة بالآخرة، وأن أكون ممن يروى عنه هذا العلم
فصرف الدهر من صرفه - إلى أن بلغ كل واحد منهم إلى أمله - فكان عبد الملك يقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى عروة؟
(البقية في العدد القادم)
علي الطنطاوي
النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
تتمة
بقيت هنات مما اقترف الكماليون لا أبغي إحصاءها، بل اكتفي بواحدة منها هي: لبس القبعة. والأمر في نفسه هين. ولكل أمة أن تتخذ من اللباس ما يلائم هواها، ويواتي حاجاتها، وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم؛ ولكن الكماليين اتخذوا القبعة عمارة لهم سيراً على خطتهم في تقليد الأوربيين وإتماماً لسننهم في محاكاتهم، وإمعاناً في هجر ما يميزهم منهم فيحرمهم شرف الفناء فيهم. ولو أن القوم فكروا ثم فكروا فرأوا أن لا مناص لهم من لبس القبعة ضرورة يقتضيها الزمان والمكان لا بدعة يمليها التقليد لكان لهم في العقل مساغ، وفي العذر متسع، ولكان عليهم مع هذا أن يفهموا الأمة بالدليل، ويجادلوها بالحسنى، حتى ترى أن القبعة لباس اختاروه لأنفسهم، لا ذلة ضربت على رؤوسهم، فقد عاشت الأمة التركية أحقاباً ترى هذه القبعة شعار مخالفي دينها، ولباس أعداء تاريخها. فلما أكره التركي في ثورة التقليد أن يضعها على رأسه أحسها ذلة طأطأ لها الرأس الأبي، وعاراً ذلت له النفس الكريمة. وحاولت رؤوس أن تنبذها فقطعت، وأرادت نفوس أن تستهجنها فقتلت. وإنك لتبصر رأس التركي الأصيد، وكأنه حمل من الذل ملء الأرض والتاريخ، وسيم من الخسف ما تنوء به عزته وعزة آبائه. وليس هينا على أمة أن تسام هذه الحطة، وتحمل على هذا العنت. وإن يكن بعض الترك لبس القبعة عزاً وفخاراً، فقد لبسها معظمهم خزياً وشناراً، تنطق بذلك أساريرهم وتبين عنه عيونهم؛ ولو أن القوم، إذ رأوا رأيهم، أخذوا به النشء الصغار، وخيروا فيه الكبار، لهان الأمر بعض الهوان. تصور الشيخ أبن السبعين أو الهم التسعين قد شابت لحيته في الإسلام، ونبتت نفسه وترعرعت ثم ذبلت في كره القبعة، يكره على أن يختم حياته بها، ويتوج شيبته بسوادها. وانظر ذلك الشيخ الجليل الذي كان يدرس العربية في جامعة استانبول فقيل له: البس القبعة وانزع العمامة. قال: أعانوني وعدوني من رجال الدين. قالوا: فاخرج من الجامعة إن لم يكن لك بد من عمامتك. فخرج منها وخلفه فيها معلم ألماني، فكان يأخذ عنه علم العربية ويعلم الطلبة، وكفى الله الطلبة عمامة الشيخ وعلمها، وأسعدهم بقبعة الألماني
وبركتها
وقد جاءت الأنباء بأن الإيرانيين حذوا حذو الترك في لبس القبعة، ولم يقنعوا بالبهلوية (التي ابتدعوها) فهنيئاً لهم تقليد المقلدين
فلو كان عبد الله مولى هجوتُه
…
ولكنّ عبد الله مولى مواليا
وأعجب من هذا وأشأم صيحة سمعناها من العراق تدعو إلى الاقتداء بالفرس والترك فيما صنعوا. وهي دعوة إلى هذا التقليد الأشأم الذي يبدأ في ناحية فيسري سريان العلة في جميع النواحي؛ إذا ضل العرب في الضالين، وتهافتوا مع المتهافتين، فبأي وزر تعتصم الحضارة الإسلامية، وبأي ملاذ يلوذ التاريخ الإسلامي؟ وكيف تثبت الأمم الإسلامية في هذه الزعازع إذا مال العرب وهم العماد، وزلزلوا وهم الأوتاد؟ كيف وهم الحلماء إذا طاشت الأحلام، والراسخون إذا زالت الأقدام؟
ما أحسب العراقيين يستجيبون هذه الدعوة، فيسنوا للعرب أقبح سنة، أو يستبدوا دونهم برأي، وهم الدعاة إلى الأخوة العربية، الغلاة في الحماسة القومية؛ الأمر، كما قلت، هين إذا أدت إليه الروية والاختبار، فليجتمع وفود العرب أو وفود المسلمين كافة في مؤتمر عربي أو إسلامي، ولينظروا فيما يلائم كل إقليم من الأزياء، وما يوافق المدنية الحاضرة من ألبسة، ثم ليختاروا على بينة. وليكن ما يختارونه موافقاً لأزياء أوربا أو الشرق، أو مخالفاً لكل أزياء العالم، فلا حرج في هذا ولا بأس به
لقد لبس العراقيون منذ سنين عمارة سموها الفيصيلية جمعت مزايا القبعة الأوربية والعقال العربي، يسهل خلعها ووضعها، وتحمي الرأس والرقبة والوجه عند الحاجة، وهج الشمس ولفح الهجير، وتفرغ على راس العربي جمالاً وجلالاً، وتتوجه بمجد الماضي والحاضر. فلماذا لا يدعى إلا تعميمها، ويحتج لها بمزاياها؟ ألا أنها اختراع لم تلده قرائح الأوربيين، ولباس لم تقره سننهم؟ إن لم يكن بد من شهادة أوربية فسلوا أهل أوربا العالمين بأحوال بلادكم فسيقولون إنها خير لكم من القبعة، وأجدى عليكم منها. ليت شعري إلام ندعو إلى اليقظة فتنامون، وإلى الحذر فتستسلمون، وإلى العزة فتهنون، وإلى الاستقلال فتتبعون، وإلى الاجتهاد فتقلدون؟
كفى يا قوم بالزمان واعظاً، وبالتجارب هادياً. إنكم في مهب العواصف، ومفترق الطرق،
فخذوا حذركم، ونبهوا عقولكم واشحذوا عزائمكم، ولا تصدروا إلا عن بينة، ولا تقولوا إلا عن رؤية، فأنه الحياة أو الموت، والبقاء أو الفناء
الخاتمة
رأى القراء مما قدمت أن الترك الكماليين لم يأتوا بجديد في هذه (النهضة التركية الأخيرة) ولكنهم ساروا على سنن أوربا فأحسنوا وأساءوا. أحسنوا بما أخذوا بأسباب الحياة فاجتهدوا في تعمير بلادهم وإسعاد أهلها، وتوسلوا لمعارك الحياة بعددها فدربوا الجيوش واستكثروا من السلاح وجعلوا أنفسهم سادة بلادهم. وأساءوا بما تبعوا أهل أوربا في أمور هي من نفايات الحضارة، وحثالات المدنية، وبما هجروا من أجل ذلك كثيراً من سنن دينهم القويم، وأخلاقهم الكريمة، وتاريخهم المجيد. وأذكر في هذه الخاتمة ما قاله في أوربا بعض أولي الرأي منذ سنين: قال: (كأن الكماليين بما يفعلون اليوم يقولون يا أهل أوربا! معذرة، لا تؤاخذونا بما فعل آباؤنا فقد حاربوكم جهدهم، وجالدوكم ما استطاعوا، ودافعوكم جهد طاقتهم، وما كانوا ينشرون حضارة أو يدافعون عن حضارة. وهانحن أولاء نعترف بأن الخير في اتباعكم، والشر في مخالفتكم، وإن آباءنا أثموا إذ منعوا عنا خيركم، فاقبلوا الأبناء في جماعتكم، ولا تأخذوهم بذنب آبائهم. هانحن أولاء نحني رؤوسنا إكباراً لكم، ونلوم أجدادنا من أجلكم.)
وبعد. فهذه الكلمات التي كتبتها لا تفي بهذا الموضوع العظيم، ولا بد أن يتعاون الكتاب والمفكرون في هذه السبيل حتى يجلوا عن الأمة هذه الغمة، ويدفعوا عنها هذه الفتن المدلهمة، والشبه المضلة، ثم يسيروا بها على المحجة البيضاء إلى الغاية المجيدة. فإنما نحن في فتن لا عذر فيها لمقصر ولا حجة فيها لمتهاون
وما أردت بما كتبت إلا وجه الله، والله هو الحق المبين. وهو حسبنا ونعم الوكيل (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.)
عبد الوهاب عزام
المدنية الأمريكية
كما يصفها أندريه موروا
للأستاذ محمد روحي فيصل
أندريه موروا كاتب فرنسي معاصر، وروائي واسع الشهرة؛ وهو الآن في الخمسين من عمره، يكتب كثيراً ويعمل كثيراً، ولعله (الحركة الدائمة) التي ينشدها علماء الطبيعة، والغريب أن إنتاج موروا على كثرته خصب عميق، فيه ملاحظات نفسية قيمة، وفيه وصف بارع طريف، وفيه حلاوة قل أن تجدها عند غيره من الكتاب والروائيين
قام بسياحة إلى أمريكا منذ حين، زار في خلالها مدن الشواطئ الشرقية، ورأى آثارها، وحاضر في جامعاتها، وفهم في شهرين حقيقة المدنية الأمريكية ومظاهرها الصحيحة، ثم عاد إلى وطنه وألقى محاضرة قيمة طويلة نقتطف منها ما يلي:
(وصلت باخرتنا إلى نيويورك في الصباح الباكر فراعتني المدينة العظيمة النائمة، وطغى علي شعور غريب جميل. والحق أن مرفأ نيويورك منظر لا أعرف أبهج منه ولا أروع ولا آخذ بلب الرائي الممعن! بقينا على الماء نسير خمسة أيام ثم طلعت علينا نيويورك بوجهها الضخم وهيكليها العريض كما يطلع الجبل الشاهق على المسافر العاني بعد طوال السير وطي الأميال. وجلنا في الشوارع نسير على غير هدى، فإذا المباني ضخمة بالغة الضخامة، متينة بالغة المتانة، تشق الفضاء طولاً وعرضاً واتساعاً. ونلاحظ أن الضخامة مظهر من مظاهر الجمال، وأعني أن جمال الشيء إنما يرجع أحياناً إلى ضخامته الناشزة؛ أرأيت إلى أهرام مصر أو قصر (بيتي) كيف أن علوهما خلع عليهما جمالاً خاصاً على جمال الفن والهندسة)
(والأمريكيون شعب يعمل في جنون، فلا يريح جسده ولا يريح عقله، وإنما يجهدهما في التجارة والصناعة والاختراع؛ وهذه الظاهرة هي أقوى ما يلمح العابر السائح من الصور. ويل للمحاضر في أمريكا! إنه يخضع للحركة الأمريكية الطاغية، ففي الصباح يلقي محاضرة، وعند الظهر يرأس حفلة خطابية، ثم يحاضر في نادي النساء، وفي الساعة الخامسة يقول كلمة في جامعة كولمبيا أو الاتحاد الفرنسي؛ وأنى رحل يجد برنامجاً طويلاً سريعاً يبتدئ من الصباح وينتهي في منتصف الليل!)
(إن العقلية الأمريكية تتطلع إلى عرفان كل شيء، وتولع بالجديد الغريب؛ وهي عقلية فتية تؤمن سريعاً وتكفر كثيراً؛ وأنت لابد ناجح في أمريكا إن كنت روائياً طريفاً ناقدً متفلسفاً. والكاتب الناشئ يغدو معروفاً في أقل من شهرين، تقام له الحفلات الرائعة، وتتحدث إليه الصحف، وتطبع مؤلفاته مراراً ثم. . . ثم يموت في أذهان الجمهور، وينحدر إلى الخمول والنسيان، كأنما هي شهرة خاطفة تمتع بها قليلاً وحلم فيها كثيراً ثم عاد إلى الواقع المجهول يتفيأ ظلال الذكرى وبقايا المجد!)
(والشخصية الفردية لا أثر لها في أمريكا على الأطلاق، والسعادة الروحية لم يتمتع بها الأمريكي بعد لذاته؛ دائماً (خدمة الجمهور) هو المذهب السائد الذي يؤمن به الأمريكيون كافة، وهو مذهب، على قيمته، خطر كل الخطر، مفسد للشخصية والنبوغ، لأن المرء الذي لا يبالي بوجوده الفردي يعد آلة تعمل من غير شعور ولا تطور. والواقع أن المصانع قامت مقام اليد العاملة، والآلة طغت على الفن، (والكثرة) هي المقياس الذي توزن به قيم الأعمال ونتائج الأشياء)
(وهذه المساوئ التي نذكرها ويذكرها غيرنا ليست مساوئ النفس الأمريكية، وإنما هي مساوئ المدنية الغربية الحاضرة. ولئن مات الفن اليدوي في أمريكا وعاشت الآلة فإنما يموت الفن وتحيا الآلة في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا؛ ونستطيع أن نستثني مهنة النقوش والخياطة والفسيفساء التي يمارسها القليل من الخلائق البشرية؛ أما عامة الشعب فمحشود في المصانع يعمل مجتمعاً من غير تفكير في الذات؛ والأدب الأمريكي أدب الصناعة حقاً، يصور ميكانيكية المعمل وسرعة الحياة واضطراب المجتمع؛ أما أزمات النفس، وثوران العواطف، وانفعالات الأهواء، فهي غريبة نكرة في الأدب الأمريكي الحديث. . . . .
الواقع أن الحياة الحاضرة حياتان: حياة آسيوية أخروية متشائمة ساخطة، نظرت إلى الدنيا من خلال منظار أسود كئيب، فرأت جوعاً وفقراً ومرضاً وظلماً، فكرهت المجتمع الحافل، وانعكفت على التصوف وأحبت الأحلام، ثم قالت: إنما الدنيا متاع الغرور!. وحياة أمريكية دنيوية صناعية لا تبالي بالباطن العجيب، ولا تعنى إلا بالأرض؛ فالأمريكي قل أن يلتفت إلى نفسه يطالع فيها ويتأمل جوانبها على نحو ما يفعل الأسيوي الحالم، وإنما هو يطالع في
الآلة والمصنع والأرض، ثم يحاول أن يجد السعادة فيما يحيط به من الدنيا الواقعة المحسوسة
وعندي أن الحياتين على نفعهما لا تصلحان للبشرية، فالتطرف مذهب لا أحبه لنفسي ولا أرضاه لجنسي، وإنما أرجو حياة وسطاً بين الحياتين، قوامها الحس والتفكير، ومادتها الدنيا والنفس، وغايتها التقدم والمرح والإنتاج. ولعل الحياة الأوربية هي الحياة التي تجمع خصائص الحياتين المتطرفتين الأسيوية والأمريكية. .
وهنا قد يستطيع الفرنسيون أن يوفقوا بين هذه وتلك، وينشروا الاعتدال؛ فالمدنية الفرنسية مدنية قديمة ذات أدب خصب صحيح، لها أنصار كثيرون، ولها ماض جليل حافل، ولها صناعة قوية جميلة. وإنما المهم أن يعرف الفرنسيون أي سبيل يسلكون لذيوع الثقافة الفرنسية وتأثيرها في العقول. ولقد ينبغي قبل كل شيء أن نفتح أعيننا جيداً حين نطوف البلاد ونجول الأرجاء، ثم نرسل العقل حراً في البحث والتفكير، والمطالعة والاستنتاج)
محمد روحي فيصل
فرقة الخوارج
بقلم فريد مصطفى عز الدين
فرقة الخوارج من تلك الفرق الهدامة التي نشأت في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، وكانت حرباً على الدولة الإسلامية، وعقبة كأداء في طريق عزها وازدهارها. أما العوامل التي أدت إلى ظهور الخوارج فكانت في بادئ الأمر سياسية ثم ما لبثت ميولهم أن اتجهت إلى الناحية الدينية فأخذوا يحوكون حولها معتقداتهم ونظرياتهم
تسميتهم
لا نجد في التاريخ الإسلامي كله فرقة تعددت أسماؤها كهذه الفرقة، غير أن اسم الخوارج قد غلب عليها. وقد سموا بالخوارج لخروجهم على الإمام علي بن أبي طالب في معركة صفين سنة 37 هجرية لقبوله التحكيم وقولهم: لا حكم إلا لله، لا حكم للرجال. ويقول بعض المؤرخين إنهم دعوا بالخوارج لخروجهم بعد ظهور نتيجة التحكيم في رمضان سنة 37 هجرية من الكوفة إلى النهروان. ثم تطور هذا الاسم فأصبح يطلق على كل جماعة خرجت على القانون والسلطة الحاكمة سواء في صدر الإسلام أو زمن التابعين
أما الخوارج أنفسهم فيقولون أنهم تسموا بهذا الاسم لخروجهم من بيوتهم طلباً للجهاد والاستشهاد في سبيل إعلاء كلمة الله والدين الحنيف، ويستندون في ذلك على قول الله تعالى:(وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفةُ منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلُّوا فليصلُّوا معك، وليأخذوا حِذرهم وأسلحتهم، وَدّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم مَيلةً واحدة، ولا جُناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعدّ للكافرين عذاباً مُهينا)
وهنالك اسم آخر يطلق على هذه الفرقة وهو اسم الشراة، ويقال إن الخوارج يفضلونه على الاسم الغالب عليهم، لأن هذه التسمية تعني أنهم اشتروا الجنة بالدنيا واستبدلوا الباقية بالفانية استناداً على الآية الكريمة:(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا بِبيْعِكُم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)
ودعيت هذه الفرقة أيضاً فرقة المحكمة، وذلك لأنها حكمت الله تعالى ورفضت تحكيم العبيد. ويميز المؤرخون الفرقة الأولى من الخوارج التي انشقت على عليّ بن أبي طالب في صفين عن الخوارج بدعوتها الفرقة المحكمة الأولى أو الحارورية نسبة إلى حاروراء بقرب الكوفة، وهي المكان الذي خرجوا إليه، ويدعون بقية الخوارج فرقة المحكمة
نشأتهم
من الصعب أن نعين العلاقة بين ظهور الخوارج ومسألة التحكيم، فنقول إن هذه نتيجة لتلك وإنه لولا مسألة التحكيم لما اعترى جيش الإمام علي ذلك الانقسام ولما نشأت فرقة الخوارج؛ وقد عني البعض ببحث هذه النقطة فتبين لهم بعد دراسة عميقة أن نشوء الخوارج ومسألة التحكيم مستقلتان عن بعضهما استقلالاً تاماً. ويعتقد المستشرقون لامانس وكايتاني وولهاوسن أن فرقة الخوارج ظهرت قبل التحكيم مما يدل على صحة الرأي القائل باستقلال المسألتين بعضهما عن بعض. ولكن المستشرق ديلافيدا يخالف رأي لامانس ورفيقه، ويقول إن الخوارج ظهروا بعد التحكيم
معركة صفين
تولى علي بن أبي طالب الخلافة والعالم الإسلامي في غليان شديد من جراء مقتل الخليفة عثمان بن عفان وعواقب هذه الجريمة، فلم تكن مبايعته بالإجماع كأسلافه. وكان عدوه الأكبر معاوية بن أبي سفيان والي الشام الذي خرج طالباً للثأر من قاتلي قريبه الخليفة المغدور. فلما انتهى علي من أمر طلحة ابن عبد الله والزبير بن العوام في موقعة الجمل بالقرب من البصرة سار طالباً معاوية فالتقى الجيشان في سهل صفين وهو مكان قريب من بلدة الرقة في شمالي شرق الشام
وفي أول صفر من سنة 37 هجرية، ابتدأ القتال بين الفريقين فرجحت كفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فخاف معاوية العاقبة، وعمد إلى الحيلة يساعده على إتقانها الداهية الأكبر عمرو أبن العاص. وبينما كانت الحرب مستمرة إذا بجنود الشام يرفعون المصاحف فجأة على أسنة الرماح طلباً للتحكيم. فلم يؤخذ علي بهذه الحيلة، وقرر الاستمرار في القتال إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. ولكن فريقاً كبيراً من جند علي قبل التحكيم وحمل
زعيمه على قبوله رغماً عنه. وبعد أن رضي الإمام بالتحكيم قام فريق آخر من جنده يندد بالتحكيم، ويصيح: لا حكم إلا لله، لا حكم للرجال، ويظهر أنه كان بين هذا الفريق بعض من أتباع الفريق الأول. فانقسم بذلك جيش علي إلى شطرين، ونجحت الحيلة التي قال فيها عمرو (إن قبل خصومنا التحكيم اختلفوا، وإن ردوه افترقوا)
ولما ظهرت نتيجة التحكيم التي تقضي بخلع علي عن الخلافة - ولا أقول معاوية، لأن إقرار عمرو بن العاص بخلع صاحبه لم يؤثر في مركز معاوية لأن خلعه كان وهمياً، إذ إن معاوية لم يكن خليفة ليخلع عن عرشها - رفض علي قبولها، وهكذا أضعفت نتيجة التحكيم مركز علي وقوت مركز معاوية
فقويت برفض علي لنتيجة التحكيم حجة الفريق القائل بعدم قبول التحكيم منذ بادئ الأمر، واكتسب إلى صفه جميع الموتورين من سياسة الإمام. وهكذا نرى أن فريق الخوارج كان مؤلفاً من جماعات متفككة العرى تجمعها مناوأة سياسة علي، إما لأنه لم يقبل التحكيم أولاً أو لأنه قبل التحكيم ثانياً، أو لأنه رفض قبول نتيجة ثالثاً. والقسم الأكبر من الخوارج هم الذين أخذوا على علي قبوله صارخين: لا حكم إلا لله. ثم انظم إلى هذه الفرق المختلفة كل من كان ناقماً على السلطة أو خارجاً على القانون، حتى أصبح معسكر الخوارج ملجأ لهؤلاء، أيام الراشدين والأمويين والعباسيين
وبعد انشقاقهم على جيش الخليفة ساروا إلى حاروراء وانتخبوا عبد الله بن وهب الراسبي خليفة عليهم. وقد اضطر علي أن يحمل عليهم قبل أن يسير لقتال معاوية ليأمن شرهم، فقاتلهم في معركة عظيمة تدعى معركة النهراوان في 8 يوليو سنة 658 ميلادية، وتغلب عليهم، غير انه دفع ثمن هذا النصر غالياً، لأن هذه المعركة أضعفت جيشه فأصبح عاجزاً عن المسير إلى سورية لحرب معاوية، وبقي بالكوفة إلى أن قتله ابن ملجم الخارجي سنة 661
الخوارج في عهد الدولة الأموية
اشتدت في عهد الدولة الأموية قوة الخوارج، وكانوا من العوامل الرئيسية التي طاحت بحكم الأمويين، فما من خليفة أموي إلا ثاروا عليه، غير أنهم ظهروا واشتهروا خصوصاً في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان، وكانت ميادين القتال العراق وخراسان. وقد بدأ
بقتال الخوارج مصعب بن الزبير - شقيق عبد الله بن الزبير منافس عبد الملك بن مروان في الخلافة - وكان قائده المهلب بن أبي صفرة. ولما تغلبت قوات عبد الملك على الزبيريين وقتل مصعب كان لا يزال المهلب يحارب الخوارج فبايع عبد الملك بالخلافة حالما بلغه نعي مصعب وتابع قتاله
ثم أرسل عبد الملك في سنة 75 هجرية الحجاج بن يوسف الثقفي والياً على العراق فتمكن بشدة بأسه من خضد شوكة الخوارج. وقد امتازت فرقة الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق من فرق الخوارج ببسالتها وشدتها واستماتتها في ميادين القتال والنزال
الخوارج في عهد الدولة العباسية
ضعف أمر الخوارج في عهد الدولة العباسية ولم تعد فرقهم خطراً على الدولة الإسلامية كما كانت نشأتها في العصر الأموي، غير أنهم لم يعدموا أوقاتاً قاموا فيها ببعض الثورات والفتن. وقد اشتهرت من بين فرقهم في هذا العهد فرقة ألاباضية أتباع عبد الله بن أباض التي ظهرت في عمان وعلى الخليج الفارسي وفي أفريقيا الشمالية أي تونس الخضراء والجزائر والمغرب الأقصى
ولما غلب الخوارج على أمرهم في الناحية السياسية أخذوا ينصرفون إلى الناحية الدينية ويحوكون حولها نظرياتهم ومعتقداتهم الدينية
تصلب الخوارج وشدتهم في المعتقدات الدينية
عرفت فرق الخوارج واشتهرت بتصلبها الديني الشديد وتمسكها بالمعتقدات الدينية التي تدين بها، ولذا كانت كل جماعة منهم ترى أن زعيمها بدأ ينحرف عن المبادئ التي تعترف بها انشقت عنه وعن أفراد فرقتها وكونت لها فرقة خاصة، وهذا هو السبب في تعدد فرق الخوارج وتشعبها. ومن الفرق الفرقة ألاباضية والفرقة الصفارية والأزاردة والعجاردة والنجدات وغيرها. وكانت كل فرقة تنقسم إلى فرق صغيرة عديدة، وقد ذكر الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) ثماني فرق من الأزارقة. ولا ريب أن انقسام الخوارج إلى فرق متعددة كان عاملا قويا في إضعاف شأنهم وزوال هيبتهم
معتقدات الخوارج السياسية
قلنا في صدر هذا المقال إن حركة الخوارج بدأت حركة سياسية ثم تحولت بمضي الوقت إلى حركة دينية. ولذا فان معتقداتهم تدور على وجهين سياسي وديني. فأما معتقداتهم السياسية فتدور حول مسألة الخلافة، ولهم في هذه المسألة مواقف أساسية يخالفون بها السنة والشيعة. فهم مثلا لا يقيدون جنسية الخليفة ولا يمانعون في أن يكون حتى زنجياً، بينما أن السنيين لا يجيزون سوى انتخاب قرشي للخلافة. أما الشيعة فيذهبون إلى أبعد من ذلك ولا يعترفون إلا بالخليفة الذي هو من آل البيت
ولا يرى الخوارج أن من الضروري وجود خليفة على رأس الأمة إذا انتظمت أمور الرعية، بينما أن الشيعيين يقولون بوجوب بقاء الإمام في كل عصر ودهر. أما السنيون فليس عندهم إجماع عام على هذه المسائل
وليس الخليفة معصوماً عن الخطأ كما هو الحال عند الشيعة، فهم يجوزون القيام عليه حتى قتله إذا بدا منه اعوجاج أو عدل عن الصراط المستقيم الذي يتحتم على الخلفاء أن يتبعوه. وهم لا يعترفون من الخلفاء الراشدين إلا بالشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا يعترفون بالخلفاء الأمويين والعباسيين وأصحاب موقعة الجمل أي طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام
معتقدات الخوارج الدينية
أشرت آنفاً إلى التصلب الديني الشديد الذي اشتهر به الخوارج، فهم يطلبون من المؤمن أن يقرن إيمانه بالعمل الحسن إذا أراد الثواب، لأن الإيمان وحده غير كاف لدخول جنة الفردوس. ويكفر الخوارج صاحب الكبيرة، فهم بذلك على عكس فرقة المرجئة التي ترجئ تكفير المؤمن إلى يوم القيامة. ويذهب الأزارقة - ومذهبهم أشد مذاهب الخوارج تصلباً - إلى أن مخالفيهم مشركون، ودرجة الإشراك عندهم أشد وأدهى من درجة الكفر، فهم يستبيحون قتل مخالفيهم مع نسائهم وأولادهم
ومن الغريب أن هذه الفرقة المتعصبة لمذهبها، الصلبة في معتقداتها، القاسية على إخوانها من المسلمين متسامحة مع اليهود والنصارى وغيرهم من الذميين. والبعض من الأزارقة يعتبر غير المسلم مؤمناً إذا أعترف برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالمين.
ويظهر تسامحهم نحو غير العرب في أنهم يجيزون خلافة كل مسلم سواء أكان حبشياً أم عبداً زنجياً
ويتردد بعض الخوارج في قبول سورة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم لاعتقادهم أنها سورة غرامية، فلا يمكن أن يحويها كتاب الله. والبعض الآخر يتردد في قبول سورة أبي لهب
أما في الفقه فهم لا يعترفون من أصوله الأربعة إلا بالقرآن الكريم والسنة الشريفة وإجماعهم فقط لإجماع الأمة الإسلامية. أما القياس فلا يعترفون به ولا يقبلونه ركناً رابعاً للشريعة الإسلامية السمحاء التي سنها الله جل جلاله للمسلمين نبراساً ومعواناً. أما التفسير فهم لا يقيدون أنفسهم به ولا يؤولون
ويظهر تصلبهم الديني بوضوح في فروض الصلاة، إذا لا يكفي في نظرهم أن يكون الجسم عند الصلاة طاهراً، بل يجب أن يكون الفكر كذلك، لاعتقادهم أن الفكر السيئ يبطل الصلاة كما أن الحسم الملوث يبطلها. ونظراً لتصلبهم الشديد في معتقداتهم السياسية والدينية دعاهم بعض المؤرخين الغربيين
فلسفة الخوارج وأدبهم
ويمثل الخوارج في إحدى فرقهم حركة فكرية لا يستهان بها جعلت المستشرق الكبير ديلافيدا يجزم بأنه يجب أن يكون من جراء ذلك علاقة وثيقة بين المعتزلة والخوارج. وتنحصر أهميتهم من الناحية الفلسفية في أثارتهم مسألة الإيمان والعمل وكان مجرد تطرف معتقداتهم يجذب إليهم أحياناً البعض من العلماء والأدباء والشعراء الذين تستهويهم المبادئ المتطرفة
وقد حفظت لنا كتب الأدب العربي كثيراً من أدبهم وشعرهم وحكمهم وخصوصاً آثار شاعرهم العظيم وخطيبهم المفوه قطري بن الفجاءة
الخوارج اليوم
لم يبق من فرق الخوارج إلى اليوم إلا فرقة الأباضية، وهي من الفرق المعتدلة، وقد نشأت في الأماكن الإسلامية النائية، في عمان ثم في شرقي أفريقيا الشرقية، ثم في أفريقيا
الشمالية. وتكون هذه الفرقة الآن دولة مستقلة في داخلية سلطنة عمان على الخليج الفارسي.
فريد مصطفى عز الدين
حديث
بقلم الأديب أحمد الطاهر
نفض يديه الشريفتين من غبار الحرب وجلس إلى أصحابه وقال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.) قول على سهولة وضعه، وبساطة لفظه، يدل على فهم وثيق للحياة، وإدراك عميق لأسرارها، ووزن صحيح لحقيقتها. وهو يدل من ناحية على عظمة هذه النفس النبوية التي وازنت بين جهاد الغزو، وكفاح الحرب، - وفي ذلك ما فيه من كرب وبلاء - وبين جهاد الإنسان في الحياة تلقاء ما يلقى من خطوبها، وأحداثها، وصروفها، واعناتها، وما يفرض عليه فيها من حقوق لا مندوحة عن أدائها، فأدرك رسول الله وقال إن الحرب جهادها أصغر، وإن الحياة جهادها أكبر، وإن جهاد الأبدان هين يسير، وجهاد النفوس شاق عسير، وإن جهاد الغزو محدود بوقته قصر أو طال، وجهاد الحياة يبدأ بالحياة وينتهي بانتهاء الآجال
وفي كلمة رسول الله تحديد لما بين النفوس والأبدان من صلة تجعل للنفوس على الأبدان سيطرة وسلطاناً، وتسخر الأبدان للنفوس فيما توجهها إليه من غايات ومقاصد
وإذا كانت النفوس كباراً
…
تعبت في مرادها الأجسام
وكلما علت النفوس سمت أغراضها، وجلت مآربها، فاشتد الجهاد والنضال بينها وبين ما يتكاءدها في سبيل الحياة من عقبات وحوائل، حتى يصبح جهادها عنيفاً حاراً يهون إلى جانبه جهاد الغزو على ما فيه من سفك للدماء
ولا جدال في أن صاحب السلطان والأمر ومن اضطلع بتدبير شؤون الرعية والقيام على حقوقها، والذود عنها يلقى عناء ومشقة وعسراً، يتضاءل أمامها ما يلقاه أوزاع الناس وعامتهم ممن ليس عليهم من الأمر إلا أن يسخروا أبدانهم لنيل غرض أو بلوغ مقصد
أدرك رسول الله أنه وقد خرج من ميدان الغزو ونفض عن نفسه وعن أصحابه نقع الحرب، سيلقى ميدان جهاد أوسع وأرحب وأكثر عناء وأشد بلاء، أليس عليه بعد هذا الغزو من أعباء الدنيا والدين، ما لا يقوم به إلا أولو العزم المتين؟
أليس عليه أن يقر هذا النصر الذي أحرز، ويرجع الأمور إلى نصابها في السلم بعد أن نبت بها مواضعها في الحرب؟
أليس عليه أن يواصل السير في تبليغ الرسالة التي أؤتمن عليها، وأن يسوس بالعدل والرحمة الأمة التي بعث إليها، وأن يثبت بين الناس شرعة قد نشر لواءها، ويسلك بهم ودياناً قد مسح غثاءها؟
أليس عليه أن يؤدي لله شكراً على هذا النصر والتأييد؟ وأداء هذا الشكر لا تعرفه إلا هذه النفس العظيمة التي لا ترضى فيه بما دون الغاية، ولا تنتهي فيه إلى نهاية؟
أليس في ذلك من العناء والجهد ما يهون بجانبه عناء الحرب وجهادها؟
وأهون ما يهون به عناء الحرب وجهادها أن رسول الله المؤيد بروح الله، ليس عليه إلا أن يستنفر الناس فيسعوا إليه زمراً تخضع لآرائه، وتنضوي تحت لوائه؛ وأما جهاد السلم الذي ألممنا ببعض نواحيه إلماماً فمكتوب عليه وحده، يضطلع بالأمر فيه، ويحيط بأسراره وخوافيه، وهو في هذا الجهاد أعزل أكشف لا عدة له إلا نفس عظيمة في صدره، ووعد من الله بنصره!
وسوق الناس إلى الحرب ليس بالأمر الشاق العسير: فساعة الحرب تسبقها أحداث وخطوب وإحن وحفائظ: تستنهض الهمم، وتستنفر النفوس، وتستثير العزائم. فما هو إلا أن يستنفروا فينفروا وينساقوا إلى الحرب ورداً، يؤزهم الحماس أزا، حتى إذا (حميت وشب ضرامها) رخصت الأرواح وهان الموت: فما ترى الناس يفكرون أو يترددون، ولكن إلى حياض الردى يتدافعون: لا يصدهم عنها صاد ولا يتكاءدهم في سبيلها عقبة، وأنى لهم أن يترددوا والحافز لا تفتر همته، والدافع لا تهن عزمته. وهم لا يستشعرون عناء للحرب، ولا يرون خطراً للقتال، ولا يفكرون في بلاء الغزو. لأنهم لا يجدون متسعاً لأن يشعروا أو يبصروا أو يفكروا
أما في السلم فما أشق الرسالة وما أخطر الجهاد! الناس هادئون وادعون، يجدون من الوقت والطمأنينة متسعاً للتخاذل والتفكير، والتردد والتدبير، والاختلاف والمحال، والتنكر والجدال، أليس شاقاً جهاد الرسول: وهو يدعوهم إلى دين لم يعرفه آباؤهم، وخلق لم تألفه طباعهم، وحياة غير التي ألفوها؟
على أن رسول الله حين أشار إلى الجهاد الأكبر، جهاد الحياة، لم يكن يحدث الناس بما سيلقاه وحده من نصب وإعنات، وإنما أراد أن يذكرهم بما كتب عليهم جميعاً من جهاد في
الحياة. فما كتب الجهاد على الزعماء دون الدهماء، ولا كتب على القواد دون الأجناد، ولا على الرعاة دون الرعية، ولا على الكبير دون الصغير، إنما جهاد الحياة فرض يستقبل الناس حين يستقبلون الحياة، ولا ينصرف عنهم حتى تنصرف عنهم الحياة
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
…
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه
…
بما سوف يلقى من أذاها مهدد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
…
لأفسح مما كان فيه وأرغد
وهذا الطفل إذا اشتد جاهد في الحياة جهاداً يتسق مع شأنه في الحياة، ولا يزال ينمو ويخطو في حياته، ونصيبه من الجهاد ينمو ويخطو ألزم له من ظله حتى مماته. وجهاده في مراحل حياته يعتريه من الأعراض والصور وما يعتري كل كائن حي في أطوار حياته من نمو وقوة ونشاط وضعف وعجز وفتور وغير ذلك
فالرضيع لا يجاهد إلا فيما يشعر به من ألم أو حاجة. ولذا يكون جهاده (ذاتياً) محدوداً، يستعين فيه بأعضاء بدنه؛ فإن ألح عليه الألم والحاجة استعان فيه بالبكاء حتى يغاث فيظفر، أو يعي فينام فيقهر. ثم ينمو الطفل فيدرك معنى (الملكية) فيجاهد في الاحتفاظ بما ملك ويسعى لملكية ملا يملك، فيزداد جهاده، ويشتد ويحول إلى غير ما كان عليه جهاد الرضيع
والشاب في شبابه يدرك معنى الحياة فيستشرف إلى نعيمها وملذاتها، وتتعدد حاجاته ومطامعه، ويسعى حثيثاً للاستمتاع بالنعيم واللذة، ويعد نفسه لما تفرضه عليه سنن الحياة، فيجاهد في ذلك جهادا عنيفاً، ويلقى في جهاده نصباً
والكهل يسعى وراء الرزق: يدبره لنفسه، ويدر أخلافه على أهله وأبنائه، ويدخر منه لعقبه وأخلافه. وإنه لواجد في سبيل الرزق عقبات وعوائق. وإنه لجاهد مجاهد في تذليلها، والتغلب عليها، وإن جهاده لشديد، وإنه لأكثر بلاء وعناءً
والشيخ الفاني الذي نفض يديه من الدنيا، تنتابه الأمراض والعلل، ويلح عليه الفناء، وتخذله قواه؛ فيجاهد في الحياة الباقية له جهادا عنيفاً جباراً، ولكنه خافت صامت؛ يكسر من حدته صبر الشيوخ وأناتهم، وضعف آمالهم واستسلامهم
أولئك جميعاً تفرض عليهم الحياة فروضاً، وتلوح لهم بمطامع وهم يبسطون إليها آمالاً: ثم
تقيم لهم في السبيل عقبات، وتنصب بينهم وبين مطامعهم حجاباً، وتجعل أمانيهم سراباً، وهم لا ينفكون يجاهدون: تنزل بهم البأساء، فيطمعهم الرجاء، وتنقطع بهم أسباب الأمل، فيغريهم طول الأجل
حتى الرجل الذي لا تشغله الدنيا بزخرفها. والذي يصدف عن مطامعها، والذي يؤثر الآخرة على الأولى: ذلك جهاده قوي حاد. فهو أبداً في جهاد مع نفسه ولنفسه: يروضها على الزهد والاستغناء، ويدفع عنها عوامل الأغراء، ويسوقها إلى الفضيلة، ويباعد بينها وبين الرذيلة، وهو جهاد لا يهون، ولا يصبر عليه إلا القليلون
وأهون الناس شأناً في الحياة وأقلهم تقديراً لشأنها وأكثرهم استخفافاً بها لا محيد له عن الجهاد فيها: أليس عليه أن يجاهد الحر والبرد والمطر والشمس والعلل والأمراض؟ ذلك جهاد على سذاجته شاق وعسير
ما أصدق رسول الله فيما قال، وما أبعد نظره فيما رأى.
اليوزباشي أحمد الطاهر
من مشاهد الشرق
3 -
طائفة البهرا في الهند
في حضرة داعي الدعاة
بقلم محمد نزيه
مضى محمد علي بخش رئيس الوزارة البهرية وأنا في أثره، في بعض جادة القصر، حتى انتهى وانتهيت معه إلى باحة فسيحة أمام سلم مديد، ذي ست درجات من رخام أبيض يشف عن زرقة رقيقة، فلما أن درجناه كنا أمام بابين رحيبين، كلاهما سبيل إلى تلك الحجرة الرهيبة التي يستقبل داعي الدعاة زواره فيها؛ وإذا كانت غرفة الانتظار قد تقاضتنا خلع الأحذية قبل ولوجها، فأحر بغرفة الشيخ الأكبر أن تطالب قصادها بمثل ذلك وأكثر منه. وكذلك هتفت بي نفسي هذه المرة بما هتف به سائق السيارة من قبل، أن اخلع نعليك فإنك قادم على أنيس المهدي المنتظر وجليسه، وأمينه سرا وعلانية، وأبى بكره من دون الخلق أجمعين!
ولقد ظللت مذ أسري بي في غرفة الانتظار إلى غرفة الملتقى - وكلاهما حرام - منصرفاً عن كل ما عسى أن يتداول سمع المرء وبصره، إلى التفكير في ذلك الرجل الذي يتقاضى جميع الناس كل أسباب التقديس له، بين مؤمن بمذهبه ومستريب به ومنكر له، ثلاثتهم من تقديس الشيخ في أوضاع متشاكلة ما أرادوا لقاءه، بل وما يكون هذا التقديس من ثالث الثلاثة تكلفا ولا صناعة ولا زيفا، فقد كنت أحسبه كذلك من قبل، وهأنذا الآن في منتصف الطريق بين الحجرتين، مفعم النفس برهبة شديدة تكاد تطغى على الرغبة الشديدة في رؤية الشيخ، بل وما فتئت هذه الرهبة تشتد سريعاً، حتى لقد بلغت شأوها في ثلاث من خطواتي، وإذا بالحواس الخمس قد رقت في بعض الدقيقة ودق إرهافها، فكأنما غادرت عالم الملموس والمحسوس إلى عالم الإلهام؛ ومادام هذا العالم الجديد لا يدرك مما يحيط بالمرء وإنما يدرك من باطنه، من دخائل نفسه، فقد انقلبت حواسي كلها إلى نفسي، وكأنني بت لا أعي من الوجود شيئاً، ولم تزل هذه النفس المرتهبة تتسع حتى تملأ كل فضاء داخل الجسد، وتشمل القلب كله، وتغير على ما فوقه وما تحته، وما عن يمينه وما عن يساره،
وما أمامه وما خلفه، كل ذلك في خطى الكهرباء، فلم أكد أتم الخطوة الرابعة حتى كنت نفساً ولا جسد
وأخذت هذه القوة الجديدة تتخيل صورة الشيخ وتحاول رسمها، فإذا دأبت في هذا السبيل جاهدة، انبعثت ذرات الرهبة، فتوثبت على القلب فاختل نظام دقاته، وهنالك تضطرب النفس فلا تقوى على المضي في مهمتها، لذلك لم ترسم الصورة حتى صرت على قيد خطوات من صاحبها، فتقدمت إليه حتى استويت أمامه. لم يكن في وسعي ولا في وسع سواي أن يصافح الشيخ دون أن ينحني، إلا أن يركع، ما لم يكن قصيرا، ولست بقصير. ذلك أنه يجلس على كرسي لعل مقعده أدنى إلى الأرض مما يعهد في كل كرسي، ولم ينهض الشيخ عنه ليصافحني واقفاً، وربما كان لا يعرف الوقوف من أسباب التحية، فلا مناص لمن شاء مصافحته من الانحناء، ثم لا مناص لمن استأذن عليه من المصافحة، ومن يدري؟ لعل هذا الكرسي القصير إنما دبر تدبيراً، ثم إن هذا الكرسي قد عوض عن قصر أرجله رحابة في صدره، حتى لقد تبينت الشيخ من الكرسي ولم أتبين الكرسي من الشيخ
صافحت الشيخ منحنياً ولا بد، فإذا كف نحيل لعل الرف يؤذي عظمه، فلقد أحسست أنني أقبض على حزمة من الأقلام، بل أحسست أكثر من ذلك بالمفاصل الدقيقة لكل إصبع، وكأنما انفرطت عظامها في يدي فما يستعصي عدها علي! لكأن هذه الكف ترتفع من تلقاء نفسها إلى فمي، فلقد علمت إنني رففتها، ولعل ذلك إكبار ولعله رفق بالضعف، ولا سيما وهو ضعف الكبر؛ ولشد ما يحنو بعض القوة على بعض الضعف؛ إذن فقد انحنيت فصافحت ثم قبلت، وخطوت بعد ذلك إلى الكرسي الواحد الذي يشاطر الغرفة كرسي الشيخ، ثم تحركت حدقتا عيني فطافتا ببعض الحجرة وميضا حتى استقرتا لحظة على صاحبي محمد علي بخش وقد ألصق ظهره بالجدار، وأمال رأسه إلى الأمام قليلا، وشبك أصابع كفيه على صدره تحت لحيته؛ وجمد كذلك كأنه التمثال
سألني داعي الدعاة عن موقع المدينة من نفسي، ثم عن الصحافة المصرية وحظها من النهوض، فلما أن فرغ من أسئلته وحان دوري في السؤال، وكنت أعلم أن التحدث في مسائل الدين هو أشهى الأحاديث لدن رجاله، وأعلم إلى ذلك علماً ليس بالظن أن أقران الشيخ لا يفتأون ينعون على الناس تركهم أمر الآخرة، فكل امرئ عندهم مفرط مهما تخفف
من زخارف العاجلة وتولى يرتجي الآجلة، ما يألونه إذ يرونه ذلك النصح الممزوج بالتعنيف والاتهام، فهم متسخطون متبرمون رغما من رغم، أثرة بالكمال من دون الناس، فقد استهللت بالأسف لإهمال المسلمين أمور دينهم وأمور دنياهم معاً، وكأنما قلت للسيل انهمر، فقد تدفق الشيخ فلم يترك في معجم الألم كلمة إلا قالها، ولا حركة إلا أتاها، بعينيه وشفتيه وكفيه، قال بلسانه العربي المبين - وقد أسلفت أنه من سلالة عربية قريبة العهد بموطنها الأول، اليمن:(إن دولة الإسلام قد انهارت أركانها في كل مكان، ودكت حصون الدين وسقطت معاقله، حتى عادت أطلالاً نناجيها) ثم راح يبعث قول الشريف الرضي:
ولقد مررت على ديارهمُ
…
وطلولها بيد البلى نهبُ
فبكيت حتى ضج من لغب
…
نضوى ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت
…
عني الطلول تلفت القلب
قلت: هل يرى مولانا أن تخلف العالم الإسلامي ناجم عن إهمال الدين؟ قال: (عن إهماله فقط، وليس في أداء فرائضه وحسب، بل في التأدب بآدابه، بل في الاستمساك بأسباب التعاون والمودة، وإطراح الخصومة والعداوة والبغضاء، وحدب الغني على الفقير، واطمئنان الفقير إلى الغني، وخشية الله والآخرة، واتقاء الخزي والندامة، والحسرة والعذاب يوم القيامة)
قلت: وهل من أمل في إصلاح ما انهدم؟ فانبسطت أسرة الشيخ دفعة واحدة والتمعت عيناه، وطالعني منه صوت يتجلى فيه الحزم والعزم والإيمان والبأس الشديد وهو يقول:(نعم. إن الأمر لله في دين الله، وإنه ليحميه ويعلي كلمته حين يشاء، ولكنما يترك الأمر للناس حتى يسلموا بالفشل ويتئسوا من النهوض، وإذ ذاك يقضي الله فإذا الحق في الذروة والباطل في الرغام)
قلت: أفلا يحاسب رجال الدين على شيء مما نرى من أمر الدين.؟ فسكن الشيخ لحظة ثم قال: (أعلم أن كثيراً من الناس يقومون برجال الدين ويقعدون، ولكن ما لذي يسع رجال الدين أن يفعلوا إن كانوا في شعب متخاذل مستضعف؟ إنهم إذ ذاك لا يفضلون أبناء شعبهم، ولعلك تعلم أن الفساد جرثومة سريعة العدوى؛ وهب أن بين رجال الدين من امتنع من جرائم الفساد، فماذا يفعل وأهل أمته كلهم ذلك الحواري الذي شهد على عيسى بن
مريم؟!. أفتدري كيف تقهر الأمراض العصية في الأجساد، إن أحدث أسباب ذلك وأصدقها نتيجة أن يلقح الجسد المريض بعين الجراثيم التي تمرح فيه، ولم ينتبه الطب إلى ذلك إلا بعد قرون من تنبه الحكام إلى أثر هذه الوسيلة نفسها في أخلاق المحكومين، ولن يعدم زمن من الأزمان، ولن تبرأ جماعة من الجماعات، من أشرار وإن قلوا، وتلك سنة الحياة، وقد احتال الظلمة وافتنّوا في الاحتيال، حتى استكشفوا أن رجل الدين الصالح لا يقهر إلا برجل الدين الطالح، ثم هم يزودون صاحبهم بقوة المال وسطوة البطش والعدوان، ويذودون عنه بعد ذلك إن أحدق به خطر، فإذا سئلوا في ذلك قالوا، إنما نرفع كلمة الدين ونعيذه من الهوان
وتنفس الشيخ برهة ثم قال: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وقد نزل الدين سهلاً مفهوماً، فلنأخذ بمبادئه التي لا تحتاج إلى رجال الدين، فإذا استقرت هذه الأوليات في النفوس، سهل علينا أن نميز الصالح من الطالح من رجال الدين فنأخذ عن أولهما وندع الآخر. على الآباء والأمهات جميعاً بهذه المهمة، كل يؤدب أبناءه بأدب الدين منذ الصغر، قبل أن يبلغ الطفل أشده، فيصبح تحت رحمة القانون والبيئة والمطامع)
قلت: وهل من سبيل إلى تخفيف الفساد؟ قال: (نعم، ولكن أسباب التخفيف لا تعرض هكذا على بساط الريح، فلابد من البحث والروية والتثبت، ولا سيما ونحن نريد أن نعالج جماعات كثيرة مختلفة العلل، وقد يصلح لهذه من الدواء ما يزيد تلك علة على علة، ولذا وجب أن يجتمع أطباء الدين والأخلاق من كل جماعة أطباؤها، فإذا تذاكروا جميعاً حتى اهتدوا إلى العلة المشتركة، تذاكروا حتى يهتدوا إلى الدواء المشترك. المؤتمرات، على أن تكون خالصة لله وحده، نقية من الدخلاء، بريئة من الشبهات، حرة أكمل حرية، مطبوعة بإنكار الذات والإيثار دون الأثرة) وسكن الشيخ برهة وقد بدا على محياه أنه يطلب الراحة؛ ثم ضغط على جرس كهربائي مثبت على منضدة صغيرة أمامه، فإن هي إلا ثوان معدودة حتى أقبل من داخل الحجرة خادم يحمل بيمينه لفافة من قماش، تقدم بها إلى الشيخ فتناولها منه، ثم مد بها يده إلى ناحيتي، فخطوت إليه وأخذتها شاكراً، وودعت داعي الدعاة بعد أن ألقيت على سمعه ما واتاني به الله من كلمات الشكر والتقدير
أما لفافة القماش، فقد تبينت بعد أن باينت الغرفة أنها (شال) من الكشمير وسط في صنعته
وقيمته، ثم علمت أنه نفحة الشيخ لكل زائر غريب، وإنما تختلف قيمتها بقدر ما للزائر من مكانة في قومه، وأما غرفة الزيارة فرحيبة تكاد تتسع ثلاثين متراً من نصفها، يرتفع سقفها على عمد من رخام، عارية الجدران من الصور، حافلة الأديم ببساط أبيض عار من زهو النقوش، وقد أسلفت أنه لم يكن بها إلا كرسيان للشيخ ولي، ولعل هذه البساطة في مظاهرها والرحابة في اتساعها مما يزيدها رهبة ويزيد صاحبها إجلالاً. أما الشيخ فأنه من نحول الجسد ورقته كأنما إياه كان المتنبي يعني لما قال:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل
…
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وهو على شدة نحوله ليس بالطويل القامة، كأنه غاندي، لولا أن وجهه المستطيل خفيف السمرة، مشرق الديباجة، متسع العينين حتى لتملأن نصف وجهه، حديد البصر، كأنما تطل نفسه المطمئنة من عينه، ضاحك السن في وقار كثير، تنبئك مظاهره كلها بأنه رجل موطأ الأكناف حقا. وقد استتر رأسه تحت طاقية بيضاء، وغطى جسمه بجلباب أبيض، وهو في غرفته مثال نادر الأنداد للبساطة في الغنى، والتواضع في الجاه
كررت إلى جادة القصر يصحبني محمد علي بخش، فمضينا إلى مسجد القصر متحدثين بالإنجليزية فأنه لا يعرف العربية، فإذا نحن حيال مسجد حديث البناء أنيقة، متوسط السعة، مفروش بالسجاد، ذي ثلاثة أبواب، اثنان منها لدخول المصلين من الرجال، والثالث لدخول المصليات من النساء، وقد فصل بينهن وبين الرجال في رواق المسجد جدار رقيق لا يتصل بسقفه، أما المنبر فمن الخشب الثمين المتين وقد خلا من كل زخرف، كل ما في المسجد ناطق ببساطته، خلا ثرياته الثمينة التي تؤلف في انتظامها أروع الشكول. فلما فرغنا من تفقد المسجد دعاني صاحبي إلى التدريج إلى أعلى القصر، حيث أعد به موضع يشرف على المدينة كلها، فترى منه واضحة المعالم جلية الرسوم، ولولا سدول الليل لاستطعت في هذه القمة إحصاء مساجد (بمبي) وعد حدائقها، وتبين أعلامها والتحديق في ميادينها، على أنك لا ترى المدينة وحدها من هذه القمة، بل ترى البحر وعبابه ينساب إلى عالم المجهول.
القاهرة
محمد نزيه
للأدب والتاريخ
2 -
الرافعي
بقلم تلميذه وصديقه
الأستاذ محمد سعيد العريان
الرافعي الأديب
مضى الرافعي في قرض الشعر، معنياً به، متصرفاً في فنونه، ذاهباً فيه مذاهبه، إلى جانب عنايته بالتأليف والكتابة، وانكبابه على العلم والتحصيل، فوضع في سنة 1911 كتابه (تاريخ آداب العرب)، وحسبك به من كتاب أن يقضي الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد بك أسبوعاً يخطب عنه في مجالس العاصمة وقد كتب عنه الأمير شكيب أرسلان - وهو أشهر كتاب العربية في ذلك الوقت - مقالة في صدر (المؤيد) جاء فيها:(لو كان هذا الكتاب في بيت حرام إخراجه للناس منه، لكان جديراً بأن يحج إليه؛ ولو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار، لكان جديراً بأن يعكف عليه. . .)
وقال عنه المقتطف: (إنه كتاب السنة. . .) وما كتب المقتطف مثل هذه الكلمة من قبل ومن بعد لغير هذا الكتاب
ومن يقرأ كتاب الرافعي (تاريخ آداب العرب) يعرفه عالماً عميق البحث، مرتب الفكر، واسع المعرفة؛ إلى جانب معرفته به شاعراً عربي الديباجة، مشرق المعنى، مشبوب العاطفة؛ على أنه كان يومئذ لم يجاوز الثلاثين. . .
ثم ألف الرافعي (كتاب المساكين) الذي يقول عنه فقيد العربية العلامة أحمد زكي باشا: (لقد جعلت لنا شكسبير كما للإنجليز شكسبير، وجوته كما للألمان جوته، وهوجو كما للفرنسيين هوجو.)
وتألق نجم الرافعي الشاعر العالم الأديب، وبرز اسمه بين عشرات الأسماء من أدباء عصره براقاً تلتمع أضواؤه وترمي أشعتها إلى بعيد؛ على أن هذه المنزلة الكريمة التي نالها الرافعي بين الكتاب إلى جانب منزلته في الشعر - لم تكن غريبة؛ فقد حدثني أديب فاضل كانت له صلة بالعلامة الشيخ إبراهيم اليازجي: أن الرافعي لما طبع الجزء الأول
من ديوانه سنة 1903 وأهدى منه نسخة إلى الأستاذ اليازجي - أبطأ في الكتابة عن الديوان؛ فسأله هذا الأديب الفاضل في ذلك الوقت فقال: لقد قرأت مقدمة الديوان فأكبرت أن يكون كاتبها من عصرنا؛ فأنا منذ أسبوعين أبحث عنها في مظانها من كتب العربية، مما أخادع نفسي في قدرة هذا الشيخ على كتابة مثلها. فقال له: إنه ليس بشيخ، بل هو فتى لم يبلغ الثالثة والعشرين. .
وليس عجيباً أن يكون هذا كلام اليازجي، فقد برهن الرافعي من بعد ألف برهان على ذاك. وإنما كتب هذه المقدمة وعني بها حتى جاءت ما جاءت، ليعارض بها مقدمة حافظ لديوانه الذي نشره قبل ذلك بقليل؛ وكان لمقدمة حافظ هذه حديث طويل، حتى نسبها بعضهم يومئذ إلى المويلحي؛ ولكن مقدمة ديوان الرافعي جاءت بعدها تقطع قول كل خطيب؛ واحتفل بها (المؤيد) أيما احتفال فنشرها في صدره، والمؤيد يومئذ جريدة العالم العربي
بين الجديد والقديم:
ثم بدأ الرافعي يميل عن الشعر رويداً رويداً حتى هجره منذ عامين، لم ينظم فيهما غير قصديتين اثنتين نشرتا له في مجلة المقتطف. وإنها لخسارة كبيرة أن ينصرف الرافعي عن الشعر ويترك ميدانه خالياً. . على أنه لم يهجر غير الشعر المنظوم، وهذه كتاباته المنثورة ضرب من الشعر أفسح مدى وأبعد غاية، وإنه لينشئ بها أدباً جديداً في العربية على رغم ما يتهم بالتقليد والمحافظة على القديم؛ بل معانيه كما قال الأستاذ الدكتور منصور فهمي في تقريظه رسائل الأحزان:(إنها من آخر طراز بأني من أوروبا. . .) على أن الرافعي إلى ذلك ليس له حظ من لغةٍ أجنبية، ومعرفته الفرنسية لا تجدي عليه اليوم أكثر مما كانت تجدي عليه يوم كان يتعلمها بالمدرسة وهو غلام!
وللجديد والقديم حديث طويل في تاريخ الرافعي؛ فهو قد وقف نفسه على الدفاع عن الدين والحفاظ على لغة القرآن. ذلك مذهب درج عليه وأعانته عليه نشأته وتربيته؛ وهل يأخذ أحد عليه هذا المذهب أو ينكره؟. . فهو إنما (يحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء، لا منفعة فيهما معاً إلا بقيامهما معاً. . .) وإنه بسبيل ذلك ليسأل: ما الجديد وما القديم؟
لو أنهم يعنون بالجديد الابتداع والطرافة بمقدار ما يتطور الفكر، أو الإنشاء والابتكار على
مقدار ما ينفعل الزمن في احساسات أهله، أو التنويع والخلق على قياس ما يزيد في المعاني ويستجد من انفعالات النفس - لو أنهم يعنون بالجديد شيئا من ذلك، أو كل شيء من ذلك، لوجدوا الرافعي مجدداً مع المجدين؛ يل لما كان لشيء من هذا أن يسمى جديداً، لأنه حكم الزمن وسنة التطور من قديم. . أما أن يكون التجديد هو ابتداع لغة ليست من اللغة، وإنشاء دين من شهوات النفس لا من وحي السماء، والتزوير على التاريخ القديم باختراع تاريخ من الأحلام - أما أن يكون ذلك كذلك فما هو التجديد، ولكنه التبديد الذي يوشك أن يتبعه الفناء. . .!
في النقد:
هذا هو الرافعي في موقفه من الجديد والقديم؛ وما نحب أن ننتهي منه حتى نعرض لأسلوب الرافعي في النقد؛ فما نعرفه ناقداً عنيفاً إلا حين يتناول الجديد والقديم؛ وإذا نحن تدبرنا ما أسلفت من تلخيص رأيه في الجديد والقديم، ومن مقدار حماسته في الذود عن الدين والعربية - عرفنا لماذا يؤثر الرافعي ذلك الأسلوب العنيف في مهاجمة خصومة والطعن عليهم، إذ هو لا يعتبر حينئذ إلا شيئاً واحداً، هو الدفاع عن الدين وتراث السلف، مؤمناً بأنك (لن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة. . .) وأنت لا ترى الرافعي مرة يأخذ في أسباب النقد ليدفع كيداً يراد باللغة والدين، إلا كما ترى البدوي الثائر لعرضه، يطرح كل اعتبار من دون هذا الشرف المثلوم؛ فمن ثم يكون في كلامه معنى الدم. . .
على أن الرافعي إلى شدته وعنفوانه، ناقد بصير بأساليب النقد، مم عالج من مختلف فنون الأدب، ووقف على أسرار العربية؛ من ذلك لما كتب المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي مقالته عن الشعراء ونشرها في مجلة (سركيس) سنة 1903، كتب المرحوم حافظ إبراهيم إلى الرافعي يقول:(. . . . قد وكلت أمر تأديبه إليك. . .!)
وقد تعجب أشد العجب أن ترى الرافعي ينسى حين يجرد قلمه للنقد كل اعتبار مما تقوم به الصلات بين الناس؛ ولكنه هو يعتذر من ذلك بقوله: (. . . إنما نعمل على إسقاط فكرة خطرة، إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غدا فيمن لا نعرفه؛ ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء، لا جهلنا من نجهله يلطف منه، ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ
فيه. . . فان كان في أسلوبنا من الشدة، أو العنف، أو القول المؤلم، أو التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتدي أن يضل، فما به زجر الأول، بل عظة الثاني. . .)
وقد خسر الرافعي كثيراً بالأمساك على مذهبه ذاك، ووضع نفسه بحيث تنوشه من كل جانب سهام مسددة، وألب عليه كثيراً من الخصوم؛ ولكنك لن تسمع منه أبدا كلمة الندم، وتراه على تربص دائم لكل (ذي دخلة للدين والعربية. . .) وهو ضرب من التضحية والشجاعة يدعو إلى الإعجاب
وكما ترى هذا الموقف للرافعي من دعاة الجديد في الأدب، ترى له موقفاً قريباً منه من دعاة الجديد في الأخلاق والاجتماع؛ فله آراء في الاختلاط، والحجاب، والتعليم، والحرية، والحب والزواج؛ تراها منبثة في عديد الكتب والمقالات؛ ولكن قليلاً من القراء من يستطيع أن يفهمها بروح مجردة من هوى، ليعرف أي مذهب في الاجتماع يدعو إليه الرافعي؛ وله في هذه المقالات روح رفافة، وشعر ساحر، وحجة قوية؛ وهو فيها من أنصار المرأة عند من يعرف أين يكون انتصار المرأة؛ ولست واجدا أحداً يرد عليه رأيه في ذاك على قلة من تجد من أنصاره؛ وقد جلست مرة إلى أديب كبير ومرب فاضل، نداول الرأي في أدب الرافعي ومذهبه الاجتماعي، فقال لي:(إنك لن تجد أحداً من أنصار الجديد يرضي هذا المذهب، ولكنك لن تجد أحداً - أيضاً - يستطيع أن يصاول الرافعي في ميدانه بمثل حجته وقوة إقناعه. . .)
الرافعي والمرأة:
وإذ تكلمت عن مذهب الرافعي في الاجتماع، فإني أقف قليلاً لأتحدث عن الرافعي والمرأة
وعجيب أن يكون الرافعي صاحب (إعجاز القرآن، وأسرار الإعجاز، والبلاغة النبوية، والإنسانية العليا، وسمو الفقر؛ والمحدث، المفسر، المتصوف، الذي يصف عن عصر النبوة، ومجالس الأئمة، وكأنه يعيش في جوهم وينقل عن حديثهم؛ والذي تتصل روحه فيما يكتب من وراء القرون بروح الغزالي، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وغيرهم وغيرهم من أئمة السلف - عجيب أن يكون هذا الرافعي هو صاحب (رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وسمو الحب، واليمامتان، وسحر المرأة، والطائشة،
وغيرها وغيرها؛ فيصف عن المرأة والحب، ويتحدث في ذلك حديث الرجل الذي عرف وذاق وجرب، ولبس المرأة ولبسته، واستبدل قلباً بقلب، وتقلب بين مجالس ومجالس، وسمع (لا) بمعنى (نعم)، و (إليك عني) في موضع (اتبعني يا حبيبي)؛ والذي يترجم معنى النظرة والابتسامة وما بعدهما. . .!
وإنك لتراه أحياناً يمزج بين حديث الحب وحديث الدين، ويصل بين وحي السماء ووحي العيون الدعج. . . . فتسأل: أي رجل هو؟
ولقد خالطته زماناً، فإني لأعرفه عرفاني لنفسي، فما وجدته في حاليه إلا الرجل العف الكريم، ولكن له عالماً من وراء هذا العالم، يصل إليه في سبحات فكرية لطيفة، ليستوحيه من معاني المرأة ما لا سبيل إلى معرفته في دنيا الناس. ولو أنك أردت أن تسأله مرة: أي رجل أنت؟ لما جاءك الجواب إلا أنه رجل وحسب. . .!
وتسأل نفسك: هل عرف الرافعي الحب فخف بجناحيه إلى تلك العوالم غير المنظورة ينقل عنها فلسفة الجمال والمرأة والحب. . .؟ فاستمع إليه يقرر: (إن النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق. . .!) ثم ارجع إلى كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد؛ لتعرف (إنها كانت عواطف ثارت وقتاً ما، ليحدث منها تاريخ؛ وسكنت بعد ذلك ليحدث منها شعر وكتابة. . .)
ولكن، من تكون تلك الفتانة التي تيمها وتيمته زماناً، (هي بروعتها ودلالها وسحرها، وهو بأحزانه وقوته وفلسفته. . .؟)
ذلك سره هو، أو سرها هي. . .!
وطنيته:
وللرافعي رأي في معنى (الوطن الإسلامي)، والوطنية الإسلامية، تلمحه في كثير مما يكتب، قوامه (أن يظهر المسلم الأول بأخلاقه وفضائله في كل بقعة من الدنيا مكان إنسان هذه البقعة، لا كما نرى اليوم؛ فان كل أرض إسلامية يكاد لا يظهر فيها إلا إنسانها التاريخي بجهله وخرافاته وما ورث من القدم، فهنا المسلم الفرعوني، وفي ناحية المسلم الوثني، وفي بلد المسلم المجوسي، وفي جهة المسلم المعطل. . . وما يريد الإسلام إلا نفس المسلم الإنساني. . .)
فلا يمنع أن يكون إلى جانب إحساسه بمعنى (المصرية) إحساس آخر بمعنى (الإسلامية) على أنها الوطن الأكبر، كما لا يمنع الطنطاوي أن يكون إلى جانب حبه (طنطا) حب أعمق يشمل (مصر) كلها؛ فإذا تحدث الرافعي عن الشام، أو العراق، أو بقعة أخرى من الوطن الإسلامي، فما يعني ذلك أنه قد خلع مصريته
والوطن عند الهمجي دار تؤويه، وحقل يغل عليه، وكلما زاد الإنسان في معنى الإنسانية انبسطت له رقعة الوطن، فمن ثم كان الوطن فيما يرى الإنسان المسلم هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام، وما مصر، والعراق، والشام، والمغرب، وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر، كالأقاليم من الدولة، والمناطق من الأقاليم، والشوارع من المنطقة، والدور من الشارعن، والغرفتين من الدار، حين يتدابر الأخوان وتدب بينهما الشحناء التي توشك أن تنسيهما أنهما أخوان لأب وأم. . .!
(البقية في العدد القادم)
محمد سعيد العريان
دراسات في الأدب الإنكليزي
وليم وردزورث
بقلم جريس القسوس
نشأته وطفولته:
هو زعيم طائفة شعراء البحيرات وسيد شعراء الإنكليز بعد شكسبير وملتن. ولد هذا الشاعر في السابع من شهر أبريل سنة 1770 في كوكرموث في إقليم البحيرات من مقاطعة كمبر لند. وهو من أسرة متوسطة في الجاه والثروة، توفيت أمه وهو ابن ثماني سنين، وكانت تؤمل لو فسح لها في الأجل أن تشاهد الدور الذي سيمثله على مسرح الحياة، لأنها لمحت فيه طفلا حدة طبعه ورجاحة عقله يميزانه عن بقية أخواته الخمسة. ولقد كان والداه مرشديه، فهما اللذان تعهدا إنماء قواه العقلية، وتوجيه مداركه الشعرية في أقوم السبل وأرشد الطرق، وذلك بتلقيه أشعار القدماء والمحدثين، وإلى ذلك يشير وردزورث في قصيدته (الفاتحة)
كان مواطنه مزدانا بالمناظر الشعرية الخلابة التي استهوت فؤاده، ووجدت منفذاً إلى عقله فظهر أثرها في شعره
وبعيد وفاة والدته قصد مدرسة هوكشد حيث تلقى مبادئ العلوم والفنون. وكانت هذه المدرسة في محيط ريفي ساذج، تكتنفها المناظر الطبيعية من جميع الأطراف، مما أغوى شاعرنا وجعله يصرف أويقات فراغه في حضن الطبيعة. فتارة تلقاه يتمشى على شواطئ البحيرة، وأخرى تجده يصطاد الأسماك ويداعب العصافير في أعشاشها، أو يمرح بين التلال والشعاب يلاعب المعزى ويعبث بالحملان. وكثيراً ما كان يصطحب الكتب إلى تلك الحقول فيطالع منها ما يستسيغه ويبعث في نفسه أملا ورغبة في الحياة
في كمبردج:
توفي والده قبل أن يتم دروسه الابتدائية، ولكن أريحية عمه وليم كفلت له الالتحاق بكلية القديس يوحنا في جامعة كمبردج. وقد كره الشاعر هذه البيئة الجديدة، ومجت نفسه هذه
الحياة المقيدة في بدء الأمر، إلا أنه عاد فألفها وتشبع بروح ذلك المكان بعد أن جالت في ذهنه صور الشعراء الذين قضوا قسما من حياتهم فيه. فقد أمده خياله الخصب بعالم روحي مطلق يعيش فيه ويستأنس بأهله لما لم تتح له الظروف أن يعيش طليقاً في الحياة. ولقد كان يتردد على أهله في بيرنث أو في هوكشد كلما سنحت له الفرص. وجرى له ذات يوم حادث غريب كان له أثر بعيد في حياته الأدبية، إذ بينما كان يتسلق أحد التلال في هوكشد رأى رؤيا غريبة ظن أنه أوحى إليه فيها بالعمل العظيم المعد له. وقد ورد ذكر هذا الحادث باختصار في قصيدته (الفاتحة) ولا نعلم عنه أكثر من ذلك
رحلته الأولى:
اتفق شاعرنا وصديقاً له على القيام برحلة كبيرة في جبال الألب في إحدى فرص الصيف، وكان ذلك على أثر انتشار الأخبار الأولية عن الثورة الفرنسية. أستأجر الصديقان سفينة وأبحرا فيها إلى ميناء كاليس ونزلا في اليوم الذي حلف فيه لويس السادس عشر يمين الإخلاص للدستور الجديد. ومن ثم قصدا الجنوب إلى بحيرات إيطاليا وسويسرا، فصرفا على شواطئها بعض الوقت الممتع، ثم قطعا سمبلون ومن هناك كارا عائدين إلى الأوطان، وفي طريقهما لقيا جيوش الثوار ناشرين لواء الحرية ومنتضين سيف العصيان على الملكيين. ولقد كان لهذه الرحلة أثر كبير في نفس وردزورث، إذ أوحت إليه بروح شعرية وثابة ونفس متمردة تنزع إلى الحرية وتطلب التجديد، فلا غرو إن انتصر للثوار الفرنسيين ورفع صوته معهم منادياً بسقوط باستيل الاستعباد
في فرنسا مرة ثانية:
ما كاد الشاعر يتسلم شهادته من كمبردج حتى عن له أن يزور فرنسا مرة ثانية ليتصل بالثوار الذين تشبعت نفسه بمبادئهم في رحلته الأولى. شرع في ذلك ماشياً سنة 1790، فمر بباريس عش الثوار حيث قضى بضعة أيام يرصد في أثنائها حركات الثوار عن كثب، ومن ثم رحل إلى أورليان فبلوا حيث تعرف بابنة جراح فرنسي اسمها أنيت فالون وأقام هناك برهة يتعلم عليها مبادئ الفرنسية. ولقد كانت هذه الفتاة على حظ وافر من الجمال مما استهوى شاعرنا وأوقعه في الشرك، فوضعت على أثر ذلك طفلة. رأى وردزورث أن
يمحو إثمه هذا بالزواج منها، لكن الظروف لم تسمح له بالبقاء طويلاً في أرض الثوار لنفاد دراهمه وقطع عمه المساعدة المالية عنه متوخياً بذلك إرغامه على الرجوع إلى بلاده لئلا يقع في حبائل الملكيين. وإننا لنحمد الأقدار التي أوحت إلى عمه ذلك، إذ لولاه لقضى شاعرنا كما قضى غيره من عباقرة الرجال أنصار الثورة الفرنسية، ولم يخلف لنا بعد تراثاً أدبياً يذكر
ولقد أثارت عليه فعلته حرباً عواناً في الأوضاع الاجتماعية والأدبية فبعد أن كان متصفاً بالفضيلة والكمال إلى حد القداسة أمسى اسمه مقروناً بالكفر والإثم خصوصاً بعد أن كشف لنا الدكتور هارير عن هذه الصحيفة السوداء من حياته في فرنسا في كتابه (حياة وردزورث). ولقد ظهر في سنة 1922 كتاب لأميل ليجوس اسمه (وليم وردزورث وأنيت فالون) يصف فيه علاقة الشاعر بمعشوقته المنكودة الحظ في بلوا. ولم يشر الشاعر إلى هذه الحادثة في جميع أشعاره أوكتاباته النثرية إلا بعض الإشارة والتلميح في قصيدته فودراكور وجوليا &
وفي أثناء إقامته في بلوا اتصل بفيلسوف وزعيم جمهوري كبير هو ميشيل بيوباي، فصرف معه طوال الليالي على ضفة اللوار في الجدل والبحث في حرية الإنسان السياسية والاجتماعية مما غذى عقيدة شاعرنا الثورية وأذكى في نفسه نار التمرد والخروج على المبادئ القديمة. ولقد سولت له نفسه الانخراط في عداد الثوار وحضهم على مهاجمة معاقل الملكيين. بيد أنه لم ينفذ رغبته هذه لنفاذ دراهمه كما بينا فعاد إلى إنكلترا وفي نفسه غصة وفي فؤاده حرقة لحبوط مسعاه وتلوث اسمه بذلك الفعل المنكر
شقيقته:
كان للشاعر شقيقة اسمها دورثي لا تقل عنه في توقد الذهن وحدة الذكاء ونفاذ البصر، وكثيراً ما كانت توجه نظره إلى أمور دقيقة، وحوادث غريبة، ومناظر بديعة فيتخذها مواضيع لقصائده. وقد أخذت على نفسها مرافقته في غدواته وروحاته منذ صباهما رغم معارضة أمها لها. فعند ما لمحت فيه وميض العبقرية وفيض الشاعرية هبت إلى مناصرته وتشجيعه على المضي في سبيله. وكانت في أكثر الأحيان تقرأ أشعاره وتنظر فيها قبيل إعدادها للنشر نظر الناقد الشفيق. وقد وجد في أخته هذه كل العزاء والأنس بعيد رجوعه
من فرنسا كاسف البال كسير القلب لما جنته يداه من إثم
في فورنست:
كانت أخته تقطن آنئذ فورنست فقصدها شاعرنا، وهناك نظم عدة قصائد جمعها في مؤلفين سماهما (سير في الليل)(ومقطعات وصفية) ولقد أعجب كولردج بهما وتكهن لناظمهما بمستقبل باهر في عالم الأدب رغم ما وجه إليه من نقد على صفحات (منثلي ريفيو) و (ادنبرج ريفيو). وفي تلك الأثناء خاض الشاعر المعامع السياسية فنادى بتحرير الزنوج ومعاضدة ثوار الفرنسيين، ويعالج في بحث له يرد به على أحد أنصار الملكية مبادئ الحرية منادياً باتساع نطاق الديمقراطية على حين لم يكن فيه الرأي العام قابلاً للأخذ بهذه الآراء المبتسرة
فضى شاعرنا ردحاً من الزمن حائراً بين الكنيسة والأدب لضيق ذات يده. على أن المنية وافت صديقه الحميم ريسلي كالفرت فأوصى هذا قبيل مماته لوردزورث بتركته البالغة نحو 900 ج مما حداه إلى الانصراف بكليته إلى الأدب وقرض الشعر. ولقد كان لهذه المبرة أثر ظاهر في حياته، وقد أشار إليها في (الفاتحة) وفي قصيدة موضوعها (إلى كالفرت)
والظاهر أن شاعرنا لم يكن على وئام تام مع أقاربه. نستنتج هذا من رسالة بعثت بها شقيقته دوروثي إلى أحد أصدقائها تقول فيها: (إن أخي لناقم على أقاربه، ولا يصفو قلبه إلا لأخويه يوحنا وخريستو)
(يتبع)
جريس القسوس
شهداء الإنسانية
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة
شهداء العلم والإصلاح يزدحمون على باب الحياة ويسألون كل هالك: هل تحقق الخير الذي بذلوا حياتهم من أجله؟ فتدركه الحيرة! أيكذب كي يدخل على قلوبهم الاطمئنان، أم يصدق فيفجعهم في آمالهم، أم يغريهم بالصبر الطويل كصبر الأحياء على الشر، أم يغريهم بالعودة إن استطاعوا إلى كفاح الحياة. وإذا استطاع أن يعزي الشهداء الموتى فماذا يقول للشهداء الأحياء:
الناظم
على باب الحياة أرى زحاَماً
…
من الأشباح عجَّ بهم وسالا
من العهد القديم إلى زمان
…
حديث قد مضوا زُمراً تَوالى
هُمُ ضَحَّوْا بهذا العيش كيما
…
يطيبَ العيش للأحياءِ حالا
إذا ما هالك ألفوه ظلوا
…
على شغف يعيدون السؤالا:
بربك هل مضى قدرُ بِشَرِّ
…
وخبث النفس هل أودى وزالا
وهل جفَّت دموع الناس طرا
…
وهل بلغوا من العيش الكمالا
وذل الجوع هل قد زال عنهم
…
وكان سوادهم هَمَلاً مُذالا
وجهل يغتدي بالناس بُهمْاً
…
يُصَرَّفها يميناً أو شمالا
وهل غلبوا من الشهوات ما قد
…
عدا سلطانه فيهم وغالا
أصار العيش من مِقَةٍ وأَمن
…
وكان العيش لؤماً واقتتالا
أعاد العيش عدلاً واعتدالا
…
وكان العيش مكراً واغتيالا
بربك لا تقل إنّا غُبِنّا
…
وإن هزأ الحِماَمُ بنا وصالا
أيفجعهم بآمالٍ عِزَازٍ
…
وما نال الردى منها منالا
يقول لهم: لقد رُمُتْمُ خيالا
…
وأسديتم وضحيتم ضلالا
أيسكت والسكوت له معانٍ
…
أيخدعهم وما ألفوا احتيالا
أيغريهم بصبر مثل صبر
…
لدى الأحياء دام لهم وطالا
أَيَأْسَى أن مَوْتى لم ينالوا
…
من العرفان ما يُرْجَى نوالا
أيغريهم بِبَخْع النفس يأساً
…
إذا اسطاعوا عن الأخرى انتقالا
أيسخر أنهم - وهُمُ رفات -
…
أبوا للعيش سقماً واعتلالا
فيا عيش الورى ماذا تراه
…
يقول لهم إذا ألْفَى مقالا
يقول لهم إذا اسْطعُتمْ فعودوا
…
دفاعاً للنوائب أو صيالا
إذا الأحياء لم يرعوا عهوداً
…
لأحياءِ فلا تشكوا انخذالا
يقول لمعشر الأحياء منهم
…
ليقضوا العيش صبراً أو نزالا
أيفدح أن تقاسوا العيش نحسا
…
ليِسُعِد بعدكم صحباً وآلا
وكم من نعمة لولا شقاء
…
قديماً لم تكن إلا وبالا
فكم خَبرَ الأوائلُ من شقاء
…
فنلنا من شقائهم نوالا
عبد الرحمن شكري
مفتش بوزارة المعارف
خمر الرضا
للدكتور إبراهيم ناجي
يا حبيبي اسْقيِني الأمانِيَّ واشْرَبْ
…
بوُرِكَتْ خمرةُ الرضَا وَهْيَ تُسكَبْ
بُوركَ الكَأْسُ والحَبَابُ الذي يَرْ
…
قُصُ في الكَأْسِ والشُّعاَعُ المُذَهَّبْ
نَضَبَتْ رَحمةُ الوجودِ جميعاً
…
وَبِكَ الرحمةُ التي ليس تَنْضَبْ
وَلئن ضاقَتِ السماءُ بِشَجْوِى
…
فالسماءُ التي بِعَيْنيْكَ أرْحَبْ
وشَقَائي وساَدُ إذا نِمْ
…
تُ وَمَرْساَيَ حيثمُا أَتَقَلَّبْ
كمْ تَمَنَّيتُ والصُّدُورُ تُجاَفي
…
ني وَتَزْوَرُّ والوجوهُ تقَطَّبْ
كم تمنيْتُ صَدْرَكَ البَرَّ، يَرْتا
…
حُ على خَفْقِهِ الطَّريدُ المَعَذَّبْ
هاَتِ وَسّدنِيَ الحَنَانَ عليهِ
…
جَسَدي مُتْعَبُ وَرُحىَ متَعبْ
إبراهيم ناجي
أياصوفيا
بقلم أمجد الطرابلسي
أياصوفيا حان التفرق فاذكري
…
عهود كرام فيك صلوا وسلموا
حافظ إبراهيم
(أياصوفيِا) تُذْرِي الدُّموعَ وتَسفَحُ
…
وتُمْسِي على مُرَّ الأنينِ وَتُصْبِحُ
تنَكَّرَ أهلوها لها وأذاقَهَا
…
فَوَادِحَهُ صَرْفُ الزمانِ المُفَدَّحُ
وهانَتْ على مَنْ كانَ بالأمْسِ مُشفِقاً
…
يُدافِعُ عنْهاَ الطامِعينَ وَيَنْفَحُ
فوا أسفا! ماذا أساَءتْ وأذْنَبَتْ
…
وقد يُغْفَرُ الذَّنْبُ العظيمُ الُمبَرَّحُ
أَيَهجُرُها أبناؤها دونَ رحمةٍ
…
وتتْرَكُ في أيدي الأسى تَتَصَوَّحُ
ألم تَكُ مِحْرَابَ الخِلافة أعصُراً
…
يرفُّ عليها المجدُ والعِزُّ يَصْدَحُ
إذا سمعَ الناسُ الأذانَ رأيتَهَا
…
تكادُ بأفْواجِ المصلّينَ تَطْفحُ
وإن تُلِيَ الفُرْقانُ فيها رأيتَهَا
…
تمايَلُ مِنْ تَرْتيلِهِ وتَرَنَّحُ
فأضْحَتْ خَلاءً لا الحمائِمُ خُشَّعُ
…
لديْهَا، ولا الدَّاعي المؤذِّنُ يُفصحُ
وُعُطِّلَ فيها الدينُ فَهْيَ وَجِيعةُ
…
تَضِجُّ شَكاةً وَالمَنابِرُ نُوَّحُ
(أتاتُورْكُ) لا يغْررْكَ أنكَ حاكمٌ
…
مُطاعُ، تُرَدِّى إنْ أردتَ وتصفح
رُوَيْدَكَ إنَّ الدهْر َ - مذْ كان - قُلَّبٌ
…
يَعُودُ فيستَقْضي الذي كان يمنح
لَعَمْركَ إنْ أمسيْتَ رَبَّا مُسَوَّداً
…
أتعلمُ ما يُبدْي الصَّبَاحُ وَيفضح؟
إذ العينُ نامَتْ عَنْ أذى الدهْرِ غَفْلَةً
…
تُفيقُ على الهَوْل الفظيع وتُفْتَحُ
وأنْتَ الذي يدعونَكَ اليومَ مُصْلحاً
…
فَهلْ يَهْدِمُ التاريخَ والمجدَ مصلح
لئِنْ كان قُبحاً نَبْذكَ العُرْبَ جانباً
…
فَنَبْذُك للدينِ المقَدَّسُ أقبح
حُقودٌ على الُرْبِ الِكرامِ صَبَتْها
…
على الدين، ما تَنْفِكُّ تُورى وتُقْدَح
تبينَ فيها الغَدْرُ والّؤمُ والأذى
…
(وكُلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضح)
تَجَرّأَتْ مغتراً على الدينِ أهْوَجاً
…
ولكِنَّ دينَ اللهِ أسمى وأسمحُ
وشَمًّرتَ للدينِ الحنيفِ مغالباً
…
فَوا عجَباَ! أنتَ الأجَمُّ وتنطَحُ
وما ناصَبَ الدينَ العداوَةَ أحمقٌ
…
مِنَ الناسِ إلا عادَ وَهْوَ مُجرَّح
وَللهِ عيْنٌ تَكْلأُ الدينَ برَّةٌ
…
وتدفَع عنه كلَّ من جاء ينبح
بَنيتم على الإسْلَام شامخَ مُلكِكم
…
فلَسْتَ إذَا هَدّمْتَهُ اليْومَ تُفْلِحُ
وإِنَّ أَيادِي العُربِ فيكم كثيرَةٌ
…
وما ضَرَّها أنْ تُنكِرهَا وَتقْدَحُوا
ولوْلَا تهاوِلُ الخِلافةِ لم يكُنْ
…
(لعثمانَ) في ضَخْم المَملِكِ مَطمحُ
فإِنْ تَهْجُرُوا الدِّينَ المقَدَّسَ فارْجِعُوا
…
سَوَائِمَ ترْعَى في المُرُوجِ وَتَسرَحُ
(أتاتُورْكُ) حاذِرْ مِنْ بنِي الغَرْبِ وَثْبةً
…
وإنْ غَرَّدُوا بالسِّلْمِ يوْماً ولَوَّحوا
فَحُبُّهُمُ حُبُّ الذِّئَابِ لنَعْجةٍ
…
وسِلْمُهُمُ البرَّاقُ سِلْمٌ مُسَلَّحُ
فَصَمتَ عُرى الشَّرْقِ العزِيزِ بِنزْوَةٍ
…
من الْحمقِِ مَا تَنْفكُّ تنْزُو وتَجْمحُ
وقَطَّعْتَ أَسبابَ القرَابةِ عَامِداً
…
وهذا الذي يُرضِي عِداكَ وَيفْرِحُ
أأنْتَ إِذَا خُنُتَ القَرابةَ وَاجِدٌ
…
من الأهْلِ من يَحنو عليكَ وَيَنْصحُ
وواللهِ لا يُبدى لك الغَرْبُ حُرْمةً
…
ولوْ رُحْتَ في أذيالهِ تَتَمَّسحُ
يقولُ لَكَ الغَرْبُ المُدِلُّ بِنَابهِ
…
وقد جئُتَ تَستَجدِي رضاهُ وَتمدَحُ
مكانكَ ياشرْقيُّ وارْجعْ بِذلَّةٍ
…
فمنْ ذَا رَأَى الشَّرْقيَّ لِلعزَّ يَصْلُحُ
ومهمَا سَما الشَّرْقيُّ فالشرقُ نعجةٌ
…
تُسمَّنُ لِلغْربِ النَّهُومِ وَتذْبَحُ
فلا تَلتمسْ عَطفاً من الغَرْبِ صَاغراً
…
ذَليلاً فما يَحْنُو القوِيُّ ويَسْمَحُ
ولا تَعُبِد الغَربيَّ جَهْلاً فإنما
…
ستكْسبُ منه كلَّ ذُلٍّ وتربح
ألستَ تراهُ رابِضاً متَربِّصاً
…
يَودّ لَو أنّ الصيدَ يبدو ويسنحُ
دمشق
أمجد الطرابلسي
نجوى
أنت لحن الفؤاد في الخفقان
…
يا نجيّ الضمير في كل آن
رافق القلب ذكرك العذب كالما
…
ءِ رفيقاً لخاطر الضمآن
إن هذى الحياة - وهي شوؤن -
…
ليس فيها سواك لي من شان
أنا من أجلك احتملت حياتي
…
حين ظللّت في الحياة مكاني
ربَّ ليل مضى عليك هنيئاً
…
بتُّ فيه مؤرق الأشجان
طيفك العابث الكذوب يمني
…
ني فأحيى ليلي سمير الأماني
وأرى عطفك البعيد قريباً
…
فيفيض السرور في وجداني
ثم يحنو عليّ طيفك حتى
…
تتهادى مواثق الرضوان
ونحلُّ الوصال لثما وضما
…
وحديثاً باللحظ أو باللسان
ثم أصحو فلا أراك حيالي
…
فيثور الدفين من أشجاني
أيها الظالم الجميل ترفق
…
بأسير معذَّب ولهان
بغداد
ابن عباس
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
16 -
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
فرديدريك نيتشه
للأستاذ خليل هنداوي
غزوات نيتشه
الغزوة الأولى
حمل نيتشه في الغزوة الأولى على الكاتب الألماني (دافيد ستراوس) وعلى كتابه الذي أخرجه في درس الدين والمدينة، والإيمان قديمه وحديثه. وقد يحتدم في نقده للجزء الثاني من الكتاب حيث يعلن (ستراوس) المثل الأعلى الذي يجده خير ما وجده لأبناء الأجيال القادمة. ونيتشه يصب سوط نقده على الرجل الذي لم يعل ولم يسفل، بل وقف وسطاً قانعاً بما آل إليه، يأخذ من كل علم بحزمة، ويقنع من كل فن بضمة، ويعتقد بأنه بلغ الدرجة القصوى من الكمال الإنساني
لا يؤمن (ستراوس) بجنة المسيح، ولا يرتاح لوجود الله، وإنما يعمل على أن يوحي إلى أنصاره أن العالم ما هو إلا رحى ميكانيكية لا تهدأ عن دورانها، وما على الإنسان إلا أن يسلم من الوقوع تحت ثفالها. وهو في الأخلاق كذلك، فلا يبشر بمذهب خطر، ولا يجرؤ على أن يطلب إلى الفرد أن يستخدم مواهبه وأن يكون كما تريد نفسه في الوجود. وإنما يقول هذه الجملة بعد تثبته من اختلاف الناس في حظوظهم ومواهبهم، (لا تنس أبداً أيها الإنسان أن الآخرين هم أناس مثلك، لهم نفس حاجاتك وذات مآربك)
يحسب كل ما تجاوز حد الفهم الوسط قبيحاً، لأن العبقرية تتجلى في التوسط لا في التطرف. فالنشيد التاسع (لبتهوفن) لا يقع موقع الرضا إلا عند من يرون الغريب عبقرية، والخروج عن المألوف والوزن سمواً. وقد ظن بنفسه أنه قهر (شوبنهاور) ببرهانه الركيك الذي رآه (إذا كان الوجود قبيحاً، فالعقل الذي أوجده هو قبيح أيضاً، فالمتشائم إذن هو مفكر قبيح، والوجود هو حسن وجميل!. . .)
إن ستراوس في نظر نيتشه هو مثال العقل المتوسط الذي يدعى معرفة كل شيء، ويريد
بفرض سلطته على الوجود. هو مفكر هياب لا يبلغ بفكره إلا منتصف الطريق، ولا يستطيع أن يقصد نهايته. إنه متفائل يغلق عينيه عن الآلام الضرورية للبشر خوفاً ورهبة. وهو مفكر يدعوا الناس إلى حياة قانعة خانعة، وبدلاً من أن يكرم رجال العبقرية يعمل على معاكستهم لأنهم - بزعمه - خالفوا نظامه ومثله الأعلى باختراقهم حدود النبوغ المتوسط
الغزوة الثانية:
وتصدى نيتشه في تأملاته الثانية للتاريخ، وهو لا يجابه رجلاً معلوماً أو طائفة مشهورة، وإنما ينازل مذهباً حديثاً يهم بأن يشيع ويطبع الحضارة العصرية بطابعه، فالتاريخ هو خير راع للحضارة وناقل لها ما ظل يعمل على خدمة الحياة، وبحث الناس على نشدان الحياة السامية، فالتاريخ الموقوف على نشر المآثر يمثل للإنسان آثار الأقدمين الرائعة ويبعث في روحه الأمل الملتهب والعزم المتأجج لإكمال معنى هذه الآثار، ويعمل على رفع مثل الإنسانية الأعلى ناقضاً من قلبه التلهي بحب الحاضر والاستسلام لملذاته. أما التاريخ التقليدي الذي يوحي للإنسان احترام الأشياء الفانية، وحب الآثار الماضية، فهو خير حقير يحمل أصحابه على الرضا بالحاضر الممقوت، يسكرهم بذلك الماضي الذهبي البعيد ويسكب في وجودهم القاتم المستكين مخدراً شعرياً يبعثهم على الركود. وهنالك التاريخ الناقد المحاكم، يعرض الماضي كله على محكمة العقل ويبحث فيه ثم ينفيه، لأن كل ما كان من حقه أن يزول. - إن مثل هذا التاريخ هو سلاح محمود عند من أثقلت ظهورهم أعباء الماضي الثقيل، وهم يريدون أن يطرحوها عنهم ويمشوا قدماً إلى ما خطت لهم الحياة
ولقد يستحيل التاريخ إلى قوة غاشمة سيئة حين ينفصل في طريقه عن الحياة، وحين يود أن يفرض مذهباً خاصاً بعيداً عن مذاهبها، إنه يصبح رسول موت لا رسول حياة. ينشئ من الإنسان مجموعة محشوة علوماً ومعارف. ويقتل فيه القوة التي تسوقه إلى العمل. . . إنه مجموعة أثرية لاحظ فيها لسطر من سطور العمل. صاحبها ضعفت شخصيته، ونشأ في تفكيره عالة على غيره، وتعلم أن التاريخ يجب أن يتلقنه تلقيناً، وألا يضعه بنفسه. على أن المؤرخ الحقيقي الذي ينبغي لمثله أن يسطر التاريخ هو من يقف تجاه المسألة التي يدرسها وقفة الخلي، ويعمل دائباً على تشييد بناية الحاضر. رجل التجارب والسمو هو الذي يسطر التاريخ
وللتاريخ وجهة ثانية رائعة يستخلصها نيتشه: هي أن التاريخ يكرم من التفاؤل ما كان محفوفاً بالكدر والخطر. ويحترم الميول الفظة ويعبد الظفر. يعتقد المؤرخ أنه يرى في الحركة الإنسانية أثراً لا أعلم من أي سام منحدره. يجهد العقل ليدرك أنى بدأت هذه الحركة وأين يجب أن تنتهي؟ والإنسان لم يكن عظيماً إلا حين كان يشن الغارة على القدر ويعلن الحرب على القضاء الأهوج، ولكنه يفعل ذلك دون أن يخرج من نفسه
ليس التاريخ الحقيقي بذلك التاريخ الذي يأتي على كل شيء وإنما هو تاريخ أبناء العبقرية، وسيأتي عصر تتبدل فيه صورة هذه الحركات التي ألف التاريخ تسجيلها. وسترسم هذه الصورة بصورة أدنى إلى الحقيقة، فلا يكتب التاريخ بعمومه وخصوصه، وإنما يقصر فيه على رجال العبقرية الذين أثروا في العالم؛ هم لا يأتون ويتعاقبون حسب شريعة تاريخية، ولكنهم يعيشون وراء الزمن! يمثل وجودهم المتصل المتماسك معبراً ترابطت أجزاؤه واستمكنت عقده فوق الأمواج العاصفة. ولنعمم هذا التاريخ الذي يرسم هذه الصورة ويخرج هذا المثل! وهذه هي جمهورية العباقرة التي تحدث عنها (شوبنهاور). عبقري ينادي عبقرياً في أثناء العصور وأهضام الأجيال. ووظيفة التاريخ أن يجمع شتاتهم، ويدني بعضهم من بعض، وأن يهيئ - في كل مهلة - ولادة جديدة لعبقري جديد. إذ ليست غاية الإنسانية من سيرها ذلك الغرض الذي تزحف إليه وإنما غايتها تتمثل في النماذج الكاملة التي تخرجها وتنشئها في الوجود
الغزوة الثالثة:
ولم يقف الأمر عند تهديم العمارة القديمة وتعاليمها المخطرة. فهو يقصد إلى تشييد عمارة المستقبل على دعائم جديدة، فتحرى عن عباقرة أحياء يستطيعون أن يذهبوا بالشباب إلى هذه العمارة وإلى هدف جديد، ينزع عنهم هذا التفاؤل المخدر ويعرضهم أمام أنفسهم مجردين، وسعى إلى أن يرى له معلمين يساعدونه على كشف نفسه ويعرفونه بنفسه؛ من أين نشأت وإلى أين تذهب؟
وقع - أو شاءت المصادفات - أن يقع نيتشه مصادفة على كتاب شوبنهاور (العالم إرادة وتمثيل) وما كان نيتشه ليقدر أن هذا الكتاب سيقلب كل أطوار حياته، ويترك ثورة مستعرة في نفسه، ثم تشتعل هذه الثورة وتزيدها الأيام ضراماً، فلا تهدأ إلا بعد أن تأكل نفسها،
وتمد ألسنة شواظها إلى نفسها فتهدأ الثورة بثورتها على ذاتها. . . فكان أول ما شغله من هذا الكتاب الجديد شخصية صاحبه المتجلية في كل حرف من حروفه؛ وهو الذي يقول: (أنا من قراء شوبنهاور، ممن يدركون أنهم سيتلون شوبنهاور من فاتحته إلى خاتمته، وسيصغون إلى كل حرف تهمسه شفتاه. إن ثقتي به ثقة عمياء ما زادها كر الأيام إلى ثباتاً)
(يتبع)
خليل هنداوي
القصص
من أساطير الإغريق
القرية الظالمة
للأستاذ دريني خشبة
ذهبا يدلجان في هدأة الليل، ويضربان في ظلام الوادي، ويتحدث أحدهما إلى الآخر حديث الآلهة؛ وكلما نال منهما الجهد، جلسا يتسامران، أو ينصت الشيخ ذو اللحية البيضاء المرتعشة، إلى السحر الذي تنفثه قيثارة الفتى اليافع
- (حسبك يا بني، فلقد كادت موسيقاك تبطل عمل العاصفة)
- (وفيم تريد أن تستيقظ العاصفة يا أبتاه؟)
- (أريد أن تستيقظ العاصفة لأريك عجباً هذه الليلة من طباع الناس. أترى إلى هذه القرية! النائمة في أكناف الجبل؟)
- (أين يا أبي؟)
- (أنظر جيداً)
- (الظلام دامس، ويكاد الحلك يختلط بسواد الصخر فلا أرى شيئاً. . .)
- (أنظر في الجهة التي تشير إليها يدي)
وأشار الشيخ بيده فانبعثت منها شعاعة من نور شديد، كشفت القرية للفتى
- (آه. هذه هي. عمش خفيف أصابني الليلة يا أبتاه!)
وكان الفتى حلو الدعابة رقيق النكتة، ثرثاراً، فقال له الشيخ يحذره:
- (إذا كنا عند القرية فلا تبدأ حديثاً، ولا تخاطبني إلا أن أخاطبك؛ وإياك أن تأتي بإشارة تسقط هيبتنا في أعين القوم، فانهم لؤماء سفهاء، وقد تفسد علينا ثرثرتك ما جئنا من أجله الليلة إلى هذه القرية. . .)
(نسيت القفل يا أبتاه!!)
- (أي قفل؟)
- (الذي أقفل به فمي فما يتحرك ببنت شفة)
- (يا خبيث. .: اصمت)
وأشار الشيخ بيده إلى السماء فأربدت وتكلحت وأورى برقها وقرقع رعدها، وانصبت ميازبها بماء منهمر. وانطلقا إلى القرية. . .
ووقفا عند منزل فخم ضخم ذي شرفات، فقال الشيخ:
- (تشبث يا بني بأحياد الحائط حتى تكون عند النافذة، فانظر ماذا ترى)
وفعل الفتى، ونزل، وقال للشيخ:
- (أبتاه! نسوة عاريات يرقصن، وندامى وخمر، و. . . موسيقى. . . وفتيان وفتيات. . . . و. . .)
- (وماذا يا صغيري العزيز؟)
- (ودعارة وعهر يا أبتاه. . . . لماذا جئنا هنا؟ لماذا جئنا هنا؟. . .)
- (قلت لك جئنا لأريك عجباً هذه الليلة من طباع الناس، هلم إلى باب المنزل)
وطرقا الباب، فبرز لهما فتاىً غرانق وقال: ماذا؟ شحاذان قذران!) فقال الشيخ:
- (على رسلك يا بني. أنا رجل شيخ غريب، وهذا ابني، وقد دهمتنا العاصفة فلجأنا إليكم نرجو أن تضمنا غرفة صغيرة إلى الصباح، ونطمع أن نتبلع لديكم بلقمات. . .)
- (غرفة ولقمات؟ ها ها. . . اذهبا اذهبا. . . لصوص! هذه حيل قطاع الطريق والسفاحين بلوناها من قبل)
ثم قذف بمصراع الباب في وجهيهما. فنظر الشيخ إلى ولده وقال: (أرأيت؟ سر إلى هذا البيت القريب)
وقال لابنه: (هلم إلى النافذة فانظر. . .)
وتسلق الفتى وحملق قليلاً، ثم قفز وقال:(أبتاه! أناس يخزنون الذهب في خواب عظيمة ويختمون عليها بالرصاص المذاب؛ من أين لهم هذا الذهب كله يا أبي؟. .) فقال الشيخ: (هم لصوص يا بني، وإن كانوا لا يقطعون طريقاً، ولا يسطون على دار؛ ولكنهم يمتصون دم الفقير والمعتر، ويصهرونه ذهباً ويكنزونه هكذا؟! إنهم أصحاب هذه الضياع والبساتين! هلم إلى بابهم. . . . . .)
وطرقا الباب، وسألا طعاماً، ومبيت ليلة، فقالت لهم العجوز صاحبة الدار:
- (إن هذا العام عام شدة، ولم تبق لنا المجاعة على زرع ولا ضرع، ماذا عندنا لنعطيكم؟ هيكل زيوس قريب من هنا ناما فيه، وكهنته أسخياء كرماء، وعندهم في كل آونة خمر. . . سيطعمونكما ويسقونكما! وربما قدموا لكل منكما غادة! فهم فساق عرابيد. . . اقصدا إليهم. . . اذهبا. . .)
وقذفت بالباب في وجهيهما. . . . . .
قال الشيخ: (أرأيت يا بني؟) فقال الفتى مداعباً:
(نحن نستحق أضعاف هذا الهوان! ما لنا وللناس؟!)؛ فقطب الرجل جبينه وقال: (مالنا وللناس؟ إذن ما نحن في هذه الدنيا يا بني؟ ولكن ليس الآن ما أعددت لك من عبرة هذه الليلة؛ سر بنا إلى ذلك القصر العتيق)
فلما كانا عنده، تطلع الفتى فرأى صحباً كثيراً ما يزال يتعشى، والموائد حافلة بالأشربات والأشواب، وبكل ما لذ وطاب. والندامى البيض كالنجوم رافلات، ورافلون، في وشى وأواف. وكأن الفتى استطير من العجب، فقال للشيخ:(كل الناس يا أبتاه هانئون هذه الليلة المقرورة إلا نحن!! الجميع يأخذ في نشوة ولذة ونحن نضرب في وحل وننشق من غيظ؟!)
قال أبوه: (ألم أقل لك ألا تبدأ حديثاً حتى أبدأك؟ هلم إلى الباب) وقرعا الباب فبرز لهما شاب مفتول العضل كأنه هرقل. فلما سألاه حاجتهما، قادهما إلى البهو الواسع حيث القوم فيما هم فيه من متاع
قال الشاب المفتول: (إليكم أيها الأخوان لصين من لصوص الدجاج عاثا كثيراً في قريتنا هذه، ولولا طول الحذر ما ذقتم الليلة رجل دجاجة. . . . . . إنهما يطلبان مبيتاً وعشاءً، ولا أدري لِمَ لمْ يقصدا إلى هيكل الأب زيوس حيث المبيت الوثير والعشاء الكثير؟! وحيث أشياء أخرى. . . . . .)
وقهقه السمار وتكبكبوا حول الغريبين، ثم أخذوا معهما في ألوان غير محتشمة من المزاح الثقيل. هذا ينتف شعرات من ذقن الشيخ، وذلك يرفع ذيل الفتى مما وراء، وهذه تعانق الشيخ وتقبله وتقدم له كأساً من الخمر، وتلك تركب الفتى (زقفونة!). . . . . .
ولما فاضت الكأس بالشيخ والفتى، نظر أحدهما إلى الآخر نظرات، ثم غابا عن أنظار الجماعة، كأنما تحولا إلى هواء. . .؟!
فشده القوم، وأوجسوا خيفة
لم يبرح الرجل وابنه يتنقلان في شوارع القرية الموحلة من بيت إلى بيت، وكلما طلبا المبيت والعشاء استهزئ بهما وطردا شر طردة وأخسها، حتى ضجر الفتى وبرم بحكمة والده في هذه الرحلة المضنية في ذلك البلد البخيل. . . فقال له:(اذهب أنت فسأنتظرك على هذه الصخرة الناتئة في حيد الجبل، وسأتسلى بموسيقاي حتى تعود) فقال الشيخ: (وحكمتي التي أردتك أن تراها بعينيك؟ هلم، هلم. . . أترى ذلك الكوخ؟ لندلج نحوه وليكن آخر مطافنا)
وكانت في الكوخ كوة صغيرة ينبثق منها نور خافت. فلما نظر الفتى تمتم يقول: (أبتاه امرأة متهدمة وشيخ محطم! يا لبؤس الحياة، ويا لشظف العيش! لماذا أثرت العاصفة يا أبي؟ إن الماء ينز عليهما ويبلل فراشهما. . .)
- (سترى أن هذا الكوخ هو وحده الذي يبقى)
- (ماذا تعني يا أبي؟ هل تهدم القرية؟)
- (صه! هلم فاطرق باب الكوخ.)
- (قم يا فيلمون. إن بالباب طارقاً)
- (نامي يا بوسيز! إنه البرد ترجم به العاصفة)
- (لا. ليس برداً. إسمع! أناس ينادون. قد تكون بهم حاجة)
ونهض فيلمون متهالكاً على نفسه ففتح الباب. وما كاد الشيخ يذكر حاجته حتى هش صاحب الكوخ وبش، وتلقى الرجل وابنه أحسن لقاء
- (مرحباً مرحباً. . . أنتما في حاجة إلى دفء. بوسيز. انهضي يا امرأة فأوقدي ناراً. أنا أعرف أن الحطب مبلل، ولكن حاولي. . . مرحباً يا كرام معذرة، فنحن نستعين على الحياة هنا بالصبر. بوسيز، هاتي قربة النبيذ أولاً. ليس فيها إلا صبابة! لا بأس! سيبارك زيوس للضيفين فيها. . . هاتي شيئاً من المشمش الجاف يا امرأة!. . .)
وتأتي بوسيز بقربة النبيذ، وما يكون فيها إلا ثمالة، فيتناوله الشيخ ذو اللحية البيضاء، فيتمتم بكلمات فتمتلئ نبيذاً من خير ما عصر باخوس؛ وبعد أن يروي منها هو وابنه، يدفع بها إلى صاحب الكوخ ممتلئة كأن لم يمتد إليها فم! فيتولى الرجل دهش عظيم ويقول:
(بحق زيوس إلا ما أخبرتني أيها الصفي الصالح من أنت؟) فيقول الشيخ: (أنا أيها العزيز رجل نقلة وأسفار وهذا ابني الموسيقي البارع. أتطرب للموسيقى؟)
ويهتز الرجل، ويوقع الفتى على قيثارته لحناً كأنه لسان العاصفة بما فيها من سنا برق وهزيم رعد ومكاء ريح وتنقير مطر، ثم هو مع ذاك لحن مشرق متألق يأسر اللب ولا يستأذن على القلب. . . وطرب فيلمون، ورقصت جوانح بوسيز، وأحضرت طبقاً به قليل من المشمش الجاف فقدمته للفتى، ناسية أن تقدمه للشيخ، وهذا من أثر الموسيقى على أعصابها، فقدمه هذا إلى أبيه في أدب واحترام. وما كادت اليد البيضاء الناصعة تمس الفاكهة حتى عادت إليها النضارة، وتأرجت عنها أنفاس الحديقة، وتضاعفت في الطبق حتى ملأته. فأكل الشيخ، وأكل ابنه، وأكل فيلمون وزوجه، وهما لا يصدقان ما يريان!
وظلا يقدمان للضيفين كل ما استطاعاه من خبز وأدم، فكان القليل يزداد والمشفوف يتضاعف. وكانت لديهما إوزة عجفاء حاولا أن يجريا عليها التجربة فهما بذبحها ليصنعا منها شواءً يقدمانه للضيفين، ليريا ماذا يكون من أمرها. ولكن الإوزة فزعت فزعاً شديداً، وانطلقت في ناحية الشيخ تستجير به كأنها تكلمه. فابتسم وربت على ريشها الناعم النظيف، وأجارها من سكين فيلمون
وكان نسيم السحر قد أخذ يهب في الأفق الشرقي، فقال الشيخ:
- (أيها العزيز فيلمون. أيتها التقية الكريمة بوسيز، من إلهكما!)
- (إلهنا زيوس تبارك في علياء الأولمب؟)
- (أو يسركما أن يكون معكما الآن؟)
- (معنا هو دائماً معنا!)
- (أجل. هو دائماً مع عباده المخلصين. ولكن، أيسركما أن تكونا الآن في حضرته يحدثكما وتحدثانه؟)
فيصيح فيلمون:
- (أنت هو زيوس. تقدست. تقدست)
ويسجد الرجل وزوجه، وما تفتأ تأخذهما رعدة شديدة
- (أجل. أنا زيوس. أتيت أبتلي هذه القرية. وهذا ولدي هرمز. انهضا. والآن. ستزلزل
الأرض زلزالها فلا تنزعجا. . .)
ووقف زيوس، وأشار بيده إشارة خفيفة إلى الشرق، ثم إلى الغرب، ثم إلى الجنوب، ثم إلى الشمال؛؛؛ ثم نظر إلى فوق وتمتم بكلمات، وجلس
وما كاد يفعل حتى رقصت الأرض، وسمع كأن الجبل القريب يندك، وكأن الصواعق تنقض على المنازل فتقوضها، وتنقلب القرية إلى جحيم ملتهب، وكلما أطل فيلمون أو أطلت امرأته من الكوة سرت فيهما رجفة أروع من رجفة الزلزال، فيطمئنهما زيوس
- (الكوخ يا إلهي! أنا رجل فقير!)
- (مال كوخك يا فيلمون!)
- (إذا انهدم عشت في العراء!)
- (لا عليك! فلن تقوض الزلازل إلا قصور العتاة؟)
وأشرقت الشمس، فنهض الإله الأكبر، ونهض الجميع معه. وما كاد فيلمون يفتح باب كوخه الحقير حتى أخذه العجب وارتد على عقبيه مذعوراً:
- (مولاي! لمن هذا القصر المشيد؟)
- (هو لك يا فيلمون، أمرت الآلهة فبنى لك في ساعة السحر جزاء كرمكما. هلما نشهد غرفاته)
وانطلق الجميع يتنقلون في غرفات القصر وردهاته، وكلما مر فيلمون وزوجه بتمثال إله سجدا واخبتا، حتى إذا كانوا في أكبر ردهات القصر، وقف زيوس وقال:(فيلمون! هذا هيكلي! وقد جعلتك كاهني الأكبر، فتمن الآن علي، فسأجيبك إلى كل ما تطلب)
فتبسم فيلمون وقال: (مولاي! الشباب يا مولاي! ليعد الشباب إلي وإلى زوجي بوسيز، ولنعش طويلاً فإذا جاء وعدك فلنمت في يوم واحد في ساعة واحدة!) وسجد يقبل الأرض بين قدمي الإله الأكبر!
فقال زيوس: (انهض يا فيلمون فطلبك مجاب، وستعيشان راغدين!)
وسلم الإلهان وغابا عن الأنظار، وخرج فيلمون وزوجه ليريا إلى القرية، فلم يشهدا شيئاً غير بحيرة تعج أمواجها، وجزيرة كبيرة خضراء في وسطها قصرهما المنيف! فآمنا بزيوس وسبحا له!
وعاشا طويلا، وماتا في يوم واحد وساعة واحدة، ونبتت دوحتان عظيمتان من أشجار السرو أمام باب القصر تخلدان ذكراهما في العصور
دريني خشبة
البريد الأدبي
المؤتمر المصري الثالث للطلبة المصريين بإنجلترا
أقام الطلبة المصريون في إنجلترا مؤتمرهم الثالث من مساء يوم الأربعاء 10 يوليه إلى يوم الاثنين 15 منه، فحاضر في اليوم الأول الملازم حسن بكير في البوليس المصري والأمن العام: حالتهما وما يجب أن يكونا عليه؛ وفي يوم الخميس ألقت الآنسة أسماء فهمي محاضرة عن (علاقة علم النفس بالتربية ومقاييس الذكاء)، وكذلك ألقى الأستاذ عبد العزيز أمين عبد المجيد محاضرة عن (عيوب النظام المدرسي الحالي بمصر ووسائل إصلاحه)؛ وفي يوم الجمعة تكلم الأستاذ يحيى نامق عن (حركات الشباب المصري وكيف يجب أن تتجه)، والأستاذ حسن محمد الشعراني عن (رقي الصناعة في مصر)، ثم تحدثت الآنسة حنينة خوري عن (الحبشة وعاداتها وعلاقتها بمصر)؛ وفي يوم السبت تكلم الأستاذ إبراهيم حسن الموجي عن (فضل الإسلام في رفع منزلة المرأة)؛ وفي يوم الأحد تكلم الأستاذ سليمان أحمد حزين عن (مشكلتي السكان والدفاع القومي ومكانتهما من سياستنا التعليمية)، والأستاذ يحيى عبد السلام العلايلي عن (علاقة الطلبة المصريين بإنجلترا وكيف يجب أن تكون)
وفي يوم الاثنين انعقد المؤتمر بشكل جمعية عمومية لمراجعة النتائج التي وصل إليها في المحاضرات السابقة ولمناقشة شؤون المؤتمر الرابع المقبل وانتخاب اللجنة المعدة لإدارته
بين الرصافي والريحاني
نشرنا في عدد مضى ما رواه الريحاني عن الرصافي في كتابه الجديد (قلب العراق) وانتظرنا كلمة الأستاذ الرصافي في هذه الرواية. وقد قرأنا أخيراً في جريدة الاستقلال البغدادية كتاباً من الأستاذ الرصافي ينكر فيه كل ما عزاه الريحاني إليه إنكاراً يؤيد تعليقنا على هذا الخبر أو ذاك، وهذا كتاب الرصافي بنصه:
حضرة الأستاذ الفاضل صاحب جريدة الاستقلال الغراء أرجو نشر الكلمة التالية في جريدتكم ولكم الفضل والشكر:
أطلعني بعض معارفي على ما رواه الريحاني عني في كتابه قلب العراق فعجبت منه واستغربته كل الاستغراب. لقد اجتمعت بالريحاني عدة مرات في أزمنة مختلفة، ومجالس
مؤتلفة وغير مؤتلفة، تجاذبنا فيها أطراف الأحاديث من كل نوع، ولا أتذكرها اليوم لمرور الزمان ولاختلال ذاكرتي بالنسيان، فأنا من هذه الناحية لا أستطيع أن أناقشه في صحة تلك الأقوال التي أسندها إلي ورواها عني. ولكنني الآن أستطيع أن أنفي نفياً باتاً صحة كثير مما رواه في كتابه المذكور بدليل أن في تلك الأقوال ما لو قاله اليوم أحد غيري لأنكرته عليه أشد الإنكار. إذن فكيف أقول للريحاني ما أنكره لو قاله غيري؟ وفي الأخير أقول: إن كان كل ما يرويه الريحاني في كتبه من هذا القبيل فويل للحقيقة منه، وويل له من الحقيقة!
معروف الرصافي
معهد شرقي في برلين
من أنباء برلين الأخيرة أن الحكومة الألمانية قررت إنشاء معهد جديد يسمى (المعهد الشرقي) يلحق بجامعة برلين ويعنى بدراسة اللغات الشرقية ومسائل الشرق وحضاراته. وسيدمج في هذا المعهد الجديد، معهد اللغات الشرقية القديم الذي كان ملحقا بجامعة برلين، ومعهد اللغات السامية والعلوم الإسلامية، والمعهد الصيني، والمعهد الهندي الألماني. أما المعهد الياباني المخصص لدراسة المسائل والحضارة اليابانية، فسيبقى مستقلاً كما هو الآن نظراً لمهمته الخاصة
وفي هذا النبأ ما يلفت النظر، لأن الحكومة الألمانية الحالية وهي الحكومة الهتلرية قد اضطهدت حركة الاستشراق، أعني المباحث الشرقية والإسلامية، اضطهاداً شديداً، لأن معظم أقطاب المباحث الشرقية والإسلامية من اليهود، وقد طاردت الحكومة الهتلرية العلماء اليهود أشد مطاردة وشردتهم من معاهدهم، وركدت بذلك حركة الاستشراق في ألمانيا؛ وكانت هذه الحركة زاهرة بألمانيا قبل الحرب لأنها كانت يومئذ كانت تجيش بالمطامع الاستعمارية في الشرق وتشجع المباحث الشرقية والإسلامية وتغذيها بالمال والبعوث؛ ثم ضعفت هذه الحركة بعد الحرب، وفترت همم العلماء المستشرقين لتخلي الحكومة عنهم وقصورها عن إمدادهم بالمال اللازم؛ فهل نفهم من إنشاء (المعهد الشرقي) الجديد أن الحكومة الهتلرية تزمع العودة إلى تشجيع المباحث الشرقية، وأن لهذه الخطوة علاقة بمطامعها السياسية والاقتصادية فيما وراء البحار؟ هذا ومن جهة أخرى فالمعروف أن
الحكومة الهتلرية تقيم سياستها على فكرة الجنس، وأنها تنادي بانحطاط الأجناس الشرقية وعدم كفايتها (لإنشاء الحضارات) وتعتبرها فرائس مشروعة لاستعمار الجنس الآري إلى آخر ما هنالك من مبادئ ومزاعم جديدة يعمل الهتلريون على بثها وتدعيمها؛ ولذا فإنا نجد ما يدعو إلى التأمل في اهتمام الحكومة الهتلرية بإنشاء (المعهد الشرقي)
عميد أطباء فرنسا
من أنباء فرنسا أن الدكتور الكسندر جنيو عميد الأطباء الفرنسيين سناً قد توفي في سن الثالثة بعد المائة؛ وأنه لبث محتفظاً بصفاء ذهنه وقوة حواسه حتى اللحظة الأخيرة. وقد كان مولد هذا الطبيب المعمر في سنة 1832؛ ودرس الطب، ونال أجازته سنة 1857؛ ثم نال شهادة العالمية الطبية سنة 1869، واشتهر بنبوغه في الجراحة؛ وانتخب عضواً في أكاديمية الطب، ثم رئيساً لها، وانتخب أيضاً رئيساً لجمعية الجراحين؛ وله مؤلفات قيمة في فن الجراحة ما زالت حجة في بابها. وقد كان الدكتور جنيو طوال حياته شهيراً ذائع الصيت لا كطبيب نابغ فقط، ولكن كرجل اجتماع جم الفكاهة، وقد اشتهر بالأخص برسالة ألفها في أواخر حياته عن (طول الحياة)، وما يجب على الإنسان أن يتبعه من نظم التغذية والرياضة إذا أراد أن يعيش مائة سنة، وخلاصة نصحه في ذلك أنه يجب الامتناع عن الإفراط في أي شيء، في العمل أو في الراحة أو في الطعام أو في الشراب؛ ويجب الامتناع بالأخص عن التدخين والخمر وغيرهما من المواد والعناصر المهلكة التي تبثها المدنية الحديثة
المرأة والاستكشاف
نظمت أخيراً في إنكلترا بعثة استكشافية جديدة لارتياد (الأرض الخضراء)(جرينلاند) في منطقة المنجمد الشمالي؛ ورحلت البعثة فوق السفينة القطبية الشهيرة (كوست) وهي سفينة السير أرنست شاكلتون الذي اشتهر باكتشافاته في تلك المناطق، وعهد برئاسة البعثة الجديدة إلى الأستاذ واجر؛ وبين أعضائها عدد ن العلماء القطبيين المعروفين بين إنكليز ودانماركيين ومنهم الأستاذ كورتولد الذي اشتهر بمخاطراته في الجزيرة الخضراء وقضى بها وحده شتاء كاملاً فوق الجليد في سنة 1931. ومما يلفت النظر أن هذه البعثة القطبية
ترافقها أربع سيدات هن زوجات أربعة من الأعضاء، وسيقضين الشتاء مع البعثة في الجليد، ويحتملن نفس المشاق التي يحتملها باقي الأعضاء. وقد سافرت البعثة من ثغر ابردين في اسكتلندا في أوائل شهر يوليه صوب البحار القطبية، ويتولى تسيير السفينة بحارة من النروجيين الذين عرفوا بخبرتهم في هذه البحار، واحتمالهم لهذه الأجواء
وعلى ذكر مخاطرة المرأة في ارتياد المجاهل والوهاد الخطرة في سبيل الغايات الاستكشافية نذكر أن امرأة بمفردها هي الدكتورة ماري آكلي أرملة المثال الشهير كارل آكلي تزمع السفر بمفردها إلى مناطق أفريقية الوسطى في روديسيا وفي سوالي لاند وزولولاند لدرس حياة الحيوان في تلك الأنحاء، ولتعرف رسوم القبائل وعاداتها الوثنية. وقد سبق أن قامت الدكتورة آكلي بمثل هذه الدراسات في بعض أنحاء أفريقية الجنوبية، وقامت أيضاً برحلات شاقة في الجبال الكندية بأمريكا، ولها اكتشافات معروفة في تلك الأنحاء استحقت من أجلها عدة أوسمة وتقديرات علمية
خليل بك مطران وفرقة التمثيل الحكومية
أصدرت وزارة المعارف قراراً بتعيين الشاعر الكبير الأستاذ خليل بك مطران مديراً للفرقة التمثيلية التي اعتزمت الحكومة إنشاءها تنفيذاً لاقتراح لجنة ترقية المسرح المصري بمرتب قدره خمسون جنيهاً في الشهر؛ وهو تعيين معناه الجد في إنهاض هذا الفن الذي عبثت به الأهواء والفوضى فخرجت به عن سبيل النهضة العامة
الكتب
قواعد التحديث
من فنون مصطلح الحديث
نشره (مكتب النشر العربي بدمشق)
للأستاذ الأمير شكيب أرسلان
اطلعت في مجلة (الرسالة) المصرية على كلام للأخ الأستاذ العلامة محمد بك كرد علي ينتقد فيه كتاب (قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث) للمرحوم العلامة الأستاذ الشيخ جمال القاسمي بأنه كتاب قد جمع جمعاً ولم يأت صاحبه فيه إلا برأي واحد وهو ترجيح قول الجلال الدواني على قول الشهاب الخفاجي في عدم التسامح بالأحاديث الضعيفة ولو كانت في مقام الترغيب في الفضائل. وقال: إن طريقة التأليف في عهد الارتقاء العلمي هي أن يأتي كلام المؤلف أكثر من شواهده، وأنه لما ضعفت ملكة التأليف أصبحت الكتب عبارة عن نسخ أقوال من سلف، وربما كان الشيخ جمال القاسمي آخر من جرى على هذهالطريقة وهي بسط أراء غيره؟ وأنه قد حدثت في التأليف طريقة جديدة اليوم وهي أن المؤلف في فن يقتصر على لباب ما قرأ فيه، ويدعم أقواله بشواهد من كتب القدماء أو المحدثين بأسلوب سهل سائغ خال من الخطابيات والسجع؟
فالأستاذ كرد علي ينتقد هذا التأليف رأساً من جهة أنه ليس على طريقة التأليف العصرية التي هي بزعمه إلا اكتفاء بالإشارة إلى ما كتبه القدماء أو التلخيص لأقوالهم بدون التزام النقل إلا ما جاء في سبيل التأييد والدعم. ثم أنه لم يكتف بنقد الكتاب نفسه بل أنتقد ناشره بأنه قدم له أربع مقدمات، ثلاثة لبعض المعاصرين ورابعة للمؤلف، وأن هذه المقدمات استغرقت أكثر من عشرين صفحة وما خرج الكلام في بعضها عن الدعاية والتمجيد؟ وكأن الأستاذ كرد علي يريد انتقاد أخيه هذا في المقدمة التي من قلمي والتي اذكر فيها ما أعرفه عن الشيخ جمال القاسمي رحمه الله. وبعبارة أخرى قد ثقل على أخينا الأستاذ ما صدرنا به كتاب (قواعد التحديث) من مناقب مؤلفه، ولقد كنت أتمنى ألا يكون الأستاذ كرد علي جعل من هذا موضعاً لنقده. وأنا أتمنى الآن أن أكون أسأت فهم كلامه. فأما من جهة مؤلف هذا
الكتاب الشيخ جمال القاسمي فأنه من مفاخر الشام بالاتفاق، وممن سار ذكر فضائلهم في الآفاق، وليس محمد بك كرد علي بالذي يجهل ذلك أو يقدر أن يماري فيه، وأني لجد مستغرب منه ضيق صدره بثنائي على رجل لا يتمارى أثنين في دمشق الشام في كونه من أفذاذ هذا العصر ومن العلماء الذين تحتج بمثلهم دمشق في كل مقام مباهاة
فأنا لم أكتب عن الشيخ جمال القاسمي إلا ما أعلمه وأعتقده، وإذا كان أخونا كرد علي يسمي ذلك (تمجيداً) فأن التمجيد في محله لا يكون موضع نقد، فأن لم يمجد الإنسان مثل الشيخ جمال القاسمي في علمه وإحاطته، وقوة حجته، ودماثة خلقه، ورقة طبعه؛ وسائر ما أمتاز به من خلال الخير الكثيرة، فيكون هو المقصر، وهو الذي يستحق النقد. ما كنت أحب أن يغمز الأخ كرد علي بي في مسألة كهذه، ولا أعلم لماذا فعل ذلك؟ وأما من جهة التأليف نفسه فأن الأستاذ الأكبر السيد رشيد رضا قد أعطاه حقه في إحدى المقدمات الأربع التي أشار إليها حضرة الأخ، وقد ذكر كل ما يلزم من بيان مزايا الكتاب وقال أنه لا يعرف كتاباً مثله في موضوعه وسيلة ومقصداً ومبدأ وغاية، ونظن أن السيد رشيد رضا هو من يضع الهناء موضع النقب، ولا يكون مخالفاً للواقع إذا قلت أنني أنا والأخ كرد علي لا نقدر أن نتكلم في علم الحديث إذا كان السيد رشيد رضا قد تلقف فيه كرة البحث
وبعد هذا فلست أرى ما يراه الأخ من أن القاسمي جمع جمعاً، وان الجمع في التأليف هو خطة عهد التأخر، بل قد وجد الجمع في كل من عهدي التقدم والتأخر. وفي أوربا اليوم كتب كثيرة لا يزيد فيها أصحابها على الجمع، وهم يتركون الحكم لأرباب النظر، وقد يوجد الإنسان في ظروف زمانية أو مكانية تمنعه من التصريح برأيه ومن الترجيح والترجيح لاختلاف أذواق من يخاطبهم، فيكون الجمع حينئذ هو أمثل الطرق، ويكون كل قارئ قادراً أن يستقي من هذا الجمع ما يستعذبه. فالشيخ جمال القاسمي كان يعلم ما في عصره ومصره من طبقات مختلفة ومنازع متباينة، وكان هدفه ألا يصادم مشرباً خاصاً ولا يحكم لمذهب على مذهب، بل يجمعها جميعا تحت راية الهدى النبوي، وينظم كلام ابن تيمية مثلاً إلى كلام الشعراني والشيخ الأكبر بحيث يكون كل من الطبقتين السلفية والصوفية واجدين في هذا الكتاب طلبتهم. وقد نسى أخونا الأستاذ كرد علي محنة الشيخ جمال القاسمي عام 1313 عندما اتهم بالاجتهاد هو والمرحوم الشيخ عبد الرزاق البيطار وآخرين من رفاقهما
واعتقلوا من أجل ذلك وأهينوا، فأصبح مثل الشيخ جمال وقد عضته الصراحة بأنيابها يتجنب الخوض فيما يؤدي به إلى نكبة، ويجد الاكتفاء بعرض الآراء أسلم، وربما أعلم أيضاً، لأن مثل هذه الآراء لا ينتهي الخلاف فيها، ولا تزال كل طائفة تجادل في كونها على حق إلى يوم القيامة. ففي بعض المواقف يكون السكوت أفصح من البيان، وأبعد عن مثار الشبهات لا سيما عندما يكون العالم الخبير بأمور عصره وشؤون قطره واثقاً بأن المصلحة هي في جمع الكلمة، وأن جمع الكلمة تحت راية الهدى النبوي لا يتأتى بالترجيح والترجيح والقول بأن هذا فاسد وهذا صحيح إلا في المسائل التي لا خلاف فيها بين العلماء والتي إنما يختلف فيها العوام. . .
فكتاب (قواعد التحديث) لو كان يؤتي من هذه الجهة لما أطراه صاحب المنار هذا الإطراء كله وهو في علم الحديث الجبل الذي لا يطاول والبحر الذي لا يساجل، كما أنه يعلم من طرق التأليف القديمة والمتوسطة والعصرية ما لا يقدر أن ينكره العلامة الكرد علي. ثم إن هناك غمزاً بالسجع، وليس الأخ كرد علي وحده الذي بدأ بهذا الغمز، بل كان أحد الأصحاب أطلعني على كتاب للدكتور زكي مبارك لمحت فيه كلاماً يشبه أن يكون استصغاراً للسجع أو استكباراً لأتيانه؛ وهذا باب جديد عجيب إذا أردنا أن ندخل فيه يطول بنا الأمر. فنكثر بالقول إن السجع وجد في الجاهلية وجاءت منه أمثلة لأفصح فصحائها، ثم جاء في القرآن الكريم، بل القرآن الكريم كله سجع وهو أبلغ الكلام العربي وغير العربي، وجاء في كلام الصحيح والمخضرمين ثم في الطبقة التي تليهم، ثم في التي تليهم ثم في التي تليهم إلى يومنا هذا. ولم نعلم أحداً عاب السجع من حيث هو وإنما يعاب السجع بالنسبة إلى المقام الذي يستعمله فيه الكاتب أي إنه لما كان السجع تقييداً بفواصل كما هو الشعر تقييد بقوافي فلم يكن السجع مستحسناً في المواطن التي يجب أن ينطلق فيها عقال القلم لكمال تأدية المعاني على وجهها. وأما في المواطن التي هي أقرب إلى الشعر منها إلى المباحث العلمية الصرفة، فليس السجع بالذي يعد سبة على العربية، بل هو من محاسن هذه اللغة. وإن كان يجب حذفه من هذه اللغة من أجل كونه طريقة قديمة ومن أجل أنه عبارة عن زينة كلامية فأن هذا يؤدي بنا إلى اقتراح حذف الشعر أيضاً، فأن الشعر هو من قبيل السجع طريقة قديمة وزينة كلام تتوخى فيها المحاسن اللفظية كما تتوخى المحاسن
المعنوية ويراعى فيه الوزن والقافية وهو من قبيل الموسيقى. والموسيقى هي أيضاً قديمة والطبيعة البشرية تألفها بل تحتاج إليها بل تهتف بها. والشعر ضرب من الموسيقى، فهو إذن من مقتضيات الطبيعة البشرية. والسجع وإن لم يكن مقيداً بكل تقييد الشعر فهو مقيد أيضاً بقيود لها مواقع في النفوس، وهي في محلها مطربة مستعذبة ولا غبار عليها، ولا يقدر أحد أن يقول إنني أنا مفرط في هذا المذهب لأنه ليس لأحد من الكلام المرسل أكثر مما لي، ولكني لا أزال أرى السجع حلية الكلام العربي عندما يكون في محله، وذلك مثل مقدمات الكتب ومثل الخطب التي تلقى على الجماهير. وإن العرب قد اصطلحوا على السجع في أسماء الكتب ولم يخطئوا في ذلك لأن الكلام المسجع أعلق في الذهن من غيره. وعسى كلامي هذا يكون مقبولاً عند أخي الأستاذ الكرد علي، ولا تتأثر به آصرة الإخاء القديم الذي بيننا والذي لا يمكن أن يطرأ عليها ما يوهنه مهما كان السبب ثقيلاً. فكيف إذا كان خفيفاً. وإن أدري فقد يكون أراد أن يداعبني ولا تكون هذه أول مداعبة بيننا
جنيف
شكيب أرسلان