المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 110 - بتاريخ: 12 - 08 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١١٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 110

- بتاريخ: 12 - 08 - 1935

ص: -1

‌مصر والشرق الإسلامي

إذا قلت إننا أمة من غير منهج ودولة من غير سياسة لا تبعد عن الصدق! فإن التبعية المثلثة التي ضربتها علينا الأقدار الخصيمة في السياسة والاقتصاد والأدب قتلت في عقولنا الرأي الأصيل، وفي نفوسنا العزم المستقل، وفي مواهبنا العمل المرتجل. فنحن في مجموع الناس أتباع وأوزاع ننظر إلى الأمم تعمل، وإلى العالم يسير، بعين بلهاء لا يجاوز بصرها مدى العجب! وعلتنا أن ساستنا وقادتنا كلهم من رجال القول لا من رجال الفعل، ومن أرباب القلم لا من أرباب السيف، ومن جنود القانون لا من جنود (الأوامر)؛ ربوا على مقاعد المدارس، وثقفوا على مباحث الكتب، ودربوا على مكاتب الدواوين، وحرموا التربية العسكرية وهي وحدها القائمة على الخطة والنظام والأمر والتنفيذ والشرف؛ فكانت سياستهم سياسة الترقب والتردد والخوف، لا يصدرون ولا يوردون إلا عن فتوى فقيه، أو تقرير خبير، أو إشارة (مندوب)، أو رغبة سلطان، أو إرادة حزب؛ وذلك هو الفرق بين ساسة مصر وفلسطين وسورية، وبين ساسة العراق وإيران وتركية؛ فبينما تجد الأولين - وهم رجال قانون - مشغولين بالمفاوضات والمعاهدات والاحتجاجات والشكوى، تجد الآخرين - وهم رجال حرب - لا يتبعون غير قانون الطبيعة، ولا يفهمون غير سطور الجيش، ولا يعبأون إلا بالواقع، ولا يمضون إلا على العزم ولا يأوون إلا إلى الأمة

ففي مجلس من مجالس الحكم، أو في ناد من أندية السمر، تجول في خواطرهم الفكرة، أو تجري في نفوسهم الأمنية، فما هي إلا صيحة القائد حتى تصبح قانوناً مرسوماً كالخطة، ماضيا كالنظام، شاملا كالتعبئة؛ والعسكري لا يتردد ولا يتلكأ، وإنما ينطلق ماضي الصريمة قدما إلى وجهه: مبدؤه الأمر، وطريقه المعركة، وغايته النصر!

تدبر ذلك ووازن بين هذه السياسة الدبلوماسية التي تضطرب ولا تستقر، وتدور ولا تتقدم، وتناقش ولا تنتج؛ وبين تلك السياسة العسكرية التي تهجم ولا تضطرب، وتقدم ولا تتقهر، وتعمل ولا تناقش، فلعلك واجد في الموازنة تعليل هذا الشذوذ الذي نحن فيه: أمة لا تقل عن أكثر الأمم رجالا ولا مالا ولا قوة، يدفعها ماض مجيد، ويحفزها حاضر ملح، ويغريها مستقبل واعد؛ ثم موقعها من أعظم المواقع، ومغرسها من أكرم المغارس، وعدتها الممكنة من خير العدد، وتراها مع ذلك لا تزال صاغرة تعطي بالقهر، وقاصرة لا تملك التصرف!

هل تجد بربك علة خمودها ووناها في غير قيادتها الرخوة وسياستها المستكينة وإرادتها

ص: 1

المعطلة؟ ما دستور سياستنا في الغرب؟ متابعة إنجلترا على هوى الاحتلال، ومصانعة الدول على حكم الامتيازات، وإطفاء هذه البقعة المشرقة في وجهه أفريقية بهذا المظهر الكاسف. وما دستور سياستنا في الشرق؟ إن كنت تسمي الإغفال سياسة والقطيعة خطة، فدستورهما ما ترى بيننا وبين الحجاز من تناكر لا يسوغه عرف ولا تقتضيه طبيعة ولا تجره منفعة، وما تشهد بيننا وبين جاراتنا الأخوات من تدابر لا يسلم عليه تضامن ولا يجري معه تعاون ولا تنتظم به وحدة، ثم ما تسمع بيننا وبين الشرق الإسلامي من تغاضب على التمثيل السياسي، وهو أقل ما توجبه الروابط الدينية والتاريخية والجنسية من التواصل والتعاطف والمجاملة

سخونا إلى حد السرف على تمثيلنا الخارجي في أوربا، حتى في العواصم التي لا تصلنا بها سياسة ولا تجارة ولا جالية؛ فلما نبهنا إخواننا في آسية إلى أنهم أمم كأولئك الأمم، لهم ما ليس لنا من استقلال صحيح وسيادة كاملة، فضلا عما بينهم وبيننا من أواصر التاريخ ووشائج القربى، مثلنا أنفسنا هناك في الغالب بمن تنفيهم الأهواء لا بمن تدعوهم الحالة، وجعلنا للعراق وإيران وأفغانستان سفيرا واحدا يقيم في طهران!

فمس ذلك من كبرياء الأمتين والأختين فتثاقلت العراق عن تعيين سفيرها في القاهرة، ونقلت الأفغان وزيرها المعين إلى مكة! ذلك الغرب كله يتحلب فوه إلى ازدراد الشرق، فهو يستعين عليه (بالعصبة)، ويحتال له بالتجارة، ويتدسس إليه بالعلم، ويدور من ورائه بالمعاهدات، ثم يرى أن العرب صلبه والإسلام روحه، فيهجم عليهما بالمودة، ويتسابق إليهما بالخديعة؛ ولكن الإسلام والعرب يريدان أن يظل الشرق مطلع النور ومصدر الحرية ومنبت العزة؛ وتحقيق هذه الإرادة موكول إلى اجتماع الكلمة واتحاد الوجهة وتساير الهوى في الأمم الإسلامية التي ألفت بين قلوبها العقيدة، وفرقت بين جسومها المطامع

ومن أحق من مصر إذا استقلت إرادتها وتقررت سياستها وتحررت كفايتها بجمع هذه القلوب المخلصة على جهاد الاستعمار، وقيادة هذه النفوس المؤمنة إلى نصرة الحق؟

إن وطننا يا قوم مترامي الحدود، فلماذا تحدونه على الضيق، وقومنا ضخام العديد، فلماذا تحصرونهم على القلة، وإخواننا كرام يصفون المودة ويولون المعونة، فلماذا تجعلون بيننا وبينهم سدا من الإهمال والغفلة؟ إن الأمم القوية الناضجة لترخص الأموال والأنفس في

ص: 2

التمكين لأدبها ونفوّها وتجارتها في الشرق، فكيف نعرض نحن عن ذلك وهو يأتينا عفوا عن طريق القرابة في البلد والنسب، والوحدة في اللغة والأدب، والمشابهة في الحظ والحالة؟!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌محمد طاهر باشا نور

مثل نادر من المثل العليا في كرم الخلق وعفة الضمير وصدق النية؛ استأثر به الله وأمته وأسرته أحوج ما تكونان إلى كفايته ورعايته؛ فكان الأسى على فقده شاملا يتبين في كل وجه، ويحز في كل قلب؛ والمصيبة في الأخيار النوابغ مصيبة الإنسانية جمعاء، لأن كمالها قائم على كمالهم، وتقدمها سائر على أعمالهم، وسلامها معقود بما ينبعث عن فطرهم النبيلة من إلهام الجمال والخير والحق. كان رحمه الله على كرم أبوته وأمومته، وشرف منصبه وأسرته، متواضع النفس لين الجانب؛ وكان على هذا التواضع وذلك اللين أبي الطبع شديد الأنفة، لا يطمئن على مكروه ولا يصبر على غضاضة. ومن العجب النادر أنه استطاع على سلامة قلبه النفاق، وبراءة لسانه من الملق، ونزاهة نفسه عن الخنوع، أن يصعد في مناصب الدولة الخطيرة صعود الشمس في الفلك، فلم تعقه مكاره العزة والأباء عن بلوغ الغاية منها؛ وفي ذلك ولا ريب نجاح للكفاية في استقلالها، وانتصار للحق في ذاته

لم يكن طاهر باشا رجل حزب، ولكنه كان رجل أمة. حصر جهد في

عمله، وحدد عمله بواجبه، وانطوى قلبه منذ نشأ على صراحة القانون

ونزاهة القضاء ونصاعة العدل؛ فكان في كل عمل تولاه مظهرا لهذه

الأخلاق وموئلا لأصحاب الحق

وفي سنة 1924 كان زعيم الأمة الخالد سعد باشا زغلول رئيسا للحكومة، وكان رضى الله عنه حريصا على أن يقيم حكومته على الإخلاص في العمل والنزاهة في التصرف والفناء في الواجب؛ فخلا يومئذ منصب النائب العمومي، وهو ألصق المناصب القضائية بسلامة الناس، لأنه يد القانون وعين العدالة ولسان الحق؛ فدار الزعيم الجليل بعينه وقلبه في رجال القانون وكبار الدولة يتوسم صفات النائب التي يريدها في الوجوه، ويتعرفها من الماضي، ويتجسسها من الأسئلة، فلم يقع اختياره الموفق إلا على طاهر نور مدير الإدارة القضائية، وهو من غير العاملين معه ولا المقربين إليه ولا المتصلين به. فقام النائب المختار بما حمل من أعباء العدل على ما تحققه فيه الزعيم من الفطانة والأمانة والذمة والحكمة، لا يضطرب في مهب الأهواء، ولا يسخر سلطانه لشهوات الرؤساء، ولا يعرض

ص: 4

أخلاق الناس وأعراضهم لهوان السياسة، حتى طغى في مصر الحكم وفشا في الناس الظلم، فلم يستطع في ذلك العهد البغيض أن يوفق بين جور الحاكم وعدل القانون، فنقل وكيلا لوزارة الحقانية سنة 1930، وظل فيه على عهد الناس به حتى قبضه الله إليه. رحمه الله رحمة الله واسعة، وعوض أمته وأسرته منه خير العوض.

الزيات

ص: 5

‌الأدب والأديب

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

إذا اعتبرت الخيال في الذكاء الإنساني وأوليته دقة النظر وحسن التمييز، لم تجده في الحقيقة إلا تقليدا من النفس للألوهية بوسائل عاجزة منقطعة، قادرة على التصور والوهم بمقدار عجزها عن الإيجاد والتحقيق

وهذه النفس البشرية الآتية من المجهول في أول حياتها، والراجعة إليه آخر حياتها، والمسددة في طريقه مدة حياتها، لا يمكن أن يتقرر في خيالها أن الشيء الموجود قد انتهى بوجوده، ولا ترضى طبيعتها بما ينتهي؛ فهي لا تتعاطى الموجود فيما بينها وبين خيالها على أنه قد فرغ منه فما يبدأ، وتم فما يزاد، وخلد فلا يتحول؛ بل لا تزال تضرب ظنها وتصرف وهمها في كل ما تراه أو يتلجلج في خاطرها، فلا تبرح تتلمح في كل وجود غيبا، وتكشف من الغامض وتزيد في غموضه، وتجري دأبا على مجاريها الخيالية التي توثق صلتها بالمجهول. فمن ثم لابد في أمرها مع الموجود مما لا وجود له، تتعلق به وتسكن إليه؛ وعلى ذلك لابد في كل شيء - مع المعاني التي له الحق - من المعاني التي له في الخيال؛ وهاهنا موضع الأدب والبيان في طبيعة النفس الإنسانية؛ فكلاهما طبيعي فيها كما ترى

وإذا قيل الأدب، فاعلم أنه لابد معه من البيان؛ لأن النفس تخلق فتصور فتحسن الصورة؛ وإنما يكون تمام التركيب - في معرضه وجمال صورته ودقة لمحاته، بل ينزل البيان من المعنى الذي يلبسه منزلة النضج من الثمرة الحلوة، إذا كانت الثمرة وحدها قبل النضج شيئا مسمى أو متميزا بنفسه، فلن تكون بغير النضج شيئا تاما ولا صحيحا، وما بد من أن تستوفي كمال عمرها الأخضر الذي هو بيانها وبلاغتها

وهذه مسئلة كيفما تناولتها فهي هي حتى تمضيها على هذا الوجه الذي رأيت في الثمرة ونضجها؛ فإن البيان صناعة الجمال في شيء جماله هو فائدته، وفائدته من جماله؛ فإذا خلا من هذه الصناعة التحق بغيره، وعاد بابا من الاستعمال بعد أن كان بابا من التأثير؛ وصار الفرق بين حاليه كالفرق بين الفاكهة إذ هي باب من النبات، وبين الفاكهة إذ هي باب من الخمر. ولهذا كان الأصل في الأدب البيان والأسلوب في جمع لغات الفكر الإنساني، لأنه

ص: 6

كذلك في طبيعة النفس الإنسانية

فالغرض الأول للأدب المبين أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول وإلى مجاز الحقيقة، وأن يلقى الأسرار في الأمور المكشوفة بما يتخيل فيها، ويرد القليل من الحياة كثيرا وافيا بما يضاعف من معانيه، ويترك الماضي منها ثابتا قارا بما يخلد من وصفه، ويجعل المؤلم منها لذا خفيفا بما يبث فيه من العاطفة، والمملول ممتعا حلوا بما يكشف فيه من الجمال والحكمة. ومدار ذلك كله على إيتاء النفس لذة المجهول، التي هي نفسها لذة مجهولة أيضا؛ فإن هذه النفس طلعة متقلبة، لا تبتغي مجهولا صرفا ولا معلوما صرفا، كأنها مدركة بفطرتها أن ليس في الكون صريح مطلق ولا خفي مطلق؛ وإنما تبتغي حالة ملائمة بين هذين، يثور فيها قلق أو يسكن منها قلق

وأشواق النفس هي مادة الأدب؛ فليس يكون أدبا إلا إذا وضع المعنى في الحياة التي ليس لها معنى، أو كان متصلا بسر هذه الحياة فيكشف عنه أو يومي إليه من قريب، أو غير للنفس هذه الحياة تغييرا يجيء طباقا لغرضها وأشواقها؛ فانه كما يرحل الإنسان من جو إلى جو غيره، ينقله الأدب من حياته التي لا تختلف إلى حياة أخرى، فيها شعورها ولذتها وإن لم يكن لها مكان ولا زمان؛ حياة كملت فيها أشواق النفس، لأن فيها اللذات والآلام بغير ضرورات ولا تكاليف. ولعمري ما جاءت الجنة والنار في الأديان عبثا؛ فان خالق النفس بما ركبه فيها من العجائب، لا يحكم العقل أنه قد أتم خلقها إلا بخلق الجنة والنار معها؛ إذ هما الصورتان الدائمتان المتكافئتان لأشواقها الخالدة إن هي استقامت مسددة أو انعكست حائلة

وقد صح عندي أن النفس لا تحقق من حريتها ولا تنطلق انطلاقتها الخالدة فتحس وحدة الشعور ووحدة الكمال الأسمى - إلا في ساعات وفترات تنسل فيها من زمنها وعيشها ونقائضها واضطرابها إلى (منطقة حياد) خارجة وراء الزمان والمكان؛ فإذا هبطنها النفس، فكأنما انتقلت إلى الجنة واستروحت الخلد؛ وهذه المنطقة السحرية لا تكون إلا في أربعة: حبيب فاتن معشوق أعطي قوة سحر النفس، فهي تنسى به؛ وصديق محبوب وفي أوتى قوة جذب النفس، فهي تنسى عنده؛ وقطعة أدبية آخذة، فهي ساحرة كالحبيب أو جاذبة كالصديق؛ ومنظر فني رائع، ففيه من كل شيء شيء

ص: 7

وهذه كلها تنسي المرء زمنه مدة تطول وتقصر؛ وذلك فيها دليل على أن النفس الإنسانية تصيب منها أساليب روحية لاتصالها هنيهة بالروح الأزلي في لحظات من الشعور كأنها ليست من هذه الدنيا وكأنها من الأزلية. ومن ثم نستطيع أن نقرر أن أساس الفن على الإطلاق هو ثورة الخالد في الإنسان على الفاني فيه؛ وأن تصوير هذه الثورة في أوهامها وحقائقها بمثل اختلاجاتها في الشعور والتأثير - هو معنى الأدب وأسلوبه

ثم إن الاتساق والخير والحق والجمال - وهي التي تجعل للحياة الإنسانية أسرارها - أمور غير طبيعية في عالم يقوم على الاضطراب والأثرة والنزاع والشهوات؛ فمن ذلك يأتي الشاعر والأديب وذو الفن علاجا من حكمة الحياة للحياة، فيبدعون لتلك الصفات الإنسانية الجميلة عالمها الذي تكون طبيعية فيه، وهو عالم أركانه الاتساق في المعاني التي يجري فيها؛ والجمال في التعبير الذي يتأدى به؛ والحق في الفكر الذي يقوم عليه؛ والخير في الغرض الذي يساق له؛ ويكون في الأدب من النقص والكمال بحسب ما يجتمع له من هذه الأربعة، ولا معيار أدق منها إن ذهبت تعتبره بالنظر والرأي؛ ففي عمل الأديب تخرج الحقيقة مضافا إليها الفن، ويجيء التعبير مزيدا فيه الجمال، وتتمثل الطبيعة الجامدة خارجة من نفس حية، ويظهر الكلام وفيه رقة حياة القلب وحرارتها وشعورها وانتظامها ودقها الموسيقي؛ وتلبس الشهوات الإنسانية شكلها المهذب لتكون يسبب من تقرير المثل الأعلى، الذي هو السر في ثورة الخالد من الإنسان على الفاني، والذي هو الغاية الأخيرة من الأدب والفن معا؛ وبهذا يهب لك الأدب تلك القوة الغامضة، التي تتسع بك حتى تشعر بالدنيا وأحداثها مارة من خلال نفسك، وتحس الأشياء كأنها انتقلت إلى ذاتك من ذواتها. وذلك سر الأديب العبقري؛ فانه لا يرى الرأي بالإعتقاب والاجتهاد كما يراه الناس، وإنما يحس به؛ فلا يقع له رأيه بالفكر، بل يلهمه إلهاما؛ وليس يؤاتيه الإلهام إلا من كون الأشياء تمر فيه بمعانيها وتعبره كما تعبر السفن النهر، فيحس أثرها فيه فيلهم ما يلهم، ويحسبه الناس نافذا بفكره من خلال الكون، على حين أن حقائق الكون هي النافذة من خلاله

ولو أردت أن تعرف الأديب من هو، لما وجدت أجمع ولا أدق في معناه من أن تسميه الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط؛ ومن ذلك ما يبلغ من عمق تأثره بجمال الأشياء ومعانيها، ثم ما يقع من اتصال الموجودات به بآلامها وأفراحها؛ إذ كانت فيه مع خاصية

ص: 8

الإنسان خاصية الكون الشامل. فالطبيعة تثبت بجمال فنه البديع أنه منها، وتدل السماء بما في صناعته من الوحي والأسرار أنه كذلك منها، وتبرهن الحياة بفلسفته وآرائه أنه هو أيضا منها، وهذا وذاك وذلك هو الشمول الذي لا حد له، والاتساع الذي كل آخر فيه لشيء، أول فيه لشيء

وهو إنسان يدله الجمال على نفسه ليدل غيره عليه، وبذلك زيد على معناه معنى، وأضيف إليه في إحساسه قوة إنشاء الإحساس في غيره؛ فأساس عمله دائما أن يزيد على كل فكرة صورة لها، ويزيد على كل صورة فكرة فيها، فهو يبدع المعاني للأشكال الجامدة فيوجد الحياة فيها، ويبدع الأشكال للمعاني المجردة فيوجدها هي في الحياة، فكأنه خلق ليتلقى الحقيقة ويعطيها للناس ويزيدهم فيها الشعور بجمالها الفني. وبالأدباء والعلماء تنمو معاني الحياة كأنما أوجدتهم الحكمة لتنقل بهم الدنيا من حالة إلى حالة؛ وكأن هذا الكون العظيم يمر في أدمغتهم ليحقق نفسه

ومشاركة العلماء للأدباء توجب أن يتميز الأديب بالأسلوب البياني، إذ هو كالطابع على العمل الفني، وكالشهادة من الحياة المعنوية لهذا الإنسان الموهوب الذي جاءت من طريقه، ثم لأن الأسلوب هو تخصيص لنوع من الذوق وطريقة من الإدراك، كأن الجمال يقول بالأسلوب: إن هذا هو عمل فلان

وفصل ما بين العالم والأديب، أن العالم فكرة، ولكن الأديب فكرة وأسلوبها؛ فالعلماء هم أعمال متصلة متشابهة يشار إليهم جملة واحدة، على حين يقال في كل أديب عبقري: هذا هو، هذا وحده. وعلم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعية، والطبيعية بأسرارها المتجهة إلى النفس، ولذلك فموضع الأديب من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار

وإذا رأى الناس هذه الإنسانية تركيبا تاما قائما بحقائقه وأوصافه، فالأديب العبقري لا يراها إلا أجزاء، كأنما هو يشهد خلقها وتركيبها! وكأنما أمرها في (معمله)، أو كأن الله - سبحانه - دعاه ليرى فيها رأيه. . . . وبذلك يجيء النابغ من أدب العباقرة وبعضه كالمقترحات لتجميل الدنيا وتهذيب الإنسانية، وبعضه كالموافقة وإقرار الحكمة، وأساسه على كل هذه الأحوال النقد ثم النقد، ولا شيء غير النقد، كأن القوة الأزلية تقول لهذا الملهم: أنت كلمتي،

ص: 9

فقل كلمتك. . . .

وترى الجمال حيث أصبته شيئا واحدا لا يكبر ولا يصغر، ولكن الحس به يكبر في أناس ويصغر في أناس؛ وهاهنا يتأله الأدب، فهو خالق الجمال في الذهن، والممكن للأسباب المعينة على إدراكه وتبين صفاته ومعانيه، وهو الذي يقدر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية الجميلة إليه، ومحاولته إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة، وصولة الغريزة، وغرارة الطبع الحيواني

وإذا كان الأمر في الأدب على ذلك، فباظطرار أن تتهذب فيه الحياة وتتأدب، وأن يكون تسلطه على بواعث النفس دربة لاصلاحها وإقامتها، لا لأفسادها والانحراف بها إلى الزيغ والضلالة؛ وباظطرار أن يكون الأديب مكلفا تصحيح النفس الإنسانية، ونفي التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات؛ ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائما إلى فوق!

وإنما يكلف الأديب ذلك لأنه مستبصر من خصائصه التمييز وتقدم النظر وتسقط الإلهام، ولأن الأصل في عمله الفني ألا يبحث في الشيء نفسه، ولكن في البديع منه؛ وألا ينظر إلى وجوده، بل إلى سره، ولا يعنى بتركيبه، بل بالجمال في تركيبه، ولأن مادة عمله أحوال الناس، وأخلاقهم، وألوان معايشهم، وأحلامهم، ومذاهب أخيلتهم وأفكارهم في معنى الفن، وتفاوت إحساسهم به، وأسباب مغاويهم ومراشدهم، يسدد على كل ذلك رأيه، ويجيل فيه نظره، ويخلطه في نفسه، وينفذه من حواسه، كأنما له في السرائر القبض والبسط، وكأنه ولي الحكم على الجزء الخفي في الإنسان، يقوم على سياسته وتدبيره، ويهديه إلى المثل الأعلى. وهل يخلق العبقري إلا كالبرهان من الله لعباده على أن فيهم من يقدر على الذي هو أكمل والذي هو أبدع، حتى لا ييأس العقل الإنساني ولا ينخذل فيستمر دائبا في طلب الكمال والإبداع اللذين لا نهاية لهما؟

فالأديب يشرف على هذه الدنيا من بصيرته، فإذا وقائع الحياة في حذو واحد من النزاع والتناقض؛ وإذا هي دائبة في محق الشخصية الإنسانية، تاركة كل حي من الناس كأنه شخص قائم من عمله وحوادثه وأسباب عيشه؛ فإذا تلجلج ذلك في نفس الأديب اتجهت هذه

ص: 10

النفس العالية إلى أن تحفظ للدنيا حقائق الضمير والإنسانية والإيمان والفضيلة، وقامت حارسة على ما ضيع الناس، وسخرت في ذلك تسخيرا لا تملك معه أن تأبى منه ولا يستوي لها أن تغمض فيه، ونقلت الإنسانية كلها ووضعت على مجاز طريقها أين توجهت فتأكد الأمر فيها، ووصل بها، وعلمت أنها من خالصة الله، وأن رسالتها للعالم هي تقرير الحب للمتعادين، وبسط الرحمة للمتنازعين؛ وأن تجمع الكل على الجمال وهو لا يختلف في لذته؛ وتصل بينهم بالحقيقة وهي لا تتفرق في موعظتها؛ وتشعرهم الحكمة وهي لا تتنازع في مناحيها. فالأدب من هذه الناحية يشبه الدين، كلاهما يعين الإنسانية على الاستمرار في عملها، وكلاهما قريب من قريب؛ غير أن الدين يعرض للحالات النفسية ليأمر وينهي، والأدب يعرض لها ليجمع ويقابل، والدين يوجه الإنسان إلى ربه، والأدب يوجهه إلى نفسه، وذلك وحي الله إلى الملك إلى نبي مختار، وهذا وحي الله إلى البصيرةإلى إنسان مختار

فان لم يكن للأديب مثل أعلى يجهد في تحقيقه ويعمل في سبيله، فهو أديب حالة من الحالات، لا أديب عصر ولا أديب جيل؛ وبذلك وحده كان أهل المثل الأعلى في كل عصر هم الأرقام الإنسانية التي يلقيها العصر في آخر أيامه ليحسب ربحه وخسارته. .

ولا يخدعنك عن هذا أن ترى بعض العبقريين لا يؤتي في أدبه أو أكثره إلا إلى الرذائل، يتغلل فيهان ويتملأ بها، ويكون منها على ما ليس عليه أحد إلا السفلة والحشوة من طغام الناس ورعاعهم؛ فان هذا وأضرابه مسخرون لخدمة الفضيلة وتحقيقها من جهة ما فيها من النهي، ليكونوا مثلا وسلفا وعبرة؛ وكثيرا ما تكون الموعظة برذائلهم أقوى وأشد تأثيرا مما هي في الفضائل؛ بل هم عندي كبعض الأحوال النفسية الدقيقة التي يأمر فيها النهي أقوى مما يأمر الأمر، على نحو ما يكون من قراءتك موعظة الفضيلة الأدبية التي تأمرك أن تكون عفيفا طاهرا؛ ثم ما يكون من رؤيتك الفاجر المبتلى المشوه المتحطم الذي ينهاك بصورته أن تكون مثله. ولهذه الحقيقة القوية في أثره - حقيقة الأمر بالنهي - يعمد النوابغ في بعض أدبهم إلى صرف الطبيعة النفسية عن وجهها، بعكس نتيجة الموقف الذي يصورونه أو الإحالة في الحادثة التي يصفونها؛ فينتهي الراهب التقي في القصة ملحدا فاجرا، وترتد المرأة البغي قديسة، ويرجع الابن البر قاتلا مجنونا جنون الدم؛ إلى الكثير

ص: 11

مما يجري في هذا النسق، كما تراه لأناطول فرانس، وشكسبير وغيرهما، وما كان ذلك عن غفلة منهم ولا شر، ولكنه أسلوب من الفن، يقابله أسلوب من الخلق، ليبدع أسلوبا من التأثير. وكل ذلك شاذ معدود ينبغي أن ينحصر ولا يتعدى، لأنه وصف لأحوال دقيقة طارئة على النفس، لا تعبير عن حقائق ثابتة مستقرة فيها

والشرط في العبقري الذي تلك صفته وذلك أدبه، أن يعلو بالرذيلة. . . في أسلوبه ومعانيهن آخذا بغاية الصنعة، متناهيا في حسن العبارة؛ حتى يصبح وكأن الرذائل هي اختارت منه مفسرها العبقري الشاذ الذي يكون في سمو فنه البياني هو وحده، الطرف المقابل لسمو العبارة عن الفضيلة؛ فيصنع الإلهام في هذا وفي هذا صنعه الفني بطريقة بديعة التأثير، أصلها في أديب الفضيلة ما يريده ويجاهد فيه، وفي أديب الرذيلة ما يقوده ويندفع إليه؛ كأن منهما إنسانا صار ملكا يكتب، وإنسانا عاد حيوانا يكتب. . .

وإذا أنت ميلت بين رذيلة الأديب العبقري في فنه، ورذيلة الأديب الفسل الذي يتشبه به - في التأليف والرأي والمتابعة والمذهب - رأيت الواحدة من الأخرى كبكاء الرجل الشاعر من بكاء الرجل الغليظ الجلف: هذا دموعه ألمه، وذاك دموعه ألمه وشعره. وفي كتابه هذه الطبقة من العبقريين خاصة يتحقق لك أن الأسلوب هو أساس الفن الأدبي، وأن اللذة به هي علامة الحياة فيه، إذ لا ترى غير قطعة أدبية فنية، شاهدها من نفسها على أنها بأسلوبها ليست في الحقيقة إلا نكتة نفسية لاهتياج البواعث في نفوس قرائها، وأنها على ذلك هي أيضا مسئلة من مسائل الإنسانية مطروحة للنظر والحل، بما فيها من جمال الفن، ودقائق التحليل

واللذة بالأدب غير التلهي به واتخاذه للعبث والبطالة فيجيء موضوعا على ذلك فيخرج إلى أن يكون ملهاة وسخفا ومضيعة؛ فان اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلاغة معانيه وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس، وهي الأصل في جمال الأسلوب؛ ثم هو بعد هذه اللذة منفعة كله كسائر ما ركب في طبيعة الحي إذ يحس الذوق لذة الطعام مثلا على أن يكون من فعلها الطبيعي استمراء التغذية لبناء الجسم وحفظ القوة وزيادتها. أما التلهي فيجيء من سخف الأدب، وفراغ معانيه، ومؤاتاته الشهوات الخسيسة، والتماسه الجوانب الضيقة من الحياة؛ وذلك حين لا يكون أدب الشعب ولا الإنسانية، بل أدب فئة

ص: 12

بعينها وأحوالها؛ فان أديب صناعته أو أديب جماعته، غير أديب قومه وأديب عصره: أحدهما إلى حد محدود من الحياة، والآخر عمل جامع مستمر متفنن، لأن عمله الأدبي هو وجوده، وكل شيء في قومه لا يبرح يقول له: اكتب. . .

ومن الأصول الاجتماعية التي لا تتخلف، أنه إذا كانت الدولة للشعب كان الأدب أدب الشعب في حياته وأفكاره ومطامحه وألوان عيشه، وزخر الأدب بذلك وتنوع وافتن وبني على الحياة الاجتماعية؛ فان كانت الدولة لغير الشعب، كان الأدب أدب الحاكمين وبني على النفاق والمداهنة والمبالغة الصناعية والكذب والتدليس، ونضب الأدب من ذلك وقل وتكرر من صورة واحدة؛ وفي الأولى يتسع الأديب من الإحساس بالحياة وفنونها وأسرارها في كل من حوله إلى الإحساس بالكون ومجاليه وأسراره في كل ما حوله. أما الثانية فلا يحس فيها إلا أحوال نفسه وخليطه، فيصبح أدبه أشبه بمسافة محدودة من الكون الواسع، لا يزال يذهب فيها ويجيء حتى يمل ذهابه ومجيئه

والعجب الذي لم يتنبه له أحد إلى اليوم من كل من درسوا الأدب العربي قديما وحديثا، أنك لا تجد تقرير المعنى الفلسفي الاجتماعي للأدب في أسمى معانيه إلا في اللغة العربية وحدها، ولم يغفل عنه مع ذلك إلا أهل هذه اللغة وحدهم!

فإذا أردت الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطا فيه، ويأتي بقوة اللغة صورة لقوة الطباع، وبعظمة الأداء صورة لعظمة الأخلاق، وبرقة البيان صورة لرقة النفس، وبدقته المتناهية في العمق صورة لدقة النظرة إلى الحياة؛ ويريك أن الكلام أمة من الألفاظ عاملة في حياة أمة من الناس، ضابطة لها المقاييس التاريخية، محكمة لها الوضاع الإنسانية، مشترطة فيها المثل الأعلى، حاملة لها النور الإلهي على الأرض. . .

وإذا أردت الأدب الذي ينشئ الأمة إنشاء ساميا، ويدفعها إلى المعالي دفعا، ويردها عن سفاسف الحياة، ويوجهه بدقة الإبرة المغناطيسية إلى الآفاق الواسعة، ويسددها في أغراضها التاريخية العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضخم المحرر المحكم، ويملأ سرائرها يقينا ونفوسها حزما وأبصارها نظرا وعقولها حكمة، وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية. . .

. . . إذا أردت الأدب على كل هذه الوجوه من الاعتبار - وجدت القرآن الحكيم قد وضع

ص: 13

الأصل الحي في ذلك كله. وأعجب ما فيه أنه جعل هذا الأصل مقدسا، وفرض هذا التقديس عقيدة، واعتبر هذه العقيدة ثابتة لن تتغير؛ ومع ذلك كله لم يتنبه له الأدباء ولم يحذوا بالأدب حذوه، وحسبوه دينا فقط، وذهبوا بأدبهم إلى العبث والمجون والنفاق؛ كأنه ليس منهم إلا بقايا تاريخ محتضر بالعلل القاتلة، ذاهب إلى الفناء الحتم!

والقرآن بأسلوبه ومعانيه وأغراضه، لا يستخرج منه الأدب إلا تعريف واحد هو هذا: إن الأدب هو السمو بضمير الأمة

ولا يستخرج منه للأديب إلا تعريف واحد وهو هذا: إن الأديب هو من كان لأمته وللغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ.

(طنطا)

ص: 14

‌هما

للأستاذ أحمد أمين

(هما) إنسانان متباينان، لا يجمعهما إلا أني عرفتهما

أما (هو) الأول، فنظيف الثوب في غير أناقة، لا يعنيه من ثيابه إلا أنه لا يتأذى بقذارتها، ولا يتأذى من أنها زاهية تستلفت الأنظار - قد طبع على ما يود، فلا هو جميل يقيد النظر، ويغترق البصر؛ ولا هو قبيح الشكل سمج المنظر، تتفاداه العيون، ويلفظه الطرف، لو عهد إليه أن يخلق نفسه ما اختار غير صورته وشكله، لأنه يأبى تكاليف الجمال تكاليف القبح

كثير التفكير في نفسه، كأن الله لم يخلق في العالم إلا هي، وإن قد كان خلق أشياء فنفسه مركزها، دائم المحاسبة لنفسه على ما صدر منها للناس، ودائم المحاسبة للناس على ما صدر منهم لنفسه، ففي نفسه محكمة منعقدة باستمرار، تطول فيها المرافعة، ويشتد فيها الخصام، وتكثر منها الأحكام، والنقض والإبرام - حدثني أنه إذا جلس في مجلس استعرض بعد الفراغ منه كل ما دار فيه على الترتيب، كأن ذهنه (شريط ماركوني) ثم وقف عند كل كلمة صدرت منه يفحصها، هل مست شعور أحد، هل ظلمت أحدا، هل جرحت كرامة أحد، ألم يكن غيرها خيرا منها، أما كان يحسن أن يقال في مثل هذا الموقف غير هذا الكلام؟ ووقف عند كل كلمة قالها غيره يحللها، ماذا يريد منها، لقد جرح إحساسي بها، لقد كان يلتفت إلي عندما قولها، وما سبب ذلك والعلاقة بيني وبينه على خير ما يكون صديق لصديقه، لابد أن يكون قد تأثر من كذا وغضب من كذا، ولكن إن كان هذا فلا حق له لأنه لم يفهم قصدي ولم يتبين غرضي. فإذا أتم ذلك وأوى إلى فراشه بدأ يعيد الشريط من جديد، ويعلق على الحوادث تعليقات جديدة، ويفسرها تفسيرا جديدا، حتى يدركه النوم، وقل ألا يحلم بما حدث، وقل ألا تأتيه الرؤيا بتفسيرات جديدة وتعليقات جديدة

من أجل هذا يفر من الناس، ويفر من المجتمعات، حتى لا تكثر الأشرطة فيكثر عرضها، والتعليق عليها، فقل أن أجاب دعوة مع كثرة ما وجه إليه من دعوات، لأنه مع هذا ليس ثقيل الظل ولا جامد النسيم، فإذا أظطر إلى دعوة ذهب إليها كارها، وحسب حساب كل كلمة يتكلمها، وكل حركة يتحركها قبل أن يقدم عليها، تفضيلا للحساب العجل على الحساب

ص: 15

الآجل، فقل أن يأخذ الناس عليه غلطة مع كثرة ما يتوهمه هو من غلطات

أداه التفكير الكثير في نفسه إلى أن يكون عميق التفكير في كل ما يعرض عليه، فإذا عرض أمر قلبه على جميع وجوهه، وغاص في نواحيه، واستخرج منها أدق الأفكار وأصعبها وأعقدها، وشغف بالعلم فكان دائب الدرس، كثير الاطلاع، تثقف بالثقافة الإنجليزية فهو يتكلمها ويقرؤها كأحد أبنائها، وسمع بعمق التفكير الألماني فعكف على اللغة الألمانية حتى حذقها، وحدثه الأدباء بالأدب الفرنسي وما فيه من دقة في تحليل العواطف وإجادة الوصف، فدرس اللغة الفرنسية حتى أجادها، وتضلع من آداب اللغات الثلاث، وعرف أشهر ما كتب فيها، فإذا حدثك في أية ناحية منها أبان لك عن علم واسع، ومعرفة دقيقة هذا إلى لغته العربية ومعرفته بها كأنه متخصص فيها - ثم هو بعد لا يرضى عن نفسه، فهو دائم الدرس، دائب العمل، كلما قطع شوطا طمح إلى ما هو أرقى منه؛ فكأنه ومطامحه كالفرس وظله يجري دائما ليسبقه؛ وهيهات أن يلحقه

وهو مع كل علومه وكل لغاته وكل عمقه خامل مجهول، لا يعرف حقيقته إلا خلصاؤه، إن جلس مع غيرهم فعيي جهول لا يشاركهم في جدل، ولا يفضي إليهم بحديث، يعرف مواضع السخف من قولهم، ومواضع النقص في تفكيرهم، ويتظاهر بأنه لا يعي ما يقولون، ولا يرقى إلى ما يفكرون ويجادلون، يتغابى وهو الذكي، ويتعايى وهو الفصيح

لا يعبأ بالمال إلا بمقدار ما يعيشه عيشة نظيفة من غير ما ترف ولا سرف. عرضت عليه يوم (وظيفة) يكاد ينال منها ضعف مرتبه فرفضها في غير تردد لأنه يرى أنه لا يصلح لها ولا تصلح له، ولا تتفق ونفسه، ولا يتقنها إتقان عمله الذي يقوم به

ثم هو - غالبا - لا يحب رؤساءه ولا يحبه رؤساؤه، فهو لا يحبهم لأنه يتطلب فيهم كمالا لا تسمح به الدنيا إلا نادرا، ويقيس الكمال بمقياس محدود معين، مع أن للكمال مناحي مختلفة، وقد يتسامح في نقص يستره كمال، ويغتفر ضعف تسنده قوة، ولكنه في تقديره يجسم النقص، ويكبر الضعف، ويريد في رئيسه الكمال صرفا، والقوة خالصة، فكأنه يريده نبيا أو إلها، وأنى له بذلك؟ فهو في نقد له مستمر، وتجريح دائم - وأما هو فيكرهونه لأنه حنبلي في تصرفه - متزمت في خلقه، صريح لا يلطف صراحته بلباقة، شديد لا يمزج شدته برقة، التصرف عنده كالخط إما أن يكون مستقيما أو أعوج ولا وسط بينهما، ولا

ص: 16

يأتمر رئيسه ولا ينتهي بنهيه متى ما خالف قانونا - والقانون عنده هو القانون الحرفي الذي لا يحتمل تفسيرا ولا تأويلا - من أجل ذلك تعاقب عليه رؤساء مختلفون وتنقل من مصلحة إلى مصلحة والنتيجة واحدة دائما في نظرهم إليه ونظره إليهم - حتى لقد كان رئيسه يوما ما أقرب الناس إليه وأعرفهم به، ورجوت السعادة له أيام رياسته، فما لبثت أن رأيت الصداقة استحالت إلى فتور فكراهية، ثم كان أعدى له ممن لم يكن يعرفه

أما (هو) الآخر فجميل الصورة، ظريف الهيئة، حسن الحلية، ممتلئ البدن، ريان الجسم، واسع البطن، أنيق الملبس إلى آخر حد الأناقة، دقيق الذوق في تناسب الألوان، وتناسق الأشكال، حتى يعد حجة فيما يلبس وما لا يلبس، وما يتناسب وما لا يتناسب، لأنه خبير بأحدث الأزياء بل هو فيها مخترع فنان، يحدثك حديثا مستفيضا عن خير الخياطين ومزاياهم وعيوبهم، ومواضع الإجادة والعيب فيهم

وشيء آخر يجيد ذوقه، ويجيد التحدث فيه، ويجيد وصفه ويجيد نقده، وهو الطعام والشراب، فان أردت أن تعرف لونا من الطعام لا يناسب لونا أو أردت حديثا شهيا عن طعام شهي أو عن المائدة وكيف تنظم وعن بيوت مصر وما يجيده كل بيت من الأصناف فهو في ذلك الذي لا يبارى، وله فوق ذلك العلم الدقيق الواسع في صنوف الشراب، فأيها قبل الأكل وأيها على الأكل وأيها بعد الأكل، وأي ألوان الشراب يصح أن تجتمع وأيها لا يصح، وأي أنواع الشراب تجيده بلاد فرنسا وأيها تجيده ألمانيا وأيها أسبانيا - بل كل هذه معلومات أولية بالنسبة إليه فعنده ما هو أدق في ذلك وأعمق

هذه هي الدنيا وهذه هي الحياة، وهل أنت آخذ من دنياك إلا ما طعمت وما شربت وما لبست

وله كذلك حديث طريف عن النساء وأوصافهن فهو يجيد الحديث عن سحر العيون ورشاقة القد، ولطافة التكوين، وبراعة الشكل، وهيف القوام إلى آخر ما هنالك، ثم يتبع هذا بالكلام عن مغامراته وما شاهده في حياته، كأنه كان له في كل خطوة حادثة نسائية، وفي كل سفر عشق، وفي كل مجتمع غرام - والعشق العفيف، والهوى العذري والحب الأفلاطوني ألفاظ جوفاء لا تدل على شيء إلا على جنون قائلها أو ريائه، ينظر للمرأة نظر الأفعى للعصفور، وله من وسائل الأغراء ونصب الشباك، ورسم الخطط ما يعجز عنه القائد

ص: 17

الماهر، والصائد الحاذق، فما هو إلا أن يضع عينه على فريسته حتى يخلق من الحركات والأفاعيل والأحاديث ما يستلفت النظر، وإذا هو في حديث جذاب مع من أحب

وإلى هنا ينتهي علمه الواسع وقدرته الفائقة

ثم ما الخلق وما الفضيلة وما الحق؟ ليست إلا كلمات اخترعها الأقوياء ليستغلوا بها الضعفاء. ولا بأس من استعمالها أحيانا متى جلبت خيرا أو دفعت ضيرا، ولم يخلق الله أسخف ممن يزعمون أنهم يتمسكون بمبدأ، فليس في الدنيا مبدأ صحيح إلا المبدأ القائل (الغاية تبرر الوسيلة) على أن تفسر الغاية بغايتي لا غية غيري فكن (وفديا) في دولة الوفد، و (شعبيا) في دولة حزب الشعب، و (حرا دستوريا) في دولة الأحرار الدستورين، والعن الكل في دولة أعداءها، وتغنى بمناقبها متى ما كان هذا ينيلك (درجة) أو على الأقل (علاوة)، وأجعل مبدأك مشايعة الزمان، تقبل على من أقبل عليه، وتدبر عمن أدبر عنه - ولا تأخذ شيئا (جدا) فما الحياة إلا لهو ولعب، فان استطعت أن تجعلها كلها (مزحة) أو (نكتة) فافعل فهكذا خلقها الله

صادفته يوما في فندق فلما نزل إلى البهو استلفت نظر الناس بشكله وأناقته ولباسه وأمره للخدم ونهيه، وتحدث بصوت عال قليلا، فإذا ضحك يتصاعد من هنا ومن هنا، وإذا الصوت يرتفع شيئا فشيئا والتفات الناس يزيد شيئا فشيئا وإذا الحديث جذاب، وإذا هو محور من في المجلس وقيد أبصارهم وآذانهم

وشأنه في (المصلحة) التي يعمل فيها شأنه في الفندق، كعبة القصاد ونجعة الرواد يقضي الحاجة لتقضى حاجته، وينفذ أغراض من هو أكبر منه لينفذ أغراضه من هو أصغر منه، وهكذا اتخذ (وظيفته) تجارة، يحسب فيها في دقة ما يشتري وما يبيع، وما يدخل وما يخرج، مقدار الرصيد، وبكم هو دائن وبكم هو مدين

لعل الذي جعل الإنسان ذكرا وأنثى، وجعل منه من يميل إلى الشعر والخيال، ومن يميل إلى الحقيقة والواقع جعل الناس كذلك أحد هذين الرجلين، وكل ما في الأمر أنه يكون (هو) الأول صرفا أو (هو) الثاني صرفا، وقد يكون خليطا منهما، مزيجا بينهما - هما رجل الآخرة ورجل الدنيا، ورجل الفلسفة ورجل المادة، ورجل الأخلاق والمبادئ، ورجل المصالح والمنافع

ص: 18

أحمد أمين

ص: 19

‌مأساة قضائية شهيرة

ذكريات عن قضية دريفوس

للأستاذ محمد عبد الله عنان

منذ أسابيع قلائل توفي في صمت وسكون، رجل كان أسمه قبل ثلاثين عاما يدوي في أرجاء العالم بأسره، ويقترن أسمه بأعظم وأشهر مأساة قضائية في عصرنا؛ ذلك هو الكولونل الفريد دريفوس الضابط الفرنسوي اليهودي، الذي أثار اتهامه ومحاكمته ومحنته في خاتمة القرن الماضي في فرنسا أعظم ضجة، وشغلت قضيته الأمة الفرنسية بأسرها زهاء عشرة أعوام، وأثارت فيها من الجدل القضائي، والشهوات والأحقاد القومية والجنسية، والعواطف السياسية ما كاد يدفعها إلى معترك الحرب الأهلية والفوضى

وقد طويت صفحة قضية دريفوس منذ بعيد، وأسدل الستار على آخر فصل من فصولها منذ ثلاثين عاما. ولكن هذه المأساة القضائية الهائلة، التي طبعت تاريخ العصر بطابعها القوي، وأثرت في كثير من نواحيه السياسية والاجتماعية، مازالت منذ ثلاثين عاما تثير اهتمام البحث التاريخي والقضائي، وتصدر عنها المؤلفات الحافلة بأقلام أكابر الكتاب والساسة، ومنهم من عاصروها واتصلوا بحوادثها وشخصياتها. وكان آخر ما صدر عنها من المؤلفات الهامة كتاب بالألمانية حافل بالشهادات والوثائق الحاسمة، هي مذكرات الجنرال ماكس فون شفارتز كوبن، وهو الذي كان ملحقا عسكريا للسفارة الألمانية في باريس وقت انفجار العاصفة والقبض على دريفوس (سنة 1894) متهما بالخيانة العليا وبيع أسرار الجيش لدولة أجنبية؛ وكانت فرنسا بأسرها تتهم ألمانيا بأنها هي الدولة التي تحاول الوقوف على أسرار الدفاع الفرنسي، وتتهم الملحق الحربي الألماني بأنه هو الذي يعمل على ابتياع هذه الأسرار. ولم يكن في وسع الجانب الألماني أن يتكلم يومئذ وأن يفضي بما لديه لإظهار الحقيقة؛ وكانت المأساة القضائية تسير في طريقها، وينزل القضاء الحربي بالضابط البريء أقسى حكمه مستندا إلى طائفة من الوثائق والشهادات المزورة، وفرنسا تضطرب من أقصاها إلى أقصاها سخطا على الخائن وعلى اليهودية التي ينتمي إليها؛ وهناك في الظلام رجل واحد يعرف لب الحقيقة، ويستطيع أن ينقذ البريء، وأن يهتك هذه الحجب كلها بكلمة؛ ذلك الرجل هو فون شفارتز كوبن الملحق الحربي الألماني،

ص: 20

بطل المأساة الخفي؛ ولكن هذه الكلمة لم يستطع أن يقولها ولم يسمح له بقولها له بقولها يومئذ، وقضت الرسوم والاعتبارات السياسية أن ينوء بالسر حتى مرض موته؛ وعندئذ أفضى به إلى زوجه وأوصاها بنشر مذكراته ووثائقه، وقام بنشرها الكاتب الألماني برنهارد شفر تفجير تحت العنوان الذي اختاره صاحبها لها وهو (الحقيقة عن دريفوس)

ولم يك ثمة شك فيما سيقوله الرجل الذي اشترك بنفسه في حوادث المأساة، وعرف سرها في المهد؛ فقد أكد لنا شفارتز كوبن وهو على شفا القبر، ما كشفت عنه من قبل تطورات القضية الشهيرة، وما اضطر القضاء الأعلى لأن يثبته وأن يعلنه بعد تلك الجهود والمحاولات الفادحة التي بذلها أنصار البريء لإعادة النظر وتحقيق العدالة؛ أكد لنا براءة دريفوس مرة أخرى، وأوضح لنا بما يعرض من الناحية الخفية للحوادث كيف كان القضاء بعيدا عن الحقيقة، وكيف كان المجرم الحقيقي ظاهرا غير بعيد عن يد العدالة، ولكن يتمتع بحماية العسكرية المتعصبة المغرضة؛ ويقدم إلينا شفارتز كوبن فوق أقواله الخاصة طائفة هامة من المذكرات والوثائق الرسمية التي تبودلت بخصوص الحادث، ومنها رسائله إلى قلم أركان الحرب الألماني

وقد أتيحت لنا الفرصة منذ أعوام فرصة لدراسة قضية دريفوس من الناحيتين القضائية والتاريخية، وكتبنا عنها بحثا مستفيضا في كتابنا (ديوان التحقيق والمحاكمات الكبرى) وشرحنا أدوارها السياسية والقضائية المدهشة، وبينا كيف أنها كانت أثرا بارزا من آثار (خصومة السامية) أو حركة العداء ضد اليهودية، فإلى هذا البحث نحيل القارئ؛ ولكنا نرى أن نقدم هنا خلاصة موجزة لأهم وقائع القضية، لابد منها لفهم ما سيجيء من البيانات والتعليقات

في 15 أكتوبر سنة 1894 قبضت السلطات العسكرية على ضابط بقسم المدفعية هو الفريد دريفوس بتهمة الخيانة العليا، وذلك على أثر ضبط قلم التحريات السرية لوثيقة تتضمن التعريف ببعض أسرار الدفاع الفرنسي، قيل إنها بخطه وإنه قدمها إلى سفارة أجنبية، وقد عرفت هذه الوثيقة فيما بعد باسم (البردرو) وقدم دريفوس إلى المجلس الحربي، وحوكم سرا، وحكم عليه بالنفي المؤبد والتجريد (23 ديسمبر سنة 94)، وكان دريفوس يؤكد بكل قواه أنه بريء من كل تهمة؛ ولكن لم يصغ إليه أحد، وجرت محاكمته بسرعة وتحيز

ص: 21

ظاهر، ونفذ فيه الحكم بصرامة؛ وكان يؤمن ببراءته جماعة من أكابر المفكرين والساسة ويرونه ضحية الخصومة السامية؛ وكان من بين هؤلاء السياسي شويرر كستنر وكيل مجلس الشيوخ وطائفة من أعلام الكتاب مثل أميل زولا، وإيف جيو، وجوزف ريناخ، وجورج كليمنصو، وجوريس، وكاسنياك؛ فأثار هؤلاء دعوة شديدة ضد رجال العسكرية والقضاء الحربي، وطالبوا بإعادة النظر في القضية؛ وبذلت أسرة دريفوس جهودا كبيرة لإنقاذ وتبيان براءته؛ وكان الكولونيل بيكار من رجال العسكرية الذين يشكون في نزاهة القضاء الحربي، فانتهز فرصة انتدابه لرئاسة قلم التحريات السرية، ودرس القضية ومستنداتها المزعومة؛ فأيقن أن دريفوس كان بريئا وضحية واستطاع بعد البحث أن يعرف كاتب (البردرو) الحقيقي وهو ضابط يدعى (استر هازي). ولم تلبث هذه الحقيقة أن ذاعت رغم اضطهاد زعماء العسكرية لبيكار؛ واستغلها أنصار الإعادة؛ فاضطرت السلطات الحربية أن تقبض على استر هازي، وأن تحاكمه تهدئة لثورة الرأي العام، ولكن المجلس الحربي قضى ببراءته، فكانت هذه البراءة نذير فورة أشد من الأولى. وفي 13 يناير سنة 1898 نشر أميل زولا في صحيفة (الاورور) خطابه المشهور (إني أتهم!) موجها إلى رئيس الجمهورية، واتهم فيه القضاء الحربي في عبارات عنيفة ملتهبة بأنه انتهك قدس العدالة والقانون، وقضى عمدا على البريء، واستعمل الغش والتزوير في إجراءاته؛ فأحيل زولا على محكمة الجنايات بتهمة القذف، وحكم عليه بالحبس عاما وبالغرامة (3 فبراير سنة 98) ولكنه فر إلى إنكلترا تفاديا من تنفيذ الحكم؛ ولم تفتر جهود أنصار الإعادة مع ذلك؛ ولم تمض أشهر قلائل حتى اعترف الكولونل هنري وهو رئيس سابق لقلم التحريات، بأنه اشترك في صنع بعض الوثائق السرية التي قدمت كدليل على إدانة دريفوس فقبض عليه وسجن، ولكنه انتحر في سجنه، فزاد الشك في إجراءات القضاء الحربي واشتد سخط الرأي العام؛ واضطر عندئذ وزير الحربية أن يحيل الطلب الذي قدمه الضابط البريء بإعادة النظر إلى محكمة النقض؛ وقضت هذه بنقض الحكم (26 سبتمبر سنة 1899) وأحيل دريفوس إلى المجلس الحربي في رن، واستقدم من منفاه في جزيرة الشيطان في حالة يرثى لها؛ ولكن المجلس الحربي قضى ثانية بإدانته مع الظروف المخففة وحكم بسجنه عشرة أعوام؛ وأصدر مسيو لوبيه رئيس الجمهورية عفوا عن المحكوم عليه.

ص: 22

ولكن الضابط البريء وأسرته وأنصاره لم ترضهم هذه الخاتمة العرجاء، فضاعفوا جهودهم في سبيل الإعادة ومحو كل أثر للحكم؛ وانقسمت فرنسا عندئذ إلى شطرين، فريق وهو الأغلبية إلى جانب الإعادة وإنصاف البريء والحد من طغيان العسكرية؛ وفريق الوطنيين يؤازر الجيش ويقاوم الإعادة؛ وأشتد الجدل بين الفريقين، واتخذ مظهر سياسيا عنيفا يغشى كل الحياة العامة في فرنسا؛ وفي أثناء ذلك وقف أنصار الإعادة على وثائق وحقائق جديدة تؤيد البراءة، وقدم دريفوس طلبا ثانيا بإعادة النظر، ورأت الحكومة القائمة تهدئة للرأي العام أن تحيل طلبه ثانية إلى محكمة النقض؛ فقررت المحكمة أن تنظر فيه بنفسها، وأصدرت حكمها في 12 يوليه سنة 1906 بإلغاء محكمة رن وبراءة الضابط اليهودي؛ وفي الحال أعيد دريفوس إلى فرقته ومنح وسام الشرف، وأسدل الستار على تلك المأساة القضائية الهائلة، وهدأت العاصفة السياسية الكبرى التي أثارتها زهاء عشرة أعوام

يقول الكاتب الأشهر أميل زولا في كتابه الذي وضعه عن القضية بعنوان (الحقيقة تسير)(إن فون شفارتز كوبن وحده هو الذي يستطيع أن يذيع الحقيقة الناصعة)، وقد كان ذلك إبان اضطرام الصراع بين الحق والباطل وبين البريء وجلاديه؛ ولكن شفارتز كوبن كان يومئذ مرغما على الصمت كما أسلفنا. أما اليوم فبين يدينا أقواله وشهادته الحاسمة، وقد فاه شفارتز كوبن وهو على شفا الموت في أواخر ديسمبر سنة 1916 بهذه الألفاظ التي حرصت زوجه على تدوينها (أيها الفرنسيون؛ استمعوا إلي: إن الفريد دريفوس بريء، ولم يرتكب جرما قط؛ وكان الأمر كله دسائس وتزويرا، إن دريفوس بريء) وفي المذكرات والوثائق التي تركها شفارتز كوبن أدلة الحقيقة الناصعة التي طالب زولا بكشفها؛ فان (البردرو) الذي كان أساس الاتهام، والذي نسب زورا إلى دريفوس، كان من صنع استر هازي وبخطه، وكان المجرم الخائن هو استر هازي؛ وتلك حقيقة ثبتت إبان المأساة القضائية ذاتها؛ بيد أن شفارتز كوبن يفصل لنا علائقه بذلك الضابط المجرم، وكيف انه لبث في خدمته عامين يمده بأسرار الدفاع الفرنسي؛ ثم يقول لنا إن (البردرو) لم يصل إلى يده قط، ولم تلتقطه مدام بستيان خادمة السفارة الألمانية من سلة الأوراق المهملة، وتوصله إلى قلم التحريات الفرنسية، كما هو ذائع؛ ولكن المرجح أن استر هازي وضعه في صندوق الخطابات الخاص بالسفارة فاستلبه شخص ثالث لم يعرف قط؛ وهذه شهادة تهدم

ص: 23

الرأي الحديث الذي يقول به بعض الكتاب الفرنسيين، وهو أن شفارتز كوبن نفسه كانت (البردرو) مقلدا فيه خط استر هازي وأنه ألقاه في سلة الأوراق المهملة عمدا لكي يصل إلى قلم التحريات السرية عن يد مدام بستيان وتتم بذلك الدسيسة؛ والواقع أن شفارتز كوبن لم يقف على أمر (البردرو) إلا بعد القبض على دريفوس والحكم عليه بعامين حيث رأى صورة الوثيقة منشورة في جريدة (الماتان) فعرف لفوره أنها من خط استر هازي، وأدرك في الحال روعة الخطأ القضائي الذي ارتكب

وفي الرسائل التي تبادلها شفارتز كوبن مع الكونت منستر سفير ألمانيا في باريس وقتئذ ما يدل على التأثر العميق الذي كانت تتبع به السلطات الألمانية يومئذ تطورات المأساة القضائية؛ وقد لبث الكونت منستر نفسه مدى حين بعيدا عن فهم الحقيقة معتقدا مسؤولية شفارتز كوبن حتى أنه حمل عليه في بعض رسائله بقسوة، واتهمه بأن تصرفاته المريبة كانت أكبر سبب في الحملات الصارمة التي شهرتها الصحافة الفرنسية على ألمانيا، والتي اضطرت حكومة القيصر أن تسعى لدى الحكومة الفرنسية لوقف هذه الحملات؛ وقد وقف الكونت منستر بعد ذلك على طرف من الحقيقة؛ وكان أركان الحرب الألماني يعرفها منذ الساعة الأولى، ويعرفها القيصر أيضا. وكان القيصر يعرف ويثق بأن السفارة الألمانية في باريس لم تتصل بدريفوس قط؛ ولما صرح له الكونت منستر حين مقابلته بأنه لا يشك لحظة في براءة دريفوس، أجابه القيصر بأنه لا يشك فيها كذلك؛ ونجد تفصيل المحادثات والتقارير الرسمية الألمانية المتعلقة بقضية دريفوس في المجلدين التاسع والثالث عشر من مجموعة الوثائق الرسمية التي أصدرتها ألمانيا عن تاريخ ما قبل الحرب. هذا وفي مذكرات الجنرال فون شفارتز كوبن كثير من الوثائق والتفاصيل التي تلقي أكبر ضوء على الحقائق المأساة القضائية الكبرى، وتعرضها في كثير من نواحيها عرضا جديدا مؤثرا

ولقد كانت فورة الخصومة السامية التي بعثت قضية دريفوس، ضربة شديدة لليهودية، استنفدت كثيرا من مواردها وقواها؛ ولكنها كانت لها نذير الخطر والكفاح؛ فقد لبثت اليهودية مدى حين آمنة مطمئنة في ظل الديموقراطية الظافرة؛ ولكنها أفاقت مذعورة من هذه الدعة الظاهرة، ونهضت تكافح طغيان القومية والعسكرية والكنسية معا؛ وكانت هذه اليقظة اليهودية وقود الحركة الصهيونية التي أذكى تيودور هرتسل الكاتب اليهودي

ص: 24

جذوتها. وكان هرتسل يشهد مأساة دريفوس وتطوراتها منذ البداية كمراسل لجريدة (نوية فرايه بريسه) النمسوية، ويصور حوادث المأساة بقلمه الملتهب تصويرا قويا مؤثرا يثير روح الكفاح والمقاومة في الملايين من بني جنسه؛ واستطاعت اليهودية غير بعيدا أن تستجمع قواها؛ وغدا هرتسل روح الحركة الجديدة التي انتهت بتنظيم الصهيونية السياسة؛ ثم الفت اليهودية فرصتها أثناء الحرب الكبرى، واتجهت صوب فلسطين، وما زالت حتى ظفرت ببغيتها من الحلول بأرض الميعاد والاحتشاد فيها وتحقيق حلمها القديم بالعودة إلى أرض سليمان

محمد عبد الله عنان

ص: 25

‌وقفة بالعقيق!

للأستاذ على الطنطاوي

وقفة بالعقيق تطرح ثقلاً

من دموع بوقفة في العقيق

ماثل بين أربع ماثلات

ينزع الشوق من فؤاد علوق

البحتري

تتمة ما نشر في العدد الماضي

وأرى عروة وقد أقبل من سفره، فدخل القصر، وحار الناس كيف ينعون إليه محمدا، حتى جاء عيسى بن طلحة فدخل عليه، فقال عروة لبعض بنيه: اكشف لعمك عن رجلي ينظر إليها، ففعل

فقال عيسى: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا أبا عبد الله! ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا منك ما كنا يحتاج إليه: رأيك وعلمك

قال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك

قال: فإني معزيك بمحمد!

فوثب فزعا يقول: ما له؟

قال: لقد لقي الله

فاصفر عروة ثم جلس يسترجع ويقول:

اللهم أخذت عضوا وتركت أعضاء، وأخذت ابنا وتركت أبناء، فإنك إن كنت أخذت لقد أبقيت، وإن كنت ابتليت لقد عافيت!

ويتبدل المنظر فإذا أنا أرى قصر سعيد بن العاص الذي يقول فيه عمرو بن الوليد:

القصر فالنخل فالجماء بينهما

أشهى إلى النفس من أبواب جيرون

وأرى فيه حركة وازدحاما، وأرى على الوجوه سحابة من غم، وعلى الجباه سطورا من كآبة، فأغشى القوم أسألهم وأعلم علمهم فإذا هم واجمون، لأن سعيد بن العاص يحتضر! وأي نبأ في المدينة أروع من موت سعيد؟ وفيه يقول الفرزدق:

ترى الغرّ الججاجح من قريش

إذا ما الأمر في الحدثان غالا

ص: 26

قياما ينظرون إلى سعيد

كأنهمُ يرون به هلالا

وأدخل القصر فأسمع عمرا ابنه يقول له: لو نزلت إلى المدينة!

فيقول له سعيد: يا بني إن قومي لن يضنوا علي بأن يحملوني على أعناقهم ساعة من نهار، فإذا أنا مت فآذنهم؛ فإذا واريتني فانطلق إلى معاوية فانعني له، وانظر في ديني، واعلم أنه سيعرض قضاءه فلا تفعل، ولكن اعرض عليه قصري هذا، فإني إنما اتخذته نزهة وليس بمال

وما هي إلا أن يموت فيحمله الناس من قصره حتى يدفنوه في البقيع. ورواحل عمرو بن سعيد مناخة، فيعزيه الناس على فبره ويودعونه، ويمضي من ساعته إلى معاوية فيكون أول من ينعاه له. فيتوجع له معاوية ويقول: هل ترك دينا؟

فيقول: نعم، فيقول معاوية: هو علي

فيقول: قد ظن ذلك وأمرني ألا أقبله منك، وأن أعرض عليك بعض ماله فتبتاعه، فيكون قضاء دينه منه

فيقول: اعرض علي

فيقول: قصره بالعرصة

فيقول معاوية: قد أخذته بدينه

قال نوفل أبن عمارة: وكان دين سعيد ثلاثة آلاف ألف درهم، فاشترى معاوية القصر بألف ألف درهم، والمزارع بألف ألف، والنخيل بألف ألف درهم

فيقول عمرو: هو لك على أن تحمله إلى المدينة، وتجعلها بالوافية.

فيحملها له إلى المدينة، فيرقها عمرو في غرمائه، وكان أكثرها عدات وعدها سعيد، فيأتيه شاب بصك فيه عشرون ألف درهم بشهادة سعيد على نفسه، وشهادة مولى له عليه، فيرسل عمرو إلى المولى فيقرئه الصك، فيبكي حين يقرؤه ويقول: نعم، هذا خطه وهذه شهادتي عليه

فيقول عمرو: ومن أين لهذا الفتى عليه عشرون ألف درهم؟ وإنما هو صعلوك من صعاليك قريش.!

فيقول المولى: أنا أخبرك: مر سعيد بعد عزله فاعترض له هذا الفتى، ومشى معه حتى

ص: 27

صار إلى منزله، فوقف له سعيد وقال: ألك حاجة؟

قال: لا. إلا أني رأيتك تمشي وحدك، فأحببت أن أصل جناحك

فقال لي سعيد: ائتني بصحيفة، فأتيته بهذه، فكتب له على نفسه هذا الدين، وقال: إنك لن تصادف عندنا شيئا فخذ هذا، فإذا جاءنا شيء فأتنا

فيقول عمرو: لا جرم والله لا يأخذ إلا بالوفية، يا غلام! أعطه إياه، فيعطيه عشرين ألف درهم وافية

ويجيئه مولى لقريش فيقول: إني أتيت أباك بابن مولاي (فلان)، وقد هلك أبوه ليزوجه. فقال: ما عندي، ولكن خذ ما شئت في أمانتي

فيقول له عمرو: كم أخذت؟ فيقول: عشرة آلاف

فيقبل عمرو على القوم فيقول: من رأى اعجز من هذا؟

يقول له سعيد: خذ ما شئت في أمانتي، فلا يأخذ إلا عشرة آلاف، والله لو أخذ مائة ألف لديتها

ويتبدل المنظر، فأرى العقيق قد ازدحم بالناس حتى كأنه المحشر، وانتقلت إليه المدينة حتى لم يبق فيها كهل ولا غلام، ذلك أن خبرا سرى في المدينة سريان الأمل في النفوس اليائسة، فترك الناس ما هم فيه وأقبلوا على قصر سعيد يسمعون منه ما يسمعوا. . . وإذا ابن عائشة وهو أضن خلق الله بالغناء، وأسو الناس فيه خلقا، ومن إذا قيل له غن: قال: ألمثلي يقال هذا وإذا ابتدأ بغناء وقيل له أحسنتن قطع الغناء مغضبا وقال: ألمثلي يقال أحسنت؟ وإذا هو يغني أطيب غناء وأطربه، فلا ينتهي من صوت حتى يشرع في آخر، لا يسكت ولا يستريح، حتى عدوا عليه مائة صوت، وإذا خبره أن العقيق طغى وازداد ماؤه، فاعتصم ابن عائشة بقصر سعيد بن العاص فملأ الماء عرصة القصر، فصعد على قرن البئر ورآه الحسن بن الحسن، وكان قادما على بغلة له وخلفه غلامان أسودان كأنهما شيطانان، فقال لهم: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذي عليه ابن عائشة؛ فخرجا حتى فعل ذلك، ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يا ابن عائشة؟ قال بخير! فداك أبي وأمي، قال: انظر إلى من بجنبك، فنظر فإذا العبدان؛ قال: أما تعرفهما؟ قال: بلى، قال: فهما حران لئن لم تغني مائة صوت لآمرنهما بطرحك في البئر، وهما حران لئن لم يفعلا لأقطعن

ص: 28

أيديهما. فغنى فلم ير الناس أحسن يوما منه

ثم أرى فتيانا من فتيان المدينة فهم يونس الكاتب وجماعة ممن يغني قد خرجوا إلى واد يقال له رومة من بطن العقيق، فغنوا، فأثار غناؤهم أهل الوادي، فاجتمع إليهم الرجال والنساء حتى كان حولهم مثل مراح الضأن؛ وأرى محمد بن عائشة مقبلا معه صاحب لهو، حتى يرى جماعة النساء عندهم فيأخذه الحسد، وتحز في نفسه الغيرة، فيقول لصاحبه: كيف بك إذا فرقت هذه الجماعة؟ فيسخر منه صاحبه، فيهيج ابن عائشة فيأتي قصرا من قصور العقيق فيعلو سطحه، ويلقي رداءه، فيتكئ عليه ويغني بشعر عبيد بن حنين:

هذا مقامُ مُطَرَّدٍ

هدمت منازله ودوره

نمت عليه عداته

كذباً فعاقبه أميره

ولقد قطعت الخرق بع_د الخرق معتسفاً أسيره

حتى أتيت خليفة الر - حمن ممهوداً سريره

حييته بتحيّة

في مجلس حصرت صقوره

فلا ينقضي الصوت إلا والنساء كلهن تحت القصر الذي هو عليه، وقد تقوض مجلس يونس ولم يبقى فيه أحد!

وأرى غلاما خلاسيا، مديد القامة أحول، قد ارتقى صخرة في العقيق منفردة، فاضطجع عليها ضجعة خفيفة، ثم هب فزعا وهو يغني غناء ما سمع مثله السامعون، يزعم أن الشيطان أجراه في مسامعه وهو نائم، ويعيد الغناء وهو يتصيد الطير بحبالة في يده، فيمر به شيخا مغني مكة ابن سريج والغريض، وقد أقبلا على بعيرين لهما يزوران المدينة ويتعرضان لمعروف أهلها، ويلقيان من بها من صديقهما، فيسمعان ثم يستعيدان الصوت:

القصر فالنخل فالجماء بينهما

أشهى إلى النفس من أبواب جيرون

فيعيده، وهو مشغول عنها بصيده، فيقبل أحدهما على صاحبه فيقول: هل سمعت كاليوم قط؟ فيقول: لا والله! فيقول: فما هو رأيك؟ فيقول: هذا غناء غلام يصيد الطير، فكيف بمن في الجوبة؟ أما أنا (فثكلته أمه) إن لم أرجع!

فكرا راجعين

وكان الغلام (معبد) سيد من غنى صوتا في الحجاز!

ص: 29

ويتبدل المنظر فأرى حميدة بنت عمر بن عبد الرحمن بن عوف، وقد خطبها رجل عبشمي من أهل الشام، فلما أزداد أن يرتحل بها وحف بهما الناس يودعونهما سمعت رجلا يغني بشعر أبي قطيفة:

لا ليت شعري هل تغير بعدنا

جنوب المصلى أم كعهدي القرائن

وهل ادؤر حول البلاط عوامر

من الحيّ أم هل بالمدينة ساكن

إذا برقت نحو الحجاز سحابة

دعا الشوق منى برقها المتطامن

ولم أتركنها رغبة عن بلادها

ولكنه ما قدر الله كائن

فتسقط وقد أغمي عليها، فيعالجونها كيما تفيق، فإذا أفاقت سمعته يغني:

ألا ليت شعري هل تغير بعدنا

قباء وهل زال العقيق وحاضره

وهل برحت بطحاء قبر محمد

أرهط غرّ من قريش تباركه

لهم منتهى حبي وصفو مودتي

ومحض الهوى مني وللناس سائره

فتغشت بين النساء وسقطت ميتة. . . . . .

. . . واضطربت الصورة وتضاءلت، ثم توارت واختفت، وإذا صفحة الماء بيضاء ليس فيها صورة، وإذا المجد والجلال، والعطر والنور، وإذا الدور والقصور، والأنس والحبور؛ كل أولئك قد غطى عليه الفناء، وابتلعه هذا السيل الدفاع، ثم عاد يجري بين الآكام الجرداء، وله خرخرة وله دردرة. . .

وإذا كل ما بقي من هذه الدنيا الواسعة، قهوة قامت على جذوع النخل، وبئر نصبت عليه سانية، وجماعة قد تحلقوا يشربون الشاي، ويطربون، وما بهم لو حققت من طرب؛ وإذا قصر سعيد أنقاض ماثلة، وإذا سائر القصور تلال من الرمل الأحمر. . . . .

وإذا المجد والجلالة والجا - هـ كما يطرس السطورَ البنان!

دمشق

علي الطنطاوي

ص: 30

‌عاقبة سليمة

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لم يتفق الناس إلى الآن على وسيلة يدفع المرء بها عنه ثقيلا يتصدى له، ويلح عليه بما لا يسعه أن يجيبه إليه، فالأمر متروك إلى صدق الروية، وسرعة الخاطر، وحسن البديهة، ولكل موقف ما يقتضيه، ويدفع إليه ويغري به، والذي يلهمه الواحد في موقف لا يلهمه واحد آخر في الموقف عينه؛ فإذا بدا لي أو لك ما لجأ إليه (حامد) غريبا أو شاذا أو غير لائق، فلا تلمه ولا تنع ذلك عليه، فان عذره أنه لم يخطر له سواه، وأن الموقف كان يتطلب السرعة واتقاء الجدل، فقد كان - كما لا تعلم - في قهوة (الحمام) - بفتح الحاء - وكانت معه (فريدة)(وهي بنت عمه، وكان بينهما من الود أكبر مما يكون في العادة بين ذوي القربى؛ وكانت تنطوي له على حب هادئ، وتحس - بفطرتها الذكية - أنه يصبو إليها، ولكنها كانت تراه لا يصارحها بشيء ولا يبثها أمرا، ولا يدع لفظا أو عملا يشي بهواه هذا، فجنحت إلى الشك، ثم يئست. ولما تقدم أحد أغنياء الريف يخطبها، أغرت أباها بالتلكؤ، لعل حامدا يتحرك، ولكنه لم يفعل. فقالت لنفسها إذا لم أتزوج من أحب، فانه لا يبقى أمامي إلا زواج المال والوجاهة. . . وهكذا حدث، أعني أنه لم يحدث، وإنما احتفل بقبول هذا الوجيه الريفي، وبتقديم (الشبكة) إلى عروسه المستقبلة، على أن يكون العقد ليلة الجلوة

ومضت أيام، والتقى حامد بها خارجة من متجر كبير، فخفت إليه وهو يهم بركوب سيارته وسألته:

(لماذا هذه الجفوة؟)

فضحك وقال: (الجفوة؟ إنما أفسح لمن هو أحق مني)

فتلفتت ثم قالت: (سأصرف سيارتي وأركب معك، فهل تقبلني؟)

قال: (ليس لي خيار، أنك كهذا الهواء، لا غنى عنه)

قالت: (أشكرك) وصعدت إلى جانبه وأشارت إلى سائقها أن ينصرف. وسألها حامد:

(إلى أين بنا؟)

قالت: (إلى مكان فيه هواء، وطعام، فإني جائعة وحرى)

ص: 31

فمضى بها إلى قهوة الحمام على النيل؛ فأكلا شيئا وشرب هو قدحا من البيرة - أو الجعة كما تسمى - وقالت له على الطعام (لماذا لم تهنئني؟)

قال: (أهنئك من أعماق قلبي، ولكن بأي شيء؟)

قالت: (بخطيبي - ثم إنك لم تحضر - لماذا؟)

قال: (آه صحيح، مبروك! لقد سمعت أنه غني جدا، ووجيه في بلده)

قالت: (نعم، إن غناه مضاف إلى غناي خليق أن يساعدني على ما يميل إليه طبعي من البذخ والترف. صحيح، فإني لا أطيق الفقر، ولا أستطيع أن أحيا حياة رقيقة الحال)

قال: (أعرف ذلك - أو أنا على الأصح قدرته)

فحدقت في وجهه فقال: (نعم، لقد انتهى كل شيء الآن فلا ضير من الصراحة، ومن الممكن أن أكاشفك بالحقيقة. . .)

فقاطعته وقالت: (هل تعني أنك. . . .)

ولم تتمها، فقال:(نعم، قدرت أن لا أمل لي، فأن عمي غني وأنا فقير، وقد عطفه علي أني ابن أخيه)

فقالت: (ولكنك لست بفقير!)

قال: (أعني نسبيا. . كل ما أكسب بعد الجهد والعناء ستون جنيها في الشهر. وما خير في ستين لمن تنفق وحدها - وهي فتاة في بيت أبيها - أكثر من هذا القدر؟)

فلم تقل شيئا، وفتر الحديث بعد ذلك، وصار متقطعا، وإن كان حامد لم يقصر في توجيهه إلى كل ناحية تخطر بالبال. ثم قاما، وإنهما ليتخطيان باب القهوة وإذا بفريدة تشد على ذراع حامد وتقول بصوت يكاد يكون همسا:(حامد! هذا هو!)

فتلفت وهو يسأل: (من؟) ولكنها ذهبت تعدو إلى السيارة وفتحت الباب الخلفي وأغلقته وراءها، وانطرحت على أرضها - لا مقعدها - فأهمل حامد السؤال والجواب، ودخل سيارته وأدر المحرك، ولم يفته أن يحكم إيصاد الأبواب حتى لا يفتحها أحد من الخارج، وأسدل الستائر الخلفية فاستحال أن يرى أحد فريدة وهي راقدة. ولم يكن حامد يعرف ممن تجري ولا كان يدري ما يخفيها ويدفعها إلى التخفي، وإنما كان يدري أنها تريد ذلك، فعليه أن يكون عونا لها

ص: 32

ومد يده إلى ناقل السرعة، يريد أن يضعه في المكان الأول، وإذا برجل ضخم هائل الأنحاء، ولكنه أنيق الثياب محبوكها بقول له:

(لحظة! لقد رأيت فتاة تدخل هذه السيارة، فافتح الباب من فضلك لتخرج)

فابتسم حامد وقال: (رأيت فتاة تدخل في هذه السيارة؟ أواثق أنت؟) ويلتفت وراءه ليطمئن

فقال الرجل بلهجة جافية: (أقول لك أفتح الباب)

فقال حامد: (معذرة، ولكنك مخطئ. . . . إني لست سائق سيارتك)

فاحتد الرجل وصاح به: (إنها. . . إنها. . . ألا تنوي أن تفتح؟)

وعالج الباب، ولكنه كان موصدا من الداخل، فأعياه فتحه، فارتد إلى نافذة حامد وقال بصوت اجتمع له الناس:

(افتح. . . أقول لك افتح. . . أخرج هذه الفتاة)

وصار المحتشدون على الرصيف جمعا حافلا، وأكثرهم من العامة والنوبيين، والصبيان، وسائقي السيارات المختلفة، وعلت أصواتهم بالنكات والضحك، فزاد الرجل حماقة، وجعل يدق الباب بجمع يده، وتهور فوضع قدمه على سلم السيارة وهم أن يدخل رأسه من نافذتها لينظر، فلم يبق مفر من عمل يعمله حامد ليدفعه عنه ويتخلص منه؛ ولو غيره في مكانه لكان الأرجح أن يلكمه، ولكن حامد لم ير أن يتقي شرا بشر، واكتفى بأن يطير له طربوشه عن رأسه، فطار عقله وراءه، وارتد عن السيارة لينقذه من التراب البليل - أو الوحل - وسر الناس هذا المنظر فضحكوا، وقهقهوا، واغتنمها الصبيان فرصة فاقبلوا على الطربوش يدفعونه بأرجلهم كأنه كرة ويصيحون ويصخبون، والرجل يسبهم ويلعنهم ويحاول أن يدرك واحدا منهم، ولكنه ثقيل وهم خفاف، فكف، وعاد إليه الرشد مع التعب، ونظر فإذا السيارة قد غابت!

وقالت فريدة لحامد في بيتها عصر يوم:

(هل تعرف لماذا دعاك عمك؟)

قال: (لا)

قالت: (ليسألك عما حصل في قهوة الحمام، وعلى بابها)

قال: (من أخبره؟ أنت؟)

ص: 33

قالت: (بل هو)

قال: (هو؟)

قالت: (نعم، ألا تعرفه؟ الخطيب! واتهمني بالسكر أيضا)

قال: (اتهمك أنت؟ ولكنك لم تذوقي شرابا سوى الماء. أنا الذي شربت بيرة)

قالت: (ولا أنت - فاهم؟)

قال مستغربا: (ولا أنا؟ ولكني شربت بيرة - ولم لا أشرب؟ وماذا يدعوني أن أقول غير الحق؟)

فهزت كتفيها وقالت: (كما تشاء! ولكني أنذرك إذا اعترفت)

فسألها متعجبا: (تنذرينني؟ لست فاهما؟)

قالت: (يا صاحبي، لا أستطيع أن أتزوج سكيرا - أنا هكذا - من الطراز القديم المحافظ)

فانتفض واقفا وصاح: (ماذا تقولين؟)

قالت بضحك: (أليس كلامي مفهوما؟)

قال: (ولكنك مخطوبة. . . .؟)

قالت: (كنت مخطوبة. . . أما بعد أن كشفت لي عن حبك المكتوم، فقد اغتنمت الفرصة وقذفت بالشبكة في وجهه)

قال: (ولكني فقير. . . .)

قالت: (وأنا أحب الفقر. . . ليس أمتع منه، لا تخف أن أجيء إليك بغناي الثقيل المنفر. . . والآن ألا تقبلني؟)

فدنا منها وهو يقول: (لم ألثم شفتيك منذ. . . .)

فقالت: (منذ يناير سنة 1927. . . دونت ذلك في مذكراتي. . . (اليوم لثم ثفتي. . . . . .)

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 34

‌التطور والتقليد

في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

التطور والتقليد، أو التجديد والمحافظة، عملان خالدان يعملان جنبا لجنب ويتنازعان كل كائن حي من فرد أو مجتمع أو نظام أو نحوه. فهما يتنازعان كل أدب حي؛ وقد كان لكل من الأدبين العربي والإنجليزي نصيب من كليهما، غير أنا إذا دققنا النظر رأينا أن الأدب العربي كان أوفر حظا من التقليد أو المحافظة أو الاتباع، بينما كان الأدب الإنجليزي أوفى نصيبا من التطور والتجديد والابتداع

تطورت لغة الأدب الإنجليزي وأسلوبه: فهما اليوم يخالفان ما كانا عليه في عهد شكسبير مخالفة كبيرة، وتطورت أغراضه عامة: فصار اليوم أشد اتصالا بالمجتمع أخذا منه وتأثيرا فيه، وتطورت أشكاله: فظهرت فيه على التتابع المقالة الدورية والصورة والترجمة والقصة الطويلة والقصيرة

وتتابعت مذاهبه: فخلت المدرسة الرومانسية التي ازدهرت في عهد اليزابث، وكان شكسبير وسبنسر من أينع ثمراتها؛ وكان الخيال ووقاع البطولة وحياة الملوك والأمراء والقواد وقصص الأولين وخرافتهم مداد نظمها ونثرها؛ وتلتها المدرسة الدينية التي أطلعت ملتون وبنيان اللذين كانت أمور الدين وأخبار البعث والحساب والخلود مدار كتاباتهما؛ ثم كانت المدرسة الكلاسية في القرن الثامن عشر فافتتن زعماؤها في الشعر أمثال درايدن وبوب، وفي النثر أمثال أديسون وستيل، بمحاكاة الآثار الكلاسية القديمة من إغريقية ولاتينية في حسن الصياغة وإحكام الأسلوب؛ ثم أعقبت هذه مدرسة رومانسية أخرى في مستهل القرن التاسع عشر كان من أقطابها وردزورث وشلي وكيتس، فنبذت الاهتمام بتنميق الأسلوب وأطلقت لخيالها العنان؛ وفي أواسط ذلك القرن قامت المدرسة الواقعية تحد من ذلك الخيال الجامح وتربطه برباط الواقع، وكان من رجالها تنيسون ثم هاردي.

وكانت كل مدرسة من هذه المدارس الأدبية مرآة للحياة في عصرها: فمدرسة شكسبير كانت مرآة عصر الاستكشاف الجغرافي وكشف كنوز الأدب القديم، والمخاطرات والمغامرات في الكشف والقتال. ومدرسة ملتون الدينية كانت مرآة عصر التشدد الديني

ص: 35

الذي كان زعماؤه (المطهرين)؛ والمدرسة الكلاسية المنمقة الأسلوب كانت صدى لمجتمع القرن الثامن عشر المنمق الآداب والأقوال المتهافت على حياة المدن المزدري بمظاهر الطبيعة؛ والمدرسة الرومانسية في مستهل القرن التاسع عشر كانت تعبيرا في عالم الأدب عما عبرت عنه الثورة الفرنسية إذ ذاك في عالم السياسة: من نزعة إلى التحرر من قيود المجتمع وأغلال الفكر والعودة إلى الطبيعة ما أمكن؛ والمدرسة الواقعية التي تلت ذلك كانت متأثرة بالاستكشافات العلمية البعيدة المدى التي شهدها القرن الماضي. وقد تتابعت هذه المدارس جيلا بعد جيل وكانت كل واحدة منها ثورة على سابقتها تحاول إصلاح معايبها وتدارك ما أهملته

هكذا تطور الأدب الإنجليزي مع تطور السياسة والعلم والدين، وكذاك تطور الأدب العربي: فلغة الجاهلية الوعرة تلتها لغة صدر الإسلام الفحلة، فللغة الصدر العباسي الجزلة، ثم جاءت بعد ذلك لغة لينة مبالغة في اللين والأناقة، والأسلوب المرتجل المرسل تلاه الأسلوب الفني المتعمل المرصع الذي تزايد تعمله وترصيعه شيئا فشيئا؛ وتطورت أغراض الأدب وشملت من أسباب الحضارة ما لم تشمل قبل: من شؤون الإمارة ومظاهر الترف وآثار العلم والفلسفة؛ وتطورت أشكاله: فظهرت كتب التراجم والأخبار والنقد والمقامات والرسائل المطولة. فالأدب العربي قد تطور تطورا عاما اتجه إلى ترقيق العبارة وتوسيع أغراض القول، وكان مرجع هذا التطور العام هو تحضر أبناء العربية واشتغالهم بالعلوم

ولكنه تطور عام غير محسوس كتلك التطورات السالف ذكرها في مجرى الأدب الإنجليزي؛ ومعظم أغراض الأدب العربي وصفاته توورثت جيلا عن جيل: فأغراض الفخر والمدح والهجاء والرثاء ونحوها في الشعر ظلت أبوابا ممتازة محددة يتبارى الشعراء في تناولها ولا تتم لأحدهم البراعة حتى يطرق كلا منها؛ وكتب الأخبار الأدبية والتاريخية المختلطة ظلت على وتيرة واحدة من أول ظهورها لا يختلف بعضها عن بعض في طريقة البحث والسرد وتهذيب الأبواب والفصول

ولا غرو فقد كانت تحيط بالأدب العربي ظروف كلها تدعوا إلى المحافظة والتقليد: فالمجتمع العربي ذاته كان مجتمعا محافظا لم يكد يطرأ عليه جديد من الأفكار والأنظمة بعد

ص: 36

تشبعه بحضارة الأقدمين وعلومهم، ولم يختلف عليه من الأحداث الاجتماعية والسياسية ما تترك صداها في الأدب: فقد كانت القصة من أولها إلى آخرها على وتيرة واحدة: أسر وأمراء يتوارثون الحكم ويتجاذبونه، وأمم مكفوفة عن شؤون الحكم إلا أن تثور ثائرتها في الفينة بعد الفينة فتقمع وتعود الأمور إلى وتيرتها، وما من نزعة جديدة أو اتجاه جديد يحول عنان الأمور إلى غير ما هي سائرة فيه

والأدباء أنفسهم كانوا منعزلين بآدابهم عن مجتمعهم قلما يعبرون عن أمانيه أو يحاولون قيادته، وكانوا أقرب مكانا إلى الأمراء منهم إلى صف الشعب، لأنهم كانوا يعتمدون على الأولين في معاشهم

ثم إن قيام الإمبراطورية الإسلامية أدى من بادئ الأمر إلى نتيجتين كانت كلتاهما ذات أثر بالغ في الأدب العربي، وكانتا عاملي محافظة وتقليد فيه: وهما فساد اللغة الفصحى تدريجيا، ودخول الأعاجم في اللسان العربي

فان فساد اللغة تدريجيا جعل الأدباء يحتذون دائما حذو المتقدمين من العرب الأقحاح، ويتخذون من كلامهم نماذج وشواهد، وصار حسب الشاعر المتأخر أن يجاري المتقدمين في جزالة القول وإحكام النسج ليكون قد بلغ مبالغ الشاعرية، ولا يكاد يخطر له أن يبرز على أولئك المتقدمين ويبتكر ما لم يعرفوا، وهو وإن لم يرد إلا محاكاة أسلوبهم إلا أن ذلك مؤديه حتما إلى محاكاة أفكارهم، ومن ثم التقليد والمحافظة

والأعجام الذين دخلوا في اللسان العربي انكبوا كذلك على دراسة المتقدمين وانصرفوا إلى محاكاتهم تقويما لعربيتهم وطلبا لأسرار اللغة وقواعدها؛ ولا يخفى أن كثيرا من أقطاب الأدب المتأخرين كانوا من هؤلاء الأعجام المستعربين، فكان تأثيرهم في الأدب تأثير محافظة وتقليد ونظر إلى القديم

وقد تزايد تبجيل كل ما ورد عن المتقدمين حتى قارب منزلة التقديس وإن قام من الأدباء من ينكره ويثبت الفضل للمتأخرين، وكان من آثار هذا التقديس وهذه المحاكاة الدائبة ما نرى في الأدب العربي دون غيره من الآداب من ظواهر بتراء ليست من التعبير عن الواقع ولا من الابتكار في شيء: كالغزل الاستهلالي، وذكر الإبل والحداء والبيد، ومعارضة القصائد المشهورة بمماثلاتها في الغرض والوزن والقافية

ص: 37

وهناك بابان من أبواب الشعر كان مجرد بقائهما عامل تقليد ومحافظة في الأدب: هما المدح والهجاء المتكلفان طلبا لصلات الممدوح أو لهبات خصم المهجو، فقد كان الشاعر مثلا يمدح قائد الخليفة أو وزيره مادام مرضيا عنه، فان نكب تقرب الشاعر إلى الخليفة بذمه؛ وقد كان أكثر المدح والهجاء من هذا النوع المتكلف المستمنح، وما لم يصدره الشاعر عن شعور حقيقي فسبيله فيه أن يحاكي ويأخذ ممن تقدم نقصا وزيادة وتخريجا وتوليدا، لذلك ظلت معاني المدح والهجاء وتشبيهاتهما في مختلف العصور تحوم حول أقوال المتقدمين، وأثر هذا جلى في جمود الأدب وتقيده بالقديم بدل اتجاهه إلى مناح جديدة

ثم هناك عامل كبير بين عوامل محافظة الأدب العربي، هو اعتزال ذلك الأدب غيره من الآداب، فالأدب ككل كائن حي يجمد ويتضاءل إذا لم يتصل بغيره، فتتجاوب الاحساسات والأفكار، وقد كان من أكبر عوامل رقي الأدب الإنجليزي وتطوره اتصاله بالآداب المعاصرة ورجوه إلى الآداب الكلاسية، أما الأدب العربي فلم يكن له مرجع عدا ماضيه، فظل دائما ينظر إلى الخلف بدل أن ينظر إلى الأمام، ولو استفاد من الأدب الإغريقي مثلا لكان له تاريخ غير تاريخه المعروف

كل هذه عوامل سياسية واجتماعية وأدبية أدت إلى ضعف رغبة التجديد واستفحال نزعة التقليد في الأدب العربي، ومن ثم ظل طوال العصور يردد ألحانا بعينها حتى بلغ ما يمكن أن يبلغه مثله من الرقي، ثم انحدر في طور تدهوره الطويل، وكان من أكبر عوامل هذا التدهور تغلب نزعة التقليد فيه على نزعة التطور.

فخري أبو السعود

ص: 38

‌إلى الشباب الناهض

الأدب الاهي. . .

للأستاذ محمد روحي فيصل

قال صاحبي:

(والأدب لو تدبرت متعة تلهو بها النفوس، ولذة تنشط لها العقول، وفن جميل نقرؤه فتبرز الأحلام، وتتدافع الخواطر، وتخف الحياة، ثم نخلص إلى عالم حلو لا تجثم عليه أثقال السعي والعيش، ولا تحده قيود الجد والوقار. .)

وسكت هامسا قد انفجرت عيناه الصغيرتان تستطلعان في وجهي أثر الحديث، وتتبينان ما عسى أن أقول، فراعه أن أجمع الأنف وأزوي اللحظ وأقطب ما بين الحاجبين، ثم أقوم هادئا إلى مكتبتي المتواضعة فأنزع منها رسالة في مائة صفحة قد ألفت النظر إليها والإنعام فيها منذ سنوات، فما أتركها إلا لنوم أو طعام، أو شأن من شؤون الدنيا. وشرعت أتلو على صاحبي صفحة موجزة ليست جديدة في روحها ومعناها لدى القراء، ولكنها جديدة طريفة في عيني، أريد أن أذيعها اليوم في الناس ليتدبروها وليروا الرأي الذي يرتئون فيها

فافتح إن شئت أية مجلة عربية، فانك لا شك واجدها قد جردت كثيرا من صفحاتها للشعر، أو للشعر المنثور، أو لغير هذا من القطع الفنية مما يسمونه أدبا، وما هو من الأدب الصادق الصحيح في شيء! والظاهر أن اعتبار الأدب وسيلة للتعابث والمفاكهة، أو للتظرف والمنادمة، هو علة هذا الهراء والهذيان، وسبب قوي لكل ما يعتري الآداب والفنون من انحطاط وإسفاف، وما يتدسس إليها من ألوان المجانة وفضول الكلام. ونحن في هذه العجالة إنما نبغي تبيان أوجه الخطأ في هذه النظرة اللاهية الهازلة، والكشف عن عقمها وفسادها، وعن نتائجها الخطيرة التي تقتل في الأدب روح الجد والصدق والطبع

وقبل أن نخوض في هذا الحديث الذي يستشرف له القلم اليوم نقرر أن النهضات القومية التي تحدو بالأمم في مدارج العظمة والمجد، وتنفث في الشعوب معنى القوة والاستقلال، لا تطلع عليها إلا إثر النهضات الأدبية التي تهتاج فيها النفوس، ويتيقظ الشعور، وتلتهب العواطف، ويتحرك الكامن من الهواجس والأماني، فيكون الأدب بمثابة ناقوس يهيب بالركب الغافي إلى المسير والعمل. فهذه ألمانيا لم يستطع بسمارك تأليف وحدتها وضم

ص: 39

دويلاتها بعضها إلى بعض إلا بعد أن تذوق الألمانيون آثار جوت وشيلر وهيني وليسنغ وهردر. وهذه فرنسا ما نهضت في الثورة الكبرى إلا بعد أن شاعت بين أبنائها مؤلفات روسو وفولتير ومونتسكيو. وشبيه بذلك إنجلترا في القرن السابع عشر يوم هبت للحياة العالية وللفتح والسيادة، فقد كان شكسبير وغير شكسبير نشروا قبل ذلك في الأمة الإنجليزية أرواحهم الحية ونفثاتهم القدسية

هذا ما تستفيده الجماعات من الأدب؛ ولعل ما يعود منه على الفرد أجل وأرفع، ذلك بأن الأدب باب كبير من أبواب السعادة، وطريق ناعم ناضر تشم من جوانبه روائح الورد، وتمتع باصريتك في مسالكه بأكمام الزهور، وتتسمع في أجوائه إلى أناشيد البلابل الثائرة الخافقة. انك بالأدب تحيا حياة طيبة راضية، تحيا حياة موسعة (مضاعفة) تحسها في أعماق قلبك، وفي رجع شهيقك وزفيرك!

إن العطف والألفة قوام الهيئة الإنسانية، فلا ينعم امرؤ بالانفراد ولا يهنأ بالوحدة، وأحسب لو أن الناس جميعا كانوا فجرة خسرة لا يجوز منهم إلى جنة الله غير رجل واحد لكان هذا الرجل الصالح أنكد حظا وأسوا مقاما ممن هم على النار يتقلبون! كأني أراه في جنبات الفردوس وعلى ضفاف الأنهار يمشي على غير هدى وإلى غير غاية حتى تبلى قدماه، وينظر إلى أفاويق النعيم وألوان الجمال فتبدو له كئيبة محزونة، ثم يرتمي في الجحيم الصالي يفضله على هذا النعيم الذي لا يرى فيه من يقول له: ما أرغده! ويحب ذو النعمة الحسد، ولو نزع من الصدور لاشتراه وفرقه على الناس مجانا ليحسدوه على ما به من نعمة! ويرتاح العاشق إلى من يتحدث إليه عن فرحة حبيبة وغضبة عذولة. . . فالسعادة كما ترى لا تتم حتى تستجلي مثالها في المرآة، والإنسان لا يطرب حقا إلا إذا رأى كلا م النفس مسطورا على قطعة من طرس

فما دام التعاطف عماد الحياة فلن يوجد بغير تعبير، لأن الحياة لا يمكن أن تكون بغير أدب؛ تصور أمة تتملى في نفسها شعورا ساميا: هذا تطمح آماله إلى السيادة، وهذا يدفعه حب الخطر إلى جوب البحار ومجاهل الأرض، وذاك تترع قلبه بهجة الجمال وفتنة الحسن؛ تصور أمة تجيش في نفوس أبنائها مختلف الميول والأهواء ملحة قاسية، مكتظة دافقة؛ أفتستطيع أن تتمثلها حريبة من الأدب؟ أما أنا فلست أعرف أمة حية لم يكن لها أدب

ص: 40

جميل؛ فان أمة لا تعرف الشعور مكتوبا لا تعرفه محسوسا

فالأدب كما ترى ليس حلية تزين بها الأمة جيدها، وليس هو ألهية من الألاهي كما يزعم الأستاذ شفيق جبري لأنه لو كان كذلك لانتظم في سمط الكماليات، والأدب إنما هو ضرورة من ضرورات الحياة، وشرط لازم لها، لا يمكن تخيلها ولا تكمل سعادتها بدونه

ما ينبغي أن يكون الأدب ألهية من الألاهي نعبث بها على ما تقتضيه المآرب وترتضيه الأهواء، فان الشر كل الشر في هذه النظرة الخاطئة، ذلك بأن الألهية تصدفنا عن جليل الحياة وعظيمها، وتدفعنا إلى عالم البطالة نلهو ونعبث؛ فإذا نحن رحنا نصور ذلك ظفرنا بما لا خطر فيه ولا قيمة له، ونكون كمن فاز بالقبض على الريح. واعتبار الأدب ألهية يهيب بالمتأدب إلى أن يتحرر من ربقة الجد واللمحة الصادقة، فيهذي لغوا تقرؤه العقول في ساع كلالها وفتورها، أو يستمع الناس إليه كما يستمع الوالدان إلى ولدهما المحبوب وهو يلثغ بالألفاظ والكلمات، فإذا كذب أو أخطأ أو مسخ الحقيقة أو شوه الفضيلة غفر له ذلك

ولعل في النظر إلى الأدب كألهية مدعاة إلى التزويق في البيان، والإكثار من المحسنات البديعية من جناس وتورية وطي ونشر، فينعدم الطبع ويغدو الشعر مجموعة من الألاعيب اللفظية والتهريج الكلامي. والحق أننا بلغنا في هذا غاية ننكرها ونأسف لها، فنحن ما نزال نخطئ في تقديرنا للشعر، وفهمنا للمعاني، ونقدنا لفنون القول والبيان، وما نزال بسطاء سذجا تخدعنا البهرجة الكاذبة والطلاوة العابثة، وتفتتنا الألاعيب اللفظية والأناقة الكلامية، وترانا على ثقافتنا وجلال نهضتنا نجهل كل الجهل مقاييس الأدب الصحيحة، وحدود الجودة والرداءة، ومواطن الجمال والدمامة، نستحسن ما تغثى منه النفس وما هو حقيق بالنبذ والإهمال، ثم نستقبح ما قد يكون في الذروة من البلاغة الرائعة! فما أحوجنا إلى إصلاح هذه النظرة العقيمة التي نزن بها الآثار الفنية، وتصحيح الذوق الأدبي المقلوب! وما أفقرنا إلى من يأخذ بأيدينا إلى النماذج الحية فيدلنا على قوتها وحسن تمثيلها، وإلى السخافة المرذولة فيرينا وجه ضعفها وعبثها! وعندي أن كل إنتاج في الأدب لم يبدأ بهذا الإصلاح على هذا النحو فإنما هو محاولة فاشلة فائلة، ومضيعة للجهود المبذولة في غير طائل. . .

ص: 41

لقد كنا إلى عهد قريب أمواتا نرتدي معالم الأحياء، أمواتا في حسنا وشعورنا وتفكيرنا، أمواتا في أهدافنا ومثلنا العليا، أمواتا في نظمنا ومراقفنا الاجتماعية، أمواتا في كل شيء لا يسمع لنا نبض ولا خفق حياة. كنا أحياء نعيش في العدم أو يعيش العدم فينا، كأن الغيب الجليل الهازل قد قذفنا من جوفه جثثا هامدة تغدو من المهد في لحد ومن اللحد في مهد! فأنت، إذ تدرس الأدب العربي في هذه الفترة الغافلة من الزمان التي دامت ما يقرب ألف عام، لا تجد أثرا لما يعتلج في النفوس الخافقة من ضروب العواطف وشتى الانفعالات، وما يجري في الهواجس من الأحلام والأوهام، وما ينتاب الضمائر من قلق أو يأس أو ألم، وإنما تلفي أدبا فارغا أجوف يفيض بالإحساس المعكوس والإسفاف المخل والصناعة البديعية أو التدجيل الذي يعتمد على الطباق والجناس والمقابلة وما إليها! وحسبك أن تقرأ شعر أبن نباتة وأبن معتوق والحلي لتلم بطرف من شعر اللفظ البالي الهزيل الذي يحبس المعاني المشبوبة في أضيق الآفاق!

ثم اتصلنا بالغرب في يوم إسماعيل وبعده، وكان اتصالا وثيقا تناول بالتغيير بعضا من العادات والأوضاع المعيشية، وكثيرا من طرائق التفكير والتعليم؛ وكان للآداب من هذا التطور نصيب وافر، فإن المتأدبين الذين درسوا في معاهد أوربا عادوا إلى ديارهم بعد ذلك يحملون رؤوسا وقلوبا غير التي كانوا يحملون، ذلك بأنهم تذوقوا أشتاتا من الأدب الحي، وبلوا شخصيات من الشعر متمايزة، وفقهوا أساليب النقد الحديث، ولما أرادوا القيام برسالة (الحياة) شرعوا في الهدم وإزالة الأنقاض وتنبيه الأمة إلى مواطن النقص والهزل والكذب

هذا جماع ما يعتري الأدب في اعتباره ملهاة وتسلية؛ ولو أننا شئنا التمثيل لأتينا بهذا الغرض الوضيع الذي يكاد يكون كله غلوا وعبثا، ذلك هو المدح، ومن البديهي أن يكثر فيه الغلو البشع لأن الممدوح ليس يرضى إلا إذا خلعت عليه صورة ترفع من قدره وتعظم من شأنه، ولأن المادح إنما جل همه التكسب والاستجداء. فلا بد إذن من المبالغة والكذب في الإحساس والتوشية المموهة، ولذلك كان المدح من أنواع الأدب الرخيص

وإنما الأدب العالي الرفيع تصوير لما يتردد في أطواء النفس من النزعات والمشاعر، وترجمة لما يجول في الخاطر من الهواجس والأحلام، أو لغير هذا من صروف الحياة وأحداثها - يرسم الشاعر ذلك كله لا هازلا ولا عابثا وإنما جادا كل الجد، صادقا تمام

ص: 42

الصدق مخلصا أوفي الإخلاص!

ارجع إلى نفسك حين تكتب، فخذ عنها واستوحها، وليكن لك من صدق إحساسك ودقة تأملك وصفاء بصيرتك ما تكشف به عن ألوان الحياة النامية الزاخرة التي تسعى في تلافيف قلبك وثنايا ضلوعك بحيث تجد لها صورتين: أولاهما في الضمير وأخراهما على القرطاس. فلن يكون الأدب أدبا إلا إذا صدر عن صاحبه كما تصدر الزفرة عن فؤاد المصدور والدمعة عن عين المحزون؛ وإذا بهرك أن الشاعر أو الكاتب يبدع في التصوير ويسمو في البيان فينبغي أن تؤمن أن الرجل إنما يذيب من لحمه وعصبه، ويريق من مائه ودمه في سبيل الفن والأدب! والاستحسان إنما يجب أن يكون في إطار هذا الأدب السامي الرفيع يرسله المبين لا خادعا ولا مشعوذا وإنما مصورا مشاعره البينة النيرة ونزواته الخفية المكبوتة. فأنا إذ أنقد أنظر إلى إحساس الشاعر هل كان نافذا عميقا؟ وإلى نظرته هل كانت عامة شاملة؟ ثم إلى تعبيره هل كان فيه مجيدا موفقا؟ فإذا تبين لي هذا كله على نحو ما أريد استحسنت وفضلت، وأنا محق فخور في استحساني وتفضيلي. وقد يكون من الخير أن نضرب لذلك مثلا نوضح فيه هذا الذي نزعم، فقد تغني الأمثلة عن تقرير القواعد النظرية والشروح المستفيضة

ما اختلف عربي إلى جامع بني أمية في الشام إلا أخذته حالة نفسية خاصة ببقايا المجد والعظمة، يحسبها في أطوائه غامضة مبهمة، كئيبة متحسرة! فإن كان مبينا فصيحا وشاء نشرها وتوضيحها لم يزد على قول أمير الشعراء:

مررتُ بالمسجد المحزون أسأله

هل في المصلى أو المحراب مروان

تغير المسجد المحزون واختلفت

على المنابر أحرار وعبدان

فلا الأذان أذان في منارته

إذا تعالى ولا الآذان آذان!

هذه أبيات صادقة لا تمويه فيها ولا تضليل، نظمها الشاعر في قالب رائع جميل، ولعل في بسط الحزن على المسجد ما يضاعف هذه الروعة التي لا تلمحها في الكلمات منفردة، وإنما تلحظها منبثقة من خلال الاتساق والانسجام. إنه ليحلو لي هذا التساؤل عن مروان، وهذا الترجيع للمحزون فاقبع في مكاني هامسا في خفوت (وا حسرتاه على شوقي!)

ولنتأمل - في روية وإنعام - صورة هذا العزيز المهان التي يعرضها علينا شوقي:

ص: 43

بنت فرعون في السلاسل تمشي

أزعج الدهرَ عريُها والجفاءُ

وأبوها العظيم ينظر لما

رُدِّيت مثلما تُردى الأماءُ

أُعطيتْ جرة وقيل إليك النهـ - ر قومي كما تقوم النساءُ

فمشت تظهر الأباء وتحمي الدمـ - عَ أن تَسترقه الضراءُ

فبكى رحمة وما كان من يبـ - كي، ولكنما أراد الوفاءُ!

ما أريد أن أتناول هذه الصورة الشعرية الرائعة بالتحليل أبين مواضع قوتها وجمالها، فأنني إن لمستُها أخشى تشويهها والحط من شأنها، فحسبي وحسب القارئ تلاوتها في هدوء نتملى معا حلاوتها ونستشعر نضارتها. . إنما أطلب في رفق ولين، إلى الشباب الناهض، أن ينظر الأدب بعين الجد والصدق حتى ينتج مثل إنتاج شوقي الخالد

حمص (سورية)

محمد روحي فيصل

ص: 44

‌للأدب والتاريخ

3 -

الرافعي

بقلم تلميذه وصديقه

الأستاذ محمد سعيد العريان

تتمة

أيمانه:

والرافعي رجل مؤمن إيمان فكر وعقيدة، تشرق قلبه وعقله حقائق هذا الدين، فهي كأنما تأتيه تلتمس في كتابته وشعره حياة تكون بها في الناس معنى يقدرون على فهمه، إذ لا يستطيعون أن يفهموه بأنفسهم، فمن ثم تراه حين يكتب عن الدين يتدفق تدفق البحر، وتتدافع معانيه تدافع الموج، وتزدحم أفكاره ازدحام اللجة؛ ومن هنا تغمض معانيه على بعض من لم تشرق حقائق هذا الدين على روحه وفكره

وما سهل أن تجد كاتبا غير الرافعي يكتب بهذا الأسلوب في هذه المعاني؛ فأنك لترى إيمان أكثر من تعرف، فكرة يستبد بها العقل المتقلب، فهو إيمان متقلقل يتنازعه الشك، لا يأخذ ولا يدع إلا بحذر؛ أو تراه إيمان عقيدة موروثة تستبد بصاحبها استبداد الجهل والتقليد، فهو إيمان جامد، لا يأخذ ولا يدع إلا ما أريد على أن يأخذ وأن يدع. وقلما تجد غير هذين من يؤمن إيمان الفكر والعقيدة معا؛ ولو قد وجد من يؤمن هذا الأيمان، لرأيت الإسلام ينبعث اليوم كأوله، ولعادت المعجزة الإسلامية تكتب فصلا جديدا في تاريخ الإنسانية

والرافعي بأيمانه ذاك ينقاد للمقدور انقياد الطاعة، واثقا أن لا مفر للإنسان مما قدر عليه؛ فلا تراه يتبرم أو يتسخط لشيء يناله، وتسمعه يقول: (جئنا إلى هذه الحياة غير مخيرين، ونذهب غير مخيرين، إن طوعا وإن كرها؛ فمد يدك بالرضى والمتابعة للأقدار أو انزعها إن شئت، فأنك على الطاعة ما أنت على الكره، وعلى الرضى ما أنت على الغضب؛ ولن تعرف في مذاهب القدر، إذا أنت أقبلت أو أدبرت أي وجهيك هو الوجه؛ فقد تكون مقبلا والمنفعة من ورائك، أو مدبرا والمنفعة أمامك، والقدر مع ذلك يرمي بك في الجهتين أيهما شاء. وحري يمن يوقن أنه لم يولد بذاته، ألا يشك في أنه لم يولد لذاته، وإنما هي الغاية

ص: 45

المقدورة المتعينة، فلا الخلق يتركونك لنفسك، ولا الخالق تارك نفسك لك. . .) فمن ثم ترى الرافعي دائما يحسن الظن بالغد ويراه خير أيامه، فهو يحاول أن يجعل من كل ألم يناله لذة يشعر بها نفسه، ومن كل فادحة تنزل به خيرا يترقبه ويهيئ له، وهو يفصح عن ذلك المعنى في مقالاته: سمو الفقر، وحديث قطين، وبين خروفين، والانتحار، وكتاب المساكين، أدق إفصاح وأبلغه

ولعل أحدا لا يعرف أن الرافعي لا يرى في تلك العلة التي أودت بسمعه وهو غلام بعد، إلا نعمة هيأته لهذا النبوغ العقلي الذي يملي به في تاريخ الأدب فصلا لم يكتب مثله في العربية منذ قرون. ولا شيء غير الإيمان بحكمة القدر وقانون التعويض، يجعل الإنسان أقوى على مكافحة أحداث الزمن، فلا تأخذ منه النوازل بقدر ما تعطيه. . .

حياته الخاصة:

وبعد، فأنا قد رأيت الرافعي يكتب، وجالسته وهو يفكر، وجلست إليه ليملي علي، وصحبته في غدواته وروحاته، وأشركني في مطالعاته، وأخذ مني وأعطاني؛ فمن حق العربية علي أن أصف بعض ما أستطيع مما رأيت

وحياة الرافعي بسيطة كل البساطة؛ فهو في أشيائه بعيد كل البعد عن التأنق، ولا يعتد بالعرف اعتدادا كبيرا. تراه في الديوان، وفي البيت، وفي الشارع، وفي القهوة - رجلا كبعض من تعرف. ولو أنك ذهبت إليه في الديوان، ورأيته جالسا إلى مكتبه، يوقع على هذه الورقة، ويراجع تلك الحسبة، ويحادث الناس ويحادثونه. . . لشككت أن يكون هذا هو الرافعي؛ وقد يميز مكتبه عن مكاتب غيره من الموظفين بضع صحف مركومة إلى جانب، أو كتاب جديد مستند إلى كتاب، على أنه في عمله معروف بشدته وعنفوانه، وكثرة دلاله أيضا. . .!

وفي البيت قلما تجد الرافعي إلا جالسا إلى مكتبه مطالعا أو كاتبا، وتكاد غرفة كتبه أن تكون كل نصيبه من الدار. . . وله صبرا عجيب على العمل؛ فهو حين يجلس للمطالعة قد يظل ثماني ساعات لا يزايل موضعه. ولا يسهر خارج الدار عادة إلا ليلة أو ليلتين في الأسبوع، وسائر لياليه عمل مستمر في الكتابة أو المطالعة؛ ويندر أن يأوي إلى فراشه ليلة قبل الثانية عشرة؛ وقد كان له عناية كبيرة بالرياضة البدنية إلى عهد قريب، وهو يحاول

ص: 46

معظم تمرينات (صاندو) الرياضي المشهور؛ وترى صورته قريبة من مكتبه، إلى جانب صورة محمد عبده، وجمال الدين، و. . . وملكة الجمال التركية كريمان هانم خالص. . .!

وهو لأولاده أخ أكبر، لا يدخل أحدهم إليه في مكتبه لأمر إلا داعبه بكلمة عذبة أو إشارة لطيفة، ولكنه قلما يدخل إليه أحد منهم إلا إذا دعاه، لتخلو له جلوته

وإذا أراد الرافعي أن يسهر ليلة خارج الدار؛ فليس إلا في السيما أو القهوة، وذهابه إلى السيما عمل أدبي أيضا. . . فهو لا يميل إلا لمشاهدة نوع خاص من الروايات الفنية، يكون له منها مادة وحي. . .

وحتى في القهوة لا يريد أن يمضي وقته عبثا؛ فلابد من صحف أو كتب أو مجلات، يمضي بها الوقت، أو يفرغ منها مع الوقت؛ فتراه مكبا على كتابه، وفي يمينه قلم يشير به إشاراته، وفي يساره لي الكركرة، وفمه إلى فمها يبادلها أنفاسا بأنفاس. . . فإذا فرغ من الكتاب ومن الكركرة أقبل على جليسه بحديث عذب، أكثره دعابة وأقله هزل. . . وإذا أردت أن تستمع إلى الجد الهازل، أو الهزل الجاد، فاجلس إلى الرافعي لحظات. . .

ولصوته رنة عذبة، كانت حبسة من مرض فعادت لحنا من الموسيقى؛ فأنت تميّز صوته بلهجته ورنينه بين مئات الأصوات. ولو سمعت الرافعي خطيبا لما حسبته هو الواقف أمامك يخطب؛ فإن صوته يعلو ويعلو، ويمتد امتداده في الجهات الأربع، ثم يعود إليك عود الصدى من مكان بعيد، أرن أغن مندفعا متحمسا ينسيك الزمان والمكان والناس، فإذا أنت حيث يريد أن ينقلك. ولكنك مع الأسف قلما تسمعه خطيبا، لأنه يجهد في الخطابة جهدا كبيرا يبلغ منه. فهو لا يخطب إلا حين يدعو نفسه أو يدعوه الموضوع، فيحمل نفسه على ما يكره. . . فإذا دعوته أنت أنكر على نفسه أنه خطيب؛ ومن أين له أن يعرف. . .؟

وفي الرافعي كثير من الاعتداد بالنفس بقدر ما فيه من التواضع، ولا أحسب أحدا يؤمن باجتماع هاتين الصفتين فيه من جلسة واحدة، فقد يستقبلك لأول ما يعرفك بدعابة أو نادرة، أو ينصرف عنك إلى كتابه، أو يقبل عليك في صمت وأنت تتحدث إليه، أو يأخذ عليك أشتات الحديث فلا يدع لك أن تتكلم، فتنصرف وما عرفت إلا لونا واحدا من أخلاقه. وجلساء الرافعي قليلون على كثرة من يعرفهم ويعرفونه.

كيف يكتب؟

ص: 47

وهو حين يهم أن يكتب، يختار موضوعه، ثم يتركه للفكر يعمل فيه عمله، وللواعية الباطنة أن تهيئ له مادته، ويدعه كذلك وقتا ما، يطول أو يقصر، يقيد في أثنائه خواطره؛ لا تكاد تفلت منه خاطرة؛ وهو في ذلك يستمد من كل شيء مادة وحي، فكأن في الموجود الذي يراه صوتا يسمعه، وكأن لما يسمعه لونا يراه، وكأن في كل شيء شيئا زائدا على حقيقته، يملي عليه معنى أو رأيا أو فكرة

فإذا اجتمع له من هذه الخواطر قدر كاف، يأخذ في ترتيبها معنى إلى معنى وجملة إلى جملة، وهذه هي الخطوط من هيكل المقالة

ثم يعود إلى هذه الخواطر المرتبة، ينظر فيها، ويزاوج بينها، ويكشف عما وراءها من معان جديدة وفكر جديد؛ ولا يزال هكذا يزاوج ويستولد، ويستنتج من كل معنى معنى، وينفلق له عن كل رأي رأي، حتى تستوي له المقالة فكرة تامة بعضها من بعض، فيكتبها

ولا تراه حين يكتب أو يملي ينظر إلى أصول المقالة بقدر ما ينظر في أعماق فكره إلى ما يتصل بمعنى ما يكتب؛ فقد يكون المملى منه صفحة أو صفحتين، فيملي صفحات وصفحات

ومذهبه في الكتابة إعطاء العربية أكبر قسط من المعاني؛ فهو لا يكتب الكتابة الصحافية السوقية، لأن الهدف الذي يرمي إليه هو أن يضيف ثروة جديدة إلى اللغة. ولن تجد كاتبا غير الرافعي يجهد جهده فيما يكتب فلا يحاول مرة أن يسخر من قرائه أو يشعوذ عليهم ليملأ فراغا يريد أن يمتلئ

وميزة أخرى تراها في كتابة الرافعي، هي أنه لا ينحرف مرة واحدة عن مذهبه في المادة والموضوع، فهو هو منذ كان إلى اليوم، لم يرجع عن رأي رآه، أو يناقض نفسه في منهج ابتدعه، وهذا بعض أسرار الإيمان في هذا الرجل الذي لم يغالط نفسه قط

وله فلسفة خاصة به، تعرف فيها طابعه وخلقه ومزاجه، على حين ترى أكثر فلسفة المتفلسفين من أدبائنا مزقا مرقعة من آراء فلان وفلان. . . وإني لأشهد أن هؤلاء أكبر من أي فيلسوف في الأرض، لأنهم وعوا في رءوسهم آراء كل فلاسفة الأرض. . . ثم لم يزيدوا. . .!

وحظ الرافعي من لغة العامة كحظه من الفرنسية. . . فأكثر لغته من الكتب، وقد استغنى

ص: 48

بالاطلاع عن الرواية، وبالقراءة عن المدارسة والاستماع؛ وهو مع ذلك قد يصنع أغاني شعبية بديعة، بالغة الغاية في بلاغة العامية، من دون أن ينحرف في ذلك عن أسلوبه في البيان العربي وطريقته في توليد المعاني؛ ولعل قراء (الرسالة) لم يزالوا يذكرون له (أغنية الزبال!) وتراه إذ يحاول أن يصنع شيئا من ذلك يرجع إليّ ليسألني عن كلمة أو تعبير مما ينطق العامة؛ فأقوم حينئذ منه مقام قاموس العامية. .

وهو مع ذلك لا يرى أكثر ما تكتب الصحف إلا عامية راقية. . . فهو يشكو دائما الجو العامي الذي يحوطه، فكيف به لو كان يسمع لغو الناس. . .؟ ومن ثم لا يهم الرافعي أن يكتب إلا حاول جاهدا أن يتخلص من هذا الجو الذي كان فيه، فيرجع إلى بعض كتب العربية يقرأ منها صفحات كما تتفق، ليعيش لحظة قبل الكتابة في بيئة عربية فصيحة اللسان. وخير ما يقرأ في هذا الباب كتابات الجاحظ وابن المقفع. وأحب الكتب إليه من بعد، كتاب الأغاني لأبي الفرج

ولكتابة الرافعي جرس موسيقي خاص تتميز به، حتى ما يمليه على عجل بلا إعداد ولا توليد؛ وكثيرا ما يملي بلا إعداد صفحات وصفحات، وقد أملى عليّ مرة مقالاً طويلاً في الرد على بعض الأدباء، استغرق تسعة أعمدة من صحيفة يومية، على حين لم يستغرق إملاؤه ساعات؛ ولعل تعبي في كتابته كان أكثر من تعبه في إملائه. . .!

والرافعي على ما يبدع في كتابته، لا يرى ما كتبه يرضيه بعد الفراغ منه بساعات، فهو دائما يطلب الأعلى؛ وهو نوع من التواضع ونوع من الطموح في وقت معاً. . .!

ويتهم الرافعي بالغموض أحياناً؛ وليس ثمة غموض فيما يكتب إلا عند من لم يتزود من الأدب الصحيح، أو يتعود قراءة أدب الرافعي؛ على أن كتابته في مجموعها لاتصل إلى نفس قارئها إلا أن يقرأها قراءة الشعر، بعقله وروحه، لا قراءة القصص والروايات، يفتش بعينيه بين السطور عن معنى يسليه، أو حادثة يزجى بها الفراغ. . . ونصيحتي إلى الذين يطلبون التسلية في الأدب، ألا يقرءوا كتب الرافعي، فإنها لن تجدي عليهم شيئا. . .!

وقد يطلب إليه الكثير من ناشئة الأدب أن يجعل أدبه أهون مما هو أو أقل دسما، فيأبى أن ينزل إلى ذاك؛ ومذهبه أن يحاول جذب الجمهور إلى أعلى، بدل أن يتدلى هو إلى الجمهور، وأن يكتب ما يرضي الفن لا ما يرضي الناس. على أنه لو أراد الرافعي أن

ص: 49

ينزل لما استطاع أن ينزل إلا أن يصير شيئا غير الرافعي لأنه على مقدار عمق الفكرة، يكون عمق الصورة اللغوية التي تتأدى بها، ولن يستطيع كاتب من الكتاب - فيما أرى - أن يرضي الفن ويرضي الجمهور في وقت واحد، حتى لو كان يكتب بلغة العامة، فان الكتابة لغة وفكر، أفتراه أن كتب بلغة العامة، يكتب أيضا بأفكار العامة. . .؟

وقد أخذ الرافعي منذ أكثر من عام يكتب في (الرسالة) نوعا أحسبه جديدا في الأدب العربي، جمع إلى الرافعي طائفة من القراء لم يكونوا يقرؤون له، وعرفه إلى الذين لم يكونوا يعرفونه إلا من خلال ما يكتب عنه خصومه. ولا أدل على قيمة هذه المقالات، من ترجمة بعضها إلى غير العربية، على ما في ترجمة كتابة الرافعي من عنف ومشقة!

وأذكر أن بعض المستشرقين في الألمان يعنى بوضع كتاب بالإنجليزية عن (زعماء الأدب العربي الحديث) بمعاونة الأستاذ طاهر الخميري المغربي، وقد وضع الجزء الأول منه عن خمسة من كبار كتابنا، فلما قرأ مقالات الأستاذ الرافعي في (الرسالة)، كتب إليه منذ قريب رسالة طويلة يثني عليه ثناء بالغا، ويعده بأن يصحح أغلاطه في الجزء الثاني من الكتاب. . . .!

الرافعي القصصي:

لم يكن الأستاذ الرافعي معروفا بكتابة القصة، حتى جاءت قصصه في (الرسالة) برهانا على نوع جديد من عبقريته، وهو يروي أكثرها عن السلف من الأئمة والخلفاء، فما منزلة هذه القصص من الحقائق التاريخية؟. . . هذا سؤال أحسب الكثير من القراء ينتظر الجواب عنه؛ ذلك لأن كثيرا منهم لا يرى للرافعي فيها يدا إلا أن يجليها لوقتها. وأي يد هذه. . .؟

وطريقة الرافعي في كتابة هذا القصص غريبة، فمعظمه لا أساس له من الواقع، أو أن له أساسا لا يلهم هذه القصص الطوال البديعة في خيالها وموضوعها وفنها، وإنما هو يفكر في موضوع الحكمة التي يريد أن يلقيها على ألسنة التاريخ - على طريقته في تأليف مقالاته - فإذا انتهى إلى ذلك تناول كتابا من كتب التراجم الكثيرة بين يديه، فيقرأ منها ما يتفق حتى يعثر باسم ما، فيدرس تاريخه، وبيئته، وخلانه، ومجالسه، ثم يصنع من ذلك قصة لا تزيد على سطور، يجعلها كالبدء والختام لموضوعه الذي أعده من قبل، وإنه ليلهم أحيانا

ص: 50

ويوفق في ذلك توفيقا عجيبا، حتى تأتي القصة وكأنها بنت التاريخ، وما للتاريخ فيها إلا سطور، أو إلا أسماء الرجال. . . .

على أن وجه الإبداع في ذلك، هو قدرة الرافعي على أن يعيش بخياله في كل عصور التاريخ، فيحس إحساسه ويتكلم بلسان أهله، حتى لا يشك من يقرؤها في أنها كلها صحيحة من الألف إلى الياء. . . .

فليزدنا الرافعي من هذا الباب ليعرف دعاة الجديد أي رجل هو من رجالات العربية، وما أشك أن هذا النوع من الأدب سيكون له فصل بعنوانه في تاريخ الأدب الحديث

أراني قد أطلت وما استوفيت، على أني ما قصدت إلى دراسة الرافعي، وإنما هو إلمام سريع ببعض جوانبه، على مقدار ما يتهيأ في الذاكرة من الخواطر لوقتها، فمعذرة، وإلى اللقاء بعد جمام. . .

(طنطا)

محمد سعيد العريان

ص: 51

‌دراسات في الأدب الإنكليزي

2 -

وليم وردزورث

بقلم جريس القسوس

المتاخمون -

وعلى أثر هذه الهبة أخلد وردزورث إلى السكينة في بيته الجديد في (راسيدوم لودج) في مقاطعة دور تشاير منقطعا عن العالم وعاكفا على المطالعة والإنتاج، وفي بيته هذا نظم مأساته الشعرية المشهورة (المتاخمون)، وقد ضمنها خلاصة عقيدته التي أقتبسها من (وليم فودون) وفيها يدعو إلى حل الشرائع والسنن الاجتماعية وهدم الفروق بين الطبقات البشرية والمناداة بتأسيس هيئة اجتماعية جديدة شعارها المساواة والديمقراطية، أما تأسيسا فعن طريق الدعاية والجدل، لا عن طريق العنف والشدة كما كان يؤمن في بدء حياته. ولعل هذه الفلسفة أقرب ما تكون لمبدأ الشيوعية الجديدة. بيد أن وردزورث لم يطل تمسكه بهذه العقيدة بل نبذها حالما تحقق صعوبة نجاحها وتنفيذها

كولردج ووردزورث

كان كولدرج الشاعر الشهير يقطن في بيت قريب من مسكن شاعرنا، فلما علم بوجود ناظم (المقطعات الوصفية) في جواره رأي أن يزوره. ولما التقيا كان أول ما فعلاه أن تبادلا قراءة منظوماتهما وخصوصا (الكوخ المتهدم) أو (مرغريت) وقد ضمت مؤخرا إلى قصيدته المشهورة (النزهة والمتاخمون لوردزورث ومأساة أوساريا لكولردج

ولقد كتبت دوروثي رسالة إلى أحد أصدقائها تقول فيها: (لقد كانت خسارتك عظيمة في عدم مشاهدتك كولردج. إنه لرجل عظيم حقا، ولا ينطق إلا بحديث طلي عذب يشف عن سمو روحه وقوة إدراكه، وإنه لأسود الحاجب صلت الجبين) وعلى أثر زيارة كولردج له كتب عنه يقول: (أنني لأستصغر نفسي إذا ما قورنت به). وفي رسالة له يشير إلى دوروثي بأنها (امرأة حقا، وتتجلى أنوثتها في طبيعتها وفي روحها وعقلها. هي ساذجة الطبع، قوية العاطفة عفيفة النفس، ذات عين ثاقبة دقيقة الكشف والملاحظة). ويقول

ص: 52

وردزورث عن صديقه كولردج: (لم أر مثيلا بين الرجال)

فلا غرو إذن أن نجد شاعرنا وشقيقته بعد تبادل مثل هذه العواطف مع كولدرج ينزحان إلى قرية صديقهما غب زيارته لهما بشهر. هناك وجد كل منهما له في الآخر مكملا. فبينا كان كولدرج رجل خيال وأحلام، كان وردزورث شاعر الطبيعة والحقيقة. وليس أحوج من المصادقة بين الشعراء إلى التباين في الأهواء والأذواق الأدبية والفنية

وما كاد يستتب أمرهما حتى شرعا في مراسلة (نيو منثلي مقزين)، فساهما في نظم قصة موضوعها (الملاح القديم أما مصدر هذه القصة فهو حلم قصة عليهما أحد الأصدقاء فرأيا أن يحوكاه في قصة شعرية. غير أنهما عدلا عن الاشتراك في نظمها لما لقياه من المشقة في اقتسام مواضيعها الرئيسية. فقد قررا أولا أن ينظم وردزورث الأجزاء التي تتجلى فيها الأشياء والحوادث عادية مألوفة، وأن يقتصر كولردج على ما يعتمد فيه على الخيال الرائع والتصوير الشائق. ولالتباسهما في التمييز ما بين هذين النوعين من الفن آثر كولدرج أن يختص بنظمها وحده، ففعل ذلك بعد أن نظم وردزورث بضعة أبيات منها. ويعزى إلى وردزورث استنباط الطائر الميمون أحد أبطال هذه القصة. أما الفلسفة التي تتضمنها هذه القصة فهي أن يحب الإنسان ما على الأرض على السواء حيوانا كان أو إنسانا أو جمادا، ما دامت كلها من خلقه تعالى

ولقد عزم الشاعران على دراسة اللغة الألمانية والإلمام بثقافتها ذريعة إلى تفهم فلسفتها الغنية. لهذا قررا السفر إلى ألمانيا، بيد أن أحوالهما المادية كانت مضعضعة إلى حد رأيا معه أن يسدا عوزهما عن طريق النشر. لهذا أصدرا في سبتمبر 1798 مجلدا جامعا لأشعارهما أسمياه (قصص شعرية غنائية) ولم يكن لكولدرج فيه غير ثلاث قصائد إحداها (الملاح القديم) ولسوء الحظ لم يصادف الكتاب رواجا كبيرا في بدء الأمر، كما يظهر من رسالة بعثت بها سار زوج كولدرج إليهما بعيد سفرهما إلى ألمانيا تقول فيها من ضمن ما كتبته لهما (لم يلق الكتاب الإقبال المرجو)

سافر الشاعران ودوروثي إلى ألمانيا مخلفين زوجة كولدرج وأطفالها في رعاية بول أحد أصدقائهم. وقد رأوا أنهم بانفصالهم يقلون من المحادثة باللغة الإنكليزية ويكثرون من ممارسة اللغة الألمانية، لهذا قصد كولدرج راتزبرج ليقضي هناك بقية الشتاء؛ أما

ص: 53

وردزورث وشقيقته فآثرا البقاء في مدينة غوسلار حيث نظم قصائده في (الطفولة الإنكليزية). ولم يستفد وردزورث من هذه السياحة بقدر ما استفاده صديقه كولدرج، فقد أصبح كولدرج قادرا على النطق باللغة الألمانية كأبنائها، وعلى أثر رجوعه من ألمانيا ترجم كتاب (ولنشتين) للفيلسوف شيلر. إلا أن إلمام وردزورث اليسير بهذه اللغة لم يكن بعيد الأثر في حياته الأدبية. رجع وردزورث وشقيقته من ألمانيا يحدوهما الشوق والحنين إلى أرض الطفولة، وكان ذلك في ربيع سنة 1799، وفي طريقهما عرجا على سوكبرن ليزورا أصدقاءهما آل هتشنسن. وما كاد كولدرج يسمع بذلك حتى لحق بهما إلى سوكبرن في صيف تلك السنة

في إقليم البحيرات مرة ثانية

وفي هذه الزيارة أتيح لوردزورث أن يرود هو وكولردج ودوروثي وبعض الأصدقاء إقليم البحيرات مرة ثانية، وخصوصا مع عصبة كهذه دأبها التأمل، وفي حين اكتملت فيه عقلية وردزورث وأرهف حسه للتشبع من جمال الطبيعة في هذا الإقليم الذي ألفه منذ صباه. وإقليم البحيرات من أجمل البقاع في بلاد الإنكليزي على الإطلاق، وهو يقع على حدود سكوتلندا في مقاطعتي وستمولند وكمبولند حيث ولد شاعرنا. وفيه نحو ست بحيرات متقاربة، تحيط بها جبال شاهقة وتطوقها مناظر طبيعية رائعة. في هذا الإقليم قضى كل من كولدرج وسذي قسما من حياته، وفي هذا المحيط نشأ شاعرنا وترعرع، فلا غرو إذا أمه بعيد رجوعه من ألمانيا. ولاستطابته المقام والعيش في هذه البقعة استأجر فيها بيتا سماه (كوخ الحمامة). وفي القسم الأول من قصيدته (المعتزل صورة رائعة لحياةأولئك الأدباء في ذلك البيت. ولقد ذاع صيت هذا الإقليم واشتهر باشتهار أصحابه الشعراء ورواده الأدباء فأصبح ولا يزال محجة لأهل الأدب والفن يقصدونه من جميع الأقطار الأوربية ليتعرفوا إلى البقعة التي خلدت أسماء شعراء البحيرة وخلدت في أشعارهم. وجعل مؤخرا من بيت وردزورث ورفاقه متحفا أودع فيه كل ما خلفه من آثار تظل تدل عليه وتنطق بنبوغه على مدى الأيام. ولقد وضع وردزورث سنة 1810 مقدمة لكتاب (مناظر منتخبة من كمبرلند) لولكنسن، وهو وصف بارع لهذه البيئة وسكانها

في تلك البقعة أخذ نجم وردزورث يسطع في سماء الشعر إذ ثم شرع ينظم قصائده الخالدة

ص: 54

التي تعد فتحا جديدا في الأدب الإنكليزي، كيف لا وقد أتيح له أن يحتك بزهرة الأدباء في ذلك العصر كسر هتشنسون ولامب ودي كونس وسكوت وسر همفري ديفي. فكانت عصبة دأبها البحث والتأمل والتحقيق والإنتاج الأدبي. وكثيرا ما كان يقوم بنزهات قصيرة مصطحبا شقيقته دورثي وأخاه يوحنا، فيرتادون شواطئ البحيرات ويتسلقون الجبال والآكام ويهبطون الوديان والمنعرجات وشاعرنا في تنقلاته هذه كثير التأمل دقيق الملاحظة والاستقراء، فلا يفوته منظر جميل دون أن يصفه، ولا خاطر رقيق إلا ويسجله. في ذلك الإقليم أتم قصائده الكبرى التي تمثل نزعته وتشرح فلسفته، أهمها (المعتزل والفصل الأول من (النزهة (والفاتحة وفي قصائده هذه وفي غيرها من منظومات هذا الأوان تلمح روحا وثابة ونفسا نزاعة مستعصية؛ وسنقول كلمة في (النزهة) و (الفاتحة) عند الكلام على شعره

(يتبع)

جريس القسوس

ص: 55

‌حول الفقه الإسلامي

والفقه الروماني

قرأنا في (الرسالة) الثامنة بعد المائة مقالة الأستاذ محسن البرازي، في الرد علينا، فإذا الأستاذ برغم تفوقه على أكثر أقرانه من الشباب الذين درسوا في أوربا بذكاء كان موضع إعجابنا، قد أخطأ فهم كلامنا، فأخذ منه بعضا وترك منه بعضا. وحمل كلامنا ما لا يحمل، وأخذ منه عبارة على غير الوجه الذي وضعناها عليه، ثم لم يدخر وسعا في ردها، ولم يتورع عن أن يسميها زعما لا يمكن لعاقل أن يزعمه، وما لم يمكن للعاقل يمكن للمجنون. . . . فكان الجنون جزاؤنا لأنا لم نذهب إلى الأستاذ فنقرأ له كلمتنا كلها، التي لم يقرأ منها إلا ما فيه الرد علينا، فكان أمرنا معه كما قال المثل الفقهي:

(زَنَّاهُ فَحَّده. . .)

لا يا أستاذ! أنا ما قلت: (إن الفقه الروماني جديد لفقه طائفة من العلماء الخ. . .) وسكت، ولكني أوردت هذه الجملة في معرض الفرض والتقدير، فقلت (وهذه عبارتي بالنص):

(. . . على حين أنه لا يمكن أن يقوم دليل علمي واحد على أن الفقه الإسلامي مأخوذ من الفقه الروماني، (وقد علق على هذه الكلمة أستاذنا الجليل الزيات بالتفريق بين الأخذ والتأثر) إلا إذا كان القرآن مترجما عن لغة الرومان، وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رومانيا خرج من أبوين غير عربيين، والذي نقوله، (ولينتبه القراء للذي نقوله) إنه إذا كانت هناك علاقة بين الفقهين (إذا كانت) فإن الفقه الروماني هو المقتبس عن الفقه الإسلامي؛ ودليلنا على ذلك أن الفقه الروماني الحاضر جديد لفقه طائفة من العلماء بعد أن اندثر الفقه الروماني القديم، وهذا الدليل على علاته (تأمل قولنا على علاته) أقوى من دليلهم على دعواهم، فليثبتوا إن استطاعوا أن الفقه الروماني الحاضر هو القديم بذاته، وليأتونا بالأسانيد الصحيحة، والروايات المضبوطة، كما نأتيهم نحن بأسانيد حديثنا، وروايات سنتنا)

هذه هي الجملة، وليس معناها يا سيدي أنا نعتقد بأن الفقه الروماني جديد الخ. . ولم يكن موضوع مقالنا الفقه الروماني، ولكنها كلمة جاءت عرضا، ومعناها أن هذه الدعوى على علاتها (أي مع اعترافنا بان فيها شيئا) أقوى من دليلهم على دعواهم أن الفقه الإسلامي

ص: 56

مأخوذ من الروماني، أي أن دليلهم ليس بشيء مطلقا، مادام دليلنا على هذه الدعوى الغريبة أصح منه، هذا هو المقصد، وهذا أسلوب من أساليب البيان يفهمه من كان من أهله!

ثم إن هذا كله على فرض أن هناك علاقة بين الفقهين، ووجود العلاقة هو المقدمة المنطقية اللازمة لهذه النتيجة، ونحن ننكر هذه العلاقة، والأستاذ قد أنكرها وبين أنه لا تشابه في أحكام الفقهين في الأحوال الشخصية الخ. . فنحن إذن متفقون على إسقاط هذه النتيجة

ولست أقول هذا الآن، ولكن يقوله كلامي المنشور في (الرسالة) الواحدة والتسعين منذ أربعة أشهر كاملة

فهل يصح للأستاذ أن يقيم القيامة علينا، ويزلزل بنا الأرض، من أجل هذه الكلمة؟. . .

هذا، وغن في مقال الأستاذ شيئا عن الموازنة بين رواية الحديث ونقل الفقه الروماني، قد يفهم منه أن الفقه الروماني أصح سندا، وأثبت نقلا، لأنه - كما يقول الأستاذ - قد دون في عصر جامعه ومصلحه جوستنيان، والحديث إنما شرع في تدوينه بعد زهاء قرن ونصف قرن من تاريخ الهجرة، ولأنه لا دليل على الصحة بعد الوثائق الأثرية، والنسخ المخطوطة القديمة. فنحن ننبه من قد يفهم منه هذا الأمر بأنه باطل وليس بشيء

ونحن نكرر وصية الأستاذ (الشاب) لشبابنا ألا يكونوا أسرى عواطفهم من تعصب للدين والقومية (ونزيد: أو تعصب عليهما)، وكره لأوربة والثقافة الغربية (ونزيد: أو موت في عشقهما) فيسرفوا في القول حتى يجانبوا المنطق

ونسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا أتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه. ونشكر للأستاذ الفاضل جهده وفضله

علي الطنطاوي

ص: 57

‌8 - شاعرنا العالمي

أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

عقيدته الدينية والسياسية: كان لنشأة أبي العتاهية بالكوفة أثر في عقيدته الدينية والسياسية، فقد كانت الكوفة مهد التشيع للعلويين من يوم أن اتخذها علي رضي الله عنه عاصمة خلافته، وآثرها بذلك على المدينة التي كانت عاصمة الخلافة قبله، فنشأ بها أبو العتاهية متشبعا بمذهب الزيدية البترية، لا يتنقص أحدا ولا يرى مع ذلك الخروج على السلطان؛ وكان مجبرا، يقول بالتوحيد، ويزعم أن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء، ثم بنى العالم هذه البنية منهما، وهو حادث العين والصنعة لا محدث له إلا الله تعالى، وسيرد الله كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعا؛ وكان يذهب إلى أن المعارف واقعة بقدر الفكر والاستدلال والبحث طباعا، ويقول بالوعيد وتحريم المكاسب. ولما ظهر الخلاف في خلق القرآن كان ممن يقولون بخلقه، وقد حدث أبو شعيب صاحب أبن أبي دؤاد قال: قلت لأبي العتاهية: القرآن عندك مخلوق أم غير مخلوق؟ فقال: أسألتني عن الله أم عن غير الله؟ قلت عن غير الله، فامسك؛ واعدت عليه فأجابني هذا الجواب حتى فعل ذلك مرارا، فقلت له مالك لا تجيبيني؟ قال: قد أجبتك ولكنك حمار

فهذه هي عقيدة أبي العتاهية لا شيء فيها مما ينسبه إليه بعضهم من الزندقة، وإن كان يخالف فيها المعروف من مذهب الجماعة، ولكن بني العباس كانوا قد نقضوا ما اتفقوا عليه مع بني علي قبل قيام دولتهم، من جعل الأمر شورى بينهم، فاستأثروا به لأنفسهم، وثار بذلك بنو علي عليهم، وتحركت نفوس كثير من العلماء ووجوه الناس لنصرتهم، فلم ير بنو العباس حيلة تنفعهم في ذلك إلا أن يأخذوهم باسم الدين، ليخدعوا به العامة، ويرهبوا به الخاصة، وأحدثوا في ذلك ما لا يعرفه الإسلام من التجسس على الناس في أمور عقائدهم؛ وقد أمر الإسلام أن يؤخذ الناس في ذلك بما يظهر منهم، وأن يترك باطنهم لله تعالى وحده، وإنما السياسة وحدها هي التي أخذت من أخذت في ذلك العهد باسم الزندقة، والدين بريء من هذه الدماء التي سفكت بالشبهة واستبحت بالظنة

فما انتقل أبو العتاهية من الكوفة إلى بغداد، وعرف العباسيون أخذه بالتشيع لأبناء علي،

ص: 58

حتى أسترابوا به، وأحاطوه بجواسيسهم الذين بثوهم في الناس لإرهابهم بإلصاق تهمة الزندقة بهم، إذا رأوا فيهم ميلا إلى أعدائهم، فعاش أبو العتاهية في بغداد تحوم حوله هذه الشبهة من أجل تلك الغاية السياسية، واغتر بها بعض الناس فطعنوا بها في عقيدته، وهو أبعد الناس من تلك التهمة الشائنة؛ وقد أمكنه مع هذا أن يقوم بتلك الدعاية الشعرية التي فهم العباسيون غرضه السياسي منها، وأنه يقصد محاربة دولتهم بذلك السلاح الذي أعياهم أمره، وجعل يفتح أعين الناس إلى عيوبهم فلا يعرفون كيف يكسرونه من غير أن يفتضح أمرهم، ولم يجدوا إلا أن يداوروا في أمره، ويأخذوا صاحبه بالشدة مرة وباللين أخرى، ويشككوا الناس في أمر عقيدته ليضعف أثر شعره فيهم، ولا يصل إلى ما يريده منهم، فكانت محاربة بارعة من الجانبين، قام فيها الدهاء السياسي مقام السيف، وأدى فيها أبو العتاهية رسالته الشعرية بدون أن يمكن سيف العباسين من رقبته، وعملوا هم على إفساد غايته بدون أن يفضحوا أمرهم أمام الناس بسفك دمه لأنه ينشر فيهم تلك الدعاية المحبوبة، ويحاول إصلاح نفوسهم بالزهد الذي بعدوا عنه كل البعد، وشغفوا بدنيا العباسيين كل الشغف، وإنا نسوق بعد هذا بعض ما كان يلقاه أبو العتاهية في ذلك لنعرف كيف كانوا يتكلفون إلصاق تلك التهمة به

ذكر النسائي عن محمد بن أبي العتاهية أنه كان لأبيه جارة تشرف عليه، فرأته ليلة يقنت فروت عنه أنه يكلم القمر، واتصل الخبر بحمدويه صاحب الزنادقة، فصار إلى منزلها ليلا وأشرف على أبي العتاهية فرآه يصلي، فلم يزل يرقبه حتى قنت وانصرف إلى مضجعه، وانصرف حمدويه خاسئا

ومن من كان يشنع على أبي العتاهية بهذا رجاء بن سلمة ومنصور ابن عمار، وقد حدث العباس بن ميمون عن رجاء قال: سمعت أبا العتاهية يقول: قرأت البارحة عم يتساءلون، ثم قلت قصيدة أحسن منها. قال وقد قيل إن منصور بن عمار شنع عليه بهذا. ولما قص منصور على الناس مجلس البعوضة قال أبو العتاهية إنما سرق منصور هذا الكلام من رجل كوفي، فبلغ قوله منصورا، فقال أبو العتاهية زنديق، أما ترونه لا يذكر في شعره الجنة ولا النار، وإنما يذكر الموت فقط، فبلغ ذلك أبا العتاهية فقال فيه:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً

إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها

ص: 59

كالملبس الثوبَ من عرى وعورته

للناس بادية ما إن يُواريها

فأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه

في كل نفس عماها عن مساويها

عِرفانُها بعيوب الناس تُبصرها

منهم ولا تبصر العيب الذي فيها

فلم تمض إلا أيام يسيرة حتى مات منصور، فوقف أبو العتاهية على قبره وقال: يغفر الله لك أبا السرى ما كنت رميتني به

وحدث الخليل بن أسد النوشجاني قال: جاءنا أبو العتاهية إلى منزلنا، فقال زعم الناس أني زنديق، والله ما ديني إلا التوحيد، فقلنا له فقل شيئا نتحدث به عنك، فقال:

ألا إننا كلُّنا بائد

وأيُّ بني آدمٍ خالدُ

وبدؤهم كان من ربهم

وكلٌّ إلى ربه عائد

فيا عجبا كيف يُعصي الالـ - هـ أم كيف يجحده الجاحد

ولله في كل تحريكة

وفي كل تسكينة شاهد

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

وحدث محمد بن أبي العتاهية قال: لما قال أبي في عتبة:

كأنما عتبة من حسنها

دُمية قَسٍّ فتنت قَسها

يا رب لو أنسيتنيها بما

في جنة الفردوس لم أنسها

شنع عليه منصور بن عمار بالزندقة، وقال يتهاون بالجنة ويبتذل ذكراها في شعره بمثل هذا التهاون. وشنع عليه أيضا بقوله:

إن المليك رآك أحـ - سن خلقه ورأى جمالك

فحذ بقدرة نفسه

حورَ الجنان على مثلك

وقال أيصور الحور على مثال امرأة آدمية والله لا يحتاج إلى مثال، وأوقع له هذا على ألسنة العامة فلقي منهم بلاء

ولا تخفى سماجة هذا النقد، وأن الدين لا يصل في الحرج على الشعراء إلى هذا الحد، وأين ابن عمار في هذا من عبد الملك بن مروان وقد اجتمع ببابه عمر بن أبي ربيعة وكثير عزة وجميل بثينة، فقال لهم أنشدوني أرق ما قلتم في الغواني، فأنشده جميل:

حلفت يميناً يا بثينة صادقا

فان كنت فيها كاذبا فعميتُ

ص: 60

إذا كان جلد غير جلدك مني

وباشرني دون الشِّعار شربتُ

ولو أن راق الموت يرْقى جنازتي

بمنطقها في الناطقين حييتُ

وأنشد كثير:

بأبي وأمي أنت من مظلومةٍ

طَبِنَ العدوُّ لها فغير حالها

لو أن عزَّة خاصمت شمس الضحى

في الحسن عند موفق لقضى لها

وسعى إليَّ بصرْم عزة نسوةُ

جعل المليك خدودوهن نعالها

وأنشد ابن أبي ربيعة:

ألا ليت قبري يوم تقضى منيتي

بتلك التي من بين عينيك والفم

وليت طهوري كان ريقك كلَّهُ

وليت حنوطي من مُشاشك والدَّم

ألا ليت أم الفضل كانت قرينتي

هنا أو هنا في جنة أو جهنم

فقال عبد الملك لحاجبه: أعط كل واحد منهم ألفين، وأعط صاحب جهنم عشرة آلاف. ولكن هذا عصر وذاك عصر، والناس في كل عصر دين ملوكهم، وإذا كان العباسيون قد تغالوا في أخذ الناس بالزندقة في عصرهم، فلماذا لا يتغالى ابن عمار وغيره في ذلك أيضا؟

عبد المتعال الصعيدي

ص: 61

‌دموعي وصباباتي

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

دموعيَ يا ليلىَ إليك رسائل

أبثّ صباباتي بها أو أحاول

ومن فشلت آماله في حياته

فليس له غير الدموع وسائل

من السَّبْح قد كلًّت يداي وأرجلي

أما لك يا بحر المحبة ساحل

أقول لقلبي يوم مات رجاؤه

عزاَءك يا قلبي فإنك ثاكل

وقد أَتداعى للمنيَّة في غد

كأني جدار ضعضعته الزلازل

على الأرض أيام الشقاء كثيرة

تُمضّ وأيامُ السرور قلائل

تقرّبت يا نفسي من الهُلك بعدما

تكلَّفتِ عمراً أفعمته الغوائل

دنا أنَ تكوني للمنايا فريسة

فلا تجزعي مما بكِ الدهرُ فاعل

ولا تحزني إِمًّا أَلمَّ بكِ الردى

فقبلكِ يا نفسي تردَّت فطاحل

وما قيمةُ القلب الذي تحت أضلعي

فتُنصَبَ أشراكٌ له وحبائل

على الحق قد عَوَّلتَ يا قلب مؤثرا

ومَن لك ألا يزُهِق الحق باطل

ومهما تزدني غيهباً فوق غيهبٍ

فإنك عند الصبح يا ليلُ زائل

إذا كنتَ تستهدي بعقلك وحده

فما أنت في يوم إلى الله واصل

وإن كان إيمان الفتى عن عقيدة

فأضيعُ شيء في الحوار الدلائل

يلومونني في حب ليلى بشدة

ومن حبّ ليلى لي عن النوم شاغل

لقاؤكِ يا ليلى لنفسي لبانةٌ

فأيَّ رقيبٍ بيننا هو حائل

وإن تك روحي هذه ثمناً له

فما أنا بالروح العزيزة باخل

ونفسي إذا فتَّشتِ نفسي وجدتِها

كعصفورة قد هدّدتها الأجادل

ولِلْهَمَّ إمَّا جنّني الليل داجيا

جحافلُ في آثارهن جحافل

إذا كان لي ذنبٌ به تأخذينني

فإني لذاك الذنب بالدمع غاسل

سهامك يا دهرَ الأديبِ كثيرةٌ

وكلّي إذا سدّدتَ سهماً مَقاتل

ويا طيف ليلى أنت أكرم من سرى

إلى مغرمٍ قد أعجزته الوسائل

ويا طيف ليلى أنت في الأرض صنوُها

وأنت لها في كل شيء تماثل

ص: 62

ويا طيفها مالي شكاةُ من النوى

فإنك في عيني وقلبيَ ماثل

تمُاطلني ليلى إذا هي واعدت

وأنت إذا واعدتني لا تُماطل

وإن بخلت ليلى فإنك محسنٌ

وإن هجرت ليلى فإنك واصل

لقد جعل الدنيا إليّ حبيبةً

هوًى هو في أعماق نفسيَ داخل

لئن كان يا نفسي شديداً بك الصدى

لقد نضبت يا نفس تلك المناهل

وما هذه الدنيا سوى دارِ محنةٍ

قليل بها مَن لم تصبه النوازل

إذا سلم الإنسان من غيظِ أرضهِ

أصابته من صوب السماء القنابل

حياة إذا إِنفَتْ تُزايل أهلَها

وموتٌ إذا استولى فليس يزايل

ولا تحسب الأخرى أقل قساوةً

فأكثرنا منها على النار نازل

أراك تخاف النارَ نارَ جنمٍ

وإنك أنت المؤمن المتُفائل

يقولون شيطانُ القريض موسوسٌ

وهل مصدر الوسواس إلا الخلاخل

وما منتدى الآداب إلا كروضة

محبّبة أبكارها والأصائل

وكل امرئ يصبو لما اختاره ذوقهُ

وفي الروض غربانٌ وفيه عنادل

وللعندليب الزهرُ في الروض باسمُ

وللزهر فيه العندليبُ يُغازِل

وأكبرُ مَن حاك القريضَ هو الذي

يهزّ جماهيراً بما هو قائل

وأكبر منه مَن إذا قال أصبحت

تَنَاقَلُ أقوال الحكيم المحافل

وأكبرُ من هذا وذلك شاعرٌ

عن الحق في نظم القوافي يُناضل

بغداد

جميل صدقي الزهاوي

ص: 63

‌العصر الذهبي

للأستاذ عبد الرحمن شكري

مقدمة:

أولع الناس من قديم الزمن بالتفكير في عصر الإنسانية السعيد: عصر الخير العميم الشامل؛ فبعضهم كان ينشده في الزمن القديم ويبكي انقضاءه، وبعضهم ينشده في المقبل من العصور، يدينه رقي الإنسان. وكثيرا ما استخدم شعاره أهل الحرص لنيل أطماعهم، واقتياد الناس لاستثماراتهم واستذلالهم؛ وكثيرا ما علق الأذلاء بكماله حتى إذا تحكموا ساروا على نهج الطغاة؛ وهو مثل عال ولا تحلو حياة الإنسان إلا به؛ ولئن صدق ما يقوله بعض المفكرين الذين يزعمون تحققه نذير الفناء، فمرحبا بالفناء يكون نذيره الخير كله والسعادة الشاملة والمثل العالي، وقد لا يصدق تشاؤمهم!

الناظم

عصرَ السلام تحية وسلام

خلعتْ عليك رجاَءها الأقوام

من كل عصر في نسيجك لحْمَة

أَلأجل صنعك تدلفُ الأعوام

إمَّا دنوت وما عهدتك دانياً

عَفَّى على نقص الأنام تمام

نستقبل الأيام وهي كوالح

مستبشرين إذِ التمام إمام

خالوك في الماضي - ولم تك ماضياً -

إذ زان منه البعد والأوهام

ويرون في غدهم سراباً نائياً

فيطول نحس العيش والإجرام

تتغير المُثُلُ التي شاقتهمُ

تتبدل الآمال والأحلام

حسب الورى من حسن عهدك قدوة

علياء ما إنْ شانها استبهام

ما فاتهم طب الطبيب وإنما

تتباين الأرواح والأفهام

ولَانت في سير النفوس إذا صفت

يدنى إليك البر والإكرام

عطف النفوس على النفوس ولن تُرَى

أبداً ونفس في الأنام تضام

هيهات يكرم فاضلاً ذو خسة

أو يغفر الجاني شآه كرام

استبطأوك وأنت بين جنوبهم

وتَنَظَّروك ودأبك الإلمام

ص: 64

ورأوك في الدهر البعيد ولو دروا

أنْ لو أرادوا كان منك لِمَام

لرأوا مشيئتهم تشاء ولا تشاء

هاموا وتحسب أنهم ما هاموا

ومن المشيئة ما يجيء فجاءة

ليست تجزئ أمره الأيام

ونأى بهم عن وِرْدِ خيرك أنهم

للحرص حادٍ بينهم وزمام

أمباغتا بالخير بعد تمنع

حب الأنام لعهدك استقدام

ولقد يتوب أخو المجانة بغتة

من بعد عيشِ كله آثام

ويتوب هذا الخلق من شر ومن

إثمٍ فتحمد خَيْرَك الأيامُ

كم فتنة أجحتَ نار جحيمها

شوقاً لعهدك والأنام حُطام

وشعار حق كم غدا أُحْبُولة

أثرى بحقك في الأنام لئام

وإذا العبيد تحكموا في فتنة

ساروا على نهج الظَّلُوم وضاموا

أترى العبيد ببابلٍ وبطيبةٍ

أغرتهمُ بكمالك الآلام

لو أنهم ملكوا لعافوا مسلكا

يدني إليك وطاشت الأحلام

ولطالما حن اليهود لشرعه

ودعا المسيح له ورِيمَ سلام

وتَنَظَّر المهديَّ قوم أمَّلوا

ركباً له يحدو به الإسلام

ثار الفرنس وخيرهم يبغي له

عهداً تدين لشرعه الأحكام

يبكي ويعتنق الغريب مُبَشَّراً

بالشر زال وبالكمال يُشام

ما زال شر - لا - ولم يمهد به

نهجَ السلام الحكمُ والحكام

أنَّى تكون وفي الأنام تفاوتٌ

أُسْدٌ لها في الصاغرين سَوام

عِرٌّ وذو مكر فلست بكائن

حتى تَساَوَى في الأنام الْهَام

فمتى يدين لسُنَّةٍ لك جمعهم

ويراك خيراً شَرُّهم فترام

لا يصدق الكُهّان إن هم أنبأوا

بدوام ما لم يُلْف فيه دوام

كم من عهودٍ كان يحسب أهلها

أنْ زل عنها النقض والإبرام

نَسِىَ الأنام عهودهم فعهودهم

أقصى وأدنى منهمُ الأوهام

فقد الأنام صفاتِ أجداد لهم

وتحولت وتبدلت أجسام

والطبع في غدد الجُسوم فَعَلَّها

يوماً تصح فلا يكون أثاَم

ص: 65

وتعود من فرط الصفاء حياتهم

ذهبيةً أيامها والعام

خير مَرَى الحرصُ الخسيسُ أقل من

خير لديك تردوه الأحلام

والنحس عدوى ليس يُقصِى شرَّها

إلا التضافر شاده الأقوام

كذبوا فما أبقى التقاتل بينهم

إلا الضعيف وقد قَضَى المقدام

خلفت في سير النفوس مباهجاً

وتجملت بجمالك الأيام

كغناء حادي الركب رَفهَ عنهمُ

نعم النشيد ونعمت الأنغام

حُلُمٌ هو المثل الأجلُّ وإنهم

لولا مثال كمالك الأنعام

ولعل عمر الشر ليس بدائم

ينمو سناك فينمحي الإظلام

قالوا إذا ما جاء خيراً كله

لم يبق خير في الحياة يشام

لولا جهاد في الشرور تعطلت

سبل المكارم واستنام أَنام

إن لم يكن نقص ففيم رجاحة

وبضدها تتميز الأقوام

لا يطعم السعدُ الشَّهِيّ وشُهْدَهُ

من لا ترود فؤادَه الآلام

والوهن يسعى للفناء دنيبه

إن لم يكن حذرٌ وعَمَّ سلام

لغز الحياة وليس يفقه لغزها

بين الأنام مُفَهَّمٌ عَلاَّم

والشر أهون بعضه من بعضه

فاطلب كمالاً كي يقل الذام

أهلاً بغائلة الفناء نذيرها

عهد يَشُوق سلامُه وتمام

إن لم يصح العيش إلا أن ترى

شرع التنافس في الأنام يقام

فعسى التنافس في المحامد ينثني

طبعاً وإن قيل الأنام لئام

يدنوا إذا بطلت ضرورة كائدٍ

يُزْجَي بها رزق له وحطام

إن نال كلٌّ مطمئناً رزقَه

فعلام لؤم للورى وخصام

دِيْنُ التنافس في المكارم ربما

أنماه نصح فيهمُ وحسام

فترى الورى دينَ الورى وصلاحُهم

فرض يدين لشرعه الأقوام

عبد الرحمن شكري

ص: 66

‌القصص

من أساطير الإغريق

مأساة أم

للأستاذ دريني خشبة

رآها زيوس تقطف الزهر وتتيه في حدائق السوسن، وتنشد مع البلابل ألحان الشباب، فتنصت الطبيعة وتتفتح آذان الورود، وتحملق نواظر النرجس ترى إلى كليستو الرقيقة رقة النسيم، الحلوة كأنها حلم جميل في أجفان عاشق، الموسيقية التي يستطيل نغمها حتى يبلغ السماء، ويتسع حتى يغمر الكون، فيثوي بكل أذن، ويستقر في كل قلب، ويخفق مع نبضات المحبين، وينسكب ذوبا من دموع المدنفين المعذبين!

رآها زيوس فجن بها! وبالرغم مما أعطى على نفسه من ومواثيق لزوجه حيرا ألا يصبو إلى أنثى غير أزواجه اللائى كن إلى هذه اللحظة ستا أو أكثر من ست، فقد ذهب يقتفي أثر كليستو، ويرهف سمعيه ليملأ بموسيقاها قلبه

كانت تمشي بين صفين من أعواد الزنبق، تنمقهما ورود ورياحين؛ وكانت تنثني وتميس، فيهتز الروض وينتشي الزهر، وكلما ترنمت بأغنية من أغانيها الساحرة، رددت الأزهار والأطيار ما تغنت، كأن كل شيء في تلك الطبيعة الرائعة الفنانة عضو في فرقة كليستو الموسيقية

وجلست تتفيأ ظل خوخة وارفة كانت تداعبها فتساقط عليها من ثمرها الجني، ورطبها الشهي، فتتذوقه كليستو وهي تبتسم

وأسكر النسيم الخمري عينها الساجيتين، فاستسلمت للكرى الطارئ والغفوة العارضة، وتمددت على البساط السندسي ليحسر الهواء عن ساقيها، ولتكون فتنة يضل في تيهها قلب زيوس، وتضرب في بيدائها نفسه. . . على غير هدى!!. . .

وبدا الإله الأكبر أن يرتد فتى موفور الشباب ريان الأهاب؛ ثم يسوق آلهة الأحلام فترقص في أجفان كليستو، تبهرج لها من الرؤى ما يشب في نفسها رغائب الهوى ولذائذ الحب، ويثير فيها حرارة الحياة

ص: 67

ونام الخبيث إلى جانبها، وطفق يروح على وجهها، ثم نثر ذراعه على جيدها الناهد، وراح يضغط قليلا. . . قليلا

ولقد فعلت الأحلام الحلوة فعلها في قلب كليستو، فلما استيقظت، ووجدت نفسها في حضن هذا الشاب اليافع الجميل، لم تنفر، بل خجلت خجلة زادتها جمالا، وضاعفت سحرها وفتونها؛ وفترت أهدابها فاسترخت، وفنيت في حبيبها المفاجئ. . . وفنى هو الآخر فيها

وجاءها المخاض!

ووضعت غلاما أحلى من القبلة الحارة على الثغر الحبيب، وأعذب من ابتسامة الزهرة طلها الندى

فلما زارها زيوس وبشرت به، اهتز الإله الأكبر وشاعت الكبرياء في أعطافه، وأخذ الغلام فباركه، وطبع على جبينه الوضاح قبلة أولمبية خالدة؛؛ ثم زف إلى كليستو تلك البشرى التي ظل يخفيها عنها طوال حبه لها، وذلك حينما أشار إلى ابنه بيمينه البيضاء هاتفا:

- (بوركت يا أركس! يا أجمل أطفال الأولمب!)

وقد اضطربت الأم الصغيرة حين سمعت هذا الدعاء ونظرت إلى حبيبها كأنها تستريب، وقالت له:

- (أجمل أطفال الأولمب؟ إذن من أنت أيها الحبيب؟)

- (بشرك يا كليستو! فأنا ربك وزوجك وحبيبك زيوس!) ولم يسع كليستو إلا أن تسجد لربها وهي ترتعد من الخوف؛ فقال لها:

- (انهضي! انهضي! ماذا تصنعين يا حبيبة! انهضي فقد رسمت ابننا أركس إلها، فاكفليه حتى يشب، وإياك أن تراكما حيرا فتسحقكما. . .)

وقبل الغلام وقبل الأم،،، وغاب في الأفق. . .

وكانت كليستو أحرص على فتاها من أن تدعه وحده لحظة واحدة، فإذا خرجت للصيد في الغابات القريبة، أقامت عليه حارسين من كلابها الكواسر، يكفي أحدهما لتشتيت شمل جيش بأكمله. وكانت تحمل إليه أثمار اللوز والبندق كلما عادت من الغابة؛ حتى إذا اشتد ساعده، علمته الرماية وألعاب الفروسية، مستعينة بذلك بالسنتور العظيم، شيرون، مؤدب هرقل ومدربه

ص: 68

وذاعت الأنباء في دولة الأولمب، أن لزيوس خليلة يختلف إليها في الفينة بعد الفينة، وأنه أولدها طفلا بارع الحسن، وسيما قسيما، يكاد يكون في مستقبله هرقل آخر، يضارع هذا الهرقل الهائل، ابن ألكمين، الذي كان يدوخ أبطال العالم في ذلك الوقت. . .

وقد مدت الأرض بحيرا حين علمت هذه الأنباء، لأنها كانت تغار من أزواج زيوس، وتخشى أن تلد إحداهن بطلا يكسف شمس ولديها مارس وفلكان. وكانت الحرب بينها وبين هرقل على أشدها، فكم نثرت في طريقه شوكا، وكم فجرت تحت قدميه ينابيع من نار. أفلا يحزنها إذن أن يبرز لها خصم آخر يغطش حياتها، ويراوحها بالأشجان والآلام!!

وكانت كليستو تصدح في أصيل يوم من أيام الربيع، فتستجيب لها الغابة، ويردد غنائها الطير، ويمشي في إثرها الدوح، وتهتز الأرض والسماء؛ وكانت حيرا قد عرفت أوصافها من شيرون، مدرب فتاها أركس؛ فلما سمعتها تغني، ويمشي وراءها العالم بأسره، عرفت أنها هي!!

وكاد قلب حيرا يصبو إلى كليستو، مسحورا بروعة الغناء، مأخوذا بترجيع البلابل. . . حتى لكانت تخال الورد نفسه يغني معها!! وكادت بذلك تنسى غيظها، بل كادت تنخرط في هذا الحشد الموسيقي الذي يصفق لكليستو ويستجيب لألحانها! ولكن!

لقد ذكرت ابنيها مارس وفلكان، وذكرت يوم صرعهما هرقل في حفل الأولمبياد، حتى لكانا ضحكة كل راء! فنسيت الغناء وأصمت أذنيها، وغرفت من ماء قريب بيديها غرفة جعلت تتمتم عليها بتعاويذ سحرية، ورقى في غيبية، ثم صاحت بالفتاة فسمرت مكانها دهشة مأخوذة، فنثرت حيرا في وجهها الماء وهي تقول:(شاهت دبة! شاهت دبة!)

وا أسفاه!!

لقد أحست كليستو في ذراعيها الجميلتين بخدر شديد، ثم نظرت فرأت شعرا خشنا ينمو بسرعة فيغطي جسمها البض الجميل كله!

وأحست أظافر طويلة غليظة تنبت في أطارف أصابعها، ومخالب مرعبة تبرز من أصابع رجليها المعبودتين!

وشعرت بوجهها الوضاء المشرق يتغير ويتحول، ثم يتغير ويتحول حتى لقد ركب فيه أنف كبير أسود، وفم مغبر في منتهى القبح، يسيل على جنباته لعاب شائه كريه!

ص: 69

وخيل لها أن ذنبا ينبت وراءها، فتحسسته فأيقنت أنه ذيل خبيث. . . ما في ذلك ريب!

وفزعت كليستو، فأردت أن تصيح تستنصر الغابة، ولكن. . . يا للهول! لقد راحت تصرخ كما تصرخ الحيوانات، وتعوي كما تعوي الذئاب!!

وانخلع قلب الفتاة فحاولت أن تغادر هذا المكان الساحر، ولكنها لم تستطع أن تنهض على قدمين، بل انطلقت تعدو على أربع كأنها بهيمة من بهائم الأرض!

وأصابتها حيرا بظمأ كاد يصهر حلقها فذهبت إلى غدير ترتوي، ولما انحنت ترشف الماء رأت صورتها المفزعة تتقلب في صفحته، وأنها لم تعد كليستو الحسناء بعد، بل إنها قد انسحرت فصارت دبة قبيحة قذرة ذات أنف طويل أسود، وعينين رجراجتين تقدحان بالشرر

وانطلقت في الغابة تعدو وتعدو، وتتوارى بين الأشجار حتى لا يراها أحد، وكانت الحيوانات - حتى ضواريها - تفزع منها كلما مرت بها، وهكذا شاءت المقادير الظالمة ألا يكون لها صديق حتى من سباع الغابة الموحشة، التي كانت قبل لحظات ترقص بين يديها. . . وتنشد وتغني!!

وضربت في القفار والفلوات، مؤثرة ألا تعود إلى ابنها الحبيب أركس فتفزعه؛ وكانت تختلف إلى الغابة، فإذا مر بها بعض أصدقائها القدماء عرفتهم ولكنها تتوارى عنهم، وفي نفسها هموم وحسرات

خمس عشرة سنة!!

قضتها كليستو التاعسة في هذا الشقاء الطويل، لا تمر بها هنيهة دون أن تفكر في ابنها وتبكي. . . وتفكر في مآلها. . . وتبكي، وتفكر في ذكريات شبابها. . . وتبكي، وتذكر الموسيقى والغناء. . . وتبكي!!

واشتعل قلبها شوقا إلى أركس، فجلست إلى أيكة حزينة تتناجى:

(ترى! ماذا تصنع الآن يا بني؟ أما تزال تنهل كأس هذه الحياة المرة؟ أم أنت قد طواك الردى ونسيك كبير الأولمب؟. هل أنت مريض يا أركس؟ هل في جنبك جرح يتفجر دما لبعد أمك عنك، كهذا الجرح الذي تنزف منه نفسي، وتنسكب حياتي؟ وهل إذا أصابك ضر، فأنت واجد قلبا يحنو عليك ويترفق بك. . . . ويرعاك؟ ومن هو صاحب هذا القلب

ص: 70

الرقيق يا ترى؟

يا ولدي!!. . . يا حبة القلب يا أركس. . .!!)

وتبكي البائسة بكاء يذيب الصخر، ويحرق فحمة الليل، ويزلزل أركان الكهف المظلم الذي تعودت قضاء لياليها فيه. . .

أما أركس فقد كان هو الآخر يبكي أمه، حتى استطاع مؤدبه شيرون أن يفل بنصائحه غرب حزنه، ويطفئ بمواعظة نار أساه، فنسى، أو تسلى. . . أو تناسى. . .

واستد ساعده، وثقف الرماية حتى ما يطيش له سهم، ولا تخيب له رمية؛ وأحبه شيرون من سويدائه، ولازمه طويلا، حتى كانت حرب السنتور فودعه وعاش الفتى وحيدا. . . يحيا حياة هي بحياة أمه في شبابها الأول أشبه، فيختلف إلى الغابة يصيد منها الثعالب، وإلى البرية يرمي فيها الوعول، ويعود مع الغروب مثقلا بالصيد

وفيما هو يرتاد الغابة في ضحى يوم شديد القيظ، إذا أمه المسكينة تلمحه فجأة، وتعرف فيه ابنها، وأعز الناس عليها. . .! فتذهل عن نفسها وتقف مشدوهة باهتة لا تنبس ولا تحير!

فهل عرفت هذا التماثيل المرمرية التي تقف صامتة كالألغاز في المتاحف ودور الآثار؟ لقد كانت كليستو أشد منها تحجرا عندما شاهدت ابنها بعد هذه السنين الطوال!

ولقد خشيت أن تزعجه بوجودها، لأن الصيادين لا يرهبون من ضواري الغاب شيئا كما يرهبون الدباب، فحاولت أن تختبئ وراء شجرة أو نحوها، ولكن. . هيهات!! فلقد عجزت عن الحركة المجردة لما تولاها من الحيرة والارتباك!

والتفت أركس ففزع أيما فزع لوجود دبة متوحشة كبيرة الجرم على مقربة منه، وهو غير متهيئ للرماية، فارتبك حين تناول قوسه بيد مرتجفة، وأصابع مرتعشة. . . . ولكنه، ويا للعجب! أحس ببريق غريب ينبعث من عيني الدبة، وشعر بحنان وعطف يتحركان في صميمه من أجلها، وحاول أن يتعرف مصدر هذا الحنان فلم يستطع، وضاعف دهشته أن الدبة سمرت مكانها دون ما حراك، وأن دموعا حارة أخذت تنسكب بغزارة من عينيها اللتين ترنوان إليه، وما تريمان عنه!!

وكم كانت كليستو تتمنى لو تقدر الكلام فتقص حكايتها على ابنها، بيد أنها خافت أن تضاعف انزعاجه بصراخها الحيواني المخيف. . . فصمتت. . . وتكلمت عبراتها!!

ص: 71

ثم. . . . . . . .

سدد أركس سهمه إلى رأس أمه، وكاد السهم المميت يمرق فيؤدي بحياة أعز الأمهات. . . . لولا أن زيوس. . . الإله الذي طال رقاده!. . . كان يسمع تلك الآونة ويرى، ولولا أن تحركت في قلبه الرحمة هذه المرة، فلم يبال التدخل في سحر زوجته - حيرا الخبيثة - فأطلق لسان كليستو، وصاحت فجأة:(أركس!. . . بني العزيز!. . . أنا هي. . . أنا هي أمك. . .)

وسقطت القوس من يد أركس. . . وكانت مفاجأة مشجية! وظل الفتى يرمق الدبة عن كثب وهو لا يصدق!! وقال لها:

- (ماذا تقولين؟ أدبة تتكلم؟ أم من؟. . . من أنا؟. . .)

- (أنا هي يا بني. . . أنا كليستو أمك البائسة. . . فعلت بي حيرا ما ترى. . . خمسة عشر عاما يا أركس وأنا أتعذب وأبكي من أجلك في هذه الغابة الموحشة. . .!)

ولم ينبس أركس ببنت شفة، بل تقدم مهدما من الهم، فعانق أمه. . . ووقفا لحظة يبكيان!!

ثم تدفق حنان السماء، وأمطرت رحمة الإلهة، وأمر زيوس فحملا إلى الأولمب - أركس وأمه - ومن ثمة أطلقها رب الأرباب في السماء الخالدة ليكونا برجين من أبراجها، ما نزال نراهما إلى اليوم، وما نزال نحتفظ لهما بعنوان المأساة المؤلمة، إذ نسمي الأم (الدب الأكبر)، ونسمي الابن، أركس الحبيب (الدب الأصغر. . .). . . وما تزال حيرا القاسية تنظر إليهما وتتميز من الغيظ

دريني خشبة

ص: 72

‌البريد الأدبي

موسم الثقافة الإسلامية

فكرت رابطة الإصلاح الاجتماعي في اجتماعها الأخير - في القيام بدعاية واسعة النطاق لتنظيم (موسم للثقافة الإسلامية) يبتدئ من 20 أغسطس وينتهي في 20 من سبتمبر القادم وإعداد برنامج حافل يشتمل على ما يأتي:

1 -

إصدار أعداد خاصة من الصحف الأسبوعية الإسلامية، تدعوا لفكرة الجامعة الإسلامية وتتحدث عن التاريخ الإسلامي وتشرح الثقافة الإسلامية الحق

2 -

إصدار صفحات خاصة من الصحف اليومية تحتوي على آراء الزعماء والقادة في الدعوة للوحدة الإسلامية وحث الشباب الإسلامي على القيام بنشر الثقافة الإسلامية في مختلف الأقطار

3 -

إعداد محاضرات يومية تلقى في المساجد والجمعيات والأندية والروابط وفي المذياع

4 -

إقامة حفلات تعارف وإخاء بين شبيبة العالم الإسلامي

اللغات الأجنبية في الأزهر

بحثت لجنة تعديل قانون الأزهر في تعليم اللغات الأجنبية فيه فرأت بالإجماع وجوب تعليمها في كلية أصول الدين لمختلف السنين الدراسية، ولطلبة التخصص جميعا، واختلف في تقريرها على طلاب كليتي اللغة العربية والشريعة، ويقال إن ذلك الخلاف قد انتهى بتقريرها عليهم كذلك بحجة أن العالم الذي يتخرج في الأزهر وفقا لنظامه الحديث يجب أن يعد إعدادا اجتماعيا يؤهله لطلب الرزق في كل ميدان من ميادين العمل، ولا يكون هذا الإعداد صحيحا إلا إذا ألم بلغة أو لغتين من اللغات الأجنبية، أما اللغات التي ستقرر دراستها في كليات الأزهر الثلاث فهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية واليابانية والصينية واللاتينية

نسبة بيتين

اطلعنا في العدد 105 من الرسالة: على مقال: (ساعات مع الكاظمي) للأستاذ كمال إبراهيم نسب فيه هذين البيتين: إلى ابن هانئ الأندلسي:

ص: 73

ما ضرني أن لم أجئ متقدماً

السبق يعرف آخر المضمار

وإذا اغتدى ربع البلاغة بلقعا

فلرب كنر في اسار جدار

وهذا سبق قلم من الكاتب؛ والبيتان هما خاتمة قصيدة لشاعر المغرب والأندلس في وقته غير مدافع أبي عبد الله لسان الدين ابن الخطيب: دفين فاس؛ وقد أثبتهما معزوزين إليه معاصره وصديقه أبو القاسم محمد الشريف الغرناطي في شرحه لمقصورة (حازم)؛ وكذلك أثبتهما له من المتأخرين أبو العباس المقري في النفح؛ وابن الخطيب هذا أحد مفاخر المغرب وشعرائه المكثرين، وله من الشعر ما يملأ الدنيا على سعتها، توقن بهذا إذا ما علمت أنه جمع مطولاته خاصة في ديوان أسماه (الصيب والجهام، والماضي والكهام) في سفرين، وجمع مقطوعاته خاصة في ديوان سماه (فتات الخوان، ولقط الصوان)، واختار من مطالع ماله من الشعر سفرا دعاه (أبيات الأبيات)، وجمع موشحاته وغيرها من الموشحات التي عرضها في سفر أسماه (جيش التوشيح)

وقد نقبت فيما أعلمه من المكاتب العامة والخاصة علني أعثر على كنز من هاته الكنوز الثمينة فلم أفلح!

ثم دعاني هذا إلى أن أزمعت منذ حين على جمع ما يمكنني الوصول إليه من شعر هذا الشاعر، فاجتمع لدي من ذلك - بعد إفراغ الجهد وطول المراجعة - نحو الثلاثة آلاف بيت، جمعتها مما أمكنني الإطلاع عليه من كتب لسان الدين وغيره من الذين عاصروه أو شغفوا به فعنوا بجمع أخباره، والتقاط كتاباته وأشعاره، ما بين مخطوط منها ومطبوع؛ وسأتربص طويلا علني أصل إلى ما لم يمكني الوصول إليه من شعر هذا الشاعر فأضيفه إلى ما جمعته، وأطبع الجميع مع مقدمة أقصر فيها القول على تحليل شاعرية لسان الدين، وبهذا نصل إلى معرفة شاعر كبير قد جهلناه زمنا طويلا. . . .

فاس (المغرب الأقصى)

أحمد بن المليح

أرنولد تسفايج

يقيم منذ عامين في فلسطين كاتب من أعظم كتاب ألمانيا المعاصرين هو القصصي الأشهر

ص: 74

أرنولد تسفايج وقد لجأ إلى فلسطين فرارا من عسف الطغيان الهتلري، لأنه يهودي تنكره ألمانيا الهتلرية؛ ونزل في ضيعة في جبل الكرمل على مقربة من حيفا، وكان مولد هذا الكتاب العظيم في كلوجاد سنة 1887؛ ودرس القانون وأمتهن المحاماة، ولكن جرفه تيار الأدب. وقد لفتت إليه الأنظار أولى قصصه:(مذكرات أسرة كلوبفر)، وهي تاريخ أسرة يهودية هاجرت من بولونيا إلى ألمانيا ويظن أنها أسرته الخاصة، ثم اتبعها برواية (أخبار كلوديا ثم هجر تسفايج القصة مدى حين وانقطع للتأليف المسرحي فنالت قطعه المسرحية نجاحا عظيما في ألمانيا والنمسا وفي كثير من الأمم الأخرى التي ترجمت قطعه إلى لغاتها. بيد أنه ترك التأليف للمسرح وعاد إلى القصة منذ عشرة أعوام فنجح فيها نجاحا عظيما، وأعظم قصصه هي بلا ريب (الجاويش جريشا) التي يصف فيها مناظر الحرب الكبرى في الميادين الشرقية وصفا قويا رائعا ويصور فيه قائدا ألمانيا يظن أنه لوندورف في صور لاذعة، ثم اتبعها برواية (عذراء سنة 1914) 1914، والتربية في فردون

وقد عاد أرنولد تسفايج أخيرا إلى معالجة التأليف المسرحي، وأخرج قطعة مسرحية جديدة أوحت بها إليه إقامته في مروج فلسطين عنوانها (بونابارت في يافا) ويقول الكاتب الشهير تعليقا على عوده التأليف المسرحي أنه شعر أثناء اشتغاله بكتابة القصة بأن شهوة المسرح تضطرم فيه مرة أخرى، وأنه في فترة فراغ وعزلة وضع قطعته الأخيرة في خمس فصول، ثم يلخص موضوعها وظروف كتابتها فيما يلي:

(وقفت بطريق المصادفة على رواية تتعلق بحملة بونابارت على مصر ومشروعه في غزو فلسطين وسورية، والذي سحرني بنوع خاص هو المشروع الهائل بل الجنوني الذي تصوره نابليون، وهو أن يشق لنفسه طريقا من عكا وحلب واستانبول ثم البلقان إلى فينا ومن ثم فرنسا، وذلك بعد أن حطم الإنكليزي سفنه في أبي قير، ولقد قرأت قصة الغزوة الفلسطينية باهتمام كبير خصوصا وأن مسرح الحوادث كله يبدو أمام عيني، من شرفة منزلي. فأمامي خليج حيفا، ثم عكا على قيد أميال قليلة، ثم جبل تابور الذي اضطرمت فيه المعارك، حتى خيل إلي وأنا أكتب أنني أرقب حركات الجنود بكل تفاصيلها. وأما عن باعث القصة، فأنا نعرف أن نابليون قد أسر في يافا ثلاثة آلاف من الأتراك؛ ولما لم

ص: 75

يستطع إطعامهم أمر بقتلهم، ولكن الواقع أن الفرنسيين غنموا من الجيش التركي الذي قدم من دمشق وهزم في جبل تابور نحو ستة آلف قدر من المؤن، وهذه تكفي لإطعام ثلاثة آلف أسير مدى عشرين يوما. فإذا كان نابليون قد تصرف طبقا للضرورات العسكرية فان عمله مع ذلك يبقى بعيدا عن كل عاطفة إنسانية

(ولم اتبع في القطعة المسرحية التي وضعتها الأسلوب التاريخي؛ ولكني راعيت فيها الأسلوب الواقعي وعالجت مسألة العمل الوحشي (غير الإنساني) وإذا لم يكن من شأنه أن يقع على عاتق ذلك الذي يرتكبه رغما عن كل البواعث الواقعية. وفي الفصل الأخير الذي تقع حوادثه في يافا كباقي فصول القطعة، ولكن بعد هزيمة عكا، أتناول باعث مقتل الثلاثة آلاف تركي في أسلوب ساخر أرمي به إلى تصوير شخصيات الرواية. وقد حاولت أيضا أن أكشف عن أنانية نابليون، وكيف أن هذه الأنانية كانت متأصلة في أعماق روحه؛ وإذا كنت قد وفقت في صوغ الخاتمة، فان النظارة لابد أن يذكروا واترلو، وفشل نابليون، وخاتمته المحزنة)

مكتبة لموسى بن ميمون

يذكر القراء أنه قد احتفل أخيرا في مصر وفي كثير من الجامعات والهيئات العلمية الأوربية بذكرى الطبيب الأندلسي اليهودي الأشهر موسى بن ميمون وذلك لمناسبة مرور ثمانمائة عام على وفاته. وقد عاش ابن ميمون في قرطبة وفي مصر، وكان طبيبا خاصا للسلطان صلاح الدين؛ وكتب مؤلفاته بالعبرية والعربية معا، وفي أنباء فلسطين الأخيرة أن بلدية مدينة تل أبيب اليهودية قد قررت أن تنشئ مكتبة خاصة بموسى بن ميمون تودع فيها ما انتهى إلينا من مؤلفاته سواء بالعربية أو بالعبرية أو تراجمها اللاتينية، وكذلك جميع المؤلفات التي كتبت عنه في جميع اللغات وفي مختلف العصور

ص: 76

‌الكتب

1 -

تاريخ القرآن للأستاذ أبي عبد الله الزنجاني

2 -

الخلق الكامل للأستاذ محمد أحمد جاد المولى بك

للأستاذ محمد بك كرد علي

- 1 -

تاريخ القرآن هو كما قال المؤلف وجيز في سيرة النبي الأكرم والقرآن الكريم والأدوار التي مرت به من كتابته وجمعه وترتيبه وترجمته إلى سائر اللغات، طبعته مؤخرا مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. وقد استند المؤلف، وهو من المستنيرين من علماء إيران ومن أسرة نبيلة بشرفها وعلمها في مدينة زنجان، في تأليفه على مصادر لكبار علماء السنة والشيعة وجود الكلام على ما تقتضيه بيئته، وربما تجاوزها إلى أبعد غاية كان في مقدوره تجاوزها. وحبذا لو كان قد توسع في القراءات واستخدم لذلك مثلا كتاب النشر في القراءات العشر لأبن الجزري المتوفى سنة 833هـ والمطبوع في مدينة دمشق. وليته قال لنا شيئا في القراءات وما هي عليه اليوم في بلاد فارس والهند والصين وتركستان وجاوه والحجاز ومصر والعراق والشام وشمالي أفريقية، وتوسع في كلامه على ما قاله العلامة نولدكه في هذا المعنى ورد عليه؛ ومثله من يحسن عليه الرد؛ وبسط القول في الترجمات الإفرنجية وأيها أجدر بالعناية والقبول، إلى غير ذلك مما نرجو أن يتعرض له العلامة المؤلف في طبعة ثانية مزيدة

وقد صدر الكتاب الأستاذ أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وضحى الإسلام بمقدمة موجزة قال فيها: ولئن ساغ في العقل أن يقتتل المسلمون أيام كان هناك نزاع على الخلافة، ومن أحق بها، ومن يتولاها؛ فليس يسوغ بحال أن يقتتلوا على خلاف أصبح في ذمة التاريخ، وأنه لولا ألاعيب السياسة، واستغفال الماكرين لعقول العامة، واحتفظ أرباب المطامع والشهوات بجاههم وسلطانهم، لا نمحى الخلاف بين الشيعي والسني، ولأصبحوا بنعمة الله أخوانا، ولنظر بعضهم إلى بعض كما ينظر حنفي إلى مالكي ومالكي إلى شافعي؛ ورجا أن يفكر عقلاء الفريقين في أحياء عوامل الألفة، وأن يترك للعلماء البحث حرا في التاريخ،

ص: 77

ويتلقوا النتائج بصدر رحب، كما يتلقون النتائج في أي بحث علمي وتاريخي

ورأى صديقي أحمد أمين هو رأي فريق كبير من علماء المسلمين اليوم، وفي مقدمتهم الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، فقد قال في خطابه البديع الذي أجاب به من كرموه في الحفلة الأخيرة في القاهرة: إن من منهاجه العمل على إزالة الفروق المذهبية وتضييق شقة الخلاف بينها، فان الأمة في محنة من هذا التفرق، ومن العصبية لهذه الفرق، ومعلوم لدى العلماء أن الرجوع إلى أسباب الخلاف ودراستها دراسة بعيدة عن التعصب المذهبي، يهدي إلى الحق في أكثر الأوقات، وإن بعض هذه المذاهب والآراء قد أحدثتها السياسة في القرون الماضية لمناصرتها، ونشطت أهلها وخلفت فيهم تعصبا يساير التعصب السياسي، ثم انقرضت تلك المذاهب السياسية وبقيت تلك الآراء الدينية لا ترتكز إلا على ما يصوغه الخيال وما أفتراه أهلها. وهذه المذاهب فرقت الأمة التي وحدها القرآن الكريم وجعلتها شيعا في الأصول والفروع، ونتج عن ذلك التفرق حقد وبغضاء يلبسان ثوب الدين، ونتج سخف مثل ما يقال في فروع الفقه الصحيح أن ولد الشافعي كفء لبنت الحنفي، ومثل ما يرى في المساجد من تعدد صلاة الجماعة، وما يسمع اليوم من الخلاف العنيف في التوسل والوسيلة، وعذبات العمائم وطول اللحى، حتى أن بعض الطوائف لا تستحي اليوم من ترك مساجد جمهرة المسلمين وتسعى لإنشاء مساجد خاصة)

هذه أمنية عقلاء المسلمين، ويا حبذا لو عني بعض علماء الأزهر فكتبوا كتابا بل كتبا في منشأ هذا الخلاف بين السنة والشيعة، والطرق العملية لأزالته على ما يحب كل مسلم دراكة، ولا سبيل إلى ضم الشمل المبتوت، والخلاص من هذا الاختلاف الممقوت، بغير الرجوع إلى الكتاب وما صح من السنة، والقاء الخلافات جانبا بين أرباب المذاهب الإسلامية

- 2 -

طالعت بالأمس لمؤلف كتاب (الخلق الكامل) كتابا جميلا أسماه (محمد (ص) المثل الكامل) فأكبرت بحثه وغبطته على استخراج العبر من هذه السيرة الشريفة التي تدعو المؤمنين وغيرهم إلى التأسي بها. واليوم طالعت كتابه (الخلق الكامل) وهو في مجلدين ضخمين يتبعهما مجلد ثالث، فرأيت مؤلفا يجمع بين الثقافتين الإسلامية والغربية، ويكتب كتابه من

ص: 78

تمثل فنه، وأخذ به، ودعا إليه مخلصا مؤمنا. ولقد فزع في وضع كتابه إلى أصح المصادر الإسلامية: فزع إلى الكتاب والسنة وإلى آراء علماء الأخلاق من سلف هذه الأمة وبعض رجالها المعاصرين، وفزع إلى آراء علماء التربية وفلاسفة الغرب، واعتبر الإسلام جامعا لكل الفضائل النفسية والمدنية، لو تذوقه أهله حق تذوقه، وعملوا بكل ما أمر به لكانوا خير أمة أخرجت للناس في هذا العصر

عالج المؤلف كل ما يخطر بالبال من النقائص، وما يقابلها من الحسنات والمكارم، وهو يرى مثلا من نقائصنا الخلقية أن يضحك الوالد عند سماع السب والفحش من طفله، واحتقار بعضهم الأعمال الحرة كالزراعة والصناعة والتجارة، ولطم الخدود والعويل على الشبان الذين يجندون لخدمة بلادهم والدفاع عنها، واحتقار كثير من عاداتنا القديمة وإن كانت حسنة، والتعلق بالعادات الغربية وإن كانت سيئة، والانغماس في الترف ومحاكاة الفقير الغني، وتطلع الشبان إلى الزوجات الغنيات وإن كن وضيعات الأخلاق، وتطلع الشابات إلى الأزواج الأغنياء وأن كانوا فاسدي الأخلاق، وشهادة الزور وحلف اليمين الغموس وإعانة الظالم على ظلمه، والإقبال على الروايات الهزلية الممقوتة والزهد في الكتب الجيدة المفيدة، والامتعاض من سماع الحق ومقت قائله، وازدراء المعتصم بدينه المحافظ على شعائره، وتقريب المستخفين والمستهزئين، وتكريم الزنادقة والملحدين إلى آخر ما عدد

ويتألف من كل باب من الأبواب التي عالجها رسالة جديرة بأن تقرأ ويستفاد منها. ومما قال إن فلاسفة الغرب وإن كان يرجع إليهم فضل السبق في بحث أمهات الفضائل فهم لم يبينوا مناطها، ولم يضعوا لها حدا فاصلا بين ما يحقق الفضيلة ومالا يحققها، فانهم لم يذكروا متعلق العفة ولا أي شيء تكون ولا مقدارها الذي إذا تجاوزه المرء وقع في الفجور، وكذلك الحلم لم يذكروا مواقعه ومقداره، وأين يحسن وأين يقبح وكذلك الشجاعة. وأفاض في الفلسفة الخلقية وينابيع الخلق والعواطف والانفعالات النفسية وينابيع الأخلاق والعادة والبيئة ووسائل تقويم الخلق والموازين الخلقية ووجوه الخير ومظاهر التربية الخلقية في الأمم الغربية والشرقية ومظاهر الأخلاق الإسلامية ومظاهر الأخلاق الفردية ومظاهر الخلال الاجتماعي إلى غير ذلك من الأبحاث التي خاض عبابها وجزأها أجزاء،

ص: 79

ومزج فيها الكلام في القديم والحديث على النحو الذي تقبله النفوس، ولا يكون مثالا غير حي لا ينتفع به قارئه لبعده عن مستوى عقله وخلقه وعاده وحاجته

وعلى الجملة فان كتاب الخلق الكامل استجمع صفات التأليف النافع، وظهرت شخصية مؤلفة في صفحاته، وتحمسه لما يريد أن يدعو إليه ليستقيم حال هذا المجتمع الذي كثرت شروره ومفاسده على صورة لم تكن للمسلمين في الدهر السالف؛ دهمتهم سيئات الحضارة الجديدة فسهل عليهم قبولها أكثر من حسناتها التي صعب عليهم الأخذ بها كلها، ومن الغريب أننا بقدر ما يعلو مستوانا في العلم نزداد ضعة في الأخلاق إلا قليلا، وبعدا عن الجميل من حسنات الأجداد ولآباء، حتى لقد تجد في المتعلمين أخلاقا شاذة واستهتار رديئا قد لا تقع على مثله في العامة والأميين، وهذا من جملة سيئات المدنية المادية التي تجردت من عاطفة الدين وعاطفة الخلق، وقاست كل أمر على المادة والنفع العاجل

محمد كرد علي

تاريخ العرب

في الجاهلية وصدر الإسلام

تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي

المدرس بكلية اللغة العربية

اشتمل هذا الكتاب على تاريخ دول العرب الجاهلية، وعلى السيرة النبوية، وعلى تاريخ دولة الخلفاء الراشدين. وفي تاريخ العرب في تلك العهود الثلاثة مسائل كثيرة تحتاج إلى التمحيص، وشهادات للشعوبية في القديم والحديث، فعني هذا الكتاب بتمحيصها، وكشف أمر تلك الشبهات فيها، وسلك في دراسة السيرة النبوية منهجا جديدا كشف فيه غامضها، ورد بأقوى الأدلة كل ما يحاول به تشويه شيء منها، ومن ذلك غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة، فقد أراد صاحب كتاب (تاريخ اليهود في بلاد العرب) أن يرجع أسبابها إلى طمع المسلمين في أموال أولئك اليهود، وذكر أنه من أجل ذلك تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لدينهم، وكلفهم أن يعترفوا برسالته وهم لا يمكنهم أن يعترفوا

ص: 80

برسول من غير بني إسرائيل، ولو أنه اقتصر على محاربة الوثنية العربية وحدها لما وقع نزاع بينه وبين اليهود الذين يشاركونه في أمر تلك الوثنية

فأثبت له صاحب كتاب (تاريخ العرب في الجاهلية وصدر الإسلام) أن اليهود هم الذين بدءوا المسلمين في ذلك النزاع بعد أن جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الفريقين في حلف واحد، وجعل منهم أمة واحدة تجمع بينها رابطة الوطن، وإن اختلف دينها إلى الإسلام واليهودية. أما ذلك المال فكان الإسلام يحرم أن ينظر إليه المسلمون في قتالهم، وكان الله جل شأنه يؤدبهم بالقول والفعل إذا خالف بعضهم ذلك كما حصل منهم في غزوة بدر وغزوة أحد، وإنما كان سبب قتال اليهود نقضهم ذلك الحلف، وكراهتهم أن ينهض العرب بذلك الدين الجديد وهم أصحاب البلاد، واليهود قوم طارئون عليهم، فكان شأنهم في ذلك شأن الأجانب الآن في بلادنا، وإذا كان من حق الأجنبي على صاحب الوطن أن يكرم جواره، فمن حق صاحب الوطن على الأجنبي أن يراعي ذلك منه فلا يكره الخير له، ولا يقف حجر عثرة في سبيل نهوضه، فإذا لم يراع ذلك له كان من حقه أن يخرجه من وطنه، وألا يكرم جواره كما لم يكرم جواره

ومن ذلك أيضا تلك الفتن التي حدثت بين الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين، فقد أدى للتاريخ حقه فيها، كما أدى لأولئك الأصحاب حقهم في صحبتهم لصاحب الرسالة، وفي عظيم جهادهم في نشر تلك الديانة. وهكذا سار المؤلف في كتابه يعينه تحقيق مسائل التاريخ أكثر من عنايته بسرد أخبارها، ويشفي في ذلك غليل من يريد الوصول إلى الحق فيها.

(ص)

ص: 81