المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 112 - بتاريخ: 26 - 08 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١١٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 112

- بتاريخ: 26 - 08 - 1935

ص: -1

‌2 - سعد باشا زغلول

بمناسبة ذكراه الثامنة

كانت رسالة سعد كما رأيت (الدفاع عن الحق) في زمن خذل الحقَّ فانتهى فيه الحكم إلى الأثرة، وشعب جهل الحق فجرى به الأمر على الباطل. وكانت عُدة هذا المحامي المِدْره لذلك الدفاع البلاغة والمنطق والقانون: فالبلاغة للجمهور، والمنطق للخصوم، والقانون للحكومة؛ ولست أرمي بذلك إلى تقسيم كلام الزعيم إلى التأثير المحض، والإقناع المطلق، والتطبيق المجرد، فإن خطبته في كل موضع وفي أي موضوع لا تخلو من هذه العناصر الثلاثة، وإنما يظهر بعضها على بعض حين يقتضي المقام ذلك الظهور؛ فهو يوجه التأثير بالفكرة إلى الذهن إذا هاجم الإنكار والجهل، وبالعاطفة إلى النفس إذا عالج الخمود والغفلة، وبالنصوص إلى الذاكرة إذا عارض القوة والسلطة. ولم ير التاريخ المصري بل الشرقي قبل سعد خطيباً بليل اللسان، نديَّ الصوت، طلق البديهة، دامغ الحجة، حافل الخاطر، رائع البيان، أنيق اللهجة، حسن السمت، يزاوج بين المنطق والشعر، ويعاقب بين الإقناع والإمتاع، ويراوح بين الجد والهزل، ويتصرف في فنون القول تصرف الشاعر برقة الأسلوب، والفيلسوف بدقة الفكر، والموسيقي بجمال الإيقاع؛ وكل ذلك في هالة من الشخصية المهيمنة الجذابة، تساعد بلاغة اللسان والعين واليد بشعاع إلهي باهر، ينفذ إلى النفوس المتكبرة فتَتَّضع، وإلى الأذهان المكابرة فتقتنع، وإلى القلوب اللينة فتنماع

كان سعد رجل جلاد وجدل؛ تمرس منذ الحداثة بشدائد الحياة ومكاره العمل، وراض نفسه منذ الدراسة على أدب اللسان والقلم، وتنفّس به العمر في ميادين الجهاد في الحق، فتكلمت عبقريته الموهوبة بالمعرفة، وتثقفت بالتجربة، وتقوت بالمران، حتى كان منه ذلك الخطيب المرتجل الذي يَهْضب بالكلام أربع ساعات متواليات لا يتلكأ، ولا يتلجلج، ولا يتكثر باللغو، ولا يستعين بالتكرار، ولا يطرد نشاط السامع؛ وكأنما كانت الخطابة لطول ما زاولها تصدر عنه كما يصدر الفعل عن الطبع الملازم والعادة المستحكمة؛ فالفكر عميق من غير إعنات، والأسلوب رشيق من غير تكلف، واللفظ متخير من غير قصد، والمعاني متساوقة تختلف باختلاف العقول والميول والحال، فتقع من قلوب سامعيها العشرين ألفاً موقع الأنداء من جفاف الأرض: هذا بالصورة الآخذة، وذاك بالفكرة النافذة، وذلك بالحجة

ص: 1

الوثيقة، وأولئك جميعاً بالبيان الملهم، والأداء العجيب!

أكثر ما في خطب الخطباء حنجرة وإلقاء وحركة؛ فإذا قرأت بعد ذلك ما سمعت تبينت فيه الكلام الزائف والرأي المجازف والأسلوب المشوش؛ أما سعد فتسمعه وتقرأه فلا تجد بين الحالين إلا الفرق بين الخطيب الماثل بشخصه، والكاتب الماثل بروحه؛ ذلك لأنه يخطب كما يكتب ويكتب كما يخطب، متوخياً في الأمرين براعة التفكير، وبلاغة الأداء، وجمال الأخيلة، وصحة الأقيسة، وقوة الأدلة

كان سعد برد الله ثراه وخلد ذكراه يحب الكلام كما يحب العمل، وينشط بالجلاد كما ينشط بالجدل، ويطرب لِلَفتة الذهن كما يطرب لقهر الخصومة، ويقدس المنطق حتى ليأخذ به من نفسه لعدوه، ويقوى بالكفاح حتى ليركبه المرض والوهن إذا ما استجمَّ

دخلت ذات يوم بيت الأمة في وفد من قومي نجدد الثقة بالرئيس حين انصدع من حوله الوفد، وائتمرت به الحكومة، وتخشَّنَ عليه الإنجليز، ودس له المراءون الغدر في الملق، ولم يبق معه إلا اعتداده بنفسه، واعتقاده بحقه، وثقة الشعب الأعزل به؛ وكان في ذلك اليوم عليلاً لا يخرج إلى أحد ولا يدخل عليه أحد، ولكن الوفد المسافر المشوق يأبى في إلحاح وإصرار إلا أن يرى رئيسه وإن لم ينزل، ويسمعه رأيه وإن لم يتكلم؛ فنزل الزعيم النبيل مدثَّراً بلفائف المرض يتحامل على نفسه ويتهالك على مقعده؛ وكان فناء الدار وشارع الدار وحجرات الدار قد انفجرت انفجار عرفات بالدعاء والتفدية حين لاح وجهه الشاحب من العلة

قدَّم وفدنا إلى الرئيس عرائض الثقة في غلاف حريري جميل، ثم تعاقبت الخطب على الأسماع ما بين سمين وهزيل، والخطيب المعجز جالس إلى مكتبه يصغي إلى كل خطيب ويصفق لكل خطبة، حتى انتهى القوم ووقف هو يقول كلمة الشكر، فبدأها بصوت خافت متهافت، ثم ما لبث أن شبا وجهه، واستقام عوده، وارتفع صوته، وتنوعت لهجته بالنبرات المؤثرة، وتحركت يده الإشارات المبينة، ثم تدفق تدفق السيل الهادر ساعة كاملة هتك فيها أستار الغلول والخديعة عن سياسة الحكومة والخصوم، فما سمع الناس كاليوم خطيباً ينطق عن الوحي، وأسلوباً يتسامى للإعجاز، وصوتاً يمتزج رنينه الفضي بأجزاء النفس، وخطبة لا يظفر بمثلها البيانيون نموذجاً كاملاً للفن!

ص: 2

تلك صورة جانبية لناحية من نواحي فن الزعيم، جلوناها على قدر هذه الصفحة؛ ولعلنا نعود يوماً إلى هذا الإجمال فنفصله، وإلى هذا التركيب فنحلله

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌القومية العربية

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كثيراً ما يسألني الذين لم يشهدوا الثورة المصرية - لأنهم كانوا أطفالاً - (هل كانت حقيقة رائعة؟)

فأقول: (لقد بلغت غاية الروعة - في حدودها. ولم يكن في الوسع أن تكون فوق ما كانت؛ ولكنها فشلت - مع الأسف - لأنا أحطنا قوميتنا بمثل سور الصين)

ذلك أني أؤمن بما أسميه (القومية العربية) وأعتقد أن من خطل السياسة وضلال الرأي أن تنفرد كل واحدة من الأمم العربية بسعيها غير عابئة بشقيقاتها، أو ناظرة إليها؛ ويحنقني ويستفزني أن أرى أحداً ينظر إلى مصر كأنها من أوربا وليست من الشرق. وعندي أن الجنسية الشرقية هي أساس حياتنا وتاريخنا، وأن هذه النظرة تفسد مزايانا الشرقية - إذا لم تفقدنا إياها - ولا تكسبنا مزية من مزايا الغرب؛ والعلم ينقل، وقد نقل من الشرق إلى الغرب، ومن اليسير أن ينقل من الغرب إلى الشرق من غير أن يحاول الشرق أن يغيّر جلده أو يخسر خصائصه

وقد اعترض عليّ شاب - ذات مرة - ونحن في حديث كهذا، فقال:(وما الرأي في القومية؟ أليست حقيقة تاريخية تفرّق بين هذه الشعوب والأمم التي تريد أن تجمعها وتربطها برباط واحد؟)

فقلت له: (إن هذه القوميات العنيفة الضيقة الحدود، حديثة من الوجهة التاريخية، وهي - بحدتها الحاضرة - بنت العصر الحديث، أو إذا شئت، فقل إنها وليدة الحرب العظمى، وإن كان صحيحاً أنها سبقت الحرب بنصف قرن تقريباً، بل إن فكرة الإمبراطورية البريطانية نفسها ليست إلا بنت القرن العشرين. ولعل أكبر مسئول عن بث هذه الفكرة هو الشاعر كبلنج. ما علينا من هذا، ولنرجع إلى حديث الشرق: لقد كانت هناك وحدة وثقافة إسلاميتان دان لهما الشرق، أو ما يعنينا منه، وظلت هذه الوحدة قائمة على الرغم من انحطاط الثقافة، ولم يمنعها أن تظل قائمة أنَّ ثورات شبت، وحروباً استعرت، فإن هذه أشبه بالفتن الداخلية والحروب الأهلية؛ وقد كان العلماء والأدباء والفقهاء يرحلون من بلد إلى بلد، ولا يحسون أنهم تركوا أوطانهم وتغرّبوا، ولا يشعرون أنهم اجتازوا حدوداً، وتخطوا تخوماً، تفصل بين

ص: 4

أقطار، وتعزل أمة عن أمة. ولا يزال الحال كذلك؛ ولو جبتم هذا الشرق لما شعرتم أنكم في غير مصر - إلا من حيث التقدم المادي - وكانت اللغة العربية هي اللسان الذي لا يحتاجون إلى اتخاذ غيره في حيثما يكونون من هذا الشرق العظيم الذي تقسمونه اليوم أمماً وشعوباً وتقولون هذا مصري وذاك فلسطيني أو شامي أو حجازي. وعلى أن القومية هي اللغة لا سواها. ولتكن طبيعة البلاد ما يشاء الله أن تكون، ولتكن الأصول البعيدة المتغلغلة في القدم ما شاءت، فما دام أن أقواماً لهم لغة واحدة فهم شعب واحد. ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر - إلى الآن على الأقل - إلا بالألفاظ. هي وحدها أداة التفكير، فلا سبيل إليه بدونها؛ ومن المستحيل - الآن - أن نتمثل معنى مجرداً عن ألفاظ تعيّنه. ولكل لغة أساليبها وطرائقها، فأساليب التفكير وطريقة التصوّر خاضعة للأساليب التي يتألف على مقتضاها الكلام في اللغات المختلفة؛ ومن هنا يتفق ويتشابه أبناء كل لغة، ويختلفون عن أبناء كل لغة أخرى؛ وهذا فرق ما بين الإنكليزي والفرنسي، وما بين الإنكليزي والهندي؛ وهذه فيما أظن، حقيقة علمية، ومتى كان الأمر كذلك فكيف نكون إلا عرباً كالعراقيين، والسوريين، والفلسطينيين، والحجازيين، واليمانيين، مع اختلاف يسير تحدثه طبائع هذه البلاد؟)

فعاد الشاب يسألني: (وأصلنا المصري؟ وتاريخ الفراعنة ومدنيتهم؟)

فقلت له: (أكرم بهذا من أصل! وإنها لمدينة باهرة تلك التي كانت للفراعنة؛ وإن العالم كله لمدين بأكثر مما يعرف لهذه الحضارة القديمة، ولكنها بادت واندثرت، ولم يبق منها إلا الأثر المدفون في التراب، والذي لا يمكن أن يؤثر في حياتنا الحاضرة إلا من طريق واحد - هو إشعارنا العزة، وحثنا على استحقاق هذا الميراث الجليل، كما يكون الأب كريماً فيخجل الابن أن يكون كزاً لئيماً وأن يفعل ما ينافي كرم آبائه وطيب أرومتهم؛ ولكن المدينة العربية - أو قل الإسلامية إذا شئت - لم تفن، ولم تبد، ولم تندثر، ولم تفقد إلا القوة ومظاهر السلطان، وهذه تكتسب وتستفاد؛ ولكنها فيما عدا ذلك، بقيت حية، وأبقى ما بقي منها لغتها بكنوزها المختلفة، فهي - أي المدنية العربية - عاملٌ مؤثرٌ بوجوده - لا بذكراه كالعامل الفرعوني. ومن الممكن هدم هذه الحواجز المفتعلة التي يقيمها الغرب ويرفع منها سدوداً بيننا وبين إخواننا)

ص: 5

وكثير ممن أحدثهم هذا الحديث يقتنعون، ولكنهم يرون أنفسهم شباناً، ويستهولون أن يوكل إلى أسنانهم الغضة توثيق ما أوهنه تفريط الشيوخ أو ضيق إدراكهم، ولكني أنا أؤمن بقدرة الشباب على المعجزات، لأن خياله أنشط، وجرأته أعظم وعزيمته جديدة لم تنل منها الخطوب والخيبات، وآماله فسيحة. وإذا كان الشباب لا يقدم، فمن ذا عساه يفعل؟؟

ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهماً لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ، لوجب أن نخلقها خلقاً، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة مأمونة، وما خير مليون من الناس مثلاً؟ ماذا يسعهم في دنيا تموج دولها بالخلق، وكيف يدخل في طوقهم أن يحملوا حقيقتهم ويذودوا عن حوضهم؟ إن أية دولة تتاح لها الفرصة تستطيع أن تثب عليهم وتأكلهم أكلاً بلحمهم وعظمهم. ولكن مليون فلسطين إذا أضيف إليهم مليونا الشام وملايين مصر والعراق مثلاً يصبحون شيئاً له بأس يتقى. وهذه البلاد ما انفكت زراعية على الأكثر، وجل اعتمادها على حاصلات الأرض، والصناعة فيها ساذجة محدودة، وضيقة النطاق، والزراعة لا تفني الأمم كما تفنيها الصناعة، والمال عصب الحياة وسر القوة، وأخلق بهذه الأقطار العربية أن تظل صناعاتها ضئيلة ما بقيت هي مقسمة موزعة، لأنه لا يوافق الدول الغربية التي لها فيها سلطان أو نفوذ أن تدع صناعاتها تنشط وتنهض، ولا سبيل إلى نشاطها إلا إذا فتحت أسواق مصر، لجاراتها الشرقية، وأسواق الجارات لمصر، ومعقول أن تشتري منا دول أوربا حاصلاتنا الزراعية أو ما يزيد على حاجتنا منها، ولكن صناعتنا لا يعقل أن تجد لها أسواقاً في أوربا، فما بها حاجة إلى ما نصنع بالغاً ما بلغ التجويد فيه، وإنما يتسع الميدان لصناعتنا إذا وجدت سبيلها إلى الشرق، ومثل هذا يقال عن البلاد العربية الشرقية

قد يقال ولكن هذا ليس إلا حلماً، فنقول نعم إنه الآن حلم، لا أكثر، ولعله لا يتراءى إلا لآحاد يعدون على الأصابع في كل بلد، وعسى أن تكون العقبات المعترضة والصعاب القائمة قد صرفت كثيرين عنه بعد أن دار زمناً في نفوسهم، ولكنه، على كونه حلماً، ليس أعز ولا أبعد منالاً مما تحلم به أمم أخرى في هذا العصر؛ وبالأمم حاجة إلى الأحلام، وإلى الإلحاح على نفسها بها حتى تخلد إليها وتتعلق بها ولا تعود ترى للحياة قيمة أو معنى إذا لم تسع لتحقيقها، وإلا فلأية غاية تسعى؟؟ ماذا تطلب من الدنيا؟ وماذا عسى أن يكون مرامها في الحياة إذا لم تحلم بأمل؟ أيكون كل ما تبغي أن تأكل هنيئاً، وتشرب مريئاً، وتنام ملء

ص: 6

جفونها؟؟ وهيهات أن يتيسر لها ذلك إذا هي أقصرت وكفت عن الأحلام والتأميل وما يغريان به من السعي، وغيرنا يحلم بنا إذا كنا نحن لا نحلم بشيء، وحقيق بنا إذا سلمنا إلى حين أن نعود فريسة لأمة من الأمم الطامعة الحالمة

والأحلام ضرورة من ضروريات الحياة، للأفراد والجماعات وبغيرها يمتنع السعي وتنقطع الحوافز، وتركد الدنيا ويأسن العيش، ومن لا حلم له، لا أمل له، ولا مستقبل، فلما يعيش إذن؟

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 7

‌مصر وقت الفتح الفاطمي والعوامل التي مهدت لهذا

‌الفتح

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تتمة

- 3 -

كانت الدولة الفاطمية تضطرم بهذا الروح الوثاب، وهذه الخلال البدوية النقية حينما اعتزم المعز لدين الله فتح مصر، وكانت هذه الروح والخلال هي دعامة الدولة الجديدة؛ نشأت في مهدها، كما تنشأ معظم الدول المغامرة التي تجد في قفار المغرب خير ميدان لطالعها ونشاطها. وكانت هذه الإسبارطية الصارمة تطبع تصرفات الغزاة منذ البداية؛ وبينما كان أبو عبد الله الشيعي داعية الفاطميين وطليعة دولتهم يزحف بعصبته من البربر على بني الأغلب لينتزع ملكهم، كان زيادة الله بن الأغلب مكباً على لهوه ومسراته، ولم يك ثمة شك في مصير ملك يغشاه مثل هذا الانحلال في الروح وفي الخلال؛ ولما تم الظفر لأبي عبد الله ودخل رقادة عاصمة الأغالبة، واحتوى على تراث بني الأغلب، عرضت عليه جواري ابن الأغلب وفيهن عدة فائقات الحسن، فلم ينظر إلى واحدة منهن، وأمر لهن بما يصلح شأنهن وأقام على ما كان عليه من تقشف بالغ وخشونة في المأكل والملبس، ولم تزد إقامته في القصر الأنيق على إقامة القفر الساذج

ولما اعتزم المعز أن يحقق أمنية أسرته في افتتاح مصر، استعد لذلك استعداداً عظيماً، وحشد كل ما استطاع من جند وذخيرة ومال، وعهد بتلك الحملة الزاخرة إلى أعظم قواده جوهر الصقلي؛ ومع أن المعز كان قوي الأمل في التغلب على مصر، ومع أنه كان يعرف من طلائعه وعيونه مبلغ ما انتهت إليه من التفكك والضعف عقب موت كافور، فإنه لم يدخر عدة في الرجال أو المال، وإليك رواية توضح لنا ضخامة هذه الأهبة: استدعى المعز يوماً أبا جعفر حسين بن مهذب متولي بيت المال، وهو في وسط القصر، وقد جلس على صندوق وبين يديه ألوف صناديق مبددة، فقال له: هذه صناديق مال، وقد شذ عني ترتيبها، قال الحسين، فأخذت أجمعها حتى رتبت، وبين يديه جماعة من خدام بيت المال والفراشين،

ص: 8

فلما رتبت أمر برفعها في الخزائن على ترتيبها، وأن يغلق عليها ويختم بخاتمه، وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك، فكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار، وكان ذلك في سنة 357هـ؛ فأنفقت جميعها على الحملة التي سيرها إلى مصر؛ ويقال إن الحملة الفاطمية على مصر بلغت نيفاً ومائة ألف فارس، غير الجند المشاة، وهي قوة زاخرة تقتضي لكي تقطع هذا القفر الشاسع بين إفريقية ومصر بعددها وعددها جهوداً جبارة؛ ولقد أذكى منظر تلك القوى الجرارة وأهبتها الهائلة وقت خروجها من القيروان إلى مصر في يوم من أيام ربيع الأول سنة 358هـ خيال الشاعر المعاصر ابن هانئ، فأنشد في وصفها:

رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع

وقد راعني يوم من الحشر أروع

غداة كأن الأفق سد بمثله

فعاد غروب الشمس من حيث تطلع

فلم أدر إذ ودعت كيف أودع

ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع

إلا أن هذا حشد من لم يذق له

غرار الكرى جفن ولا بات يهجع

إذا حل في أرض بناها مدائناً

وإن سار عن أرض غدت وهي بلقع

تحل بيوت المال حيث محله

وجم العطايا والرواق المرفع

وكبرت الفرسان لله إذ بدا

وظل السلاح المنتضى يتقعقع

وعب عباب الموكب الفخم حوله

ورق كما رقَّ الصباح الملمع

فإن يك في مصر ظماء لمورد

فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع

ولم تمض أسابيع قلائل حتى سرت الأنباء في مصر بمقدم العساكر الفاطمية؛ ولم يكن مشروع الفاطميين في فتح مصر مجهولاً؛ وكان للمعز بمصرَ دعاة يبثون دعوته خفية، ويبشرون بالفتح الفاطمي. ولم يك ثمة ما تخشاه الأمة المصرية من هذا الفتح، خصوصاً بعد الذي شهدته من عسف الجند العباسيين، وطغيان الولاة المستعربين، وما انتهت إليه شؤونها في أواخر عهد الدولة الأخشيدية من الاضطراب والفوضى، وما توالى عليها من محن الغلاء والوباء؛ ولقد كان من سخرية القدر أن يتولى حكم مصر أسود خصي هو كافور؛ وكان لهذا الحادث الفذ في تاريخ مصر الإسلامية، بلا ريب، وقع عميق في جرح الشعور القومي؛ وكانت الدولة الفاطمية تجذب إليها الأنظار بقوتها وغناها؛ وكان سواد الشعب المفكر يؤثر الانضواء تحت لواء دولة قوية فتية، تستظل بلواء الإمامة الإسلامية

ص: 9

كالدولة الفاطمية، على الاستمرار في معاناة هذه الفوضى السياسية والاجتماعية؛ وهكذا ألفى الفاطميون حين مقدمهم إلى مصر، جواً ممهداً يبشر بتحقيق الفتح المنشود على خير الوجوه

ولما ذاعت الأنباء بوصول العساكر الفاطمية إلى الأراضي المصرية، اشتد الاضطراب في مصر، وكثر الخلاف في الرأي، فرأى جماعة من الزعماء والجند من أنصار بني الأخشيد وكافور أن يحاولوا رد الغزاة بقوة السيف، وأخذوا يتأهبون للقتال؛ ولكن معظم الزعماء المصريين آثروا مهادنة الفاتحين والتفاهم معهم، وقر رأيهم على أن يتقدموا إلى جوهر بطلب الأمان والصلح، واتفقوا مع الوزير جعفر بن الفرات على أن يتولى تلك المهمة؛ وسألوا أبا جعفر مسلم بن عبد الله الحسيني أن يكون سفيرهم فأجابهم إلى ذلك؛ وسار على رأس جماعة من وجوه مصر إلى لقاء جوهر، فلقيه على مقربة من الإسكندرية، في قرية تعرف بأتروجه؛ (أواخر رجب سنة 358) فاغتبط جوهر بمقدمهم وأجابهم إلى ما طلبوا؛ وكتب لهم أماناً يعتبر وثيقة هامة في الكشف عن غايات السياسة الفاطمية وأصولها المذهبية؛ وفيه ينوه بمزايا الحماية الفاطمية على مصر (بعد أن تخطفتها الأيدي واستطال عليها المستذل؛ الممعنة نفسه بالاقتدار عليها، وأسر من فيها، والاحتواء على نعمها وأموالها، حسبما فعله في غيرها من بلدان المشرق) وأن أمير المؤمنين بادر بتسيير الجيوش المظفرة لمجاهدته وحماية المسلمين ببلدان المشرق مما شملهم من الذل واكتنفهم من المصائب والرزايا، ثم يشير جوهر إلى ما تطرق إلى شؤون الحكم من فساد وإلى ما يعانيه الشعب من مظالم ومتاعب، وإلى ما يزمعه أمير المؤمنين من إقامة العدل وتأييد الشريعة وإصلاح المرافق والشؤون، ويختتم ببيان بعض الأحكام الشرعية الفاطمية وتوكيد الطاعة لأمير المؤمنين

وفي هذا الأمان الذي أصدره جوهر لأهل مصر إشارة ظاهرة إلى خطر القرامطة الذين كانوا قد اجتاحوا الشام يومئذ، وأخذوا يهددون مصر؛ وقد كان الخطر حقيقياً لا ريب فيه، ولو لم يبادر الفاطميون إلى احتلال مصر، لسقطت قبل بعيد فريسة هينة في يد أولئك الغزاة السفاكين؛ بل لم يمض على وجود الفاطميين بمصر زهاء عامين حتى اضطروا إلى لقاء القرامطة في أرض مصر ذاتها ولم يردوهم عنها إلا بعد جهد جهيد

ص: 10

على أن جوهراً اضطر مع ذلك إلى خوض بعض المعارك قبل أن يفتتح مصر. ذلك أن فلول الأخشيدية والكافورية ومن والاهم من الجند لم يقبلوا الأمان وآثروا أن يقوموا بمحاولة أخيرة للدفاع عن سلطانهم الذاهب؛ فاختاروا لهم أميراً، واحتشدوا لقتال جوهر بالجيزة؛ ولما وصل الجيش الفاطمي إلى الجيزة ألفى القوى الخصيمة تتهيأ لرده عن عبور النيل، فدفع جوهر بعض قواته فاجتازت النيل خوضاً، ونشب القتال بين الفريقين، فانهزم الأخشيدية بعد أن قتل منهم عدد كبير، ولاذوا بالفرار وتم الفتح الفاطمي لمصر (منتصف شعبان سنة 358)

واستجاب جوهر إلى رغبة المصريين كرة أخرى، فجدد لهم الأمان؛ وذهب الوزير ابن الفرات، والشريف أبو جعفر إلى لقائه على رأس العلماء والكبراء؛ وسار جوهر في ركبه المظفر إلى عاصمة مصر في عصر يوم الثلاثاء 17 شعبان سنة 358هـ (7 يوليه سنة 960م)(وعليه ثوب ديباج مثقل، وتحته فرس أصفر)؛ وشق مدينة مصر (الفسطاط) ونزل في المكان الذي غدا فيما بعد مدينة القاهرة، واختط العاصمة الجديدة في نفس الليلة إيذاناً بقيام الدولة الجديدة، وبعث البشرى إلى مولاه المعز بالفتح العظيم، فوصلته في منتصف رمضان، وأنشد ابن هانئ بهذه المناسبة قصيدة مطلعها:

يقول بنو العباس قد فتحت مصر

فقل لبني العباس قد قضي الأمر

وقد جاوز الإسكندرية جوهر

تصاحبه البشرى ويقدمه النصر

- 4 -

وقامت القاهرة عاصمة الدولة الجديدة بسرعة، وأعدت بقصورها ومسجدها (الجامع الأزهر) لتكون منزلاً ملوكياً لبني عبيد وعاصمة للخلافة الفاطمية، وبدأ الحكم الفاطمي بمصر على يد مبعوث الخليفة الفاطمي وقائده جوهر؛ وكان خطر القرامطة الذي أشار إليه جوهر في رسالته لأهل مصر يشتد ويتفاقم، ويهدد مصر بالويل والدمار، وملك الفاطميين بالفناء العاجل. وقد زحف القرامطة على مصر بالفعل في أوائل سنة 361هـ بقيادة زعيمهم الحسن الأعصم، ونشبت بينهم وبين الجيوش الفاطمية بقيادة جوهر، معارك هائلة في ظاهر الخندق (على مقربة من القاهرة) انتهت بهزيمتهم وارتدادهم نحو الشام. ولما رأى المعز أن ملكه الجديد قد توطد بمصر، سار من أفريقية إلى مصر بأهله وأمواله في

ص: 11

ركب هائل تفيض الرواية المعاصرة في وصف ضخامته وروعته، فوصل إلى الإسكندرية من طريق برقة، في 24 شعبان سنة 362؛ وهرع وفد من أكابر المصريين للقائه وتحيته عند المنارة، فقال لهم (إنه لم يسر إلى مصر لازدياد في الملك أو المال، وإنما سار رغبة في الجهاد ونصرة المسلمين وإقامة الحق والسنة). ودخل المعز القاهرة، عاصمته الجديدة في أوائل رمضان، ولما وصل إلى قصره خر ساجداً في مجلسه شكراً لله، ثم صلى ركعتين، وصلى بصلاته كل من دخل؛ وسطعت في الحال آيات من عظمة الملك الجديد

وبذا استقرت الخلافة الفاطمية في مصر، وبدأت زعامتها الدينية في المشرق؛ وكانت الإمامة الدينية أخص الصفات التي تبدو بها الخلافة الجديدة، وكان المعز لدين اله يحرص جد الحرص على صفة الإمامة ورسومها؛ بيد أن الفاطميين قدموا إلى مصر يحيط بنسبتهم وإمامتهم نفس الريب الذي أحاط بهما منذ قيام دولتهم في المغرب؛ وقد أثيرت هذه المسألة عند مقدم المعز إذ اجتمع به جماعة من الأشراف العلويين الذين ينتسبون إلى علي وفاطمة، فسأله الشريف عبد الله بن طباطبا عن نسبه، فأجابه المعز أنه سيعقد مجلساً ويتلو عليهم نسبه. ثم عقد المعز مجلسه بالقصر ودعا إليه الكبراء، وسل نصف سيفه من غمده وقال لهم هذا نسبي؛ ونثر عليهم ذهباً كثيراً، وقال هذا حسبي؛ فقالوا جميعاً سمعنا وأطعنا!، وفي ذلك ما يدل على اعتداد الدولة الجديدة بقوتها وجاهها، قبل اعتمادها على إمامتها وهيبة انتسابها لآل البيت، وإن كانت قد اتخذت الإمامة شعارها لدى الكافة منذ الساعة الأولى، وأقامت ملكها السياسي على أسس دعوتها الدينية

وكان عهد المعز بمصر عهد توطيد ودفاع عن الملك الفتي. وكان خطر القرامطة لا يزال جاثماً في الأفق ينذر دولة الفاطميين الجديدة بالمحو والفناء. ولم يمض بعيد حتى غزا القرامطة دمشق وانتزعوها من يد حاكمها الفاطمي. ثم زحفوا على مصر بقيادة الحسن الأعصم كرة أخرى، فلقيتهم جيوش المعز على مقربة من بلبيس في أواخر سنة 363هـ وأوقعت بهم هزيمة فادحة. بيد أنها لم تكن خاتمة النضال؛ فقد لبث المعز حتى وفاته في معارك مستمرة في الشأم مع القرامطة والروم؛ بيد أنه أتيح له قبيل وفاته أن يشهد ظفره؛ ولم يغادر هذه الحياة، (في ربيع الثاني سنة 365) حتى كانت الخلافة الفاطمية تبسط سلطانها وإمامتها على المغرب ومصر والشأم والحرمين

ص: 12

(تم البحث)

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 13

‌3 - فريزر ودراسة الخرافة

الزواج

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

قد لا تكون الخرافة استولت على أية ظاهرة اجتماعية استيلاءها على الزواج وشؤونه؛ فرفعت قدره، ودعت الناس أليه، وحددت قيوده، ونظمت ما يحيط به من طقوس ورسوم؛ فلا يكاد المرء يفكر في أن يتزوج حتى تتسرب الخرافة مسرعة إلى تفكيره هذا، محاولة أن تعين له الزوجة التي تليق به، وباحثة عما إذا كان نجمها يتفق مع نجمه، وطالعها يتلاءم مع طالعه. وكثيراً ما أحيطت حفلات العقد والزفاف برقي وتعاويذ أملتها الخرافة وأحكمت وضعها. وبين ظهرانينا من هذه الخرافات الشيء الكثير؛ (فالتبييته)، وحساب الطالع، وقراءة الكف، (وضرب الرمل)، ترمي غالباً إلى اختيار الزوجة الصالحة والشريكة الملائمة في الحياة الأسرية؛ وإذا ما قر رأي الشاب والشابة على الزواج أسبغت عليهما الأحراز والتمائم التي تقيمها الساحر وضره والحاسد وشره. فتارة يكتب لهما بالألفة والمودة، وأخرى يحصنان مما يوقع بينهما الشحناء والبغضة. ولم تتعفف الخرافة عن التدخل في العلاقات الجنسية بين المرء وزوجه فتثيرها وتنشطها، أو تقف في طريقها وتقضي عليها. وكلنا يعرف خرافة (الحل والربط) السائدة في قرانا، والتي كانت ولا تزال مصدر رزق لجماعة السحرة والدجالين، وباب شر دائم وألم مستمر للزوجين ومن يتصل بهما من أهل وأصدقاء. طغت الخرافة كذلك على الأسرة المكونة فسولت لبعض الناس أنها قادرة على أن ترد العاقر ولوداً، وتسلب أم الأولاد نسلها وتقضي عليها بالحرمان والعقم

لم يعن فريزر في كتابه (محامي الشيطان) بدراسة هذه الخرافات المتعددة؛ وإنما تفرغ لإيضاح نقطة واحدة هي موضوع كلمة اليوم. وتتلخص في أن الخرافة غرست في القلوب حب الحياة الزوجية وتقديسها، وحملت الناس على احترام القواعد الخلقية والقوانين الجمعية الخاصة بالعلاقات الجنسية بين العزب والمتزوجين. ذلك أنها أثارت على الزنا والفسق حرباً شعواء وصورتهما في أقبح صورة ممكنة، فأبعدت الناس عنهما بقدر ما قربتهم من الحياة الأسرية المنظمة. فالزنا واللواط وكل اختلاط جنسي غير مشروع كانت ولا تزال لدى كثير من القبائل الهمجية من أفحش الخطايا الخلقية التي لا يقع إثمها على

ص: 14

مرتكبيها وذويهم فحسب، بل يتعداهم إلى الطبيعة فيقلب نظامها، وإلى الآلهة فيثير سخطها وغضبها. وربما أدت فعلة من هذه الفعال السيئة إلى هلاك الحرث والنسل، وموت الزرع، ويبس الضرع، وسقوط المطر، والرعد والبرق، ونزول الصواعق التي لا تبقي ولا تذر. ذلك أضحى الزنا وتوابعه جريمة شعبية تهدد المجتمع بأسره وتعدو عليه في أهم عناصر حياته من غذاء وماء وأمن وعافية

يزعم سكان برمانيا من أعمال الهند الصينية أن الزنا ذو أثر سيئ على الحاصلات المختلفة. فإذا ساء المحصول في قرية من القرى أو انقطع عنها المطر عاماً أو عامين متتاليين اعتقد الناس أن ذلك راجع إلى ارتكاب الفحشاء التي أغضبت الآلهة. وإذا وقف البرمانيون على حادثة من حوادث الزنا ألزموا الجناة بشراء خنزير صغير يكون في سكب دمه ما يغسل خطيئتهم الشنعاء؛ وقد جرت عادة المتقرب أن يبتهل إلى الله حين يقدم قربانه قائلاً: (إله الأرض والسماء والجبال والهضاب، قد أجدبت الأرض من أجلي، فلا تنزل عليَّ جام غضبك ونذير سخطك، وارأف بي وارحمني. هأنذا أصلح الجبال وأسوي الهضاب وأحفر الأرض وأشق الأنهار، فاللهم رد إلينا الحصَل المفقود، ولا تضيع علينا أي مجهود، وأخصب أرضنا، ونم زرعنا)

ويعتقد كذلك كثير من برابرة أفريقية الغربية أن الآلهة تعاقب بالجوع والخوف والقحط والجدب كل جماعة انتهك فيها عرض إذا اعتدي على محرم. ويروى أنه سنة 1898م انقطع المطر عن هذه الجهات زمناً طويلاً، فجفت الذرة، واحترقت أوراق البطاطس والنباتات الأخرى. فهرع الأهلون إلى قسسهم يرجونهم أن يستكشفوا سر هذا السخط العظيم. وبعد تضرع طويل وابتهال خالص تبين هؤلاء القسس أن آلهة السماء غاضبة على سكان الأرض لسوء سلوكهم. فجمع كل رئيس أتباعه، وأرسل فيهم العيون والأرصاد للبحث عن أصل هذه الجناية الكبرى. وقد أدى البحث الدقيق إلى إثبات أن ثلاث فتيات أبحن أعراضهن وأكلن بأثدائهن؛ وما إن همت القبائل بمعاقبتهن حتى نزل المطر مدراراً! ويزعم كثير من متوحشي سومطرة أن الزنا مجلبة للطاعون والأمراض المهلكة واعتداء الحيوانات المفترسة أمثال النمر والتمساح. وعلى الجملة فمعظم القبائل الهمجية الباقية إلى اليوم يعتقد أن كل اعتداء على العرض أو مخالفة لقوانين الزواج مصدر عقوبات سماوية

ص: 15

كثيرة أخصها انقطاع المطر وجفاف الأرض ونقص الزرع

وليست هذه المعتقدات بمقصورة على القبائل المتوحشة، بل إن لها أثراً لدى بعض الشعوب المتمدينة. فالإغريق مثلاً يؤمنون ببعضها ويفسحون للخرافة المجال في العاقات الجنسية كما أفسحوا لها في شؤونهم الاجتماعية الأخرى. يروي سوفوكل أن بلاد تيبان أصيبت بالجدب والطاعون تحت حكم أوديب الملك الذي قتل عفواً أباه وتزوج أمه. فأصبحت القرى والحقول قفراء، وأضحى كثير من المدن خراباً يباباً. وأعلن وحي (دلف) أن لا سبيل لرفع هذه الطامة ورد الحياة إلى هذه الأرض الموات إلا بطرد المجرم. وفي شرائع بني إسرائيل ما يؤذن بأن ارتكاب الفحشاء يغير نظام الطبيعة، ويبدل سنة الله في خلقه. يقول أيوب:(الزنا جريمة شنعاء، وخطيئة تستوجب قصاصاً لا مفر منه وناراً تأكل الشحم واللحم وتقضي على الحاصلات كلها). وفي القرن الثالث الميلادي لم تؤت الحقول الأرلندية أكلها، فيما يزعمون، لأن أحد الملوك تزوج بأخته. وما لنا نذهب بعيداً وكثير منا يعتقد أن مرور الزاني بحقل أو وقوفه في بيدر يؤذي ثمره وينقص غلته ويذهب ببركته

أما أخطار الزنا المباشرة وأثره السيئ في مرتكبيه أنفسهم، فيكاد يسلم بها في مختلف الجمعيات الإنسانية. وكثيراً ما علل فقر الرجل وفشله في صناعته أو زراعته بفجوره وفسقه. وإذا أصاب المرء أمر أو حل به حادث، ظن الناس أن في هذا انتقاماً منه لجرم اقترفه أو عرض انتهكه. والأمثلة في هذا الباب كثيرة سواء لدى القبائل الهمجية أم في الأمم المتمدينة؛ وسنكتفي بعرض بعضها. فبدو روديسيا يلعنون كل امرأة تموت أثناء وضعها، ويتهمونها بالفجور والفسق وقتل روح بريئة لا إثم لها. وتزعم طائفة من سكان أفريقية الشرقية أن الطفل الذي يعدو على زوج أبيه يصاب بعاهة دائمة. وتقول طائفة أخرى إن المرأة تموت إن أتى زوجها الفاحشة أثناء حملها؛ وإذا لمس أب ابنه الصغير صبيحة ارتكابه المنكر مرض ولده على الأثر. وحدث مرة أن مات ثلاثة أخوة في فترة قصيرة، فاتهمت أمهم بالزنا مع رحم محرم. ويعتقد كثير من القبائل الهمجية أن خيانة الزوجة سبب محقق لفشل الزوج في صيده ورحلاته وحروبه؛ وربما أدى ذلك إلى موته. لهذا اعتاد كثير من الهنود، إن خرجوا إلى الحرب، أن يجمعوا نساءهم في صعيد واحد كي ترقب إحداهن الأخرى

ص: 16

فواضح إذن أن الزنا وما اتصل به، في نظر كثير من الشعوب البائدة والحاضرة، خطر يهدد الفرد والأسرة والجماعة؛ فليس شره مقصوراً على مرتكبيه وحدهم، بل يتعداهم إلى القبيلة جميعها والشعب بأسره؛ هو جناية عامة وجريمة شعبية تصيب الأمة في أموالها وأرواحها. لذلك قسا الناس في محاربته وأنزلوا بالزناة أشد العذاب. وإذا صح أن نقيس الجريمة بما قدر لها من قصاص، استطعنا أن نقول إن الزنا من أشنع الجرائم التي عرفها الإنسان، إن لم يكن أشنعها. وهذه القسوة الزائدة في مطاردة الزنا والزناة سهلة التعليل؛ فإن المسألة مسألة حياة وموت، مسألة دفاع عن مجتمع مهدد في أعز شيء لديه، فهو مدفوع بطبيعته إلى أن يحارب من يحاول الاعتداء عليه

ومن هنا كانت العقوبات الصارمة التي أنزلتها الأمم والشرائع المختلفة بكل من استباح عرضاً أو جنى على عفاف امرأة. فقوانين (ماني) تقضي بأن ترسل على الزانية كلاب تنهشها جهرة تحت سمع الجمهور وبصره، وعلى الزاني بأن يوضع فوق حديدة محماة يقلى بها قلياً. وتعاقب قوانين حامورابي الزناة بالشنق والإغراق؛ وقد كان بنو إسرائيل يحكمون على الزاني غير المحصن بالرجم، وعلى المحصن بالقتل. ولا تزال بعض القبائل الهمجية تطبق هذه العقوبات على الزناة في غير ما شفقة. ففي أفريقية الوسطى يجلد الزاني وتهاجم حقوله ومنازله ويسلب ماله. وإذا تبين أحد الأحباش أن أخته أو ابنته ارتكبت الفاحشة قتلها جهرة وقتل عشيقها معها. ولدى الهوثيثوت قانون مشهور يحكم على الزناة بالقتل ضرباً بعصا غليظة. وقد اعتاد سكان الهند الشرقية أن يرموا الزناة في عرض النهر بعد أن يثقلوهم بالحجارة، فإذا استطاع أحدهم النجاة عفي عنه، وفي سومطرة يوأد الزاني ويقبر حياً

وهناك نوع خاص من الفحشاء اشتد هوله فقست الجمعية في محاربته، وهو ما كان بين أفراد الأسرة القريبين كالرجل وزوجة ابنه، والمرأة وأب زوجها. ولكي يُدرأ خطر هذا المنكر وضعت في سبيله عقبات تحول دون وقوعه؛ وهذا هو السر في أن القبائل الهمجية تباعد بين الأقارب الأقربين، في حين أنها لا تجد غضاضة في أن يختلط الأجانب بعضهم ببعض، فجماعة البنتو في أفريقية الوسطى لا يسمحون مطلقاً للرجل بأن يتناول طعام العشاء مع حماته، ولا للمرأة بأن تتعشى مع حميها منفردين، ومن الجرم أن يرى رجل

ص: 17

حماته تأكل؛ وعليه أن يكفر عن هذا بمختلف القرابين، وليس له أن ينعم النظر فيها، وإذا خاطبها وجب عليه أن يطأطئ رأسه ويغض من طرفه، وإن صادفها على غرة أفسح لها الطريق، وسارع إلى الغابة مختفياً كي لا تراه ولا يراها تماماً. وأغرب من هذا أن أهل سومطرة لا يبيحون للرجل أن يأكل مع صهره عاري الوجه؛ وإذا رأى صهره فمه مفتوحاً أحس بخجل عظيم، وتوارى في الغابات المجاورة، فهذه العادات والتقاليد الغريبة يفسرها شيء واحد، وهو أن هذه القبائل تحول دون أي اختلاط يكون وراءه معصية الأقارب الأقربين

نرى بعد الذي تقدم أن الخرافة صورت الزنا والفسق بصورة شنعاء لدى كثير من الشعوب قديمها وحديثها، وأبرزتهما في مظهر عاملين خطرين من عوامل القضاء على الفرد والأسرة والجماعة، وبذا استطاعت إلى حد كبير محاربتها والقضاء عليهما. وإذا كانت الجمعية تنظر بعين السخط والمقت إلى كل اختلاط جنسي غير مشروع، فإنها تدفع الأفراد تبعاً إلى احترام الزواج والخضوع لقيوده. وكل رأي أو عقيدة أو تشريع يحارب الإباحية هو في الوقت نفسه سلاح قوي لتثبيت دعائم الحياة الأسرية.

(لها بقية)

إبراهيم بيومي مدكور

دكتور في الآداب والفلسفة

ص: 18

‌البدر الحسني

محدث ولغوي أيضاً

للأستاذ عبد القادر المغربي

عضو مجمع اللغة العربية الملكي

وهي الكلمة التي ألقاها الأستاذ المغربي رئيس المجمع العلمي في الحفلة الكبرى التي أقيمت على ذكر المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني والد فخامة الشيخ تاج الدين رئيس الوزارة السورية، وذلك في يوم الثلاثاء 13 من أغسطس سنة 1935، وقد أقيمت الحفلة في مدرج الجامعة السورية

شيخُنا البدر، أشبه ما يكون بالبحر: فهو من أيّ النواحي أتيته وجدت علماً وفضلاً، ووجدتَ ورعاً وتقوى، ووجدت من جميل خصاله ومستحبّ أخباره مجالاً للقول، وموضعاً للعظة، وموضوعات للبحث

لكنني لضيقِ الموقت سأقتصرُ من ترجمة حياته على وصف طريقتنا في الدروس التي أخذناها عنه، تعرفون منها أنه كان رحمه الله نسخة طبق الأصل عن رجال سلفنا الصالح في وَرَعهم وتقواهم ووقوفهم عند حدود الشريعة

في شهر ذي الحجة سنة ألف وثلثمائة وأربع وثلاثين بدأت بقراءة صحيح مسلم على شيخنا رحمه الله في دار الحديث الأشرفية، وشاركني في هذه الدراسة قليلً من الإخوان، حتى إذا أتممت صحيح مسلم وشرعت في سنن الترمذي ازدحم علماء دمشق وفضلاؤها على غرفة الدرس؛ وكنت عدا ضبط الأحاديث والتعليق عليها، ألتقط من فم شيخنا بالمناسبة فوائد تتعلق بعلم الحديث، من ذلك قوله:

- كلُّ حديث فيه لفظ (الحميراء) مثل حديث (خذوا ثلثي دينكم عن هذه الحميراء) يعنون عائشة رضي الله عنها فهو دليلٌ على ضعفه

- حديث (توسّلوا بجاهي الخ): قال شيخنا اشتهر على الألسنة وهو غيرُ صحيح

- حديث: إن جبريل كان يدسُّ الطين في فم فرعون كي لا ينطق بالشهادتين استبعدته أنا، وأقرني الشيخ قائلاً:(الله أعلم بصحة هذا الحديث)

ص: 19

- وسمعته مرة يروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أُلهُو والعبوا فإني أكره أن أرى في دينكم غلظة) وبديهيُّ أن المراد باللهو واللعب المباحان شرعاً

وبمناسبة حديث الأمَةِ التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: أين ربك يا جارية؟ فأشارت إلى السماء - قال الشيخ: (مرّ عيسى عليه السلام برجلٍ يصلي وصنعته عمل البراذع وهو يقول في سجوده: (دُلَّني يا ربّ على حمارك لأصنع له برذعه من ذهب) فاعترضه عيسى. فأوحى الله إليه: (دعهُ فإنه مَجّدَني بحسب عقله)

وكنا أحياناً نلمح في الحديث بصيصاً من معنى يتعلق بأحوالنا الاجتماعية، فنريد شيخنا على التوسع في شرح الحديث، فيأبى تورعاً وخشية أن نقعَ في باطل من القول:

جاء في حديث عائشة أن جبريل أراه صلى الله عليه وسلم صورتها في قطعة من جيّد الحرير. فتساءلنا في الدرس عما إذا كان هذا الحديث يدلُّ على جواز التصوير؟ أو على جواز أن يرى الرجلُ من يَوَدُّ خِطبتها من النساء: فيكون التصوير حاجةً من حاجات الاجتماع

فقال أحد الإخوان: ما دام للرجل الحقُّ أن يرى خطيبته نفسها فليس ثم حاجةٌ إلى رؤية صورتها. فرد عليه آخر بأنه قد يتفق أن يكون هو في بلد وهي في بلد آخر فيحملَ إليه البريدُ صورتها، كما حمل جبريلُ صورةَ السيدة عائشة

كان يجري هذا الحوارُ في الدرس وشيخنا ساكت وأردناه على أن يفيدنا ما عنده في هذا الموضوع فلم يفعل، وظل ساكتاً. واستدرجتُه مرةً إلى موضوع عصريّ طريف فأفتى به أو كاد. ثم عاد إلى الاعتصام بالسكوت:

ذلك أنه مرَّ معنا في حديث مسلم قوله: (لِمَ؟ أُصلي فأتيمم)، فقرأتها (لمْ أصلي فأتيمم) واستشكلت رفع (أصلي)، فقال الشيخ (لمَ) للاستفهام لا للجزم، وأصلي مستأنف مرفوع

فاغتنمت هذه الفرصة وقلت له: إنهم اليوم اصطلحوا على علامات يرقمونها بين الجمل، ويسمونها علامات التنقيط: وهي نقطة، ونقطتان، وواو صغيرة كالضمة، وخط صغير أفقي، وخط آخر عمودي، وغير ذلك مما يستعملونه في مقامات التعجب والاستفهام والوقف

فقولُ الحديث (لمَ أُصلّي فأتيمم)؛ لو وُضعتْ علامة الاستفهام بعد (لمَ) لقُرئت استفهاماً من أول الأمر

ص: 20

فهل يجوز لنا استعمالُ هذه العلامات المستحدثة في كتاباتنا كما استعمل السلف الصالح ما أحدثوه من النقط والتشكيل؟

قال الشيخ: يجوز، قلتُ ونستعملها في كتب الحديث؟ قال يجوز، قلت وفي القرآن. قال يجوز

ثم سألني قائلاً: ولكن لماذا لم نُرْقم هذه العلامات في كتابِ مسلمٍ المطبوع الذي نقرؤه؟ قلتُ لأنه كتابٌ دينيٌ. وطابعوه يخشون إنكار بعض العلماء عليهم فلا يباع الكتاب، فلم يضعوا هذه العلامات، واجتهدتُ أن لا أسميها له بأسمائها الإفرنجية مثل فلحظ الشيخُ أن في الأمر سراً، فتبسم وضرب على كتفي وقال:(الله يصلحك) ولم يُردْ أن يُفتي بشيءٍ جديدٍ قد يمكن أن تكون فيه شائبة بدعة

إلى هذا الحد كان شيخُنا رضي الله عنه يحرص على سلامة الدين ويحذَر أن يَتسرَّب إليه شيءٌ من البدع

ومن ذلك أيضاً أنه مرَّ معنا في الحديث نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن تشييدِ المساجد، وفسر ابنُ عباسِ التشييد بالزخرفة، فقال بعض الإخوان: المراد بالتشييد رفع بناء المساجد. فقلتُ بل الصحيحُ ما قاله ابنُ عباس من أن التشييد هو الزخرفة وهو مشتقُّ من (الشيد) الذي معناه الجصّ، والجصّ عادة تزخرف به الأبنية. أما رفع بناءِ المساجد فأمرٌ مستحبٌ في عمارتها، وذلك لكي يتخلّلها الهواء ويَسْهُل التنفّسُ على المصلين، فالتفتَ إليَّ الشيخُ وقال مبتسماً: وما دخل الهواءِ والتنفس في الدين والتشريع؟ وعجبَ من قولي أشدَّ العجب

أما أن الشيخَ كان متوسعاً في اللغة العربية؛ فهذا يلحظُه منه كلُّ من أطالَ مجالسته، وراجعه القولُ في تفسيرِ غريبِ الحديث؛ ولكنه رحمه الله ما كان يُكثر من الاستشهاد بنصوص الأدباء، ولا بأقوالِ الشعراء، لما يقعُ فيها أحياناً من اللغوِ وعَبَثِ القول

وقد سمعتهُ مرةً يُنشد بنغمة حزينةٍ:

(أيا نجدُ لو كان النوى منك مرةً

صَبَرنا ولكنَّ النوى منكَ دائم)

وأنشدني مرةً أُخرى:

صديقُ الصدقِ في الدنيا قليل

فمنْ لكَ إنْ ظَفِرتَ به فمن لك

لحاجتهِ يَوَدُّكَ كلُ شخصٍ

وذاكَ إذا قضاها منك ملك

ص: 21

صديقُكَ مَنْ إذا ما كنت منه

طلبتَ الروحَ بالتمليكِ ملّك

وجاء يوماً ذكرُ طرابلس الشام وليمونها فسألني: ما معنى قولهم في المثلَ (مَنْ لم يجئ بشراب الليمون يجئ بشوكِهِ وحَطَبه) فتجاهلتُ الجواب لأسمع من فمه ولو مرةً تفسيرَ النصوص الأدبية - كما سمعتُ منه مراراً تفسير النصُوص الدينية

ففسره لي قائلاً:

المرادُ بشوكه وحَطَبه قُضبانُه وعيدانه. والمعنى من لم يجئ باللين واللطفْ، يجئ بالشدّة والعُنف

وأنشدني يوماً قولَ الراجز:

(التمرُ والسَمْنُ جميعاً والأقِط

الحيْسُ إلاَّ أنه لم يختلط)

فاعترضتُ بأن الحيسَ هو حلوى للعرب تكون مختلطةً من التمر والسمن والأقِط الذي هو ضربٌ من الجبن فكيفَ يقولُ الشاعر (لم يختلطْ). ثم قلتُ للشيخ لعلَّ صحةَ الروايةِ في البيت هكذا: (لكنْ شرطهُ أن يختلط). ثم راجعت كُتُبَ اللغة فوجدتُ رواية البيت كما قال شيخنا رحمه الله ورأيتُ علماءَ اللغة استشكلوا البيتَ كما استشكلته أنا. وأجاب بعضهم على هذا الإشكال بجوابِ لم يعجبني

ومن عادة شيخنا رحمه الله أنه إذا طَلبَ منه أحدٌ إجازةً بالعلوم تمنَّعَ وتَمثَّل بقول القائل

(ولستُ بأهلٍ أن أُجازَ فكيفَ أنْ

أُجيزَ ولكنَّ الحقائق قدْ تخفى)

وأنقُلُ من مذكّراتِ شاعرنا (خليل بك مردم) - وكان رفيقي في درس صحيح مسلم - هذا الخبرَ الذي يتعلَّقُ بي، وقد أنسيته أنا وهو: أَنني قرأتُ يوماً على الشيخ عدةَ أحاديثَ يدلُّ ظاهرها على عَدَم إيمان أبي طالب. فأطبقتُ الكتابَ بين يَدَيَّ وسألت شيخنا عن حقيقة ذلك وأبيت إلا كلمةَ صريحةَ منه يطمئنُّ إليها القلبُ في إيمان عمَ النبي صلى الله عليه وسلم. فامتعضَ الشيخُ من إلحاحي، وقالَ سبحانَ الله يا شيخ عبد القادر أنت كاتبٌ وأديب، أما سمعتَ ما قاله (أبو طالب) مخاطباً النبيَّ صلى الله عليه وسلم

ودعوتني وزعمتَ أنك ناصحٌ

ولقد صدقتَ وكنتَ ثمَّ أميناً

فأنتَ تسمعُ أبا طالبٍ يقولُ لابن أخيه (ولَقَدْ صَدقت) ثم تستشكل؟

فسررت يعلم الله بجواب شيخنا كما سرني استظهاره للشعر القديم واستحضاره له حين

ص: 22

الحاجة إليه

ولا عجبَ أن يكونَ شيخُنا لغوياً، فإنه لا يكادُ يوجد محّدِث إلا وهو لُغَوي، ولا لُغَوي إلا وهو محدّث؛ لأن المحّدِث لا يمكنه أن يفهم معانيَ أحاديثِ الرسول إلا بعد فهمِ معنى كلماتها اللغوية، واللغويُّ لا ترسخُ قدمه في اللغة ما لم يستظهر الجمَّ الكثيرَ من أحاديث الرسول، تكون له عُدّةً في الاستشهاد بها حين الحاجة فاللغويُّ المتقنُ محّدِث، والمحدث المتقنُ لُغوي

وشيخنا الذي يحفظُ على أقل تقدير خمسة آلاف حديث يحفظ على أقل تقدير ألف كلمة لغوية بشواهدها من كلام النُّبوة

فأنتم ترون أن بين شيخنا البدر، وبين مجمعنا العلمي العربي نسبةً موصولة السببْ في خدمة لغة العرب

هو رحمه الله كان ينشر اللغة العربية بواسطة دروسه المشهورة، ونحن ننشرها بوسائطنا المجمعية المعروفة

أذكرُ أنه زارني يوماً في دار المجمع العلمي، فأجلستُه في صحن المدرسة، خشية أن يرى في ردهتها صُوَرَ المتوفين من أعضاء المجمع، معلَّقةً على جدرانها، فيمتنعَ عن الدخول كما هي عادته

وبعد أن استقرَّ به المجلس سألني: وماذا تصنعون هنا؟

قلت: إننا يا مولانا نشتغلُ في خدمة اللغة العربية ونشرِها وفي ذلك خدمة للدين الإسلامي ونشرِه

وإذا أحد تلاميذه (اللطفاء) يَلمَسُ كتفه من ورائه، ويشير إلى التماثيل الحجرية المنصوبة في أحد أركان المدرسة، فقال لي الشيخ: وما هذه التماثيل؟ وأشار إليها بإصبعه

فشعرتُ إذ ذاك بخطورة الموقف، وبصعوبة الاعتذار عن وجودِ تماثيلَ في صحنِ مدرسةٍ دينية إسلامية؛ غير أن الله ألهمني جواباً تضَّمن حقيقة معقولة، لكنها ويا للأسف منسيةٌ مجهولة

فقلت: إن هذه التماثيل تجْمعُ في دوْر الآثار للاستدلال بها على تاريخ الجاهلية الأولى، ويدخل في ذلك عبادة تلك الأمم للتماثيل، وإرسال الرسل لإنقاذهم من تلك العبادة، كما كان

ص: 23

من نبينا صلى الله عليه وسلم مذ أنقذَ أهلَ الجاهلية من الشرك، وصَقَلَ نفوسهم بصقالِ التوحيد

ولكنَّنا اليوم نرى الناسَ قد أغفلوا دراسة هذه الناحية من تاريخ الأمم القديمة، ونسوا نعمةَ الله عليهم بالبعثة المحمدية، حتى إذا رأوا هذه التماثيل في المتاحف تذَّكروا النعمة، وحمدوا الله عليها

قلتُ هذا وسكتُّ منتظراً ماذا يقول الشيخ؟ فلم يقل إلا خيراً وتبسم ودعا لي وللمجمع

رَحِمَ الله شيخَنا البَدرْ، وأثابه عن حياتهِ الصالحة بأجزل الأجر. . . .

المغربي

ص: 24

‌استعطاف

بقلم رفيق فاخوري

هواكَ عن هذا الوجودِ شاغلي

والوجدُ منذ غبتَ عني واصلي

إبعثْ مَوَاتَ خاطري بزورةٍ

واخطُ خُطا الظلال في الخمائل

واحملْ إلى قلبي الكليم باسماً

وشافياً من عَطفك الممنَّع

ما سَرّني أنَّ النعيم قسمتي

إنْ لم تكن في ناظري ومسمعي

لأَنتَ حسبي مِنْ ضياءٍ إن دجا

يومي، وحسبي من هُدًى في حَيرتي

رُدَّ على عيني جَلَاءها ومُرْ

يَسطعْ مُحَيّاك على دُجُنَّتي

وينحسِرْ عن مقلتي سهادُها

يا طالما منعتَها رقادَها!

عِدْني أعشْ إلى غدٍ بنظرةٍ

عابثةٍ كم أخْلَفتْ ميعادَها!

وبَسْمةٍ تُفحمني ولم تَقُلْ

شيئاً، وإنما البيانُ في الصُوَرْ

إذا عَلَتْ ثغرَكَ فَدّاها الحشا

بِدَمِهِ ثم مشى على الأثر

وهمسةٍ أرقَّ من نَفْحِ الصَّبا

تسكُنُ في أُذْنَيَّ ما عاش الهوى

تألفُها جوارحي فكُلُّها

أُذْنٌ، وينزاح عن الصدر الجوى

يا منيةَ الولهان صِلْ بعد النَوى

أوْ لَا فَخُذْ قلبي وخُذْ لسانيا

هذا شغلتَهُ بذِكْرٍ دائمٍ

وذاكَ قد أسهرتَه اللياليا

حمص

رفيق فاخوري

ص: 25

‌طموح

للأستاذ محمود غنيم

خليليَّ هل للمجد حدٌّ فأنتهي

إليه لقد طال العبورُ ولم أُرْس

مآربُ تتري، كلما نلتُ مأرباً

تنازعُني عنه إلى غيره نفسي

فلا النفسُ إن أبْلُغْ تقفْ عند غايةٍ

ولا هي إن أُخفِقْ تُرحْنيَ باليأس

كذلك أشقى ما حييتُ فإن أمت

فيا ليت شعري ما ورائيَ في رمسي

محمود غنيم

ص: 26

‌وراثة العبقرية

(نشرت مجلة (الشهر) الفرنسية بحثاً طريفاً في وراثة العبقرية استعرض فيه كاتبه أحدث النظريات العلمية في هذا الموضوع. فآثرنا نقله إلى قراء الرسالة)

شغلت مسألة وراثة العبقرية طائفة كبيرة من العلماء والفلاسفة منهم جالتون وموبياس وريبو ولمبروزو وكرتشمر وغيرهم من الباحثين

وهذه المعضلة تبدو في أشكال مختلفة. تبدو أولاً كحالة خاصة من معضلة الوراثة على العموم. إذ ما هي الآثار التي يتركها الآباء والأمهات؟ وبأي الأشكال تظهر؟ وما هي الآثار النسبية في تكوين الشخصية للوراثة المجردة من جهة، وللبيئة والتربية من جهة أخرى؟ وهل أثر الوراثة دائم أو غير دائم؟ وهناك وجهة نظر أخرى تعتبر العبقرية والذكاء شذوذاً إذا قورنا بحالة الشخص العادي. وكثيراً ما يصحب هذه العبقرية وهذا الذكاء فقدان في التوازن الجسماني، وغالباً في التوازن النفسي. كذلك قد تصحبهما حالة جنون

ولأننا نعلم أن عدداً من هذه الأمراض ينتقل بالوراثة، كان لنا أن نتسائل عن صدى هذا الاتجاه المزدوج: وراثة العبقرية، ووراثة الاضطراب العصبي أو المرض

إن مما لا شك فيه أن (في بعض الحالات) تكون العبقرية أحياناً وراثية. وقد ظهر ذلك جلياً في كثير من رجال العلم والموسيقيين والمصورين والشعراء وكبار الكتاب

فبين العلماء استطاع جالتون أن يجد أسراً كان بها عالمان وأحيانا ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وأحياناً أخرى أكثر من ذلك. ووجد موبياس 215 أسرة اتفق فيها أن كان الأب والابن وافري الاستعداد الرياضي، (بين هذا العدد ثلاثة وثلاثون والداً لكل منهم أكثر من ابن واحد موهوب). وقد وجد هذا الاستعداد في ثلاثة أجيال متتالية سبع عشرة مرة، وبين خال وابن أخته عشرين مرة: وبين أبناء العم مرتين، وبين أشقاء أو شقيقات 131 مرة، وبين أكثر من شقيقين ثلاثة وعشرين مرة. وكان العالم الفلكي الكبير (دومينيك فرانسوا آرجو) له ثلاثة أشقاء وولدان كلهم موهوبون في استعدادهم الرياضي. وكانت أسرة برنولي أعظم أسرة علمية عرفها التاريخ مما دفع الأستاذ دوبليه الفلكي بمرصد بوردو أن يخصص للكتابة عنها كتاب صدر عام 1929 وسماه هذا الكتاب ذكر الأستاذ دوبليه أن أسرة برنولي شغلت كرسي العلوم الرياضية في جامعة بال - مسقط رأسها - مائة عام وثلاثة دون انقطاع؛ وبقيت أكاديمية العلوم في باريس نحو أحد أفراد أسرة برنولي مدة واحد

ص: 27

وتسعين عاماً متوالية

وكما نرى أثر الوراثة بين العلماء نراه أيضاً بين الشعراء. وقد وجد جالتون اثنين من العباقرة في الشعر بين أسر: بيرون وشنييه وجوته وهين وراسين. . . . وثلاثة أو أربعة في أسر: أسكيل وارستوفان وكورني وملتون. . . وخمسة أو ستة في أسرتي كولردج ووردثويرت. . .

ووجد جالتون اثنين من الكتاب والأدباء في كل أسرة من أسر بوسويه وشاتوبريان وشامبليون وادجاربون ومِلْ. . . الخ وثلاثة أو أربعة في أسر بنتام وبوالو وفينيلون ولِسِنْج وسفيني، وخمسة أو أكثر في أسر فيلينج وماكولي وشليجل وستايل وغيرها

وبين الموسيقيين تجد أسرتي باخ وسترس هما الأسرتين اللتين ظهر فيهما أكبر عدد من الموسيقيين. ويبدأ تاريخ أسرة باخ عام 1550، واستمر يظهر منها الموسيقيون الموهوبين ثمانية أجيال متعاقبة؛ وكان من عادة هذه الأسرة أن يجتمع أعضاؤها المغرمين بالفنون مرة في كل عام؛ فكان يصل عدد المجتمعين أحياناً إلى مائة وعشرين فناناً؛ وقد ذكر فتيس أن هذه الأسرة حوت سبعة وخمسين موسيقياً منهم تسعة وعشرون كانوا في عداد النابغين

على أننا لا ينبغي أن نخرج من هذه الحقائق بأن العبقرية (دائماً) وراثية. إذ أن توارث العبقرية محدد ببضعة أجيال فقط، كما أنه ليست هنالك قاعدة عامة لتوارث العبقرية. بل بالأحرى هناك استثناء. ويمكن أن نقول أكثر من ذلك وهو أن العبقرية الحقيقة دائماً منعزلة، أو كما يقول لوردا (إن العباقرة هم أطفال لقطاء ورجال أعزاب) ويقصد بذلك أن الطبيعة تمحى حين يُخلق العبقري

ولو كانت العبقرية تنتقل بالوراثة دائماً لكان من الضروري أن توجد (أجناس) معينة من العباقرة. وهذا ما لا وجود له. (إن العبقرية حادث فجائي يكون أحياناً وراثياً) ،

وقد ذكر لومبروزو الملاحظة الآتية: (إذا وضعنا جانباً عدداً قليلاً من الحالات الاستثنائية كالتي نجدها في أُسَرْ دارون وكاسّيني وبرنولي وسان هيلير وهيرشل، وجدنا أن العبقري لا ينقل إلى ذريته إلا اتجاهاً حقيقياً يُعظّمه في عيوننا الاسم المجيد!)

إن أبناء العباقرة هم في الغالب مخلوقات عادية بل أقل من العادية. ويقول ج. مورودوتوز: (إن الملاحظة العامة ترينا أن غالبية أبناء الرجال العباقرة ليسوا فقط أقل من آبائهم، بل هم

ص: 28

كسائر الناس العاديين)، وقد أكد ألكسندر تاسوني أحد كتاب القرن السابع عشر أنه كثيراً ما يحدث أن ينجب آباءٌ عباقرة أبناءً عظيمي الغباوة، وآباءٌ شديدو الغباوة أبناءً علماء. واستشهد على النوع الأول بأبناء أفريكان الكبير وأنطوان وشيشرون ومارك أوريل وسقراط. ويعتقد أوسوالد الكيميائي الألماني الشهير أن أبناء الرجل العبقري لا بد أن يكونوا أقل منه

وذكر تاسوني رأي أحد العلماء المعاصرين له وكان يفسر النقص في كثرة أبناء الرجال العباقرة بقوله: (في الرجال العظام تتجمع معظم القوى الحيوية في المخ كيما تقويه وتبعث الحياة والعنف في القوى الفكرية. ولهذا السبب يكون الدم والخلية باردين ضعيفين. والنتيجة أن يكون أبناء أولئك الرجال وخصوصاً الذكور أغبياء)

وهناك حقيقة أخرى هامة فيما يختص بوراثة العبقرية، وهي أن هناك ظواهر من الجنون والاضطراب العصبي تحول دون وراثة هذه العبقرية. ذلك أن العبقري تصحبه غالباً أنواع خاصة من الأمراض النفسية. وكثيراً ما يُلاحظ المرض العقلي عند سلف وخلف الرجل العبقري. ومن المعلوم أن الجنون ينتقل غالباً وبكثرة شديدة في الأجيال القريبة. وحالات الجنون الوراثي في ثلاثة أجيال متعاقبة عديدة جداً. وكان الجنون فيها في الغالب من نوع واحد. والآن، أليس هنا تشابه - وإن لم يكن كاملاً - بين وراثة العبقرية ووراثة الجنون؟

وقد ذكر مورو دوتور أن بين طبقات المجتمع التي تحوي أكبر عدد ممكن من الرجال الممتازين بذكائهم الشديد يوجد أيضاً أكبر عدد ممكن من المجانين. وقد لاحظ كل علماء النفس أن هناك عدداً من المجانين لهم أقارب يتميزون بذكاء تتفاوت درجاته. من ذلك أولبمبيا أم اسكندر الأكبر التي كانت امرأة فاسدة الخلق ظاهرة الوضاعة. وكان أب الاسكندر داعراً إلى أقصى حد. وكان الاسكندر نفسه مصاباً بحالة عصبية في كوعه. وكان شقيقه أريدوس - الذي قتل بأمر أولبمبيا - أبله معتوها

وكان ابن برناردين دوسانت بيير، وإحدى بنات فكتور هوجو، ووالد وأشقاء فيلمان، وشقيقة الفيلسوف كانت، وشقيقة هيجل، وغيرهم وغيرهم كانوا جميعاً مجانين. وكانت شقيقة ريشليو تتصور أن ظهرها من البلور، وكان شقيقه معتوهاً. وكان والد الموسيقى بيتهوفن مدمناً الخمر، وكان الشاعر بودلير نفسه نصف مجنون. وقد كتب يقول: (أن

ص: 29

والديّ اللذين كانا إما معتوهين أو مجنونين قد ماتا ضحيتي جنون فظيع) وكان والدا الشاعر الأمريكي الشهير ادجار بو شديدي الإدمان لتعاطي المشروبات الروحية

وكانت تحدث لشاتوبريان حركات تشنجية في ذراعه، وكان دائم التفكير في الانتحار، وكان أخوه نصف مجنون؛ وكان والد بلزاك غريب الأطوار، وكذلك كان بلزاك نفسه. وكانت جورج صاند شديدة الانقباض والحسرة وهي في السابعة عشرة من عمرها، وقد حاولت الانتحار فيما بعد عدة مرات. وقد كان والدها يشبهها من هاتين الناحيتين. وكان كثير من أقارب هوفمان مجانين. أما هوفمان نفسه فقد أصابه الخَرَف لطول استسلامه للشراب، وكان يتصور أمام عينيه أشباحاً ويصيبه من جراء ذلك الرعب الشديد، فيطلب من أمه أن تجلس بجانبه. وكانت خالة هيرنر مجنونة وأخته شديدة الكآبة؛ وقد جن ابنها

وكان أثر الوراثة المرضية بارزا في لورد بيرون. إذ كان أبوه رجلاً فاسد الخلق وقحاً. وكانت أمه غريبة الأطوار متكبرة طائشة. كذلك كان شوبنهور وارثاً لما كان عليه من غرابة الميول واضطراب الأعصاب. فقد كانت خالة جدته وجدها مجنونين. وكان أبوه تنتابه نوبات قوية من الغضب المتزايد والهم الدفين الذي يكشف عن نفسه المريضة

وكانت أسرة الفيلسوف رينان - الذي كان يعذبه اضطراب أعصابه - تسودها أنواع مختلفة من الجنون؛ وكان عمه مأفونا. وقد قضى حياته في التصعلك حتى وجد ذات ليلة ميتاً على قارعة الطريق. وكان جد رينان شديد الوطنية عظيم الإخلاص، ولكنه فقد عقله عام 1815م نتيجة همّ ألمّ به. وقد أصبحت بلدة تريجويير التي ولد بها رينان ممتلئة بالمجانين وأنصاف المجانين نتيجة إكثار أهلها من زواج بعضهم ببعض

فمما ذكرنا يظهر أن العبقرية ليست محدودة. وأنها لا تمتد إلا لأفراد مخصوصين، فلابد إذن من أن نعرف أن هناك شيئاً آخر غير الوراثة المجردة. إن العبقري يظهر في الأسرة في لحظة معينة ولا يمكن أن يظهر قبل ذلك. كذلك قد يتبعه وقد لا يتبعه عباقرة آخرون. والأب العبقري قد يكون له ابن عادي، وقد يكون هذا الابن غبياً. وإذا استمرت الأسرة في إنتاج عباقرة كثيرين فإن هذه الظاهرة تقف بعد بضعة أجيال كأن الطبيعة قد نالها الرهق والضنى. وأخيراً كثيراً ما يحدث أن يحل الجنون محل العبقرية ويكون ذلك راجعاً إلى نوع خاص من الوراثة متأثر بعوامل غير وراثية

ص: 30

وقد قال البعض: إن الوراثة والبيئة يتعاونان معاً بنشاط على إيجاد العبقري، إذ أن (الوراثة) لا تنتج في الرجل إلا (ما يمكن أن يكون) وليس ما سيكون، أما آثار الوسط وحدها فهي قادرة على تحويل الاحتمال إلى أمر واقع. على أن (الوسط) لا يكون تأثيره بعد الولادة فقط، بل إنه يؤثر في الشخصية المستقبلية قبل الولادة، وذلك بطرق مختلفة

ولقد عملت أبحاث في جلاسجو عن علاقة عدد المواليد بالذكاء فظهر أن عدد المواليد يزيد عند الرجال الأقل ذكاء، كذلك الأسر يتكاثر عددها كلما قلت الكفاءة العقلية عند أعضائها

إن العبقرية شذوذ وشرود عن الحالة العادية، وهي بلا شك اضطراب أكيد؛ هي حادث فجائي، وكذلك الجنون، وهذا الحادث الفجائي قد يرجع إلى حالة الوالدين قبل الحمل أو إلى اضطراب يصيب الجنين، فما يحدث للوالدين قد ينتج عند الطفل نوعاً من الشذوذ النافع، وقد ينتج تشويهاً في خلقته، أو يؤدي إلى التحام الجنينين ببعضهما إذا كانت الأم تحمل اثنين: وهذا الشذوذ قد ينتقل بدوره بالوراثة. على أن انتقاله يكون بدرجة محدودة ولبعض أجيال فقط، والاضطراب الذي يحدث في حالة عدم استمرار التحام الجنينين قد يكون أثره فيما بعد إما أن ينتج عبقرية وإما جنوناً، أو اضطراباً في الأعصاب؛ وقد تجتمع الحالتان معاً. وأخيراً قد تتبع كل منهما الأخرى، أي أن يجمع الشخص أحياناً صفات العبقري ومواهبه، وأحياناً أخرى اضطراباً في الأعصاب يجعله أشبه ما يكون بمجنون حقيقي

وهناك أنواع من الشذوذ تنتقل أحياناً بالوراثة، وأحياناً لا تنتقل، مثل الحوَل، وقصر النظر، وصغر أحد أعضاء الجسم أو كبره أكثر من الحد الطبيعي؛ وأحياناً يكون هناك اتجاه نحو مصادر الإنسان الأولى. وقد تكلم عن ذلك ريبو في كتابه عن (الوراثة) إذ ذكر أن أسرة كلبورن كان بها شذوذ الست أصابع (أي زيادة إصبع في اليد أو في القدم) وقد استمر هذا الشذوذ في الأسرة مدة أربعة أجيال

والآن، أليس هناك تشابه بين الشذوذ الجثماني والشذوذ العقلي الذي يسمى العبقرية والذي تكون فيه الوراثة أيضاً محدودة؟

ذكرت مدام ناجوت ولبو كفتش أن سيدة كانت تتبع عبثاً وسائل لإجهاض نفسها، فعندما وضعت الطفل في ميعاده المعتاد كان هذا الطفل قويّ البنية ولكنه كان أبله. وكانت والدة (كاردان) قد حاولت إجهاض نفسها أيضاً عدة مرات دون جدوى، وكانت النتيجة أن أصبح

ص: 31

الطفل الذي ولدته وهو (كاردان) عبقرياً فذاً؛ وقد تكون محاولة السيدتين كلتيهما إجهاض نفسيهما ليس هو السبب الحقيقي، ولكن هذا التشابه كاف لأن يرينا كيف تنتج حالات الشذوذ التي تسمى بالعبقرية. والتي هي وراثية ولكن إلى درجة محدودة

إذن ماذا عسى أن يكون قانون هذا الشذوذ؟ ذلك ما لا يعلمه أحد. ومنذ بضعة أعوام قال الأستاذ ج. هكسلي إنه قد يمكن في المستقبل أن يجعل كل طفل عبقرياً بتغيير بعض غدده، وقد يكون ذلك حلماً خيالياً. على أن مجموع الحقائق المعروفة تثبت أن في تكوين العبقرية قانوناً ينتج (شذوذاً) خاصاً. فمن يدري؟ قد يستطيع الإنسان في حالة فهم هذا القانون ودراسته أن يصنع العبقرية.

(. . .)

ص: 32

‌دراسات في الأدب الإنكليزي

4 -

وليم وردزورث

بقلم جريس القسوس

تتمة

الحركة الإبتداعية

أما أبطال هذه الحركة فهم: الفيلسوف الشهير كانت في ألمانيا، والكردينال وسلي في بلاد الإنكليز، وروسو في فرنسا. ولا غرو في أن الأخير كان فارس هذه الحلبة وسيد زعمائها في مختلف البلدان. فقد نادى بالرجوع إلى الطبيعة، وبسيطرة العاطفة على أعمال الإنسان؛ ونظريته في التربية تتلخص فيما يلي:(ترك غريزة الإنسان وجسمه وقواه العقلية تنمو في مجراها الطبيعي، وذلك بنبذ قيود المدنية الحاضرة، والتقرب من الطبيعة)

وبعد مرور نحو ربع قرن على وفاة فيلسوف الثورة رجع شاعرنا صدى صوته في إقليم البحيرات، وأصبح حامل اللواء (الرومانتيكي) في بلاد الإنكليز. وتمتاز هذه الحركة بسمو مقام الرجل العادي، فقد أصبح موضوع الأدب بدل الرجل الأرستقراطي؛ وهذه الميزة تظهر بجلاء في قصص سرولتر سكوت، ودكنز، وفي معظم قصائد شعراء القرن التاسع عشر، وتشجع هذه الحركة حب الأطفال وتقليدهم لأنهم - كما أسلفنا - أقرب إلى الفضيلة من الشيوخ. ولقد رأينا شيئاً من هذا في أشعار وردزورث، وظهر شيء منه في نثر (لامب) وخصوصاً فصله المشهور:(أطفال الحلم)، وفي أشعار سونبرن أحد شعراء القرن التاسع عسر المتأخرين. وتمتاز أيضاً بالولع بالحيوانات الأهلية منها والبرية، وبحب القصص التي تدور حوادثها على الحب والحرب، خصوصاً ما كان منها شائعاً في العصور الوسطى؛ والتي بطلها الرجل العادي لا الأرستقراطي. ومن أهم مظاهرها شيوع الدين والتقوى، والتأمل والبحث في أسرار الكون، والخروج على العادات المألوفة، والتمرد على الهيئة البشرية. ولقد اتُخذ الأدب سلاحاً لمحاربة سخائف الحضارة وقيودها، ومن أهم أبطال هذا المظهر بيرون وشلي وكيتس. وتتميز هذه الحركة أيضاَ بالتقرب إلى الطبيعة

ص: 33

وانتزاع الموضوعات الأدبية منها، والابتكار في اختيار الموضوع، والتفنن في التعبير عنه، لا النسج على منوال الأقدمين كما هو شائع في العصر الكلاسيكي

وإذا ما ألقينا نظرة على شعر وردذورث ألفيناه يمثل الأدب (الرومانتيكي) أصدق التمثيل، وما يصدق على شعره يصدق على آرائه ونزعاته، وخاصة في مستهل جهاده الأدبي، حينما كان من أنصار الثورة الفرنسية التي كانت ثمرة فلسفة روسو بطل الحركة الإبتداعية

زواجه، كهولته، منتهى حياته

تزوج وردزورث سنة 1802م من ماري هتشنسن، من تلك العائلة التي كان يكثر من الترداد عليها. ويُروى أنه أراد أن يغتفر زلّته مع خدينته (أنيت فالون) قبيل إقدامه على الزواج، لهذا شرع في استرضائها بشتّى الوسائل، والظاهر أنه نجح في ذلك. والذي نعلمه أن (أنيت) هذه لم تلاق جفاءّ ومضضاً في عيشتها، وأن ابنتها زُوجت من أحد السراة. وفي قصيدة للشاعر موضوعها (على الشاطئ قرب كاليس) يخاطب ابنته هذه ويرخّم بها بكل وداد وتحنان. على أن هذه القصة لا تزال طيّ الخفاء ولم ينكشف لنا منها إلا الشيء القليل. والباحث في ترجمة حياة وردزورث وتحليل عبقريته يود لو أنه ذكر لنا تلك الحادثة بالتطويل شارحاً بذلك عواطفه نحوها وحبه لها قبل وبعد وقوعه في الجرم. لو فعل الشاعر ذلك لوفّر على الباحث الشيء الكثير من الحدس، ولأنار لنا هذه الناحية المهمة من حياته غير تارك مجالاً لتقوّل المتقولين، وإشاعات المشيعين

ولقد وجد في زوجته امرأة سامية الخلق عالية المدارك شديدة العطف والإحساس، لا تقلّ بذلك عن أخته دوروثي. فلا عجب أن رأينا دوروثي تخلد إلى الراحة بعد أن أدت واجبها إلى أخيها ونحو الأدب بكل أمانة وإخلاص، إذ رأت في امرأة أخيها خير خلف لها. ولقد خلّد الشاعر اسم زوجته هذه في قصيدة موضوعها (هي مثال الرضا)

وفي سنة 1808 ورده نعي أخيه يوحنا، فقد مات غرقاً في أحد المراكب التي كان يتولى إدارتها. فكان ذلك باعثاً للحزن والأسى في نفسه. وعلى أثر موت شقيقه نظم قصيدة خالدة عنوانها (أخلاق المجاهد السعيد) مشيراً فيها إلى أخيه وحياته الحافلة بجليل الأعمال؛ ولهذه القصيدة من الشهرة ما جعل الإنكليز والأمريكان يتلونها في مآتمهم، فيجدون في ذلك ما يعزّي النفوس ويسرّي عنها الأحزان

ص: 34

وفي تلك السنة أيضاً انتقل الشاعر وامرأته وأولاده الأربعة إلى ألان بارك إلى بيت رحب الفناء جميل الشكل حيث أتم قصيدته: (النزهة). هنالك افترق الشاعران الصديقان كولردج ووردزورث، وذلك على أثر تعريض وردزورث بصديقه ووصمه إياه بالجنون الناتج عن إدمانه الأفيون، فكان لهذا أثر بليغ في نفس كولردج لم يطق بعده العيش معه، وبانتهاء صداقتهما انتهت حياتهما الأدبية الخصبة، ويندر أن تجد بين عيون قصائد وردزورث واحدة نظمت بعد ذلك الافتراق

وفي سنة 1811 انتقل شاعرنا إلى بيت مجاور لإحدى الكنائس حيث توفي اثنان من أولاده، إلا أنه لم يمكث هناك طويلاً، بل رحل سنة 1817 إلى بيته الجميل في (كدل ماونت) حيث أتيح له أن يلقى شخصيات ذات أدب جم ومكانة اجتماعية سامية؛ ولقد قام برحلات شتى أهمها إلى أواسط أوربا، وأخرى إلى سكوتلندا، وعلى أثر رحلته الأخيرة نظم خمس عشرة قصيدة تفيض بذكريات الطفولة وأحلام الشباب، منها قصيدته المشهورة (الحصاد المنعزل)

ولقد لبث طيلة هذه المدة مكلوم الفؤاد، حزين النفس، لما حل به من المصائب والويلات العديدة، ولما كان يلاقيه من جفاء وخصومة في الأوساط الأدبية. غير أنه حدث في سنة 1839 ما طيب نفسه وسرى عنه شجونه وهمومه، وشجعه في مبدئه، فقد عرّفه كيبل أحد كبار أساتذة كمبردج إلى إحدى الشخصيات الكبرى في البلاط، وأشاد بذكره أمام ذوي المناصب السامية، فذاع صيته بين الخاص والعام، وأحرز مركزاً رفيعاً في الأدب لا يقل عن مركز ملتن

وفي سنة 1842 منحته الدولة مرتباً سنوياً مقداره 300 جنيه تشجيعاً ومكافأة له؛ وبعد موت روبرت سذى سنة 1843 عرض عليه منصب شاعر الدولة، فرفضه في بدء الأمر لبلوغه الرابعة والسبعين، وقيل لأنه رأى صعوبة وعناء في نظم قصيدة في كل سنة يلقيها في عيد ميلاد الملكة كما جرت العادة قبله، غير أن رئيس الوزراء سر روبر بيل عاد وبعث إليه بكتاب نقتطف منه ما يلي:

(لما كانت صاحبة الجلالة توليك ثقتها الغالية فبادر بقبول هذا المنصب، وكن عند أملها فيك. وإنها لتتوخى بعملها هذا أن ترفعك إلى المركز الذي يليق بمقامك الأدبي والاجتماعي،

ص: 35

ما دمت في رأيها ورأي الجميع سيد الشعراء الأحياء على الإطلاق؛ فلا ترفض هذه النعمة)

وبعد ما اطلع وردزورث على هذا الكتاب الرقيق قبل هذا المنصب السامي فتُوّج بإكليل من غار، وأصبح خليفة ملتون الأوحد، ولم يُنتجْ بعد تبوئه هذا المركز الرفيع شيئاً خالداً، بل استولى عليه الخمول منذ زواجه، ومنذ أن بدأت الحكومة تمدّه بمعاش سنوي كاف. ومن القصائد المشهورة التي نظمها بعد ذلك الأوان واحدة ضمنّها ولاءه وشعوره نحو صاحبة الجلالة قدّمها إليها مع نسخة من ديوانه

وفي سنة 1847م تُوفيتْ ابنته (دورا) فعجلت بذلك وفاته. وكانت وفاته في الثالث والعشرين من أبريل (في اليوم الذي توفي فيه شكسبير) من سنة 1850م. وهكذا خمد ذلك النفس الذي كان يلتهب عاطفة وعطفاً على الفقراء وولعاً بالطبيعة

ولقد دُفن جثمانه في كنيسة في (قراسمير) - حسب طلبه - في حضن ذلك الوادي الذي نشأ فيه وترعرع، وبه تغّنى، وبذكره أشاد

ولقد أقيم له نصبٌ تذكاري من رخام في مقبرة الشعراء في (وست منستر أبى) تحيط به أنصاب تذكارية لكبلْ وأرنلد وكنجزلي وموريس، ونقش على هذا النصب الكلمات التالية:

(لذكرى وليم وردزورث الشاعر الملهم والفيلسوف الكبير الذي وُهبَ عقلاً نيّراً، ولساناً غنياً، ليتحدث إلى الطبيعة والبشر، الذي لم يألُ جهداً في نشر الفضيلة والكمال، والذي تغنّى وأشاد بذكر البسطاء والفقراء، فذاع صيته بين العام والخاص، وأصبح رسول الحقّ وربّ الشعر. لذكراه يشيد أصدقاؤه والمعجبون بأدبه هذا النصب التذكاري، لينطق بنبوغه على مدى الأيام)

الكرك - شرقي الأردن

جريس القسوس

ص: 36

‌صور من التاريخ الإسلامي

عبد الله بن الزبير (1 - 73هـ)

بقلم محمد حسني عبد الرحمن

تتمة ما نشر في العدد الماضي

وقد يكون من الإنصاف للحق والتاريخ أن نثبت هنا آراء غيره، ممن عاصروه، في أسباب طلبه هذا الأمر، وانهماكه فيه: يروي المسعودي أن ابن عباس كان يقول (أما والله ما عرفت عبد الله إلا صوّاماً قوّاماً؛ ولكني ما زلت أخاف عليه منذ رأيته تعجبه بغلاتُ معاوية الشهب؛ وكان معاوية قد حجّ فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء، عليها رحائل الأرجوان، فيها الجواري الحسان، عليهن الثياب معصفرات، ففتن الناس بموكبه)

وقال ابن الزبير لامرأة عبد الله بن عمر بن الخطاب: إنني لم أخرج ولم أطلب الخلافة إلا غضباً لله وللمسلمين من أثرة معاوية وابنه، فهم يستأثرون بالفيء دون الناس، ويستحلون محارمَ الله. قال هذا وسألها أن ترجو زوجَها في مبايعته؛ فلما جاء زوجها ذكرت له ابن الزبير وعبادته وجهاده، وأثنت عليه قائلة إنه يدعو إلى طاعة الله عز وجل وأطنبت في مدحه، ثم طلبت من زوجها أن يبايعه ويؤيده، فأجابها ابن عمر (ويحك! أما رأيت البغلات الشهب التي كان يحج عليها معاوية قادماً إلينا من الشام؟ قالت، بلى! قال والله ما يريد ابن الزبير بعبادته غيرهن!!)

فهذان اثنان من أقطاب الرجال في عصره، ومن ذوي الشرف والفضل والنزاهة في المسلمين، يقرّران أنه ما يبغي إلا الدنيا، وأنه يتّخذ من العبادة سلماً يرقى به إلى قلوب الناس، ليساعدوه على قضاء مأربه في الخلافة

والذي يمكن أن نستنبطه من ظروف الحوادث في ذلك العصر، أن سعيه وراء الخلافة كان مبنياً على طائفة من الأسباب إذا راعيناها جميعاً، أمكن التوفيق بين وجهات النظر المختلفة؛ فقد أراد أن يليَ أمور المسلمين، ليحقق نزعتَه ويشبع رغبته، وليعدل في المسلمين، فيردّ الأمور إلى حالتها الأولى، ويقيم الأمر بالقسط؛ فكأنه كان يبغي بذلك أمْري الدنيا والآخرة معاً

ص: 37

ومهما يكن الداعي إلى طلبه الخلافة، فإنه كان كفؤاً لها، وقد واتتْه الفرصة، التي لبث يترقبها زَمناً، بموت يزيد وابنه معاوية الثاني، ولم يبق في السفيانية من يقوى كاهله للقيام بأعباء الخلافة؛ وحينئذ نرى عبد الله يُهمّ بالعمل الجريء، فهو رجل الساعة، والظروف المهيَّأة تنتظر منه الوثوب والظهور، وقد كان ذلك؛ إذ دعا لنفسه على منبر الحجاز سنة 64هـ، ولم تلبث الدعوة الجديدة أن سرت في أنحاء العالم الإسلامي؛ فخطب له على كافة المنابر (بالعراق وخراسان والحجاز والشام) سوى بعض جهات بالشام كان هواها ما يزال أموياً

وهنا تقوم عقبة شاقة أمام الخليفة الجديد! فأهل الشام الذين لم يبايعوا قد أخذتهم نعرة العصبية لبلدهم، فيمشي بعضهم إلى بعض، وفيهم الرؤساء والقواد يتشاورون ويقلّبون الأمر على كافة وجوهه، حتى لا يُفلتَ الملك من أيديهم، ولا يخرج السلطان من بلدهم؛ ثم يسفر اجتماعهم وتشاورهم على أن يبايعوا لمرْوان، وإن لم يكن سفيانياً فإنه أموي؛ وهو بعدُ أرشد القوم وأحزمهم وخير من يسند إليه هذا المنصب من أهل هذا البيت، في مثل تيك الظروف؛ ولكن الضحاك بن قيس ومعه جنده يعارض هذه البيعة بشدة، يريد أن يتم الأمر لابن الزبير، فتقع الحرب بين الفريقين بالشام، وتلوح بشائر النصر للضحاك، فيعمد مروان الداهية إلى الحيلة (كما فعل معاوية مع علي سابقاً) ويطلب الهدنة، ثم ينقض بجنده على جيش عدوه بغتة، فيشتتهم، ويقتل قائدهم الضحاك (بمرج راهط). وبهذه الهزيمة تنطفئ دعوة ابن الزبير بالشام، وتقوم الراية المرْوانية تخفق في ربوعه

ولو أن الضحاك ساعده الحظ وانتصر في مرج راهط لتغير أمر الخلافة، ولمحيَت الدولة الأموية في أول عهدها، وانقلبت سلسلة التاريخ الإسلامي، فرويت على غير وجهها الذي ترُوى عليه اليوم

بعد هذه الموقعة أضحى للمسلمين خليفتان؛ أحدُهما بالحجاز، والثاني بدمشق، ولكن مروان تعاجله المنيةُ بعد قليل، فيلي الأمر من بعده ابنه عبد الملك سنة 65هـ. وكان عبد الملك حازماً وفيه صرامة، وله عزيمةٌ ورأي سديد، ولكنه مع هذا كله نراه يتهيب ابن الزبير؛ لما ثبت له في قلوب الناس من المكانة، ولأن كثرة الأقطار الإسلامية تؤيده. فكَّر عبد الملك في الأمر طويلاً، ثم طفق يُعد لحرب عدَّتها، فأخذ يحشد الجنود، ويعرضها بنفسه، وصمم أن

ص: 38

يحسم هذه المشكلة الخطيرة التي بينه وبين منافسيه؛ فيحسن بنا أن نتركه قليلاً يستقرّ في منصبه الجديد، وينظم جيوشه، ويرى رأيه، لننظر ماذا يفعل الخليفة الآخر مع الوفود التي كانت تأتيه من أنحاء البلدان وأقاصي الأمصار، لتُقرَّ بخلافته، وتجدّدَ بيعته، وتطلب منه العطاء وتظهر له حسن استعدادها لنُصرته وتأييده، ولنرى في الجملة سياسته مع جنده الذين هم عماد خلافته وسند دعوته

جاءه مصعب أخوه بجماعة من أعيان أهل العراق، بعد أن مهَّدها، وملك زمامها، وخاطبه قائلاً:(لقد جئتُك بوجوه أهل العراق ورجالاتها، ليؤكدوا لك البيعة، وليأخذوا منك العطايا!) فيدعوه حرصه أن يمنعهم العطاء ويقول لأخيه: (إنما جئتني بعبيد أهل العراق، يستنزفون بيت المال؛ لوددت أن لي بهم صرفَ الدينار بالدرهم!!). وكان هذا الردّ طعنةً نجلاء أصابت قلوب أهل العراق، فزلزلت خلافته ولما تزل في مهدها؛ وما فتئ يجري على هذه السياسة، سياسة الحرص والشحّ بالمال، مع التأنيب والزجر، وعدم التشجيع بالكلمة الطيبة - ولقد بالغ في تقتيره على الجنود أيما مبالغة، فكان أحياناً يقتصر على إطعامهم التمر، مع التقتير في صرفه لهم، فإذا فرُّوا أنَّبهم بقوله:(أكلتم تمري، وعصيتم أمري!) حتى قال فيه شاعرهم:

ألم تر عبد الله، والله غالب

على أمره، يبغي الخلافةَ بالتمر!؟

وكان يدعوه حرصهُ أن يقول: ماذا عسى أن أنتفع بالدنيا، وإنما بطني شبرٌ في شبرٍ؟ ويقول المسعودي: أظهر عبدُ الله الزهد وملازمة العبادة مع الحرص على الخلافة، وشبر بطنه. وليس من شك في أن سياسة التقتير التي نهجها هي سياسة عاجزة، لا تنتج إلا الهزيمة وسقوط الدعوة، وضياع الأمر، فلا يسعُنا إلا أن نقول إن هذا موطن ضعفٍ كبير، ما كان ليليق بطالب الخلافة، ولا سيما إذا وجد أمامه مزاحماً قوياً، وخصماً عنيداً كعبد الملك بن مروان!! إذ كيف يبذل الجنودُ في سبيله الدماء، ثم يضنّ عليهم بالعطاء؟ إن هي إلا الهزيمة الكبرى! وإذن فقد جنى على عبد الله بخله، حيث صرف عنه القلوب، فتحولت الوجوه إلى الخليفة الآخر، يجدون فيه ملكاً يكثر العطايا، ويكرم الوفود، ولا يُعزُّ الدرهم والدينار، بل يجود بالدنيا لتقبل عليه الدنيا؛ اتجهت قلوبُ الناس إلى عبد الملك، وشخصت أبصارهم إلى بريق نُضاره، فلما أنس بهذا، ووثق بضعف عدوّه من هذه الناحية، توجه

ص: 39

يقود جيشه الكبير إلى البصرة - وكانت لعبد الله مركز قوته، كما كانت الحجاز موطن دعوته - فلاقى بها أخاه مصعباً، ودارت بينهما رحا الحرب، فقُتل مصعب، وهُزم جنده، واستولى عبد الملك على العراق حصن الدعوة الزبيرية. وفي الحق أن عبد الملك ما قتل مصعباً، وإنما أرداه وهزم جيشه حرص أخيه على الدنيا، حرصاً نفر منه القلوب، فأسلمه أهل البصرة: وفروا إلى صفوف العدو، فقلّ ناصره، وراح ضحية التقتير وسوء التدبير

لم يبق بعد هذا إلا أن يلتقي القرنان ويتصادم الجيشان بالحجاز. فلندع عبد الملك ينظم أمر العراق الذي دخل في حوزته بعد النصر، ولنترك له فرصة يجهز فيها جيشاً آخر، تحت إمرة قائده الجبار الحجاج بن يوسف الثقفي، ليلقى به عبد الله في الحجاز. لندع كل هذا جانباً، لنشاهد موقف بني هاشم من خلافة ابن الزبير، وما صنع هو معهم بالحجاز!

كان ابن عباس وابن الحنفية وغيرهما يعلمون من قبلُ طموح عبد الله إلى الخلافة، وينكرون عليه في أنفسهم، بل كانوا يستكثرون عليه ذلك، ويرون أنه ليس أحق منهم بالأمر (وإن كان أحقّ من مروان وابنه) وكانوا يرون أن الذي يدفعه إلى هذا إنما هو الجشعُ والحرصُ على المظاهر الدنيوية (وقد ذكرنا حكاية البغلات الشهب عن ابن عمر وابن عباس) - لذلك لم يبايعوه، فحنق عليهم، وضيق خناقهم، حتى إنه فكر في الخلاص منهم، فحبسهم في شعب عارم، وجمع حولهم حطباً كثيراً، وهددهم بالإحراق، وكاد يقضي عليهم؛ ويقال إنه ما فعل هذا إلا خوفاً من تفوق الكلمة، واختلاف الناس، كما فعل عمر مع عليّ لما تأخر عن مبايعة أبي بكر، فقد هدده كثيراً

ولقد لجأ ابن الزبير إلى النفي عقاباً لمن تخلف عن بيعته، فأخرج محمد بن الحنفية من مكة والمدينة، ونفى ابن عباس إلى الطائف، وبهذا العمل العدائي مع بني هاشم، واضطهاده لهم، ضم سبباً جديداً قوياً إلى أسباب خذلانه، ولإفلات الأمر من يده، فكان بذلك مجانباً الحزم والسياسة الرشيدة

ويسير الحجاج ذلك القائد العنيد إلى الحجاز، فيستولي بعد مناوشات قليلة على جبل أبي قبيس الذي يطل على مكة ثم يحاصر البلد الحرام، فتتعطل مشاعر الحج، حتى إنه هو وجنوده وقفوا بعرفات ولم يطوفوا بالبيت ذلك العام، وطاف عبد الله ومن معه بالبيت ولم يقفوا بعرفات؛ وطال الحصار حتى سئم أهل مكة؛ ويقول الطبري إن الحجاج حصره

ص: 40

ثمانية شهور، ولم تزل الحرب بينهما حتى تفرّق عنه عامة أصحابه، وخرج أهل مكة إلى الحجاج بأمان، ولم يصبر مع ابن الزبير سوى نفرٍ قليل ممن بايعوه على الموت دونه

وفي يوم عصيب، من أيام الحصار الرهيب، يدخل عبد الله على أمه أسماء، فيدور بينه وبينها حوار رائع، يعرض عليها حاله وما آل إليه أمر أصحابه، ويطلب مشورتها، فتبذل له النصح، وتحثه على الاستمساك بما ولاّه المسلمون، وأن يدافع عن حقه إلى آخر قطرة من دمهِ، وألاّ يقبل من عدوه خطة يصحبها الذلُّ، وتقول له في عبارة حماسية مؤثرة:(والله يا بنيّ لضربةُ سيفٍ في عزّ، خيرٌ من ضربةِ سوطٍ في مذلةٍ) وتلهِبه هذه النصيحة، وتثير نخوته، فيخرج إلى العدو في قلة من صحبه، وفي كثير من جَلَدِه وإيمانهِ، وقوة عزمهِ؛ وحينئذ نقرأ في جهاده واستبساله أروع صفحة للبطولة الكريمة، والدفاع عن الحقّ الهضيم، صفحة يتجلى فيها البلاءُ الحسن، والصبر الجميل والاعتماد على قوة اليقين، مع ضعف العُدّة والعدد، ووفرة العدوّ وإحاطته، وتمكنه من ناصية الموقف. ملك الحجاجُ عليه أبواب المسجد الحرام، وحاصره فيه، فبات يصلي ليلته، ثم أغفى قليلاً، وقام يصلي الفجر، ولما انتقل من صلاته أخذ يستعد للنزال ليرمي آخر سهم في كنانته، وليموت بعده شهيد الوفاء لمبدئه، ثم قال لمن معه:(يا آل الزبير! لو طِبتم لي نفساً عن أنفسكم كنا أهل بيتٍ من العرب! أما بعد فلا يرعكم وقع السيوف. . . غضوا الأبصار عن البارقة، ولا يلهينكم السؤال عني، فلا يقولنَّ أحدكم أين عبد الله!. . . ألا من كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول، احملوا على بركة الله. .) وبعد أن بثَّ الحميَّةَ في قلوب من حوله، وألهبهم حماسة، حمل على عدوه بسيفين صارمين، يضرب بهما معاً، فيهزم الداخلين عليه من هذا الباب، ثم لا يلبث أن يتكاثر الهاجمون على الباب الآخر، فيصمد لهم، حتى يولوا الأدبار، فيوقع بهم، وهو يقول:(يا له من نصرٍ، لو كان له رجالٌ!!)

لو كان قرني واحداً أرديتُه

أوردتُه الموتَ وقد ذكيتُه!

ولم يزل يضرب القوم بصارميه ويشتت شملهم، حتى قُذِف بحجرٍ ضخم أصابه بين عينيه فخرَّ صريعاً، وتكاثر الجند على البطل المضرَّج بدمهِ الحرام، في المسجد الحرام، واحتزُّوا رأسه ولم يرْعَوا فيه ديناً ولا رَحماً

وكان مصرع البطل الشهيد سنة 73هـ بعد أن أدرك وطره وسلّم الناس عليه بالخلافة

ص: 41

زهاءَ تسع سنوات، كانت كلُّها خُطباً واستعداداً، وحرباً وجهاداً

وبعد فهذا بطل صنديد، وخليفة شهيد، نرى في طلبه الخلافة، وتعريض نفسه للمخاطر، إبان تلك الظروف العصيبة حدباً على المسلمين، وأنفةً أن يساموا الخسف من بني أُمية، ونوعاً من التضحية في سبيل الجماعة، كما نلمح في نفسه نزعةً ساميةً، وشرفاً وشجاعة، لا نجدها في كثير من رجالات عصره، فلقد كان هو رجل الوقت بلا منازع، لم يتوقع بنو أُمية الوثوب الظافر عليهم من غيره؛ ولقد صدقت فيه فراسة معاوية

والحق أن خلال عبد الله منذ تنشئته كانت ترشحه وتعده للخلافة، ولكن لأية خلافة؟ للخلافة المتقشفة الحريصة على أموال المسلمين أن تنفق في غير وجهها، لا تلك الخلافة المترفة التي تنغمس في النعيم، وتغمرُها أبهة الملك ومظاهر السلطان؛ ولو لم يرْنُ عبد الله بطرفه إلى هذا المركز السامي، لكان ذلك غريباً عن طبعه، مناقضاً لنشأته، وعلو همته وطموحه؛ فلنسجل له ثورته العنيفة الدامية على من طلبوا الملك والدنيا باسم الخلافة الإسلامية العتيدة

(ميت غمر)

محمد حسني عبد الرحمن

ص: 42

‌نحو الفجر

للأستاذ عبد الرحمن شكري

المقدمة:

إن الذي يأمل للإنسانية فجراً تنجاب فيه ظلمة الضيم والشر، يرى في فجر كل نهار رمزاً له ووعداً به؛ فيتعلل بهذا الرمز ويتنظر إنجاز الوعد آملاً أن النومة التي يحدث فيها للإنسانية كابوس من الأضغان والأذى والتنابذ والكيد، والاستهتار في العبث بالحق، يكون فيها أيضاً نسيان لخصالها الوضيعة يدركها من طريق سنة النوم فتستيقظ في خلق الحق والخير (الناظم)

أرقتُ فطال الليل أم طال بي عمري

كأن انجياب الليل في موعد الحشر

كأنِيَ في لج من الليل غارق

سوى هدأة لم تُلْفَ في لجج البحر

كأني غريب من حراك لواعجي

بِعَلِم صمت غاله الصمت من سحر

كأن غصون الدوح في حندس الدجا

رءوس ثكالى أرسلت أسود الشَّعر

كأن النجومَ الغانياتُ تَرَهَّبَتْ

تبيت طوال الليل تعبد في دير

أو الفلُّ مزروعاً بحقل بنفسج

وكاللازورد الأفق رُصِّع بالدر

أو أنَّ ثقوباً في جدار زبرجد

تَطَلَّعُ منها الغيدُ يشرِفن من خدر

أُقَلب طرفي بينها مُتَفَهِّماً

تَفَهُّمَ معنى اللفظ في صفحة السِّفر

كأن الدجا دَيْرٌ به البدر راهب

جميل المُحَيَّا حوله هالة الحبر

كأن صقيعاً قد كسا الأرضَ نورُه

أو أن عليها أبيض الطُهر ما يمْرِي

كأن فراشاً أبيضاً مَدَّ نُورُه

مهاداً لروح أو شبا كامن السحر

أما يذهل الراؤون من سحر ضوئه

وقد تحسب الأحلام تسري وما تسري

وإن تكُ أحلام فأوهام خاشع

عراه جلال الحسن في الليل والبدر

أيحلم هذا الدوح في سحر ضوئه

فقد خلته من هدأة النوم في أسر

كأن حفيف الدوح أضغاث حالم

أو أنَّ حديثاً بينه خافت السر

أدور بعيني لا أرى غير ساكن

فأين احتيال الناس بالغدر والمكر

وأين نشاط القوم للهو والهوى

وأين مساعي الناس في الخير والشر

ص: 43

ألا ليت نسياناً كذا النوم ساقياً

يدير لهم كأساً ألذ من الخمر

لتذهلهم عن كل شر وفتنة

فيستيقظ النُّوّامُ في خلق الطهر

خواطر آمال أُسَلِّي بها الدجا

وتمضي مُضيَّ الليل أو طيرة الطير

فلما تَقَضَّى الليل وانجاب جنحه

رأيت صباحاً يصبغ النبت بالتبر

تَشُوب اخْضِرَارَ الروض صفرةُ ساطع

من الضوء مثل الغيد في حلل خُضْر

كما تينع الأثمار شاب اخضرارَها

لدى النضج لونٌ في غلائلها الصُّفْر

كأن نبات الزهر من نبت جنة

رمى مَلَكٌ من أفقها الأرض بالبذر

أظل وطرفي في مدى الأفق ذاهل

أحاك عليه الفجر وشياً من السحر

ويرنو إليَّ الفجر من خلف ظلمة

بنور كما شَفَّ الرماد عن الجمر

كأن مَماتاً في الدجا أهلك الدُّنا

فتبعث فيها الروح في وضح الفجر

كأن كيان الكون يخلق ثانياً

فإن انفجار الفجر كالخلق والنشر

تخال تباشير الصباح أزاهراً

إذا ما بدت فوق الشجيرات كالنَّوْرِ

فيختلط الزهران حسناً ومنظراً

ويزداد نِظْرُ الحسن من مشهد النِّظْرِ

تحَدِّث أنباء السماء بمشرق

من الضوء مثل الرُّسْل تُبْعَثُ بالخير

تبادهنا منها محاسن جمة

كما باده الأذهان من حَسَن الفكر

تفض ختام النفس عن كل ذكرة

وكم ذِكَرٍ في الضوء والزهر والعطر

تذكرنا الآمال والحب والصِّبَى

كأن رواء الصبح ضرب من الشِّعر

كذلك يغدو منظر الحسن ذكرة

وخاطرة في النفس تُسعِدُ في الضُّر

وتستيقظ الأرض النَّؤوم إذا حنا الص

باح عليها يلمس الثغر بالثغر

كما استيقظ الطرف المُغَمَّضُ بعدما

أريق عليه ساطع من سنا البدر

تحن إليه النفس من بعد ظلمة

فتحكي حنين الطير تهفو إلى الوكر

ترى الصبح يجلو النهر كالقين سيفه

ويذكي الندى فوق الشجيرات كالدر

أُطِلُّ بأفكاري على النهر مثلما

لدُنْ هدأة يحنو النبات على النهر

تصب عليه الشمس رقراق عسجد

فيعلو لجينَ النهر نهرٌ من التبر

ترى تارة في متنه الماَء راجفاً

كما ارتعدت أبشار غيدٍ من القُرِّ

ص: 44

وتحسب أن النهر يشعر بالذي

يعالج من حالَيْه في القر والحر

ترى النهر مثل العين سحراً وبهجة

ويُمْلأُ مثل العين بالصُّورِ الكُثْرِ

يبوح بسر الحسن لونٌ مجدد

ولولاه ما ألفيت في الكون ما يُغري

وأروعه ما كان منه فجاءةً

فجاءة صبغ النهر من سُحُبٍ حُمْر

وليس رواء الكون في الصيف وحده

فرب شتاء ناثر أيما ذُخر

جلال يريح النفس من بعد رونق

نصيبك من سحرين في الحر والقر

على أن ذكرى الصيف فيه جلية

ففي النهر من ذِكرٍ وفي الروض من ذكر

وقد يحلم المحروم باليسر واللهى

كذلك حلم الأرض بالصيف واليسر

فلما تقضي الليل يحدو لواعجي

وذكرى طيور الصيف تهزج في صدري

أخذت نصيباً من جَدَى الفجر وافراً

فنهنهت آلامي وأرخيت من صبري

وأملت للدنيا صباحاً مؤجلا

سيكشف عنها ظلمة الضيم والشر

فكل صباح رمزه ومثاله

ووعد به يحدو إلى الزمن النضر

نسر بنعماه وإن لم تكن لنا

وننشده فيما يكون من الدهر

عبد الرحمن شكري

ص: 45

‌المثل الأعلى في السينما

حياة عبقرية متألمة

اللحن الذي لم يتم

للأستاذ خليل هنداوي

- 1 -

قد يكون الإقبال على هذا الفلم الناطق بالألمانية ضعيفاً، لأن مخرجه لم يترك مجالاً للمادة تعبث بالفن، وللمصلحة تغلب على العاطفة، وللعبث تسطو يداه على (مثل أعلى) ألفته عبقرية - أقامت في الأرض عمرها - بمداد روحها ودماء قلبها. على أن هذه الحياة قد فسدت، ولم يبق خالصاً ظاهرها ولا باطنها، فالقوم قد لجوا من صراع المادة المستحوذة عليهم، وهم الذين تركوا لها مجال التسيطر، تفر منهم، وهم إليها يفرون! وقد آل بهم هذا الصراع الدائم إلى أن يعموا عن جوهر الحياة الذي وضعته الحياة على أبنائها يوم كانت، فهم من صراع إلى صراع، ومن نزاع إلى نزاع، لا ترتاح لهم جنوب ولا تستقر مضاجع. أحلامهم طافحة بالعراك كيقظاتهم، وليت شعري لِمَ هذا العراك، وليت فيه هذا النزوع إلى محجة الحياة، فهم مضطرون إلى تهدئة أعصابهم المجنونة وقلوبهم الثائرة باللهو واللعب، يطلبون اللهو متى انتهوا من جدهم، ويتوخون العبث متى خرجوا من دائرة عملهم. لهو كثير وجد كثير تذوب بينهما حياة شفافة في سبيل الحياة البهيمية! وقد شعرت السينما بتعب الإنسانية وأحست بضناها، فأحبت أن تسعفها في جهادها، وتريها ومضات تلمع وتخبو في جنبات (الشاشة البيضاء). فهي تتشبث بالألحان والحسان ومظاهر الخيال الذي لا ينطبق على حقيقة، لتفرِّج عن هذه الإنسانية المنكوبة، ولكنه دواء من ينقش الشوكة بشوكة، وينير للشمعة سبيلها بذوبها. لأن مثل هذه الألحان المضطربة والنجوم الساطعة الخابية سرعان ما تفقد تأثيرها لأنها لم تصب هدفاً معلوماً ولم تطرق نهجاً مرسوماً

قد تكون السينما للأدب حليفة وقد تكون عدوة، لأنها تريد أن تهضم (الأدب) وتبلع زاد

ص: 46

العقل لتحمله للناظر عن طريق العين، فهي مساعدة للأدب على خلق (المثل الأعلى)؛ وباعثة في الأرواح مختلف الأشواق والحنين إلى ربوع (المثل الأعلى)، ولكن من المخرجين من لا يبالي بهذا المثل ولا يسمع صوته، لأنه يريد أن يقبض على عيون الناس وجيوبهم، وهذا هو الأديب التاجر، ومنهم من يؤمن بهذا المثل، ولكنه لا يجد الفرصة سانحة لمثل هذا النوع. فهو يُلقي الومضة إثر الومضة لأنه لا يقدر أن يتبرأ من كل ما يجيش في صدره، ولكن أكثر بضاعته بضاعة يرضى بها رؤساءه. ورؤساؤه يعرضونها ليكسبوا بها جنوداً ونقوداً، وهذا هو البائس المداري، ومنهم من بلغ إيمانه بالمثل الأعلى مبلغاً عظيماً، يخرج من الروايات ما تؤمن به روحه، ويخلق فيها شيئاً جديداً متدفقاً لأنه يعمل بقلبه لا بيده، وهذا هو من يشفق على هذه الإنسانية، ويريد أن يحملها على أجنحة صوره وألحانه - ولو ساعة - إلى عالم المثل الأعلى؛ يريها ما هنالك من نور طافح وأمل خافق. والجالس إلى أفلام هذا المخرج ليجد نفسه وقد انسلخت عنه بغير شعور منه إلى عالم شعري بعيد، ما كان حامله إليه إلا فكرة سامية نقلتها أشعة العين إلى القلب فهام واستُهيم. . . إن مثل هذا المخرج يعطي أكثر مما يأخذ، ويهمه من الناس قلوبهم قبل جيوبهم

مرّت بي هذه الخطرات وازّاحمت في نفسي يوم رنت عيناي وخشع قلبي لهذا (اللحن الذي لم يتم) أراه للمرة الثانية، وقد تجردت روحي عني لتتسامى في هذا اللحن ما شاء لها التسامي

- 2 -

هذا اللحن أو هذا (الفِلم) ترجمة دقيقة لفصل من حياة (شوبير) الموسيقي النمساوي الذي لم تفض عليه الحياة أجله (1797 - 1828) لكنه فصل مشحون بكل ما يتمثله فكر عن فنان. وسأعرض عليك هذا الفصل لتتلمس فيه هذا المثل الأعلى الذي نجح المخرج في إظهاره. وإنما هو حياة فنان يشق طريقه إلى المجد بأوتار قيثارته وأنامل (بَيانه) البيضاء، وتاريخ صراع هذا العبقري للمصادفات والأقدار التي انتصر عليها

نحن الآن في منزل (رهون) تجتمع فيه البذلة الثمينة بجوار تمثال (نابليون) والقيثارة الجريح بقرب الحسون في قفصه (رهين المحبسين!) تتسلم هذه الأشياء فتاة جميلة، لامعة

ص: 47

العينين، لا تقدر قيمة الأشياء إلا بحسب قائمة عندها

يطل على النافذة فتى تكاد تيبس عضلات وجهه المتصلب، على عينيه نظارتان، يمد قيثارته التي طالما ملأت ألحاناً، وأشبعت وحدته أماناً، يقدمها بيد مرتعشة ليرهنها، يجد ثمن الرهن ضئيلاً فيراجع الفتاة الجالسة فتجيبه: هذا هو الثمن المحدد! ولكن صوتاً يهيب بها في داخلها، وإنما هو صوت الحنان على الفن الذبيح. . . فتزيد الثمن وتدعو الله أن يذهل والدها عما زادت، ليتسنى لصاحب القيثارة أن ينتفع ببدل قيثارته. فيأخذ الثمن ويحصيه بعد خروجه فيجده أكثر مما قالت، فيعود بقلبه البسيط، فيعثر بالفتاة خارجة وتخبره أنها شذت معه إكراماً لفنه؛ وإذ يسمع - شوبير - ألحاناً تأتي من بعيد فينطلق وراءها وهي تقودها إليه عاطفة غريبة، فتسأله سر ابتهاجه بهذه الألحان، فينبئها أنها ألحانه يرددها الصبايا الحانيات على الماء

- إن ألحانك ترددها (فينا)؟

- أجل! ترددها (فينا)

- أنت سعيد إذاً شوبير! ولابد أنك غني

- أما الغنى فلا

- ولماذا تثابر إذن على التلحين؟

- وما يكون عمل شوبير في الوجود إذا انصرف عن التلحين؟

- وهذه الأبيات الرقيقة التي أسمعها أهي من (جيته)؟

- لا!. ومن هو جيته؟ إنني لم أسمع به قبل اليوم

- إنها من نظم صديقي (موللر)

- عجيب، ألا تعرف (جيته)؟

وهنا يعودان على آثارهما فتثب إلى غرفتها وتقذف له على طريقه بديوان (لجيته) فيأخذ الكتاب، ويلتهم ما في الكتاب ويتلو ذاهلاً غافلاً؛ يخطر في الشوارع وعيناه شاخصتان في الكتاب، ويدخل قاعة الدرس وطلابه في حرب يعلنها بعضهم على بعض، سلاحها الأوراق والكتب وإهراق المداد! وقد تصيب دواة قبعته فتطير عن رأسه فلا يشعر: ولكنه لا يكاديستقر في مكانه حتى تهدأ الجلبة وتقر الحركة، فيعجبه هذا السكون ويشكر طلابه

ص: 48

عليه، فيبدأ درس الحساب ويكتب على اللوح الأسود بادئاً بجدول الضرب، ولكن هذه اليد تتحرك بغير وعي وتنتقل بغير إرادة. لأن القلب الموسيقي الذي أطل عليه من وراء (جيته) قد استولى عليه، فيده تسطر وقلبه يلحن، وما هي إلا لحظة حتى كان الطلاب من ورائه يرددون اللحن الذي سطره! وإذا بدرس الحساب يتحول إلى درس موسيقى! فيسمع الرئيس الألحان شائعة في الفناء، فيطرق غرفة (شوبير) فيجده لاهياً وطلابه بهذه الأغنية، فيطلب إليه أن يهرع إلى مقابلته، ولكن هذه المقابلة التي يتخيلها الناظر عثور جد وسوء طالع، قد هيأت لشوبير أن يقابل (مدير الأوبرا) في (فينا) المعجب ببراعته، وهو ينتظره في بهو الرئيس يحمل إليه دعوة إلى منزل الكونتس (دي رنسكي) ليعزف في إحدى سهراتها الموسيقية الحافلة التي تقيمها كل خميس وتجعل من منزلها ملتقى أرباب الفن وأنصاره. وجدير بمثل هذه المقابلة أن تفتح أمام (شوبير) مستقبلاً زاهياً مضموناً. ولكن أنى له أن يخشى هذه الحفلة وليس عنده رداؤها. وقد طرق بيت الرهون فرده صاحبه خائباً، لأنه لا يملك ما يفك به رهينة، ولكن الفتاة الهائمة بفنه أعادت إليه رداءه وقبعته لتحقق له ظفره في هذه الليلة

كان بهو (الكونتس) يعج بالزائرين والزائرات ممن سما بأرواحهم الفن والموسيقى؛ وفجأة دخل (شوبير) منتفخ الرداء ساطع الوجه، يلمس غده بيده. ولكن نشوة السرور قد أذهلته عن أن ينزع (علامة الرهن) عن ظهر الرداء. فمر وعيون القوم رانية إليه، تتغامز عليه. فقبل يد الكونتس وحطم بخيط (العلامة) تمثالاً عزيزاً علق به، ولكن الكونتس لم تزد إلا ترحيبا به

جاء دور (شوبير) ومرت أنامله على (البيان) أنشودة أبدعها لمثل هذه الساعة. وأودعها كل ما يختلج في صدره من أماني وأشجان. فترى القوم سكارى وما هم بسكارى! فتدخل - خلال ذلك - الكونتة استركاز الفتاة الحسناء وهي متأخرة، فتأخذ مقعدها وتصغي بروحها المرحة إلى هذه النغمات، فتسأل فتاها فيجيب همساً: إنه (شوبير) فلا تفهم. فيكتب على صفحة مرآتها بعد ذر (البودرة) أحرف (ش وب ي ر) فلا تفهم. . . وتنفخ على اسمه فيطير. ولكن أوضاع جلوس شوبير على البيان تهيب بها إلى الضحك فتملك نفسها فلا تقدر، فترسلها ضحكات عالية تنال من عزة (شوبير) فيرمقها شزراً، ويغلق البيان بعنف،

ص: 49

ويهب من مقعده لا يملك نفسه المهتاجة، فيدركه (مدير الأوبرا) فيجيبه بإباء وأنفة:

- أنا لست ممن يعزفون وهم يضحكون!

وانطلق وقد ترك في المنزل، زوبعة، وصاحبة المنزل تقول للفتاة (ومما يؤسف له أن المقطوعة لا تبعث على الضحك)

تلك عزة الفن دعته فأجاب، وهو يقدر أنه قاتل مستقبله، وداع البؤس إلى ساحته، ولكن ما همه بمستقبله وبغناه إذا كان الفن يحيا في منزله مهاناً ويرضى بهوانه؟ أليس هذا المثل يضرب لكل فنَّان معنى العزة ويبعث فيه الكبرياء؟

خرج (شوبير) دامي القلب، ولكنه عنيف الثورة شديد النقمة على هذه الغادة التي حالت بينه وبين إتمام لحنه. . . آب إلى غرفته بأمانيه المهزومة كالقائد المنكسر يعود بفلول جيشه وأوسمته القديمة، فألفى غادته الأولى في انتظاره، وهي لم تكن لتحب أن تراه مقطباً عابساً، جلس إلى البيان يعاود ذلك اللحن الطائر، فلا يكاد يشرف على المهوى الذي تعالت فيه ضحكة الساخرة، حتى يتمثل أن ضحكتها تملأ جو غرفته، فيهب مذعوراً يسد أذنيه، وكأن يداً سحرية تحول بينه وبين الانتقال إلى المهوى الثاني. وبعد محاولة غير مجدية غادر البيان والبيان يضحك، وجدران الغرفة تضحك، وهي في قرارة ضميره تضحك. . .

كلفه هذا الحادث كثيراً، فقد أخرجوه من المدرسة، وحرموه الخبز الذي يأكله، فألحف الدائنون في الطلب، ولج الأصدقاء في الهرب. وشفعت له (فتاته ايمي) عند (مدير الأوبرا) ولكن هذا قد قُدَّ قلبه من جماد!

- كن لطيفاً معه

- أنا لست بلطيف

- لا تهجر شوبير!

- إنه يستحق

- ولكن اذكر أن (فينا) تترنم بأغانيه، فأين أغانيك؟

بمثل هذه البساطة وهذه الحدة كانت تجادل (ايمي) مدير الأوبرا لاستمالته إلى معاضدة (شوبير) ولكن العبقرية كتب عليها القدر ألا تخط طريقها إلا بدماء القلب الجريح، والشقاء الدائم، فليمش (شوبير) على طريق العبقرية. . .

ص: 50

- 3 -

طلب أحد الأمراء الموسرين في (هونفريا) إلى شوبير أن يقدم عليه ليعلم فتاته الموسيقى، فارتاح لهذا الطلب وأيقن أن الأمل طفق يبسم له، فودع (ايمي) ووعدها بأن يكاتبها وسار وراء الأمل الجديد

دخل المنزل فاستقبله الوالد بابنتيه (ماريا وكارولين). نظر شوبير في وجه (كارولين) فأدرك أن هذا الوجه هو وجه الساخرة، فاربّد وجهه وتقلصت شفتاه. ولكنه هدأ نفسه وكظم غيظه. وغادر الوالد المكان، وعدت وراءه (ماريا) لأنها لا رغبة لها في الموسيقى، وخلا له ولها المكان

قالت كارولين باسمة:

- أريد أن أعرفك، لأنني جعلت درس الموسيقى سبباً!

- أتودين أن تسخري مني أيضاً؟

- لا يا شوبير! أريد منك أن تغلق هذا البيان

فدنا شوبير من البيان وأغلقه بهدوء، فضحكت كارولين وقالت:

- في إمكان الإنسان أن يغلقه بدون ضوضاء! قد شعرت بخطيئتي العظمى، وإني لأرجو أن تصفح عني. . .

- قد صفحتُ!

- إذا سنبدأ غداً. . .

وفي اليوم الثاني كان (شوبير) يلقي على تلميذته قواعد في الموسيقى وفي الإيقاع، ويبدي لها أن الإيقاع هو حياة الموسيقى وأصل توازن ألحانها؛ ويعرض عليها مقطوعة صغيرة له تتلوها بصوت عال، فتتلو السطر الأول والثاني ثم يتعالى صوتها شادية مرنمة يتلاشى أمام نغماتها ونبراتها عزف البيان ولحن القيثار، فيذهل شوبير وأي ذهول! ويتصاغر أمام جلال هذا اللحن المتناسق؛ حتى انتهت من تلاوتها وجاءت على هذه الكلمة (وهي مقطوعة مهداة إلى الفتاة ايمي) فثارت في نفسها غيرة عميقة، لأنها كانت تشعر بأن هذا الفنان يجب أن يكون لها وحدها، فطلبت إليه أن يقدم لها في المرة الثانية من أغانيه ما لا تشركها فيها امرأة! ولتكن تلك الأغنية التي لن تكمل. . . ولكن هذه الأغنية ظلت غير تامة لأنه لم

ص: 51

يستطع أن يتمها

قالت له كارولين في إحدى خلواتها:

- سمعت بأنك تختلط بعمالنا في المزرعة في جلسات طربهم وأني لأربأ بأستاذي أن يغشى هذه المجاميع الساقطة

ولكن شوبير كان يستوحي الفن حيثما كان، ويعتقد أن الفن يسكن في الأكواخ، وفي الجماعات المنحطة، وفي التراب. وظل يغشاها كعادته، حتى فجأته يوماً في مجلس لهؤلاء (الغجريين) الذين تخذوا الحياة عزفاً وطرباً، وقذفوا بهمومها من وراء ظهورهم. فجأته وهي ترتدي رداء (الغجريات) وعلى وجهها تطفو بهجتهن وسرورهن. فرقصت حتى بات المكان كله لا يتسع إلا لقدميها. رقصت حتى أعيت، ودنت منه تنشد مقطوعة رقيقة تدعو إلى الاستسلام الذي تولده الغبطة الكئيبة:

(قل انك تحبني؛ قل بدون انقطاع

قل انك تحبني قليلاً. . .

كلماتك هذه تبعث الغبطة في نفسي، والراحة في قلبي

عيناك هما السبيل الجميل حيث يتوارى حلمي

قل انك تحبني، واكذب إذا وجب الكذب. . .

قل ذلك. . . لأنك - إذا سكتَّ - تسلمني إلى الموت)

وجدير بمثل هذه الأغنية الرقيقة أن تذهلها عن نفسها، وأن تغيب أستاذها عن وعيه. فيلثم يدها، والزوبعة لا يزال هزيمها بين الأغصان. فغادرت المكان راكضة بين المروج الذهبية التي هي قبلة العشاق، ومرتجى أصحاب الوحدة، فتبعها ليرجع إليها نقابها

- قفي يا كارولين. . . لقد نسيت نقابك. ما عسى يقولون في القصر إذا عرفوا؟ لماذا جئت؟

- ألا تعرف أنت حتى الآن. . عانقني يا شوبير!

وهنا ضمتهما قبلة عميقة لم تشهدها إلا السماء. ولم تسمع همسها إلا الأزهار والأعشاب. . . . أذهلتها عن نقابها الذي سقط على الأرض فعادت بغير نقاب

- 4 -

ص: 52

أدرك الأمر والدها، ورأى في فتاته ميلاً إليه قد ينتهي بالزواج. فأحب أن يحول بينهما، فصرف (شوبير) صرفاً أدبياً ليعود إلى عزلته الأولى. وشوبير في كل غيبته لم يذكر (ايمي) بكتاب. لأن كفة (كارولين) رجحت على كفتها. فلم تستقبله (ايمي) ولكنها سمعت أنه يكاد يغدو مجنوناً. وهو في كل يوم يرتقب كتاباً من (كارولين) وهاقد دب اليأس في نفسه بعد انتظار ثلاثة أشهر، وهاقد أشفقت (ايمي) عليه فهرعت إليه بدون إرادة ولا عزيمة. . . . وفي لحظة حضورها وردت عليه بطاقة من القصر تأمره بالحضور العاجل. فما قابل (ايمي) إلا ليودعها وتودعه

- ايمي! كوني سعيدة إنني مسافر، سوف أبعث إليك بأنبائي

انطلق (شوبير) ولا يعرف ما كُتب له. فشاهد في القرية حالة غير معهودة؛ أجراس تدق، وثياب بيضاء ترف. وأغنٍ تتعالى. إنه عرس (كارولين) أجئتَ يا شوبير لتودع كارولين؟

لم يكن صاحب البطاقة المرسلة إلا (ماريا) أخت (كارولين) دعت (شوبير) ليحضر حفلة زفاف أختها. وليصفح عنها لأنها كفَّرت عن وزرها بالبكاء الطويل، ولكنها أذعنت لوالدها مضطرة غير مختارة. . . وقد وقف (شوبير) بين الجموع يشهد مرورهما أمامه

وقفت (ماريا) فجأة بين جموع المهنئين في بهو القصر، تعلن أن (شوبير) يريد أن يهنئ العروسين (فدخل شوبير وقد رنت العيون إيه، ومشى حتى بلغ موقف (كارولين) وقال لها: (يا سيدتي! هل تتفضلين بأن أقدم تتمة اللحن الذي لم يتم تقدمة لك في يوم عرسك؟) واختلف إلى البيان يردد اللحن الأول (وكارولين) بين الجموع تنتفض طوراً وتختلج تارة تحت تأثير الذكريات الهافية حولها. تفيض على قلبها مرارة، وعلى محجريها تطفح دمعتان. وما كاد ينتق (شوبير) إلى تتمة المقطع، وقد اختلفت النغمة، وامتزج الجلال بالجمال، ونطقت العاطفة، وغلب القلب على الأنامل، حتى سقطت (كارولين) مستخرطة في البكاء في الموقع الذي قاطعت شوبير بضحكتها. فانفض الجمع وأخذوا المريضة. وشوبير مُسمَّر في مكانه لا يتزحزح. وبعد برهة عاد إليه زوجها يقول له:(إنها تحسنت قليلاً وتود أن تقابلك). عادت كارولين ووجهها مقنع بكل ما رسمت على وجهها الحياة منذ طفولتها حتى الساعة. فالآمال مجاورة للآلام. واليأس مؤتلف مع القنوط: إنه وجه حياة كاملة

ص: 53

- شوبير! هذه مقطوعتك أرسلها إليّ

- ولِمَه؟ أنها مكتوبة للجميع

- عش سعيداً يا شوبير! ولا تحزن. إنك تملك شيئاً هو أسمى من كل شيء. . . هو الفن الذي يعطيك الخلود

طفرت من عينها دمعة، وانصرفت راكضة لأنها لا تستطيع أن تقف أمام هذه السحابة الجارفة التي يسوقها فن عميق سامٍ جارف

عاد (شوبير) إلى لحنه، فأبقى ما عزفه، ومزق تتمة اللحن، وكتب حول ما مزقه:(ليكون دليلاً على حبي الذي لا ينتهي، جعلتُه لحناً لا ينتهي). وخرج (شوبير) يسلك الطريق الذي أبصر أحلامه الواثبة، والآن يبصر نفسه المكتئبة؛ وما زال يقذف به السير حتى وقف على تمثال (مريم العذراء) وهنالك تمازج كل ما فيه من عوامل متضادة، من يأس ورجاء. من غبطة وكآبة، وفن ومثل أسمى، لتؤلف هذه العوامل (أنشودة السلام الملائكي) التي خلدت شوبير في عالم الموسيقى. .

(السلام الملائكي)

سلام عليك يا مريم! يا ملكة السماء

إليك ترتفع صلاتي، وأرى العطف في عينيك

وفيك أيتها الطاهرة أضع رجائي

ولدي كان مخفف بؤسي، ومعزى فاقتي

إنه تألم، وا أسفاه، إنه قضى

افهمي دموعي أنتِ، يا من كنتِ أماً

وأعيدي إليّ طفلي البائس. . .

سلام عليك يا مريم! إن ولدي جميل

كنتُ به مختالة معجبة. . .

باركي سريره الصغير. . .

إنه كان خيري، بل خيري الوحيد

إذا أصابني الله في غضبه

ص: 54

فاعطفي أنتِ على الصغير البريء

واستجيبي لي. . . إنني أُم

تطلب الموت في سبيل ولدها

سلام عليك يا مريم

أرى طفلي ولد ثانية بالصلاة

كأنه الزهرة العاطرة، والمنحة الجميلة،

والجمال الجذاب، والسر المقدس،

انظري إليّ! أنت يا موضع أملي!

ولدي! إن جبينك ليسطع نوراً. . .

شكراً لك أيتها الأم الإلهية

أنتِ التي أنقذتِ ولدي

سلام عليكِ يا مريم. . .

هي مقطوعة تناجي بها أُم ثكلى (مريمَ) وتبثها شكواها. وقد برح بها الحزن وأمضها الألم. والآن تغلق قلبها المفتوح وتطوي ألمها المنشور، وتحس براحة نفسية، تصافح الألم فلا تراه شائكاً، بل هي الآن أوسع صدراً للألم لأنه لا يطغى على إيمانها. وقد تكون هذه الفكرة فكرة فنان شاعر يناجي مثله الأعلى الذي وجد فيه أمله الأسمى. فهو يحمل نفسه المجرّحة يريد أن يلقى لها منزلاً تنزل فيه، فيجد الأبواب كلها مسدودة، وهاهو ذا الآن على طريق المثل الأعلى الذي سلخه عن الوجود

قد تلاشى الحب في (شوبير) وانطفأت جذوته الملتهبة، وابتعدت ذكرياته العذبة. لا لأن شوبير محب كاذب يسهل عليه الاتصال والانفصال. ولكن شوبير قلبه قلب فنان، وقلب الفنان كبير، قد ارتسمت - على قلبه - كل أشواقه الماضية، وآلامه الغابرة وسرت معه لتؤلف (ذلك المثل الأعلى) بفنه الذي - كما قالت كارولين - إنه وحده يعطيه الخلود

وقد يتسائل القارئ: أما وقد عاد شوبير خائباً، فكيف التقت به (ايمي) فتاته الأولى؟ بقيت نقطة غامضة لم يعالجها المخرج ليترك المثل الأعلى منتصراً على كل شيء

- 5 -

ص: 55

قد لا تروق هذه النتيجة للبعض، لأنهم يتلقونها بعقولهم وعقولهم لا يرضيها شيء من غذاء العاطفة، ولا تقبل إلا بما فيه غذاء لمنطقها، ولا يغذى منطقها إلا عالم الواقع الملموس. . . ولكن فاتهم أن هذا العالم الواقعي قد بدأت تطفو عليه عوا الاضمحلال لأنهم قتلوا فيه كل مثل، سواء ذلك المثل الذي يوحيه الفن أو يوحيه الشعر

لا يحمل الناس من هذه الوهدة التي نزلوا فيها وهذه المادية التي استغرقوا فيها إلا الإيمان بالمثل الأعلى فهل نرى - السينما! - تقف يوماً أمام الفن والشعر جنباً لجنب، لتؤدي ما عليها من التبشير بهذا (المثل الأعلى)؟

خليل هنداوي

ص: 56

‌9 - شاعرنا العالمي أبو العتاهية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

زهده وتكسبه بالشعر:

كان أبو العتاهية مع زهده لا يترك التكسب يشعره، وإذا رجعنا إلى حاله في ذلك وجدناه لم ينقطع عن بني العباس وقبول جوائزهم من عهد المهدي الذي ابتدأ اتصاله بهم فيه، إلى عهد المأمون الذي انتهت فيه حياته، وقد طعن عليه بذلك في زهده كثير من منافسيه في الشعر وغيره، وحملوا ذلك منه على الرياء والمخادعة، وقد أنشد المأمون بيت أبي العتاهية يخاطب سلماً الخاسر:

تعالى اللهُ يا سَلَم بن عمرو

أذلَّ الحرص أعناق الرجال

فقال المأمون: إن الحرص لمفسد للدين والمروءة، والله ما عرفت من رجل قط حرصاً ولا شرها فرأيت فيه مصطنعاً. فبلغ ذلك سلماً فقال: ويلي على المخنث الجرار الزنديق، جمع الأموال وكنزها، وعبأ البدر في بيته، ثم تزهد مراآة ونفاقاً، فأخذ يهتف بي إذا تصديت للطلب. واجتمع أبو العتاهية مع جماعة عند قُثَم بن جعفر بن سليمان فأخذ ينشد في الزهد، فطلب قثم الجماز فأحضر إليه وأبو العتاهية ينشده، فأنشأ الجماز يقول:

ما أقبح التزهيد من واعظ

يزهِّد الناس ولا يزهّد

لو كان في تزهيده صادقاً

أضحى وأمسى بيته المسجد

يخاف أن تنفد أرزاقه

والرزق عند الله لا ينفد

والرزق مقسوم على من ترى

يناله الأبيض والأسود

فالتفت أبو العتاهية إليه فقال من هذا؟ قالوا الجماز، وهو ابن أخت سلم الخاسر، اقتص لخاله منك، فأقبل عليه وقال له: يا ابن أخي إني لم أذهب حيث ظننت ولا ظن خالك ولا أردت أن أهتف به، وإنما خاطبته كما يخاطب الرجل صديقه، فالله يغفر لكما، ثم قام

وحدث حبيب بن عبد الرحمن عن بعض أصحابه قال: كنت في مجلس خزيمة فجرى حديث ما يسفك من الدماء، فقال والله ما لنا عند الله عذر ولا حجة إلا رجاء عفوه ومغفرته، ولولا عز السلطان وكراهة الذلة، وأن أصير بعد الرياسة سوقةً وتابعاً بعد ما كنت متبوعاً، ما كان في الأرض أزهد ولا أعبد مني، فإذا هو بالحاجب قد دخل عليه

ص: 57

برقعة من أبي العتاهية فيها مكتوب:

أراك امرءاً ترجو من الله عفوه

وأنت على ما لا يحب مقيم

ندل على التقوى وأنت مقصر

أيا من يداوي الناس وهو سقيم

وإن امرءاً لم يلهه اليومُ عن غد

تخوَّف ما يأتي به لحكيم

وإن امرءاً لم يجعل البر كنزه

وإن كانت الدنيا له لعديمُ

فغضب خزيمة وقال: والله ما المعروف عند هذا المعتوه الملحف من كنوز البر فيرغب فيه حر. فقيل له وكيف ذاك؟ فقال لأنه من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله

وقد كان أبو العتاهية يجمع إلى أخذه بهذا التكسب الذهاب في البخل إلى حد مكن منه خصومه فشوهوا به زهده أيضاً، وله في بخله نوادر كثيرة، وأخبار مأثورة، قال ثمامة بن أشرس أنشدني أبو العتاهية:

إذا المرء لم يعتق من المال نفسَهُ

تملكه المال الذي هو مالكه

ألا إنما مالي الذي أنا منفق

وليس لي المال الذي أنا تاركه

إذا كنتَ ذا مال فبادر به الذي

يحق وإلا استهلكته مهالكه

فقلت من أين قضيت بهذا؟ فقال من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت. فقلت له أتؤمن بأن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه الحق؟ قال نعم، قلت فلم تحبس عندك سبعاً وعشرين بدرة في دارك ولا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي، ولا تقدمها ذخراً اليوم فقرك وفاقتك؟ فقال يا أبا معن والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس. فقلت وبم تزيد حال من افتقر على حالك وأنت دائم الحرص، دائم الجمع، شحيح على نفسك، لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد. فترك جواب كلامي كله، ثم قال لي والله لقد اشتريت في يوم عاشورا لحماً وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم، فلما قال لي هذا القول أضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته، فأمسكت عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح الله صدره للإسلام

وحدث محمد بن عيسى الخزيمي وكان جار أبي العتاهية قال: كان لأبي العتاهية جار يلتقط

ص: 58

النوى، ضعيف سيئ الحال، متجمل عليه ثياب، فكان يمر بأبي العتاهية طرفي النهار، فيقول أبو العتاهية اللهم أغنه عما هو بسبيله، شيخ ضعيف سيئ الحال عليه ثياب متجمل، اللهم أعنه، اصنع له، بارك فيه، فبقى على هذا إلى أن مات الشيخ نحواً من عشرين سنة، فقلت له يوماً يا أبا إسحاق إني أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ، وتزعم أنه فقير مقل، فلم لا تتصدق عليه بشيء؟ فقال أخشى أن يعتاد الصدقة، والصدقة آخر كسب العبد، وإن في الدعاء لخيراً كثيرا

وقال علي بن مهدي حدثني الحسين بن أبي السرى قال: قيل لأبي العتاهية مالك تبخل بما رزقك الله؟ قال والله ما بخلت بما رزقني الله قط، قيل وكيف ذاك وفي بيتك من المال ما لا يحصى؟ قال ليس ذلك رزقي، ولو كان رزقي لأنفقته

وقال محمد بن عيسى قلت لأبي العتاهية أتزكي مالك؟ فقال والله ما أنفق على عيالي إلا من زكاة مالي، فقلت سبحان الله، إنما ينبغي أن تخرج زكاة مالك إلى الفقراء والمساكين، فقال لو انقطعت عن عيالي زكاة مالي لم يكن في الأرض أفقر منهم

فأما تكسب أبي العتاهية بالشعر فلا شيء فيه عندي مع أخذه بذلك الزهد، لأن الزهد في الإسلام لا يمنع صاحبه من الأخذ بالأسباب والسعي في الحصول على الرزق، والتكسب بالشعر سبب من تلك الأسباب، والشعر فن من الفنون التي لا غنى للدولة عنها، فيجب أن يأخذ حظه من الأموال التي تجبي فيها، ويجب على أرباب الدولة أن يبسطوا أيديهم بالعطاء لرجاله، ليتوفروا على إجادته، ويتضافروا في النهوض به، وليس على الشعراء من حرج إذا لم يصل نصيبهم من ذلك إليهم أن يتلطفوا في الوصول إليه بمدح الملوك والوزراء، وكذا غيرهم ممن في أيديهم تلك الأموال، وإنما يذم التكسب بالشعر إذا بالغ صاحبه في الإلحاح به، وجعله كل غايته من الشعر، فحمله ذلك على الالتواء في سبيله، واتخاذ الشعر أداة شر بين الناس، يقلب الحقائق بينهم، ويجعل في سبيل المال الباطل حقاً والحق باطلاً، والظلم عدلاً والعدل ظلماً؛ وقد تكسب الشعراء بشعرهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له شعراء يمدحونه وينصرون دعوته، ويدافعون عنه أعداءه، ويردون عنه هجائهم بالحق إذا هجوه بالباطل

ولم يكن شاعرنا أبو العتاهية بحيث يصل به التكسب بالشعر إلى هذا الحد، وقد مضى لنا

ص: 59

في ترجمته ما يؤيد ذلك له، وكم له من مواقف مشهودة مع ملوك عصره وأمرائه، لم تنسه فيها جوائزهم أن ينكر عليهم ما يستحق الإنكار منهم، أو يغضب لنفسه إذا رأى منهم أقل تهاون به. حدث الحسين بن أبي السرى قال: مر القاسم بن الرشيد في موكب عظيم، وكان من أتْيَهِ الناس، وأبو العتاهية جالس مع قوم على ظهر الطريق، فقام أبو العتاهية حين رآه إعظاماً له، فلم يزل قائماً حتى جاز فأجازه ولم يلتفت إليه، فقال أبو العتاهية:

يتيه ابنُ آدم من جهله

كأن رحا الموت لا تطحنُهْ

فسمع بعض من كان في موكبه ذلك فأخبر به القاسم، فبعث إلى أبي العتاهية وضربه مائة مقرعة، وقال له: يا ابن الفاعلة أتعرض بي في مثل ذلك الموضع؟ وحبسه في داره، فدس أبو العتاهية إلى زبيدة بنت جعفر وكانت توجه له هذه الأبيات:

حتى متى ذو التَّيهِ في تيهه

أصلحه الله وعافاهُ

يتيه أهل التيه من جهلهم

وهم يموتون وإن تاهوا

من طلب العِزَّ ليبقى به

فإن عز المرء تقواه

لم يعتصم بالله من خلقه

من ليس يرجوه ويخشاه

وكتب إليها بحاله وضيق حبسه، وكانت مائلة إليه فرقت له، وأخبرت الرشيد بأمره وكلمته فيه، فأحضره وكساه ووصله، ولم يرض الرشيد عن القاسم حتى بر أبا العتاهية وأدناه واعتذر إليه

وحدث محمد بن عيسى قال: كنت جالساً مع أبي العتاهية إذ مر بنا حميد الطوسي في موكبه، وبين يديه الفرسان والرجالة، وكان بقرب أبي العتاهية سوادي على أتان، فضربوا وجه الأتان ونحُّوه عن الطريق، وحميد واضع طرفه على معرفة فرسه، والناس ينظرون إليه يعجبون منه وهو لا يلتفت تيهاً، فقال أبو العتاهية:

للموتِ أبناءٌ بهمْ

ما شئت من صلف وتيه

وكأنني بالموت قد

دارتْ رحاه على بنيهْ

فلما جاز حميد مع صاحب الأتان قال:

ما أذَلَّ المُقِلَّ في أعين النَّا

س لإقلاله وما أقماهُ

إنما تنظر العيون من النَّا

س إلى من ترجوه أو تخشاه

ص: 60

وقد كان أبو العتاهية في آخر أمره يحاول جهده أن يجعل جوائز الملوك وغيرهم إليه في نظير هدايا يتقدم بها إليهم، كما كان يفعل ذلك مع الأمين والمأمون فيما ذكرنا في ترجمته، وهو في ذلك يشعر بسمو منزلته إلى منزلتهم، ويترفع عن ذلك التكسب الذي كان يأخذ به في أول أمره، وإن كان على تلك الطريقة التي لم يكن لها أثر معيب في نفسه

وأما بخله فنعتقد أنه لم يصل فيه إلى ذلك الحد الذي يؤثر فيه ما أثر عنه من تلك النوادر وغيرها، وإنما ذلك من اختلاق خصومه ومنافسيه عليه، ليشوهوا منه تلك الصيحة المُدَوِّيةَ في الزهد، ويظهروه في مظهر من يقول بما لا يفعل، فلا يتأثر الناس بدعوته، ولا ينظرون إلى أقواله، ولا شك أنه يشفع لأبي العتاهية في ضنه بماله أنه كان رجلاً شاعراً يجمع ماله من أيدي الملوك والعظماء، ويبذل في ذلك ماء وجهه على ما كانت عليه نفسه من عزة ورفعة، فإذا ضن به بعد هذا فإنما يحمله على ذلك أن يكون دائماً في غير حاجة ملحة إلى من يحاول أن يشتري شعره بها، فيسير فيه كما يشتهي هو لا كما يشتهي غيره، وقد كان أبو العتاهية دائماً مهدداً من أجل هذا بالحرمان، وعرضة للتضييق والسجن واستباحة المال، فهو يجمع من ذلك ما يجمع ليجده في وقت حرمانه، ويضن به على من لا يجده في ذلك الوقت إلا عدواً له أو شامتاً فيه، وقد كان يجد من الناس ما ساء به ظنه فيهم، وآثر به العزلة عنهم، وكان له فيهم مذهب غريب يقضي بتبخيلهم كلهم، فهو يقارضهم بخلاً ببخل، ويضن عليهم ضناً بضن، قال مخارق: لقيت أبا العتاهية على الجسر، فقلت له: يا أبا إسحاق أتنشدني قولك في تبخيل الناس كلهم؟ فضحك وقال لي: هاهنا؟ قلت: نعم، فأنشدني:

إن كنت متخذاً خليلاً

فَتَنَقَّ وانتقد الخليلا

من لم يكن لك منصفاً

في الود فابغ به بَدِيلا

ولربما سئل البخي

لُ الشيء لا يسوي فَتيلا

فيقول لا أجد السبي

ل إليه بَكْرَهُ أن يُنِيلا

فلذاك لا جعل الإل

هُ له إلى خير سبيلا

فاضرب بطرفك حيث شئ

تَ فلن ترى إلا بخيلا

فقلت له: أفرطت يا أبا إسحاق، فقال: فديتك فأكذبني بجواد واحد؟ فأحببت موافقته، فالتفت

ص: 61

يمينا وشمالاً، ثم قلت: ما أجد؛ فقبل بين عيني وقال: فديتك يا بني، لقد رفقت حتى كدت تسرف

وهكذا مضى أبو العتاهية عظيماً لم يزر به بخله ولا تكسبه بشعره، كما أزرى ذلك بغيره، ولو أن ذلك أزرى به كما زعمه خصومه لما كان لمنصور بن المهدي أن يمد إليه يده ليزوجه إحدى ابنتيه، وقد كان لأبي العتاهية بنتان: إحداهما (لله) والأخرى (بالله)، فخطب منصور منه (لله) فلم يزوجه، وقال: إنما طلبها لأنها بنت أبي العتاهية، وكأني به قد ملها فلم يكن لي إلى الانتصاف منه سبيل، وما كنت لأزوجها إلا بائع خزف وجرار؛ ولكني أختاره لها موسراً.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 62

‌في اللغة والأدب

2 -

المثنيات في التاريخ والجغرافية والفلك

للأستاذ محمد شفيق

(الأخشبان) هما جبلا مكة الملصقان بها: أبو قبيس والأحمر، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان، والأخشب في اللغة هو الجبل الخشن العظيم، ويقال هو الذي لا يرتقي علوه. وهما جبلا منى. وقيل هما الأخشب الشرقي والأخشب الغربي، فالشرقي أبو قبيس والغربي جبل الخُط من وادي إبراهيم. قال أبو عبيد: وأخشبا المدينة حرتاها

(البونان) بفتح الموحدة وسكون الواو: موضعان باليمن البون الأعلى والبون الأسفل، وهما متصلان من أعمال صنعاء، ويقال إن فيهما البئر المعطلة والقصر المشيد المذكوران في القرآن الكريم

(الخراتان) نجمان من كواكب الأسد، وقيل كوكبان بينهما قدر سوط وهما كتفا الأسد، وقيل سميا بذلك لنفوذهما إلى جوف الأسد

(الزبانيان) هما كوكبان نيران، وهما قرنا العقرب ينزلهما القمر، وهما مفترقان بينهما أكثر من قامة الرجل في رأي العين، ويسميهما أهل الشام يدي العقرب، ويقال لهما زباني الصيف، لأن سقوطهما في زمن تحرك الحر

(الشرَطان) نجمان من الحمل وهما قرناه

(الشرفان) بالوادي الأخضر من دمشق وهما الجانبان المتقابلان شرف أعلى وهو الشمالي وأدنى وهو القبلي، وبينهما الوادي والنهران بردى وبانياس. ويقال: فلان حاز الشرفين أي شرف الأب والأم

(الغوطتان) بدمشق معروفتان قبلية وشمالية

(الصفصافتان) معروفتان عند الدمشقيين، وهما: شجرتا صفصاف بالوادي التحتاني معدتان للتنزه ذكرهما الشعراء المتأخرون في أشعارهم فمنهم الأمير المنجكي حيث قال:

وبالصفصافتين مقام أنس

عليل نسيمه يبري السقاما

إذا غنت حمائمه سكرنا

بما تملي ولم نشرب مداما

(العزيزيتان) قريتان بمصر في ناحية الشرقية منسوبتان إلى العزيز بن المعز

ص: 63

(العسكريان) محمد بن علي والحسين بن رشيق، منسوبان إلى عسكر: محلة بمصر، وأبو الحسن علي بن محمد. . . بن جعفر وولده الحسن منسوبان إلى عسكر المعتصم وهي مدينة سر من رأى (سامرا)، والعسكريان الأديبان أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري وتلميذه أبو هلال الحسن بن عبد الله منسوبان إلى عسكر مكرم

(الفرقدان) نجمان منيران في بنات نعش يضرب المثل بهما في طول الصحبة في التساوي والتشاكل. قال البحتري:

كالفرقدين إذا تأمل ناظر

لم يعد موضع فرقد عن فرقد

(القرافتان) القرافة الصغرى والقرافة الكبرى، فيهما مقبرتا مصر، وكانتا من قبل خطتين لقبيلة من اليمن ثم من المعافر ابن يعفر يقال لهم بنو قرافة

(المحلفان) نجمان يطلعان قبل سهيل فيظن الناظر لكل منهما أنه سهيل، ويحلف آخر أنه ليس به

ما يتعلق بالمنطق من المثنيات

(الجنسان) الجنس القريب والجنس البعيد

(الحدان) الحد التام والحد الناقص

(الضدان) صفتان وجوديتان يتعاقبان في موضع واحد يستحيل اجتماعهما كالسواد والبياض

(المتقابلان) بالعدم والملكة أمران أحدهما وجودي والآخر عدم ذلك الوجودي لا مطلقاً بل من موضع مقابل له كالبصر والعمى، والعلم والجهل، فإن العمى عدم البصر عما من شأنه البصر، والجهل عدم العلم عما من شأنه العلم

(المتقابلان) بالإيجاب والسلب هما أمران أحدهما عدم الآخر مطلقاً كالفروسية واللافروسية

(المضافان) هما المتقابلان الوجوديان اللذان يعقل كل منهما بالقياس إلى الآخر كالأبوة والبنوة

(النوعان) الحقيقي والإضافي: فالحقيقي الكلي المقول على واحد أو كثيرين متفقين في الحقائق في جواب ما هو، والإضافي ماهية يقال عليها وعلى غيرها الجنس قولاً أولياً أي بلا واسطة كالإنسان بالقياس إلى الحيوان

المثنيات المتعلقة بالتفسير والقراءات

ص: 64

(النجدان) هما الضلالة والهدى، في قوله تعالى (وهديناه النجدين)

(مدهامتان) هما في القرآن بمعنى سوداوين من شدة الخضرة من الري لأن العرب تسمي كل أخضر أسود

(الصدفان) هما في الآية الكريمة جبلان متلاصقان، من المصادفة أي المقابلة، وقيل من الصدف وهو الميل لأن كل واحد منهما منعزل عن الآخر

(السدان) هما في قوله جل وعز (حتى إذا بلغ السدين) الجبلان المبني بينهما السدان وهما جبلا أرمينيا وأذربيجان، وقيل هما جبلان منعيان في آخر بلاد الترك

(الابنان) هما في مصطلح أهل القراءات ابن كثير وابن عامر

(الأبوان) هما أبو عمر وأبو بكر بن عاصم القارئان المشهوران

(الأخوان) هما حمزة والكسائي. (الحرميان) هما ابن كثير ونافع من القراء السبعة

المثنيات المتعلقة بالحديث الشريف

(التدليسان) أحدهما تدليس الإسناد وهو أن يروى عمن لقيه ولم يسمع منه موهماً أنه لقيه أو سمع منه، والآخر تدليس الشيوخ وهو أن يروى حديثاً عن شيخ سمعه منه فيسميه أو يكنيه ويصفه بما لم يعرف به كيلا يعرف

(الشيخان) هما عند الإطلاق أبو بكر وعمر، وعند المحدثين يراد بهما البخاري ومسلم

(الذبيحان) في حديث (أنا ابن الذبيحين) اسمعيل أو إسحق وعبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم. والمرجح أن الذبيح هو اسمعيل، وأما القول بأنه إسحق فمردود بأكثر من عشرين وجهاً

(العودان) منبر النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه، وقد ورد ذكر العودين في الحديث وفسرا بذلك، وقال شمر في قول الفرزدق:

ومن ورث العودين والخاتم الذي

له الملك والأرض الفضاء رحيبها

وكني بالعودين عن الشاهدين، قال شريح: القضاء جمرة فادفع الجمر عنك بعودين

(الأسودان) الحية والعقرب، وفي الحديث (اقتلوا الأسودين)

(الثقلان) الإنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض ولرزانة رأيهم وقدرهم، أو لأنهم

ص: 65

مثقلون بالتكليف، وفي الحديث (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) سماها ثقلين لأن الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل إعظاماً لقدرهما وتضخيماً لشأنهما

(الأسواريان) محيسن ومحمد بن أحمد نسبة إلى أسوار - بالفتح - قرية بأصبهان، محدثان

(الأماميان) محمد بن عبد الحبار ومحمد بن اسمعيل البسطامي محدثان

المثنيات في الطب والكيمياء والنباتات

(البهقان) أبيض بياضه دقيق ظاهر البشرة لسوء مزاج العضو إلى البرودة وغلبة البلغم على الدم، وأسود يعتري الجلد إلى السواد لمخالطة المرة السوداء الدم

(الحلولان) حلول سرياني وهو عبارة عن اتحاد الجنسين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر كحلول ماء الورد في الورد فسمي الساري حالاً والمسري محلاً، وحلول جواري وهو عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفاً للآخر كحلول الماء في الكوز

(الزرنيخان) أراد به الأطباء الزرنيخ الأحمر، والزرنيخ الأصفر

(البهمتان) نباتان أحمر ظاهره السواد وأبيض كذلك، وهما فارسيان معربان وكلاهما يضران السفل ويصلحهما الأنيسون والكثيرا أو العناب

المثنيات المتصلة بالفلسفة والأخلاق والتصوف

(الأجلان) هما على رأي الفلاسفة طبيعي واخترامي فإنهم قالوا: الرطوبة الغريزية من الحرارة الغريزية بمنزلة الدهن للفتيلة المشتعلة وكلما انتقص تتبعها الحرارة الغريزية في ذلك. . . . الخ ما ذكره المحبي في (جني الجنتين)

(الأدبان) أدب الغريزة، وهو الأصل، وأدب الرواية وهو الفرع، ولا يتفرع شيء إلا بنمو أصله، ولا ينمو الأصل إلا باتصال المادة، وقيل الأدبان أدب النفس وأدب الدرس

(الإمامان) هما في اصطلاح أهل التصوف: الشخصان اللذان أحدهما عن يمين العرش أي القطب ونظيره في الملكوت وهو مرآة ما يتوجه في المركز القطبي إلى العالم الروحاني من الإمدادات التي هي مادة الوجود والبقاء، وهذا الإمام مرآته، والآخر عن يساره ونظيره في الملك وهو مرآة ما يتوجه منه إلى المحسوسات من المادة الحيوانية وهذا مرآته ومحله أعلى من صاحبه وهو يخلف القطب إماماً إذا مات

ص: 66

(الفناءان) أحدهما سقوط الأوصاف المذمومة، كما أن البقاء وجود الأوصاف المحمودة وهو بكثرة الرياضة، والثاني عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت، وهو بالاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق

(الصورتان) النوعية والجسمية، وهما مجلهما الهيولي، وهي جوهر في الجسم قابل لما يعرض له من الاتصال والانفصال

ما يتصل بالفقه والأصول من المثنيات

(البيِّعان) هما البائع والمشتري، وفي الحديث:(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)

(المفهومان) مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة: فالأول ما يفهم من الكلام بطريق المطابقة، والثاني ما يفهم من الكلام بطريق الالتزام، وقيل هو أن يثبت في السكوت على خلاف ما يثبت في المنطوق

(الخليطان) هما الشريكان يخلط أحدهما ماله بمال الآخر، وفي الحديث: (وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية

(البهيقان) حنفي وشافعي: فالحنفي إسماعيل بن الحسن، والشافعي أحمد بن الحسين

(يتبع)

محمد شفيق

ص: 67

‌القصص

صور من هوميروس

2 -

حروب طروادة

باريس يعود

للأستاذ دريني خشبة

- (ألست تحن إلى وطنك، وتتمنى لو ترى والديك يا باريس؟. . .)

- (وطني ووالدي؟)

- (. . .؟. . .)

- (وهل لي وطن غير هذه المروج الخضر، ووالدان غير أبي الراعي وأمي المتداعية الفانية؟)

- (مسكين!!)

- (بل أسعد الناس بأن أكون ابنهما! ولمهْ؟ أليس أبي سيد هذه الفلوات، وأمي أعز الأمهات؟)

- (ذلك حق لو أن أباك هذا الراعي يا باريس!)

- (ماذا تعنين؟)

- (أعني أنك لست ابنه؟. . .)

- (وَيْ! لو لم تكوني فينوس لقتلتك!)

- (الحق أقول أيها العزيز!)

- (أنت تعذبينني! ابن من إذن؟. . .)

- (أترى إلى جمالك البارع، وجسمك الممشوق السمهري؟ أيكون هذا الخلق من نسل الرعاة الأجلاف؟)

- (. . . . . .؟. . . . . .)

- (أتدور بك الأرض إذا علمت أنك ابن ملك؟. . .)

- (سخرية وهزؤ. . . إلام تلذعين فؤادي يا ربة الحسن والحب؟ ألأنني أعطيتك التفاحة

ص: 68

الخالدة؟. . . . . .)

- (الآلهة لا تكذب يا باريس!)

- (أنا؟. . . أبي. . . ملك؟. . . هذا الراعي؟! ملك ماذا؟)

- (ليس هذا الراعي قلت لك!! أنت لست ابنه! أنت سليل الملوك، الصيد!!. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .)

- (إذن من عسى أن يكون أبي؟. . . . . .)

- (ملك طرودة!!. . . . . .)

- (ملك طروادة أبي؟. . . بريام؟!. . . . . .)

- (هو. . . هُوَ. . . . . . . . .)

- (ها ها ها. . . . . . ومن جاء بي هنا؟ سرقوني؟. . . أليس كذلك؟. . . . . . . . .)

- (لا تنس يا باريس أنك في حضرة فينوس. . . وأقولها لك كرة أخرى: إن الآلهة لا تكذب. . . أجل أنت ابن بريام ملك طروادة. . . قيل له إنك تجر عليه ألواناً من العذاب فصدق، وأرسل بك من تركك فوق جبل بعيد، لتأكلك الذئاب. . . كل هذا إذ أنت طفل صغير. . . وليد. . . ولقد عثر بك ذلك الراعي الذي أباك ففرح بك وقال لامرأته: عسى أن يكون لنا منه ولد. . . والآن. . . لقد وعدتك زوجة جميلة. . . أجمل امرأة في العالم. . . فاذهب أولاً إلى طروادة، والق أباك فإنه سيعرفك. . . سيعرفك لأن له أبناء خلقهم كخلقك. . . وسيحدثه قلبه. . . وتكلمه روحه أنك ابنه. . . سيفرح بك بريام يا باريس، وسيخفق قلب هكيوبا. . . أمك التي تبكي من أجلك، وتتمناك بنصف ملكها!

فإذا اطمأنوا بك، ولبثت فيهم أياماً، فأبدِ لهم رغبتك في الإبحار إلى بلاد الإغريق في أسطول كبير. . . . . . إن ثمة المرأة التي وعدتك. . . أجمل نساء العالم. . .)

وغابت فينوس!

جلس باريس على صخرة تشرف على البحر المضطرب من جهة، وعلى السفح المعشوشب المصطخب بالحياة من جهة أخرى، ثم أخذ يفكر في كل كلمة انفرجت عنها شفتا فينوس. . .

(تُرى؟! أصحيح ما قالته فينوس؟ أصحيح أن بريام أبي؟ ألا أنادي أبي الراعي بعد اليوم؟

ص: 69

وأنت أيتها الشاء والنَّعم: أفراق لا لقاء بعده؟ وا أسفاه! لم لقيت فينوس؟ عزيز علي أن أهجرك إلى الأبد أيتها البطاح! وأنت أيتها السماء الحبيبة؟ بمَ أستبدل قلائدك الدرية في الليل، وشمسك الدافئة، وسحبك الموشاة بالذهب في النهار؟!. . . . . . . . . . . . . . . . . .)

الآلهة لا تكذب!! هكذا كانت تقول فينوس! أنا إذن ابن ملك! وأبي لا بد أن يكون غِرَّا ضيق العطن، وإلا فلم صدق ما ذكرته له الكهنة عني؟ طفل صغير يُنبذ بالعراء لتأكله السباع! يا لقساوة القلوب، وتحجر الأكباد؟! وأمي؟ أين كانت أمي؟ وأين كان قلب الأم في هذه المرأة؟ كيف سهل عليها أن تدعني يُنطلق بي لأنبذ بالعراء، فريسة لا حول لها لكلاب الجبل، وطعمةً شقية لسباع البرية؟!. . . . . . . . . . . .)

لابد أن أذهب! لابد أن أعلم حقيقة أمري! وداعاً أيها البحر! وداعاً أيتها المروج! يا كل شيء هنا. . . وداعاً!)

وانطلق لا يلوي على شيء. . .

وكان أصدقاؤه الرعاة يلقونه في الطريق فينكرون منه كل شيء! ينكرون منه انقباضه وعهدهم به طلق المُحيّا لا يفارق المرح ثغره البسام، وينكرون منه صمته الطويل وهو الثرثار الذي لا يقف لسانه ولا تسكن شفتاه! وينكرون منه هذه النظرات العميقة الحزينة، وهو ذو العينين الضاحكتين والجبين المشرق الطروب. . .

وكان هو ينكرهم جميعاً كذلك! أليس قد عرف أنه ابن ملك؟ وابن أي ملوك العالم؟ ابن ملك طروادة! وهل أقوى وأعظم في ملوك العالم من ملك طروادة؟

وبرغم هذا الإنكار كان الرعاة ما يبرحون يحبون باريس ويعجبون به، وقد أحزنهم أن ينطلق فريداً وحيداً في فلوات تدمدم فيها السباع وتهمهم الوحوش، فذهبوا يقتصون أثره، وكانوا له حرساً شديداً في وحشة هذه البرية المخوفة. . .

ووصل إلى طروادة. . .

وجلس فوق هضبةٍ مرتفعةٍ قليلاً فنظر إلى المدينة الخالدة!

واجتمع حوله أصدقاءه الأمناء الأوفياء يسألونه فيم جاء إلى هذا البلد، ولم هجر قطعانه وأوطانه، وهل في أمره. . . حب. . .؟

ص: 70

وطمأنهم باريس، وزوّق لهم الأحلام والأماني، ووعدهم خيراً (لا ترى مثله عين، ولا يخطر على قلب بشر)

ودخلوا المدينة. . .

ويمموا ميدانها الرحب الفسيح، حيث اجتمع خلق كثير يشهدون المهرجان الرياضي، ويمتعون أنظارهم بشتى الألعاب التي يمارسها أبطال طروادة وما جاورها من القرى. ولبث باريس وأصحابه ينظرون إلى المتبارين ساعة، ثم زهاههم الروح الرياضي فقدموا أنفسهم إلى الرئيس المشرف على الألعاب، فأشركهم في كثير من المباريات. . .

ولقد برّز باريس على أقرانه، وبذَّ كل من تبارى معهم في مضمار، حتى لفت إليه أعين النظّارة وأصبح موضع إعجاب الحاضرين. . .

وكانت الأسرة الملكية، الملك وزوجه وأبناؤه وحاشيته، يحدّقون في الفتى مشدوهين مأخوذين، وكانت الملكة خاصةً تحس كأن رباطاً روحانياً يجذبها إلى الناحية التي يجول باريس فيها ويصول؛ بل كانت تشعر كأن الحديد الذائب في عضلات البطل، إنما يتدفق من عضلاتها هي! وأعجب من ذلك جميعاً، ذلك الحنان المتفجر في قلبها، وذاك الحب الحزين السادر الذي يغمرها كلَّها من أجل هذا الغريب المفاجئ المجهول!

ولمحت كاسّنْدرا، ابنة الملك، ما كان ينتاب أمها من عواطف، وكانت فتاةً بارعة الحسن، مليحة الدل، فينانةً ريّانة؛ أعجب بها أبوللو فمنحها حبه، وهام بها حتى لكان يعبدها عبادةً، وهو الإله المعبود!

وكان ما يفتأ يباركها ويخلع عليها من نعمه؛ فمن ذلك أنه وهبها القدرة على كشف الغيب، والتنبؤ بما كان وما يكون؛ فكانت تخبر الناس بماضيهم وحاضرهم وما يكون من مستقبلهم وهم يسمعون ويعجبون. . .

ولكنها تاهت على أبوللو ودلّت، وكانت أبداً تمنحه الجفاء والصدود، وتُعرض عنه وهو المقبل عليها بروحه وقلبه وشعره وموسيقاه!

رجاها أبوللو أن تكون له، وأن ترتضيه لها بعلاً، ووعدها لقاء ذلك أن يبني لها القصور الشماء في قبة السماء، وأن يحملها معه أبداً في رحلاته العلوية فترى كل ما يدب على الأرض، وأغراها بالتوسط لدى كبير الآلهة زيوس الأعظم فيمنحها الخلود وربما رفعها إلى

ص: 71

صفوف الآلهة أنفسهم. . . . . . بيد أنها ما كانت لتزداد إلا شماساً وعناداً

ولما ضاق أبوللو بها ذرعاً، صب جام غضبه عليها، وسلَّط عليها سخرية سامعيها، فما تقول شيئاً، ولا تتنّبأ بشيء، ولا تكشف غيباً، إلا استهزأ بها الناس، وعيروها بأنها تكذب وتهرف وتدعي!. . .

فلما شاهدت ما كان من فورة الإحساس التي تجرف قلب أمها من أجل باريس، ذكرت لها أن هذا الشاب إن هو إلا أخوها الذي نبذوه بالعراء فوق الجبل لتأكله السباع، وآيتها على ذلك هذا التشابه بينه وبين أخيها هكتور وبينه وبين أبيها الملك. وحاجها قومها فأحضروا باريس ليطابقوا بينه وبين هكتور. . . ولكن ما كادت المطابقة تتم حتى أخذته هكيوبا في حضنها الحنون المرتجف، صائحة مستعبرة:(ولدي باريس. . ابني باريس. . . ولدي. . . إليّ يا بني. . .!!). أما الملك فقد بكى هو الآخر، ونهض فعانق ابنه عناقاً طويلاً حاراً، غاسلاً جبينه المتلألئ المشرق بدموع الاعتذار عن الماضي البعيد المحزن

ولما أخبرهم باريس أن فينوس، ربة الحب والحسن، هي التي هدته إلى مولده ومنشئه وكريم أرومته، خر الملك وأهله لها ساجدين. . . إلا كاسندرا

لقد عبست عبوسةً قاتمة، وحدجت أخاها الغريب بنظرةٍ كالحةٍ!! ثم صاحت بالملك:(أبي! لتحذر هذا الأخ. . . لتحذر باريس. . . ولتذكر نبوءة الكهنة في معبد أبوللو. . . . . . ابنك يجر الخراب على مملكتك، ويعرض شعبك للدمار، وينشر الموت في بيوت رعاياك!!)

وهنا ينتقم أبوللو، ويسخر من حبيبته الجافية!

لقد تضاحك الملك مستهزئاً، وغمزت الملكة ابنتها ولمزتها بكلام قارص. . . أما هكتور، فقد عبث بأخته ومازحها مزاحاً ثقيلاً. . .

مسكينة كاسندرا!

حتى الحاشية استهزأت بها وأشعرتها المذلة والهوان. . .!

كل ذلك والرعاة. . . أصدقاء باريس. . . ينظرون ويعجبون. . . ولا يفهمون!!

الآلهة لا تكذب!!

أفرخ روْع باريس إذن! وصدق كل ما ذكرته فينوس!

ص: 72

هاهو ذا يعيش في قصر منيف باذخ؛ وهاهو ذا، لأول مرة في حياته يخلع هذا الصوف الخشن الغليظ، ليلبس من سندسٍ أبيض وإستبرق! والولدان البيض كالتماثيل يطوفون عليه بأكواب الخمر من فضة، وصحاف الآكال من ذهب! وشعب بأسره يطيع أباه ويطيعه، وجيوش تصدع بأمره، وأساطيل لجابٌ تملأ البحر، إذا شاء أقلعت وإذا شاء أرست؛؛؛ وملك وسلطان، وتاج وصولجان. . .!!

لا تنقصه الآن إلا أجمل فتاة في العالم. . .

تلك الفتاة التي وعدته فينوس! وما دامت الآلهة لا تكذب فأجمل فتاة في العالم هي من غير ريب في بلاد الإغريق. . . لأن فينوس أوصته بوجوب الإبحار إليها. . . وهل أجمل من حسان إسبرطة في بلاد الإغريق؟! إنهم قوم يعبدون الجمال واعتدال القوام

إذن، فليبحر باريس إلى إسبرطة!!

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 73

‌البريد الأدبي

كتاب جديد عن ستالين

قرأنا في مجلة (لوروب نوفيل) وصفاً لمؤلف جديد عن (ستالين) بقلم مسيو بيير فريدريس. والظاهر أن شخصية ستالين (أو الرجل الصلبي) طاغية روسيا السوفيتية أضحت مستقر الاهتمام والدرس؛ فلأسابيع قلائل يصدر عن ستالين كتاب جديد بالفرنسية. وقد سبق أن أشرنا في هذا المكان إلى صدور الكتاب الأول وهو بقلم مسيو هنري باربيس الكاتب الفرنسي الثوري؛ وأما الكتاب الثاني فعنوانه ستالين أيضاً وهو بقلم مسيو بوريس سوفارين الكاتب الشيوعي؛ والكتاب الجديد بالفرنسية أيضاً مع أن مؤلفه مسيو سوفارين روسي الأصل نشأ في مهد الصحافة الروسية، ولكنه نزح إلى فرنسا منذ الثورة البلشفية، وغدا من أقطاب الشيوعيين في فرنسا، وكتابه يقع في مجلد ضخم يناهز الستمائة صفحة، وهو كما يسميه في عنوانه (خلاصة لتاريخ البلشفية) بيد أنها خلاصة ضافية جداً. ويبدأ مسيو سوفارين بالكلام عن ستالين ونشأته الأسيوية في بلاد الكرج في أسرة ريفية فقيرة؛ ثم يتناول تاريخ الحركات الثورية في روسيا منذ أواخر القرن الماضي بإفاضة، وتاريخ الأحزاب الثورية ومبادئها، وكيف تمخضت عن قيام الحزب البلشفي في أوائل هذا القرن؛ ويتطرق من ذلك إلى الحديث عن مقدمات الثورة البلشفية التي انتهت بقيام الحكومة السوفيتية وقبض البلاشفة على أقدار روسيا إلى اليوم ويستعرض خلال ذلك كل ما سنه البلاشفة من القوانين أو النظم الجديدة الاقتصادية والاجتماعية؛ ويعنى عناية خاصة باستيعاب كل ما يتعلق بتلك الشخصية الغامضة - ستالين - وكل ما يمكن أن يلقي الضياء على خواصها الغريبة. ويبدو ستالين خلال هذا الدرس شخصية مدهشة، فبينما نراه في ثوب متواضع جداً رجلاً لا يتمتع بثقافة محترمة، إذا به رجل ذو إرادة حديدية مخيفة، وإذا به طاغية خطر، يتذرع بأقسى الوسائل لتحقيق سياسته وأهوائه، ثم إذا به لا يزال مطبوعاً بالنزعة والصفات الأسيوية القديمة في الشغف بالدس والعمل من وراء ستار. ثم لا ريب مع ذلك أن ستالين من أعظم شخصيات التاريخ الحديث، وهو بذلك جدير بأن يدرس دراسة عميقة واسعة كتلك التي يقدمها إلينا مسيو سوفارين بعد أعوام طويلة من البحث والدرس في جميع المصادر والمحفوظات الروسية والأجنبية

ص: 74

وفاة شاعر إنكليزي كبير

توفي أخيراً الشاعر الإنكليزي السير وليم وطسون في نحو السابعة والسبعين من عمره، وكان يعاني آلام المرض منذ أعوام؛ وولد السير وطسون في سنة 1858 في بلدة من أعمال يوركشير، وتلقى تربيته الأولى في ليفربول حيث كان أبوه يشتغل بالتجارة، ثم درس الحقوق في جامعة ابردين؛ وفي سنة 1880 نشر أولى قصائده في كتاب سماه (أمنية الأمير) وظهر فيه تأثره بنفوذ الشاعرين كيتس وتنيسون؛ وبعد بضعة أعوام أخرج كتابه (صور من الفن والحياة والطبيعة)، ولكنه لفت الأنظار لأول مرة حينما نشر في سنة 1890 قصيدته الشهيرة (قبر وردسورث) التي أثارت يومئذ إعجاب النقدة، واعتبرت دليلاً قاطعاً على مقدرته الشعرية؛ وأعقب السير وطسون ذلك بعدة قصائد وأناشيد شعرية؛ وظهر من ذلك الحين بمواهبه الأدبية، واشترك في تحرير كثير من الصحف الأدبية الشهيرة. ولما توفي الشاعر تنيسون رثاه بقصيدة رائعة ضم إليها قصيدة أخرى في الذكرى المئوية للشاعر شيللي (سنة 1893). وفي ذلك العام منحته الحكومة (معاش الأدب) الذي كان مخصصاً لتنيسون وقدره مائتا جنيه. ولما وقعت المذابح الأرمنية في تركيا في أواخر القرن الماضي، نشر السير وطسون عدة قصائد وأناشيد عنها في جريدة (الوستمنستر جازيت) ثم جمعت بعد ذلك في ديوان سمي (عام العار). وفي سنة 1909 نشر ديواناً سماه (القصائد الجديدة) فلقي نجاحاً عظيماً، ثم نشر (الشعر في المنفى)، وأنعم عليه بلقب (السير) سنة 1917؛ واستمر السير وطسون يعد ذلك يخرج مجموعات شعرية متعاقبة

ويحمل شعر السير وطسون طابع المدرسة الروائية وميلها إلى البلاغة، بيد أنه يمتاز بالوضوح الجم والاحتشام الرفيع

ولما مرض السير وطسون منذ أعوام ولم تف موارده بحاجته للعلاج، أبدى مواطنوه له تقديرهم وإعجابهم بفتح اعتماد مالي شعبي يمكنه من إتمام علاجه وارتياد المصحات اللازمة؛ وقد نجح الاكتتاب نجاحاً عظيماً

وفاة السيد محمد رشيد رضا

استأثر الله في يوم الخميس الماضي بالعالم الكاتب والفقيه الحجة السيد محمد رشيد رضا

ص: 75

صاحب (المنار)؛ أدركه موت الفجاءة وهو في السيارة عائداً من توديع الأمير سعود في السويس. وليس في العالم الإسلامي مثقف يجهل تلميذ الأستاذ محمد عبده، وحامل لواء الإصلاح الديني من بعده؛ فإن أربعين سنة قضاها الفقيد الكريم في تحرير المنار يفسر كتاب الله على طريقة الإمام، ويبسط أحاديث الرسول على نهج السلف، ويحرر الفتاوى في المسائل الدينية المختلفة، ويقطع ألسنة المبشرين والملحدين بالأدلة النواهض، ويجلو عن الشريعة ظلام الشُبه بالعقل النير، ويزيد في ثروة الأدب الإسلامي بالمصنفات القيمة، حرية أن تحله من قلوب المؤمنين موضع التجلة، وتبوئه من صفحات التاريخ مكان الأئمة

ولد الفقيد في قرية (القلمون) إحدى قرى لبنان القريبة من طرابلس، فتلقى العلم طفلاً ويافعاً في هذه المدينة، ثم هاجر إلى مصر، فدخل الأزهر واتصل بالإمام محمد عبده اتصالاً وثيقاً، فأشار عليه أن يصدر (المنار) فكانت سجلاً لآراء الأستاذ الاجتهادية في حياته، واستمرار لدعوته الإصلاحية بعد مماته. ثم ساهم في النهضة العربية واتصل بجمعياتها السرية في أطوارها المختلفة من سنة 1908 إلى قيام الحرب الكبرى. فلما أُعلنت الهدنة عاد إلى سورية فانتخب رئيساً للمؤتمر السوري الذي نادى بالأمير فيصل ملكاً؛ ثم ظل في خدمة هذه الدولة العربية الجديدة حتى ثل عرشها الفرنسيون سنة 1920، فارتد إلى القاهرة يحرر المنار ويعالج التأليف، فأصدر طائفة من الكتب القيمة أشهرها تكملة تفسير الإمام على هديه ووحيه، ثم الجزء الأول من تاريخ الإمام وكان قد أصدر منه جزءه الثاني فيما قاله، والثالث فيما قيل فيه، ثم كتابه الجليل (الوحي المحمدي) وهو من غير شك معجزة نبوغه وكتاب خلوده. رحمه الله رحمة واسعة وعوض فيه الإسلام والمسلمين خيراً

ذكرى آندرسن معبود الطفولة

احتفل أخيراً في كوبنهاجن عاصمة دانماركه بإحياء ذكرى الكاتب القصصي الكبير هانز كرستيان آندرسن، وذلك لمناسبة مرور ستين عاماً على وفاته. ويحق لدانماركه أن تفتخر أيما فخر بأن ينتسب إليها ذلك الذي يعتبر بحق معبود الطفولة في جميع أنحاء العالم. ذلك أن آندرسن هو أمير القصص الساذج الذي مازال سحر الطفولة المرحة منذ ثلثي قرن. وقد ولد آندرسن سنة 1805 في مدينة أودنسي من أعمال جزيرة فينن؛ وكان أبوه صانع أحذية شديد الفاقة فلم يتمكن من تربيته، ولكن جماعة من أصدقائه لاحظوا مواهب الطفل الخارقة

ص: 76

ولا سيما في الموسيقى؛ ولما بلغ هانز أشده أبدى مقدرة في قرض الشعر، وحاول أن ينتظم في سلك المسرح في كوبنهاجن؛ ولكن تربيته الساذجة حالت دون هذه الأمنية؛ وبلغ الملك خبر هذا الفتى العجيب ومواهبه الخارقة، فأمر بأن يلقن بعض ضروب الثقافة؛ وكان لذلك العامل الجديد أحسن الأثر في إبراز مواهبه الشعرية والفنية. وكان بدء شهرته ومجده قصيدته الخالدة (الطفل المحتضر). ثم تلاها بقطعة أدبية ساخرة اسمها (نزهة إلى آماك) وقد صدم آندرسن في بدء حياته الأدبية بمهاجمة النقدة؛ ولكنه لم يعبأ بهم؛ وأمر الملك بأن يسافر آندرسن في بعض الرحلات على نفقته. وكان أعظم ما أخرج آندرسن بعد رحلاته، قصصه الخالدة التي تعرف (بقصص الجن). ومنها (كتاب الصور الذي لا صور فيه)(سوق شاعر)(قصص من جتلندة)(البجعة المتوحشة)(العذراء الثلجية)(الجندي الشجاع) وغيرها؛ وهي جميعاً من القصص البريء الساذج الذي وضع للطفولة، ومن أبدع ما أخرج القلم في هذا الباب من القصص؛ ويمتاز آندرسون بخياله المبدع وأسلوبه الساحر، وخفة روحه التي تخلب لب قرائه الأطفال في جميع أنحاء العالم، وقد ترجمت قصصه إلى جميع اللغات الحية، بحيث أصبح بحق كاتباً عالمياً عظيماً.

قصور بيزنطية

من أنباء استانبول الأخيرة أن المباحث الأثرية التي يجريها العلامة الأثري الايكوسي الأستاذ باكستون للبحث عن مواقع بيزنطية القديمة قد أسفرت عن العثور على بعض آثار تحدد موقع القصر الإمبراطوري القديم أو قصر قياصرة الدولة الشرقية. وقد توفر على درس هذه المسألة عدد كبير من العلماء؛ ودرسوها على ضوء الخطط القديمة لعاصمة القياصرة؛ ولكن مباحثهم كانت نظرية في الغالب؛ وأشهر من قام بهذه الدراسات العالمان الأثريان ممبوري وفياند في رسالتين شهيرتين أثبتت بهما بعض الخرائط والخطط النظرية القديمة لعاصمة القياصرة. وقد استعان الأستاذ باكستر بهذه الدراسات التاريخية على إجراء مباحثه؛ وبدأ بالحفر على مقربة من جامع السلطان أحمد الذي تجتمع فيه عدة من أشهر الآثار البيزنطية مثل كنيسة أياصوفيا الشهيرة، وهي على مقربة منه، ومسرح الهيبدروم (مسرح الخيل)؛ وحصر الأستاذ حفرياته في المنحدر المتجه نحو البحر، فعثر على عمق مترين ونصف متر على ممشى من الرخام وعلى بعض الأساسات القديمة، ووجد بينها آثار

ص: 77

أحجار وفسيفساء تدل على أنها من صنع الترك في القرن السادس عشر؛ ولما نظفت هذه الأسس وحفر حول الممشى الرخامي ظهرت فسيفساء أخرى، عرف في الحال أنها من بقايا القصر الإمبراطوري، فتوسع الأستاذ باكستر في الحفر في تلك المنطقة، فعثر على قطع أخرى من الفسيفساء البيزنطية القديمة، ولم يعرف بعد أي جزء من القصر الإمبراطوري هذا الذي أكتشف؛ على أن هذا الممر الرخامي يمتد نحو عشرين متراً، وعرضه نحو عشرة أمتار، وتظلله أعمدة ترتفع نحو خمسة أمتار ونصف متر. والمظنون أن هذا الممر إنما هو أحد أروقة (الهيبدروم)؛ وقد كانت هذه الأورقة في العصور القديمة داخل القصر في الجناح المخصص لشخص الإمبراطور؛ وربما كان هذا الممر الرخامي وهذه الفسيفساء من بقايا كنيسة (ثانيا) وهي الكنيسة الإمبراطورية الخاصة، وربما كان من بقايا الجناح الصيفي الذي بناه الإمبراطور تيوفيلوس. ومهما كانت الآراء الخاصة بهذه الآثار، فإن الرأي مجمع على أنها على أعظم جانب من الأهمية في الكشف عن مواقع القصر الإمبراطوري القديم

نظريات الجنس والدم في ألمانيا

تتخذ نظريات الجنس والدم والسلالة في ألمانيا كل يوم صوراً مدهشة من الغلو والإغراق؛ ومازالت التفرقة بين الجنس الآري والجنس السامي (وبخاصة اليهود) عماد الفكرة الجنسية؛ ولكن تحدث أخيراً بعض غلاة الوطنيين الاشتراكيين (الهلتريين) فقال إن الطب الحديث هو من عوامل فساد الدم، ويجب أن يحذر الجنس الآري والجنس الجرماني بنوع خاص تجارب الطب الحديث لأنه يهودي المنشأ والصبغة؛ وقد تفنن أقطاب الأطباء والباحثين اليهود في اختراع نظريات الميكروبات وغيرها وأفسدوا بذلك نظام الطب الطبيعي الذي يجب أن يكون شعار الجرمانية إلى غير ذلك من الأقوال المغرقة التي تدل على غلوّ لا في التعصب فقط ولكن في تشويه العلم والحقيقة أيضاً. وثمة صيحة غريبة أخرى يلقيها غلاة الهتلريين، فهم يحذرون الألمان من أكل البقول والمنتجات الأجنبية، لأنه لا يصح أن يتكون الدم الألماني النقي إلا بالأغذية والبقول التي تنتجها الأرض الألمانية. وضربت جريدة (الفرانكيشه تسيتونج) مثلاً لذلك بالليمون الذي ارتفعت أسعاره أخيراً في ألمانيا، فقالت يجب على الألمان أن يصرفوا النظر عن الليمون الأجنبي لأنه يفسد دماءهم،

ص: 78

وأن يستعيضوا عنه ببقل ألماني آخر يسمى (الرها بارب) وهو بقل حامض يزرع بكثرة في ألمانيا ويمكن استخراج حامضه واستعماله مكان الليمون؛ وهكذا يخلط القوم خلطاً غريباً في نظريات الدم والسلالة والقومية وغيرها من حميات التعصب المغرق التي تجرف ألمانيا الهتلرية

الرقص العاري ليس فناً

هل يعتبر الرقص العاري منافياً للحياء؟ لقد انتشر الرقص العاري أخيراً في فرنسا وأصبحت عدة من ملاهيها الشهيرة تخصص للرقص العاري في برنامجها أهم مكان. والمقصود بالرقص العاري هو العراء المطلق، ويقوم به راقصات حسان يرقصن أمام الجمهور عاريات تماماً، ولم يكن البوليس يتدخل في أمر هذا الرقص لاعتباره داخلاً في باب الفن، ولكن القضاء تدخل أخيراً بناء على شكوى قدمت إليه من أحد النظارة، فقد اصطحب رجل زوجه وابنته إلى أحد الملاهي الشهيرة، وبعد حين غادرت ابنته المكان لسبب ما، ولم يمض على خروجها برهة حتى ظهرت الراقصة الشهيرة جوان وارنر عارية تماماً وأدت رقصتها، وهتف لها الجمهور طويلاً. ولكن السيد المشار إليه ذهب تواً إلى إدارة البوليس وقدم شكواه ضد هذا المنظر المنافي للحياء والذي ينطوي على فسق بين. ورفع الأمر إلى القضاء، فقدمت الراقصة وصاحب الملهى متهمين بارتكاب عمل ينافي الحياء، وأخذت المحكمة بهذا الرأي، وقضت على الراقصة بغرامة قدرها خمسون فرنكاً، وعلى صاحب الملهى بمائة فرنك، وذلك برغم ما دفعت به الممثلة من أن رقصها العاري إنما هو رقص محتشم يدخل في باب الفن، وبرغم ما دفع به صاحب الملهى من أن برنامج الليلة كان مذكوراً فيه هذا المنظر، وقد كان على المشتكي أن يمتنع من الدخول

ص: 79

‌الكتب

كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك

للمقريزي

نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر

للأستاذ محمد بك كرد علي

المقريزي مؤرخ القرن التاسع غير مدافع (845هـ)، استفاضت شهرته بتآليفه في حياته وبعد مماته، وقد طبع له حتى الآن (كتاب التنازع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم) و (الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام) و (البيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب) و (الأوزان والمكاييل الشرعية) و (الطرفة الغريبة في أخبار حضرموت العجيبة). وأهم كتبه الذي حفظ به تاريخ عمران مصر كتابه (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) الذي يدعى تسهيلاً (الخطط) طبع غير مرة وعنى به علماء المشرقيات عناية خاصة ومنهم من اقتطع منه فصولاً نقلها إلى إحدى اللغات الأفرنجية، ومنهم من درسه في الجامعات وعلق عليه

ومن كتب المقريزي التي بقيت محفوظة في بعض دور الكتب العامة، واكتفى علماء الشرقيات بنقل ما يتعلق بغرضهم منها (كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك) وقد وفق الأستاذ محمد مصطفى زيادة المدرس بقسم التاريخ في كلية الآداب بالجامعة المصرية بإخراج هذا السفر الجليل على طريقة علماء المشرقيات في إحياء تراثنا الأدبي، معارضاً له على عدة نسخ مخطوطة وأهمها نسخة بخط المؤلف. وتجد في كل صفحة أثر العناية البالغة في هذا الجزء الأول - القسم الأول 261 صفحة من القطع الأخير

(كتب المقريزي - كما جاء في تصدير الناشر - كتابه على نظام الحوليات الشائع في مؤلفات المؤرخين الشرقيين في القرون الوسطى فسرد تاريخ كل سنة على حدته، ولم يحاول أن يصل بين سنة وأخرى أبداً، ولم يستوقف القارئ في وسط السنين إلا عند حدوث عهد جديد) وقال المقريزي إنه لما أكمل كتاب (عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط) و (كتاب اتعاظ الحنفاء بأخبار الخلفاء) وهما يشتملان على ذكر من ملك مصر

ص: 80

من الأمراء والخلفاء منذ فتحت وإلى أن زالت الدولة الفاطمية. أحب أن يصل ذلك بذكر من ملك مصر بعدهم من الملوك الأكراد الأيوبية والسلاطين المماليك التركية والجركسية غير معتن فيه بالتراجم والوفيات لأنه أفرد لها تأليفاً آخر

وفي هذا الكتاب كما في أكثر ما خطته يد المقريزي يسقط الباحث على شذرات في التاريخ وآراء سديدة في نقد الحوادث ما عرف عنه مثله في سائر كتبه المنقحة، فقد قال في دولة بني العباس وهو ما سبق له التصريح بمثله في كتابه النزاع والتخاصم:(وفيها افترقت كلمة الإسلام وسقط اسم العرب من الديوان، وأدخل الأتراك في الديوان، واستولت الديلم ثم الأتراك، وصار لهم دول عظيمة جداً، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام، وصار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف ويملكهم بالقهر) وقال في المنصور إنه أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد علي بن أبي طالب وكان قبل ذلك أمرهم واحداً، وهو أول خليفة قرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم، وأول خليفة ترجمت له الكتب من اللغات، وأول خليفة استعمل مواليه وغلمانه في أعماله وقدمهم على العرب، فاقتدى به من بعده من الخلفاء، حتى سقطت قيادات العرب وزالت رياستها وذهبت مراتبها، وكان قد نظر في العلم فكثرت في أيامه روايات الناس واتسعت علومهم

ومما دونه من حوادث سنة 594 أن معز الدين إسماعيل ابن سيف الإسلام طغتكين ملك اليمن ادعى الألوهية نصف نهار وكتب كتاباً وأرخه من مقر الألوهية ثم رجع عن ذلك، وادعى الخلافة، وزعم أنه من بني أمية ودعا لنفسه في سائر مملكته بالخلافة، وقطع الدعاء من الخطبة لبني العباس ولبس ثياباً خضراً وعمائم خضراً مذهبة، وأكره من كان في مملكته من أهل الذمة على الإسلام. . . وفي حوادث سنة 607 أن الملك الأوحد ابن العادل ظفر بملك الكرج ففدى هذا نفسه منه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير من المسلمين، وأنه يلتزم الصلح ثلاثين سنة وأن يزوجه ابنته بشرط ألا تفارق دينها. وفي حوادث 609 أنه كان في جهاز ضيفة خاتون ابنة العادل مائة مغنية يلعبن بأنواع الملهى، ومائة جارية يعملن أنواع الصنائع البديعة. وفي حوادث 626 أنه وقعت الحوطة على دار القاضي الأشرف أحمد بن القاضي الفاضل، وحملت خزائن الكتب جميعها إلى قلعة الجبل بمصر، وجملة الكتب ثمانية وستون ألف مجلدة، وحمل من داره خشب خزائن الكتب

ص: 81

مفصلة وحملها تسعة وأربعون جملاً، وإن عدة الكتب 11808 كتب، ومن جملة الكتب المأخوذة كتاب الأيك والغصون لأبي العلاء المعري في ستين مجلداً

وقال في الموفق العباسي إنه أول خليفة قُهر وحجر عليه ووكل به. وروى قول ابن مقلة: (إنني أزلت دولة بني العباس وأسلمتها إلى الديلم لأني كاتبت الديلم وقت انفاذي إلى أصبهان وأطمعتهم في سرير الملك ببغداد فإن اجتنيت ثمرة ذلك في حياتي وإلا فهي تجتني بعد موتي.) وذكر أنه قلت الجباية في عهد العزيز من الأيوبيين بمصر فاتفقوا في دار السلطان على ما يصرف إلى عياله وما يقتات به أولاده، وأفضى الأمر إلى أن يؤخذ من الأسواق ما لا يوزن له ثمن وما يغصب من أربابه، وأفضى هذا إلى غلاء أسعار المأكولات، فإن المتعيشين من أرباب الدكاكين يزيدون في الأسعار العامة بقدر ما يؤخذ منهم للسلطان، فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة وضمن باب المزر باثني عشر ألف دينار، وفسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت، ولم يقدر أحد على إنكار ذلك، وصار ما يؤخذ من هذا السحت ينفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه، وصار مال الثغور والجوالي إلى من لا يبالي من أين أخذ المال. . . العزيز هو الذي منع من استخدام أهل الذمة في شيء من الخدم السلطانية، وألزموا لبس الغيار في عهده، وأعاد المكوس التي كان أبطلها أبوه صلاح الدين وزاد في شناعتها، وتجاهر بالمعاصي والمنكرات، وأباح أرباب الأمر والنهي الخمر والحشيش، وأقيمت عليها الضرائب الثقيلة، واضطربت أحوال الديار المصرية من قلة العدل وكثرة المعاصي والفسوق، وكثر اجتماع النساء والرجال على الخليج لما فتح، وعلى ساحل مصر، وتلوث النيل بمعاص قبيحة (وعدمت الأرزاق من جانب الديوان، وتعذرت وجوه المال حتى عم المرتزق الحرمان، واستبيح ما كان محظوراً من فتح أبواب التأويلات وأخذ ما بأيدي الناس بالمصادرات) ومع هذا قال المقريزي في هذا الملك لما مات: إنه كان ملكاً كريماً عادلاً رحيماً، حسن الأخلاق، شجاعاً، سريع الانقياد، مفرط السخاء، سمع الحديث من السلفي وابن عوف وابن بري، وحدث، وكانت الرعية تحبه محبة كثيرة، وكان يعطي العشرة آلاف دينار، ويعمل سماطاً عظيماً يجمع الناس لأكله، فإذا جلسوا للأكل كره منهم أكله، ولا يطيب له ذلك، وهذا من غرائب الأخلاق &

ص: 82

ووصف في حوادث سنة سبع وتسعين وخمسمائة الغلاء الذي حدث في مصر حتى أكل الناس الميتات وأكل بعضهم بعضاً وتبع ذلك فناءٌ عظيم، وتمادى الحال ثلاث سنين متوالية لا مدُّ النيل فيها إلا مداً يسيراً، وشنع الموت في الأغنياء والفقراء فبلغ من كفنه العادل من الأموات في مدة يسيرة نحواً من مائتي ألف إنسان وعشرين ألف إنسان، وأكلت الكلاب بأسرها، وأُكل من الأطفال خلق كثير، وصار الناس يحتال بعضهم على بعض ويؤخذ من قُدر عليه فيؤكل، وإذا غلب القوي ضعيفاً ذبحه وأكله، وفقد كثير من الأطباء لكثرة من كان يستدعيهم إلى المرضى فإذا صار الطبيب إلى دار المريض ذُبح وأُكل. وهذا الوباء والغلاء يشبهان ما وقع من مثلهما في أواخر عهد الفاطميين في مصر والشام

ويطول بنا المقال إذا أردنا الاستكثار من الاقتباس من كتاب الملوك، وقد استفدنا منه أنهم كانوا يطلقون على النبيلات من ربات الحجال (الستر العالي الصاحبة فاطمة)، (الستر العالي الصاحبة غازية خاتون)، (الستر الرفيع فلانة) كما نقول اليوم (صاحبة العصمة)، وكنت قرأت على حائط فناء مدرسة الفردوس بحلب:(هذا ما أمرت بإنشائه ذات الستر الرفيع والجناب المنيع الملكة الرحيمة عصمة الدنيا والدين، ضيفة خاتون ابنة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب. . .)

محمد كرد علي

ص: 83