المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 116 - بتاريخ: 23 - 09 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١١٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 116

- بتاريخ: 23 - 09 - 1935

ص: -1

‌ملكة الجمال

للدكتور عبد الوهاب عزام

للأقلام محن تقضي عليها أن تسف إلى ما لا تود الكتابة فيه، وتكره على أن تخط ما تريد الترفع عنه. وقلمي مكره على الكتابة في هذه الحماقات، مرغم على أن يعنى بهذه الترهات

- 1 -

كنت أحادث جماعة من الأصدقاء، فسارت بنا شجون الحديث إلى أن تكلمنا في المدينة الحاضرة حسنها وقبيحها، وجليلها وسفسافها. قلت: أحسب أن المسيطرين على أخلاق الناس في كثير من مناحي المعيشة الحاضرة جماعة من التجار المفسدين. قال صديق: كيف ذلك؟ قلت: في طبع الإنسان الكلف بالذات، والاستهتار بالشهوات، وقد سار العالم آلاف السنين على هدى التجاريب، وتعليم الأنبياء والحكماء، يزن آلامه ولذاته، ويعدل بين مصالحه وشهواته، ويضع شرائع، ويسن سنناً ليعيش الإنسان على شريعة تعرف وتنكر، وتستحسن وتستقبح، وتقول هذا حلال وهذا حرام، حتى استقامت للإنسان خطة في سياسة نفسه ومعاملة الناس. وصار يجاهد نفسه ليمنعها لذاتها، علما بأن وراء اللذة العاجلة شراً أعظم منها، ويصبر نفسه على ما يكره إيثاراً للعافية في العقبى، واستمساكا بالفضيلة التي سكن إليها، ومكنتها في نفسه سيرة الآباء

قال صديقي: هذا حق فما وراءه؟ قلت: أرى العصر الحاضر مفتوناً كل الفتنة بالأهواء، مستكلباً على الشهوات، قد فتحت له من الملاهي أبواب، ومدت له إلى الغي أسباب؛ فشغلت من الحياة جانباً. هذه الملاهي والمراقص والحانات والمواخير. ورأى كثير من الناس هذه الدور مجلبة ربح عظيم، ووسيلة مال وفير، فأقبلوا عليها إقبالاً، وافتنوا فيها افتناناً، واستعانوا على تزينها وجلب الناس إليها بكل ما أنتجت الحضارة من علم وفن، ولم يدعوا حيلة في الاستهواء إلا اتخذوها، ولا وسيلة إلى تهافت الناس عليها إلا توسلوا بها. امتن كل فيما يعرض، وتؤدي المنافسة والطمع في المال إلى استباحة المحظورات، فينظر الناس أول الأمر ثم يسكنون، ويخدعون أنفسهم فيما يرون، بما تصبو إليه غرائزهم وتغرم به شهواتهم حتى يصير هذا أمراً معروفاً وعملاً مألوفاً. ثم يحدوهم حب الربح والمنافسة إلى أن يثيروا شهوات الناس بأفانين أخرى وهلم جرا، حتى لا يصدهم وازع من فضيلة أو

ص: 1

عادة، وعبثاً يحاول القانون أن يصد التيار، أو يقيم الجرف المنهار، وهكذا تقاد الأمم بأذنابها، وتأتم بضلالها. وقس يا صاحبي على هذا أزياء النساء. فتنافس التجار فيها هو الذي يطيلها ويقصرها، ويطلع كل يومين ببدعة تبين عما دق من المرأة وجل، وما ظهر وما بطن. ولست أجد بداً من ذكر الحقيقة (العارية)، وهي أن النساء الخليعات هن القدوة في هذه السبيل، يلبسن ما يلفت النظر إليهن، ويميزهن من غيرهن، فيروق النساء الأخر هذا الزي، والمرأة لا تحب أن تغلب في زينتها وتجملها. فيصير هذا الخروج على السنن سنة مألوفة وطرافة (مودة) معروفة. وما ترى في ألبسة البحر من تغير مستمر غايته أن تبرز المرأة عارية متزينة؛ فهذه سبيله، تبدأ به الخليعات الجريئات فتتهافت عليه الأخريات

ووراء هذه جماعة من تجار الكتاب، والفسقة المفسدين؛ يريدون أن ينالوا رغائبهم بشريعة، ويفسدوا في الأرض على علم فيكذبون على الجمال والفن والحرية ما شاءت مآربهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويسمون الرذائل بغير أسمائها، فالفسق إعجاب بالجمال، وكل خليعة فنانة، وكل خليع أستاذ، ويتنافس أصحاب المجلات في كتابة ما تحبه النفوس المريضة، وعرض الصور التي يهفو إليها الشبان، لا يبالون في سبيل المال أن تصلح الأمة وأن تفسد، وتعمل التجارة عملها حتى تجد الرجل الحريص على الفضيلة، الداعي إليها إذا ابتلى بمجلة أغضى عن مفاسدها، فصار له رأي في نفسه، وفي غير مجلته، وعمل آخر تجاري في المجلة. وقد عجبت لبعض الكتاب المعروفين بالغيرة على الأخلاق، والتنديد بالخلاعة والمجون، وبدع العصر الحاضر، إذ رأيت المجلة التي يشرف عليها تنشر من الصور والكلام ما لا يلائم آراءه، ويوافق مواعظه

- 2 -

قال صديقي: والشيء بالشيء يذكر، وملكات الجمال ما ترى فيهن؟ لقد سرت البدعة إلينا، قلت استمع: كنت في الصيف الماضي ذاهباً إلى إيران فعرجت على لبنان أياماً. وبينا أنا في ظهور الشوير، رأيت الناس يزدحمون، ويستبقون إلى بعض الفنادق وسمعت أن هذه الجموع وتلك الوفود تتزاحم لتشهد اختيار ملكة الجمال في لبنان. قال رفيق لي: قد سرت العدوى إلى البلاد العربية، فقلت غاضباً: كلا. قال ألست ترى وتسمع؟ قلت لا أكذبك، لست أرى في هذه الأزياء ولا أسمع في هذه الرطانات عروبة، فلا تعد هؤلاء من العرب

ص: 2

وقرأت منذ أيام أن ناساً اجتمعوا في حمانا من لبنان لاختيار امرأة يسمونها ملكة الجمال، وأن قنصل مصر ببيروت رأس هذا الجمع فأسفت أن شغل القنصل الفاضل نفسه بهذه السفاسف، وشارك في هذه المخازي. وقرأت عن انتخاب آخر في بكفيا. وحمدت الله، إذ لم أجد من المنتخبات اسماً يدل على عربية أو إسلام

وقرأت من بعد في الجرائد عن حماقات كهذه في الإسكندرية، فرأيت الداعين إليها بين صاحب ملهى يريد أن يجذب الناس إليه، وصاحب جريدة غير عربية يبغي رواج جريدته، وأمثال هذين. وبعد قليل رأيت صورة الملكة وقرأت أحاديث عنها، فعلمت أن فتاة أسمها شارلوت سماها بعض ذوي المآرب ملكة الجمال في مصر، ولقبوها مس إيجبت ورشحوها للذهاب إلى بروكسل لتشارك في مباراة الجمال. قلت شارلوت ليس اسماً مصرياً، ومس إيجبت لا تعرفها مصر، فما اهتمامك بجماعة من الحمقى أرادوا أن يشهروا فتاة، أو يشهروا بها، أو يتملقوا إليها، أو ينالوا مالاً أو لهم مآرب أخرى. ثم تذكرت ما سطرت في أول هذا المقال، تذكرت أن زمام الأخلاق في هذا العصر بأيدي هذه الطغمات وأشباهها، وأن هذا الذي تستنكره اليوم سيصبح إذا سكتنا عليه، عادة تعد المجادلة فيها ضرباً من الأفن. وفكرت أن مس إيجبت هذه ستذهب إلى أوربا باسم مصر، وتشارك في سوق الرقيق هناك، وتبوء مصر بكل ما في ذلك من عار وحماقة. فرأيت أن الأمر جدير بالاهتمام، وأنه إن سكت عنه عقلاء الأمة صار سنة، وظن المفسدون، كما تسول لهم مآربهم، أنها سنة حسنة ينبغي ألا تحرم منها مدينة أو قرية، وقد وفدت على مصر من قبل ملكة الجمال في تركيا فلم يستح بعض الوقحين من طلبة الجامعة أن يقترحوا أن يحتفل بها في نادي الجامعة. من مبلغ عنا هذه الفتاة، أنا لا نعرفها ولا نعرف جمالها ولا ملكها، وأن القحة البليغة أن تذهب إلى أوربا مدعية أن مصر أرسلتها، ومصر بريئة منها وممن يرسلونها. ليت شعري أرضى المصريون: الحكومة والأمة بهذه السبة. هل رضوا أن تنوب عنهم على رغم أنوفهم فتاة تذهب إلى بروكسل زاعمة أن مصر أرسلتها

كنت أحسب أن موقف مصر الحاضر بين دولة مستعبدة، ودولة مهددة سيخرج بطلاً أو بطلة، تهيب بالمصريين ليغسلوا العار، ويحموا الديار، أو نرسل وفداً يدفع عن حقوق مصر عند عصبة الأمم؛ فإذا السفهاء في شغل عما يحيط بهم باختيار امرأة يرسلونها إلى

ص: 3

بروكسل!

وقد أجاب أهل دمشق داعي العروبة والكرامة والفضيلة، فاجتمعوا حين سمعوا أن امرأة ستذهب إلى سوق الرقيق باسم سورية، واستنكروا ذلك، وأجمعوا على مطالبة الحكومة بأخذ الطريق على هذه السنة السيئة، فأجابت الحكومة دعوة العقلاء ومنعت اجتماع السفهاء لاختيار ملكة للجمال، وفي ذلك للمصريين وغيرهم أسوة حسنة

سيقول السفهاء: جماعة لا يعرفون الجمال، ولا يقدرونه، ولا يميزون الحسن من القبيح، فهم ساخطون ثائرون. والله يعلم أن الجمال يعبد قلوبنا، ويملك مشاعرنا، وتهفو إليه أفئدتنا حيثما تجلى في السماء أو في الأرض، ولكنا لا نعرف الجمال في الأسواق، يصفق حوله الفساق، ولا نعرف الجمال تسأل فيه الآراء، وتعرض المرأة كما تعرض العجماء

عبد الوهاب عزام

ص: 4

‌الجمال البائس

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

(وكيف يشعب صدع الحب في كبدي). كيف يشعب صدع الحب؟

لعمري ما رأيت الجمال مرة إلا كان عندي هو الألم في أجمل صوره وإبداعها؛ أتراني مخلوقاً بجرح في القلب؟

ولا تكون المرأة الجميلة في عيني إلا إذا أحسست حين أنظر إليها - أن في نفسي شيئاً قد عرفها، وأن في عيني لحظاتٍ موجهة إلي، وإن لم تنظر هي إلي

فإثبات الجمال نفسه لعيني، أن يثبت صداقته لروحي باللمحة التي تدل وتتكلم؛ تدل نفسي وتتكلم في قلبي

كنت أجلس في (إسكندرية) بين الضحى والظهر في مكان على شاطئ البحر، ومعي صديقي الأستاذ (ح) من أفاضل رجال السلك السياسي، وهو كاتب من ذوي الرأي، له أدب غض ونوادر وظرائف؛ وفي قلبه إيمان لا أعرف مثله في مثله قد بلغ ما شاء الله قوة وتمكنا، حتى لأحسب أنه رجل من أولياء الله قد عوقب فحكم عليه أن يكون محامياً، ثم زيد في الحكم فجعل قاضياً، ثم ضوعفت العقوبة فجعل سياسياً. . .

وهذا المكان ينقلب في الليل مسرحاً ومرقصاً وما بينهما. . . فيتغاوى فيه الجمال والحب، ويعرض الشيطان مصنوعاته في الهزل والرقص والغناء، فإذا دخلته في النهار رأيت نور النهار كأنه يغسله ويغسلك معه، فتحس للنور هناك عملاً في نفسك

ويرى المكان صدراً من النهار كأنه نائم بعد سهر الليل، فما تجيئه من ساعةٍ بين الصبح والظهر إلا وجدته ساكناً هادئاً كالجسم المستثقل نوماً، ولهذا كنت كثيراً ما أكتب فيه، بل لا أذهب إليه إلا للكتابة. فإذا كان الظهر أقبل نساء المسرح ومعهن من يطارحهن الأناشيد وألحانها، ومن يثقفهن في الرقص، ومن يرويهن ما يمثلن، إلى غير ذلك مما ابتلتهن به الحياة لتساقط عليهن الليالي بالموت ليلة بعد ليلة

وكن إذا جئن رأينني على تلك الحال من الكتابة والتفكير، فينصرفن إلى شأنهن، إلا واحدة كانت أجملهن. وأكثر هؤلاء المسكينات يظهرن لعين المتأمل، كأن المرأة منهن مثل العنز التي كسر أحد قرنيها، فهي تحمل على رأسها علامة الضعف والذلة والنقص، ولو أن امرأة

ص: 5

تتبدد حيناً فلا تكون شيئاً، وتجمع حيناً فتكون مرة شيئاً مقلوباً، وأخرى شكلاً ناقصاً، وتارة هيئة مشوهة لكانت هي كل امرأة من هؤلاء المسكينات اللواتي يمشين في المسرات إلى المخاوف، ويعشن بمقدمات الموت، ويجدن في المال معنى الفقر، ويتلقين الكرامة فيها الاستهزاء، ثم لا يعرفن شاباً ولا رجلاً إلا وقعت عليهن من أجله لعنة أبٍ أو أم أو زوجة

وتلك الواحدة التي أومأت إليها كانت حزينة متسلبة فكأنما جذبها حزنها إلي، وكانت مفكرة فكأنما هداها إلي فكرها، وكانت جميلةً فدلها علي الحب، وما أدري والله أي نفسينا بدأت فقالت للأخرى أهلاً. . . ورأيتها لا تصرف نظرها عني إلا لترده إلي ثم لا ترده إلا لتصرفه، ثم رأيتها قد جال بها الغزل جولةً في معركته. . . فتشاغلت عنها لا أريها أني أنا الخصم الآخر في المعركة. . .

بيد أني جعلت آخذها في مطارح النظر وأتأملها خلسةً بعد خلسةٍ في ثوبها الحريري الأسود، فإذا هو يشب لونها فيجعلها يتلألأ، ويظهر وجهها بلون البدر في تمه، ويبديه لعيني أرق من الورد تحت نور الفجر

ورأيت لها وجهاً فيه المرأة كلها باختصار، يشرق على جسم بضٍ ألين من خمل النعام، تعرض فيه الأنوثة فنها الكامل؛ فلو خلق الدلال امرأة لكانتها

وتلوح للرأي من بعيد كأنها وضعت في فمها (زر ورد) أحمر منضما على نفسه. شفتان تكاد ابتسامتها تكون نداءً لشفتي محب ظمآن

أما عيناها فما رأيت مثلهما عيني امرأةٍ ولا ظبية؛ سوادهما أشد سواداً من عيون الظباء؛ وقد خلقتا في هيئة تثبت وجود السحر وفعله في النفس؛ فيهما القوة الواثقة أنها النافذة الأمر، يمازجها حنان أكثر مما في صدر أم على طفلها. وتمام الملاحة أنهما بهذا التكحيل، في هذه الهيئة، في هذا الوجه القمري

يا خالق هاتين العينين! سباحنك سبحانك!

قال الراوي:

وأتغافل عنها أياماً، وطال ذلك مني وشق عليها، وكأني صغرت إليها نفسها، وأرهقتها بمعنى الخضوع، بيد أن كبرياءها التي أبت لها أن تقدم، أبت عليها كذلك أن تنهزم

وأنا على كل أحوالي إنما أنظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعاً في الهواء،

ص: 6

لا أنا أستطيع أن أمسه ولا أحد يستطيع أن يقول أخذت مني. ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشعر والإحساس الروحاني دون فطرة الشر والحيوانية، ومتى أحسست جمال المرأة أحسست فيه بمعنى اكبر من المرأة. أكبر منها؛ غير أنه هو منها

قال الراوي:

فإني لجالس ذات يوم وقد أقبلت على شأني من الكتابة وبازائي فتى ريق الشباب في العمر الذي ترى فيه الأعين بالحماسة والعاطفة اكثر مما ترى بالعقل والبصيرة، ناعم أملد تم شبابه ولم تتم قوته كأنما نكصت الرجولة عنه إذ وافته فلم تجده رجلا. . . . أو تلك هي شيمة أهل الظرف والقصف من شبان اليوم، ترى الواحد منهم فتعرف النضج في ثيابه أكثر مما تعرفه في جسمه، وتأبى الطبيعة عليه أن يكون أنثى فيجاهد ليكون ضرباً من الأنثى. . . . - إني لجالس إذ وافت الحسناء فأومأت إلى الفتى بتحيتها، ثم ذهبت فاعتلت المنصة مع الباقيات، ورقصت فأحسنت ما شاءت، وكأن في رقصها تعبيراً عن أهواء ونزعات تريد إثارتها في رجلٍ ما. . . . فقلت لصاحبنا الأستاذ (ح): إن كلمة الرقص إنما هي استعارة على مثل هذا كما يستعرن كلمة الحب لجمع المال. ولا رقص ولا حب إلا فجور وطمع

ثم إنها فرغت من شأنها فمرت تتهادى حتى جاءت فجلست إلى الفتى. . . . فقال الأستاذ (ح) وكان قد ألم بما في نفسها: أتراها جعلته ههنا محطة. . .؟

قال الراوي: أما أنا فقلت في نفسي لقد جاء الموضوع. . . . وإني لفي حاجةٍ أشد الحاجة إلى مقالة من المكحولات، فتفرغت لها أنظر ماذا تصنع، وأنا أعلم أن مثل هذه قليلاً ما يكون لها فكر أو فلسفة؛ غير أن الفكر والفلسفة والمعاني كلها تكون في نظرها وابتساماتها وعلى جسمها كله

وكان فتاها قد وضع طربوشه على يده؛ فقد انتهينا إلى عهد رجع حكم الطربوش فيه على رأس الشاب الجميل، كحكم البرقع على وجه الفتاة الجميلة. . . . فأسفر ذاك من طربوشه وأسفرت هذه من نقابها. قال الراوي: فما جلست إلى الفتى حتى أدنت رأسها من الطربوش، فاستنامت إليه، فألصقت به خدها. . . .

ثم التفت إلينا التفاتة الخشف المذعور استروح السبع ووجد مقدماته في الهواء، ثم أرخت

ص: 7

عينيها في حياء لا يستحي. . .

وأنشأت تتكلم وهي في ذلك تسارقنا النظر كأن في ناحيتنا بعض معاني كلامها. . . .

ثم لا أدري ما الذي تضاحكت له، غير أن ضحكتها انشقت نصفين رأينا نحن أجملهما في ثغرها. . . .

ثم تزعزت في كرسيها كأنما تهم أن تنقلب لتمتد إليها يد فتمسكها أن تنقلب. . . .

ثم تساندت على نفسها كالمريضة النائمة تتناهض من فراشها فيكاد يئن بعضها من بعضها، وقامت فمشت، فحاذتنا، وتجاوزتنا غير بعيد، ثم رجعت إلى موضعها متكسرة متخاذلة كأن فيها قوة تعلن أنها انتهت. . . .

قال الراوي:

ونظرت إليها نظرة حزن، فتغضبت واغتاظت وشاجرت هذه النظرة من عينيها الدعجاوين بنظرات متهكمة لا أدري أهي توبخنا بها، أم تتهمنا بأننا أخذنا من حسنها مجاناً. . . .

فقلت للأستاذ (ح)، وأنا أجهر بالكلام ليبلغها:

أما ترى أن الدنيا قد انتكست في انتكاسها، وأن الدهر قد فسد فساده، وأن البلاء قد ضوعف على الناس، وأن بقية من الخير كانت في الشر القديم فانتزعت؟

قال: وهل كان في الشر القديم بقية خير وليس مثلها في الشر الحديث؟

قلت: ههنا في هذا المسرح قيان لو كانت إحداهن. . . في الزمن القديم لتنافس في شرائها الملوك والأمراء وسراة الناس وأعيانهم، فكان لها في عهارة الزمن صون وكرامة، وتتقلب في القصور فتجعل القصور لها حرمة تمنعها ابتذال فنها لكل من يدفع خمسة غروش، حتى لرذال الناس وغوغائهم وسفلتهم؛ ثم هي حين يدبر شبابها تكون في دار مولاها حميلة على كرم يحملها، وعلى مروءة تعيش بها

وقديماً أخذت سلامة الزرقاء في قبلتها لؤلؤتين بأربعين ألف درهم تبلغ ألفي جنيه. فهل تأخذ القينة من هؤلاء إلا دخينة بملليمين. . .؟

قال الأستاذ (ح): ما أبعدك يا أخي عن (بورصة) القبلة وأسعارها. . . . ولكن ما خبر اللؤلؤتين؟

قال الراوي: كانت سلامة هذه جاريةً لابن رامين وكانت من الجمال بحيث قيل في وصفها:

ص: 8

كأن الشمس طالعة من بين رأسها وكتفيها؛ فاستأذن عليها في مجلس غنائها الصيرفي الملقب بالماجن، فلما أذنت له دخل فأقعى بين يديها، ثم أدخل يده في ثوبه فأخرج لؤلؤتين وقال: انظري يا زرقاء جعلت فداك، ثم حلف إنه نقد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم. قالت: فما أصنع بذاك؟ قال: أردت أن تعلمي

ثم غنت صوتاً وقالت: يا ماجن هبهما لي ويحك. قال: إن شئت والله فعلت؛ قالت: قد شئت. قال: واليمين التي حلفت بها لازمة لي إن أخذتهما إلا بشفتيك من شفتي. . . .

قال الراوي: ورأيتها قد أذنت لي وأنصتت لكلامي وكأنما كانت تسمعني أعتذر إليها، واستيقنت أن ليس بي إلا الحزن عليها والرثاء لها، فبدت أشد حياءً من العذراء في أيام الخدر. . . . . .

ثم قالت: نعم كان ذلك الزمن سفيهاً ولكنها سفاهة فن لا سفاهة عربدةٍ وتصعلك كما هي اليوم

فنظرت إلي نظرةً لن أنساها؛ نظرة كأنها تدمع، نظرة تقول بها: ألست إنسانة؟ فلم أملك أن قلت لها: تعالي تعالي

وجاءت أحلى من الأمل المعترض سنحت به الفرصة، ولكن ماذا قلت لها وماذا قالت؟. . . .

(لها بقية)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 9

‌مصر وقناة السويس

دستور القناة وحق السيادة المصرية

لباحث دبلوماسي كبير

كان إنشاء قناة السويس في أرض مصر نذير سوء لمصر، كما كان نذير الخير والرخاء لتجارة الغرب وصناعته؛ ولم تجن مصر من إنشاء القناة في أرضها سوى المتاعب الخالدة، وما زالت بسبب هذه القناة عرضة لفروض مؤلمة من الاستعباد الأجنبي، كما أنها ما تزال عرضة لعدوان الاستعمار ووثباته؛ وقد شعرت مصر مرة أخرى بما يمكن أن يجره عليها وجود هذه القناة في أرضها من ضروب الشر والأذى، في الآونة الحاضرة التي يوشك أن يضطرم فيها النضال بين دولتين من دول الاستعمار، هما إيطاليا المتوثبة السابحة في أحلام عظمتها الجديدة، وبريطانيا العظمى التي تسيطر فعلاً على قناة السويس وتدعي عليها لنفسها حقوقاً خاصة ما تزال مصر تنازع فيها

ولما كانت مصر ما تزال ترتبط بحكم الظروف في شؤونها ومصايرها الحيوية بتطورات السياسة الإنكليزية، فإنها تجد نفسها اليوم عرضة لأخطار هذه الحرب الاستعمارية التي تصر إيطاليا على إضرامها في شرق أفريقية؛ وإذا كانت إنكلترا تلمح شبح الخطر من جراء هذه الفورة الفاشستية على إمبراطوريتها الاستعمارية، وعلى سيادتها في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وتزمع على ما يبدو أن تقاوم هذا الخطر، وأن تسحق المطامع الإيطالية إذا اقتضى الأمر بقوة النار والسيف، فان مصر تجد نفسها من جراء ارتباطها بإنكلترا، ومن جراء موقعها الجغرافي وحراستها الاسمية لقناة السويس في أحرج مركز وأدقه. ماذا يكون موقف مصر إذا أصرت إيطاليا على مشروعها الاستعماري وأعلنت الحرب على الحبشة، وماذا يكون مصير قناة السويس طريق إيطاليا الوحيد إلى ميدان القتال؟ بل ماذا يكون موقف مصر إذا تفاقم الأمر، ونشبت الحرب بين إنكلترا وإيطاليا، ومصر تجاور إيطاليا من جهة الغرب، وثغورها لا تبتعد أكثر من سبعين ساعة عن مراكز الأسطول الإيطالي؟ هذه فروض خطيرة مزعجة، ولكنها أضحت تلوح في الجو قوية تكاد تنقض صواعقها بين آونة وأخرى؛ ومن ثم كانت موضع الاهتمام من جانب السياسة الإنكليزية ومن جانب ولاة الأمر في مصر

ص: 10

وأول ما يشغل مصر في الآونة الحاضرة مسألة قناة السويس، ومدى ما يمكن أن يكون لمصر، سواء بمفردها أو بالاتحاد مع إنكلترا من حق في إغلاقها وقت نشوب الحرب الأفريقية، وهذا بفرض أن الحرب لم تتعد طرفي النزاع الأصليين: أعني إيطاليا والحبشة؛ ففي هذه الحالة تعتبر مصر من الوجهة الدولية في حالة حياد بالنسبة للدولتين، ولكنها لن تكون كذلك في الواقع لأن قناة السويس تغدو في هذه الحالة طريقاً حربياً لإيطاليا، وفتحها في وجه السفن والقوات الإيطالية لا يمكن أن يحقق معنى الحيدة، بل يكون وسيلة لمعاونة إيطاليا على افتراس الحبشة التي ترتبط مصر بها بروابط تاريخية ودينية وثيقة، ولمصر كما لإنكلترا مصلحة حيوية في ألا تقع منطقة تانا والنيل الأزرق في يد دولة قوية كإيطاليا يكون وجودها في تلك المنطقة خطراً على ماء النيل

وقد قيل لنا أخيراً إن فقهاء الدولة المصرية بحثوا مسألة قناة السويس ومدى ما لمصر من حق في إغلاقها إذا اقتضت الضرورات الدولية، وقيل لنا انهم انتهوا إلى تقرير حق مصر في إغلاقها في وجه الفريقين المتحاربين إذا نشبت حرب إيطالية حبشية. ونحن ممن يأخذون بحق مصر في إغلاق القناة سواء من الوجهة الدولية أو الوجهة الواقعية كما سنفصل بعد، ولكن الذي لفت نظرنا في مباحث فقهاء الدولة المصرية هو أنهم انتهوا إلى تقرير حق مصر في إغلاق القناة من طريق لا نعتقد أنه خير الطرق ولا خير الأسانيد لتدعيم هذا الحق. ذلك أنهم استندوا على ما قيل لنا في تقريره إلى ميثاق تحريم الحرب الأمريكي أو ميثاق كلوج الذي عقد في باريس في أغسطس سنة 1928 وانضمت مصر إليه إلى جانب الدول الموقعة عليه. وميثاق تحريم الحرب كما نذكر، ينص على استنكار الدول الموقعة للحرب كأداة للسياسة القومية، وعلى تعهدها ألا تلجأ لحل المنازعات الدولية مهما كانت أنواعها وأسبابها إلا للوسائل السلمية. وقد وقع ميثاق تحريم الحرب في باريس في 27 أغسطس سنة 1928، وفي 4 سبتمبر التالي أبلغت مصر حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تقرر انضمامها للميثاق بصيغته الأصلية دون التسليم بأي تحفظ أبدي بشأنه، والمقصود بالتحفظات هنا ما أبدته بعض الدول الاستعمارية مثل بريطانيا من الاحتفاظ في ردودها بحقوق وتحفظات معينة في تسوية علائقها مع الدول التي تعتبرها واقعة تحت سيطرتها أو نفوذها

ص: 11

ويلوح لنا أن ميثاق تحريم الحرب لا يمكن أن يعتبر سنداً كافياً لما نراه من حق مصر في إغلاق القناة. وفي رأينا أن هذا الحق يمكن إسناده من جانب مصر إلى حقوق السيادة القومية. ذلك أن مصر قد حلت بمقتضى التطورات الدولية منذ الحرب محل الدولة العثمانية الذاهبة واستعادت سيادتها القومية كاملة بانتهاء التبعية العثمانية الاسمية، وأضحت لها من الوجهة الدولية ما لأية دولة من حقوق السيادة الأرضية. هذا من الوجهة العامة. وأما من حيث مركز القناة الدولي، فقد وضعت معاهدة استانبول التي عقدت في 29 أكتوبر سنة 1888 بين الباب العالي، وبريطانيا العظمى، والنمسا والمجر، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وهولندا، وروسيا، لقناة السويس دستوراً خاصاً من سبع عشرة مادة، أساسه حيدة القناة التامة وحرية الملاحة المطلقة فيها وقت الحرب والسلم. وقد نص في ديباجتها على أن الغرض من عقدها هو (الاتفاق الحر على نظام نهائي يكفل في كل الأوقات ولكل الدول حرية الملاحة في قناة السويس). وكفلت المادتان الأولى والرابعة هذه الحرية فيما يأتي:

المادة الأولى - (تبقى قناة السويس حرة مفتوحة دائماً أيام الحرب والسلم سواء لجميع السفن التجارية أو الحربية دون أي تفريق في جنسياتها

وعلى هذا فالدول الموقعة متفقة فيما بينها على ألا تمس حرية المرور في القناة أثناء الحرب أو السلم

ولا تخضع القناة مطلقاً إلى مزاولة حق الحصار)

المادة الرابعة - (تبقى القناة مفتوحة وقت الحرب ممراً حراً حتى لسفن الدول المتحاربة وفقاً لنص المادة الأولى. وقد اتفق المتعاقدون أعلاه على ألا تعرض القناة لمزاولة أي عمل حربي أو أي عمل من شأنه أن يخل بحرية الملاحة في القناة ذاتها أو في مواني الوصول إليها، أو في قطاع من هذه المواني طوله ثلاثة أميال بحرية، وهذا حتى لو كانت الدولة العثمانية هي إحدى الدول المتحاربة

ولا يجوز لسفن الدول المتحاربة المارة بالقناة وقت الحرب أن تتزود من المؤن في القنال أو موانيه إلا بالقدر الضروري؛ ويجب عليها أن تخترق القناة بسرعة؛ ويجب أن تمضي أربع وعشرون ساعة بين خروج سفينة حربية من أحد ثغور القناة وبين قيام سفينة تابعة

ص: 12

سفينة تابعة لدولة معادية)

ففي هاتين المادتين جوهر دستور قناة السويس، وعليهما يستند أنصار الدعاية الإيطالية في القول بأن مصر لا تستطيع إغلاق القناة مطلقاً حتى ولو أعلنت إيطاليا الحرب على الحبشة، واتخذت القناة أثناء الحرب ممراً لأساطيلها وجنودها

بيد أن هنالك في معاهدة استانبول نصاً هاماً تضمنه المادة الثالثة عشرة، وهو أنه (فيما عدا التبعات المنصوص عليها صراحة في مواد هذه المعاهدة، فان ما لجلالة السلطان من حقوق السيادة، وما لسمو الخديو من حقوق بمقتضى الفرمانات لا يمس بأي حال) ففي هذا النص ما يؤيد حقوق السيادة المصرية التي نرجع إليها حق مصر في إغلاق القناة. ذلك أن حقوق السيادة التي كانت للدولة العثمانية على مصر قد آلت إلى مصر ذاتها بمقتضى معاهدة الصلح (معاهدة سيفر) أولا، ثم بمقتضى معاهدة لوزان (سنة 1923)؛ فمصر من الوجهة الدولية هي صاحبة السيادة الأرضية على قناة السويس، ولا يحد من هذه السيادة سوى حقوق الامتياز الممنوح لشركة القناة وهي حقوق استغلال تجارية فقط؛ ولكن يحده من الوجهة الفعلية ما تدعيه إنكلترا لنفسها في تصريح فبراير سنة 1922 من تحفظات يتعلق أحدها بحق إنكلترا في الدفاع عن الموصلات الإمبراطورية، والقناة في نظر إنكلترا شريان من شرايينها الهامة

وفي وسع مصر أن تدعم حقها في إغلاق قناة، باعتباره حقاً من حقوق السيادة القومية، أولاً بميثاق عصبة الأمم حيث ينص في المادة العشرين على ما يأتي:(يعترف أعضاء العصبة بأن الميثاق الحالي يلغي كل التعهدات أو الاتفاقات الخاصة التي تتعارض مع نصوصه، وتتعهد بألا تعقد في المستقبل أية معاهدة تتعارض مع هذه النصوص)، ولما كان دستور العصبة يقوم على فكرة السلام العام بين الأمم، وعلى مبدأ حسم المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، فان هذا الدستور الذي يجعل من قناة السويس وقت الحرب، طريق حرب يزيد في ضرامها وأخطارها، يجب أن يعتبر وثيقة قديمة تنافي روح العصر ونصوص الميثاق. وثانياً بميثاق تحريم الحرب حيث ينص في المادة الثانية منه على أن الدول الموقعة عليه تقرر بأن تسوية المشاكل والمنازعات الدولية أيا كان نوعها وأسبابها يجب ألا يعالج إلا بالوسائل السلمية ومصر طرف في هذا الميثاق مثل إيطاليا

ص: 13

ونذكر أن السنيور موسوليني قد أدلى في بعض أحاديثه الأخيرة، أن مصر وإنكلترا لا تستطيعان إغلاق قناة السويس لأن المادة 282 من معاهدة الصلح (معاهدة فرساي)، وهي التي تنص على المعاهدات والاتفاقات التي يبقى مفعولها بين ألمانيا والحلفاء، قد ذكرت معاهدة أكتوبر سنة 1888 الخاصة بدستور القناة ضمن المعاهدات النافذة الباقية (فقرة 11 من المادة المذكورة)؛ وميثاق عصبة الأمم هو جزء من معاهدة فرساي، فليس فيه إذاً ما يمكن أن يتخذ سنداً لإلغاء معاهدة سنة 1888، وهذا اعتراض له قيمته من الوجهة الفقهية لو لم تكن معاهدة سنة 1888 قد غيرت في كثير من أجزائها بفعل التطورات الدولية؛ وليس المقصود هنا إلغاء المعاهدة برمتها، وإنما المقصود نسخ حق حرية الملاحة المطلق الذي قررته المعاهدة، لأنه يغدو في مثل هذه الظروف الحاضرة خطراً على سلام العالم، فضلاً عن أنه خطر على مصر ذاتها

هذا من جهة أخرى فان هنالك حالة فعلية لا يمكن إغفالها، هي أن القناة تقع فعلاً تحت سيطرة القوات الإنكليزية، وإنكلترا تدعي عليها بمقتضى تصريح فبراير سنة 1923 حقوقاً تؤيدها هذه الحالة الفعلية، ومهما كان من اعتراض مصر على المسائل المحتفظ بها في تصريح فبراير، فانه لا شك أن هذه الحالة الفعلية هي لب المسألة كلها، وإذا كانت مصر تفكر حقاً في إغلاق القناة إذا أقدمت إيطاليا على إضرام نار الحرب، فإنها سوف تفعل ذلك بالتفاهم التام مع إنكلترا؛ وقد يؤيد تصرف الدولتين في ذلك قرار يصدر من عصبة الأمم بتوقيع العقوبات الاقتصادية المنصوص عليها في الميثاق ضد إيطاليا، ويكون إغلاق القناة وقتئذ ذات صبغة دولية محضة، ويكون في عرف العالم كله وسيلة من وسائل التي تتذرع بها مصر وإنكلترا لصون السلام العالمي الذي تصر إيطاليا الفاشستية على تكديره تحقيقاً لشهواتها الاستعمارية

ص: 14

‌4 - فريزر ودراسة الخرافة

احترام الحياة الإنسانية

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

المدرس بالجامعة المصرية

أسلفنا القول في بيان أثر الخرافة في تثبيت دعائم الحكومة والملكية الشخصية والزواج. وها نحن أولاء نشرح ما غرسته في النفوس من تقديس للإنسان واحترام لحياته! وبذا نكون قد أتممنا سلسلة النظم الاجتماعية التي شاء فريزر أن يبين مقدار تدخل الخرافة في نشأتها وتكوينها

بديهي أن معيشة البادية المبنية على حب الانتقام، والأخذ بالثأر، وحماية الجار، والدفاع المستميت عن المال والعرض، والمملوءة بالأضغان والأحقاد أدعى لإراقة الدماء واعتداء المرء على أخيه. فالإنسان الأول الذي عاش هذه العيشة المضطربة ما كان ينعم بضمانات كافية لحفظ روحه. فلم يكن له عسس منظم يسهر على حراسته، ولا قانون واضح يهدد بالعقوبة كل من اعتدى عليه، ولا محاكم محترمة تشهر بالجناة وسفاكي الدماء. ولا زلنا نشاهد إلى اليوم أن القتل وإزهاق الأرواح البريئة ينتشر حيث تسود الفوضى والاضطراب وفي الأوساط البدوية والقبائل الهمجية بوجه خاص. بيد أن الجمعية تعالج نفسها بنفسها وتعد لكل داء ما يناسبه من دواء. ولئن فات الإنسان المتوحش شرطتنا المنظمة، وجندنا الشاكي السلاح فانه لم تفته وسائل أخرى من وسائل الدفاع عن نفسه وحقن دمه. ومن بين هذه الوسائل خرافة الأشباح وأرواح الموتى التي تتمثل في صورة شياطين ومردة تنتقم ممن اعتدى عليها

قد لا تكون هناك خرافة سادت العالم سيادة هذه الخرافة. ظهرت مع الإنسان منذ نشأته، ولازمته في مراحل التاريخ المختلفة: تبدو في العصور القديمة والقرون الوسطى والأزمنة الحديثة، بين البدو والهمج ولدى الأمم المتمدينة. ويكفي أن نشير إلى أن كثيرين منا لا يجرؤن على السير ليلا - بل نهاراً - بجوار دار قتل فيها قتيل زعماً منهم بأن روحه الثائرة ستفتك بهم. وعل عادة تغيير المسكن السائدة بيننا على أثر حريق أو وفاة مما ترجع

ص: 15

إلى هذه الخرافة، كما هو الشأن لدى بعض القبائل الهمجية. ويقص علينا عامتنا وسكان قرانا أغرب القصص عن المردة الذين لا قوهم في طريقهم ودار بينهم ما دار من حوار ونقاش؛ والماهر منهم من استطاع أن ينجو من المارد الذي اعترضه بجواب لبق أو حيلة ماكرة! وحديث (القرينة) والعفاريت ملأ قرانا ومدننا، وأصبح أشهر من أن يعرف عنه، وله طب خاص وقوامون على أمره يتعهدونه بالبخور (والدقة) وما إلى ذلك من علاج كله ضلال وبطلان

ليس بعسير على الباحث أن يثبت أن خرافة الأشباح هذه جنت على الإنسانية جنايات شنعاء، فبلت بعض الأشخاص بالخوف حتى من ظلهم، وقضت على آخرين بالجنون والصرع وكثير من المصائب والآفات. وقعدت بكثيرين عن السعي وراء أرزاقهم خشية أن يعدو عليهم شبح من الأشباح أو روح من الأرواح. وفي بعض القبائل المتوحشة لا يستطيع شخص أن ينتفع بمال أبيه وأهله وذويه بعد موتهم، لأن أرواحهم تنتقم منه أشد الانتقام غيرة على هذا الحرم المباح والمال المعتدى عليه، فكل يعيش ليومه، ولا يعمل شيئاً لغده؛ وعلى هذا كانت فكرة المستقبل التي هي أساس التقدم الصناعي والتجاري والاقتصادي ضائعة لدى هذه القبائل؛ وفي ضياع هذه الفكرة ما يتنافى وتكوين الثروة والمتاع، وكيف تكون الثروة عند قوم كل همهم من الدنيا عشرات السنين يعيشونها؛ فإذا ماتوا انقرضت أمتعتهم معهم وبددت أموالهم؟ يقول أحد كبار الرحالة:(إنه ليس لدى البتاجون (من سكان أمريكا الجنوبية) أي قانون ولا أية عقوبة ضد المجرمين. كل يعيش على حسب هواه، والسارق الماهر هو الجدير بالتقدير. وليس هناك ما يمنعهم من السرقة وإقامة الأبنية الثابتة إلا العقيدة السائدة من أنه إذا مات أحدهم وجب أن تبدد أملاكه. فكل بتاجوني حصل على ثروة طوال حياته بالسرقة أو الصيد أو التعامل مع القبائل المجاورة لا يفيد ورثته في شيء، ذلك لان كل ما أدخره يبلى معه، وعلى أبنائه أن يكونوا ثروتهم بمجهودهم الخاص. . . وقوم هذه معتقداتهم وتقاليدهم يقنعون بحاجاتهم العاجلة ولا يتعلقون برغبة حقيقية، ولا يصوبون نحو غاية بعيدة؛ وهذا سر كسلهم وتواكلهم ورضاهم بالقليل الذي يتنافى مع التقدم والحضارة، وعلام التعلق بالمستقبل الذي لا يرجى منه خير أو شر؟ الحاضر هو كل شيء في أعينهم، والمنفعة الذاتية مبدؤهم؛ فالابن لا يتعهد قطيع أبيه لعلمه

ص: 16

أنه لا يعود عليه بطائل، وإنما يكد ويكدح وحده ليحصل على ثروة شخصية) فخرافة الأشباح والعفاريت والمردة سبب من أسباب الضعف السياسي والاقتصادي لدى بعض الشعوب الناشئة والجاهلة

غير أن هذه الخرافة ليست شراً كلها، بل كانت عاملا من عوامل الخير والدفاع عن الإنسان في الجمعيات التي سادت فيها، فالخوف من الأشباح وعدوانها والأرواح وانتقامها ساعد على حقن دماء كثيرة واحترام الحياة الإنسانية. وذلك أن طائفة من الشعوب تعتقد أن أرواح الموتى والقتلى ذات نفوذ عظيم وقوة هائلة تستطيع بها أن تعكر على الأحياء صفوهم وتعترضهم في طريقهم وتتقمص أجسامهم. وأرواح القتلى بوجه خاص مفطورة على الثأر ممن اعتدى عليها في شخصه أو في أهله وعشيرته. لهذا يضطر الأفراد والجماعات لترضيتها بالهدايا والقرابين، فيذبحون المعز والضأن والديكة والخنازير التي يغسل القاتل بدمها أقذار خطيئته. وأحياناً يحاربون هذه الأرواح ويطاردونها بمختلف الوسائل ويهجرون القرى والمساكن من جرائها. وكم من قرية كانت آهلة بالسكان صباحاً، ثم قتل فيها قتيل ظهراً فأضحت في المساء خراباً يباباً! وقد يمثل بالمقتول أشنع تمثيل لتبقى روحه كامنة في جسمه وعاجزة عن الثأر له

فالإغريق الأول كانوا يعتقدون أن روح القتيل تتأجج غيظاً ممن اعتدى عليها وتتابعه في حقله ومسكنه ولا ينجيه منها إلا فراره خارج الديار عاماً كاملاً يرجى فيه أن تهدأ هذه الروح من ثورتها. وإذا عاد إلى وطنه سارع إلى التقديم الضحايا والقرابين تكفيراً عن أثمه. وقاتل هذا شأنه يعد شراً يتقي وخطراً تخشاه الجمعية لما يحيط به من أرواح ثائرة قد تؤذي كل من حام حوله، فكان طبيعياً أن تحكم القبيلة على القاتل بمفارقة البلاد الزمن اللازم لتكفير خطيئته وإرضاء الروح التي جنى عليها والصينيون كانوا ولا يزالون يؤمنون ببقاء الأرواح وقدرتها على مكافأة المحسنين والانتقام من المسيئين؛ فهي تتدخل من غير انقطاع في عالم الأحياء وتتصرف فيه تمام التصرف. نعم إن هناك فرقاً بين الأشخاص والأرواح، بين الأحياء والأموات، بيد أن هذا الفرق طفيف والمسافة بين هذه الأطراف قصيرة للغاية. وما الديانة الصينية إلا مجموعة أفكار تدور حول الأرواح وما يتصل بها. وقوم يذعنون للأرواح هذا الإذعان لا يجرئون على الاعتداء عليها ويقدسون

ص: 17

الحياة الإنسانية تمام التقديس ويعتقد سكان أفريقية الوسطى أن القاتل إذا قاسم قوماً في طعامهم أو بات في كوخهم أحل بهم غضب الله وربما كان سبباً في هلاكهم، اللهم إلا إن تداركهم القسس والكهنة بأدعيتهم وتضرعاتهم، ويزعم بعض القبائل الهندية أن الرجل إذا قتل عدوه لا يسلم من شر روحه إلا أن أراق دم خنزير أو جدي صغير، ومع أن البانتو يعدون الفوز في المعارك الحربية مفخرة عظيمة وشرفاً لا يعدله شرف فأنهم يخشون أرواح القتلى خشية تصل بهم أحياناً إلى الجنون والصرع. ولدرء هذا الخطر يبقى المحارب الظافر في العاصمة بضعة أيام لابساً خرقاً بالية آكلاً في أواني وبملاعق خاصة، وحرام عليه أن يشرب الماء وان يقرب النساء وأن يتناول أي طعام دافئ. وإذا قتل أحد سكان الكونغو قتيلاً حمل على رأسه بعض أرياش الببغاء وغطى جبهته بلون أحمر، وكأنما يريد ذلك أن يستتر عن أعين الروح التي تطارده. وفي غانا الجديدة تسارع القبيلة المحاربة بعد إنجازها هجوماً أو معركة ما بالعودة إلى مساكنها أو إلى قرية محالفة قبل أن يدخل الليل الذي تهيج فيه الأرواح وتتشبث بالقتلة والمحاربين. وفي مقدور الروح أن تتعرف من اعتدى عليها بما لصق بجسمه من دم القتيل أو أي أثر من آثاره. لذلك يطهر المحارب جسمه وحريته بعد أن يتم مهمته، وإذا وصل إلى قريته حيل بينه وبين أهله وذويه وبقى منعزلاً فترة من الزمن، وفي اليوم الثالث من وصوله يحتفل به أصدقاؤه احتفالاً مناسباً، وفي اليوم الرابع يلبس أجمل ثيابه وعدة حربه ويخرج شاكي السلاح مخترقاً شوارع القرية؛ وعله يرمي بهذا إلى استرداد قوته وشجاعته. وإذا شكا أحد أبناء القرية ألماً في معدته ظن أن ذلك راجع إلى أنه جلس في مكان شغله محارب من قبل؛ وإذا أصيب بأذى في أسنانه عزا هذا إلى أنه أكل فاكهة لمسها محارب

وأرواح الآباء والأقارب القتلى بوجه خاص شديدة الهول وعظيمة الخطر، لأنها تجد وسائل كثيرة للثأر لنفسها وأعرف بدخائل القاتل من الأرواح الأخرى. وقد يكون في هذا ما يفسر قسوة الجمهور إلى اليوم على قاتل أبيه أو أمه أو أخيه. والقوانين الجنائية نفسها مشربة بهذا المعنى في مختلف الأمم والشرائع، ولأبناء القرية الواحدة من الجلال والحرمة ما للأهل والأقارب، فلئن استساغ همجي إزهاق روح أجنبية لا يستطيع أن يخفي ذعره من اعتدائه على روح جاره ومواطنه. فسكان الكونغو مثلاً لا يرون غضاضة عليهم في

ص: 18

العدوان على القرى المجاورة في حين أن عدوانهم على أبناء قبيلتهم وقريتهم يملؤهم خوفاً ورعباً، ولا يتردد القاتل في أن يلبس السواد على من قتله ويحزن عليه حزناً شديداً كأنه أحد أقاربه أو أصدقائه ولا يشرب ولا يأكل ويبكي بكاء مراً

وليس خطر الأرواح والأشباح بمقصور على الأفراد وحدهم بل يتعداهم إلى الجمعية بأسرها، لأن الأرواح الثائرة ربما تعدو على من صادفها دون أن تميز الجاني من غيره. لذلك تضطر الجمعية إلى تهدئة ثورة هذه الأرواح بشتى الوسائل أو إلى محاربتها والفرار منها. ومن الأمثلة على ذلك أن أهل برمانيا يزعمون أن أرواح القتلى لا تصعد إلى عالم السعادة ولا تنزل إلى عالم الشقاء، وإنما تبقى دائماً حائرة في الأرض تفزع من تلقى، ولترضية هذه الأرواح تقدم لها في الغابات المجاورة قرابين من الأرز مصحوبة بالأدعية الآتية:(أرواح من سقطوا من شجرة، أو من ماتوا جوعا وعطشاً، أو من أكلهم النمر والثعبان، أو من عدا عليهم الإنسان، أو من أهلكهم الطاعون والجرب، لا تسيئوا معاملتنا، ولا تؤذونا ولا تثوروا علينا، امكثوا هنا في هذه الغابة حيث الأرز اللازم لطعامكم) وقد لا تقف الجمعية عند القرابين والهدايا للتكفير عن خطيئة القتل وتهدئة الأرواح المضطربة، بل تعمل على مطاردة هذه الأرواح بطرق أخرى. فهنود أمريكا الشمالية إذا عادوا من معركة صاحوا صيحات عالية وأحدثوا جلبة وضوضاء يراد بها منع الأرواح من أن تدخل قراهم، ومن الغريب أنا نجد نفس هذه التقاليد لدى سكان غانا الجديدة الهولندية والألمانية، وفي استراليا. ويقطع جماعة الإسكيمو المقيمون في مضيق بيرنج عضلات ذراع وجنب القتيل ليحول ذلك دون سيره إن عادت روحه إلى جسمه طلباً للثأر. وفي أفريقية الجنوبية يهشم العمود الفقري تهشيماً منعاً للقتيل من الحركة. وتملأ طائفة أخرى عين القتيل بالفلفل كي تضل روحه السبيل

فخرافة الأرواح والأشباح ملأت الناس أفراداً وجماعات ذعراً وهولاً، ودفعتهم إلى احترام الحياة الإنسانية وتقديسها. وما القوانين الجنائية المنظمة؛ والمحاكم القائمة بين الناس بالعدل والإنصاف إلا أثر صالح من آثار هذه الخرافة. خشي الفرد القاتل الأرواح وعدوانها فلم يسرف في القتل حباً لذاته وتعلقاً بشخصه، ورأت الجماعة في هذه الأرواح خطراً يهدد كيانها فأنزلت بالقتلة صارم العقاب، وسنت ما سنت من حدود تروع الجناة وسفاكي الدماء،

ص: 19

وبذا أضحت الحياة الإنسانية محفوظة بعاملين: داخلي وخارجي، فردي وجمعي، ومحمية بسلاح الأخلاق والقانون

يجهد الفقهاء والمشرعون أنفسهم اليوم في مناقشة النظرية القائلة بأن الحدود جوابر أو زواجر. ويختلف علماء القانون الجنائي في أثر العقوبة: فطائفة تقول إن الغرض منها إصلاح المجرم، وأخرى ترى فيها القصاص الملائم للمجني عليه، وثالثة تعدها ترضية لازمة لعاطفة الجمهور الثائرة والمعتدى عليها. وما هذه الآراء المتباينة والنظريات المختلفة إلا منطق مهذب ندخله في تقاليد القبائل الهمجية وتعليل منمق نصبغ به خرافات الشعوب الأولى. وهكذا تسير الإنسانية من الخيال إلى الحقيقة، ومن بحر الخرافة العميق إلى صخور العقل الثابتة، ومن الخارق للعادة إلى الطبيعي، ومن المسلم به إلى المنطقي

إبراهيم بيومي مدكور

دكتور في الآداب والفلسفة

ص: 20

‌الشعر

في صدر الإسلام وعهد بني أمية

بقلم أحمد حسن الزيات

ظهر الإسلام وقد تحكم في حياة العرب جاهلية قاسية وعقلية جافية وعصبية مفرقة، فكان الشعر مظهر هذه الصفات وباعثها؛ فلما أعلن الرسول الحرب على هذه الأخلاق تمهيداً لألفة القلوب ووحدة العرب، كان من الطبيعي أن ينغض رأسه إليه، وألا يشجع الناس عليه، ففي القرآن:(والشعراء يتَّبعهم الغاوُون. وما علمناه الشعر وما ينبغي له)، وفي الحديث:(لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ فمه شعراً). فازور جانب المسلمين عن قرض الشعر وروايته، على علمهم بأن الدين لم يكرهه على إطلاقه، وإنما كره منه ذلك النوع الذي يمزق الشمل ويثير دفائن القلوب. ثم شغل العرب جميعاً بالدعوة العظمى، فمن مؤيد ومن معارض، واشتدت الخصومة بين الرسول وبين قريش، فجردوا عليه الأسنة والألسنة، ولكن شعراء العرب وقفوا موقف الحياد والتربص ينتظرون نتيجة المعركة بين التوحيد والوثنية، وبين الديمقراطية والأرستقراطية، وبين محمد وقريش. فلم يغامر في الخصومة إلا الشعراء القرشيون وقد كانوا قلالاً قبل الإسلام لشواغل الحضارة والتجارة، فصاروا كثاراً بعده لدواعي النزاع والمعارضة. بدأ هذه الحملة منهم عبد الله بن الزبعري وعمرو بن العاص وأبو سفيان، فآذوا الرسول وأتباعه بقوارص الهجاء، فهاج ذلك من شاعرية المسلمين وودوا لو يأذن لهم الرسول بمجالستهم، فما هو إلا أن قال لهم:(ماذا يمنع الذين نصروا الله ورسوله بأسلحتهم أن ينصروه بألسنتهم؟) حتى صمد للقرشيين نفر من الصحابة، فيهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وشبهوها حرباً كلامية جاهلية لم يهاجم المهاجمون فيها بفضائل الوثنية، ولم يدافع المدافعون بفضائل الإسلام، حتى نقول إن الشعر قد خطأ في مذاهب الفن خطوة جديدة، بل كانوا يتهاجون على النمط المعروف من الفخر بالأنساب والتبجح بالسؤدد؛ يدل على ذلك قول الرسول لحسان:(أذهب إلى أبي بكر فهو أعلم بمثالب القوم)، وقوله:(كيف تهجو قريشاً وأنا منها؟) فقال: أسلك كما أسل الشعرة من العجين

فليس من شك في أن الشعر ظل على عهد الرسول جاهلياً. وخضعت قريش وسائر العرب

ص: 21

للدين الجديد بعد لأي، فخرست الألسنة اللاذعة، وفر الشعر الجاهلي ثانية إلى البادية، وانصرف المسلمون إلى حفظ القرآن ورواية الحديث وجهاد الشرك، فخفت صوت الشعر لقلة الدواعي إليه، فما كان يظهر إلا الحين بعد الحين في صادق المدح والرثاء؛ وتساهل الرسول في سماعه حتى أثاب عليه، وحتى قال فيه:(إن من الشعر لحكمة)

تلك كانت حالة الشعر في عهد النبوة، وأما حاله بعدها فأقل شأناً وأحط مكانة لذهاب المعارضة ولشدة الخلفاء في تأديب الشعراء، وانصراف هم العرب إلى الفتوح؛ ولكن الدين قد بدأ يفعل في النفوس، ومظاهر الحضارة قد أخذت تؤثر في الأذهان، فظهر أثر ذلك ضئيلاً في شعر المخضرمين ككعب بن زهير والحطيئة ومعن بن أوس والنابغة الجعدي، ولكنه أثر لا يتعدى بعض الألفاظ الإسلامية كالمعروف والمنكر والصلاة والزكاة والجنة والنار والمهاجرين والأنصار. ولذلك نرى من المبالغة جعل المخضرمين طبقة ممتازة، فان شعرهم استمرار للمذهب الجاهلي لم يتأثر بالإسلام إلا تأثراً عرضياً كضعف الأسلوب في شعر حسان، أو قلة الإنتاج في قريحة لبيد، أو كثرته في الحطيئة والنابغة الجعدي مثلاً؛ والأشبه بالحق أن نقرر ما أشرنا إليه من قبل، وهو أن الشعر العربي ظل في الجاهلية والإسلام واحداً في مظهره وجوهرة ونوعه حتى أواخر عهد بني أمية؛ والتأثير الذي ناله من الموالي والسياسة والحضارة والدين لم يعطفه إلى طرق جديدة، وإنما وسع في معانيه ومناحيه، فقوى بعض أغراضه كالهجاء، وميز بعضاً أخر كالغزل وهل يمكن التجديد في الشعر وجل الشعراء إنما يأتون من البادية، والخلفاء يتعصبون للبادية، والرواة والأدباء واللغويون يطلبون اللغة والشعر في البادية، والعرب بطبيعتهم يميلون إلى التقليد ويجلون القديم المأثور من سؤدد وخلق وأدب؟ فليس من سبيلنا أن نتكلف البحث العقيم في القرن الأول عن مذهب شعري جديد يصبح أن يكون أساساً لأدب عربي جديد، فأن مذهب عمر بن أبي ربيعة في الغزل لا يختلف عن مذهب امرئ القيس إلا في المعاني الحضرية؛ ومذهب جرير والفرزدق في الهجاء لا يختلف عن مذهب الحطيئة والشماخ إلا في المعاني الأساسية، فلنقصر الجهد على تحليل نهضة الشعر في العراق والحجاز على عهد بين أمية وبيان خطرها وأثرها في الإنتاج العقلي للعرب

كانت القحطانية والعدنانية، والعلوية والبكرية، والهاشمية والأموية، والعروبة والشعوبية،

ص: 22

تضطرم في نفوس المسلمين اضطرام البركان قبيل أن يثور، ولكنها كانت تضعف حيناً وتشد حيناً تبعاً لسياسة القائم بالأمر ونظام حكمه؛ فالقبائل كانت تنزل منزلها في البلاد على هذه الفكرة، والبصرة والكوفة تخططان على هذه الفكرة، والخلاف ينجم في فارس والشام والعراق والأندلس من هذه الفكرة، وكلها تدور على الزعامة والإمامة؛ فمن كان سيداً في الجاهلية أن يكون سيداً في الإسلام، كأن العرب لم يفهموا من الدين الجديد إلا أنه طريق إلى السلطان وسبيل إلى الغلبة والثروة والحكم ليس غير. ولعلك تذكر أن بعضاً من شيوخ القبائل كقيس بن عاصم والأحنف بن قيس كانوا يعرضون على الرسول أن يدخلوا في دين الله لا على أنه دين الحق، بل ليكون لهم من بعده

ظلت هذه الروح العصبية مكبوتة في عهد الشيخين لأخذهما الأمور بالحزم والعدل، ولانصراف العرب إلى المغنم من طريق الجهاد والفتح، فلما ولي الأمر عثمان وهنت اليد المصرفة فسندتها يد أخرى، وتشتت الرأي فلم يصدر عن الخليفة وحده، وحكم إله الناس بعصبيتهم الأموية لا بقوميتهم العربية؛ وكان المسلمون يومئذ قد أفاءت عليهم الفتوح والغنائم بالثراء إلى حد البطر، فاستيقظت الفتنة وقامت الثورة وانتهت بمقتل عثمان، وتجددت الخصومة على أثر ذلك بين علي ومعاوية، وقتل الإمام فتحرج الأمر وانشقت العصا، وانصرف العرب إلى جهاد العدو عن جهاد أنفسهم باللسان والسيف، وتفرقوا أحزاباً وشيعاً بعضها للدين وبعضها للدنيا. ففي الشام حزب يشايع بني أمية، يريض لهم الأمر، ويمكنهم في الملك. وفي الحجاز حزب يناصر أبن الزبير، يؤيده في دعواه وينصره في دعوته؛ وفي العراق حزب يشايع أهل البيت ويطلب لهم بحقهم في الخلافة؛ وهنالك حزب ديمقراطي ينكر الأحزاب ويكفر الزعماء ويقول بالشورى في الخلافة. وفي هذه الأحزاب الأربعة توزعت أهواء المسلمين وآراؤهم إلا طائفة قليلة لزمت الحياد وأرجأت الحكم بين المختلفين إلى قضاء الله يوم الدين، وهم المرجئة؛ واتصلت بين الأحزاب الخصومة، وأعنف فيها الخصوم، ولكن معاوية بعد أن تم له الأمر كان يصانع معارضيه بالدهاء والعطاء والإغضاء والحزم حتى أستوثق له الأمر طيلة حياته إلا من جهة الخوارج، فلما مات أفاق خصومه من خدر سياسته فزعزعوا عرشه، حتى إذا وهي أدركه مروان وبنوه فسنده واقتعدوه. وفي زمن عبد الملك أشتد المعارضة واستعرت الحروب، وكثر المطالبون

ص: 23

بالخلافة، وأنبسط سلطان العرب، وزخرت موارد الفيء، وأكتمل شباب الجيل الذي نشأ في الإسلام واغتذى بثمرة الفتوح واستمتع بجمال الحضارة وأختلط بأنماط شتى من الناس وساهم بيده ولسانه في هذه الفتن، فبلغ الأدب العربي غاية ما قدر له أن يبلغ. فهل يمكن أن يظل الشعر بنجوة عن هذه الحياة الصاخبة، والعصبية الغالبة، والأحزاب المتحاربة، والأهواء المتضاربة، والشعر العربي ربيب الخصومة والجدل، تبعثه الحزبية ويقويه الهراش وتوحيه شيطان الفرقة؟ الواقع أنه كان وقود هذه الفتن ولسان هذه الأحزاب، يصطنعونه كما نصطنع نحن الصحف اليوم، فيناضل عن زعمائه، ويدافع عن آرائهم، ويصطبغ بصبغة العقيدة التي يدعو إليها وينافح عنها. وإذا علمت أن العرب جميعاً ساهموا في هذه الخصومات، وأن أكثرهم يقول الشعر وخصوصاً في هذه الأزمات، وأن الأمويين استمالوا بالمال هوى الشعراء، وأوقدوا بينهم نار التنافس والهجاء وأن الشعر أصبح صناعة متميزة يعيش عليها بعض الناس، أدركت سبب وفرة الشعر وكثرة الشعراء في عصر عبد الملك، إذ بلغ عدد الفحول المائة. وليس من شك في أن الشعر وأن حافظ على طريقته وطبيعته قد تأثر بهذه الحياة الجديدة تأثراً ظاهراً في معانيه وأغراضه؛ ولكن هذه الحياة لم تكن كلها نزاعاً سياسياً وجدالاً دينياً حتى يقف تأثيره عند هذا الحد، وإنما كان لها مظاهر أخرى يحسن أن نشير إليها قبل أن ندل على أثارها في الشعر

كان من الطبيعي تختلف مظاهر هذه الحياة في العواصم العربية لاختلاف الأحوال السياسية والاجتماعية فيها. فالعراق كان منذ القدم منتجع الخواطر العربية لخصبه ونمائه، ووفرة ظله ومائه؛ وقد لاذ العرب قبل الإسلام بأطرافه وأريافه واللسان واليد فيه للفرس، فأنشئوا إمارة المناذرة؛ فلما فتحوه في عهد عمر نزحوا إليه وأنشئوا على حدود البادية البصرة والكوفة. وكان في العراق ميراث وفر من العلم والأدب والدين خلفته الأمم الغابرة، ولم يؤت العراق ما أوتيت مصر من قوة الهضم والتمثيل حتى يحيل سكانه إلى جنسية واحدة وعقلية واحدة، فانطبعت الأهواء فيه على الفرقة، والنفوس على التنافر؛ وأتى إليه العرب بالعصبية اليمينية والنزارية، ووقعت فيه الأحداث الإسلامية الجلى كوقعة الجمل ومصرع الأئمة والقادة، وما نجم عن ذلك من قيام الشيعة والخوارج، واشتداد المعارضة لبني أمية، واستحكام الخلاف بين البصريين والكوفيين في السياسة والدين والعلم، فكانت البصرة

ص: 24

عثمانية، والكوفة بعد استقرار الإمام بها علوية، والجزيرة الفراتية إما نصرانية وإما خارجية، لأنها مسكن ربيعة، وهم كما قال الأصمعي رأس كل فتنة؛ ومن ربيعة بنو تغلب الذين قال فيهم الإمام علي:(يا خنازير العرب والله لئن صار هذا الأمر إلي لأضعن عليكم الجزية). فكان الشعر العراقي صورة لهذه الحياة الثائرة المتنافرة؛ فهو قوي عنيف يكثر فيه الهجاء والفخر، وتتلون فيه العصبية القبلية ألواناً شتى من التحزب للمكان والعقيدة والجنس، وتتغلب فيه النزعات الجاهلية على التعاليم الإسلامية، وتغذيه نفحات بدوية وصلات أموية، فيزدهر وينتشر حتى يشغل كل لسان ويحتل كل مكان ويعبر عن كل مبدأ

والحجاز منبع الإسلام كان أشبه بينابيع النهر: يفيض منه الماء الصافي في سكون ورفق، حتى إذا بعد مجراه اعترضته الشلالات وتقسمته التيارات فتكدر نميره واشتد هديره، وتوزعته الجداول والأقنية، فبعضه في سباخ الأرض، وبعضه في الرياض، فروى بعضاً وأغرق بعضاً. انتقلت منه الخلافة والمعارضة والعلم إلى العراق والشام، وبقى هو كما كان وكما هو الآن يقبل المال والمعونة من كل قطر، واقتضت سياسة الأمويين أن يعتقلوا فيه شباب الهاشميين فلا يتركونه إلا بإذن، وسلطوا عليهم الترف، وشغلوهم بالمال عن الملك، وخلوا بينهم وبين الفراغ، وقد ورثوا مع ذلك عن آبائهم المجاهدين مغانم الفتح من أموال ورقيق، وفي أهل الحجاز ملاحة ظرف ووداعة نفس ولطافة حس وفصاحة لسان ومحبة لهو، فتبسطوا على النعيم وعكفوا على اللذة، وقطعوا أيامهم بالمنادرة والمنادمة، وذهبوا في حياة المجون كل مذهب؛ ووصل الحج بينهم وبين الحسان والقيان، واستهوت هذه الحال المغنين فوفدوا إلى مكة والمدينة من أقطار الدولة حتى اجتمع منهم في وقت واحد كما يقول أبو الفرج:(ابن سريج، والغريض، ومعبد، وحنين، وابن محرز، وجميلة، وهيت، وطويس، والدلال، وبرد الفؤاد، ونومة الضحى، ورحمة، وهبة الله، ومالك، وابن عائشة، وابن طنبورة، وعزة الميلاء، وحبابة، وسلامة، وبلبلة، ولذة العيش، وسعيدة، والزرقاء، وابن مسجح) وحتى غلب الغناء على أعمال الناس وميولهم؛ فقد حدث الإمام مالك عن نفسه قال: (نشأت وأنا غلام أتتبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني إن المغنى إذا كان قبيح الوجه لا يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء وأطلب الفقه فانه لا يضر معه قبح الوجه؛ فتركت المغنين وأتبعت الفقهاء فبلغ الله بي عز وجل ما ترى). من ذلك شاع الحب في

ص: 25

مدن الحجاز ورقت عواطف بنيه، فسلكوا في الشعر مسالك الغزل الحضري الرقيق الصادق، حتى كاد هذا الفن لافتنانهم فيه يبتدئ بهم وينتهي إليهم

وأما الشام فكان بنجوة من الثورات النفسية والأزمات السياسية لخضوعه لبني أمية وإخلاصه لهم وانصرافه إلى تأييدهم، فلا هو مضطرم العواطف كالحجاز، ولا هو مضطرب الأهواء كالعراق، وقد أمن الخلفاء جانبه فتركوه لشأنه دون أن يثيروا عصبية لخلاف، أو يهجوا طماعيته لمغنم، فبقى الشعر من جراء ذلك راكداً في نفوس أهله لا يبعثه باعث، ولا يتوافر على دراسته وروايته باحث؛ وأكثر ما كان فيه من ذلك إنما كان يفد إليه من العراق والحجاز مع الشعراء الذين يجذبهم سخاء القصر أو دهاؤه، والأدباء الذين يطلبهم الخلفاء من البصرة كلما أعضلتهم مسألة في اللغة والنحو والأدب

(يتبع)

الزيات

ص: 26

‌إلى الدكتور طه حسين

نزيل حمص

للأستاذ محمد روحي فيصل

هو العبد الحبشي الماكر، ومولى السيد جبير بن مطعم، (وحشي). نزل حمص واستقر بها فيمن نزلها من المسلمين الفاتحين في صدر الإسلام، واتخذوها لهم مقاماً ومستقراً، وكان وحشي في الجاهلية، فتى شجاع رقيقاً يخضع على كره منه لما يخضع إليه الرق من ضعة الذل والعبودية، فلما كانت غزوة أحد وقامت الحرب التي لابد منها بين النبي وخصومه، صاح به مولاه جبير وقال:

- هذا العداء دائر بيننا وبين محمد، وأنت باسل طموح، فلئن قتلت حمزة عبد المطلب عم النبي وثأرت لي منه، فأنت حر طليق

- سمعاً وطاعة يا مولاي

وتشب النار، ويضطرب الناس، وتتساقط القتلى من الفريقين، ووحشي الماكر كامن أثناء المعركة وراء شجرة يستتر بها عن الأعين ويرقب الفرصة السانحة، فلما رأى أسد الله حمزة يجول في الميدان ويصول على جواده، رماه بحربة من هذه الحربات القاتلة التي لا تخطئ موضع الخطر في الإنسان، ولا تحيد عما قصد بها من غاية. .!!

وينطلق العبد إلى مولاه جذلان مرحاً، ويظفر بحريته الحبيبة، (ولكنه لم يعد إلى بلده، وكيف سبيل العودة إليها؟ ولم يسد في مكة، وكيف السبيل إلى السيادة فيها؟ إنما عاش بين قريش حراً كالعبد وطليقاً كالأسير)

ثم ينتشر الإسلام، وتنهار الوثنية، ويدخل المسلمون الظافرون مكة الكافرة، فتضيق الدنيا على رحبها بالعبد القاتل، ويفكر كثيراً في نجاته، فيفزع آخر الأمر مضطراً إلى الإسلام، ويقصد خائفاً وجه النبي، ولكن النبي لم يقتل قط رجلاً جاءه مسلماً. ويحزن النبي عليه السلام حين رآه، ويسترجع بالذكرى والخيال عمل وحشي المنكر الماضي، فيقول له: غيب وجهك عني! فخضع التائب للأمر الواقع، وندم على ما فعل (وعاش وحشي في المدينة حراً كالعبد؛ وطليقاً كالأسير، وجعل الندم يحز في قلبه حزاً، ويمزق فؤاده تمزيقاً، يؤرقه إذا دنا الليل، ويعذبه إذا أقبل النهار!)

ص: 27

ويلهو العبد النادم بالجهاد، ويشترك في حروب الردة، فيبلو فيها البلاء الجميل، ويقتل مسيلمة الكذاب، ثم يمعن في جهاده ويغزو مع من غزا بلاد الروم، فينزل حمص ويستقر بها فيمن نزلها من المسلمين الفاتحين، واتخذوها لهم مقاماً ومستقراً؛ ولكن الندم على هذا الجهاد المتصل لا يزال قوياً واضحاً يفعل أفاعيله في نفس وحشي المسلم، يقلق عليه مضجعه، ويشغله عن كل شيء، ويعذبه عذاباً أليماً

ويمضي على عادته أديب العربية الكبير الدكتور طه حسين في تحليل النفس النادمة، ووصف ما تعاني من الآلام، فإذا وحشي (يستعين على الندم بالخمر، وإذا هو يشرب ويسرف في الشرب، وإذا هو يضرب في الشراب فلا يمنعه الحد من معاودة الشراب، وإذا هو المعروف في أهل حمص بما قدم من خير وشر، وإذا هو معروف في أهل حمص بسكره إذا سكر، وبصحوه إذا صحا، وإذا هو يسكر حتى يصبح مخوفاً على من يدنو منه، ويصحو حتى يصبح عاقلاً حلو الحديث. والندم يلح عليه حتى يبغضه إلى نفسه تبغيضاً، ويصرفه عن الصحو صرفاً، وكلما مضت عليه الأيام ازداد إمعاناً في الشراب، والسن تتقدم به، وجسمه يضعف شيئاً فشيئاً، وعقله يذهب قليلاً قليلاً، والندم ماثل مع ذلك في نفسه، ملم بداره، يأخذه من كل وجه، وهو لا يجد سبيلاً إلى الفرار منه إلا إلى الشراب، وهو يضرب في الشراب، وقد ضعف وفني، فلا يحتمل الضرب فيموت

وقفت خاشعاً بالأمس على قبر وحشي المجاهد السكير، وهو قبر متواضع متهدم لا يزال قائماً في شرق حمص يزوره الناس كل يوم، أسترجع الجهاد العظيم الذي أبلاه صاحبه، وأتمثل مصرع حمزة (خير الناس) ومسيلمة (شر الناس) على يده، وأسأله هل شرب فأسرف في الشرب؟ وضرب على ذلك فلم يمتنع عن السكر؟ وهل كان حقاً لا يجد سبيلاً إلى الفرار من الندم إلا إلى الشراب، وهل ختم حياته الصالحة بهذا الشر المنكر؟ وما عهدتني قط في حياتي أقف على الأرماس البالية المتداعية، أخشع حيالها وأسكن إلى صمتها وأستنطقها تاريخ أصحابها كما يسجله الدهر، وتمليه الحقيقة، ويقتضيه المنطق، وخرس القبر الأبكم الأصم فلم يجب السائل ولم يتحدث إلى الواقف، ولكن معناً واضحاً أشرق على قلبي وتمدد في نفسي، يقول أن وحشي المجاهد قد ظلم ظلماً كبيراً، ونسب إليه ما هو منه براء، ولم يكن كما وصف مدمناً يفزع الخمر ليقتل ندمه الماثل وينسى ألمه

ص: 28

الرازح

ورجعت إلى الكتب أستنطقها هي الأخرى عن حياة وحشي، فإذا بها تتحدث إلي عن كل شيء، وتقص لي ما تعرف في هدوء المنطق وجمال الحقيقة، ولكنها تنكر هذا الشرب المتصل الذي ختم به وحشي حياته وضرب من أجله مرات، والإسلام يمحو ما قبله، فكيف اشتد الندم بالصحابي هذا الاشتداد، حتى لجأ إلى الخمر يعاقرها ويلهو بها، وهو يعلم أن الله قد رضى عنه وغفر له حين دخل في الإسلام؟

أن الكاتب الأديب الروائي غير مطالب بالدقة التاريخية، ولا هو مسؤول حين يعمم القول ويرسله إرسالاً، مادام قوله لا يناقض وجه التاريخ ولا يهدم ظاهر الرواية؛ ولكنه مطالب مسؤول حين يقرر شيئاً يخالف المأثور الواقع أو لا يقره التاريخ عليه ولا يؤيده الحق فيه

وما أرى إلا أن عظام الصحابي الجليل قد اهتزت في قبره، وضج الحمصيون لما نسب إلى نزيلهم الكريم. ونحن خبيرون بثقافة الدكتور الواسعة العميقة، وشدة تحريه في كتب التاريخ الإسلامي، واستقامة منطقه ونظرته، فهل يدلنا الدكتور أو تحيلنا (الرسالة) على مصدر الرواية التي يصورها الأديب المثقف فيحسن تصويرها ويبدع في سردها، والتي لم نعثر عليها فيما بين أيدينا من كتب التاريخ ومراجع البحث؟

(حمص)

محمد روحي فيصل

ص: 29

‌حب الاستعمار والجشع سيقضيان على الحضارة

مؤتمر الكتاب في باريس لحفظ الثقافة

(الماركسية حلقة من سلسلة الثورات التي قام بها البشر)

(كهينو)

بقلم ماجد شيخ الأرض

احتشد نيف ومائة كاتب أموا باريس من جميع أقطار المعمورة في قاعة (قصر التواليه) وجلس وراءهم حشد عظيم من النظارة أتوا يشاركون الكتاب عواطفهم نحو المدنية التي يبحث عن درء الخطر الذي يتهددها، ويستمعون إلى أقوال كبار الكتاب وآرائهم في المحافظة على مخلفات الثقافة التي ينعم الإنسان بثمارها اليانعة ويحس بشهوتها إذا غمرت فضيلة العلم فؤاده، وتفتحت أمام عينيه بعض أسرار هذا الكون العجيب المغلقة

هبت عاصفة من التصفيق الشديد، وعلت أصوات الحضور بالهتافات لسير الثقافة مرفوعة الجبين بالرغم من معارضة الرجعيين عندما انتهى أندره جيد من خطابه الذي أفتتح به المؤتمر وأتى على ذكر غايته وبيان أبحاثه، وكأن الجمهور أحس بالواجب المقدس الذي حدا بفنان مثل جيد إلى الظهور من عزلته التي اعتادها طيلة خمسة وستين عاماً مسافراً يجوب البلدان والأقطار، أو منزويا في بيته يدون آراءه وأفكاره في كتب لا يطبع منها إلا عدداً محدوداً، كأن الجمهور شعر بالخطر المداهم الذي يحتم على كل فرد له ميزة من العقل والإحساس أن ينتبه فيصمد في جملة الصامدين. لم يكتف الجمهور بالهتاف، وما كاد جيد ينتهي من خطابه حتى تقدم إليه رهط من الشباب المثقف بلغ بهم الحماس مبلغه يريدون رفعه على الأيدي لولا أن حال دون بغيتهم الاعتذار وتطبيق النظام المؤتمر، ثم تلبث عاطفة الحماس أن هبت من جديد لكن في هذه المرة كان يعلوها حزن عميق ارتسم على الوجوه عندما قام إلى المنبر عضو المؤتمر الكاتب (اراغون) يؤبن بعبارات رقيقة الكاتب الثوري (رنيه كريفيل) الذي قضى في منتصف الطريق التي يعمل فيها للحرية وإحقاق الحق، وقد دمعت عيون بعض الفتيات إذا أتى الخطيب على فقرات مؤتمر للكاتب الراحل

كان انعقاد المؤتمر في مساء اليوم الحادي والعشرين من شهر يونيو الفائت، ودامت

ص: 30

الجلسات تتري بعضها في النهار وبعضها في المساء حتى الخامس والعشرين، وقد قسمت الأبحاث على عشر جلسات تناوب بعض الأعضاء رياستها، وتعين لكل جلسة مقررين منهم. أما الأبحاث التي تنوقش فيها وجرى إقرار ما يجب عمله بشأنها فهي:

تراث الثقافة. موقف الكاتب في المجتمع الإنساني. الشخصية. الإنسانية. الشعب والثقافة. الإبداع عند الكاتب وقيمة الفكر. تنظيم مقررات المؤتمر. الدفاع عن الثقافة

ولمعرفة أهمية هذا المؤتمر يكفينا أن نذكر جيد ومالرو وكوتوريه وارغون ونيزان وكهينو وبندا من الفرنسويين، وتولر وهنريخ مان من الألمان، وفرانك من الأمريكان، وإهر مبورغ وكولتسوف وتيخانوف والشاعر باسترنيك من السوفيت، والسيدة كارن ميكائيليس الدانماركية، والسيدة واديا ولعل اسمها وديعة الهندية وهكسلي وفوستر من الإنكليز

بدت الجلسة الأولى جدية أكثر من أخواتها لأن بعض المؤتمرين لم يكونوا بعد قد تعارفوا وإن سبق تعارفهم روحياً منذ زمن طويل، أو لأن الموضوع الذي طرحه المسيو بندا في هذه الجلسة كان دقيقاً وكان خطيراً احتدم حوله النقاش مع أن أكثر هذه الخطب كانت مهيأة من قبل ليتسنى لهم ترجمتها، ولوحظ أن الخطب التي تطرق أصحابها فيها إلى السياسة هي الخطب التي تحمس لها الجمهور وأظهر إعجابه بها إلى حد كاد يخرجه عن المألوف في مثل هذه الاجتماعات، حتى بتنا نقول إن في كل يوم مظاهرة، تارة ضد الرأسمالية، وتارة للحرية المهددة بالفاشستية، وطوراً للطبقات العاملة التي لا تستفيد من الوضع الحاضر غير دفع الغرم. بل كيف لا يتحمس الجمهور وهو يرى الكتاب وقد وفدوا من أقصى الجهات وتحملوا أعباء السفر على اختلاف نزعاتهم وتباين آرائهم ليضعوا لهم نظاماً يحفظون به تراث الثقافة الذي خلقته لنا حضارة الإنسان وليدة دمه المهراق وعراكه المستمر

قال جوليان بندا ما خلاصته: (إن نظرة أمم أوربا للآداب والفنون تختلف اختلافاً بيناً مع النظرة الشيوعية من حيث علاقة الحياة الفكرية بالحياة الاقتصادية

فان الأولى تعتقد باستقلال وسمو الحياة الفكرية عن الحياة الاقتصادية، أما الثانية فإنها تعتقد بتضامن الحياتين. فالاختلاف يبدو لنا أساسياً مما يجعل التسوية بينهما مستحيلة لابد لها من حرب

ص: 31

ثم هناك مسألة أخرى اختلف فيها الناس كثيراً: هل وجهة النظر الشيوعية المذكورة شيء فجائي من شأنه أن يقضي على وجهة النظر السائدة في الغرب، ويقطع عليها الطريق، أو أنها نتيجة سير وجهة النظر الثانية وتطورها؟

فبعضهم يقول بأنها وليدة التطور والاتساع العام للمدارك عند الأمم الغربية، يشبهونها بمذهب (الرومانتيسم) الذي كان وليد الاتساع الخاص للمدارك الأدبية

لكن الأمر على غير ما يتصورون، فأن الرومانتيسم برغم ما أدخله من العناصر الجديدة في الأدب لم يكف أصحابه عن الاعتقاد باستقلال الرجل الموهوب وبعده عن المؤثرات والأوضاع الاقتصادية

فبين وجهتي النظر الغربية والشيوعية إذاً تباين ليس في المرتبة أو المسافة، بل في الروح والتكوين)

لم يكد ينتهي المسيو بندا من خطابه حتى قفز إلى المنبر العضوان الفرنسيان المسيو كهينو والمسيو نيزان، وإليك خلاصة ما قاله الأول:

(إن الأمر أهون بكثير مما يتوهمه المسيو بندا، فحسب رأيه إذا أنتقل واحدنا من هذه البلاد إلى بلاد الاتحاد السوفيتي فلابد أن تستقيم له غير هذه الروح وغير هذا الدماغ للتفكير

لا حاجة عندي لكل هذا التغيير وإذا لم يكن بد من شيء فهو اتباع العقل في مجرى تدرجه الطبيعي

وليست الثورة البلشفية الأخيرة عن بواعث دينية أو إقليمية محلية، بل هي حلقة من سلسلة الثورات الإنسانية التي ابتدأت منذ أن دب الإنسان على الأرض

ولست أرى في كارل ماركس غير مفكر من هؤلاء المفكرين الذي يظهر أمثالهم كل يوم في الغرب، وليس هنالك من شيء في رأي يدفع بنا إلى مقاومة الماركسية ونبذها

ومن العبث والسذاجة أن نقابل هذا الخط الطويل من الآراء المثالية بخط مثله من الآراء الاقتصادية التي لا تقل في قدمها وفي تدرج حركتها عن الآراء الأولى

أما إنجاح الماركسية، فمتوقف على الفئة التي تهتدي قلوبهم إليها وعلى مقدار إخلاصهم وتضامنهم، ولا أظن أن هنالك فريقاً من البشر يلحقه خيرها وفريقاً آخر يلحقه شرها؛ مادام الناس في هذا العالم متشابهين من أكثر الوجوه، وذلك ما يقوله لنا إحساسنا الداخلي في كل

ص: 32

ساعة: أننا متشابهون. فان مصير الناس كلهم واحد، كما يقول هوجو، ومقدراتهم متشابهة سواء أكان الإنسان عالماً أم عاملاً. أليست الحياة والموت محتمين! ومشاكل العيشة العامة والخاصة تنتابهم بدون استثناء، وكل ما عمله الذين سبقونا وما نعمله لكشف خبايا هذه الأسرار المحيطة بنا، ومازال ويا للأسف ابتدائياً، وهذا ما يشجع فينا الشعور بالتشابه، والشعور بالتشابه يجعل الاحساسات الشائعة بيننا واحدة، وكلاهما يدفع بنا إلى إنشاء الجمعية المشتركة في النفع والضرر، بل نحن نعمل على إنشائها بدافع طبيعي فينا ونريدها من صميم أفئدتنا)

وإليك خلاصة ما قاله المسيو نيزان:

(لا أستطيع الكلام بدون الاعتماد على التاريخ لأن ما جاء به الفيلسوف بندا يتضمن شيئاً كثيراً منه

لقد صور لنا المسيو بندا العالم الغربي في صورة متناسبة متناسقة تجمع شتى الأقوام وشتى الطبقات، وأكثر ظني أن هذه الصورة لا تتفق مع صحائف التاريخ، ومن المستحيل أن تكون لهذا العالم صورة جامعة متناسقة فيها مختلف العناصر البشرية الغربية ما دامت مراجعها وينابيع حياتها مستقاة من مدنية الإغريق والنصرانية ثم النهضة الأوربية (الرينسانس) وعهد الإصلاح (الريفورم) والثورات البرجوازية المختلفة. فأستطرد وأؤكد إن المدنية الإغريقية نفسها لم تكن في أيامها السوالف عمل جميع الإغريق

ينظر المسيو بندا إلى الغرب نظرة أفلاطونية، نظرة إيجابية، لا تتطلع إلا إلى الآثار الثمينة وإلى الأفكار من حيث هي أفكار رفيعة، نظرة محدودة لا تعبأ بما تحت هذه الآثار من دوافع واحتمالات غامضة، ولا تهتم بالحوادث البارزة التي سهلت تلك النتائج

صحيح أن هذه النظرة سادت برهة عند اليونان القدماء، ثم أصبحت فيما بعد قوام التفكير النظري عند الأمم الأوربية البرجوازية

لكن مذهب أفلاطون ليس كل ما عند الإغريق من مذاهب للتفكير

أتى المسيو كهينو فيمن ذكرهم على اسم أبيقور الذي كان يوجه كلامه إلى العبيد الأرقاء، وهو الرجل الذي ما كان يتوخى تطهير جمهرة مختارة من البشر، ولا كان يستنسب جلساته بين طائفة متميزة منهم، وإليكم الآن مجمل ردي على المسيو بندا:

ص: 33

إن هذه الطائفة المثقفة التي شاء أن نسميها بالعالم الغربي نقبل كل انتقاد يمكن أن يوجه إليها، أو إلى الأوضاع التي تعيش فيها، ونرحب بكل تحوير ممكن لهذه الأوضاع يكون في جانب الطبقات التي تحيى وتفكر، وتجوع وتموت. ونقبل في آن واحد أن نؤمن ونشك في كفاءة الإنسان وقدرته، كما قبل ذلك كارل ماركس في كلامه عن الإنسان (الذي اكتفى حاجاته) ونحن قبل كل شيء نرفض المعتقدات الدينية، والصفات الإلهية رفضاً باتاً ونعتبرها - كما أعتبرها أبيقور وكتاب فرنسا في القرن الثامن عشر - أشياء تتمثل فيها مخاوف الإنسان وأثر اضطهاده

أما موقفنا من وجهة النظر الغربية فهو ليس قطعاً لها وانفصالاً عنها، بل هو موقف المنور الهادي الذي يقبل الحالين معاً فيتسع إلى أقصى حد ويضيق إلى أقصى حد

ونحطم بالحجة الدامغة هذه الميثولوجيا الإنسانية التي تريد منا أن نعبد ونمجد إنساناً غامضاً نجهل وجوده، وتحملنا على أن ننسى أو نتناسى أننا للآن لم نكن متساوين في الآلام، وفي الانتصارات، وحتى في الموت)

يتبين لنا من خلال الخطب الثالث التي تخيرنا تلخيصها في هذا المقال، المنطق الذي جرى عليه الخطباء في نقشاهم، فلا سبيل إلى الحشو والتنميق، وكانت الأبحاث على بساطة إنشاءها دقيقة إلى حد كبير، يقرأها القارئ الفطن بدون عناء، فتتجلى أمامه المشاكل الكبرى التي طالما دوخه التفكير فيها محلوله فيها لا تحتاج لغير التنفيذ، وكأنما العالم مريض أصيب بداء عضال عالجه هؤلاء الكتاب فأحسنوا التشخيص وأحسنوا الدواء

ولعل أكثر جلسات المؤتمر حماسة هي الجلسة التي بحث فيها الكتاب موقفهم من المجتمع، فكانت مظاهرة علمية قامت ضد الظلم والجور والاضطهاد، وكيف لا يتظاهر الكتاب للحرية المغتصبة، والحق المضاع، وهم رسل الحرية ورواد الحقيقة، بل كيف لا يثورون وبينهم قسم كبير طردوا من بلادهم بعد أن أحرقت كتبهم وسيموا أنواع العذاب والتنكيل، لكن هذا الحماس ما لبث دقائق حتى عاد الكتاب يبينون آراءهم في جو مشبع بالهدوء والسكينة

شكت كارن ميكائيليس مندوبة الدانمارك من أن الكتاب لا يأبهون كثيراً إلى المهمة التي خلقوا لها، ولا يقدرون الدور الذي يجب أن يلعبوه على مسرح الحياة حق قدره فيؤدوه خير

ص: 34

أداء، إن الكتاب بحكم وظيفتهم إدلاء، ومن واجب الدليل أن يكون في الطليعة، لكنهم يخشون العزلة، وتراهم يفتشون عمن يحل محلهم، ثم يلتجئون إلى حلقة منزوية من أصحابهم وزملائهم، يصوبون جامات الغضب على القادة المضلين لكن همسهم هذا ويا للأسف لا تسمعه غير آذانهم. . . .

وشكا جيد من قلة إخلاص الكتاب فيما يكتبون. . . وشكا مالروا من تدجيلهم لينيل المال والجاه. . . .

والخلاصة قد أوضح الكتاب أن المجتمع البرجوازي لا يمكن الكاتب من أن يخلص فيه لفنه وأدبه، وقد شذ بعض القصصيين الإنكليز، إذ أطروا الحرية التي تمنحهم إياها النظام الديمقراطي القائم في بلادهم، لكن وجد من بينهم من تصدى لهذه الفكرة، وأبان لهم أن هذه الديمقراطية البرجوازية التي يتبجحون بها لا تشمل غير طبقتها وهي مع ذلك صائرة إلى الزوال يتآمر عليها أبناءها البرجوازيون

نشطت حركة الحاضرين في إحدى الجلسات نشاطاً زائداً واشرأبت الأعناق وحملقت العيون وأخذوا يتهامسون بكثير من الدهشة: (مندوبو السوفيت) كأنما هؤلاء هبطوا عليهم من جرم سماوي لم يأتوهم من بلاد تدعى الاتحاد السوفييتي فوق هذه البسيطة، يريدون استطلاع ما ظهر من هيئتهم وما استتر. ثم ساد سكون رهيب استعداداً لسماع الرد المستمد من التجربة الصحيحة على ما جاء في خطاب المسيو بندا، غير أن مندوبي السوفيت خيبوا هذا الظن واكتفوا برد المسيو كهينو والمسيو نيزان، وأتوا على وصف بعض مناحي الأدب السوفييتي الجديد

وقال إهرمبورغ صاحب كتاب (ثاني أيام الخليقة) ما خلاصته:

(إذا كان الكاتب في المجتمع البرجوازي يكرم ويمجد باعتبار إنه قام بخدمة وطنية تعادل الخدمات التي يقوم بها أمثاله في البلاد الأخرى، ويقرأ كتبه من أراد أن تسمو مداركه أو أن يجد لذة يملأ بها أوقات فراغه - والقراء في هذا المجتمع من توفرت أسباب حياتهم قليلون - وإذا كان القراء لا يقرئون الأدب بقصد أن يستعينوا بما يقرئونه في حياتهم الخاصة والعامة وأن يجدوا فيها هدياً لقلوبهم وسموا لنفوسهم وما يضمرون، فلا يكون لما يشاهدونه في ليلتهم من عواطف نبيلة على أحد المسارح أو لما يقرئونه في إحدى

ص: 35

القصص، من تأثير فيما يعملونه في نهارهم. وكثيراً ما تخالف أعمالهم ما اختلجت في الليل قلوبهم له. إذا كانت هذه قيمة الأدباء في المجتمع الأوروبي فإني أقول بكل فخر:

(إننا توصلنا إلى أن يكرم الكاتب والشاعر في الاتحاد السوفييتي على أنهما يؤديان عملاً مثل سائر الأعمال الحيوية التي لا يستغنى عنها بحال من الأحوال. فقراءة الأدب للمزارع والعامل ولأي شخص آخر مثل قمحه ولبنه وثوبه ومأواه. يقرأه فيلتذ، لكنه لا يقتصر على هذه اللذة، فانه يفتح قلبه له فتهديه هذه العواطف النبيلة التي للأدب في حياته وفي عمله اليومي

هذا هو تأثير الأدب السوفييتي، مع أنه لا يزال طفلاً لا يحسن الكلام بدون تمتمة)

كانت خطب مندوبي السوفييت على هذا النمط: استعراض للموضوع في المجتمع البورجوازي، ومقارنة ما أستجد في بلادهم بشأنه مع بيان اوجه الانتقاد، وما حدا إلى نبذ الأسلوب القديم

لا عجب أن نرى الكتاب في العالم المتمدن يهبون للدفاع عن الثقافة من عاديات الزمان، وهي حملتها ورفعوا لواء مجدها، بل ومن حقهم قبل كل إنسان آخر أن يهتموا لهذا الأمر في مثل هذا الوقت العصيب الذي ينذر العالم بالشر وسوء المصير، ألم نر المدنيات القديمة التي لو بقيت لكانت للإنسان مدنية تفوق مدنيته الغربية بمراتب - كيف اندثرت وعنقها الحروب والمنازعات والوهن الذي إذا دب إلى جسم أمة قضي عليها بالتفسخ والانحلال

وليست أوروبا اليوم بأحسن مما أشرنا إليه، فان النزاع على الممتلكات الاستعمارية، والتفاخر بالقومية، وتفاقم جشع الناس، وتفشي الأثرة بينهم أرزاء تنوء تحتها الثقافة وستؤدي إلى أوخم العواقب

ماجد شيخ الأرض

ص: 36

‌عرض لإحدى مشاكل الأدب الإنكليزي

هل ألف شكسبير رواياته؟

بقلم جريس القسوس

أخي ح. ش.

كتبت إلي تسألني أن أجلو لك حقيقة هذا النابغة، الذي على سعة شهرته وذيوع اسمه في مختلف الأزمان والبلدان، مازال مبهم الشخصية، مجهول الهوية؛ وما فتئ الكثيرون من الأدباء في إنكلترا وفي أمريكا يرتابون في أمر تأليفه الروايات المنسوبة إليه؛ فتراهم في كل حين يكتشفون لهم مؤلفاً جديداً غير شكسبير، مؤيدين آراءهم باقطع البراهين وأقواها

ولقد بلغت هذه المسألة من الأهمية وخطورة الشأن ما جعل الأدباء ينقسمون إلى مدرستين، الأولى تنتصر لشكسبير وتعضده وتعرف هذه بمدرسة مستقيمي الرأي (أورثوذكس) بينما الثانية وهي - نسبة إلى ستراتفورد قرية شكسبير ومسقط رأسه - تجرده من كل صبغة أدبية، وتتهمه بضعف الإرادة والجهل، فهي لا تود أن تنسب هذه المؤلفات الرائعة إلى امرئ كشكسبير وضيع النسب، نشأ نشأة الوضعاء من عامة البشر، فلم يلتحق بمعهد عال أو يتفقه على مدرب كبير

أنه لمن العار بل من الحرام - على رأيهم - أن تنشأ العبقرية في الأكواخ؛ وإنه لمن الشائن المزري إذن أن تعزى هذه الروايات على فيها من روعة وجلال إلى شكسبير العامي القروي. في ذلك يتفق أصحاب هذه المدرسة، غير أنهم يختلفون في أمر مؤلفها

أما أول الأدباء الذي نسب إليهم تأليف روايات شكسبير ففرنسيس (1561 - 1626) الفيلسوف الإنكليزي الشهير، وأول واضع أسس النظرية فهربرت إذ ألف سنة 1769 كتاباً سماه (مجازفات في الذوق السليم) بيد أن هذه الآراء لم تثر اهتمام الأدباء ولم تحرك لهم ساكناً مدة نصف قرن أو أكثر. بعد ذلك لقيت لها أنصاراً عضدوها بالمؤلفات العديدة، منهم ج. س. في كتاب ألفه سنة 1848، وفي مقالة موضوعها (من ألف روايات شكسبير؟) نشرت في التشمبرز ' ومنهم و. هـ. سمث في رسالة بعث بها إلى لورد اليسمير موضوعها (هل ألف بيكون روايات شكسبير؟) ومنهم أيضاً الكاتبة ديليا في كتاب اسمه (كشف القناع عن فلسفة روايات شكسبير)

ص: 37

وقد ظهر مؤخراً غير هؤلاء في إنكلترا وفي أمريكا كاللورد بنرانس وسر. ت. مارتن، وج. قرينود وغيرهم من مشاهير الأدباء وكبار النقدة ممن عززوا النظرية البيكونية، وحملوا على شكسبير كادت أن تمحو أسمه محواً؛ وتدحر جيش أنصاره دحراً

ويبني معظم أنصار بيكون حجتهم على النقط التالية:

(1)

إن سر توبي ماتيوس سنة 1621 برسالة إلى بيكون يمتدحه فيما ويعده (أنبغ من أنجبت إنكلترا، ومن عاش على هذا الجانب من البحر، في العصر الحاضر)

(2)

إن في روايات شكسبير بعض فقرات ومفردات تدل على تبحر مؤلفها في العلم وتعمقه في الفلسفة والقانون مما لا يمكن أن يعزى إلى شكسبير كما يظهر في ترجمة حياته المعروفة

(3)

إن في روايات شكسبير مشاهد وأبياتاً تشهد بأن ناظم عقدها أرستقراطي النزعة والنشأة. مثال ذلك أنه: يسخر بالرعاع، ويزدري عامة البشر في كل من (يوليوس قيصر) و (كور يولانس) سخرية وازدراء لا يمكن أن يصدرا من شكسبير القروي الوضيع النسب، إن ذلك إلا مظهر عن مظاهر نبذ الأرستقراطية للعامة وكراهيتها لها، واعتزازها برجالها، وفي مقدمتهم بيكون

(4)

أما أخر هذه البراهين، والذي عليه يبني جميع خصوم شكسبير، على اختلاف أشخاصهم، آراءهم واعتقادهم الراسخ في أن شكسبير على ما في نسبه من ضعةٍ، وفي نشأته من حقارة، وفي علمه من نقص، وفي خلقه من مغمز، وفي حياته من غموض وإبهام، لا يمكن أن يكون مؤلف تلك الروايات الخالدة، التي تشهد لصاحبها بعبقرية تفوق كل عبقرية، ونبوغ هو فوق كل نبوغ، كيف يمكن هذا، مادام هناك بيكون الفيلسوف الكبير، والنابغة الفذ الذي شغل أهل زمانه، وملأ أسماعهم وأبصارهم؟

ويأخذ أنصار شكسبير هذه الحجج ويفدونها واحدةً واحدة. فيقولون - مثلاً في الرد على الحجة الأولى إن (سر توبي ماتيوس) لم يعن في رسالته بيكون الفيلسوف، وإنما عني راهباً يسوعياً آخر اسمه طوماس كان يعرف بلقب بيكون. مع كل هذا يرى أنصار شكسبير - مسلمين جدلاً بأني سر توبي يعني الفيلسوف بيكون - أن ليس في هذا ما يدل كل الدلالة على إن بيكون إنما هو مؤلف روايات شكسبير. إن هي إلا العاطفة، عاطفة

ص: 38

الصداقة العمياء هذه ذات التعليمات والأحكام الجارفة

أما فيما يخص الأشعار فليس في البقية الباقية من شعر الفيلسوف بيكون ما يدل على أنه شاعر بالمعنى الصحيح؛ ذلك الشاعر الفذ الذي يمكن أن يعزى إليه نظم تلك القطع الرائعة التي تتخلل معظم رواياته وخاصة الأخيرة منها

هذا أما المفردات أو الفقرات العديدة الواردة في روايات شكسبير والدالة على تبصر في العلم وتبحر في الفلسفة والقانون وإلمام بأغلب الفنون فلم تكن مقصورة على شكسبير أو على بيكون وحدهما. فقد كانت بحق ملك جميع المؤلفين في عصر اليصابات وبالأخص الأخير منه. إذ شاع فيه التقليد والنسج على منوال الأولين. فالذي يجوز لنا الارتياب في أمر تأليف شكسبير لهذه الروايات على هذا الأساس الواهي، يجوز لنا أيضاً الاشتباه في غيرهم من الكتاب والشعراء

وعلاوة على هذا يرى أنصار شكسبير أن ليس في هذه الروايات ما يدل على إلمام واسع بالعلوم والفنون أو تعمق في الفلسفة والقانون، إلماماً وتعمقاً يصح معهما أن ينسب تأليفها إلى بيكون صاحب النظريات الفلسفية الخالدة والنثر الأدبي الرائع

أما القول بأن مؤلف هذه الروايات لابد أن يكون أرستقراطي النسب والنزعة كما يظهر من شعوره نحو الرعاع وخصوصاً في (يوليوس قيصر) و (كور يولانوس) فليس بالقول الذي يعتمد عليه بنيان مثل هذه النظرية وتحقيقها. إذ ما روايات شكسبير إلا مملكة كبيرة، فيها الملوك والنبلاء، والرعاع والعلماء، وفيها الجنود والصناع، والأرواح والآلهة، كل منهم يفكر ويقول ويعمل حسب طبيعته ونزعته، وعلى قدر قوته ومعرفته، غير مقيد برأي الشاعر أو عقيدته الخاصة. بذا يمتاز شكسبير عن (بروننج) خاصة وعن باقي الشعراء والكتاب عامة. فما الرعاع في الحقيقة إلا من هذا البشر الذي توخى شكسبير في تصوير طبيعته ونفسيته الصدق والعدل

هذا بعض مما يقوله أنصار شكسبير في الرد على خصومه، غير أنهم لا يقفون عند هذا الحد، بل يوردون الحجج الإيجابية الدامغة التي تؤيد آراءهم كل التأييد. من ذلك قولهم إن حياة شكسبير ليست محاطة بالإبهام كما يظن خصومه. فلو استعرضنا تراجم معاصريه من الأدباء لألفينا في جميعها - اللهم إلا من اتصل منهم بالسياسة أو القانون وكان له فيها شأن

ص: 39

كبير - غموضاً وإبهاماً يساويان، إن لم يزيدا، ما في ترجمة حياة شكسبير من غموض وإبهام

ويرى أنصار شكسبير أيضاً أن لديهم تقارير عديدة تدل على اتصال الشاعر بالمسرح وانشغاله بأموره مدة ليست باليسيرة. وفي بعض رواياته نلمح ما يدل على إلمام الشاعر بفن المسرح ودقائقه. يحضرنا على ذلك - على سبيل التمثيل - ما جاء على لسان هملت في تلقينه الغلمان سبل الإلقاء والتمثيل تلقيناً يشهد له - أي لشكسبير - بطول الباع في هذا الفن. وليس في ترجمة حياة بيكون الضافية، ما يدل على ولوعه بالتمثيل أو كلفه بالمسرح.

أما ادعاء خصوم شكسبير إن ما في رواياته من مفردات في القانون، يكفل لبيكون - وهو بالطبع قانوني - تأليفه الروايات لحجة واهية، من السهل دحضها. فقد كانت لندن في عصر اليصابات تكتظ بالطلاب الحقوق هواة المسرح، فكان لشكسبير في ذلك فرصة سانحة لمجالستهم والاستماع إلى أحاديثهم التي تدور، في أغلب الأحيان، حول القانون. هذا عدا تجاربه واختباراته في هذا الفرع كابن أحد الملاك أو التجار

ومن البيانات الواضحة التي يعتمدها أنصار شكسبير في الرد على خصومه، ورود اسم شكسبير مع التعليق على فنه في بعض النسخ الأولى من رواياته مفردة مجموعة معاصريه، وخاصةً فرنسيس في كتابه (بلادس تيميا وروبرت جرين تهكمه اللاذع على شكسبير، وفي قصيدة بن جونسون التي فيها يخلد (وزة

وقد ظهر مؤخراً غير بيكون مرشحون آخرون لروايات شكسبير، منهم (لورد تلند الخامس عشر ومنهم كونت أحدثهم ظهوراً وأشدهم خطراً على الممثل الستراتفوردي ديفر ايرل اوف اوكسفورد السابع عشر. فقد وضع ج. طوماس سنة 1920 كتاباً في هذا الموضوع سماه (إثبات شخصية شكسبير في دي فير ايرل أوف أوكسفورد)

وآخر كتاب ظهر في هذا الموضوع هو لمونتاجو رئيس جمعية أدبية أخذت على نفسها معاضدة دي فير ودحض آراء أنصار شكسبير. فقد وضع كتاب (ايرل أوف أوكسفورد لشكسبير وهو يجمع باختصار كل ما يمكن أن يقال في هذا الأديب كمؤلف للروايات المنسوبة لشكسبير

أما النظرية الشيخزبيرية فما هي في الحقيقة بنظرية، وإنما هي خرافة أكبر عامل في

ص: 40

خلقها التشابه الظاهر بين اسمي الشيخ زبير وشكسبير. ليس هذا فحسب، بل إن علاقة شكسبير الغرامية مع (السيدة السمراء) ويظن بعضهم أنها مصرية - وحبه للخيول وخاصة خيول رواد المسرح وما في رواياتها من امتداح لجزيرة العرب وتغن بسمائها وطيرها (فونكس وزهرها وشجرها، كل هذه بعض من الشواهد التي قد يتخذها هواة النظريات أساساً للنظرية الشيخزبيرية

ولقد غرب عن بالي ن أذكر لك أن من الأدباء من يعزو إلى شكسبير تأليف نحو أربعين رواية أخرى، ومنهم من يرى أن شكسبير لم يؤلف كل رواياته، بل شاركه في ذلك كتاب آخرون كبيمونت وفليتشر، وخاصة في (تيطس ادرونيكس) وثلاثة أجزاء:(هنري السادس)، و (تيمون أثينا)، و (بيركليس)، و (هنري الثامن)

هذا عرض موجز لما يمكن أن أخبرك به في هذا الموضوع، ولا أنكر عليك أنني بعد دراسة حجج الفريقين وتمحيصها بكل دقة - أراني ميالاً كل الميل إلى المدرسة الستراتفوردية. ولا أشك في أن النجاح سيحالفها، مهما وجه إليها من نقد لاذع، ولشكسبير من تهم هو بريء منها

الكرك: شرق الأردن

جريس القسوس

ص: 41

‌تبتغي أمها

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

دفنوا في حفيرة أمَّ سلمى

ثم عادوا يجرّرون الذيولا

كتموا عن سلمى الصغيرة موتَ ال

أمّ حقاً وآثروا التضليلا

سألتهم والعينُ بالدمع شَكْرَي

غير مخدوعة بما قد قيلا

أين أُمّي عودوا إليّ بأمّي

أنا لا أبتغي بأمّي بديلا

أنا إن لم ألعب بجانب أُمّي

لم يجد للأفراح قلبي سبيلا

أنا إن عشُت وهي تبعد عني

كان عيشي عليّ عبئاً ثقيلا

إنها لي تُنيم في الحضن منها

وتغنّي لي بكرةً وأصيلا

وإذا ما بكيتُ تمسح دمعي

بيديها منعاً له أن يسيلا

ثم من حبها تقبّلني في

وجناتي فتُحسن التقبيلا

ثم تعطيني دُميةً هي ما أص

بو إليه حُبَّ الخليل الخليلا

دُميتي بنتي مثلما أنا بنتٌ

لإِمُيمي التي رعتني طويلا

ثم تُهدي إليّ شيئاً من الحل

وى فيغدو الحلوى لهمّي مزيلا

أرجعوا لي أميّ الحنونَ فإن لم

تُرجعوها يكون خطبي جليلا

وإذا ما لم تُرجعوا ليَ أميّ

أملا الأرضَ والسماَء عويلا

أنا في حاجة إلى عطف أميّ

أيها الناس فارحموني قليلا

هي أميّ التي فتحتُ عيوني

أجتلي وجهَها فكان جميلا

ورضعتُ اللبانَ منها فكان الث

ديُ منها لي منهلاً معسولا

إنني عند غيبة الأمّ عني

لا حناناً أرى ولا تدليلا

أرجعوا لي أمي ولا تخدعوني

بالأباطيل إن صبريَ عيلا

وإذا صَّح أن أمّيَ أوْدَت

فاجعلوني لقبرها إكليلا

(بغداد)

جميل صدقي الزهاوي

ص: 42

‌مناجاة الأمل

للأستاذ عبد الرحمن شكري

أَلا عِدْ وأخلف أنت بالوعد مانح

فمطلك مغفور وخيرك راجح

ولم تك مثلَ الآلَِ فالآلُ مهلك

ووحيك اسخى ما تضم الجوانح

وكم ناقمٍ من خلف وعدك لا غنىً

له عنك أو تغني المنايا اللوافح

وأعشقُ مَنْ يهواك من هو ناقم

وأمدحُ مَن يرجوكَ منهو قادح

نَشاوَى همومٍ قد تُدِيرُ عليهمُ

كؤوساً فتفترُّ الثغور الكوالح

سلام على الدنيا ورضوان راحمٍ

إذا ضاء نجم منك في الأفق لائح

عَفَاءٌ على الدنيا وهُلْكٌ ونقمةٌ

إذا لم تكن والمرء بالعيش رازح

وكم في ثنايا اليأس منك كوامن

إذا فنِيتْ فالعيش فان وطائح

أيا بهجة العمران لولاك لم يكن

فلا شَيَّدَ الباني ولا كَدَّ كادح

إذا اشتدت اللأَّ واءُ زدت تألقاً

كذلك سواد الليل للنجم قادح

وليس بعيب أن تُراد لمحنة

فمن ذا يريد النجم والصبح واضح

أيا بلسم الأحزان لولاك لم يعش

على عَنت الدنيا لهيفٌ ونائح

معين على البلوى معين على الضنى

إذا لم يكن فيه معين وناصح

ويا حادي الركبان في العيش مثلما

حدا الركبَ في الصحراء حادٍ وصادح

ويا رحمة الله التي عمت الورى

ولم يخل منها جارم النفس جامح

على صاحب الكوخ المهدم مشرق

ببشرى ورب القصر راجٍ وَطامح

وأسعد ما تُلْفَى إذا كنت ماطلاً

فكل طليب شائق وهو نازحُ

رست بك في لج الحياة نفوسنا

فلم تتقاذفها الهموم السوارحُ

لشيَّدت للإيمان في قلب آملٍ

معابد قد ضمت عليها الجوانحُ

ثبات وصبر واعتزام وهمة

فضائل نفس كلها أنت مانح

ولولا مساعٍ أنت عاقد أمرها

لآثر عقر الدار غادٍ ورائح

تكاد تنير الليل إمَّا توقدت

أمانيُّ تذكو حين تخبو المصابح

تأرج من ذكراك نفحة خاطر

أأنت أريج من شذا الزهر فائح

ص: 44

وإن غَنِيَّ الناس من أنت ذخره

وأيُ غِنى يغني وضوؤك نازح

وسائل من جدواك أنت استثرتها

وتُفْتَقُ إن لحتَ النهى والقرائح

وكم لك دون النفس وحي وهمسة

إذا نطقت تَعْيَا اللغاتُ الفصائح

وكم من غريق أسقط الجهد كفه

فما لحت إلا وهو في اليَمَّ سابح

منحت حياة مرة بعد مرة

وتبخل بالعيش النفوس الشحائح

ورب حبيس أنزل السجن ظلمة

عليه ونور منك في السجن لائح

أيا طائراً يشدو وفي النفس أَيْكُهُ

فيخفت فيها يأسها المتناوح

ويا آسِىَ الأحزان والظلم والضنى

ولولاك أعْيَا الطب مودٍ وطائح

تَخَلَّلُ أَنَّات الشقاء ونوحه

فتعذب في الأسماع حتى المنائح

خلعت على الأيام أحسن خلعة

فيخفي بعيش شره والمقابح

سقيت فأنسيت المؤجل من ضنى

ومن وخط شيب في غد وهو واضح

وأنسيت أن الشر حتم مقدر

وأن المنايا غاديات روائح

تضاحك في يأس ونحس وكربة

كأن الرزايا عابثات موازح

بها مؤنس من طيب عهدك عامر

بشائر في لأوائها ومفارح

وتخلق منك النفس دنيا سنية

وفي أفق منها النجوم اللوائح

مباديك شتى كالأزهر جمة

ففي كل حال موطن منك صالح

أيا سحر إنْ لم تُغْنِ فالسحر كاذب

مغاليقه فيما تريد مفاتح

تعللنا بالسعد من بعد ميتة

فتحسن في مرآك حتى الضرائح

عبد الرحمن شكري

ص: 45

‌ذهب الشباب

للأستاذ فخري أبو السعود

ذهب الشبابُ وغاض ذلك الرونقُ

لم يبقَ إلا حسرة وتحرُّقُ

لم يبق إلا ذكر عهد زائل

إذ أنت أملَحُ مَن يُحَبُّ ويُعْلَقُ

حالَ الجمالُ فلا قَوامٌ مرهفٌ

يصبي النفوسَ ولا محيًّا مُشرِق

ما أنت إلا الروض صُوِّحَ بعد إذ

هو مثمرٌ نضر الأزاهر مورق

ولقد يُجاد الروضُ بعد جفافه

ويَجِدُّ من أبراده ما يَخْلَق

وأرى جمالك ليس يَبْعَثٌ مَيْتَهُ

شمسٌ تضئ ولا غمامٌ يُغدِق

ولقد يروق الزهرُ بعد ذبوله

وتَظَلُّ منه ريحة تتَنَشَّقُ

ورأيتُ حُسنَك حين أدبَرَ لم يَذَرْ

إلا قذى يُؤْذي العيونَ ويُوبق

إلا مَقَاَبحَ كم تحاول سَتْرَها

فتَنُمُّ من دون الطلاء وتنطق

قد جّفَّ عودُك والصِّبا مازال في

أعطاف غيرك ناضراً يترقرق

ألْوَتْ بِقَدِّكَ بعد لين مَهَزِّهِ

غِيَرُ الزمانِ وما عليها موثق

رَهَّلْنَهُ في حيث تَجْمُلُ دِقَّةٌ

وهَزَلْنَهُ حيث الجزالةُ أخْلَق

فَغَدَتْ تَقَحَّمُهُ العيونُ وطالما

قد راعها منه الرُّواء المونق

وتبدلَّ الطبعُ المحبَّب لم يَعُدْ

دَلٌ يَشُوق ولا شمائلُ تُعْشَقُ

وتَطَامَنَ القلبُ الأبيُّ وإنَّهُ

بالأمس لَلْحِصْنُ المنيعُ المغلق

ومضى شِمَاسٌ كان فيك سجيةً

فاليوم فيك وداعةٌ وتَرَفُق

واليوم فيك تلطُّفٌ وموَدَّة

كم كان يخطبها المحبُّ الشَّيِّق

وتخلفَتْ بك في الهوى أسبابُهُ

ولقد عَهِدْتُك سابقاً لا يُلْحَقُ

ولقد عَلمِتْك في الملاحة مُفْرَداً

ما لاحَ من حُسْنٍ جِوَارَك يُمْحَق

كانت لحُسْنِك دولةٌ فتفرقَتْ

هيهات يجُمع شملُها المتفرق

نُثِرَتْ كِنانةُ عابديك وكلُّهم

سالٍ لعهدِك أو لحالك مُشفق

وانفضَّ منهم مخِلصٌ ومُنافِقٌ

وأقَلَّ مَدْحَكَ صادقٌ ومُمَلِّق

وغَدَوْتَ بعضَ الناسِ حيث تسير لا

مجدٌ يَحُفُّ ولا جَلَالٌ يُحْدِقُ

ص: 46

تبدو، فلا حَدَقُ العيونِ مُبَادِرُ

لهفاً إليك ولا الجوانح تخفق

وتبينُ، لا قلبٌ لبيِنك مُدْنَفٌ

عانٍ ولا جفنٌ لذكرك يأرق

نَبَتِِ القُلوبُ وكنتَ قبلُ مُحَكماً

فيهنَّ تأسر ما تشاء وتعُتِق

وإذا القلوبُ تغيَّرتْ وتفرقت

عَيَّ الحليمُ بجمعها والأخرق

سكنتْ نفوسٌ كنتَ أمس عناَءها

ولعلك اليوم المُعَنَّى المُقْلَق

ولىَّ جمالُك والطبيعةُ لم تزل

تزهو وترفل في الضياء وتَعْبَق

تمضي على عادتها ما راعَها

حُسْنٌ تَصَوَّحَ أو شبابٌ يَنْفق

فخري أبو السعود

ص: 47

‌فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

21 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية السلبية من مذهب نيتشه

الإنسان

للأستاذ خليل هنداوي

يقول نيتشه مبيناً نظرته في مجموعة القيم الاجتماعية: أنا لا أدري إذا كانت الحياة بذاتها جميلة أو قبيحة. لا شيء عندي باطل إلا هذا النزاع المستمر بين المتفائلين والمتشائمين. وأي إنسان في الوجود يحق له أن يقدر قيمة الحياة؟ أما الأحياء فلا يقدرون لأنهم فريق من المتجادلين المتخاصمين. والأموات - وإنهم لأجدر بألا يجيبوا - لأنهم أموات. فلا أحد بقادر على إبداء قيمة الحياة، وإنني لأجهل كل الجهل إذا كان وجودي خيراً أو عدمي؟ ولكني في اللحظة التي أحيا فيها الآن أريد بأن تكون الحياة فياضة مضيئة لامعة في نفسي وخارج نفسي. فأقول إذ ذاك - نعم - لكل ما يجمل الحياة ويجعلها جديرة بأن تحيى. وإذا تبين لي أن الضلال والوهم يساعدانني على تذوق الحياة أقول - نعم - للضلال والأوهام. وإذا بدا لي أن الصفات السيئة مهما كانت ألوانها تساعدني على انتصار حيوية الإنسان أقول - نعم - للخطيئة والشر، وإذا اتضح لي أن الألم هو أنجع من السرور في تهذيب النوع الإنساني أقول - نعم - للألم وأقول - لا - لكل ما يمسخ حيوية الشجرة الإنسانية، وإذا اكتشفت أن الحقيقة والفضيلة والخير وكل ما اصطلح البشر على احترامه من تقاليد وشرائع تضر بالحياة أقول - لا - للعلم والمعرفة والخير

- 2 -

يبحث الآن نيتشه كيف نشأت بين الناس هذه القيم الاجتماعية ويصور التأثير الذي تركته في روح الرجل الغربي الحديث، نقب نيتشه في أصول المذاهب الخلقية التي تواضع عليها البشر فألفى أن أصولها المتشابهة تعود إلى فضيلتين اثنتين توزعت عنهما كل الفضائل: فضيلة الأسياد والسلالات القوية الحاكمة، وفضيلة العبيد والضعفاء الأذلاء

ص: 48

وإنك لواجد في منشأ الحضارة الأوروبية هذا العمل الذي ولد هذين المذهبين. فهناك طائفة محبة للقتال، وعصابة من الرجال المفترسين الذين يسطون على طائفة جانحة للسلم، نافرة من الحرب كما هو الأمر في الحضارة اليونانية الرومانية، التي تلاشت إزاء هجمات الأقوام الجرمانية. إن الرجل الشديد المعتمد على نفسه، تموج في صدره رغبته بتعيين قيم الناس والأشياء بنفسه. وليست فضيلته إلا بهجته الراقصة بشعوره بقوته وكماله. يدعو (حسناً) من كان يماثله شرفاً وسيادة، ويدعو (رديئاً) من يختلف عنه. الخير عنده ما هو إلا مجموعة تلك الصفات الطيبة والخلقية التي يقدرها في نفسه وفي أقرانه. يبهج نفسه أن يكون قوياً وقديراً. يعرف أن يخضع غيره ويخضع نفسه. يقسو على نفسه كما يقسو على سواه. يقدس هذه الصفات عند الآخرين ويحتقر الضعف والجبن حيث ظهرا، يسخر من عاطفة الشفقة والنزاهة؛ ومن كل الفضائل السائدة اليوم، لأنه لا يراها صفات تليق بسيد. يعجب بالقوة والقسوة والخداع، لأن هذه الصفات تحقق له ظفره في النضال، يحترم الميثاق عند أمثاله الأقوياء، ويجد نفسه في حل مع العبيد الضعفاء، ينكل بهم إذا أراد نكالاً، ويسعدهم إذا أراد إسعادهم. له الأمر في أمرهم. يبذل روحه في سبيل قائده وأميره، ويكرم شيخ قبيلته، ويحترم تقاليد أهله

ألا أن الفضيلة الأرستقراطية لفضيلة قاسية متعصبة، ولما كان الشرفاء أقلية ضئيلة في جحافل كثيرة تتمنى الإيقاع بها، فعليهم أن يصونوا صفاتهم الخاصة التي تضمن لهم الفوز. وتقاليدهم التي اصطلحوا عليها في زواجهم وتربية أبنائهم وارتباط بعضهم ببعض هي من التقاليد العاملة على صيانة ذريتهم من الأخطار. لهذه الذرية الأرستقراطية إلهها الذي تتجسد فيه كل فضائلها التي قادتها إلى القوة وإلى هذا المظهر الذي بدت به، إن هذا الإله هو - إرادة القوة - التي ساقت الزعماء إلى السلطة، وجعلت منهم أقوياء سعداء، والعبادة التي يقومون له بها هي تفسير ابتهاجهم بالحياة على النمط الذي يفهمون منه أنهم جميلون أقوياء

هذه الفضيلة تختلف جد الاختلاف عن فضيلة العبيد، والضعفاء الأذلاء، وإذا كانت الكبرياء والبهجة بالحياة، هي العاطفة التي تموج في صدور الأسياد، فلا عجب إذا نما في صدور الضعفاء التشاؤم، ومقت الحياة، وكره الأقوياء. الأقوياء يكيد بعضهم لبعض. أما الضعيف

ص: 49

الغريب الذي يتصدى لهم فويل له، لأن غريزتهم في البأس والقوة لا تشبع إلا بسحقه! لأنهم يعتقدون أنهم بما فعلوا أتوا عملاً جليلاً يحق لهم به أن يغدوا على أفواه الشعراء أسماء مرددة، وهم - في ناظر هذا الغريب المغلوب على أمره - شياطين وقردة؛ تحمل الرعب والهول للآمنين. إن جرأة هذه الطائفة وجنونها وقسوتها، واحتقارها للأمان والحياة واغتباطها العميق بالتهديم وظفرها. كل هذه الصفات ينعتها أولئك المقهورون بالبربر والبربرية، وهكذا رجل القوة والبأس والرجولة في مذهب فضيلة الأسياد يصبح رجل اللؤم والرداءة في مذهب فضيلة العبيد. والرديء الشرير - في عرف الضعيف - هو كل من ارتدى رداء القسوة والعنف والرعب، والجميل عنده كل هذه الفضائل التي يحتقرها الأسياد؛ الفضائل التي تخفف من شدة الظلم، وتمنع إرهاق المظلومين، وترأف بالبائسين المتألمين؛ فضائل الشفقة والرقة والصبر والتواضع والإحسان فضائله. إن العظيم الذي كان محارباً مخيفاً قوياً في شريعة الأسياد، يحول في شريعة العبيد هادئاً حليماً، ويصبح جديراً بالصغار، لأنه بالغ في توانيه عن القتال، وبالغ في لبسه ثوب المساكين

- 3 -

والآن لننظر في هذه القيم الاجتماعية التي أنشأها العبيد، فان الشريعة المسيحية وفضائلها تولدت في تلك البيئة. وعصابة العبيد والضعفاء والمنحطين وجدت زعيمها في الكاهن، ومن هو الكائن؟ ينبغي للكاهن أن يكون (منحطاً) ليمكنه تفهم رغائب شعبه المريض، وهو بعد هذا يجب أن يصون سلطته وزعامته لتتجه إليه ثقة المتألمين، ويكون حارسهم الأمين المسيطر عليهم، وإلههم الذي منه يخشون. وهي مهنة تستلزم منه أن يحرس الضعفاء من الأقوياء، ويعلن العداوة بينه وبين الأسياد. عداوة سلاحها سلاح الضعيف: مراوغة وكذب ورياء. فيحول بنفسه حيواناً مفترساً مروعاً كالحيوانات المفترسة التي يحاربها، ولا تقف مهنته عند هذا فحسب، فهو مضطر إلى أن يحرس الشعب من نفسه ومن النوازع السيئة التي تتمشى عادة في الشعوب المريضة، يقاتل بحكمة وقسوة كل ما يخيل إليه فيه فوضى أو تفسخ أو انحلال، يلمس هذه النوازع الملتهبة ويزيدها ضراماً دون أن يعود ضرر منها على القطيع وعلى راعي القطيع. قد تكون هذه المهنة نافعة من وجه، لأنها تهذب بعض الفاسد، وضارة من وجهه لأنها تقف عثرة في سبيل حركة التقدم الطبيعي

ص: 50

ألا نجد (المرفأ) المرفأ الأمين الذي تأوي إليه هذه السفن المشحونة بالمرضى والمتألمين، هو الموت. . . الموت الذي يسكن كل الآلام ويذهب بكل الأوجاع؟ وهؤلاء الذين أظلمت في نفوسهم قوة الحياة تبقى قوة الإرادة عندهم متيقظة تعارك الفناء وتناضل العدم، وهي التي شوهت معنى الحياة عندهم، أمست تمدهم بقواعد للحياة جديدة، وحيل تعمل على تسكين آلامهم، تخدعهم عن حقيقة ألمهم، فيحس الكاهن انتفاعاً بهذه الغريزة الطبيعية، فيسوقها ويديرها ويثيرها حتى يجعل منها آلة سلطته وزعامتها، فيصبح زعيم جماعة لا تحصى من المرضى والمنحطين. وما هو الثمن يا ترى؟

(يتبع)

خليل هنداوي

ص: 51

‌القصص

صور من هوميروس

6 -

حروب طروادة

للأستاذ دريني خشبة

لم يبق إذن على الأسطول إلا أن يقلع إلى طروادة فيدمرها تدميراً! ولكن البحر هادئ، والرياح نائمة، ولابد لهذه السفن المثقلة بالعدة والعديد من قوة هائلة تدفعها في هذا الخضم الساخر!

الأيام تمضي دون أن تستيقظ الريح!

والملال يدب في قلوب الجند من طول ما لبثوا في تلك الجهة من شاطئ العابس المتجهم لا يريمون!

والميرة تكاد تنفذ!. . . . .

والخيل تعلك حديدها كأنها برمت بهذا الركود!

- (كالخاس!)

- (مولاي!)

- (أذهب يا رجل فاستوح لنا أربابك ماذا تنبغي لتطلق الرياح؟؟. . . . . . . .)

- (لبيك يا مولاي)

وانطلق عراف الحملة إلى المعبد القريب فمكث غير قليل، وعاد بقلبٍ موهون، وجسمٍ مضعضع، ووجه مغبر، وجبين كاسفٍ معقد

- (ما ورائك يا كالخاس؟!)

- (مولاي!. . . . . . . . .)

- (تكلم! تكلم يا كالخاس!)

- (الآلهة! الآلهة عطشى يا مولاي!)

ولم يتمالك العراف الشيخ أن سقط على نفسه من الإعياء، ومما يخترم فؤاده من الهم! وأسقط في أيدي القادة. . . وعالجوا كالخاس بالماء، ودهنوه بالطيوب، حتى أفاق

ص: 52

وقال العراف مخاطباً أجاممنون:

- (مولاي؛ ابنتك يا مولاي!)

- (ابنتي؟! ابنتي من؟)

- (إفجينيا!. . .)

- (ماذا؟ افجينيا مالها؟)

- (لابد من تقديمها قرباناً! لابد من أن يطل دمها على مذبح الإله الأكبر!)

- (ولمه؟)

- (لكي تطلق الرياح من عقالها، ولكي تكون فدى للجيش كله، ولهيلاس جميعاً!!!)

- (يا للهول! لا كانت هذه الحرب!)

وما كاد يقولها حتى تكبكب القواد حوله، وطفقوا يترضونه:(من أجل الآلهة، وفي سبيل الوطن!)، والرجل يبكي وينشج، ويذهب نفسه شعاعاً!!

وأمرهم أن يتركوه وحده ليرى رأيه. . . .

فلما انصرفوا دعا إليه كالخاس، وأخذ معه في حوار طويل، ثم رجاه أن يذهب إلى المعبد فيضرع إلى الآلهة، عسى أن تقبل قرباناً آخر غير هذه الفتاة الحبيبة المنكودة، مهما غلت قيمة هذا القربان!

وعاد كالخاس، وأخبر أن الآلهة لا تبتغي بافجنيا بديلا!

وانهزم أجاممنون الأب، وانتصر أجاممنون المؤمن التقي الورع، الذي يقدس الآلهة، ويعرف لها قدرها، فأمر بقرطاس وقلم، وكتب إلى زوجه كليتمنسترا:

(بشراك يا حبيبتي!

أتعرفين أخيل؟

أخيل الذي أصبح ملء الأسماع والأفواه والقلوب! بطل هيلاس الذي وعدتنا الآلهة طروادة على يديه! الشاب الوسيم القسيم القوي الأبي الشجاع! يتقدم أخيل لخطبة إفجنيا - ابنتنا المحبوبة - ويود لو تزف إليه قبل أن يقلع الأسطول لتدمير طروادة! إنه لاشك سيرى في مرآة إفجنيا وطنه، وحينئذ يكون حرباً على الأعداء، ونقمة عليهم من السماء!

أرسليها أيتها العزيزة، وأحب إلى أن تسرعي بإرسالها من دون ما جلبة ولا عناد، فالوقت

ص: 53

ضيق ونحن على وشك الإبحار)

(أجاممنون)

وانطلق رقيق عجوز بالخطاب إلى آرجوس. . . حيث تثوى كليتمنسترا في قصرها المنيف (أتريدي) مع أبنتها أفجنيا، وأبنائها الآخرين!

وخفق قلب الفتاة حينما أخبرتها أمها أن أخيل يريد يدها. فقد كانت هيلاس كلها تتحدث باسم الفتى، وتصلي للآلهة التي وفقته للانضمام إلى الجيوش الغازية

خفق قلب إفجنيا. . . وكأنما غرقت في لجة من الأحلام التي تجيش عادةً في قلوب العذارى، حين يمر بهن هذا الطور الناعم الجميل من أطوار الحياة. . .

ولكن ما الذي أوحى إلى أجاممنون بهذا التدبير؟ ولم أختار هذه الحيلة المكشوفة لاستدعاء ابنته التاعسة؟ لا ندري!

لقد مرت أيام دون أن تحضر إفجنيا. ولم يكن الطريق طويلاً أو شاقاً بين أوليس وآرجوس حتى تتأخر كل هذه المدة. . . فهل حدث شيء؟. . .

وكأنما طول الانتظار قد أثار العاصفة من جديد في قلب أجاممنون الأب! فبدا له ألا يصدع لهذا الظلم الأولمبي، ولو صار بعدها زنديقاً ملحداً مطروداً من جنة الآلهة، مغضوباً عليه من قلب الوطن!!

قد كان!

فانه استدعي الرقيق العجوز، الذي كان يحمل دائماً بريد القائد العام إلى آرجوس، ودفع إليه برقعة أمر فيها ألا تحضر إفجنيا!! وأمره أن يسرع بها إلى زوجه، قبل أن تكون قد أخذت أهبتما للسفر!

وا أسفاه!

لقد لقي منالايوس - شقيق أجاممنون وزوج هيلين وملك إسبارطة؛ والذي من أجله شبت هذه الحرب - الرقيق العجوز حامل الرسالة، فاستوقفه وقرأها!

ودارت الدنيا بالملك المحزون، واحلولكت الحياة في عينيه وقصد من فوره إلى أخيه فانتهره، ونشبت بينهما معركة حامية من السباب والتعيير. يدفع أجاممنون عن ابنته، وفلذة كبده، ويفتديها بنفسه وبالدنيا وما فيها، ويعيره منالايوس بالمروق من الدين، وعصيان

ص: 54

الآلهة، وشق عصا الطاعة على السماء!

وإنهما لكذلك، إذا برسول بعلنهما أن كليتمنسترا، زوجة أجاممنون وابنتها إفجنيا، تستأذنان في المثول بين يدي الملك، ويدي القائد العام!!

يا لسخرية المقادير؟

يتفجر الحنان في قلب منالايوس المتحجر، ويرق لأخيه البائس الملتاع، فيقول له:(أخي! أنقذها يا أخي! إنها ابنتي كما هي ابنتك، فأنقذها كما يحلو لك!!)

ويبهت أجاممنون لهول الموقف، ولا يدري ماذا يقدم أو يؤخر؛ ثم يراه واقفاً وحده يبكي. . . كما يبكي الأطفال. . . بعد إذ غادره أخوه

ويلمح زوجه مقبلة، فيصلح من شأنه، ويتكلف البشاشة والتبسم، وإنها لبشاشة باكية، وإنه لتبسم حزين!!

- (أهلاً أهلا إفجنيا!! مرحباً مرحبا كليتمنسترا! سفر حميد ورحلة طيبة!!

- (أين أخيل، وماذا أعددتم للاحتفال بالعروسين؟)

- (أ. . . أ. . . أجل. ولكن لابد أن تعودي أنت إلى آرجوس!)

- (أعود إلى آرجوس! أعود واترك ابنتي!)

- (أجل! تعودين وتتركين إفجنيا!)

- (والعرس! وإعلان الخطبة على الأقل؟ ألا أحضر شيئاً من ذلك؟ هذا لا يكون! لن أعود حتى أشهد كل شيء!)

وتصر كليتمنسترا على بقائها حتى تحتفل بابنتها، وحتى ترى إلى هذا العسكر المجر والأساطيل المنتشرة في البحر كالدبى، تحي ابنتها وتحي أخيل، وترقص طرباً للعروسين!!

ثم يحدث ما ليس في حسبان أحد!!

يحضر أخيل ليقابل القائد العام، وليبدي له سخطه وسخط جنوده (الميرميدون) من طول هذا الانتظار الذي يبدو أن ليس له آخر. . . ويلح لديه في وجوب الإقلاع إلى طروادة مهما كلفهم الأمر!

وما تكاد كليتمنسترا تسمع كلام أخيل، وتسمعه يذكر فرقة الميرميدون المشهورة في جميع الآفاق ببسالتها وكلفها الخارق بالحروب، حتى تعرفه أنه أخيل. . . أخيل بعينه. . . خطب

ص: 55

ابنتها. . . وزوج إفجنيا الحبيب!

فتتقدم إليه هاشةً محيية، حتى إذا أنس إليها، بدهته بالسؤال عن العرس!

- (عرس؟ عرس ماذا؟)

- (عرس ماذا؟ ألست أخيل! ألست قد تقدمت إلى أجاممنون، أمير آرجوس، تطلب أن تكون إفجنيا زوجة لك؟ ألم تطلب يد إفجنيا؟ تكلم!. . .)

ولكن أخيل يسمر مكانه باهتا، لا يدري ماذا يقول، لأنه لا يعرف مما قالت السيدة شيئاً!! وتحملق الملكة في أخيل طويلاً، ويتصبب العرق من جبين إفجنيا، الفتاة البريئة، لما ترى من حيرة أمها، وارتباك هذا الجندي الباسق الجميل، الذي كانت تحلم به زوجاً كريماً لها؟!

وكأن هذا الموقف لم يرض أحداً. . . حتى الرقيق العجوز، حامل بريد القائد العام؛ فقد انفجر هذا الخادم الأمين من شدة الحنق، فباح بكل شيء. . . . . .! باح بكل ما سمع من تحاور منالايوس الملك، وأجاممنون القائد الأعلى، بخصوص هذا الزواج المفترى:(مولاتي الملكة! خذي حذرك لفتاتك المسكينة، إنها ستذبح! إن الكهنة الأشرار سيذبحونها اليوم ليسقوا أربابهم الظامئة من دمها الثمين! إن أخيل الكريم لم يتقدم ليطلب يد إفجنيا! بل هو لا يعرف من أمر ذلك قليلاً أو كثيراً! هاهو أمامك فاسأليه!. . .)

وكأن صواعق السماء جميعاً نزلت على قلوب القوم!

لقد تحطمت كليتمنسترا!

وذاب الثلج في عروق إفجنيا!

وزلزل أجاممنون!

أما أخيل! فقد شده، وحجبت ناظريه سحابة كثيفة من الذهول! ثم ما هو إلا أن أفيق فاضطربت به الأرض، وأحنقه أن يتخذ مطية لهذا العبث العابث، والسخرية المهينة!

وصاح الشاب كأنه أسد مهيج، وانقدح شرر الغضب من عينيه، حتى خيف أن يبطش بأجاممنون وجنوده،. . . كيما يثأر لاسمه، ويطهر كرامته. . .

وانتهزتها الملكة فرصة غالية لتنقذ ابنتها من القتل، فانبطحت عند قدمي أخيل تقبلهما، وتغسلهما بدموعها، متوسلة إليه أن يدفع عن إفجنيا، ويحول بينها وبين الموت!

- (فان لم يكن بحسبك أن أمرغ خدي تحت قدميك لتكون حامي ابنتي، فإنها هي أيضاً

ص: 56

تفعل مثلي يا أخيل! إنها تمرغ حر جبينها عند موطئ هذه القدم الطاهرة لتكون حاميها وحارسها!!)

- (قفي يا سيدتي! وكلمي أباها في شأنها، فان لم يحل بينها وبين الموت، فإني سأقتتل من دونها حتى أنقذها من الهلاك، ولو حاربت هيلاس جميعاً!!)

وترجو الأم زوجها أن يحول بين ابنته وبين هذه القتلة الشنيعة؛ ويتصدع قلب أجاممنون، وتنهمر دموعه شفقة على الفتاة التعسة. . . فيعد! ولكن. . . لآت حين موعد!!

لقد نمى إلى العسكر أن أخيل أنذر أن سيقف دون الدم الذي أمرت الآلهة أن يراق فغيظوا وأحنقوا، وذهبوا إليه يتحسسون جلية الأمر، فصارحهم به، فانقضوا عليه يرشقونه بألسنتهم الحداد، ويرجمونه بحجارة الشاطئ. . . فولى مدبرا!!

وريعت الأم حين رأت إلى الميرميدون - جنود أخيل الأمناء - يرجمون سيدهم فيمن يرجمه من الجنود الآخرين، فعولت على أن تحمل السلاح وتقف إلى جانبه، تذود هؤلاء الوحوش!!

ولكن إفجنيا الصغيرة! إفجنيا الفتاة! إفجنيا العظيمة! وقفت في وجه أمها، وصرخت قائلة:

(مكانك يا أماه! لن يموت أخيل من أجل فتاة!

من أنا حتى يفتديني هذا البطل العظيم؟ وما حياتي التافهة في حياته المذخورة الغالية؟. . . إن رجلاً يحارب من أجل هيلاس، أجدر بالحياة من عشرة آلاف امرأة لا يستطعن إلى حرب من سبيل؟

أيها الجنود!

خلوا سبيل سيدكم، فلن تفتح طروادة إلا عليه، كما أخبرت بذلك آلهتكم! ومادام النصر معلقاً بحياتي، فكم يبهجني أن أفتدى الوطن، وأرضى أربابي!! أن هيلاس كلها تنظر إلي اليوم! فهل فخرأكثر من أن أكون عند حسن ظنها بي!! أنا لها! أنا أفديك يا وطني! أماه! لا تحزني! انظري إلي! هأنا أبتسم للموت. . . . للقتل. . . . للذبح. . . . هلموا يا سادة. . . . هلموا. . . أين المذبح. . . صلوا من أجلي. . . تحيى هيلاس!. .)

وفي هذه اللحظة فقط، تكبر إفجنيا في عيني أخيل، فيتمنى لو أجلت في حياتها لتكون زوجة كريمة له. . . ويعرض استعداده للمنافحة عنها بسيفه، ولكنها تنهاه، وتوصيه أن

ص: 57

يعيش لوطنه، ويذب عن بيضته، ويعلي كلمته. . .

وتنسكب دموع أخيل. . .

ويسير الجميع وراء إفجنيا العظيمة. . . إلى. . . المذبح!!

فيا للفتاة. . .

ويا للأم. . .

ويا لأخيل البطل!

وتضع إفجنيا رأسها على رخامة المذبح، ويرهف الكاهن مديته. . . ولكن؟. . . لقد شده القوم. . .! ونظر بعضهم إلى بعض. . .!

انهم ينظرون فلا يرون إفجنيا!!

بل يرون مكانها ظبياً. . . رشاً غريراً!!

إذن هي المعجزة!!

لقد تفطر قلب ديانا الكريمة من أجل الفتاة، فهبطت من ذرى الأولمب لتنقذها. . . فرفعتها إلى السماء. . . ثم أرسلتها لتكون راهبة معبدها العظيم في مملكة توريس!!

وارتفعت أغاني الغواني. . .

يسبحن للآلهة العطشى!!

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 58

‌أقصوصة عراقية

نكتة العمامة

للأستاذ محمود. أ. السيد

على الشرفة الغربية الكبرى، في فندق دجلة الكبير، المشرف على الصالحية وجسرها، في ذات ليلة قمراء من ليالي صيف عام 1935، كنا جماعة صغيرة من أخوان الصفاء، فيها طبيب وكيميائي وصحافي وأديب؛ نحف بسيدة فاضلة، وافدة من بلاد المجر للسياحة ودراسة تقاليد العرب، وأطوار سكان البادية، وأحوال العامة، والأدب الشعبي غير المكتوب في العراق نكرمها مكبرين همتها القعساء التي جشمتها عناء السفر إلى بلادنا، في هذا الفصل الذي يشتد حره؛ فهرب منه كثير من أهلها المترفين إلى مصائف لبنان وغير لبنان، فراحت تتنقل بين القبائل أياماً وأسابيع، ثم تعود إلى هذا القصر الذي أعده أصحابه نزلاً للتجار والسياح والسياسيين والعلماء الأجانب من الأوربيين وأمريكيين وغيرهم، لتدون مذكراتها العلمية، وتسجل ما تقف عليه من قصص وأساطير، وما يحكي لها الرواة من حكايات وروايات تستعين بها على أداء مهمتها العلمية، ولتستريح يوماً أو أياماً قليلة ثم تعود إلى زيارة القبائل والتنقل في القرى والمدن باحثة مدونة ثم تعود. . .

ومع أنها كانت تبدو للرائي في أقل من الأربعين من العمر، فقد كان يعلوها جلال الشيوخ. وهي تنتمي إلى (عصبة علمية) تضم رجالاً أفذاذاً من الباحثين وعلماء المشرقيات. طويلة القامة، مغولية الملامح، لأنها من سلالة الهون. عالمة بخمس لغات ومنها التركية الحديثة التي تعلمتها في أستانبول. وقد عرفناها في ذلك الفندق مصادفة. وكنا نؤمه كل ليلة - في الشتاء والصيف - لنزجي فيه بعض أوقات فراغنا بالحديث والمسامرة، واستطلاع طلع (الغربيين) الكثيرين الذين نراهم فيه، فنتقرب إليهم متشوفين، متبينين نواياهم ونوايا حكوماتهم في بلادنا، منافحين عنها، ذاكرين لهم ما يخفى عليهم من محاسنها، وما في طبيعة قطينها وقطين الشرق كله، وقرارات نفوسهم من سمو في الخلق والعاطفة وقرب إلى الإنسانية والحق والخير، ناعين على الغرب ماديته وحضارته الرأسمالية الاستعمارية. وكثيراً ما كنا نجادلهم عن إيمان بحقنا وبحق الشعوب المظلومة في الحياة، فننتصر عليهم أحياناً بقوة الحجة، وينتصرون علينا أحياناً بالعناد والمغالطة والمكابرة وما إليها مما يتسلح

ص: 59

الغربي به في مناضلة الشرقي اليوم

وكان اسم هذه السيدة المجرية ماجدا

قالت ماجدا تخاطبنا في شيء من الاستغراب: - (إليكم حادثة من حوادث قطركم هذا ما كان أغربها عندي إذ تلوتها مجملة في هذه الجريدة الإنكليزية التي تصدر عن عاصمتكم دار السلام بل التي كانت يوماً ما دار السلام)

وأخرجت جريدة (التيمس) البغدادية من حقيبتها فألقتها على المائدة التي كانت في وسط مجلسنا مغطاة بأقداح الشاي وعدته. ثم ابتسمت ابتسمنا مدركين المعنى المقصود بقولها عن بغدادنا (التي كانت دار السلام) لأنها أصبحت دار الحرب منذ سنة 1917، الحرب النارية الدامية أولاً، والحرب السياسية ثانياً، وقالت:

- (هل يصدق أحد منا نحن معشر الأوربيين لو سمع هذا الخبر في بلده، إذا كان يجهل حقيقة الحياة الاجتماعية في بلادكم: أن صبياً في الحادية عشرة من العمر وأخاً له أصغر منه يقتلان أختاً لهما لأنها انحرفت عن صراط العفاف. هذا ما تقوله هذه الصحيفة - اليوم - عن صبيين من حي (باب الشيخ). فواعجبا! حتى الصبيان تجعل منهم النخوة البدوية والغيرة قساة ذابحين؟)

قلت وقد بدا لي أن أهون عليها ما سمعت:

- (لقد نقلت هذا الخبر جريدة أخرى وقالت عن الصبين القاتلين إنهما يحترفان نحر الجزور لدى جزار. وربما كان احترافهما هذه الحرفة التي ألفا فيها رؤية الدماء والضحايا من الخراف وغيرها صباح مساء ذا أثر عميق في نفسيهما، فهان عليهما ما فعلا. وأرجو ألا ترى سيدتي الفاضلة في ذلك دليلاً على وجود ميل طبيعي في مواطنينا إلى التوحش وقتل الإنسان. . . وأردت أن أعلل الدوافع التي دفعت الصبيين إلى إتيان هذا الأمر، فلم تدع لي مجالاً للكلام، بل قالت، وقد مضت ترتشف الشاي وتبدي إعجاباً خارجاً عن موضوعنا بالقمر الزاهر المضيء فوق دجلة، في سماء معروفة بجمالها لدى كل غربي ساح في البلاد العربية وبلغ بغداد:

- (كلا لم يخطر ببالي أن أتهم العرب العراقيين بالميل إلى التوحش وقتل الإنسان لعين الأسباب التي تدفع غيرهم من أبناء البلاد المتأخرة إلى القتل وإزهاق الأرواح ظلماً

ص: 60

وعدوناً. ولكنني استغربت أن تقع في مثل هذه الآونة مثل هذه الحادثة التي تدل على روح قديم وعادات، كنا نقرأ في الكتب الباحثة في أحوال العرب وعاداتهم وأخلاقهم وتاريخهم أنها كانت، وحسبنا أنها زالت من جراء الاحتكاك والاتصال بالغرب، بعد دخول البريطانيين هذه الأقطار، منذ أكثر من ثمانية عشر عاماً، الاتصال الذي له حكمه في تغيير العادات والأخلاق)

قال طبيب من أصحابنا باريسي التحصيل لاتيني الثقافة:

- (لاشك في أنه كان لدخول الإنكليز بلادنا واتصال الغربيين بنا واتصالنا بهم اتصالاً لم يكن من قبل، تأثير في تغيير بعض العادات والأخلاق في المدن الكبرى ولا سيما العاصمة؛ ولكننا لو نظرنا ملياً في التغيير الذي حدث لوجدناه منحصراً لدى الطبقة العليا، وبعض أبناء الطبقات الأخرى، في الأسر التي تعددت فيها الدماء واختلف ميراث السلالات المختلفة المتواشجة بالتزاوج. فكانت النتيجة حدوث انحلال أخلاقي في أفرادها، لا نرى له مثيلاً في أبناء القبائل والأرياف والبوادي والعامة في المدن - الذين هم في الأصل القديم من أبناء القبائل - والذين ينتسب إليهم هذان الصبيان. ألا تؤيدونني في هذا الرأي يا رفاقي؟)

سكت بعضنا، وقال بعضنا:

- (بلى)

وقال أحدنا وهو الصحافي:

- (أن أكثر عاداتنا تقاليدنا - وقولي تقاليدنا أصح من قول السيدة الفاضلة والأخ الطبيب أخلاقنا - لم يتغير بعد. وأعني بتلك العادات والتقاليد ما كان متأصلاً في روح الشعب ممتزجاً بدمائه منذ قرون وأزمان. فالعراقي العربي الخالص في الزمن القديم الذي كان يقتل زوجه أو أية امرأة من آل بيته وذوي قرباه إذا ما حادت عن طريق العفاف واستزلها شيطان من الإنس وعبث بها فأثمت معه، هو هذا العراقي العربي - سواء أكان خالصاً في عروبته أم لم يكن وهو يدعيها - الذي يعيش في القرن العشرين، والذي يمثله خير تمثيل بطلا الحادثة التي أتاحت لنا الفرصة لهذا الحوار، إلا ما شذ من الناس. وهؤلاء الشاذون ممقوتون مكروهون يلبسون ثياب الخزي والعار أنى حلوا وأقاموا. وقد يوجد فارق بين

ص: 61

رجل الأمس الذي كان يقدم على القتل وسفك الدم في بيته لدرء العار عنه، على الشبهة والظن، ورجل اليوم الذي يتبين ويتريث حتى يأتيه اليقين بما يصح أن يدعوه إلى ما لابد له منه لكي يجري حكم التقاليد، ويحيا في قومه عزيزاً شريفاً لا يطأطأ رأسه العار ولا يذله، ولكن هذا الفارق طفيف)

قالت وقد لذها الحديث وزادها الولع بتدوين الحكايات والروايات عن تقاليدنا وعاداتنا شوقاً إلى استماع شيء جديد مما يدخل فيما خضنا فيه:

- (ألا تحدثوني بحادثة من حوادث العهد السابق لعهدكم الحديث، أسجلها إلى جانب هذه الحادثة التي سوف أستقصيها وأدونها بتفاصيلها، فإنها تغني عن كثير مما يصح أن يروى عن قوة التقاليد - على ما يسميها السيد الصحافي - وشرف العامة وغيرتهم وحرصهم على المرأة من أن تمتد إليها يد الغريب بما يشينها ويدنسها؟)

قلت:

- (أي عهد تعنين؟)

- (العهد الذي ختمته نهاية القرن التاسع عشر؛ إذ أننا نعتبر تلك النهاية آخر خيط من الليل السابق لعهد اليقظة في بلادكم، وبداية الاتصال بالعالم المتمدن)

قلت:

- (سأقص عليك قصة البطل الغيور عبد الحميد، وهي قصة لحادثة واقعة في النصف أو الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، مما حكى لنا مشايخنا من حوادث بلدنا هذا، قالوا:

نكتة سوداء من سخام القدر كانت في عمامته ذات يوم، لم يفطن إليها، وقد جاء القهوة كما كان يجيئها كل يوم، مرفوعاً رأسه على الرؤوس، مفعمة نفسه بخيلاء الفحولة وكبرياء البطولة، البطولة التي اعتلى عرشها المكين في البلد بحق، فهابه الناس على اختلاف طبقاتهم، وتناول الرواة في الأحياء أخباره في كثير من الواقع الخطيرة التي صادف والأحداث التي شهد

وكان الشطب - وهو آلة التدخين عند القوم في ذلك الزمن - المفضض الطويل في يسراه يدخن به مفكراً صامتاً ساهما، والدخان ينبعث من بين شدقيه كثيفاً

لقد قال له صاحبه أحمد العلوي، وقد لقيه في الطريق قادما من بيته قبيل ساعة: (إن وسخا

ص: 62

أو سخاماً على رأسه)، وانصرف لطيته. . . . وكان الناظر إلى وجهه يرى الشر عليه بادياً في وضوح

وما عتم أن قام إلى بيته متثاقل الخطى، قابضاً بيده اليمنى على خنجره، رسول الموت الذي طالما أزهق الأرواح

وعاد بعد قليل، فاقتعد مكانه الأول من القهوة، وجعل يدخن، كما كان. . .

ومر به صاحبه، وكانت القهوة حافلة بالكهول والشيوخ ذوي النظرات القاسية والعمائم الكبيرة، فنظر إليه قليلاً، ثم أقبل عليه، فجلس إلى جانبه، ومال إليه برأسه يكلمه همساً:

(أن في عمامتك لنكتة سوداء نبهتك إليها فلم تزلها بعد)

كان الجواب نظرة تطاير منها الشرر، ولكن أحمد لم يفقه لها معنى

وكان سكوت، ثم قام الرجل تاركاً صاحبه جالساً في مكانه، دهشاً، ومشى إلى بيته متثاقل الخطى، قابضاً بيمينه على خنجره ذلك الذي طالما أزهق الأرواح

وعاد بعد قليل فاقتعد مكانه الأول من القهوة، بجانب صاحبه، ثم جعل يدخن كما كان. . .

قال له أحمد:

- (غريب هذا الذي أرى منك أيها الأخ! هل أنت آت من بيتك؟ كيف غفلت كذلك عن إزالة النكتة من السخام التي في عمامتك؟)

وهنا أنفجر الرجل من شدة الغيظ، وقام على قدميه مرتجفاً، وقد دارت به الأرض الفضاء:

- (ويلك لم تبقى إلا أمي العجوز!)

تلك هي القصة التي قصها علينا المشايخ فيما قصوا وحفظوا من حكايات بغداد في زمن قديم خلا

لقد نحر عبد الحميد زوجه وأخته بيده، واحدة تلو أخرى، كما ينحر الجزار الخراف والبقر، ليزيل السخام من عمامته. فعمامته هي التاج، تاج الشرف والعرض والكرامة فوق هامته في هذه الحياة، وشرفه وعرضه وكرامته شرف أسرته وعرضها وكرامتها، وكل أولئك من شرف قبيلته وحيه وعرضهما وكرامتهما، فان وسخ العار ذلك التاج ودنسه فلا يطهره منه إلا الدم والموت. ولم يلم الرجل على ما فعل أحد، لأنه فهم ما قال له صاحبه على غير حقيقته، بل لاموا صاحبه الذي لم يستطع إيضاح ما قصد بعبارته التي توهم سامعها

ص: 63

الإشارة والرمز إلى العاب والعار. فعبد الحميد كان يمثل العربي العراقي ابن الشعب والقبائل بالأمس، وإن كان يسكن داراً في بلد لا خيمة في بادية؛ وهذان الصبيان يمثلانه اليوم أتم تمثيل. فهما وذاك في الحقيقة واحد في ثلاثة، وإن تباعد بينهما وبينه زمانهما وزمانه)

قالت وكأنها استدرجتني إلى استعلام رأي لي فيما كنا نتحدث فيه:

- (وما رأيك أنت في هذا العقاب الذي كانت تعاقب به المرأة عندكم إذا ما زلت بها القدم، وما زالت تعاقب به؟)

- (لا يسمي الناس قتل المرأة عندنا إذا أثمت عقاباً، بل يسمونه - بحكم العادات والتقاليد الموروثة - محوا للعار وتطهيراً للعرض من الدنس. وإذا كنا نعتقد أن حياة الشعب المادية هي التي تملي عليه منهاج أخلاقه وتقرر له عاداته وتقاليده.)

- (بلى. أعتقد ذلك. . .)

- (. . . فان الحياة المادية لشعبنا الفقير المسكين لم تتغير بعد تغيراً جوهرياً بالاتصال بالغرب لكي تتغير تلك العادات والتقاليد لديه، بل تغيرت الحياة المادية في القصور، ولدى بعض المتفرنجين من الموظفين، وقولي هذا تعليل متمم لما كان قاله أخونا الطبيب. . .)

(العراق، الأعظمية)

محمود. أ. السيد

ص: 64

‌البريد الأدبي

جوابي لأخي محمد سيكون قصيراً كما تراه

إنني في كتاباتي عن الشيخ جمال القاسمي رحمه الله لم أدخل في علم الحديث دخول من تصدى لترجيح أو تجريح وخاض في الحديث خوض من يعلمه، بل بقيت واقفاً على الشاطئ، على حين أخي محمداً الكرد علي دخل في الموضوع وحكم فيه حكمه، وهو مع ذلك يقول إنني أنا وإياه لسنا من هذا العلم في وردٍ ولا صدر. فإذا كان الأمر كذلك فما كان أحراه بأن يترك انتقاد كتاب مؤلف في الحديث الشريف، وقد أطنب في وصفه مثل الأستاذ الأكبر السيد رشيد رضا رحمه الله الذي إذا تكلم في هذا الفن يقال: القول ما قالت حذام

أنا كان أكثر كلامي في محاسن الأستاذ الكبير الشيخ جمال القاسمي تغمده الله برحمته؛ فان كنت لست من علماء الحديث فأني لست جاهلاً معرفة الرجال، ولا مسلوباً مزية التمييز بينهم، ولولا حسن فراستي ما كان الأستاذ كرد على عظيماً في عيني، وقد اخترته لأخائي منذ اثنتين وربعين سنة

أما السجع وما أدراك ما السجع، فالكلام العربي ينقسم إلى مرسل ومسجع، وموزون ومقفى، ولكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة مقام يحسن فيه أكثر من غيره، والمرسل هو الكلام المعتاد الطبيعي الذي به أكثر تفاهم الناطقين بالضاد. والموزون المقفى هو الشهر الذي لا رونق للغات بدونه. والسجع وسط بين المرسل والموزون، وله وقع في النفوس لا جدال فيه، ويكفيه من الشرف أن كتاب الله تعالى قد نزل بهذه الطريقة، وأن نهج البلاغة وكثيراً من كلام أفصح العرب هو من النوع المسجع. ولا يقال في بديع الزمان والخوارزمي والصاحب والصابي والقاضي الفاضل وأمثالهم إنهم لم يحسنوا القول. فان كانت اللغات الأوربية ليس فيها سجع إلا ما ندر، فليس هذا بحجة على اللغة العربية، فلكل لغة خواص تمتاز هي بها، وقد خلق الله الناس أذواقاً مختلفة، وجعل لكل أناس مشربهم، والعرب غير العجم، والشرق غير الغرب

جنيف 10 جمادى الآخرة

شكيب أرسلان

إلى الأديب الزحلاوي

ص: 65

اطلعت على كلمتكم المنشورة بعدد (الرسالة) الأخير. الخاصة بقصيدتي المنشورة في (مجلتي) ولما كنت لم يسبق لي التشرف بقراءة شيء، ولم أسمع مطلقاً قبل اليوم عن شاعركم الدمشقي عفلق أفندي؛ فإني أرجوكم أن تتكرموا بنشر قصيدتي وقصيدته معاً. وأعتقد أن الأستاذ صاحب (الرسالة) لا يمانع في ذلك مادام قد سمح لك أن توجه ما كتبت إلي

والفت نظر زحلاوي أفندي إلى أن المقطعين الذين انتخبهما لي ولعفلق أفندي ليس فيهما ذرة من التشابه، فما الشبه، بين (أعولي يا جراح) و (اعصفي يا رياح)، وما الشبه بين (أسمعي الديان) وبين (اهزئي بالسماء)!! إن هذا لفهم عجيب

ختاماً لك وللأستاذ صاحب الرسالة تحياتي.

الدكتور إبراهيم ناجي

حول مستعرب عظيم

اطلعت في العدد الخامس عشر بعد المائة من (الرسالة) الغراء على مقالة الأستاذ المؤرخ محمد كرد بك التي يترجم فيها للأستاذ المستشرف الدكتور ف. كرنكو، ويثني على خدماته لأدب العرب

وقد رأيت من الواجب أن أستدرك على الأستاذ كرد علي بك بعض ما أعرفه عن هذا المستشرق المخلص. فقد كان أستاذاً للآداب الإسلامية في جامعة في ألمانيا، وكان مما يدرسه هنالك (كتاب علوم الحديث لابن الصلاح)، كما هو من أعضاء بعض المجامع العلمية

ومن عظيم خدماته تحقيقه لمعجم الشعراء للمرزباني الذي طبع في القاهرة في هذا العام؛ وفي مقدمته (المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء وألقابهم وأنسابهم، ومختار أشعارهم للآمدى)

ومما صححه كتاب (من يسمى عمراً من الشعراء)، وهي رسالة بعث بها محمد بن داود بن الجراح إلى أبي أحمد يحيى بن علي ابن يحيى بن أبي المنصور المنجم. ترجم فيها لما يزيد على مائتي شاعر ممن يسمى عمراً

ص: 66

وصحح أيضاً التاريخ الكبير للبخاري، وهو تحت الطبع في الهند. . . إلى غير ذلك مما يستحق عليه شكر العلماء والأدباء من أهل الشرق والغرب

محمد شفيق

النونة

تابع الأستاذ (دريني خشبة) في مقالة في (الرسالة)(العدد 113) بعض الكتاب في إطلاق لفظ (النّونة) على الخط الذي يلي الأنف في الخد البارز المستدير، وسأل الرسالة رأيها في صحة هذا الإطلاق

والمعروف أن (النونة) هي النقرة في ذقن الصبي، كما جاء في اللسان والقاموس والتاج والنهاية وغيرها، وفي حديث عثمان أنه رأى صبياً مليحاً فقال:(دسموا نونته كي لا تصيبها العين) أي سودوها. وقال الأزهري: هي الخنعبة والثومة والهزمة والوهدة والقلدة والهرتمة والعرتمة والحثرمة

على أن الخنعبة والثومة ليست النقرة في الذقن كما قال الأزهري، ولكنها مشق ما بين الشاربين، أي إنما هي هذه الوهدة التي تمتد من وترة الأنف إلى منتصف الشفة العليا

والهزمة كل نقرة في الجسد، وتخص بالنقرة التي في أعلى الصدر مما تحت العنق

والهرتمة والحثرمة والعرتمة: الدائرة التي في أعلى الشفة العليا، وليس في ذلك ما يصح إطلاقه على الخط الذي يلي الأنف، وإنما ذلك الخط هو القسمة، والله أعلم.

علي الطنطاوي

سيرة تيمورلنك

سألني أحد أدباء الخرطوم عن كتاب عربي يقرأ فيه سيرة الفاتح التتري الكبير تيمورلنك، فأجيبه على صفحات الرسالة بأن أنفس مصدر في هذا الموضوع هو كتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور) لشهاب الدين المعروف بابن عربشاه الدمشقي؛ وهو قطعة فذة من الأدب التاريخي والبيان الرائع؛ وقد كتبه مؤلفه بعد وفاة تيمور بنحو جيل فقط، واستقصى أخباره من مصادرها ومواطنها، وشهد غزوه لدمشق صغيراً، وقد طبع هذا الكتاب مراراً بمصر وأوربا وترجم إلى اللاتينية منذ القرن السابع عشر

ص: 67

ويستطيع الأديب الفاضل أن يقرأ طرفاً من أخبار تيمور أيضاً في تاريخ مصر لابن اياس (ج1 ص326 وما بعدها) وفي النجوم الزاهرة في حوادث سنة 801 و802 و803 و804هـ؛ وفي السلوك في دول الملوك للمقريزي (مخطوط) في الأجزاء الأخيرة؛ وبالإنكليزية في كتاب جيبون (الفصل الخامس والستون)، ويستطيع أن يقرأ عن ابن عربشاه مؤرخ تيمور وعن بعض المصادر المتعلقة به في كتابي (مصر الإسلامية)(الفصل الخامس من الكتاب الثاني)؛ وفي كتابي أبن خلدون (ص80 - 86)

م. ع. ع

كتاب عين النقد المصري

لفت نظرنا فصل نشرته جريدة (تسيرشر تسيتونج) السويسرية الألمانية في صحيفتها التجارية في عددها الصادر في 5 سبتمبر عن كتاب اقتصادي ألفه أحد مواطنيها المصريين بالإنكليزية، ونشرته إحدى شركات النشر في لندن، وعنوان الكتاب هو:(النظام النقدي في مصر) ومؤلفه هو الأستاذ محمد علي رفعت. وفي هذا الفصل عرض دقيق ممتع لما احتواه الكتاب، فهو يتضمن تاريخ النقد المصري من سنة 1834، أي منذ عهد الإصلاح أيام محمد علي إلى سنة 1885، أي إلى بدء الاحتلال الإنكليزي، ثم إلى سنة 1914؛ وشرحاً وافياً لنظام النقد في مصر؛ ويخصص المؤلف فراغاً كبيراً للتحدث عن المؤسسة المصرية الاقتصادية الكبرى أعني بنك مصر، ونموه السريع المدهش، ونشاطه المشعب الذي يحمل على الإعجاب، وشركاته العديدة التي شغلت أعظم ركن في النهضة الاقتصادية، وأثره القوي في تطور الاقتصادي المصري، ويعتبر المؤلف إنشاء بنك مصر، بحق فاتحة النهضة الاقتصادية المصرية وعمادها الحصين. ويحدثنا أيضاً عن أحوال البنوك في مصر بصفة عامة، وعما للمال الأجنبي من أثر كبير في شؤوننا الاقتصادية وغير ذلك مما يتعلق بموضوع مؤلفه

هذا هو ملخص الفصل الذي قرأناه في جريدة (تسيرشر تسيتونج)، ولم نحط برؤية كتاب الأستاذ رفعت، ولكنا اغتبطنا أن تهتم جريدة سويسرية نائية بنقد كتاب لمواطن فاضل. والذي يدعو إلى الأسف في ذلك هو أنه بينما نجد مثل هذا الاهتمام من جانب الصحافة

ص: 68

الأجنبية بالجهود العلمية أيا كان مصدرها، إذا بنا نجد الصحافة المصرية على النقيض من ذلك لا تكاد تهتم باستعراض أي مجهود علمي محلي، ولولا أنها نلزم هذا الركود النقدي المؤلم، لكنا قرأنا عن كتاب الأستاذ رفعت وكتب غيره من مواطنينا الفضلاء، فصولا وفصولا قبل أن نقرأ عنه في الجريدة السويسرية. فمتى تعنى صحافتنا بهذا الجانب المنسي من مهمتها؟ ومتى تعنى بالنقد العلمي الصحيح، وتحله منها المكان اللائق؟

شعر الزهاوي يترجم إلى الألمانية

ترجم الأستاذ الدكتور ودمر أستاذ فلسفة في جامعة برن إلى اللغة الألمانية شعراً ملحمة الأستاذ الزهاوي التي عنوانها: (ثورة في الجحيم) مع خمسين قصيدة وثلاث وخمسين رباعية، ونشر كل ذلك في كتاب جعل عنوانه:(جميل صدقي الزهاوي) وقد صدر الجزء الأول منه

الابتذال الرفيع

اشتهر الأمريكيون بالشذوذ في كثير من الأمور؛ ولكن لم يكن من المتصور أن يطغى هذا الشذوذ حتى على الاعتبارات والتقاليد العلمية التي ترتفع في كل البلاد المتمدينة عن كل ابتذال. فقد قرأنا في بعض الأنباء الأخيرة أن الأمريكيين ينتظرون عودة الممثلة السينمائية الشهيرة جريتا جاربو إلى أمريكا بفارغ الصبر، وأنهم اعتزموا أن يظهروا إعجابهم بها وبمواهبها بطريقة جديدة لم تكن تخطر على البال. وذلك أن (جامعة جنوب كاليفورنيا) قد أصدرت قراراً خلاصته أن تدعى جريتا جاربو من هوليود إلى حفلة استقبال تقيمها الجامعة وتمنح فيها الممثلة الشهيرة إجازة (الدكتوراه الفخرية) تقديراً لمواهبها الفنية، وينتظر أن يكون هذا الاحتفال الأول من نوعه فريداً في فخامته وطرافته، وفيه تلقي جريتا محاضرة في موضوع فني. ويقال فوق ذلك إن الممثل الهزلي الشهير شارلي تشابلن، سيدعى إلى الجامعة لنفس الغرض وسيمنح إجازة فخرية لنفس الاعتبارات، تقول، وهكذا يبتذل كل شيء في أمريكا، حتى التقاليد العلمية التي تتخذ في كثير من الأمم والجامعات العريقة لوناً من القدسية؛ ولكن أمريكا ليست بلداً عريقاً في المدنية ولا التقاليد، والعلم فيها بضاعة مزجاة، والإجازات الجامعية فيها لا اعتبار لها، وهي تنثر على الطالبين بأيسر أمر

ص: 69

ذكرى لوبي دي فيجا

احتفلت أسبانيا احتفالاً قومياً شائقاً بذكرى شاعرها الأكبر لوبي دي فيجا لمناسبة مرور ثلاثمائة عام على وفاته. وقد سبق أن ترجمنا الشاعر الأشهر في هذا المكان من الرسالة، وقدمنا خلاصة نقدية عن حياته وخواصه الشعرية والأدبية. والآن نقول إن العاصمة الأسبانية قد احتفلت بذكرى الشاعر أعظم احتفال؛ وخصصت الأيام الأخيرة من أغسطس لإقامة الحفلات والمآدب الشائقة. وكان من أظهر خواص هذه الاحتفالات المسارح العديدة التي أقيمت في العراء لتمثيل روايات لوبي دي فيجا؛ وقد أراد الشعب الأسباني بذلك أن يحي أيام الشاعر وصور عصره، وسار الممثلون إلى هذه المسارح الريفية، في عربات النقل كما كان يحدث أيام الشاعر. وقد كان التأليف للمسرح أحد كفايات لوبي دي فيجا؛ فقد كان شاعراً وجندياً وقساً، وباحثاً، وقد كأن أيضاً شريداً وخليعاً وصعلوكاً؛ وقد خدم في حملة (الارمادا) الشهيرة التي جردت على إنكلترا، وقضى معظم وقته على ظهر السفينة يقرض الشعر. وقد هذب المسرح الأسباني ووهبه أثمن تراث وأجله

غرفة الكتب

من الأنظمة الغربية التي أنشأت في روسيا السوفيتية إدارة تسمى (غرفة الكتاب المركزية) فلا يصدر في روسيا السوفيتية وجميع الجمهوريات الملحقة بها كتاب أو مجلة أو جريدة لا تسجل في هذه الإدارة، وقد أصدرت الحكومة قانوناً يحتم على الناشر أن يقدم إليها خمسين نسخة من الكتاب أو الصحيفة التي ينشرها، وتستخدم الغرفة المركزية من هذا العدد خمس نسخ لأجراء المبادلة الدولية في الكتب التي تصدر في الدول الأخرى ثم تدرس كل كتاب أو صحيفة من الوجهة الفهرسية، وتصدر عن ذلك مجموعات دورية مصنفة حسب أنواع الفنون والعلوم، وقد بلغت فهارس هذه الغرفة حتى اليوم نحو ستين ألف مجلد، وفي وسع المعاهد العلمية والمكاتب العامة وكذلك الأفراد أن ينتفعوا بمحتوياتها النفيسة

الذكرى المئوية لوزارة المعارف

تألفت لجنة برياسة صاحب السعادة وزير المعارف العمومية وعضوية كل من وكيل الوزارة، ومدير الجامعة المصرية، ومرقص سميكة باشا، وأمين سامي باشا، ومحمد أسعد

ص: 70

براده بك، ومحمد خالد حسنين بك، وإبراهيم درويش بك، ومحمد نصار بك، والأستاذ الخليل مطران لتحضير ما يلزم للاحتفال بالذكرى المئوية لإنشاء ديوان المعارف التي تقع في غضون شهر فبراير سنة 1937 ووضع كتاب ذهبي تستعرض فيه سياسة التعليم ونظمه المختلفة في مصر منذ العصور الأولى

النشيد القومي الرسمي

أصدر حضرة صاحب السعادة الأستاذ أحمد نجيب الهلالي بك وزير المعارف القرار التالي:

نظراً لما للأناشيد القومية من الأثر القوي في إظهار جلال الأمة، والتنويه بعظمتها، وإيقاظ شعور الشعب حين يتناشدها، والحاجة إلى نشيد من هذا النوع يلقى في المناسبات القومية والدولية، أسوة بالدول المتحضرة

وبما أنه لا يوجد لمصر في الوقت الحاضر نشيد قومي معترف به رسمياً مما يتعين معه المبادرة لسد هذا النقص بتشكيل هيئة يعهد إليها وضع شروط مباراة عامة لاختيار نشيد يحقق أغراض الأناشيد القومية أصدرنا القرار الآتي:

المادة الأولى - تشكل لجنة من:

حضرة صاحب العزة أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة المصرية رئيساً

حضرات: الأستاذ خليل مطران، الأستاذ علي الجارم المفتش بالوزارة، الدكتور محمود أحمد الحفني مفتش الموسيقى بالوزارة، عبد الله سلامة أفندي مفتش التربية البدنية بالوزارة، أعضاء

المادة الثانية - تكون مهمة اللجنة وضع شروط مباراة عامة بين الشعراء والموسيقيين لنظم وتلحين نشيد قومي يكون صالحاً للاعتراف به رسمياً

المادة الثالثة - تعين جوائز مالية تمنح على الوجه الآتي:

(أ) 50 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الأول في نظم النشيد الذي يعترف به رسمياً

(ب) 30 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الثاني

(جـ) 20 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الثالث

(د) 50 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الأول في تلحين النشيد الذي يعترف به رسمياً

ص: 71

(هـ) 30 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الثاني

(و) 20 جنيهاً مصرياً يمنحها الفائز الثالث

المادة الرابعة - على وكيل الوزارة تنفيذ هذا القرار

ص: 72

‌الكتب

الجبل الملهم

لناظمه الشاعر اللبناني (شارل القرم)

للأستاذ خليل هنداوي

ألفت ألا أكتب عن كتاب إلا بعد ركود الضجة التي تقوم حوله، سواء عندي أكانت ضجة استحسان أم ضجة استهجان، ثقة مني بأن النسمة الهادئة تكن ما لا تكن الريح العاتية. والآن وقد هدأت الضجة حول ديوان الجبل الملهم، وقر ضمير صاحبه بعد أن أحرز على جائزة (ادغاريو) الفرنسية، واطمأن وجدانه للحفلة الرائعة التي سيخطب فيها أدباء لبنان، مرحبين بشاعر تغني بجمال لبنان! وخلاصة تلك الضجة التي قامت والتي ستقوم عبارات ثناء بدون كيل، وجمل ولاء بلا وزن، ترفع (شارل القرم) إلى ذروة دونها الذرى التي تغني بها وتحدث بجمالها، وكيف لا يرفع النبوغ أصحابه في بلاد يعرف أهلها معنى النبوغ ويرعون حق النبوغ ويقدرون قدر النبوغ؟

تناولت ديوان (الجبل الملهم) من بين دواوين كلها عيون رانية إلي، يستنجز أصحابها مني وعداً بالكتابة عنها، فآثرت الالتذاذ بديوان يحدثني - في الصيف - عن الجبل الملهم، فأهملت من هم أدنى إلي وعكفت على الجبل الملهم أتلوه بشوق وغبطة ولذة. وقد شغلت نفسي بتأمل الأمثلة الفنية فيه، كاملة هنا متوسطة هناك ناقصة هنالك، وأنا برغم هذا التفاوت في مراحله لم أدع لغبطتي مجالاً لهزيمة

هنالك أجزاء متفككة عملت على وصلها بخيالي، وهناك اضطراب كثير في ألحان بعض الأوزان التي جاءت كثرة تنوعها زيادة في التشويش، فلا تكاد تهدأ الأذن إلى لحن حتى يطلع لحن آخر تنبو عنه. فحملت ذلك إلى نقص في الكفاءة الفنية التي تحتاج إلى تمرين كبير، وهنالك بعض تشابيه تمجها آذان أهل البلاد أنفسهم، لأنها لا تمازج روح لغتهم، ولا توائم نفس عبقريتهم، كتشبيه الشمس (بصابون السحاب)، وهنالك ضياع المثل الأعلى الذي يتبعه الشاعر بحيرة، يتبعه بقلب موزع مضطرب، فلا يدرك ما هو هذا المثل ولا

ص: 73

يدري أين يجده. لا يعتمد على عقله ولا يثق بروحه. يحارب بعض التقاليد ويؤمن ببعضها إيماناً أعمى: يتطرف في كل شيء يحبه أو ينفر منه. كأنما قلبه لا يغلب عليه اعتدال ولا استقرار

هذه بعض الصفات تطالعك من الديوان وددت أن أتوسع فيها توسعاً فنياً، ووددت أن يكون بحثي متعلقاً بها، وقفاً عليها، لولا ظاهرة خطرة غريبة كامنة في إحدى الثنايا، ما وقعت عليها حتى ارتعشت وعاودني ألم عفيف وشك في المستقبل. فتركت تلك التعليقات الفنية التي تتعلق بأصحابها وجابهت هذه الظاهرة الاجتماعية التي لها خطرها في حياتنا وبيئتنا وقوميتنا

تلوت هذه الأبيات التي يتحدث بها عن اللغة العربية:

(إننا ننطق اليوم لغة جاءت من آسيا

قد فرضها علينا القتل والرعب

وباطلاً نضع فيها الفن والشعر

والعلم والإيمان)!

(إننا لن ننظر إلى العربية

نظرنا إلى أخ يدعى إلى منزل أبيه

إن هذه الزهرة الصحراوية قد تقبلتها حدائقنا

تحت ضغط حكومة قاسية)

(قبلناها وهذبناها

وأدعمناها باعتنائنا الشديد

ولكن الإسلام لا يرضى بأن تكون هذه اللغة المرفوعة على جباهنا - لنا)

(أن هذه الكلمات الغربية (اللغة السريانية) التي يتلقنها أبناؤنا

لم تكن يوماً غريبة عنا

بل يكاد يخيل إلينا أن قلوبنا

تذكر يوماً نحتتها فيه)

(ولكن هؤلاء الذين يجحدون أصلنا اللاصق بنا. . .

ص: 74

هؤلاء المنفصلين عنا، المسلوخين من أذرعنا

الأغنياء بالنفي. . .

هؤلاء يحتقرون أصلهم. كما يفعل الأعزاء العاقون الناكرون الإحسان)

تلوت هذه الفقرات وأنا أكذب نفسي وأتهمها. أحقاً أرى صاحب الجبل الملهم يتنصل من اللغة العربية، ويعتبرها زهرة غربية نبتت طفيلية في حدائق لبنان؟ أحقاً يرى صاحب الجبل الملهم أن هذه اللغة قد فرضت على أهل لبنان بالسيف والدم؟ فإذا كان الشاعر لم يكتب له نصيب ولا سهم في هذه اللغة لا في نطق ولا كتابة، فما له يعمل على التنكر منها وضربها في الصميم! وما بال أصحابنا اللبنانيين يشايعونه على هذا. وهم علموا ما للعربية من فضل ومآثر. وعلموا أن الإسلام لم يفرضها عليهم بالقتل والضرب. وإنما فرضت نفسها وعملت على فرض نفسها. ومتى كانت اللغات تلين لإرادات الأفراد؟ وهل السريانية أخت العربية لو كان في أجلها فسحة تذوقت رداها؟ وماذا في السريانية من أدب وفن يتعلق بأحشاء لبنان، ويصطبغ بدم لبنان؟

وأما أن الشاعر لا يريد الكتابة بالعربية لأنه لا يراها جديرة بأن تكون وعاء حكمته وفنه وشعره، فهل عجزت اللغة عن ضم شتات أفكاره؟ وهي التي لم تعجز ولن تعجز عن أفكار من كان لهم شأنهم وخطرهم، إلا أن تكون أفكاره مما لا تحيل به العقول. ولكن هو الشنآن

كنا نريد أيها الشاعر وأنت لا تنطق بهذه اللغة أن تحترم على الأقل كيانها، ولا تدس عليها دساً يسخر منه الأجانب أنفسهم. كنا نريد أن يكون لك بأدباء المهجر أسوة حسنة: أولئك الأدباء الذين اصطلحت عليهم عوامل الغربة والانقطاع. وظلوا راعين للغتهم حافظين لحرمتها عاملين على رفع ألويتها. وقد علمت منهم المجيد السباق في لغته واللغة الأجنبية التي اصطنعها. كجبران ونعيمة والرياحاني وكثير من أمثال هؤلاء في المهجر وغير المهجر ممن تفتحت لهم من الآفاق ما تفتح لك، ولان لهم من عبقرية غيرهم ما لان لك

وأما أن الشاعر يود العودة إلى إحياء الروح الأولى الروح الفينيقية، شأن المصرية الفرعونية. فالمصريون والفرعونيون أنفسهم لم يفكروا يوماً في نفي اللغة العربية من بين ظهرانيهم، ولم يجدوا في بقاء العربية ما يحول بينهم وبين التمصر الذي أرادوه

اضطراب - في لبنان - في المثل العليا والتفكير، واختلاف في الثقافة والمنحى. كأنما بيئة

ص: 75

تفككت أجزاؤها وانطوى جزء على نفسه بدون وحدة منتظمة ولا جامعة ملتئمة، كل حزب يمشي ولا يدري أين يمشي وأي هدف يقصد

وحدوا يا قوم تفكيركم واعرفوا ما تطلبون، فإننا حتى اليوم لا ندري مثلكم الأعلى ولا ندري أي منهج تقصدون؛ وأنقذوا لبنان قبل أن تقتله محبتكم، فالمحبة المنقسمة على نفسها هي أشد خطراً من الكره والنفور. وليكن لكم مثل أعلى تحجون إليه وتعملون على إظهاره في بيوتكم ومدارسكم، وفي مجامع جدكم ولهوكم، ينشأ عليه صغاركم ويشب عليه فتيانكم

أما أولئك الذين ينتظرون أن يهيموا غداً في الحفلة التكريمية لصاحب الجبل الملهم، أينظرون أي إكليل يحمله إليهم، وأي إكليل يحملونه إليه؟ إكليله لهم إكليل احتقار اللغة العربية، وإكليلهم له مبايعته على ذلك. إكليله (قبلات لبنانية على شفاه اللغة الفرنسية)، وإكليلهم الدعاء لمحب لبنان ورافع جبهة لبنان والمبشر بنبوغ لبنان. أحبوك يا لبنان وادعوا محبتك لأنفسهم حتى خنقوك بالأقماط وأدرجوك بالأكفان!

لبنان الذي يشبه اليوم (برج بابل) بأديانه ولهجاته ومذاهبه، لا يوحد بين أجزائه إلا هذه العربية، وإنما توحد بينها توحيداً تقليدياً لا يعمل على الإيمان به قلب ولا يؤمن به دم. فإذا إنهارت هذه السارية التي تتحد عليها أجزاء لبنان تعم الفوضى داره ويفشو فيه الروح التمزق. وأصحابنا بعد هذا كله يريدون أن يجمع بينهم هذا النشيد:(كلنا للوطن. . . كلنا للعلا. . . كلنا للعلم). وقد علم العلم والعلا والوطن أن لا مكان لهم في المكان الذي تتقلص فيه اللغة ولا يحترم لها كيان، وتهان فلا يهب لنصرتها أعوان

تفرقوا ما استطعتم في ثقافتكم ومثلكم، فما أشبه الليلة بالبارحة

خليل هنداوي

ص: 76