المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 117 - بتاريخ: 30 - 09 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ١١٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 117

- بتاريخ: 30 - 09 - 1935

ص: -1

‌عبرة الحادثات

للدكتور عبد الوهاب عزام

المدنية الأوربية، على خيراتها وما أجدت على الناس من علمها ورفاهيتها، مدنية مادية دعائمها المعادن والأحجار، يصاغ قلبها من الذهب والحديد وأشباههما، ويغذى بالفحم والنفط وأخواتهما، وتدور بهما دواليب المصانع والمغازل والمناسج. قد استحكمت فيها الآلات، وأتقنت الصناعات حتى أغنت عن الإنسان أدواتها، ونافسه عتادها، فثارت العداوة بين الآلات وصانعيه وعمالها ومالكيها. وقد أوحى ذلك إلى بعض الأمريكيين فاخترعوا إنسانا آليا يخدم خدمة الإنسان ويتحرك حركاته، وهل الإنسان في المصانع إلا آلة سريعة العطب؟

طبع إنسان هذا العصر آليا دائراً لا يألف الاستقرار ولا يعرف السلام، ولا تتمكن في قلبه المحبة، ولا تستقر في سريرته الشفقة. وأستكبلت هذه الآلات على غذائها، وتنافست في أقواتها، وأحس كل أنها القوة لا العدل، والغلبة لا الإنصاف، فنفخوا في الأمم روح العصبية، وغرور العنجهية، وزعم كل قبيل أن أوله خير الأولين، وأنه سيد الحاضرين، وأن بنيه سادة الآتين، وأن الأرض كلها له، وأن الويل لمن جادله. ثم ما شئت من أناشيد مثيرة، وتربية هائجة، وإيقاظ الوحشية في النفوس، وإشعال البغضاء في الأفئدة، حتى صار الناس على رغم العلم والفلسفة وعلى ما قربت بينهم الوسائل الحديثة أميل إلى الحرب والجلاد، وأحب للتخريب والتدمير من أناسي القرون الخالية؛ فبينا تراهم في ظاهر من السلام والوئام، يتغنون بحضارتهم، ويعكفون على دراستهم، ويتكلمون في العدل والحرية والاخوة، إذ تحكهم التجارب قدح الزناد، فإذا النار تحت الرماد؛ تغلب عليهم الطباع الحربية، وتسيطر عليهم الحياة الآلية، فإذا الأمم كلها جنود ومصانع للسلاح والمدمرات، وإذا الأوربي كالذئب الذي لبس جلد الشاة ثم خلعه

ومهما يكن حظ القوم من العدل والنصفة، ونصيبهم من المودة والألفة، فذلك فيما يشجر بينهم من خلاف. فأما أهل الشرق سكان آسيا وأفريقية من الأمم الملونة فليس لهم في العدل حماية، ولا في القانون نصفه، (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل). وما يزال صدى الأحداث يدوي في آذاننا، وحسبك حروب طرابلس والبلقان والريف. فان ساغ

ص: 1

الأوربي أن يطمئن إلى عدل أوربا وانصفها، وقوانينها وجماعة أممها، فليس للشرقي أن يسكن إلى ذلك، فهو مال مباح ودم مهدور

وتلك أمة ينفخ قادتها فيها المغرور والعجب، ويذكرونها مجد الرومان وغابر الزمان، حتى انتفخت أوداجها وورمت أنوفها. ثم صاحوا فيها قد بطشنا بطرابلس عشرين عاماً حتى دوخناها، وذللنا دانيها وقاصيها، ولكنها لا تفي بحاجتنا ولا تسد مطامعنا. ونظروا فإذا في أفريقية دولة واحدة مستقلة حفظ عليها استقلالها من دون أمم أفريقية أنها دولة نصرانية لم يستبيح المغيرون أن يجعلوها كالمسلمين، ولكنها على نصرانيتها أمة سوداء ضعيفة تسكن أرضاً واسعة، صاح زعيمهم هلم إلى الحبشة! فانبرت العقول تخترع الأوهام والتعلات، والألسن تفتري الكذب، والأقلام تخط الأباطيل. وطفقوا يعيدون قصة الذئب والحمل حيناً، ويصرحون بمكنون ضمائرهم حيناً. وسار الشر الحبشة في جيوشه ومفترياته

ويشفق بعض الدول من هذه الغارات ويخاف عقباها فيستغيث الحق والعدل، وحماية الضعيف، والاقتصاص من القوي. وتتوالى نذر الحرب، وتطيف بمصر مقدماتها، وتقف مصر بين دولة محتلة، وأخرى مجاورة، تشقها الطريق بين الحبشة وإيطاليا. تهيب مصر بجيشها فإذا جيش ضئيل، وسلاح كليل! وتدعو بينها فإذا نفوس أبية، وسواعد قوية، ولكنها لم تدرب للقتال، ولم تعد للنضال، ولم تشهد الزحوف، ولم تعتد التعرض للحتوف، ولم تحمل السلاح، ولم تتمرس بآلات الكفاح؛ أنفس عزيزة وأمة ذليلة! ويقول من أبى على الأمة أن تأخذ للأيام أهبتها. وتعد للخطوب عدتها: لا ترعوا، هأنذا أدفع عنكم! فاشكروني ولا تكفروني. ولو ترك لنا من قبل أن نعبئ جيوشنا ونعد سلاحنا لكان شكرنا أعظم وأجدى، وكنا في أنفسنا أعز وأقوى، وأني يعز من يدفع عنه في عقر داره، ولا يعول عليه في حماية نفسه:

ودرى من أعزه الدفع عنه

فيهما أنه العزيز الذليل

هذا موقف الذلة والمهانة، والضعة والاستكانة، موقف من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يجلب لها خيراً ولا شراً - رب عيش أخف منه الحمام!

ذلكم درس للحادثات مبين، وعظة للخطوب بليغة، فعلى المصريين راعيهم ورعيتهم، ودهائهم وقادتهم، أن يفهموا الدرس ويعوه، ويتدبر الموعظة وينتفعوا بها. ومهما تنجل عنه

ص: 2

السحب المكفهرة، وتتكشف عنه الحادثات المنذرة، فليعملوا برأي واحد ويد واحدة، ويتوسلوا بالعزم والحكمة حتى لا يقفهم الزمان هذا الموقف مرة أخرى، (إن في ذلك لذكرى)

عبد الوهاب عزام

ص: 3

‌نظرة في النجوم

للأستاذ أحمد أمين

مما أرثى له أن أرى الشرقيين وخاصة سكان المدن لا ينتفعون بسطوح منازلهم الانتفاع الواجب، فهم قلما يصعدون إليها إلا عند تركيب قوائم الراديو أو حبال الغسيل أو تخزين ما يستغنى عنه في حجر السطح، وهم يحبون أن يلتصقوا بالأرض ولا يحلقوا في السماء، وينزلوا بحضيض المنازل ولا يسموا إلى أوجها

وفاتهم أن من خير متع الحياة (سطوح المنازل) لا سيما في جو بديع كجونا، تصفو فيه السماء في أكثر أشهر السنة، ويهب فيه النسيم العليل ليلا، ويمتد فيه البصر، وتنشرح فيه النفس، ولياليه بين ليال مقمرة بديعة لا تمل العين جمالها، وليال غاب فيها القمر فقامت النجوم مقامه تناغيك وتحدثك وتملأ قلبك روعة ونفسك حياة

تبا للأعين التي تنظر دائماً إلى تحت، ولا تنظر إلى فوق، وإلى الأسفل لا إلى الأعلى، ويلذ لها أن تنظر إلى المسافات القريبة وإلى ما تلمس، ولا تنظر إلى البعد السحيق والمنظر البعيد. إن العين إذا اعتادت ذلك قلدتها النفس فلم تنظر إلى الأمل البعيد ولم تلتذ بالطموح، ولم تسعد بالأمل، وقنعت بما هي فيه ورضيت بالدون وتشاغلت به، وصدها ذلك عن أن تنشد الكمال، للارتباط الشديد بين عالم الحس وعالم العقل وعالم الروح

ولقد كان آباؤنا الأولون أكثر منا عناية بالسماء، حتى العرب في بداوتهم أطالوا النظر في النجوم وانتفعوا بجوهم المفتوح، وسمائهم الصافية، فعرفوا كثيرا منها، ووضعوا لها أسماءها، وكان لهم فيها ملاحظات دقيقة، وأشعار رقيقة؛ أما نحن فقل أن نعرف من أسماء النجوم إلا الشمس والقمر، وجهلنا بأسماء مشاهيرها جهل فاضح لا يتفق وسماءنا البديعة. وأما شعراؤنا - سماحهم الله - فأكثرهم لا يشعر في السماء والنجوم إلا تقليدا، وقد يبرح به ألم الهجر في غرفته المسقوفة وقد أغلقت شبابيكها وأسدلت ستائرها ومع ذلك يشكو النجوم وثباتها وهو لا يرى سماء ولا نجوما

لو كان في أوروبا جو مكشوف دافئ كجوانا، لعرفوا كيف ينتفعون بالسماء كما انتفعوا بالأرض، ولاتخذوا من سطوح منازلهم مقاماً للسمر الحلو والتأمل اللذيذ، ولاتخذوا منها منديات ومقاه ومسارح للسينما والتمثيل وأماكن للمحاضرات فانتفعوا بجمال الجو وجمال

ص: 4

منظر السماء وجمال منظر السينما والتمثيل وجمال الحديث معاً، ولو فعلنا لارتحنا من عناء المتسولين والمتجولين وما سحي الأحذية إلا أن يصعدوا إلينا في السماء

نعمت هذا الشهر بسطح منزلنا، وأكثرت من التحدث إلى النجوم، والإصغاء إلى حديثها، وملت إلى قراءة شيء من أخبارها، فملأت قلبي حياة، وعقلي هدوءا، وأعصابي راحة

وكنت كلما شكوت من شيء بثثت شكواي إلى النجوم فتبخرت، وكلما تدنست في جو الأرض تطهرت في جو السماء، فان آلمتني السياسة بألاعيبها وخداعها، والأولاد بمضايقاتهم ومتاعبهم، والخدم برذائلهم، والبيئة بمشاكلها وصغائرها، علوت إلى السطح وانسطحت على سجادة، ووصلت أسباب ما بيني وبين النجوم فزال كل ألم، واحتقرت كل ما ضايقني، وعشت في عالم جديد لذيذ مريح، ورأيت أني غسلت نفسي كما يغسل الثوب في البحر الواسع

عظيمة هذه النجوم وجميلة وجليلة! فان رأيت نجوم المجرة وعلمت أنها تبلغ عدتها الملايين، وأنها تسير بسرعة هائلة، وأن بعض النجوم يقطع نحو 240 كيلو مترا في الثانية، وبعضها يقطع نحو 410 كيلو في الثانية، وأن بعضها بلغ من البعد عنا ما لا يصل إلينا ضوؤه إلا في آلاف السنين، أيقنت بهذه العظمة؛ وشعرت في أعماق نفسك بحقارتك وحقارة مشاغلك وحقارة أرضك كلها - وإن علمت أن في السماء آلافاً من الشموس تكون كل شمس منها مجموعة من النجوم كمجموعتنا الشمسية، سبحت في عالم من العظمة لا حد له، وتساءلت في كثير من الحيرة والإعجاب إلى أي طريق هي مسوقة وإلى أي طريق نحن مسوقون معها؟ وقلت كما قال أبو الشبل البغدادي:

بربك أيها الفلك المدارُ

أقصدُ ذا المسيرُ أم اضطرار

مَدارُك قل لنا في أي شيء

ففي إفهامنا منك انبهار

وفيك نرى الفضاء وهل فضاء

سوى هذا الفضاء به تدار؟

ثم رددت الطرف خاسئاً وهو حسير؛ ولكنها حسرة لذيذة لا ترضى بها بديلاً

أيتها النجوم. كم من الناس نظروا إليك فأعجبوا بعظمتك وجمالك وجلالك، وكم من الشعراء تغنوا بك، وتفننوا في الإشادة بذكرك، وعابوا عليك سرعتك أيام الوصال، وبطئك أو وقوفك أيام الهجران

ص: 5

وكم حارت فيك العقول فظنوك آلهة وعبدوك من دون الله، وأقاموا لك الهياكل والتماثيل، ثم تقدموا قليلاً فأنزلوك من مقام الألوهية قليلاً، وجعلوا لك أثراً كبيراً في أحداث الأرض، فلك أثر في الرياح والأمطار والسعادة والشقاء، وربطوا مواليد الناس بك، وجعلوا سعادتهم وشقاءهم من أجلك، وحتى الفلاسفة العظام أمثال أرسطوا أعمتهم عظمتك عن أن يدركوا حقيقتك فأسندوا إليك عقولاً كباراً وجعلوا منزلتك في الفكر والعقل فوق منزلة الإنسان، وسبحوا في الخيال فأسسوا نظاماً وهمياً للأفلاك وتدرجها في الأثر حتى تصل إلى عالمنا - وخدع الناس بك فبنيت لك المراصد لمراقبة حركتك، وأقنع المنجمون الناس بتأثيرك فسمعوا لقولهم، واتخذ الملوك المنجمين يعتمدون عليهم في تدبير مملكتهم، كما يتخذون الأطباء لتدبير أجسامهم، فلا يضعون بناء إلا بعد رصدهم لك وإشارتهم بأنك ستمنحين السعادة لبنائهم، ولا يحاربون إلا برأي رجالك وتخير أوقات رضائك

وكم شغل الناس بطوالعك، وتخيروا أوقات زواجهم محسوبة بحسابك، وتنبأوا - بمعونتك - بموت فلان وحياة فلان وأنت أنت فوق ذلك كله لا تعبئين به ولا تلتفتين إليه. كأن أمرهم لا يعنيك، وشؤونهم لا تهمك، وتتابعت الأجيال ومرت السنون، وفنيت أقوام وجدت أقوام وكلهم يمنحونك إعجابهم وأنت في علاك وسيرك وسرعتك دائبة أبداً

وأتى العلم الحديث فغير فيك الأفكار، وساواك بالأحجار، وجعل قمرك الجميل كأرضنا غير الجميلة، وسلب عنك العقل والفكر وأخضعك لنواميس الطبيعة وأبان خرافات الأقدمين فيك - ومع ذلك أقر بجلالك وأخذ بدقة نظامك، وأقر بجهله أن يحيط بك، وأن يتعرف كل قوانينك - فأنت أنت أيام الجهل وأيام العلم، وأيامنا وأيام آبائنا

وبينا أنا في ذلك كله، وفوق ذلك كله، إذا دعاني الخادم إذا دعاني الخادم إلى التلفون فنزلت من السماء إلى الأرض

- آلو

- فلان - لعلك تذكرني

- أهلاً وسهلاً

- أريد أن أقابلك

- هل من شيء؟

ص: 6

- لقد تخرجت من كلية الآداب واشتغلت في عمل لا يناسبني، وماهية لا تليق بي، وأخواني كلهم خير مني، فلي سنوات لم آخذ علاوة ولم أرق إلى درجة

- نعم

- والآن هناك حركة ترقية وأريد مساعدتك

ثم حوار طويل، ورجاء مستمر، وشكوى بؤس، وعائلة يعولها، وماهية لا تكفيها، ودنيا ضاقت به وبها

في أي تفكير كنت، وإلى أين صرت، هذه السماء وهذه الأرض، أين هذا العالم العظيم السعيد الذي كنت أحلم به من هذا العالم الحقير التافه الذي نقلني إليه التلفون والذي يمضي فيه أكثر الناس أكثر أعمارهم، لقد غطسني بحديثه في ماء مثلج، فلأصعد ثانية إلى السماء ولأعاود ما كنت فيه. . . لا - لم تعد للفكر لذته ولا حديث النجم متعته

لقد قلب علم الفلك عقلية الإنسان رأسا على عقب، فقد كان يظن أنه سيد العالم، وأن أرضه هذه هي مركز العالم، وأن الشمس والقمر والنجوم تدور حولها فأبان له العلم أن أرضه ليست إلا هنة تسبح في الفضاء، وأنها شيء تافه في المجموعة الشمسية التي تدور حول الشمس، وأن كل العالم من أرض ونجوم خاضعة لقوانين واحدة كقوانين الجذب وما إليها، وأنه إن كانت أرضه هنة فكيف به هو - كل هذا غير عقلية الإنسان وأنزله من شامخة وسلبه غروره فأخذ يفكر تفكيراً جديداً وينظر لنفسه وللعلم نظراً جديداً ويربط نفسه بالعالم، ويرى أنه هو والعالم وحدة، وأن هذه الوحدة تخضع لقوانين ثابتة استكشف أقلها وغاب عنه أكثرها، ما استكشف منها يدل على عظمة باقيها وعمومها وسيطرتها - ولكن شيئا واحدا لم يتغير في الإنسان وهو ارتباط عواطفه بالنجوم، وأنها تجد السبيل دائما لقلبه، وتوحي إليه بعظمة ربها وربه

أحمد أمين

ص: 7

‌2 - الجمال البائس

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

جاءت أحلى من الأمل المعترض سنحت به فرصة؛ وعلى أنها لم تخط إلينا إلا خطوة وتمامها، فقد كانت تجد في نفسها ما تجده لو أنها سافرت من أرض إلى أرض، ونقلها البعد النازح من أمة إلى أمة

يا عجباً! إن جلوس إنسان إلى إنسان بازائه قد يكون أحيانا سفرا طويلا في عالم النفس؛ فهذه الحسناء تعيش في دنيا فارغة من خلال كثيرة، كالتقوى، والحياء، والكرامة، وسمو الروح، وغيرها؛ فإذا عرض لها من يشعرها بعض هذه الخلال، وينتزعها من دنيا اضطرارها وأخلاق عيشها ولو ساعة - فما تكون قد وجدت شخصا بل كشفت عالما تدخله بنفس غير النفس التي تدبرها في عالم رزقها. . .

ولا عجب من سحر الحب في هذا المعنى؛ فأن العاشق يكون حبيبه إلى جانبه، ثم لا يحس إلا أنه طوى الأرض والسماوات ودخل جنة الخلد في قبلة. . .

جلست ألينا كما تجلس المرأة الكريمة الخفرة، تعطيك وجهها وتبتعد عنك بسائرها، وتريك الغصن وتخبأ عنك أزهاره. فرأيناها لم تستقبل الرجل منا بالأنثى منها كما اعتادت؛ بل استقبلت واجبا برعاية، وتلطفاً بحنان، وأدباً من فن بأدب من فن آخر؛ وكان هذا عجيبا منها، فكلمها في ذلك الأستاذ (ح) فقالت: أما واحدة فإننا نتبع دائما محبة من نجالسهم وهذه هي القاعدة. وأما الثانية فإننا لا نجد الرجل إلا في الندرة؛ وإنما نحن مع هؤلاء الذين يتسومون بسيما الرجال - كحيلة المحتال على غفلة المغفل، وهم معنا كالقدرة بالثمن على ما يشتريه الثمن؛ ليسوا علينا إلا قهرا من القهر؛ ولسنا عليهم إلا سلباً من السلب، مادة مع مادة؛ وشر على شر؛ أما الإنسانية منا ومنهم فقد ذهبت أو هي ذاهبة

قال (ح): ولكن. . .

فلم تدعه يستدرك، بل قالت: إن (لكن) هذه غائبة الآن. . . فلا تجيء في كلامنا. أتريد دليلا على هذا الانقلاب؟ إن كل إنسان يعلم أن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين؛ ولكن امرأة منا تعلم أن الخط المعوج هو وحدة أقرب مسافة بينها وبين الرجل. . .

قالت: فإذا وجدت إحدانا رجلاً بأخلاقه لا بأخلاقها. . . ردتها أخلاقه إلى المرأة التي كانت

ص: 8

فيها من قبل، وزادتها طبيعتها الزهو بهذا الرجل، فتكون معه في حالة كحالة أكمل امرأة؛ بيد أن كمال الحلم الذي يستيقظ وشيكا، فأن الرجل الكامل يكمل بأشياء، منها وا أسفاه! منها ابتعاده عنا

ثم قالت: وصاحبك هذا منذ رأيته، رأيته كالكتاب يشغل قارئه عن معاني نفسه بمعانيه هو. . . .

وضحكت أنا لهذا التشبيه، فمتى كان الكتاب عند هذه كتاباً يشغل بمعانيه؟ غير أني رأيتها قد تكلمت واحتفلت، وأحسنت وأصابت، فتركتها تتحدث مع الأستاذ (ح) وغبت عنهما غيبت فكر؛ وأنا إذا فكرت انطبق علي قولهم: خل رجلا وشأنه، فلا يتصل بي شيء مما حولي. وكأن كلامها يسطع لي كالمصباح الكهربائي المتوقد، فقدمها فكرها إلي غير ما قدمت إلي نفسها، ورأيت لها صورتين في وقت معا، إحداهما تعتذر من الأخرى. . . . .

وكنت قبل ذلك بساعة قد كتبت في تذكرة خواطري هذه الكلمة التي استوحيتها منها: لأضعها في مقالة عنها وعن أمثالها وهي هذه الكلمة:

إذا خرجت المرأة من حدود الأسرة وشريعتها، فهل بقي منها إلا الأنثى مجردة تجريدها الحيواني المتكشف المتعرض للقوة التي تناله أو ترغب فيه؟ وهل تعمل هذه المرأة إلا أعمال هذه الأنثى؟

وما الذي استرعاها الاجتماع حينئذ فترعاه منه وتحفظه له، إلا ما استرعى أهل المال أهل السرقة؟ إن الليل ينطوي على آمتين: أولئك اللصوص، وهؤلاء النساء

وكيف ترى هذه المرأة نفسها إلا مشوهة مادامت رذائلها دائما وراء عينيها، وما دام بازاء عينيها دائما الأمهات والمحصنات من النساء، وليس شأنها من شأنهن؟ إن خيالها يحرز في وعيه صورتها الماضية من قبل أن تزل، فإذا خلت إلى نفسها كانت فيها اثنان إحداهما تلعن الأخرى، فترى نفسها من ذلك على ما ترى

وهي حين تطالع مرآتها لتتبرج وتحتفل في زينتها، تنظر إلى خيالها في المرآة بأهواء الرجال لا بعيني نفسها، ولهذا تبالغ أشد المبالغة؛ فلا تعنى بأن تظهر جميلة كالمرأة، بل مثمرة كالتاجر. . . وتكسبها بجمالها يكون أول ما تفكر فيه، ومن ذلك لا يكون سرورها بهذا الجمال إلا على قدر ما تكسب منه؛ بخلاف الطبع الذي في المرأة، فان سرورها

ص: 9

بمسحة الجمال عليها هو أول فكرها وآخره

إن الساقطة لا تنظر في المرآة - أكثر ما تنظر - إلا ابتغاء أن تتعهد من جمالها ومن جسمها مواقع نظرات الفجور وأسباب الفتنة، وما يستهوي الرجل وما يفسد العفة عليه، فكأن الساقطة وخيالها في المرآة رجل فاسق ينظر إلى امرأة لا امرأة تنظر إلى نفسها. . .

ذهبت أفكر في هذه الكلمة التي كتبتها قبل ساعة، ولم أستطع أن ألبس في هذه القضية وجه القاضي؛ فدخلتني رقة شديدة لهذا الجمال الفاتن الذي أراه يبتسم، وحوله الأقدار العابسة، ويلهو، وبين يديه أيام الدموع، ويجتهد في اجتذاب الرجال إليه، والوقت آت بالرجال الذين سيجتهدون في طرده عن أنفسهم

وتغشاني الحزن ورأت هي ذلك وعرفته؛ فأخرجت منديلها المعطر ومسحت وجهها به، ثم هزته في الهواء فإذا الهواء منديل معطر آخر مسحت به وجهي. . .

وقال الأستاذ (ح): آه من العطر! إن منه نوعا لا أستنشيه مرة إلا ردني إلى حيث كنت من عشرين سنة خلت، كأنما هو مسجل بزمانه ومكانه في دماغي. . .

فضحكت هي وقالت: إن عطرنا نحن النساء ليس عطرا، بل هو شعور نثبته في شعور آخر

فقلت أنا: لا ريب أن لهذه الحقيقة الجميلة وجها غير هذا؛ قالت: وما هو؟

قلت: إن المرأة المعطرة المتزينة هي امرأة مسلحة بأسلحتها، أفي ذلك ريب؟

قالت: لا

قلت: فلماذا لا يسمى هذا العطر بالغازات الخانقة الغرامية. . .؟

فضحكت فنونا؛ ثم قالت: وتسمى (البودرة) بالديناميت الغرامي. .

ونقلني ذلك إلى نفسي مرة أخرى، فأطرقت إطراقة؛ فقالت ما بك؟

قلت: بي كلمة الأستاذ (ح)، إنها ألهبت في قلبي جمرة كانت خامدة

قالت: أو حركت نقطة عطر كانت ساكنة. . .

فقلت: إن الحب يضع روحانيته في كل أشيائه، وهو يغير الحالة النفسية للإنسان فتتغير بذلك الحالة العقلية للأشياء في وهم المحب. (فعطر كذا) مثلا. . . . هو نوع شذي من العطر، طيب الشميم، عاصف النشوة، حاد الرائحة، لكأنه ينشر في الجو روضة قد ملئت

ص: 10

بأزهاره تشم ولا ترى؟ وإنه ليجعل الزمن نفسه عبقاً بريحه وانه ليفعم كل ما حوله طيباُ وانه ليسحر النفس فيتحول فيها. . .

وهنا ضحكت وقطعت علي الكلام قائلة: يظهر لي أن (عطر كذا) هاجرا أو مخاصم. . .

قلت: كلا، بل خرج من الدنيا وما نتشقت أرجه مرة إلا حسبته ينفح من الجنة

فما أسرع ما تلاشى من وجهها الضحك وهيئته، وجاءت دمعة وهيئتها. ولمحت في وجهها معنى بكيت له بكاء قلبي

جمالها، فتنتها، سحرها، حديثها، لهوها؛ آه حين لا يبقى لهذا كله عين ولا أثر، آه حين لا يبقى من هذا كله إلا ذنوب وذنوب، وذنوب

وأردنا أنا و (ح) بكلامنا عن الحب وما إليه ألا نوحشها من إنسانيتنا، وأن نبل شوقها إلى ما حرمته من قدرها قدر إنسانة فيما نتعاطاه بيننا. والمرأة من هذا النوع إذا طمعت فيما هو أغلى عندها من الذهب والجوهر والمتاع - طمعت في الاحترام من رجل شريف متعفف، ولو احترام نظرةٍ، أو كلمة. تقنع بأقل ذلك وترضى به، فالقليل مما لا يدرك قليله هو عند النفس أكثر من الكثير الذي ينال كثيره

ومثل هذه المرأة، لا تدري أنت أطافت بالذنب أم طاف الذنب بها؟ فاحترامها عندنا ليس احتراما بمعناه، وإنما هو كالوجوه أمام المصيبة في لحظة من لحظات رهبة القدر وخشوع الإيمان

وليست امرأة من هؤلاء إلا وفي نفسها التندم والحسرة واللهفة مما هي فيه، وهذا هو جانبهن الإنساني الذي ينظر إليه من النفس الرقيقة بلهفة أخرى، وحسرة أخرى، وندم آخر. كم يرحم الإنسان تلك الزوجة الكارهة المرغمة على أن تعاشر من تكرهه فلا يزال يغلي دمها بوساوس وآلام من البغض لا تنقطع! وكم يرثى الإنسان للزوجة الغيور، يغلي دمها أيضاً ولكن بوساوس وآلام من الحب! ألا فاعلم أن كل امرأة من مثل هذه الحسناء تحمل على قلبها مثل هم مائة زوجة كارهة مرغمة مستعبدة، يخالطه مثل هم مائة زوجة غيور مكابدة منافسة، ولقد تكون المرأة منهن في العشرين من سنها وهي مما يكابد قلبها في السبعين من عمر قلبها

وهذه التي جاءتنا إنما جاءتنا في ساعة منا نحن لا منها هي، ولم تكن معنا لا في زمانها

ص: 11

ولا في مكانها ولا في أسبابها، وقد فتحت الباب الذي كان مغلقا في قلبها على الخفر والحياء، وحولت جمالها من جمال طابعه الرذيلة إلى جمال طابعه الفن، وأشعرت أفراحها التي إعتادتها روح الحزن من أجلنا فأدخلت بذلك على أحزانها التي إعتادتها روح الفرح بنا

من ذا الذي يعرف أن أدبه يكون إحساناً على نفس مثل هذه ثم لا يحسن به؟

تتجدد الحياة متى وجد المرء حالةً نفسيةً تكون جديدةً في سرورها. وهذه المرأة المسكينة التي لا يعنيها من الرجل من هو؟ ولكن كم هو. . .؟ لم تر فينا نحن الرجل الذي هو (كم) بل الذي هو (من). وقد كانت من نفسها الأولى على بعد قصي كالذي يمد يده في بئر عميقة ليتناول شيئا قد سقط منه؛ فلما جلست إلينا اتصلت بتلك النفس من قرب، إذ وجدت في زمانها الساعة التي تصلح جسر على الزمن

قال الراوي: كذلك رأيتها جديدة بعد قليل، فقلت للأستاذ (ح): أما ترى ما أراه؟

قال: وماذا ترى؟ فأومأت إليها وقلت: هذه التي جاءت من هذه. إن قلبها ينشر الآن حولها نورا كالمصباح إذا أضيء، وأراها كالزهرة التي تفتحت؛ هي هي التي كانت، ولكنها بغير ما كانت

فقالت هي: إني أحسبك تحبني؛ بل أراك تحبني؛ بل أنت تحبني. . . لم يخف على هذا منذ رأيتك ورأيتني

قلت: هبيه صحيحا فكيف عرفته ولم أصانعك، ولم أتملق لك، ولم أزد على أن أجيء إلى هنا لأكتب؟

قالت: عرفته من أنك لم تصانعني، ولم تتملق لي، ولم تزد على أن تجيء هنا لتكتب. . .

قلت: ويحك لو كحلت عين (المكرسكوب) لكانت عيناك. وضحكنا جميعاً؛ ثم أقبلت على الأستاذ (ح) فقلت له: إن القضايا إذا كثر ورودها على القاضي جعلت له عيناً باحثة.

قال الراوي: وانظر إليها فإذا وجهها القمري الأزهر قد شرق لونه وظهر فيه من الحياء ما يظهر مثله على وجه العذراء المخدرة إذا أنت مستها بريبة؛ فما شككت أنها الساعة امرأة جديدة قد اصطلح وجهها وحياؤها، وهما أبدا متعاديان في كل امرأة مكشوفة العفة. . .

وذهبت أستدرك وأتأول، فقلت لها: ما ذلك أردت، ولا حدست على هذا الظن، وإنما أنا

ص: 12

مشفق عليك متألم بك؛ وهل يعرض لك إلا الطبقة النظيفة. . . من المجرمين والخبثاء وأهل الشر؛ أولئك الذين أعاليهم في دور الخلاعة والمسارح وأسافلهم في دور القضاء والسجون؟

فقالت: اعترف بأنك لم تحسن قلب الثوب فظهر لكل عين أنه مقلوب؛ ولكنك تحبني. . . . وهذا كاف أن ينهض منه عذر

قال الأستاذ (ح): إنه يحبك، ولكن أتعرفين كيف حبه؟ هذا باب يضع عليه دائماً عدة من الأقفال

قالت: فما أيسر أن تجد المرأة عدة من المفاتيح. . .

قال: ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه، فكأنه هو وحبيبته تحت أعين الناس، ما تطمع إلا أن تراه وما يطمع إلا أن يراها، ولا شيء غير ذلك. ثم لا يزال حسنها عليه ولا يزال هواه إليها، وليس إلا هذا

قالت: إن هذا لعجيب

قال: والذي هو أعجب أن ليس في حبه شيء نهائي، فلا هجر ولا وصل؛ ينساك بعد ساعة ولكنك أبدا باقية بكل جمالك في نفسه. والصغائر التي تبكي الناس وتتلذع في قلوبهم كالنار ليجعلوها كبيرة في همهم ويطفئوها وينتهوا منها ككل شهوات الحب - تبكيه هو أيضا وتعتلج في قلبه، ولكنها تظل عنده صغائر ولا يعرفها إلا صغائر؛ وهذا هو تجبره على جبار الحب

قال الراوي: ونظرت إليها ونظرت، وعاتبت نفس نفساً في أعينهما، وسألت السائلة وأجابت المجيبة، ولكن ماذا قلت لها وماذا قالت؟

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي

ص: 13

‌لأحياء الآداب العربية والتراث القومي

ومهمة دار الكتب المصرية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

يستطيع الذين درسوا الآداب التاريخية الغربية، وقرأوا تواريخ الأمم الغربية في تلك الموسوعات والآثار الجليلة التي تمتاز بطابعها العلمي الدقيق، أن يقولوا بحق تاريخ الإسلام والأمم الإسلامية لم يكتب حتى عصرنا

إن الآداب العربية تزخر بالموسوعات والآثار التاريخية في كل عصر، وكل قطر؛ ومنها بلا ريب آثار كثيرة تمتاز بدقتها ونفاستها؛ ولكن هذه الآثار تقف أولاً منذ عصر بعيد، فلا تكاد تجد في العربية موسوعة أو مؤلفاً تاريخياً جليلاً منذ القرن العاشر الهجري، وهي من جهة أخرى لا يمكن أن تعتبر أكثر من مادة لتغذية المؤرخ الحديث بما يحتاج إليه من التفاصيل والوثائق، ومن الأنصاف أن نقول إن هذه المادة تمتاز بغزارتها في عصور كثيرة، ولكن من الأسف أن أغلبها ما زال يحتجب عن أعيننا في أروقة المكاتب والمجموعات الخاصة، فلا يصل إليها الباحث إلا بعد الجهد المضني

وهذه مسألة تستحق الاهتمام من كل أولئك الذين يتصلون بالمباحث الإسلامية والتاريخية، وأولئك الذين يشرفون على توجيه الثقافة القومية، وفي مقدمتهم وزارة المعارف العمومية والجامعة المصرية. فإلى الآن لم يكتب تاريخ مصر الإسلامية، ولا مصر الحديثة بما يجب من دقة وإفاضة، وإلى الآن لم تعرف مصادر التاريخ المصري معرفة حسنة حتى من كثير من أولئك الذين يعنون بكتابته أو بتدريسه؛ وإنه لما يبعث إلى الدهشة كما يبعث إلى الأسف أن نجد الكتب الدراسية التي يعتمد عليها الشباب في دراسة التاريخ المصري أو الإسلامي بوجه عام، خلاصة مشوهة اشتق معظمها من المؤلفات الأجنبية، وهي لذلك تفيض بالأخطاء والمثالب، وينقصها روح الأنصاف والتمحيص؛ هذا بينما تلقى الكتب التي تعنى بتواريخ الأمم الأجنبية عناية أوفر لأنها تعتمد في مادتها على المصادر القومية المنظمة، ويجد فيها الشباب من التبسط والتمحيص ما لا يجده في كتب التاريخ المصري أو الإسلامي

إن دار الكتب المصرية تزخر بمئات وألوف من مصادر التاريخ الإسلامي وتاريخ مصر

ص: 14

الإسلامية بنوع خاص، وبين هذه المصادر موسوعات جليلة في مختلف العصور، ومنها ما كتبته أقلام معاصرة قديرة؛ وفيها من المواد والتفاصيل والوثائق ما يغتبط له الباحث ويحقق غايته. ولكن كم من هذه المصادر الجليلة أتيح له أن يرى الضياء حتى يومنا؟ ومع ذلك فأن هذه الآثار التي أخرجت حتى اليوم لم تلفت أنظار الباحثين والقراء لأنها لم تنل حقها من التعريف أولاً، وثانياً لأن معظمها ما زال فريسة الناشرين المتجرين الجهلة، يخرجونه في أثواب عتيقة منفرة يقبل عليها الباحث مرغماً ويلقى في مراجعتها من المشقة ما يلقاه في مراجعة المخطوطات القديمة ذاتها

هذا وما زالت المراجع والموسوعات القديمة التي وضعت بين أيدي الباحثين والكتاب مستقى خصباً لنقل النصوص والروايات كما كتبت منذ مئات السنين؛ وما زال معظم المؤلفات التاريخية المعاصرة يقوم على هذا النقل المجرد؛ ومثل هذه المؤلفات لا قيمة له من الوجهة العلمية، لأن عصر النقل المجرد انتهى منذ بعيد، وأصبح التاريخ في عصرنا علماً جليلاً يقوم على المباحث والمقارنات العلمية والنقدية والاستنباط المسند، وأصبح وثيق الصلة بكثير من العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فمن المؤلم أن يرغم الشباب في هذا العصر الذي يعتبر فيه التاريخ مرآة الحضارة ودعامة للعاطفة القومية، على أن يقرأ التاريخ الإسلامي والتاريخ القومي في هذه الكتب الممسوخة التي استخرجت دون بحث أو تمحيص من الروايات القديمة، ولا فضل لمصنفيها - إن كان ثمة فضل - إلا في الاختصار والتبويب والطبع الأنيق

وقد آن أن نتحرر من هذا الجمود الذي يشل ثقافتنا التاريخية، ويحجب عنا تراث الماضي الزاخر، وأن نستخرج من هذا التراث نفائسه، ونقدمها لجيل العصر في أثوب العصر وأساليبه. وأول ما يجب لتحقيق هذه الغاية في رأينا هو أن يبذل جهد صادق للتعريف بهذا التراث وقيمته وأمكنة وجوده. وهذه مهمة تستطيع دار الكتب المصرية أن تؤدي فيها أعظم دور. ولقد عكفت منذ أعوام على دراسة هذا الجانب من تراثنا القومي، فكتبت عدة دراسات ومباحث عن أقطاب الرواية المصرية مثل ابن عبد الحكم والكندي وابن زولاق والمسبحي والقضاعي والنوريري والعمري والقلقشندي والمقريزي وابن تغري بردى والسخاوي وابن اياس، استعرضت فيها تراجمهم وجهودهم وآثارهم المنشورة والمخطوطة

ص: 15

استعراضاً وافياً، وعنيت فيها عناية خاصة بالتعريف بعشرات بل مئات من الآثار والمصادر الجليلة التي تتعلق بتاريخ مصر الإسلامية، والتي ما زالت مخطوطة بعيدة عن التعريف والتداول تحجبها ضلمات النسيان في أروقة دار الكتب. بيد أن مثل هذه المجهودات الفردية لا يمكن أن تحقق الغاية المنشودة. وعندنا أن دار الكتب المصرية يجب عليها أن تعتني بوضع فهرس خاص لمصادر التاريخ المصري العربية المنشورة والمخطوطة بنوع خاص، تتحرى في وضعه أحدث الطرق العلمية وتصنف المصادر فيه حسب العصور، وتوصف محتوياتها وصفاً علمياً دقيقاً؛ ولا تقتصر في ذلك على المصادر الموجودة، بل تضمنه أيضاً ذكر المصادر والآثار المخطوطة المحفوظة في مختلف المكاتب الأجنبية بالاعتماد على فهارس هذه المكاتب أو بإرسال مندوب أو أكثر للخارج لدراستها وتدوين أوصافها وتصوير ما يجب تصويره منها. ثم يوضع إلى جانب هذا الفهرس العربي، فهرس آخر يتضمن جميع المصادر والآثار الأجنبية المتعلقة بمصادر التاريخ المصري في جميع العصور، وفي جميع اللغات الحية، ويصنف تصنيفا علميا دقيقا؛ وتبذل دار الكتب جهدها لاستكمال ما نقصها من هذه المؤلفات، وينشر الفهرسان، ويصبح كل منهما مرجعاً نفيساً لمصادر التاريخ المصري ووثائقه؛ وبذلك تحظى آثارنا المحجوبة بشيء من التعريف، ويسهل سبيل البحث على الباحثين، ويفتتح عهد جديد لدراسة التاريخ المصري وكتابته

ثم يجب إلى جانب ذلك أن تدرس جميع الوثائق المتعلقة بتاريخ مصر وأنظمتها الإدارية والاجتماعية والاقتصادية مما تحتفظ به دار الكتب ذاتها، أو الدفتر خانة المصرية، أو وزارة الأوقاف أو غيرها؛ ومن المعروف أنه توجد لدينا طائفة كبيرة من هذه الوثائق، ولا سيما مما يتعلق بالعصر التركي، وفيها الكثير مما يلقي الضياء على طبيعة الأنظمة الإدارية والاجتماعية والثقافية في مصر في هذا العصر. ومعظم هذه الوثائق التي تحتفظ الدفتر خانة المصرية بكثير منها محررة بالغة التركية، ويقتضي ترجمته أو تلخيصه. ونذكر أن الأنظار اتجهت منذ أعوام إلى هذه الوثائق، وعرفت أهميتها وقيمتها التاريخية، وقيل لنا إنه سيعنى بترجمتها وتنسيقها، ولا نعلم ماذا تم بعد ذلك في شأنها. بيد أنه لا ريب أن هذه الوثائق المختلفة، ومنها بوزارة الأوقاف حجج أوقاف قديمة ترجع إلى القرن التاسع

ص: 16

الهجري؛ إذا نظمت ولخصت في فهرس دقيق جامع، تكون مرجعاً نفيساً لتاريخ مصر الإداري والاجتماعي والاقتصادي والقضائي في هذه العصور

وتوجد ثمة في هذا الميدان مهمة علمية أخرى تستطيع دار الكتب والجامعة المصرية والجامعة الأزهرية أن تضطلع بها، هي نشر طائفة من الآثار والمصادر الإسلامية والمصرية الجليلة مما تغص به دار الكتب المصرية. ولقد أخرجت لنا مطبعة بولاق ثبتا حافلا من هذه الآثار الجامعة في أواخر القرن التاسع عشر، فكانت مأثرة علمية جليلة لولاها لبقيت المكتبة العربية عاطلة حتى يومنا من أمهات المصادر والمراجع الكبرى؛ وقد أرادت دار الكتب أن تستمر في الاضطلاع بهذه المهمة، وما زالت تعمل لإخراج بعض الموسوعات والآثار الجليلة؛ وقد أخرجت بعض هذه الآثار، ولا سيما موسوعة (صبح الأعشى) للقلقشندي، ولكن عملها في ذلك بطيء جدا، ينقصه الطابع العلمي قبل كل شيء؛ ومن الواجب أن تنظم هذه المهمة تنظيما علميا، وأن تشرف على أدائها هيئة فنية قديرة، ومن الواجب أن تضاعف الجهود لإخراج هذه الآثار والموسوعات في فترات معقولة، إذا ما زلنا نتلقى أجزائها في فترات متباعدة، وقد يستغرق إخراج الجزء الواحد عامين أو ثلاثة. ثم إن الجامعة المصرية والجامعة الأزهرية تستطيع كلتاهما أن تقوم في هذا السبيل بمجهود قيم؛ ولا نعلم أن إحدى الجامعتين قامت إلى اليوم بإخراج شيء يذكر من الآثار الإسلامية المخطوطة، هذا بينما ترى الجامعات والهيئات العلمية الأوربية والأمريكية تشرف باستمرار إلى إخراج الكثير من هذه الآثار؛ ويكفي أن نذكر في هذا الصدد أن كتاب (النجوم الزاهرة) لأبي المحاسن بن تغري بردى الذي تقوم الآن بإخراجه دار الكتب المصرية، قد أشرفت على إخراجه منذ أكثر من عشرين عاما جامعة كاليفورنيا الأمريكية، وقد تولى نشره وتحقيقه المستشرق الأمريكي وليم بوير؛ وان الجزء الفاقد من تاريخ مصر لابن اياس الذي أخرجته مطبعة بولاق منذ أربعين عاما، تولى إخراجه الأستاذ باول كاله الألماني بإشراف جمعية المستشرقين الألمانية وهكذا. ومن واجب مصر، باعتبارها زعيمة الثقافة العربية والإسلامية أن تأخذ بنصيبها من حركة أحياء الآثار الإسلامية على يد هيئاتها العلمية الكبرى، وفي مقدمتها الجامعتان المصرية والأزهرية. ولا ريب أن إشراف الجامعتين الكبيرتين على هذه الحركة يسبغ عليها قسطا من الطابع العلمي الذي ننشده

ص: 17

لآثارنا وموسوعاتنا؛ ذلك أن ما ينشر منها اليوم على أيدي الناشرين المتجرين يخرج في صور يرثى لها من المسخ والتحريف؛ وليس من المبالغة أن نطلب بهذه المناسبة إلى دار الكتب المصرية أن تسن من القواعد والقيود لاستنساخ المخطوطات ثم لنشرها ما يكفل إخراجها على أيدي ناشرين من الطراز الأول، يقدرون قيمتها العلمية ويخرجونها في أثواب محترمة، ويعرضونها للبيع بأثمان لا تخرج عن حد الاعتدال

هذه خواطر واقتراحات نعتقد أنها تجول في أذهان كثير ممن يعنون بالمباحث الإسلامية وحركة إحياء الآداب العربية، بل نعتقد أنها ليست بعيدة عن أذهان المشرفين على مصاير تعليمنا وثقافتنا. وإذا كنا نخص ثقافتنا التاريخية القومية وإحياء تراثها ومراجعها بشيء من الاهتمام، فذلك لأننا عكفنا على دراسة هذه الناحية من حركتنا العلمية والأدبية مدى أعوام طويلة، ولمسنا فيها أوجه النقص والعمل بصورة واضحة؛ وقد كنا ومازلنا نعتقد دائما أن دار الكتب المصرية، وهي أعظم مستودع لتراثنا المنسي، هي أول وأولى هيئاتنا بالعمل لتحقيق هذه الغاية، ذلك لأنها تضطلع بالفعل بناحية مهمة من هذه المهمة الجليلة؛ وكل ما يتطلب إليها هو أن تعمل لتنظيمها وتوسيع مداها على أسس علمية فنية تكفل أداءها بصورة مرضية؛ ولو عنيت جامعتنا المصرية، وجامعتنا الأزهرية بأن تأخذ كلتاهما بنصيبها من هذه الحركة لاكتملت لدينا أسباب النهضة، ولاستطاعت مصر أن تضطلع برسالتها في إحياء الآداب العربية والإسلامية وواجبها في إحياء تراثها القومي.

محمد عبد الله عنان

ص: 18

‌حول 14 سبتمبر

للأستاذ محمد محمود جلال

أرأيت كيف غير (الكورنيش) من الرمل وكيف حكم في حظوظ البقاع؟! هكذا سألت نفسي وبدأت الحديث مع صديق رافقني إلى سيدي بشر في أول سبتمبر نبحث عن دار ننزلها تحت حكم ظروف طارئة - بعد أن هجرت الإسكندرية كمصيف منذ خمس سنوات

وكأن الله يريد أن يقفنا على المزيد من آياته في تطور الكون وأنه جل شأنه قد انفرد بالدوام، فما تحدثنا حتى دلفت بنا السيارة إلى اليمين تقطع شارعاً ضيقاً قصيراً لم أره من قبل، قام على أحد جوانبه خلاء وعلى الآخر بناء ضخم يوشك على التمام، وقد كدت أنكر الربوع وكأنها غير تلك التي قضيت بها الصيف أعواماً ثلاث متواليات. وما وصلنا آخر الشارع حتى طالعنا منزل يتصل بالماضي ببنائه وموقعه اتصاله بذكرياته، ويجفوه بلونه الجديد، وبهذا اللون وحده يتقرب إلى الحياة الجديدة وما طرأ على (سيدي بشر)

هذا منزل (لافرلا) ثالث الأبنية بتلك المحلة نزلناه أول مرة منذ تسع سنين يوم كان (سيدي بشر) في الصف الأخير بين المصايف لا تسمع له بينها ذكرا، فإذا ضمك مجلس مع المقبلين على التصييف شاقك ما تسمع عن (سان استفانو) وفخامة المنازل حوله، وطيب الهواء في (كارلتون)، وسهولة المواصلات في (سان جورج)، وتحس كأن البلدية ائتمرت مع الزمان القلب فحبت الأسماء الأجنبية بخير الأمكنة، وخصت هذه بالعناية البالغة بينما تركت الجهات الوطنية بلا ميزة، وعطلتها من كل حيلة!

غير أني أحسست لأول سكناي ظاهرة غريبة في (سيدي بشر)، فالرطوبة أقل كثيرا من جميع المحطات. والرطوبة شر ما يرهقني في الإسكندرية صيفاً، وهذه ميزة تعدل في نظري جميع المزايا الأخرى. ميزة تغلب أثرها على ما كنت أرى من دهشة حين أذكر بين أخواني أين أقضي الصيف وكأنهم لم يسمعوا بمحطة تدعى (سيدي بشر)

ومازلت أذكر من فكاهات تتصل بهذا المعنى أن المرحوم محمد نافع باشا، وكان قطباً للحلقة الأولى بالكازينو - وكنا ندعوه المصطبة - كان يدعوني سيدي بشر إذا ناداني إشارة إلى انفرادي بينهم بهذا المصيف، أو إلى اكتشافي له إذا شئت الحق

و (سيدي بشر) ذاته هو المحلة المزدحمة اليوم، وهو الكعبة للطبقة التي كانت تنفر منه

ص: 19

وتعده شيئاً غير الرمل وشيئاً غير المصيف منذ تسع سنوات، فثم منازل أنيقة على شاطئه الجميل، وهذه أفواج تختص (البلاج) بخير ساعاتها، وأفواج أخرى تسارع بسيارتها تتصيد المقاعد الخالية فيما انتثر فيه من مقاهٍ ومجالٍ للسرور

وإذا نظرت إلى (الربوع) وجدتها

تَشقي كما تَشقى العباد وتسعد

أما يوم نزلنا سيدي بشر فلم يكن به غير ثلاثة أبنية وبضعة حوانيت في بناء مستقل - ولم يكن في الجيرة ما ينغص إلا تلك الأكشاك الخشبية وقد صفت على نظام في أجمل بقعة تشرف على شاطئه، وقد خصصت لأسر الضباط الإنكليز يقوم على حراستها نفر من أولئك الذين استحلوا الكل فلم يعفوا عن الأجزاء

ولم يكن للإنجليز أن يختاروا إلا خير البقاع، وأحسن المواقع، فهذه النقطة السوداء شهادة لسيدي بشر بامتيازه

وقد استتبعت هذه الجيرة الممضة أن يأوي إلى الجوار نفر من أخلاط الدخلاء يبيعون الجنود الخمور وأخرى الحاجات، يبجلونهم ويختصونهم بخير ما حوت حوانيتهم حتى ليمنعون المصري ما يطلب بأي ثمن

ولم تكن الحراسة بين المصريين عبئاَ ولا ذات مشقة، فهؤلاء الحراس يودعون كرم الخلق المصري: العرض والحياة والمال. وينفقون ليلهم في تلك الحوانيت يشربون إلى السكر، ويسهرون إلى الصبح

بعد أسبوعين، وفي ليلة واحدة انعكست الآية وسمعنا بمختلف الرطانات إشادة بالخلق المصري والكرم المصري والنبل الوطني بين الجزع والفزع مما حدث، فقد استطاب الجند الضيافة، وأساغ الشرب ما لا يسوغ، وذاق المحتفون من الأخلاط بعض آثار الاحتلال في عتادهم وفي أنفسهم، وشهدنا آية الصبر في لحظة، وكسبنا للقضية الوطنية أنصاراً حتى بين الأقداح وفي أحقر الحوانيت

ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت

على عينه حتى يرى صدقها كذباً

سألني بكر أولادي ذات صباح لمن هذه الأرض التي يقوم عليها (الكامبو)؟ قلت للبلدية. قال وما هي البلدية؟ أجبت تقريبا للمعنى من ذهن الطفل: هي للحكومة. قال وهل يؤدون أجرتها كما أدينا للخواجه (لافرلا)؟

ص: 20

قلت يا بني لم هذا الإلحاف؟ وفيم الإعنات؟ وما أريد أن أبكر بالغصص إلى قلبك. أعلم أن هؤلاء الإنجليز دخلوا مصر بحجة الدفاع عن عرش الخديو وحمايته، ولم يكن ثمة تهديد لعرش ولا هدر لحياة؛ وما زالوا يجدون في كل يوم سبباً لأطالة الضيافة، فهم يأخذون هذه الأرض بلا أجر كما احتلوا البلاد. قال، لو أننا نشتري منها قطعة صغيرة ونبني بيتاً صغيراً فلا نؤدي أجرة في كل عام. قلت: فكرة اقتصادية وجيهة، ولكن الإنجليز؟ قال: سأخرجهم حين أصبح ضابطاً. ألم تقل بالأمس إنك ستدخلني المدرسة الحربية؟

قلت: صدقت! ولقد قلت وأسأل الله إذا امتد الأجل أن توفق لخدمة البلاد، وادعوا الله لك ولإخوانك بحياة حرة في جو حر

وأردت أن ينقطع الحديث المشؤوم وعملت على تغيير مجراه فاستعجلته لنخرج على نية شراء بعض ما يلزمه، وسرنا نقصد محطة الترام فوجدنا حانوتاً مغلقاً وقد تأخر عني خطوة وانشغل به بصره، فلما ذكرته بالسير قال: ألم تر؟ قلت ماذا؟ قال دكان الخواجه (خ)، والله يا بابا لقد بكيت أمس إذ قلت لعسكري البوليس صباح أمس حين وقف صاحب الدكان يحكي له ما جرى - خذ العساكر إلى القرقول فلم يفعل!!

سأني أن يستمر الحديث على هذه الوتيرة وقلت يا بني لقد تردد الدمع في مآقي الوزير شريف باشا من قبل حين رأى صفوف الاحتلال في طريق الخديو من المحطة إلى عابدين! ولا شك أنهم سيخرجون يوما بأذن الله، ولن ترى من ذلك شيئاً؛ ولقد رأى أجدادك أبشع من ذلك وأشنع، فقد روى (هنس زيزنر) أنهم كانوا يقتلون جرحى المصريين في التل الكبير؛ وما زلنا نرى من أحفادهم من يحتمعون بهم ومن يثقون. فيوم لا ترى واحداً من هذا الفريق لا ترى على أرض الوطن محتلاً، ولولاه ما لحق القاهرة ذلة 14 سبتمبر سنة 1882

دارت الأيام، وعدت إلى سيدي بشر وفي مكتبي الأول أكتب رسالتي وأشخص بين الفينة والفينة إلى البحر فلا أرى معسكراً يحجب، ولا علامة تثير الغصص وتذكي الألم، قلت مع الرسول الأمين عليه صلاة الله وسلامه:(ويعجبني الفأل)

لعل ما ترى من استنامة للرفاهية أشبه بهذا الطلاء الزائل الذي كاد يغير من منزل (لافرلا) - لعل الجفوة التي ترى بين رجالنا وشبابنا للمبادئ القويمة أشبه بتلك التي كنا نرى

ص: 21

ونسمع عن سيدي بشر منذ تسع سنين، ولعل ما يحجب عنا محاسن الخلق الوطني أشبه بخشبات المعسكر التي تكسرت وزالت، ولعل القوة الخارقة الطارئة التي اعتبرها علماء الاجتماع وأساطين التاريخ ميزة الخلق المصري حين هب بعد قمبيز، ومثلت الحكم الإسلامي بالطابع الخاص في الدول الطولونية. والأخشدية والأيوبية، وحكمت القومية المصرية في عهد المماليك ومحمد علي وحررت البلاد من الإنجليز في 19 سبتمبر سنة 1807، لعلها بأذن الله قريب منا! ولعلها على الأبواب! ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب

(سيدي بشر)

محمد محمود جلال المحامي

ص: 22

‌صور حجازية (طبق الأصل)

الإعدام!

للأستاذ علي الطنطاوي

سيقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: هذه وحشية، هذه همجية، هذا لا يكون في القرن العشرين، قرن الحرية والنور، هذا يأباه فلاسفة العالم المتمدن؛ المسيو فلان، والمستر علان، والهر جرمان، والسنيور إيطاليان

ويقول الحق: هذا واجب، هذا حسن، هذا دواء القرن العشرين، قرن الاستعمار والاستعباد، وإبادة الضعفاء، واغتصاب الحريات، هذا ما أمر به الله، وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر امرؤ مسلم: أيتبع أمر الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم يتبع رأي المسيووات والمساتير، والهررة والسنانير؟!. . .

سمعت - وأنا في مكة - أن أمراً سيقع بعد صلاة الجمعة (آخر المحرم سنة 1354) فجعلت أرقب وأنتظر، لا أحب أن أسأل أحداً، كيلا تفوتني لذة المفاجأة وروعة الحدث. ثم إن الرجل في الحرم كالسائح في أرض الله، لا يدري من يسأل؛ ولا يعرف من يخاطب، وبينا هو في (الهند) يسمع لغة الهنود ويرى أزياء الهنود، ويبصر عادات الهنود، إذا به ينتقل بعد خطوات إلى (نجد) فإذا هو بين النجديين، وإذا كل شيء من حوله عربي نجدي، ثم يخطو فإذا هو في مصر، بين المصريين، يسمع حديث مصر. في لهجة مصر. . . فكأن الدنيا كلها قد استقرت في الحرم، تستظل بالبيت العتيق، وتطوف به، وتجثو خاشعة من حوله، فلا يحس الرجل وهو فيه بأن وراءه دنيا، أو ظاهر جدرانه حبا من الناس، أو عامراً من الأرض

حتى إذا قضيت الصلاة، وانفتل الإمام، ابتدر الناس أبواب الحرم يستبقون إلى شارع الحكومة - وهو في أسفل أجياد، يمتد من شمال الصفا حتى يجاوز باب إبراهيم - فلم تكن إلا هنيات حتى امتلأ الشارع على سعته بالناس، ولم يبق فيه موطئ قدم، فجعلت أزاحم الناس لأخلص إلى الساحة، فلا أتقدم خطوة؛ ومن لي باختراق هذا السد الهائل من الأجساد، واجتياز هذا الخضم من الناس؟ فأيست واحتسبت مصيبتي في فوت المشهد عند الله، وهممت بالعودة إلى الحرم، وإذا أنا بالشيخ يوسف ياسين (سعادة سكرتير جلالة الملك)

ص: 23

فتعلقت به وقلت:

- والله لا أدعك حتى تبلغ بي الساحة

فأعتذر وتملص، فما نجا ولا تخلص، وكيف يتملص مني وقد كنت كالغريق وجد سفينة النجاة، أفيدعها بعدما وجدها؟ فأجاب على كره وسار وأنا أتبعه، والبحر ينشق له كأن بيده عصا موسى. . . وما للناس لا يتفرقون من بين يديه حذرين خائفين، وهو سكرتير الملك؟ حتى إذا بلغ بي درج القصر عاد لشأنه وتركني، فصعدت فلم أجد مكاناً أقف فيه، ووجدت الغرف كلها ملأى بالموظفين والمقربين والحاشية فقادوني إلى غرفة فخمة أعدت للأمير فيصل (ابن الملك ونائبه على الحجاز) ولأهل البيت: بيت الملك

ولم لا يفعلون وأنا ممن يكتب في الصحف، والإكرام إنما يكون لمن يكتب في الصحف، أو يملك سبيلاً من سبل الدعاية، والحذر إنما يكون من هؤلاء. فذكرت قالون وزير لويس السادس عشر، حين رأى أن خير طريقة لتقوية الحكومة الضعيفة، وإغناء الخزانة الفقيرة، أن تقيم الحكومة الولائم الفخمة وتنفق الأموال الطائلة، تشتري ألسنة المادحين، وأقلام الكاتبين حتى يقال: إنها غنية. . فقالوا: إنها غنية، لأنهم أكلوا خبزها ولكن الخزانة قالت: إني فقيرة! وقال التاريخ: إن قالون رقيع. . .

وقفت في النافذة بين فتية من آل البيت؛ فيهم ابن للأمير فيصل في نحو الثانية عشرة من عمره، ما رأيت في لداته أثقب منه ذهناً، ولا أصح جواباً، ولا أحد ذكاء؛ وأطللت على الناس، وإذا هم أخلاط من كل جنس ولغة وزي، فمن رجل عباية على رأسه عقال أسود على صماد أحمر قد التحف بعباية رقيقة على ثوب أبيض، وقد حلق لحيته كلها إلا نقطة واحدة من العثنون، وهلالاً دقيقا من تحتها، نما فيه صف واحد من الشعر كأنما هو مروحة تدلت على صدره: سنة يتبعونها ما أنزل الله بها من سلطان. . . وهذا هو النجدي

ومن رجل يلبس ثوباً رقيقاً فوقه رداء قصير (جاكيتة) من قماش هفهاف، وعلى رأسه قلنسية (طاقية) بيضاء، إذا مشى في الشمس تعمم عليها بملحفة بثقل الفراش، يتقي بها شمس مكة الحادة المخيفة وهو حليق اللحية صغير الشاربين. . . وهذا هو الحجازي

ومن رجل وسخ الثياب، ممزقها، لا تدري عن ثيابه ما لونهما وما هي، وعلى رأسه حبل قد وضعه مكان العقال. . . وهذا هو الأعرابي

ص: 24

ومن رجل يلبس ثوباً متقن الصنع، عليه عباءة جميلة شفافة وعلى رأسه عقال مذهب، أو يلبس بدل الثوب حلة (بدلة) بيضاء وهو حليق اللحية، إلا قليلاً منها يبقيه بمثابة الدلالة على أنه ملتح. . . وهذا هو السوري. وأكثر السوريين في الحجاز موظفون في الوظائف الفنية، وأقلهم تجار

ومن رجل على رأسه عمة ضخمة فخمة كعمائم السلاطين من آل عثمان - يوم كان لآل عثمان سلاطين، وكان لسلاطينهم عمائم - وقد أرخى بين كتفيه عذبة طويلة، وله لحية كثة مستديرة، وشاربان طويلان، أما ثيابه فقميص تحته سراويل بيض، تبلغ الكعبين. . . وهذا هو الهندي

ومن شاب حليق الوجه كله (على الأسلوب الأمريكاني) نظيف الثياب مهفهف قد ائتزر بمئزر (فوطة) لفها على خصره النحيل لفاً محكماً، واجتزأ بها عن السراويلات، وارتدى عليها رداء قصيراً رقيقاً، وربما بلغ ثمن المئزر من هذه المآزر خمسة الجنيهات أو أكثر. . . وهذا هو الطالب الجاوي، وما أكثر هؤلاء الطلاب في مكة

ومن عبد أسود، جعد الشعر، أفطس الأنف، ضخم الشفة، عارٍ إلا من خرقة تستر عورته أو بعض عورته. . . وهذا هو الأفريقي الأسود

ومن. . . ومن أمم ربنا التي لا تعد ولا تحصى

وكان القوم مختلفين في أزيائهم ولغاتهم وأجناسهم، ولكنهم تجمع بينهم هذه القبلة التي قطعوا السباسب، وخاضوا البحار، ليواجهوها، ويقفوا أمامها، ويتعلقوا بأستارها

ثم أقبل الجند، وهم بثياب عربية. قد تمنطقوا عليها بمناطق الرصاص، فاصطفوا من حول الساحة، ثم أقبل الأمير فيصل في موكبه، يحف به طائفة من عبيده الأمناء الأشداء الأوفياء، فصعد إلى الغرفة التي نحن فيها فجلس في شرفتها الكبرى

ثم جيء بالرجل؛ وهو قصير كز ساهم، ما عليه إلا قميص واحد مشقوق الجيب، وكان أصفر قد دمع وامتقع لونه، وغاض من وجهه الدم، مجموعة يداه إلى قفاه، قد مات من قبل الممات. يقوده جندي آخذاً بتلابيبه، حتى إذا بلغ به الساحة خلاه فهوى جاثياً على ركبتيه، فلبث لحظة ما يفتح عينيه من الجزع، ثم ارتدت إليه نفسه بعد حين، فجعل يقلب عينيه في الناس فيرى كل شيء من حوله ميتاً لا حياة فيه، فكأن الدنيا قد أظلمت في ناظريه حين

ص: 25

يئس من الحياة، كبيت أطفئ فيه المصباح في ليل داج

وجعل يرى الشمس مشرقة، ويرى الجند جائين ذاهبين، يدلون بشاراتهم وسلاحهم، ويرى القصر قائماً يحمل سطوة الحكومة وهيبة السلطان. . . ولكنه لا يرى من ذلك كله إلا صوراً مطموسة، تطلع عليه من خلال حلم عميق. . . ثم تضاءلت هذه الصور واختلطت، ولم يبقى قيد ناظريه إلا الكعبة، يبصرها من باب الحرم، فجعل يحرك شفتيه بالتوبة والاستغفار ويشير بسبابته إشارة التوحيد، ثم أغمض عينيه وجرفه سيل من العواطف المتباينة فغاب في ذهول عميق، ولم يعد يفكر في شيء

وجيء بالمجرم الآخر، وهو عبد أسود، ضخم الجثة، غليظ الشفتين، كثير الشعر، كأنه غول هائل، أو وحش مروع، وقد قيده الجند، وجمعوا يديه إلى عنقه وأقبلوا يمسك به ستة منهم وهو يصاولهم ويقاومهم، ويزمجر ويصرخ صراخا شديداً، وهم يزبرونه ويقرعونه حتى انتهوا به إلى الساحة، فاجتمعوا عليه فأضجعوه على سرير من الخشب وشدوه إليه شداً وثيقاً، وأقاموه بحيث يرى رفيقه ويبصر مقتله

وكأن العبد قد اهتجمت نفسه، وأدركه الخور، فسكت وسكت الناس وعلقوا أنفاسهم وشخصوا بأبصارهم

وجعلت أطل من الشباك أبحث عن الجلاد فلا أرى أحداً، وأفتش عمن يتلو حكم الإعدام فلا أجده. وأرى سمو الأمير يشير بيده، فإذا عبد ضخم يبرز من بين الصفوف، وبيده سيف صقيل مسلول، فيأتي الأعرابي من ورائه وينخسه بالسيف، فينتبه ويمد عنقه مستطلعاً، فيهوي العبد بالسيف على قذاله، ثم يحز به الرأس حزّا، فلا تمضي ثوان إلا والرأس قد بتر عن الجسد، من القذال إلى أعلى الصدر، وطاح ثلاثة أمتار قبل أن تند من المقتول صرخة، ونفر الدم من عنقه كأنه نافورة، ومال الجسد قليلاً قليلاً ثم هوى، وهويت أنا قبل هويه وكفاي على عيني، ولم أعد أشعر بشيء

ولما صحوت قيل قد فاتك المشهد الهائل: قطعت يد العبد ورجله من خلاف

قلت: ويحكم، ماذا تقولون؟

قالوا: قطعت يده ورجله، ألم تتل قول الله عز وجل:

(إنَّما جَزَاءُ الذّين يُحاربُونَ الله ورَسولَه ويَسعْونَ في الأرض فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبوا أو

ص: 26

تُقَطّعَ أيدْيهم وأَرْجُلُهم من خِلاف أو يُنْفَوْا مِنَ الأرض). أما إنه لولا هذا ما بلغتم أرض الحجاز سالمين. وما العهد السابق ببعيد، أفلا نستحيي بقتل واحد أو أثنين الناس جميعاً؟ قلت: بلى والله! صدق الله العظيم: (ولكم في القِصاص حياة)

دمشق

علي الطنطاوي

ص: 27

‌2 - الشعر في صدر الإسلام وعهد بني أمية

بقلم أحمد حسن الزيات

خصائص الشعر في العراق

لعل الشعر العراقي الإسلامي أصدق ما يصور حياة البادية، وأصح ما يعبر عن نفسية العرب؛ فانه - وإن كان كما قلنا استمراراً للشعر الجاهلي يصدر عن دوافعه، وينبع من منابعه - أنقى جملة وأبين علة وأصح نسبة، لقربه من عصر التدوين واتصاله بأسباب السياسة وأحداث التاريخ. وهو مظهر لتلك الحياة المدنية الأولية التي هيأها الإسلام للعرب لأول مرة، فجعل من الأشتات وحدة ظاهرها الجماعة والألفة، وباطنها العداوة والفرقة؛ فهو مهاجاة بين الأفراد، ومساجلة بين الأحزاب، ومفاخرة بين القبائل، ومدح للزعماء والخلفاء؛ وهذه الموضوعات بطبيعتها تقتضي اللفظ الجزل والأسلوب الرصين والعروض الطويل والصور البدوية، وتعتمد في الهجاء على مثالب الآباء من جبن وبخل وقلة وذلة، وفي المدح والفخر على ذكر أيامهم الدامية الماضية وما ظفر فيها أسلافهم من الغلب والسلب. فالهجاء في هذا العهد بأنواعه الخاصة والعامة يكاد يكون مظهره العراق، لتكالب القبائل المتعادية عليه، وظهور المذاهب المتباينة فيه، وغلبة البداوة والأنفة والبطر على أهله. فشعراؤه يبتدئون به ويفتنون فيه ويعيشون عليه، وهو ينتحل الأسباب المختلفة، ويرتدي الأثواب المتعددة، فيكون فرديا وقبليا ووطنيا ودينيا وسياسيا، ولكنه في الواقع إنما يصدر من باعث واحد هو العصبية الموروثة والأحقاد القديمة

وقد ينبت المرعى على دِ مَن الثرى

وتبقى حزازات النفوس كما هيا

فقائل هذا البيت غياث بن غوث الأخطل صوت الجزيرة ولسان التغلبية وأديب النصرانية وشاعر الأموية. كان أول ما غرم به من شعر الهجاء، هجا امرأة أبيه وهو صغير، وهجا كعب بن جعيل شاعر تغلب، فأهمله وهو يافع، وعلق به لقب الأخطل منذ شب لسفاهته. ثم مضى يقرض الشعر فيما يشجر من الخصومة بينه وبين الناس، أو بين قبيلته وبين القبائل، حتى كان بين يزيد بن معاوية وهو ولي العهد وبين عبد الرحمن بن حسان الأنصاري تقاول وجدل، فطلب من كعب بن جعيل أن يهجو الأنصار، فتحرج أن يذم قوما آووا رسول الله ونصروه، وقال له: أدلك على الشاعر الفاجر الماهر (يريد الأخطل): فهجا

ص: 28

الأخطل الأنصار بالفلاحة واللؤم والخمر، وفضل عليهم قريشاً في قصيدته الرائية، وكاد يشفى من ذلك على الخطر لولا عون يزيد؛ وبالغ الأمويين في إيثاره وإكرامه، وأمعن هو في النفح عنهم، فناضل الزبيريين بعد الأنصار، وصمد إلى القبائل القيسية فهتك عنها حجاب الشرف قبيلة قبيلة بقصيدته التي مطلعها:

ألا يا اسملي يا هندُ هندَ بني بكر

وإن كان حيَّاناً عِدَي آخر الدهر

لمناصبته الأمويين العداء من جهة، ولا قتحامها الجزيرة على قومه من جهة أخرى، ثم ختم حياته بممالأة الفرزدق ومهاجاة جرير. والأخطل وإن كان شديد التمسك بنصرانيته، على وثيق صلاته بالخلفاء، لم يشذ عن طبيعة العرب في التدين، فقد قال الأب لامنس في فصل كتبه عنه:(إن أثر النصرانية في دين الأخطل ضئيل، ونصرانيته سطحية ككل العقائد الدينية عند البدو)، فهو يدمن الخمر في حمى الدين، ويكثر الهجاء في حمى الخليفة، ويهاجم القبائل في حمى تغلب؛ ولكن هجاءه كان عفيف اللفظ لا يركب فيه متن الشطط ولا يتجاوز به حدود الخلق

وأبو فراس همام بن غالب الفرزدق الدرامي ثم التميمي نشأ كذلك بالبصرة على قول الهجاء مع شرف أسرته وغنى قبيلته وعزة نفسه؛ فكان يهجو بني قومه لحدة طبعه وشراسة خلقه، فيشكونه إلى أبيه فيضربه؛ ثم لج في هجاء الناس حتى استعدوا عليه زياداً والي العراق لمعاوية، فطلبه ففر منه في مدن العراق وقبائله، ثم لجأ إلى المدينة واستجار بواليها سعيد بن العاص من زياد فأجاره؛ فلما مات زياد عاد الشاعر إلى وطنه فساهم فيما وقع فيه من حروب وفتن بعد موت معاوية ويزيد، حتى مني بمهاجاة جرير فشغلت وملأت عمره وصقلت شعره، وظلت هذه المهاجاة أربعين سنة ونيفاً كان منها للناس مشغلة، وللوسواس مهزلة، وللأدب العربي ثروة ضخمة من الشعر لا تخلو على سفاهتها وبذاءتها من حكمة. وكان جرير بن عطية الخطفي التميمي قد قال الشعر كصاحبه في الحداثة الباكرة، وقاله مثلها في الهجاء، ولكنه بدأ بالرجز على نحو ما يكون من الرعاة وهو منهم. وكان خمول عشيرته وضعة أسرته وفقر أبيه وحدة خلقه من العوامل التي ساعدت الطبع على نبوغه في الشعر وتفوقه في الهجاء؛ وكان أول من نازله وأفحمه غسان السليطي حين هجا قومه، فاستغاث السليطي بالبعيث فأغاثه وهجا جرير، فنقض جرير قوله بالهجاء

ص: 29

اللاذع، فناضل عنه الفرزدق لموجدة في نفسه على جرير، وتهاجى الشاعران التميميان من أجل ذلك. وفضل الأخطل الفرزدق على جرير إما لدفاعه عن قيس، وإما لرشوة محمد بن عمير إياه، فهجاه جرير، ثم نبحه الهجاء من كل مكان حتى نصب له من الأقران ثمانون شاعراً ظهر عليهم جميعاً إلا الفرزدق والأخطل فانهما ثبتا له ونازعاه الغلبة. وانشعب الناس في أمر جرير والفرزدق شعبتين تناصر كل منهما أحد الشاعرين؛ وكان بين الفرزدقيين والجريريين ما بين العلويين والأمويين، يطلب كل منهما الغلبة لصاحبه بالدعاية والنكاية والرغبة والرهبة والحلف، يقوم الأولون بالمربد والآخرون بمقبرة بني حصن، وقد وقف الشاعران كل بين أتباعه وأشياعه ينشدهم شعره وهم يكتبونه، والرواة ينشرونه، والأدباء والأمراء يتناولون ما يروى بالموازنة والنقد والحكم، والأنصار يحاولون رشوة الشعراء واستمالة العلماء ليحكموا لصاحبهم على خصمه؛ فقد روى الأغاني أن أحدهم تبرع بأربعة آلاف درهم وبفرس لمن يفضل الفرزدق على جرير. وليس أدل على اهتمام الناس بأمرهما واختلافهم في الحكم على شعرهما من أن يتهادن الجيشان المتقاتلان ساعة ليحكم أحد الخوارج الأدباء بين رجلين من رجال المهلب تنازعا في أمر جرير والفرزدق، فقد ذكر ابن سلام أن رجلين تنازعا في عسكر المهلب في جرير والفرزدق وهو بازاء الخوارج، فصار إليه فقال لا أقول فيهما شيئاً، وكره أن يعرض نفسه لشرهما، ولكن أدلكما على من يهون عليه سخطهما: عبيد بن هلال، وهو يومئذ في عسكر قطري بن الفجاءة، فأتيا فوقفا حيال المعسكر فدعواه فخرج يجر رمحه، وظن أنه دعي إلى المبارزة، فقالا له: آلفرزدق أشعر أم جرير؟ فقال: عليكما وعليهما لعنة الله! فقالا: نحب أن تخبرنا ثم نصير إلى ما تريد، فقال من يقول

وطوى القيادُ مع الطراد بطونها

طي التَّجار بحضرموت برُوَدا

قالا: جرير. قال: هو أشعرهما

وهناك طائفة أخرى من شعراء العراق كعبيد الراعي وأبي النجم العجلي والراجز اتخذوا من الشعر ظفراً وباباً مزقوا بهما الأعراض وأشاعوا هجر القول في الناس، ولكن أحدهم لم يبلغ من سطوة الشعر ونباهة الذكر ما بلغ جرير والفرزدق والأخطل، لأنهم كما قال أبو عبيدة: (أعطوا حظاً من الشعر لم يعطه أحد في الإسلام: مدحوا قوماً فرفعوهم، وذموا قوماً

ص: 30

فوضعوهم، وهجاهم قوم فردوا عليهم فأنهضوهم، وهجاهم آخرون فرغبوا بأنفسهم عن جوابهم فأسقطوهم)

مذهبهم في الهجاء

مذهبهم في الهجاء هو المذهب المتبع والطراز الغالب؛ على أنهم يتفاوتون فيه تفاوتهم في الطبقة والبيئة والطبع

فالأخطل سيد في قومه، كريم في نسبه، نبيل في نفسه، يعاقر الخمر ويجلس الملوك ويحترم الدين ويحتمل في سبيله ضرب الأسقف وأذى السجن وإن كان لا يتعبد ولا يتزهد. ومن أجل ذلك كانت لغته في الهجاء كما ذكرنا من قبل لغة الخاصة، لا يسف إلى القبيح ولا يستعين بالمخازي، وإنما يهاجم القرن في صفات الرجولة فينفي عنه الكرم والبأس والمجد والصدق كقوله في تيم:

وكنت إذا لقيت عبيد تيمٍ

وتيما قلت أيهما العبيد!

لئيم العالمين يسود تيماً

وسيدهم وإن كرهوا مسود

وكقوله في كليب بن يربوع:

بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم

إذا جرى فيهم المزَّاء والسكَر

قوم تناهت إليهم كل مخزية

وكل فاحشة سُبَّت بها مضر

الآكلون خبيث الزاد وحدهمُ

والسائلون بظهر الغيب ما الخبر

وأقسم المجد حقاً لا يحالفهم

حتى يحالف بطنَ الراحة الشعَر

ولعل أفحش هجائه قوله في قوم جرير:

قوم إذا استنبح الضيفان كلبُهم

قالوا لأمهمُ بولي على النار

فتمنع البول شحاً أن تجود به

ولا تجود به إلا بمقدار

والخبز كالعنبر الهندي عندهُم

والقمح خمسون إردباً بدينار

فترى أنه حتى في إقذاعه وإيجاعه لا يتدلى إلى ذكر المثالب الخاصة والمعايب الفردية، وإنما يهاجم قبيلة الخصم كلها فيقايس بينها وبين قبيلته في السمو إلى المعالي والسبق إلى الغايات، وفي ذلك يجد بلاغه ومدده، فلا يضطر اضطرار جرير إلى ذكر الصغائر التماساً للغلبة الدنيئة من أقرب طريق. انظر إلى قوله لجرير:

ص: 31

يا ابن المراغة إن عَمَّىَّ اللذا

قتلا الملوك وفككا الأغلالا

وأخوهم السفاح ظمَّأ خيله

حتى وردن حبى الكلاب نهالا

فانعقْ بضأنك يا جرير فإنما

منتك نفسك في الخلاء ضلالا

منتك نفسك أن تكون كدارم

أو أن توازي حاجباً وعقالا

وإلى قوله له:

ولقد شددتَ على المراغة سرجها

حتى نزعت وأنت غير مجيد

وعصرت نطفتها لتدرك دارماً

هيهات من أمل عليك بعيد

وإذا تعاظمت الأمور لدارم

طأطأت رأسك عن قبائلِ صيد

وإذا عددت بيوت قومك لم تجد

بيتاً كبيت عطارد ولبيد

تجد أن هجاءه أقرب ما يكون إلى المنافرة والفخر. ومن الواضح أن هذا الهجاء العفيف المترفع وإن أمض لا يجري مع هجاء جرير في ميدان، ولا يستوي وإياه عند العامة في ميزان، فكيف إذا اجتمع إلى ذلك خمود الشيخوخة في الأخطل وحدة الشبيبة في جرير؟ إن جريرا نفسه قد علل وناء خصمه عنه في آخر الشوط بكبر سنه، فقد قال:(أدركته وله ناب واحد، ولو أدركته وله نابان لأكلني). وقال في قصيدته النونية التي هجا بها الأخطل على أثر تفضيله الفرزدق عليه:

جاريت مُطّلع الرهان بنابهٍ

رَوْقُ شبيبته وعمرك فان

وإذا استثنينا هجاء الأخطل لجرير وجدنا أشهر أهاجيه إنما قالها في أغراض قومية أو سياسية. ومن تلك الأهاجي المأثورة قصيدتان تلخصان مذهبه وتصوران فنه: الأولى في هجاء القبائل القيسية ومطلعها:

ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر

وإن كان حيّانا عِدَي آخر الدهر

والأخرى في مدح عبد الملك بن مروان وذم خصومه ومطلعها:

خف القطين فراحوا منك أو بَكَروا

وأزعجتهم نوى في صرفها غِيَرُ

ومنها:

بني أمية إني ناصح لكم

فلا يبيتن منكم آمن زُفَرِ

فان مشهده كفر وغائلة

وما يُغيَّب من أخلاقه وعرِ

ص: 32

إن العداوة تلقاها وإن كمنت

كالعُر يكمن حينا ثم ينتشر

بني أمية قد ناضلت دونكم

أبناء قوم همُ آووا وهم نصروا

وقيسَ عيلان حتى أقبلوا رُقُصاً

فبايعوك جهاراً بعد ما كفروا

ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم

وقيس عيلان من أخلاقها الضجر

والأخطل لنصرانيته لم يستطع أن يتخذ من الإسلام سبيل للفخر ولا مادة للهجاء، فاكتفى بذكر مناقب آبائه ومثالب أعدائه، على أن يستغل أحيانا بعض ما أنكر الإسلام فيهجوا وإن كان هو يستبيحه، كقوله في الأنصار يرميهم بشرب الخمر:

قوم إذا هدر العصير رأيتهم

حمراً عيونهمُ من المسطار

وكقوله في كليب بن يربوع:

بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم

إذا جرت فيهمُ المزَّاء والسكَر

يتبع

الزيات

ص: 33

‌في مؤتمر الكتاب الأوربيين لحفظ الثقافة

خطاب أندريه جيد

نحن قليل في هذا المكان بعددنا، كثير إذا اقتصر الأفراد منا على حب بلادهم، وكثير كثير إذا أضمر هؤلاء الأفراد للبلاد الأخرى ضغينة وحقداً: إذا ما حدثتكم عن شعوري أيها السادة أقول بأني إنساني النزعة في الوقت الذي ما أزال فيه فرنسياً صميما، وأقول أني فردي من أنصار الفردية مع الاعتقاد الراسخ بأني شيوعي صميم، لا أجد في الشيوعية غير نصرة لفرديتي وكل تأييد، لقد كانت رسالتي التي حملتها طوال خمسة وستين عاماً: أنه بمقدار ما تكون شخصية الإنسان قوية وأصيلة فيهن تكون خدماته للمجتمع أجل وأحسن، وقد أضفت في السنوات الأخيرة إلى هذه الرسالة رسالة جديدة هي من الأولى بمثابة البنت للأم، هي أن الجمعية الشيوعية تترك المجال الوسيع لكل شخصية وللخصائص التي تتميز بها كل شخصية تنمو وتزدهر على وجهها الأكمل؛ وحسبي أن أتمثل بعبارة لأندره مالرو ساقها في مقدمة أحد الكتب وقد أصبحت مثلا يجري على كل لسان (إن الجمعية الشيوعية ترد إلى كل شخصية نتاجها الخصيب)

وأذكر اسم رابليه في هذا الكلام لأن النشاط الذي تركه في آدابنا الفرنسية الجميلة لم يتركه أديب من بعده، ولأني أعتبره خير ممثل للأديب الفرنسي العريق، ولربما كان فيما كتب بين معاصريه خير ممثل للعصر الذي عاش فيه، لقد أخذت الآداب الفرنسية بعد رابليه تهدأ ثورتها، تتوخى الطريق المطمئنة المسالمة التي لا صعاب فيها ولا عراقيل، تجنح إلى الغموض والإبهام غير مكترثة بالمادة مشيحة بوجهها عنها

أعني بالآداب الفرنسية التي سميت (كلاسيكية) كل ما يدخل تحتها من كتاب وقراء ونظارة وأبطال للرواية والقصة، أعني بأن كل هؤلاء قد كفوا مؤونة السعي والجد طلباً للعيش؛ وعلى هذا الأساس كانت وظيفة الأديب أن يحدث أناساً موفورين عن أناس موفورين، وإذا لم يكن منعماً هذا الذي يحدث عنه الأدب، فليس من شأننا أن نعرف ذلك وليس من شأننا أن نعرف لماذا كان أكثر هؤلاء الذين يحدث عنهم أغنياء مغتبطين؟ وعلام يستندون في جمع ثرواتهم؟ إن الأدب لا تعنيه كل هذه الأسئلة الممضة! فهؤلاء الأبطال يصورهم لنا راسين في مآسيه الرائعة وقد خلوا من تكاليف الحياة ليس لهم إلا أن يندفعوا مع أهوائهم

ص: 34

مرخين العنان لقلوبهم تعشق وتحب، ولرؤوسهم تحلم وتفكر. إن هؤلاء الأبطال لا يعيشون في غير أسطر ضمت في كتاب أو على خشبة مسرح يتقمص أفعالهم الممثلون

لست هنا في معرض دعوى أدافع بها مطالباً بحكم على هذه الآداب الكلاسيكية، فأني من أكثر الناس حباً لها وإعجاباً بها وبكل ما هو رائع وجميل، بل أقول إن الأدب لم يشهد منذ الإغريق الأقدمين عهداً رائعاً مثل عهد هذه الآداب. ولرب قائل يقول: إن هؤلاء الملوك والملكات وهؤلاء الأمراء والكبراء الذين لا تخلو منهم رواية مسرحية ألفت في القرن السابع عشر هم الذين ينبو عنهم ذوقنا؛ واكبر ظني أن ليس هناك أحد يستسيغ الحديث عن أناس نسبت إليهم أفعال حميدة وكلام مزوق معسول، وقد جعلوا في جو من الأبهة والملك يشفعان لهم إذا لم يأت كل ما نسب إليهم مطابقاً للواقع صادراً عن ميولهم ومجرد احساساتهم؛ وإذا استساغ البعض حديثاً من هذا النوع فانهم لا يجدون فيه صورة منقولة عن عالم الأحياء الذي يعيشون فيه. فليس كل من يدبون على الأرض مترفين ولا أصحاب امتيازات

لعمري أن آدابناً تلك سمتها لا تعبأ بغير هذا النمط من الناس ولا تهتم بغير الرؤوس والقلوب منهم، لا يرجى لهم مستقبل تأمن فيه من أن تزل قدمها فتهوي إلى أعماق البحر الذي تمشي على شطآنه

إن الآداب والفنون إذا لم تكن مرآة للحياة وصدى للحقيقة فأنها أشياء مصطنعة لا تلبث أن تفقد قيمتها، وإننا إذ استثنيناً الآداب اللاتينية لا نجد آداباً أوربية أخرى أكثر من الفرنسية إيغالاً في الخيال وتعلقًا به، ما تزال إلى الآن تعتمد عليه اعتماداً كبيراً. إن الآداب لا تسمو ولا تقوى ولا تتجدد إلا بالمقدار الذي تستمده من الشعب الذي يعتبر بحق دعامة المجتمع وأساس بنيانه، وما أشبه حال الأدب ببطل الأسطورة الإغريقية ذات المغزى البليغ التي تحكي أن أنتيوس يفقد قواه وتفل عزيمته كلما ارتفعت رجلاه على عن أن تمس الأرض

يتساءلون عن الكاتب الذي غذى الآداب الفرنسية في غضون القرن الثامن عشر وجدد في حيوتها! ليس هو فولتير ولا هو مونتسكيو على عبقريتهما وما قدماه لهذه الآداب من البدائع. إن هذا الكاتب رجل خرج من بين الرعاع لا حسب له ولا نسب: هو ديدرو وهو روسو

ص: 35

يقول كاتب في جريدة (الاكسيون فرانسيز) منذ عهد قريب: (إن المدينة هي الكذب ومحض الاختلاق، وظيفتها إقامة رجل متصنع في شؤونه متكلف في أحواله مكان الرجل الطبيعي العادي، شبهها شبه الرجل الذي يبرز مرتدياً ثيابه مصففاً شعره بعد أن يكون عارياً في حجرته الخاصة) ثم يختم المقال بقوله (على المرء أن يختار بين أن يكون متمدناً لا يعرف للإخلاص معنى وبين أن يكون غير متمدن مخلص لذاته)

كلا ليس من المحتم على المدنية أن تتجرد من صفة الإخلاص، وليس من اللازم على الإنسان إذا أراد التميدن أن يكون كاذباً أفاكا، بل إذا لم يكن للمدنية بد من شيء تتصف به وتحمل طابعه فأنه الصدق. إني لست من الذين يلقون تبعة الكذب والتزييف البادين على كل مظهر من مظاهر حياتنا على عاتق الفرد، فأن الجاني هو المجتمع كلما أراد أن يخنق صوت الشعب، وكلما حاول أن يتركه على حاله من الغباوة والجهل والاستعباد، لا يعرف ما يجيش في فؤاده فيعبر لنا عنه ولا يدرك ما تستفيده الثقافة منه إذا جهر بما هو دائر في خلده حائم بمخيلته

وقفت نفسي مذ كنت شاباً احترفت حرفة الكتابة على دحض الزعم القائل (قال الإنسان كل ما يمكن أن يقوله وليس في استطاعة أحد أن يقول غير ما قيل) وقد اتخذ هذا الزعم وطنيو ذاك العهد شعاراً لهم يتمثلون به

أليس من دواعي العجب والغبطة وقد مضى عصران كاملان على الكلمة التي كان يعتز بها لابروبير: (جئت في الزمن الأخير) أن نرى أنفسنا أمام عالم حافل بالعجائب والغرائب لم نصل بعد إلى كثير أو قليل من أسراره، أمام عالم يقظ في إبان فتوته يطلع علينا كل يوم بجديد

من يقل أدب قوم فكأنه عنى بذلك خصالهم وأحوال مجتمعهم، لكن هذه القاعدة كثيراً ما تشذ، وقد كثر شذوذها في الآداب الفرنسية، فإن لدينا طائفة كبيرة من الكتاب العظام لم يحظوا في حياتهم بعطف الجمهور وتقديره، فيقال بأنهم يكتبون لأنفسهم؛ لكن هذه الطائفة لم تعدم بعد حين الأنصار الذين رفعوها إلى المكان اللائق بها؛ وقد فطنوا للنظرات العجلى التي لم يستطع إدراكها المعاصرون. وكأني بذلك أعود بالمخيلة إلى بودلير وإلى رامبو وإلى ستاندال أيضاً الذي كان يكتب لعدد ضئيل من محبي أدبه، ويقول بأن قراءه الحقيقيين

ص: 36

لم تلدهم أمهاتهم بعد. . بل وأتخيل نيتشه ووليام بلاك ومكفيل الذين لم يكن حالهم بأحسن من حال الأولين. هذا وإني لم أذكر إلا الكبار

نشهد اليوم حادثاً لم يسبق للتاريخ مثله، عظيم الأهمية، لا تقاس به الأحداث، ذاك هو النظام الجديد القائم في روسيا السوفيتية، ولست مبالغاً إذا قلت بأنه عمل (نموذجي) ينسج على منواله؛ إن بلادا يجري فيها مثل هذا النظام تجعل الكاتب يتحسس بيئته ويتصل بقرائه اتصالاً مباشراً، لا يدور حولهم كالتائه يفتش عن ضالته كما هي حالنا معشر الكتاب، فيستمد من الحقيقة التي تحيط به مادته، ويستلهم منها أخيلته، ويستمع إلى صداه بأذنه. إن بلادا مثل هذه يؤدي فيها الأديب رسالته كما يجب أن تؤدى، جديرة منا بكل إعجاب. بيد أن ذلك كله لا يفيد. إن الطريق كلها سليمة لا تعتورها الأشواك، وكيف تجتنب الأخطار جميعها ما دام العمل الفني في طبيعته ضعيف المقاومة، قليل التأثير بادئ ذي بدء. ولعل الكلام عن مثل هذه الأخطار التي هي من طراز جديد ستحين له فرصة ثانية، لقد رأيت في النتاج الأدبي السوفيتي آثاراً أثارت مني كل إعجاب، لكنها ما تزال بعيدة عن أن يتمثل فيها الإنسان المنتظر، الذي ما برح هذا الأدب يعمل على إيجاده، وهو ما يزال في مراحله الأولى يصور لنا أدوار التكون والتمخض والولادة، وأني لشديد الأمل برؤية الآداب السوفيتية قد كبرت واشتد ساعدها، فأصبح الكاتب في كنف الحقيقة الماثلة، فاتحة له صدرها يضمها بكلتا يديه

إن الأدب الخالد الذي تقبله النفوس وتقدم عليه بشغف يتجدد في كل حين، لا ينقطع لسد حاجة وقتية تنبعث عند طبقة من الناس، في وقت من الأوقات، وعلى هذا الأساس، فان حكومة السوفيت، لم تقتصر على طبع الآثار والمؤلفات التي جادت بها قرائح كتابها وشعرائها، فإنها عنيت عناية فائقة بنشر أشعار بوشكين، وتمثيل مسرحيات شكسبير؛ ولم تقل قط بأن أدب كتابها مرسوم له الخلود، ولا هي تستبعد أن يكون نتاج هؤلاء الكتاب صائراً إلى الزوال بزوال الحاجة التي دفعت إليه، ما دام الزمن لم يحكم حكمه عليه، وإذا كان هنالك من شيء يمسخ الفائدة التي يمكن أن يجنيها الناس من قراءة الكتب وإنشاء الأشعار، فما هي إلا أن ترسم لهم الأمثولة ويحدد لهم المغزى، وفي التدليل الكثير على العظة التي تتضمنها الكتب ضياع لمسحة الجمال التي تتميز بها الأدب، ويصبح بذلك

ص: 37

ضرباً من ضروب الوعظ الجافة

ليس مما يضير القراء ألا يوفقوا كلهم إلى غاية واحدة، فان في استطلاعهم إياها في أجواء مختلفة فائدة لا تقدر، وفي ذهابهم مناحي متباينة بعد أن تكون هناك سلطة يستهذون بها. وهذا والثقافة كانت لجلاء الذهن وإطلاق الفكر قبل أن تكون عامل إرشاد وتهذيب

تتوجه أنظار المفكرين، في هذا الزمن، إلى انتشال الإنسانية من وهاد الاضطهادات التي ترددت فيها، وأني لا أقدر لهؤلاء المفكرين أن يظل الإنسان موضع اهتمامهم يوم يفلت من قيده وينطلق حراً شريفاً، فلا يعنون به إلا خانعاً ذليلاً أو غرا جهولا، بل ولقد أسبغ على نفوسنا طول تحدثنا عن البؤس وتغنينا بمحامده ومزاياه حلة من الخنوع والاستكانة لا تليق بها

جميل أن نحلم بمجتمع تعم نعماؤه الأفراد، وأجمل منه أن نوقن بقرب قيام هذا المجتمع.

ترجمة وتلخيص

ماجد شيخ الأرض

ص: 38

‌الدكتور محمد إقبال

أكبر شعراء الهند المسلمين في العصر الحاضر

(إن صوتي قد أوقد النار القديمة في بلاد إيران ولكن العرب

لا يعرفون شيئا عن نغماتي الشجية)

(إقبال)

لأبي النصر أحمد الحسيني الهندي

بدأ الدكتور يقول الشعر في أول الأمر من نوع الغزل ثم باشر أنواع الشعر الأخرى مثل: (مثنوي) و (قصيدة) و (رباعي) و (قطعة) و (مسدس) فأجادها إجادة تخلب القلوب، غير أن كمال شعره ليس في هذه الأشكال والقيود الظاهرية، بل في ابتكار المعاني، وإبداع البيان، ودقة الفكر، وسمو الخيال، وحسن التركيب والتشبيه، وقوة الكلام التي يشتمل عليها شعره. فأنت ترى كيف تلك الصفات أورثت التصوير حسناً ورونقاً في قصيدته (الأمنية) التي طلب فيها من الله أن يخرجه من ضوضاء هذا العالم ويسكنه محلاً هادئاً ذا منظر بهيج. قال في وصف ذلك المنظر:

(. . . فلتكن (في ذلك المحل) الأشجار مصطفة في جانبين يرسم صورتها ماء النهر الصافي، وليكن منظر الجبال فيه فتاناً إلى درجة أن يقوم الماء في شكل الأمواج لرؤيته، ويمس الماء فرع الورد مائلاً كأن حسناء ترى وجهها في المرآة، وعندما تحني الشمس عروس الليل تلبس الأزهار كساء ذهبياً مشرباً حمرة. . . الخ)

وقال في وصف الحباحب الطائرة ليلاً في الحديقة:

(إن نور الحباحب يلمع في معمورة الحديقة كأن الشمع منور في محفل الأزهار، أو نجمة قد جاءت طائرة من السماء، أو شعاع القمر قد نفخ فيه الروح، أو سفير النهار قد جاء في سلطنة الليل فكان خاملا في وطنه وبرز في الغربة. أوزر قد وقع من قباء القمر أو ذرة قد ظهرت من قميص الشمس. إن في هذا القمر الصغير نوراً وظلمة فكأنه يخرج من الخسوف حيناً ويدخل فيه حيناً. . . الخ)

ص: 39

إن الدكتور إقبال ليس بشاعر فقط بل هو مفكر وفيلسوف أيضاً من الطراز الأول، وهذا الأمر يزيد شعره حسناً وجمالاً ورونقاً وكمالاً: فقد قال كوليريج الشاعر المفلق الناقد الأديب الإنجليزي الشهير: (لم يكن ولم يكون أحد شاعراً كبيراً مجيداً بغير أن يكون في نفس الوقت فيلسوفاً ومفكراً دقيقاً. لأن الشعر أرج علم الإنسان وأفكاره وشعوره وعواطفه ولغته قاطبة.) ففي الشعر يقدر الشاعر الفيلسوف أن يعالج أمراً من أمور الفلسفة الدقيقة، وعر الملتمس منيع المطلب ببيت واحد، في حين أنه لا يقدر على معالجته بصفحات من النثر. فأنت ترى كيف أن إقبالاً بين لك وفي بيت واحد فلسفة الحياة، ثم نبهك على مواضع الضعف فيك، وفي هذا التنبيه منه لك تحريض أيضاً على الأعراض عما أنت فيه قال:

حيات جبست جهان را أسير جان كردن

توخود أسير جهاني كجاتواني كرد

(ما هي الحياة؟ هي ان تستأسر العالم لنفسك (ولكن مادمت أنت أسيراً للعالم فكيف يمكن لك ذلك)

وقال في بيت آخر ما ترجمته:

(إن الحياة هي أن تخلق اللؤلؤ في صدفك وأن تنفذ في قلب اللهيب ولا تذوب)

وقال في فلسفة الحياة أيضاً مخاطباً قلبه ما ترجمته:

(أيها القلب تعلم من البرعوم سر الحياة، فان الحقيقة ليست بمحجوبة في مجازه فانه قد نبت من التربة المظلمة، ولكن نظره (دائماً) إلى شعاع الشمس)

يجيد الدكتور الإنجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية والأردية، ويعرف السنسكريتية والعربية أيضاً، ويقول الشعر بالفارسية والأردية. وجميع مصنفاته التي ظهرت إلى الآن هي كما يلي:

1 -

مصنفاته شعرا:

1 -

بابك درا (أي صوت الجرس): وهو ديوان باللغة الأردية يحتوي على أنواع الشعر المختلفة من باكورة شعره

2 -

أسرار خودى (أي أسرار الأنانية): وهو أول دواوينه باللغة الفارسية وشعره من النوع المثنوي. نشره في سنة 1916، ويحتوي على مباحث إسلامية فلسفية دقيقة للتربية

ص: 40

الأنانية. وقد ترجمه المستشرق الشهير الدكتور نكلسن إلى اللغة الإنجليزية

3 -

رموز بيخودي (أي رموز إنكار الأنانية): وهو الديوان الثاني باللغة الفارسية وشعره من نوع المثنوي نشره في سنة 1918، وهو كالتكملة للأول لتكوين الأنانية العليا وتربيتها

4 -

بيام مشرق (أي رسالة الشرق): وهو ديوان باللغة الفارسية يحتوي على أنواع الشعر المختلفة، نشره في سنة 1923 وقد صنفه رداً على (الديوان الغربي) للشاعر الفيلسوف الألماني الشهير جوتيه. وقد ترجمه الدكتور نكلسن إلى الإنجليزية

5 -

زبور عجم: ديوان باللغة الفارسية وشعره من الأنواع المختلفة، ويحتوي على أرق العواطف وأدق الأفكار الفلسفية. نشره في سنة 1926

6 -

جاويد نامه (أي كتاب جاويد): وهو ديوان باللغة الفارسية نهج فيه الشاعر منهج فاوست لجوتيه، ويحتوي على أدق الأفكار الفلسفية الإسلامية. وقد نسبه إلى أصغر أبنائه المسمى (جاويد). نشره في سنة 1932

7 -

مسافر: وهو ديوان صغير باللغة الفارسية، شعره من نوع المثنوي، يحتوي على ما جادت به قريحته حين سافر إلى أفغانستان تلبية لدعوة المغفور له جلالة الملك نادرشاه خان ملك أفغانستان في سنة 1933

8 -

بال جبريل: ديوان باللغة الأردوية، يشتمل على ما جادت به قريحته عند زيارته الآثار الإسلامية في الأندلس ونشر سنة 1935

2 -

مصنفاته نثرا:

1 -

السياسة المدنية: صنفه باللغة الأردية وهو أول مصنفات الدكتور

2 -

تاريخ التقدم الفكري في بلاد إيران: وقد نال بتقديم هذا الكتاب شهادة الدكتوراه من ألمانيا

3 -

المحاضرات الستة: وهي التي ألقاه في الجامعة الهندية، وتحتوي على فلسفة الإلهيات الإسلامية

لقد طال بنا الحديث ونحب أن نختمه بكلمتين وجيزتين: منزلة شعر إقبال في الهند: وصداه في العالم، فأما منزلة شعر إقبال في الهند، فلشعره رسالة ستعرفها حين نفرد لها مقالاً في المستقبل إن شاء الله. والرسالة إذا قامت لابد أن تجذب ما حولها إلى نفسها كذلك شعر

ص: 41

إقبال، ولا يتسع المجال هنا لأن نستقصي رأي جمع طبقات الهيئة الاجتماعية الهندية في شعر إقبال لإبانة جاذبيته ومنزلته. وإنما نكتفي برأي طبقة الشعراء لأنهم أدرى بحقيقة فنه ودقائقه

إن الشعراء في الهند كثيرون فمنهم من يجيد الشعر بالأردية ومنهم من ينشئه بالفارسية، ومنهم من يتقنه بالاثنين، ولكن إقبال أسبقهم غير مدافع، وأفضلهم غير معارض، ولشعره بينهم القدح المعلى، فقد اتفقوا جميعاً على أنه هو شهابهم الساطع، وبدرهم الطالع ولقبوه (بترجمان حقيقت)(أي المعبر عن الحقائق) وقد شدا غير واحد منهم ناشراً طراز محاسنه في المجالس، وناثرا لآلئ وصفه في المحافل بالأبيات والقصائد نقتطف بعضها هنا. قال مولانا غلام قادر كرامي وهو من كبار شعراء الهند ويقول الشعر بالفارسية:

در ديده معنى نكهان حضرت إقبال

بيغمبري كردو بيمبر نتوان كفت

(إن في رأي أرباب النظر قد قام حضرة

إقبال بعمل النبوة ولا يمكن أن يقال له نبي)

وقال الشاعر فكار - وهو من مسقط رأس إقبال ويقول الشعر بالفارسية والأردية - وهذه ترجمته:

(إنك قد جئت بكأس من الحانة القديمة وبنغمة داودية من وتر الرباب)

(يا طبيب روح الأمة! أنت قد جئت بعهد الشباب في دين إبراهيم بدواء الفلسفة)

(وقد كشفت عن نفسك بواسطة (رموز إنكار الأنانية) يا أبا الحكمة أنت قد جئت بالنهر من السراب)

وقال السيد بشير أحمد اخكر - وهو من كبار الشعراء باللغة الأردية - وهذه ترجمته:

(إن وجودك لي سبب الحياة. إن أسرار أنانيتك لي باعث زيادة الهمة)

(إن رموز (إنكار الأنانية) قد حل العقد. إن (صوت الجرس) قد أصبح لي دليل الطريق)

(عن روح (غالب) وحنو (مير) في قلبك يا إقبال إن حسن ليلى الشعر مخفي في محملك هذا)

أما صدى شعر إقبال في العالم، فلشعر إقبال في أفغانستان مرتبة لا يشق غبارها وعزة لا

ص: 42

يدرك شأوها، إذ لا تقام حفلة من حفلات الحكومة إلا وتهز فيه فرق الموسيقى الحكومية قلوب الحاضرين بأناشيد إقبال وبخاصة (نشيد المسلم) منها. وقد نشر أقا هادي حسن وزير التجارة مقالات في شعر إقبال. وبخاصة عن ديوانه (رسالة الشرق) في مجلة (أمان أفغان) التي تصدر بكابل

ولم تأل الجرائد والمجلات في إيران تنويها بشعر إقبال، كما أن أهل العلم والأدب يحيطون به خبراً، ويثنون عليه أطيب الثناء

وفي تركيا ترجم كثيراً من شعر إقبال إلى اللغة التركية الكاتب المفكر الكبير حسين دانش، وكتب مقالات عديدة عن ديوانه (رسالة الشرق) وبسط نظرياته فيها

وسافر أحد علماء روسيا إلى الهند ليلتقي بالدكتور إقبال فقط، ثم نقل إلى اللغة الروسية نظريات الدكتور التي في ديوانه (أسرار الأنانية)

وفي مصر نشر غير مرة صديقنا المفضال الدكتور عبد الوهاب عزام ترجمة بعض المقتطفات من شعر إقبال

وفي ألمانيا ترجم الأستاذ دايشو مقدمة ديوانه (رسالة الشرق إلى اللغة الألمانية، كما أن الدكتور فيشر الأستاذ بجامعة ليبزيج وصاحب مجلة (اسلاميكا) كتب مقالات عن الديوان (رسالة الشرق)، وقارن فيها شعر إقبال بشعر الشاعر الألماني الشهير جوتيه، وترجم الشاعر الفيلسوف الألماني هانسي مائنيكه قطعة من ديوانه (رسالة الشرق) إلى ألمانية ثم كتبها بيده وجلدها تجليداً جميلاً على الطراز الشرقي موشى بالذهب والفضة أهداها إلى الدكتور إقبال تقديراً لشعره وإظهاراً لحسن اعتقاده فيه. وقد أنشئت أخيراً جمعية باسم إقبال لتعريف شعره ونشر مباديه في ألمانيا. وتترجم في ألمانيا الآن محاضرات الدكتور التي ألقاه في الجامعات الهندية في فلسفة الإلهيات إلى اللغة الألمانية

وفي إيطاليا نشر العالم الطلياني الكبير الدكتور اسكاريا الذي زار أفغانستان والهند وقابل الدكتور إقبال مقالات عن شعر إقبال في مجلة أدبية إيطالية

وفي إنجلترا ترجم الدكتور نكلسون ديوانه (أسرار الأنانية) وجزأ من ديوانه (رسالة الشرق) إلى الإنجليزية ونشرهما فذاع بهما صيت الدكتور في أمريكا وبلاد أخرى أيضاً، ونوهت أندية العلم والأدب والجرائد والمجلات العلمية والأدبية بشعره، وكتب عن (أسرار

ص: 43

الأنانية) المرحوم الدكتور براون المستشرق الإنجليزي الشهير في مجلة الجمعية الأسيوية الملكية، وأيضاً نوه بإقبال وشعره في تصنيفه تاريخ الأدب الفارسي في المجلد الرابع منه

وفي أمريكا صنف العالم الأمريكي الجليل ميكنزي كتاباً أسماه (يقظة الهند) فنوه فيه بإقبال وشعره ونظرياته وفلسفته

السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي

ص: 44

‌في الأدب الإنجليزي

الكائنات الغيبية في شعر شكسبير

بقلم خيري حماد

مقدمة

لا شك في أن عبقرية شكسبير ظهرت في مناحي عدة وصور مختلفة، وليس من السهل على أي شخص مهما كانت نزعته ومهما تباينت عقليته أن ينكر أن شكسبير هو شاعر بريطانيا الأعظم وكبير من كبار الشعراء العالميين، ولكن ويا للأسف اختلف النقاد في إنكلترا وفي غيرها من بلدان العالم في تحديد الدرجة الممتازة التي وصل إليها هذا الشاعر. فأعتبره البعض أعظم شاعر بزغ نجمه على هذه البسيطة لا في عصره فحسب، بل في العصور التي سبقته أو تلته. وأنكر البعض الآخر هذا الادعاء وتحاملوا عليه تحاملاً ظاهراً، معتقدين أن عظمته لا تفوق في أي ناحية من نواحيها عظمة جوتي الألماني ودانتي الإيطالي

إن من الصعب أن أبرهن في هذه العجالة على عظمة شكسبير وتبريزه على غيره من شعراء العالم، ولم أقصد فيها إلا البحث في ناحية واحدة من مناحي تفكيره العميق وخياله المبدع الذي تناول بواسطته جميع نواحي الحياة من عقائد وتقاليد فدونها في شعره ورواياته. نعم كان من الصعب عليه أن يوفق بين عقائده الشخصية وبين عقائد مجتمعه البشري، ولكنه خرج من هذا الميدان مكللاً بأكاليل من الغار وتيجان من الظفر

لم تكن الخرافات والغيبيات عقيدة راسخة في تفكير شاعرنا؛ فقد كان دائم الاضطراب والشك في هذه الناحية من مناحي الغموض والخفاء العقليين. لقد حاول في رواياته أن يبتعد عن العقائد الشائعة العامة، ولكنه لم يستطع ذلك لتخوفه من الرأي العام السائد في تلك الأيام الرهيبة

عقائده الدينية:

ولد شكسبير سنة 1564 إبان الدور الأول من حكم الملكة اليصابات في عصر أشتد فيه

ص: 45

النزاع الديني واختلفت فيه العقائد، حتى أصبحت مصدر شقاء وينبوع استبداد ساد إنكلترا قرناً من الزمان. ولنراجع في الفقرات التالية صفحات التاريخ فنرى كيف انتشرت البروتستنتية في إنكلترا، وبأية صورة كان نشوءها وتطورها

كلنا يعرف أن الملك هنري الثامن أراد طلاق امرأته الأسبانية كاترين لعشقه غادة من غادات البلاط، كانوا يسمونها (آن بولين) ولم يكن في الإمكان في ذلك العصر تحقيق تلك الرغبة الجامحة، فما وسع هنري إلا أن يحدث نزاعاً أشتد أمره مع رئيس الكنيسة الأعلى وحامي حماها في الشرق والغرب. طغت عليه الروح الاستبدادية روح العظمة والتفوق، فحدثته نفسه بالانفصال عن كنيسة رومة، ولم يلبث أن أعلن ذلك الانفصال ونصب نفسه رئيساً أعلى للكنيسة الإنكليزية

ولم تكن هذه الحركة في بدء أمرها إلا حركة سياسية محضة لم يشبها شائب من الدين والعقائد، ولكن ما لبث أن فارق هنري دنياه ونصب ولده الطفل أدوارد ملكاً على عرش بريطانيا، فكان له من الأنصار والمساعدين نفر أشبعت نفوسهم بروح البروتستنتية فأعلنوا أن الكنيسة الإنكليزية قد غدت منفصلة تمام الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية ووضعوا كتابين من كتب الصلاة ليقرأ في الكنائس بدلاً من الكتب القديمة

حركة جريئة أعقبتها فترة إحجام ورد فعل. مات إدوارد فتبوأت ماري تيودور العرش وكان لتربيتها الكاثوليكية اثر عظيم في نفسها ما لبث أن دفعها للإعلان عن فساد جميع القوانين التي ظهرت في عهد سلفها، وعن رجوع الكنيسة الإنكليزية إلى الحظيرة الكاثوليكية. ولتحقيق تلك الرغبة في نفسها سنت قانوناً تحتم فيه على كل قس أو راهب أن يرجع إلى الحظيرة القديمة وإلا كان جزاؤه الموت والعذاب

أخيراً انتقلت تلك الملكة الغاشمة إلى جوار ربها وارتقت اليصابات العرش. ونظراً لروحها الاستقلالية ولميلها إلى الطموح والعظمة لم تلبث أن أعلنت بعد مرور سنة من تسنمها العرش الانفصال التام عن الكنيسة البابوية وتنصيبها نفسها رئيسة عليا للكنيسة الإنكليزية

لو أتيح لنا الاطلاع على كثير من الرسائل الشخصية التي كتابها الشاعر العظيم لأصدقائه وأخدانه لأمكننا الوقوف على عقائده وأفكاره الدينية، هناك أمور عدة تحملنا على الاعتقاد بأن شكسبير كان رجلاً ديناً خيراً، ولكن حرية فكره كانت سبباً دائماً في انشغاله بأسئلة لا

ص: 46

حد لها عن الموت والحياة غير متأثر بالعقائد الدينية السائدة في عصره. كان والده بروتستنتياً متطرفاً، فلا بدع أن نراه متأثراً أثر والده، متحاملاً على البابوية والكثلكة أشد التحامل وأقساه. وبرغم هذا التحامل الظاهر فأن الكنيسة البابوية ادعته في كثير من الظروف والأحيان ابناً باراً من أبنائها وعلماً من أبرز أعلامها. واستندوا في ادعاءاتهم هذه على كثير من البراهين والحجج التي إن لم تكن ضعيفة في حد ذاتها، فلا تصل إلى تلك الدرجة من الإقناع التي يتوخونها ويطلبونها

قد نستطيع من دراستنا لروايات هذا الشاعر أن نحدد العقائد التي كان يؤمن بها. فلقد صور في هذه الروايات عدداً كبيراً من رجال الدين أمثال الراهب فرنسيس والراهب لورنس، وكان في كل صورة من أمثال هذه الصور يتوخى التبجيل والاحترام لرجال الأكليروس. إلا أن هذه النظرة وهذا الاحترام لم يتجاوزا طبقة الرهبان إلى طبقة البابوات؛ فروايته التاريخية التي تتناول سيرة الملك يوحنا تعد في حد ذاتها أكثر الروايات تحاملاً على البابوية والكثلكة. وعلى الرغم من ازدياد نفوذ البابوية في هذه الأيام وتفوقها على السلطة الزمنية نرى عدداً قليلاً من الملوك يضربون بسلطتها عرض الحائط ويحاولون نزع نير العبودية عن عواتقهم، فكثيراً ما تعرضوا لوكلاء البابا وممثليه وأفحشوا لهم القول غير هيابين ولا وجلين. دعنا نعرض الأقوال الجريئة التي فاه بها الملك يوحنا مجيباً على تدخل البابا في مسائل سياسية لا تعنيه شيئاً فهو يقول:

هل يمكن لأي رجل دنيوي مهما علت سلطته وارتفعت منزلته أن يعارض إرادة الملوك المقدسة؟ فليس باستطاعتك أيها الكردينال أن تضطرني إلى إطاعة رجل حقير لا يسعني إلا الاستهزاء به. اذهب إلى سيدك البابا وأخبره ما أسمعتك من قارص الكلم وزد على ذلك أن ليس لأي قسيس إيطالي أن يتدخل في المسائل الإنكليزية، ومادمنا بمشيئة الله وإرادته قد وجدنا رؤساء لهذه الأمة فلنا الحق وحدنا في السير بها حسبما نشاء ونرغب دون أية مساعدة من إنسان. قل له إن ذلك الاحترام وإن تلك السلطة الغاشمة قد تقلص ظلهما منذ مدة

وفي خطاب آخر من نفس الرواية يعدد الملك يوحنا المساوئ الكثيرة التي كانت الكنيسة تتصف بها في هذه العصور. فالبابا أصبح رجلاً مأجوراً يمكن للملوك أن يستخدموه إذا

ص: 47

رشوه بالكثير من الأموال، فليس من واجب الملوك أن يطيعوا رجلاً كهذا الرجل، وهذه النظرية تتبين لنا في مواضع عدة من روايات شكسبير فهو يتخذ من البابا أداة للسخرية والهزء في رواية تيتس أندرونيكس إذ يقول:

(إني لأعلم تمام العلم أنك رجل وفي ورع تحمل بين جنبيك نفساً طاهرة وضميراً حياً، وأن لك حيلاً تماثل الحيل العديدة التي يتبعها البابا في بسط نفوذه وجمع ثروته)

يتبع

خيري حماد

ص: 48

‌فن الحياة

للأستاذ عبد الرحمن شكري

مقدمة:

إن للإنسان في الحياة نشوة كنشوة الفنان عند الصنع، أو كنشوة المطلع على الفن عند الاطلاع عليه، فإذا عدم هذه النشوة صعب عليه أن يسوغ الحياة وأن يلتذها، ولا يمنع عده الحياة فنا جميلا من نقدها أو الرغبة في إصلاحها، كما ينقد المطلع على الفن ما يشاهده من الفن؛ وكذلك لا تمنع الرغبة في إصلاح الحياة من النظر إليها كأنها ممثلة حسناء تمثل الخير والشر فلا يكرها من أجل تمثيلها الشر، وهذا خير من أن يظل يبكي ويندب لأن نمر الشر الذي في كل نفس لم يتحول هرة وديعة كالتي تراها في المنازل، وهو لو تحول ما تجاوز أصله ولا فصيلته، إذ النمر والهرة من فصيلة واحدة

(الناظم)

أيا حسن هذا العيش لو كان قصة

يُسُرُّ بها ساري الورى وهو يسمرُ

على ما بها من ضجة بين شقوة

وكم عاشق للنقص يهوى ويُنكر

فليت الفتى يبدو له صرف عيشه

كعيش غريبٍ قصةً تُتَدَبَّرُ

ويا رُبَّ مأساة إذا ما بدت له

تُمَثَّلً إنْ يحزن لها فهو يصبر

وفي فنها ملهى وحسن وسلوة

لولا فنون العيش ما كان يُعذَر

وإن كان رب الناس يقضي اقتتالهم

فما شأن مثلى وهو أعلى وأقدَر

وما قَصَّرَت بي رغبةُ عن محاسن

أريدها لها عيشاً سوى العيش يُقْدَر

حياة كحسناء المسارح شرها

إذا ما حكته عاد بالفن يبهر

ممثلة حسناء كم مثلت أًذى

وغدراً أجادت فنها وهي تغدر

فما زادها إلا بهاءً وحظوةً

لدى عاشقيها وهي بالفن تأسر

تَمَلَّيْتَهاَ لما ولعتَ بفنها

ولولاه تُزْرِي بالحياة فَتَكْدُر

حنانيك إن العيش فن فلا تُرَع

وإن ناب خطب فهو مَحْكَي ومَخْبَر

تُعَانُ بهذا الرأي إن كنت قادراً

وأن أمكن الإصلاح لم تَكُ تُقْصِر

يمثل كلُّ دوره في حياته

فإنْ راق فن فهو شأوُ ومَظْهر

ص: 49

أ َإِنْ في النفس لم يُمْس هِرَّةً

تظل على الأسقام تبكي وتسخر

وما نَمِرُ عن هِرَّةٍ بِمبُاَعَدٍ

ويطغي وديعُ حين يبغي ويقدِرُ

عبد الرحمن شكري

ص: 50

‌كأس تفيض

للأستاذ محمود غنيم

لكَ اللهُ لا تشكو ولا تتبرَّمُ

فؤادكَ فيَّاضُ وثغرك مُلجَمُ

يفيض لسانُ المرء إن ضاق صدرُه

ويطفحُ زيتُ الكيل والكيلُ مفَعم

وهل يُطبق العصفورُ فاهُ على الشجى

ويمتلئُ الحاكي فلا يترنَّمُ؟

تعللتُ دهراً بالمنى فإذا بها

قواريرُ من مسِّ الصَّبا تتحطَّم

لعمرك ما أدري على أيِّ منطق

أُشاهدُ في مصرَ الحظوظَ تقسَّمُ

حملنا على الأقدار وهي بريئة

وقلنا: هي الأقدارُ تُعطي وتَحرِم

فمن يَك ذا قُرْبى وصهر فأنني

بمصرَ وحيدُ لا شقيقُ ولا حَم

فلا غروَ أني قد سكنتُ بأرضها

كما سكنت أهرامُها والمقطَّم

وقفت مكاني لا أرِيم وإِخْمَصي

على الشوك من طول السُّرَى تتورّم

كأني إطارُ دائرُ حولَ محور

يسير بلا بطءٍ ولا يتقدَّم

وما أنا ممن تخطئ العينُ مثلَه

ولكن تعامى القومُ عنيَ أو عَمُوا

أيذوي شبابي بين جدران قرية

يبابٍ كأنَّ الصمتَ فيها مخيِّم

أكادُ من الصمت الذي هو شاملي

إذا حُسِبَ الأحياءُ لم أك منهمُ

وعاشرتُ أهليها سنين وإنني

غريبُ بإحساسي وروحيَ عنهمُ

يقولون: خضراءُ المرابع نضرَةُ

فقلتُ: هبوها لستُ شاًة تسَوِّمُ

على رسلِكم إني أقيمُ بقفرةٍ

يجوز على الأحياءِ فيها الترحُّم

سئمتُ بها لوناً من العيش واحداً

فدارِي بها داري وصحبي همُ همُ

حياةُ كسطح الماء والماءُ راكدُ

فليس بها شيءُ يَسُرُّ وُيؤلم

وما أبتغي إلا حياةً عنيفةً

تسرّ فأرضى أو تسوءُ فأنقِم

حياةُ كلجِّ البحر والبحرُ زاخرُ

تدُوِّي بها الأنواءُ والرعد يَهزِم

حياةُ بها جِدُّ ولهوُ، بها رضاً

وسُخْطُ، لها طعمان: شهدُ وعلقم

فمن مبلغُ بنت المعز بأن لي

فؤاداً عليها كالطيور يحوِّم؟

وأَنيَ من سبعٍ خلَوْنَ محافظُ

على العهد إن خان العهودَ متَّيم

ص: 51

فان تجفني مصرُ فحسبيَ أنني

أحُج إليها كلَّ عام وأُحرم

حنانيك إني قد برمتُ بفتيةٍ

أروحُ وأغدو كلِّ يومٍ إليهمُ

صغارُ نربيهم بمثل عقولهم

ونبنيهمو لكنَّنا نتهدَّم

لأُوشِكُ أن أرتدَّ طفلاً لطولِ ما

أُمَّثل دورَ الطفل بين يديهمُ

فصولُ بدأناها وسوف نعيدها

دواليكَ، واللحنُ المكرَّر يُسأم

وما كنت أُعْنَى بالنتيجة طالباً

فصرت بها في هدأة الليلِ أحلُم

فمن كان يرثى قلبُه لمعذَّبِ

فأجدر شخصٍ بالرثاءِ المعلِّم

على كتفيهِ يبلغُ المجدَ غيرُهُ

فما هو إلا للتسلُّق سُلَّمُ

وَدِدْتُ لَوَ أنّي عدت للدرس ناشئاً

أسيرُ وفي يمناي لوحُ ومِرقم

يقولون: منطيقُ أغرُّ بيانهُ

فقلت لهم: لكنَّ حظِّي أبكم

أرى الحظُ مُنقاداً لكل مهرِّج

فأما على الأكفاء فهْو مُحرَّم

يفوز به من يقطع السْبل مُلحفاً

ويغشى بيوتَ الناس والناسُ نوَّم

ورُب أمور يخجل الحرَّ ذكرُها

وبعضُ الذيُ يرْوَى عن الناس يُكتم

وكائن ترى الحرَّ الأبيّةَ نفسُه

يضيع له حقُ وآخرُ يُهضم

فيا ليتني أغضيتُ جفني على القذَى

وعلَّمت نفسي بعضّ ما ليس تَعلم

فلو أن نفسي طاوعتني فرضتها

على الهوْن لم أخسَرْ وغيريَ يغنم

ألا فليَسُدْ من شاء حسبيَ أنني

ضَنَنْتُ بماء الوجه حين تكرَّموا

نظمتُ فما أطريت غيري تزلُّفا

ولكن لنفسي لا لغيريَ أنظم

ولم أتغزَّل في الكرام وفضلهم

وغيري بهم لا بالكواعبِ مُغرم

وإني لمغبونُ إذا صرتُ قيصراً

وطوَّق بالنعماء جيديَ منْعم

(كوم حماده)

محمود غنيم

ص: 52

‌الجامعة الأمريكية والصحافة

تفتح الجامعة الأمريكية بالقاهرة أبوابها هذا العام عن قسم خاص بالصحافة، على نحو ما تعنى به الجامعات الأوربية والأمريكية لإعداد طالب الصحافة إعدادا جامعياً دقيقاً يتناول دراسة اللغات وعلوم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس والتاريخ والفلسفة والعلوم السياسية ونظام الحكومات والتربية المقارنة، وكذلك الفنون المرتبطة بمزاولة العمل الصحفي في نواحيه جميعاً كالأسلوب، وتحرير المقال، والتصحيح، ومهمة الأخبار، والتبويب وما إليها

وتبدو مهمة الجامعة الأمريكية في هذا الباب عظيمة الشأن، شأنها في عديد من أقسامها الأخرى كقسم المعلمين والقسم الإعدادي، واضطلاعهم بمسائل الطالب الحيوية وإعداده للحياة كما يجب أن يحيا. ولكن طالب الصحافة الجامعي وعناية الجامعة الأمريكية به وتمثل هذا النوع من التعليم في مصر أو في الشرق عل وجه العموم يكون له من عظم الشأن ما يجعله في مركز ممتاز دونه في المعاهد الأخرى نظراً لاعتبارات خاصة لها من الأهمية هي الأخرى مالها، لأنه:

أولا: مركز مصر من الشرق في مقام الزعيمة لا يسمح بأن يدانيها بلد آخر في مضمار الصحافة أو العناية بدراستها

ثانياً: جعل تعليم الصحافة بنوع خاص في دائرة حرة بعيداً عن الإدارة الحكومية والضغط السياسي

ثالثاً: الشعور السائد الذي يتناوب القراء والصحف، شعور بالحاجة إلى توسيع المعارف والمعارف الصحفية وتكثير نسلها

رابعاً: فتح أبواب جديدة أمام طلبة التعليم العالي في مصر والشرق بعد أن ضاقت بهم صناعات ووظائف أخرى كالمحاماة والطب والهندسة وغيرها

خامساً: تغذية الصحف بعنصر صالح لإدارة أعمالها بمهارة ولباقة، فضلاً عن أن الصحف تعتبر أداة هامة في نشر المعارف وفتق الأذهان وخدمة الوطنية، وملاحظة مثل هذه الاعتبارات مجتمعة أو منفردة لمما بجعل للجامعة الأمريكية أولاً وأخيراً حق السبق وحق العناية فيما لو فكرت حكومة في الشرق في مثل هذا النوع من التعليم، وإن كان ذلك، وإنن، فما هو اليوم البعيد الذي نرى فيه الصحفي الأمريكي بمعنى الكلمة أول ثمار الجامعة الأمريكية في مصر والشرق.

ص: 53

ا. ت

ص: 54

‌فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

22 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية السلبية من مذهب نيتشه

الإنسان

للأستاذ خليل هنداوي

بين اليهود نشأت ذرية الكهان، وبينهم هبت ثورة العبيد، واندلعت نيرانه على المبادئ الأرستقراطية. نقموا على المبادئ القائلة بأن الصالح والشريف والقوي والجميل والسعيد هم الذين تحبهم الآلهة، وعملوا على دحضها بمنطق قوي. قالوا إن الضعفاء والعجزة والأشقياء والبؤساء هم الصالحون وحدهم. . . وإن المتألمين والتعساء والمرضى والقبيحين هم وحدهم المقربون إلى الله، ولهم وحدهم أعدت مساكن النعيم. أما النبلاء والجبارون الأقوياء فهم الجاحدون القاسون، وهم في تلك الدار المخذولون والأشقون

جاءت المسيحية فورثت عن اليهودية هذا الميراث. وأكمل الكاهن المسيحي ما بشر به الكاهن اليهودي. وها غبرت عشرون قرناً وهو الظافر المنتصر. فكان أول مشهد من ذلك الانقلاب مسألة النفس والإرادة الحرة المختارة. وفي الحقيقة لا نفس منسلخة عن جسد، ولا وجود للإرادة الحرة، وقد تكون إرادة بلا حرية ولا اختيار. وإنما هنالك إرادات قوية تقوم بأعمال ذات قيمة، وإرادات ضعيفة عملها ضئيل، آراء كالرعد يقصف، هي في الحقيقة فكرة واحدة ترتدي أثواباً مختلفة. فالرعد ليس بشيء ذاتي يقدر على القصف وعلى غير القصف. إنه رعد حين يقصف؛ كذلك شأن مجموعة القوات المتجلية في الرجل القوي لا تبدو ولا تظهر إلا بهذه المظاهر. والعقل الشعبي استطاع بواسطة الافتراض الاختياري أن يفرق بين الكائن والحادث بين الإرادة ومظاهرها، وافتراض أن وراء أعمال البشر ووراء ما تأتيه إرادة القوة كائناً أو نفساً هي علة هذه الأعمال. وهذه النفس هي جوهر حر يظهر كيفما يشاء، ويعمل كما يشاء. وهذا الذي تمثلوه (حراً مختاراً) أصبح العبد يساوي بالسيد، بل يجعله متفوقاً عليه. وهكذا أصبحت قيمة الفرد لا تتوقف على ما يتكون فيه من مجموعة قواته. وبذا زال عندهم تفضيل القوي على الضعيف بفضل منطقهم (لأن القوي

ص: 55

يعمل بحسب قواه وهو خاطئ لأن عمله بحسب قواه عمل سيئ. والضعيف يعمل بحسب ضعفه وهو ذو حق، لأن عمله بضعف عمل حسن. فالضعيف إذن هو خير من القوي،) ويصف نيتشه وصفاً مؤثراً تلك العوامل التي لجأ إليها العبيد الذين تغلي صدورهم غيظاً وموجدة، ليحطوا من قدر الأسياد، وليحولوا أنفسهم إلى شهداء وقديسين

هذا هو المثل الأعلى للعبد. فهو يحيا بتلك الدعوات المعزية التي ابتدعها. ولكن أثقال ضعفه الراسية على ظهره لينوء بحملها فيتألم ويشكو ويتململ، فيجئ الكاهن لا ليبرئه من دائه، ولا ليقطع أسبابه كما يصنع الطبيب. يجيء لينسى الصابر ما يحسه من ألم وشقاء، وليبث فيه (مواد مخدرة) ترقد الألم ولا تمحوه. يغفى مريضه ويعطيه مادة تضعف فيه القوة الحيوية والعقلية يلقى الزهد والتقشف والبلاهة في نفسه وجسده خدراً إلى حين، فيذهل عن ألمه بل يوشك أن ينفك عن كل إحساس فيه. فيغدو هذا الرجل المنحط (قديساً)، وقد يحيط الكاهن بالرجل فيجعل منه آلة تستغرق كل انتباهه وتجعل منه شيئاً يتحرك بذاته، ويصرفه عن التأمل في نفسه والتفكير فيها، ويلهيه بالانكباب على بهجة حقيرة يسهل عليه نيلها محبة القريب والمحبة والمساعدة المتبادلة، ثم يعمل الكاهن على أن يصرف (قطعانه المريضة) عن آلامهم الذاتية

وإزاء هذه العوامل التي أختلقها عوامل أخرى أبتدعها لمصلحته الخاصة. عوامل خطرة مؤثرة، تنطوي على سموم تنسي المتألم آلامه وتفني فيه قوته الحيوية. وهذا السم هو (الإيمان بالخطيئة)

أما أصل الخطيئة فسببه دافعان ولدا اختياراً في قلب الإنسانية. وهما الضمير الفاسد، والإيمان بدين مكتوب على الإنسان لله. والضمير الفاسد - عند نيتشه - هو نتيجة تشويش في النفس عميق. تسيطر على الإنسان يوم كان وحشاً معتزلاً، ثم انقلب عضواً رئيسياً في قطيع الأحياء، والحكومة هل هي إلى - كما يحتمل الذهن - ظلم مرعب فرضه الأقوياء على الضعفاء، وفجأة وجد المغلوبون على أمرهم أن أسباب الوجود عندهم مقلوبة رأساً على عقب، وألفوا أنهم أصبحوا لا يستطيعون أن يتبعوا بحرية واختيار تلك الغريزة الطبيعية التي كانت تسوقهم. فظلوا يبذلون جهودهم بينهم وبين أنفسهم ليقودوا أنفسهم بفطنة، ويضغطون على إرادتهم خشية أن تجازف بالإساءةإلى الأسياد، ويعملون بتعقل

ص: 56

وتأمل. ولكن هذه الغرائز هي جزء من قوة لابد لها أن تبدو مظاهرها وآثارها. فإذا كتب على هذه القوة أن يضغط عليها حينا حتى لا تخرج عن نفسها بأي دافع ما، فهي ولابد مستحيلة إلى قوة خفية تعمل عملها في الباطن. وبمثل هذا التبدل وعلى مثل هذا التحول ولد (الضمير الفاسد). فهو وليد هذا الضغط الباطني الذي تصير عليه الغريزة الطبيعية في الإنسان. وهو كالوحش السجين الذي عضته الوحشة ونازعه حنينه إلى العرين والحرية والصحراء، ينهش جسمه بين قضبان القفص. كذلك الإنسان الابتدائي الأهلي السجين يتألم بنفسه، وغريزة الحياة الكامنة فيه المقيدة بمظاهرها الخارجية أمست تبدو بحالة هيجان باطني

وفكرة الدين المكتوب لله على الإنسان هي فكرة قديمة مترددة في الشرائع القديمة. ففي العصور الأولى كانت كل قبيلة تؤمن بأنها مدينة بخيراتها الحاضرة للذريات السابقة. وأن الأجداد الذين قضوا يصيرون بعد الموت أروحاً قوية تتابع تأثيرها في الأحياء وتواصل إحسانها إليهم. ولكن كل إحسان لابد أن يبذل ثمنه. وهكذا تولد في عقول الناس أنهم مدينون بشيء لآبائهم وأجدادهم. وهم مضطرون إلى تقديم الضحايا لهم جزاء وفاقاً على دفعهم للأذى والضر عنهم. ومن هنا نشأت عبادة الأجداد في فجر كل مدينة، ثم تطورت هذه العبادة قليلاً قليلاً. فالاحترام الذي كان يكنه الإنسان لأجداده جميعاً ما فتئ ينقبض حتى أرتكز في الجد الأصلي للسلالة، ثم نزل هذا الجد بدوره منزلة الإله. وكلما كان الإله قوياً مخيفاً كان شعبه الذي يجله ويعبده أكثر فلاحاً وتقدماً، وفي الظروف التي تنمو فيها عظمة الإله ينمو أيضاً الشعور بذلك الدين المفروض في سبيل احترامه وتزداد خشية الإنسان من قصوره في العمل لربه. وبواسطة هذا المنطق ألفينا أن عاطفة خضوع الإنسان لله بلغت الدرجة القصوى يوم ظفر إله المسيحية بالأوثان. ودانت له الأرباب وعسكر في مناطق بارزة من أوروبا. فآمن الإنسان إذ ذاك بأن الدين قد تضخم. حتى أصبح أجل من أن يوفى. وجد نفسه أنه مدين عاجز لا يملك شيئاً والدائن هو الله. فهو والحالة هذه هدف للقصاص الفظيع. والإنسان في شدته هذه تحرى عن وسائل كثيرة ليطرح عن ظهره هذا الدين الثقيل. فلام الإنسان الأول الذي استحق لعنة الإله. فابتدع (الخطيئة الأصلية) وجرم الطبيعة، وأنكر الغرائز الكامنة فيه، ونظر إليها كجراثيم شر وشقاء، ولعن الوجود نفسه.

ص: 57

وجعل رجاءه كله في العدم وفي حياة ثانية. وفي النهاية أعطى المسألة التي ناء بها ظهره طويلاً هذا الحل الغريب، إن الدين المفروض على الإنسان من قبل الله هو دين لن يقدر على أدائه الإنسان، والإله وحده يفي عن الإله. فوجد الإله أن يضحي بنفسه في سبيل حبه للإنسان واستنقاذه من دين مكتوب عليه، فتمثل إنساناً وقرب نفسه قرباناً. وبهذا الفصل الذي أداه اشترى نفوس الذين يراهم جديرين برحمته ورأفته

يتبع

خليل هنداوي

ص: 58

‌القصص

صور من هوميروس

7 -

حروب طروادة

الفدائي الأول

للأستاذ دريني خشبة

رويت الإلهة إذن وشفت ما في أنفسها من ظمأ إلى دماء الضحايا، وإن لم تغفر لديانا البارة، ديانا ربة القمر، إنقاذها للفتاة التعسة إفجنيا، وهي على قاب قوسين من خناجر الكهنة والربيين القساة

لقد أبت الإلهة إلا أن تشرب من ماء الحياة القرمزي المتدفق في عروق عبادها المخلصين من أبناء هيلاس؛ فلما ذهب كالخاس، عراف الحملة، يستوحي أربابه في معبد دلفى هل لها مطلب آخر في ضحية أو قربان بعد تقدمه إفجنيا، ارتفع الصوت الخافت المنبعث من صميم مقصورة الإله الأكبر يقول:(لا. . . . ولكم أن تقلعوا اليوم. . . . فإذا كنتم عند شطئان طروادة، فان لنا دم الفارس الأول الذي تطأ قدماه رمال الشاطئ. . . سيقتل، وسيكون لنا عوض من إفجنيا!)

ودعا إليه أبناءه ايولوس رب الرياح الست فأمرهم أن يكونوا جميعاً في خدمة الأسطول الهيلاني، حتى يصل إلى طروادة. . . . (وأنا أعرفك يا بوريس حين تعصف وتزف، وتصبح ويلا على الجواري أي ويل؛ وأنت يا كوروس، إياك وهذه البوارح التي تصلي بها سفائن القوم، وأنت يا أكويلو؛ وأنت أيضاً يا نيتوس، إن ريحك مجفل، وهبتك هوجاء، ولفحاتك حرور، وأنفاسك سموم، فان لم تترفق بالقوم، وتجر بين أيديهم رخاء، فلأسجننك في الكهف الأسود حتى حين، أما أنت يا ولدي إيودوس، فأحذر أنت تصيب الناس سوافيك أو يسوء فألهم فيك؛ بل كن لهم خادماً أميناً، تدفع ركبهم في رفق، وتملأ شراعهم في أناة. . . . ويسرني أن تسمعوا لنصيحة زفيروس، فهو ألينكم عريكة، وأكثركم صفاء. . . ألقوا إليه بزمامكم، ولا تختلفوا في أمر يلقيه إليكم، أصلح لكم زيوس أحوالكم. . . .)

وهبت الريح فخفقت أفئدة العسكر، وابتهجت أنفس القادة، واجتمع الميرميدون حول أخيل

ص: 59

يترضونه ويعتذرون عن رجمهم إياه يوم القربان المشئوم، ثم انتشرت الشراع ورفعت المراسي، وهمت الفلك فاحتواه البحر اللجي، وما عتمت أن صارت من الماء والسماء في خضرتين، ومن دروع الجند وزبد الموج في لبدتين، ومن قلوب الشعب الهاتف فوق الشاطئ الشاحب في بحر من الآمال!

واضطرب البحر بعرائس الماء وأبكاره، أسرعن من كل فج يحيين أبطال هيلاس، يخفين الوشائح السوداء التي ادخرنها لأيام الفصل، إن أيام الفصل كانت ميقاتاً

وتوارت الشمس بالحجاب، وبزغ القمر يفضض حواشي الماء، وحملقت النجوم ترى إلى هذا الأسطول اللجب يمخر عباباً من خلفه عباب، ويطوي لجة من ورائها لجة، والملاحون دائبون ما ينون، مرسلين في اللانهاية ألحانهم، مرددةً الرياح أغانيهم وأنغامهم؛ والقادة متكبكبون حول القائد الأعلى، حول أجاممنون، يدرسون تلك الخطة، وينقدون هذه الفكرة، ويدبرون من أمرهم ما يصل بهم إلى نصر عزيز

وتنفس صبح اليوم الثالث. . .

وبدت طروادة العاتية في الأفق الشرقي، متشحةً بالشفق النحاسي، الذي صبغ سماءها بالبنفسج الرائع، تتفجر منه أنهار من الدم!!

طروادة!

ذات الأبراج المشيدة، والقباب المنيفة!

إليوم!!

بنية نبتيون إله البحار يوم نفاه زيوس من جنة الأولمب، ونفي معه أبوللو، فساعده في بنائها بموسيقاه!!

يا ما أروعه منظراً أن ترى إلى أبوللو العظيم يعزف على قيثارة المرنة، فتثب الحجارة وتتراقص، وتقفز إلى مكانها من أسوارك يا إليوم!!

طروادة يا ذات الحول!

أين تنام هيلين الساعة سالمة حالمة، وأيان تتقلب ترب فينوس ملء ذراعي باريس!!

ويحك يا منالاويس!

إنه ينظر بعينين مشدوهتين إلى أسوار طروادة، يتمنى لو تندك على العاشقين الآثمين!!

ص: 60

(. . . أهو الآن يقبلها، ويجني جنا خديها بفمه النهم المشتعل؟ أم هو يضمها إليه في عنف، غير آبه لقلبي الخافق المضطرب!. . . . . .)

منالايوس! لابد مما ليس منه بد. . .

لقد ترامت أخبار الحملة الهيلانية إلى طروادة فهب أهلها البواسل يستعدون ويستعدون جيرانهم فنصروهم ولبو نداءهم، وهرعوا إليهم من كل فج عميق، وهاهي مشارف الجبال وقننها وسفوحها، ونتوء الشاطئ وصخوره ومغاوره، وهاهي ليديا المتيقظة، وإيوليا المتحفزة، وإيونيا الرابضة. . . هاهي البلاد جميعاً تضج بالجند، وتعج بالسلاح، وتقعقع بآلة الحرب، وتدق طبول الوغى، وتذكي نيران الحراسة في قمم الجبال، فلا تغفل عين ولا تهمد همة، ولا يتسرب إلى النفوس كلال

واقترب الأسطول من الشاطئ. . .

ولكن أحداً لم يجسر أن يجازف بنفسه، لأن القتيل الأول، هو أول من يهبط إلى الأرض، كما أخبرت النبوة في معبد دلفى!

ومرت أيام: والهيلانيون في سفائنهم ينظرون إلى أبراج طروادة وفجاجها، ويتحرقون شوقاً إلى لقاء جنودها، ومنالايوس يحرق الأرم هو الآخر؛ ولكن أحداً لا يرضى أن يكون الفدائي الأول. . . (لأني إذا نزلت إلى هذا البر المخوف فسيكون الموت محتوماً علي، دون أن أستطيع إلى قتل أحد من هذا الجند من سبيل، وأنا لم أحظر إلى هنا لأكون قرباناً للإلهة، ولكن لأزاحم وأنافح وأصول، فان قتلت بعدها، فبعشرات وعشرات، لا كما يقتل كلب البرية غير مفدى. . .)

برتسيلوس البطل

بيد أن هيلانياً مقاحماً، هيلانياً واحداً، من خيرة القادة ومذاويدهم، عز عليه ألا يكون في هذا الجيش العرمرم، على ما جمع من صناديد اليونان ومغاويرهم، فدائي واحد يتلقى الطعنة الأولى النجلاء، بثغر باسم، وقلب لا يجزع ونفس مؤمنة مطمئنة لا تهلع في موقف الموت، ولا تفرق إذا حم القضاء!

كبر على بروتسيلوس أن يرمي قومه بجبن ليست لهم يد فيه، وكبر عليه أن يقف ألف ألف لو شاءوا دكوا الجبال وزلزلو السماوات، من دون هذا البلد الذي لا يتقدمون ولا يتأخرون،

ص: 61

كأنما حربهم هزل، ونفيرهم مكاء، وعزمهم تلفيق. أو كأنما ملأو الدنيا وعيد لتمتلئ عليهم سخرية وضحكاً!

كبر على برتسيلوس ألا يكون هو شهيد هذا الموقف فارتخص نفسهن وهانت عليه الحياة، وتفهت في عينيه لذائذ هذا العيش الذليل؛ ثم استخار أربابه، واستعاذ بسيد الأولمب وما هو إلا أن لمح الشمس يذر قرنها في خدر الشرق، فوق جبين طروادة، حتى قذف بنفسه على الشاطئ، وأرسل في الخافقين صيحة الحرب كأنها رعد يميد به جانب الجبل، وتهم من قصفه أسوار المدينة؛ ثم جال جولة هنا وجولة هناك، وإذ بالسهام ترشقه من كل مكان، وإذا هو ملقى على أديم الثرى مضرجاً بدمه، معفر بأول نقع الوغى

رحلة من الدار الآخرة

وذاع خبر مقتله حتى انتهى إلى تساليا، حيث زوجته المفجعة، فحزنت عليه حزناً أمض قلبها، وشف جسمها، وأقض مضجعها، وصير الحياة في عينيها حلكاً شديداً وظلاماً قائماً؛. . . . (برتسيلوس! أهكذا يا حبيبي ذكرت كل شيء في ميدان المجد والشرف، ونسيت فيه كل شيء؟ أهكذا يا حبيبي ذكرت التضحية والأقدام حين تخاذل مواطنوك عن مواطن التضحية والأقدام، فغامرت بنفسك في هذا المعترك المضطرب، ونسيت أن ورائك قلباً ينعقد رجاؤه بك، ونفساً ترف من خلف البحار فوقك، وروحاً لا سكن لها إلا صدرك الحنون، وعينين لا يعرفان جمال الحياة إلا في وجهك المشرق، وأذنين ما التذتا إلا الموسيقى المنسكبة من فمك!! برتسيلوس! ما قيمة الحياة بعدك يا حبيبي! من لزوجتك التعسة يوم يفخر النساء بأزواجهن؟ من للمحزونة الكاسفة لاؤوداميا؟ ما أشق الحياة علي بعدك يا رجلي ومن كنت كل شيء لي!

لا أسخط عليكم يا أربابي!

بل أنا أصلي لكم، أصلي لكم بدموعي وقلبي! أصلي لكم بأحشائي التي تتمزق، ورأسي الذي يحترق! أصلي لكم بلساني الذي يجف من شرق في حلقي، وكان حديث برتسيلوس يرطبه وينديه! أصلي لكم يا أرباب الأولمب عسى أن تلين قلوبكم لي، فأرى حبيبي وأموت!!

رجية يسيرة على مقدرتكم يا أرباب الأولمب! إما أن أقضي فأستريح من هذا الكمد

ص: 62

الممض، والبث المؤلم، وإما أن تأذنوا فيعود برتسيلوس، فأراه وأموت!

أتمنى عليكم أن يعود فأكلمه. . . أملأ أذني وقلبي من موسيقاه! أناديه باسمه ويناديني باسمي! يعانقني وأعانقه! يرى إلى عبراتي وأنظر إلى عبراته! يبتسم لي في رضاه وفرحه، وابتسم له في انكساري ولوعتي!

ائذنوا يا أرباب الأولمب، فأنا ما أفتأ أصلي لكم، وأتوسل إليكم بدمه الزكي، وروحه الأبي، وقلبه الكبير!

ارحموا ذلي، ورقوا لهواني، وارثوا لحالي!. . . . . .)

وصيرت بنواحيها إشراق الصباح ظلمة من الحزن لا أول لها ولا آخر؛ وأرسلت في الليل البهيم أناتها المؤلمة، وزفراتها الحارة؛ ووصلت بكاءها الطويل بصلاتها الخاشعة، حتى ارتجفت قواعد الأولمب، واهتزت عروشه الذهبية، وانعقدت بينه وبين لاؤوداميا قنطرة من الحزن، عبرت عليها بركات الآلهة إلى فؤادها المكلوم، فمسحت عبراتها، وهدأت من روعها، وبشرتها بعودة برتسيلوس!

وفي هادئة ليلة مقمرة، سكن هواؤها وصدح بلبلها، وأنشد البدر لحنه الصافي على آراده الفضية ليغمرها بهاءً وروعة، خرجت لاؤوداميا المحزونة من قصرها المنيف، لتلقى روح برتسيلوس يهدهده هرمز الكريم بين يديه، حتى يكون تلقاء زوجته فترتمي بين ذراعيه!

ويغرقان في طوفان من القبل!

ويغرقان في لجة من العبرات!

ويقص عليها برتسيلوس أنباء مقتله. . . فتبكي. . . وتبكي. . . وتعاتبه لاؤوداميا. . . وتعذله. . . ولكن الساعات الثلاثة التي سمحت بها الآلهة للقائهما تمر كاللمح. . . فينبههما هرمز إلى انقضائها. . . وما تكاد تسمع نذير هرمز، وتعرف أن زوجها عائد أدراجه إلى هيز، فيظل فيها إلى الأبد، حتى تصعق مكانها، وتخر مغشياً عليها. . . وتموتّ!

فوا رحمتاً للزوجين السعيدين

(لها بقية)

دريني خشبة

ص: 63

‌الباقي على قيد الحياة

للقصصي الفرنسي بلزاك

ترجمة حسن محمد حبشي

حين دقت ساعة مدينة (مندا) الصغيرة مؤذنة بانتصاف الليل، كان ضابط فرنسي شاب متكئاً على حافة سياج طويل يحيط بالقلعة، غارقاً في لجة التفكير العميق، وذلك أمر غير مألوف بالنسبة لما يحيط به، ولكنه كان منصرفاً عن كل ما هو فيه من وقت وليل ومكان إلى التفكير القوي، وكانت سماء أسبانيا الجميلة تمتد في زرقة صافية فوق رأسه، وقد رصعت بالنجوم الألاءة، وضوء القمر الساطع ينير هذا الوادي الجميل الممتد تحت قدميه، وهو يشرف على مدينة (مندا) ويعلوها بمائة قدم؛ وكأن الطبيعة قد هيأتها هكذا لتكون في مأمن من رياح الشمال الآتية من هذه الصخرة الكبيرة التي تقوم عليها القلعة، وإذ أدار الضابط رأسه، أبصر البحر يكتنف البلدة بأمواهه الفضية، وكأنه قد استحال إلى قطعة من اللجين الذائب، وكأن القلعة كوكب أو جوهرة ضوء وهاج، وكان وهو في مكانه، يسمع صدى رنات الموسيقى، وعربدة الضباط في الحفلة الراقصة، وقد اختلط ذلك بهمهمة الأمواج الآتية من بعد، وكأن نسيم البحر والليل جددا نشاطه المنهوك، زد على ذلك ما حوله من حدائق فيحاء، وزهور عطرية الشذا، نفاحة الأريج، فكأنه مغموس في حمام من العطر الزكي

وكانت قلعة (مندا) في حوزة شريف أسباني، اتخذها وأسرته دار إقامة، وكانت ابنته الكبرى (كلارا) الجميلة ترمق الضابط الفرنسي الشاب بنظرات مبهمة، وإن كانت تنم عن حزن عميق

وكانت كلارا هذه فتانة رائعة الحسن، فوقع جمالها في قلب الضابط الفرنسي موقع الماء من ذي الغلة الصادى، فوقف واجماً يفكر في هذا الجمال، وبالرغم من أن ثروة أبيها كانت طائلة، وموزعة بينها وبين أخواتها الثلاثة وأختيها، فقد رأى فكتور مارشاند (الضابط) أن فيها الكفاية لأن تكون الدوطة كبيرة، ولكن كيف يتسنى له أن يخطب يد (كلارا) ابنة الشريف الأسباني، وهو ابن تاجر صغير في باريس، أضف إلى ذلك ما بين الأسبان والفرنسيس من إحن

ص: 65

وكان الجنرال (ج) قد علم من مصدر سري أن المركيز يحاول أن يوقد مشعل الثورة لنصرة فرناند السابع، ولذا أرسل مرشاند ليعسكر في مدينة (مندا) حتى يكون على علم تام بما ينويه الثوار، ولكي يخمد أي حركة يقومون بها ضد الفرنسيس، وفي ذلك الوقت وصلت إشارة بأن المركيز يتصل سراً بالإدارة الإنكليزية في لندن، وليس من البعيد أن يرسل الإنكليز مدداً؛ ومما حير لب فكتور مارشاند أن المركيز قد استقبله وعائلته استقبالاً لا يدل إلا على منتهى الهدوء؛ ووقع بين أمرين، إذ كيف يوفق بين هذا الهدوء الذي يتجلى في المركيز وأعماله، وبين إشارة الجنرال من وجود مفاوضات سرية؟ ولكن سرعان ما تلاشت هذه الخواطر من ذاكرته، حينما مد بصره إلى الأمام، فأبصر عدة مصابيح مضاءة في المدينة، مع أنه أصدر أمره، بأن تطفأ الأنوار كلها في ساعة معينة، على رغم أن الليلة ليلة عيد ميلاد القديس سنت جون، ولم يسمح بالإنارة إلا للقصر فحسب، ومما أحال الشك يقيناً عنده، وبأن هناك يداً تعمل في الخفاء أن رأى ساريات عدة مراكب وسط مياه البحر، تحت أضواء القمر الفضية. وبينما هو سابح في تيار التفكير العميق إذ سمع وقع أقدام خلفه، ولما تبينه وجده أحد رجاله يلهث، وحين رآه قال له:

- أهو أنت يا سيدي الضابط؟

- نعم هو أنا. . . ماذا تريد؟

- إن هؤلاء الوحوش يزحفون زحف الديدان

- ثم ماذا؟

- لقد رأيت رجلاً يخرج من القصر وفي يده مصباح مضاء، وهذا مما أثار الشك في نفسي، وبعثني على أن أقتفي آثاره، وأظل قريباً منه جهد ما أمكنني؛ أجل! قد يكون مسيحياً محافظاً على التقاليد، غير أن الحالة التي هو فيها، ومخالفة أمرك، كل ذلك مما يجعل الشك يحوك في نفسي. وثم أمر آخر يا سيدي الضابط، ذلك أني اكتشفت على قيد خطوات منك، عرمة من الحطب

ولم يكد الجندي يصل إلى هذا الحد من الكلام حتى دوت في المكان صرخة صدعت السكون العميق، وانفجرت قنبلة أودت شظية منها بالجندي لساعته، واندلع لهيب النيران على بعد عشر خطوات فحسب، من الضابط الذي أسقط في يده، وتبين له أن في الأمر

ص: 66

دسيسة، وأن الثوار قد تأهبوا للفتك بالأعداء، واضطرب في مكانه، إذ لم يكن معه حسامه؛ وهاهو ذا يرى رجاله وقد تردوا في ساحة المدينة، وصمتت الموسيقى، وتلاشت ضحكات الضباط، ومر على مخيلته ما سيلاقيه - إذا هو ظل حياً - من محاكمة وإهانة، فلم يجد أمامه من وسيلة للنجاة إلا أن يلقي بنفسه في سفح هذا الوادي، حيث يتحطم جسمه على صخوره الجاثمة هناك:

وإذ كان على أهبة تنفيذ ما اعتزم، أحس يداً أعاقته عما هو قادم عليه، فاشرأب إلى صاحبها، فإذا به (كلارا) تهيب به، أم أسرع فان أخوتي على آثاري قادمون. . . . للفتك. . . بك؛ وامض إلى الصخرة القائمة عند سفح التل، وستجد حصان أخي (جوانيتو) فامتطه ولا تتريث لحظة، وإلا فقدت حياتك

فحدق الفتى فيها دقيقة، وقد فاضت نفسه بالدهشة، ولكنه تنبه أخيراً، إذ ثارت في نفسه غريزة حب الحياة، تلك الغريزة التي تتمثل في الجميع على السواء، في حيوان أو إنسان، وحمل إليه الريح صدى صوت (كلارا) تهيب بأخوتها، ألا يتريثوا في اقتفاء آثاره، كما سمع وقع حوافر دوابهم تسابق الريح، وهم على صهواتها يرسلون عليه وابلاً من الرصاص الذي يمر بجانب رأسه، ولم يتمهل هو الآخر لحظة في الطريق بل أسرع بالجواد، وبعد بضع ساعات كان في حضرة الجنرال، كان في ثلة من إخوانه يتناولون طعامهم، فارتمى أمامه قائلاً:

- (مولاي. إن حياتي بين يديك، افعل بها ما تشاء؟)

ثم أخذ يقص على الجنرال قصته، فإذا الجميع ينصتون إليه وكأن على رؤوسهم الطير، وعلى وجوههم غبرة، ترهقها قترة، وألجم الخبر أفواههم، وجعلهم آذاناً فحسب، فلما أتمها قال له القائد العام:

- (يا هذا إني أراك سيئ الحظ، أكثر من أن تكون مذنباً، لا تثريب عليك، وإني لأبرئ ساحتك، إلا إذا رأى المرشال غير هذا)

فسأله الضابط: (وإذا سمع الإمبراطور بالحادثة!؟)

فأجابه الجنرال: (سيكون القتل نصيبك، ولكن دعنا الآن من هذا، وهيا ندبر خطة ننتقم بها من هؤلاء الأوغاد، أوشاب الإنسانية، لابد أن يكون الثأر شديداً، حتى تخمد في نفوسهم

ص: 67

الوحشية والدناءة)

وفي ساعة من الزمن، شدت فرقة من الجند رحالها، على رأسها الجنرال، بصحبة الضابط فكتور، وإذا الجنود بمصير زملائهم الذين أخذوا على غرة، ثارت في عروقهم دماء الانتقام واستحلوا شعلة تتأجج لحرق الأسبان، وأقسموا أن ينتقموا لإخوانهم أشد انتقام، وسرعان ما قطعوا المسافة بين مدينة مندا، وبين مركز القيادة العليا

ورأى الأسبان أنفسهم محاصرين، وعلموا أن الجنرال لا يتردد لحظة في الفتك بأهل المدينة، لا تأخذه في ذلك شفقة ولا رحمة، فبعثوا إليه رسل المهادنة، ورضى هو أن يسلم كل من في القصر أنفسهم إليه، من أحقر الخدم إلى المركيز نفسه، واتخذ القصر مركزاً للقيادة؛ وأمر كل فرد من أفراد الأسرة الحاكمة، وخدمها أن يقيد، ونكل بالثوار أشد تنكيل، ولم يرحم رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً، بل ثارت فيه غريزته الوحشية، وبينما هو في مجلس من رجاله إذ أقبل عليه فكتور ماشاند، وقال له:

- أسألك يا مولاي أن تجيب لي طلباً، هو أن المركيز يرجوك أن تفرق بين الأشراف والعامة، وذلك بأن تطيح رقابهم بيد الجلاد لا بالمشنقة، وأن تفك قيودهم التي كبلوا بها، ولن يحاولوا الهرب، وذلك عهد قد قطعوه على أنفسهم، وإنه ليتخلى لك عن جميع أملاكه وأمواله إذا عفوت عن أحد أبنائه ووهبته الحياة

فقال الجنرال: إن أمواله قد أصبحت تبعاً للملك جوزيف، ولكني سأهبه ما طلب، وإن كنت أعرف علة رجائه، في أن يبقى اسم الأسرة، ببقاء أحد أفرادها؛ سأهبه ذلك، لمن يرضى أن يكون جلادهم، ويطيح برقابهم، والآن لا تذكر لي شيئاً عنهم البتة

اجتمع الضباط في الغرفة التالية يتناولون غداءهم، وكانوا في نهم شديد إثر ما كابدوه من نصب وتعب، فأقبلوا على الطعام كالوحوش الضارية قد أنشبت مخالبها في فريسة دسمة بعد طول سغب، وتفقدوا الضابط فكتور، فلم يجدوه بينهم، ذلك لأنه مضى إلى الحجرة التي فيها عائلة المركيز وآلمه أن يرى سادة الأمس مقيدين كالعبيد، قد ارتسمت على وجوههم دلائل الأسى الشديد، واللوعة المرة؛ وأي لوعة أشد على النفس من أن المرء أن يرى عبدا حقيرا يتحكم فيه وهو السيد الحاكم؟ وسرت رعشة في جسد الضابط حين فكر في هذه الرؤوس الجميلة، وأنها ستهوي على أقدام الجلاد مصبوغة بالدماء، وكأنما هم كانوا

ص: 68

يفكرون في هذا الأمر نفسه، فقد بعثروا حولهم تنهدات الألم والحزن التي ملأت جو الغرفة، وإذ أبصروا فكتور يدخل حجرتهم اشرأبت أعناقهم، طمعاً في أن يكون حاملا إليهم بشرى العفو، فأمر الجند أن يفكوا قيود السادة، ومضى هو بنفسه يحل وثاق (كلارا) فقابلته على صنيعه هذا بابتسامة اغتصبتها اغتصاباً، ومس في رفق ذراعها البضة الناعمة، وأعجبته خصلات شعرها الفاحم، المتهدل على جبينها الوضاء، وفتنة قدها الممشوق الجميل، وخصرها الأهيف، فسألته هل نجح في مهمته، فهمهم همهمة حزينة، وجال ببصره في وجهها ووجه أخوتها الثلاثة، وكان (جوانيتو) أكبر الأبناء يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، وأخوه (فيليب) عشرين ربيعاً، وكان (عمانويل) يبلغ ثمانية أعوام، ذا أنف روماني وطلعة جميلة؛ ثم جمع أطراف شجاعته، وأخبرها برأي الجنرال، فسرت رعدة الرهبة في أوصالها، ولكنها تشجعت ومضت تخبر أباها بما أسره إليها فكتور، وزادت عليه قولها: - أبى عليك أن تأمر (جوانيتو) وعليه أن يصدع بأمرك إذا كان مخلصاً لك، ففي طاعته إياك، وتلبيته لرغبتك إسعادنا! فلما سمعت الأم ذلك، أحست بالأمل يعاودها، وظنت أن نجاتهم أصبحت قوسين، وما علمت أن المركيز إذ ذاك يطلب من ولده أمراً، تنهد له الجبال هدا، وإذ تبينت حقيقة الأمر واطلب ارتدت إلى الوراء، تعلوها صفرة اليأس، وعرف جوانيتو السر فثارت دماء الغضب حارة في عروقه، وهب ثائراً كالأسد، قد ألفى نفسه أسير قفص من الحديد، بعد أن كان يطأ الثرى، في زهو الأمير، ويرى الغابة كلها تكاد تضيق عن خطى أقدامه، ولكن الأب هدأ كل ذلك، بأن قال:(جوانيتو)

فكانت إجابة جوانيتو هزة الرفض من رأسه، وارتمى خائراً على مقعده، يصعد ناظريه في أبويه، وقد تجلت الدهشة والأسى والغضب في عينيه الحائرتين، فلما رأت (كلارا) إصرار أخيها على الرفض، تركت مكانها إلى حيث جوانيتو، وطوقت عنقه بذراعيها الغضتين، وجثت أمامه وقبلته في عينيه قائلة:

- (أي جوانيتو: يا أعز ما أملك، آه!. . . ما ألذ الموت إذا كان من يدك!. . . إنك لا تدري حلاوته. . . كما أشعر بها الآن. . . أنقذني. . يا جوانيتو. . من يدي السفاح. . الملوث اليدين. . . حتى لا يقال. . . إن جلاداً حقيراً. . . أطاح رقاب العائلة الحاكمة. . وأنقذني من بين براثنه. . وبراثن رجل آخر)

ص: 69

ثم نظرت شزرا إلى فكتور، نظرت إليه نظرة تفيض حقداً وكراهية واحتقاراً، وكأنها بذلك تثير في نفس أخيها الحقارة للفرنسيس، وتشعل الضغينة في نفسه عليهم،. . . ثم قال له أخوه فيليب متوسلاً:(كن شجاعاً صنديداً وإلا محوت عائلتنا الشريفة من العالم)

وأمره الأب، فلم يلب طلبه، فجثا أمامه، هو وأخوته جميعاً ورفعوا أكفهم متوسلين إليه أن يضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، وأن ينقذ اسم العائلة من أن يدنس، وعرف الأب من أين تؤكل الكتف، فأهاب به قائلاً:(أي بني. أغادرتك شجاعة الإسباني، وإحساسه الشريف؟ أأجثو أمامك. . . وأتوسل إليك. . . ولا ترد طلبي إلا خائباً؟ أتفكر في ألمك فحسب. . ولا تزنه بآلامنا جميعا. . إذا أصررت على المكابرة) ثم التفت إلى زوجته قائلا: أهذا ولدي يا زوجتي؟

فصاحت به الأم في يأس: (سيلبي طلبك. . أيها المركيز!!) ولمحت جبين جوانيتو ينعقد أكثر، وتبينت أنه يألم لها أكثر من الجميع وحينذاك كانت الثانية (ماركينا) قد تعلقت بأطراف ذيل أمها، بقبضتيها الضعيفتين، وأخذت تذرف الدموع، فلما شاهدها (فيليب) انتهرها ولامها، وإذ ذاك دخل الحجرة كاهن المدينة، فالتفوا حوله كصغار الطير، ومضوا به إلى جوانيتو الصامت، فلم يستطع مرشاند، أن يرى هذا المنظر الأليم، فبارح الغرفة إلى حيث اجتمع الجنرال مع بعض قواده يجرعون الخمر، وقد أصدر أمره بإحضار فرقة من الجند تذب الناس عن أن يقربوا من جثث الخدم المشنوقين، مدلاة أمام أعين السابلة، ووقف الجلاد بهيئته المفزعة ليحل مكان جوانيتو إذا خانته شجاعته، ولم يستطع أن يقوم بتنفيذ ما عهد إليه، وصدع هذا السكون الضارب أطنابه على المكان وقع أقدام عائلة المركيز، يحيط بهم الجند مشهرين سيوفهم، يلمع في ظباها الردى، ولم تفارق الهيبة أفراد الأسرة، وكانوا يتقدمون إلى حيث النطع ممدود في خطوات هادئة، لا أثر للخوف أو الاضطراب فيها، غير أن أحدهم قد علته صفرة الأموات، متكئاً على ذراع الكاهن الذي أخذ يهدئ روعه المضطرب، بترانيم دينية، فعرف الجميع حينئذ أن (جوانيتو) سيقوم بمهمة الجلاد في إطاحة الرقاب، وجثا الجميع قريبين من المقصلة، وأي مشهد آلم للنفس من أن ترى عزيز قوم ذل؟ لقد كان المركيز وزوجته وابنتاه، وولداه أمام جوانيتو، الذي أسر إليه الجلاد بعض الكلمات

ص: 70

حينذاك اقتربت (كلارا) من أخيها، وصاحت به: جوانيتو، ابدأ بي إذا أردت أن ترفق. . . بشجاعتي المنهوكة. . . هيا. . أطح رأسي أولاً!!

وساعتئذ أبصر الناس الضابط (فيكتور مارشاند) مسرعاً نحو (كلارا) التي جثت على ركبيتها تتأهب للأمر الواقع، وتستعد لأن يطاح رأسها، فلما حاذاها تماماً قال لها في أذنها:(إن الجنرال ليعفو عنك ويهبك الحياة إذا رضيت بي زوجاً!)

فصوبت إليه نظرة ملؤها الكبرياء بنفسها، والازدراء له، ثم صاحت بأخيها، كأنها اللبؤة الضارية:(هيا، يا جوانيتو. . فإني. . . على أتم الاستعداد. . . .) وإذ ذاك أبصر الناس رأسها الجميل يتدحرج تحت قدمي أخيها، وقد انفصل عن جسدها، وسرت الرعشة في جسد أمها، ولكنها ملكت عواطفها، وتقدم أخوه عمانويل وسأله:(أتراني في مكاني تماماً. . أيها العزيز جوانيتو؟)

ثم أقبلت إليه أخته الصغيرة (ماركينا) والدموع تنهمر من عينيها، فسألها:(أتبكين يا أختاه؟)

فقالت: نعم يا حبيبي جوانيتو، إني أبكي من أجلك. . . . لشد ما يؤلمني أن تظل وحيداً حين تتفقدنا جميعاً فلا تجدنا معك)

ولكنه رفع السيف وأهوى به على رقبته الصغيرة، وإذ ذاك تقدم منه أبوه المركيز، فصوب ناظريه، وصعدهما، في دماء أبنائه الجارية تحت قدميه، كأنها المياه المتدفقة شاهدة على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ثم التفت ناحية الجماهير الذين عقدت الدهشة ألسنتهم، فكانوا أصناماً لا تتكلم، أو تتحرك تأثراً من هذا المشهد المروع، ثم مد يده إلى جوانيتو، وصاح في صوت قوي النبرات حادها، وقال:

(أيها الإسبانيون! إني أبارك ولدي، وأهبه دعوات الأبوة والآن هيا أيها المركيز. أطح رأسي، ولا يأخذك الخوف أو الرعب، هيا. لا تثريب عليك)

فلبى نداء أبيه صامتاً حزيناً، وإذ ذاك أقبلت أمه، منهوكة القوى، خائرة الأوصال، كيف لا وقد رأت أبناءها جميعاً، وزوجها المركيز، تطاح رقابهم، كأنهم الماشية بل أحقر، ذلك قلب الأم الذي:

لا ربة النسيان تر

حم حزنه وترى بكاء

ص: 71

كلا ولا الأيام تب

لى في أناملها أساه

إلا إذا ضفرت له ال

أقدار إكليل الجنون

وغدا شقياً ضاحكاً

تلهو بمرآه السنون

أقبلت أمه متكئة على ذراع الكاهن، ونظرت إليه نظرة الوداع ممزوجة بأحر الألم، فما رآها حتى تنبهت حواسه الخامدة وثار غاضباً، وقال:

- (إن ثدييها هذين قد أرضعاني صغيراً)

فانتفض الجميع، حين سماعهم هذا، وانتزعت تلك الكلمات صرخة الفزع من قلوبهم جميعاً، وسكنت ضحكات الضباط، وعرفت المركيزة وقتئذ أن شجاعة جوانيتو ولت، ولم يعد ذلك القوي، فجمعت ما تبقى من شجاعتها المبعثرة، ثم قفزت من فوق قمة المنحدر فهوت إلى القاع، وقد مزقتها الصخور الجاثمة في أسفله شر ممزق، فهتف الجمهور المشاهد هتاف الإعجاب، أما جوانيتو فقد رقد مسجى مغمى عليه، فحملوه إلى الخارج حيث عاش وقد أسموه (الجلاد)

حسن محمد حبشي

ص: 72

‌البريد الأدبي

سرقة أدبية!؟

قرأت كلمة في بريد الرسالة (115) بتوقيع (حبيب زحلاوي) يتهم فيها (الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي) بأنه سرق قصيدته (عاصفة روح) من قصيدة الشاعر الدمشقي ميشيل عفلق (؟) ونحن لم نقرأ قصيدة (عاصفة روح) ولا قصيدة (عفلق) ولا نعتد بهذا الشعر، لأنا لا نجد فيه روحاً كالتي نريد، ولا لغة كالتي نرتضي، ولكنا مع هذا نعلم أن الدكتور ناجي من نابغي الشعراء الشباب في مصر، ونعرف له أشياء بالغة في بابها حد الجودة. فأحببنا أن نطمئن الدكتور إلى أنه ليس في دمشق شاعر يسمى ميشيل عفلق ألبتة، وربما كان فيها كاتب صحف، أو ترجمان قصص، بهذا الاسم، أما شاعر فلا. . .

وقد سألنا عن القصيدتين صديقنا الشاعر أنور العطار، فأكد لنا أن قصيدة عفلق مسروقة من قصيدة لشاعر من شعراء سورية في المهجر، وأن هذا هو السر في أنه لم ينظم في حياته غيرها!

على أن هذا المذهب الأدبي الجديد لا ينكر فيما نظن السرقات الأدبية. لأنه لو أنكرها وحرمها، لسقط سقوطاً لا قيام له من بعده، لأن في كل قصيدة أو مقالة من هذا الأدب الجديد ضميراً مستتراً يعود إلى شاعر أو كاتب إنكليزي أو فرنسي. ثم إن هذا الأدب لم يكتب بلغة عربية، تضمن له البقاء، وتكفل له الخلود، وليس فيه إلا معناه؛ فإذا خسره فقد خسر كل شيء، وماذا يبقى من أدب معناه مسروق، ولغته مرذولة ساقطة؟. . .

ولعل الله يوفقنا إلى تبيان هذا في مقال آخر، نرد فيه هذه البدعة المنكرة في الأدب، بدعة أقوام سرقوا المعاني والأفكار، ثم لم يقدروا أن يصوغوها صياغة عربية فقالوا: إنه لا شأن للألفاظ، ولكن الِشأن للمعاني والأفكار

علي الطنطاوي

حول سيرة تيمورلنك

قرأت في العدد السادس عشر بعد المائة من (الرسالة) الغراء ما كتبه الأديب الباحث م. ع. ع عن مصادر ترجمة تيمورلنك وابن عربشاه، ولعل من المفيد أن أذكر بعض المراجع

ص: 73

التي ترجمت لهما مما لم يذكر الأديب الكاتب، فقد ترجم له ابن العماد في كتابه (شذرات الذهب في أخبار من ذهب) في نحو خمس صفحات كبيرة من الجزء السابع، وكذلك السخاوي في (الضوء اللامع)؛ فقد ترجم له أربع صفحات كبيرة من الجزء الثالث بتحقيق دقيق، ولابن عربشاه ترجمة واسعة أيضاً في الشذرات في أربع صفحات وكذلك في الضوء اللامع

محمد شفيق

مكانة الفن في نظم التربية

منذ بضعة أعوام عني ولاة الأمر في إنكلترا بتوسيع دائرة التعليم الفني في بعض درجات التعليم، ولاحظ الخبراء أن هذه الخطوة أثمرت ثمراً حسناً، وارتفع معيار الذوق الفني لدى الجمهور، وقد رأى مجلس الفن والصناعة أن يتقدم إلى (ديوان التربية)(أو مجلس المعارف الأعلى) باقتراحات جديدة لترقية التعليم الفني؛ وخلاصة هذه الاقتراحات هو أن يدخل في برامج التعليم في المدارس الثانوية والمتوسطة والعالية نظام ثابت للتعليم الفني، وأن يخصص فيها لهذا النوع من التعليم من العناية قدر ما يخصص لتعليم اللغات أو العلوم أو رياضيات، وأن الفن يجب أن يكون مادة إجبارية في برنامج مدارس المعلمين، وأنه يجب تشجيع استخدام المعلمين الأخصائيين في الفن. وتبوؤ الفن هذه المكانة في نظم التعليم يبث في أذهان الشباب حب الجمال في جميع مطالب الحياة

ويقول مجلس الفن إن دراسة الفن يجب ألا تكون لقصد الفن ذاته، وإنما يجب أن يكون التعليم الفني أداة للرخاء الاقتصادي. وذلك انه إذا مزج الفن والصناعة فإن معيار الصناعة يرتفع ارتفاعاً محسوساً. ولهذه النقطة أهمية خاصة، لأن أبناء الأمة إذا درجوا على تقدير الفن والنماذج الفنية، فأنهم كمستهلكين لابد أن يطالبوا بمنتجات تتفق مع أذواقهم الفنية، ولهذا يضطر أصحاب المصانع لاستخدام الفنيين لسد حاجاتهم، وهذه خطوة هامة في ترقية الصناعة

ويرى مجلس الفن أيضاً ألا يقتصر على تعليم الفن داخل المدارس، وإنما يجب أن يسهل السبيل للمتطوعين خارج المدرسة، ويجب أن يكون للفن أثره في الخط، وفي شرح دروس

ص: 74

التاريخ والجغرافيا والآداب والطبيعيات والتدبير المنزلي. هذا ولما كانت المدارس الحديثة تبني جامعة لكل أسباب الراحة والصحة، فأنه يجب أيضاً أن يعنى بزخرفتها عناية خاصة حتى يعيش النشء بين مناظر الفن والجمال

وليس الفن الإنشائي خاصة لأقلية صغيرة من الناس؛ فقد دلت معارض الأطفال الفنية على مقدرة لم تكن للنشء من قبل. وقد آن الأوان لأن يشغل التعليم الفني مكانته في جميع درجات الدراسة، وأن يكون من أهم العناصر في نظم التربية وبرامج التعليم

هجرة الكتاب والعلماء من ألمانيا

ليس من ريب في أن قيام طغيان الوطنية الاشتراكية في ألمانيا ضربة للعلوم والآداب والفنون الألمانية، وقد ظهرت آثار السياسة الهتلرية في انحطاط مستوى الدراسات العلمية والفنية في ألمانيا انحطاطاً ظاهراً، وفي تدهور الصحافة الألمانية إلى الحضيض بعد أن كانت في مقدمة صحافات العالم، وفي انحلال النهضة الأدبية الألمانية؛ ومن المعروف أن معظم العلماء الألمان قد اضطروا إلى الفرار من ألمانيا لأنهم من اليهود أو لأنهم لا يناصرون النظام الهتلري. وقد أثيرت هجرة العلماء الألمان في مؤتمر استقلال المباحث العلمية الذي عقد أخيراً في اكسفورد، وتلا الستاذ نورمان بنتوتش الإنكليزي على المؤتمر تقريراً ضافياً عن الاضطهادات التي وقعت في ألمانيا على العلماء الذين رفضوا مناصرة السياسة النازية، ويبدو من الإحصاءات التي تلاها أن العلماء الألمان الذين فقدوا مناصبهم في ظل الحكم الهتلري يبلغ عددهم زهاء ألف ومائتين، وعلق الأستاذ على ذلك بقوله إن مطاردة العلماء على الجملة إلى مثل هذا الحد ليس لها نظير في التاريخ منذ فتح الأتراك القسطنطينية في سنة 1453م، وهو فتح أعقبه هجرة العلماء البيزنطيين إلى غرب أوربا. ومما يجدر ذكره أن نحو خمسين من هؤلاء العلماء المشردين قد استخدمتهم الحكومة التركية في معاهد استانبول وأنقرة

هذا وأما الكتاب الألمان فيكفي أن تعرف أن أكابرهم يعيشون الآن في المنفى في سويسرة وإنكلترا، ومنهم كثير من الكتاب الآريين (غير اليهود) مثل توماس مان عميد الأدب الألماني المعاصر والحائز على جائزة نوبل، وأخوه هنيرش مان وولده كلاوزه، وقد جرد معظم أولئك الكتاب من أملاكهم وأموالهم في ألمانيا وحظر على المطابع الألمانية أن تخرج

ص: 75

كتبهم كما حظر دخولها في ألمانيا، ومعظمهم الآن يخرج كتبه مترجمة إلى الإنكليزية أو الفرنسية

وأما الصحافة الألمانية، فإن أولئك الذين عرفوها أيام ازدهارها وعظمتها أعني قبل ثلاثة أعوام، يدهشون اليوم حينما يرون ما انتهت إليه الصحف الألمانية من ضآلة في الحجم والمادة، ومن تشابه ممل فيما تكتب وتعرض وتناقش

الرياضة والمخدرات

يفتك وباء الأفيون ببلاد الملايو التي يسيطر عليها الإنكليز كما يفتك بالصين وكل الشعوب التي تنتمي إليها من الوجهة الجنسية أو من وجهة الحضارة. وقد قرأت السيدة هرسبروج عضو مجلس العموم الإنكليزي ومندوبة إنكلترا في اللجنة الخاصة بمكافحة الأفيون في عصبة الأمم، تقريراً في اللجنة عن الوسائل التي تجري عليها السلطات الإنكليزية في بلاد الملايو في محاربة وباء المخدرات، قالت فيه إن هذا الكفاح لا يجري فقط بالرقابة والحظر، ولكنه يجري بوسائل اجتماعية يراد بها إضعاف الرغبة في تذوق المخدرات وخصوصاً بين الشباب. ومما يلاحظ في بلاد الملايو أن عادات الشعب قد تغيرت تغيراً كبيراً عما كانت عليه منذ عشرة أعوام، ولا سيما بين الطبقات الصينية. ذلك أن اللعاب تستغرق الآن اهتمام الشباب من الجنسين. وقد أنشئت ملاعب كبيرة في المدن والقرى للعب الكرة، وهي تجذب جماهير كبيرة، وأنشئت متنزهات عامة في المدن الكبرى يؤمها الصينيون من مختلف الطبقات، واتخذت إجراءات ووسائل صحية كثيرة ساعدت على ارتفاع المعيار الصحي في البلاد، وأنشئت مستشفيات عديدة لمعالجة المرضى والمدمنين، وقد ظهر أثر التيار الرياضي واضحاً في الجيل الحالي، فهو أقل ميلا إلى الانصراف إلى لذة المخدرات وأكثر شغفاً بوجوه التسلية القائمة على ترويض الجسم والذهن

ص: 76

‌الكتب

2 -

ثلاث رسائل

بخط ياقوت الحموي الرومي

للأديب الفارسي عباس إقبال

ترجمها الدكتور عبد الوهاب عزام

قياس عبارات معجم البلدان هذه بما خطوه ياقوت في آخر النسخة التي بيد الكاتب نقلاً عن خط ابن فارس، لا يدع ريبة في أن هذه النسخة هي عين النسخة التي كتبها ياقوت لنفسه من نسخة ابن فارس

ختمت هذه النسخة من تمام الفصيح، كما يقول ياقوت في آخرها، يوم الأحد سابع ربيع الآخر سنة 616 في مرو الشاهجان، ويصرح ياقوت نفسه في معجم البلدان أنه كان في مرو الشاهجان سنة 616، وكان يفيد من خزائن الكتب النفسية في هذه المدينة، وأنه في السنة نفسها ترك المدينة خوفاً من التتار وبلغ خوارزم (الجرجانية) بعد قليل. وكذلك يصرح في معجم البلدان ومعجم الأدباء أنه كان بخوارزم في ذي القعدة من هذه السنة. ثم تركها هرباً من التتار أيضاً. ومن هذا يتبين أن ختم هذه النسخة في ربيع الآخر سنة 616 وقع قبل فرار ياقوت من مرو الشاهجان بشهرين أو ثلاثة

وأما كتابا الرماني فلسوء الحظ سقط أولهما من هذه النسخة كما سقط قسم من أول الكتاب الثاني، كتاب الحروف كما قلنا آنفاً

بين كتاب تمام الفصيح والقسم الباقي من كتاب الحروف ورقة واحدة بخط ياقوت لا صلة بينها وبين هذين الكتابين. والظاهر أنها خاتمة كتاب الرماني الذي سقط من نسختنا، وأول هذه الورقة:

(قابلت به نسخة أبي الفتح محمد بن أحمد بن أشرس النيسابوري التي قرأها على أبي محمد عبيد الله بن محمد الكاتب المعروف بابن الجراذي عن ابن الأنباري، وعلى أبي محمد بن يوسف ابن الحسين التراقي في سنة تسع وثمانين وثلثمائة. وصححته على اختلاف نضد هذه النسخة ونسخة السماع عن ابن الأنباري في تقديم بعض الكلام في

ص: 77

مواضع وتأخيره. وعلقت الحواشي من نسخته. وفرغ من انتساخه بمرو الشاهجان في عشية الأحد لثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة 615 ياقوت بن عبد الله الحموي المولى الرومي الأصل، حامداً الله ومصلياً على سيدنا محمد وآله الطاهرين ومسلماً تسليما)

ثم يتبع هذا بنقل فصل من كتاب لحن العامة لابن حاتم السجستاني. وقد سطر في آخر كتاب الحروف للرماني: (آخر كتاب الحروف. والحمد لله رب العالمين. وصلواته على سيدنا محمد وآله. وفرغت من نقله من خط أبي الحسن عمر بن أبي عمر السجستاني بمرو الشاهجان في محرم سنة ست عشرة وستمائة. وكتب ياقوت بن عبد الله الحموي حامداً الله على سوابغ نعمه)

يتبين مما قلناه من أوائل وأواخر النسخ التي خطها ياقوت في هذه المجموعة، ومن الشواهد التي أوردناها من معجم البلدان ومعجم الأدباء - ا - أن ياقوت صرح في خمسة مواضع من هذه النسخ بأن هذه المجموعة خط يده وملكه - ب - وأن ياقوت كتبها في تواريخ رمضان سنة 615، والمحرم سنة 616، وربيع الآخر سنة616 - ج - وأنه كتبها في مرو الشاهجان الحاضرة المشهورة للسلطان أبي الحارث معز الدين سنجر بن ملكشاه السلجوقي التي يقول عنها ياقوت في معجم البلدان إنه عاش فيها قرير العين مستفيداً من مكاتبها الكثيرة، وأن حبها تمكن في قلبه حتى أنساه الأهل والعيال وسائر البلدان، وأنها لو لم تقع في أيدي التتار فسيطر عليها الدمار ما فارقها حتى الممات

والحق أن من العجيب أن تنجو هذه المجموعة الصغيرة التي هي من أنفس ذكريات القرون السالفة، ومن أعز ما ملكه عالم عظيم مثل ياقوت الحموي، من نيران التتار المستعرة، وغير الزمان المدمرة، فها هي الآن بعد سبعة قرون ونصف على مكتبي ذكرى من عظمة المدنية الإسلامية في تلك العصور، ومذكرة برجل من مفاخر هذه المدينة الوضاءة: شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي

عباس إقبال

باريس 6 جمادى الأولى سنة 1354

ص: 78

‌الإسلام الصحيح

للأستاذ إسعاف النشاشيبي

للأستاذ محمد بك كرد علي

الإسلام الصحيح هو آخر كتاب عني بتأليفه أديب فلسطين السيد إسعاف النشاشيبي على أسلوب طريف في الوضع، استكثر له من المادة، راجعاً في استقائها إلى الأمهات المعتبرة في الأكثر، مستخدماً الخطابيات للتأثير في ذهن السامع وقلبه، ولكن خطابياته مدعومة بالنص المقبول والشاهد والمثل، وتتخللها أنواع من البلاغات، وفصح وشوارد من اللغة يحاول الأديب احياءها، يعرضها على القارئ في خلال كلامه شارحاً لها في أسفل الصفحة

وموضع هذا التأليف يدور على مسائل: منها أن صاحبه يدعوا إلى الأخذ بالقرآن، ويهيب بفرق الإسلام إلى الالتفاف حول رايته الجامعة، وتكلم على الوهابية والزيدية وبين منشأهما وعلى الإمامة، وأثبت من كتب الثقات أن عترة النبي هم أسرته وأن جماعة النبي إنما هم المسلمون كلهم أجمعون، فليس للنبي قرباء ولا بعداء، وبرهن على أنه ليس في الإسلام طبقات وان بعضهم أبوا إلا أن يكون المسلمون طبقات كمثل الهنادك في الهند (فجماعة تنوقت في طغيانها وإلحادها فألهت من ألهت، وما هذا (والله) بطغيان ولا ضلال، لكنه فنون من الجنون. . . وجماعة أنزلت رجالاً من هاشم غير منزلتهم، وأعطتهم ما ليس في الدين لهم، ومشايعتك المرء على الباطل إنما هو خذلان، والتقريظ والتمجيد بغير الصدق وغير الحق زور وبهتان. وقد جاء الإسلام ليحرر فأبى معتاد الاستعباد في الدين والدنيا من قبل إلا استعباده، وإلا أن يشرك بعبادة ربه عباده)، وأفاض في مراد الشريعة من المودة في القربى وتفسير آية التطهير، وفي الصلاة على النبي، وفي نشأة نقابة الأشراف، وفي الحديث والمحدثين وجناية هؤلاء كفعل بعض المفسرين على الدين يوم قالوا: إن من الآيات ما له ظاهر ومنها ماله باطن إلى غير ذلك مما نقض فيه صراحاً ما يذهب إليه بعض فرق الإسلام. وأثبت أن نهج البلاغة المنسوب لعلي ابن أبي طالب يحمل كثيراً من الصفحات التي لا يعرفها صاحبه، وأن في تلقين الأحداث كل ما في هذا الكتاب على أنه صح عمن نسب إليه رضي الله عنه لا يخلوا من ضرر على الأحداث، إلى غير ذلك من المطالب التي حل بها ما رآه أولى بالتقديم والمعالجة لرفع الخلاف من صفوف من كانت

ص: 79

قبلتهم واحدة، وموردهم الذي يستقون منه هم فيه شركاء لا تباغض بينهم، والكتاب مفيد لمن يطالعه تدبر وتفكر.

محمد كرد علي

ص: 80