المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 114 - بتاريخ: 09 - 09 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١١٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 114

- بتاريخ: 09 - 09 - 1935

ص: -1

‌مصر وعصبة جنيف

تحدث بعض الكتاب لمناسبة الموقف الدقيق الذي تقفه مصر من النزاع الإيطالي الحبشي، عما كانت تجنيه مصر من المزايا لو أنها كانت عضواً في عصبة الأمم، وعما كانت تستطيع أن تؤديه في الظرف الحاضر لصون حقوقها لو أتيح لها أن تبسط وجهة نظرها أمام العصبة؛ وفي رأي هؤلاء أن مصر تخسر كثيراً إذ تحرم في هذه الآونة من رفع صوتها بطريق العصبة، وأن السياسة الإنكليزية هي التي عملت لإسكات صوتها وحالت بينها وبين جنيف.

ولسنا من رأي هؤلاء، ولسنا ممن يحسن الظن بالعصبة ولا ممن يؤمنون بوسائلها ومبادئها وغاياتها؛ ومن رأينا أن مصر لم تخسر شيئاً بابتعادها عن العصبة مهما كانت أسباب هذا الابتعاد.

ويكفي أن نتأمل هذا المنظر الذي تقدمه إلينا عصبة جنيف ونحن نكتبهذه السطور، لنقتنع بأن هذه الهيئة التي تزعم أنها رسول السلام والإخاء والحقوق الإنسانية، إنما هي شبح وستار فقط، تعمل وراءه قوى الاستعمار، فتأتمر وتتجاذب وتمثل مختلف الأدوار التي تمكنها من أعناق الفرائس؛ والفرائس هي الأمم الشرقية التي سلبت أو يراد أن تسلب حرياتها باسم المدنية الأوربية والتهذيب الأوربي.

فإيطاليا والحبشة كلتاهما عضو في عصبة الأمم، وبينهما نزاع أثارته السياسة الإيطالية عن عمد وإصرار سابق، وقد طرح النزاع أمام عصبة جنيف منذ يناير الماضي،، فماذا فعلت العصبة لتطبق نصوص ميثاقها؟ لقد أوصت بالعمل على حسم النزاع بطريق التحكيم، ولكنها ما زالت تصغي إلى وعيد السياسة الإيطالية، وتشهد نياتها وتصريحاتها الواضحة لغزو الحبشة وافتراسها؛ والحبشة تستغيث بالعصبة، والعصبة تسوف وتمد إيطاليا بالوقت اللازم لاستكمال أهبتها، وتفسح كل مجال لما تعرضه دول الاستعمار لاقتسام الحبشة أو فرض نوع من الحماية أو الانتداب عليها كوسيلة لإرضاء إيطاليا وحسم النزاع وتأييد السلام، وإيطاليا خلال ذلك تبرق وترعد وتصرح بأن العصبة إذا حاولت أن تنحرف ضد المطامع الإيطالية أو تنتقص من شرعيتها، فإنها تصفع العصبة وتجري مشيئتها بالعنف والقوة القاهرة

والدول الاستعمارية تحرك اليوم عصبة الأمم، وتوجهها علنا دون خفاء؛ وقد ابتدعت

ص: 1

العصبة أو حملت أن تبتدع يوم قيامها نظام الانتداب خدعة غادرة تصفد بها عدداً من الأمم والشعوب التي وقعت في يد الحلفاء غداة النصر، والتي ما زالت ترزح تحت هذا الرياء الشفاف.

ولم نشهد عصبة الأمم تنتصر مرة لدولة شرقية أو أُمة مستضعفة مهما كان في جانبها الحق، ولا سيما إذا كانت هنالك مصلحة أو غاية لدولة من دول الاستعمار، سادة العصبة؛ ولم يغب عن الذاكرة بعد موقفها من النزاع بين إنكلترا وتركيا على مسألة كردستان، وموقفها من النزاع بين إنكلترا وإيران على مسألة جزائر البحرين، ثم موقفها من مسالة منشوريا وعجزها المطبق عن أن تعمل شيئاً لرد الاعتداء الياباني على الصين؛ بل لم يغب عن الذاكرة بعد موقفها من العراق يوم التحقت بها ويوم اشترطت عليها أفدح الشروط ثمناً لهذا الالتحاق

ولماذا نذهب بعيداً ونقلب صحف العصبة ونحن نشهد موقفها اليوم إزاء النزاع بين إيطاليا والحبشة؟ إن صفة الاعتداء الصارخ هنا تلحق إيطاليا بلا ريب، ومع ذلك فهل استطاعت العصبة أن ترفع صوتها ضد المعتدي؟ وهل استطاعت حتى اليوم أن تفعل شيئاً ولو من الوجهة النظرية لغوث المجني عليه؟ وهو لن تفعل شيئاً بلا ريب حتى يقع المحتوم وتنقض إيطاليا على الفريسة تحاول التهامها، ولن ينفع الفريسة يومئذ إلا ما يتاح لها من وسائلها الخاصة للدفاع عن نفسها.

وبعد، فمن هم السادة في العصبة؟ ومن هم الذين يشرفون على مجلسها ويوجهونه؟ هم أقطاب الاستعمار ومنظموه، وهم المغيرون على حريات الأمم، وهم المستمرئون لاستغلالها وإذلالها واستلاب حقوقها المدنية الأوربية؛ هذه المدنية التي أضحت تلتمس ذريعة للسفك وافتراس الشعوب الآمنة

لقد كان قيام عصبة جنيف مهزلة وخديعة شائنة؛ مهزلة لأنها زعمت في ميثاقها أنها قامت لتحقق ما لم تستطع أن تحققه الأمم والإنسانية جميعاً مدى الأحقاب، أعني منع الحرب وتحقيق العدالة الدولية، وحماية الضعيف من القوى بالوسائل السلمية؛ وخديعة شائنة لأنها تبطن وراء هذه المظاهر الخلابة دستور الاستعمار المنظم والانتهاك المثير لحقوق الأمم باسم الانتداب والمدنية والتهذيب وما إليها.

ص: 2

فما الذي يمكن أن تجنيه مصر من الانتظام في عصبة جنيف؟ وأي ضير عليها إذ تبقى بعيدة عن هذه الهيئة المريبة العاجزة التي يفتضح أمرها اليوم؟ فعلى أولئك الذين يزعمون الغيرة على حقوق مصر - ومصر تعرفهم حق المعرفة - أن يفروا على أنفسهم أمثال هذه الدعاية التي تنم دائماً عما وراءها.

ص: 3

‌عربة اللُّقطَاء

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

جلستُ على ساحل الشاطئ (في إسكندرية) أتأملُ البحر، وقد ارتفع الضُّحى، ولكن النهار لدن ناعم رطيبٌ كأن الفجر ممتد فيه إلى الظهر

وجاءت عربة اللُّقَطاء فأشرفت على الساحل، وكأنها في منظرها غمامةٌ تتحرك إذ تعلوها ظُلةٌ كبيرة في لون الغيم. وهي كعربات النقل غير أنها مُسورة بألواحٍ من الخشب كجوانب النعش تُمسك من فيها من الصغار أن يتدحرجوا منها إذ هي تدرُجُ وتتقلقل

ووقفت في الشارع لتُنزل ركبها إلى شاطئ البحر؛ أولئك ثلاثون صغيراً من كل سفيح ولقيط ومنبوذ، وقد انكمشوا وتضاغطوا إذ لا يمكن أن تُمط العربة فتسعهم، ولكن يمكن أن يُكبسوا ويتداخلوا حتى يشغل الثلاثةُ أو الأربعةُ منهم حيز اثنين. ومن منهم إذا تألم سيذهب فيشكو لأبيه. . .؟

وترى هؤلاء المساكين خليطاً مُلتبساً يشعرك اجتماعهم أنهم صيدٌ في شبكة لا أطفال في عربة، ويدلك منظرهم البائسُ الذليلُ أنهم ليسوا أولاد أمهات وآباء، ولكنهم كانوا وساوس آباء وأمهات. . . .

هذه العربةُ يجرها جوادان: أحدهما أدهمُ والآخر كُميْت. فلما وقفت لوى الأدهم عُنقه والتفت ينظر؛ أيُفرغون العربة أم يزيدون عليها. .؟ أما الكُمَيْتُ فحرك رأسه وعلك لجامه كأنه يقول لصاحبه: إن الفكر في تخفيف العبء الذي تحمله يجعله أثقل عليك مما هو إذ يضيف إليه الهم والهم أثقل ما حملت نفس؛ فما دمت في العمل فلا تتوهمن الراحة فان يوهن القوة، ويخذُلُ النشاط، ويجلبُ السأم، وإنما روحُ العمل الصبر، وإنما روح الصبر العزم.

ورآهم الأدهم ينزلون اللقطاء، فاستخفه الطرب، وحرك رأسه كأنما يسخر بالكميت وفلسفته، وكأنما يقول له: إنما هو النزوعُ إلى الحرية، فان لم تكن لك في ذاتها فلتكن لك في ذانك. وإذا تعذرت اللذة عليك فاحتفظ بخيالها فانه وُصلتك بها إلى أن تمكن وتتسهل؛ ولا تجعلن كل طباعك طباعاً عاملة كادحةً وإلا فأنت أداة ليس فيها إلا الحياةُ كما تريدك؛ وليكن لك طبعٌ شاعر مع هذه الطباع العاملة فتكون لك الحياة كما تريدك وكما تريدها

ص: 4

إن الدنيا شيء واحد في الواقع، ولكن هذا الشيء الواحد هو في كل خيال جنيا وحدها

وفي العربة امرأتان تقومان على اللقطاء؛ وكلتاهما تزويرٌ للأم على هؤلاء الأطفال المساكين؛ فلما سكنت العربة انحدرت منهما واحدة وقامت الأخرى تُناولها الصغار قائلةً: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة. . . إلى أن تم العدد وخلا قفصُ الدجاج من الدجاج. .!

ومشى الأطفالُ بوجوه يتيمة، يقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمةٌ، مستكينة، معترفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالم إلا هذا الإحسان البخس القليل

جاءوا بهم لينظروا الطبيعة والبحر والشمس، فغفل الصغار عن كل ذلك وصرفوا أعينهم إلى الأطفال الذين لهم آباء وأمهات. . .

واكَبِدي أضنى الأسى كبدي، فقد ضاق صدري بعد انفساحه، ونالني وجع الفكر في هؤلاء التعساء، وعرتني منهم علة كدس الحمى في الدم. وانقلبت إلى مثواي، والعربة وأهلها ومكانها وزمانها في رأسي

فلما طاف بي النوم طاف كل ذلك بي، فرأيتني في موضعي ذاك وأبصرت العربة قد وقفت، وتحاور الأدهمُ والكميت. فلما أفرغوها وشعر الجوادان بخفتها التفتا معاً ثم جمعا رأسيهما يتحدثان!

قال الكُميت: كنتُ قبل هذا أجرُّ عربة الكلاب التي يقتلها الشرطة بالسم، فآخذ الموت لهذه الكلاب المسكينة. ثم أرجع بها موْتى؛ وكنتُ أذهب وأجئ في كل مرادٍ ومضطرب من شوارع المدينة وأزقتها وسككها ولا أشعر بغير الثقل الذي أجره؛ فلما ابتليت بعربة هؤلاء الصغار الذين يسمونهم اللقطاء، أحسست ثقلاً آخر وقع نفسي وما أدري ما هو، ولكن يخيل إلي أن ظل كل طفل منهم يُثقل وحده العربة

قال الأدهم: وأنا فقد كنت أجر عربة القمامة والأقذار، وما كان أقذرها وأنتنها، ولكنها على نفسي كانت أطهر من هؤلاء وأنظف، كنتُ أجدُ ريحها الخبيثة ما دمتُ أجرها؛ فإذا أنا تركتُ العربة استروحتُ النسيم واستطعمت الجو، أما الآن فالريحُ الخبيثةُ في الزمن نفسه كأن هذا الزمن قد أروح وأنتن منذُ قرنت بهؤلاء وعربتهم

قال الكميت: إن ابن الحيوان يستقبلُ الوجود بأمه إذ يكون وراءها كالقطعة المتممة لها، ولا تقبل أمُّه إلا هذا ولا يصرفها عنه صارف، فترغمُ الوجود على أن يتقبل ابنها وعلى أن

ص: 5

يعطيه قوانينه. أما هؤلاء الأطفالُ فقد طردهم الوجود منه كما يطرد الله آباءهم وأمهاتهم من رحمته. وقد هُديتُ الآن إلى أن هذا هو سر ما نشعر به؛ فلسنا نجر للناس ولكن للشياطين. .

وهنا وقف على حوذي العربة صديقٌ من أصدقائه فقال: من هؤلاء يا أبا علي؟

قال الحوذي: هؤلاء هؤلاء يا أبا هاشم

قال أبو هاشم: سبحان الله، أما تترك طبعك في النكتة يا شيخ؟

قال الحوذي: وهل أعرفهم أنا؟ هم بضاعة العربة والسلام. اركبوا يا أولاد، انزلوا يا أولاد ، هذا كل ما أسمع

قال أبو هاشم: ولكن ما بالك ساخطاً عليهم، كأنهم أولاد أعدائك؟

قال الحوذي: ليت شعري من يدري أي رجل سيخرج من هذا الطفل، وأية امرأة ستكون من هذه الطفلة؟

انظر كيف تعلقت هذه البنتُ وعمرها سنتان، في عُنق هذا الولد الذي كان من سنتين ابن سنتين. . . . لا أراني أحمل في عربتي أطفالاً كالأطفال الذين تحملهم العربات إلى أبواب دوُرهم فان هؤلاء اللقطاء يُحملون إلى باب الملجأ، وهو بابٌ للحارات والسكك لا يأخذُ إلا منها، فلا يرسل إلا إليها

أنا والله يا أبا هاشم ضيقُ الصدر، كاسفُ البال من هذه المهنة، ويخيل إلي أني لا أحمل في عربتي إلا الجنون والفجور والسرقة والقتل والدعارة والسكر وعواصف وزوابع. . . .

قال أبو هاشم: ولكن هؤلاء الأطفال مساكين، ولا ذنب لهم

قال الحوذي: نعم لا ذنب لهم، غير أنهم في أنفسهم ذنوب. إن كل واحد من هؤلاء إن هو إلا جريمة تُثبت امتداد الإثم والشر في الدنيا. ولدتهم أمهاتهم لِغَيَّة

فقطع صاحبه عليه وقال: وهل ولدْنهُم إلا كما تلد سائر الأمهات أولادهن؟

قال: نعم إنه عمل واحد، غير أن أحواله في الجهتين مختلفة لا تتكافأ، وهل تستوي حالُ من يشتري المتاع، ومن يسرق المتاع؟

ههنا باعثٌ من الشهوة قد عجز أن يسمو سموه - وما سموه إلا الزواج - فتسفل وانحط، ورجع فسقاً، وعاد أوله على آخره. كان أوله حزماً فلا يزال إلى آخره حزماً، ولا يزال أبداً

ص: 6

يعود أوله على آخره. فلما حملت المرأة وفاءت إلى أمرها، وذهب عنها جنونُ الرجل والرجلُ معاً؛ انطوت للرجال على الثأر والحقد والضغينة؛ فلا يكون ابنُ العار إلا ابن هذه الشرور أيضاً

والأمهاتُ يُعددن لأجنتهن الثياب والأكسية قبل أن يولدوا، ويهيئن لهم بالفكر آمالاً وأحلاماً في الحياة، فيكسبهم في بطونهن شعور الفرح والابتهاج وارتقب الحياة الهنيئة والرغبة في السمو بها؛ ولكن أمهات هؤلاء يعددن لهم الشوارع والأزقة منذ البدء، ولا تترقب إحداهن طول أشهر حملها أن يجيئها الوليد بل أن يتركها حياً أو مقتولاً؛ فيورثهم بذلك وهم أجنة شعور اللهفة والحسرة والبغض والمقت، ويطبعنهم على فكرة الخطيئة والرغبة في القتل، فلا يكون ابن العار إلا ابن هذه الرذائل أيضاً

وتظل الفاسقة مدة حملها تسعة أشهر في إحساس خائف، مترقب، منفرد بنفسه، منعزل عن الإنسانية، ناقم، متبرم، متستر، منافق. فلو كان السَّفيحُ من أبوين كريمين لجاء ثعباناً آدمياً فيه سمه من هذا الإحساس العنيف. ومتى ألقت الفاسقة ذا بطنها قطعته لتوه من روابط أهله وزمنه وتاريخه ورمت به ليموت؛ فان هلك فقد هلك، وإن عاش لمثل هذه الحياة فهو موت آخر شرٌ من ذاك؛ ومهما يتولهُ الناسُ والمحسنونُ، فلا يزال أوله يعود على آخره مما في دمه وطباعه الموروثة، ولا يبرحُ جريمةً ممتدةً متطاولة، ولا ينفكُّ قصةً فيها زانٍ وزانيةٌ، وفيها خطيئة ولعنة

فهؤلاء كما رأيت أولادُ الجرأة على الله، والتعدي على الناس والاستخفاف بالشرائع، والاستهزاء بالفضائل؛ وهم البغضُ الخارج من الحب، والوقاحةُ الآتيةُ من الخجل، والاستهتارُ المنبعث من الندامة؛ وكل منهم مسألة شر تطلب جلها أو تعقيدها من الدنيا، وفيهم دماءٌ فوارة تجمع سمومها شيئاً فشيئاً كلما كبروا سنة فسنة

قال أبو هاشم: ألا لعنة الله على ذلك الرجل الفاسق الذي اغترًّ تلك المرأة فاستزلها وهوَّرها في هذه المَهواة. أكان حقُّ الشهوة عليه أعظم من حق هذا الآدمي. أما كان ينبغي أن يكون هذا الآخرُ هو الأول في الاعتبار، فيعلم أن هذا اللقيط المسكين هو سبيله إلى صاحبه، وهو البلاغُ إلى ما يحاوله منها، فيكون كأنما دخل بين الاثنين ثالث يراهما. . . فلعلهما يستحيان

قال الحوذي الفيلسوف: لعنة الله على ذلك الرجل، ولعناتُ الله كلها، ولعناتُ الملائكة

ص: 7

والناس أجمعين على تلك المرأة التي انقادت له واغترت به. إن الرجل ليس شيئاً في هذه الجريمة فقد كانت بصقةٌ واحدةُ تغرفهُ، وكانت صفعةٌ واحدة تهزمه، وكان مع المرأة الحومةُ والشرائعُ والفضائلُ ومعها جهنم أيضاً

ألم تعلم الحمقاء أن الرجل الذي ليس زوجاً لها ليس رجلاً معها، وأن الشريعة لو أيقنت أنه رجل لما حرمت عليها أن تخالطه؟ إنه ليس الرجل هو الذي ساور هذه المرأة، بل هي مادة الحياة التي رأت في المرأة مُستودعها فتريد أن تقتحم إلى مقرها عنوة أو خداعاً أو رضى أو كما يتفق؛ إذ كان قانون هذه المادة أن توجد، ولا شيء إلا أن توجد؛ فلا تعرف خيراً ولا شراً ولا فضيلة ولا رذيلة

لأيهما يجب التحصين. أللصاعقة المنقضة، أم للمكان الذي يُخشى أن تنقض عليه؟ لقد أجابت الشريعة الإسلامية: حصنوا المكان؛ ولكن المدنية أجابت: حصنوا الصاعقة. . .!

وكانت المرأتان المصاحبتان لجماعة اللقطاء تتناجيان، فقالت الكبرى منهما:

يا حسرتا علي هؤلاء المساكين. إن حياة الأطفال فيما فوق مادة الحياة، أي في سرورهم وأفراحهم، وحياة هؤلاء البائسين فيما هو دون مادة الحياة، أي في وجودهم فقط

وكبرُ الأطفال منه إدخالهم في نظام الدنيا، وكبرُ هؤلاء إخراجهم من (الملجأ) وهو كل النظام في دنياهم، ليس بعده إلا التشريدُ والفقر وابتداء القصة المحزنة

فقالت الصغرى: ولم لا يفرحون كأولاد الناس. أليس الطبيعةُ لهم جميعاً، وهل تجمعُ الشمس أشعتها عن هؤلاء لتضاعفها لأولئك؟

قالت الأخرى: الطبيعة؟ تقولين الطبيعة؟ إنك يا ابنتي عذراء لم تبدأ في حياتك حياةٌ بعد، ولم تجاوبي بقلبك القلب الصغير الذي كان تحت قلبك تسعة أشهر. وإنما أنت مع هؤلاء (موظفة) لا تعرفين منهم إلا جانب النظام وقانون الملجأ

لقد ولدت يا ابنتي خمسة أطفال، وبالعين البليغة التي أنظر بها إليهم، أنظر إلى هؤلاء فما أراهم إلا منقطعين من صلة القلب الإنساني؛ يعبسُ لهم حتى الجو، ويُظلم عليهم حتى النور؛ ويبدو الطفل منهم على صغره كأنه يحملُ الغم المقبل عليه طول عمره

يا لهْفي على عودٍ أخضر ناعمٍ ريان كان للثمر فقيل له: كن للحطب

الفرحُ يا ابنتي هو شعورُ الحي بأنه حيٌ كما يهوى، ورؤيته نفسه على ما يشاء في الحياة

ص: 8

الخاصة به. وهؤلاء اللقطاءُ في حياةٍ عامة قد نُزعت منها الأمُّ والأب والدار فليس لهم ماضٍ كالأطفال وكأنهم يبدأون من أنفسهم لا من الآباء والأمهات

قالت الصغيرة: ولكنهم أطفال

قالت تلك: نعم يا ابنتي هم أطفال، غير أنهم طردوا من حقوق الطفولة كما طردوا من حقوق الأهل. وحسبك بشقاء الطفل الذي لم يعرف من جنان أمه أنها لم تقتله، ولا من شفقتها إلا أنها طرحته في الطريق

إن الطبيعة كلها عاجزة أن تعطي أحدهم مكاناً كالموضع الذي كان يتبوأه بين أمه وأبيه

ليس الأطفالُ يا ابنتي إلا صوراً مبهمة صغيرة من كل جمال العالم، تفسرها أعينُ ذويهم بكل التفاسير القلبية الجميلة؛ فأين أين العيون التي فيها تفسير هذه الصور اللقيطة؟

ألا لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين على أولئك الرجال الأنذال الطَّغاة الذين أولدوا النساء هؤلاء المنبوذين. يزعمون لأنفسهم الرجولة فهذه هي رجولتهم بين أيدينا، هذه هي شهامتهم، هذه هي عقولهم، هذه هي آدابُهم. . عجباً إن سيئات اللصوص والقتلة كلها يُنسى ويتلاشى، ولكن سيئات العشاق والمحبين تعيش وتكبر. . .

أكان ذنبُ المرأة أنها صادقةٌ فصدقت، وأنها مخلصةٌ فأخلصت، وأنها رقيقةٌ فلانت، وأنها محسنة فرحمت، وأنها سليمة القلب فانخدعت؟

واكبدي للمسكينة هل انخدعت إلا من ناحية الأمومة التي خلقت لها. هل انخدعت إلا الأم التي فيها، وهل خدعتها من ذلك اللئيم إلا الأبُ الذي فيه؟

واكبدي لمن تُفجع بالنكبة الواحدة ثلاث فجائع: في كرامتها التي ابتُذلت، وفي الحبيب الذي تبرأ منها، وفي طفلها الذي قطعته بيدها وتركته لما كتب عليه

إن هذا لا يعوضه في الطبيعة - إلا أن يكون لكل رجل من أولئك الأنذال ثلاثُ أرواح، فيُقتل ثلاث مرات، واحدة بالشنق، والثانية بالحرق، والثالثة بالرجم بالحجارة

وكان اللقطاءُ قد تبعثروا على الساحل جماعاتٍ وشتى، فوقف أحدهم على طفل صغير يلعب بما بين يديه، وأُمه على كثب منه، وهي تتلهى بالمخرم تتلوى فيه أصابعُها

فنظر الطفل إلى اللقيط وأومأ إلى جماعته ثم قال: أأنتم جميعاً أولاد هاتين المرأتين أم إحداهما؟

ص: 9

قال اللقيط: هما المراقبتان، وأنت أفليست هذه التي معك مراقبة؟

قال الطفل: ما معنى مراقبة؟ هذه ماما؟

قال الآخر: فما معنى ماما؟ هذه مراقبة

قال الطفل: وكلكم أهل دار واحدة؟

قال: نحن في الملجأ، ومتى كبرنا أخذونا إلى دُورنا

فقال الطفل: وهل تبكي في الملجأ إذا أردت شيئاً ليعطوك؛ ثم تغضب إذا أعطوك ليزيدوك، وهل يُسكتونك بالقرش والحلوى والقُبلة على هذا الخد وعلى هذا الخد؟ إن كان هذا فأنا أذهب معكم إلى الملجأ، فان أبي قد ضربني اليوم، وقد أمر (ماما) أن لا تعطيني شيئاً إذا بكيت، ولا تزيدني إذا غضبت، ولا. . . . . . . . . . . . . . .

وهنا صاحت المراقبة الصغيرة: تعال يا رقم عشرة. . . .

فلوى اللقيط المسكينُ وجهه، وانصاع وأدبر

) ومشى الأطفال بوجوه يتيمة، يقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمة، مستكينة، معترفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالم إلا الإحسان البخس القليل). . . .

(إسكندرية)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 10

‌أقطاب الرواية المصرية

أبو عبد الله القضاعي

فقيه ومؤرخ وسياسي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

عنيت منذ أعوام بدراسة طائفة من أقطاب الرواية التاريخية عن مصر الإسلامية ودرس آثارهم، ما دثر منها وما تبقى؛ وكتبت بالفعل عدة فصول عن ابن عبد الحكم والكندي وابن زولاق استقصيت فيها حياتهم وآثارهم؛ ثم تناولت بعد ذلك عدة أخرى من مؤرخي مصر الإسلامية في عصور متأخرة، مثل النويري والمقريزي وابن تغري بردي والسخاوي وابن إياس؛ وقصدي بذلك أن أترجم لمؤرخي مصر الإسلامية كلما سنحت الفرص، وأن أستوعب مصادر التاريخ المصري

والآن نستأنف هذا الدرس، ونخصص هذا الفصل لأستاذ من أساتذة الرواية المصرية، هو أبو عبد الله القضاعي، وهو مؤرخ وفقيه وسياسي معاً، عاش في فترة من أدق الفترات التي جازتها مصر الاسلامية، وشهد الدولة الفاطمية في ذروة القوة والعظمة، ثم شهدها تنحدر سراعاً إلى دور من الانحلال والتفكك يكاد يؤذن بذهابها، وشهد محنة من أشنع المحن التي عانتها مصر الإسلامية، وانتدب أيام المحنة ليكون سفيراً لأمته في طلب العون والغوث؛ وكتب عن مصر الإسلامية وعن حوادث عصره آثاراً هامة، لم تصل للأسف كلها الينا، ولكن ما انتهى إلينا منها على يد المؤرخين المتأخرين يدل على أهميتها وقيمتها

وهو القاضي أبو عبد الله بن سلامة بن جعفر القضاعي الشافعي المصري؛ ولد بمصر في أواخر القرن الرابع الهجري، في عصر الحاكم بأمر الله، ودرس الحديث، والفقه على مذهب الشافعي وبرع فيه، وبرز في التاريخ والأدب؛ وبدأ حياته العامة بتولي القضاء، ولبث يليه حيناً بالنيابة كلما خلا منصب قاضي القضاة بالوفاة أو العزل، ثم تولى التوقيع (أو العلامة) لأبي القاسم الجرجائي المعروف بالقطع وزير الخليفة الظاهر لاعزاز الله ابن الحاكم بأمر الله، ثم وزير ولده المستنصر بالله من بعده. ولما توفي الوزير أبو القاسم (سنة 436هـ) تقلب القضاعي في عدة وظائف ومهام رسمية؛ وكان المستنصر بالله يقربه ويثق

ص: 11

بحكمته وحسن تصريفه للأمور؛ وتجول القضاعي ودرس في بغداد ومكة والشام؛ ووقف على أحوال الدول الإسلامية يومئذ، وجرى السياسة في القصور المختلفة، وتبوأ في البلاط المصري ذروة الثقة والنفوذ. ثم جاء ظرف عهد فيه إلى القضاعي بمهمة سياسية دقيقة. ذلك أن الأزمات والفتن الداخلية التي توالت على مصر في عهد المستنصر بالله لبثت تتفاقم حتى انتهت بوقوع الغلاء والقحط؛ ثم كانت الطامة الكبرى بوقوع الوباء في سنة 446 هـ 1053م؛ وعانت مصر يومئذ آلاماً ومحناً مروعة. وتعرف هذه النكبة في تاريخ مصر الإسلامية (بالشدة العظمى). وقد بدأت كالعادة بالغلاء وندرة الأقوات، وكان بين مصر والدولة البيزنطية يومئذ علائق حسنة، فأرسل المستنصر بالله في سنة 446 هـ إلى إمبراطور قسطنطينية، وهو يومئذ قسطنطين السابع، أن يمد يده بالغلال والمؤن؛ وكانت الدولة البيزنطية تواجه يومئذ خطر السلاجقة الذين أشرفوا على حدودها الشرقية وعاثوا في آسا الصغرى؛ وكانت ترى أن تقوي صداقتها وتحالفها مع مصر التي كانت تخشى غزواتها من الجنوب ومن البحر؛ فاستجاب قسطنطين لدعوة المستنصر، وتم الاتفاق على أن ترسل المؤن من قسطنطينية إلى مصر، وأعدت بالفعل لتلك الغاية مقادير وافرة من الغلال تقدرها الرواية الإسلامية بأربعمائة ألف أردب ولكن قسطنطين السابع توفي قبل تنفيذ الاتفاق، وخلفه على عرش قسطنطينية الإمبراطورة تيودورا، واشترطت لإرسال المؤن إلى مصر شروطاً أباها الستنصر، ومنها أن يمدها بالجند لمحاربة السلاجقة؛ فانقطعت المفاوضات بين الفريقين، وسير المستنصر جيوشه إلى الحدود الشمالية، ونشبت بين الفريقين معارك انتصر فيها المصريون بادئ ذي بدء. ولكن الأسطول البيزنطي غزا مياه الشام، وهزم المصريين في عدة مواقع؛ فكف المستنصر عن متابعة الحرب، وعاد إلى المهادنة والمفاوضة، وأرسل إلى بلاط قسطنطينية سفيراً مختاراً يسعى إلى عقد الصلح وتنظيم العلائق بين الفريقين

وكان ذلك السفير المصري إلى بلاط القياصرة، هو أبو عبد الله القضاعي الذي يحبوه المستنصر بثقته وتقديره. فقصد القضاعي إلى بيزنطية عن طريق الشام؛ وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذه السفارة الشهيرة في سنة (446 هـ 1055م) ويقع هذا التاريخ في عصر الإمبراطورة تيودورا التي جلست على العرش سنة 1545م وتوفيت في أغسطس

ص: 12

سنة 1075م؛ وعلى هذا فقد كانت سفارة المستنصر إلى الإمبراطورة تيودورا. وهذا ما يذكره ابن ميسر مؤرخ مصر بوضوح في حوادث سنة 447 هـ إذ يقول: (وفيها سير المستنصر، فقبض على جميع ما في كنيسة القمامة؛ وسبب ذلك أن أبا عبد الله القضاعي كان قد توجه من مصر برسالة إلى القسطنطينية، فقدم إليها رسول طغرلبك يلتمس من ملكتها أن يصلي رسوله في جامع قسطنطينية، فأذنت له في ذلك؛ فدخل وصلى بجامعها، وخطب للخليفة القائم؛ فبعث القضاعي بذلك إلى المستنصر فأخذ ما كان بقمامة؛ وكان هذا من الأسباب الموجبة للفساد بين المصريين والروم) بيد أن هنالك من جهة أخرى ما يدل على أن الجالس على عرش قسطنطينية وقت مقدم القضاعي إليها لم يكن الإمبراطورة تيودورا، وأن الذي استقبل السفير المصري هو خلف تيودورا الإمبراطور ميخائيل السادس (ستراتيو تيكوس) الذي تولى عرش قسطنطينية في أغسطس سنة 1057م؛ فقد نقل المقريزي في كتابه (المقفى) في ترجمة القضاعي ما يأتي:(وقال أبو بكر محمد بن سامع الصنوبري، سمعت القاضي أبا عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي يقول: لما دخلت على ملك الروم اليون، رسولاً من قبل المستنصر بالله، وأحضرت المائدة، فلما رفعت جعلت ألتقط الفتات؛ فأمر الفراش أن يحضر أخرى، ففعل؛ فقال لي الملك أصبت منه وإنك لم تشبع، فقلت أنا والله مستكف؛ فقال لي لم أكلت الفتات؟ فقلت: بلغني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من التقط ما سقط من المائدة برئ من الحمق والفقر؛ فأمر الخازن في الحال بإحضار ألف دينار وإعطائها؛ فقلت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستغنيت وبريت من الحمق)؛ وذكر المقريزي في الخطط أيضاً ما يؤيد هذه الرواية. على أننا نستطيع أن نوفق بين الروايتين فنفترض أن القضاعي وصل إلى قسطنطينية في أواخر عهد الإمبراطورة تيودورا؛ واستمر في أداء مهمته بعد وفاتها لدى الإمبراطور ميخائيل السادس؛ ومكث حيناً بقسطنطينية؛ ومما يؤيد طول مكث القضاعي بعاصمة القياصرة أنه عني هنالك بالدرس وجمع المواد التاريخية عن المدينة وخططها. أما مهمة السفير المصري لدى البلاط البيزنطي فلم تحددها الرواية الإسلامية تحديداً واضحاً، ولكنا نستنتج مما قدمنا من الظروف والحوادث أنها كانت تقوم على السعي في إقناع البلاط البيزنطي بالتحالف مع مصر ضد السلاجقة، وإعانة مصر بالأقوات والمؤن، تنفيذاً للعهود

ص: 13

التي قطعها قسطنطين السابع للمستنصر وتوفي قبل الوفاء بها

ولكن القضاعي أخفق في مهمته. ذلك أن السياسة البيزنطية آثرت جانب السلاجقة، لأنهم كانوا يومئذ أشد خطراً على الدولة الشرقية من مصر، وآثر القيصرأن يتعاقد مع رسول طغرلبك؛ وبعث القضاعي بذلك إلى المستنصر، فرد المستنصر بالقبض على أحبار قمامة ومصادرة نفائسها، واضطربت العلائق بين مصر وبيزنطية كرة أخرى؛ وعاد القضاعي إلى مصر على أثر هذا الفشل، ونستطيع أن نضع تاريخ عودته في سنة 450 هـ (1058م) أعني بعد أن أنفق أكثر من عامين في رحلته. ثم توفي القضاعي بعد ذلك ببضعة أعوام، في 16 ذي القعدة سنة 454

كتب القضاعي عدة مصنفات في الفقه والتاريخ منها كتاب (الشهاب) وكتاب (مناقب الإمام الشافعي وأخباره) وكتاب (الأنباء عن الأنبياء وتواريخ الخلفاء) وكتاب (المختار في ذكر الخطط والآثار) وكتاب (عيون المعارف)، وقد دثر معظم هذه الآثار، ولم يصلنا منها سوى كتاب (الشهاب) و (مسند الشهاب) أو (مسند الصحابة) وهما في الحديث، وكلاهما بمكتبة الأسكوريال بمدريد؛ وانتهى إلينا أيضاً، كتاب (عيون المعارف) وهو على ما يصفه مؤلفه في مقدمته (موجز في ذكر الأنبياء وتاريخ الخلفاء وولايات الملوك والخلفاء إلى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة من الهجرة)، وتوجد من عيون المعارف نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية، ولكنا نرتاب في أنها مختصر لكتاب أكبر ربما كان هو المعروف (بتاريخ القضاعي) وهو الذي يقتبس منه كثير من المؤرخين المتأخرين، والظاهر أيضاً أن (عيون المعارف) و (الأنباء عن الأنبياء وتواريخ الخلفاء) هما اسمان لمؤلف واحد حسبما يبدو من مقدمة (عيون المعارف) المشار أليها

بيد أن أهم آثار القضاعي هو بلا ريب كتابه الشهير في الخطط وهو المسمى: (المختار في ذكر الخطط والآثار)؛ ولم يصلنا هذا الأثر، ولكن انتهت إلينا منه على يد الكتاب والمؤرخين المتأخرين، ولا سيما القلقشندي والمقريزي وابن تغري بردي والسيوطي شذور كثيرة تدل على قيمته وأهميته؛ وقد كان لمؤلف القضاعي في الخطط أهمية خاصة لأنه آخر رواية كتبت عن خطط مصر والقاهرة قبل أن تغير معالمها فترة الشدة والخراب التي نزلت بمصر أيام المستنصر بالله، وقبل أن تبعث بعد ذلك خلقاً جديداً في معظم معالمها

ص: 14

وصروحها، وهي حقيقة ينوه بها المقريزي في مقدمة (الخطط) إذ يذكر كتاب القضاعي (المختار) ضمن مصادره ثم يقول:(ومات (أي القضاعي) في سنة سبع وخمسين وأربعمائة قبل سني الشدة فدثرا أكثر ما ذكر ولم يبق إلا يلمع وموضع بقلع) والظاهر مما نقل ألينا من كتاب القضاعي أنه أثر ضخم تناول فيه خطط مصر وآثارها وتاريخها منذ الفتح الإسلامي بإفاضة، وأضاف أليه ما انتهت إليه أحوال القاهرة المعزية حتى منتصف القرن الخامس والظاهر أيضاً أن كتاب (المختار) إنما هو المنعوت (بتاريخ القضاعي) لأن ما نقل إلينا منه من الشذوذ يمتاز بإفاضة واضحة، ولا وجود له في الموجز المسمى (عيون المعارف)

وقد كان القضاعي، كما يبدو من آثاره، مؤرخاً دقيقاً ثقة، يزن روايته ويمحصها، وكانت روايته عن مصر الإسلامية، ولاسيما عن حوادث عصره، مستقى خصباً لكثير من المؤرخين المتأخرين؛ وما زالت هذه الرواية ذائعة تتخذ مكانها بين مصادر التاريخ المصري حتى أواخر القرن التاسع حيث نرى السيوطي ينقل في حوادث فتح مصر عن كتاب (الخطط) للقضاعي مكتوباً بخطه، وفي ذلك ما يؤيد أيضاً أن الكتاب المنعوت (بتاريخ القضاعي) إنما هو كتاب يحتجب عنا هذا الأثر الهام بين مصادر التاريخ المصري، ولاسيما بين مصادر العصر الفاطمي الأول، الذي احتجب عنا معظم الآثار الخاصة به، والتي غدت كالحلقة المفقودة في مصادر تاريخ مصر الإسلامية

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان

ص: 15

‌في اللغة والألفاظ

الدعوة إلى اختصارها لتسهيلها

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

اللغة تتبع الدولة، وتسير في ظلها، ولا سبيل إلى انتشار لغةٍ يُغلب أهلها على أمرهم، وبعيدٌ أن تُصد عن الذيوع لغةٌ يتسع سلطان أبنائها وتنبسط رقعة ملكهم أو نفوذهم، ولا عبرة في هذا الأمر بما في اللغة نفسها من سهولة أو عسر في التحصيل، والمعول على القوة والسلطان، لا على أن اللغة قريبة المنال أو بعيدته، ويسير المطلب أو عميقة المغاص، وقد استطاعت اللغة الإنجليزية أن تنتشر في الأرض وأن تنفذ إلى مجاهلها، وأن تزحزح الفرنسية وتحطمها عن عرشها، لأن سلطان هذه الدولة امتد شرقاً غربياً، وليست الإنجليزية أسهل من الفرنسية أو العربية، ولكن قوة أهلها أكبر، ونشاطهم أعظم؛ وهذه (الاسبرانتو) التي اخترعوها لتكون اللغة المشتركة بين الأمم ماذا كان مآلها؟ يعرفها آحاد راقتهم الفكرة، ولا يعبأ بها أحد فيما عدا هؤلاء النفر القليلين، لأنه ليس وراءها ولا قدامها دولة لها سطوة، وفي الهند لغات لا رجاء لا حداها حتى في أن تصبح لغة الهند كلها ما دامت إنجلترا تحكمها، وفي مصر جالية أجنبية ليس أنشط منها ولا أكثر عدداً، هي الجالية اليونانية، ولكنه يندر أن يعني مصري بتعلم لغتها، على حين نتعلم الإنجليزية في مدارسنا ونعدها لغتنا الثانية

ولا آخر لما يمكن أن نضربه من الأمثال ونسوقه من الشواهد، فحسبنا هذا القدر، فالذين يقولون إن المستر اوجدن قد تخير من اللغة الإنجليزية خمسين وثمانمائة لفظ رآها كافية وافية بحاجات التعبير كلها، وأن مثل هذا الاختصار أو الاختزال ميسور في اللغة العربية، وإنه يعين على نشر اللغة ويفضي إلى ذيوعها، ويتيح لها أن تصبح (عالمية) - أقول إن الذين يذهبون هذا المذهب، ويفكرون على هذا النحو، يغلظون ويقلبون المسألة، وذلك أن هذه الألفاظ الثمانمائة ليست الإنجليزية، ولا فيها لأبنائها وعلمائها وكتابها وساستهاأي كفاية، وإنما هي حسب الأجنبي الذي يريد أن يتصل بأهلها اتصال تجارة أو ما هو من هذا بسبيل، وقد ابتكر المستر اوجدن هذه الوسيلة ليمكن للغته ويزيدها ذيوعاً، لا لينشرها، فقد تكلفت بنشرها الإمبراطورية الطويلة العريضة من قبل أن يخلق المستر اوجدن؛ ولو أنك

ص: 16

عمدت إلى مثل ذلك في لغة الفرس أو إحدى لغات البلقان الكثيرة، لما أجدى ذلك شيئاً، ولما جاوز بها هذا التسهيل صبغتها المحلية

وشيء آخر يغلط فيه أصحابنا الذين افتتنوا بالتسهيل، ذلك أن السهولة مرجعها إلى العقل، لا إلى الألفاظ، فلو أنك قصرت اللغة على ثمانين لفظاً، لا ثمانمائة، لما أختلف الحال، ولبقيت المسألة حيث كانت، لأن المعول في التعبير على الكاتب؛ وليس على عدد الألفاظ، وما من كاتب أو شاعر في الدنيا يستعمل كل ما في لغته من كلمات، والسهولة مردها إلى أمور لا علاقة لها باللفظ في ذاته ومن حيث هو، منها أن يكون المعنى الذي يلتمس المرء العبارة عنه، واضحاً في الذهن، ومنها أن يحسن الكاتب بعد ذلك انتقاء الألفاظ التي يؤدي بها المعاني، وكثيراً ما يحدث أن يكون المعنى غائماً، أو غامضاً، أو غير واضح على العموم، في ذهن المرء، فيحاول العبارة عنه قبل أن يدركه هو نفسه أو يحيط به، فيجئ الكلام مضطرباً غير مفهوم، لأنه لا سبيل إلى البيان إلا بعد أن يعرف المرء ماذا يريد أن يقول، وقد يكون المرء عارفاً بما في نفسه؛ مدركاً للمعاني الدائرة فيها، ولكنه لا يعرف كيف يعبر عنها ويبرزها في صورة واضحة، فيسئ الأداء؛ وإن كان قد أحسن التفكير، ويقصر في العبارة؛ وإن لم يقصر في فهم ما يرد على خاطره ويتمثل له من الخوالج. وفي وسعي أن أكتب لك سطوراً ليس فيها كلمة واحدة غير مألوفة، أو لا يعرفها العامة والأميون ومع ذلك لا يستطيع أن يفهمها أحد، وفي مقدوري كذلك أن أعبر عن أدق الاحساسات وأعمق المعاني وأعوصها تعبيراً يحمل القارئ على الظن بأن هذه كلها من البدائه، لأن العبرة كما قلت ليست بالألفاظ ولا بكونها غريبة أو مألوفة، وحوشيّة أو مأنوسة، بل بالكاتب نفسه، أي بوضوح المعنى الذي في رأسه أو غموضه، وبقدرته على أدائه أو عجزه عن ذلك. وقد يتفق لك أن تحادث رجلاً عامياً لا يقرأ ولا يكتب، فتسمع منه كلاماً كالتخليط أو الهذيان لا تستطيع أن تتبين منه مراده، فهذا العامي الأمي لم يرجع إلى الغريب من ألفاظ اللغة ولم يستعمل المهجور والدارس منها، وإنما استعمل ألفاظاً يعرفها الأطفال والباعة والجهلة والمتعلمون، ومع ذلك أعياك أن تفهم كلامه. فلو أن الألفاظ هي التي يرجع إليها أمر الغموض أو البيان، والصعوبة أو السهولة، لوجب أن تفهم عنه، ولما كنت معذوراً إذا لم تفهم

ص: 17

فلا قيمة إذن لعدد الألفاظ التي في اللغة، ولتكن ألفاً لا أكثر، أو مائة ألف، أو أقل من ذلك أو أكثر، فلن يختلف الأمر في الحالتين، والأمر من حيث الأداء في اللغة مثله في التصوير، ذلك أن الألوان التي يستعملها المصور قليلة العدد جداً، وهي أداة المصورين جميعاً كما أن الألفاظ أداة الكتاب. ولسنا نظن أن أحداً سيزعم أن قلة الألوان التي يستخدمها المصور جعلت التصوير أسهل، وما من مصور إلا وهو عارف بالألوان وكيف يستعملها وكيف يزاوج بينها، ومع ذلك يجئ آخر بغير شيء، ولا نحتاج أن نقول إن الألوان لا ذنب لها، وإن المصور نفسه هو الذي يستطيع أن يؤدي بها ما أراد أن يبرزه أو يثبته أو يدل عليه أو يرمز له، وكذلك في الكتابة: لا ذنب للألفاظ، فإنها - وهي مفردة - لا تؤدي شيئاً، ولا فرق بينها، ولا فضل لواحدة على واحدة، وإنما تصير كلاماً بعد أن يحدث فيها الكاتب نظما أي بعد أن يؤلف بينها، كذلك الألوان ليست هي الصورة، وإنما تصبح صورة بعد المزج والمزاوجة والتأليف

وسواء أقلت الألفاظ المستعملة أم كثرت، فسيظل هناك كتاب مشرقون واضحون يسهل ورود كلامهم ويحسن وقعه، وآخرون غامضون أو معوصون، يحطمون رؤوس القراء لأنهم يكتبون قبل أن يتبنوا ما في نفوسهم من الخواطر أو الاحساسات أو لأنهم لم يرزقوا القدرة على ألداء الحسن الواضح، أو لأن في أسلوب تفكيرهم التواء، أو لأن في طريقة تناولهم للموضوع عوجاً، أو لغير ذلك من الأسباب الراجعة - في مرد أمرها - إلى المرء نفسه لا إلى الألفاظ. ولو كان الأمر رهناً باللفظ وحده لهان الخطب، وما على الإنسان حينئذ إلا أن يفتح معجما - إذا اعترضه لفظ غريب

وعلى أن الواقع أن عدد الكلمات التي يستعملها الكتاب، قليل جداً إذا قيس إلى ما في اللغة، وهو لا يزيد على بضع مئات، ومن هذه المئات القليلة يحدث كل كاتب أو شاعر آلافاً من الصور، وبها يؤدي ما لا يستطيعأن يحسبه الحاسب من المعاني والخواطر والاحساسات، كما يستطيع المصور - ببضعة ألوان - أن يرسم مئات من الصور لا تشبه واحدة منها أختها، فلا معنى إذن لهذه الضجة التي يثيرها بعض إخواننا الكتاب حول اللغة ووجوب الاقتصار على المألوف من ألفاظها، وهجر المهجور منها، لأن هذا حاصل من تلقاء نفسه، والكاتب الذي يؤثر الأغراب ويلجأ إلى الميت والدارس من الألفاظ، يجني على نفسه بذلك،

ص: 18

وكثيراً ما يحدث أن يضطر أمثاله إلى تنكب هذا الطريق الأعوج والرجوع إلى النهج المستقيم

وبعد، فانه لا يصح أن يقال إن لغةمن اللغات عيبها كثرة ألفاظها، فان الألفاظ تنشأ، وتحيا، وتموت، على حسب الحاجة، والناس لا يشتقونها أو ينحتونها، أو يضعونها، أو يستعيرونها من اللغات الأخرى، للترف، بل للضرورة في وقتها، وللألفاظ حياتها كما للناس، وهي - مثلهم - أجيال، حتى معانيها تتطور على الأيام، ويجري عليها من الحظوظ ما يجري على كل كائن حي، وإنما الذي يصح أن يقال، والذي يقبل من قائله، هو أننا نسيء تعليم لغتنا، ونجعلها بسوء طريقتنا في تعليمها وبتقصيرنا في حقها، أعوص مطلباً مما هي في الحقيقة وأشق في التحصيل على أبنائها - فضلا عن الغرباء - من اللغات الأجنبية التي أحسن أهلها القيام على خدمتها وذللوا لطلابها ما فيها من صعوبات لا تخلو منها لغة

وما عدا ذلك خلط لا قيمة له

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 19

‌كيف ارتاد الشيخ رشيد مصر

رسالة تاريخية قيمة

من المرحوم السيد رشيد رضا إلى صديقه الأستاذ المغربي

. . . كان السيد رشيد رحمه الله أشار في مصنفاته الأخيرة إلى مبلغ الود الذي توثقت بيننا في عهد طلبنا العلم في طرابلس الشام، وقد استمرت هذه المودة زهاء عشرين سنة، حتى سافر إلى مصر، واتصل الأستاذ الإمام، وأنشأ المنار. وكانت هذه الرحلة إلى مصر نتيجة الدراسة العلمية الحرة المشتركة بيننا خلال تلك المدة. ولا أدل على ذلك من هذه الرسالة المرسلة إليكم. وكان السيد رشيد كتبها بعد أن وصل مصر سنة 1898م والرسالة المذكورة تدخل في نحو 200 رسالة مثلها أرسلها إلى السيد رشيد خلال تسع سنوات (من 1898 - 1906) حتى جئت مصر وحررت في المؤيد

والرسائل المذكورة محفوظة لدي لا يعوزها إلا حذف بعض (الخصوصيات) فتتمثل كتاباً يحتوي على مذكرات في مواضيع مختلفة هامة، لما فيها من وصف الحالة الاجتماعية والأدبية في مصر خلال تسع سنوات

(المغربي)

الرسالة

أخي وسيدي:

سلام وتحية - وأشواق قلبية

لقد امتلأت المخيلة ولا سعة في الوقت لشرح ما ينبغي شرحه بل ولا لكتابته موجزاً بعبارة بسيطة. ولكن لابد من الأيماء إلى بعض بما يحتمله الوقت من البيان

(1)

في بيروت: رغب إلي الوطني الفاضل عبد القادر أفندي القباني أن أحرر جريدة الثمرات، وأعلم في المدرسة التي أنشأها مع الشيخ أحمد عباس فإنها تحتاج لمثلي ولم يجداه

(2)

حدثني المومأ إليه عن السيد محمد بيرم حديثاً طويلا يتضمن حالته في بيروت والآستانة ورجوعه إلى تونس ثم إقامته في مصر: أهمه أنه في بيروت جرى له مع

ص: 20

قاضيها يومئذ مذاكرة علمية طويلة ما كان أحد غيرهما يفهم ما يقولان. وبعد الانصراف سأل عبد القادر أفندي السيد بيرم عن القاضي فقال إنه أعلم من رأى، ثم سأل القاضي عنه فقال انه زنديق فلم يسلم له باطناً. وأن جريدته (الإعلام) ذكرتهم بكلام القاضي بعد زمان، لأنها كانت خادمة للإنكليز، وأنه رأى عدداً يتكلم فيه على الكمال ويقول فيه إن الكمال موجود عند الإنكليز، فيجب أن نأخذه عنهم بعد ما قدم مقدمه أنه يجب أخذ الكمال حيثما كان

(3)

حدثني أيضاً عن ترجمة فانديك، وأن أطباء الإفرنج لا يعترفون له بأنه طبيب ماهر ولا علماءهم بأنه عالم وإنما كان مترجماً. وحزبه - ومنهم جماعة المقتطف - الذين تحزبوا له يوم أخرجته الجمعية الأمريكانية من المدرسة بناء على أنه ليس لديه من العلم ما يؤهله لها - يسمونه فيلسوفاً

(4)

اجتماعاتي مع الأمير شكيب وحديثه لي عن شؤونه في الآستانة لاسيما مع إبراهيم بك المويلحي وترددهما بين السيد جمال الدين (الأفغاني) وبين أبي الهدى أفندي وقضيت العجب مما ذكر لي من خبث المويلحي

(5)

اجتماعاتي مع وجوه الجبل (لبنان) متصرفه فمن دونه أمور شخصية ليس فيها فائدة تاريخية أو علمية إلا مسألة توليه نسيب بك جنبلاط قائم مقامية صيدا بإرادة سنية وذهابه بأمر الوالي إليها وما كان من الاحتفال الغريب من أهلها به وإرسال الوالي تلغرافا صبيحة ليلة وصوله بطلبه لبيروت وإقامة وكيل لصيدا مكانه بحيث لم ينم في صيدا إلا ليلة واحدة

(6)

بور سعيد والإسكندرية ومرفأ كل منهما ومبانيهما وشوارعهما لا سعة للكلام في ذلك

(7)

مدرسة جمعية العروة الوثقى بالإسكندرية وتعليمها ورئيسها عبد القادر أفندي سري

(8)

اجتمعنا بالسيد عبد الفتاح النديم بداره في الإسكندرية وأهداني نسخة من الجزء الأول من سلافة النديم وأخبرني أن كتب أخيه (عبد الله نديم) لم تول في الآستانة وهي عند الشيخ ظافر، ولم يعطوها له بناء على صدور الأمر بفحصها، وأن كتاب المسامير الذي ألفه بالطعن في أبي الهدى أفندي توجد نسخة منه عند أخ لجورجي كان يتردد بين السيدين الأفغاني والنديم في الآستانة وأخو جورجي الآن في مصر لكنه يطلب في مقابلة الكتاب مئات من الجنيهات

ص: 21

(9)

مولد السيد البدوي الرجبي في طنطا وما يقام في ذلك المسجد العظيم في أيامه من الأذكار والنوبات واجتماع الألوف من النساء والرجال وطوافهم بقفص قبر السيد كما يطاف بالكعبة، وتقبيلهم وتمسحهم به، بل وتقبيل عتبة باب مقصورته

(10)

بحيرة الإسكندرية، الملاحة. أراضي مصر وفيها سباخ كثير، أشجارها، النيل، عظمتها لاسيما في كفر الزيات والمنصورة ودمياط، الطرق الحديدية والترام الكهربائي - أمور عمومية

(11)

ذهبت إلى دمياط عن طريق المنصورة ومعنا أبو النهي والشيخ أبو النصر (القاوقجيان) فنمنا بالمنصورة عند صديقنا الشيخ عبد الرزاق أفندي الرافعي القاضي ولم يكن ثمة، لكن تلقانا ولده محمد أفندي بالترحاب وهو لطيف جداً، وسهر عندنا المفتي والنائب وبعض أهل العلم، ولما سمعوا حديث أخيكم أعجبوا به، ودعانا المفتي للغداء في اليوم التالي فسافرنا إلى دمياط ولم نجب دعوته

(12)

الجمعية الأدبية للخطابة في المنصورة وكلام المقطم فيها

(13)

اجتماعنا بالعلماء في دمياط وكثرة سؤالهم لي عن المسائل الدينية والصوفية والفلسفية، وبفضل الله لم أتوقف في جواب. وقد تمنى الكثير منهم أن أبقى عندهم وبعضهم أن يكون معي

(14)

فريد بك (وجدي) ابن وكيل محافظ دمياط بحالة الإسلام والوقت وجهته مثلنا دينية، يطالع الأحياء، وله اعتناء بالفلسفة، ألف كتاباً صغيراً سماه الفلسفة الحقة أهداني نسخة منه، وهو الآن يستعد لتأليف كتاب بالفرنسيةفي الديانة الإسلامية ويعرضه في معرض باريز الآتي، وهو منفرد بهذه الأفكار في دمياط، لأن دمياط بلدة إسلامية لا مداخلة للنصارى والإفرنج فيها، ومن ثم هي ضعيفة في العمران، قوية في التمسك بالدين، لا نظير لها في مدن مصر. زرت فريد بك وزارني، وقد أعجب بي كل الإعجاب، وتمنى أن أكون معه دائما، ونشط على إنشاء الجريدة (المنار) وسيكتب فيها

(15)

فاتني أن أذكر لكم عند ذكر الإسكندرية أنني اجتمعت هناك برجل يدعى السيد حسن أنين وهو رجل باقعة أصله بيروتي ودخل النصرانية وتعلم اللاهوتي البرتستانتي ثم رجع للإسلام، وهو متقن الإنكليزية ومتزوج بإفرنجية، وقد ساح في البلاد كثيراً وأكثر إقامته في

ص: 22

عدن يتعاطى الأعمال التجارية، وله مداخلة مع جميع طبقات الناس، ويعاشر كلاً على مشربه خيراً أو شراً، يجتمع باللورد كرومر وبمختار باشا (الغازي) وبسائر الوزراء والكبراء وكتاب الجرائد، وله صحبة مع أصحاب المقطم أثنوا عليه يوم جاء مصر، وفي هذه المدة الأخيرة أقامه الشيخ الميرغني الشهير خليفة على تلاميذه في شرقي أفريقيا إلى رأس الرجاء، ولا نعلم ما يكون من أمره، وقد وعدنا بالمساعدة في أمر الجريدة (المنار)

(16)

مصر وما أدراك ما مصر!! وصلنا إليها قبيل العصر يوم السبت الماضي، وأتينا تواً للأزهر؛ فتلقانا الشيخ إسماعيل (الحافظ) وغيره، وشربنا الشاي في غرفة الشيخ بدر الغزي - يظهر أنه بابي على مذهب شيخه - وفي ضحوة يوم الأحد ذهبت لزيارة المصلح العظيم الأستاذ الشيخ محمد عبده ومعي الشيخ إسماعيل والشيخ أبو النهي. قعدنا في المندرة وأعطيت العبد بطاقة الزيارة فأوصلها إليه في الحريم. فلم يلبث أن نزل وهي في يده ولم يتركها مدة جلوسنا، بل جعل يقلبها بيده ويتكلم

سألنا أولاً عن أستاذنا الشيخ حسين أفندي (الجسر) ثم عن عزيز أفندي سلطان ومحمد باشا المحمد، ثم عن طلبة العلم وشيوخهم وتعليمهم. ومما قلنا إن الطلبة نحو مائتين والمستفيد المجتهد نحو اثنين

ثم أنشأ يتكلم عن حالة الأزهر والأمة. فعلمنا أن ما كنا نعتقده فيه من أنه موجه كل همه وسعيه للأزهر صحيح. ومن جملة كلامه أن سعادة هذه الأمة في الأزهر، وأن شقاءها من إهمال الأزهر. وإنه لا يرى نفسه سعيداً إلا إذا نجحت مساعيه في إصلاح التعليم فيه. وإنه إذا رأى انتظامه قبل موته يموت قرير العين ويرى أنه ملك عظيم، وحدثنا بأمر الامتحان في الأزهر حديثاً كله تنديد بشيوخه وبتعليمهم، بل قال إن الكثير من مدرسي الأزهر لا قابلية فيه الآن لأن يكون طالب علم: ومنهم من يصلح اليوم لأن يطلب العلم من طريقه

قال: كنت في الامتحان أسأل أحد الطلبة عن عبارة فيحل ألفاظها المفردة بإرجاع ضمائرها وبيان متعلق ظروفها - هذا إن أحسن الجواب - فأسأله عن المراد بهذه العبارة فلا يحير جواباً. قال لأحدهم مرة: ما مراد المصنف من هذه العبارات - ثلاث مرات - وهو يعيد له الحل السابق. فقال له في الأخير: إن مراده كذا، فقل مثلما قلت؛ فلم يحسن ذلك. وقال - بمناسبة ذم كتبهم: - سألت أحدهم في المنطق فأجاب بما يبعد عن الصواب. قال: فقلت:

ص: 23

من أين لك هذا الكلام. فقال: من حاشية الصبان على السلم. قال: فلم أصدقه فنظرت في الكتاب فرأيتها كما قال. فقلت للشيوخ كيف يعرف المنطق وشارحه لا يعرف المنطق ومحشّيه (الصبان) لا يعرف المنطق

قال: كان مراده من العام الماضي قلب هيئة الأزهر دفعة واحدة، لكن قيل له إن الشيوخ يصعب عليهم ذلك، ولابد من أخذهم بالتدريج

وقال: إن مداخلته بالحكومة إنما هي لأجل الأزهر لأنه لولا مركزه في الحكومة لا يقبل له قول ولا يستطيع أن يعمل شيئاً فيه. وانه يعلم أن كثيراً من الشيوخ الذين ينقادون له الآن ساخطون عليه في نفوسهم، مع أنه سعى لعلماء الأزهر بمبلغ خمسة آلاف جنيه بعضها من الحكومة وبعضها من الأوقاف، وكانوا في غاية الضيق

مما ينقمون عليه أنه لا يطول أكمامه، مثلهم، وأنه يركب الحصان ويلبس الجزمة عند ركوبه كما فهمت من الشيخ إسماعيل فتأمل. وقال: لما ولاه الخديو السابق القضاء قال لناظر الحقانية: أنا خلقت لأن أكون معلماً لا لأن أكون حاكماً: أقول حكمت على فلان بكذا وعلى فلان بكذا. فقل للخديو يجعلني في دار العلوم، فلم يرض الخديو، وقال: إن الحكومة أرادت الإصلاح بكذا وكذا

قال: وإن المصريين منهم من يعتمد على فرنسا وعلى. . . وعلى. . . وكل هذا أوهام، والصحيح أنه لا يضمن لنا الاستقلال والحياة للأمة إلا شيء واحد وهو التربية والتعليم الصحيح

ثم تكلم عن ضعفنا وقوة أوربا: إن جميع ما حولنا - لاسيما حكامنا وعلماءنا - يدل على اليأس، ومع هذا فان لي أملاً كاملاً، ويوجد رجل آخر في مصر له نصف أمل سأسأله عنه، ثم بكلام تاريخي عن حالة أوربا في ضعفها وكيف قويت

سألته عن الكتاب المعهود، فقال: إنه لم يتمه وأنه لابد منه ومن كتبٍ أخرى. لكنه يحتاج إلى مساعد حاذق أمين: يفحص له عن النصوص؛ فان جميع أرباب التآليف الكثيرة كالغزالي وغيره كانوا كذلك، وإلا فان الوقت لا يتسع لتلك المؤلفات. وإنه لم يجد ذلك المساعد ولا بالمال. فقلت له:(ستجدني إن شاء الله من الصالحين) وربما يحصل بيني وبينه ارتباط عظيم. ولو جئت مصر غير متعلق بغيري ربما كان أولى؛ فإني أجد قبولاً

ص: 24

عظيما عند الكبراء والوجهاء من أهل العلم وأهل الدنيا: ما تكلمت أمام أحد إلا اعتبرني اعتباراً زائداً. وقد تبين لي صحة قول من كان يقول لي: إنك ضائع في بلادك ولو كان في الوقت سعة لأخبرتك بما يسرك جداً من التفصيل

أخبرنا الأستاذ (الإمام) أيضاً أنه كان شرع في تأليف رسالة في التوحيد منذ كان في بيروت، وانه سيتمها ويقرؤها درساً في الأزهر في أول السنة الآتية، ويقرأ كتاب السيرة المعهود أيضاً إذ قراءته تدعو إلى إتمامه

وقال بمناسبة صعوبة التآليف المهمة في العربية - إن بعض الكتب التاريخية وغيرها ربما لا يوجد فيه من العبارات المفيدة إلا عبارة واحد أو اثنتان والباقي لا أهمية له. فاستخراج المفيد صعب، ومثل مثلاً فقال: إذا أردنا أن نكتب في تاريخ علم الكلام فمن أين نستفيد: كيف كان هذا العلم في عصر الصحابة ومن بعدهم؟ وكيف اعتزل واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري؟ ومن أين جاءه ذلك الفكر في المخالفة؟ وهل كان غيره على رأيه؟ وما الذي حمل أبا الحسن الأشعري على القول بأن الوجود عين الموجود مثلا؟ وما غرضه من ذلك؟ ومتى دخلت الفلسفة ونحوها من الفنون في هذا العلم؟ وما غرض العلماء من جعل الفلسفة تدخل على العقول مع عقائد الدين في وقت واحد؟ مسائل لم يشرحها أحد من علماء الإسلام. وقال: إن لعلماء الإفرنج ومؤرخيهم كلاماً في الدين الإسلامي لم يهتد له أحد من المسلمين، وذكر لنا بعض تلك الكتب ومؤلفيها وكيفية أبحاثها

وقال: إن الأمم تتقدم إلى الأمام ونحن نرى من سعادتنا في تقدم الأمة أن ترجع للوراء تسعمائة سنة. وأن تكون كتبنا وتعاليمنا كما كانت منذ تسعمائة سنة

وذكر في معرض الانتقاد ابن عابدين وانتقد عليه وقال: كان يمكن جعل الكتاب مجلدين بذكر ما يفيد والسكوت عما لا يفيد، وذكر الإحياء وأنه ينبغي اختصاره، وأنه رأى له مختصراً في مجلدين في المكتبة الخديوية مدحه كثيراً، ولولا أنه مخروم لسعى في نشره، وقد تعجبت لرضائه عنه رضاءً تاماً، ولعله لا يعجبه غير كذلك

أما سيرة الأستاذ (الإمام) في مصر فكلٌ يعلم أن بيده زمام الأزهر، وأنه هو الساعي في انتظامه. وشيخ الإسلام فمن دونه تبع له، وفي إنشاء الرواق الجديد الذي أنشأه الخديو ويسمى بالرواق العباسي وهو حسن جداً، وقد سعى بمبلغ من النقود ليوزع على النابغين

ص: 25

في الامتحان من الطلبة، وسيوزع قريباً في احتفال يخطب هو فيه الخ

وأما من حيث المحكمة فقد سمعت أنه يأتي الساعة واحدة فيحل المشاكل ويفصل الدعاوي المتراكمة. وينقلون عنه حكايات لطيفة في بيان الحيل وكشف الدسائس

ذكرت له: أن غرضي الأول تلقي الحكمة منه في أوقات الفراغ؛ فسر لذلك وعهد إلي أن أجيء لبيته صباح يوم الجمعة (نهار غد) وأنه يأخذني حيث يذهب

فإنني أن أكتب لكم عند ذكر التربية أنه قال للسيد جمال الدين (الأفغاني) عند ما كانا في فرنسا، دعنا من السياسة ولنختر لنا مكانا مهملا لا اعتبار له في نظر الحكام (أو ما معناه) ونعلم به ونربي بعض الأولاد، فلا تمضي عشر سنسن إلا ويبرع منهم جماعة على رأينا يقلدوننا في ترك أوطانهم والهجرة في نشر العلم والدين فنرسلهم للجهات، وأن السيد (الأفغاني) أبى عليه هذا وقال له: أنت مثبط فلم يكن مندوحة عن الانصياع له. وقال: لو أن السيد ترك السياسة والتفت إلى التعليم لأصلح إصلاحا عظيماً

ذكرت له بمناسبة ما شاهدته من طواف الناس بقبر السيد البدوي ولثم أعتابه، فحدثنا أن بعض الوجهاء كان عنده في يوم مولد السيدة زينب وأنه قام ليحضر المولد. فسأله الأستاذ أين تذهب؟ قال: لزيارة السيدة. فقال: لأي شيء خصصت زيارتها بهذا اليوم. قال: لأنه يوم المولد. فقال له: ما هو يوم المولد؟ أنا لا أفهم معنى هذا اللفظ. هل هو عبارة عن يوم تقوم فيه من قبرها وتستقبل الزائرين، وطفق يندد بهذا الأمر. فقال له الرجل إن كثير من العلماء والفضلاء يحضرون هذه الموالد وتهيأ للقيام. فقال الأستاذ: أنا لا أعتبرك وأعتبر هؤلاء الذين تسميهم فضلاء إلا وثنيين، لأن هذه الأعمال أعمال الوثنيين؛ إن كل آيات الكتاب ونصوص السنة تذم هذا (أو ما معنى هذا) بل الفاتحة التي تصححون بها عبادتكم تنهاكم عن هذا وتعده خلاف العقيدة، أنتم في كل ركعة من الصلاة تقولون:(إياك نعبد وإياك نستعين) فكيف تصدقون بهذا وأنتم تطلبون الإعانة من هؤلاء الأموات، أفعالكم متناقضة، لأن قراءتكم الفاتحة له يدل على أنهم محتاجون إليكم بهذا العمل الذي تهدونه لهم ليكون في ثواب أعمالهم ثم تطلبون منهم الحوائج الخ

أهل مصر عموماً لاسيما العلماء الوجهاء وأركان الحزب الوطني يلعنون أبا فلان في المجالس ويكفرونه، ويقولون إنه هادم لأساس الدولة وإنه موقع الفتنة بين السلطان

ص: 26

والخديو، حيث أوهم الأول أن الثاني طالب للخلافة ويساعده على هذا العمل توفيق البكري الإنكليزي المشرب

ما كنت أتخيل أني أكتب هذا المقدار لضيق الوقت علي ولا أراك تؤاخذني على قبح الخط وعدم انتظام الكلام، واقرأه على الشيخ محمد (كامل) أفندي الرفاعي لأني أود أن يطلع عليه، وكنت عازماً أن أكتب له بمثل هذا فلم يساعدني الوقت.

أخوكم

محمد رشيد رضا

ص: 27

‌المعنى والأسلوب

في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

المعنى الصادق الرفيع والأسلوب المحكم الجميل هما قوام كل أدب جديد بهذا الاسم؛ لا يغني أحدهما إذا غاب الثاني، ولا يرتفع الأديب إلى الذروة العليا في الأدب إلا باجتماعهما له

وقد كان كبار شعراء الإنجليزية - كشكسبير وملتون ووردزورث وتنيسون - يجمعون إلى خصب شعورهم بصيرة باللغة بعيدة ومقدرة على التصرف بمفرداتها وتراكيبها تصرفاً يبرز معانيهم في أحسن صورة، أما توماس هاردي فقصر به عن بلوغ ذروتهم - رغم خصوبة شاعريته - إعواز الرصانة في أسلوب شعره الذي هو أشبه بالنثر الجيد، وقصوره عن أولئك وتعابيرها، ومن ثم ينزله النقاد الإنجليز المرتبة الثانية بين شعرائهم

وقد كان للمعنى - المعنى الصادق الجدير بالتعبير عنه - المنزلة الأولى عند كبار الأدباء الإنجليز دائماً، وكان الأسلوب يحل عندهم في المحل الثاني، ويأتي لأداء المعنى لا ليحل محله أو يتحيَّفه، ولم يشتد الولع بالأسلوب إلى حد الإغراق إلا في عهد قصير في القرن الثامن عشر ما يزال يُعد أحط أزمان الشعر الإنجليزي، وسرعان ما تحرر الأدب من قيوده، وعاد كما كان تعبيراً صحيحاً عن الشعور الصادق في أسلوب طبيعي مستقيم

أما الأدب العربي فطغى الأسلوب على جانب كبير منه في مختلف عصوره وتحيف المعنى أو ألغاه: ففي الأدب العربي شعر ونثر كثيران يروع أسلوبهما والمعنى فيهما ضئيل هزيل أو مصطنع كاذب غير معبر عن شعور صحيح أو تفكير سليم، لأن الأديب قدم براعة الأسلوب على التعبير عن حقيقة خواطره أو الإتيان بمعنى جديد يستحق عناء الإنشاء

لقد كان العرب شعراء السليقة لا شك، يُحِلُّون الشعر أو الأدب عامة مكانة عالية ويحتفون به ويطربون له، حتى أوشك أن يكون فهم الجميل الوحيد، ولكن من العجيب بل من المؤسف أن الأدب العربي أحاطت به ظروف أزاغت نظرة كثير من أدبائه إلى الأدب أو وظيفته أو رسالته، وقد أشرت في كلمات سابقة إلى بعض تلك الظروف، ومنها دخول الأعاجم في اللسان العربي، واعتزال الأدباء مجتمعهم واعتمادهم على صلات الكبراء،

ص: 28

وتغلب نزعة التقليد على نزعة التطور في الأدب العربي، واعتزاله غيره من الآداب القديمة والمعاصرة له إلى حد كبير

زاغت نظرة كثير من الأدباء إلى الأدب فحسبوه صنعة لا فناً جميلاً، وظنوا الغرض منه إظهار البراعة لا التعبير عن الشعور والفكر الصادقين، فجاءت آثارهم صناعة وبراعة خالية من المعاني الصادقة العالية والشعور العميق الصحيح: فالمقامات ورسائل الدواوين وأشعار النسيبِ الاستهلالي والمدح والهجاء المأجورين والفخر الأجوف، والمنثورُ والمنظومُ المرصعان بغرائب السجع والجناس والزِّواج والمقابلة وهلم جراً، كل هذه آثار أدبية قليلة الحظ من الصدق والحياة وعمق الفكرة، وإن تكن لها مزية فهي الأسلوب إن كان مُنشئها بارعاً

وهناك عدا ذلك آثار أدبية لم يقدم أصحابها الأسلوب على المعنى، ولكن المعنى فيها تافه بذاته غير ذي بال. فالأدب الرفيع هو ما تحدث عن مشاعر النفس العميقة وتأثراتها بأسباب الحياة، ومشاهد الكون، وتناول حياة الإنسانية على الإطلاق ناظراً في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، معبراً عن آمالها وآلامها، فأين من هذا خمريات أبي نواس ومقذعات جرير والفرزدق ومجونيات بشار؟ لقد كان هؤلاء شعراء صادقي المعاني في كثير مما قالوا رائعي الديباجة، ولكن شعرهم لتفاهة المواضيع التي سخروه فيها أو حطتها لا يرتفع إلى الطراز الأول من الشعر الإنساني، ولا تبقى له قيمة إذا جردته من أسلوبه الجزل

فإذا نظرت إلى كثير من منتجات أولئك الأدباء طالباً تلك النظرة الإنسانية العامة، وراغباً في شيء من الثقافة تضيفه إلى ما عندك، ومنتظراً أن ترى نفسية الأديب وشخصيته مرتسمتين في آثاره لم تصب من ذلك شيئاً، ولم تزدد علماً من دواوين وكتب كاملة بغير فائدة لغوية أو براعة لفظية أو تعبير جديد عن معنى متداول قديم

فإذا ألغيت من آداب اللغة كل الآثار التي لا تتعدى مزيتُها أسلوبها، والتي هزلت معانيها أو كذبت أو لم تزد على التمحل والمبالغة والتخريج والأغراب، لم يبق لك إلا القليل من الأدب السامي الذي اجتمعت له مزايا المعنى القيم والموضوع المهم المفيد والأسلوب المحكم، كأشعار الفحول في الحكمة والوصف الطبيعي والتعبير الصادق عن الوجدان والنسيب الحقيقي والحماسة وما إلى ذلك، وتلك دون غيرها هي الجديرة أن تسمى أدبا

ص: 29

وهذه الآثار - وأحسن نماذجها حكمة المتنبي وأوصاف أبن الرومي وأبي تمام والبحتري ونظرات المعري ووجدانيات الشريف الرضى، ورسائل الجاحظ - هي خلاصة الثقافة هو بلا شك دون المحصول الذي يظفر به مطالع الأدب الإنجليزي، الذي أوسع أقطابه النفس الإنسانية والحياة البشرية والمحاسن الطبيعية درساً ووصفاً ومناجاة

لقد أشرت إلى الظروف التي أحاطت بالأدب العربي فأدخلت فيه كثيراً من زيف الصنعة وكاذب القول وغلَّبَتْ الأسلوب في كثير منه على المعنى، ولعل طبيعة اللغة العربية قد ساعدت على هذا التغليب، وأمدت لمن انصرفوا بكلياتهم إلى الأسلوب وجمعت حولهم المستجيدين: لما للغة العربية من بلاغة أصلية، وموسيقى فخمة، وما لألفاظها وتراكيبها في الآذان والنفوس من روعة وفتنة، وما لأوزان الشعر العربي وقوافيه من رصانة واتساق بحيث يستطيع المتمكن من كل هذا أن يستولي على الألباب دون أن يبتدع في المعنى، كما يصرفك جمال اللحن الموسيقي عن تفاهة المعنى المتغنى به أحياناً

وقد زالت اليوم الظروف التي لابست الأدب العربي قديماً، فهبطت بمعاني الكثير منه وأدخلت عليه الزيف والصنعة وزيغ النظرة إلى الغرض منه، وما زالت للغة سعتها ومقدرتها وجمالها وموسيقاها، فإذا اجتمع صدقُ النظرة إلى الأدب ومطاوعةُ أداته وهي اللغة، إذا قرنت المعاني المبتكرة السامية إلى اللغة الفنية المساعدة، فما أجدر الأدب العربي أن يتبوأ منزلة عالية بين الآداب، وما أقوى الأمل في أن يفوق مستقبله كل ما عرف ماضيه

فخري أبو السعود

ص: 30

‌من تراثنا العلمي

2 -

كتاب في البَيْزَرَة

وصف وتحليل لنسخة فريدة من كتاب مفقود، في علم ضائع،

لمؤلف مجهول

للأستاذ علي الطنطاوي

(أبواب الكتاب)

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الذي له في كل لطيف من خلقه مُعجز يُتفكرُ فيه، وخفي من صُنعهُ يتنبهُ به عليه، ونعم تقتضي مواصلة حمده، ومننٌ تحث على متابعة شكره. والذي ميز كل نوع من حيوان خلقه على حدته، وأبانه بشكله وصورته، وجعل له من الآلة ما يلائم طبعه ومُركبه، ويسره للأمر الذي خلق له، ويُؤديه إلى مصلحته، وقوام جسمه. وجعلنا من أشرف ذلك كله نوعاً، وأتمه معرفة، وجمع فينا بالقوة ما فرقه في تلك الأصناف بالآلة، فليس منها شيء مخصوص بحالٍ له فيها مصلحة إلا ونحن قادرون على مثلها؛ كذوات الأوبار التي جعلت لها وقاءً وكسوة تلزمها ولا تعدمها، فإنا بفضل حيلة العقل نستعمل مثل ذلك إذا احتجنا إليه، ونفارقه إذا استغنينا عنه؛ وكذوات الحد والشوكة من صدف أو مخلب، فان له مكان ما نستعمله من السيوف والرماح وسائر الأسلحة؛ وكذوات الحافر والظلف فان لنا أمثال ذلك مما ننتعله ونتقي أذى الأرض به. وجعل لنا خدماً وأعواناً، وزينة وجمالاً، وأكلاً وأقواتاً؛ فبعض نمتطيه، وبعض نقتنيه، وبعض نغتذيه. وأحل لنا صيد البر والبحر والهواء؛ نقتنص الوحش من كناسها، ونحطمها من معاقلها، ونستنزل الطير من الهواء، ونستخرج الحوت من الماء. ولم يكلنا في ذلك إلى مبلغ حيلتنا حتى عضدنا عليه، وسهل السبيل إليه، بأن خلق لنا من تلك الأنواع أشخاصاً أغراها بغير من سائر أجناسها، ووصلها من آلة الخلْفَه وسلاح البنية، وقبول التأديب والتضْرية، والانطباع على الأكفّ، والاستجابة فدلنا

ص: 31

على موضع الصنع فيها، وموقع الانتفاع بها، كالفهد والكلب وسائر الضواري، والبازي والشاهين وسائر الجوارح كلما يحويه من ذلك لنا كاسب وعلينا كادح، وبمصلحتنا عائد؛ نستوزعه جل جلاله الشكر على ما منحناه من هذه الموهبة، وفضلنا به من هذه المكرمة، وفوائد قسمه؛ ونرغب إليه جل جلاله في العون على طاعته، ومقابلة إحسانه باستحقاقه. وصلى الله على محمد نبيه الصادق الأمين، البشير النذير، وعلى آله الطيبين الأخيار وسلم تسليما، وعلى الأئمة من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب حتى تنتهي إلى العزيز بالله أمير المؤمنين فتشمله ونسله إلى يوم الدين

إن للصيد فوائد جمة، وملاذ ممتعة، ومحاسن بينة، وخصائص في ظلف النفس ونزاهتها وجلالة المكاسب وطيبها كثيرة؛ فيه يستفاد النشاط والأريحية، والمنافع الظاهرة والباطنة والمران والرياضة، والخفوف والحركة، وانبعاث الشهوة واتساع الخطوة، وخفة الركاب، وأمن من الأوصاب؛ مع ما فيه من الآداب البارعة، والأمثال السائرة، ومسائل الفقه الدقيقة، والأخبار المأثورة ما نحن مجتهدون في شرحه وتلخيصه، وتفصيله وتبويبه في هذا الكتاب المترجم بكتاب (البَيزرة) على مبلغ حفظنا، ومنتهى وسعنا، وبحسب ما يحضرنا، وينتظم لنا اتباعاً فيما لا يجوز الابتداع فيه، وابتداعاً فيما أغفله من تقدمنا ممن يدعيه، ونحن مقدمون ذكر الأبواب التي تشتمل على ذلك ليتأتى كل باب منها في معناه، وبالله الحول والقوة، ومنه عز وجل التوفيق والمعونة

(باب) من كانت له رغبة في الصيد وعنده شيء من آلته من الأنبياء صلوات الله عليهم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الأشراف

(باب) تمرين الخيل بالصيد والضراءة، وجرأة الفارس على ركوبها باقتحام العقاب، وتسنّم الهضاب، والحدور والانصباب

(باب) ما قيل في طرد كل صنف من وحش وطير

(باب) فضائل الصيد، وأنه لا يكاد يحب الصيد ويؤثره إلا رجلان متباينان في الحال، متقاربان في علو الهمة: إما ملك ذو ثروة، أو زاهد ذو قناعة، وكلاهما يرمي إليه من طريق الهمة إما لما تداوله الملوك من الطلب وحب الغلبة الخ. . . والفقير الزاهد لظلف نفسه عن دنيء المكاسب، ورغبتها الخ، فمن هذه الطبقة من يقتات من صيده ما يكفيه،

ص: 32

ويتصدق بما يفضل عنه توقياً من المعاملة والمبايعة، ونهم من يبيع ما فضل عن قوته، ويعود بثمنه في سائر مصلحته، وكانت هذه حال الخليل بن أحمد الفرهودي مع فضله وأدبه وكمال علمه وآلاته الخ. . . وكان جلة الناس في عصره يجتذبونه الخ. . . فأحد من كاتبه سليمان بن علي الهاشمي، فكتب الخليل بن أحمد إليه:

أبلغ سليمان إني عنه في سعة

وفي غنى غير أني لست ذا مال

شحي بنفسي أني لا أرى أحداً

يموت هزلاً ولا يبقى على حال

(قال) وقلما رأيت صائداً إلا تبينت فيه من سيما القناعة الخ. . . وقال أرسطا طاليس: أول الصناعات الضرورية الصيد، ثم البناء ثم الفلاحة. ولو أن رجلاً سقط إلى بلدة ليس بها أنيس ولا زرع لم تكن له همة إلا حفظ جسمه ونفسه بالغذاء الخ. . . ويغدو للصيد اثنان متفاوتان: صعلوك متسحق الأطمار. وملك جبار، فينكفئ الصعلوك غانماً، وينكفئ الملك غارماً، وإنما يشتركان في لذة الظفر الخ. . . وقال أبو العباس السفاح لأبي دلامة سل!. . . فقال: كلباً، قال: ويلك وما تصنع بكلب؟ قال: قلت سل، والكلب حاجتي، قال: هو لك، قال: ودابة تكون للصيد، قال: ودابة! قال: وغلام يركبها ويتصيد عليها، قال: وغلام! قال: وجارية تصلح لنا صيدنا وتعالج طعامنا، قال: وجارية! قال أبو دلامة: كلب ودابة وغلام وجارية! هؤلاء عيال! لابد من دار! قال: ودار! قال: ولابد من غلة وضيعة لهؤلاء، قال: قد أقطعناك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة قال: ما الغامرة؟ قال: التي لا نبات فيها، قال: أنا أقطعك خمسمائة جريب في فيافي بني أسد، قال: قد جعلنا لك المائتين عامرة بقى لك شيء؟ قال: أقبل يدك، قال: أما هذه فدعها! قال: ما منعت عيالي شيئاً أهون عليهم فقدا من هذا

وقيل لبعض من كان مدمناً على الصيد من حكماء الملوك الخ. . . وقيل للزاهد المشغوف بالصيد الخ. . . وهذا كتاب كليلة ودمنة الخ. . . وكانت ملوك الأعاجم تجمع أصنافها (أي الحيوانات)، وتدخل أصاغر أولادها عليها وتعرفها الخ. . .

وأشرف الغذاء الذي يحفظ به الأعضاء، وليس شيء أشبه بها وأسرع استحالة إليها من اللحم، وأفضل اللحمان ما استدعته الشهوة، وتقبلته الطبيعة بقوة عليه، ولا لحم أسرع انهضاماً وأخص بالشهوة موقعاً من لحم الصيد المكدود، لأن ذلك ينضجه الخ. . .

ص: 33

وإن كان الحيوان غليظاً، عكست هذه الأسباب طبعه، ونفت ضرره، وقمعت كيموسه؛ وربما أكل اللطيف الخفيف على تعنف وتكره، فكان إلى أن يأخذ من الأعضاء، أقرب من أن تأخذ منه الأعضاء

وتأول الرواة امرئ القيس في قوله:

رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ

مخرِج كَفَّيْه من سُتَرهِ

فأتَتْه الوحشُ واردَةً

فَتمّتى النزْعَ من يَسرِهِ

فَرَماها في فراِئصِها

من إزاء الحوض أو عُقَرِهِ

مطعمٌ للصيد ليسَ لهُ

غيرها كسبٌ على كبرِهِ

على المدح بإدمان الصيد، ويمن الطائر فيه؛ واستثناؤه بقوله على كبره زائد عندهم في المدح لوصفه أنه يتكلف من ذلك مع فدح السن وأخذها منه شيئاً لا يعجزه مع هذه الحال، ولا يلحقه فيها ما يعرض للمسن من الفتور والكلال؛ وبنو ثعل بنو عمه لأنهم فخذ من طيء، وكندة فخذ من مرّة، ومرّة أخو طيء فلم يرد غير المدح؛ وهذا الرامي عمرو الثعلي، وكان من أرمى الناس الخ. . .

وفي أبيات امرئ القيس هذه، أدب من أدب الصيد، ولطائف حيله، وهو قوله: فتمتى النزع من يسره، وتمتى وتمطى واحد، أبدلت التاء من الطاء، وفي تمتى معنيان: أحدهما الاعتماد والتوسط من قولهم حصلته في متى كمى، فتمتاه بمعنى تعمد متاه (كذا) والآخر بمعنى إبدال التاء من الطاء يريد التمطي وهو أن مريد الصيد بالرمي يتمطى بيساره نحو الأرض مرات حتى يؤنس الطريدة فتألف ذلك منه ولا تذعر له، ثم حينئذ يستغرق نزعه ويمضي سهمه

ولا يزال امرؤ القيس في كثير من شعره يفخر بالصيد، وأكل لحمه، كقوله الخ. . .

ومن فضائل الصيد ما فيه من التبريز على ركوب الخيل صعوداً، وحدوراً، وكراً، وانكفاء، وتعطفاً، وانثناء الخ. . .

وقال بعض الحكماء: قلما يعمش ناظر زهرة، أو يزمن مريغ طريدة، يعني بذلك الخ. . .

وليس يكبر الملك الرئيس العظيم الوقور، إذا أثيرت الطريدة أن يستخف نفسه في اراغتها، ويستحفز فرسه في أثرها الخ. . . وحكي عن عظماء الأكاسرة الخ. . . وعن الخلفاء

ص: 34

الراشدين الخ. . .

ومنها ما يسنح فيه من النشاط والأريحية الخ. . . وربما قويت النفس حينئذ، وانبسطت الحرارة الغريزية فعملت في كوامن العلل. أخبرني غير واحد ممن شاهد مثل ذلك: أنه رأى من غدا إلى الصيد وهو يجد صداعاً مزمناً، فظفر فعرض له رعاف حلل ما كان في رأسه، وآخر كانت به سلعة يجبن عن بطها قويت عليها الطبيعة فانبطت، وآخر كان في بدنه جرح الخ. . . وربما عكس ما يعرض له من ذلك ذميم حالاته، فآلت إلى ضدها من الخيرية حتى يتشجع إن كان جباناً، ويجود وإن كان بخيلاً، ويتطلق وجه وإن كان عبوساً

أخبرني بعض الأدباء، عن رجل من الشعراء، قصد بعض الكبراء فتعذر عليه ما أمله عنده، وحال بينه وبينه الحجاب وكان آلفاً للصيد، مغري به، فعمد الشاعر إلى رقاع لطاف، فكتب فيها ما قاله من الشعر في مديحه، وصاد عدة من الظباء والأرانب والثعالب، وشد تلك الرقاع في أذناب بعضها وآذان بعض، وراعى خروجه إلى الصيد، فلما خرج كمن له في مظانه ثم أطلقها فلما ظفر بها واستبشر، ورأى تلك الرقاع ووقف عليها زاد في طربه واستظرف الرجل واستلطفه وتنبه على رعي ذمامه، وأمر بطلبه فأحضر ونال منه خيراً كثيراً

ومن شأن النفس أن تتبع ما عزها، وبعد من إدراكها الخ. . . وهذا شبيه بما تأوله يحي بن خالد البرمكي في توصية ولده بتقديم العدات أمام الهبات فانه قال لهم الخ. . .

ولو أن محاول حرب، أو مقارع جيش، ملك عدوه قبل مكافحته إياه حتف أنفه، أو انفل جيشه من سوء تدبيره فانصرف، أو جاءه ضارعاً طالباً لأمانه، لما كان مقدار السرور بذلك كمقداره لو نازله فقهره، أو بارزه فأسره، وهذا بين في الملاعب بالشطرنج الخ. . .

لا أستلذ العيش لم أدأب له

طلباً وسعياً في الهواجر والغلس

وأرى حراماً أن يواتيني الغنى

حتى يحاول بالعناء ويلتمس

فاحبس نوالك عن أخيك موقراً

فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس

ومن فضل العلم بالصيد ما حكاه لي أبي عن إسحاق بن إبراهيم السندي عن عبد الملك بن صالح الهاشمي عن خالد بن برمك؛ أنه كان نظر وهو على سطح قرية نازل مع قحطبة حين فصلوا من خراسان وبينهم وبين عدوهم مسيرة أيام إلى أقاطيع ظباء مقبلة من البر

ص: 35

حتى كادت تخالط العسكر، فقال لقحطبة: ناد في الناس بالإسراج والإلجام وأخذ الأهبة، فتشوف قحطبة فلم ير شيئاً يروعه، فقال لخالد: ما هذا الرأي؟ فقال: أما ترى الوحش قد أقبلت، إن وراءها لجمعاً يكشفهاً؛ فما تمالك الناس أن يتأهبوا حتى رأوا الطليعة، ولولا علم خالد بالصيد لكان ذلك العسكر قد اصطلم

وعذل بعض أبناء الملوك في الاستهتار بالصيد والشغف به الخ

ولما شهد أبو علقمة المرى عند سوار أو غيره من القضاة؛ وقف في قبول شهادته، فقال له أبو علقمة: الخ

ومن فضائل الصيد أنه كان الملك من ملوك فارس الخ. . .

وكانت لبهرام شوبين حظية الخ. . .

وذكر الأصمعي عن الحارث بن مصرف الخ. . .

ووقف بعض الملوك بصومعة حكيم من الرهبان فناداه فاستجاب له فقال له: ما اللذة فقال له: كبائر اللذات أربع، فعن أيهن تسأل؟ فقال: صفهن لي، فقال: هل تصيدت قط؟ قال: لا (وسأله عن خصال) قال: لا، قال: فما بقى لك من اللذات؟

يتبع

علي الطنطاوي

ص: 36

‌إلى الأستاذ البرازي

حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني

للأستاذ صالح بن علي الحامد العلوي

قرأت ما سطره قلمكم أيها الأستاذ الفاضل في العدد 108 من الرسالة الغراء رداً عليّ وعلى الأستاذ علي الطنطاوي وما كدت أوغل في أسطره حتى أرسلت زفرة حارة تتخللها آهة من أعماق صدري لا لأنك خالفتني في رأيي أو لأنك أتيت لتدافع عن الفقه الروماني أو غيره. ولكن لتلك الروح التي تبدو من خلال سطوره، وروح الافتتان بأوربا وما تقوله أوربا والاستماتة في سبيل الدفاع عنها والفناء فيها وعدم الاستقلال أمام ما تمليه من الآراء والتقريرات، ثم الوقوف مع الإسلام بروح ميتة تزعمونها روح العدل وإنصاف البحث العلمي كما سماها لكم الشيوخ المحنكون، والحقيقة غير ذلك. ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد فقط ولكنه تعدى إلى الإزراء بالعصبية الدينية واستهجان العاطفة القومية ودعوة الشباب المسلم إلى هذا التقليد الأعمى الذي تسمونه الإنصاف لأوربا، وإلى الاقتداء بأئمة أوربا الأبرار الذين لا ينطقون عندكم عن الهوى بل عن علم وبحث وإنصاف. هذه النزعة الغالية جعلتني أرسل الآهة تلو الآهة على الشباب المسلم المتعلم منا معاشر العرب ممن يفدون على أوربا القوية المادية بقلوب فارغة وطباع فطيرة غير مجهزين من سلاح الإسلام إلا بوراثة اسمه، يأتون ليكرعوا من غمار موارد أوربا ويتشبعوا من علومها وثقافتها. فتنفحهم من فتونها وحبها وتملأ صدورهم الفارغة مما تشاء هي لا ما يشاء الآباء. فيعودون وقد تشبعوا بثقافة أوربا وأخلاق أوربا والتعصب لأوربا أيضاً. وقد يكونون مزودين من كل شيء إلا من تعاليم الإسلام والحماس للإسلام، وماذا يصنعون أمام أوربا وقد أتاهم هواها قبل أن يعرفوا الهوى؟ إن أمثال هؤلاء لا يعدون عندي إلا جرائم لآبائهم تتكرر بتكرر أنفاسهم

ووالله إننا لا نكره ذات أروبا ولا علوم أروبا ولا ثقافة أروبا وكنا نكره هذه النزفة الغالية، وهذه الثقافة الببغاوية الصورية التي يتمشدق بها بعض الشبان المتطرفين. أما علومها وأما ثقافتها الجدية وصناعاتها النافعة فإننا في مقدمة من يحبذها ويدعو إليها ولكن بعد غرس العصبية الدينية والعاطفة القومية في نفوس الناشئة حذراً من هذا الفناء وهذا الإدغام

ص: 37

المشين

ولست أدعي انطباق كل ما قلت عليك يا حضرة مناظري الأديب! كلا! ولكني أقوله بمناسبة ما رأيته ملموساً في مقالك من نزعة الافتتان بأروبا وتقليدها ودفاعك عنها دفاع المستميت، ثم تظلمك لعلمائها بعبارات جعلتني أتخيل أننا صرنا في عصر صار فيه الشرق رب الصولة والدولة وكان الغرب على عكس ذلك، وكأنك قمت محتسباً تستعطف العالم لإنصاف الغرب الضعيف المظلوم من بني الشرق وعنت الشباب

وماذا صنعنا سوى أننا أنكرنا أن يكون الفقه الإسلامي متأثراً بالقوانين الرومانية، وأنه إذا كان بين الفقهين تشابه فليس الحكم على أن الفقه الإسلامي هو المتأثر بأولى من العكس، فأدلة الفقه الإسلامي صريحة والمستنبطون منها وهم مؤسسو المذاهب لا يجوز أن يقال بتأثرهم بالقانون الروماني إذا لم يتصلوا بالرومان ولم يعرفوا لغتهم ونشأوا ودرجوا في محيط إسلامي وفي ثقافة إسلامية محضة، ومن خطل الرأي وعدم الإنصاف أن يقال لمجرد وجود التشابه بين الفقهين إن الفقه الإسلامي هو المتأثر أو الآخذ مع فقد الدليل وتوفر القرائن على ضده، ولم لا يقول زاعمو التأثر إن هذا التشابه وليد المصادفة؛ إذا أن الدين الإسلامي أتى في أحكامه بما يوافق العقل السليم من العدل والانصاف، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح، فما أمرنا بأمر فقال العقل السليم ليته نهي عنه، ولا نهى عن أمر فقال العقل السليم ليته أمر به، هكذا وصفه بعض الصحابة، وعن هذا نشأ الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في مسئلة الوجوب بالعقل أو بالشرع والقول بالتحسين والتقبيح العقليين؛ فلا يبعد أن تكون العقول التي عنت بوضع القوانين لتحديد الحقوق وفصل الخصومات، قد صادفت بعض ما قرر الفقه الإسلامي الملازم لمطابقة العقل في قضائه وأحكامه، وقد نقلنا حكاية اختفاء القوانين الرومانية وزعم ظهورها بعد، وأن تاريخ ظهورها بزعمهم كان بعد تأسيس المذاهب وانصرام عصر أئمتها ومن المستحيل تأثرهم بشيء لما يظهر بعدُ من اختفائه، وإذا كنا رجحنا أن القوانين الرومانية هي الآخذة عن الفقه الإسلامي فلم نقل ذلك اعتباطاً ولكن ببراهين نعتقدها كافية في ذلك، وأخذ أروبا عن علوم العرب غير مجهول كما تكرره المجلات العلمية عند كل مناسبة

القول باختفاء القوانين الرومانية ثم ظهورها

ص: 38

أما القول بأن القوانين الرومانية قد اختفت ودرست ثم ظهرت فجأة؛ فلسنا نحن منحليه وإنما قاله علماء غربيون، فقد حكى جيبون أن هذه القوانين - أي قوانين الإثنتي عشرة لوحة - بقيت إلى زمان جستنيان ثم فقدت، ونقل العلامة موسهيم الجرمني في تاريخ الكنيسة في حوادث القرن الثاني عشر في العدد 5 من الفصل الأول من القسم الثاني من الكتاب الثالث: إن الملك لوثاريوس اكتشف في افتتاح أمْلَغي سنة 1137 نسخة مجموع الشريعة الشهيرة التي كانت مجهولة على أجيال كثيرة؛ فأتى بها الملك الآن إلى مدينة بيزا. . . . الخ

ولا شك أن القوانين المعمول بها قبل ظهور هذه القوانين كانت مغايرة لها أي مغايرة كما سيأتي. وأول من ابتدع هذه الحكاية أي حكاية اختفائها واكتشافها هولود فيكوس سنة 1501م، ثم راجت هذه الحكاية وانتشرت في القرون الوسطى إلى الآن (انظر جيبون جزء 4 صفحة 555)، وقال اللورد ماكنزي في كتابه على القانون الروماني صحيفة 6 إن هذا القانون (يعني قانون الإثنتي عشرة لوحة) لم يصل إلى أيدينا وغاية معلوماتنا فيه تستند على بعض أوراق مفرقة وبعض ملاحظات تاريخية مما فقدت آثاره. . . . الخ

القوانين الرومانية القديمة

أما القوانين الرومانية القديمة؛ فهذه نماذج منها ذكرها الأستاذ عبد الجليل سعد قال: إن فقه الرومانيين الأولين كان أشبه شيء بالفصول المضحكة (انظر تاريخ الدولة الرومانية للعلامة جيبون جزء 4 صفحة 527) وذلك لأن جميع معاملاتهم كانت لا تخلو من الحركات والطقوس، وكانوا لا يفرقون بين المعاملات والأحوال الشخصية، بل كانت الصيغة المستعملة واحدة للجميع وهي ما يسمونه:(مانسيباشيو) فإذا أراد أي إنسان إجراء أي عمل قانوني سواء كان زواجاً أو بيعاً أو وصية أو غيره، فعليه أن يحضر القباني ومعه الميزان، وعليه أن يحضر الشهود الذين يشترط ألا يقل عددهم عن خمسة، وعندئذٍ يبتدئون في عمل الطقوس المفروضة؛ فيتلون بعض العبارات ويصنعون بعض الإشارات أو الحركات، ثم يمسك المشتري أو الموصى إليه أو الموهوب له قطعة من النحاس ويضرب بها في كفة الميزان ليقلد الطريقة القديمة المتبعة في وزن البدل، ثم بعد ذلك يتفوه الطرف

ص: 39

الثاني بجُمَلٍ معلومة تدل على أنه قابل ومقر على هذا العمل (انظر ماين على القوانين القديمة صحفية 295 و305) فلم يكن إذن لدى الرومانيين القدماء عقود مختلفة تتوقف على النية، بل كان من الضروري إجراء حركات معينة، فكان الخصمان في الدعوى يتكافحان أمام القاضي، وكان المتظلم يمسك بخصمه من قفاه ويتضرع إلى إخوانه أن يساعدوه، وكان الموصي إليه لا بد وأن يخلع لباسه ويقفز ويرقص! وكان الأب هو الحاكم والقاضي في أسرته. وجميع أفرادها داخلون في ملكه يتصرف فيهم كما يتصرف الإنسان في ملكه المنقول، فله بيعهم كالعبيد سواء كانوا نساء أو رجالاً (راجع جيبون صحيفة 563 جزء 4) ولم يكن حق الملكية معروفاً لديهم على النسق الذي نعرفه، بل كان الملوك يقطعون الإقطاعاتللضباط والعساكر، وهؤلاء يجبون الخراج من أصحابها المزارعين (ماين صحيفة 265)، ومن أراد الزواج يذهب ويشتري زوجته من والدها على الصورة المتقدمة مع إحضار القباني والميزان والشهود، ثم قال: ومن يطلع على أحكام هذا القانون يجد بعضها في غاية الشدة والقسوة كمعاملة المدين المفلس، فانه كان يمهل ثلاثين يوماً وهو مسجون مكبل بالحديد والقيود والسلاسل التي لا تقل وزنها عن خمسة عشر رطلا ثم يعرض ثلاث مرات في السوق العمومي لاستجداء الأصحاب والأقارب، وبعد انتهاء الثلاثين يوماً إما أن يعدم أو يصير عبداً للدائن يبيعه ويقضي دينه، وإذا كان له جملة دائنين حق لهم أن يجزئوا لحمه قطعاً وينتقم كل منهم لنفسه بتقسيم بدنه هذا التقسيم الشنيع (انظر جيبون جزء 4 صحيفة 589 إلى600) وكانت أحكام الرومان الجنائية قاسية للغاية، فكانوا يلقون المذنب لافتراس الوحوش الكاسرة في محل يسمى: الأنفتياتر. . . الخ ما ذكره

هذا بعض ما قاله العلماء الغربيون عن الفقه الروماني القديم ومخالفته للجديد، وهو كاف - بلا شك - في خرق الإجماع الذي ادعيته عندهم يا حضرة الأستاذ على استمرار القانون المعهود بينهم من ذلك العهد، ولا نناقشك الآن في أصل احتجاجاتك بسكوت الأوربيين عن جرح القانون الروماني المعهود لديكم أو تلفيقه إلا بهذا، ولا نعيد لك ما قاله العلامة ابن تيمية، ولا أبو الوليد ابن خيره؛ فقد يكون كل كلام لا يروج لديكم إلا إذا كان عليه الطابع الأوربي، فذاك عند بعض قضاء لا يرد قائله، غير أننا سنمهلكم وننتظر حتى يأتي يوم تصيح بكم فيه أوربا الحبيبة: أن أصلحوا معلوماتكم، وغيروا مُذكراتكم، فعند ذلك تخفون

ص: 40

لصوتها قائلين: غطى هواك وما ألقى علي بصري!

سقوط قياس القانون الروماني بالقرآن

قلت أيها الأستاذ في الصفحة 1216 من الرسالة: (إن البينات تختلف بحسب الأمور المراد إثباتها، فإذا كانت هذه الأمور غير مدونة بنفسها كالحديث الشريف فلابد حينئذ من ذكر الأسانيد وسرد الروايات، أما إذا كان المراد إثباته مدوناً بنفسه لم يعد مجال حينئذ إلى الأخذ بطريق الرواية والإسناد، وصار لا بد من التدليل عليه بنسخه الأصلية، التي وضع بها، أو بالنسخة التي أخذت من هذه، فالقرآن الكريم مثلاً لما كان قد دون في العهد الذي نزل فيه وجمعت صحفه المدونة في عهد الخليفة الأول، وانتقلت إلينا نسخ مخطوطة منه كتبت في عهد قريب من عهد نزوله، لم يلجأ إلى الرواية لثبات صحته؛ وكذلك أيضاً شأن الشرع الروماني الخ) وقلت في صفحة 1215: (لئن جاز في نظرنا لأحد من النصارى أو اليهود المتعصبين أن يجزم بأن القرآن الذي بأيدينا هو غير القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه مختلف من جماعة من علماء المسلمين الحديثين، مكتفياً للتدليل على ذلك بأن يقول لنا: هاتوا دليلكم، فقد حق كذلك لصاحبي المقالين المتحمسين أن يزعما ما زعماه) فما أغناك أيها الأستاذ عن قياس القانون الروماني بالقرآن الكريم؛ وزعمك أن الاستناد في إثبات كونه هو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي نسخة المخطوطة القديمة الموجودة، لا روايته الصحيحة، فحينئذ هو عندك في نسبته إلى الشارع (كنسبة القانون الروماني المعروف إلى جوستنيان؛ وهذا تقرير لا أعلم مسلماً قاله قبلك أيها الأستاذ الفاضل، فالعمدة في إثبات القرآن الكريم ليست نسخة المخطوطة فحسب، بل المقرر حتى عند تلاميذ المدارس الابتدائية أن العمدة في إثبات القرآن الكريم إنما هو التواتر، والتواتر أقوى الأسانيد وقد تلقاه الجيل عن الجيل؛ ورواه الخلف عن السلف بالتواتر في كل عصر من عهد نزوله إلى اليوم، ولم يقل أحد بأن العمدة في ثبات القرآن إنما هي نسخة المخطوطة القديمة فقط. وكيف يقاس القانون الروماني الذي لا يعلمه إلا الأفراد من المتعلمين بكتاب يتلى في كل مسجد وزاوية، بل في كل بيت في بلاد الإسلام، وفرض على كل فرد من المسلمين تلاوة شيء منه في كل يوم خمس مرات، ذلك بعد أن حفظه الجم الغفير عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عصره، حتى ثبت أنه

ص: 41

قتل في يوم اليمامة فقط سبعون قارئاً، وروته الألوف عن الألوف من ذلك العصر، وهكذا دواليك إلى اليوم، ولا يبلغ الطفل المسلم سن التميز إلا ويوجه لتعلم القرآن الكريم قبل دراسته لأي شيء كان

أين يكون قانون لا يعرفه إلا الأفراد من المتصدين لدراسة الحقوق من كتاب يدرسه العابد في محرابه، والتاجر في سوقه، والزارع في ريفه؛ ويشترك في تلاوته الشريف والوضيع، والذكر والأنثى من الطفل الصغير إلى الشيخ الكبير، حتى أننا لو فرضنا أن المدنية العصرية قد عمت العالم وتخللت أوساطه الرفيعة والمنحطة، وأريد أن يتلى القرآن بالمذياع على كل ذي مصحف لانفتحت عند سماعه مائة مليون مصحف في شرق الأرض وغربها، ولو أخطأ القارئ في فاتحته لرد عليه عند ذلك فوق ثلثمائة مليون صوت من أنحاء الدنيا!

هل يقاس هذا إلى ذاك إلا إذا قيست الذبالة بالغزالة؟

وقلت: أما المناقضات التي وقع فيها. . . صالح العلوي. . . فأشير منها إلى ما جاء في السطر الثاني من الجانب الأول من الصفحة الـ 781 من الرسالة، فبعد أن قال: إن الفقه الروماني اختفى ثم اكتشف ولم يظهر ولم يعمل به إلا في القرن الثاني عشر وأنه لم يكن معروفاً حتى عند الرومان أنفسهم قبل القرن الحادي عشر) وقال في السطر 22 من الصفحة نفسها (إن دعوى اختفائه أكذوبة) ثم ما لبث أن استند إلى قول العلامة سافنيه: (إن القوانين الرومانية لم تختف لأنها ظلت معمولاً بها إلى اليوم من غير انقطاع الخ

ومحصل ما نسبته إلي أيها الأستاذ أنني أؤيد دعوى اختفاء القوانين ثم اكتشافها ثم أدعي أنها لم تختف بل بقيت معمولاً بها وأستند لذلك بقول سافنيه:

هكذا شاء قلمك يا أستاذ الحقوق أن يصنع، وهكذا أراد أن يمسخ الحق ليصوره باطلاً فيقطع من عباراتي ما شاء ويصل، ولا يتورع من أن يبلع بعض الكلمات بلعاً؛ ذلك ليبني مما قلته تناقضاً

وانظروا أيها القراء ثم احكموا، أما ما قلته في السطر الثاني من الصفحة 781 فهذا نصه بالحرف:(ثم إن الفقه الروماني - على زعم أنه اختفى ثم اكتشف - لم يظهر ولم يعمل به إلا في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر بعد الميلاد، أما قبل الحادي عشر فانه لم يكن معروفاً حتى عند الرومان أنفسهم، ولا شك أن الفقه الإسلامي قد قرر وصنف الخ) فقلت

ص: 42

هنا على زعم أنه اكتشف الخ، لأبين أن تأثير الفقه الإسلامي بالفقه الروماني غير معقول حتى على زعم أن الفقه الروماني الموجود هو القديم نفسه وأنه اختفى ثم اكتشف لأنه على هذا الزعم لم يظهر بزعمهم إلا بعد الحادي عشر وقد وجد فقهاء الإسلام وألفوا وصنفوا قبل ذلك بزمن طويل وهناك قلت: وما قيمة زعم تأثر الفقهاء بالقوانين الرومانية إذا كان مصنفو الفقهاء وأئمتهم ومنهم: مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي الخ. درسوا وألفوا وصنفوا قبل أن توجد أو تعرف القوانين الرومانية للرومان أنفسهم. أليست هذه مهزلة مضحكة؟

وقلت إنني قلت في السطر 22 من الصفحة نفسها (إن دعوى اختفائه أكذوبة) وجعلتها بين قوسين، وهذا يفهم أنها بالحرف، وأصلها بالنص:(إن دعوى اختفاء الفقه الروماني ثم ظهوره بعد ستة قرون أكذوبة لا مرية فيها، وقد كان الفقه الروماني معروفاً وهو أشبه بالفصول المضحكة)، ولكن قلمك يا أستاذ الحقوق أدى منها هذه الكلمات الثلاث أو الأربع وذهبت الكلمات الباقية ضحية في سبيل خلق التناقض الموهوم!

وأما العبارة الأخيرة فلم تذكر سطرها ولا جانبها، وقد يكون ذلك لكونها تبعد عما قبلها بأسطر والغرض إيهام القراء وجود التناقض في عبارة متصلة وقد ذكرتها أعني العبارة الأخيرة بنصها ولك الشكر، غير إنك اختزلتها اختزالاً كي تجعلني أمام القراء ملزماً بها بزعمك بالاعتراف بأن الفقه الروماني الحديث هو القديم، والعبارة (ثم إن حكاية اختفائها وبروزها في القرن الحادي عشر لم يقل بها غير هولود فيكوس سنة 1501 م ثم راجت. أنظر جيبون 4 صفحة 555، وقد اعتبرها بعض العلماء إذ ذاك غير حقيقة فقد قال القانوني الشهير سافنيه إن القوانين الرومانية لم تختلف لأنها ظلت معمولاً بها إلى اليوم من غير انقطاع. اهـ، ويعني بها القوانين القديمة المقدم ذكرها) هذه عباراتي حرفياً، وبهذا وذاك ينكشف للقارئ الكريم أنني لم أقل إن الفقه الروماني اختفى ثم اكتشف إلا وأنا مبين بأن مبين ذلك زعم، وقلت إن للرومان قانوناً معروفاً كله همجية وقسوة، وهو الذي لم يختف وهو المعنى بقوله سافنيه، وكلامي صريح في ذلك وبهذا يتضح ألا تناقض وإن كان فإنما هو في مخيلة الكاتب الأديب!

يا حبذا العصبية والعاطفة القومية!

ص: 43

وتقول أيها الأستاذ: فأولى بشبابنا ألا يكونوا أسرى عواطفهم من تعصب للدين ثم تقول: (إن في دعاواهم ما يضر بالإسلام ويسئ بثقافته الظنون) فيا عجباً لك أيها الأستاذ أدفاعنا عن الإسلام بالبرهان والمنطق يضر بالإسلاموتعصبنا لديننا يسيء بثقافتنا الظنون؟ هكذا تعصبنا نحن فقط يضر بديننا؟ لماذا يضر التعصب (على فرض وجوده) بنا وبديننا ولم يضر بأروبا ولا بدينها وقد ضربت فيه الرقم القياسي وبلغت النهاية؟ ألم تتقول أروبا على الإسلام بما ليس فيه وتقذف أهله بما يندى له جبين الشرف، وترمي نبينا العربي صلى الله عليه وآله وسلم بفري تصرخ منها الحقيقة ويضج لها التاريخ؟ فعلت ذاك ولا تزال تفعل إلى اليوم. فهل أضر بها لديكم فتيلاً؟ لقد أشبع الأوربيون ديننا زوراً وأوسعوا تاريخنا مسخاً وتشويهاً مما لو جمعنا بازائه كل ما قاله متعصبو المسلمين فيهم لما كانت نسبته إليه إلا كنسبة التأفيف إلى حرب البسوس؛ وهاهم أولاء يملأون الدنيا تبشيراً بدينهم، ودعاية لهم غير آبهين عند ذلك بأن يسفهوا الأديان ويكيلوا أنواع الأفك على مشرعيها. فهل أضر ذلك أيها الأستاذ بمسيحيتهم؟ وهل أساء بثقافتهم لديكم الظنون؟ أو هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت

أما إذا قمنا لندافع عن ديننا بالتي هي أحسن ونظهر فضل تشريعه على العالم ببراهين كافية وأدلة وافية متذرعين بأقوال بعض الأروبيين أنفسهم غير قاذفين لأحد ولا متهجمين على أحد قلتم إننا متعصبون نسرف في القول على علماء أروبا الذين لا يمكن أن يزوروا، وأنهم وضعوا الحقيقة في أعلى المنازل وجعلوها فوق كل شيء لأن فلاناً ألف كتاباً عن النبي صلى الله عليه وعليه وآله وسلم، وفلاناً قال كلمات تعتبر ثناء على الاسلام، والآخر مدح فلاناً المؤرخ العربي وقال إنه من سلف علمائنا، فأولئك قوم رضى الله عنهم ورضوا عنه، فاصمتوا فلن يقولوا إلا حقاً، ولن يخبروا إلا صدقاً. ومعنى هذا أغلقوا أبواب البحث عن أروبا وتلقوا كل ما تلقيه عليكم بالتسليم. هكذا احتججتم وبهذا قضيتم؛ فما لكم كيف تحكمون؟

أما العصبية أيها الأستاذ فما أعظم رزء قومنا بفقدها. وأما العاطفة القومية فما أحوج أمتنا إلى الشعور بها فإننا الآن في زمان لا ملاذ فيه إلا للقوة ولا صولة فيه إلا للعصبية. فنحن في عهد تنشد فيه العصبية وتحمد فيه العاطفة الدينية، ومن لا يتعصب لدينه لا يتعصب

ص: 44

لقومه ولا وطنه؛ وهل تلتمس القومية عند من لا عصبية له إلا كما تلتمس عند الديوث خلال الشرف. إنني أنصحكم أيها الشباب عن هذا الضعف وأحذركم عن هذا التلاشي والاندماج في أروبا، إنكم في حاجة لغير هذا

فيا شباب العرب! كونوا في عصبيتكم لدينكم ناراً تتلهب، وكونوا في عواطفكم أعاصير تلوي بكل ما هو أمامها من باطل وبغي. وكونوا في مبادئكم جبالاً لا تعبأ بالزلازل ولا تحركها هوج العواصف

إن المجد والحرية يدعوانكم من وراء القرون أن تتقدموا إلى الأمام. فتجهزوا يا أبناء جنود الفتوح وسلالة فوارس بدر. فحيا الله عصبية العروبة وعاطفة الإسلام، وسلام على صدور امتلأت أحناؤها بنور الإسلام، وفي سبيل الله نفوس للآباء أزهقت طعناً بالرماح وقعصاً بالسيوف ضحايا على أعتاب الإسلام!

سنغافورة

صالح بن علي الحامد العلوي

ص: 45

‌المصيف

للأستاذ محمود خيرت

خلا الرّبعُ في الصيف من ربّه

فهلاَّ خلا الدمعُ من غَربه

وكم ضاق ربعٌ بِسُكانِه

فولَّوا فراراً على رَحبه

وحَسْبهمُ القيظ عذراً فمَن

يُؤاوى الجحيمَ إلى جَنبه

ترى الناس في زُمَرٍ يركُضون

منازيحَ كالطَّير في سِربه

إذا سعَّر الحرُّ رطْبَ النَّسيم

تنقَّلَ يبحثُ عَن رَطبِه

وليْس السِّفارُ ووعثاؤه

بِصارفِه عن جَني طلْبه

ومْهما تمرَّرَ طعْمُ الدواء

فإنَّ السلامة في شرْبِه

وأما المصيف فمن ذا الذي

تعلَّلَ منهُ ولم يُصبِه

هناكَ الطَّبيعةُ فتَّانةٌ

ترِفُّ من الحْسن في ثوبِه

هناك الجمال وسُلطانه

هناك الهوى بأساليِبه

إذا ما الغواني رمي لحظهنّ

شرِبتَ الدموعَ على نخْبِه

وهَمَّ الخليُّ ثقيلَ الهموِم

يُسِرُّ إلى جاره ما بِه

وقد سبَقَتْ وعْيَهُ كفُّهُ

إلى موضع الجُرح من قَلبِه

وتخطرُ في الشَّطّ أغصانُهنَّ

دلالاً فيُوغِلُ في عُجبه

وعُجْبُ المليحات مِن دأبهنَّ

وما كان للشطِّ مِن دأبه

ويَجلِسْن تحت مظلاّتهنَّ

نَشاوى وكلٌ إلى صحْبِه

يطوف الحديث بأرجائهنَّ

أَلذَّ مِنَ الصفو في ذَوْبِه

إذا حل أُذْنَ نَزِيلِ الشباب

لواهُ وزعزع مِن لُبَّه

وإن حلَّ أُذْن المشِيب

أعاد الشَّباب إلى شَيْبه

ويسمعُه الطير في روضهِ

فيهتزُّ الأنوفَ شَذا طيبِه

ومهُنَّ مَن راقَها في العُبَاب

زئير الضَّراغمِ مِن صَخْبِه

فوافَتْه تَسْبحُ جبَّارةً

فهلْ خرَجتْ فيهِ من صُلبِه

فما راعَها هوْلُ أمْواجِهَ

ولا راعها الهول في جُبِّه

ص: 46

ومَن كان في الخَطْب ذا مِرَّةٍ

أصاب المَقاتل من خَطْبه

فهذا المصيفُ ولذَّاته

وهذا هو السِّرُّ في حُبِّه

فشتان بين لهيب الجحيم

وطيب النعيم وأسبابه

إسكندرية

محمود خيرت

ص: 47

‌تحية مصر

بقلم الياس قنصل

أبليتُ كلّ تصلُّبي وعُرامي

- قال الزمانُ - وما بلغت مرامي

جمعتْهما بيضُ الخلال ووثَّقتْ

تلك العرى لغُة الكتاب

يتسابقان إلى العُلا بأُخُوَّةٍ

وشّى سناها صفحةَ الأرحاِم

قطران في عقدِ العروبةِ برّزا

أرضُ الشآم وموطن الأهراِم

يا مصرُ (سعدُكِ) كان أيضاً سعدنا

في دفع شر الظلِم والظلاِم

وجهادُ فتيةِ جلَّق لكِ حصَّة

منه، تخلخل أضلع الأخصاِم

من يخبر الغربَّي أَنَّ رجاَءه

في شرقنا وهم من الأوهاِم

يحظى بنيل الحقِّ شعبٌ صادَفتْ

أسيافُه دعماً من الأقلاِم

يا مصرُ يا أُمَّ الحضاراتِ التي

مهدتْ سبيل الحقِّ للأَفهاِم

ما دشَّن التاريخَ قبلكِ للورى

شعبٌ بآي السؤدد المترامي

أنتِ التي نطق الجمادُ بمجدِها

من غير ماعَيٍ ولا إبهاِم

في كلُّ تمثالٍ هناك عضارة

من عزّكِ المبنيّ بالاقدامِ

في أيِّ عصرٍ لم تكوني معقلاً

من كلّ نائبةٍ لكلِّ مُضاِم

لجأَ المسيحُ إليكِ فاتَّضعتْ له

بعد الهياج عواصفُ الأياِم

وأتاكِ أعلامُ فأُمِّنوا

من شرَّةٍ الحكَّاِم والأحكاِم

خلقٌ لنيلكِ ما تضاءل فضلُه

بل عزّزتْه فضائلُ الإِسلاِم

للشعرِ فيكِ بلابلٌ صدَّاحة

علويّة الألحانِ والأنغاِم

قبستْ من الروض الجمال فكان في

إنشادِها بسنائه النَّماِم

لا ترتضي لخيالها يوماً سوى

مغنى الأثيرِ ومسرح الأَجراِم

قلبُ العروبة منصت لنشيدها

إنصاته للوحيِ والإلهاِم!

كم في سجلّ الفنّ عندكِ من فتي

بلغ النبوغُ به أجلّ مقاِم

إن كان فخركِ بالممثّلِ رائعاً

ما القول في النحَّاتِ والرساِم؟

في كلِّ ميدانٍ لأهلكِ جولةٌ

محفوفةٌ بالفوز والإعظاِم

ص: 48

أنتِ المليكةُ والفنون لآلئٌ

في تاجكِ المتألق البسَّاِم

يا مصرُ لم أنبس بذكركِ مرَّة

إلاّ وروح الشوقِ طيّ كلامي

إن كانت الأقدارُ تأبى أن أرى

فيكِ البهاَء فأنتِ في أحلامي

هذى مناجاتي لنيلكِ اكبرتْ

ببني الكنانِة حكمةَ الأعواِم

لا زلتِ للمجدِ المؤثَّل شارةً

وعليكِ منِّي ألف ألف سلاِم!

عاصمة الأرجنتين

الياس قنصل

ص: 49

‌فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

19 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

فريدريك نيتشه

للأستاذ خليل هنداوي

كانت أولى مآثر نيتشه للامعة في الفلسفة (نشأة المأساة)، فهي المثل الأعلى الذي وجده في البطل (ايشيل) والفيلسوف (شوبهناور) والفنان (فاجنر)، وفي أخريات أيامه جدد نيتشه العهد لمثله الأعلى الذي تكرر في (السوبرمان - الإنسان الكامل)، وبين هذين العصرين تمتد هاوية عميقة تفصل بين هاتين القمتين: عصر سلب ونقد مفرط. إن نيتشه قد عجل بالبناء وكأني به قد شعر بأن مواد بنائه لم تكن صلبة بالمقدار الذي يجب أن تكون عليه. ألم يحس في نشأته الأولى أن في أصول (شوبهناور وفاجنر) ما لا يمت بأصوله ولا يلتقي مع فكرته، فعمل على اقتلاع ما لا يتصل به واستخلاص ما داخل فكرته مما لا يوائمها. وفي العصر الثاني رأيناه يقتفي سبيله الذي انتهجه في البدء بعد أن حطم ما حطم من قيم فاسدة ونظم معفنة دون ما رأفة ولا شفقة. وبهذا انتقل من مرحلة السلب إلى مرحلة الاثبات، واستبدل جرأة الناقد بذهول النبي. وكان من آثار ذلك العهد الأول (أشياء إنسانية) و (آراء مختلفة) و (المسافر وظله) و (فجر)، وكلها سطرت يوم كانت الحادثات تهد صحة نيتشه، وكلها وليدة ذلك الحذر الأعمى من الوجود، هذا الحذر الذي ولده الداء في نفسه، فالريح الذي يخفق حوله بارد قاتم، ونيتشه يلوح كالمهدم العابث الذي زال من صدره عامل الإشفاق، يعمل على تهديم أسوار الشرائع وتحطيم أبراج الأخلاق، ففي كتابه (أشياء إنسانية) يحارب التشاؤم ويسطو على معلمه (شوبنهاور) جاحداً مذهبه، كافراً بتعاليمه، لا يؤمن بأن الإرادة شيء قائم بذاته، نافياً القول بإمكان (شيء يقوم بذاته)، يقاتل عاطفة الرأفة والشفقة، ويرذل فضيلة الزهد، هذه الفضيلة التي تجرد الإنسان من شخصيته وأنانيته، وفي هذا الكتاب أصبح لا يرى غاية الإنسانية توليد العبقرية كما جهر من قبل؛ ولكنها بمجموعها تمشي ولا غاية تسعى إليها. وفي كتاب (المسافر وظله)، يعلن ذلك الظل الذي يلحق الأشياء حين تشرق عليها شمس المعرفة، ويعتقد بأن الأشياء لا تدرس واضحة

ص: 50

جلية عندما يحدد دارسوها دراستها على ضوء المعرفة (المثالية) لأنه لا يبدو إذ ذاك من الأشياء إلا أجزاؤها المضيئة، أما الأجزاء القاتمة فتبقى بعيدة عن نظر المجتلي، وهكذا ينبغي للمفكر الحقيقي الذي يرغب بأن تكون له فكرة تامة عن الحقيقة أن يتأملها من وجهها الخفي. وفي كتابه (فجر) يُخضع نيتشه لنقده مسألة (القيم والنظم الأخلاقية) التي يقدسها الناس ويحترمون قواعدها، هو يرى أن الأيمان بالواجب ليس بنظام سماوي ولا بتعليم أوحته السماء على البشر، وليس هنالك قاعدة خالدة لتمييز الخير من الشر، وهذه الشريعة الأخلاقية التي تجبر الإنسان على أن يكون صادقاً أمام نفسه في كل شأن، قد تنتهي بالاضمحلال، فقد يغدو الإنسان بالأخلاق ردئ الأخلاق، كما يغدو بالدين زنديقاً، لأن إخلاصه لعقله يزجيه إلى أن يقذف بنقده الأخلاق ذاتها، وأن يكون في ريب من نظمها

والمثل الذي استخلصه نيتشه من الوجود أصبح يدنو الآن من المثل الواقعي، فقد يرى أن كل كائن في الثلاثين من أعوامه الأولى تتولد فيه حركة قد تحتاج الإنسانية إلى ثلاثين ألف سنة لتحقيقها. الإنسان الأول ينشأ في حداثته مؤمناً متديناً، ثم فاقداً لإيمانه في الله والخلود، مأخوذاً بما يزين له العلم النظري، ثم يفقد العلم النظري تأثيره، حين يمسي لا يشبع نفسه ولا يكفي عقله. وفي النهاية تستيقظ فيه الروح العلمية فتقوده إلى دراسة التاريخ والطبيعة درساً صحيحاً. وفي إنسان العلم وفي الروح الحر المفلت من كل وهم زائل والمنعتق من كل اعتقاد باطل، في هذا الإنسان يرى نيتشه الإنسانية المتسامية، فالروح الحر هو متشائم يعتمد على عقله، وهو مفتقر إلى صحة أدبية قوية لا غش فيها، تعمل على الحيلولة بينه وبين الاستسلام إلى اليأس والفناء، وليس من السهل على الإنسان أن يمزق عن جسده أثواب الخطأ الملتفة عليه في كل جانب ليرى الحقيقة ماثلة أمام عينيه، (فالحياة الإنسانية غارقة بأكملها في الأخطاء، وليس في استطاعة الفرد أن ينتشل نفسه من هذه الهاوية إذا لم يكن خصماً قاسياً على ماضيه، كثير السخرية من الإهواء التي تدفعنا إلى الإيمان بالمستقبل وبالسعادة الآتية)، وبهذا يستطيع إذا كان جريئاً صافي الطبع أن يجد في العلم ما يعمل على استنقاذ روحه من اليأس، فان المعرفة المبطنة بالتشاؤم تنقذه من السأم الذي يأكل قلوب سواد الناس. حتى إذا قدر أن يتحرر من كل ما يحترمه الناس زاده تمتعه بالأشياء طرباً وجمالاً، فهو يهوى أن يحلق فوق الاضطراب البشري لا يخفق قلبه رعباً فوق العادات

ص: 51

والأوهام والعقائد، هو يحيا لكي يفهم فهماً صحيحاً، وإن أسمى مكافأة عنده هي أن يتفهم في نفسه وفي غيره من الأكوان هذه النواميس الضرورية المتجلية في حركات الكون، وأن يستدل - كالمنجم - على مستقبل الذرية البشرية

(وهل تعتقد بأن مثل هذه الحياة المتجلببة بمثل هذه الغاية باعثة للفناء خالية من اللذة؟. . . . إنك لم تدرك أن السحب الثقيلة، سحب الأحزان هي أثداء ضخمة ترضع منها أفاويق عذبة حلوة، لتقبل الشيخوخة فتفهم بنفسك كيف تلبي نداء الطبيعة، نداء هذه الطبيعة التي توجه العالم إلى السرور. هذه الحياة التي اتخذت الشيخوخة سنامها اتخذت الحكمة ذروتها. . . وهل الحكمة إلا ذلك الشعاع المنبثق من الفرح العقلي. . . الحكمة والشيخوخة عنصران نراهما على قمة طود واحد - هكذا شاءت الطبيعة - قد تقترب الساعة فلا تهتج! ولتكن حركتك الأخيرة - حين يتراكم ضباب الموت - جهداً تبذله وتوقاناً نزاعاً إلى النور، لتكن تنهداتك الأخيرة أنشودة انتصار الحكمة)

ومنذ عام 1882 بدأت تتبدل لهجة نيتشه تبدلاً محسوساً على أنه ثابر على نضاله ومحاربته لعقائد جيله حتى النهاية. فكتبه الأخيرة إنما هي غارة شعواء ضد المسيحية وما تحمله من زهد وتقشف. ولكن هذه الصيحات التي يرسلها قوية عالية أصبح يمازجها قليل من الألحان العاطفية؛ ألحان نشيد الانتصار

عاد نيتشه إلى صحته بعد أن قضى أيام علة وسأم، يرتقب الموت في كل فجر يتنفس، وفي كل ليل يتعسعس. عاد إليه رجاء جديد وتنفس جديد، - والأرض أرحب بكثير من كفة الحابل. . .! - يقول في فاتحة كتابه (العلم الطرب):(إن هذا الكتاب هو صيحة طرب بعد أيام طويلة مكفنة بالبؤس والعجز. هو إغنية مرح تتهادى فيها أصوات قوى بعثت بعثاً جديداً وألحان إيمان واسع في الغد وما بعده، في مستقبل مفتوح لي يحمل طيه حوادث قريبة، ينطوي على بحار حرة وغابات جديدة تجذبني نحو ما أستطيع أن أبلغه وأقدر أن أومن به) وهكذا تقشع من سماء نيتشه سحاب اليأس القاتم، فبانت له سماء صافية مضيئة. رحل الشتاء المتجمد وخفق قلب ربيع جديد.

وفي هذه الخطرات الجديدة التي هيمنت عليه عادة الشك في قيمة ذلك الروح الحر الذي بشر به وجعل منه مثالاً عالياً. إن هذا الروح الحر عابس ينقصه روح الطرب، قد جعل

ص: 52

منه الألم كائناً كئيباً وهذا الروح لا يزال ثقيلاً لم يتعلم أن يرقص وأن يلعب ويفرح حراً طرباً وثاباً على أمواج الحياة، إن هذه الفكرة خلقت لنيتشه خيالاً جديداً انطوى على الصورة الرائعة التي وجدها في نبيه (زرادشت) هذا النبي الذي قضى في الصحراء عشرة أعوام، مرتاحاً لعزلته وفكرته، ثم نزل إلى الناس يلقنهم الديانة الجديدة، ديانة السوبرمان والعودة الخالدة، وهو يجمع حوله في مناراته المنعزلة نماذج متقاربة صافية للإنسانية المتألمة السامية. إن رجال الرغبة الكبيرة والاحتقار الكبير والسأم الكبير؛ هؤلاء الرجال يجب أن يفسحوا مكاناً للسوبرمان الذي يشفيهم من تشاؤمهم ويضيء لأعينهم آفاق المستقبل، ثم يموت في اللحظة التي يبلغ فيها أعلى ذروة الحكمة، في اللحظة التي تبلغ فيها شمس وجوده سمتها الأعلى في الهاجرة الكبرى، معلناً بموته انتصار مذهبه

وقد رأينا توصلاً إلى تحليل فلسفة نيتشه تحليلاً منطقياً أن نقسمها إلى قسمين: الناحية السلبية، وهي تنطوي على نقد الإنسان الحالي ونقد إيمانه وغريزته، والناحية الإيجابية، يبحث فيها السوبرمان وعودته الخالدة، وبهذا تبدو أفكار نيتشه مرصوفة ضمن نظام مذهبي لم تعرف به من قبل. لأن هذه الأفكار في الآونة الأخيرة لم تثبت على حال معهودة فهي سريعة التبدل وسريعة التنقل. ونتشه نفسه لا يريد أن يكون فيلسوف مدرسة. . . لأن الحقيقة عنده لا خلاف فيها. على أنه لم يحجم عن مهاجمة الآراء التي يراها فاسدة بأدلة باهرة وحجة منطقية (إلا أن غريزتي تريني في هذا الإنسان أو في هذه الكتلة من الناس جماعة منحطة تدعو إلى الاحتقار. . . وفي هذا المذهب أو في هذا الإيمان جرثومة مرض. . . إنني أحاربهم وأكافحهم كما يكافح الخطر والمرض. فإذا صح أنني أنصر مذهباً حياً وخصومي ينصرون مذهباً فاسداً فالنصر لا ريب معاودي، وفي الحالة المعاكسة لا يأتيني إلا الخسران! وبما أنني لا أريد إلا شيئاً واحداً هو انتصار الحياة، أراني أطرب بانكساراتي كما أطرب بانتصاراتي وكل ما وراء ذلك عندي سواء

أو ليس من الغباوة أن نشيد مذهباً منطقياً لفلسفة نيتشه ضمن هذه البوادر، شأن فلسفة (كانت) وشوبنهاور، وليس للمنطق كبير شأن في هذه الفلسفة؟. على أن نيتشه إذا صح حدسي كان يأتي المسألة ويدرسها من جوانب مختلفة، يتلقنها ثم يدرسها ثم يفحصها حتى تحين اللحظة التي يطلق فيها حكمه الأخير. فإذا درست آثاره أثراً أثراً ألفيت أن المواضيع

ص: 53

نفسها تطوي وتنشر ومن وراء ذلك عقل نيتشه العظيم. وإذا لم يأخذ نيتشه بالمنطق ونظامه الدقيق كما يأخذ به أرباب الفلسفة فليس معنى ذلك أن الرجل خلت أحكامه منها، أو أن عقله لم يكن منطقياً. فالرجل حاد الفكر، وفلسفته - من حيث المجموع - يربط بينهما نظام منطقي دقيق. ولكن صحته السيئة حالت بينه وبين ترتيبها ترتيباً فنياً، فجاءت مقاطيع متفككة بأجزائها كاملة بكليتها. مقاطيع أودع فيها صاحبها كل نفسه وقلبه

(يتبع)

خليل هنداوي

ص: 54

‌القصص

صور من هوميروس

4 -

حروب طَرْوَادَة

التعبئة

للأستاذ دريني خشبة

عاد منالايوس من رحلته في الحدود، وليته لم يعد!

لقد جُن جنونه حينما علم من أمر زوجه وضيفه ما علم!

(علام إذن كانت كل هذه الضجة التي أحدثتها تلك اللعينة قُبيل زواجها؟ لقد تركت عشاقها الكثيرين صرعى حول قصر أبيها، وظلت تتيه وتدل وتتأبى وترفض، وفيهم شجعان هيلاس وحماتها وأباتها، وملوكها الصيد، وفرسانها المذاويد!

فيم إذن كانت كل هذه الضجة؟

هل منحتني جسمها فقط، يوم اختارتني بعلاً لها؟ وهل ذخرت قلبها للعشق الأثيم، والهوى الفاجر، حتى ترزقها شياطين الفتنة هذا الشاب الغرانقاللاهي المستهتر، فراحت تقدمه فوق مذبح جمالها قرباناً للذاتها النجسة، وتقدمه لشبابه الذميم؟ واحربا! هل اختارتني بعلاً لها، لا لشيءٍ إلا أنني ملك وسليل آلهة؟!

يا للفاجرة!

أفي ذلك البيت الرفيع الذرى، ظلت تتقلب التاعسة في ذراعي هذا الخائن، شبقةً متلذذة؟ هل ظل هو يضمها إلى صدره الثائر في شدة وعنف؟! هل كانت تستزيده؟

أيتها الجدران الحزينة! كم قبلةٍ دنسة أصمت آذانك، وكم صرخةٍ فاجرة دوت كالرعد في حناياك؟ حدثيني أيها الهواء المسمم عما كنت تشهد في صميمهما، حين كانا ينفثانك من صدريهما سماً قتالاً! خبري أيتها الستائر، أيتها المصابيح، يا شموع قصري، أيتها الأرض الملوثة، أيها العرش المهين، أيها التاج الذليل. . . أيتها الكؤوس المتناثرة، والأكواب المقلوبة. . . تحدثي إلي!!

حدثيني يا كل شيءٍ هنا عن مهازل الفسق ومذابح الشرف!

ص: 55

آه! الشرف؟! الخرافة الكبرى!

الحرب!. . . الحرب!. . . الانتقام!. . . الانتقام من الفاجرة. . . اقتلوا الخائن. . . يا حلفائي. . . تندرايوس. . . أدعُ حلفاءك. . . لقد أقسموا جمعياً. . . لقد كنت تتوقع هذه النهاية تنداريوس. . . استيقظ. . . استيقظي يا أسبارطة. . . جنودي. . . شعبي. . . هلموا إلي. . .)

وهكذا أرسلها منالايوس صرخةً داوية تجاوبت أصداؤها في جميع أجواء هيلاس، واستجاب لها كل قادر على الحرب فيها. . . إلا القليل

لقد عجب عشاق هيلين حين وصلتهم صيحة تنداروس، وصدقوا يمينهم التي أقسموا، فلبوا سراعاً؛ وانتفضت هيلاس كلها فصارت ثكنة عسكرية تعج بالجند وتضج بآلات الحرب، واضطربت البحار بالأساطيل تيمم شطر أوليس، حيث اتفقت الكلمة على أن يبحر منها الأسطول المتحد؛ فلا يرسو إلا في مياه طروادة لبى الصيحة كل عشاق هيلين الذين أقسموا اليمين فهرعوا من المشارق والمغارب بخيلهم ورجلهم. . . إلا ملك إيتاكا. . . أوليسيز

أوليسيز

كبر في نفس أوليسيز أن يتقدم لخطبة هيلين فترفضه فيمن رفضت، وهو مع ذاك ملك إيتاكا وبطلها الحلاحل، وفارس هيلاس الذي لا يشق له غبار. وكبر في نفسه أن تؤثر عليه منالايوس، وهو مع ذاك دونه شجاعة وأقل منه إقداماً حين يثار النقع وتستحر الحرب العوان؛ وكبر في نفسه أيضاً ألا تكون له زوجة يفاخر بها هيلين، وأتراب هيلين، وآل هيلين، فذهب من فوره إلى عمها فتزوج أبنته الجميلة الرائعة بنلوب: (الزهرة التي تهتز للندى، وترقص لخيوط الشمس الذهبية، وتُغني مع الأطيار، ويسكر النسيم إذا داعب خديها. . . قُبلة الحب الخالد على خدود الجمال الطليق، وابتسامة السماء الضاحكة في قلوب المحبين المعذبين. . . بنلوب. . . الوديعة كالأطفال، الحلوة كالرضى، الصافية كقطرة الندى في أوراق الورد، المرحة كسطور الغرام في خطاب الحب. . . بنلوب. . . التي تفخر الأرض بأنها تحملها. . . والهواء بأنها تستنشقه. . . والسماء بأنها تظللها وتشرف عليها. . . والجبل بأنها تنظر إليه. . . والبحر بأنه يغسل قدميها المعبودتين!

بنلوب! ذات الفم العطري، والخد اللامع المورد، والجبين الناصع الوضاح، والعنق

ص: 56

الناهضة الجَيْداء. . . ربيبة الآلهة، ولمحة الأولب، وبندورا الثانية. . .)

تزوج أوليسيز من بنلوب هذه، فأخلصت له الحب، وأصفاها المودة والغرام؛ وولدت طفله الجميل المتلألئ تليماخوس (تلماك)، فزادت محبتها له، وتضاعفت عبادته لها، بعد هذا الرباط القدسي الكريم

عز على أوليسيز أن ينأى عن زوجته الجميلة وطفله العزيز المحبوب، لا لشيءٍ يجر عليه مغنماً أو رفعة، ولكن ليحارب حرباً لا تعلم إلا الآلهة كيف تنتهي؛ فقد تكون عقباها القتل أو الغرق أو الأسر، فتعيش الزوجة الجميلة أيما محزونة، ويحيا الطفل يتيماً مُفجعاً. . . وثمن ماذا كل هذه المصائب وتلك الآلام؟ ثمن امرأة أذلت سادة هيلاس، وجرحت كبرياء زوجها، وفضحت أباها. . . ثم. . . هتكت عرضها، إذا كان لها عرض، بفرارها مع هذا العاشق الفاجر الأثيم!!

لم يشأ أوليسيز أن يقامر بسعادته وحياته في هذه الحرب إذن، ولو كان في ذلك، كله أو بعضه، الحنث العظيم. . . فما يمين شرفٍ هذه التي يتمسك بها ملك كملك إيتاكا، من أجل امرأة ليس لها شرف؟!

ليقعد إذن عن هذه الحرب، وليصم أذنيه دون صيحتها الكبرى، فإذا ألح عليه الملحون. . . فهو مجنون مأفون مخبول. . . لا تهيمن عليه مسكةٌ من عقل ولا ترشده أثارة من تفكير

أرسلوا إليه رسولهم السياسي الكبير بالاميديز يحضه على الحرب ويذكره بيمينه التي آلاها، ويحرضه على (الطرواديين اللؤماء، الذين يوشكون أن يفضحوا الهيلانيين في أعراضهم) ولكنه ألفاه يحرث شاطئ البحر بمحراثٍ هائل يجره ثورٌ ذو خوار. . . وحصان عربي أصيل!!

- (عم صباحاً أيها الملك. . .)

- (. . .!. . .)

- (ماذا يصنع مولاي؟)

- (أحرث هذا الحقل الخصيب!)

- (أي حقل؟)

- (الحقل الذي ترى. . . أليس لك عينان تسمع بهما، وأذنان تريان ما أفعل؟)

ص: 57

- (عينان تسمعان، وأذنان تريان؟. . .)

- (اذهب. . . لا تشغلني. . . أريد أن أبذر حقلي هذا الصباح)

- (وماذا عساك أن تبذر أيها الملك)

- (لست ملكاً لا تهزأ بي. . . نحن الفلاحين نطعمكم ونسمنكم ثم يكون جزاؤنا أن تسخروا بنا. . . اذهب. . . اذهب. . .)

- (ماذا تحاول أن تزرع هنا؟)

- (سأزرع مِلْحاً؟!)

- (تزرع ملحاً؟! وتحصد ماذا؟)

- (أزرع ملحاً، وأحصد. . . سمكا. . . ها ها. . . لالا. . . سأحصد باذنجاناً. . . . . . ولكن لماذا تقف هكذا جنباً مني؟ لماذا لا تذهب؟)

- (ألا تعرفني يا مولاي؟)

- (أرجوك! أنا لست مولاك ولا مولى أحد! اذهب ودعني اشتغل)

- (أنا بالاميديز يا مولاي! واأسفاه! إن هيلاس كلها تنتظرك ليومها المشهود!)

- (تنتظرني؟. . . إنها لابد جائعة يا بالا. . . يا باما. . . يا بالاديز!!)

- (لست بالاديز يا مولاي!. . . أنا بالاميديز!)

- بالاميديز! هذا عجيب! تعال إذن فاعمل معي. . . سَأسَأ. . . . . . . . .)

- (الحرب يا مولاي! الأساطيل في أوليس!)

- (أي حرب، وأي أساطيل يا رجل؟)

- (سنحارب طروادة!)

- (ولم لم تذهبوا بعد؟)

- (نريد أن تكون معنا، فالكل يهتف بك ويدعوك؟)

- (أنا؟ يدعوني أنا؟. . . أنت يا رجل لا تريد أن أزرع هذا الحقل ملحاً؟ وماذا أصنع في الحرب؟ هلى أخبروك أنني فارس؟. . . اذهب اذهب. . . سأسأ. . . . . . سأسأ. . .)

- (ألا تعرف من أنت يا مولاي؟)

- (وهل تعرف أنت من أنت؟)

ص: 58

- (أنا بالاميديز، وأنت؟)

- (أنا؟ أتريد أن ترسل اسمي إلى الميدان؟. . . أتتركني بغير اسم يا رجل؟)

لم يستطع بالاميديز أن يفوز من أوليسيز بطائل، فقد مثل ملك إيتاكادور مجنون تمثيلاً متقناً، يحاول أن يفلت من هذه الحرب التي لا شاة له فيها ولا جمل، والتي قد يقتل فيها أو يؤسر من أجل زوجة خائنة لا شرف لها ولا عرض. بيد أن بالاميديز لم ييأس حين ما شدهه من جنون الملك، فان وسواساً وقر في قلبه أن هذا البله قد يكون تبالهاً، وأن ما بالملك من مس إن هو إلا حيلة يحاول أن يفلت بها من أرزاء الحرب وأهوالها، ثم هو حيلة كذلك للتحلل من اليمين التي أقسمت عشاق هيلين

لذلك لجأ بالاميديز إلى الحيلة هو الآخر، فانقطع أياماً ظل يرقب الملك فيها عن كثب، بحيث لا يراه أوليسيز، ولكن الجواسيس كانت تحمل أخبار السياسي الداهية أولاً فأولاً إلى رئيس البلاط، وهذا يحملها بدوره إلى مولاه. . . الذي يفطن إلى مكر بالاميديز فيبالغ في ادعاء الجنون، وينزل إلى البحر يحرث موجه. . . بعد إذ فرغ من حرث شاطئه!. . .

ويسقط في يد بالاميديز فيطلق آخر سهم في كنانته. . .

ذلك أنه تحايل فسرق تليماخوس الصغير، ولي عهد أوليسيز، والأعز عليه من نفسه، ومن الدنيا وما فيها. . . . . . سرقه فذهب به إلى حيث والده يحرث الشاطئ ويحرث البحر، فطفق يضع الغلام أمام المحراث ليرى ما يكون جنون الملك، هل يقتل ابنه، ويكون بذلك مجنوناً حقاً، أم يتفاداه، ويكون جنونه محض ادعاء وبلهه تلفيقاً؟!

ولكن الملك كان أحرص على ولي عهده، وقرة عينه، من أن يتم فيه حيلة بالاميديز الداهية! فكان كلما تعرض ابنه لخطر الموت، لوى عنان الثور، وذاد الفرس، متفادياً الطفل إلى الناحية التي لا يكون عليه فيها خطر. . .

فتضاحك بالاميديز، وفضح جنون الملك، وأخجل حيلته. . ثم لم يزل به حاضاً محرضاً حتى أقنعه بوجوب خوض هذه الحرب مع إخوانه الهيلانيين

ازدحمت جحافل الهيلانيين في أوليس، وانعقد المجلس الحربي لانتخاب القائد الأعلى، فاختير ابن الشمس البكر، أجامنون، شقيق منالايوس وصفيه، بالإجماع

اختير أجاممنون للقيادة العامة ولو لم يكن خير أعضاء المجلس الحربي. وكيف يكون كذلك

ص: 59

ومن أعضاء هذا المجلس أوليسيز العظيم ملك إيتاكا، وأجاكس بطل الأبطال وفارس كل نزال، ونسطور أحكم من أشار بخطة في معمعان، وديوميديز المحارب الصنديد. . . إلى آخر هذه العصبة المختارة من جيرة الأولمب، والسادة النجب من فرسان هيلاس

اختير أجاممنون إذن لأنه شقيق منالايوس وممثله في هذه الحرب، ثم لأنه أكبر أعضاء المجلس الحربي سناً، وهو هو ذاك أحد شجعان هيلاس المعدودين

انتظمت صفوف الجند، وأخذوا في مران عنيف أياماً معدودات، ركبوا بعدها في سفائن أسطولهم العظيم، وظلوا ينتظرون إذن القائد الأعلى، أمير البر والبحر، بالإقلاع، فتجري بهم الجواري المنشآت في موج كالجبال. . . إلى. . . طروادة!. . . يحملون إليها المنايا الصفز، والغوائل السود، في شفار المشرفيات البيض!

ولكن أمير البحر والبر لم يأذن لهم بالإقلاع. . .

ذلك أن بعض أعضاء المجلس الحربي أشار بوجوب إستيحاء الآلهة عما إذا كانت حملتهم العظيمة هذه قد كتب لها الظفر والانتصار، أم الهزيمة والانكسار؟ ليكونوا من أمرهم على بينة، وليكونوا أيضاً قد استخاروا أربابهم فتخير لهم، واستشاروها فتخلص لهم المشورة، ويمضون بعد ذلك على بركتها وفي حراستها

وارتقبوا نبوءة الآلهة بقلوب فارغة، ونفوس مبتهلة. . . ومضت أيام. . .

ثم رأوا إلى كاهن المعبد يدلف نحوهم في هدأة فجر صامت، فشخصت أبصارهم، وظنوا فيه الظنون

وجلس الكاهن المسن يقلب في القادة عينيه الكبيرتين، وصمت لحظة ثم قال:(أين ابن بليوس أيها الملأ. . .؟)

ونظر القادة بعضهم إلى بعض ولم يحيروا. . .

فقال الكاهن: (ابن بليوس رب الأعماق، من زوجته ذيتيس! أليس فيكم أخيل؟!. . .)

فأجاب أجاممنون: (ومن أخيل أيها الأب المقدس؟!)

فقال الكاهن: (هو ابن ذيتيس التي قالت فيها ربات الأقدار إنها تلد غلاماً يكسف مجده مجد أبيه. . . ابحثوا عنه، فلن تفتح طروادة إلا على يديه. . . لن ينفعكم أن تذهبوا بدونه. . . هكذا قالت الآلهة. . .)

ص: 60

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 61

‌النقد والمثال

للأستاذ أحمد الزين

كتبت إلي - أعزك الله، وأمتع الأدباء ببقائك - أنه قد بعد عهدك بمطالعة ما كنت أكتبه في الصحف من فصول في النقد، ممتعةٍ في حسن ظنك بأخيك، وبحوثٍ ضافيةٍ دقيقةٍ فيما تنظره عين رضاك عن صديقك، وقلت: إنها لامست موضع هواك، وحققت غاية مناك، وشفت من صدرك غلة لم يكن ليشفيها ما طالعت أو سمعت من فصولٍ غيرها في النقد مما ملئت به صدور الصحف والمجلات، وحشيت به بطون المؤلفات، وأفاض فيه أساتذة النقد الأدبي في الدروس والمحاضرات، إذ كان أكثرها بل كلها من إملاء الغرض ووحي الهوى، وليس للفن فيها من الحظ إلا بمقدار ما يبرر الناقد به تفضيل صاحبه على غيره، واتهام الآخر بالعي والقصور في نثره أو شعره؛ يغفلون الأذواق والعقول، ويحكمون النزعات والميول، ويتبعون القلوب على ما يعرفون من تقلبها، ويستلمون العواطف الخادعة على تحولها وعدم استقرارها؛ فتخرج بحوثهم مختلة السياق، مضطربة الآراء، لا تحمل قارئاً على احترامها، ولا باحثاً على الاعتماد عليها. فهي بقصائد المدح والهجاء، أشبهُ منها ببحوث الأدباء والعلماء، حتى إن الشعراء والكتاب أنفسهم لم يعودوا يأبهون لما ينشره هؤلاء النقاد من ثمرات قرائحهم، إذ كان نقدهم إما مدحاً تمليه مودة أو منفعة، وإما هجاءٌ تبعثهم عليه عداوة أو حسد، ولقد قلتُ مرة لبعض الشعراء المجيدين: إن فلاناً الناقد المعروف قد كتب فصلاً طويلاً في صحيفة كذا يثني فيه على بعض قصائدك ثناء لو قرأته لسررت به، وهششت له؛ وطفقت أطيل في ذكر ما كتب؛ فقال صاحبي: بعض هذا يا أخي، فما مدح هؤلاء مما أرجو، ولا نقدهم مما أخشى، فما أيسر الوسائل التي ينال بها مدح هؤلاء ورضاهم، وإن ثناءهم لأشبه شيء بالشهادة للميت حين يحمل إلى قبره، ويقال:(ما تشهدون في هذا الرجل؟) فيقول المشيعون: (صالح وابن صالح) ولعله كان على خلاف ما شهدوا به في حياته، وقد أراح الله البلاد والعباد بمماته، ولم تقتصر متابعة الغرض ومسايرة الهوى في النقد الأدبي على صغار النقاد في هذا البلد، بل شمل ذلك أساتذة النقد وذوى الكلمة الفاصلة منهم، ومن يرتقب رأيه في كل أثر فني، كما يرتقب المتهم حكم القضاء العادل الذي لا مرد له، ولا جدال فيه، فطغى على الجميع سيلُ الغرض، واندفعوا

ص: 62

في تيار الهوى، ولم يبال واحد منهم بمكانه في الأدب، ولا بمنزلته الرفيعة في نفوس الأدباء، وآيةُ ذلك أنك لا تجد اثنين من الناقدين يتفقان في الشاعر الواحد على رأيٍ واحدٍ في شعره، ويضعانه في المنزلة التي يستحقها مع غيره، بل تختلف الآراء فيه - بل في البيت الواحد من شعره - اختلافاً ظاهراً إلى حد التناقض، فبينا أحدهم يرى في الشاعر أنه شاعر العربية، إذا بالآخر يقول:(إنه ليس بالشاعر ولا شبه الشاعر)، وهكذا ترى المبالغة والإغراق في طرفي الرأي، مما أسقط النقد الأدبي وأضاع الغرض منه في تهذيب الفن، وأضعف أثره في نفوس الكتاب والشعراء. مع أنه مما لا نزاع فيه أن للذوق الأدبي مقياساً عاماً لا يختلف في أصله؛ وإن اختلف في بعض الفروع التي لا تقدم ولا تؤخر في الحكم على الشاعر في جملته، ولا في منزلته الشعرية بين أبناء جلدته

وثمة أمر آخر هو أمر نكاية في الأدب، وأبلغ في هدمه، وهو أن أكثر هؤلاء النقاد يقيسون الأدب العربي بمقاييس الأدب الغربي، فيطلبون إلى الشاعر المصري العربي أن يحاكي شعراء الغرب في أغراضهم ومعانيهم، وإن كان أكثرها لا يلائم بيئته، ولا يجري مع قانون حياته، ولا يتفق بوجه مع الطبيعة الشرقية؛ وأطالوا في اتهام من خالفهم بالجمود، وضيق الأفق الفكري حتى حاول بعض الشعراء الناشئين تكلف هذه المحاكاة مراغمةً لشعور القلب وإحساس الفؤاد، وإرضاءً لهؤلاء النقاد فخرجت قصائدهم لا شرقية ولا غربية، مشوهة الصور ضعيفة الأثر، كالحة الظاهر، جوفاء الباطن، لم تصور إحساساً في فرد ولا في جماعة، ولم تعبر عن شعور في الأمة ولا في الشاعر نفسه، فلم تسترع هذه القصائد سمعاً، ولم تجتذب إليها قلباً؛ ولولا طائفة قليلة أمسكت بسلسلة البيان أن تنقطع، وآوت إليها طرائد الشعر العربي، وصبرت وصابرت في مدافعة هؤلاء المستغربين في شرقهم، وصانت ذخائر العرب - وأخصها اللغة - حتى تسلمها إلى طائفة أخرى مثلها ممن قوى في نفوسهم شعور القومية ونظروا في الأدب العربي نظرةً واسعةً منصفة، فعرفوا من نفائسه ما لم يعرفه سواهم؛ لولا هؤلاء لأفل نجم البيان العربي عن هذه البلاد، ومات الشعر أو كاد

وقلت: إن آثر النقاد عندك وأجداهم بحثاً على طالب الشعر والكتابة من يعني بالبحث في آثار الكتاب والشعراء واختبار ثمرات قرائحهم، فيميز جيدها من رديئها، وناضجها من فجها، ويُرى القارئ أسباب الإجادة فيما يستجيد من شعر أو نثر فيأخذ بها ومواضع الزلل

ص: 63

والمؤاخذة فيما لا يستجيد منهما فيجتنب الوقوع فيها

أما البحث في تحليل حياة الشعراء وكيف نشأوا والعصور التي يعيشون فيها، والبيئات المحيطة بهم فذلك أولى بالمؤرخ الأدبي منه بالناقد الفني، على أن تلك البحوث لا تفيد طالب الشعر فائدة قليلة ولا كثيرة في الإجادة الفنية، وإن إفادته في توسيع ثقافته العلمية

ثم سألتني أيها الأخ الكريم أن أعود إلى محادثة الأدباء والمتأدبين فيما قرأتُ وأقرأ من جيد الكلام ورديئه، وتبيين سبب الإجادة في الأول، وموضع المؤاخذة في الآخر، والترجيح بين المتساويين في أول النظر على صاحبه، ثم لا أذكر بيتاً فيه زلةٌ لشاعر إلا عقبته ببيت قد سلم منها لمعاصر أو غير معاصر، مفاضلاً بين البيتين، موازناً بين الشعرين، ليكون ذلك مثالاً يتبع، وقياساً ينتهج، فان لم أجد فيما أحفظ من الشعر ما يصلح مثالاً، ويتخذ قياساً، غيرتُ من البيت نظمه، وداويتُ سقمه، وذهبتُ بشكله، وأبقيت على أصله، وذلك هو ما انتهجته في البحوث السابقة، وشرحته في أول بحث كتبته، وإنا لسؤالك لباذلون، ولدعوتك لملبون؛ نسأل الذي فطر الفطرة، ووهب القدرة أن يعصمنا من هوى لا نستطيع غلابه، وأن يعيذنا من خطأ لا نعرف صوابه، ولست أعد قراء (الرسالة) بأن تحمل حديثي إليهم في كل أسبوع، بل قد تطول الفترة بين الحديثين، وقد تقتصر، إذ لم أتعود فيما أكتب التقيد بالوقت، فان هذه القيود الصحفية مما يحمل الكتاب في بعض الأحيان على أن يملأوا الصحائف بالسطور، وإن خلت من فائدة الجمهور

أحمد الزين

ص: 64

‌البريد الأدبي

هنري باربيس

توفي في أواخر شهر أغسطس المنصرم كاتب وشاعر من أعظم كتاب فرنسا وشعرائها المعاصرين، هو هنري باربيس؛ وكان باربيس زعيم المدرسة الثورية وأعظم كتابها، ولم نمض أشهر قلائل على صدور كتابه الأخير الذي كتبه عن ستالين طاغية روسيا البلشفية، وعن تاريخ الحركات الثورية في روسيا القيصرية، وهو الكتاب الذي أشرنا إليه وقت صدوره في هذا المكان من (الرسالة)

وقد ولد هنري باربيس في ازنيير في سنة 1874، وتلقى تربية جامعية حسنة، ونظم الشعر القوي منذ شبابه، وكتب القصص؛ وظهر لأول مرة في أفق الأدب بصدور ديوانه المسمى (الباكيات في سنة 1895. وفي سنة 1903م نشر قصته (المتضرعون ثم أخرج قصته (جهنم ' في سنة 1908، وامتهن باربيس الصحافة وبرز فيها؛ وفي سنة 1910 تولى تحرير صحيفة الشهيرة ولما نشبت الحرب الكبرى انخرط في سلك الجيش العامل كجندي في المشاة، وأبدى شجاعة فائقة في الذود عن وطنه استحق من أجلها وسام (صليب الحرب)، وفي أثناء الحرب أخرج باربيس أعظم قصصه وهي:(النار وهي مذكرات فرقة محاربة والشعلة وبهما يرتفع باربيس إلى صف أعظم كتاب العصر ويصل إلى ذروة قوته، ولما انتهت الحرب وقع تحول عظيم في تفكير باربيس وفي مبادئه فاعتنق المذهب الشيوعي، وتولى التحرير في جريدة (لومانتيه) الشيوعية التي أنشأها جان جوريس واشتهر بكتاباته الملتهبة، وفي سنة 1920 أصدر باربيس قصته (النور في الهاوية ' وفي العام التالي أخرج قصة قوية أخرى عنوانها: (بعض زوايا القلب ثم أصدر كتاب (الأغلال وفي سنة 1927 أصدر كتابه (بيان إلى العقلاء ومنذ أشهر قلائل أخرج كتابه عن ستالين. وكان باربيس في أعوامه الأخيرة دائم التردد على موسكو وثيق الصلة بزعمائها، وكانت وفاته في موسكو في مستشفى الكرملين بعد مرض قصير. ومما ذكره أنه تزوج من ابنة كاتيل مانديس الكاتب والفنان الشهير، وهي أيضاً كاتبة وأديبة معروفة

قوانين الملكية في روسيا

ص: 65

يخطئ من يعتقد أن روسيا البلشفية تعيش في ظل النظم الشيوعية؛ والحقيقة أنها لا تكاد تطبق اليوم نوعاً من اشتراكية الدولة أو الاشتراكية المخففة؛ وقد اقتنع البلاشفة بعد تجارب شائكة أن الحياة الاقتصادية والاجتماعية المنظمة في ظل الشيوعية ضرب من الخيال. ومما يدل على أن روسيا السوفيتية تعود شيئاً فشيئاً الى النظم الفردية، أن الحكومة البلشفية قد أصدرت أخيراً قانوناً جديداً بتحديد ملكية الأراضي في مختلف الولايات الروسية، ولاسيما في جمهوريات التركمان وأزبكستان وأزربيجان وقازاقستان، وبعض مناطق سيبريا الزراعية، وفيه تفصيل لما يمكن أن يملكه المزارع من الأرض أو الماشية لاستعماله الشخصي؛ والقانون الجديد يتحدث عن وضع اليد والحيازة فقط، على أن تلحقه قوانين أخرى بتثبيت الملكية متى استقر تقسيم الأراضي نهائياً. وليس القانون جديداً في الواقع، فان المزارع (الكولاك) يتمتع منذ أعوام بحق ملكية حديقته وبعض الماشية، ولكن القانون الجديد يزيد في نسبة الملكية إلى حدود لم تعرف من قبل في ظل النظام البلشفي، هذا فضلاً عما يتضمنه من الوعد بتثبيت الملكية وتطمين المزارعين بذلك على مصير أراضيهم ومواشيهم. وبمقتضى هذا القانون يصبح للمزارعين في سيبيريا الحق في امتلاك أرض تبلغ مساحتها إلى هكتار واحد حسب منطقة الأرض، وفي امتلاك الماشية من خمسين رأساً من الرندير إلى مائتي رأس، ومن الكلاب ما شاء. وفي جمهوريات أزربيجان وأزبكستان وما إليها يستطيع المزارع أن يمتلك من 20 إلى 30 في المائة من الهكتار أرضاً زراعية، ومن الماشية جواداً وحماراً وخمس عشرة إلى ثلاثين رأساً من الغنم

وفي هذه القوانين الجديدة دليل قاطع على ما انتهت إليه سياسة السوفييت من التطور نحو الفلاحين. وقد كان لتنفيذ المشاريع الاقتصادية الجديدة أثر كبير في هذا التطور، لأنها أقنعت زعماء البلاشفة بأن الترويح عن المزارعين وتحريرهم من قيود الإنتاج الإجماعي مما يضاعف أسباب الإنتاج والرخاء الزراعي

أعمدة سبعة من الحكمة

لم يمض على وفاة الكولونل لورنس زهاء أربعة أشهر، ومع ذلك فان آثاره وذكرياته تشغل اليوم فراغاً كبيراً في الأدب الإنكليزي، فقد صدرت أول طبعة جديدة تذكارية من كتابه

ص: 66

الشهير (سبعة أعمدة من الحكمة وهذه الأعمدة السبعة هي: القاهرة وأزمير وقسطنطينية وحلب وبيروت ودمشق والمدينة. وكان الكولونل لورنس قد بدأ في كتابته منذ سنة 1921، وفيه يقص سيرة أعماله المدهشة في بلاد العرب، وما اشترك في تدبيره من الثورات والانقلابات والوقائع الغريبة التي انتهت بتمكين الإنكليز من الاستيلاء على فلسطين والعراق، وسيرة مغامراته الشخصية، وفيه روايات وأسرار خطيرة عن كثير من القادة والزعماء الذين عملوا مع لورنس. وفي سنة 1926 ظهر كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) وظهرت منه فقط مائة وعشرون نسخة باسم المشتركين، فكأنه لم يطبع ولم يذع في الواقع إلا في دائرة خاصة جدا، ثم لخص منه لورنس كتاباً آخر هو (الثورة في الصحراء) وهو الذي طبع وأذيع بكثرة، وقد كان من أكبر أماني أصدقاء لورنس والمعجبين به، أن يخرج كتابه الشهير في طبعة جديدة ذائعة، والآن تتحقق هذه الأمنية بعد وفاته، ويصبح كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) في متناول كثيرين ممن لم يحظوا باقتنائه

مآسي التاريخ

صدر أخيراً كتاب جديد للمؤرخ الفرنسي ح. لينوتر الذي توفي منذ أشهر قلائل، عنوانه:(مآسي التاريخ وقد اشتهر لينوتر بنوع خاص من التاريخ لبث يكتبه أعواماً طويلة في جريدة الطان تحت عنوان: (التاريخ الصغير) وفيه يتناول من حوادث التاريخ المنسية ومآسيه الطريفة ما يفوق في الحقيقة كثيراً من وقائع الخيال، وتوفر لينوتر على دراسة هذا النوع، حتى أصبح أستاذه الحقيقي، وكانت الثورة الفرنسية وحوادثها العجيبة أعظم مصادره، فتناول كثيراً من حوادثها الخفية وتفاصيلها العجيبة التي يغفل عنها المؤرخ العام وأخرج فيها كتباً ورسائل ساحرة، ومن مؤلفاته الشهيرة في هذا الباب:(من ثورة إلى أخرى) و (من السجن إلى النطع) و (ملك بلا مملكة) و (باريس الثائرة) وغيرها، وأما كتابه الأخير (مآسي التاريخ) فقد كتبه في أواخر حياته، وتناول فيه عدة مآس شهيرة مثل سقوط الجيرونديين، ومصرع الدوق دنجين، ومقتل الكاتب بول لوي كورييه وغيرها، وكتبها بأسلوبه القوي الساحر، الذي يدنو في تفاصيله من الرواية، ويجمع في جوهره عناصر التاريخ المنسية، وقد كانت فصول لينوتر التي تنشرها (الطان) مثلا بديعاً لهذا النوع الشعبي من التاريخ، وكان لينوتر دائب التوفر على إخراجها حتى أواخر أيامه، بل

ص: 67

نذكر أن الفصل الأخير الذي كتيه فيها لم ينسر في الطان إلا بعد وفاته بيوم أو اثنين، وقد فاز لينوتر قبل وفاته بنحو عامين بكرسي الأكاديمية، وكان من الخالدين

لقب جديد لربات الجمال

كان لفوز الإسبانية الحسناء كاناريني أليشا نافارو في مباراة الجمال الأوربية العامة وفوزها بلقب (مس أوربا) وقع عميق في أسبانيا حيث يبدي الشعب الأسباني حماسة عظيمة لهذا الفوز لاسيما وانه أول حادث من نوعه في أسبانيا؛ ويؤمل الأسبان أن تفوز فتاتهم بتاج الجمال العالمي. بيد أن بعض المفكرين الأسبان رأوا أن الجمال المادي وحده لا يكفي لأن تتبوأ الفتاة مركزها الممتاز في المجتمع؛ ولابد أن تتحلى إلى جانبه بالصفات الأدبية والمنزلية التي يجب أن تختص بها المرأة، ولذلك أقيمت في مدريد مباراة من نوع خاص بين لفيف من الفتيات الحسان يتبارين للفوز بلقب (ربة الدار)؛ وتضمنت هذه المباراة امتحان الفتيات في أعمال الطهي والكي والخياطة وغيرها من الأعمال المنزلية، ففازت بهذا اللقب الآنسة كونشيتا مانسيجوي دي لارا. ونالت أول لقب من نوعه بين الحسان وهو (ربة الدار)

أغراض المستشرقين

قرأت في (الرسالة) ما كتبه الأستاذ محمد روحي فيصل في أن علماء المشرقيات أبعد الناس عن البحث العلمي المجرد يوم يخوضون الأبحاث الإسلامية، وأنهم يقصدون من الاستشراق خدمة دينهم وسياسة دولهم. وقد لامني لقولي من مقالة في الرسالة إن علماء المشرقيات يحمدون لنشرهم كتب العرب، وإنه كان على سادتنا العلماء أن يأخذوا باليمين آثار السلف يحيونها، حتى لا يطول مقامها في تزييف بعض من تعلموا لغات الشرق واختصوا في علومه، إلا أنني لا أغمط حق العاملين منهم، لتفضلهم بنشر كتبنا. وأرجوا ولا أزال أرجو أن ينقطع فريق من علمائنا وأدبائنا لمساهمة علماء المشرقيات هذه الخدمة الجليلة؛ لأن الكتب كتبنا، والمدنية مدنيتنا، وصاحب البيت أحق الخلائق بالعطف عليه وعلى ما فيه

وقد وقع لصديقي العلامة الشيخ عبد العزيز جاويش، يوم ألقيت في دار المعلمين العليا

ص: 68

بالقاهرة (5 مايو سنة 1927) محاضرة في (أثر المستعربين من علماء المشرقيات في الحضارة العربية) وعددت ما نشره علماء المشرقيات في كل أمة غربية من كتبنا، أن قام رحمه الله يعدد أغراض علماء المشرقيات من الغربيين في الدين والسياسة، وما كان موضوع المحاضرة غير التنويه بفضل من خدموا آثار أمتنا فاستفدنا نحن بالعرض. وأذكر أن بعض أساتذة مصر ممن حضروا المجلس تبرموا بكلام الأستاذ جاويش وعدوه خروجا عن الموضوع، لأني لم أمتدح المستشرقين إلا من الوجهة التي أفادوا بها حضارتنا، حتى إن الأستاذ علي الشمسي باشا (وزير المعارف المصري يومئذ) كان ممن حضر فقال: سامح الله الأستاذ جاويش، إن صاحب المحاضرة لم يتعرض لمدح المستشرقين في السياسة والدين، وإنما ذكر افضالهم على لغتنا وحضارتنا بنشر كتبنا. قال ذلك للأستاذ سيد كامل رحمه الله، (راجع المحاضرة في مجلة المجمع العلمي العربي م7 ص 433)

فأنا والحالة هذه إذا امتدحت من علماء المشرقيات، وأعجبت بعلمهم في خدمة آدابنا، فإنما تنويهي بهم من هذه الناحية فقط. وأعلم أن كثيرين منهم يعملون لسياسة بلادهم أولا، وأن منهم دعاة دين متعصبين يتخذون الاستشراق سلماً لخدمة دينهم على نحو ما كان أسلافهم في القرون الوسطى، ومن أحب أن يقف على تخريف المخرفين من المستشرقين، وإنصاف المنصفين منهم في أحكامهم على الإسلام والعرب فليرجع إلى كتابي الأخير (الآلام والحضارة العربية) فمعظم هذا السفر يدور على هذا المحور، وأحب مع هذا ألا يفوتنا أنه ليس من المعقول أن نكلف من لم يتأدبوا بأدبنا، ولم تعمل فيهم أحاسيسنا، ولا دانوا ديننا، أن يعتقدوا ما نعتقد، ويكتبوا فينا ما نحب. فلكل جنس تفكيره، ولكل جيل مدنيته، ولكل إنسان أهواؤه وأغراضه.

محمد كردي علي

ص: 69

‌الكتب

1 -

حياة الوزان الفاسي وآثاره

تأليف الأستاذ محمد المهدي الحجوي

2 -

تاريخ الصحافة (الجزء الرابع)

للفيكونت فليب دي طرازي

3 -

تاريخ الأمير فخر الدين المعنى الثاني

تأليف الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف

للأستاذ محمد بك كرد علي

في شمالي أفريقية اليوم حركة مباركة في التأليف تدل على انتباه فكري يبشر بخير كثير لتلك البلاد الإسلامية العربية؛ ما ينشرون؛ ويضعون أسفارهم على النمط العصري الحديث، ومما طالعناه مؤخراً (التذكار فيمن ملك طرابلس، وما كان بها من الأخبار) لابن غلبون الطرابلسي نشره وعلق عليه الأستاذ الطاهر أحمد الزواوي، و (كشف الحجب عن مدنية العرب) للأستاذ محمد بن عمار الوارثتاني التونسي، و (رسائل الرحالة) العالم عبد العزيز الثعالبي، وبعض تآليف في الأدب والشريعة للأستاذ طاهر بن عاشور؛ وتآليف عالم أفريقية حسن حسني عبد الوهاب معروفة مشهورة، وكذلك تآليف العلامة الشيخ محمد بن أبن شنب رحمه الله في الجزائر فانها من الممتع الجيد و (كتاب الجزائر) للأستاذ أحمد توفيق المدني من أجود ما كتب في تاريخ الجزائر وتقويم بلدانها وحالتها الاجتماعية والإدارية والسياسية والاقتصادية. هذه بعض ما وصل إلينا من تآليف أهل المغرب الأدنى والأوسط، أما المغرب الأقصى، فقد ظهر أربعة مجلدات ضخمة من كتاب (اتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس) للمؤرخ المدقق مولاي عبد الرحمن ابن زيدان، وهو في تاريخ مراكش في السياسة والاجتماع والأدب، أبان واضعه عن نفس طويل ومادة واسعة ظهرت منها عظمة تلك الديار في الدهر السالف، ونشر في فاس الأستاذ عبد الحي الكتاني كتباً نفيسة وعلق عليها فأحسن؛ ونشر العلامة سيدي محمد بن الحسن الحجوي الفاسي في فاس والرباط (رباط الفتح) كتاب (الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي) في

ص: 70

أربعة مجلدات، دل على علو كعبه في الشريعة وتاريخها وأدبها، وله غير ذلك من المصنفات والأبحاث والمحاضرات والمسامرات، وها هو نجله الأستاذ أبو عبد الله محمد المهدي يطالعنا ببحث طريف في حياة الوزان الفاسي وآثاره، فكان النجيب ابن النجيب. زادنا الله في أفريقية من أنباء نجباء الأبناء

هو بحث قدمه المؤلف لمؤتمر المستشرقين الثامن الذي أقامه معهد المباحث العليا المغربي بفاس يوم 20 أغسطس سنة 1922 في ترجمة أبي علي الحسن الوزان الفاسي المعروف عند الإفرنج باسم ليون الأفريقي ، وكان هذا الرجل العظيم من أصل أدلسي، نشأ في فاس وتجلى فيه الذكاء منذ الصغر، فتعلم العلوم الدينية والأدبية ثم ساح في بلاد المغرب الأقصى أوائل المائة العاشرة وكتب رحلات ومفكرات في جغرافية تلك البلاد بناها على مشاهداته، ورحل إلى الروم ومصر والحجاز، وكان في بعض رحلاته سفيراً عن بعض ملوك المغرب الأقصى في زمن الدولة الوطاسية، وارثة الدولة المرينية (دولة العلم والعرفان والفن الرائق الفتان) وقيام الدولة السعدية في الجنوب، ووقع للوزان أن أسره قرصان البحر من الطليان فأتوا به هدية لطيفة إلى البابا ليون العاشر في رومية، وكانت إيطاليا آخذة بنهضتها في عهد ذاك البابا العظيم حامي المعارف والآداب فوجد في الرحلة الوزان ضالته المنشودة لخدمة المعارف، وبعد موت البابا سنة 1521م 927هـ دخل الوزان تحت حماية الكردينال (جيل دي فيطرب) وكان يعلمه العربية، ثم تولى مدة تدريس العربية في كلية بوبونيا في إيطاليا؛ وبذلك تعلم الإيطالية واللاتينية، وكان من قبل يعرف الأسبانية والعبرانية. وألف هناك قاموسه الطبي بأمر البابا كتابه في وصف أفريقية، وقد جود في هذا الكتاب من وراء الغاية حتى جعله الغربيون أعظم مرجع لهم للوقوف على تلك الأرجاء الشاسعة. وصف فيه كل ما رآه من طبيعتها وأجوائها وحاصلاتها وعالمها وأخلاقها وعاداتها

وقد طبع كتاب الوزّان من القديم في إيطاليا وفرنسا غير مرة؛ وعلق عليه ناشروه شروحاً كثيرة واستفادوا منه. فصل كل ذلك الأستاذ المؤلف تفصيل باحث محيط بأطراف موضوعه. وأجاب من اعترضوا عليه مستغربين نبوغ المترجم له في سن الفتوة فقال: دخل الوزّان معترك الحياة دخول أبطال الرجال على حداثته سنّ فجلى وأبلى بلاء تجده

ص: 71

غريباً في حياة الرجال. نعم ذاك غريب إذا قيس بسنه، ولكن لا بدع هناك في حق الشباب المغربي، فقد حفظ له التاريخ أعمال كثير من أفراده المبكرين في النبوغ العلمي والسياسي، وذلك باب فتحه المولى إدريس رمز الشباب المغربي والعربي بما فيه من نبوغ وكفاءة، ومثال الفضيلة المحمدية، والشمم الهاشمي، والعبقرية القرشية. فقد بويع وهو ابن إحدى عشرة سنة وقام بالملك أحسن قيام وأسس دولة من أفخر الدول تأسيساً ونظاماً، وأسس لمملكته عاصمة من أفخر العواصم، وهو ابن خمس عشرة سنة، لم يؤسس العرب مدينة أحسن منها مناخاً ولا أليق منها بقعة للعمران، ومات بعد أن بلغت دولته العنفوان، وهو ابن ست وثلاثين سنة، وله نظائر في تاريخ المغرب نبغوا مبكرين في مختلف نظاهر الحياة لا نطيل بهم، ومنهم المترجم)

- 2 -

هذا هو الجزء الأخير من تاريخ الصحافة تصنيف الأستاذ فيليب طرزاي أمين داري الكتب والآثار في بيروت، وقد اشتغل في هذا الموضوع الطريف أربعاً وأربعين سنة وصرف فيه مالاً ووقتاً وجهداً حتى تسنى له اقتناء مجموعة من الصحف والمجلات العربية التي صدرت في القارات الخمس منذ عام 1800م إلى عام 1929 وبلغ عدد ما لديه من أعداد هذه الصحف والمجلات وهو يحرص على العدد الأول منها في الغالب - نيفا وثلاثة آلاف ومائتين وخمسين جريدة ومجلة، فكان عدد ما صدر من المجلات في المملكة المصرية منذ تكوين الصحافة إلى سنة 1929: 1398 جريدة ومجلة وعدد ما صدر في بلاد الشام 779 كان من حصة الجمهورية اللبنانية 426 الخ واتضح (أن بعض المدن النائية في أوربا وأمريكا والتي لا ينطق سكانها بالضاد فاقت بعدد جرائدها ومجلاتها كثيراً من عواصم الدول وشهيرات المدن الواقعة في صميم البلدان العربية ويعزى ذلك الى هجرة العدد الوافر من الكتاب في عهد الدولة العثمانية. فقد كانت هذه الدولة تضطهد المفكرين والمثقفين من سكان بلادها وتشدد عليهم وتخاف صرير أقلامهم. ويرجع أكثر الفضل في هذه النهضة الصحافية الميمونة إلى أدباء لبنان الذي نزح منه مئات الألوف إلى تلك الديار العامرة ولاسيما إلى العالم الجديد، ويقع هذا الجزء في 545 صفحة وقد ترجمت أكثر فصوله إلى الإنجليزية ليعمم الانتفاع بهذا الاحصاء، ويستفيد الغربي كما يستفيد

ص: 72

العربي من مضامين الكتاب عند ما يراد الكشف عن جريدة ومعرفة منشئها الأول وتاريخ صدورها والمدنية التي صدرت فيها الى غير ذلك من الفوائد. وفي الحقيقة إن اللبنانيين الأثر المحمود في إصدار الصحف في الشرق والغرب باللغة العربية، وكان للمؤلف الفضل الأوفر في تدوين أعمالهم والتدليل عليها بإحصاءاته المدققة، فله الشكر على هذه العناية وهذا الدؤوب

الأمير فخر الدين المعنى الثاني أعظم أمير عربي قام في النصف الأول من القرن الحادي عشر من الهجرة في جبل لبنان وما إليه من بلاد الشام. وكان واسع المدارك محباً للعمران والحضارة، انتفع بكل قوة وجدها أمامه، وإذ كان حكمه يتناول الدروز والشيعة والسنة والموارنة والروم الأرثوذكس وغريهم من النحل في الساحل الشامي، ويريد أن يرضي كل فريق تبعاً للسياسة التي جرى عليها، اتهمه بعضهم بأنه كان يذهب مذهب الدروز، وفريق بأنه كان نصرانياً، والحقيقة أنه كان مسلماً يرى رأي أهل الستة والجماعة، وكان قد لجأ إلى إيطاليا في أُخريات أيامه فأخذ معه إمامه وأنشأ مسجداً ومنارة في البلد الذي نزله حتى أن فتاة له ماتت هناك لم يرض أن يدفنها في أرض إيطاليا، وحملها معه إلى الشام لما عاد إليها لتدفن في أرض إسلامية. وأهل لبنان يتمجدون بالأمير المعني لأنه حكم النصارى فأحسن إليهم ما وسعه الاحسان، واعتمد في الحكم على بعض نبهائهم يومئذ. ولذلك كان من الواجب تدوين تاريخه، والجمهورية اللبنانية الصغيرة في إبان نشأتها تحاول أن تجعل لها تاريخاً تعتز به، وقد تخلقه خلقاً، فكيف بتاريخ رجل جدير من كل وجه بالتخليد؟ وهذا ما تمحض له زمناً الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف، واستطرد في كتابته استطرادات كثيرة حتى جاء كتابه في 446 صفحة، مستنداً فيه إلى مصادر لبنانية وغيرها، باحثاً عما يهم وما لا يهم من الحوادث التي لها مساس بحاكم حكم لبنان من سنة 1590 إلى سنة 1635م، وكان قضى في الآستانة مقتولاً سنة 1045هـ. وقد حَلَّى المؤلف كتابه بصور أثرية قديمة تمثل حالة البلاد في عصر الأمير المعني، وشرح كل ما رآه جديراً بالشرح في الحواشي، فاستحق شكر الباحثين في تاريخ هذا الجزء الصغير من الديار الشامية

محمد كرد علي

ص: 73