الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 11
- بتاريخ: 15 - 06 - 1933
من بريد الرسالة
جواب الآنسة حياة
وكتاب آخر فرنسي، أنيق الشكل، جيد الخط، رائق الأسلوب، هادئ البيان، أتانا من الآنسة حياة!! فعجبت من إصرار هذا اللسان الأجنبي على التدخل الفضولي بين لسانين عربيين! ولكني لم أكد أسير في قراءته حتى تساير عن نفسي العجب، وتراجع عن وجهي القطوب، واتضح في ذهني العذر، وملكتني سورة من الحنق المر على نُظمنا التربوية والتعليمية التي شوهت في النشء عواطف الجنسية، وشتت في الشعب معاني الوحدة، وأخفقت كل الإخفاق في تكوين أمة واحدة النزعة والوجهة والثقافة.
تقول الآنسة الفاضلة: (. . . نعيت عليّ أني كتبت إليك بالفرنسية، والسبب في ذلك بعيد كل البعد عن التظرف والحذلقة والله يعلم وصواحبي يشهدن بما كان بيني وبين الراهبات المعلمات من الجدل العنيف كلما تعرّضن لديننا بالغمز، أو لتاريخنا بالعبث أو للغتنا بالزراية. . إنما أنا ومثيلاتي ضحية من ضحايا نظام مدرسي لم يقم ألا لتعليم الفتى (ميكانيكية) الحكومة. لأن قيامه لهذه الغاية جعل من طبيعته إغفال أمر البنت، فلجأ بها أولياؤها إلى المدارس الأجنبية، فنشأت هذه النشأة البتراء المشوبة، لا تعرف عن دينها إلا التشبه، ولا من لغتها وأدبها غير القشور.
لو كنت كتبت إليك بعربيّتي لحسبتني طفلة تجمجم بالكلام ولا تبين! ويكون من وراء ذلك انك لا تفهمني ولا تفهم عني، فكتبت إليك بالفرنسية لأن الإنسان يميل بطبعه إلى جهة القدرة لا إلى جهة العجز، ويؤثر بغريزته جانب الكمال على جانب النقص، ولئن تعرّضت بذلك إلى غضبك، فقد نجوت ولله الحمد من سخرك، وسخطك عليّ أحب إلى كرامتي من استخفافك بي.
ما كان أسعدني لو ملكت من لغتنا ما تملك فترجمت عن نفسي بمثل ما ترجمت عني في الفقرات التي نشرتها من كتابي.
أنا الآن أعالج في نفسي هذا النقص بالدرس المستمر لآداب العربية، وتكاد (الرسالة) أن تكون الوسيلة الوحيدة لهذا الدرس، فأنا أستوعب أبوابها المختلفة، وأتذوّق أساليبها المتنوعة، ويخيّل إلي أني قطعت إلى غايتي مرحلة كبيرة. ولكني أجد في (الرسالة) نفسها
أن زعماء الكتّاب لا يزالون ينتقدون زعماء الكتّاب في مبادئ النحو وبسائط التراكيب!! فليت شعري أأقنط من دراستي أم أستمر؟. . . .)
والآنسة الفاضلة تسمح لي أن أقف هنا في ترجمة كتابها لأعجل بالنصيحة لها أن تستمر، فأن العربية لاطراد قواعدها في القياس، واتفاق تراكيبها مع الطبع، أبسط اللغات نحواً وأقربها غاية. ولكن آفتها يا سيدتي منهاج سيئ، ومعلم عاجز، وتلميذ كسول!! وستقرئين في الرسالة بعد صفحات من هذه المقالة بحثاً قيّماً في ثقافة المرأة للآنسة أسماء، وشعراً منثوراً في التصوف للآنسة ناهد، فتجدين في صياغتهما الحسنة، وعبارتهما الصحيحة، وأسلوبهما الرقيق، مشجعاً لك ومصدقاً لي. .
جواب الآنسة عفيفة
أجابت الآنسة عفيفة عن تعليقي الموجز بكتاب إنكليزي مسهب، وقد فضّلت أن تكتب جوابها بالإنكليزية لأنها تتهم بيانها العربي بالقصور لقرب عهدها بالكتابة، وتعتقد لذلك إننا أسأنا الفهم فأسأنا الإجابة، وبيان الآنسة سليم من القصور، بريء من العي، لأننا فهمناه على الوجه الذي أرادته. وهو رسالة غزلية إلى امرأة عن لسان رجل. أما القصد من اتخاذ الآنسة (دور) الرجل في موضوع غرامي - وهذا موضع الإنكار - فلم تذكره الكاتبة في حاشية الكتاب، ولم نفهمه نحن من طبيعة الشيء، فحملناه معذورين على العبث الذي نربأ بفتياتنا عنه.
أرادت الآنسة أن تكشف اليوم عن ذلك القصد في هذا الجواب، فقالت: إنها لم ترد أن تتحدث عن الحب، وإنما قصدت أن تضع نموذجاً للرسائل الغرامية في اللغة العربية يكون مبنياً على الشعور الصادق والمنطق السليم، لأنها تلقت رسالتين: واحدة من صديقة إنكليزية، وأخرى من صديقة مصريّة، فوجدت الأولى صورة صادقة لحياة الكاتبة، وحال البيئة، وروح الجماعة، من ألعاب وأصحاب ودرس، ولم تجد في الثانية إلا عواطف مبهمة، وجملاً مزوّرة؛ وأمثالاً محفوظة. ثم قرأت كتابين أحدهما للكاتبة (جين وبستر) وثانيهما للكاتب (سليم عبد الأحد) وموضوعهما (رسائل في الحب)، فوجدت الفرق بين هذين الكتابين، هو الفرق بين تينك الرسالتين. وأنا أحترم تفسير الآنسة الأديبة لقصدها وأسلمه من غير مناقشة، وأعتذر إليها إذن من نقد في غير محله، ولوم وجهته إلى غير
أهله. ثم استميح سيدتي الأذن بمناقشة هذه الطريقة من حيث الفن. إنك تنتقدين ما قرأت من الرسائل العربية، لأنها تصدر من اللسان لا من القلب، وتنقل عن الحافظة لا عن الطبع، فهل تعتقدين أنك صدقت في نقل شعور العاشق حينما أخذت (دوره) في رسالتك وأنت لا تحسّين هذا الشعور ولا تدركين كنهه؟ لعلّك لو كنت أخذت (دور) الحبيبة أو (دور)(الخطيبة) لكنت أقرب إلى الصدق وأدنى إلى الإجادة، على أن هذه النماذج المصنوعة يا سيدتي أعجز من أن تعير الجامد روحاً والبليد حساً والعي إبانة، إن الفكرة أو العاطفة إذا أشرقت في الذهن أو في النفس وجدت الكلمة وخلقت الصورة على غير مثال ولا قاعدة، ذلك لأن الشعور وحده يوجد الفن كما ترين في توفيق الحكيم، ولكن الفن وحده لا يوجد الشعور كما ترين في عبد الأحد. وإن في الأدب العربي الحديث طرفة من هذا النوع الذي تريدين، هي آية من آيات الفن في دقة الصنعة، ولعلها لا تقل جمالاً عن تماثيل فدياس وصور رفائيل، ولكنها كهذه التماثيل وتلك الصور ينقصها شيء واحد هو كل شئ: ذلك هو الروح!! هل قرأت (رسائل الورد) للأستاذ الرافعي؟ أرجو أن تقرئيها، وأن تكتبي إليّ رأيك فيها. . .
أحمد حسن الزيّات.
من طه إلى هيكل
أخي العزيز:
قرأت كتابك الممتع الذي تنشره الرسالة اليوم وستنشره السياسة بعد غد وسيقرؤه الناس مرتين، فَأْذَن لي في أن أشكر لك هذا الكتاب أجمل الشكر لأنه راقني، وأثار في نفسي من حبك، والإعجاب الشديد ببراعتك ولباقتك، ما تثيره آثارك الأدبية كلها في نفسي حين اقرأها، وَأْذَن حقاً لي في أن أعود فأثني عليك لأني لن أتعب من الثناء عليك، ولن يعنيني أن أدهشك أو أخجلك، وإنما تعودت أن أقول الحق سواء عليّ إرضائك حتى أنتهي بك إلى الخجل، أم أسخطك حتى أنتهي بك إلى الثورة، أو إلى غضب هادئ فيه مكر، هو أشد من الثورة وأحدث، فاخجل يا صديقي ما وسعك الخجل، وادهش يا صديقي ما وسعك الدهش، واغضب يا صديقي ما استطعت احتمال الغضب، فأنت كاتب بارع، وأديب فذ كثير الإنتاج كأنك الجني، قد أخذت تحب الإعلان بعض الشيء في هذه الأيام حتى أنك لتنشر ردك عليّ مرتين. وفيك إسراع إلى الحكم وفتور عن البحث ورغبة عن الاستقصاء تضطرك أحياناً إلى الخطأ وتصرفك أحياناً عن الحق. وفي أسلوبك الرائع البارع وبيانك الفائق الرائق شيء من الضعف يقربه أحياناً من الابتذال. ويخيل إلي أيها الصديق العزيز أن هذه الملاحظة وحدها هي التي آلمك بين الملاحظات الأخرى التي أخذت بها كتابك ثورة الأدب، فأذن لي في أن أصر عليها وألح فيها. وأذن لي في أن أسر أيضا على كل رأي فيك لا أغير منه حرفا، ولاأنقص منه شيئا. فأنت تجيد حتى تصل إلى الإبداع، وتضعف حتى تشرف على الابتذال. ولك أن تلومني ما شئت لأني لم أهدك إلى مواضع الضعف في أسلوبك فقد يئست من هدايتك، لأنك كما تقول محب لأسلوبك كما هو، مشغوف به على علاته، لا تريد أن تغيره ولا أن تصلح مواضع النقص فيه، وكل ما أخشاه أيها الصديق إنما هو أن تتهمني بالإسراف عليك والغلو في نقدك، وقد كنت هممت أن أضرب الأمثال من ثورة الأدب لضعف أسلوبك فيه أحيانا، ولكني كرهت ذلك واكتفيت بالإشارة. فأما وأنت لا تحب الإشارة ولا ترضى إلا التصريح. فأْذن لي في أن أضع يدك على طائفة من مواضع الضعف لا في ثورة الأدب بل في هذا الكتاب القيم الذي ترد به علي في الرسالة اليوم وفي السياسة بعد غد.
فأنت تقول في هذا الكتاب (ولست أخفيك) ولعلك توافقني على إن الخير في أن تقول
(ولست اخفي عليك) وأنت تقول (ويرى أنها ما تزال لما تهدأ) ولعلك توافقني على أن لما هنا ثقيلة جدا مفسدة للأسلوب لوقوعها هذا الموقع النابي بين فعلين وأنت تقول (إذ وضعت تحت نظرك هذه العبارة) وأظنك توافقني على إن تحت نظرك هذه قريبة جدا إلى الابتذال. وأنت تقول (لن أرضى لنفسي أن أكون إلا أنا). ولعلك توافقني على أن الصواب إلا إياي.
ومثل هذا كثير أيها الصديق العزيز في هذا الكتاب وفي ثورة الأدب. ولعلك ترى إن الخطأ والابتذال شيء وان البساطة والإيجاز والقوة شيء آخر. وانك تستطيع، إن أردت، أن تكون بسيطا موجزا قويا دون أن تخطئ أو تدنو من الابتذال. أما بعد فقد أعجبني منك أيها الصديق انك سجلت في كتابك على ثنائي عليك كله تسجيلا. ففيم كان هذا التسجيل؟
أخائف أنت أن أنساه؟ وكيف أنسى ما سجلت المطبعة؟ أخائف أنت أن أنكره؟ فثق بأني قد أثنيت عليك صادقاً وما تعودت أن أعطي باليمين وأسترد بالشمال؟ بعض هذا المكر وبعض هذا الدهاء. فالأمر بينك وبيني أرفع من المكر وأمتن من الدهاء وأوضح من أن يحتاج إلى التسجيل والتشديد في الحساب.
أما عد فهل تأذن لي في ملاحظة يسيرة جدا كنت أود لو لم احتج إليها، ولكن حياة الأدباء في هذه الأيام تضطرني إليها. كم أحب للأدباء ألا يضيقوا بالنقد وألا يحفلوا بالرد عليه إلا أن تدعو إلى ذلك حقيقة علمية لا ينبغي إهمالها فماذا يعنيك أن يحسن رأي الناس أو يسوء في أسلوبك، فإن كان هذا يعنيك أو يؤذيك فالخير في ان تجعل هذا سرا بينك وبين نفسك لا أن تعلنه إلى الناس.
وأنا أرجو أيها الصديق العزيز أن تقبل مني تحية كلها الحب والإعجاب.
طه حسين
إلى الأستاذ توفيق الحكيم من الدكتور طه حسين
سيدي الأستاذ
لست أدري أيعنيني حقا ويعني أصحابي، أن نعرف رأي الجيل الجديد
في جهدنا الأدبي وما أحدثنا من أثر في حياتنا الأدبية الجديدة. لأن
العلم الصحيح برأي المعاصرين لا سبيل له، أو لا تكاد توجد السبيل
التي توصل إليه. أو قل أن هذا الجيل الجديد نفسه قد يشق عليه جدا
أن يصور لنفسه فينا رأياً صحيحاً مستقيماً بريئاً من هذه العواطف
الحادة الجامحة التي تسيطر على نفوس الشباب، وتؤثر أشد التأثير
فيما يكونون لأنفسهم من آراء في الكتاب والشعراء المعاصرين. فهم
بين معجب يدفعه الإعجاب إلى الإغراق في الثناء، وبين ساخط يدفعه
السخطإلى الإغراق في الذم. وأكاد أعتقد أن ليس من اليسير لكاتب أو
شاعر أن يعرف رأي الناس فيه حقا، لأن هذا الرأي لا يظهرواضحا
جليا بريئا من تأثير العواطف والأهواء والظروف، إلاحين يصبح
الكاتب أو الشاعر وديعة في ذمة التاريخ. ومع ذلك فأنا أشكر لك أجمل
الشكر رأيك في أصحابي وفيّ، وثناءك على أصحابي وعليّ ويسرهم
كما يسرني أن يكون رأيك فينا صحيحاً، وأن يكون ثناؤك علينا خالصاً
من الإسراف في الحب الذي يدعو إلى الإسراف في التقدير.
لقد قرأت كتابك الممتع فترك في نفسي آثارا مختلفة، ولكن أظهرها
الإعجاب بهذا التفكير المستقيم العميق، وهذا الاطلاع الواسع الغني،
وهذا الاتجاه الخصب إلى تعرف الروح الأدبي لمصر في حياتها
الماضية والحاضرة والمستقبلة. وقد دفعني إعجابي بكتابك القيّم إلى ألاّ
أختص به نفسي فآثرت به قرّاء الرسالة وأذعته فيهم. وأنا واثق بأنهم
قد رأوا فيه مثل ما رأيت وحمدوا منه مثل ما حمدت، وأثنوا عليك
بمثل ما أثنيت، وهموا أن يناقشوا بعض ما جاء فيه من الآراء كما
أريد أنا الآن أن أناقشها. ولست أدري أيقف أمر كتابك هذا عند إذاعته
في الرسالة وردي عليه، أو يتجاوزهما إلى مناقشة طويلة عريضة،
يشترك فيها كتاب مختلفون ونقاد كثيرون. فكتابك خليق بهذه المناقشة
لأن أسلوب التفكير فيه جديد قيّم، ومهما أفعل فلن أستطيع أن أتناول
كل ما أشعر بالحاجة إلى تناوله بالنقد والتمحيص من آرائك الكثيرة
المتباينة التي أفعمت بها كتابك إفعاماً. ولكني أقف عند طائفة قليلة من
هذه الآراء، لا أستطيع أن أدعها تمضي من غير نقد ولا تعليق.
وأول ما أقف عنده من هذه الآراء رأيك فيما تسميه شؤون الفكر في مصر، قبل الجيل الذي نشأنا فيه، فقد ترى أن هذه الشؤون كانت كلها محاكاة وتقليداً وتأثراً للعرب، واحتذاءً خالصا لمثلهم الأدبية، حتى جاء الأستاذ لطفي السيد ففتح لنا طريق الاستقلال الأدبي. وفي رأيك هذا شيء من الحق، لكن فيه شيئا من الإسراف غير قليل، فلست أعتقد أن الشخصية المصرية محيت من الأدب المصري محواً تاماً في يوم من الأيام، ولست أعتقد أن كلمة أنا لم يكن لها مدلول في لغة المصريين، ولست أعتقد أن المصريين كانوا في شبه إغماء حتى أقبل هذا الجيل الذي تتحدث عنه، فرد عليهم الحياة والنشاط. كل ما يمكن أن يصح لك هو أن الشخصية المصرية في الأدب كانت ذاوية ذابلة إلى حد بعيد في وقت من الأوقات لعلّه يبتدئ بآخر عصر المماليك. ولكن هذه الشخصية على ذبولها وفتورها لم تمت ولم تمح، بل ظلت حية تتردد أشعتها الضئيلة في آثار الكتاب والشعراء والعلماء، إلى أن كان العصر الحديث. ويكفي أن تقرأ الأدب المصري في أيام المماليك وقبل أيام المماليك، لتعلم أنّ شخصيتنا الأدبية كانت قوية منتجة، وكانت جذابة خلاّبة في كل فرع من فروع حياتنا
المعنوية. كانت في الشعر بنوع خاص أقوى منها في هذه الأيام، وأقرأ ديوان البهاء زهير فستجد صورتك فيه واضحة، وستجد نفسك فيه ظاهرة، وستجد عواطفك فيه ممثلة، وستجد هذا كله أشد جلاء وقوة عند هذا الشاعر القديم منه عند شعرائنا المعاصرين. والأمر ليس مقصورا على هذا الشاعر، بل هو شائع في شعرائنا جميعا قبل فتح الترك لمصر. وهو كذلك شائع في كتّابنا وعلمائنا، ولو قد كانت شخصيتنا ضعيفة فانية وفاترة واهية، لما أتيح لنا أن نؤدي الحضارة الإسلامية ونحفظها من الضياع حين أخذ التتار والأوروبيون عليها أقطار الشرق والغرب. ولم تكن هذه الشخصية في عصور الضعف والوهن خفية ولا غامضة، فأنت تجدها واضحة في شعر هؤلاء الشعراء المتأخرين الذين عاشوا في أول القرن الماضي وفي أثنائه، والذين لا نحب شعرهم ولا نطيل النظر فيه، والذين يخيل إلينا انهم كانوا يقلّدون فيسرفون في التقليد، ولكنهم برغم هذا التقليد الشديد لم يستطيعوا أن يمحوا مصريتهم ولا أن يخفوها. ولست أستطيع أن أضرب لك الأمثال هنا فذلك شيء لا ينتهي، ولكني أؤكد لك أن حكمك على هذه الشخصية المصرية في الأدب محتاج إلى التصحيح، وأنت قادر على هذا التصحيح، إن قرأت أدبنا المصري كما تقرأ الأدب الغربي وكما تقرأ الأدب العربي القديم، ستجد فيه تقليداً، وستجد فيه بديعاً كثيراً، ولكنك ستجد فيه نزعة مصرية واضحة تحسّها حيثما ذهبت، وأينما وجهت من أرض مصر، وتجدها عند المصريين المعاصرين الذين لم تخرّجهم الثقافة الأوروبية عن أطوارهم المألوفة، في الشعور والتفكير وفي النظر إلى الحياة والتأثر بها والحكم عليها. هذه النزعة صوفية بعض الشيء، فيها مزاج معتدل من الإذعان للقضاء والابتسام للحوادث، وفيها مزاج معتدل من حزن ليس شديد الظلمة، ولا مسرفاً في العمق، ومن سخرية ليست عنيفة ولا شديدة اللذع ولكنها على ذلك بالغة مقنعة، تمضي في كثير من الأحيان، ولعلك تجد هذه النزعة نفسها قريبا جداً منك. لعلك تجدها في أهل الكهف. فجيلنا إذن لم يحدث شخصية مصرية لم تكن، وإنما جلا هذه الشخصية وأزال عنها الحجب والأستار، وجيلنا لم يمنحها الحياة، وإنما منحها النشاط، وزاد حظها من الاستقلال وغيّر وجهتها، فلفتها إلى الأمام بعد أن كانت تصر على الالتفات إلى وراء، وليس هذا بالشيء القليل. وأنا معجب بآرائك في الفن المصري، وفي الفن الإغريقي، ولكني لا أحب لك هذا الإسراع إلى استخلاص الأحكام
العامة، وإقامة القواعد التي لا تثبت للنقد والتمحيص. وآية ذلك أنك أنت نفسك قد أحسست بعض هذا الإسراع فأصلحته حين قضيت على اليونان في أول الكتاب ثم قضيت لهم في آخره. وستر أنك أسرعت في الأولى وأسرعت في الثانية، وكنت خليقا أن تصطنع الأناة فيهما جميعا. فليس من الحق أن اليونان كانوا أصحاب مادة ليس غير، وليس من الحق أن روحية اليونان هذه التي أنكرتها في أول الكتاب، وعرفتها في آخره قد جاءتهم من إلههم ديونيزوس وحده. فحظ اليونان من الروحية قديم تجده بيّنا في شعرهم القصصي في الإلياذة والأوديسا قبل أن تظهر فيهم الآثار العنيفة لدين ديونيزوس، وأنت تعلم أن ظهور هذا الإله عند اليونان متأخر العصر، وأنه في أكبر الظن اله أجنبي جاءهم من تراقيا، وأنه لم يعطهم هذه الحياة الروحية العليا، التي نجدها عند سقراط وعند تلاميذه، وعند أفلاطون بنوع خاص، وإنما أعطاهم حياة روحية أخرى كلّها تصوف وكلّها طموح إلى عالم مجهول مختلط تحيط به الأسرار والألغاز، وتعبّر عنه الرموز والكنايات. وكان هذا النوع من الروحية ذا مظهرين مختلفين، أحدهما شائع مشترك، يساهم فيه الشعب كله، وأهل الريف منهم خاصة، والآخر مقصور على طائفة معينة، هي هذه التي تتعلم الأسرار وتشترك في إقامتها وإحيائها. فكان دين ديونيزوس أشبه شيء بطرق الصوفية عندنا، علمها الصحيح مقصور على خاصة المتصوفة، ونشاطها العملي الغليظ شائع في أفراد الشعب جميعاً. وقد كان أثر ديونيزوس في الأدب اليوناني قوياً عميقاً. وحسبك إنه إله التمثيل، ولكن روحية اليونان الخصبة حقاً، الممتازة حقاً، التي أزعم معتذراً إليك إنك لا تستطيع أن تجد لها شبيهاً ولا مقارباً في مصر الروحية. هذه الروحية اليونانية تجدها واضحة جلية، عذبة ساحرة عند فلاسفة اليونان من تلاميذ سقراط، وعند أفلاطون بنوع خاص. ستقول كما قال كثيرون من قبل: إن أفلاطون قد زار مصر، وأخذ منها. ولست أنكر روحية مصر، ولكني لا أعرف عنها شيئاً كثيراً، ولعلي مدين لليونان بما أعرفه من الروحية المصرية. ومهما يكن من شئ فأنت توافقني على أن اليونان لم يكونوا أصحاب مادة فحسب، ولم تأتهم روحيتهم من ديونيزوس وحده، وإنما اليونان مزاج معتدل من المادة والروح. هم الذين يحققون مثلك الأعلى من المزاوجة بين المادة والروح، والملائمة بين الحركة والسكون، وبين القلق والاضطراب، ولذلك كان اليونان هم الذين أخرجوا للإنسانية في العصر القديم
أرقى تراث في الأدب والفن والفلسفة.
قلت إني لا أنكر روحية المصريين. وأقول أيضا إني مؤمن بروحية الهنود، ومعترف بتأثير الروحية المصرية والهندية في حياة اليونان. ولكني لا أعرف من روحية المصريين شيئاً كثيراً لأننا لا نعرف للمصريين فناً ناطقاً، لا نعرف لهم أدباً بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. وأنت ترى معي أن الأدب هو أوضح مصور لحياة العقول والقلوب، لأنه يحقق مقداراً مشتركاً يمكن الاتفاق عليه، ويصعب الاختلاف فيه. فنحن إذا قرأنا الشعر أو النثر معاً، فهمنا فهماً واحداً أو فهمين متقاربين، ولكن الفن الصامت فن البحث والتصوير وما إليهما يثير في نفوس الناس معانٍ مهما تكن متقاربة متشابهة، فهي تختلف باختلاف الأشخاص والبيئات والعصور، ها أنت ذا تفهم من الفن المصري ما تفهم، ويشاركك فيه كثير من المثقفين ثقافة أوربية، ولكن أواثق أنت حقاً بأن قدماء المصريين كانوا يرون تماثيلهم وعماراتهم كما تراها، ويفهمونها كما تفهمها، ويستلهمونها كما تستلهمها؟ أرأيتك لو سألت مصرياً معاصراً لرمسيس عن رأيه في تمثال من التماثيل، أو عمارة من العمارات، أيقول فيهما مثل ما تقول؟ ومثل هذا يقال في الفن اليوناني، وفي كل الفنون الصامتة، فليس من الخير أن نعتمد عليها وحدها في تشخيص عقلية الأمم وروحيتها، إنما المشخص الصحيح للعقول والقلوب والأرواح هو الكلام، والكلام الجميل الذي نسميه الأدب ونقسمه شعراً ونثراً. فإلى أن يكشف لنا علماء الآثار المصرية عن أدب مصري قديم خليق بهذا الاسم أرجو أن تأذن لي في أن أشك في كثير جداً من هذه الأحكام التي يرسلها الأدباء والشعراء وأصحاب الفن على عقلية المصريين القدماء وروحيتهم، وبعدهم عن المادة، وقربهم من الروح.
كل هذه عندي أحكام يتعجل بها أصحابها، ويرسلونها على غير تحقيق، وإذن فقد يكون من الإسراف أن تتخذ هذه الروحية المصرية الغامضة التي يسرع إليها الشك، والتي تعجز عن أن تثبت للبحث، والتي توشك إن تكون خيالاً تخيلته أنت وتخيله أصحابك من الأدباء ورجال الفن أساساً لأدبنا المصري الحديث. فمن يدري لعل البحث عن آثار مصر أن يكشف لنا بعد زمن طويل أو قصير عن حياة مصرية قديمة تغاير كل المغايرةهذا الخيال الذي تحبونه تطمئنون إليه، ويخيل إليكم أن الفن المصري القديم يوحيه ويمليه وينطق به.
نحن إذاً أمام أمرين أحدهما عرضة للشك الشديد، لا نكاد نعرف منه شيئاً، والآخر لا سبيل إلى الشك فيه؛ أحدهما حياة مصر القديمة وحضارتها العقلية - إن صح هذا التعبير - والآخر حياة العرب وحضارتهم. فإلى أي الأمرين نفزع لنقيم عليه بناء أدبنا الجديد؟ أإلى الشك أم إلى اليقين؟ وهنا يظهر الخلاف بينك وبيني شديداً حقاً، فقد أصلحت أنت رأيك في اليونان، ولا أستطيع مناقشتك في أحكامك على المصريين لأنها أثر الإلهام الفني، ولكن رأيك في العرب وآثارهم في حاجة شديدة جداً إلى التقويم. فقد كنّا نرى أن ابن خلدون جار على العرب فإذا أنت أشد منه جوراً وأقل منه عذراً. فقد يسّر الله لك من أسباب العلم بالتاريخ القديم، وتاريخ القرون الوسطى وتاريخ الحياة الأدبية والفنية والعقلية لمختلف الأمم والشعوب ما لم ييسّره لابن خلدون. فإذا قبل من هذا المؤرخ الفيلسوف أن يتورّط في الخطأ لأن عقله الواسع لم يحط من أمور اليونان والرومان والهند والفرس والمصريين القدماء بما نستطيع نحن الآن أن نحيط به أو نمعن فيه. فليس يقبل منك أنت هذا الخطأ وليس يقبل من المعاصرين بوجه عام. وقد ذهب إلى مثل ما ذهبت إليه جماعة من المستشرقين منهم دوزي ورينان، وأحسبكم جميعاً تظلمون العرب ظلماً شديداً وتقضون في أمرهم بغير الحق. فلو أنكم ذهبتم تقارنون بين العرب وبين الهنود والفرس، والمصريين القدماء لما كان من حقكم أن تقدموا هذه الأمم في الأدب على الأمة العربية بحال من الأحوال، لأننا لا نكاد نعرف من آداب هذه الأمم في تاريخها القديم شيئاً يقاس إلى ما بين أيدينا من الأدب العربي. فإلى أن يستكشف أدب هذه الأمم إن كان لها أدب أكثر من هذا الذي نعرفه، يجب أن نؤمن للعرب بالتفوق عليها في الشعر والنثر جميعاً. للمصريين فنهم، وللهنود قصصهم وفلسفتهم، ولكن للعرب شعرهم ونثرهم ودينهم، ولهم قصصهم أيضاً. فإذا أردت أن تقارن بين العرب والرومان فأظنك توافقني على أن الأدب العربي الخالص أرقى جداً من الأدب الروماني الخالص، أيأن الأدب الروماني إنما ارتقى حقاً حين أثّر فيه الأدب اليوناني، فالرومان تلاميذ اليونان في الأدب والفن والفلسفة، والعرب يشبهونهم في ذلك. ولكن العرب كان لهم أدب ممتاز قبل أن يتأثّروا بالحضارة اليونانية، ولم يكن للرومان من هذا الأدب الروماني الممتاز الخالص حظ يذكر. وقد تفوق الرومان في الفقه، ولكنهم لم يسبقوا العرب في هذه الناحية من نواحي الإنتاج، ولعل الأمة الوحيدة التي يمكن أن تشبه
بالرومان في الفقه إنما هي الأمة العربية.
لم يبق إذن إلاّ أدب اليونان، هو الذي يمكن أن يقال فيه انه متفوق على الأدب العربي حقا، ولكن من الذي يقيس رقي الأدب في أمة من الأمم برقي الأدب في أمة أخرى؟ فإذا كانت ظروف الحياة العربية مخالفة أشد المخالفة لظروف الحياة اليونانية، فطبيعي أن تختلف الآداب عند الأمتين. وليس من شك في أن الأدب العربي قد صوّر حياة العرب تصويرا صادقا فأدى واجبه أحسن الأداء، وكل ما يؤخذ به الأدب العربي القديم هو أنّه لا يصوّر حياتنا نحن الآن، ولكن أواثق أنت بأن الأدب اليوناني القديم قادر على أن يصور الحياة الحديثة تصويراً يرضي أهلها؟! أمّا أنا فلا أتردد في الجواب على مثل هذا السؤال، فالأدب اليوناني القديم خصب غني ممتع من غير شك، ولكنه كالأدب العربي قد صوّر حياة القدماء، وهو قادر على أن يلهم المحدثين لا أكثر ولا أقل.
وأراك تذكر الفن العربي فتعيبه وتغض منه، وقد تكون موفقا في ذلك، ولكن أليس من الظلم أن تحمل هذا الفن على العرب وإنّما هو فن إسلامي ساهمت فيه الأمم الإسلامية المختلفة واستمدت أكثره من البيزنطيين. فإذا كان لك أن تعيب هذا الفن أو تحمده، فأحب أن تقتصد في إضافته إلى العرب، والخير أن تضيفه إلى الأمم الإسلامية. وأمر العرب بالقياس إلى الفن والأدب والعلم والفلسفة بعد العصر العباسي الأول، كأمر اليونان بالقياس إلى هذه الأشياء كلها بعد غارة الاسكندر على الشرق. كانوا ملهمين باعثين للنشاط دافعين إلى الإنتاج، مقدمين لغتهم وعاء لما تنتجه العقول والملكات على اختلافها، وقد يكون من الحق أن كل مقامة من مقامات الحريري أشبه بباب من أبواب جامع المؤيد، ولكن من الحق أيضا أن الآثار الأدبية التي تشبه مقامات الحريري والآثار الفنية التي تشبه أبواب جامع المؤيد كثيرة جدا عند اليونان في العصر المتأخر، وعند البيزنطيين، ولعل هذه الآثار اليونانية البيزنطية هي التي أحدثت عند المسلمين مقامات الحريري وأبواب جامع المؤيد. وأنت تميز اليونان بالحركة، وتميز العرب بالسرعة، وتستنبط من هذه السرعة ظلماً كثيراً للعرب، كما فعل أبن خلدون من قبل، وليس من شك في أن العرب يشاركون اليونان في الحركة، ولكن ليس من شك أيضاً في انك تغلو غلواً شديداً في وصفهم بالسرعة. إنما أسرع العرب في الخروج من باديتهم، ولكنهم حين بلغوا الأمصار استقرّوا فيها، وطال بهم
المقام، فأثروا في أهلها وتأثروا بهم، وكانوا في القرون الوسطى أشبهالأمم باليونان في العصر القديم. ورأيك في الموسيقى العربية واليونانية في حاجة إلى التصحيح أيضا، فنحن نعلم من الموسيقى اليونانية شيئاً يسيراً غير مضبوط، ولا نعلم من الموسيقى العربية شيئاً، ولست أدري إلى أي أمة أو إلى أي جيل نستطيع أن نرد هذه الموسيقى، وهذا الغناء اللذين نتحدث عنهما. ولكن الشيء الذي لا أشك فيه هو أن من العسير جداً أن نردهما إلى العرب القدماء. وكل شئ يدل على أن الموسيقى والغناء العربي كما كان يعرفهما العرب أيام الأمويين والعباسيين وفي الأندلس كانا متأثرين أشد التأثر بالموسيقى البيزنطية والغناء البيزنطي. فإذا أردت أن تعيبهما فلا تنس أن تعيب أصلهما اليوناني القديم.
وأريد الآن أن أدع هذه المناقشات التي تمس أموراً جزئية وأن أخلص إلى جوهر الموضوع الذي تريد أن تعرف رأيي فيه، وهو: الروح المصري الذي ينبغي أن يقوم عليه الأدب الحديث ما هو؟ وما العناصر التي تؤلفه؟ وأنا استأذنك في أن أكون يسيراً سهلاً، لا متعمقاً ولا متكلّفاً، ولا باحثاً عن الظهر في الساعة الرابعة عشرة (كما يقول الفرنسيون) فالأمر أيسر جداً من هذا كله. عناصر ثلاثة تكون منها الروح الأدبي المصري، منذ استعربت مصر، أولها العنصر المصري الخالص الذي ورثناه عن المصريين القدماء على اتصال الأزمان بهم، وعلى تأثرهم بالمؤثرات المختلفة التي خضعت لها حياتهم، والذي نستمده دائماً من أرض مصر وسمائها، ومن نيل مصر وصحرائها. وهذا العنصر موجود دائما في الأدب المصري الخالص، قد حاولت تشخيصه بعض الشيء في أول هذا الفصل، فيه شيء من التصوف، وفيه شيء من الحزن، وفيه شيء من السماحة، وفيه شيء من السخرية. والعنصر الآخر هو العنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة، والذي مهما نفعل فلن نستطيع أن نخلص منه، ولا أن نضعفه ولا أن نخفف تأثيره في حياتنا، لأنه قد امتزج بهذه الحياة امتزاجاً مكوناً لها مقوماً لشخصيتها، فكل إفساد له إفساد لهذه الحياة ومحو لهذه الشخصية، ولا تقل انه عنصر أجنبي، فليس أجنبياً هذا العنصر الذي تمصر منذ قرون وقرون، وتأثر بكل المؤثرات التي تتأثر بها الأشياء في مصر من خصائص الإقليم المصري، فليست اللغة العربية فينا لغة أجنبية، وإنما هي لغتنا وهي أقرب إلينا ألف مرّة ومرّة من لغة المصريين القدماء. وقل مثل ذلك في الدين، وقل
مثله في الأدب.
أما العنصر الثالث، فهو هذا العنصر الأجنبي الذي اثّر في الحياة المصرية دائماً، والذي سيؤثّر فيها دائماً، والذي لا سبيل لمصر إلى أن تخلص منه، ولا خير لها في أن تخلص منه، لأن طبيعتها الجغرافية تقتضيه، وهو هذا الذي يأتيها من اتصالها بالأمم المتحضّرة في الشرق والغرب. جاءها من اليونان والرومان واليهود والفينيقيين في العصر القديم، وجاءها من العرب والترك والفرنجة في القرون الوسطى، ويجيئها من أوربا وأميركا في العصر الحديث. فخذ الآن أي أثر أدبي مصري فحلله إلى عناصره التي يتكون منها، فستجد فيه هذه العناصر الثلاثة دائما. ولكنك ستجد بعضها أقوى من بعض بمقدار حظ المؤلف أو المنشئ من هذه الثقافات الثلاث المختلفة. بعض هذه الآثار يغلب فيه العنصر العربي، وبعضها يغلب فيه العنصر الأوربي، وقليل جدا منها يظهر فيه العنصر المصري القديم. فإذا لم يكن بد من أن أصور المثل الأعلى لروحنا المصري في أدبنا الحديث، فأني أحب أن يقوم التعليم المصري على شيء واضح من الملاءمة بين هذه العناصر الثلاثة فتشتد عنايته جدا بالتاريخ المصري، والفن المصري، والأدب المصري على اختلاف العصور. وتشتد عنايته جداً بالأدب العربي، والتاريخ العربي، والدين الإسلامي. ثم تشتد عنايته بالثقافة الحديثة. وأخوف ما أخافه على هذا الروح المصري شيئان: أحدهما أن تلهينا الثقافة الأوربية عن الثقافة المصرية والعربية، وكل شيء يغرينا بها ويغريها بنا فهي ضرورة من ضرورات الحياة، فمن الحق علينا أن لا نضيع حظنا منها، ولكن من الحق علينا ألاّ نفني أنفسنا فيها. الثاني أن نؤثر ثقافة أوربية على ثقافة أوربية فنؤثر الثقافة الإنكليزية (كما يريد قوم وكما تريد سياسة الدولة) أو نؤثر الثقافة اللاتينية (كما يريد قوم آخرون، وكما كانت تريد سياسة الدولة من قبل) هذا خطر لأنه يجعل الروح المصري الناشئ وجها لوجه أمام روح أوربية أقوى منه وأشد بأسا. فيوشك أن يخضع له ويفنى فيه، فلو قد فتحنا أبوابنا للثقافات الأجنبية على اختلافها، لانتفعنا بها كلها ولأضعف بعضها بعضا، وحال بعضها دون بعض أن يفنينا أو يسيطر علينا. لذلك تمنيت وما زلت أتمنى لو لم تفرض على مصر لغة بعينها من لغات الأوربيين، بل جعلت اللغات الحية الراقية كلها مباحة للطلاب يأخذون منها ما يشاءون.
هذا الروح المصري الذي يتكون من هذه العناصر الثلاثة، هو الذي نشهده الآن عندك وعند كثير من أمثالك المثقفين، وهو الذي نجد في نشره وإذاعته بين المصريين جميعا، وهو الذي سيطبع أدبنا المصري الحديث بطابعه القوي سواء أردنا أم لم نرد. فشخصيتنا المصرية العربية أقوى بحمد الله من أن تمحى أو تزول، والحضارة الأوربية أقوى وألزم من أن نعرض عنها، أو نقصر في الأخذ بحظنا منها. ستسألني: ولكن الأديب؛ من أين يستمد خواطره، ويستلهم وحيه؟ فأجيبك: من هذه العناصر كلها، أو من أي من هذه العناصر شاء، سيكون منّا الأديب الذي يستلهم العنصر المصري القديم؛ أليس بين الفرنسيين من يستلهم اليونان؟ وسيكون منّا الأديب الذي يستلهم العنصر العربي؛ أليس من الفرنسيين من يستلهم الرومان؟ وسيكون منّا أن يستلهم العنصر الأوربي، أليس من الفرنسيين من يستلهم السكسونيين؟ بل من يستلهم الشرق الأقصى، أو الشرق الأوسط، أو الشرق القريب، بلى. والأمر كذلك عند الإنجليز وعند الألمان، وعند غيرهم من الأمم الحية. فأنت ترى أن أمر هذا الروح المصري أيسر من أن يدعو إلى الخوف أو يضطر إلى الحيرة وأكبر الظن أنّ مصدر هذه الحيرة وذلك الخوف إنّما هو اضطراب سياسة التعليم في مصر وقيامها على غير أساس، وسيرها في غير طريق، ولو قد وضحت هذه السياسة واستقامت منذ زمن بعيد لما تساءلنا الآن عن الروح المصري، ولا عن الأدب المصري من أين يستمد الحياة.
أمّا بعد؛ فقد كنت أريد أن أقتصد وأؤثر الإيجاز، ولكن الحديث معك أغراني بالإطالة وحببها إليّ، وأرجو أن لا أكون عليك ولا على غيرك من القرّاء، وأرجو أن تقبل تحيتي الخالصة.
أدب اللفظ وأدب المعنى
للأستاذ أحمد أمين
من قديم اختلف علماء البلاغة، أهي في اللفظ أم في المعنى، وقد عقد عبد القادر الجرجاني فصلاً ممتعاً في آخر كتابه دلائل الأعجاز ذكر فيه حجج الفريقين، وقد كان فريق يرى أن المعاني مطروحة أمام الناس، والبليغ من استطاع أن يصوغها صوغاً جميلا، وإنّما يتفاضل الأدباء بجودة السبك وحسن الصياغة، ويرى الفريق الآخر أن المعاني هي مقياس التفاضل، وإنّ الأديب يفضل الأديب بغزارة معانيه، وجدة أفكاره، وأظن أن الزمان فصل في هذه القضية، إذ أصبح واضحاً أن حسن الصياغة، وجودة المعاني، عنصران أساسيان لابد منهما للأديب، وان من تجرد من أحدهما لا يسمى أديباً بحال، وان المثل الأعلى للأديب معان غزيرة سامية، وصياغة جيدة محكمة.
غير أنّ هناك - ولا شك - مواضع تراعى فيها المعاني أكثر مما يراعى فيها اللفظ وصياغته، كفصول النقد الأدبي، والمقالاتالعلمية الأدبية والمقالات التاريخية الأدبية؛ وتراجم الأشخاص ونحوها، فالغاية من هذه الموضوعات ليست اللذة الفنية، وإنّما الغرض الأول هو المعاني والحقائق، فيجب أن تكون غزيرة فياضة، وكل ما نتطلبه فيها من اللفظ أن يعبّر عن هذه المعاني في دقة ووضوح، أمّا القصد إلى محسنات البديع ومجملات الصناعة فلا داعي له، وربما كان إفراط الكاتب في هذه المحسنات حجباً للمعاني عن الأنظار، ومضلة للعقول عن الوصول إلى حقيقة المعاني، وهي أقوم ما في هذه الموضوعات.
وهناك ضرب آخر من الأدب كالشعر والقصص فيه مراعاة اللفظ وحسن السبك في المنزلة الأولى، ولست أعني أن الحقائق والمعاني فيهما مجرّدة من القيمة بل هي كذلك من مقدماتهما، والشاعر الذي يجيد السبك ولا يجيد المعنى ليس من شعراء الطبقة الأولى، وخير الشعراء من صح حكمه، واتسعت تجاربه في الحياة. وكان له علم عميق في كثير من الأشياء التي حوله ثم صاغ ذلك كله صياغة جميلة، وهذا الأدب الصرف كالشعر والقصص والقطع الفنية الأدبية، ليس الغرض الأولى منه نقل المعاني كما في الصنف الأول، وإنّما الغرض منه إثارة عواطف القارئ والسامع.
والألفاظ - كما يظهر لي - لم توضع لنقل العواطف، وإنما وضعت لنقل المعاني، والألفاظ أعجز ما تكون عن نقل عاطفة الأديب إلى القارئ. فكيف أنقل إعجابي بالطبيعة أو أنقل حباً ملأ جوانحي، أو غضباً استفزّني، أو رحمة ملكت مشاعري؟ لم توضع الألفاظ لشيء من ذلك، إنما وضعت لنقل مقدمات ونتائج منطقية، ولكن ما حيلتنا وقد خلقنا عاجزين لم نمنح لغة العواطف، ولابد لنا من التعبير عنها ونقلها إلى قارئتا وسامعنا، لذلك استخدمنا لغة العقل مرغمين، وأردنا أن نكمل هذا العجز بضروب من الفن، كموسيقى الشعر من وزن وقافية، وكالسجع، وكل ضروب البديع، وليس القصد منها إلاّ أن تكمل نقص الألفاظ في أداء العواطف.
في هذا النوع من الأدب ليس من الضروري أن تكون معانيه جديدة، وربما يستطيع الأديب أن يجعل من المعنى المطروق قصيدة رائعة، أو قصة ممتعة، وكل ما فيها من جديد صياغتها الجديدة، وخيالها المبتكر، وليست وظيفة الأديب فيها أن يعلم الحقائق، إنما وظيفته أن يثير مشاعر الناس بها، ويعبر عمّا لا يحسنون التعبير عنه، وان كانت المعاني في نفوسهم، وبين سمعهم وبصرهم. كل إنسان يشعر بجمال الوردة، ولكن الأديب يملأ مشاعرك بجمالها، ويوحي إليك بمعان ترتبط بها، مثل اقتران تفتحها بتفتح الشباب ونشوة الأمل، أو ما تبعث من شجن. وجودة الأسلوب وحسن النظم قد يرقيان بالمعاني المألوفة فيخرجانها في شكل جذاب ولكن لا يمكن الأديب على كل حال أن يتبوأ مكاناً عالياً إذا أعتمد على الأسلوب وحده وكان مصاباً بالفقر العقلي.
في أدب كل أمة نرى أدب اللفظ وأدب المعنى، وفي الأدب العربي أمثلة واضحة لذلك، فمقامات الحريري والبديع أدب لفظ لا معنى، قلّ أن تعثر فيهما على معنى جديد، أو خيال رائع، وهما من الناحية القصصية في أدنى درجات الفن، ولكنهما تؤديان غرضا جليلا من الناحية اللفظية، ففيهما ثروة من الألفاظ والتعبيرات لا تقدر، ويظهر أن مؤلفيهما قصدا إلى تعليم اللغة وإمداد المتعلم بثروة كبيرة من الألفاظ والأمثال والتعبير، وتحايلا على ذلك بهذا الوضع الجذاب، فان كانا قد قصدا إلى ذلك فقد نجحا نجاحاً تاماً وان كان قصدهما غير ذلك فلا.
وشعراء القرون المظلمة بعد سقوط بغداد وكتابها أدباء ألفاظ: رواء في العين، ولا شيء في
اليدين، بل إن أدب كثير منهم لا هو أدب لفظ ولا هو أدب معنى، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، والمعري في لزومياته أديب معنى لا أديب لفظ، غزرت معانيه وقصرت ألفاظه، حاول أن يدخل المحسنات البديعية في شدة ففشل، قد التزم ما لايلزم فأضاع ما يلزم، والمتنبي - على الجملة - أديب لفظ ومعنى قد وقع من معاني الحياة على ما لم يقع عليه من قبله، ثم صاغه صياغة قوية حببته إلى النفس.
وبعد فيظهر لي أن الزمن سائر إلى تقويم المعاني أكثر من تقويم الألفاظ، وشأن الناس في تقويم الأدب شأنهم في تقويم الجمال في سائر الفنون، فمن لم يصلوا إلى درجة راقية من المدنية يعجبهم من الألوان اللون الزاهي كالأحمر القاني والأصفر الفاقع، ويعجبهم من الأجسام السمين القوي في ملامحه، ومن الأصوات الطبل والمزمار، فإذا بلغوا مبلغا كبيرا في الحضارة أعجبتهم الألوان المتناسقة والألوان الخفيفة، كما تعجبهم وحدة الفكرة التي تنسق الألوان المختلفة والمظاهر المتعددة، وأعجبهم من جمال الإنسان الرشاقة وخفة الروح، وأعجبوا بجمال الحركة، وقوّموا جمال المعاني أكثر مما يقومون جمال الملامح، ونظروا إلى جمال الروح أكثر مما ينظرون إلى جمال الجسم، حتى في جمال الجسم يقومون وحدة التناسق والنسبة بين الأعضاء أكثر مما يقومون جمال الوجه وحده، وفي الموسيقى تعجبهم النغمات الهادئة، والنغمات المتناسقة، والنغمات التي تمثل المعاني. كذلك شأنهم في الأدب يكرهون السجع الدائم، والكتابة التي اختفت معانيها أو ضاعت وراء الزينة المفرطة والزخرف الكثير، والقافية الطويلة على وتيرة واحدة، وتعجبهم البساطة في القول والزينة بقدر، والألفاظ كوسيلة لا غاية، يكرهون النكت كلها لعب بالألفاظ، والنكت تلذغلذغا صريحا، وتعجبهم النكتة أسست على معنى، والنكتة تلذع في إيماء ورقّه.
إن الأديب إذا رزق حظوة في السبك، وأصيب بفقر في المعنى كانت شهرته وقتية وقيمته محدودة الزمن، ولا يلبث الناس أن يدركوا ضعفه وفقره فينبذوه، والأديب الخالد من زاد في معارفنا ومشاعرنا بما في قوله من معنى وقوة.
أديب اللفظ فارغ الرأس قليل العلم بما حوله، قريب الغور، قد ستر كل هذا بزخرف القول كما تستر الشوهاء عيبها بالأصباغ، رخصت بضاعته فبالغ في التجمل في عرضها ولفت الأنظار إليها. وشعر إنها مزيفة فغضب لنقدها والتلويح بامتحانها. والأمة في طفولتها
وشيخوختها يعجبها هذا النوع من الأدب، لأن خفة رأسها من خفة رأس أدبائها. ولأن العقول السخيفة يعجبها السحر والشعوذة وألعاب البهلوان، والأدب اللفظي المحظ نوع من هذا اللعب. فإذا نضج عقلها تغير ميزاتها ونفذ نظرها إلى أعماق الشيء، لتعرف ما وراء الظواهر. وإذ ذاك تقدر المعاني أكثر ممّا تقدر الألفاظ، ترى الألفاظ جسما والمعنى روحه. وترى المعني غاية واللفظ وسيلة. وتستحسن اللفظ لا لذاته، ولكن لأنه لفق المعنى.
تزين معانيه ألفاظه
…
وألفاظ زائنات المعاني
ما أحوج أدبنا العربي الحديث إلى المعنى القوي الغزير في اللفظ الجميل البسيط!
نظرة في نظام بيعة
الخلفاء
النمو الثاني.
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
- 2 -
هل استطاع التاريخ أن يصدر حكمه في ثورة الفرنسيين؟ إن هذه الثورة قريبة العهد، فحوادثها قريبة الحدوث وأكثرها مدون في وقته، مضبوط التاريخ وحكومة اليوم قائمة على تلك الثورة، ومن أكبر الجرائم في دولتها أن يعمل أحد على مس نظام الجمهورية الذي وضعته تلك الثورة، ومع ذلك فأنّا نجد الأفكار مقسمة مضطربة إذا تناولت ذكرها وحوادثها. فقوم من المؤرخين يتشيعون لها ويتغنون بكل ما كان فيها. وقوم آخرون ينكرون عليها فعالها، ويزوّرون من قاموا بها وآزروها.
وهل يستطيع العرب ألاّ أن يكونوا كذلك؟ فأن ثورتهم في مدة الخليفة عثمان لم تكن ثورة من كل الناس، وان اشترك فيها كل العرب بالرأي والقول، وتناولوها بين منكر ومنتصر. ولسنا بسبيل هؤلاء أو أولئك، ولكننّا نرى إنها مثل الثورة الفرنسية، ان اختلفت فيها الآراء فأن الكتّاب جميعا متفقون على انها كانت ظاهرة اجتماعية طبيعية. فلندع الخوف في هل كانت تلك الثورة حقا أم كانت باطلة، وحسبنا من القول أن يقال إنها كانت ثورة طبيعية، وإنها كانت خطوة في سبيل بناء الدستور العربي. وهي وان لم يشترك فيها كل العرب قد كان فيها ممثلون للأنحاء المختلفة من بلادهم، فقد كان فيها جماعة من مصر وجماعة من مصري العراق، كما اشترك فيها الأعراب من أنحاء جزيرة العرب. وقد جمعت جماعة من الزعماء كما ضرب فيها العبيد بسهم فعدد الثائرين كان محدودا، ولكن فكرة الثورة كانت شائعة، وكانت رقعتها كذلك محدودة، ولكن مدى الاشتراك فيها كان يشمل حدود الدولة العربية إذ ذاك. لسنا نقصد أن نقول إن العرب جميعا كانوا يريدون سفك دم الخليفة الشهيد، فقد كان هذا أبعد شيء عنهم، بل أن الفكرة ذاتها لم تكن في نفوسهم من أول الأمر، ولكن الثورة كانت في نفوس الجميع. وكانت ثورة طبيعية لا هي وليدة تدبير ولا هي بنت
حادثة، بل كانت نتيجة فكرة اختمرت في النفوس حتى صارت عقيدة، ثم كان من الأمر ما كان عن عقيدة.
كان انتخاب سيدنا عثمان كما سبق القول نتيجة اختيار واسع الرقعة وكان كذلك قائماً على تعهد وبرنامج، ثم جرت حوادث على مرّ الأيام لاحظها العرب وأحصوها في نفوسهم، وإذا قلنا العرب فإنما نقصد جميع العرب سواء في ذلك من كانوا في قلب الجزيرة والحجاز ومن كانوا في الأمصار. وهل كان أهل الأمصار يتركون الأمر يسير كما يشتهي فئة من قريش وهم جنود الدولة الذين يوفرون له الفيء والأموال، ويعودون عليها بالنصر والفتح. ولسنا في حاجة إلى هذا التساؤل فحسبنا أن نتذكر أن اختيار عثمان كان قائما في ناحية منه على رضا جنود الأمصار، فإذا لاحظ هؤلاء الجنود كيف يذهب فيئهم في غير وجوهه انقلبوا ينتقدون رئيس الدولة الذي يسمح بمثل هذا، وإذا رأوا مشيختهم يُعزلون عن البلاد التي فتحوها لكي تسلم القيادة إلى فتية لا غناء لهم ولا تحيط بهم ذكريات المجد والفتح أحاطتها بالزعماء المعزولين نفرت نفوسهم وطفقوا يحصون على الوالي الجديد أعماله ويسيئون تأويلها أو يزيدون تأويلها قبحا. ومنذ بلغ الحال هذا المدى بدأ النقد يتخذ شكل الشكوى. ونطقت الألسنة بما دار في النفوس من التهم.
ولسنا نقصد أن نذكر الحوادث أو نسرد ما كان من الخطوات التي أدت إلى الثورة، فذلك معروف متداول، ولكننا نذكر أمرين لا غنى عنهما: الأمر الأول أن رؤساء العرب في المدينة اقتنعوا اقتناعا كبيرا بحق الشاكين ووجوب إزالة ما يشكون منه وبدأت نفوسهم تنحرف عن عثمان عندما رأوه لا يبدي الجد في إحقاق الحق وكان جديرا به أن يكون عند الحق مقيدا. والأمر الثاني أن الذين كانوا يأتون للشكوى لم يكونوا من أهل الفساد والعبث بل كانوا رجالات من الزعماء أتوا وقلوبهم موغرة تملؤها الشكوى، وما كانوا يقصدون سوى أن تزال مواطن تلك الشكوى بعد أن بثوها مرارا.
وما كانوا مدفوعين إلاّ بعامل واحد وهو الإصلاح. وكان أبعد شيء عنهم أن يفكروا في قتل الخليفة، ويثيروا بذلك المشكلات والعداوات أو أن ينقضوا بناء الدولة الذي كان لهم الفضل في بنائه فضلاً عن انهم من جنود الدولة الحريصين على الدفاع عنها وبسط سلطانها. وإذا كان لابد من ضرب المثل للتدليل على صدق مذهبنا في هذين الأمرين
فأنّا نذكر القراء بما كان من عبد الرحمن بن عوف وهو كما نعلم صاحب اليد في اختيار عثمان. فأنه غير متهم إذا هو قام يذكر عثمان بما وجب عليه. ولقد بلغ به الأمر أن خاصم عثمان وحلف ألا يكلمه بكلمة حتى يفرق بينهما الموت، وقد بر بقسمه فقد قيل إنه لمّا حضرته الوفاة دخل عليه عثمان عائداً فأدار وجهه إلى الحائط ولم يكلمه. وذلك موقف كان يدعو إلى ترك الخلاف لو لم يكن الأمر قد بلغ حداً لا يرتاح الضمير إلى التساهل فيه. وإذا شئنا أن نكرر الأمثلة التي تدل على انحراف زعماء الصحابة عن عثمان في آخر الأمر لم نضق بالأمر، فقد غضب طلحة حتى كان فيمن يحرض على عثمان تحريضاً شديداً، وغضب عمار بن ياسر وبلغ الأمر بأبي ذر الغفاري أن نفي من المدينة، ولكنه لم يكن راضياً وإن لم يظهر شيئاً من غضبه بأكثر من كلمات قالها لعثمان أو لبعض أهله. ولقد كان علي (رض) في أشد المواقف فأنه كان في حيرة بين واجبه نحو صديق آخى بينهما رسول الله (ص)، وبين واجبه نحو العدل وهو بقية العهد الأول من عهود الإسلام، وهو البطل الذي ما كان يرضى بالحيد عن العدل مهما كان في سبيل ذلك من الأخطار. على انه كان مع ذلك يحاول أن يحمل الخليفة على الإصلاح لكي يتحاشى النكبة التي لاحت في الأفق.
وأما الأمر الثاني وهو حسن نية الثوار فليس أدل عليه من أنهم لم يرضوا بترك الأمر فوضى بعد قتل الخليفة، بل كانوا يعرضون الأمر على الزعماء. ويظهرون لهم وضوح حجتهم في ثورتهم، ولم يفكر أحدهم في أن يذهب إلى مصره ليضرم فيه النار، أو أن يهرب إلى بلده قبل أن يستقر الأمر ويتدارك ما كان من الخطب، فلم يكونوا بالمجرمين الذين متى تمت جريمتهم فزعوا هاربين من ضوء الشمس يحاولون أن يدخلوا في غمار الناس حتى لا تنالهم معرة فعلهم. فكانوا أشبه الناس بأصحاب يوليوس قيصر عندما قتلوه وقاموا بين الناس معترفين بما أتوه، وبأنهم إنما فعلوا فعلتهم دفاعاً عن الحق والحرية.
قتل الخليفة ولكن قتله كان غير مدبر تدبيراً محكماً نتيجة تفكير طويل، بل جاء عندما فزع الثوار إذ بلغهم أن الجيوش الموالية له تتحرك نحوهم لتبطش بهم من أنحاء الأمصار. وقد ذهب الخليفة ضحية الظروف القاسية التي كانت تخيم على دولة العرب والتي كانت تحتاج إلى رجل له عقلية غير عقلية عثمان. عقلية محضة لا تردد فيها بين العواطف المختلفة،
ولا تنازع فيها بين جانبي العدل والميل الطائفي، فأمّا أن تكون عقلية دنيوية محضة تسير على الميل الطائفي والأثرة ولكنها تسير قُدُماً بغير تردد، وأما أن تكون عقلية عادلة محضة تسير مع العدل قدماً بلا تردد، وأما عثمان فقد كان قلبه مملوءاً بفكرة العدل، ولكنه كان لين العاطفة يصل قرابته، ولا يستطيع إلاّ أن يكون مائلاً نحو من لهم به مساس من رحم. فتردد بين الدافعين المتضادين، وكانت الكارثة من وراء هذا التردد.
ولما تم الأمر عاد الثوار إلى أنفسهم وكأنهم يريدون إنقاذ الموقف فقضوا أسبوعاً يبررون فعلهم، ويعرضون الخلافة على الزعماء. وقد أرادوا ألاّ يبعدوا عن السنن التي اختطها السلف وألاّ يحيدوا عمّا سار عليه العرب في بناء دستورهم منذ كانت دولتهم، فرأوا أن يرجعوا إلى آخر خطوة من خطى ذلك الدستور قبل الثورة، ألا وهي خطوة الشورى. ولم يكن الوقت ليسمح لهم بالسير بعد ذلك خطوة أخرى جديدة في سبيل تقدم ذلك الدستور وهي الخطوة التي كانت تنتظر لبلوغ نظام كفيل بتمثيل العرب واختيار أليقهم للخلافة إذ أنّ ذلك كان يستلزم الهدوء والاستقرار. فلمّا لم يستطيعوا السير إلى الأمام عادوا إلى حيث كانوا ورجعوا إلى المرشحين للخلافة بعد مقتل عمر. وكان بعضهم قد لحق بربه مثل عبد الرحمن بن عوف وكان بعضهم بعيدا عن المدينة، وهو الزبير. فعرض الخلافة على طلحة فأبى وكره أن يتقدم في مثل هذا الظرف خوفاً من التهمة، إذ كان ممن ظهر منهم التحريض الصريح على عثمان، وأمّا سعد بن أبي وقاص فقد كان أخرج نفسه منها منذ حادثة الشورى وأبى أن يعاود نفسه في ذلك الأمر، فلم يبق من المرشحين للخلافة من أهل الشورى إلاّ علي (ع). وقد عرض الثوّار الخلافة عليه فلم يرض بادئ الأمر، وأبى كل الإباء أن يقبلها.
وكان عليّ عند مقتل عمر (رض) أول المرشحين للخلافة، ولولا أنّه أبى أن يقيد نفسه بغير كتاب الله وسنة نبيّه، ورفض أن يحرم نفسه الاجتهاد على هذين الأساسين فيما يقابله من مسائل الدولة لكان هو الخليفة بعد عمر. ولمّا رأى الثوار أن كل أهل الشورى لا يواتونهم فيما يطلبون عادوا إلى عليّ وغيروا لهجة عرضهم وخاطبوه بما وجد في قلبه موقعا. وذلك أنهم بدءوا يظهرون لهم حال الدولة الإسلامية، وقد مضى عليها أسبوع بغير خليفة، وحدودها ممدودة إلى أعداء كثيرين. وإذا استطال الأمر بها لم يؤمن عليها من
الضياع والانفراط. وهل كان عليّ يترك دولة الإسلام في مثل هذا المأزق ويتردد في قبول حمله والاضطلاع به؟ لقد كانت المشكلات واضحة لكل ذي عينين، وكان كل من عرضت عليهم الخلافة يرفضونها، وهم يخشون ما وراء قبولها من العقبات والأخطار والمتاعب. فلم يكن الأمر أمر خلافة وسلطة وسيادة بل كان الأمر أمر شقاق، وكان على الخليفة أن يحاول القضاء عليه، وأمر دولة تريد أن تنهار ويجب الاحتفاظ بها وحفظها من الضياع، وأمر شهوات وأغراض يريد أصحابها أن يصلوا إليها متسترين بالثأر، والواجب حماية المجتمع والدولة الإسلامية منها. وقد كان عليّ من بناة الدولة وأول أبطالها الذين تعرضوا للموت مرارا في سبيل بنائها، فلمّا أن جاءه الثوّار من ناحية ما يحيط بها من الأخطار ثار قلبه ونسي كل ما يمكن أن يلقى في سبيل الدفاع عنها، وقبل ما يعرضه الثوّار، وكان عن الخلافة راغبا. وقال عند ذلك كلمته القصيرة الكبيرة الدلالة:(قد أجبتكم لما أرى، وأعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وان تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلاّ أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم).
على أن هذه الثورة وإن كانت في مظهرها هدماً قد كانت في الحقيقة بناء له خطر عظيم في دستور الدولة العربية. فقد أظهر العرب بعنف أن الخليفة إذا قبل شرط المبايعة كان لزاما عليه أن يفي بما تعهد به، وانّه إن لم يفعل كان للشعب أن يعزله. فإن أبى أن يعتزل أو يعتدل كان للشعب أن يثور عليه. وإذن كان على الخليفة الذي يلي أمر العرب بعد ذلك أن يحتاط ويحترس في السير على منهاجه الذي بايع عليه. وبذلك تم بناء الدستور العربي الأول على أسس واضحة صريحة، فقد كان اختيار الخليفة في ذلك الدستور من حق العرب جميعا، ولكن السنّة التي سار عليها خلفاء العرب الأوائل جعلت اختيار الخليفة محصوراً، فما كان الخليفة ليختار إلاّ من قريش. وكان الخليفة يختار ممن تتوافر فيهم شروط الرجولة التامة والعدل الذي لا يعرف ميلا، وكان أساس الاختيار أن يعمل الخليفة بمقتضى برنامج صريح قائم على أحكام الكتاب والسنة والاستنارة بسنن الخلفاء الماضين. وكانت المبايعة من جانبين: جانب الشعب وجانب الخليفة فإذا خالف الخليفة شروط المبايعة كان للشعب أن ينقده ويطلب إليه الرجوع إلى المنهاج القويم وإلاّ كان له أن يثور عليه. ولم يقف نمو هذا الدستور بعد ذلك لنقص في القوة الحيوية في الشعب العربي. بل قد
تكلّف خلفاء بني أميّة وبني مروان شيئاً كثيراً من العناء وارتكبوا جرائم كثيرة وخاضوا الحروب والمخاطر قبل أن يستطيعوا أن ينقضوا أسس ذلك الدستور.
خواطر في الشعر العربي
للأستاذ محمود البشبيشي. المدرّس بدار العلوم
للرسالة الغرّاء فضل على الأدب العربي أن أتاحت لقرّائها فرصا
كثيرة للإطلاع على آراء ناضجة، وبحوث طريفة في الأدب العربي.
ولقد أثار كتابها الفضلاء موضوعات طليّة في هذه الناحية لقيت من
قادة الأدب والباحثين فيه عناية كبيرة، تردد صداها على صفحات
(الرسالة) وفي أندية الأدب، وإذا كان من حق الرسالة على أدباء
العربية أن يشكروا لها حسن مسعاها. فإن من واجبهم أن يبوحوا بما
يهتدون إليه من آراء حيال هذه الموضوعات، ليكون للأدب من
كتاباتهم وبحوثهم مدد لا ينقطع.
أثار الباحث المفضال (الدكتور محمد عوض) مسألة الشعر الذي لا يجري على سنن واحد، وكان موفقاً في تسميته (مجمع البحور) كما كان جدّ موفق في نقده وتجريحه حتى تركه هباءً تذروه الرياح. ولقد كانت صيحة (الدكتور) موفقة، نبّهت رجال العربية إلى خطر داهم ينتظر الشعر العربي من هذه الدعوة الباطلة التي لم تعدم لها أنصارا، ولم تعتمد في قيامها على دليل، لقد طالما صدّعت آذاننا بمثل هذه الدعوة، فمن داع إلى التحرر من القافية، إلى منادٍ بجمود الشعر العربي، إلى طارح لأوزان العروض المأثورة، إلى غير هذه النزعات الطائشة الغامضة، وأخيرا فوجئنا بفكرة التحلل من وحدة البحور، وقرض الشعر على غير نظام والسير فيه على غير هدى، ولقد كنّا نشفق على الشعر ذلك التراث المجيد أن تعبث به المحاولات، ثم يعود إلينا شيء من الطمأنينة، اعتماداً على ما فيه من مناعة تقيه هذه الألاعيب، غير أن دعاة هذه الفوضى الشعرية ما فتئوا يعاودون الكرّة بعد الكرّة يريدون أن يتسللوا في غفلة الرقباء إلى حمى الشعر فيستبيحوه، فإذا تم لهم ذلك لجّوا في طغيانهم، وقضوا على أنصع صفحات الأدب العربي، وأزهى رياضه، وانضر وجوهه، ثم نعبت غربانهم على أطلاله، وقطعوا ما بين حاضر الأمة وماضيها، وبنوا على أطلال ذلك
الماضي المجيد، ما خيله لهم أهواؤهم من أمانيّ وأحلام.
لست أدري ماذا ينقم القوم من الشعر؟ وهو الذي ساير الدهر قرونا طوالا، وماشى الحضارات على اختلافها، واتسع للأغراض الشعرية على كثرتها، واستقبل حكمة العرب واليونان بعزة الواثق بنفسه، المعتز بقوته، فما دعاه غرض إلاّ لبّى، وما أهاب به جديد إلاّ استجاب، وما سمعنا أنه قعد عن حكمة المتنبي وأبي تمام، ولا تخاذل دون مباهج الحياة وأغراضها في بغداد والأندلس، ولا قصّر يوم طلب إليه ترجمة (الإلياذة). ولا يوم دعي لنظم (قمبيز) و (كيلوباترا)، بل ما رأيناه نفر ممن حمّلوه ما لم يخلق لأجله فضموا به العلم، وأطالوا به المتون، فالشعر العربي خصب بطبيعته، قابل للتجديد ومسايرة الزمن، ولكن في حدود العقل والمنطق، وفي حدود السليقة العربية، والحضارة العربية.
فماذا يريد القوم بعد ذلك؟ وأيّ غرض يرمون إليه؟ ماذا يريدون بمجمع البحور، وهو نوع لاحظ له من النغم الموسيقي، الذي هو روح الشعر، وسر تقدمه على النثر، هو لون من القول يريد أن يخدع الناس عن نفسه فلا يلبثون أن يعرفوا حقيقته، ويدركوا أنّه لا إلى الشعر ولا إلى النثر.
لقد أبان لهم (الدكتور الفاضل) أن هذا بدع من القول لم تعهده اللغات الأخرى، ولم ينزل إليه شعراؤها النابهون، أمثال (شكسبير) وصاحب الشاهنامة، وعهدنا بأصحاب هذه الدعاوى، إذا أخذهم الدليل أن يتشبثوا بأهداب التجديد، ويجروا وراء الأدب الغربي، فإذا كانت حجتهم داحضة، وأسبابهم واهية، وإذا كان فحول شعراء اللغات الأخرى لم يسفوا إلى (مجمع البحور) فماذا عساهم يقولون؟ ما أظن الباعث لأكثر هؤلاء إلاّ الطموح إلى الشهرة وذيوع الصيت، يستهينون في سبيله بلغتهم، وهي مناط العظمة، وديوان المفاخر، ومظهر الكرامة والعزّة القومية، هم يحسدون الشعراء على مكانتهم! ويحاولن ألاّ يقصروا في كل مظاهر العظمة، فيتعلّقون بأهداب الشعر، فإذا هو نافر منهم، ويرون معاناة الشعر أمراً عسيراً على طبائعهم، شديداً على نفوسهم، ويدركون أن العقبة الكؤود دون الذي يريدون، قوانين دعت إليها طبيعة الشعر كفن من فنون الموسيقى، وأقواها في نظرهم وحدة الوزن والقصيدة أو ما يعبّر عنه بالبحور، فلا يهدأ لهم بال، ولا يقر لهم قرار حتى ينفّروا الناس من هذه القوانين لعلهم أن يحطموها، فتصير طريق الشعر في زعمهم واضحة معبّدة، وعند
ذلك يستوي الشاعر والمتشاعر، ويندس في زمرة الشعراء الملهمين من لا يمت إلى الشعر بسبب، وقد نسوا أن الشعر كالموسيقى والصوت الحسن لا ينقاد إلاّ لمطبوع عليه.
رويدكم أيّها الإخوان! فما أنتم ببالغي هذه الغاية! وإن تراءت لكم قريبة المزار، إنّ شعراً يفقد أهم عناصره وهي وحدة الموسيقى لجدير أن تمجه الآذان، وتنفر منه الطباع، وما كان هذا شأنه. فلن يرقى إلى درجة الشعر الصحيح ولن يجد من النفوس إلا احتقارا، ثم لا يلبث أن يقبر في مهده. وانه لخير مما تريدون أن يسمع الإنسان كلاما منثورا منسجما لا تكلف فيه، ولا تتعب أذنه في التوفيق بين أنغام مختلفة متنافرة، لاحظّ لها من الشعر، ولا روح لها من ألفة موسيقية، وان يوماً يستحيل فيه الشعر إلى ما ذهبتم إليه لهو يوم القضاء على الشعر العربي وجناية هذا على الأجيال المستقبلة أخطر مما تتصورون.
ليس يجدي ما تدعون إليه أن يتجلى على الناس في حلّة الشعر وأن يحمل بين يديه قيثارته، فلن تلبث الحلّة الخادعة، أن تبدو مهلهلة شتى الصور والألوان فتقذي بها الأعين، ولن تلبث القيثارة أن تظهر أوتارها المتناثرة فتحجبها الآذان. ولا يلبث ذلك المسمّى شعراً أن يبدو في حلّته عظاماً نخرة، لا تقوى على الهواء فتعود رفاتا سحيقاً، فاعملوا للتجديد إن كنتم صادقين على دعائم ثابتة من القديم، وإذاً يمضي أدبكم العربي المجيد في طريقه قُدُما، ويتسع لما شئتم من جديد نافع.
من أدب الجاحظ
للأستاذ توفيق الحكيم
أستاذنا الكبير الدكتور طه
إني أشكر أهل الكهف الذين قادوني إليك. وإذا كان هذا هو الغرض من بعثهم في كتابي فقد حق البعث نجح. الحقيقة أن رعاية الدكتور طه أثمن ما منحني القدّيسون الثلاثة من كنوز. وأن صداقته التي أطمح إليها يوم أكون خليقاً بها هي مفتاح عملي الأدبي في المستقبل. إنه ليشق علي أن يمضي الأسبوع ولا ألقى الدكتور. فلقد وجدت في حديثه الجميل زاداً روحياً لا غنى لي عنه.
تشرفت بلقاء الأستاذ الجليل لطفي بك، ودار بيننا حديث طويل أرويه إن شاء الله عند اللقاء.
وبعد فقد كنت أقرأ الجاحظ منذ عامين فألفيت عنده كلاما كالحوار التمثيلي لم أر مثله في الأغاني. وقد بدا لي أن أنقل هذا الحوار على شكل (منظر صغير) دون تغيير في الألفاظ والمعاني. إنما سمحت لنفسي ببعض الحذف وبعض الملائمة بين وضع الحوار الأصلي والوضع المسرحي بغير أن أمس جوهر الموضوع. حتى يبقي الفضل للجاحظ وللأدب العربي، والحق إنه حوار يذكر بألفريد دي موسيه في (كوميدياته وأمثاله) أن عناصر كل نوع من أنواع الأدب والفكر موجودة عند العرب لكنها مجرد عناصر. فلماذا لا نستخرج هذه العناصر ونفصلها ونبوبها؟ لماذا لا نضع مثلا كل حوار من هذا الطراز في الشكل التمثيلي على قدر المستطاع. ونجمعه على انه نماذج تمثيلية من الأدب العربي. أو على أنه القديم بإلباسه حلّة جديدة دون تغيير للب؟ إذا صح هذا فإن مجال العمل في الأدب العربي القديم متسع. ولن تفرغ منه أجيال قادمة برمتها. والدكتور أول من بحث وحفر ونقب في آثار الأدب العربي. وأول من أدخل روح البحث والتنقيب في الجامعة. والجامعات هي ميدان لمثل هذا العمل. إذا كان الدكتور لا يوافقني على أن عناصر القصص التمثيلي موجودة عند العرب. فما تراه يقول في هذا (المنظر) وهو من تأليف الجاحظ:
الفراق
المنظر: باب دار كبير، جارية كأنها قضيب يتثنى. يدنو منها شيخ ويسلم عليها فترد السلام بلسان منكسر وقلب حزين.
الشيخ: - يا سيدتي! إني شيخ غريب أصابني عطش فأمري لي بشربة من ماء تؤجري.
الجارية: إليك عني يا شيخ، فإني مشغولة عن سقي الماء وادخار الأجر!
الشيخ: يا سيدتي لأيّة علة؟
الجارية: (بعد تردد) لأني عاشقة من لا ينصفني، وأريد من لا يريدني!
الشيخ: (يتأملها) يا سيدتي، هل على بسيط الأرض من تريدينه ولا يريدك
الجارية: انه لعمري على ذلك الفضل الذي ركب الله فيه من الجمال والدلال.
الشيخ: يا سيدتي، فما وقوفك في الدهليز؟
الجارية: هو طريقه، وهذا أوان اجتيازه.
الشيخ: يا سيدتي. هل اجتمعتما في خلوة في وقت من الأوقات أم حب مستحدث؟
الجارية: (تتنفس الصعداء وتسيل دموعها على خديها كطل على ورد وتنشئ تقول):
وكنا كغصني بان وسط روضة
…
نشم جنا اللذات في عيشة رغد
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطع
…
فيا من رأى فردا يحن إلى فرد؟
الشيخ: يا هذه ما بلغ من عشقك هذا الفتى؟
الجارية: أرى الشمس على حائطه أحسن منها على حائط غيره، وربما أراه بغتة فأبهت وتهرب الروح من جسدي، وأبقى الأسبوع والأسبوعين بغير عقل
الشيخ: عزيز عليّ؛ وأنت على ما بك من الضنى وشغل القلب بالهوى وانحلال الجسم وضعف القوى، ما أرى بك من صفاء اللون ورقة البشرة. فكيف لو لم يكن بك من الهوى شيء؟ أراك كنت مفتنة في أرض البصرة!
الجارية: كنت والله يا شيخ قبل محبتي لهذا الغلام تحفة الدلال والجمال والكمال. ولقد فتنت جميع ملوك البصرة وفتنني هذا الغلام.
الشيخ: يا هذه ما لذي فرّق بينكما؟
الجارية: نوائب الدهر وأوابد الحدثان. ولحديثي وحديثه شأن من الشأن. وأنبئك أمري: إني كنت اقتصدت في بعض أيام النيروز، فأمرت فزين لي وله نجلس بأنواع الفرش وأواني
الذهب، ونضدنا الرياحين والشقائق والمنثور وأنواع البهار. وكنت دعوت لحبيبي عدة من متظرفات البصرة فيهن من الجواري جارية شهران وكان شراؤها عليه من مدينة عمان ثمانمائة ألف درهم، وكانت الجارية قد ولعت بي، وكانت أول من أجابت الدعوة وجائتني منهن. فلمّا حصلت عندي رمت بنفسها عليّ تقطعني عضا وقرصا. . . فبينا نحن كذلك إذ دخل عليّ حبيبي. فلمّا نظر إلينا اشمئزّ لذلك، وصدف عني وعنها صدوف المهرة العربية إذا سمعت صلاصل اللجم، وعضّ على أنامله وولّى خارجا. فأنا يا شيخ منذ ثلاث سنين أسلّ سخيمته، وأستعطفه فلا ينظر إليّ بعين، ولا يكتب إليّ بحرف، ولا يكلّم لي رسولا.
الشيخ: يا هذه، أفمن العرب هو أم من العجم؟
الجارية: هو من جلّة ملوك البصرة.
الشيخ: من أولاد نيابها أو من أولاد تجارها؟
الجارية: من عظيم ملوكها.
الشيخ: أشيخ هو أم شاب؟
الجارية: (تنظر إليه شزراً): إنك لأحمق. أقول هو مثل القمر ليلة البدر أمرد أجرد، وطرّة رقعاء كحنك الغراب تعلوه شقرة في بياض. عطر اللباس ضارب بالسيف، طاعن بالرمح، لاعب بالنرد والشطرنج، ضارب بالعود والطنبور، يغني وينقر على أعدل وزن لا يعيبه شيء إلاّ انحرافه عني لا نقصاً لي منه بل حقداً لما رآني عليه.
الشيخ: يا هذه وكيف صبرك عنه؟
الجارية: (حالي معه كحال القائل):
أمّا النهار فمستهام واله
…
وجفون عيني ساجفات تدمع
والليل قد أرعى النجوم مفكرا
…
حتى الصباح ومقلتي لا تهجع
كيف اصطباري عن غزال شارد
…
في لحظ عينيه سهام تصرع
الشيخ: يا سيدتي، ما أسمه وأين يكون؟
الجارية: تصنع به ماذا؟
الشيخ: أجهد في لقائه وأتعرف الفضل بينكما في الحال.
الجارية: على شريطة
الشيخ: وما هي؟
الجارية: تلقانا إذا لقيته وتحمل لنا إليه رقعة.
الشيخ: لا أكره ذاك
الجارية: هو ضمرة بن المضيرة بن المهلّب بن أبي صفرة. يكنى بأبي شجاع، وقصره في المربد الأعلى. وهو أشهر من أن يخفى. (تصيح في الدار): يا جواري دواة وقرطاسا. .
الشيخ: يا سيدتي وجب حقك عليّ. ولزمتك حرمتي لطول وقوفي عليك، وكنت قد سألت شربة ماء. . .
الجارية: أستغفر الله! ما فهمنا عنك. (تصيح في الدار): أخرج إلينا شرابا من ماء وغير ماء (تقبل وصيفتان تحملان الدواة والقرطاس وتشمّر الجارية عن ساعدين كأنهما طومارا فضة ثم تحمل القلم وتكتب الرقعة. ثم تقبل ثلاثون وصيفة بأيديهن الكؤوس والجامات والأقداح مملوءة ماء وثلجاً وفقاعا وشرابا فيشرب الشيخ. .)
الشيخ: يا سيدتي. مع قدرتك على هذا من استواء الحال وكثرة الخدم والعبيد والجواري، فلم لا تأمرين إحدى الجواري أن تقف مراعية للغلام حتى إذا مرّ أعلمتك فتخرجين إليه.؟.
الجارية: لا تغلط يا شيخ.!
الشيخ: (يفهم مرادها ويطرق خجلاً من هفوته)!
انتهى المنظر. وكان في مقدوري أن أجعل منه فصلاً كبيراً. لكني آثرت أن أبقيه على أصله. لأن المسألة عندي هل نظهر العناصر مع بقائها على شكلها أو نتصرف بها ونستعملها كما نشاء؟ سنتكلم في هذا إذا التقينا في الأسبوع القادم.
ثقافة المرأة
للآنسة أسماء فهمي (درجة شرف في الآداب)
اتجه خاطري نحو هذا الموضوع بعد قراءة تعليق (الرسالة) على خطاب الآنسة حياة التي تشكو من أن أصحاب (الرسالة) قد حرم المرأة أن يكون لثقافتها مظهر في مجلته بجانب ثقافة الرجل، ورد صاحب الرسالة بأنه لم يرد أن يسمح للرجال بالتحدث عن شؤون النساء الخاصة. ولست أفهم تماماً المقصود بشؤون النساء، أهي أمور الدار وتربية الأطفال، أم المراد مساهمة المرأة في ميدان التحرير وطبع الأدب بطابعها الأنيق الخاص، بصرف النظر عن الموضوعات النسوية البحتة؟
وسواء أكان المقصود الأمر الأول أم الثاني أم الاثنين معاً فأن موضوع ثقافة المرأة العامة، هو ما ينبغي أن يبدأ ببحثه حتى نتبين ما إذا كانت ثقافة المرأة تنحصر في دائرة خاصة، وهل يحسن أن يكون لها تعليم وتهذيب يختلفان عن تعليم الرجل وتهذيبه.
وقد لا يكون من غير الملائم لفت الأنظار إلى هذا الموضوع في الوقت الذي تطور فيه تعليم الفتاة في العشر سنين الأخيرة تطوراً عظيماً، فبعد أن كان تعليمها قاصراً على بعض الفنون المنزلية ومبادئ القراءة والكتابة وقشور اللغات الأجنبية، أصبحت تتلقى من العلوم ما يتلقى الفتى في المدارس الابتدائية والثانوية، كما أصبحت تدرس معه جنباً إلى جنب في الجامعات.
وبالرغم من أن مصر لم تبتدع ذلك النظام، وإنما نسجت فيه على منوال الأمم الراقية التي تأخذ عنها جل نظم الحضارة والعمران، فأن ذلك الانتقال لم يتقبله الكثيرون قبولاً حسناً بعد، لأنهم يرون فيه ضياعاً لوقت الفتاة التي خلقت لأن تكون أماً، زاعمين أن سيكولوجية المرأة وتركيبها النفسي، ووظيفتها في الحياة تستدعيان أعداداً خاصاً وتعليماً غير تعليم الرجل. ويظهر أن أنصار هذا المبدأ لهم تفسير خاص، لأغراض التعليم ومعنى الثقافة! أما ما يفهم عادة من الثقافة فهو كل ما من شأنه تهذيب النفس وصقل العقل وتقويم العاطفة وتوسيع المدارك وعلى ذلك يدخل تحت الثقافة العلوم بأنواعها والفنون والآداب والأخلاق، وكل ما يكتسب المرء من تجارب وتعليم عملي في الحياة. ولما كان هذا النوع من الغذاء العقلي والروحي لا يستغني عنه الإنسان الذي يصبو إلى الكمال، وكانت المرأة إنساناً لا
تختلف، عن الرجل من هذه الناحية، فلا بد لها من غذاء عقلي ومعنوي أيضاً، ولما كان التكافؤ العقلي بين الجنسين أصبح من الأمور المسلم بها، وجب إذن أن يتغذّى عقل المرأة كما يتغذى عقل الرجل حتى تصل إلى حظ مثل حظه من الثقافة. نعم لا مفر الآن من تثقيف المرأة بالطريقة التي تتبع في تثقيف الرجل، إذ أصبح من الجلي الآن إن الطريقة القديمة لتعليم الفتاة لم تنتج غير مخلوق ناقص من نواح كثيرة، بدليل هجران الرجل لمنزله في كثير من الأوقات، لأن شريكة حياته تعجز عن أن تمده بالنصح والمعونة، كما تعجز عن جعل دارها مهبطاً للجمال والتسلية. أقول هذا القول وأشعر إنني لو قلته في بلد آخر متمدن غير مصر، لنظر الناس إليّ بمنتهى الدهشة، نظرتهم إلى من يخبرهم مثلاً إن النهار في الصيف أطول منه في الشتاء، ظاناً إنه يذكر لهم أمراً طريفاً!. . ولكن مصر التي سارت بخطى واسعة جداً في نواح كثيرة من نواحي التقدم والرقي مازالت تتردد في قبول بعض المبادئ التي تعد أساس الرقي الصحيح وعنوان الحضارة، أعني مساواة المرأة بالرجل في الحقوق وخصوصاً الثقافة.
وليس الغرض الرئيسي من تعليم الفتاة كما يظن الكثيرون تأهيلها لمزاولة مهنة من المهن كالمحاماة أو الطب أو الهندسة، وإنما الأهم أن تصل إلى حقها الطبيعي من اعتيادها التفكير المنظموإكسابها خلق الاعتماد على النفس والاعتداد بالكرامة، وذلك لا ينشأ إلا عند تبيّن مبلغ المقدرة الشخصية والاستعداد. ولا ضير إذا هي لم تستخدم تلك المعلومات بالذات في حياتها المنزلية إذ الغرض الأساسي من التعليم كما يقول أفلاطون في (الجمهورية): توجيه الروح إلى النور باعتياد التفكير المنتجوبالابتعاد زمناً ما عن قيود الماديّات. والواقع إننا نحط من شأن التعليم كثيراً إذا نظرنا إليه قبل كل شيء كوسيلة لتحقيق غرض مادي. فالتعليم يجب أن يعتبر غرضا في ذاته قبل أن ينظر إليه بتلك النظرة المادية سواء في حالة تعليم المرأة أو تعليم الرجل. سأل مرة أستاذ في إحدى الجامعات الكبرى تلميذه لماذا يتعلم تعليماً جامعياً ولم اختار التاريخ لفرع تخصصه. فكان جواب الطالب الصريح مما أهاج الأستاذ الذي لم ير مغضباً من قبل. وذلك انه أجاب إنما يتعلم ليحصل على درجة عالية تمكنه من الحصول على وظيفة تضمن له رغد العيش. . . ثار الأستاذ وغضب لأنه شعر أن تلميذه لا يتعلم لوجه العلم، وعلى ذلك فهو يفقد أهم شروط التهذيب الصحيح.
فبغير هذا الشرط لا يمكن أن يمتزج العلم بالنفس أو بعبارة أخرى لا يمكن أن تحدث الثقافة. وعلى ذلك تكون المرأة امتن ثقافة وأعمق تهذيباً لو تعلمت تعليم الرجل لأنها في الغالب تتعلم العلم فيكون لإنتاجها مظهر جذاب لأنه بعيد عن المؤثرات المادية التي كثيراً ما تعترض تقدم الرجل. إلا أن ثقافة المرأة لا تكمل ولا يصبح لها أثر محسوس إذا علمناها علوم الرجل بينما تحرم مما يستمتع به من حرية وإرادة مستقلة، وتحاط بسياج من التقاليد العتيقة والرقابة الخانقة، فهي في هذه الحال تقول بمرارة: من لي بعيش الأغبياء. . . كما أنه لا يمكن أن يصدر عنها ثقافة عالية، إذ ينقصها بسبب قيودها الشخصية والابتكار والصراحة والنظرة العلمية. . وهكذا تبدو ثقافتها مبتورة وان تناهت في الظرف وتألق فيها الذكاء الباهر.
وهنا قد يسأل سائل: وما مبلغ أثر التعليم المنزلي في ثقافة المرأة؟ إني وإن كنت أريد تعليم المرأة تعليماً عالياً ابتغاء وجه العلم، أو استعداداً للعمل فلست ممن ينكرون ما للتعليم المنزلي من أهمية في ثقافة المرأة. وهو لا ينفعها عملياً فحسب، وإنما لهذا التعليم أثر جميل في إنتاجها العقلي أو مظهر ثقافتها. وقد كان يقال عن (جين أوستن) الكاتبة الإنجليزية التي اشتهرت ببراعة الأسلوب وسمو الخيال ودقة التحليل إنها إنما اكتسبت الطلاوة في التعبير، والدقة في التفاصيل، من تدريبها الطويل على استعمال الإبرة والمنسج. والواقع أن مثل هذا التعليم يكسب المرأة المقدرة على مراعاة النسب ودقة الأسلوب ودقة الحساسية، وكل ذلك يبدو واضحاً إلاّ أن ما يعترض عليه بشدة هو تضحية التعليم العام من أجل هذا التعليم المنزلي، بحجة عدم استخدامه عملياً في وظيفتها الخاصة. انه لمنتهى الظلم إلاّ ننظر إلى المرأة كإنسان له حق كامل في الحرية والتعليم قبل أن ننظر إليها كأم أو دمية منزل، بل أن منتهى الاستهتار بمواهب المرأة أن نكتفي منها بالقشور دون اللباب، فلا نحاسبها على عدم تعمقها في التعليم وإنما ننظر إليها نظرة كنظرة أهل العصور الوسطى، الذين كانوا لا يطلبون من المرأة أكثر من اتصافها بالعفة والصيانة. أما الصفات الأخرى كالذكاء وبُعد النظر والشجاعة والصراحة فلم يكن عليها إقبال يذكر؛ وإنما الاستكانة والخشوع كانا من أهم مميزات الكمال النسوي في تلك العصور. ولقد كانت (جرزلدا الصبور) التي تحملت مرارة هجر الزوج وقسوته مثل الفضيلة والأمومة الصالحة
عندهم. . . وأخشى أن تكون (جرزلدا) هذه لا تزال المثل الأعلى للزوجة عند الكثير من الرجال. . .
إن التطورات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي تبعد الشقة كل يوم بين العصور الوسطى والعصر الحديث، تفرض علينا تغيير الآراء القديمة بالنسبة إلى مركز المرأة وثقافتها. ففي حياتنا الحديثة المتشعبة المسالك الكثيرة المطالب، المملوءة بالصراع والتنافس لم يبق مكان للمرأة الساذجة الضعيفة. وعلى ذلك كان من الخطأ الكبير أن نتعمد إنقاص تثقيف المرأة عن تثقيف الرجل، بل يجب أن يتناسب مقدار الثقافة مع وظيفة تلك التي تهز العالم بيسارها إذا ما هزت المهد بيمينها؛. . ولكن ماذا تكون النتيجة لو تعلمت المرأة كما يتعلم الرجل؟ هل تفقد مميزاتها الخاصة ولا يصبح هناك فرق بين ثقافتها وثقافته؟ الواقع أن الثقافتين لا تختلفان إلاّ شكلاً فقط، فيكون لثقافة المرأة وان اتحدت في الجوهر مع ثقافة الرجل طابعها الخاص، إذ تتجلى فيها ما تمتاز به المرأة من حنان ورقة وتأثر بالعواطف والهام وحدة ذكاء وشدة حساسية.
وإنا لنأمل أن نرى أثراً واضحاً لتلك الثقافة النسوية (في الرسالة) التي تعتبر بحق رسالة الروح الحديثة المملوءة قوة وابتكاراً وتجديداً.
إلى الله.
.!!
للآنسة ناهد محمد فهمي
رباه طالما حادثتك في ليل السريرة. . .!!
وطالما ناجيتك حزينة ومسرورة. . .!!
وكنت عقب صلواتي أسمع صوتك القدوس يدوي، صداه في أركان روحي المادية. .!!
عرفتك بالغريزة وأنا طفلة. .!!
فكنت أتأدب كلما ذكروا اسمك العظيم. .!!
لأني أعتقد دائماً أني في حضرتك. .!!
وكنت أضطرب محبة واحتراماً وعبودية، كلما فكرت أنك تراني دائماً. .!!
حادثتك وأنا في (الكُتّاب) اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فآمنت بك لرحمتك وحنانك. .!!
لأن الرحمة والحنان أول ما يفتقر إليهما الناشئ في هذه الحياة القاسية. .!!
عرفتك في (الليالي الممطرة). .!!
فكنت أقف ساعات منصتة للرعد، فهو جلجلة همساتك. . .!!
وكنت ارقب البرق. . فهو نور ابتسامتك. .!!
غفرانك يا رب!!
إذا تخيلتك هكذا (بمخيلتي) الإنسانية الضعيفة. .!!
عرفتك في الرّبيع. . . حين مرت يداك القادرتان على وجه الأرض. . . فتجلى صنعك البديع في النبات والورود، وعرفت رحمتك في تلك النفحات الربيعية العطرة وصوتك في أهازيج الطبيع ' البهيجة. .!! فأيقنت برحمتك وآمنت بجنتك. . .!!
عرفتك في (الصيف). . فاعتقدت بجبروتك وآمنت (بنارك) وفي الخريف فآمنت بالموت والفناء والمرض، وعلمت أنك الباقي ونحن الفانون. . .!
عرفتك في النهار عندما ملأت أنوارك عيني وبهرت آياتك لبي. .!!
وعرفتك في الليل حينما باحت لي النجوم
الزواهر بسرّ عظمتك، وبعث الظلام الحالك في نفسي معنى رهبتك. .!!
عرفتك في كل مظهر من مظاهر أكوانك
…
وناجيتك في كل سورة من سور قرآنك
ولكني بعد هذه المعرفة الطويلة، والمناجاة المتصلة اسمع في جوانب نفسي سائلاً يسأل: هل عرفتك حقيقة يا رب؟
الأدب والحياة
للأستاذ زكي نجيب محمود
تطغى على العالم موجة مادية تجتاحه أصولاً وفروعا، وتريده على أن يحمل تراث الإنسانية الأدبي، منذ فجرها حتى اليوم الراهن، فيأخذ سمته نحو أليم، فيلقي بذلك التراث في لجة مالها من قرار، ثم يعود وقد أزاح عن كاهله ذلك العبء المضني من دموع الشعراء وأنينهم وهزّات نشوتهم وسرورهم، وغير ذلك من نزوات الطفولة التي لا تدعو إليها ضرورة ولا شبه ضرورة في هذا العصر الحديث، وأن يتوفر على أزيز المعامل ومقارع الآلات، التي لا ينبغي أن يطرب لسواها، أو ينصت لصوت غير صوتها!! وماذا يغني دانتي وشكسبير بجانب علوم الطبيعة والكيمياء، التي على أساسها تعمل المطارق وتدور الأرجاء!! وفي ذلك يقول الكاتب الإنجليزي توماس بيكوك:(الشاعر في عصرنا هذا نصف همجي يعيش في عصر المدنية، لأنه يقيم في الزمن الخالي، ويرجع بخواطره وأفكاره وخوالجه وجوانحه إلى الأطوار الهمجية، والعادات المهجورة، والأساطير الأولى، ويسير بذهنه كالسرطان زحفاً إلى الوراء. . . . . لقد كان الشعر نقرة تنبه الذهن في طفولة الهيئة الاجتماعية، ولكن من المضحك في عصر النضج العقلي أن نعني بألاعيب طفولتنا، ونفسح لها موضعاً من شواغلنا، فإن هذا سخف يشبه سخف الرجل الذي يشتغل بألاعيب الصبيان، ويبكي لينام على رنة الأجراس الفضية).
هكذا يقال عن الأدب الآن، كأنه عرض من أعراض الحياة، لا يمسها في الجوهر والصميم، والواقع أننا حين ننزل عن الأدب وسائر الفنون، فأننا إنما ننزل عن نفوسنا، لأن هذه وتلك شيء واحد اختلفت أوضاعه.
وللشاعر الفيلسوف طاغور تحليل يبين به موضع الفن من أساس الحياة، وأنه ضرورة لازمة لا مناص منها، ونحن نورد للقارئ خلاصة موجزة لذلك البحث الجليل:
من الحقائق البديهية، ان الإنسان مرتبط بهذا العالم بصلات شتى، فهو يعيش في مضطرب الحياة مدفوعاً بطائفة من الحاجات التي يتحتم عليه قضاؤها وهو في تلك المحاولة مضطر إلى أن يتصل بالعالم اتصالاً ليس له عنه منصرف ولا محيد.
فالحاجة الجسمية تملي عليه أن يفلح الأرض ويتعهد الزرع حتى يثمر له القوت، وأن
يلتمس من الطبيعة مسكناً وملبساً يدفعان عنه الفقر والهجير.
والحاجة العقلية تريده على أن يمعن النظر ويستقصي البحث في مظاهر الكون، لان العقل لا يقنع بالنظر إلى الأشياء الخارجية دون أن يتتبع العلل ويكتشف القوانين العامة التي تنتظم جميع الجزئيات، فهو مطبوععلى هذا البحث ليخفف عن نفسه أعباء الحقائق الكثيرة التي تصادفه في حياته، باختزالها في عدد قليل من القوانين، أو في قانون واحد شامل إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
وليست حاجة الإنسان تقتصر على العقل والجسد، بل هو يحمل بين جنبيه نفساً لها مطمح تنشده وتسعى إليه، فهي بدورها مضطرة إلى أن تتصل بالكون كي تلتمس عند مظاهره ما تصبو إليه، وهي بحكم وجودها تعالج ضروباً من المشاعر، فهي تموج بالأمل واليأس والسرور والغضب وغير ذلك من ألوان الشعور.
ولكن هذه الروابط التي تصل الإنسان بالعالم لا تقتصر عليه دون سائر الحيوان، فهو يشاركه في الحاجة الجسمية ويشاركه في الحاجة العقلية - إن صح إطلاق هذه الكلمة على الحيوان الأعجم - كما يشاركه في مشاعره النفسية كذلك، إلاّ أن أهم ما يرتفع بالإنسان عن مرتبة الحيوان، إن هذا محدود في دائرة ضيقة جداً، لاتسع لأكثر من الضرورات التي يقتضيها استمرار الحياة، فهو يبذل ما يبذله من مجهود لحفظ كيانه، والاحتفاظ بجنسه، ثم لا يزيد على ذلك إلاّ بمقدار ضئيل، أما الإنسان فلا تكلفه الضرورة إلا بقدر محدود ثم يبقي لديه من القوة ما يجول به حرا من الأصفاد والقيود، مثل الحيوان في ذلك، مثل الزارع الذي ينوء بأعباء الدّين الفادحة فهو يكد ويكدح ويعمل ويشقى طول العام، فإذا ما حان الحصاد تسرّب الثمر إلى الدائن، ويخرج صاحبنا من المعركة صفر اليدين، أما الإنسان فهو في هذا التشبيه صاحب ضيعة واسعة النطاق، لا يفقد من دخله إلا جزءاً يسيرا، ثم ينعم بعد ذلك حرا لا يقف دونه سلطان ولا رقيب، أي إن لديه من ثروة الحياة ما يزيد على الحاجة الضرورية بقدر عظيم، وبذلك يتاح له من القوة والفراغ، ما يستطيع معه أن يعالج مختلف الشئون، لا باعتبارها واجباً حتماً تمليه ضرورة الوجود، ولكن على أنها أغراض في نفسها تقصد لذاتها.
فللحيوان مقدار من المعرفة ولا ريب، إلا أنها معرفة ضئيلة محدودة، يستخدمها في حفظ
الحياة وكفى، فهو ملزم أن يدرس بيئته في شئ كثير من الدقة ليستطيع أن يتخذ لنفسه من أركانها مستقراً يؤويه، وليتمكن من الحصول على طعامه وشرابه في سهولة ويسر، وهو ملزم كذلك أن يعلم بعض خواص الأشياء من حيث اللدونة والصلابة مثلاً، ليبني ما يشاء من أوكار، ويعالج شؤون الحياة الأخرى، وهو لابد أن يعرف للفصول المختلفة علامات تدل على قدومها. حتى يتهيأ لأجوائها المتباينة بالريش أو الفراء، هذه وأشباهها معرفة لا ندحة عنها لكل أنواع الحيوان للذود عن كيانها والاحتفاظ بوجودها. ولكنها لا تزيد على ذلك إلاّ قليلا. والإنسان أيضاً. لديه تلك المعرفة اللازمة لاستمرار الحياة - حياة الفرد والجنس - ولكن معرفته لا تقف عند هذا القدر القليل، بل تفيض معرفته فيضاً غزيراً يطغى على تلك الحدود الضرورية، فهو يحصل جانباً من المعرفة لذاتها، وينشد العلم لأجل العلم، لا يبغي وراء ذلك قصداً ولا غاية. ومن هذا الفيض العلمي تنشأ الفلسفة والعلوم.
وللحيوان جانب خلقي غير منكور، فلديه كثير من الإيثار تراه واضحاً في حنان الأم على صغارها أيا كان نوعها ويبدو ذلك الإيثار بارزاً في هذه النحلة العاملة، وتلك النملة المثابرة، فهما تسعيان وتطوفان هنا وهناك، تجمعان القوت، ولكن لماذا؟ لخلية النحلة كلها أو لجماعة النمل بأسرها. وهذا المقدار الضئيل من الأخلاق، إنما أوجدته ضرورة الحياة عند الحيوان، أما الإنسان فقد رسم لنفسه من التشريع الخلقي ما يربي على حاجته الضرورية أضعافاً مضاعفة، فهو يفرض نفسه على الخير لأنه صالح للجماعة أولاً، ولكنّه لا يكتفي بهذا الفرض المتواضع، بل يمعن في ذلك إمعاناً بعيداً، فينشد الخير محضاً ويطلبه لذاته فقط ومن هذا الفيض الخلقي، نشأ علم الأخلاق.
وللحيوان شعور يحسه ويعبّر عنه، فهو يبغض ويحب، وهو يسر ويحزن، وهو يأمن ويخاف. ولكنه كذلك لا يعدو في التعبير عن مشاعره ذلك الحد الذي تقتضيه ضرورة الحياة. أما الإنسان، فعواطفه - وان تكن قد نشأت في الأصل لتلك الأغراض التي نشأت من اجلها عواطف الحيوان - إلا إنها قد جاوزت ذلك الحد تجاوزاً، وتركت في الأرض جذورها الأولى التي أخرجتها إلى الوجود، وانبسقت عالية منتشرة بغصونها في سماء اللانهاية، نعم لدى الإنسان من العواطف أضعاف أضعاف ما تتطلبه طبيعة وجوده، وهذا الفيض الغزير العميق من المشاعر التي تضطرم وتحتدم في الصدور لابد أن يجد متنفسا
يتسلل منه، ليعلن عن نفسه في أنحاء الوجود. وقد كانت الثغرة التي تدفق منها ذلك الفيض الشعوري هو الفن الجميل في ضروبه المختلفة من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وغيرها. إذ أتخذها الإنسان أداة للتعبير عما يحسه من شعور، وهذا الشعور الذي يلتمس طريقه إلى عالم التعبير في صورة فنية، إنما يكشف عن نفوسنا وما يدور فيها من إحساس. وبعبارة أخرى إن الفنون وسيلة لابراز مشاعر النفس الإنسانية ودون الأشياء المحسة التي تتعلق بها تلك المشاعر، وبذلك أتاحت للإنسان أن يسكب نفسه أمامه، فيراها ويلمسها، وليس له عن ذلك بد بحكم تكوينه، فهو حين ينظم قصيدة من الشعر أو يضرب على أوتار الموسيقى فان ذلك يوازي في قائمة الضرورات الإنسانية - الملبس والطعام -، ومن هنا كان الإنسان هو الحيوان الذي يعرف نفسه ويشعر بوجوده.
ولمّا كانت الآداب والفنون هي شخصيتنا تدفقت إلى العالم الخارجي في مختلف الأثواب، كان لا يصلح موضوعا للفن إلا ما يتصل بنفوسنا وينتظم في سلك مشاعرنا، أو تغذوه عواطفنا، فيكتسي الرضى أو السخط أو السرور أو الألم أو غيرها، وعندئذ يصبح جزءاً منا، يصح له أن يبرز في صورة فنية. فعلمنا أن الأرض تبعد عن الشمس كذا ميلا لا يصلح موضوعاً للفن لأنه لا يمس نفوسنا، أما منظر غروب الشمس فهو يثير فينا عاطفة ما (الإعجاب مثلاً) فيمتزج المنظر بنا، ويختلج في نفوسنا، ثم لا يلبث أن يسلك سبيله إلى التعبير. وهكذا كلما اجتمعت مشاعرنا حول شئ معين فإنها تجاهد في الإفصاح عن نفسها مستعينة في ذلك بالفنون، ولما كانت معظم الأشياء التي تصادفنا في الحياة تثير فينا لونا خاصا من العواطف، فالإنسان فنان في الكثير الغالب من نواحي الحياة. فهو يشيد دوراً فخمة لمسكنه وكان يكفيه كوخ خشن ضئيل، وهو يبني المعابد والمساجد الشامخة التي ترسل قبابها ومآذنها في الفضاء، لينفس عن عاطفته الدينية، وكان يكفيه حيز محدود في العراء لأداء فريضته، وهو يخطط المدن وينسق الحدائق ليرضي عاطفته الوطنية وهو يعني بأثاث منزله وجمال ملبسه إلى آخر دقائق الحياة. لماذا؟ لأنها تمس مشاعره فتصبح قطعة من شخصيته لا يسعه إلاّ إبرازهاوالإعلان عنها.
من ذلك نرى أن الفنون جميعاً هي الأداة التي يستخدمها الإنسان ليتمكن من صب الوجود نفسه. ثم يعود فيسكبها شخصية تنبض فيها الحياة، وقد اتخذت الفنون قوالب الجمال وسيلة
إلى ذلك التعبير كالتصوير والموسيقى والعبارة الجميلة، فأدى ذلك إلى اقتران الآيات الفنية بمعاني الجمال فالتبس الأمر على بعض المفكرين وذهب بهم الظن إلى أن الجمال هو الغرض المقصود من الفنون. والحقيقة انه أداة فقط، استعملت للوصول إلى الغاية الحقيقية وهي إبراز الشخصية الإنسانية، وقد تبع ذلك جدل ونقاش حول موضوع لم يكن ليحتمل النقاش والجدل وهو أيهما افضل في الأدب؛ المعنى أم المبنى؟ فذهب فريق كبير إلى تفضيل العبارة الجميلة وحجتهم في ذلك أن المعنى أدخل في باب العلوم منه في باب الأدب، أما اللفظ الجميل فهو خالص لأنه قطعة من الجمال والجمال أساس الفنون! وفات هؤلاء أن جمال الأدب لا يتحقق إلاّ بمزج هذين العنصرين مزجاً (كيميائياً) لا يقبل التجزئة والتحليل، فأنت إذا أردت أن تتذوق لونا من ألوان الطعام فلا تعمد إلى تحليله إلى عناصره الأولى لتختبر كل واحد على حدة بل لابد لك أن تتناوله وحدة متماسكة. كذلك الحال في الأدب؛ الكل شئ آخر غير أجزائه. فالمعنى وحده قطعة من العلم واللفظ وحده كذلك جزء من علم البلاغة والنحو والصرف، فإذا مزجت بينهما كان لديك بذلك آية أدبية خالدة.
فالفنون ومنها الأدب هي أشخاصنا وأرواحنا في حين أن العلوم (كالأشياء نفسها) جامدة ميتة لا تتصل بنفوسنا ولا تظهر فيها الشخصية الإنسانية. وقد أحسن فكتور هوجو حين قال في كتابه (وليم شكسبير): (ينأى كثير من الناس في أيامنا هذه (ولا سيما المضاربون وفقهاء القانون) إن الشعر قد أدبر زمانه. فما اغرب هذا القول؟! الشعر أدبر زمانه! لكأنّ هؤلاء القوم يقولون؛ أن الورد لن ينبت بعد وان الربيع قد أصعد آخر أنفاسه وان الشمس كفت عن الشروق وانك تجول في مروج الأرض فلا تصادف عندها فراشة طائرة، وان القمر لا يظهر له ضياء بعد اليوم، والبلبل لا يغرد والأسد لا يزأر والنسر لا يحوم في الفضاء، وان قمم الألب والبرانيس قد اندكت، وخلا وجه الأرض من الكواعب الفواتن والأيفاع الحسان. . . لكأنهم يقولون انه لا أحد اليوم يبكي على قبر ولا أم تحب وليدها وأن أنوار السماء قد خمدت وقلب الإنسان قد مات).
والخلاصة أن الأدب والفن بوجه عام، ضرورة تحتمها المشاعر الزائدة على حاجة البقاء، وأنها صورة دقيقة لنفوسنا، تربطنا بالعالم برباط الصداقة والرحم، بخلاف العلوم، فإنها
صورة العالم الخارجي ولا دخل للإنسان فيها، فهي من الإنسان بمثابة الزائر الأجنبي الذي لا تصله بنا وشائج القربى. وأحسب أننا لو خيّرنا بين العلم والأدب لما ترددنا لحظة في أن ننبذ العلم نبذاً، ونتمسك بالأدب ونعتز به اعتزازنا بالنفوس.
في الأدب التركي
فهل كنت تعلمين؟
اذكري تلك الأيام، تلك الليالي المقمرة،
وحذارا أن تنسى سويعات الوصال الهنيئة،
وبينا الناس في مضاجعهم نيام يغطّون،
كان يصهرني النسيم المنبعث من شفتيك. . .
فهل كنت تعلمين؟
كنت تذهبين فأبقى مرتعشاً
وآوي إلى فراشي الموحش باكياً منتحباً،
أراقب النجوم والشهب المتساقطة كالمأخوذ،
كنت مفتوناً بسحرك منذ عرفتك. . .
فهل كنت تعلمين؟
ينبثق الفجر فاسمع وقع نعليك على السلالم فيرتج قلبي،
وأرقب قدومك متحرّقاً وقد أمضني الليل،
فإذا بك تقبلين والكتاب تحت إبطك،
فأشعر بمطرقته تحاول كسر ضلوعي بينما أنظر إلى صدرك المجلل بسواد ثوبك الرهيب.
فهل كنت تعلمين؟؟؟
حلب: ترجمة يحيى جركس
الذكرى
ولّى ربيع الحب من بعد ما
…
ضحّى فؤادي كل ما يملك
وكنت أرجو قطف أثماره
…
إذا بها يا أسفا تهلك
تركت عهد الحب في كوخه
…
وقلت يقضى والأسى بعد حين
وعدت أدراجي وكل الذي
…
خلفته للعيش قلب حزين
وخلت في طول النوى سلوة
…
تغني عن الماضي وتخفي عليه
إذا بذكراي وما أوجع ال
…
ذكرى بهذا اليوم عادت إليه
حماه - إسماعيل العظم
في الأدب العربي
مآثر العرب في الفلك
مقدمة
يعيب البعض على العرب انهم لم يكونوا عمليين، ولم يعرفوا من العلوم إلاّ قسمها النظري، وهذا الاعتقاد خطأ، ويظهر فساده جلياً ببعض الإلمام بتأريخ العلوم، إذ يتحقق لدى الباحث المنقب أن للعرب عدا ترجمتهم أهم نتاج قرائح الأمم التي سبقتهم إضافات هامة وابتكارات جمة مبينة على التجربة، على أساسها بنى الغرب حضارته، ولولاها لما تقدمت المدنية تقدمها الحاضر. والآن سأبحث بصورة مجملة عن أهم مآثر العرب في علم الفلك، وطبعاً لا يمكنني في هذه العجالة أن أجول كثيراً في هذا الموضوع فهو أجلّ من أن يوف حقه بمقالة، ولقد سبقنا الغربيون إلى البحث عن التراث العربي في الفلك وغيره من العلوم والفنون، وأظهروا الاكتشافات الفلكية التي للعرب وأثر ذلك في تقدم العلوم الطبيعية، وكان من ذلك أن اعترف المنصفون من علماء الفرنجة بخصب العقل العربي وفضل الحضارة العربية على حضارتهم التي ينعمون بها.
اعتناؤهم بالفلك:
لم يعرف العرب قبل العصر العباسي شيئاً يذكر عن الفلك، اللهمّ إلاّ فيما يتعلق برصد بعض الكواكب والنجوم الزاهرة وحركاتها وأحكامها، بالنظر إلى الخسوف والكسوف، وبعلاقتها بحوادث العالم من حيث الحظ والمستقبل والحرب والسلم والمطر والظواهر الطبيعية، وكانوا يسمون هذا العلم الذي يبحث في مثل هذه الأمور بعلم التنجيم، ومع أن الدين الإسلامي قد بيّن فساد الاعتقاد بالتنجيم وعلاقته بما يجري على الأرض لم يمنع ذلك الخلفاء ولا سيما العباسيون في بادئ الأمر أن يعتنوا به وأن يستشيروا المنجمين في (كثير من أحوالهم الإدارية والسياسية. فإذا خطر لهم عمل وخافوا عاقبته استشاروا المنجمين فينظرون في حال الفلك واقترانات الكواكب ثم يسيرون على مقتضى ذلك) وكانوا يعالجون الأمراض على مقتضى حال الفلك، يراقبون النجوم ويعملون بأحكامها قبل الشروع في أي عمل حتى الطعام والزيارة. ومما لاشك فيه أن علم الفلك تقدم تقدماً كبيراً في العصر
العباسي كغيره من فروع المعرفة، وقد كانت بعض مسائله مما يطالب بمعرفتها المسلم كأوقات الصلاة ومواقع بعض البلدان المقدسة وقت ظهور هلال رمضان وغيره من الأشهر أضف إلى ذلك شغف الناس بعلم التنجيم، كل هذه ساعدت على الاهتمام بالفلك والتعمق فيه تعمقاً أدى إلى الجمع بين مذاهب اليونان والكلدان والهنود والسريان والفرس، وإلى إضافات هامة لولاها لما أصبح علم الفلك على ما هو عليه الآن.
قد يستغرب القارئ إذا علم أن أول كتاب في الفلك والنجوم ترجم عن اليونانية إلى العربية لم يكن في العهد العباسي بل كان في زمن الأمويين قبل انقراض دولتهم في دمشق بسبع سنين. ويرجح الباحثون أن الكتاب هو ترجمة لكتاب عرض مفتاح النجوم المنسوب إلى هرمس الحكيم، والكتاب المذكور موضوع على تحاويل سني العالم وما فيها من الأحكام النجومية، وأول من اعتنى بالفلك وقرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، وبلغ شغف المنصور بالمشتغلين بالفلك درجة جعلته يصطحب معه دائماً نوبخت الفارسي، ويقال أن هذا لما ضعف عن خدمة الخليفة أمره المنصور بإحضار ولده ليقوم مقامه فسّير إليه ولده أبا سهل بن (نوبخت) وقد ساعد المنصور كثيراً إبراهيم الفزاري المنجم وابنه محمد وعلي بن عيسى الاصطرلابي المنجم وغيرهم، وهو الذي أمر أن يُنقل كتاب في حركات النجوم مع تعاديل معمولة على كردجات محسوبة لنصف نصف درجة مع ضروب من أعمال الفلك من الكسوفين ومطالع البروج وغير ذلك. وهذا الكتاب عرضه عليه رجل قدم سنة 156همن الهند قيّم في حساب السندهنتا، وقد كلف المنصور محمد بن إبراهيم الفزاري بترجمته وبعمل كتاب في العربية يتخذه العرب أصلاً في حركات الكواكب، وقد سمّاه المنجمون كتاب السندهند الكبير الذي بقى معمولاً به إلى أيام المأمون وقد اختصره الخوارزمي وصنع منه زيجه الذي اشتهر في كل بلاد الإسلام (وعول فيه على أوساط السندهند وخالفه في التعاديل والميل فجعل تعاديله على مذهب الفرس وميل الشمس على مذهب بطليموس، واخترع فيه أنواع التقريب أبوابا حسنة، وقد استحسنه أهل ذلك الزمان وطاروا به في الآفاق)، وفي القرن الرابع للهجرة حوَّل مسلمة بن احمد المجريطي الحساب الفارسي إلى الحساب العربي.
بعض فلكييّهم:
زاد اهتمام الناس بعلم الفلك وزادت رغبة المنصور فيه، فشجع المترجمين والعلماء، وفي مدة خلافته نقل أبو يحيى البطريق كتاب الأربع مقالات لبطليموس في صناعة أحكام النجوم ونقلت كتب أخرى هندسية وطبيعية أرسل المنصور في طلبها من ملك الروم، واقتدى بالمنصور الخلفاء الذين أتوا بعده في نشر العلوم وتشجيع المشتغلين فيها، فلقد ترجموا إلى العربية ما عثروا عليه من كتب ومخطوطات للأمم التي سبقتهم وصححوا كثيراً من أغلاطها وأضافوا إليها.
وفي زمن المهدي والرشيد أشتهر في الأرصاد علماء كثيرون من أمثال (ما شاء الله) الذيألف في الأسطرلاب ودائرته النحاسية، وأحمد بن محمد النهاوندي. وفي زمن المأمون ألّف يحيى بن أبي منصور زيجاً فلكياً مع سند بن علي، وهذا أيضا عمل أرصاداً مع علي أبن عيسى وعلي أبن البحتري، وفي زمنه أيضا أصلحت غلطات المجسطي لبطليموس، وألّف موسى بن شاكر أزياجه المشهورة، وكذلك عمل أحمد بن عبد الله بن حبش ثلاثة أزياج في حركات الكواكب، واشتغل بنو موسى في حساب طول درجة من خط نصف النهار بناءً على طلب الخليفة المأمون، وفي ذلك الزمن وبعده ظهر علماء كثيرون لا يتسع المجال لسرد أسمائهم كلها، وهؤلاء ألّفوا في الفلك وعملوا أرصاداً وأزياجاً جليلة أدت إلى تقدم علم الفلك. أمثال: ثابت بن قرّة والمهاني والبلخي وحنين بن إسحاق والعبادي والبتاني الذي عدّه لالاند من العشرين فلكياً المشهورين في العالم كله، وسهل بن بشار ومحمد بن محمد السمرقندي، وأبو الحسنى علي بن إسماعيل الجوهري وأبو جعفر بن أحمد بن عبد الله بن حبش، وقسطه البعلبكي والكندي، والبوزجاني وابن يونس والصاغاني والكوهي والمؤيد العرضي وابنه وأبو الحسن، المغربي ومسلمة المجريطي وأبو الوليد محمد بن رشد وجابر بن الأفلح والبيروني والخازن والطوسي وابن الشاطر والفخر الخلاني وجمشيد والقوشجي والبطروجي والفخر المراغي ونجم الدين بن دبيران وعماد الدين الأنصاري وأولوغ بيك وقاضي زاده رومي والتيزيني والحزري وفتح بن ناجية وأبو الفتح عبد الرحمن والغزالي والتوفيقي وهبة الله والمدني ومبشر بن أحمد ومحمد بن مبشر. . . .
مآثرهم:
بعد أن نقل العرب المؤلفات الفلكية للأمم التي سبقتهم صححوا بعضها ونقحوا الآخر وزادوا عليها، ولم يقفوا في علم الفلك عند حد النظريات بل خرجوا إلى العمليات والرصد، فهم أول من أوجد بطريقة علمية طول درجة من خط نصف النهار، وأول من عرف أصول الرسم على سطح الكرة وقالوا باستدارة الأرض وبدورانها على محورها وعملوا الأزياج الكثيرة العظيمة النفع، وهم الذين ضبطوا حركة أوج الشمس وتداخل فلك هذا الكوكب في داخل أفلاك أخر، واختلف علماء الغرب في اكتشاف بعض أنواع الخلل في حركة القمر إلى البوزجاني أو إلى (تيخوبراهي) ولكن ظهر حديثا أن اكتشاف هذا الخلل يرجع إلى أبي الوفاء البوزجاني لا إلى غيره. وزعم الفرنجة أن آلة الإسطرلاب من مخترعات تيخوبراهي المذكور مع ان هذه الآلة والربع ذا الثقب كانا موجودين قبله في مرصد المراغة الذي أنشأه العرب، وهم (أي العرب) الذين حسبوا الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية وحسب البتاني ميل فلك البروج على فلك معدل النهار فوجده 23 درجة و 35 دقيقة وظهر حديثا انه أصاب في رصده إلى حد دقيقة واحدة، ودقق في حساب طول السنة الشمسية وفي حساب إهليليجية فلك الشمس فاستطاع أن يجد بعد الشمس عن مركز الأرض في بعديها الأبعد والأقرب وقد كانت النتائج التي وصل إليها قريبة جدا مما وصل إليه العلماء الآن، والبتاني من الذين حققوا مواقع كثير من النجوم، وقال بعض علماء العرب بانتقال نقطة الرأس والذنب للأرض، ورصدوا الاعتدالين الربيعي والخريفي وكتبوا عن كلف الشمس وعرّقوه قبل أوربا وأنتقد أحدهم وهو أبو محمد جابر بن الأفلح المجسطي في كتابه المعروف بكتاب إصلاح المجسطي وكان جابر يسكن في إشبيليه في أواسط القرن السادس للهجرة. وقد دعم انتقاده عالم آخر، أندلسي وهو نور الدين أبو إسحاق البطروجي الإشبيلي في كتابه الهيئة الذي يشتمل على مذهب حركات الفلك الجديد، ويقول الدكتور سارطون إنه بالرغم من نقص هذه المذاهب الجديدة فإنها مفيدة ومهمة جداً لأنها سهّلت الطريق للنهضة الفلكية الكبيرة التي لم يكمل نموها قبل القرن العاشر وأبحاثهم في الفلك أوحت لكبار (أن يكتشف الحكم الأول من أحكامه الثلاثة الشهيرة وهي إهليليجية أفلاك السيارات) وأخيراً نقول أن العرب عندما تعمقوا في درس علم الهيئة (طهروه من أدران التنجيم والخزعبلات وأرجعوه إلى ما تركه علماء اليونان علماً رياضياً
مبني على الرصد والحساب وعلى فروض تفرض لتعليل ما يرى من الحركات والظواهر الفلكية).
المراصد وبعض آلاتها والأزياج:
لم يصل علم الفلك عند العرب إلى ما وصل إليه إلا بفضل المراصد، وقد كانت هذه نادرة جداً قبل النهضة العلمية العباسية، وقد يكون اليونان أول من رصد الكواكب بالآلات وقد يكون مرصد الإسكندرية الذي أنشئ في القرن الثالث قبل الميلاد هو أول مرصد كتب عنه، ويقال إن الأمويين ابتنوا مرصداً في دمشق ولكن الثابت أن المأمون هو أول من أشار باستعمال الآلات في الرصد، وهو الذي ابتنى مرصداً على جبل قيسون في دمشق وفي الشماسية في بغداد، وفي مدة خلافته وبعد وفاته أنشأت عدة مراصد في أنحاء مختلفة من البلاد الإسلامية، فلقد ابتنى بنو موسى مرصدا في بغداد على طرف الجسر، وفيه استخرجوا حساب العرض الأكبر من عروض القمر وبنى شرف الدولة أيضاً مرصداً في بستان دار المملكة، ويقال أن الكوهي رصد فيه الكواكب السبعة. وأنشأ الفاطميون على جبل المقطم مرصدا عرف باسم المرصد الحاكمي، وكذلك أنشأ بنو الأعلم مرصدا عرف باسمهم، ولا ينبغي أن ننسى أن مرصد مراغة الذي بناه نصير الدين الطوسي في القرن السابع للهجرة من أهم المراصد التي قدمت بعلم الفلك تقدما محسوساً، ويوجد عدا هذه مراصد أخرى في مختلف الأنحاء كمرصد ابن الشاطر بالشام ومرصد الدينوري بأصبهان ومرصد البيروني ومرصد أولوغبك بسمرقند ومرصد البتاني بالشام ومراصد غيرها كثيرة خصوصية وعمومية في مصر والأندلس وأصبهان. . .
كان للرصد آلات وهي على أنواع، وتختلف بحسب الغرض منها، وهاك أسماء بعضها: اللبنة، والحلقة الاعتدالية، وذات الأوتار وذات الحلق، وذات السمت والارتفاع والآلة الشاملة، وذات الشعبتين، وذات الجيب، وذات المشتبهة بالناطق، والإسطرلاب وأنواعه المتعددة وقد اعترف الفرنجة بان العرب أتقنوا صنعته. وثبت أن الإسطرلاب وذات السمت والارتفاع والآلة الشاملة والرقاص وذات الأوتار والمشتبهة بالناطق كل هذه من مخترعات العرب عدا ما اخترعوه من المساطر والبراكير وعدا التحسينات التي أدخلوها على كثير من آلات الرصد.
في هذه المراصد عمل المسلمون أرصادا كثيرة، ووضعوا الأزياج القيمة الدقيقة. وعلى ذكر الأزياج نقول أن مفردها زيج وفي معناه قال ابن خلدون (ومن فروعه (علم الهيئة) علم الأزياج وهي صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطئ واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة. ولهذه الصناعة قوانين كالمقدمات والأصول لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جداول مرتبة تسهيلاً على المتعلمين وتسمى الأزياج) ومن أشهر الأزياج زيج إبراهيم الفزاري وزيج الخوارزمي وأزياج المأمون وابن السمح وابن الشاطئ وأبى حماد الأندلسي وابن يونس وأبى حنيفة الدينوري وأبى معشر البلخي والأيلخاني وعبد الله المروزي البغدادي والصفاني والشامل (لأبي الوفاء) والشاهي (لنصير الدين الطوسي) وشمس الدين وملكشاهي والمقتبسي (لأبي العباس بن أحمد بن يوسف بن الكمال) وو و. . .
الخلاصة:
وبالجملة فان للعرب فضلاً كبيراً على الفلك.
(أولاً) لأن العرب نقلوا الكتب الفلكية عند اليونان والفرس والهنود والكلدان والسريان وصححوا بعض أغلاطها وتوسعوا فيها وهذا عمل جليل جداً لاسيما إذا عرفنا أن أصول تلك الكتب ضاعت ولم يبق منها غبر ترجماتها في العربية وهذا طبعاً ما جعل الأوربيون أن يأخذون هذا العلم عن العرب فكانوا (أي العرب) بذلك أساتذة العالم فيه.
و (ثانياً) في إضافاتهم الهامة واكتشافاتهم الجليلة التي تقدمت بعلم الفلك شوطا بعيداً.
و (ثالثاً) في جعلهم علم الفلك استقرائياً وفي عدم وقوفهم عند حد النظريات كما فعل اليونان.
و (رابعاً) في تطهير علم الفلك من أدران علم التنجيم.
نابلس - فلسطين - قدري حافظ طوقان - عضو الجمعية
الرياضية بلندن
من طرائف الشعر
شوقية لم تنشر:
نظم شاعر الخلود شوقي بك مجموعة من رائع الشعر الحكيم السهل لتكون للأطفال أدباً وثقافة، ويسرنا أن ننشر اليوم قطعة منها لم تنشر من قبل وعنوانها المظنون (ولد الغراب)
ومُمهدٍ في الوكر من
…
ولد الغُراب مُزقَّقِِ
كروُيْهبٍ مُتقلس
…
مُتأزِّر مُتنطقِِ
لبس الرَّمادَ على سوا
…
دِ جناحه والمفرقِِ
كالفحم غادر في الرَّما
…
دِ بقيَّة لن تحرقِِ
ثُلثاه منقار ورَأ
…
س والأظافرُ ما بقي
ضخْم الدماغ على الخلو
…
من الحجى والمنطقِِ
من أمهِ لقي الصغ
…
يرُ من البَليّة ما لقي
جلبَت عليهِ ما تذو
…
دُ الأمهاتُ وتتّقي
فُتِنت به قتوهَّمت
…
فيه قُوىً لم تُخلقِِ
قالت كبِرت، فثبْ كما
…
وثَب الكبار وحلَّق
ورمت بهِ في الجو لم
…
تَحرصْ ولم تستوثقِِ
فهوى فمُزق في فنا
…
ء الدار شرَّ ممزق
وسمعتُ قافات تردّ
…
دُ في الفضاءِ وتَرتقي
ورأيت غِرباناً تَفرّ
…
قُ في السماء وتلتقي
وعرَفت رنَّة أمه
…
في الصارخات النُّعَّق
فأشرْتُ فالتفتت فقل
…
تُ لها مَقالة مُشفق
أطلقتِه ولو امْتحن
…
تِ جناحَه لم تُطلقِ ِ
وكما ترفق والدا
…
كِ عليكِ لم تترفقي
أصداء الربيع
قُمْ إلى الزمان وغيبْ
…
سورة الهم في مجالي ربيعةْ
خلصَ القلب من مآتم كانو
…
نَ وعاد الشادي إلى ترجيعه
عبقتْ بالسهول أنفاس آذا
…
رَ وساف المشتاق نفح الزهور
رقَّة في الفضاء شاعت ولطف
…
ساغَ للنفس كالهوى في الصدور
واكتسى الدوح نظرة بعد عري
…
ولكان ربَّ في المشيب الشباب
وتغنى الحمام فيه وساحتْ
…
تحتَ أظلاله عيون عذاب
وكان الروض الذي نبهته
…
من كرىً غفوةُ النسيم العليلِ
طرفةُ تملأ العيونَ بهاءً
…
أخلصتها يُمنى حبيبٍجميل
قم إلى البشر والطلاقة وانفض
…
عن محيّاكَ كدرَة الأيامِ
سيغول الحياة غول وتبقى
…
مُتع العيش حسرةً في العظام
وَتناس الآلام يندملِ الجر
…
حُ تنصب في مقلتيك الدموع
أنتَ أضريت بالفؤاد رزايا
…
هُ فضاقت بما تكن الضلوع
أنت أحسست من شجونك ما خي
…
لت واخترتَ أن تكونَشقيا
إنما الحزن والسرور اعتبارٌ
…
لم يكونا لولاه في النفس شيا
أيها القلب قد أظلك آذا
…
رُ ورّفت على الرُّبا آصاله
فتزوّدْ منهُ ليومك حظاً
…
قبل أن يوحش القلوبَ زواله
لا تسل عن غدٍ وخَل المقادي
…
ر فقد كنَّ في الغيوبِ وكانا
حسبنا من مغانم العيشِ يومٌ
…
حاضرُ السعد عن غدٍ أغنانا
أيُها القلبُ إن دعاكَ التصابي
…
وثنيت العنان ضل ضلالك
لا تجب داع الرشاد فقدماً
…
شقيت في طلابه أعمالك
واعبد الحسن في الطبيعة طفلاً
…
برئت روحه، وفي الغيد سحراً
وفتونا ينهي الفتى عن نهاهُ
…
كلما دار بالمحاجر أغرى
أرسل الشوق لهفة، وخفوقاً
…
يوهن الجسم أو يداوي ضناهُ
وابعث الحب في الجوانح برقاً
…
يهتدي ناضري ضحى بسناه
(سورية) حمص_رفيق فاخوري
في الأدب الشرقي
نامق كمال
للدكتور عبد الوهاب عزام
أبو الأدب التركي الحديث الذي نزل من أفكار الترك وقلوبهم منزلة لم ينزلها غيره. والذي لا تزال آثاره مدونة في التأريخ التركي الحديث، محفوظة في قلوب الجبل الحاضر. ولد سنة 1256هـ في أسرة مجيدة يجمع تاريخها كثيراً من كبار الدولة العثمانية وكان أبوه مصطفى عاصم بك فلكياً، وجدَّه - شمس الدين بك رئيس المابينفي عهد السلطان سليم الثالث، وأبو شمس الدين قعبودان أحمد راتب باشا الذي ينتهي نسبه إلى الصدر الأعظم - طوبال عثمان باشا.
وأبو الشاعر من يكي شهر وأمه من قونيجة في ألبانيا. وكان أبوه ديِّناً متصوِّفاً، فلمّا ولد المولود العظيم أخذه إلى أحد الدراويش فدعا له أن (يكون كمالاً للإسلام). تعلم كمال في دار أبيه ودرس فيما درس بها العربية والفارسية والفرنسية، ولم يتعلم في المدارس إلاّ تسعة أشهر.
وفي سن الثانية عشرة ذهب مع جده إلى قارص وكان يمضي أكثر أوقاته في الصين، ثم ذهب إلى صوفيا حيث شرع يقرض الشعر وهو في الرابعة عشرة من عمره. ثم عاد إلى اسطنبول وهو ابن17 فصار مترجماً في الباب العالي واتصل بجماعة من الأدباء الذين يكبّرون الشعراء القدماء ويسيرون على نهجهم فشارك في الشعر وعُرِّفَ به ونشر ديوانا صغيراً تسمى فيه (نامقا) كدأب شعراء الفرس والترك في اتخاذ اسم شعري يردده الشاعر في منظوماته فيعرف به.
وكان شناسي أفندي أحد أدباء الترك الذين تعلموا في فرنسا يحتذي الشعراء الفرنسيين ويحرض ناشئة الأدباء على اتباع أسلوب جديد في الأدب، وكان لمقالاته في جريدته (تصوير أفكار) أثر عظيم على نامق كمال وأضرابه من الشبان، فأُعْجِبَ كمال به وشارك في تحرير جريدته ودعا إلى تجديد تركيا في السياسة والأدب وعظمت مكانته. فلمّا فرّ شناسي أفندي إلى باريس 1280هـ (1864م) خلفه في تحرير الجريدة، فانتشرت (تصوير أفكار) انتشارا عظيماً.
وقد ضاقت الحكومة العثمانية ذرعاً بمقالاته فأرادت أن تشغله ببعض المناصب فجُعِل متصرفا للقلعة السلطانية في غليولي زمنا قصيرا وهو في سن 23. وبعد حين أريد إرساله سفيراً إلى بلاد العجم فأبى. وانتهى الأمر بينه وبين الحكومة إلى أن فر هو وجماعة من أنداده إلى لندرة سنة 1282هـ (1866م) ويقال انه ذهب إليها إجابة لدعوة مصطفى فاضل باشا ونشر لندرة جريدة (المخبر) ثم نشرها في باريس ونشر بعدها جريدة (الحرية) وفي باريس درس الحقوق والاقتصاد السياسي وترجم بعض الكتب من الفرنسية.
ولما مات الوزير عالي باشا سنة 1287هـ رجع كمال إلى استانبول فنشر جريدة (عبرت) فصارت أعظم الجرائد التركية. ولا يزال أدباء الترك يحرصون على صفحات هذه الجريدة ومقالاتها، وكتب إذ ذاك قصة (وطن ياخود سلستريا) فلم تحتمل الحكومة جرأته وصرامته، فنفته إلى قبرص فحبس بها وكتب هناك قصته الأخرى (عاكف بك)
ولما تولى السلطان مراد رجع إلى استانبول بعد أن أقام في منفاه 38 شهراً، وشارك مدحت باشا وضيا باشا في تحرير الدستور. ولما تولى السلطان عبد الحميد لم يصبر على أقوال كمال وأفعاله، فأُوخذ وحبس خمسة أشهر ونصف، شغل أثناءها بقراءة التاريخ ابتغاء أن يكتب تاريخاً للجيش العثماني. ولما برأته المحكمة مما اتهم به نفاه السلطان إلى جزيرة متلين وهنالك كتب قصائد أعرب فيها عن شكاته وحزنه، وكتب قصتين (جلال الدين خوارز مشاه) و (جزمي) تناول فيهما بعض حادثات التاريخ الإسلامي. ثم جعل متصرفا للجزيرة التي هو بها ثم نقل إلى رودس وكانت أكثر ملاءمة لصحته. وفي رودس شرع يكتب تاريخ الدولة العثمانية وقد جمع بها مكتبة حافلة مكنته من التأليف، ثم جعل متصرفا لمتلين فعاد إليها وواصل كتابة تاريخه على رغم مرضه، حتى منعت الحكومة أن يطبع هذا التاريخ وأمرته ألا يستمر في كتابته، وبعد سنة توفي سنة 1305هـ.
لا يتسع المجال هنا لتعداد مؤلفات نامق كمال، ولكن يمكن إجمالها في الديوان وثماني قصص ومؤلفات تاريخية منها (أوراق بريشان) التي ترجم فيها لصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح وسليم الأول ونوروز بك، ومقدمة في تاريخ الرومان والتاريخ الإسلامي وكتاب ردّ فيه مزاعم رينلن الفرنسوي سمّاه (رينان مدافعة نامه سى) وهو من احسن ما كتب في رد ما كتبه رينان عن الإسلام. ومقالات عديدة هي من أروع آثاره. ويتجلى في
كتب كمال حماسته وغيرته وإخلاصه في سبيل وطنه والإسلام، كما يتجلى الخلق العظيم، والنفس الكبيرة، والعزة الماضية والصبر على المكارة، والخيال الرائع، والتصوير الجميل والأعراب الحر عن آرائه ومشاعره. ولا ريب ان كمالا هو خالق النثر التركي الحديث والذي مهد
للأدباء الطريقة المثلى في الشعر بعد أن هداه إليها شناسي أفندي: وهذه قطع من آثار نامق كمال وان آثاره لأعظم وأكثر من أن تبين عنها هذه القطع الصغيرة. قال من مقال منشور وعن الشعر والشعراء:
- 1 -
الشاعر مخلوق من البسمات الحزينة: بسمات الطبيعة في أشد أوقاتها وجداً وولهاً. ترى في ضحكة أثر البكاء كقطرات الندى على صفحة الورد، وتلوح في بكائه سمات الابتسام كقوس قزح في السحاب المكفهر. هو أشد الخلائق استئساراً للطبيعة ولكنه يحاول أن يسمو فوقها، بينا هو لا يحسن تدبير أمره، يبغي إن يدفع بذراعيه الضعيفتين كرة الأرض إلى مركز كمال جديد ومحور سعادة آخر. فإذا عيّ بما يريد أرسل أناته الحزينة كأنات البلابل في الأقفاص خلف الحجب السوداء، أو صاح صياح النسور قد حلّقت في اللوح حتى ضاق بأنفاسها الهواء فأهوت مسرعة تملأ الهواء، صر صرتها.
الشعر هذه الصيحات الأليمة والشعراء هؤلاء البؤساء الذين فطروا على هذه الفطرة، لا من يؤلف التفاعيل والأفاعيل من خمسة عشر حرفاً أو يستطيع أن يؤلف القوافي من ثمان وعشرين كلمة. . الخ
- 2 -
وهذه قطعة منظومة ختم كل بيت منها بكلمة (على رغم) فتمثل في هذا التكرار إصرار النفس الكبيرة وثباتها على الدهر القلُب:
لست أبالي إن أعود تراباً على رغم عمري، ولست أفرُّ من عنصري، على رغم الممات.
لا تجعلن نفسك أذلّ من التراب الذي تطأه، اثبت على عزيمتك على رغم الدهر الذي لا ثبات له.
ما تمثل لي الباطل حقاً قط، ولقد اعتمدت على (الحق) على رغم الآلهة كلها.
لا يخفين داهيةٌ آراءه، أعرض على الناس ما تعرف على رغم الدهاة أجمعين.
إن كان لابد للحياة على ظهر الأرض من تمريغ الوجه بالتراب فاختر بطن التراب على رغم الحياة.
رأيت مسير الكائنات شراً فاعتزلها، ووقفت في هذه السبيل وحيدا على رغم الكائنات.
وما التفت قط إلى الحظوظ الفاتنة على رغم ما لاح في طالعي من آلاف الحظوظ.
- 3 -
وهذه أبيات من قصيدة حماسية طويلة.
رأيت ولاة العصر قد حادوا عن الإخلاص والصدق فهجرت المناصب عزيزا سعيدا إن جرثومة هذا الجسم تراب الوطن. فماذا يفيده أن يمزقه الجور والمحنة في سبيل الوطن؟
لا يعين الظلمة إلا الأوغاد كما تنعم الكلب في خدمة الصياد السفاح.
من يخشى لوم الناس ولا يستح من نفسه فنفسه أحقر الناس عنده.
إن انتقام العقلاء من الدهر أن يعتبروا بحادثاته فيزدادوا جدا وصرامة وإقداما.
انتصار الأمة في اتحاد قلوبها والرحمة في اختلاف آرائها
إن عزيمة الرجل المكين تدير العالم، والدنيا في اضطراب من ثبات أولي العزم.
ليس على الأسد المسلسل عار، ولكن العار على الفلك الذي بنصب لحرب أولي الهمم. نحن سلالة الكرام من بني عثمان اختمرت طينتنا بدم الشهادة ونحن أولو المجد والهمم العالية الذين اخرجوا من عشيرة صغيرة دولة مسيطرة على العالم ونحن أصحاب السجايا الرفيعة الذين يرون في ميدان الحمية تراب القبر أهون من تراب المذلة.
هلم أيها الفلك اجمع مظالمك كلها ثم اصمد إلى فان كلت عزيمتي في سبيل الأمة فأنا المرأة الهلوك. . .
أيها الظالمون احذوا منازلة أبطال الحق فان نار الحمية تصهر سيوف الظلم.
- 4 -
- وهذه رباعية دائرة على الألسن من مأثور قوله:
ما حملت في حياتي سلاسل الأسار
وان الدنيا تعرفني مبرأ من قيودها والآصار
هذا ميدان الحمية لا تفر أيها الجبار
فليمحك الله من هذا العالم أو فليمحني.
في الأدب الغربي
من الأدب الفرنسي:
للأستاذ شاتوبريان (1768 - 1848)
للأستاذ أبي قيس
ولد فرنسوا شاتوبريان في سان مالو وهو قدوة الكتّاب في القرن التاسع عشر، اقتبس عن الفصحاء المدرسيين كبسكال وبوسويه وفولتير، وتأثر ببلغاء الإبتداعيين كروسو وبرناردان، ولكنه لم يقلد منهم أحدا. هو مصور ماهر لا يصف إلا ما يشاهده بأم العين فيثير في مخيلة قارئه أروع المشاهد، ويبالغ في الإتقان والمحاكاة حتى يجعل الغائب كالشاهد، ففتح بذلك مغالق الطبيعة وكشف عن سواحر محاسنها.
وهو ذلك الشاعر الذي يصور ببراعة حركات الفؤاد ووثباته، والخطيب البليغ الذي يرتفع حجاب السمع لرائع تشبيهاته واستعاراته، ولم يظهر في القرن التاسع عشر أسلوب أفخم ولا أسلس ولا أكثر تنوعا من أسلوبه، فكان لتبسطه في فنون اليراع إماما للشاعر المبدع، والكاتب الممتع، والمؤرخ الصادق، والناقد المنصف، والخطيب المثير، والقصصي القدير؛ وحسبك دليلاً على مبلغ تأثيره في كتاب عصره أن فكتور هوجو كتب على دفتره المدرسي وهو في الخامسة عشرة ما نصه:(أريد أن أكون شاتوبريان أو لا أكون شيئا!)
ومن روائعه: الشهداء وروح النصرانية، ورحلة من باريس إلى بيت المقدس وهي التي عربنا منها للرسالة وصفه لعرب فلسطين وحوادث آخر بني سراج التي عربها الأمير شكيب الأديب المنتج العجيب، ولخصها صاحب النظرات واتالا التي نقلها أنطون فرح إلى العربية.
عرب فلسطين
العرب حيثما أبصرتهم في فلسطين ومصر أو في بلاد البربر، قد ظهروا لي بقامة أقرب إلى الطول منها إلى القصر، مشيتهم البخترية برشاقة طبعوا عليها وخلقتهم في أحسن تقويم: وجوه مسنونة وجباه مقوسة عريضة وأنوف يزينها القنا والشمم، وعيون نجل لوزية الشكل ذات نظر نديُّ عذب، ثم لاشيء يشعرك منهم بوحشة، وان لبثت أفواههم مطبقة
أبداً: ذلك انهم إذا ما اخذوا في التحدث إليك أسمعوك لغة تطربك نغمتها ويفعمك شذاها، ولمحت ثغوراً يروعك البياض الناصع من ثناياها والشنب مما يذكرك بأسنان العسابر وبنات آوى
والعربي يرتدي على الأغلب جلباباً يشده الحزام على الخصر وتراه ينزع يده حينا من كم جلبابه هذا فيمثل لك الردية القديمة وتبصره حينا آخر يلف بعباءة من صوف فتكون له رداءً أو كساءً أو وقاءً من الحر بحسب التفافه بها أو طرحها على منكبيه أو رأسه وهو يمشي حافياً أو منتعلاً ويتسلح بالبندقية والخنجر والرمح الطويل.
إن القبائل ترحل قوافل، والإبل تمشي قطاراً، والبعير الأول منه يجره حبل من مسد حمار هو قائد القافلة: فهو لذلك قد أُكرم بإعفائه من الأثقال وبما حبوه من أنواع الرعاية والاختصاص والعشائر الموسرة تزين الأباعر بالمخمل المهدب والريش والبنود.
أما الجواد فإنه يكرم على قدر استيفائه لأقسام العتق والكرم ولكنهم مع ذلك لا يتسامحون في سياسته أبداً فلا يحبسون الخيل في الظل بل يعرضونها لِلَفْحْ الهواجر مربوطة بالأوتاد من قوائمها الأربع ربطاً تجمد له في مقرها، وهي أبداً مسرجة وكثيراً ما تقضي نهارها على ورد واحد، ولا تعلف في اليوم كله إلاّ حفنات من الشعير: ومثل هذا التقتير في العلف مع انه لا يَهْزِلُها كفيل بتعويدها السرعة والصبر والقناعة.
راقني كثيراً جواد عربي كان مقيداً في الرمضاء. وشعر عرفه منتشر، ورأسه منحنِ بين يديه التماساً لبعض الظل، وهو ينقد بعين وحشية صاحبه ناظراً إليه عن عرض شزراً فإذا ما أنت فككت قيده وقذفت بنفسك على ظهره أزبد وحمحم ثم نهب الأرض نهباً.
إن كل ما يروى لنا عن ولع العرب وغرامهم بالقصص هو حق لا مرية فيه وأنا مورد لك على ذلك مثالاً:
سمرنا ذات ليلة على الرمل من ساحل البحر الميت، وبات التلاحمة حول النار المتأججة وبنادقهم ملقاة إلى جانبهم على الأرض والخيل، وهي مثلنا على شكل دائرة موثقة بأوتادها، وبعد أن احتسينا القهوة وتجاذبنا أهداب الأحاديث سكت هؤلاء العرب ما خلا شيخهم الذي كنت المح من خلال سنا النار حركات وجهه الناطقة ولحيته السوداء وأسنانه البيض والأشكال المختلفة التي كانت تتشكل بها ثيابه وهو ممعن في سرد قصته. وكان أصحابه
يصغون إليه الإصغاء كله، مائلين إليه برؤوسهم ومقبلين بوجوههم على اللهب وهم يصيحون تارة صيحة إعجاب وطرب، ويقلدون أوضاع الشيخ المحدّث تارة أخرى. وبعض رؤوس من الخيل كانت ممتدة فوق السامر بأعناقها وانك لتتبينها في العتمة فتكمل بها صورة تلك اللوحة الرائعة ولا سيما إذا أنت أضفت إليها ناحية من البحر الميت ومن جبال فلسطين!. (دمشق - أبو قيس)
العلوم
الرياح
للدكتور محمد عوض محمد
لعلنا معشر المصريين من أقل الأمم اكتراثاً لأمر الرياح، نعيش حياتنا
كأننا لا يهب علينا إلاّ نسيم عليل أو ريح رخاء، لا نستثني من هذا
غير شهر أمشير الذي ننعته بالأرعن. ولا يلبث أن يمضي أمشير حتى
نتناسى أن في العالم عواصف وزوابع وأعاصير منها ما يثير التراب
وما يقتلع الشجر ويهدم المنازل والدور
على أن هبوب الزوابع حتى في بلادنا - بلاد النعومة والسهولة ليس بالشيء النادر. وكثيرا ما نحس في أمشير وغير أمشير من الشهور تلك الحركة العنيفة في طبقات الهواء، وأنها لتهيب بنا فجأةً ونحن عنها لاهون، فإذا أبوابنا تقرع بعنف. ونوافذنا تكسر، وإذا سحب من العشير المطّار تتخذ سبيلها إلى أعيننا وآذاننا وأنوفنا المرغمة.
وهذه الزوابع قد تدوم ساعة وبعض ساعة أو يوماً أو بعض يوم، ثم لا يلبث الهواء أن يعود نسيماً ولا تلبث الريح أن تعود رخاء، ونحن قوم سريعو النسيان ووطننا العزيز سريع الغفران.
ومع ذلك فما أجدرناأن يزداد اهتمامنا بأمر الرياح، فإنها من الأمور التي تعنى بها طوائف عديدة من الناس في كل زمن وكل بلد. فالشعراء مثلاً من أكثر الناس اهتماماً بالرياح. طالما ذكروها ونعتوها، وحملوها رسائل الغرام بل قد تبلغ بالواحد منهم الجرأة أن يحملها القبلات والآهات والأنات:
وإني لأستهدي الرياح سلامكم
…
إذا أقبلت من نحوكم بهبوب،
وأسألها حمل السلام إليكم
…
فإنْ هي يوماً بلغت فأجيبي!
وطالما أثارت شجونهم، وبعثت الحنين في نفوسهم والدمع في مآقيهم وما أسهل انهمال دموع الشعراء!
وكأني بك أيها القارئ تتوهم أن هذا كله ليس بأمر ذي خطر بل قد ترى أنه من السخف أو
دونه السخف، وقد تكون في هذا مصيباً. ولكن إذا كانت نظرة الشعراء إلى الرياح خفيفة سخيفة فإن نظرات الملاحين إلى الرياح نظرات حادّة جادّة.
وليس من سبيل لإنكار ما للرياح من أياد بيضاء يوم كانت هي القوة الفعالة التي تدفع السفن على أديم الماء. فعلَّمت الناس أن يتعارفوا وأن يتعاملوا ويتعاونوا. وهدتهم لأن يتاجر بعضهم مع بعض وكيف يستطيعون. . ويا للأسف، أن يسطو بعضهم على بعض ويفتك بعضهم ببعض؟.
كانت الرياح هي الوسيلة الوحيدة إلى قطع البحار والتقريب بين البعداء.
ولئن كانت البواخر في غنى عن الرياح فإنها لم تزل تخشاها وترهبها، فإن الرياح ما برحت قادرة على إثارة موج كالجبال ترتعد لها فرائص الرّكب. ويرتاع له الملاّحون.
وهناك سفن جديدة لا تجري على صفحة الماء بل تشق عباب الهواء وتحلق فيه تحليق العقاب. وهذه تخشى الرياح وتحسب لها ألف حساب فلئن كانت دولة الرياح قد دالت على صفحات الماء فإن لها في عالم الطيران سلطاناً لا يزال في أشد عنفوانه.
ثم أن هنالك طائفة من الناس أشد خطراً من هؤلاء جميعاً أو على الأقل تعد نفسها أعظم خطراً من الناس جميعا - وهي طائفة العلماء، علماء الطبيعة الذين يدرسون ظاهراتها، ويحاولون أن يطلعوا على أسرارها. هؤلاء يهمهم أمر الرياح كما يهمهم كل شيء على وجه الأرض وعلى غير وجه الأرض، وهم ينعتونها ولكن لا على طريقة الشعراء فلا يحملونها سلاماً ولا كلاماً بل يقيسون سرعتها بإحكام ويعرفون اتجاهها بدقة ويشرحون لك ما يسببها وما لا يسببها ويعززون أقوالهم بأرقام ورموز يوهمونك بها أن في الأمر أسراراً غامضة وأن صدورهم هي خزانة تلك الأسرار.
والآن فلنتحدث عن الرياح حديث العلم أولاً ثم نعود فنتحدث عنها حديث الأدب وهكذا نقدم للقارئ الغذاء الدسم في البداية تاركين الحلوى إلى النهاية.
فلنذكر أولاً أن هذه الكرة التي تزحف كلنا على سطحها يحيط بها غلاف عظيم من الهواء: غلاف لم يسبر أحد غوره تماماً وقد يكون عمقه مائة ميل وقد يكون مائتين، بل قد يكون أكثر من هذا. وان سألت العلماء كيف عرفوا عمق الهواء ولو على وجه التقريب قالوا لك انهم يرقبون سقوط الشهب حين تندفع نحو كوكبنا العزيز، فإذا رأوها تأخذ في الاحتراق،
علموا إنها قد بدأت تحتك بهوائنا فإذ استعانوا بآلات راصدة سليمة لم يتسرب إليها الخلل وكان عقل الراصد سليماً لم يتسرب إليه الخلل استطاعوا أن يعرفوا على وجه التقريب درجة ارتفاع الهواء عن أديم الغبراء.
وهنالك طرق أخرى يقاس بها عمق الفضاء ولكن لن أتعب نفسي وأجهد القارئ في شرحها وتفهمها. وقد يتفضل بعض الأصدقاء (من العلماء) بالرد على هذا المقال؛ ثم يتوسع في الشرح والبيان بما يشفي غلة الظمآن.
علمنا إذن أن هذا الكوكب يشمله الهواء من جميع النواحي. ولحكمة إلهية عظيمة قد أحيطت الأرض بهذا الغطاء الكثيف الذي يحول دون أن تنفذ إلى الفضاء رائحة ما بالأرض من أدران وآثام. وما يغشاها من بغي وظلم. . فلنحمد العناية التي عملت على وقايتنا شر الفضيحة، فلم تطلع سكان السماوات على ما انغمست فيها أرضنا من إثم ورجس وفسوق وعدوان.
هذا الغلاف العظيم الذي يحيط بالأرض ليس هادئا ساكناً بل فيه حركة دائمة. وهذه الحركة هي التي نحسها حين نحس بهبوب الرياح. وأول سؤال يعرض لنا طبعاً هو: لماذا يتحرك الهواء ولماذا تهب الرياح؟
إن الشاعر العربي يتساءل: (أم هبت الريح من تلقاء كاظمة؟) ويريد هو واتباعه من الغاوين أن يوهموا العالم إن الريح ما هبت من تلقاء كاظمة إلا لكي يستطيع حضرته إن يمزج دمعاً جرى من مقلة بدم! ونحن نؤكد للشاعر الفاضل إن الريح لا يهمها إذا كان يمزج دمعه بدم أو يمزج الماء بالراح أو الوسكي بالصودا. . وإذا كانت الريح قد هبت من تلقاء كاظمة، فما ذلك إلا لأن الضغط الجوي شديد (عال) في جهة كاظمة وخفيف يسير (منخفض) في الناحية التي كان بها الشاعر.
ولقد يقف القارئ عند كلمة الضغط هذه ويتساءل (وحق له أن يتساءل) كيف يكون في الجو ضغط شديد أو غير شديد؟ إنّا نسلم بان في الأرض ضغطا وظلما واستبدادا يتفاوت من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان ولكن أيكون في الهواء ضغط وهو تلك المادة اللطيفة؟
والجواب على هذا السؤال بالإيجاب. فان الهواء في بعض النواحي شديد الضغط ونواح
أخرى خفيف الضغط، فيدفع الهواء من الناحية التي يشتد بها الضغط إلى الناحية التي يخف بها الضغط منحرفاً في سيره إلى اليمين قليلاً في نصف الكرة الشمالي وإلى اليسار في نصف الكرة الجنوبي.
وهكذا تحدث الرياح وكلما كان الفرق بين الضغطين كبيراً ازدادت الرياح شدة وقوة. فيكون الاختلاف بين الرياح: فمن نسيم عليل إلى إعصار عنيف.
ثم يعرض لنا سؤال آخر نحاول أن نفر منه فلا نستطيع إلى الخلاص منه سبيلا. ذلك إننا وان سلمنا بان الرياح انتقال الهواء من جهة ذات ضغط شديد (عال) إلى جهة ذات ضغط خفيف (منخفض)، فأننا لابد أن نتساءل لم كل هذا الاختلاف في الضغط؟ ألا يمكن تطبيق مبدأ المساواة المجيد ولو في الهواء، مع العلم بأن المساواة في الظلم عدل؟
هنالك لابد لنا أن نقرر والحزن يملأ قلوبنا إن ليس في العلم (ويا للأسف!) مساواة. انظر حيثما شئت تجد التباين والاختلاف! انظر إلى البحار تجد منها العميق الذي لا يسير له غور والضحل القريب المنال. والأنهار منها الضعيف القليل الماء ومنها المفعم السريع الجريان. ثم انظر إلى اليبس تر فيه جبالاً شاهقة قد رفعت رأسها فوق السحاب وفي ناحية أخرى ترى سهولاً مبسوطة وأودية وطيئة.
إذن فلا عجب إذا اختلف ضغط الهواء على وجه الأرض وأسباب هذا الاختلاف كثيرة، وأهمها من غير شك اختلاف حرارةالأقاليم، فحيث الحرارة الشديدة يتمدد الهواء ويخف وزنه وضغطه ويحاول الصعود إلى أعلى فيندفع الهواء من جهات حرارتها أقل من حرارة تلك الأقاليم ليحل محل الهواء المتمدد الصاعد ويسد الثغرة التي أوشكت أن تحدث. وإذا كنا نحن في مصر نحسّ رياحا آتية من الشمال ذاهبة نحو الجنوب (نحو خط الاستواء) مارة ببلادنا العزيزة فتنعشها وتبردها ومن اجلها أحببنا لمنازلنا أن تطل على الشمال. فان هذه الرياح هي من ذلك النوع وهي الرياح التجارية بالذات - تمر بنا وهي ذاهبة إلى الأقاليم الحارة لكي تحل محل ذلك الهواء الخفيف المتصاعد في تلك الأقاليم.
هذا بعض السبب في اختلاف ضغط الهواء من مكان إلى مكان. وهنالك أسباب أخرى مثل دوران الأرض وتوزيع الماء واليابس وغير ذلك من أمور لا نريد أن نطيل شرحها خوفاً من أن ينقلب هذا الحديث إلى درس من دروس الجغرافية.
بقيت ملاحظة لابد منها وهي أن المصريين وعلى الخصوص الطبقة المثقفة منهم قلما يلاحظون الرياح وهبوبها واتجاهها. فقد يختلف اتجاه الرياح في اليوم الواحد من أيام الخماسين مرتين أو ثلاثا فلا تنتبه إلى هذا التغيير في اتجاه الريح. وأقصى ما نلاحظ أن الهواء حار أو شديد. وانه قد انقلب فصار هادئا بارداً.
وان المرء لتأخذه الدهشة حين يقارن هذه الحال بما كان عليه العرب من دقة الملاحظة لهذه الظاهرة الطبيعية وكيف استطاعوا أن يميزوا شكولها وضروبها فراقبوا اتجاهاتها المختلفة وأطلقوا على كل ريح اسماً يدل عليها. ثم لاحظوا ما بها من قوة وضعف وجعلوا لكل اسمه، وكذلك ميزوا الرطب منها والبارد والحار وما إلى ذلك.
ولئن كان العلماء اليوم يرقبون اتجاه الرياح ويقيسون سرعتها وشدتها ودرجة حرارتها مستعينين بآلات دقيقة فان العرب قد سجلوا هذا كله من غير استعانة بآلات. فمن حيث اتجاه الرياح نرى العرب قد ميزوا بين الرياح التي تهب من الشمال والجنوب والشرق والغرب، ورياح الشرق هي التي سموها الصبا ويقابلها من الغرب الدبور. وكانت الريح أحيانا تهب منحرفة عن الجهات الأربع الأصلية فكان العرب يدعونها عند ذلك بالنكباء.
ثم أرادوا أن يميزوا بين الرياح الضعيفة المريضة والقوية العنيفة فأكثرها هدوءاً النسيم التي تهب بنفس ضعيف ثم الرخاء السهلة ثم الحنون التي لها مثل حنين الإبل ثم تليها الرياح الشديدة فالبارح التي تهز الأشجار.
وتأخذه عند المكارم هزة
…
كما اهتز تحت البارح الغُصن الرطب
ثم الهوجاء التي تجر وراءها ذيلاً من التراب ثم الزعزع ثم العاصفة، ثم الحاصب وهي التي تقشر الحصا من وجه الأرض (وأرسلنا عليهم حاصبا).
وكذلك ذكر العرب أنواعا خاصة من الرياح فالزوبعة هي التي تدور في الأرض دون ان تقصد وجهاً واحداً. والإعصار ريح تدور بقوة وتنعكس من الأرض إلى السماء. وهكذا تجد في العربية كثيراً من الدقة في التمييز بين الرياح القوية والضعيفة. أما ملاحظتهم للرياح الحارة والباردة فلا تقل عن هذا دقة. فالريح البليل هي المنعشة ذات الندى التي ليست بالحارة ولا بالقارسة وكذلك الصراد أبرد منها قليلا. أما الرياح الشديدة البرودة فهي العريّة التي تهب عادة من الشمال:
وأنت على الأدنى شمال عَريَّة
…
تذاب منها مرسغ ومسيل
ثم الريح الصرصر والحرجف والالوب.
أما الرياح الحارة فمن أسمائها الحرور والسموم والسعار وهذه الأخيرة اشدها حراً وسعيرا.
وليست هذه الأسماء كل ما ورد ذكره في كلام العرب عن الرياح بل أن هنالك أسماء أخرى عديدة. وما ذكرنا الذي أوردناه هنا إلا لكي يرى القارئ مبلغ دقة العربي في ملاحظة الظاهرات الطبيعية، وليس بين كل هذه الأسماء ما هو مترادف. بل لكل منها معناه الخاص الدقيق.
وبالطبع قد أكثر شعراء العرب من ذكر الرياح وبوجه خاص اكثروا من ذكر الصبا. وأهل الحجاز يدعونها صبا نجدٍ لأنها تهب عليهم من تلك الناحية.
وهي ريح لطيفة جافة ليست بالحارة ولا بالباردة. وأظن الإكثار من ذكرها في الأشعار يرجع إلى عذوبة اسمها اكثر مما يرجع إلى عذوبة المسمى. أو لعل شعراء نجد هم الذين أكثروا من ذكرها إذ كانوا يفدون إلى الحجاز ليتاجروا بما لديهم من تمر وسمن ووبر ثم تهيج الصبا شوقهم إلى أوطانهم فيصيح شاعرهم:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد؟
…
لقد زادني مسراك وجداً على وجد
فالأصل في التغني بريح الصبا أن يكون صادرا عن النجدي وهو في الحجاز ثم يقوم الآخرون بالتقليد.
وهنالك نظرية أخرى لا تقل طرافة عن هذه، وهي إن الوفود إذا أقبلت على مكة فان الفتى الحجازي قد يهيم بغانية من بنات نجد لا تلبث أن تعود بعد الحج إلى وطنها العزيز ويطير قلبه وراءها شعاعا. ولا يزال بعدها تهيجه روح الصبا وتشوقه.
أما بشار بن برد فزعم انه تستهويه الجنوب على إنها عادة رياح حارة شديدة الحرارة وللناس فيما يعشقون مذاهب!
هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت
…
وأهوى لقلب أن تهب جنوب
وما ذاك إلاّ أنها حين تنتهي
…
تناهى وفيها من عبيدة طيب.
ويعجبني في هذين البيتين مطابقتهما في المعنى لبيتين قالهما بعد بشار بألف سنة الشاعر الاسكتلندي الرقيق روبرت برنز. وهما قوله:
وتعريب البيتين:
من بين الرياح التي تهب من مختلف الجهات
أحب حباً شديداً رياح الغرب
لأن هنالك تعيش الغادة الحسناء
الغادة التي أحبها أكثر من كل شيء
وهذا من أبدع الأمثلة التي يمكن أن تذكر في توارد الخواطر.
ولابد أن نختم الآن هذا المقال لان حديث الشعراء كحديث العفاريت إذا فتحته فمن الصعب أن تسده.
القصص
قصة مصرية
سفروت الحاوي
- 2 -
ووقف الجمع برهة ينتظر رجوع الرجال الذين بعثهم صاحب الفندق وعلموا أنهم بحثوا عن بولص خارج الفندق وداخله من غير جدوى. فانفجرت المرأة ثانية بالصياح والتهديد
- أنا بقولَّك أب واغْطس بجوزي دلوقت أهه لحسن اوديك في داهية.
- يا ست يعني أنا حاخذه أعمل بيه ايه، ياريت كنت عارف طريقه وأنا كنت والله أجيبه لك.
- أمال راح فين الراجل؟
- والله يا ستي أنا علمي علمك.
- لأ. أبدا. أنت عارف طريقه! أنت سحرته بالجن الأحمر والأخضر بتوعك
- جن اخضر بتوعي؟!، هو أنت صدقت إني اعرف جن وسحر؟ يا ستي أنا راجل على باب الله وده كلام بس علشان أكل العيش تعالي وأنا أوريك الصندوق علشان تصدقي.
- اصدق؟ أنا ماعرفشي أمور الحوي دي، أنا حاوديك في داهيه. أنت خنقت الرجل علشان تاخذ فلوسه
ولوت المرآة وأمسكت بخناق الرجل بأصابع كأنها (كماشة النجار) فالتف الناس حولهما وأخذوهما إلى نقطة البوليس
ولما لم تكن على سفروت مسؤولية جنائية فقد أطلق سراحه بعد يوم فترك راس البر تتحدث عن هذا الحادث المدهش وسافر إلى غيرها من المصايف.
مر على ذلك الحادث عامان نسي فيهما الحاوي بولص وامرأة بولص إلا في فترات كانت تعاوده الذكرى فكان يتعجب للأمر في نفسه ويود لو عرف ما انتهى إليه أمرهما حتى إذا كان ذات مساء وهو يدخل باب ملهى من ملاهي العاصمة كان وقتئذ يشتغل به لمح بائع سميذ جالسا يعد قروشه على الإفريز وتبين فيه صاحبنا بولص فلما أيقن من صواب زعمه دنا من بائع السميذ هامساً:
- أنت بولص بتاع واقعة رأس البر؟
فأنتصب البائع واقفا في رجفة تناثر معها بعض سميذه ونقوده وحاول أن يهرب ولكن سفروت أوقفه وأعاد عليه السؤال فأنكر واشتد في الإنكار وقال إن اسمه محمود وانه لا يعرف ما راس البر ولا من هو سفروت، ورأى الحاوي إن حديثهما وهياج محدثه قد يجمعان عليهما المارة فاخذ البائع إلى حارة باب المسرح الخلفي وهدأ خاطره وأكد انه لا يضمر له كرها ولا ينوي شراً وان كل ما به إنما هي رغبة شديدة في أن يعرف السبب الذي حدا به إلى فعلته الشاذة.
وبعد لأي اعترف البائع بأنه هو بولص ورضي أن يدخل مع الحاوي إلى غرفته الخاصة بالملهى حيث حدثه بخبيئة أمره. قال سفروت فيما تحدث به لبولص:
- طيب يعني مالئتش إلا صندوقي تختفي منه! ما كنت تسيبها وتمشي من غير شوشرة وفضيحة؟
قال بولص:
- ما جدرتش أبداً يا أخي. فكرة الهروب منها دي ما جاتش في دماغي إلا في راس البر، يظهر أنها زي اللي خمنت باللي في نيتي فكانت دائما في رجليهما تسيبيش 10 دجايج لما طهجتني وجطعتني العشم. تعرف بعد ما نزلت بالصندوق وبعته لك فاضي! أنا طرت على الفلوكة اللي كانت تستناني فوج عند الطابية أخذتها ورحت على دمياط ومن دمياط ببجور الفجر على مصر.
- يعني كنت بتكرهها للدرجة دي؟
- اكرهها؟ أنت متعرفشي جدا إيه يمكن الواحد يكره مراته ياسي سفروت، يكرهها ويكفر منها وينجن كمان. يا أخي أجول لها ياحنينة أنا في عرضك طلجيني. أبوس مركوبك يا حنينة تسيبيني. أعطيك 500 جنيه. أعطيك ألف جنيه. مفيش فايدة، يمكن أنت متصدجشي ياسي سفروت لكن أنا كنت راجل غني، أنا كنت بتاجر في 2000 جنيه وكان عندي بيت كويس وعشر فدادين طين ملح وده كله سبته لها. اعمل إيه! مفيش طلاج عندنا ياسي سفروت زي ما عندكم، هجيت وبعت سوداني وجصب وسميط واستحملت اجلام الشاويش وشخطه وعشت في أوده بريال في بولاج، كل ده عشان اهرب من وشها. جيت أغير ديني
وأبجه مسلم مطجشي، ما هانش عليه ديني يا سي سفروت. دين الواحد زي ولده.
ولاحظ سفروت ان توتر أعصاب محدثه بلغ اشده ولاحظ دماً قرمزيا يترقرق في وجه الرجل الذي صبغته الشمس والقذارة بلون غرين النيل فحاول ان يهدئه ويواسيه ولكن بولص اندفع يقول:
_ دي ربت لي وجع الجلب والله يا سي سفروت. أنا كل مفتكر المره دي جلبي زي اللي يُجَفْ. لا ولأدهى من كده انها لسه بتعتش عني! الأنكت من كده إنها لا عاوزة فلوس ولا طين عاوزاني أنا بس.
_ يمكن بتحبك يا بولص.
_ بتحبني!! لأ. لأ. دا مش عبارة حب دا جنون. دي تكرهني زي العمى يا سي سفروت.
وانتهى حديث الرجلين بعد وقت فخرج بولص يبيع سميذه وذهب سفروت إلى مسرحه وهو يعجب لأمر الرجل.
وبعد بضعة أيام بينما سفروت يعد عدته للظهور على المسرح إذ دخل عليه بولص وبعينيه بريق الجنون الذي يكون به في ساعات هياجه، فلما رحب به الحاوي أظهر القبطي خشونة وجفاء كأنما هو يضمر عداء وشرا فسكت سفروت وقتا حتى تحدث بولص:
_ أنت فتنت عليّ؟
_ فتنت إيه؟!
_ أيوه أنت فتننت عليّ. أنت اللي بلغت عني للبوليس.
_ إزاي افتن عليك يا معلم؟! هو أنا لي صالح في كده؟ وحتى لو كان هو أنا راجل خسيس للدرجة دي؟ عيب ده يا معلم بولص متكلمشي كلام زي ده.
وقام بولص بعنف فأمسك بتلابيب الحاوي الذي ملكه الخوف والدهشة وصاح به قائلا:
- أنت مجوز؟ احلف لي بالطلاج انك مبلغتش البوليس.
ولم ير الحاوي بداً من القسم بالطلاق ثلاثا انه لم يفعل شيئا من هذا فهدأ بولص واعتذر ثم شرح ما حدث له قال.
- لما روحت امبارح جالت لي الولية جارتي أم شحاتة إن واحد شاويش جه يسأل عني في النهار مرتين. أول مرة جه لوحده وأم شحاتة جالت له إن مفيش ساكن اسمه بولص هنا.
بعدين راح ورجع في المغرب ومعاه حرمة طويلة ووجفوا يتحروا في الحتة. أم شحاتة جالت إن الساكن اسمه محمود بتاع السميط، حامت الحرمة سألت عن وصفتي وأم احمد أعطتها وصفتي، حنينة جالت أهو هو دا بولص. تصدج يا سي سفروت والله ماجدرتش أبات في الأوده رحت اتلجحت في الجامع اللي جنبنا لحد الصبح اعمل إيه يا سي سفروت؟ اهرب من حنينة فين؟ المره دي مش ناوية تسيبني ألا ميت.
واتت بهية تذكر سفروت بعمله فودع هذا بولص وذهب إلى المسرح وقبيل الحفلة ذهبت بهية إلى غرفتها لتغير ثوبها استعدادا للدور الأخير وتركت الحاوي يشرح للنظارة أمر الصندوق ويعد له عدته، وتأخرت بهية فبينما هو يفكر فيما يفعل إذ أقبل بولص عليه من جانب المسرح بوجه أدكن وعينين بارقتين شاردتين مما ذكر الحاوي بوجه الرجل في الليلة المقمرة. تقدم بولص وبه من الرجفة والذعر ما شغل الحاوي عن حرفته وأنساه صيته وموقفه والنظارة الذين خفتت أصواتهم واشرأبت أعناقهم في انتظار ما يكون، وهمس بكلمات متقطعة كحديث المحتضر قال:
- خبيني. . . أنا في عرضك خبيني. . . مراتي بره ومعاها شاويش. . . حطني في الصندوج، حطني في الصندوج!!
ودخل القبطي إلى الصندوق بغير انتظار واقفل عليه بابه وقد ملك الدهش على سفروت أمره حتى فقد القول والفعل، ثم رجع إلى نفسه بعد برهة ليتبينها أمام حقيقة واقعة وليدرك ان لا مخرج له سوى ان يخفي الرجل داخل الصندوق.
وقال سفروت في نفسه: لو فلت القبطي فقد أسديت له يدا ولو لحقه البوليس فما علي من ذلك لوم ولا تبعة وليس هو بالمجرم ولا أنا بالخارق للقانون، وكل ما علي الآن هو أن أسرع في عملي وأعطيه الفرصة ليهرب ويقيني انه لن يرجع إلى الصندوق، فإذا دعوت بهية بعد ذلك فسوف تقوم بحيلتها كالعادة وأما إذا أخرجته الآن من الصندوق بالقوة فسوف يكون من ذلك هياج الناس وتعكير صفو المحفل ومسئوليتي أمام المدير.
ولم يتردد سفروت بل ربط الصندوق ووقف عليه وتحدث إلى النظارة المنذهلين عن جنه وهيوليته الخ الخ، حتى إذا انتهى من الديباجة نزل. رفع الغطاء وهو موقن أن بولص قد خرج من الصندوق إلى تحت المسرح ثم إلى ما شاء له قدره.
ولكن بولص لم يخرج من الصندوق ولم يتحرك؟؟
روح بولص فقط هي التي بارحت الصندوق إلى بارئها أما جثته فقد بقيت لتستلمهاحنينة!!
قال أحد السامعين: غرضك بولص مات في الصندوق؟؟
فأجاب الراوي: نعم نعم، في رواية انه مات بالسكتة القلبية وفي رواية أخرى انه مات منتحرا بطعنة سكين في جنبه الأيمن وإن سفروت رأى دمه يسيل إلى المسرح، ولكن مهما اختلفت الروايات فمن الثابت ان زوجة القبطي وجدت جثته هامدة لما ارتقت المسرح مع ضابط البوليس.
وقال سامع ثان: طيب وجرى إيه لسفروت؟
فأجاب الراوي: حدثني صديقي احمد عن صديقه محمد أن الحاوي طَلَّق حرفته بعد هذه الحادثة وانه يشغل الآنترجمانا في بلدته بور سعيد ولكن الله أعلم بحقيقة الأمر
وسأل سامع ثالث: ما اتهموش سفروت بقتل الراجل! فتجاهل الراوي هذا السؤال لغباوة سائله.
م. م. م
إلى بئر جندلي
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة
المعارف
- 1 -
في شتاء سنة 1908، وقبيل إجازة عيد الأضحى، دعاني خالي إليه وابتدرني قائلا وفي فمه ابتسامة:
_ هيا معي إلى بير جندلي. غداً مساءً سنغادر القاهرة.
_ بير جندلي؟ ما هذا؟
_ رحلة صيد في جبل المقطم تستغرق خمسة أيام، وسنكون مع أصدقائنا عائلة رشيد، وقد اعددنا لها العدة.
كانت مفاجأة، واترك للقارئ أن يتصور وقع هذه المفاجأة في شاب لم يبلغ الثامنة عشرة، لا يعرف عن جبل المقطم إلا القليل مما التقطه في طفولته من أفواه العجائز في أحاديثهم عن العفاريت والوحوش، أو عرفه من القراءة في كتب وضيعة تصور لك المقطم قفاراً ومفاوز لا نبات فيه ولا ماء، وانه مسكن المردة والجان ومأوى جبابرة اللصوص وقطاع الطرق ومرتع الوحوش الضارية من نوع السباع والأسود التي يرسمها نقاشنا البلدي على واجهات منازل الحجاج العائدين من الحجاز.
كان قد أزف الوقت فانصرفت أعد نفسي للرحلة على عجل، وأذكر الآن وقد مضى على الحادث ما يزيد على خمسة وعشرين عاماً، إني صرفت شطراً كبيرا من الليل في تصفح ما كان عندي من الخرائط، متفرساً في أسماء الجبال والسهول والأودية، باحثا بينها عن بئر جندلي، ولكني لم اظفر بطائل، وأذكر كذلك أني لم أنم في تلك الليلة إلا غراراً، فقد كنت مشرد العقل مهموما قلقاً تتوارد على ذاكرتي حكايات الوحوش وقطاع الطرق وقصص الأهوال التي لاقاها رواد الجبال، من عطش، وجوع، ومخاطر، فينقبض لها صدري وتثور هواجسي، ولولا إرادة قوية، وإيمان ثابت لتغلب الضعف على نفسي، ولأحجمت عن مصاحبة الجماعة.
بعد الغروب في اليوم الثاني أقلتنا عربة إلى منزل عائلة رشيد بشارع الدرب الأحمر
بالقرب من المحجر على بعد عشر دقائق من القلعة - منزل عتيق من طابقين له باب كبير ثقيل ومن خلفه دهليز يؤدي إلى فناء رحب تحيط به الحجر والمرافق وتطل عليه النوافذ والشرفات - في هذا الفناء شاهدت جملين مناخين حولهما حركة عنيفة صامتة، فقد كان القوم منهمكين في إعداد لوازم الرحلة - فهذا يملأ قرب الماء حتى إذا ملأها تعهد متانتها ثم أحكم ربطها إلى جانبي البعير، وذاك يحزم الملابس والأغطية ثم يضعها على ظهره، وثالث يرتب علب المأكولات داخل صندوقين من الخشب ثم يشدهما بوثاق إلى ظهر البعير الثاني وهكذا - بعد أن تبادلنا التحية دخلنا حجرة واسعة قد جلس في صدرها رجل وسيم المحيا مليء الجسم طويل القامة كبير الشوارب وقد خط الشيب شعره، فاستقبلنا واقفاً مرحباً ثم قدمني إليه خالي قائلا:
عمك عبد الله بك كبير الأسرة.
فلثمت يده على ما كان متبعاً في ذلك الوقت فضمني إلى صدره وقبّلني في جبيني وقال وهو يلاطفني: إنك الآن يا ولدي تجيب داع التقاليد في أسرتك؟
بعد قليل هدأت الحركة في الفناء، ثم نهضت الجمال وخطت نحو الباب وقد أمسك بزمام الجمل الأول شيخ يناهز الستين في لباس بدوي وقد ارتسمت على وجهه جميع إمارات الثقة بالنفس والتوكل على الله، وكان يقود الجمل الثاني شاب بدوي كذلك ممشوق القامة نحيل الجسم قد عّلق على ظهره بندقيته وتدلّى من صدره حزام للخرطوش ولما مرّت الجمال أمام النافذة أطلّ عليها عبد الله بك وقال بصوت هادئ رزين:
- على بركة الله يا شيخ سويلم
فأجاب الشيخ بصوت متهدج فيه غنة وبحة: بارك الله فيكم يا بك
- أين الانتظار؟
- على نير الفحم يا بك
خرجت الجمال إلى الشارع وقد انتصفت الساعة التاسعة وبخروجها شمل المنزل سكون عميق. ثم اتجه عبد الله بك نحو نضد في جانب الحجرة قد ثبتت فيه آلة لحشو الخرطوش فأخذ يديرها بمهارة وخفة، وبعد ان قضى في ذلك نحو نصف ساعة تناول من علاّقة قريبة مناطق الخرطوش وملأ به عيونها ثم خرج.
وبعد قليل عاد يتبعه أخوته الأربعة وهم جميعا في حلة الصيد من سترة مقفلة وسروال قصير وقد لفّوا حول الساق (القلاشين) ووضعوا فوق الرأس قبعات كبيرة على نحو ما يلبسه المهندسون زمن الصيف، فجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، وفي نحو الساعة التاسعة والنصف دق الباب فصاحوا جميعا: ها قد أقبل الشيخ محمد - ثم دخل رجل في لباس بدوي فاستقبلوه باحتفاء وترحاب وبعد ان استوى في مجلسه سأل عن الجمال فقيل له أنها بارحت المكان منذ ساعة ثم نظر إليّ وقال من هذا الصغير؟ فقيل له ابن أخت احمد بك، فمال نحوي وقال بلهجة عذبة هل تصاحبنا يا آخي؟ فقلت نعم. فقال هكذا يكون الشباب يا سادة! - كان الرجل يكلمني وأنا مأخوذ فلم أر فيه إلا وجها صغيراً تحيط به لحية خفيف، وجسماً نحيلا وقامة قصيرة.
وفي تمام الساعة العاشرة وقف الشيخ محمد وتناول بندقيته وثبتها على ظهره وفعل مثله الآخرون ثم قال هيا بنا يا سادة. توكلنا على الله!، فخفق قلبي خفقاشديدا ثم تقدمنا وسرنا خلفه في صفوف.
(لها بقية)
الكتب
ثورة الأدبمن هيكل إلى طه
أخي طه
لم تخلفني موعدك عند ظهور كتابي (ثورة الأدب) فقد عوَّدَتْني أُخُوَّتُكَ
الصادقة وصداقتك الخالصة كلما ظهر لي كتاب ان تتناوله بالبحث وان
تتناولني بالثناء. بل عودتني هذه الاخوة ان تتناول بعض فصول كتبتها
بالبحث فيها وبالثناء عليّ من أجلها. وتحت نظري الآن ثلاثة فصول
من قلمك العذب أحدها عن كتابي (في أوقات الفراغ)، والآخر رد على
نقدي كتابك في (الأدب الجاهلي)، والأخير عن الفصل الذي كتبت عن
النثر والشعر والذي احتواه كتابي الجديد. وفي كل واحد من هذه
الفصول كما في غيرها من فصول نشرت السياسة ونشرت الأهرام من
قبل هذا الثناء، وهذا البحث الذي يسعدني بما لك من أثر في مجهودي
وإنتاجي يجعلك صاحب فضل فيه كبير. ولست أخفيك أني مدين في
حيلتي ككاتب لأشخاص كثيرين شجعوني وآزروني وعاونوني بوحيهم
وبنقدهم وبحسن توجيههم إياي وأني ما أزال بحاجة إلى هذه المؤازرة
وإلى هذا الوحي إن كان قد قدر لي أن أنتج في الكتابة شيئاً جديداً
ولعلي أستطيع يوما أن أفي لأصحاب الفضل هؤلاء بفصل على الأقل
أكتبه، فما أستطيع اليوم أن أحصيهم وهم كثيرون. لكنك كنت وما تزال
يا صديقي في مقدمتهم كنت وما تزال كذلك حين ألقاك وأتحدث إليك
وحين أقرؤك واستمتع بجمال ما تكتب، وعظيم لذته ودسم غذائه وحين
أفكر فيك وفيما أثرت في الأدب وفي تاريخ الأدب العربي من ثائرات
لما تهدأ. والحق انه إذا كانت ثورة الأدب مدينة في هذا العهد الأخير
لعدد غير قليل من الكتاب والأدباء فهي مدينة لك بأعنف ما فيها، مدينة
لك بأشد ما فيها طرافة. وبحسبي أن أذكر ذلك لتعلم كم يفكر فيك من
فكر وما يزال يفكر في ثورة الأدب، ومن يعتقد بل من يلمس هذه
الثورة ويرى أنها ما تزال لما تهدأ وأنها ما تزال تحطم وتهدم وتحاول
أن تبني كما حطمت الثورة الفرنسية النظم والطبقات. ولست أحاول
الرجم بما عسى ان تتمخض عنه هذه الثورة حين يستقر الأمر إلى
التوليد الهادئ المطمئن، ولعل صديقنا المازني أقدر مني على هذا
الرجم.
ولست أخفيك كذلك ان فصلك عن (ثورة الأدب) أثار مني ابتسامات دهشة وخجل متصلين من أوله إلى آخره فقد رأيتك تصورني فيه صورة لا أعرفها لنفسي، صورة جن لا ينقطع إنتاجه وأب لا يبخل على أسرته بحقها عليه، وصديق لا يضن على أصدقائه بحقوقهم عليه. فلست أعرف لنفسي من هذا كله شيئا. إنما أنا مقصر في حقوق أصدقائي، أكثر من مقصر في حق أسرتي. ثم ماذا تراني يا صديقي أنتجت؟ دعك من فصول يومية تكتب في الصحف فأنت أعرف الناس بتفاهة ما ينفق من مجهود في هذه الفصول. ودعك من العمل في حزب سياسي فأنت أدري بالسياسة المصرية: ما هي وما مبلغ الجد فيها. دعك من هذين وانظر وإياي فيما أنتجت. إنه لا شيء أو لا يكاد يكون شيئا، فأنا رجل بيني وبين الخامسة والأربعين شهور، وهذا أنا لا خيل عندك تهديها ولا مال، فليسعد النطق ان لم تسعد الحال. أم تحسب هذه الكتب القليلة مجهود جني؟! إن يكن ذلك فهو جني بليد ويطوف في الآفاق ثم يرضى من الغنيمة بالإياب، أو هو كما ذكرت جني هادئ مطمئن أفاق منذ حين قصير من نوم مريح. ولعلي لا آسف إذ أصف نفسي في ذلك على حقيقتها. وكل رجائي أن أصل من الحياة إلى حظ هادئ مطمئن يكفيني بعده أن أفي لأصدقائي بحقوقهم ولأسرتي بحقها وألا أكون هذا الرجل المقصر الذي يعذر الناس تقصيره ويتوهمونه لكثرة
عمله، وما هي كثرة العمل وإنما هو تقصير من جعله الحظ مقصرا.
وتذكر يا صديقي انك دهشت حين رأيتني أعلنت عن (ثورة الأدب) إعلانا أميركياً وإني سارعت في إهدائي وكنت تعرفني أشد الناس فتورا في الإعلان والإهداء، وتتساءل إن كان الله قد رزقني عفريتا في الإعلان، وتكرر انك ما تزال دهشا لأنك لم تفهم بعد مصدر هذه السرعة في الإهداء والإعلان. وإني لجد حريص على أن تزول دهشتك. فلأدلك على هذا العفريت الذي رزقني الله في الإعلان والإهداء. هو النظام الجديد للمطبوعات والصحف. فقد تعلم أن هذا النظام يقتضي إجراءات، منها تقديم عدد من النسخ إلى إدارة المطبوعات ومنها أن أية هيئة علمية أو أدبية أو دينية أو ما أدري ماذا تستطيع أن توحي إلى الحكومة فتصادر الكتاب الذي يطبع، وقد تصادر المطبعة التي طبع الكتاب فيها. ولعلك لم تنس قصة كتاب الخطيب البغدادي في السنة الماضية وحسن بلائك في الإفراج عنه. وقد ابتلينا نحن من قبل بشيء من هذا حين طبعت وصاحبي المازني وعنان كتاب (السياسة المصرية والانقلاب الدستوري) فقد قدمنا منه خمس نسخ لإدارة المطبوعات وأخذنا بها إيصالا وأردت بنفسي أخذ خمسمائة نسخة من الكتاب فإذا البوليس يحيط بي ويقتادني وكتابي إلى قسم عابدين، وإذا به يأمر ألا ينشر الكتاب وإذا بي اضطر إلى الالتجاء للنائب العام وإلى انتظار أسبوع أو نحوه حتى يفرج عن الكتاب. أفليس من حقي وذلك ما رأيت أن احتاط لنفسي حتى لا يقودني البوليس والجند مرة أخرى إلى القسم. فإني لأؤكد لك يا صديقي طه إن مثل هذا الموقف ليس مما تستريح له نفسي ولا نفس أي رجل مثقف. ولتلاحظ يا صديقي أن عنوان كتابي (ثورة الأدب). . وإذا كنت مهما آثر ألاّ أخيفك أو كانت الثورة لا تخيفك مهما تكن فيخيل إلي إن غيرك يخاف حين أثور وإن لم أر نفسي يوماً في حاجة إلى أن أثور، ويخيل إلي أن غيرك يخاف من كلمة الثورة كما كان الأتراك في العهد الحميدي يخافون كلمة الثورة وكلمة الحرية ولا يأذنون بنشرها أو نشر ما يماثلها. ولكي أتقيِ البوليس والجند والذهاب إلى القسم أعلنت الكتاب للناس وسارعت إلى إهدائه أصدقائي حتى إذا صودر قبل نشره أو أصابته مصيبة من مصائب هذا العهد أكون قد تعزيت بما أهديت من بعض نسخه، وبأني أعلنته للناس فحل بي وبه ما حل من ظلم وهضم.
هذا هو العفريت الذي لم تعرف يا صديقي مصدره. ولعلي إذ دللتك عليه وذكرت لك ما أصاب كتابي (السياسة المصرية والانقلاب الدستوري) عزيري عن خروجي على ما طبعت عليه من فتور في الإعلان والإهداء يعادل فتوري في حق أصدقائي وفي حق أسرتي. فان رأيتني مع ذلك بالغت في الاحتياط فظهرت في غير ما كان يليق بي أن أظهر فليس لي إلا أن أعتذر إليك وأن أعدك أني لن أعود إليها.
هذا عن شخصي. وما أدري يا صديقي ما عساي أقول لك فيما كتبت عن (ثورة الأدب) لقد أثار دهشتي وأثار خجلي فما كنت أحسبه ينال منك كل هذا التقدير، ولا كنت أحسبه جديراً به. وما عساي أقول في تقديرك الكتاب بأنه (تاريخ صحيح دقيق للأدب العربي المصري في هذه الأعوام الأخيرة من جهة وهو فلسفة أدبية رفيعة موضوعها أدبنا الحديث من جهة أخرى) وانه كتاب (تمضي فيه فيخيل إليك انك تمضي في كلام مألوف ولكنك لا تكاد تفكر قليلاً فيما تقرأ، أو لا تكاد تلح في القراءة حتى يفح لك هذا الكتاب أبواباً ويبسط أمامك آفاقاً ما كنت تعرفها أو تفكر فيها من قبل). وإذا كل شيء جديد. وإذا كل شئ طريف. وإذ الكاتب يخدعك ويمكر بك وان لم يرد خداعا ولا مكرا، (وان المؤلف هو المؤرخ العربي للأدب العصري الحديث، وانه قد فرض بذلك نفسه، لا أقول على هذا الجيل وحده، بل أقول على الأجيال المقبلة أيضا. . . وان كتابه هذا سيصبح من المصادر القيمة للذين يريدون أن يدرسوا أدبنا المصري في نهضته هذه الحاضرة) ما عساي يا صديقي أقول في هذا كله. أقول انه كثير. وانه أثار دهشتي وخجلي. واحسب صدق مودتك وإخلاص اخوتك كان لهما أثر غير قليل في إملاء هذه العبارات ومثلها عليك، كما كان لهما اثر غير قليل فيما كتبت عن شخصي.
ولعلك أنت شعرت بهذا، وخشيت من أن يتهمك الناس بالإسراف في الثناء على صديقك إسرافا بصرفهم عن حسنِ الاستماع له فأردت أن تحصي عليه وعلى كتابه بعض هنات تجعلهم أدنى إلى الإيمان بعدالة ثنائك. وأنت على حق فيما أحصيت من بعض الهنات وإن كنت قد أسرفت في بعضها. فقد ذكرت أن هيكلا: (من أصحاب المعاني بين الكتاب وأنه يهمل لغته إهمالا شديداً ويتورط في ألوان من الخطأ واضطراب الأسلوب، يدنيه أحيانا من الابتذال. والغريب أنه لا يضيق بذلك ولا يجد به بأسا ولا يعترف بأنه يسيء إلى نفسه
وإلى أدبه معا) والحق يا صديقي إنني لا أضيق بشيء ولا أجد به بأساً. لكني أستأذنك في أن أوجه إليك شيئا من اللوم غير قليل. فنحن حقا مختلفان في أمر اللغة والأسلوب خلافاً سأتلو عليك سببه. لكني لم أعرف قط منك أن لغتي وأسلوبي يدنياني من الابتذال. بل عرفت منك غير هذا. ولعلي لا أخطئ إذا وضعت تحت نظرك بعض عبارات كتبتها أنت في هذا الشأن. فقد ذكرت حين كتبت في السياسة الأسبوعية في 13 مارس 1926 عن كتابي (في أوقات الفراغ). و (. . . كذلك كنت منذ عشرين سنة أو نحو ذلك حين كنت تكتب في (الجريدة) وكذلك أنت الآن. وإن يكن قد جد شيء فهو أنك ازددت فيما أنت فيه من القوة ثباتاً ورسوخ قدم، وانك استطعت ان تملك اللغة العربية وتسخرها لأغراضك، وقد كانت تستعصي عليك وتنتهي بك أحيانا إلى ما يكره سيبويه والخليل، وصديقك طه حسين. وأنت تذكر ما كان بيني وبينك من جدال متصل في هذا الموضوع. فقد كنت أتهمك بقلة البضاعة في اللغة العربية وكنت تجيبني بأني أزهري. وكان أستاذنا لطفي السيد يسخر منك ومني في رفق وحنان. وقد مضت أيام وأعوام وما زلت أنا أزهرياً كما كنت، أما أنت فقد أتقنت اللغة العربية إتقاناً وروّضتها حتى ذلت لك. فأنت تستطيع ان تقول إني أزهري وأنا لا أستطيع أن اتهمك بالضعف في اللغة العربية. ولكن لكل شيء حداً. فما رأيك في أنك أتقنت اللغة العربية، حتى لقد تسرف في هذا الإتقان وتصطنع من الألفاظ والأساليب ما يصح أن تعاب به لأنه أدنى إلى التقعر منه إلى شيء آخر. صدقني فأنت أزهري في بعض الأحيان. وكم لي عليك من فضل أيها الصديق العاق. ما زلت أعيب لغتك حتى أصبحت شيخاً قحاً). . . وقد ذكرت حين كتبت عن فصل الشعر والنثر في السياسة الأسبوعية بتاريخ 9 أغسطس سنة 1927:(أنت لا تكتب إلا اضطررت قرّاءك إلى الثناء والإعجاب، وأنت لا تسمع ثناءً ولا تحس إعجابا إلا ازددت إجادة وأمعنت في الإتقان. ولست ادري إلى أين يذهب بك هذا الإمعان في إجادة البحث وإتقان التفكير والتوفيق إلى الجمال الفني فيما تكتب. الخ) لعلي لم أخطئ إذ وضعت تحت نظرك هذه العبارات وما قد تذكر من مثلها لأوجه إليك شيئاً من اللوم غير قليل. فمالك يا صديقي وكلنا نعرف دقة ذوقك الأدبي، لم توجه نظري منذ تلك السنوات الطويلة إلى ما أتورط فيه من خطأ واضطراب في الأسلوب يدنيني أحيانا من الابتذال. لقد كان لي أثناءها متسع من
الوقت لأوجه شيئا من الجهد أسلم به من هذا الذي لم تنبهني إليه إلا اليوم. أما ولم تفعل فلعلي لا أغلو يا صديقي إذا اتهمتك بأنك خدعتني كل هذه السنين وعبثت بي كل هذا العبث، وتركتني حتى تقدمت بي السن إلى حيث لا يستطيع الإنسان إصلاح ما أفسد الدهر.
أم أن الأمر ليس كذلك يا صديقي وأنك أنت قد ازداد ذوقك الفني دقة، زادت نقدك للغة والأساليب بأساً وشدةً، فأخرجني ذلك من حظيرة رفقك وتسامحك. إن يكن ذلك فأنت جدير من أجله بكل ثناء، جدير بكل تقدير على ما حباك الله مما كنت أود لو جاد عليّ ببعض منه.
أم إنني كنت يا صديقي على ما وصفت في سنة 1926 وسنة 1927 ثم عادت بضاعتي من اللغة العربية إلى مثل ما كنت تذكر قبل خمس وعشرون سنة من قلة، وعاد أسلوبي إلى الاضطراب أحيانا. إن يكن ذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله. وإنّا لله وإنا إليه راجعون. فإما إن لم يكنه فلومي شديد إياك وعتبي عليك يقضي به عليك وفاؤك لصديقك أن تراجع كتبه كلها ما ظهر منها وما قد يظهر وان تزيل منها ما قد يكون فيها من اضطراب وخطأ، فان لم تفعل وجهت إليك اليوم ما وجهت أنت إلي في سنة1926 من تهمة عقوق الصداقة وعدم الوفاء بما لها من حق.
أحسبك ستبتسم حين تقرأ هذه العبارة لأنك تعلم أني لا أضيق بأسلوبي، ولا أجد به بأساً. ولعلك يا صديقي على حق. بل انك لعلى حق. فليكن أسلوبي ما يكون فلن أرضى به بديلا: فأسلوب الكاتب هو الكاتب. ولن أرضى لنفسي أن أكون إلا أنا. أنا بما فيّ من حسن وقبيح. من خير وشر. من عرف ونكر. والحمد لله الذي جعلني كما أنا، ولم يجعلني شراً مما أنا. والحمد لله الذي جعل كثيرين ممن تناولوا كتابي هذا وغيره من كتبي يعجبهم أسلوبي اكثر مما أعجبك يا صديقي.
وما لي أضيق بأسلوبي ولم اتخذ الأدب يوما صناعة ولا أنا توفرت على دراسة الأدب. إنما أنا رجل درس القانون ودرس الاقتصاد والسياسة ومال إلى قراءة الفلسفة والأدب لا إلى دراستهما دراسة انقطاع وتمحيص، وطبيعي أن يكون أسلوبي أسلوب الذين درسوا القانون والذين يرون ان تؤدي المعاني بألفاظ لا تزيد عليها ولا تضيق بها، والذين لا
يعنيهم لذلك بهرجة اللفظ للفظ، وقد زادني حرصا على هذا الأسلوب إني رأيت مثله موضع الإطراء من طائفة من كبار الكتاب والفلاسفة. وأنت لا ريب يا صديقي قد قرأت نقد (تين) لفلسفة كوزن في أحد الأجزاء الثلاثة من كتابه (رسائل في النقد والتاريخ) ورأيت كيف جعل من أشد ما آخذه به أنه يطيل من حيث لا تقتضي الفكرة الإطالة، وكيف جعل ينقل الصفحة الكاملة من كوزن فيضع فكرتها في سطرين أو ثلاثة اسطر. هذا والأدب الذي أقرأ ينحو اليوم نحو هذا الأسلوب. فبعد أن كانت روايات روسو تقع في خمسمائة صفحة أو اكثر نزعت القصة شيئا فشيئا بأسلوبها إلى الإيجاز. لا في وقائعها، ولكن في بهرجة الألفاظ التي تقص بها تلك الوقائع، ولعل ميل العالم الحاضر إلى السرعة في كل شيء هو الذي عفى على الإطالة، فملّ الاستماع إلى الأشخاص الذين يعجبون بالاستماع إلى كلامهم حين يتكلمون فيطيلون القول لتطول لهم لذة هذا الاستماع، وملّ قراءة الأشخاص الذين يعجبون بألفاظهم حين يكتبون فيطيلون رسائلهم وكتبهم. لعل هذا الميل إلى السرعة هو الذي مال حتى بالأدب إلى أسلوب القانون، وهو الذي جعل الذين درسوا القانون في فرنسا وفي مصر وفي كل أمة من الأمم يجددون في الأساليب كما يجدد فيها الذين توفروا على دراسة الأدب، أو أكثر مما يجدد فيها هؤلاء في بعض الأحايين، والفن الحديث هو الآخر ينحو هذا النحو، فالبساطة والقوة هما اليوم أساسه، ويخيل إلي أن أسلوب هذا الفن وأسلوب الأدب وأسلوب القانون قد اتفقت اليوم وقد نفت الزخرف للزخرف، وأصرت على أن يكون اللباب هو الأساس في أساليبها جميعا. اللباب الذي يعطي القطعة الفنية طابعها والذي يقيم نظريات القانون ويحقق رسالة الأدب، اللباب الذي يقف من هذه جميعا كالبيت المشيد من غير حاجة إلى ما تعودته القرون الماضية من زخرف عصور الرومانتسم ومن زخرف الكلاسيك أنفسهم. ولعلك توافقني يا صديقي على الأسلوب هذا ولا ترى رأيا غبره وإن كان الخلاف بيننا على اللغة وعلى الأسلوب قديما. فقد درجت أنت من أزهريتك التي أشرت إليها إلى أسلوبك الجديد وجاهدت أنا ما استطعت الجهاد حتى وصلت إلى ما أنا اليوم.
لكني أعترف يا صديقي بأنك على حق حين آخذتني بأنني أسرع فيفوتني لذلك التحقق من بعض الشؤون وانك وقعت على هنّة ما كان يجوز لي أن أقع فيها حين أردت أن أذكر
الأوديسا فذكرت الأنياد. وإذا ذكرت لك أنني أنا الذي قمت بتصحيح تجارب الكتاب فقرأته عدة مرات قبل طبعه رأيت أني أكبر جريرة. لكني اختلف وإياك وإن كنت لا أحسب ذلك خلافا فيما ذكرت عن لابرويير وموليير. فما اشك في انهما تأثرا بكتّاب اليونان ممن ذكرت ومن تعرف أكثر مما أعرف لأنك درستهم دراسة خاصة. ولكنني إنما أردت أن موليير ولابرويير لم يتخذا من تاريخ اليونان والرومان إطار أدبهما كما فعل راسين وكورني. بل اتخذا الحياة المحيطة بهما وتأثرا بها إطار أدبهما. وهذه خطوة في التحرر من آثار اليونان والرومان مهدت للخطوات التي بعدها. فان تكن إشارتك يا صديقي إلى طائفة من الخطأ تأخذ به كتابي إنما هي إلى خطأ من هذا النوع، فلعله لا يكون خطأ. ولعلنا نستطيع أن نتفق عليه اتفاقنا على أكثر ما في كتابي من آراء، وليس شيء احب إلى من أن أتفق وإياك وأن كنت أجد في اختلافنا لذة لا أجدها في خلاف يقع بيني وبين أحد غيرك.
وقد لاحظت يا أخي أن اشتغالي المتصل بالسياسة قد أثر في تصوري الأشياء وفي حكمي عليها بعض الشيء وذكرت لذلك مثلين:
أحدهما إني أسرفت حين أسأت الظن بما يكتبه الأوربيون عن حياتنا الأدبية بينما أنت تظن أن (جب) وأمثاله لا يأخذون السياسة وأهواءهامقياساًلدراستهم الأدبية. والثاني إنني أسرفت حين أحسنت الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج وإني إنما فعلت ذلك لأرضي المصريين والشرقيين في الأدب كما أفعل في السياسة. وانك أنت ترى هذا شرا لأنه تغيير للحقائق العلمية إرضاء لمصر والشرق، والحقائق آثر عندك من أي شئ، ومن أي إنسان. وإنني لأؤكد لك صادقا ان الحقائق العلمية آثر عندي أنا أيضا من كل شئ ومن كل إنسان. وإذا كان اشتغالي المتصل بالسياسة قد اثر في تصوري الأشياء وفي حكمي عليها فإنما كان أثره أن زادني تقليباً للأشياء، وامتحانا لها وتعمقاً في بحث ما تنطوي عليه وما ترمي إليه، وأنا معك في أن (جب) وأمثاله لا يتخذون السياسة وأهواءهامقياسا لدراستهم الأدبية. لكن دراساتهم هذه، ودراسات الكثيرين منهم على الأقل، يقصد بها أكثر الأمر إلى تنوير الساسة من أهل بلادهم، وإلى اطلاعهم على عنصر من عناصر حيوية الشرق هو في رأيهم، وهو في الواقع، أجلّ هذه العناصر خطراً. فإذا كانت الأهواء السياسية ليست هي التي توجه دراساتهم فدراساتهم يقصد بها في كثير من الأحيان إلى
خدمة هذه السياسة وإن قصد بها كذلك إلى أغراض علمية بحتة. وما أحسبك تخالفني يا صديقي في أن كتاب (وجهة الإسلام) الذي ألفه خمسة من كبار المستشرقين المشتغلين بالأدب الحديث في بلاد الشرق المختلفة إنما هو كتاب سياسي مداه بحث ما وصلت إليه أوربا مما يسميه الأستاذ (جب) تغريب الشرق، وما يرجى لهذا (التغريب) في المستقبل من نجاح. وأنا لا أعيب هؤلاء العلماء المحترمين بهذا بل أحسدهم عليه أعظم الحسد. فهم به يخدمون أوطانهم ويخدمون العلم ويخدمون الحقيقة من ناحية سياسة بلادهم ومن ناحية الحضارة الغربية التي يريدون ان تظل المدنية الحاكمة في العالم. وهذه الخدمة الجليلة التي يقومون بها لأوطانهم وللعلم ولحضارتهم حقيقة علمية يسرّ لي اشتغالي بالسياسة الوقوف عليها. ولو أنك انقطعت للسياسة يا صديقي انقطاعي وأفنيت من تفكيرك فيها ما أفنيت أنا لوافقتني على هذه الحقيقة ولم تتهمني بالإسراف إذ علمتها، وما ذكرت أنا في مقدمة (ثورة الأدب) عن الحضارة التي نعمل جميعا لبعثها، وهل هي حضارة إسلامية أم حضارة عربية، واهتمام بعض الطلاب والطالبات الأوربيين برأينا في ذلك وحرصهم على إقناعنا بأنها حضارة عربية وليست حضارة إسلامية، إذاً صدق ظني، ففيه جانب من السياسة يعادل ما فيه من جانب البحث عن الحقيقة العلمية.
أما إني أسرفت متأثراً باشتغالي المتصل بالسياسة في حسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج فاحسب صديقي يوافقني على انه إذا زالت عوامل الفتور والضعف مما أشرت إليه في تضاعيف كتابي لما كان فيما قلت شيء من الإسراف. وإذا جاء اليوم الذي ينفسح فيه عندنا ميدان العلم وتزول كل العوائق التي تقف اليوم في سبيله والذي تتقرر فيه حرية العاطفة وحرية الحس وحرية الأدب، والذي يبعث فيه تراث هذا الشرق العظيم، والذي يكثر فيه المتعلمون تعليما صحيحاً منا كثرة تسمح بالتخصص في الأدب والانقطاع لفرع من فروعه، يومئذ يكون القول بقصورنا في الخيال وفي القوة على الإنتاج تجنياً على هذه البلاد وعلى الحقيقة، هذا إلا أن تكون يا صديقي من الذين يقولون بان الأوربيين ينتمون إلى الجنس الآري وهم لذلك أرقى منا ونحن ننتمي إلى الجنس السامي بالطبع. وما أحسبك تقول بهذا أو تعتبره حقيقة كما يود بعض العلماء في أوربا اعتباره بل أحسبك ترى هذه حقيقة سياسية يراد بترويجها تغريب الشرق والقضاء عليه بان يبقى
خاضعا للغرب إلى الأبد.
واختم رسالتي هذه إليك يا صديقي بشكرك شكراً لا حد له وبان أشير عليك أن تقرأ كتيباً صغيراً كتبه بول جيزل عقب وفاة أناتول فرانس عنوانه ما ذكر فيه عن موليير وشكسبير وغيرهما من كبار الكتاب وما قاله النقاد فيهم. وإذا كنت أنت اكبر من هؤلاء النقاد، وكنت أنا لا شيء إلى جانب هؤلاء الكتاب الذين خلقهم القدر أعلاما في حياته الإنسانية بل في حياة الوجود كله فان فيما قرأت أنا من ذلك ما عزاني عن أسلوبي وعن بعض ما أخذت عليّ بحق من هنّات أؤكد لك إني سعدت بتنبيهك إليها اكثر ما سعدت بثنائك علي. أفليست الحياة جهاداً متصلا نحو الكمال، كل في حدود ما يطيق، وهل للكمال سبيل إلا المجهود المتصل والتهذيب الدائم لهذا المجهود وتشذيب ما يند عن الطريق السوي فيه حتى لا ننساق وراء الشذوذ فنضل الطريق السوي. وهذا فضل لك جديد أضيفه إلى سابق أفضالك علي وأرجوك أن تعتقد إني دائما.
صديقك الوفي المخلص
محمد حسين هيكل
1