الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 118
- بتاريخ: 07 - 10 - 1935
المثنى بن حارثة
على ذكر (نادي المثنى) ببغداد
للدكتور عبد الوهاب عزام
كانت قبائل ربيعة ضاربة شرقي نجد، موغلة إلى الشمال حتى أعلي الفرات. . وكانت الوقائع تثور بينهم وبين الفرس في الحين بعد الحين، فكانوا أجرأ العرب على فارس، وكان العرب يسمون فارس الأسد، فسموا ربيعة (ربيعة الأسد)
وكان بنو شيبان من هامات ربيعة في الجاهلية، وهم كانوا أبطال (ذي قار)، وامتد بهم المجد في الإسلام فكان منهم بيتوتات لها في الحرب والمكارم مآثر. يقول أبو تمام:
أُولاك بنو الأفضال لولا فعالهم
…
دَرجن فلم يوجد لمكرمة عقْب
لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد
…
وحيد من الأشباه ليس له صحب
به علمت صُهب الأعاجم أنه
…
به أعربت عن ذات أنفسها العُرب
هو المشهد الفرد الذي ما نجا به
…
لكسرى بن كسرى لا سنام ولا صُلْب
- 2 -
وقد امتدت أحقاد ذي قار بين الفرس وبني شيبان خاصة، وقبائل بكر عامة؛ حتى كان بنو شيبان طلائع الفتح الإسلامي في العراق: لما عم الإسلام الجزيرة وتوطد سلطانه سمع أبو بكر بوقائع سيد من شيبان في سواد العراق فقال: من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟ قال قيس بن عاصم المنقري: (هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد؛ هذا المثنى بن حارثة الشيباني)
ثم قدم المثنى على أبي بكر يسأله أن يؤمره على قومه ففعل. وكان المثنى من قبل على قومه أميرا، وبقي من بعد أميرا يستعينه الأمراء إذا حضروا، ويستخلفونه إذا غابوا، حتى مات بين مآثر مشكورة، ومناقب محمودة. وقد صدق عمر حين سماه:(مؤمر نفسه)
وبعث المثنى أخاه مسعودا إلى الخليفة يستمده فأرسل خالدا إلى العراق؛ فلما نزل خالد النباج كتب إلى المثنى وهو معسكر بخفان ليأتيه، وبعث إليه بكتاب من أبي بكر يأمره بطاعته. قال الطبري:(فانقض إليه جوادا حتى لحق به). فانظر إلى الرجولة كيف تسارع
إلى الطاعة!
ولما توجه خالد إلى الشام استبد المثنى بأمرة العراق، وكان بطل موقعة بابل وفيها قتل الفيل
قال الفرزدق يعدد بيوتات بكر:
وبيت المثنى قاتلِ الفيل عَنوة
…
ببابل إذ في فارسٍ مُلك بابل
ثم سار المثنى إلى أبي بكر ليخبره بجلية الأمر في العراق، فوفاه مريضا قد أشفى، فأوصى أبو بكر عمر قال:(فان أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى.) وسار الناس إلى العراق وأميرهم أبو عبيد الثقفي. فلما كانت موقعة الجسر التي زلزل فيها السلمون وقطع جسر الفرات وراءهم فتهافتوا في الماء وقف المثنى في أنجاد من العرب ينادي: (أيها الناس! إنا دونكم فاعبروا على هينتكم، ولا تدهشوا، فأنا لن نزايل حتى نراكم في ذلك الجانب). وحمى المثنى الناس حتى عبروا. ثم خلق المثنى من الفلول المهزومة يوم الجسر نصرا بهرا في موقعة البويب برأيه وسياسته وشجاعته، واحتسب فيها أخاه مسعودا؛ ثم تكاثر الفرس عليه فكتب إلى عمر، فأمره أن يتنحى بالناس حتى يأتيه أمره. ثم أرسل عمر سعد بن أبي وقاص في حشد عظيم، وانحاز المثنى إلى ذي قار. وقدم سعد إلى زرود ينتظر المثنى، ولكن الأسد المرزأ، والمسعر المجرب، انتفضت به جراحات يوم الجسر. فبينما سعد يرجو مقدمه جاءته وصيته تحملها امرأته سلمى وأخوه المعنى. عمل سعد بوصية المثنى وأمر أخاه مكانه، ثم تزوج امرأته. وقد شهدت سلمى وقعة القادسية، فلما حمى الوطيس؛ واستكلبت الموت على الأبطال، نظرت فلم تجد المثنى يسوس الأنجاد، ويقود الجلاد، فصاحت:(وامثنياه! ولا مثنى اليوم للخيل). مات المثنى وشهد له التاريخ أنه (كان شهما شجاعا ميمون النقيبة حسن الرأي. أبلى في حروب العراق بلاء لم يبله أحد)
- 3 -
فيا شباب بغداد الذين أنشأوا نادي المثنى ليحيوا ذكره! اذكروا فيه الرجولة الكاملة، والشجاعة البالغة، والمجد والسؤدد، والعمل المخلد. اذكروه قائدا مقداما، وأميرا حازما، وسيدا مطاعا، وجنديا مطيعا. اذكروه حرا أبيا، ومثلا عربيا، وخلقا عاليا. واستمدوا من ذكراه وذكرى أمثاله أخلاقا صلبة تقيكم رخاوة الحضارة، وعزيمة ماضية ترفعكم عن ذلة
الرفاهية، وتقتحم بكم الأهوال إلى الغاية البعيدة ولأمل العظيم. ثم اذكروا أن المثنى فتح العراق جنديا مسلما، فاذكروا الإسلام ومجده، واعتصموا بأخلاقه، واستمسكوا بمعاليه. وسيروا قدما في عزة العروبة، وهداية الإسلام، وأنتم الأعلون والله معكم
عبد الوهاب عزام
3 - الجمال البائس
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال الراوي:
نظرت إليها ونظرت. أما هي، فرنت إلي في سكون، وكانت نظراتها معاتبة طويلة فيها التملق والتوجع، وفيها الانكسار والفتور، وفيها الاسترخاء والدلال
وبينا كان طرفها ساجيا فاترا كأنه ينظر أحلامه، إذ حددته إلي فجأة ونظرت نظرة مدهوش، فبدت عيناها فزعتين ولكن في وجهها مطمئن
ثم لم تكد تفعل حتى ضيقت أجفانها وحدقت النظر متلألئا بمعانيه، فبدت عيناها ضاحكتين ولكن في وجه متألم
ثم ابتسمت بوجهها وعينيها معا، وأتممت بذلك أجمل أساليب المرأة الجميلة المحبوبة في اعتراضها على من تحبه، وجدالها مع فكره، وكسر حجته في كبريائه، وانتزاع الفكرة المستقلة من نفسه
وأما أنا؛ فكان نظري إليها ساكنا متألما يقر أنه عجز عن جواب عينيها، وسيبقى عاجزا عن جواب عينيها. . . .
إن وجهها هو الابتسام وروح الابتسام، وجسمها هو الإغراء وروح الإغراء، وفنها هو الفتنة وروح الفتنة، وهي بهذا كله، هي الحب وروح الحب. غير أن فهمها على حقيقتها في الناس يجعل ابتسامها عداوة من وجهها، وإغراءها جريمة لجسمها، وفنها رذيلة في جمالها، وهي بهذا كله، هي الشقاء وروح الشقاء
أما إني أحب فنعم ونعما، بل أراه حبا فالقا كبدي، وليس يخلو فؤادي أبداً من سوالف حب مضى؛ وأما إني أسترذل في الحب وأمتهن فضيلتي وأنزل بها - فلا وأبدا
إن ذلك الحب هو عندي عمل فني من أعمال النفس، ولكن الفضيلة هي النفس ذاتها؛ والحب أيام جميلة عابرة في زمني، أما الفضيلة فهي زمني كله؛ وذلك الجمال هو قوة من جاذبية الأرض في مدتها القصيرة، ولكن الفضيلة جاذبية السماء في خلودها الأبدي
على أنه لا منافرة بين الحب والفضيلة في رأيي، فان أقوى الحب وأملأه بفلسفة الفرح والحزن لا يكون إلا في النفس الفاضلة المتورعة عن مقارفة الإثم. وههنا يتحول الحب
إلى ملكة سامية في إدراك معاني الجمال، فيكون الوجه المعشوق مصدر وحي للنفس العاشقة. وبهذا الوحي والاستمداد منه ينزل المحب من المحبوب منزلة من يرتفع بالآدمية إلى الملائكة ليتلقى النور منها فنا بعد فن، والفرح معنى بعد معنى، والحزن السماوي فضيلة بعد فضيلة
فهذا الحب هو طريقة نفسية لاتساع بعض العقول المهيأة للإلهام كي تحيط بأفراح الحياة وأحزانها، فتبدع للدنيا صورة من صور التعبير الجميلة التي تثير أشواق النفس. كأن كل محب وحبيبته من هؤلاء الملهمين، هما صورة جديدة من آدم وحواء، في حالة جديدة من معنى ترك الجنة، لإيجاد الصورة الجديدة من الفرح الأرضي والحزن السماوي
والخطر في الحب ألا يكون فيه خطر. . . . فهو حينئذ نداء الجنس، لا يكون إلا دنيئا ساقطا مبذولا فلا قيمة له ولا وحي فيه، إذ يكون احتيالا من عمل الغريزة جاءت فيه لابسة ثوبها النوراني من شوق الروح لتخدع النفس الأخرى فيتصل بينهما، حتى إذا اتصل بينهما خلعت الغريزة هذا الثوب واستعلنت أنها الغريزة فانحصر الحب في حيوانيته وبطلت أشواقه الخيالية أجمع
قال الراوي: وعرفت الحسناء هذا كله من عرضها نظرة وتلقيها نظرة غيرها، فقالت للأستاذ (ح): أما أن يكون مع أثر الشعر والفكر في الجمال ودعوى الحب أثر الزهد في الجسم الجميل وادعاء الفضيلة - فان بعيدا أن يجتمعا
قال (ح): وأين تبعدينه ويحك عن هذه المنزلة؟ إني لأعرف من هو اعجب من هذا
قالت: وماذا بقي من العجب فتعرفه؟
قال: أعرف رجلا متزوجا أحب أشد الحب وأمضه حتى إستهام وتدله، فكان مع هذا لا يكتب رسالة إلى حبيبته حتى يستأذن فيها زوجته كيلا يعتدي على شيء من حقها. وزوجته كانت أعرف بقلبه وبحب هذا القلب، وهي كانت أعلم أن حبه وسلوانه إنما هما طريقتان في الأخذ والترك بين قلبه وبين المعاني، تارة في سبيل المرأة وجمالها، وتارة من سبيل الطبيعة ومحاسنها
فتنهدت وقالت: يا عجبا! وفي الدنيا مثل هذا الزوج الطاهر، وفي الدنيا مثل هذه الزوجة الكريمة؟
ثم إنها وجمت هنيهة تجتمع في نفسها اجتماع السحابة، ثم استدمعت، ثم أرسلت عينيها تبكي. فبدرت أنا أرفه عنها حتى كفكفت من دمعها، وكأن (ح) قد وخزها في قلبها وخزة أليمة بذكره لها الزوجة، ثم الزوجة الطاهرة، ثم الطاهرة حتى في وسوسة شيطان الغيرة. ارتفعت ثلاث مرات بالزوجة، لترى هذه المسكينة أنها سافلة ثلاث مرات، وكأنه بهذا لم يكلمها بل رسم لها صورتها في عيشها المخزي وقال لها: انظري. . . . .
ويا ما كان أجملها يترقرق الدمع في عينيها الفاتنتين الكحيلتين فيبث منهما حزنا يخيل لمن رآه، أنه من أجلها سيحزن الوجود كله
ليس البكاء من هاتين العينين بكاء عند من يراه إذا كان من العاشقين، بل هو فن الحزن يضع مجالا جديد في فن الحسن. وأكاد أعجب كيف وجد الدمع مكانا بين المعاني الضاحكة في وجهها - لو لم يكن هذا الدمع قد جاء ليظهر على وجهها الفن الآخر من جمال المعاني الباكية
وسألتها: ما الذي خامر قلبك من كلام الأستاذ (ح) فأبكاك، وأنت كما أرى يتألق النور على جدران المكان الذي تحلين به، فيظهر المكان وكأنه يضحك لك؟
فتشككت لحظة ثم قالت: أبك ما تقول أم أنت تتهكم بي؟
قلت: كيف يخطر لك هذا وأنا احترم فيك ثلاث حقائق: الجمال، والحب، والألم الإنساني؟
قالت: لا تثريب عليك، ولكن صور لي ببلاغتك كيف أحببتك وأنت غير متحبب إلي، وكيف جادلت نفسي فيك وداورتها عنك، وكلما عزمت انحل عزمي؟ فهذا ما لا أكاد أعرف كيف وقع، ولكنه وقع، هذه قطرة من الماء الصافي العذب فضع عليها (المكرسكوب) يا سيدي وقل لأي ماذا ترى؟
قلت: إنك تخرجين من السؤال سؤالا. فما الذي خامر قلبك من كلام (ح) فبكيت له؟
قالت: إذن فليست هي قطرة من الماء بل تلك دمعة من دموعي، فضع عليها المكرسكوب يا سيدي
قال الراوي: وكانت حزينة كأنها لم تسكت عن البكاء إلا بوجهها وبقيت روحها تبكي في داخلها. فأراد الأستاذ (ح) أن يستدرك لغلطته الأولى فقال: إنك الآن تسألينه حقا من حقوقك عليه، فكل امرأة يحبها هي عروس قلمه ولها على هذا القلم حق النفقة. . . . . .
فضحكت نوعا ظريفا من الضحك الفاتر كأنما ابتكره ثغرها الجميل لساعة حزنها، ونظرت إلي. فقلت: إن كان الأمر من نفقة العروس على قلم فما أشبه هذا (بلا شيء) جحا
فضحكت أظرف من قبل، وخيل إلي أن ثغرها انطبق بعد افتراره على قبلة أفلتت منه فأمسكها من آخرها. . .
ثم قالت: ما هو (لا شيء) جحا؟
قلت: زعموا أن جحا ذهب يحتطب، وحمل فوق ما يطيق، فبهظه الحمل وبلغ به المشقة، ثم رأى في طريقه رجلا أبله فاستعان به، فقال الرجل: كم تعطيني إذا أنا حملت عنك؟ قال: أعطيك (لا شيء). قال: رضيت
ثم حمل الأبله وانطلق معه حتى بلغ الدار، فقال: أعطيني أجري: قال جحا: لقد أخذته. واختلفا هذا يقول أعطني، وهذا يقول أخذت؛ فلببه الرجل ومضى يرفعه إلى القاضي، وكانت بالقاضي لوثة وعلى وجهه روأة الحمق تخبرك عنه قبل أن يخبرك عن نفسه. فلما سمع الدعوى قال لجحا: أنت في الحبس أو تعطيه (اللا شيء). . .
قال جحا في نفسه: لقد احتجت لعقلي بين هذين الأبلهين؛ ثم أنه أدخل يده في جيبه وأخرجها مطبقة، وقال للرجل: تقدم وافتح يدي. فتقدم وفتحها. قال جحا: ماذا فيها؟ قال الرجل: (لا شيء)
فقال له جحا: خذ (لا شيئك) وامض فقد برئت ذمتي
قالوا: فذهب الرجل يحتج، فقال له القاضي: مه؟ أنت أقررت أنك رأيت في يده (لا شيء) وهو أجرك؛ فخذه ولا تطمع في أزيد من حقك. . .
وضحكت وضحكنا، ثم قالت: أنا راضية أن أكون عروس القلم، فلجر علي القلم نفقتي، وليصور لي كيف أحببت، وكيف آمرت نفسي وجادلتها؟
قلت: لا أتكلم عنك أنت ولا أستطيعه. بيد أنني لو صنفت رواية يكون فيها هذا الموقف - لوضعت على لساني العاشقة هذا الكلام تحدث به نفسها
تقول: كيف كنت وكيف صرت. لقد رأيتني أعاشر مائة رجل فاخلطهم في شتى أحوالهم وأصرفهم في هواي وكلهم يجهد جهده في استمالتي، وكلهم أهل مودة وبذل، وما منهم إلا جميل مخلص قد أنق وتجمل وراع حسنه كأنما هرب إلي في ثياب عرسه ليلة زفافه وترك
من أجلي عروسا تبكي وتصيح بويلها. ثم أنا مع ذلك مغلقة القلب دونهم جميعا أصدقهم المودة والصحبة، وأكذبهم الحب والهوى؛ فلست أحبهم إلا بما أنال منهم ولست أتحبب إليهم إلا ما أنولهم مني، وهم بين عقلي وحيلتي رجال لا عقول لهم، وأنا بين أهوائهم وحماقاتهم امرأة لا ذات لها
ثم أرى بغتة رجلا فردا فلا أكاد أنظر إليه وينظر إلي حتى يضع في قلبي مسئلة تحتاج إلى الحل. . .
وأرتاع لذلك فأحاول تناسيه والإغضاء عنه، فتلج المسئلة في طلب حلها وتشغل خاطري وتتمدد في قلبي وهو هو المسئلة. . .
فأفزع لذلك وأهتم له وأجهد جهدي أن أكون مرة حازمة بصيرة كرجال المال في حق الثروة عليهم، ومرة قاسية عنيدة كرجال الحرب في واجبها عندهم، ومرة خبيثة منكرة كرجال السياسة في عملها بهم؛ ولكني أرى المسئلة تلين لي وتتشكل معي وتحتمل هذه الوجوه كلها لتبقى حيث هي في قلبي فانه هو هو المسئلة. . .
وأغتم لذلك غما شديدا وأراني سأسقط بعد سقوطي الأول وأقبح منه، إذ الحياة عندنا قائمة بالخداع وهذا يفسده الإخلاص؛ وبالمكر وهذا يعطله الوفاء، وبالنسيان وهذا يبطله الحب. وإذ عواطفنا كلها متجردة لغرض واحد هو كسب المال وجمعه وادخاره، وفضيلتنا عميلة لا تتخيل، حسابية لا تختل، فيستوي عندنا الرجل بلغ جماله القمر في سمائه، والرجل بلغت دمامته الذباب في أقذاره؛ والحب معنا هو كم في كم ويبقى ماذا. . . أو كما يقول أهل السياسة هو (النقطة العملية في المسئلة). ولكن المسئلة التي في قلبي لا ترى هذا حلا لها، لأنه هو هو المسئلة. . .
فيزيد بي الكرب، ويشتد علي البلاء وأحتال لقلبي، وأدبر في خنقه وأذهب أقنعه أن الرجل إذا كان شريفا لم يحب المرأة الساقطة إذ يعاب بصحبتها والاختلاف إليها، فإذا كان ساقطا لم تحبه هي، فإنما هو صيدها وفريستها وموضع نقمتها من هذا الجنس، وأسرف على قلبي في الملامة والتعذيل فأقول له: ويحك يا قلبي! إن المرأة منا إذا تفتح قلبها لحبيب تفتح كالجرح لينزف دماءه لا غير، فيقتنع القلب ويجمع على أن ينسى وأن يرجع عن طلبه الحب؛ وأرى المسئلة قد بطلت وكان بطلانها أحسن حل لها، وأنام وادعة مطمئنة، فيأتي
هو في نومي ويدخل في قلبي ويعيد المسئلة إلى وضعها الأول فما أستيقظ إلا رأيته هو هو المسئلة. . . .
فأتناهى في الخوف على نفسي من هذا الحب وأراه سجنها وعاقبها، وقهرها وإذلالها، فأقول لها: ويلك يا نفسي! إنما همك في الحياة وسائل الفوز والغلب، فأنت بهذا عدوة مسماة في غفلة الرجال صديقة، وقد وضعت في موضع تعيشين فيه بإهانات من الرجال يسمونها في نذالتهم بالحب. فأنت عدوة الرجال بمعنى من الدهاء والخبث، وعدوة الزوجات بمعنى من الحقد والضغينة، وعدوة البغايا أيضا بمعنى من المغالبة والمنافسة، وكل ما يستطيع الدهاء أن يعمله فهو الذي علي أنا أن اعمله، فماذا أصنع وأنا أحب؟ وكيف انجح وأنا أحب؟ ولكن النفس تجيبني على كل هذا بأن هذا كله بعيد عن المسئلة ما دام هو هو المسئلة. .
قال الراوي: وكانت كالذاهلة مما سمعت، ثم قالت: ألك شيطان في قلبي؟ فهذا كله هو الذي حدث في سبعة أيام
قال (ح): ولكن كيف يقع هذا الحب. وهبك صنفت تلك الرواية ووضعت على لسان العاشقة ذلك الكلام، فبماذا كنت تنطقها في وصف حبها، وما اجتذبها من رجل فاز بقلبها ولم يداورها، بعد مائة رجل كلهم داورها ولم يفز منهم أحد. أتكون في وجه هذا الرجل أنوار كتباشير الصبح تدل على النهار الكامن فيه؟
قالت هي: نعم نعم. بماذا كنت تنطقها؟
قلت: كنت أضع في لسانها هذا الكلام تجيب به عاذلة تعذلها:
تقول: لا أدري كيف أحببته، ولكن هذه الشخصية البارزة منه جذبتني إليه، وجعلت الهواء فيما بيني وبينه مفعما بالمغناطيس مصدره هو، ومعناه هو، ولا شيء فيه إلا هو
عرضته لي شخصيته ظاهرا لأن جواب شخصيته في، وأصبح في عيني كبيرا لأن جواب شخصيتي فيه، ومن ذلك صارت أفكاري نفسها تزيده كل يوم ظهورا وتزيدني كل يوم بصرا، وأعطاه حقه في الكمال عندي حقه في الحب مني؛ وبتلك الشخصية التي جوابها في نفسي أصبح ضرورة من ضرورات نفسي
قال الراوي:
ولما رأيتها في جوي نسميه وعاصفته، أردتها على قصتها وشأنها، فماذا قلت لها وماذا
قالت؟
(في العدد القادم بقيتها)
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
افتتاح إفريقية
وكيف غزاها الاستعمار الأوربي
بقلم مؤرخ كبير
ليست المشكلة الإيطالية الحبشية التي تكدر اليوم سلام العالم سوى نفثة جديدة من نفثات الاستعمار الغربي، وطموح أمة أوربية قوية إلى غزوا أمة إفريقية ضعيفة تزخر أرضها بالثروات الطبيعية الدفينة التي ما فتئت تحفز الاستعمار إلى الغزو والتغلب، وإلى اجتياح الأمم الضعيفة الآمنة؛ فهي ليست بذلك مشكلة دولية بالمعنى المعروف، وإنما هي محاولة أوربية جديدة لاجتياح آخر أرض في إفريقية استطاعت أن تنجو حتى اليوم من عدوان الاستعمار
كانت القارة الإفريقية منذ قرن فقط، منطقة بكرا، لا يكاد الغرب يعرف شيئا إلا عن أممها الشمالية التي تحتل الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، والتي كانت تتمتع مدى الأحقاب بحضارات زاهرة؛ وكانت هذه الأمم المتمدنة الزاهرة - مصر وبلاد المغرب - تكاد تحجب ما وراءها من أمم القارة السمراء، وتكون دون اجتياحها سداً منيعاً يحميها من مطامع الاستعمار الغربي الذي استطاع منذ القرن السادس عشر أن يجتاح الأمريكيتين، وأن ينفذ إلى الشرق الأقصى، واستطاع منذ القرن الثامن عشر أن يستقر في الهند. ومنذ أواخر هذا القرن أيضا توالت بعوث الاستعمار إلى إفريقية، فنفذت إليها من الشرق والغرب والشمال، وأثارت اكتشافات الرحل مثل منجو بارك ودنهام وكلابرتون ورنيه كاييه وستانلي ولفنجستون وغيرهم في الأمم الأوربية مطامع وآمالا جديدة، وبعثت النهضة الصناعية إليها رغبة قوية في استعمار تلك المناطق الجديدة واستغلال ثرواتها الدفينة، واستعباد شعوبها المتأخرة وتسخيرها في سبيل الغايات الاستعمارية
وكانت أمم إفريقية الشمالية، وهي مفتاح القارة، بالطبع محط المشروعات والمحاولات الأولى؛ وكانت أسبانيا أسبق الأمم الأوربية إلى التطلع إلى تلك الأمم المغربية التي تواجهها في الضفة الأخرى من البحر والتي خاضت معها من قبل كثيرا من المعارك، والتي استطاعت أيام قوتها وازدهارها - أيام المرابطين والموحدين - أن تغزوا أسبانيا وأن تحتل قسمها الجنوبي أعني أسبانيا المسلمة؛ ومنذ أيام الإمبراطور شارلكان وولده فيليب
الثاني (القرن السادس عشر) بذلت أسبانيا - وهي يومئذ في إبان قوتها وعظمتها - عدة محاولات لافتتاح الجزائر وثغور المغرب، ولكنها لم تستطع أن تظفر في تلك الوهاد الوعرة بفتوح مستقرة؛ واستطاعت تلك الأمم المغربية أن تحافظ على استقلالها في ظل طائفة من الحكام المغامرين الذين يرجعون إلى أصل تركي حتى فاتحة القرن التاسع عشر. وكانت أسبانيا قد انحدرت في ذلك الحين إلى عداد الدول الثانوية، وأخذت دولة أوربية أخرى هي فرنسا تتطلع إلى افتتاح تلك الأمم واستعمارها؛ وكانت حمى افتتاح إفريقية قد أخذت تسري إلى الدول الأوربية، على أثر الاكتشافات الجغرافية العديدة التي كشفت عن غنى تلك المجاهل بالثروات الطبيعية المدهشة؛ وخشيت فرنسا أن تسبقها أمة أوربية أخرى إلى غزو أمم المغرب التي تواجهها في الضفة الأخرى من البحر ولا تبعد عن ثغورها الجنوبية سوى يومين؛ ولم يكن يعوز الاستعمار أو تعجزه حجج التدخل والعدوان. ففي سنة 1830، في عصر الملك شارل العاشر، جهزت فرنسا أسطولا ضخما، وحملة قوية إلى ثغر الجزائر؛ واستولى الفرنسيون على الثغر الحصين بعد قتال رائع، وانسحب الحاكم التركي (الداي) بأمواله وأسرته؛ واتخذ الفرنسيون من الجزائر قاعدة لغزو المغرب الأوسط كله؛ وكانت بتوسطها ومناعتها أصلح القواعد؛ ولكن فرنسا لقيت خصما صلباً عنيدا في عبد القادر زعيم الجزائر وبطلها الأشهر؛ وقد استطاع هذا الوطني الكبير والجندي الباسل أن ينظم الدفاع عن وطنه زهاء خمسة عشر عاما هزم خلالها عدة حملات فرنسية قوية، وكبد فرنسا خسائر فادحة في الرجال والمال؛ ولكن السياسة الاستعمارية لم ترتد أمام هذا النضال الوطني الرائع، ولم تحجم في سبيل غايتها أية تضحية؛ فما زالت فرنسا تبعث الحملات المختلفة، وتستولي تباعا على قواعد الجزائر، وتخوض مع عبد القادر معارك مضطرمة مستمرة، حتى أتمت فتح الجزائر؛ وأسر عبد القادر بعد خطوب وأحداث جمة (سنة 1847)، وارتد الزعيم الباسل بعد أعوام من الأسر بأسرته إلى دمشق ليقضي بقية أيامه فيها
وهكذا كانت الجزائر أول قطر أفريقي سقط في يد الاستعمار الأوربي، وكان سقوطها فاتحة تلك الحركة الاستعمارية الهائلة التي تعرف (بافتتاح إفريقية) والتي اشتركت فيها معظم الدول الأوربية الكبرى، طورا متحدة وطورا منفردة، واستمرت طوال القرن التاسع عشر،
وانتهت بتقسيم إفريقية، وسقوط أقطارها تباعا في يد الدول الاستعمارية الكبرى
ولما استقرت فرنسا في الجزائر أخذت تتطلع إلى تونس ومراكش؛ وكانت تونس بما يسودها من الضعف والتفكك فريسة هينة، فما زال الفرنسيون بها حتى جردوا عليها حملة غازية في سنة 1881 ثم جردوا عليها أسطولا رسا في بيزرت، وزحفوا على تونس في مايو سنة 1885 وأرغموا (الباي) صاحب تونس على أن يعترف بالحماية الفرنسية على القطر التونسي. أما مراكش فقد استطاعت لمنعتها ووعورتها أن تقف في وجه الاستعمار مدى حين، وعاونتها السياسة الألمانية على مقاومة فرنسا وإحباط محاولاتها حتى أوائل القرن الحالي
وفي الوقت الذي سقطت فيه تونس في يد الفرنسيين كانت إنكلترا قد نظمت مشروعها لاحتلال مصر، وألفت فرصتها في اختلال الأحوال المالية، وفي قيام الثورة العرابية، فبعثت حملتها المعروفة إلى مصر في صيف سنة 1882، واحتلت عاصمتها في سبتمبر، في ظروف مازالت معروفة ماثلة في جميع الأذهان، ومازال الاحتلال الإنكليزي قائما في مصر، ومازالت المسألة المصرية تنتظر حلا شريفا عادلا يحقق أماني مصر في استرداد حرياتها واستقلالها
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر كانت البعثات الاستكشافية العديدة قد ألقت برحلاتها ومباحثها كثيرا من الضياء على إفريقية ومجاهلها ووهادها الغنية، وثرواتها الطبيعية، المتنوعة، ولم تمض أعوام أخرى حتى اكتشفت منابع أنهارها العظيمة مثل النيل والنيجر والكونغو، وحققت مجاريها وأحواضها، وأخذت روعة الثروات العظيمة التي اختصت بها القارة السمراء تحفز الاستعمار الأوربي وتذكي أطماعه، واشتدت المنافسة بين الدول الكبرى لاقتسام هذه الأقطار الغنية واحتلالها. عندئذ اتفقت الدول على عقد مؤتمر ينظم اقتسام إفريقية، ويحدد مناطق النفوذ والنشاط لكل دولة، وكان بسمارك المستشار الألماني هو صاحب الفكرة، فعقد المؤتمر في برلين في أواخر سنة 1884، واتفق على أن تكفل الحرية التجارية المطلقة لجميع الدول في حوض الكونغو، وأن تكفل حرية الملاحة في نهري النيجر والكونغو، وألا يعتبر الاحتلال النظري قائما في منطقة من المناطق حتى يؤيد بالاحتلال الفعلي، واعترف المؤتمر أيضا بقيام دولة مستقلة في الكونغو وأنها ملك
شخصي لملك البلجيك وهي التي أضحت في يومين مستعمرة عظيمة تملكها دولة أوربية صغيرة هي البلجيك
على أن قرارات مؤتمر برلين لم يكن لها أثر فعلي ظاهر فيما تلا من تقسيم إفريقية. وكانت فرنسا قد وضعت يدها على الجزائر وتونس والسنغال، ووضعت إنكلترا يدها على مصر، ومنطقة الرأس (الكاب) وبدأت ألمانيا احتلالها في نفس الوقت للكمرون وتوجولاند وشرق إفريقية؛ ولم يكن ثمة بد من أن تتفاهم هذه الدول الاستعمارية الكبرى فيما بينها بمعاهدات واتفاقات خاصة على تحديد المناطق التي تطمح كل إلى امتلاكها، وكانت كل دولة قد شادت بما احتلته أسس إمبراطوريتها الاستعمارية في إفريقية. وكانت فرنسا أنشطها في بناء هذا الصرح الاستعماري، فلم تأت أواخر القرن التاسع عشر حتى كانت قد احتلت معظم إفريقية الغربية، واستولت على السنغال وأعلي النيجر، وساحل العاج، وداهومي، ونفذت في قلب إفريقية إلى السودان الأوسط حتى بحيرة تشاد، ووطدت أقدامها في الشمال في تونس والجزائر، وافتتحت جزيرة مدغشقر في سنة 1895
أما إنكلترا فإنها وطدت أقدامها في وادي النيل، في مصر والسودان، وفي شرق إفريقية البريطاني، واحتلت زنجبار، وأخذت في بناء إمبراطوريتها الاستعمارية العظيمة في أواسط إفريقية وجنوبها. وكانت منذ أوائل القرن التاسع عشر قد احتلت منطق الرأس (الكاب) كما قدمنا، وكان البوير (وهم سلالة المستعمرين الهولنديين الأوائل) قد استقروا في منطقة (الأورانج) وفي (ناتال)، فاستولى الإنكليز على ناتال، وهاجر البوير منها، وأسسوا لهم مستعمرة جديدة هي (الترنسفال) واعترفت إنكلترا باستقلالها سنة 1852، ولكن إنكلترا ما فتئت تبسط سلطانه نحو الشمال تباعا، فاستولت على أرض الكفر وباسوتولاند؛ وفي أواخر القرن التاسع عشر أنشأ سسل رودس شركة استعمارية على مثال الشركة التي أسست من قبل في الهند، وعضدت الحكومة الإنكليزية مشروعه في فتح الأراضي الواقعة حول حوض الزمبيزي وأمدته بالمال والجند، وهكذا افتتحت روديسا، وأصبحت إنكلترا تسيطر على أواسط إفريقية الجنوبية من منابع الكونغو حتى الكاب، ولم يبق خارجا عن سلطانها سوى الترنسفال ومستعمرة الأورانج حيث استقر البوير. وكانت إنكلترا تطمح دائماً إلى ضم هاتين المستعمرتين إليها لتوحد إمبراطوريتها في إفريقية الجنوبية، وكان
البوير من جهة أخرى بزعامة رئيسهم الشهير (كروجر) يناوئون كثيرا من مشاريعها الاستعمارية، ويقاومون تدخلها بشدة؛ وأخيرا لم تر إنكلترا بدا من إعلان الحرب لتحقيق غايتها، فاضطرمت الحرب بينها وبين البوير (أكتوبر سنة 1899) وأبدى البوير بسالة عظيمة، واستطال دفاعهم زهاء ثلاثة أعوام؛ وأخيرا اضطروا إلى الاعتراف بسيادة إنكلترا ولكنهم احتفظوا باستقلالهم الداخلي، ونالوا من إنكلترا تعويضا ضخما عما أصابهم من التخريب والخسائر، وكبدت هذه الحرب الشهيرة إنكلترا خسائر فادحة في المال والرجال، ولكنها استطاعت أخيرا أن تحقق مشروعها في توحيد إمبراطوريتها في جنوب إفريقية
وفي أواخر القرن التاسع عشر اشتدت المنافسة بين الدول الاستعمارية ولا سيما بين ألمانيا وإنكلترا من جهة، وبينها وبين فرنسا من جهة أخرى. وانتهت إنكلترا وألمانيا أخيرا إلى التفاهم وعقدتا في سنة 1890 معاهدة لتخطيط الحدود بين أملاكهما في إفريقية. وعقدت بين إنكلترا وفرنسا في سنة 1898 معاهدة لتحديد أملاكهما في حوض النيجر وغرب إفريقية، ثم عقدت بينهما معاهدة أخرى في سنة 1899 على أثر حادثة فاشودة المشهورة وفيها تنازلت فرنسا عن دعاويها في أعالي النيل؛ وأخيرا عقد (الاتفاق الوادي) بين الدولتين في سنة 1904، وفيه تعهدت فرنسا بأن تطلق يد إنكلترا في مصر وألا تناوئ سياستها فيها؛ وتعهدت إنكلترا من جانبها أن تطلق يد فرنسا في مراكش وألا تناوئ سياستها فيها
وثارت بين ألمانيا وفرنسا من أجل مراكش خصومة مضطرمة كادت أن تنفجر غير مرة؛ وكانت فرنسا تحرص على أن تضم مراكش إلى إمبراطوريتها الإفريقية، وتحرص ألمانيا من جانبها على أن تضع في سبيل فرنسا كل عقبة ممكنة؛ وفي سنة 1905، زار الإمبراطور ولهلم الثاني ثغر طنجة وألقى خطابا رنانا حمل فيه على السياسة الفرنسية؛ واضطرت فرنسا أن تقبل بحث المسألة المراكشية في مؤتمر دولي؛ وعقد المؤتمر في الجزيرة (بأسبانيا) سنة 1906 من الدول الكبرى؛ وأصدر قرارا بإعلان استقلال السلطان، ووجوب المحافظة على وحدة الأراضي المراكشية، مع الاعتراف بحقوق إسبانيا وفرنسا ومصالحهما الخاصة في هذه المنطقة. ولم تغنم ألمانيا شيئا. وفي سنة 1911 جردت فرنسا حملة على فاس، وانتهزت ألمانيا هذه الفرصة فأرسلت سفينة حربية إلى أغادير، ووقعت
بين الدولتين مشادة حادة كادت تنتهي باضطرام الحرب بينهما؛ ولكن الخلاف انتهى بعقد معاهدة اعترفت فيها ألمانيا بحقوق فرنسا في مراكش مقابل مزايا استعمارية كبيرة في أفريقية الوسطى. وعلى أثر ذلك انتهزت فرنسا الفرصة وعملت على إرغام مراكش على قبول حمايتها بمعاهدة عقدت مع السلطان في سنة 1912
أما إيطاليا، وهي رابع الدول الاستعمارية الكبرى التي اشتركت في اقتسام أفريقية، فكان نصيبها طرابلس في الشمال، وإرترية وشطرا من بلاد السومال في الشرق. وسنعرض في فصل قادم إلى تفصيل هذه الغزوات الاستعمارية، وسنعرض بوجه أخص إلى موقف الحبشة من هذه الحركة الأوربية الاستعمارية الشاملة وكيف نجت من عواقبها، واستطاعت أن تحتفظ باستقلالها إلى يومنا.
للبحث بقية
(. . .)
3 - الشعر في صدر الإسلام وعهد بني أمية
بقلم أحمد حسن الزيات
2 -
خصائص الشعر في العراق
أما الفرزدق فهو كالأخطل في الذؤابة من قومه، إلا أنه كان صريح العداوة فلا يوارى، فاحش الدعابة فلا يحتشم، شديد الدعارة فلا يتعفف، حاد البادرة فلا يتلطف؛ فهو في هجائه يذكر العورات ويعلن المخزيات بألفاظها العارية وأسمائها الصريحة حتى ليستحي الشاب أن ينشدها، بله الفتاة الخفرة.
وما أظن البداوة وضيق الخلق وسلاطة اللسان وفجور النفس هي كل الأسباب التي أوجدت هذا الهجاء السوقي الوقح، فإن الحطيئة ومن سبقه على اتصافهم بهذه الأوصاف لم يسفوا هذا الإسفاف، فلابد أن يكون لحياة العراق في ذلك العهد أثر قوي في ذلك: فالخلق العربي القوي قد وهت أواصره باتصال البدو بالحضر واختلاط العرب يالعجم، والوازع الديني قد ضعف بتغلب الأحزاب وضعف العصبية، والسلطان السياسي يغمض جفنيه ويضحك ملئ شدقيه من هذه المهازل التي يمثلها الشعراء والقبائل بالبصرة. أقول القبائل لأن القبيلة كانت من وراء شاعرها تحتال لانتصاره بالمال والقتال والدعاية، وربما أتى كل رجل منهم بالبيتين والثلاثة فيرفد بها الشاعر كما فعلت تيم في مهاجاة شاعرها عمر بن لجأ لجرير. وكان أحش الهجاء هجاء الفرزدق في جرير، فهو يرمي قومه بضعة النسب، وضعف الحيلة، واتخاذ الغنم، ورعي الإبل، وإتيان الأتن، ويفتن في هذه المعاني افتنانا عجيبا: يرددها في كل قصيدة على صور مختلفة وأساليب شتى، ولا يتحرج أحيانا من افتعال الحوادث المضحكة إمعانا في السخر من المهجو والنيل منه
وهذا غاية ما وصل إليه الهجاؤون وأهل التنادر في عصور الترف والخلاعة. وأدهى من ذلك أن يقذف خصمه بنوع من السباب الدنيء الذي لا يعتقده ولا يصدقه الناس، إنما يعمد إليه مبالغة في التحقير والتشهير على نحو ما يعمل الرعاع في الطبقات الوضيعة، وذلك ما لم نعهده في الهجاء من قبل، إذ كان الشاعر يرى جهة المحاسن في المريء فيمدح، أو جهة المساوئ فيه فيذم، وهو في كلتا الحالتين صادق
وقد يتدلى الفرزدق في الهجاء إلى الدرك الذي لا تسيغه رجولة، فينقض رثاء جرير
لامرأته بهجائها المقذع، دون أن يرعى للميت حرمة ولا للمرأة كرامة، كقوله:
كانت منافقة الحياة وموتها
…
خزي علانية عليك وعار
فلئن بكيت على الأتان لقد بكى
…
جزعا غداة فراقها الأعيار
تبكي على امرأةٍ وعندك مثلها
…
قَعساءُ ليس لها عليك خِمار
وليكفينك فقدَ زوجتك التي
…
هلكت موقعة الظهور قصار
إن الزيارة في الحياة ولا أرى
…
ميتا إذا دخل القبور يُزار
ورأي الفرزدق في المرأة يدل على جفاء طبع وسوء أنفة، وربما دل أيضا على منزلتها في المجتمع العربي في ذلك العهد؛ ولا نستنبط ذلك من قوله في زوجة جرير، فقد يكون للخصومة بعض الأثر في سوئه، وإنما نستنبطه من قوله في زوجته هو حين ماتت:
يقولون زُر حدراء والترب دونها
…
وكيف بشيء وصله قد تقطعا
ولست وإن عزت عليَّ بزائر
…
ترابا على مرموسه قد تضعضعا
وأهون مفقود إذا الموت ناله
…
على المرء في أصحابه من تقنعا
يقول ابن خنزير بكيْتَ ولم تكن
…
على امرأة عيني أخال لتدمعا
وأهون رزء لامرئ غير عاجز
…
رزية مرتج الروادف أفرغا
على أن طبيعة المهاجاة مع جرير، وشهوة الغلبة عند العامة، ونفاد المعاني السامية في الهجاء على طول المدة، وبلادة الحس وهوان النفس باعتياد الذم، قد دعت الفرزدق كما دعت جريرا إلى التدرج في الإقذاع والبذاء، حتى خرج شعرهما في النقائض على قوته وجودته عن الحد المألوف بين السفلة. ولكن الفرزدق مع تبذله كان يصيخ أحيانا إلى وازع الدين لتشيعه، فيتوب عن قرض الشعر، ويكف عن هجاء الناس، ويقيد نفسه ليحفظ القرآن ويقول:
ألم ترني عاهدت ربي وأنني
…
لَبَينَ رتاج قائما ومقام
على قسم لا أشتم الدهر مسلما
…
ولا خارجا من فيَّ سوء كلام
أو يجيب إلى داعي الشرف لحسبه فيصدر في الهجاء عن طبع أبي ونفس كريمة، فتسمو معانيه وتعف ألفاظه، كقوله في معاوية وقد حبس عنده مالاً لأحد أعمامه بعد وفاته:
أبوك وعمي يا معاويَ أورثا
…
تراثاً فيحتاز التراثَ أقاربه
فما بال ميراث الحُتاتِ أخذته
…
وميراث حرب جامد لك ذائبه
فلو كان هذا الأمر في جاهلية
…
علمتَ من المرء القليل حلائبه
إلا أن يقول:
وما ولدت بعد النبي وأهلهِ
…
كمثليَ حصانُ في الرجال يقاربه
وكم من أب لي يا معاوي لم يزل
…
أغر يباري الريح ما أزوَّر جانبه
نَمتهُ فروع المالكين ولم يكن
…
أبوك الذي من عبد شمس يخاطبه
أما الطامة الكبرى فهي جرير، لأنه كان مرسل العنان مطلق اللسان لا يعوقه قيد ولا تكبحه شكيمة؛ فلا هو صاحب سياسة كالأخطل، ولا صاحب نحلة كالفرزدق، ولا وارث مجادة كالاثنين، وإنما كان سوقيا ترعية رزقه الله حدة الذهن، ورقة الأسلوب، وخبث اللسان، وزاده الهراش صلابة عود، وغزارة فكر، ومتانة شعر، وسهولة قافية، فبلغ بالهجاء الفردي والقبلي غايته في الإقذاع والإقناع والقوة؛ وربما كان أول من أكره الشعر على قبول الأساليب العامية المبتذلة في الهجاء كذكر العورات، وهتك المحارم، فاضطر خصومه إلى أن يكلموه باصطلاحه، ويقاتلوه بسلاحه، وأصبح بعده الهجاء في العراق لا يفعل في النفوس إلا مشوبا بهذا القذر؛ وما مهاجاة بشار وحماد إلا صورة من هجاء جرير والفرزدق
كان جرير لعاميته وبيئته، وللأسباب التي ذكرناها من قبل في معرض الكلام عن الفرزدق، يصطنع في الهجاء أساليب الدهماء، فيعير الأخطل بالقلف والخنزير والسكر، ويقذف البعيث في أمه وهي أمة سجستانية، ويهاجم الفرزدق في جدته فيتهمها بجبير القين، وفي أخته جعثن فيرميها بابتذال بني منقر إياها على أثر حادثته مع ظمياء بنت طلبة حفيدة قيس بن عاصم، ويشهر بقومه في اخفار عمرو بن جرموز لذمتهم في قتل الزبير، ثم يتسقط عيوبه الصغيرة وهفواته الدنيا، فيجسمها بالمبالغة والتزيد كضربته النابية للرومي، وزيجته القالية من نوار
وكان الفرزدق يذهب في هجائه مذهب الفخر بآبائه، فيعدد أيامهم الظافرة، ويجدد مفاخرهم الغابرة، فلا يستطيع جرير مجاراته في هذا المظمار، فيعمد إلى نقض الفخر الصلف بالسخرية اللذعة والفحش الموجع؛ وإذا أخذ جرير هذا المأخذ لا يقام له. أقرأ على سبيل المثال قصيدة الفرزدق التي مطلعها:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
…
بيتا دعائمه أعز وأطول
تجده يقول بعد هذا البيت:
بيتا زرارة محتبٍ بفنائه
…
ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم
…
أبدا إذا عد الفَعال الأفضل
فيجيبه جرير في نقيضته له:
أخزى الذي سمك السماء مجاشعاً
…
وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
بيتاً يحممّ قَيْنكم بفنائه
…
دنسا مقاعدهُ خبيثَ المدخل
قُتل الزبير وأنت عاقدُ حبوةٍ
…
تبَّا لحبوتك التي لم تحلل
وافاك غدرُكَ بالزبير على منىً
…
ومَجرُّ جعثِنِكم بذات الحرمل
بات الفرزدق يستجير لنفسه
…
وعجان جعثنن كالطريق المُعملِ
ويقول الفرزدق:
حلل الملوك لباسُنا في أهلنا
…
والسابغاتِ إلى الوغى نتسرْبلُ
فيجيبه جرير:
لا تذكروا حلل الملوك فأنكم
…
بعد الزبير كحائض لم تَغْسل
ويقول الفرزدق:
أحلامنا تزن الجبال رزانةً
…
وتخالنا جناً إذا ما نجهلُ
فارفع بكفك إن أردت بناَءنا
…
ثهلانُ ذو الهضبات هل يتحلحل؟
خالي الذي غصب الملوك نفوسهم
…
وإليه كان حباء جفنةَ ينقل
إنا لنضرب رأس كل قبيلة
…
وأبوك خلفَ أتانه يتقمل
فيجيبه جرير:
كان الفرزدق إذ يعوذ بخاله
…
مثل الذَليل يعوذ تحت القرمل
وافخر بضبة إن أمك منهمُ
…
ليس ابن ضبة بالمعمم المخول
أبلغ بني وقبانَ إن حلومهم
…
خفتْ فلا يزنون حبة خردل
أذري بحلمهمُ الفِياش فأنتمُ
…
مثل الفَراش عشين نار المصطلي
ويقول الفرزدق:
وهب القصائدَ لي النوابغُ إذ مضوا
…
وأبو يزيد وذو القروح وجرول
ثم يمضي يعدد الشعراء الفحول ويقول:
دفعوا إليَّ كتابهن وصية
…
فورثتهن كأنهن الجندل
فيجيبه جرير:
أعددت للشعراء سماً ناقعاً
…
فسقيت آخرهم بكأس الأول
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
…
وصغى البعيث جدعت أنف الأخطل
حسب الفرزدق أن يسب مجاشعاً
…
ويعد شعر مرقش ومهلل
فأنت تلاحظ أن جرير يرغب في الطريق السهل، ويطفئ حرارة الجد ببرودة الهزل، ويقابل الكمي الهاجم في سلاحه ولأمته، وهو في ثوب المهرج وبزته وضحكته
ولجرير قدرة بارعة على تتبع الخصم في حياته الخاصة والعامة، فيتسقط أخباره ويتلقط حوادثه، ثم يعلنها في شعره تشهيرا به وفضيحة له:
يتزوج الفرزدق من حدراء بنت زيق بن بسطام على حكم أبيها، فيقول جرير:
يا زيق قد كنت من شيبان في حسب
…
يا زيق ويحك من أنكحت يا زيق
أنكحت ويلك قيناً في استه حمم
…
يا زيق ويحك هل بارت بك السوق
يا رب قائلة بعد البناء بها:
…
لا الصهر راضٍ ولا ابن القين معشوق
فيقبل أهلها عليه ويقولون له: ماتت، كراهة أن يهتك أعراضهم جرير، فيأبى جرير إلا أن يعلن الحقيقة في قوله:
وأقسم ما ماتت ولكنما التوى
…
بحرداء قوم لم يروك لها أهلا
ويعبث الفرزدق في المدينة عبث الشباب، ويعترف بذلك في قوله:
هما دلتاني من ثمانين قامةً
…
كما انقض باز أقتم الريش كاسرهُ
فيقول له جرير:
تدليت تزني من ثمانين قامة
…
وقصرت عن باع العلا والمكرم
ويضرب الرومي في حضرة سليمان بن عبد الملك فينبو عنه سيفه فيقول له جرير:
بسيف أبي روغان سيف مجاشع
…
ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ومثل هذه الأخبار لطرافتها وجدتها تعلق بالنفوس وتسير على الألسنة، كصحف الأحزاب
تجعل من حياة خصومها اليومية مادة لجدالها، وموضوعا لنقدها ونضالها؛ وجرير لطول ما تمرس بالهجاء وغامر في الخصومة، لاذع السخرية، فاحش الدعابة، مر التهكم، ومن ذلك كان يتضور الفرزدق ويمتقع لونه كلما وردت المربد قصيدة لجرير. وأي تهكم أمض وآلم من مثل قوله:
يا تْيمُ إن بيوتكم تيمية
…
قُعس العماد قصيرة الأطناب
قوم إذا حضر الملوكَ وفودُهم
…
نُتفت شواربهم على الأبواب
وقوله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً
…
أبشر بطول سلامة يا مربع!
وقوله:
والتغلبي إذا تنحنح للقِرى
…
حك استه وتمثل الأمثالا
وقوله:
فخلِّ الفخر يا ابن أبي خليد
…
وأدِّ خراج رأسك كل عام
لقد علقت يمينك رأس ثور
…
وما علقت يمينك باللجام
(يتبع)
الزيات
السنيون والشيعة وموقفهما اليوم
للأستاذ محمد رضا المظفر
أتيح لي أن أتناول (تاريخ القرآن) للأستاذ الزجاني أبي عبد الله، فأقرأ في مقدمته كلمة الأستاذ (أحمد أمين) القيمة في بابها. أقرأها، فيطربني ما فيها من نغمة متواضعة على وتر من إحساس جديد، نعرفه في أستاذ اليوم
ولا أكتم الأستاذ أني رجعت إلى ذكريات اختزنت عنه من قراءتي لفجر الإسلام وضحاه. ما آلم هذه الذكرى! فقد خلقت للأستاذ عندي شخصيتين، تباعدتا على قرب العهد بينهما، وكادت تدفعني يومئذ إلى مقالة أضعها بين يديه في (الرسالة) أوفي غيرها: لا تخرج عن عتاب بريء على كتابيه، وعن تشجيع على كلمته الأخيرة وتأييد لها، وهي التي أطمعتني فيه، لننشد صراط الإصلاح المستقيم، ولكني تلكأت لا لشيء، وما أدري لماذا كان؟ ولعله لصلاح!
ومنذ أيام كان عدد الرسالة الـ (110) في يدي، فقرأت كلمة الأستاذ محمد بك كرد علي، عن تاريخ القرآن ومقدمته، فطابت لي النبرة وجريت عليها حتى تناولت القلم، وهاأنا ذا أحدثك وأنا شيعي أجري مع سنيين في ميدان الإصلاح لحظيرة الوحدة التي أقامها لنا نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم
شهد الله والنبي الأكرم أن من أثقل الأشياء على قلمي أن يقرن بين كلمتي سني وشيعي: يتقارنان تقارن افتراق، ويتصلان اتصال تنافر، كقطبي المغناطيس المتماثلين، وقد خلفت لهما السياسة الغاشمة هذا التنافر الشائن يوم خلقت، وآن لنا أن نخجل أمام الله ورسوله من استمرارنا على هذا الشنآن بين أعداء تستمر على مطاردتنا وتستغل افتراقنا. وما أجدرنا اليوم أن نضرب على هاتين الكلمتين في قاموس اللغة، فنستريح ونريح، ونعود أمة إسلامية واحدة كما أرادها الرسول، أو كما أرادها الله آمنة مطمئنة خير أمة أخرجت للناس!
يرجو الأستاذ (أحمد أمين) في مقدمته - بعد أن ألمع إلى بعض أسباب الخلاف - (أن يفكر عقلاء الفريقين في سبيل الوئام، ويعملوا على إحياء عوامل الألفة وإماتة الخصام، ويتركوا للعلماء البحث حرا في التاريخ، ويتلقوا النتائج بصدر رحب) ويتابعه الأستاذ (محمد بك
كرد علي) فيقول: (ورأي صديقي هو رأي فريق كبير من علماء المسلمين اليوم) ثم ينقل لنا خطاب العلامة شيخ الجامع الأزهر، ويقترح أخيرا أن يكتبوا كتابا في منشأ هذا الخلاف بين السنة والشيعة والطرق العملية لإزالته
وأنا أقترح هذا الاقتراح نفسه على علماء النجف الأشرف عاصمة الشيعة الدينية والعلمية، ونقترح جميعا على الفريقين أن يتفاهموا جميعا قبل كل شيء، ولكن كيف نحقق هذا الاقتراح ونفرضه عليهم فرضا؟ يجب أن نعمل له! فهل نستطيعه ولا نجعله مثار نزاع جديد؟
وأؤكد لك أن نشدان علماء الشيعة هو هذه الوحدة المضاعة، يسعون لها ما سنحت الفرصة، وما عرض لها الزمن، احتفاظا بجامعة الإسلام العليا، وتوحيدا لكلمة المسلمين
في إبان تأسيس الحكم الوطني في العراق (والشيعة أكثرية العراق) نادى علماء النجف بالوحدة عاليا، وغالوا في ذلك إلى أبعد حد، وبذلك استطاعت الأمة العراقية أن تجعل من نفسها شعبا حيا وحكومة صادقة
ولم يكن أبناء الأقطار العربية الأخرى - وخاصة في مصر - يحسون بواجبهم إزاء العراق الفتي المتطلع إلى سحق العهد التركي البالي، فكانت لهجات متتابعة، ووخزات نافذة تلقتها صدور الشيعة من مصر وسوريا، تلح عليها إلحاحا، وتكدر عليها صفو الاتفاق أيما تكدير، وكان من بينها فجر الإسلام وضحاه (وأرجو ألا تخدش هذه الكلمة عواطف الأستاذ مؤلفهما، فإنها الصراحة نريد أن نتبعها) تعززها الأقلام المستأجرة في العراق، وبعبارة أصرح أقلام الاستعمار، بينما العراق في ضرورة ملحة إلى الاتفاق بين سنيه وشيعيه، ليرتقي سلم الاستقلال المنشود
إنما هي واحدة تجب رعايتها اليوم على كل باحث عن الشيعة من إخوانهم السنيين، غفل عنها في فجر الإسلام وغيره. هي واحدة تحل كثيرا من الشغب اليوم
نحن نفهم من كلمة الشيعة إذا قلناها: الإمامية الأثنى عشرية خاصة، لأنهم الأكثرية من بين فرق شتى، وذوو المؤلفات والمعارف التي يقال عنها مؤلفات الشيعة ومعارفها، ولأنهم اليوم شيعة العراق وسوريا وإيران والإمارات العربية على الخليج الفارسي والهند وأفغانستان، وما إلى ذلك، وهناك الزيدية في اليمن والبهرة في الهند. أما الفرق الأخرى التي يعددها
مثل الشهرستاني في الملل والنحل وغيره، فقد أصبحت في خبر كان ولا يعرف لها أي أثر في هذه البلاد المترامية الأطراف، إلا بعض فرق لا يسمع لها حسيس في المجتمع الشيعي ولا غيره كالغالية
فإذا طوح القلم بالكاتب اليوم عن الشيعة، وقرأ ما كتبه السلف عنهم، خلط الحابل بالنابل، وألصق عقائد تلك الفرق البائدة بعامة الشيعة، وعلى الأصح بالشيعة بالمعنى المفهوم الآن، فكانوا في نظره مرجئة، وغالية، ومجسمة، ومجبرة، وسبئية، وزركشية، وما إلى ذلك
وهذا ما ينعى على الباحث المتتبع، وهذا ما يثير غضب أولئك الشيعة الأحياء، من غير ما حاجة تدعو الكاتب ولا ضرورة، وما أجدر الكتاب أن ينتبهوا اليوم لهذه الناحية، فلا يثيروا كوامن أحقاد شائنة بذرتها السياسية لأغراضها في زمن بعيد لسنا أبناءه، فلا يصطدم بآراء أفراد - لا فرق - لا نعرف عنهم كثيرا، ولا يصح أن يدخلوا تحت هذا الاسم. وعند ذلك قد نوفق إلى التفاهم فالتقارب حيث تفرضه الاخوة الإسلامية، ويكون بحثنا نزيها يتطلب الحقيقة ليس إلا، ليتلقى الطرفان بصدر رحب - على ما يقوله الأستاذ أحمد أمين - كما يتلقون النتائج في أي بحث علمي وتاريخي، وكما يقع البحث بين علماء الشيعة أنفسهم، وبين مذاهب السنة أنفسها، ما دامت السياسة بعيدة عنه ومادام بعيدا عنها
وإذا لم نستطع أن نصل إلى ما نتمناه من حمل علماء الأزهر وعلماء النجف على هذه الطريقة الحميدة، وعلى هذا العمل المبرور، فأكبر الظن أن من السهل علينا أن لا نذهب بعيدا، فنقترح على (الرسالة) الهادية أن تفتح لنا بين أعمدتها سبيلا للبحث النزيه، وتعززنا بشجاعتها الأدبية، فلا تصغي إلى سخط العامة - إذا ما كان - لنستطيع أن نلقي من أطمار الماضي ما رث وبلى
وفي النجف عندنا جمعية دينية علمية أسست هذا العام باسم (منتدى النشر) تسعى لهذا الواجب وتدعو إليه، (وهي تضم طبقة صالحة من علماء النجف وفضلائها)، وبصفتي كاتبها العام أذيع عنها هذه النية المحمودة، وأذيع عنها استعدادها للعمل في هذا السبيل. ولقد كان لما كتبه الأستاذان (أحمد أمين) و (محمد بك كرد علي) الوقع الجميل في نفوس أفرادها، ورحبوا بهذا التفكير العالي الكبير
وفي مصر (لجنة التأليف والترجمة والنشر) الموقرة، ففي استطاعة الجمعيتين أن يقفا في
ملتقى الطريقين، ليأخذا بأيدي الباحثين إلى الحد المعقول، ويتلقيا النتائج للعمل عليها ونشرها في بلاد الله، كما نريد أن نقترحه على علماء الأزهر والنجف
ندعو إلى هذا عقلاء قومنا ليضعوا حد لهذه المهازل، وليقاروا على خطة واحدة لحل الخلاف. وعندي أن يسدل حجاب كثيف على الماضي البعيد، فيما يعود إلى الحوادث التاريخية التي لا تمس حياتنا العملية اليوم، فينحصر البحث في نقطة عملية لا غنى لنا عنها
كل ما عند الشيعة أنها تتمسك بعترة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم سفينة النجاة، ولكن ليس كعقيدة وموالاة فحسب، فإن هذه عقيدة كل مسلم اعتنق دين الإسلام مصدقا لما جاء به النبي (ص)؛ وإنما تعني من التمسك بهم أن تأخذ بأقوالهم في أحكام الفقه وترجع إليهم في دين الإسلام، ولا تعرف للتمسك بهم معنى غير هذا، وتدلل على أن ما جاء به النبي ورثوه عنه، وعلمه مكنوز عندهم وهم أمناء عليه معصومون، لا كسائر الرواة عنه وعنهم، يروون الأحاديث كنقال يخطئون في النقل ويصيبون، ويصدقون ويكذبون
وبهذا بعدت الشقة العملية بينهم وبين إخوانهم أهل السنة، وكثر الخلاف في الفروع الفقهية؛ فكان وضوء السنة وكان وضوء الشيعة، وكانت صلاة السنة وكانت صلاة الشيعة، وكان وكان
فان استطعنا أن نتفق ونحل هذا اللغز بيننا حلا مرضيا، فقد وفقنا إلى كل شيء، واستطعنا أن نوجه جبهة الإسلام، كما يشاء لنا ديننا دين القيمة، وما هذا على الرجال المخلصين بعزيز
النجف الأشرف
محمد رضا المظفر
كاتب (منتدى النشر) العام
النقد والمثال
لغة الشعر
للأستاذ أحمد الزين
من أهم ما تتفاوت به منازل الشعراء، وتتمايز درجاتهم في الشعر، وتتفاضل به أذواقهم الفنية في أداء المعنى وبلوغ الغرض، ويختبر به مدى ثقافاتهم البيانية، ويعرف منه مقدار مطالعاتهم الأدبية، ونفوذ كل منهم إلى حر الكلام وخالصه، وارتوائه من صفو البيان وصريحه، وحفظه لأحسن ما قرأ، وحسن استعماله أحسن ما حفظ من الكلمات والعبارات، هو ذلك الثوب البياني الذي يلبسه الشعراء معانيهم، وتلك الصورة اللفظية التي يبرزون فيها أغراضهم، فبحسب ما يكون ذلك الثوب مقدرا على المعنى، محيطا بأطرافه، مقيسا على أجزائه، وتكون تلك الصورة اللفظية مظهرة للغرض، مبرزة لخفايا المعنى، مصورة لدقائق الفكرة، وما يودعه الشاعر بفنه في تلك الصورة من الحياة والسحر، وما يترقرق في الكلمات والعبارات من ماء الجمال، ورونق الحسن، وطلاوة المنطق، أقول: بحسب ذلك كله يكون أثر الشاعر في القلوب، وسلطان شعره على قرائه، ومنزلته في الفن بين نظرائه. وليس المراد بتحسين الألفاظ وتجميل العبارات هو مجرد جريانها على قواعد اللغة، وموافقتها لنصوص المعجمات، فليس كل ما تبيحه اللغة وقواعدها يباح في الشعر استعماله، ويسوغ للشعراء التعبير به، إذ الشاعر إنما يقصد في شعره إلى الروعة والجمال وعدم الابتذال أكثر من قصده إلى مجرد جواز الاستعمال. وقد سبق أن أوضحت ذلك في بعض الفصول التي كتبتها من زمن بعيد فقلت ما نصه: إنه مما لا ينازع فيه ذو ذوق أدبي دقيق أن للشعر لغة خاصة يتميز بها عن غيره، إذا فقدها لا يسمى شعرا بل يسمى كلاما عروضيا، أي أنه يشبه الشعر في وزنه وقافيته، دون ألفاظه ولغته، كما أن لكل من الكتابة والخطابة ألفاظا خاصة يتميز بها كل منهما عن صاحبه، ويتميزان بها عن الشعر؛ والفروق الدقيقة بين ألفاظ هذه الصناعات الثلاث وعباراتها لا يدركها إلا من له ذوق صحيح وملكة فنية في إحدى هذه الصناعات أو في جميعها. وقد كان بعض النقاد في العصور الأولى يسمع الشعر الجيد فيفطن بجودة حسه إلى ما فيه من ألفاظ غير شعرية، فيحكم بأنه شعر شاعر أو شعر كاتب؛ وكتب الأدب ملأى بهذه الطرائف. وقد فطن علماء الأدب المتقدمون
إلى هذه الفروق فأفردوا ألفاظ الكتاب وعباراتهم بمعجمات خاصة، منها كتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني، وجواهر الألفاظ لأبي الفرج قدامة بن جعفر وغيرهما؛ وفي كتاب زهر الآداب للقيرواني فصول كثيرة خاصة بألفاظ الكتاب وعباراتهم في كل غرض من أغراض الكتاب والمنشئين في ذلك العهد. ولم أجد من العلماء فيما راجعت من أفراد ألفاظ الشعر والخطابة بمعجم خاص، وذلك يرجع فيما أظن إلى أن ألفاظ كل صناعة من هذه الصناعات الثلاث لا تتيسر معرفتها معرفة صحيحة إلا لأهلها المشتغلين بها، والمتوفرين عليها، بل فحولها المبرزين، وأعلامها المتميزين، لا لكل من أشتغل بها، فلا يمكن الكتاب أن يدركوا من أسرار لغة الشعر والخطابة ما يدرك الشعراء والخطباء أنفسهم منها، وكذلك الشعراء لا يدركون من دقائق ألفاظ الكتابة وألفاظ الخطابة ما يدركه الكتاب والخطباء أنفسهم من ذلك. وإذن فلا يستطيع تدوين لغة الشعر ولغة الخطابة غير الشعراء والخطباء أنفسهم؛ ولما كان أكثر الشعراء والخطباء لا يعنون بتأليف الكتب وتصنيف الرسائل عناية الكتاب بذلك لقلة حذقهم بصناعة التأليف فقدت المكتبة اللغوية العربية قسمين عظيمين من هذا النوع الطريف المفيد من المعجمات
وإنك لتجد فقدان اللغة الشعرية في شعر كثير من شعراء عصرنا ممن لا يرون للبيان اللفظي أية قيمة في الشعر، ويرون المعاني هي كل شيء، ولو أديت بأسوأ لفظ وأضعف بيان
وقد سبق في بعض الفصول أن ذكرت للقراء قول بعضهم في حسن النظم والصياغة اللفظية ما نصه: إنه كمال أدنى إلى النقص، وإحسان أقرب إلى الإساءة. وقول الآخر في حسن الصياغة اللفظية أيضا: لقد انقضى عهد الثرثرة والصياغة اللفظية ولن يكون الشعر الجديد شرابا يسقى بالملعقة في غير جهد لمتناوله! فتراه يسمي حسن البيان والصياغة اللفظية ثرثرة، ويقول: أن عهد ذلك قد انقضى! كبرت كلمة يقولها هذان الكاتبان وأمثالهما، إن يقولون إلا خطأ يمليه العجز والغرض
والغريب أن نسمع ذلك في عصر يتعاون فيه الأدباء والعلماء والمفكرون مع أولي الأمر في جميع الأقطار العربية على ترقية اللغة ونشر الثقافة البيانية بإنشاء المجامع اللغوية، وطبع أمهات الكتب الأدبية، ودواوين فحول الشعراء المتقدمين
فلا أدري بعد ذلك أي الأمرين أحق بأن ينقضي عهده، ويمحى أثره، هل هو التكلف والإبهام والتعقيد المحير للإفهام، أو هو البيان المشرق، والأسلوب المستقيم السمح، والصياغة الصافية الواضحة؟
أحمد الزين
العامية والعربية
ألفاظ صحيحة فلماذا لا تستعمل؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
يتوهم كثيرون من الناس أن اللغة العامية ليست من العربية في شيء، ولهذا يحرصون، حين يكتبون، على الفرار من ألفاظها، ويذهبون يتكلفون، فتكون النتيجة الأغراب والمباعدة ما بين الكاتب والقارئ؛ ومن أجل هذا استفاض الاعتقاد بأن لغة الكتابة غير طبيعية، ومن هنا ظهرت الدعوة إلى اتخاذ العامية في الكتابة، ليفهم الناس بغير مشقة، ولو أن العامية درست لما كان لهذا كله محل، وقد سمعت أن المرحوم أحمد تيمور باشا وضع معجما للغة العامية ردها فيه إلى أصولها العربية، ولكنه لم ينشر، ولا علم لي بما كان من أمره
وقد عثرت في مطالعاتي على مئات ومئات من الألفاظ العربية يستعملها العامة وإن كانوا يحرفونها قليلا في النطق، وسأورد في هذا الفصل طائفة منها بلا ترتيب على سبيل التمثيل ليرى القراء أن اللغة العامية جديرة بالعناية، وأن اتقاء ألفاظها كلها خطأ، أو جهل، وقد جريت فيما أكتب، على استعمال الصحيح من الألفاظ العامية، واكتفيت بذلك ولكني أرى الآن أن التنبيه واجب، مخافة أن يعتقد بعض القراء أن هذا مني عن خطأ لا عن عمد
فمن ألفاظ الطعام وما إليه:
الدُّقة - الملح مع ما خلط به من الأبزار أو الملح المدقوق
العُجة - الدقيق المعجون بالسمن ثم يشوى أو يقلى، والعامة على عجة البيض
الكباب - اللحم المشرح
الوجبة - الأكلة
السُّفرة - المائدة
القصعة - الجفنة
السُّخام - السواد الذي يكون على آنية الطبخ من فعل النار
الطاجن - إناء من خزف، يقلى فيه الطعام
العصيدة - طعام معروف في مصر، من دقيق وسمن
البرمة - والبرام - قدر وهو مشهور
عقد السكر - طبخه حتى ثخن
الشريحة - اللحمة المرققة
الهبرة - من اللحم البضعة لا عظم فيها، وهبر اللحم اقتطع منه قطعة كبيرة
التسميط - في رأس الخروف وغيره، كشط الشعر عن الجلد لطبخه في الماء
اللَّهوَجةُ - لهوجت الطعام لم أنضجه، والعامة تستعمل اللفظ مجازيا
شاط الطعام وشاطت آنية الطبخ، احترق
سغسغت الطعام أوسعته دسما وأكثرت من السمن فيه
سلق اللحم - طبخه في الماء
طبخ ومشتقاته معروفة
وهذه كلها ألفاظ عربية، يستعملها أعرق الناس في العامية.
ومن قبيلها أيضا في غير هذا الباب:
الحلوان - ما تجعله للرجل من الأجر على عمل يؤديه لك
الممصوصة - الفتاة المهزولة
الزغزغة - الدغدغة
الزّعر - قلة الشعر، فهو أزعر، ويستعمل للذيل عند العوام
صوفة القفا - الشعر السائل في نقرته
الشعر المفلفل - إذا كان شديد الجعودة
المدرك - الغلام بعد الاحتلام
فروة الرأس - الجلدة
لبد شعره - ألزقه بشيء
تكرش الوجه - تقبض جلده
العمش - ضعف البصر، والرجل أعمش
عظمة اللسان - ما فوق أصله
الحنك - سقف أعلى الفم
الورك كالورك - معروف
الحق - مغرز رأس الفخذ في الورك
الركبة - ملتقى الساق والفخذ
تشيطن الرجل - فعل فعل الشيطان
الديوث - الذي يغضي على ما يرى من هنات أهله
الدردبة - الجري الذي فيه دب
الموالسة - المخادعة
المذاع - الكذاب، والعامة تستعملها بالزاي
البرطمة - كلام الغضبان
البرجمة - غلظ الكلام
الدندنة - الكلام أو الغناء بصوت خفيض
الدبدبة - صوت كوقع الحوافر على الصلب من الأرض
الطقطقة - الاسم من طق، حكاية لصوت الحجر
بجم - سكت من عيّ أو فزع أو هيبة
فَرشح الرجل - أصله أن يثب وثبا متقاربا، وصار يستعمل للمباعدة بين الساقين
نَهَجَ - تتابع نفسه من الإعياء والتعب
السكة - الطريق
اكتن الرجل - صار في كُن
تربع - جمع قدميه في جلوسه ووضع إحداهما تحت الأخرى
السلفتان - امرأتان تتزوجان أخوين
تفرعن - صار ذا فرعنة، أي نكر
جهاز العروس - ما تحتاج إليه في زواجها
العزبة - التي لا زوج لها
سبَّع - أقام سبعا
الخيش - نسيج خيوطه غلاظ، ويكون من مشاقة الكتان، والمشاقة أيضا صحيحة
تلفع - بمعنى تلحف، والتفع أيضا، والعامة تستعمله على حقيقته وعلى المجاز
العباية - كالعبائة تماما
الاذة - تكون من الحرير، والعامة تستعملها للقطعة من الحرير يلفونها على الرأس
الكنار - للثوب شقة منه تكون في طرفه
القطيفة - هي المخمل
الملاءة والملاية - الربطة التي تستتر بها المرأة في خروجها
البرنس - ما يلبسه المرء بعد الاستحمام
الفوطة - وجمعها فوط، معروفة
المنديل - معروف أيضا
الطرطور - القلنسوة الطويلة
التكَّة - رباط السراويل، وجمعها تِكك
قوَّر القميص - جعل له جيبا
الدرابزين - للسلم، معروف
البطانة - للثوب خلاف الظهارة
الخياطة - للثياب
الشَّكٌّ - الخياطة الخفيفة، في أول الأمر
كفَّ الثوب - خاط حاشيته
الكُفَّة - ما استدار حول الذيل
ثوب مهندم - مظبوط
الهدم، والجمع هدوم - الأكسية
دَعَك الثوب - ألان خشونته، والعامة تستعمله على المجاز
السخْتيان - جلد الماعز
القبقاب - نعل من خشب، والعامة تضم أوله
الصندل والصندلة - شبه حذاء، والفعل تصندل
الشيء المسيخ - الذي لا حقيقة لطعمه
الفطور - ما يفطر عليه المرء في العادة أو بعد الصيام
القرن - ناحية الهامة
المفرطح - العريض
السِّقط - الولد يوضع لغير تمام
الطلق - وجع الولادة
الأجرد - الذي لا شعر عليه، والعامة تقول الأجرود
نَسَل الشعر والصوف والريش وغيره - سقط
البعبعة - تتابع الكلام في عجلة وبصوت أجش
الصُفارة - كالزمارة
كركر - وقرقر - رفع صوته بالضحك
هأهأ - قهقه
وهناك آلاف من الألفاظ أهملتها لأنه لا خلاف على صحتها، مثل، المرود، والمكحلة، والمشط، والضفيرة، واللحاف، والزر، والعروة، والكم، والإبرة الخ الخ، وقد أهملت هذا الضرب لأني أردت أن أسوق الألفاظ التي يتوهم الناس أنها غير عربية وسأورد طائفة أخرى في فصل غير هذا. ولو عني رجال المجمع الملكي للغة العربية بمثل هذا البحث لأراحوا أنفسهم من عناء شديد يكابدونه، ولكان هذا أولى مما يعالجونه من النحت وما إليه وليسروا الأمر على الناس.
إبراهيم عبد القادر المازني
في بلاد اليونان
قدر
للأديب أحمد الطاهر
وقفنا خاشعين صامتين مطرقين، وأنصتنا إلى الكاهن يتكلم في وناء وتؤدة ووقار: يقص علينا من التاريخ قصصا. وما كنا نفهم من يونانيته ونحن مصريون شيئا، ولكن ظلمة المكان، ورهبة المعبد، وخشوع السامعين من أهل اليونان، وصوت الكاهن يرن تحت هذه القبة العتيقة، كل ذلك قد استولى علينا فأنصتنا كالسامعين وأطرقنا كالفاهمين، وتتبعنا حديثه كما لو كان يتكلم بلسان عربي مبين
وانتهى الكاهن من قصصه وصافحناه، وشكرنا له فضله وخرجنا وعلى وجوه اليونانيين بما سمعوا من الكاهن آثار مقروءة من السرور والألم، والرضا والسخط، والفخار والحسرة، مجتمع بعضها إلى بعض
قلت لصاحبي اليوناني المتمصر: (عجل فأنني جدا مشتاق إلى فهم حديث الكاهن، وما أحسبه إلا لذيذا ممتعا) قال: (إنه حقا لذيذ ممتع، وسأقصه عليك كما سمعته من فمه. (وسكت برهة كأنما يستجمع ذكريات، ثم قال: (أنظر إلى هذه الشجرة العتيقة القائمة في فناء الدير!) فنظرت إليها وقلت: (ليست إلا شجرة عتيقة قائمة في فناء الدير!) قال: إنها صفحة من صفحات التاريخ قرأها لنا الكاهن، وقرأ لنا صفحات أخرى منها دير آخر يسمى ميفاسبليون ممرنا عليه في طريقنا من أثينا إلى دير أجيالافرا الذي نحن فيه. ولا تنس قبل أن أقص عليك الحديث أننا على قمة جبل رفع هامته في الفضاء ألف متر، ثم استقر ثم اكتسى رداء أخضر من شجر الصنوبر، وطاول به جبال سويسرا وازدهى به من بين بقاع العالم التي خلعت عليها الطبيعة جمالها. واعلم أن هذا المكان. . .) قلت:(يا صاحبي! حنانيك لا تطل علي ولا تباعد بيني وبين الحديث فما طلبت وصف ما رأيت وما رأيت، وأنا وأنت مهما حاولنا وصف المكان فلن نجعل له من ألفاظنا صورة تصلح لأن تدنو من حقيقته، وحسبي وحسبك أننا متفقان على أن الله قد خلق هذا المكان فيما خلق فأبدع خلقه، وصوره فيما صور فأحسن تصويره، وجعل في الناس صدق النظر وحسن التمييز فتراموا عليه من كل حدب وصوب ينعمون بجماله ويسبحون بحمد خالقه) قال: (ولكنك لا تفهم
كلام الكاهن ولا تتذوق حديثه إلا بعد مقدمتي الطويلة فأصبر على ما لم تحط به خبرا. . . إن هذا المكان لم يكن الوصول إليه في الزمن السالف يسيرا كما هو الآن: فهذه الجبال التي يزحف عليها قطار السكة الحديدية جاهدا كالأسير يرسف في الأغلال، ولا يصل إلى عليائها إلا بأمراس من حديد وأسنان كأسنان المشط ترفده كلما ارتفع، وتصده كلما ارتد أو هم أن يقع، هذه الجبال لم يكن من السهل أن يرقى إليها الإنسان، ولا أن يخترق جوفها كما يفعل الآن، ولا أن تطأ هاماتها الأقدام، ولا أن تفسد جمالها هذه المدينة القائمة على الحديد والنار، ولا أن يعكر صمتها ويغض من جلالها صخب الناس في الليل والنهار. ولذلك اتخذها الرهبان مثابة، ولجأوا إليها يتعبدون، وما أحسب الجبال قد برمت بهم وقد وجدت بينها وبينهم صلة وشيجة من الصمت والوقار والرهبة والتنزه عن هوان المدنية، إذا علمت هذا فأعلم أن الجبال والرهبان قد أنس بعضهم ببعض وقطعت الطبيعة ما بينهم وبين سائر الخلق من أسباب، واتخذ بعضهم اجيالافرا التي نحن فيها مثابة ومتعبدا، أقاموا فيها ديرهم وبيعتهم الصغيرة التي سمعت فيها حديث الكاهن، واتخذ بعضهم ميفاسبليون التي مررنا بها مثابة ومتعبدا آخرين وأقاموا فيها ديرهم وبيعتهم الصغيرة؛ وسكن الرهبان إلى الجبل، وسكن الجبل إلى الرهبان
ولكن ظلم الإنسان للإنسان لا تنقطع أسبابه، ولا تنسد أبوابه، ففي عام 1821 الذي بدأ الكاهن منه حديثه كان أهل اليونان قد أضناهم الضيق، وأعيتهم الحيل، وأمضهم الظلم، مما يلقون من عسف الترك وحكمهم الجائر. ففي غسق الليل مشى رؤساء القبائل وكبار الرهبان بعضهم إلى بعض يهمسون بالثورة والتمرد، وما كانوا ليستطيعوا إعلان الثورة أو الاصحار بالتمرد، بل ما كانوا ليستطيعوا أن يعلنوا ما دون الثورة والتمرد مما يسمى شكوى أو رجاء أو استرحاما أو ما دون ذلك من ألفاظ الذلة والهوان. ولقيت الدعوة الخافتة من النفوس استعدادا. واجتمعوا تحت ستار العبادة في هذا المكان ليدبروا أمرا: قال الأحبار: (نحن قادة الثورة وحاملو لوائها باسم الأمة واسم الدين.) وقالت العشائر: (آمين!) وقال كل حبر من الأحبار: (أنا قائد القواد ولوائي هذا هو اللواء الأعظم بمالي من المكانة بين الحاضرين)، فدبت بينهم الشحناء وانقسموا شيعا بعضهم لبعض عدو
ثم خرج إليهم كاهن هذا الدير وفي يده لواء واحد وقال: (لا لواء إلا هذا اللواء الأعظم:
عليه صورة المسيح، أتجدون خيرا منه تستظلون بظله وترتدون إلى فيئه؟) قالوا:(إنا معك وإنا لك لأجناد مخلصون) وانضموا إليه خاضعين يستظلون بلوائه الكنسي، وهذا هو اللواء الذي كان الكاهن يشير إليه وهو يحدثنا، وهذا النصب الذي تقيمه الحكومة اليوم إنما يقام تمجيدا لهذا المكان وتخليدا لهذه الذكرى؛ فهنا اشتعلت نار الثورة الأولى، وهنا اتحدت القبائل والأحبار، وهنا وضع أساس استقلال البلاد، وجاهد القوم أعواما ذاقوا فيها حلاوة النصر ومرارة الخذلان حتى استنجدت الدولة العثمانية ببطل مصر إبراهيم باشا؛ وما هي إلا أيام حتى بدا القائد العظيم من فوق هذه الجبال، ثم انصب على هذا الدير ووقف بجواده تحت ظل هذه الشجرة العتيقة، وقد انتشرت جيوشه على الجبال في سفحها وعلى قممها وفي وديانها، وأحاطوا بالمكان إحاطة السوار بالمعصم. قال إبراهيم باشا:(احرقوا هذه البيعة حتى يخضع من فيها من الثوار) فحرقوها وخضع من فيها من الثوار، وارتد ميمما البيعة التي في ميفاسبليون، وكأنه عز عليه أن يمضي في حرق البيع والأديرة، فأرسل إلى رهبانها كتابا قال فيه:(إما أن تخضعوا أو أحرق بيعتكم كما أحرقت بيعة اجيالافرا) واجتمع الأحبار يتشاورون، ثم دفعوا إليه بكتاب يقولون فيه:(إنك إذا حاربتنا ثم انتصرت علينا فما في النصر ما يدعوا إلى الزهو والفخار، فما انتصرت إلا على بضعة نفر من الرهبان والأحبار، وأنت ذو حول وقوة بما جمعت من جيوش جرارة، وخيل كرارة، وأسلحة ممشوقة، ودروع محبوكة، وأما نحن فعددنا خفيف، وشأننا ضعيف، ليس بأيدينا من سلاح إلا هذه المسابح نسبح الله عليها في همس ووناء، وليس على أجسامنا إلا هذه المسوح السوداء، نحمي بها أجسامنا من قر الشتاء، ولا مركب لنا في هذه الجبال إلا أقدامنا الكليلة أو بغالنا الهزيلة، وإن قدر لنا أن ننتصر عليك، ونحن على ما ترى من ضعف وهوان، فما أشده من عار، وما أمره من انكسار، فتدبر أمرك وأمرنا، واقض بالرأي الأصيل)
قرأ إبراهيم خطاب الأحبار فاستشاط غضبا وأمر بالجزيرة أن تحرق كلها بما وسعت. وأشعل الجند فيها النار، والنار إذا امتدت في هذه الجبال وغابتها لا تبقي على شيء بعدها ولا يصدها شيء. إلا أن يرسل الله من السماء أمطارا، أو يجري الوديان أنهارا. واحترقت الجزيرة وكل ما في الجزيرة: إلا هذه الدير الذي يسكنه هؤلاء الأحبار، فما امتدت إليه
شرارة من نار، وبقي معتصما بمكانه العالي، يهزأ من فعل النار ولا يبالي! وقال الناس:(حقا تلك إحدى المعجزات!)، مضى على هذا الحادث مائة سنة وعشر سنين حتى كان عام 1934، وإذا بالدير وبيعته تندلع منهما النار، لا يعرف لها سببا، ولا يصد لها لهب، وأصبح الناس فما وجدوا إلا هشيما تذروه الرياح. وفزعوا يحاولون إنقاذ بعض ما حوى الدير من تحف ونفائس فأنقذوا شيئا قليلا. وبحثوا عن كتاب إبراهيم إلى الأحبار وصورة كتاب الأحبار إلى إبراهيم فإذا النار لم تبق على واحد منهما. وماذا تغني كتب القواد والأحبار، إذا حم القضاء واشتعلت النار؟ أليس حديث الراهب لذيذا وعجيبا؟)
قلت: (وأعجب ما فيه هذه النار: أشعلها بالأمس إبراهيم فكانت على الدير بردا وسلاما، وأشعلها اليوم القدر فتركته حطاما.)
اليوزباشي أحمد الطاهر
في الأدب الإنجليزي
2 -
الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
يجب علينا لفهم هذه الروح في شعر شكسبير أن نطلع على الحالة العقلية التي كانت تسود عصره والعصور التي سبقته. قال كلارك: (لقد كان هناك عدد عظيم من الملحدين والمشككين وجدوا في عصر كان بمثابة الخطوة الأولى في ترقية العلوم المعروفة لدينا الآن. فقد كان تلاميذ كوبرنيكس الفلكي يتساءلون ويتجادلون في كل ما عرف من النظريات الفلكية من قبل، وكان هناك نفر آخر من الكيميائيين دحضوا حجج مدعي الكيمياء القدماء، ولكن النضال لم يكن مقتصرا على جماعة المجددين فحسب، بل وجد هناك نفر آخر من القدماء المقلدين الذين كانت أقصى غايتهم مقاومة هذا التيار الجارف. وإن من الغرابة أن نجد الملكة اليصابات تستشير المنجمين والدجالين في تعين الوقت المناسب للاحتفال بتتويجها ملكة على إنكلترا)
ومن حسن حظ العلم قيام عدد من المفكرين أثبتوا فساد كثير من النظريات القديمة المألوفة فبزغ نجم رينولد سكوت لما هاجم عددا من العقائد الدينية المألوفة، ولم يقتصر هذا التجدد على المفكرين من رجال العلم بل تعداه إلى رجال الكنيسة أنفسهم فظهر هناك من رجال الكهنوت عدد حاول إصلاح الديانة مما طرأ عليها من الخرافات والأباطيل
أما الخرافات فكانت تسيطر على جميع مناحي الحياة في ذلك العصر. فكان السحر بطرقه المختلفة مهنة تمتهنها النساء اللواتي كانت تغلب عليهن صفة الذبول والكبر وبشاعة المنظر. وكان معظم هؤلاء النسوة من الشريرات القذرات ممن كان أقصى غايتهن إيقاع الضرر وبذر المساوئ في المجتمع البشري. غير أنه وجد في نفس العصر بعض ساحرات كان همهن شفاء المرضى والقيام بخدمات حسنة للمحتاجين والمهددين بالأخطار
قام الناس على اختلاف طبقاتهم يناوئون السحر والسحرة فهاجموا الساحرات في عقر دورهن وكانوا يأخذونهن راسفات في الأغلال إلى السجون حيث ينتظرن محاكمتهن أمام
مجلس من القضاة الذين كرهوا السحر وما يأتي به أمثال هؤلاء الشريرات من موبقات وآثام. فكانوا يعذبونهن بأشد أنواع العذاب. فمنهن من ربطن إلى جذ الأشجار حيث ذقن الموت جوعا، ومنهن من كان يطلب إليهن إعادة الصلوات قبل إلقائهن في النار المضطرمة
وكان من السائد على أهل ذلك العصر أن ينظروا إلى السحرة كأنهم على اتصال بالشيطان. قال كلارك في كتابه: (أن من أبغض الأمور التي كان يتعاطاها السحرة في عصر اليصابات وما قبله ذلك النوع من السحر الذي كان يعرف بالعين الشريرة فكان من جملة معتقداتهم أن في استطاعة الساحرة أن توقع الضرر أو تميت الناس بمجرد إلقائها عليهم نظرة من نظراتها النارية؛ فكان العمل الذي كان يعتبر من أشد أنواع السحر ضررا هو بمثابة الحجر الأساسي في بناء علم التنويم المغناطيسي المعروف لدينا الآن)
وكان هناك نوع آخر من السحرة أقل ضررا وخطرا، ذلكم هو نوع العرافين أو المنجمين الذين كان الناس يقصدونهم كما يقصدون قارئي الكف في يومنا هذا. فكانوا يوهمون قاصديهم باتصالهم بالسماء والعالم العلوي فيقرأون المستقبل في الماء والهواء، في النار والدخان. وكثيرا ما كانوا يضطرون إلى استشارة أرواح الأموات أو تأويل صياح الديكة في تفسير ما يرونه من حقائق وأحلام
أما العفاريت فكان الناس يؤمنون بوجودهم الإيمان كله، وما هم إلا بقايا الأشخاص الخرافيين الذين عاشوا في عصر من العصور السالفة وأصبح في استطاعتهم بعد ذلك أن يهيمنوا على الإنسان فيحولوا أعماله حسبما يريدون وأنى يشاءون. نعم كان هذا الاعتقاد سائدا لدرجة أن أصبحت الكنيسة تعلم أبناءها أن لكل رجل في هذا العالم رفيقا من عالم آخر يحميه ويقيه غائلة الشر
وكان هنالك نوع آخر من الخرافة هو عالم الأشباح والخيالات. فما الشبح إلا روح غادرت جسدها المائت وانتقلت من عالم الأموات إلى عالمنا هذا ترفرف في الفضاء لتحقيق غاية من الغايات شريرة كالانتقام والقتل، أو خيرة كحماية البشر وصد الآلام عنهم. أشباح مرئية وأشباح غير مرئية محلقة بأجنحتها في الفضاء فتملأ العالم خيالات لا يحصر عددها ولا يعرف مقدارها
عصر كله خرافات تتسلط على عقول أبنائه الأوهام، ذلكم هو عصر اليصابات الذي يصفه كلارك بقوله:(على الرغم أن ذلك العصر كان عصر بداءة وتمهيد للعلوم المعروفة لدينا الآن، إلا أن معرفة الحقيقة والطبيعة لم تكن متقدمة للدرجة التي يستطاع بواسطتها القضاء على الخرافات السائدة؛ فكان الناس يؤمنون بالسحرة والدجالين، بالفلكين والمنجمين، بالحوريات والجنيات، بالرقي والعزائم، بالأحلام والاتصال بالأرواح. هذا الاعتقاد السائد كان أكبر عامل في وجود هذه العوالم في روايات المؤلفين الذين لم يستطيعوا بأي حال من الأحوال أن يخرجوا عن محيطهم وبيئتهم)
شكسبير والعقائد العامة:
شأن الشاعر أن يدون شعره كل ما كان معروفا في عصره من العقائد العامة، وهكذا كانت حال شاعرنا شكسبير، فقد عرف تمام المعرفة أن الخرافات القديمة كانت مواضع خلابة استعملها شعراء الإغريق والرومان في صوغ عبارتهم وتفسير معانيهم ودقائقهم. ولم تكد العصور القديمة تنطوي في عالم السجلات والتاريخ حتى ظهر هناك عالم خرافي جديد كان في حد ذاته خليفة للعصور التي سبقته، ذلك العصر هو عصر القرون الوسطى التي لم يستطع الشعراء الاستغناء عن خرافتهم في لغتهم بما نقله السلف عمن سبقهم
ومما لا شك فيه أن شاعرنا قد تأثر بعدد غير قليل من العوامل: كالجنس والمحيط والبيئة، فكان أفراد جنسه (يعتقدون أن كل ما هو غير مرئي حقيقة لا شك فيها ولا نقض)، ولم تكن الخرافات في عصره قد حوول مهاجمتها محاولة صادقة. نعم كان الإصلاح الديني أخذ في الانتشار في البلاد الإنكليزية إلا أنه كان مقصورا على المدن. أما القرى فلم تكن قد تأثرت بهذا الإصلاح أي تأثير
عاش شكسبير في عصر اضطربت فيه العقائد وتضاربت فيه الآراء، فاعتقد بعض الرجال المتعلمين اعتقادات كانت بعيدة كل البعد عن عقول غيرهم من الناس؛ وإن من حسن الحظ أن شكسبير يحاول في بعض رواياته أن يظهر لقارئيه عقائده وآراءه الشخصية. فهو يعتقد في الخرافات، ولكنه يتساءل عن أصلها وكيفية ظهورها، فهو يقول على لسان الأمير هملت:
(هل من الممكن أن نحسب ذلك الشخص الذي يقضي أوقاته كلها في الأكل والنوم رجلا؟
كلا إنه لا يتعدى أن يكون حيوانا فقط. إن من المؤكد أن ذلك الإله الذي وضع فينا قوة المجادلة والتمييز بين ما نعمله وما لا نعمله لم يضع فينا هذه المقدرة لنتركها دون أي استعمال أو ممارسة، أما الآن فسيان عندي إن كان هذا الفكر مجرد وهم أو غموض سماوي. فالفكر لا يحوي في حد ذاته إلا جزاءا من أربعة من الحكم والصواب، بينما أجزاؤه الثلاثة الأخرى لا تخرج عن كونها من عوامل الجبن والخوف، فلا يمكنني الجزم فيما إذا كنت قد خلقت لأقول مجرد القول في أن هذه الأمور يجب علي أن أعملها، في حين أني قد أوتيت القوة والإرادة والحق في عملها والقيام بها)
إن من الصعب على الشاعر أن يستطيع البحث في موضوع سماوي بطريقة جدية ترتكز على تفكر وبحث عميقين دون أن يكون له أدنى اعتقاد في هذه الأمور التي يبحث فيها؛ وبنظرة عميقة لروايات شكسبير يمكنك أن تحصل على نتيجة لبحثه في مثل هذه المسائل. وقد قال روف في كتابه (شكسبير وعقيدته في الأشباح): (لم يستطع شكسبير أن يجعل أشخاص رواياته ينطقون عن عقائده، ولكنه استطاع أن يظهرها في رواياته)
(يتبع)
خيري حماد
4 - الدكتور محمد إقبال
اكبر شعراء الهند المسلمين في العصر الحاضر
لأبي نصر أحمد الحسيني الهندي
فلسفته
إن كل شيء في هذا العالم متصف بالفردية، حتى الحياة أيضا لا تخلو من ذلك؛ ولا وجود في الخارج للحياة الكلية التي ينشدها بعض المذاهب الفلسفية والصوفية، فالله أيضا فرد واحد ليس كمثله شيء؛ وأما الكائنات فهي عبارة عن مجموعة الأفراد، ولكن النظام، والنسق، والتوافق والتطابق الموجودة فيها ليست بنفسها كاملة. ومهما كانت فهي نتيجة سعي الأفراد الغريزي، وعلى هذا فنحن نتقدم بالتدريج من الفوضى إلى النظام، ومن النقص إلى الكمال. وعدد أفراد هذه المجموعة غير محدود ولا معين، فانه يزداد كل يوم ويتضاعف. فالأفراد الحديثو الولادة يشاركوننا بدورهم ويساعدوننا للبلوغ إلى هذه الغاية العظمى - الكمال، ولذلك كان عمل الكائنات غير متناه، لأنها لا تزال تتدرج في مدارج الكمال وتترقى إلى ذرى المجد. وعلى أن الكائنات لم تنال الكمال المنشود بتمامه بعد، وما تفتأ تستنفد وسعها وتفرغ مجهودها في بلوغه فلا يمكن أن يقال في شأنها الكلمة الأخيرة، وما يمكن أن يقال فيها هو أنها ليست بحقيقة كاملة. وعملية الخلق فيها جارية يقوم فيها الإنسان بنصيبه، ويشترك فيها إلى أن يقدر أن يوجد النظام على الأقل في جزء من فوضاها؛ والقرآن قد أشار إلى هذا الخلق في الآية:(فتبارك الله أحسن الخالقين)
فنظرية إقبال هذه في الإنسان والكائنات خلاف ما يراه الإنجليز من أتباع مذهب الهيجلية الحديثة أو الصوفية في مسئلة وحدة الوجود من أن الغاية القصوى لحياة الإنسان ونجاتها في أن تندمج في الحياة الكلية كما تندمج القطرة في البحر وتفقد فرديتها
ليست الغاية الأخلاقية للإنسان ولا مرمى دينه أن يبيد وجوده بإتلاف فرديته وإفناء أنانيته، بل أن يحافظ على فرديته وأنانيته، وذلك بالحصول على أمثل الصفات وأعلاها التي تجعله فريدا وحيدا. والنبي عليه الصلاة والسلام قد أبانه بقوله:(تخلقوا بأخلاق الله)، أي اتصفوا بصفات الله، لذلك كلما كانت صفات الإنسان أشبه بصفات الله كان فريد زمانه وواحد
عصره
أما الحياة فيرى إقبال أنها اسم آخر للفرد. وأسمى صورة لها تحققت إلى الآن هي الأنانية التي بها يصبح الفرد مركزا مستقلا؛ فالإنسان مركز مستقل من كلا الجهتين، أي الجسمانية والروحانية، لكنه ليس بفرد كامل. والفرد كلما كان بعيدا عن الله كانت فرديته ناقصة وأحط درجة، وكلما كان قريبا من الله كانت فرديته كاملة وأرفع منزلة. وليس معنى القرب هذا أن تكون نهايته الفناء في الله أو الاندماج فيه كما قرره بعض الصوفية والفلاسفة؛ بل خلافا لذلك هو يجذب الله إليه، أي يتصف بصفاته وأخلاقه؛ وإلى هذا أشار إقبال في بيت من ديوانه (بيام مشرق) التبس مفهومه على البعض، قال:
(دردشت جنون من جبريل زبون صيدى
يزدان بكمند آور آي همت مردانه!
إن في صحراء جنوني جبريل صيد تافه
يا همتي الشماء ائتي في أنشوطتك بالله.)
يريد به أن الاتصاف بأوصاف الملائكة عنده شيء تافه بل هو يتوخى بهمته الشماء صفات الله
إن الحياة شيء متقدم. هي حركة تجذب الكائنات إلى نفسها بالغلبة على مشاكلها ومعضلاتها العائقة لها عن سيرها وتقدمها، وجوهر وظيفتها خلق الأماني والأغراض الجديدة بالاستمرار والتقدم ولصون نفسها قد أوجدت الحياة الوسائل، أو هي ظهرت طوعا لشريعة الارتقاء، وهذه الوسائل هي الحواس الخمس والقوة المدركة التي بها تغلب المشاكل والمعضلات، وإن كان أكبر العوائق في طريقها الطبيعة أو المادة، لكنها في ذاتها ليست بشر، إذ هي تمكنها من إبراز قواها الخفية واستعداداتها المكنونة
إن الأنانية حينما تستولي على المشاكل والمعضلات ويبين شأوها عليها تنتقل من الجبر إلى الاختيار فأنها إلى حد ما مجبرة وإلى حد ما مختارة كما ورد في الأثر أن (الإيمان بين الجبر والاختيار)، ومتى نالت النهاية القصوى من زلفى الأنانية العظمى (أي الله) التي ليس كمثلها شيء في الحرية والاختيار تمتعت بأقصى مدى من الاختيار والحرية، وعلى هذا فالحياة عبارة عن الجهد المستمر للوصول إلى ذلك المدى من الاختيار والحرية
قلنا إن مركز الحياة في الإنسان الأنانية التي تملى شخصيته على صفحة الوجود، والشخصية هذه عبارة عن حالة الجهد المستمر، فإذا احتفظ بتلك الحالة، بقيت الشخصية ثابتة البناء مشيدة الأركان، وإذا فقدت، ضعفت قواعدها وانتكثت مرائرها، وبما أن الشخصية أو حالة الجد المستمر أبعد الغايات للإنسان وأثمنها، فينبغي له ألا يدعها ترث قواها فتضعف، وتنحل عراها فتفنى. لأن بقاءها هو الذي يسبغ عليه الدوام والخلود، ثم فكرة الإبقاء هذه تعطى له أيضا معيارا للخير والشر أو الحسن والقبح. فإن كل ما يقويها خير وحسن، وكل ما يضعفها شر وقبيح، سواء أكان من نوع الفن أم الدين أم الأخلاق
على ضوء هذه الآراء انتقد إقبال فلسفة أفلاطون فدحض حجج جميع المذاهب الفلسفية التي تعتبر غاية الإنسان الموت بدل الحياة، فتلقنه الجبن والوهن وذلك بحمله على الأعراض عن المادة التي هي أكبر العوائق في طريق حياته، والابتعاد عن مقاومتها، مع أن جوهر الإنسانية في الاستيلاء عليها واستخدامها لنفسها بالبطولة والفحولة
وكما أن الاستيلاء على المادة ضروري لنيل الحرية والاختيار كذلك الغلبة على الزمن لازمة للحصول على الخلود والدوام؛ و (برجسون) قد علمنا أن الزمان ليس الخط اللامتناهي (في مفهوم الخط المكاني) الذي لابد أن نجتازه سواء رضينا به أم لم نرض. ولكن هذا المفهوم للزمن ليس بصحيح فإن مفهوم الزمن البحت لا يشمل مفهوم الطول
إن الخلود غاية الإنسانية وأمنيتها، يحوزه كل من يسعى لذلك، وحيازته تتوقف على تلك الأعمال والأفكار من حياتنا التي تقدر أن توطد أساس الأنانية على حالة الجد المستمر وتشيد أركانها، فديانة بوذا وتصوف إيران وأمثالهما من نظريات فلسفة الأخلاق لا تصلح لمأربنا وإن احتوت على بعض الفوائد وهو أننا بعد إجهاد أنفسنا واستغراق وسعنا بالاستمرار نحتاج إلى راحة قليلة لتجديد قوانا، فكأن تلك الطرق للأعمال والأفكار كالليالي لأيام حياتنا
وعلى كل حال فمتى تمكنت أعمالنا وأفكارنا من توطيد حالة الجد المستمر في الأنانية، فالأرجح أن الموت لا يؤثر عليها، بل محتمل أن تكون الفترة بين حياتنا الحاضرة وحياتنا الأخرى هي فترة الراحة، وتلك الفترة هي التي عبر عنها القرآن بعالم البرزخ الذي يبقى إلى يوم البعث، فتلك الأنانية وحدها يمكن ألا تتأثر من الموت وتخرج من الفترة فائزة،
التي قد اعتنت بالحياة الحاضرة اعتناء جيدا، وإن كانت الحياة تأبى الإعادة والتكرار في مدارج الارتقاء، ولكن على حسب مبادئ فلسفة برجسون، كما يقول لنا الأستاذ ولدن كار، حشر الأجساد أيضا في حيز الإمكان التام. إننا نوزع الزمن في اللمحات لذلك نربطها بالمكان فيصعب علينا عبره، ولكننا ندرك حقيقته حين نغوص في أنفسنا لأن الزمن الحقيقي هو حياتنا، تلك التي توطدت فيها الأنانية بحالة الجد المستمر، أننا محكومون بالزمن إلى أن نراه مربوطا بالمكان، إن الزمن المقيد بالمكان سلسلة لفتها الحياة حول نفسها لتجذب ما حولها إلى نفسها، وإلا فنحن مجردون على الزمن، وهذا التجرد يمكن أن نشعر به حتى في حياتنا الحاضرة وإن كان لدقيقة
إن الشيء الذي يقوي الأنانية هو العشق في مفهومه المطلق ومعناه جذبك الشيء أو طلبك إياه لتجعله جزءا من نفسك، وأسمى صورة له هو ما يمكن صاحبه من خلق القيم والغايات، ويدفعه إلى السعي في تحقيقها وبلوغها، ثم العشق يجعل العاشق فريدا كما يجعل المعشوق، وذلك أن طلب الفرد المعين الأوحد يوجد شأن الانفراد في الطالب عن غيره كما يوجد في المطلوب، فأنه لا شيء غيره يرضي طلب الطالب، وكما أن العشق يقوي الأنانية، كذلك الاستجداء يضعفها، فكل شيء نيل بغير المجهود الشخصي هو من قبيل الاستجداء، فالابن الذي يرث ثروة أبيه من دون مجهوده الشخصي مستجد، ومثله ذلك الذي يفكر بفكر الآخرين ويرى برأي غيره. وبناء عليه ينبغي لنا أن نوجد ونربي في أنفسنا العشق أي قوة الجذب ونجتنب جميع أنواع الاستجداء، وإليه أشار إقبال في بيت ترجمته:
(إن المملكة التي لم تشتر بالدم
هي عار على المسلم)
بقي أن نسأل كيف نوجد العشق، فيقول إقبال: إن للمسلمين على الأقل في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ردا على ذلك، فأنه عليه الصلاة والسلام قد وضح بأعماله وحياته ما هو العشق، وكيف يمكن القيام به، لذلك ينبغي للمسلمين أن يختاروا حياته عليه الصلاة والسلام أسوة لأنفسهم وأن يحبوه، وإليه أشار إقبال في بيت قال:
(هركة عشق مصطفى سامان اوست
بحر وبردر كوشه دامان اوست
كل من يكون متاعه عشق المصطفى
يكون البحر والبر في طرف ذيله)
إن الأنانية في صعودها إلى فروع العلى، وبلوغها إلى رفعة الكمال حيث تتمتع بفردية كاملة بنيل زلفى الأنانية العظمى لابد أن تجتاز ثلاث مراحل: مرحلة الخضوع للشريعة، ومرحلة ضبط النفس وهي الصورة العليا للشعور الذاتي، ومرحلة الخلافة الإلهية
ففي مرحلة الخضوع يفسر لنا إقبال أنه للتقدم لابد من مسلك يسلك، ومن مشروع يورد، ومن قانون يخضع له. لذلك كل من يصبو لمعارج الكمال، ويطمح إلى سنام المجد ينبغي له أن يطيع الشريعة. وفي بيان مرحلة ضبط النفس يقول إقبال إن النفس الإنسانية لأمارة بالسوء، فهي معجبة بذاتها، أبية، عنيدة، لا تهتم إلا بأمر نفسها. لذلك هي محتاجة إلى الضبط والتهذيب. فخير طريق لذلك هو إقامة أحكام الشريعة. فالصلاة تنقذها من الفحشاء والمنكر، والصوم يقتل غلمتها وترفها، والحج يذيقها لذة الهجر ويخفف عنها سلطان الحب للوطن ويضمها إلى الاجتماع الإسلامي العام فيجعلها تشعر بجنسية الإسلام، والزكاة تبيد حبها للمال وتعلمها المساواة
أما الخلافة الإلهية فهي النهاية القصوى للتقدم الإنساني على سطح الأرض، هي الأنانية الكاملة والغاية العليا للإنسانية، وقمة الحياة من حيث العقل والجسم. ففيها يتحول تشتت الأفكار في الحياة الذهنية واختلافاتها وتنافرها إلى التناسق والتوافق، فتقدر حينئذ على حل جميع العقد المنيعة المطلب والصعبة المرام. هي ملتقى الكمال للعلم والقوة، ونقطة الاتصال بين الفكر والعمل، والعاطفة والعقل. ومن استحقها كان آخر ثمرة لدوحة الإنسانية، وظهوره يبرر جميع آلام الارتقاء ومحنه لأنها كانت قائمة لأجله. هو يكون حاكما حقيقيا على البشر وحكومته تكون حكومة إلهية على الأرض. هو يسبغ من خصب طبعه على الآخرين بحبوحة الحياة ويقربهم إلى نفسه فكلما يتقربون إليه تتدرج حياتهم في مدارج التقدم والكمال
إن بلوغ الإنسانية إلى أقصى مدى من التقدم عقلا وجسما شرط ضروري لولادة ذلك المستحق للخلافة. لذلك كان وجوده في الحال في عالم المثال، ولكن تقدم الإنسانية سائر إلى إنتاج طبقة الأفراد المنفردين في أوصافهم الحميدة قلة أو كثرة؛ فهؤلاء سيكونون أجداده
أما الحكومة الإلهية فمعناها الديموقراطية المكونة من الأفراد المنفردين في أوصافهم الحميدة قلة أو كثرة يرأسهم الفرد الوحيد الذي لا نظير له على وجه الأرض. كانت أشباح هؤلاء الأفراد تجول في فكر الفيلسوف الألماني نيتشه؛ ولكن إلحاده وتعصبه الأرستقراطي شوهها تماما
هذا ما عن لنا من فلسفة إقبال الآن؛ وسنقدم إليك معالم الاتفاق والاختلاف بينه وبين فلاسفة الغرب في المقال الآتي إن شاء الله.
السيد أبو النصر أحمد الحسيني الهندي
الذكر
للأستاذ فخري أبو السعود
صوتٌ مِنَ الأمس ما أنْفَكُّ أسمعُهُ
…
مُرَدَّدُ اللحن في بالي مُرَجَّعُهُ
لحنُ شجيُّ لطيف الوقع ساحرُهُ
…
يَدُ الليالي على قلبي تُوَقِّعه
إذا تَرَدَّدَ منه في الضلوع صدًى
…
ثار الحنينُ ونَدَّ الجَفْنَ مدمعه
نهرُ يَظَلُّ بنفس المرءِ مُنْسَرِباً
…
وفي مجاهِل ماضي العيش منبعه
طيفُ مدى العمرِ مِن ماضيَّ يتبعني
…
وَدِدْتُ لو أَنني ما شاء أَتْبَعُهُ
مَنْ أَنْتَ يا مَنْ مِنَ الماضي يخاطبني
…
وَمِنْ قرارةِ نفسي بِتُّ أسمعه؟
تَظَلُّ تُحي الذي قد مات من عُمُرِي
…
وما تَشَتَّتَ مِنْ ماضيَّ تَجْمَعُهُ
نعَمْ وِتَحْكِي لقلبي من مآربه
…
ما كان يَنْشُدُهُ قِدْماً ويُزْمِعُهُ
حديثُك العذبُ مها طال يْؤنِسهُ
…
وبالزمان الذي قد مَرَّ يولعه
يا رُبَّ عهٍد غضيرِ الحُسن رائِقِه
…
قد راح وهْو حثيثُ الخطو مسرعه
مرتْ عليه بَنَانُ منك ساحرةُ
…
فهاج بي الشَّوْقَ مغناه ومربعه
وهام قلبي على آثارِهِ لهِجاً
…
يَوَدُّ لو أنَّ هذا الدهرَ يُرْجِعُهُ
وَرُبَّ وادٍ بنفسي مُزْهِرٍ نَضِرٍ
…
صَوَّرْتَهُ فَهْوَ حالِي النبت مُمْرعه
ومنظرٍ مِنْ طُيُوفٍ أنْتَ رَاسِمُهُ
…
ومِنْ حنينٍ خَفِيّ أنْتَ مُبْدِعه
وصورة لِذُكاءِ وهْيَ غاربةُ
…
هفاَ لها الكونُ إذْ هَمَّتْ تُوَدِّعه
ومَشْرِقٍ حَيِّتِ الأرْوَاحَ غُرَّتُهُ
…
ونَبَّهَ الطيرَ والأزهارَ مطلَعُه
هذا ادِّكاريَ: ملءُ القلبِ من صُوَرٍ
…
مِنَ الطبيعِة تَشْجُوهُ وتُمتُعِه
وسالفاتِ عهودي في مباهجها
…
يُظِلُّني ثَمَّ ناَدِى الزهر مُونِعُهُ
حُسْنُ الطبيعيةإلُفُ في الفؤادِ له
…
عهدُ بِقَلْبيَ باقٍ لا أُضَيِّعُهُ
وليس بالقلب ذِكْرُ مِنْ أخي مِقَةٍ
…
يبقَى بقَلْبي مَدَى الأيام موْضِعُهُ
فَكُلُّ ثَوْبِ وَدَادٍ كنتُ ألْبَسُهُ
…
يَرَثُّ وَهْوَ جَديدُ ثُمَّ أخْلعُهُ
فكيف أهفو إلى رَثَ ومُنْخَرِق
…
من العهود وَباَلٍ لستُ أرْقَعُهُ؟
مَنْ رام صافِيَ وُدٍّ غير ذي كدر
…
ففي الطبيعة للوُرَّادِ مَشْرَعُهُ
أليِفُهَا حيثما راقتْه صُحبتُها
…
مُمَتَّع النفس راوي الطرف مُترعه
أصْفَى الوداد وُرُوداً ثُمَّ أَدْوَمُهُ
…
عهداً وأعْذَبُهُ ذِكْراً وأنْقَعُهُ
فخري أبو السعود
بين الهدى والهوى
للشاعر الحضرمي علي أحمد باكثير
في طلوع الفجر الوليد على الكو
…
ن، وإيذان ليله بالهروبِ
وهبوب الأنفاس من رُدْنَى الصب - ح برَوْح يحي النفوس وطيب
رنْ في مسمع السكون أذانُ
…
قُدُسيّ الترجيع والتثويب
سال - حتى عم الفَضَاء - حَناناً
…
ذائباً في شعاعه المسكوب!
خلِقاً عاَلًما من النور والفت
…
نة والسحر والجمال الغريب
رَعَشَاتُ من الغناء السماويّ (م)
…
تَخطَّي الأسماعَ نحو القلوب!
إنما الدين الحقّ فنُّ طهور
…
قد سما في معناه والأسلوب!
وقف (الشاعر) التقيّ يصلِّي
…
في خشوع لذي الجلال المهيب
فرِحاً قلبه يطير استناناً
…
في مجال من الأماني رحيب
مطمئناً لو أنه احترق الكو
…
نُ جميعاً ما مسه بلهيب!
عامراً بالهدى يكْاد يرى الله (م)
…
بعينيه فهو جدّ قريب
ربّ! لِمْ لا تراك عيني؟ ألَا تب
…
دو لعينَيْ عبدٍ إليك منيب
كَلِفٍ بالجمال يصبو إلى من
…
بع بعد الأنبوب فالأنبوب!
فاطْوِ عني الحجاب تشهدْ جفوني
…
لمحةً من جمالك المحبوب
مرَّ في سمعه حَفيفُ لِسَهمٍ
…
ناشبٍ في فؤاده المنكوب
ما وعى السمعُ أودرى القلبُ إلاَّ
…
بعد حين من وقعه والنشوب
مَنْ رماه؟ وأيَّ نصل وعن أيّ (م)
…
ةِ قوس رمى؟ وفي أيّ حُوب؟
ولوَى الجيدَ يَسْرةً فإذا هُو
…
بمثال من الجمال النجيب
قمر طالع عليه من الشّر
…
فة يرنو إليه كالمذهوب
لفَتَتْهُ الصلاة نحو المصَلّى
…
فادَّرَاهُ بكل سهم مصيب
ربّ! ماذا أرى؟ ألمحة نور
…
منك، أم وهْم ناظرٍ مكذوب؟
أم مَلاكاً بعثَته بقبولي
…
ونجاح المؤمّل المطلوب
ربّ! قلبي صبا إليه! كأنْ لم
…
أَكُ في موقف الصلاة الرهيب
أين وَلّى اطمئنان نفسي؟ ومَنْ لي
…
بخشوعي إليك والترحيب؟
ربّ! حل الهوى محل الهدى في ال
…
قلب، ويلاه! ربّ عافِ الذي بي!
وانتهى من صلاته وهو يهذي
…
بضلالات شعره والنسيب:
(ألهمِيني وحي الجمال! فعهدي
…
بشهود الجمال غير قريب
إن تكن نظرتي لوجهك ذنباً
…
فالْتِاعي كفّارة لذنوبي
وابعثي لي - لتدفئي بُرَدَائي -
…
وقدةً من ذراعكِ المشبوب!
واُصبَحيني من خمر عينيك كأساً
…
تنفِ عني متاعبي ولُغوبي
وابسمي لي - والابتسام يسير -
…
تبتسمْ لي الحياةُ بعد قطوب)
(هي لغز يحلو التأمل فيه
…
لحكيم وشاعر وأديب
هي في لِبْسة التفضل حُسْنُ
…
من يد الله، ليس بالمجلوب
يا لَها حلوةً عليها من النو
…
م بقايا تثاؤب محبوب!!
وبأهدابها خيوط ضياءٍ
…
عَلِقت من أحلام ليل عجيب!
مُرسَلاً شَعرُها على غير ترتي
…
ب ولكن أحلى من الترتيب!
خطَّ في خدها الوِساد - سعيدا -
…
آيةً من بدائع التذهيب!
وأذاع النسيم عنها بلاغا
…
أفعم الجو من أريج وطيب
إن طيباً في الحُق ليس كطيب
…
مرسل من غلائل وجيوب
بكرت تنضح الشجيرات بالما
…
ء فيَنْعمْنَ بالبنان الخضيب
وفؤادي أحق بالريّ منهن (م)
…
فهلاّ تمدّه بذَنوب!
وقفت وقْفة الدَّلال أمامي
…
تتلهَّى في كفّها بقضيب!
أرسلت كهرباءها فتمشت
…
في عروقي بهزة ولهيب
فكأنا (قُطْبا عمودٍ) ترمي التّيْ
…
يَار فيه من جيئه وذهوب
(بين جهدي وجهدها أبداً فر
…
قُ) فما إنْ تكفّ عن تعذيبي
أيها (السالب) الجميل حناني
…
ك ترفّق بمهجة المسلوب)
واستهل الصبح الجديد على الكو
…
ن مُلَقَّي بالبشر والترحيب
وأتى (الشاعر) الصلاةَ بقلب
…
شاَعر بالملام والتثريب
مستنيب إلى الإله يُرَجّى
…
عفوه عن ضلاله والحوب
فدوى في أعماقه رَجْعُ صوتٍ
…
كصدى الرعد أو دويّ النُّوبِ
كيف يقوَى على سنا (الربّ) قلب
…
جُنَّ لما رأى سنا (المربوب)؟
والكمالات لا تَنَاهى لدى الل
…
هـ فلابد من بقاء الغيوب
علي أحمد باكثير
القرية
للأستاذ بشاره الخوري
أيتها الفتانة الصغيرة
…
أنت بتاج مَلك جديره
من القِرى اشتقوا لك اسم القرية
…
وعطّل السفحُ فكنت الحلية
شاعرك البلبل ذو الإلهام
…
وعُودك الجدول ذو الأنغام
والغيمة البيضاء مثل القبة
…
كأنها من الحرير جبه
تضم أعناق الربى وتلثمُ
…
فليس إلا شَفةُ ومبسم
كم طربت شمس لهذا المشهدِ
…
فمسحت جبهته بالعسجد
حتى إذا الليل سجا ومدا
…
على الورى جناحه المسودَّا
مشى إليه البدر مشيَ الصائدِ
…
يهتبل الغفلة من مطارد
حتى رمى بخردق النجومِ
…
صدر الدجى فسِلن كالكلوم
مآتم لكنها أعراس
…
يدار عندها الهوى والكاس
توحي بها القرية في رأس الجبل
…
وأروح العيش خيال وأمل
وساعِدٍ عند الضحى مفتولُ
…
تغمره بالقبل الحقول
أسمر مما لذعته الشمس
…
في كفه لكل جسم نفس
يقوم في الأرض مقام الخالق
…
فيغدق الرزق على الخلائق
هذا الذي يحاولون قتله
…
والعدل يقضي أن يموتوا قبله
بشاره الخوري
بين ناقد وشاعر
علم قراء الرسالة من عدد مضى أن الأديب حبيب الزحلاوي اتهم الدكتور الشاعر إبراهيم ناجي بأنه استعان في قصيدته (عاصفة الروح) بقصيدة الشاعر الدمشقي ميشيل عفلق (عاصفة)، وقد دفع الدكتور ناجي ذلك الاتهام، وتحدى متهمه أن ينشر القصيدتين في الرسالة. وأمس أرسل إلينا الناقد نص القصيدتين ومعها نقد لاذع، واليوم بعث إلينا الشاعر بنصهما أيضا ومعهما تعليق ساخر، فآثرنا أن نطوي النقد والتعليق لخروجهما عن خطة الرسالة، واكتفينا بنشر القصيدتين، ليحكم القراء بين الرجلين
عاصفة روح
للدكتور إبراهيم ناجي
أين شطُّ الرجاءْ
…
يا عُباب الهموم
ليلتي أنواء
…
ونهاري غيوم
اعْوِلي يا جراح
…
أَسْمِعِي الديان
لا يهم الرياح
…
زورق غضبان
البِلى والثقوب
…
في صميم الشراع
والضنى والشحوب
…
وخيال الوداع
في احتدام النار
…
واصطخاب الأنين
تضحك الأقدار
…
ترقص السكين
كل يوم يروح
…
في احمرار الجروح
كل صبح يلوح
…
فجره مذبوح
اسخري يا حياه
…
قهقهي بالرعود
الصِّبَى لن أراه
…
والهوى لن يعود
الأماني غرور
…
في لظى البركان
الدجى مخمور
…
والردى سكران
وخليع العباب
…
موجه العربيد
دار بالأكواب
…
ويل هذا العيد
راحت الأيام
…
بابتسام الثغور
وتقضى الظلام
…
في عناق الصخور
كان رؤيا منام
…
كأسك المسحور
يا ضفاف السلام
…
تحت عرش النور
اطحني يا سنين
…
مزقي يا حراب
كل برق يبين
…
ومضه كذاب
اسخري يا حياه
…
قهقهي يا غيوب
الصِّبَى لن أراه
…
والهوى لن يؤوب
عاصفة!
لمشيل عفلق
اعصفي يا رياح!
…
واهزئي بالسماء
من يكن ذا جناح
…
هل يهاب الفضاء؟
عبس الغاب وادلهمٍ، فما يب
…
سم إلا عن الرعود البوارق
فمشى السر موغلاً في ثنايا
…
هُ مصوناً من الدجى بفيالق
وتداعت جهم الغيوم ثقيلا
…
ت حبالى بشائبات الصواعق
ذعرت في الفلاة آمنة الوح
…
ش فراحت تمشي كمشية سارق
وسرى الماء لائذاً بحمى الظل (م)
…
ملماً ببعضه متعانق
أمعنت في الغناء
…
قاصفات الرعود
ذاك ضحك القضاء
…
من قيود العبيد. .
اعصفي اعصفي أيا ريح حتى
…
تُرقصي من دويِّك الأجيالا
واضحكي كم يثير ضحكك عند ال
…
حشرات النواح والأعوالا
أوصدت وكرها الثعالب حسرى
…
لابسات من ضعفها أغلالا
وانبرى الليث ناعم البال يمشي
…
حاشداً تحت نابه الآجالا
ودعاك النسر احميلني أيا ري
…
ح إلى حيث لا جناح تعالى!
اغسلي يا سيول
…
زائف الأصباغ
السما كالطبول
…
زمرت بالفراغ
يا سيول افتحي لنفسي مجرى
…
أنا نهر حيران لم يلق بحرا
تهت عن غايتي ولكن تيهي
…
ينبت الخصب كلما حلّ قفرا
أنا برق في قوتي والتهابي
…
في وميضٍ أحيا وأدفن عمرا
أنا ليل يفني اشتعالاً وحباً
…
لتوشي دماؤه الحمر فجرا
أنا زهر أطارت الريح أورا
…
قي فاْفعمت واسع الجو عطرا
أعطشتني الرغاب
…
فشربت النجوم
وحداني الشباب
…
فامتطيت الغيوم
مِن ذرى هذه السحائب ارمي
…
فوق هام الورى رفيع ازدرائي
قدما في السماء أركز جذلا
…
ن وأخرى على جبين الفضاء
لم يعد لي في الأرض منزل جرّ
…
واسعُ مطلبي وعالٍ إبائي
أحرقت بيتي الصواعق لكن
…
غسلت لي قلبي بذوب الضياء
مزقت ثوبىَ الرياح ولكن
…
نسجت من دم الشموس ردائي
إعصفي يا رياح!
…
واهزئي بالسماء
من يكن ذا جناح
…
هل يهاب الفضاء
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
23 -
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتشه
الإنسان
للأستاذ خليل هنداوي
الرجل ذو الضمير الفاسد يحس في نفسه حاجة مرضية للتألم، وهو لا يشعر بأن الحاجة تبعثها علة حقيقية هي وليدة هذا الضغط القاسي على إرادة قوته، وإنما يدرك فقط أنه متعاقد مع الألوهية على دين لا يمكن أداؤه. ومن الحق أن يبدو له أن هذا الدين شديد تهون في سبيله الآلام. فهو يحتمل الشقاء ليهدي غيظ دائنه العنيف، وليكفر عن خطيئته. وهاهو ذا الآن يلتمس العذاب يتذوقه ألوانا ليفي بدين يزعم أن لا نهاية له. يحمل الألم ولا غاية له إلا الأم ليطفئ في نفسه رغبة التفكير عن ذنبه. وهيهات أن تشبع هذه الرغبة أو تطفأ!
فكرة الخطيئة بعثت مرة ثانية، وأصبحت الآلة التي يتوعد بها الكاهن، وبها يسيطر على الأرواح، وبها انقادت له جموع الأشقياء ووضع يده على النعاج المتألمة التي أبصرها في الطريق. مضى قدما إلى أولئك المنحطين العاملين بشقاء يجهلون علته، يتحرون عن العلة أو الواحد المسئول عن انحطاطهم الغارقين فيه. فيوحي إلى هؤلاء بأنهم هم أنسهم كانوا سبب شقائهم الحقيقي، وأنهم ينبغي لهم أن ينظروا إلى هذه الآلام كتضحية صغيرة عن خطيئاتهم التي اجترحوها، فليتقبلوها - بطرب - كامتحان أراده الله، فآمنوا به وقبلوا بهذا الحل منه، وتلقحوا برضا بهذه الفكرة المسممة عن الإيمان بالخطيئة. وفي أوروبا اليوم مذهب يضم هؤلاء الخاطئين التوابين الذين يمشون بأجساد مريضة وأعصاب ساكنة ونفوس ذاهلة، فرائس لليأس والهذيان. جوعهم دائم للعذاب، تستولي عليهم فكرة الخطيئة والهلاك الأبدي
وفي النهاية يجد نيتشه أن التعاليم المسيحية كديانة وكمثل أعلى، لا تقود إلا إلى العدمية يجد أنها خلقت عالما مفعما بالأوهام المجردة، وتخيلت عللا خيالية وأعمالا خيالية، وروابط بين الأكوان خيالية. أسست علما طبيعيا وهميا مؤسسا على إنكار الأسباب الطبيعية
والعلاقات الطبيعية بين الأشياء، وأسست علم نفس خيالي يرتكز على تفسير خاطئ للحوادث الطبيعية وعلى فلسفة خيالية، وبينا كان الرجل المسيحي دائبا في بناء وجود خيالي كان يهدم الوجود الحقيقي، يقاوم الطبيعة (أصل كل بلاء) في سبيل الإله (أصل كل خير وهناء)، فولدت الأوهام المسيحية من بغض الحقيقة، فهي نتيجة إنسانية منحطة، تربو فيها كمية الشقاء على كمية الفرح، إنسانية تعبة سائمة، متألمة، تميل إلى التشاؤم وعدم الحياة، ولا تجد راحتها إلا في أحضان العدم
- 4 -
إن عمل التاريخ الأوربي هو ظفر شريعة العبيد على شريعة الأسياد، لأنه قبل تلك الشريعة وعمل على اعتناقها وكفر بهذه الشريعة. . . وإنها لمعركة لا تزال مشبوبة محتدمة عشرين قرنا بين (روما) وارثة الحضارة اليونانية ومثلها الأعلى الأرستقراطي، الذي هو أقوى مثل وأسمى مثل تحت الشمس، واليهودية موطن البغض ومنزل الروح (الكهنوتي)، انتصرت اليهودية والنهضة الحديثة التي شبت في أوروبا قامت في وجهها عثرات وعقبات، كثورة (لوثر) والبروتستانت، وكثورة الباستيل في فرنسا، وانهزام نابليون، هذه نائبات تتالت فحالت بين بلوغ النهضة غايتها، فآلت إلى انتصار شريعة العبيد، فأوروبا الآن غارقة في انحطاط عميق، يقضي على ما تبقى في عروقها من حياة، حتى ليخشى أن يتقهقر النوع الإنساني إلى الوراء، فلا يورث بعد اليوم إلا صورا من الخزي والعار
هذه هي شريعة العبيد التي تسيطر على العالم تحت اسم (ديانة الألم الإنساني)، فلنفصل الآن هذه الديانة وما تنطوي عليه
إن تحليلنا لعاطفة الشفقة التي يتبجح بها اليوم معلمو الجيل الحاضر يثبت لنا أن هذه العاطفة ليست من العدل والجمال على المثال الذي يرون. إن عاطفة الشفقة - في الحقيقة - يتولد منها سرور أناني. إذ نحن نصنع مع الآخرين الخير كما نصنع الشر. غايتنا من ذلك أن نظهر شعورنا بقوتنا، ونخضعهم لسلطتنا. أما الرجل القوي الشريف فهو يفتش عن كفء له ليبادله النضال ويحني هامته بازاء قوته، وتراه يحتقر الفريسة الذليلة السهل انقيادها، وتراه ينحرف عن الخصوم الذين لا يجد فيهم أكفاء وأمثاله. أما الضعيف فهو يميل إلى الظفر السهل، والفريسة الخانعة، وهل كان ضعيف أو شقي يوما مهيبا؟ وإن
الإنسان بطبيعته وإرادته يجنح إلى إحسان لا إلى شقاء
إن الشفقة هي فضيلة الأنفس المتوسطة، تتدرب عليها دون وازع ولا مانع، حتى إذا نزلت هذه الشفقة ساحة النبيل أصبحت علامة الانحطاط، وذهاب الكرامة، وخساسة الأصل. إن النبيل يكتم آلامه وهمومه ولا يبوح بها. يصرف عن نفسه الإرادة الحسنة كما يصرف الإرادة السيئة، والإنسان المتألم القبيح قد يكون على حق في كرهه للشهود الذين يبوحون بسر فاقته وقبحه وتعاسته. هؤلاء الشهود الذين لا يستحون من أن ينظروا إلى ما كان ينبغي له أن يظل خفيا عن العيون، فيحملون هذا الشقي منه شفقة ما طلبها وما تمناها
إن الشفقة ليست بعاطفة مفيدة فحسب، بل هي عاطفة منحطة أيضا. لنتصور أن ديانة الألم قد انتشرت بين الناس فما هي النتيجة؟ إن كمية الألم تزيد بدل من أن تنقص، ويصبح الإنسان مجبرا على حمل آلامه الخاصة وجزء من آلام الغير، حملا على حمل، وبهذا تضعف الشفقة من حيوية الحياة، وتجعل من الألم داء ساريا. ناهيك بأن ديانة الشفقة تضاد المذهب الطبيعي السائد حكمه في الأحياء، وهو بقاء الإصلاح والأنسب الذي يقضي بفناء الكائنات التي لا يصلح تركيبها للحياة، وقد أتاها حظ بخروجها ظافرة من معركة الحياة، وكل ديانة ترمي إلى الشفقة هي ديانة تعمل على وقاية العناصر المنحطة، وعملها هذا هو ما يسوق إليها الفوز في كل جيل، لأن الضعفاء والمرضى هم في الحقيقة الفريق الغالب، بينا أن الإنسان الخالص الصافي من كل شائبة هو نادرة من نوادر الوجود؛ وقد ثبت في كل الأنواع الحية العالية أن الأغلبية فيها هي كائنات منحطة التركيب، سيئة الخلق، مستسلمة للألم، والإنسان لا استثناء له من هذا الحكم. والإنسان - بالنظر إلى الحيوانات - هو سلالة عالية راقية، قابلة للتطور، وهو لما يبلغ آخر مرحلة من مراحل التطور في الكمال، وهو لما يزل عرضة للحوادث التي تؤثر فيه وتبدل منه. كما أن معدل الانحطاط في النوع الإنساني هو أبرز وأكثر منه في سائر الأنواع. وديانة الشفقة تغدو عاملا كبيرا في الإبقاء على فريق كبير من الأحياء لا فائدة منه، لأن انتخاب النوع لا يرى غاية له إلا الفناء. هي تحفظ مظاهر الفاقة والبؤس. فتجعل الوجود أكثر قبحا، والحياة أكثر ميلا إلى العدم. إن هذه الديانة هي جزء من العدمية. إنها مهددة للوجود وللنماذج العليا من إنسان الوجود. فان مرأى البؤس والألم والانحطاط والقبح يدعوا الرائي إلى رجاء العدم، إما
بعامل اليأس من هذا المرأى أو بعامل الشفقة، حتى ليغدو مذهب الشفقة مرضا شديدا يقضي على طبيعة كريمة، ويقتل منها قوة نضالها ودفاعها، هذا المرض الدائب على تذليل الذرية الأوربية، وتقييد اصطفاء الأنواع السامية، والحيلولة بين الإنسان والسوبرمان
(يتبع)
خليل هنداوي
القصص
صور من هوميروس
8 -
حروب طروادة
من السماء
للأستاذ دريني خشبة
قضى بروتسيلوس نحبه، وعادت روحه الكريمة إلى هيدز مصطحبة روح زوجته البارة، وغرست عرائس الفنون فسائل الدردار فوق قبر الراحلين فنمت وترعرعت، ونعم بفيئها الوارف ماء الهلسبنت ورتعت في ظلها أترابه. . .
ولكن. . .!
لقد كانت روح بروتسيلوس الجذوة التي أججت نيران الحرب فجعلتها ضراما!! فانه ما كاد يرمى بالسهام فيصمى، فيسيل دمه أنهارا، حتى تدفقت جيوش الهيلانيين على الشاطئ الأسيوي، غير مبالين بالموت الأحمر الذي كانت تمطرهم به سهام الطرواديين، والمنية السوداء التي كانت تقطر من سيوفهم، فتحصد صفوف الغازين حصدا. لا. لم يبال الهيلانيون بهذا الهول الأكبر، بل انقضوا على الشاطئ شكاكا في سلاحهم، مقنعين في دروعهم، مرهفين سيوفهم، تفيض عليهم عدة الحرب كأنهم جنة ترقص في زوبعة، أو ظلال من الذعر تجول في معمعة
وتبعهم قادتهم العظماء فانطلقوا يبوئونهم مواقف للقتال، ويلقون عليهم من كلمات الحماسة وخطب الاستبسال، ما أضرموا به جوانحهم شوقا إلى خوض الكريهة، وحنينا إلى اقتحام الوغى، وصبوة إلى تقبيل الرقاق البيض
ودقت الطبول فكانت إيذانا بهجوم الهيلانيين
فانظر الآن إلى البحر يلتطم بالبحر، والموج يساور الموج، والموت يصاول الموت، والحياة الحلوة تأخذ بتلابيب الحياة الحلوة، وصيحات الهيلانيين تردها صيحات الطرواديين؛ وليل الآخرة يغطش نهار الدنيا، وظلام القبور يكشر لهذه الدور، والفزع يمشي في صفوف هؤلاء وهؤلاء، واليتم يجرح هذا الكبد، ويقرح ذلك القلب، والحزن
يفيض على هذا السهل، ويجوب ذاك الوادي، ويرف على قلل تلك الجبال، وأنين الجرحى يطن في فضاء الساحة الحمراء، فيملأ الآذان بالهلع، والنفوس بالجزع، والدماء تتفجر هنا، وتتحدر هناك، والرؤوس منتثرة فوق الأديم المضرج، زائغة أبصارها، مفغورة أفواهها، معفرة بالتراب أنوفها التي عزت على العالمين. . .
ثم انظر إلى أخيل يرعد بين الصفوف ويقصف، ومن ورائه الميرميدون يوزعون المنايا ويهدهدون الحتوف ويقربون الآجال!
وأوليسيز المغوار وتلك العجاجة المنعقدة فوق رأسه من خبار الحرب، وهذه الصعدة السمراء بيمينه تنفث الموت في صدور الأعداء!
وأجاكس وجنوده! الكرار الفرار، المذاويد الأحرار!
وبنليوس! قائد العسكر البووطية، القروم البواسل، والليوث الكواسر!
وديوميد! نبعة أرومته، وسيد عشيرته، ووجه قومه، وفارس كتيبته!
وأجابينور! فتى أركاديا، وملاك أمرها، وشمس ضحاها!
وميجيز! النجد الباسل، والبطل الحلاحل!
وإيدومينيز! ملك كريد وقائد جنودها؛ أباة الذل، وكماة الوغى، ومرادي الحروب!
وتليبوليموس بن هرقل بطل المجازفات، المقدم أخو الغمرات! ثم انظر إلى الصيد الصناديد من أبناء طروادة، وجيرانهم الكماة الأباة الحماة!
هاك هكتور العظيم بن بريام الملك، عضد طروادة وسندها وليث عرينها؛ الثبت الصابر المصابر؛ رابط الجأش شديد البطش؛ قوي الشكيمة الفارس المقدام!
هاك هكتور الأسد، يرغى في أسود الشرى ويزبد، ويوقل في بطاح طروادة وينجد!
وهاك إينياس الهائل، يقود (الدردان) الأيطال إلى كرائم الفعال في ساحة القتال!
وهاك بنداروس! تلميذ أبوللو وربيبه، يقود فرسانه الفحول ورجاله البهاليل!
وهاهما ولدا ميروبس الكبير ملك أبيسوس، يصولان في الحومة ويجولان!
وهاك آسيوس بن ملك أبيدوس، يتقدم رعيل فرسانه، ويداعب أعداءه بمرانه!
وهاهم أشبال تراقية، يقودهم يوفيموس المقدام، ويقتحم بهم أيما اقتحام!
وهاهم نسور أميدون البواشق؛ أقبلوا من هناك. . . من جنات سيحون وجيحون ليخوضوا
الجحيم، في ذلك اليوم العظيم، وليذودوا عن طروادة، حليفتهم؛ ويدفعوا. . .!
وهاهم أمراء ميديا، أقبلوا في عدة وعديد، وكل جبار مريد!
أنظر إذن إلى الجيشين في مد وجزر، تبسم لأحدهما الآمال، وتعبس للآخر المنايا؛ تدور الدائرة، فيفلذ المنهزم، ويتأخر المتقدم، وهكذا دواليك
وتغيب الشمس وتشرق. . . . .
ويبزغ القمر. . . ويغرب
وتكر الأيام، وتمر السنون!
وكلما لاحت للطرواديين غفلة من أعدائهم خرجوا إليهم وهم ألوف فنالوا منهم، حتى إذا كروا عليهم عادوا إلى معاقلهم فلاذوا بحصونها، واعتصموا بأبراجها، وتلبثوا هناك حتى تتاح لهم فرصة أخرى
أعوام تسعة!!
مليئة بالتعب، مشحونة بالنصب، مفعمة بالخطوب والأهوال
وكان الهيلانيون يرسلون البعوث والسرايا، فتجوب الريف، وتؤب بالغنائم والفيء، والأسلاب والسبي، فيقتسمها القادة، ويفيضون منها على الجند
وهاجموا مرة إحدى القرى، فكان من جملة السبي فتاتان ذواتا رقة وفتون. أما أحدهما فكانت من نصيب أجاممنون، واسمها خريسيز، وهي ابنة كاهن القرية الورع، حبيب أبوللو وخليله وصفيه، القديس خريسز. وكانت فتاة لعوب حلوة الدل رشيقة الروح، وكان أبوها يحبها حبا جما لا تعدل بعضه كل مباهج الحياة!!
أما الأخرى فقد خلصت لأخيل وأخلصت له الود، وصافاها هو المحبة، فكان أحدهما للآخر في هذه المحنة القاسية الصدر الحنون، والقلب النجي، والملاذ الأمين. اسمها بريسيز، وأبوها شريف من أشراف هذه الناحية التي نكبت بتلك الحرب الضروس، فصليت لظاها، وطحنتها رحاها
وعلم كاهن القرية بما كان من أمر ابنته، فازدحمت على قلبه هموم الحياة، وأحس في أعماقه بثقل البلية، وشعر كأنه جرد من كل شيء حتى من نفسه
وبدا له أن يذهب إلى قائد الجند الهيلاني فيفتدي خريسيز، ولو نزل لأجاممنون عن كل ما
يملك. وحذره صحبه من المخاطرة بنفسه في هذا الطريق الشائك، ولكنه لم يعرهم التفاتة واحدة، بل دهن نفسه بالطيب الكهنوتي المقدس، ولبس مسوحه، وعقد زناره، وتناول مسبحة أبوللو العظيم، ثم توكأ على عصاه العتيدة، وذهب يتهالك على نفسه، ويتعثر في خطاه، حتى كان تلقاء المعسكر الضخم
وسأل عن خيمة القائد العام، فقيل له إنها هي الفسطاط الأكبر الذي تبدو قبته هناك. . . . هناك عند شاطئ الهلسبنت، بين الجيش وبين الأسطول
وانطلق الكاهن الجليل والدمع ينحدر من قلبه قطرات من الدم. . . عن طريق عينيه، فيعلق بلحيته البيضاء، فيصبغها بأرجوانه، كأنه آية السماء الباكية، نذيرا لهذه القلوب القاسية، والغزاة الأقوياء!!
وبلغ الفسطاط بعد لأي. . .
واستأذن على القائد العام فلم يؤذن له. . . . فاستأذن ثانية فهدد بالضرب وبالعقوبة!. . . ولكنه أب مفئود، وحزين منكود، فتنظر قليلا واستأذن في أدب ولين واستكانة، فأذن له. . . .
ووقف أمام القائد الأكبر واهي الجسم موهن القلب، محزونا متصدعا، وحاول الكلام فكانت العبرات تخنقه، والأسى يعقد لسانه، والنار المندلعة في رأسه تنسيه كل شيء
وثار به أجاممنون!
لأنه على ما يبدو فوت عليه لذة طارئة، وسكرة مواتية، بمجيئه في تلك اللحظة الهانئة القريرة، وإلحافه الشديد بضرورة لقاء القائد. . . .
واحتشد القادة ورؤساء الجند حول فسطاط القائد، وسمعوا إلى الكاهن الكبير يقول:
(مولاي!
سعيت إليك عائذا بكن داعيا أبوللو العظيم لك، أن يفيء عليكم من النصر والفتح المبين، وأن يهبكم من الرعاية والمنن ما تشتهي أنسكم، وتقر به أعينكم، وما تترفعون به عن ظلم الضعفاء، والجور على الملهوفين، فقد يغني القليل الذي ترضى عنه الإلهة، عن الكثير الذي يثير سخطها، ويستنزل غضبها. .
ابنتي يا مولاي!
خريسيز العزيزة! ردها علي يبارك لك أبوللو، وينر لك سبيلك، ببركة دعوات قديسه الحزين الواقف أمامك، المبتهل إليك، المستعد لأن يفتديها بكل ما يملك، وبكل ما يقدر عليه مما يرضي الملك!)
لكن الملك أشاح بوجهه، وكبر عليه أن يجرؤ هذا الكاهن على التفوه بهذه الطلبة العزيزة أمامه! خريسيز! أينزل أجاممنون عن خريسيز وقد احتلت من قلبه مكانة زوجه كليتمنسترا؟ واستحوذت على لبه حتى نسي الحرب، وعزف عن الطعن والضرب، واستقر معها في فسطاطه آخذين في لهو وحب، وغناء وشرب!!
أينزل أجاممنون عن خريسيز الجميلة الفاتنة، ولو استحالت عينا الكاهن بئرين تنزفان الدمع، وتفيضان بالدم؟
كلا! لن ينزل أجاممنون عن خريسيز!
(إصغ يا رجل! ليس بي أن تكون قديس أبوللو، وحامل صولجانه، وحامي مسبحته، وعاقد زناره!
ستعود خريسيز معي. . . إلى آرجوس. . . وسيذوي جمالها هناك، وتذبل محاسنها بين ذراعي، وسأكل إليها منزلي تخدم فيه، وتصير أم بنين، وسيكون بها قصري جنة خلد ونعيما لا يفنى. . . اذهب، فاسفح دموعك في صومعة أبوللو، وصعد زفراتك في هيكله، وبين يدي صنمه. . . اذهب، وانج بنفسك من عذاب أليم. . .
خريسيز تعود معك!؟
إنك تثير النقمة في نفسي، فانج بنفسك. . . انج. . .)
وتصدع صدر الرجل، وكاد قلبه يقف، فتقف أنفاسه!!
وانثنى والدنيا المظلمة تحجب ناظريه، وكلمات القائد الظالم تردد في مسمعيه، فما كاد يبلغ قريته حتى خلا إلى أبوللو، وجلس يبكي ويصلي!!
(أبوللو!!
يا إلهي!! أسمعت؟ لقد استهزأ بك أجاممنون، وفجعني في بنتي، وفلذة كبدي، وقطعة قلبي، وحياة روحي!!
أبوللو!!
هل سمعت يا رب النور!؟ أرأيت إلى ذلك العاتي المتجبر كيف ثار بقديسك الضعيف المسن الذي أحنت ظهره السنون في عبادتك، والصلاة لك، والتسبيح من أجلك، والهتاف باسمك.!؟
ألا فلتنتقم لعبدك يا أبوللو العظيم، وليحل على الطغاة غضبك، ولتسحتهم بعذاب واصب، ليس له من قدرتك من دافع. . .
أبوللو. . .!
استجب يا رب الهيكل الخالد، وحامي المعبد الأمين!!. . .)
وسقط الكاهن أمام المذبح ينتحب، والشموع الموقدة تذري دموعها معه!
فثار في عليائه أبوللو. . .!
انتفض الإله العظيم انتفاضة رجف من هولها الأولمب، ورف في السماء كأنه سحابة مظلمة في ليل بهيم؛ وفوق كاهله الكبير قوسه الفضي المرنان، وعلى ظهره كنانته الواسعة الشاسعة، يسمع لسهامها صليل أي صليل. . . وأشرف من سمائه المضطربة على سفائن الأسطول المطمئن، وما هو إلا أن تميزها حتى عبس وبسر، ووتر قوسه فانهمرت منها سهام كالمطر، صبها على السفن حاملات الخيل والبغال أولا، ثم لوى فأصلى سفائن الجنود وابلا منها بعد ذلك. . . فلا تسمع إلا أنينا وبكاء، ولا ترى إلا صرعى يضجون ويعولون، ولا تحس إلا زفير جهنم وشهيقها يأخذ القوم من هنا وهنا فيقعون إلى أذقانهم سجدا وبكيا. . .
أمطر يا طعون. . .
ولا حنانيك يا أبوللو. . .
واستمر هذا البلاء تسعة أيام طوال كأنها دهر بأكمله. . .
وفي اليوم العاشر أوحى إلى أخيل أن يدعوا مجلس الجيش ليرى رأيه في هذه النكبة التي دهتهم بها ميازيب السماء. فلما التأم شمل القادة، اجتمع الرأي على أن يذهب كالخاس فيستوحي أربابه لتكشف هذه الغمة، أو ليرى بماذا ترضى من التضحيات والقرابين!
وعاد كالخاس، كعادته كلما حمل أخبار الشؤم من لدن أربابه كاسف الوجه، كالح الجبين، يحبس في صدره شجون الأرض، وهموم السماء!!
(خريسيز يا سادة!)
(خريسيز تعود إلى أبيها القديس، وإلا فتلك مقابركم جميعا فوق هذا الشاطئ المظلم، المضرج بدمائكم، ودماء أعدائكم. . .!)
(هكذا تتفق كلمة الإلهة من أجل أبوللو. . . فويل لنا جميعا إن لم نهدئ ثورة صاحب القوس، ورب النور، وسيد الشمس.!)
(اسجدوا لأبوللو، واخشعوا. . .)
ونهض القوم من صلاتهم مشدوهين لا يحيرون، ينظر بعضهم إلى بعض، ولا تنفرج شفة بكلمة، ولا يتحرك لسان بقول!
ولكن أخيل شعر في صميمه أن القدر يسخره هذه المرة أيضا لتفريج الأزمة، وكشف البلاء، فنهض غير هباب، وأرسل قوله الحق في غير وجل، وصرح بضرورة إرسال خريسيز إلى والدها القديس معززة مكرمة، ثم تقديم القرابين من لحم العجول وشحم الأوعال إلى معبد أبوللو، وإطعام الحاضر من شوائها والباد
وزلزلت الأرض زلزالها، وهوت السماء فوق رأس أجاممنون!
ونشبت ملحمة هائلة بينه وبين أخيل، أوشك البطل أن يغمد سيفه من جرائها في صدر القائد العام، الذي طلب بكل صفاقة أن ينزل له أخيل عن غادته بريسيز:(إذا كان لابد من نزولي عن خريسيز ليسلم الجند من هذا الوباء!! وليسكن غضب أبوللو، وترضى السماء!)
وتأججت نيران العداوة بينهما، ذاك يحرص على فتاته الهيفاء وذاك يحض على إنقاذ الجنود بتضحية الذات وإنكارها في سبيل ما هو أسمى وأرفع، ولكن أجاممنون عمى عن هذا المثل العالي، فتشبث وأصر إلا ما نزل له أخيل عن بريسيز، لينزل هو عن خريسيز!!
وهنا تتننزل الإلهة لتحكم بين الخصمين!
تبدو مينرفا، ربة الحكمة والموعظة الحسنة، رسولا من لدن حيرا، سيدة ربات الأولمب، للبطل أخيل، بحيث لا يراها غيره، فتعظه أن يضحي بفتاته، ما دام هذا الفظ يتأبى إلا أن يكون ذلك. . .
ويصدع أخيل بأمر السماء. . .
ويذهب أوليسيز بابنة القديس إلى أبيها حيث يلقاه في معبده يبكي. . . ويصلي! فيبشره بها، ويسأله الصفح والمغفرة فيهش الكاهن ويبش، وتنهمر من عينيه دموع الفرح
وتقدم القرابين باسم الجيش الهيلاني إلى معبد أبوللو
فينكشف البلاء. . . . . . وترضى السماء. . . ويدفن الهيلانيون موتاهم!
أما أخيل. . .
فينقطع عن المعركة، وينعزل في معسكره، لا يشترك في الحرب، ولا يشترك فيها جنوده الميرميدون!
وتحس أمه بما يلم به من الحزن، فتزوره، وتعده خيرا على يد الإله الأكبر، زيوس، سيد أرباب الأولمب!
(لها بقية)
دريني خشبة
من الأدب الأمريكي:
قيصر
للقصصي الأمريكي بول بورك
تألق نجم مؤلف هذه القصة في العام المنصرم إذ تفوق بقصته (أخلاق) على جميع القصصيين الأمريكيين وأحرز من أجلها (جائزة أمريكا الأدبية لعام 1934)
بدأت المسألة بمعطف مطر. . .
وإذ خرج (قيصر سمث) في مساء يوم من أيام السبت المعهودة من جمعية رماية القرص التي يترأسها وسار على قدميه برغم المطر المدرار شاقا طريقه إلى منزله، رأى في تسياره الآنسة (شيلا) منزوية في مدخل لأحد المنازل غير حاملة مظلة ولا متدثرة بمعطف، وكانت تعمل جهدها للمحافظة على ثوبها الجديد من الماء الذي يتدفق منحدرا من سطح المنزل. . .
وإلى اليوم لم يدرك قيصر، وهو الرجل الخجول، كيف تسنى له أن يبدأ بحديث مع سيدة غربية عنه، ولكن لعل فوزه في رماية القرص عصر ذلك اليوم أحيا فيه النشوة. والخلاصة أنه خلع معطفه وقدمه إلى تلك الآنسة، وارتبك في القول
- (أنت هنا عرضة للتبلل بالماء. . . ارتدى هذا المعطف) ودهشت الآنسة من قوله ونظرت إليه في عجب وقالت:
- (ولكن كيف لي أن أقبل منك ذلك؟. . . وأنت؟) ولحظ قيصر أن لها عيونا ناعسة ساحرة، ولم يكن تبينها من قبل وقال لها:
- (لم يبق لي أن أسير طويلا، فنهاية سيري عند منعطف الشارع)
وكان ذلك منه اختلاقا، وترددت الآنسة بادئ ذي بدء، وكان من الواضح أن حرصها على ثوبها الجديد جعلها تتقبل في النهاية تلك التضحية. وأجابت
- (حقا إن ذلك لعطف منك عظيم. لقد انهالت الأمطار فجأة ويلوح لي أنها لن تحتبس قريبا. إنني مدينة لك بالشكر)
فأجابها قيصر وفي نبرات صوته شجاعة الكرام
- (إنه أمر لا يستحق أن ينوه به)
وكان قد اعتزم المسير، فسألته الآنسة:
- (ولكن إلى أي مكان أرده؟)
فقال: (اسمي قيصر سمث)
وسرعان ما حدقت فيه الآنسة وقالت:
- (ما أروعه اسما! قيصر؟)
وأجاب في تواضع القنوع: (أي، ولماذا؟)
ثم فاه بكلام كبير المغزى إذ قال:
- (لا تكلفي نفسك مشقة إرجاع المعطف)
ثم سكت برهة وقال:
- (سأحضر بنفسي لآخذه)
فترددت الآنسة لحظة ثم قالت:
- (حسنا. إني أدعى شيلا هيرست وأسكن في شارع مونرو رقم 114)
وأسرع في ارتشاف ابتسامتها العذبة واستمر يتابعها بنظراته حتى أدركه جارف من الماء انساق إليه من حافة قبعته، فذكره بأن الوقت قد حان ليرجع إلى المنزل
وفي المساء التالي ذهب ليسترجع معطفه؛ فتعرف إلى المستر هيرست وزوجته، وقد استبقياه لتناول الشاي. وفي خلال ذلك تعرف إلى (المستر راند) الذي كانت له حظوة عند كل فرد من عائلة هيرست. وتراءى لقيصر أن تلك الحظوة وذلك العطف فيهما الكثير من المبالغة التي لا مبرر لها. وكان للمستر راند سيارة اتفق المجتمعون على أن يستقلوها إلى الشاطئ. وهنالك لم يجد قيصر من يتحدث إليه غير المستر هيرست، إذ أن راند كان يسير في صحبة (شيلا) على بضع خطوات خلفهما. ثم دعوا قيصر إلى العشاء في ذلك اليوم، وفي خلاله اختصته شيلا بابتسامة عذبة
وانتهى الأمر بقيصر إلى هذا الحد. ومنذ ذلك اليوم وهو يحمل وجها عبوسا، وما ذلك إلا لتأكده من أن مشاعره تحمل الحب لشيلا، ولكن أي أمل له - وهو الموظف البسيط ذو الأجر الضئيل - في آنسة يبتغيها لنفسه رجل مثل (راند) الثري. وبالمال الوفير تستهوى كل آنسة؛ ثم ماذا يقدمه لها عوضا عن المال؟ أيقدم اسمه العظيم الذي لم يحسن حتى اليوم
صيانته؟ أم يقدم لقبه كرئيس لجمعية رماية القرص؟ لا شك أن هذا وذاك لا يغري، وليس ثمة من فائدة ترتجى أما لو كنت رئيسا أو وكيلا لرئيس أو على الأقل سكرتيرا لإحدى المؤسسات الكبرى، وكان لدى ما فيه الكفاية من المال لما توانيت عن نقش اسمي ووظيفتي على قبعتي، ولأمكنني إذن أن أفصح عما يخالج نفسي، ولعرفت كيف أرفع من شأن اسمي.
ولكن أي حال عليها أنا الآن؟ قيصر!! لاشك أنه هزؤ وسخرية، وما دمت موظفا بسيطا في (محل دولتل وشركائه) فلست قيصرا بل مجرد (أنت يا سمث) أو (أي. أنت الذي هنالك) ذلك إذا ما أريد مني شيء
وانطوى على أفكاره، ثم تذكر موعده فسار إلى منزل شيلا، ولاحت له من بعد سيارة (راند) مستقرة أمام المنزل. والأولى أن نتغاضى عما تمتم به ساعة أن رآها
وسألها (راند) أثناء تناول الطعام:
- إذن فستحضرين يوم السبت إلى ملعب كرة القدم، حيث تشاهدينني في الحفلة التي تقام ضد فرقة الأبطال الأقدمين)
وأجابت شيلا: (نعم)
ونظرت إلى قيصر وقالت:
- (ولعلك تحضر أنت أيضا!)
وهز هذا رأسه وقال:
- (إنني آسف، إذ أني سأشترك في اللعب)
وسأله (راند): (أي شيء، كرة القدم؟) ثم نظر إلى قيصر متعجبا من ضآلة جسمه وحقارة مظهره الذي لا ينم عن بطولة
واحمر وجه قيصر خجلا وقال:
- (كلا، بل رماية القرص)
فقال (راند) هازئا:
- (أي، إنكم ترمون بذلك الطبق الصغير هنا وهنالك، أليس كذلك؟ لقد فعلت هذا يوم أن كنت صبيا. أما الآن فأني أجدها لعبة مملة)
وأجاب قيصر لفوره:
- (وكذا شأني وكرة القدم. لقد كنت أبحث دائما عن لعبة تتجلى فيها المهارة. ولا شك أن قرصا يرمي ليصيب هدفا أدعى للمهارة والدقة من كرة تدفع بالأرجل لتتقدم في السير)
وتدخلت شيلا في ذلك الحديث الذي أخذ يشتد وقالت:
- (ألم نذكر شيئا عن النزهة بالسيارة؟)
وتحمس (راند) وقال:
- (بلى، دعينا نذهب إلى الشاطئ)
والتفتت شيلا لقيصر وقالت له:
- (وستكون بالطبع معنا)
وما أن وصلوا إلى الشاطئ حتى نزل ثلاثتهم من السيارة، وأخذوا يتريضون في طريق البحر، وقد خلا من الناس أو كاد، ولم يبقى إلا بضعة أفراد متفرقين يستمتعون بالاستحمام في البحر
وأرادت شيلا أن تطرق حديثا لا يجر إلى المشادة، فسألت:
- (هل يمكنك السباحة؟)
ولم يعرف كلاهما لمن وجه السؤال، إلا إن قيصر بادر بالإجابة فقال:
- (قليلا، إذ لم أتدرب عليها التدريب الكافي)
ثم قال (راند):
- (وكذلك حالي، إن لعب كرة القدم يستولي على كل وقتي، ولهذا كانت معرفتي بالسباحة ليست عظيمة للغاية)
وسألته شيلا ثانية:
- (وماذا أنت فاعل إذا رأيت رجلا يغرق؟ وليكن على سبيل المثال ذلك الرجل) وأشارت بإصبعها إلى رجل يسبح على بعد غير كبير من الشاطئ
وأجاب (راند) في لهجة الواثق من نفسه:
- (بالطبع أقذف نفسي في الماء وأعود به إلى الشاطئ)
ونظرت شيلا إلى قيصر وقالت:
- (وهذا ما أنت فاعله أيضا، أليس كذلك؟)
وتردد قيصر في الجواب ورنا ببصره إلى ما وراءه فوجد قائمة في مدخل البحر معلقا بها (حزام النجاة) مشدودا بحبل إلى القائمة. فقال:
- (كلا، إنني لا أقذف بنفسي في اليم إذ أني لا أجيد السباحة، ولا يمكنني أن أسدي للغريق نفعا)
وصاح راند بصاحبه: (أي جبان!) ضمنها شيء من السخرية
وحدقت شيلا في قيصر الذي يحمل اسما كثير الوعود والآمال. وسألته مرة أخرى:
- (إذن تتركه يغرق؟)
فأجاب قيصر: (كلا)
وقبل أن يتم حديثه أخذ السابح - وقد كان على وشك النسيان منهم - في أن يثير المسألة بنفسه. وكانت مفاجأة عجلى ساعة أن رفع السابح ذراعيه في الهواء وصرخ مستغيثا.
فنزع راند معطفه. ثم تردد وقال في نفسه: هل من الأنصاف أن أضحي بحياتي؟ ولاشك أنه رأى في هذه اللحظة الماء في تلك البقعة أعمق منه في المحيط، ثم هو أصقع من ثلج القطب.
وحثته شيلا، وقد بدأ القلق ينتابها:
- (أسرع إنه يشرف على الغرق)
وصاح الرجل من الماء في صوت يكاد يختنق:
- النجدة، النجدة!!
وصاحت شيلا مرة أخرى:
- (أسرع، أسرع وإلا ذهبت أنا بنفسي إليه)
وقال قيصر بينما كان منافسه يتباطأ بشكل مزر ليخلع حذاءه:
- (قفي مكانك!)
ثم انتزع (حزام النجاة) واتخذ موقفا كالذي اعتاد أن يقفه في عصر كل يوم سبت لرماية القرص. ثم رمى رميته فتطاير الحزام مع الهواء ورسم في الفضاء قوسا عاليا، ثم انبطح دفعة على الماء. وقد كاد يسقط على رأس المشرف على الغرق وقال قيصر وقد تملكته
السكينة والثقة بالنفس:
- (مصيب!. . . يقدر بنقطتين. .)
وكانت شيلا ترقب رميته وتتابعها بنظرات وجلة. فلما أن اقتيد الرجل الذي نجا وجيء به إلى الشاطئ وأفرغ زفيره وتأوهاته، سأل عمن رمى إليه بحزام النجاة، فأشارت شيلا إلى قيصر وقد تملكها الفخار
وحدق الرجل الذي نجا من الغرق في قيصر وقال له:
- (ظننت حقا أن حياتي قد انقضت، إذ أصبت بتصلب في الشرايين فجأة. . . لقد كانت رمية متقنة)
وأفصحت شيلا عن قيصر بقولها:
إنه رئيس جمعية رماية القرص
وقال الرجل وقد أدرك سر الأمر:
- (آه، لهذا كانت تلك الرماية محكمة. والآن اسمح لي أن أقول لك إنك أستاذ ماهر. ولو أنك لم تكن هنا لكنت الآن في ناحية ما من قاع البحر. . . إنني أود من صميم فؤادي أن أقدم لك خدمة بأي حال، فعرفني ماذا تريد)
وما فرغ من كلامه حتى أخذ ينظر إلى قيصر من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ثم سأله:
- أين تعمل؟
فأجاب قيصر:
- (في محل دولتل وشركائه)
- (واسمك؟)
- (قيصر سمث)
وقال الآخر بصوت خافت:
- (إن قيصر اسم بديع) ثم أفصح وقال: (واسمي بلوارك) وأعقبه قيصر متسائلا:
- (من مصنع ينيفرسال للسيارات؟!) فقد كان اسم بلوارك معروفا للجميع، حتى لصبية الشارع
فقال هذا: - (نعم، وإن لم تعلق أهمية خاصة على وظيفتك الحالية فإني أتقبلك في محل
عملي بكل ارتياح إنني دائما في حاجة إلى شاب له قدرة على العمل في الوقت المناسب والرجل العملي يجد عندي الطريق مفتوحا أمامه.)
وأبرقت عينا قيصر وتمتم:
- (إذا فلا أقل من سكرتير!)
واتجه ببصره نحو شيلا التي كانت تحدق فيه طوال هذه المدة والإعجاب به قد تملكها
واندفع قيصر قائلا وكأنه قد استقر على أمر
- (ليس من طبعي أن أستخلص الحوادث فأستثمرها لنفسي، ولكن إن كنت حقا في حاجة إلي فأني أبحث عن وظيفة تمكنني من الزواج.)
ثم أخذ يد شيلا في يده، فما تراجعت ولا وهنت، وكان ذلك أمام سمع (راند) وبصره الذي تبلبل وانطفأ منذ اللحظة الأولى لتلك الواقعة
وهكذا جاوز قيصر كل تقدير
نقلها عن الإنجليزية
ا. ا. ي
البريد الأدبي
نظرية النشوء بعد مائة عام
احتفلت جمعية علماء الزولوجيا (علم الحيوان) في لندن أخيرا بالذكرى المئوية لرحلة العلامة تشارلس داروين إلى أمريكا الجنوبية وجزائر المحيط الهادي؛ وقد أصبح اسم داروين في عصرنا علما على نظرية النشوء والتطور التي تذهب إلى تسلسل الإنسان من سلالة أحط من الحيوان، وأضحت النظريات الدارونية في ذلك علما راسخا، وكانت رحلة داروين الشهيرة التي كانت أساس مباحثه في (أصول الأنواع) في سنة 1831؛ وكان داروين يومئذ في الثانية والعشرين، وقد أتم دراسته الجامعية وملكه حب المباحث النباتية والحيوانية، فانتخب باحثا طبيعيا مع جماعة من العلماء جهزتها جامعة كمبردج، واستقلت السفينة الشهيرة المسماة (بيجل) إلى أمريكا الجنوبية، ولبثت السفينة بيجل تطوف أرجاء المياه الأمريكية، ومياه المحيط الهادي حتى بلغت أقصى جزائرها المسماة (جلاباجوس)، وقطعت في هذه المرحلة نحو خمسة أعوام، ولم تعد إلى إنكلترا إلا في سنة 1836، وفي أثناء هذا الطواف كان داروين يجمع المعلومات والملاحظات الدقيقة عما يراه من الحيوان والنبات. وإليك ما يقوله لنا عن هذه المباحث في مقدمته لكتابه الشهير في (أصول الأنواع):
(لما ركبت السفينة بيجل كباحث طبيعي، لفتت نظري بعض الحقائق الخاصة بتوزيع المخلوقات التي تسكن أمريكا الجنوبية بالعلائق الجيولوجية بين سكان هذه القارة في عصرنا وبينهم في الماضي. وقد لاح لي أن هذه الحقائق قد تلقي بعض الضياء على (أصول الأنواع) أو مسالة المسائل كما سماها فيلسوف من أعظم فلاسفتنا؛ ولما عدت إلى الوطن سنة 1837، فكرت أنه قد يمكن استخراج شيء في هذا الموضوع بجمع هذه الحقائق وتأملها، وبعد دراسة خمسة أعوام، سمحت لنفسي أن أتناول الموضوع وأن أكتب عنه بعض مذكرات، ثم استخرجت النتائج التي لاحت لي وجاهتها، وما زلت من وقتها إلى يومنا أتابع مباحثي في الموضوع)
وقد ضمن داروين مباحثه الأولى كتابا سماه (رحلة السفينة بيجل) وفي سنة 1859 أخرج كتابه الشهير الذي يعتبر فاتحة عصر في المباحث الطبيعية، وهو كتاب (أصول
الأنواع) فأثار ظهوره أعظم اهتمام في الأوساط العلمية، وما زال داروين يشتغل بنظرياته ومباحثه في هذا الميدان لا يتحول عنها قط حتى أخرج في سنة 1871 كتابه عن (سلالة الإنسان)؛ يتناول أصل الإنسان ونشأته وتسلسله، ومن ذلك الحين اشتهر مذهب النشوء والتسلسل، وأثارت نظريات داروين في طبقات الكافة سخطا واشمئزازا لأنها لم تفهم على حقيقتها، بل فهمت على أنها تذهب إلى تسلسل الإنسان من القرد. ولداروين مباحث وكتب أخرى في هذا الباب يضيق عن ذكرها المقام
قاموس الأكاديمية الفرنسية
من المعروف أن الأكاديمية الفرنسية قد أنشئت في الأصل منذ ثلثمائة عام لتعنى (بتوسيع اللغة الفرنسية وتجميلها) حسبما ورد في قانونها التأسيسي. ومع أن الأكاديمية قد استحالت بمضي الزمن إلى هيئة أدبية كبرى تقود الآداب الفرنسية وتجمع صفوة زعمائها، فأنها لبثت مع ذلك تحرص على أداء المهمة الأصلية التي خلقت من أجلها، وهي تنقية اللغة وتحسينها وصقلها. وجهود الأكاديمية في هذا السبيل تبدو في القاموس الجامع الذي وضعته عن اللغة الفرنسية؛ وقد ظهر هذا القاموس في الصيف الماضي لمناسبة الاحتفال بمضي ثلثمائة عام على تأسيس الأكاديمية، والطبعة الحالية من القاموس هي الطبعة الثامنة، وقد بدأ في وضعها منذ سبعة وخمسين عاما! ولولا أن لجنة القاموس ضاعفت جهودها في الأعوام الأخيرة لما ظهر هذا القاموس الشهير. على أن الأكاديمية لقيت في وضعه صعابا لا نهاية لها، وخصوصا في العصر الأخير حيث كثرت الاختراعات العلمية، وتغيرت أوضاع الحياة، وتغلغلت في اللغة تعبيرات وكلمات جديدة لا نهاية لها. ومع ذلك فان إصداره بعد هذه الحقبة الطويلة يعد عملا من أعمال الأكاديمية نظرا لغزارته ودقته وجدته وبديع تصنيفه
وفات كاتب إنجليزي
في الأنباء الأخيرة أن الكاتب القصصي الإنكليزي الكبير سيلاس هوكنج قد توفي في الخامسة والثمانين من عمره، وكان هوكنج من رجال الدين، وتولى عدة مناصب دينية في شبابه؛ ولكنه منذ سنة 1896، نبذ حياة الكنيسة، وخاض غمار الحركة السياسية، ودخل
البرلمان عضوا من حزب الأحرار، وفي أثناء ذلك ظهر هوكنج بكتاباته، واشتهرت قصصه، وكان معاصرا لعدة من أكابر كتاب القصص مثل كونان دويل، وجالز ويرثي، والسير هاجارد، وجوزيف كونراد، وستانلي ويمان وغيرهم، ولكنه لم يبلغ من القوة والشهرة مبلغ هؤلاء؛ بيد أنه من كتاب هذه المدرسة البارزين. ومن قصصه الشهيرة:(آلك جرين)(رغم القدر)(ضوء الساحر)(الرجل الصامت)(المراقبون في الفجر)(يقظة أنتوني وير) وغيرها
ترجمة لانسبوري بقلمه
المستر جورج لانسبوري زعيم حزب العمال البريطاني شخصية عظيمة في السياسة الإنكليزية، وفي المجتمع الإنكليزي؛ وقد نشأ عصاميا، في أوضع البيئات والأوساط، فاشتغل حمالا للفحم، وعاملا، وذاق شظف العيش والحياة الشاقة، وهو اليوم في السادسة والسبعين من عمره، ولكنه ما زال جم النشاط يتزعم حركة المعارضة في البرلمان، ويتزعم حزب العمال، ويشرف على تحرير جريدة الحزب (الديلي هرالد)، وقد أخرج أخيرا كتابا يحتوي ترجمة حياته؛ وفيه يصف حياة الأحياء والمجتمعات الفقيرة في مدينة لندن منذ ستين أو سبعين عاما حينما كان يطوفها صبيا عاري القدمين؛ ثم يصف أدوار حياته، وكفاحه في سبيل رفاهة العمال، ومثابرته على خدمة القضية التي مازال يخدمها. ويبدو مستر لا نسبوري في كتابه رقيق العاطفة فياض الرحمة والإنسانية، والعطف على الفقير والبائس
مؤتمر للصحافة
عقد في منتصف شهر سبتمبر بمدينة لندن مؤتمر للصحافة بأشراف معهد لندن الصحفي؛ وأرسل مستر بلدوين رئيس الوزارة إلى المؤتمر رسالة نوه فيها بأهمية الصحافة ومسئوليتها العظيمة، وتأثيرها القوي في تسيير الرأي العام وتقديره للشؤون العامة. وألقيت في المؤتمر خطب عديدة نوه فيها بأهمية الصحافة الحرة، وحاجتها إلى قانون تنظم فيه هذه الحرية؛ ولما كان في القانون الجديد الذي صدر خاصا بنشر ما يتعارض مع هذه الأمنية، فقد أعرب المؤتمر عن أمله في أن يترك للصحفيين حق تنظيم شؤونهم الخاصة، وقرر
السعي لدى البرلمان لحمله على تحقيق هذه الأمنية بإصدار قانون جديد، وقرر المؤتمر أيضا أن ينشئ نظاما للمعاش يغذي الصحفيين العاطلين والمعوزين
أوتوكار أوسترشيل
توفي أخيرا في براج عاصمة تشيكوسلوفاكيا الموسيقي الشهير أوتكار أوسترشيل مدير المسرح الوطني ببراج، وقد كان أسترشيل زعيم المدرسة الموسيقية الحديثة في تشيكوسلفاكيا؛ ودرس في النمسا وألمانيا، وظهر منذ شبابه بالبراعة في التأليف الموسيقي، وله مؤلفات عديدة في الموسيقى وقطع موسيقية شهيرة ما تزال تحتفظ بروعتها وجدتها، وكانت وفاته في عنفوان قوته وشهرته إذ لم يجاوز العقد الخامس إلا بأعوام قلائل
الكتب
وادي النطرون
وتاريخ الأديرة البحرية
للأمير عمر طوسون
للأستاذ محمد بك كرد علي
وضع الأمير تآليفه لخدمة مصر والسودان، فهي الآن تملأ قمطرا جميلا من قماطر التاريخ والاجتماع والاقتصاد والمالية وغيرها. ومنها ما كتبه بالفرنسية (1) كمذكراته في فروع النيل في القديم وعلى العهد العربي (مجلدان)، و (2) مذكرات في مالية مصر منذ عهد الفراعنة إلى أيامنا هذه (مجلد واحد)، و (3) مذكرات في تاريخ النيل (ثلاثة مجلدات)، و (4) كتاب في جغرافية مصر في عهد العرب (مجلد واحد)، و (5) عاقبة أمر المماليك، و (6) بحث في وادي النطرون ورهبانه وأدياره وغير ذلك. ومن تآليفه بالعربية (7) كتاب مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن (مجلد ضخم)، و (8) بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك، و (9) الصنائع والمدارس العربية والبعثات العلمية في عهد محمد علي باشا، و (10) الجيش المصري، و (11) البحرية المصرية، و (12) كتاب البعثات العلمية في عهدي عباس الأول وسعيد، و (13) يوم 11 يوليه سنة 1882؛ وغير ذلك من أبحاثه ومقالاته بالعربية والفرنسية مما ينشره في الصحف والمجلات بالمناسبات
وآخر ما صدر من قلم الأمير بالعربية (14)(وادي النطرون ورهبانه وأديرته ومختصر تاريخ البطاركة) مذيلا بكتاب (تاريخ الأديرة البحرية)، و (15) كتاب للباحث المطلع (المحزون) في (ضحايا مصر في السودان وخفايا السياسة الإنجليزية)(طبعة ثالثة) طبع على نفقة دائرة سمو الأمير في مطبعة السفير بإسكندرية، وقد قد الأمير كتاب وادي النطرون إلى صاحب الغبطة الانبا يؤانس (بابا وبطريرك الكرازة المرقسية الثالث عشر بعد المائة) ودل المؤلف فيه على كثرة بحثه ودرسه وأنه خادم أمين لمصر وسودانها، في جميع المظاهر النافعة، وأنه حسنة من حسنات مصر الحديثة، ما أحرز شهرته العالمية إلا من طريق العلم والعمل والإخلاص لمصر خاصة، والمسلمين في الأرض عامة. فجزاه الله
عن العلم أفضل ما يجازي من أخلصوا في خدمته، ونفع بثمرات اجتهاده مصر والمصريين
من أفلاطون إلى ابن سينا
للأستاذ جميل صليبا
نشر مكتب النشر العربي بدمشق ست محاضرات في تلخيص فلسفة أفلاطون والفلسفة العربية وفي الفارابي والجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، وفي جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة، وفي نظرية الفيض عند ابن سينا، أو صدور الموجودات عن الخالق، وفي نظرية النفس عند ابن سينا، وفي نظرية ابن سينا في السعادة. قال المؤلف: إذا درسنا فلسفة ابن سينا رأينا أنها تختلف عن فلسفة أرسطو في كثير من المسائل، كفكرة الفيض، وفكرة خلود النفس وغيرهما، وأن ابن سينا متفق مع أرسطو في الطرائق والوسائل، ومختلف عنه في الغايات والمقاصد، ولعله لم يبتعد عن أرسطو في بعض المسائل إلا لتأثره بالوسط الاجتماعي، ورغبته كالفارابي في الجمع بين الدين والفلسفة، فقد كان الفارابي يعتقد أن الفلسفة واحدة، وأن مقاصدها الحقيقية لا تختلف عن مقاصد الدين. وكان ابن سينا يرى كابن الطفيل أن النبوة حالة طبيعية من أحوال النفس، لا فرق بين الدين والفلسفة إلا من حيث الظاهر. وقال إن الجمع بين الدين والفلسفة كان من أكبر العوامل التي حدت بالفارابي وابن سينا أن يعرضا أحيانا عن أرسطو ويتبعا أفلاطون، وقد سارا في ذلك على طريقة فلاسفة الإسكندرية؛ ووجدا في ترجمة كتب أفلاطون خير معين على ذلك. وقد بسط صاحب هذه المحاضرات هذه المباحث بسطا يقربه من الأذهان معتمدا على مصادر عربية وغربية، فالشكر لعنايته وأدبه
كتاب محاسن أصفهان
تأليف مفضل بن سعد بن الحسين المافروخي الأصفهاني
ويليه رسالة الإرشاد في أحوال الصاحب الكافي إسمعيل بن
عباد
صاحب كتاب محاسن أصفهان من علماء القرن الخامس للهجرة، فارسي أصفهاني استعمل السجع في كلامه حتى كادت تضيع المعاني، وكتب كتابه على بلده كتابة مبالغة وتمدح، وفيه فوائد لمن تهمه أحوال تلك الديار في تلك العصور. ومما نقله المؤلف كتاب للحجاج. قيل إنه كتبه لوهزاذين يزداذ بن الأنباري، وكان قريبا لكاتبه المجوسي الأصفهاني جاء فيه: أما بعد فإني استعملتك على أصفهان، أوسع الأرض رقعة وعملا، وأكثرها خراجا وأزكاها أرضا، حشيشها الزعفران والورد، وجبلها الفضة والكحل، وأشجارها الجوز واللوز والجلوز وما أشبهها، والتين والزيتون والكروم الكريمة، والفواكه العذبة، وطيورها عوامل العسل. وماؤها الفرات، وخيلها الماذيانات الجياد. . . فايم الله لتبعثن إلي بخراج أصفهان كلها أو لأجعلنك طوابيق على باب مدينتها، فاختر أوفق الأمرين لك، فقد عظمت جنايتك علي وأسأت إلى نفسك. . .) وساق المؤلف حديث (لو كان الإيمان يناط بالثريا لتناوله رجال من الفرس أو قال من هؤلاء). وذكر في جملة فلاسفتها ومهندسيها ومنجميها وأطبائها جماعة من اليهود منهم: يوسف اليهودي، ويعقوب اليهودي، والفرج بن سهل اليهودي، إلى غيرهم من المسلمين والمجوس؛ وذكر في شعرائهم طائفة من الشعراء بالعربية وأخرى من شعراء الفارسية، وكذلك من كتاب العاصمة على اختلاف لغتهم
وذكر المؤلف ما في داخل أصفهان من الدور السرية وأن منها ما يصلح لأمير كبير، وأن في أسواقها طرائف بغداد، وخزوز الكوفة، وديباج الروم وتستر، وبز مصر وقباطيها، وجواهر البحرين، وآبنوس عمان، ونوادر الصين، وفراء خراسان، وخشب طبرستان، وأكسية آذربيجان وأصوافها، وفرش إرمينية، وما يقاربها من الظروف والأواني والفرش والأمتعة والأثاث والعقاقير والأدوية والأخلاط والأبازير التي مساقطها من البلدان المتطارحة والأوطان المتنازحة، ووصف جوامع أصفهان ومنها جامع الخصيب بن مسلم لا يصلي فيه في الصلوات الخمس أقل من خمسة آلاف رجل (وتحت كل اسطوانة منه شيخ مستند ينتابه جماعة من أهلها بوظيفة درس، أو رياضة نفس، تزيد بمناظرة الفقهاء، ومطارحة العلماء، ومجادلة المتكلمين، ومناصحة الواعظين، ومحاورات المتصوفين، وإشارات العارفين، وملازمة المعتكفين، إلى ما يتصل به وينظم إليه من خانكاهات قوراء مرتفعة، وخانات عامرة متسعة، قد وقفت لأبناء السبيل من الغرباء والمساكين والفقراء،
وبحذائه دار الكتب وحجرها وخزائنها اللواتي قد بناهن الأستاذ الرئيس أبو العباس أحمد الضبي ونضد فيها من الكتب عيونا، وخلدها من العلوم فنونا. ويشتمل فهرستها على ثلاثة مجلدات كبيرة من المصنفات في أسرار التفاسير وغرائب الأحاديث، ومن المؤلفات في النحو واللغة والتصريف والأبنية، ومن المدونات من غرر الأشعار، وعيون الأخبار، ومن الملتقطات من سنن الأنبياء والخلفاء، وسير الملوك والأمراء، ومن المجموعات من علوم الأوائل من المنطقيات والرياضيات والطبيعيات والإلهيات، وبذلك أدركنا أن الجامع الأعظم ودار الكتب في أصفهان هما من إنشاء العرب أيضا
وفي الكتاب شعر كثير، ومسائل أقرب إلى أن تعد في باب الأساطير والخرافات منها إلى أن تعد في التاريخ والأدب. وما كتاب محاسن أصفهان إلا صورة صحيحة من تأليف الفرس في ذلك العصر، والمؤلف نفسه كثير المادة من الألفاظ، ضعيف في السبك، تقرأ العجمة في كل سطرين من كلامه. وقد طبع الكتاب في طهران الأستاذ السيد جلال الدين الحسيني الطهراني عن نسخة الميرزا جسنخان وثوق الدولة أحد زعماء السياسة في إيران، كتبت سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، وقدم له مقدمة عربية وختمها بقوله:(وإني مع قلة بضاعتي في الفنون الأدبية، وكثرة اشتغالي بالعلوم الرياضية والفلكية، أرجو من مطالعي هذا الكتاب العفو عن زلتي في تصحيح بعض مواقعه) وقد وضع للكتابين فهارس الإعلام والأماكن والقبائل وطبعته (مكتبة الإقبال) في عاصمة إيران. أما رسالة الإرشاد فهي في مدح الصاحب بن عباد الوزير الكاتب المشهور تأليف أبي القاسم أحمد بن محمد الحسني الحسيني القوبائي الاصبهاني من علماء القرن الثالث عشر من الهجرة. فللناشر أطيب الشكر على عنايته
محمد كرد علي