الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 119
- بتاريخ: 14 - 10 - 1935
خزائن الكتب في القاهرة
على ذكر الخزانة الزكية
للدكتور عبد الوهاب عزام
قرأت في إحدى الجرائد أن وزارة المعارف عزمت على نقل الخزانة الزكية - مكتبة أحمد زكي باشا رحمه الله من مكانها في قبة الغوري إلى دار الكتب العامة. ويرحم الله زكي باشا؛ لو كان حياً لصال بلسانه وقلمه، وملأ الدنيا حجاجاً، وشغل رجال الحكومة بزياراته وأحاديثه، ليدافع عن كتبه العزيزة عليه التي أنفق عمره في جمعها، وأقامها مقام الأولاد فمنحها فكره وقلبه، فيمنعها أن تنقل من مكانها الذي اختاره في قبة السلطان الغوري. وكان رحمه الله معجباً بالغوري إعجاباً طوى ما بينهما من عصور، فكان إذا تحدث عنه قال:(صديقي السلطان الغوري). لكن شيخ العروبة الذي كان نشاطاً لا يفتر، وحركة لا تسكن، وعملاً لا يمل؛ قد طواه الردى، فأصبحت (الخزانة الزكية) الخزانة اليتيمة
ومن قبل نقلت إلى دار الكتب الخزانة التيمورية التي جمعها من أقطار الأرض العلامة التقي النقي أحمد تيمور باشا رحمه الله وليست هذه سنة رشيدة؛ ليس سنة رشيدة أن تجمع الكتب في مكان واحد، وتحرم القاهرة المعزية إلا من مكتبة واحدة يزدحم فيها القراء من كل قبيل، ويلتقي فيها الباحث المدقق الذي يستقصي المخطوطات القديمة، والقارئ الذي يزجي وقته بقصة ملهية، ويفد إليها أهل القاهرة من المحلات الدانية والقاصية
لا بد لنا من مكتبة عامة جامعة كدار الكتب، ولكن لابد لنا معها من مكتبات خاصة كالخزانة التيمورية والخزانة الزكية، يقصدها الباحثون المنقبون، ويؤمها خاصة المطالعين، فيجدون مكاناً ساكناً يسكنون إليه ويتعارفون فيه، ثم تكون لكل مكتبة خصائص معروفة تجذب إليها صفاً من الباحثين؛ ولابد لنا، إلى هذه وهذه من مكتبات محلية، يستفيد منها أهل كل محلة في القاهرة، يجدونها قريبة إليهم، ويلفون كتبها ميسرة لهم
كان من سنن الحضارة الإسلامية الإكثار من خزائن الكتب الكبيرة والصغيرة في كل مدينة، وكان لكل مسجد كبير خزانة كتب، فكانت القراءة ميسورة لكل طالب في كل حي وفي كل مسجد، وليس يتسع المجال هنا للحديث عن خزائن الكتب في المدن الإسلامية القديمة في المشرق والمغرب فهو حديث طويل، وحسبك أن أبو تمام عوقه البرد في همذان
فوجد في إحدى خزائنها ما يسر له اختيار حماسته، وأن ياقوتاً الحموي أقام في مرو الشاهجان فأفاد من اثنتي عشرة خزانة بها، في كل واحدة آلاف المجلدات. وهو يقول في معجم البلدان:(فكنت أرتع بها، وأقبس من فوائدها. وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الأهل والولد. وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن). هذه مرو الشاهجان، فما ظنك ببغداد والقاهرة وقرطبة؟ كانت قرطبة لا تخلو دار كبيرة فيها من خزانة كتب
وكان في الآستانة إلى عهد قريب زهاء أربعين خزانة، في كل جامع كبير واحدة، وكثير منها يشرف على حدائق، وتتهدل الأشجار عند منافذها. فليس يمل القارئ الجلوس بها، ولا يزعجه عن القراءة لغو ولا جلبة. وقد يجلس المطلع في مكتبة الفاتح فيود أن لا تنتهي القراءة ولا ينتهي الوقت. وقارئ الكتب أحوج الناس إلى المكان النزه الهادئ، يوحي السكينة إلى نفسه، ويجمع للمعرفة فكره، ويحبب إليه المثابرة والدأب. فأين من هذا دور الكتب الكبيرة المطبقة على المطالع بجدرانها، وجلبتها، والتي تقطع عليه فكره بمناظر الداخلين والخارجين. يود قاصدها أن يحصل أقل ما يريد في أقصر وقت فيسارع إلى الخروج. وكم ينتظر حتى يظفر بالكتاب المطلوب؟
وقد كان في القاهرة خزائن فرقتها يد الزمان العسراء، ولعبت بها غيره الهوجاء، ثم جمعت بقية الأحداث منها في دار الكتب المصرية؛ وقد رأينا وزارة الأوقاف إلى عهد قريب تجمع الكتب من المساجد فتضعها في الخزائن الزكية. لقد أحسنت الحكومة بما فعلت حينما كانت الكتب عرضة للضياع، غير مهيأة للانتفاع، ولكن الأحوال تغيرت، ودار الكتب ضاقت بما فيها، وغصت بزائريها. فعلينا أن نتدارك اليوم ما عجزنا عنه بالأمس، فنعنى بتجهيز القاهرة بخزائن الكتب المختلفة في المحلات المختلفة. ونحتفظ بما في المساجد من الكتب إن كان لها بقية لنجعلها نواة لمكتبات كبيرة
ولم لا يكون لنا خزانة في الجامع العتيق، وكان مثابة العلم في مصر زمناً طويلاً؟ ولم لا يكون لنا خزائن في جامع ابن طولون، والجامع الأقمر، وخانقاة سعيد السعداء التي كانت مأوى كبار العلماء، ومساجد المؤيد، وبرقوق، والسلطان حسن، وكانت هذه المساجد معاهد للدرس، وقد اتخذنا بعضها اليوم مدارس أيضاً، فلماذا لا نتخذها معاهد لمطالعة الكتب؟
لماذا لا ننتفع بهذه الأبنية الواسعة الشاهقة فنفسر أموالنا، ونعرف آثارنا، ونصل ماضينا بحاضرنا؟ وليت خزائن الكتب تتقسم العلوم فيقصد الباحثون الجامع العتيق ليقرأوا الفقه والحديث وكل ما كتب عن الفسطاط ومصر في عهد الفسطاط، ويذهبون إلى الجامع المؤيد ليقرأوا ما كتب عن المماليك، ويقصدون خانقاة سعيد السعداء أو تكية المولوية لقراءة التصوف، وهلم جرا
هذه آراء يلقاها بالاستهزاء الذين خلعوا أنفسهم من تاريخنا وسننا، ولكني أرجو أن يكون لها من تفكير المفكرين نصيب
وبعد، فينبغي أن تبقى الخزانة الزكية في مكانها إبقاء على السنن الصالحة، وتيسيراً للقراءة على طلابها، واحتفاظاً برغبة صاحب الكتب الذي بذل في جمعها من ماله وعمره، ولبث حياته يحنو عليها حنو الأب الشفيق على أولاده. ولا يزال أمام وزارة المعارف سعة للتفكير والعدول عن الخطأ الذي همت به.
عبد الوهاب عزام
4 - الجمال البائس
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قلت لها: أن قلبي وقلبك يتجاليان في هذه الساعة ويتباكيان؛ أتدرين ماذا يقول لك قلبي؟
إنه ليقول عني: أعزز علي بأن تكوني ههنا، وأن تتألف منك هذه القصة التي تبدأ بالوصمة وتنتهي بالاستخذاء فتنطلق المرأة في متالفها ومهاويها ليبلغ بها القدر ما هو بالغ؛ وليس إلا الضرورة وسطوتها بها، والإذلال ومهانته لها، والاجتماع وتهكمه عليها، والابتذال واستعباده إياها. ومهما يأت في القصة من معناً فليس فيها معنى الشرف؛ ومهما يكن من موقف فليس فيها موقف الحياء؛ ومهما يجر من كلام فليس فيها كلمة الزوجة. وأعزز علي بأن أرى المصباح الجميل المشبوب الذي وضع ليضيء ما حوله، قد أنقلب فجعل يحرق ما حوله؛ وكان يتلألأ ويتوقد، فارتد يتسعر ويتضرم ويجني على ما يتصل به وسقط بذلك سقطة حمراء. . . .
أفتدرين ماذا يقول لي قلبك؟
إنه يقول عنك: يا بؤسنا من نساء! لقد وضعنا وضعاً مقلوباً فلا تستقيم الإنسانية معنا أبداً، وكل شيء منقلب لنا متنكر؛ والشفقة علينا تنقلب من تلقاء نفسها تهكماً بنا، فنبكي من شفقة بعض الناس كما نبكي من ازدراء بعض الناس. يا بؤسنا من نساء!
قالت صدقت، وكذلك تنقلب أسباب الحياة معنا أسباباً للمرض والموت، فاليقظة ليس لها عندنا النهار بل الليل، والصحو لا يكون فينا بالوعي بل بالسكر، والراحة لا تكون لنا في السكون بل والانفراد في الاجتماع والتبذل؛ وما يرد العيش على امرأة من واجباتها السهر، والسكرة والعربدة، والتبذل، وتدريب الطباع بالوقاحة، وتضرية النفس على الاستغواء والتصدي بالجمال للكسب من رذائل الفساق وأمراضهم، والتعرض لمعروفهم بأساليب أخرها الهوان والمذلة، واستماحتهم بأساليب أولها الخداع والمكر؟
إن حياةً هذه هي واجباتها، لا يكون البكاء والهم إلا من طبيعية من يحياها، وكثيراً ما نعالج الضحك لنفتح لأنفسنا طرقاً تتهارب فيها معاني البكاء؛ فإذا أثقلنا الهم وجل عن الضحك وعجزنا عن تكلف السرور، ختلنا العقل نفسه بالخمر؛ فما تسكر المرأة منا للسكر أو النشوة، بل للنسيان، وللقدرة على المرح والضحك، ولأمداد محاسنها بالأخلاق الفاجرة من
الطيش والخلاعة والسفه وهذيان الجمال الذي هو شعره البليغ. . . . عند بلغاء الفساق
قال الأستاذ (ح): أهذا وحاضر الغادة منكن هو الشباب والصبى والجمال وإقبال العيش، فكيف بها فيما تستقبل؟
قالت: إن المستقبل هو أخوف ما نخافه على أنفسنا، وليس من امرأة في هذه الصناعة إلا وهي معدة لمستقبلها إما نوعاً من الانتحار، وإما ضرباً من ضروب الاحتمال للذل والخسف. وليس مستقبلنا هذا إلا كمستقبل الثمار النضرة إذا بقيت بعد أوانها، فهو الأيام العفنة بطبيعة ما مضى. . بلى إن مستقبل المرأة البغي هو عقاب الشر
قال (ح): هذا كلام ينبغي أن تعلمه الزوجات؛ فالمرأة منهن قد تتبرم بزوجها وتضجر وتغتم، وتزعم أنها معذبة فتتسخط الحياة، وتندب نفسها؛ ثم لا تعلم أنه عذاب واحد برجل واحد تألفه فتعتاده فترزق من اعتياده الصبر عليه فيسكن بهذا نفارها. وتلك نعمة واجبها أن تحمد الله عليها ما دام في النساء مثل الشهيدات تتعذب الواحدة منهن فنوناً من العذاب بمائة رجل وبألف رجل، وهم مع ذلك يتبلون روحها بعددهم من الذنوب والآثام
وقد تستثقل الزوجة واجباتها بين الزوج والنسل والدار، فتغتاظ وتشكو من هذه الرجرجة اليومية في الحياة، ثم لا تعلم أن نساءً غيرها قد انقلبت بهن الحياة في مثل الخسف بالأرض
وقد تجزع للمستقبل وتنسى أنها في أمان شرفها، ثم لا تعلم أن نساء يترقبن هذا الآتي كما يترقب المجرم غد الجريمة من يوم فيه الشرطة والنيابة والمحكمة وما وراء هذا كله
فقلت: وهناك حقيقة أخرى فيها العزاء كل العزاء للزوجات، وهي أن الزوجة امرأة شاعرة بوجود ذاتها، والأخرى لا تشعر إلا بضياع ذاتها
والزوجة امرأة تجد الأشياء التي تتوزع حبها وحنان قلبها، فلا يزال قلبها إنسانياً على طبيعته، يفيض بالحب ويستمد من الحب. والأخرى لا تجد من هذا شيئاً، فتنقلب وحشية القلب، يفيض قلبها برذائل ويستمد من رذائل، إذ كان لا يجد شيئاً مما هيأته الطبيعة ليتعلق به من الزوج والدار والنسل
والزوجة امرأة هي امرأة خالصة إنسانية، أما الأخرى فمن امرأة ومن حيوان ومن مادة مهلكة
وتما السعادة أن النسل لا يكون طبيعياً مستقراً في قانونه إلا للزوجات وحدهن، فهو نعمتهن الكبرى، وثواب مستقبلهن وماضيهن، وبركتهن على الدنيا؛ ومهما تكن الزوجة شقيةً بزوجها فان زوجها قد أولدها سعادتها، وهذه وحدها مزية ونعمة. أما أولئك فليس لهن عاقبة إذ النسل قلب لحلتهن كلها؛ وهو غنىً إنساني ولكنه عندهن لا يكون إلا فقراً، وهو رحمة ولكنها لا تكون إلا لعنة عليهن وعلى ماضيهن. وقد وضعت الطبيعة في موضع حب الولد الجديد من قلوبهن، حب الرجل الجديد، فكانت هذه نقمةً أخرى
قال (ح): أتريد من الرجل الجديد من يكون عندهن الثاني بعد الأول، أو الثالث بعد الثاني، أو الرابع بعد الثالث؟
قلت: ليس الجديد عليهن هو الواحد بعد الواحد إلى آخر العدد؛ ولكنه الرجل الذي يكون وحده بالعدد جميعاً إذ هو عندهن يشبه الزوج في الاختصاص وفي شرف الحب، فهو الحبيب الشريف الذي تتعلقه إحداهن وتريد أن تكون معه شريفة؛ ولكن من نقمة الطبيعة أن من وجدته منهن لا تجده إلا لتعاني آلم فقده
يا عجبا! كل شيء في الحياة يلقي شيئاً من الهم أو النكد أو البؤس على هؤلاء المسكينات، كأن الطبيعة كلها ترجمهن بالحجارة. .
قالت هي: وليست الحجارة هي الحجارة فقط، بل منها ألفاظ ترجم بها المسكينة كألفاظك هذه. . . وكتسمية الناس لها (بالساقطة) فهذه الكلمة وحدها صخرة لا حجر
ثم تنهدت وقالت: من عسى يعرف خطر الأسرة والنسل والفضيلة كما تعرفها المرأة التي فقدتها؟ إننا نحسها بطبيعة المرأة، ثم بالحنين إليها، ثم بالحسرة على فقدها، ثم برؤيتها في غيرنا، نعرفها أربعة أنواع من المعرفة إذ عرفتها الزوجة نوعاً واحداً. ولكن هل ينصفنا الرجال وهم يتدافعوننا؟ هل يرضون أن يتزوجوا منا؟
قلت: ولكن الأسرة لا تقوم على سواد عيني المرأة وحمرة خديها، بل على أخلاقها وطباعها. فهذا هو السبب في بقاء المرأة حيث ارتطمت. وهي متى سقطت كان أول أعدائها قانون النسل
ومن ثم كانت الزلة الأولى ممتدةً متسحبةً إلى الآخر، إذ الفتاة ليست شخصاً إلا في اعتبارها هي، أما في اعتبار غيرها فهي تاريخ للنسل إن وقعت فيه غلطة فسد كله وكذب
كله فلا يوثق به
وهذه الزلة الأولى هي بدء الانهيار في طباع رقيقة متداخلة متساندة لا يقيمها إلا تماسكها جملةً، وما لم يتماسك إلا بجملته فأول السقوط فيه هو استمرار السقوط فيه. ولهذا لا يعرف الناس جريمةً واحدةً تعد سلسلة جرائم لا تنتهي إلا سقطة المرأة. فهي جريمة مجنونة كالإعصار الثائر يلف لفاً، إذ تتناول المرأة في ذاتها، وترجع على أهلها وذويها، وترتمي إلى مستقبلها ونسلها، فيهتكها الناس هي وسائر أهلها، من جاءت منهم ومن جاءوا منها
والمرأة التي لا يحميها الشرف لا يحميها شيء. وكل شريفة تعرف أن لها حياتين: إحداهما العفة، وكما تدافع عن حياتها الهلاك، تدافع السقوط عن عفتها، إذ هو الهلاك حقيقتها الاجتماعية. وكل عاقلة تعرف أن لها عقلين تحتمي بأحدهما من نزوات الآخر، وما عقلها الثاني إلا شرف عرضها
قال الأستاذ (ح): إن هذه هي الحقيقة، فما تسامح الرجال في شرف العرض إلا جعلوا المرأة كأنها بنصف عقل فاندفعت إلى الطيش والفجور والخلاعة، أرادوا ذلك أم لم يريدوه
قلت: وهذا هو معنى الحديث: (عفوا تعف نساؤكم) فان عفاف المرأة لا تحفظه المرأة بنفسها ما لم تتهيأ لها الوسائل والأحوال التي تعين نفسها على ذلك. وأهم وسائلها وأقواها وأعظمها، تشدد الرجال في قانون العرض والشرف
فإذا تراخى الرجال ضعفت الوسائل، ومن بين هذا التراخي وهذا الضعف تنبثق حرية المرأة متوجهةً بالمرأة إلى الخير أو للشر على ما تكون أحوالها وأسبابها في الحياة. وهذه الحرية في المدنية الأوربية قد عودت الرجال أن يغضوا ويتسمحوا، فتهافت النساء عندهم تنال كل منهن حكم قلبها ويخضع الرجل. . . .
على أن هذا الذي يسميه القوم حرية المرأة ليس حريةً إلا في التسمية، أما في المعنى فهو كما ترى:
إما شرود المرأة في التماس الرزق حين لم تجد الزوج الذي يعولها أو يكفيها ويقيم لها ما تحتاج إليه، فمثل هذه هي حرة حرية النكد في عيشها، وليس بها الحرية بل هي مستعبدة للعمل شر ما تستعبده امرأة
وإما انطلاق المرأة في عبثاتها وشهواتها مستجيبةً بذلك إلى انطلاق حرية الاستمتاع في
الرجل، بمقدار ما يشتريه من المال، أو تعين عليه القوة، أو يسوغه الطيش، أو يجلبه التهتك، أو تدعوا إليه الفنون. فمثل هذه هي حرة حرية سقوطها وما بها الحرية بل يستعبدها التمتع
والثالثة حرية المرأة في انسلاخها من الدين وفضائله، فان هذه المدنية قد نسخت حرام الأديان وحلالها بحرام قانوني وحلال قانوني، فلا مسقطة للمرأة ولا غضاضة عليها قانوناً. . . فيما كان يعد من قبل خزياً أقبح الخزي وعاراً أشد العار، فمثل هذه هي حرة حرية فسادها، وليس بها الحرية ولكن تستعبدها الفوضى
والرابعة غطرسة المرأة المتعلمة وكبرياؤها على الأنوثة والذكورة معاً، فترى أن الرجل لم يبلغ بعد أن يكون الزوج الناعم كقفاز الحرير في يدها، ولا الزوج المؤنث الذي يقول لها نحن امرأتان. . . . فهي من أجل ذلك مطلقة مخلاة كيلا يكون عليها سلطان ولا إمرة. فمثل هذه حرة بانقلاب طبيعتها وزيغها، وهي مستعبدة لهوسها وشذوذها وضلالتها
حرية المرأة في هذه المدنية أولها ما شئت من أوصاف وأسماء، ولكن آخرها دائما إما ضياع المرأة وإما فساد المرأة
والدليل على التواء الطبيعة في المدنية استواء الطبيعة في البادية، فالرجال هناك قوامون على النساء، والنساء بهذا قوامات على أنفسهن، إذ ينتقمون للمنكر انتقاماً يفور دماً وبهذه الوحشية يقررون شرف العرض في الطبيعة الإنسانية ويجعلونها فيها كالغريزة، فيحاجزون بين الرجال والنساء أول شيء بالضمير الشريف الذي يجد وسائله قائمةً من حوله
قال الراوي: وغطت وجهها بيديها وقالت: إنك لا تزال ترجم بالحجارة. . . إن فيك متوحشاً
قلت بل متوحشة. . .
إنك أنت قد تكلمت في، فجمالك الذي يضع الإنسان في ساعة مجنونة ليمتعه بطيشها، فقد وضعنا نحن في ساعة مفكرة وأمتعنا بعقلها؛ وإذا قلت جمالك، فقد قلت وحيك، إذ لا جمال عندي إلا ما فيه وحي
أما قلت: إنك لو خيرت في وجودك لما اخترت إلا أن تكوني رجلاً نابغةً يكتب ويفكر ويتلقى الوحي من الوجوه الجميلة؟
فدقت صدرها بيدها وقالت: أنا؟ أنا لم أقل هذا. ثم أفكرت لحظة وقالت: إذ كنت أنت تزعم أنني قلته، فأظن أنني قلته. . .
قال (ح): رجل؛ ويكتب؛ ويفكر؛ ولم تقل هي شيئاً من هذا. أربع غلطات شنيعة من فساد الذوق
قالت: بل قل أربع غلطات جميلة من فن الذوق. إن الرجل الظريف القوي الرجولة، يجب عليه أن يغلط إذا حدث المرأة
قال (ح): لتضحك منه؟
قالت: لا بل لتضحك له. . . . .
قلت: فلي إليك رجاء
قالت: إن صوتك يأمر، فقل
فماذا قلت لها وماذا قالت؟
(لها تتمة)
(طنطا)
مصطفى صادق الرافعي
فقدان الثقة
للأستاذ أحمد أمين
لعل أسوأ ما تمنى به أمة أن يفقد أفرادها الثقة بعضهم ببعض؛ ففقدان الثقة يجعل الأمة فرداً، والثقة تجعل الفرد أمة؛ الثقة تجعل الأجزاء كتلة، وفقدانها يجعل الكتلة أجزاء غير صالحة للالتئام، بل يجعل أجزاءها متنافرة متعادية توجه كل قوتها للوقاية والنكاية
كم من الزمن ومن المال ومن النظم ومن الخطط تنفق إذا فقدت الثقة؟ ثم هي لا تغني شيئاً ولا تعيد الثقة
تصور أسرة فقد الزوج فيها ثقته بزوجته، والزوجة بزوجها، ثم تصور كيف تكون حياتها: نزاع دائم، وسوء ظن متبادل، وانتظار للزمن ليتم الخراب
وهكذا الشأن في كل مجتمع: في المدرسة، في الجيش، في الحزب، في القرية، في الأمة
بل ما لنا نذهب بعيداً والإنسان نفسه إذا فقد الثقة بنفسه فقد نفسه، فلا يستطيع الكاتب أن يكون كاتباً مجيداً ولا الشاعر أن يكون شاعراً متفوقاً ولا أي عالم وصانع يجيد علمه وصناعته إلا إذا وثق بنفسه لدرجة ما؛ وكم من الكفايات ضاعت هباء لأن ذويها فقدوا ثقتهم بأنفسهم، واعتقدوا أنهم لا يحسنون صنعا ولا يجيدون عملا
وكل ما ترى من أعراض الفشل في أمة سببه فقدان الثقة؛ فالحزب ينهار يوم يفقد الأعضاء ثقتهم بعضهم ببعض، والشركة تنهار يوم يتعامل أفرادها على أساس فقدان الثقة، والمدرسة تفشل يوم لا يثق الطلبة بأساتذتهم والأساتذة بطلبتهم، وكل جماعة تفنى يوم يتم فيها فقدان الثقة
كل نظمن - على ما يظهر - مبنية على فقدان الثقة، فوظائف (المفتشين) في جميع مصالح الحكومة والشركات أصبحت مؤسسة على فقدان الثقة، فالمفتش في الترام والسيارات العامة مبناه ضعف الثقة (بالكمساري)، ومفتش المالية ليراقب حركات مرءوسيه حتى لا يختلسوا أو يزوروا، ومفتشو الوزارات ليروا إلى أي حد يطبق الموظفون تعاليم الوزارة
قد كان الظن بالمفتشين أن يؤدوا عملا آخر غير هذا، وهو أن يشرفوا على عمل المرءوسين ليوجهوهم وجهة الصالحة، ويتعاونوا معهم على رسم الخطة القويمة،
ويصححوا الخطأ، ويكملوا النقص، ولكنهم - في الأغلب - وقفوا فقط موقف الضابط يضبط الجريمة، والصائد يرقب الفريسة، لا موقف الهادي المرشد والناصح الأمين
فان أردت (بنداً) واحداً من (بنود) ما ينفق من الأموال في سبيل عدم الثقة فاجمع مرتبات المفتشين في جميع مصالح الحكومة
وليس الأمر مقصوراً على هؤلاء، فالمراجعون ومراجعو المراجعين؛ والأوراق تمر من يد إلى يد، ومن قلم إلى قلم، ومن مصلحة إلى مصلحة، ومن وزارة إلى وزارة. كل ذلك له أسباب، أهمها (فقدان الثقة)
وإن شئت حصر ما يستهلك من الأموال لفقدان الثقة فلا تكتف بمرتبات المفتشين، بل أضف إليها مرتبات كل هؤلاء الذين ذكرنا، فلو قلنا إن نصف مرتبات الموظفين ينفق في سبيل فقدان الثقة لم نبعد
وليست المصيبة كلها في الأموال، فلو كنا نقدر للزمن قيمة كغيرنا من ألمم لاستفظعنا ما يستوجبه فقدان الثقة من أيام وشهور وسنين تضيع في إجراءات وتدقيقات ومراجعات ومناقضات وتعليقات مبناها كلها (فقدان الثقة)
ثم هناك عقول للنابغين وكبار أولي الأمر في الأمة تفكر ثم تفكر، وتقدر ثم تقدر، وتضع الخطط تلو الخطط، والقوانين واللوائح والمنشورات تلو القوانين واللوائح والمنشورات، ويخيل إليها أنها بما فعلت تأمن الخيانة والسرقة والتزوير، وتظن بذلك أنها تعالج ما فسد وتصلح ما اختل، وهي إنما تزيد بذلك في (فقدان الثقة)
أضف إلى هذا ما تسبغه هذه المظاهر كلها على نفسية الموظف، فهو يرى كل هذه النظم واللوائح والقوانين والمراجعات والمناقضات فيشعر أنها إنما شرعت له ومن أجله وبسبب فقدان الثقة به، وأنها كلها تنظر إليه كلص وكمجرم وكمزور؛ فيفقد الثقة بنفسه، ويعمل في حدود ما رسم له، ويشعر بالسلطات المختلفة عليه؛ فلا يجرؤ على التفكير بعقله، ولا يجرؤ على تحمل تبعة، ويفر من البت في الأمور ما وسعه الفرار، حتى يكون بمأمن دائم من الأسئلة والمناقضات - وهذا هو سر ما نراه من بطء في العمل، وركود في الحركة، وضياع لمصالح الناس، إذ لا شيء يبعث الثقة في المرءوس مثل أن يثق به الرئيس، ولا شيء يبعث الحيرة والارتباك والاضطراب إلا ما يشعر به من (فقدان الثقة)
أنا كفيل بأنا لو قلبنا كل هذه النظم رأسا على عقب وهدمناها من أسسها وأزلنا أنقاضها، ثم بنيناها على أسس جديدة من الثقة البحتة، ما خسرنا من الأموال وما خسرنا من الأزمان والأنفس ما نخسر الآن ولو كثرت اللصوص وكثر الخائنون والمزورون
هب أنا فتحنا مكتبة وأسسنا نظامها على الثقة بالموظفين والمترددين من المطالعين فاستغنينا عن مراقب واستغنينا عن مراجع واستغنينا عن مفتش وهكذا، واكتفينا بمعير للكتب و (فتى) يضع الكتب كل يوم في أماكنها، فماذا يكون الشأن وماذا يكون حسابنا في المكسب والخسارة؟ لا شك أننا سنفقد كتبا يسرقها بعض المترددين، وهذا هو كل الخسارة، ولكنا بجانب ذلك نوفر مرتبات كاتب ومراقب ومفتش، ونوفر أزمانا طويلة تصرف في عمليات الجرد والحصر، وننشر الثقة بين المطالعين، ونشعرهم بأن المكتبة في حمايتهم هم وتحت إشرافهم، فننمي فيهم الشعور بالتبعة؛ فإذا كان هذا مكسبنا وهذه كل خسارتنا، فإلى النار هذه الكتب المفقودة، وخسئت عين كل من ينظر في عمليات الحساب إليها وحدها، ولا ينظر إلى كل هذه الأرباح التي ربحناها
وهذا المثل الصغير يمكن تطبيقه تمام التطبيق على الأعمال الكبيرة في المصالح المختلفة، بل إني أشتري نشر الثقة بين الناس وتسهيل الأعمال، وشعور الناس بالطمأنينة بأي ثمن، بل لو أن التجارب دلت على أن ما نفقد من الأموال أكثر مما نربح إذا أسسنا النظم على أساس الثقة لاستمررت في تجربتي ونظريتي، وآمنت بوجوب الانتظار على هذا الأساس الجديد حتى يذهب هذا الجيل الذي أفسده النظام القديم، وقضى على نفسه وعلى شعوره، ولأنتظر جيلا جديدا نشأ في أحضان (الثقة) والشعور بالواجب وبالتبعة وبالحرية في العمل في دائرة ضيقة من القوانين المعقولة
وهكذا الشأن في جميع الأمور السياسية والاجتماعية، فثقة أفراد الحزب بعضهم ببعض - ولو مراعاة للمصلحة - أضمن للنجاح، وأقرب لتحقيق الغرض؛ وثقة الجمعية برئيسها، والرئيس بأعضائها - ولو تصنعا - أقرب لأن ينقلب التصنع خلقا
وقد رأينا - دائما - أن العدوى في المعاني كالعدوى في المحسات، فكما أن التثاؤب يبعث التثاؤب، والضحك يبعث الضحك، فكذلك الثقة تبعث الثقة وعدمها يبعث عدمها. وبعد، فلا تزال ترن في أذني كلمة سمعتها من أستاذ إنجليزي كان في الجامعة: (إذا كنتم لا تريدون
أن تولوا أموركم الأجنبي، ولا تمنحون ثقتكم المصري، فكيف تعيشون؟)
أحمد أمين
افتتاح إفريقية وكيف غزاها الاستعمار الأوربي
بقلم مؤرخ كبير
تتمة
لم يبق اليوم في إفريقية من الأمم المستقلة سوى الحبشة، وجمهورية ليبيريا؛ ولكن ليبيريا ليست في الواقع سوى منطقة للنفوذ الأمريكي، وقد أنشئها الزنوج الأمريكيون الأحرار؛ ومع أنها جمهورية مستقلة وعضو في عصبة الأمم، فأن السياسة الأمريكية هي التي تشرف على شؤونها العليا؛ وعلى هذا فليس في أفريقية اليوم أمة تتمتع باستقلالها الصحيح سوى إمبراطورية الحبشة؛ وهي تتمتع بهذا الاستقلال منذ فجر التاريخ. وقد حاول الاستعمار الأوربي غير مرة أن يحطم استقلالها، ولكنها استطاعت لأن تسحق مشروعاته ومحاولاته؛ والآن يعيد التاريخ دورته ويتربص الاستعمار الأوربي بالحبشة مرة أخرى، ويحشد كل قواه وعدده المدمرة، ويطالب علنا بافتراسها والقضاء على استقلالها تحقيقا لشهوة الفتح والتوسع؛ وهانحن أولاء نشهد العاصفة وقد انقضت، فهل تستطيع مملكة سبأ الخالدة أن ترد عنها عادية هذا الغزو المبيت؟
وهل تستطيع الفوز بهذا الاستقلال الذي حافظت عليه منذ الأحقاب؟ وهل تبقى الحبشة آخر حصن للاستقلال الأفريقي، أم تسقط صريعة الاعتداء، فيجهز الاستعمار بذلك على آخر ملاذ لهذا الاستقلال؟ هذا ما سيكشف عنه المستقبل القريب
وقد رأينا فيما تقدم كيف اقتسمت الدول الأوربية إفريقية فيما بينها، واستقرت كل منها في بعض مناطقها وأراضيها، وأنشأت الدول الكبرى - إنكلترا وفرنسا وألمانيا - كل منها في أفريقية إمبراطورية استعمارية شاسعة. وكانت إيطاليا إحدى الدول التي شاركت في افتتاح إفريقية، غير أنها خرجت منها بصفقة يسيرة. ويرجع ذلك إلى أنها كانت في أواخر القرن الماضي، حين بدأ افتتاح إفريقية، ما تزال دولة ثانوية، حديثة عهد باستقلالها ووحدتها القومية؛ هذا إلى أنها لقيت خلال غزواتها الاستعمارية نكبة لم تلقها أية دولة أوربية، إذ هزمت جيوشها وسحقت في موقعة (عدوة) الشهيرة حسبما نفصل بعد، فوضعت هذه الهزيمة الساحقة حدا لمشاريعها الاستعمارية مدى حين
بدأت إيطاليا محاولاتها الاستعمارية في سنة 1882، إذ أرسلت إلى بلاد إرترية حملة
احتلت خليج عصب وما يليه جنوبا؛ واحتلت ثغر مصوع وما يليه من الساحل شمالا (سنة 1885)؛ وأرسلت حملة أخرى إلى بلاد الصومال مما يلي المحيط الهندي، فاحتلت شقة ضيقة طويلة على الساحل، من نهر جوبا حتى رأس جردفوي، وهي التي تعرف اليوم بالصومال الإيطالي (سنة 1888). وكانت إيطاليا يومئذ دولة ناشئة فتية تجيش بآمال كبيرة، وكان وزيرها الشهير (كرسبي) روح هذه المغامرات الاستعمارية؛ وكان يحلم بإنشاء إمبراطورية استعمارية إيطالية ضخمة في شرق إفريقية تضم الحبشة، وتصل ما بين الإرترية والصومال؛ وكان تفاهم الدول الأوربية على اقتسام إفريقية يخول لإيطاليا حرية العمل في تلك المنطقة. فلما تم احتلال الإرترية والصومال، اعتقد كرسبي أن الفرصة قد سنحت لغزو الحبشة، والعمل لإنشاء الإمبراطورية الاستعمارية التي يتوق إلى إنشائها
وكانت الحبشة منذ منتصف القرن التاسع عشر تجوز فترة من الضعف والتفرق؛ وكان ملكها يومئذ الإمبراطور تيودور، وهو أمير من أمهرا يدعى كاساي، اغتصب العرش من الرأس (علي) ملك الحبشة المسلم، وأقام نفسه إمبراطورا، وبسط على الحبشة حكمه المطلق، وأثار بشدته وعنفه في معاملة الأجانب سخط الدول الأوربية، وقبض على عدد من المرسلين والنزلاء الإنكليز وأبى أن يطلق سراحهم، فجهزت إنكلترا حملة لغزو الحبشة بقيادة السير نابيير؛ ونفذت هذه الحملة إلى الحبشة في سنة 1868، وهزمت جيش الإمبراطور، فاضطر تيودور أن يطلب الصلح، ثم أنتحر يأسا وغما؛ وانسحب الإنكليز، وعادت الحرب الأهلية في الحبشة، واستولى على العرش كاسي أمير تجرى، ونصب نفسه إمبراطورا باسم يوحنا الثاني؛ ولبثت الحبشة في حالة اضطراب وفوضى؛ واحتل الإيطاليون في تلك الفترة ساحل إرترية والصومال؛ وكانت الجيوش المصرية قد نفذت قبل ذلك بأعوام إلى بعض مناطق الحبشة مما يلي السودان فاستطاع الإمبراطور يوحنا أن يوقع بها هزيمة فادحة وأن يرغمها على الجلاء عن الحبشة (سنة 1876)، ولما توفي يوحنا سنة 1889 خلفه على العرش منليك أمير شوا، باسم الإمبراطور منليك الثاني. وبدأ منليك حكمه في ظروف صعبة؛ وكانت إيطاليا قد استطاعت أن تتقرب إلى الحبشة، وأن تبسط عليها نفوذها شيئا فشيئا تحت ستار المعاونات والصلات الودية، وما زالت حتى استطاعت
بسياسة الضغط والوعيد أن تحمل منليك على أن يعقد معها معاهدة حماية مقنعة هي التي تعرف بمعاهدة أوشالي (مايو سنة 1889)، وبها وضعت الحبشة تحت نوع من الوصاية الإيطالية؛ وحاولت إيطاليا خلال الأعوام التالية أن تتدخل في شؤون الحبشة تدخلا قويا، وأن تفرض عليها إرادتها، واستطاعت أن تحتل بعض أنحائها المجاورة الإرترية، ولكن الشعب الحبشي لم يلبث أن ثار لهذا الاعتداء على أرضه وحرياته؛ وقاد منليك هذه الثورة الوطنية، فجردت عليه إيطاليا جيشا ضخما قوامه خمسون ألف مقاتل بقيادة الجنرال باراتيري؛ ولكن الوطنية الحبشية غمرت كل شيء وسحقت الجيوش الإيطالية في موقعه عدوة الشهيرة من أعمال ولاية تجرى (2 مارس سنة 1896)، ولم تبق منها سوى فلول ممزقة، وحطمت آمال إيطاليا ومشاريعها الاستعمارية، وأرغمت على الاعتراف باستقلال الحبشة؛ واستمر منليك الثاني أو منليك الأكبر محرر الحبشة أعواما طويلة يقودها في سبيل الإصلاح والتقدم؛ وفي عهده نظمت الحبشة علائقها مع الدول الأوربية، واستطاعت أن ترغمها جميعا على احترام استقلالها. وفي سنة 1906 عقد تحالف ثلاثي بين بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا يقضي بالعمل المشترك بينها لحماية أراضيها ومصالحها في تلك المنطقة، وينص على وحدة الحبشة واستقلالها، وينص أيضا على تفوق المصالح الإيطالية في الحبشة. ولما توفي منليك الأكبر سنة 1913 خلفه حفيده (ليجي ياسو) بعهد منه؛ ولكن عوامل التفرق عادت تعمل عملها، واضطرمت الحرب الأهلية مرة أخرى، وعزل (ليجي ياسو) بعد خطوب وحوادث جمة، وتولت العرش (زوديتو) كبرى بنات منليك، وعين الرأس تفري وصيا للعرش ووليا للعهد، فاستأثر بكل سلطة حقيقة. ولم تمض أعوام قلائل حتى أعلن نفسه إمبراطورا إلى جانب (زوديتو) ولما توفيت الإمبراطورة سنة 1930، انفرد بالملك تلقب باسم (هيلا سلاسي)، وفي عهده قطعت الحبشة مراحل كبيرة في سبيلا التقدم والاتحاد والإصلاح الوطني، والتحقت بعصبة الأمم (سنة 1923)، وزار الإمبراطور إيطاليا سنة 1925 فاستقبل في رومة بحفاوة كبيرة، وعقدت على أثر ذلك بين البلدين معاهدة صداقة وتحكيم واعتقدت الحبشة أنها في ظل عصبة الأمم، وظل الصداقة الإيطالية الجديدة، قد أمنت مطامع الاستعمار ومشاريعه الغادرة
وكانت إيطاليا منذ نكبة (عدوة) قد وجهت مطامعها الاستعمارية شطرا آخر. وكانت
طرابلس، هي المنطقة الوحيدة التي بقيت من شمال إفريقية بعيدة عن الاحتلال الأوربي؛ وطرابلس تواجه إيطاليا في الضفة الأخرى من البحر، وفيها مناطق منبسطة شاسعة تصلح للحرث والاستعمار؛ ومنذ فاتحة هذا القرن تعمل إيطاليا لانتزاع طرابلس من قبضة تركيا الضعيفة، ولم تلق إيطاليا اعتراضا من إنكلترا أو فرنسا إذ كانتا تؤثران أن تحل في طرابلس دولة ثانوية مثل إيطاليا وتخشيان أن تحتلها منافستها القوية ألمانيا. وهكذا استطاعت إيطاليا بموافقة إنكلترا وفرنسا أن تعد عدتها لاحتلال طرابلس. وفي أواخر سنة 1911 وجهت إيطاليا إلى تركيا بلاغا نهائيا تزعم فيه أن مصالحها في طرابلس قد عبث بها، وأتبعت ذلك في الحال باحتلال ثغري طرابلس وبنغازي، وتركت تركيا كعادتها طرابلس لمصيرها، ولم يتقدم للدفاع عنها سوى حاميتها الصغيرة؛ ولكن ذمرة من الضباط البواسل بين ترك ومصريين استطاعوا أن يحشدوا رجال القبائل لقتال العدو المغير، واستطالت الحرب الطرابلسية زهاء عام (حتى أكتوبر سنة 1912) وانتصر الإيطاليون في النهاية وعقدوا الصلح مع تركيا، واعترفت تركيا بالحماية الإيطالية على طرابلس. ولكن إيطاليا اشترت ظفرها غاليا بالمال والرجال، ولم تتقدم مع ذلك كثيرا داخل طرابلس، لأن رجال القبائل واصلوا الدفاع عن وطنهم، واستمرت إيطاليا تعاني أشد المتاعب في طرابلس مدى أعوام طويلة. ولم توفق إلى إخماد القبائل إلا منذ سنة 1925، إذ جردت عليها قوى جرارة. واستعانت بأشنع وسائل الفتك الحديثة، ومع ذلك فإنها تقيم في طرابلس على بركان من الحفيظة والبغض قد ينفجر لأول فرصة
ومنذ قيام الطغيان الفاشستي في إيطاليا، تضطرم إيطاليا الفاشستية بآمال وأطماع جديدة، وتساورها حمى التوسع والفكرة الإمبراطورية. وكانت إيطاليا قد حصلت منذ سنة 1915 بمقتضى معاهدة لندن السرية على وعود من فرنسا وإنكلترا بأن تعوض عند دخولها في الحرب بمنح استعمارية في إفريقية، ولكن الحلفاء نكثوا وعودهم في مؤتمر الصلح، واكتفوا بما استولت عليه إيطاليا في أوربا من تراث النمسا. ولكن إيطاليا الفاشستية شددت في طلب الوفاء بالعهود المقطوعة، واستطاعت أن تحصل على مزايا استعمارية جديدة في إفريقية، مثل استيلائها على واحة جغبوب المصرية وواحة العوينات السودانية بفضل نفوذ إنكلترا، واستيلائها على منطقة شاسعة من السودان الفرنسي بمقتضى المعاهدة الفرنسية
الإيطالية الأخيرة. ولما اعتقد موسوليني أنه سما بإيطاليا وقواها العسكرية والمعنوية إلى أرفع مكانة، اتجه بأنظاره إلى الحبشة، ورأى أنه بغزوها واحتلالها يمحو وصمة الماضي المؤلم، ويحقق حلم إيطاليا المحطم في إنشاء إمبراطورية استعمارية كبيرة تشمل الإرترية والصومال والحبشة. وهانحن أولاء نشهد منذ أشهر قوى الفاشستية تتدفق بواسطة قناة السويس إلى شرق إفريقية، وهاهي تغزو أراضي الحبشة؛ وهكذا يزمع الاستعمار الأوربي أن ينقض على آخر وحدة مستقلة في إفريقية ليفترسها كما افترس أخواتها من قبل، وليعمم الاستعباد جميع أرجاء القارة السمراء
وليس من موضوعنا أن نتحدث هنا عن مصاير هذه الحرب الاستعمارية الجديدة، فان في الحبشة شعبا باسلا استطاع منذ فجر التاريخ أن يذود عن حرياته واستقلاله، واستطاع حتى في العصر الحديث أن يلقي على أولئك الذين يتربصون به اليوم درسا عميق الأثر، ولكنا نلاحظ بهذه المناسبة أن إيطاليا الفاشستية تذهب بعيدا في أحلامها القيصرية. أجل إن موسوليني يتشح اليوم بثياب قيصر، ويفكر على طريقة الدولة الرومانية، ويتصور أنه يستطيع بما اكتمل له من الاستعداد الحربي أن يخلق دولة القياصرة من جديد، وأن يجعل من البحر الأبيض المتوسط بحيرة رومانية، وأن يرد مصر - بعد الاستيلاء على الحبشة - إلى حظيرة الإمبراطورية الجديدة؛ ولكن موسوليني ليس بقيصر، وليست إيطاليا الفاشستية بالدولة الرومانية، وهيهات أن يسمح العالم الحديث لهذه الفاشستية المحمومة بأن تضع لمحة من أحلامها العريضة موضع التنفيذ. ولقد كانت إيطاليا منذ جيلين فقط أمة مستعبدة ممزقة تجاهد لاستقلالها ووحدتها، ولكنها اليوم، وهي حديثة عهد بنعمة الاستقلال، لا ترى بأسا من أن تجني على استقلال شعب حر باسل، لأنها فقط تحلم بافتتاحه واغتيال أرزاقه؛ ولكنا نحن الذين لا يؤمنون بعظمة الفاشستية، ولا بخلالها ووسائلها المثيرة، نتوقع أن تكون هذه المغامرة الذميمة - وقد اجترأت الفاشستية على تنفيذ مشروعها - قبر الفاشستية وقبر مطامعها وأحلامها الدموية الأثيمة
(تم البحث)
الشعر في صدر الإسلام وعهد بني أمية
بقلم أحمد حسن الزيات
3 -
خصائص الشعر في العراق
وكأن الهجاء كان في جرير غريزة يرمي الناس عنها لأدنى سبب وعلى غير معرفة، فقد دخل على الوليد بن عبد الملك وعنده عدي بن الرقاع العاملي، فقال له الخليفة: أتعرف هذا؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: هذا رجل من عاملة، قال جرير: التي يقول فيها الله: (عاملةٌ ناصبة تصلى ناراً حامية)، ثم قال بيتا قبيحا ورد عليه عدي بمثله، فهجاه جرير بقصيدة منها ذلك البيت المشهور:
وابنُ اللبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ
…
لم يستطع صولةَ البُزل القناعيس
ولعل ذلك راجع إلى ميل في طبع أمه إلى هذا الضرب من البذاء والإيذاء، فاشتهت أن تراه فيه، حتى صورت لها تلك الأمنية في الحلم، فرأت وهي حامل به أن حبلا نزل منها فصار يثب على الناس فيخنقهم واحد بعد واحد، فلما تأولت رؤياها قيل لها: إنك تلدين ولدا يكون شديدا الهجاء والبلاء على الناس والشعراء، فسمته لذلك جريرا؛ وسواء أرأت أمه هذه الرؤيا أم افتراتها، فقد كان لها ولا ريب أثر قوي في توجيه قريحته منذ طفولته
وهجاء جرير على الجملة ضعيف الفخر لبعد مستقاه فيه، وما استطاع الفرزدق أن يعجزه إلا في مشواره، فهو يقول له بحق:
غلبتك بالمفقّأ والمعّنى
…
وبيت المحتبي والخافقات
يريد بالمفقا أو المفقئ قوله:
ولست ولو فقأت عينيك واجداً
…
أباً لك إن عُد المساعي كدرام
وبالمعنى قوله:
وإنك إن تسعى لتدرك دارماً
…
لأنت المعّنى يا جرير المكلَّف
وبالمحتبى قوله:
بيتاً زؤرارة محتب بفنائه
…
ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
وبالخافقات قوله:
وأين تُقضى المالكات أمورها
…
بحق وأين الخافقات اللوامع
والفرزدق يريد بهذه الأبيات الإشارة إلى القصائد التي تضمنتها وهي من عيون شعره ومتين فخره
وضعف جرير في الفخر إنما يرجع إلى الموضوع لا إلى الأسلوب، فانه أجمل خصومه صياغة، وأوفرهم بلاغة، وأرقهم لفظا، وألطفهم مدخلا، وأكثرهم افتنانا. ولسهولة شعره وقلة غريبه نفق عند العامة الشعراء، دون الرواة والعلماء
وهجاء هؤلاء الأقران الثلاثة إذا استثنينا منه المعاني الجديدة واللهجة الشديدة والتصوير البارع، لم يخرج عن سمت الهاجئين الفحول كالمخبل الفريعي، وحسان بن ثابت، والحطيئة، في الابتداء بوصف الطلل والغزل، والاعتماد على المفاخرة والمنافرة، وتلمس العيوب من خبايا الماضي، والانتقال المقتضب من معنى إلى معنى. وأشد ما يعيب هجاء جرير والفرزدق كثرة التكرار، فأن كلا الرجلين إنما يهجو صاحبه بطائفة من الحوادث والصفات ذكرناها من قبل، فلا نراه يعدل عنها، ولا يكاد يزيد عليها، وإنما يرددها في كل قصيدة أو نقيضة في أساليب شتى وقواف مختلفة، فإذا قرأنا لكل واحد منهما واحدة منهن لا يضيرنا بعدها ألا نقرأ غيرها. كذلك إذا ألممنا بهجاء الأخطل والفرزدق وجرير فقد ألممنا بسائر الهجاء في هذا الطور، لأنه مصوغ من مادته ومضروب على مثاله
على أن أساليب شعراء العراق في الهجاء الحزبي تختلف عنها في الهجاء الفردي، فبينما هم في هذا لا يترفعون عن الهجر ولا يتورعون عن الكذب تراهم في ذلك يذهبون مذهب الجاهليين، فيفاخرون بالنسب، ويكاثرون بالعدد والمال، ويؤثرون اللفظ الشريف والأسلوب العف، بيد أنهم يغلون في الفخر حتى ليجعلونه في الدين والحكم والعلم والموطن
قال أعشى همدان وهو من أنصار ابن الأشعث:
اكسع البصري إن لاقيته
…
إنما يُكسع من قل وذل
واجعل الكوفي في الخيل ولا
…
تجعل البصري إلا في النفل
وإذا فاخرتمونا فاذكروا
…
ما فعلنا بكُم يوم الجمل
بين شيخ خاضب عثنونه
…
وفتى أبيض وضاح رِفَلْ
جاءنا يخطر في سابغة
…
فذبحناه ضحّى ذبح الحمل
وعفونا فنسيتم عفونا
…
وكفرتم نعمة الله الأجل
ومن هجائه السياسي الديني قوله مرتجزا في الحجاج:
شطتْ نوى مَن دارُهُ بالإيوان
…
إيوان كسرى ذي القزى والريحان
إن ثقيفا منهمُ الكذابان
…
كذابها الماضي وكذابٌ ثان
أمكن ربي من ثقيف همدان
…
إنا سمونا للكفور الفتان
حين طغى بالكفر بعد الأيمان
…
بالسيد الغطريف عبد الرحمن
سار بجمع كالدبى منقحطان
…
فقل لحجاج ولي الشيطان
يثبتْ لجمع مذحج وهمدان
…
فإنهم ساقوه كأس الذيفان
وملحقوه بقرى ابن مروان
وهذا النوع من الهجاء قليل النفوق والبقاء، كثير النفاق والرياء، لطمع الشعراء في حباء الخلفاء وإيثارهم في الغالب سلامة البدن على سلامة العقيدة. وليس الهجاء الحزبي إلا صورة من صور الشعر السياسي الذي نفق في هذا العصر؛ وما نزعهم بهذه التسمية أن الإسلاميين قد وقعوا على مذهب في الشعر جديد القصد والغاية، فأن مساجلة الخصوم بالشعر كانت مألوفة في عصر الجهالة مشروعة في عهد النبوة، إنما نقصد بالشعر السياسي طائفة من المعاني الجديدة استوحتها خواطر الشعراء من اختلاف الأحزاب في الرأي، وتنازع الزعماء في الحكم. جاءت هذه المعاني الجديدة على النهج القديم في صور مختلفة، نستطيع أن نردها إلى أربع: فقد أتت في صورة المدح المشوب بالتحريض والتعريض كقول أبي العباس الأعمى:
أبني أُمية لا أرى لكُم
…
شبهاً إذا ما التفَّت الشيعُ
سعة وأحلاما إذا نزعت
…
أهل الحلوم فضرَّها النزع
أبني أمية غير أنكُم،
…
والناس فيما أطعموا طمعوا،
أطمعتمو فيكم عدوكم
…
فسما بهم في ذاكم الطمع
فلو أنكم كنتم لقومكم
…
مثل الذي كانوا لكم رجعوا
عما كرهتم أو لَرَدهم
…
حذرُ العقوبة، إنها تزع
وكقول الكميت:
بني هاشم رهط النبي فأنني
…
بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
خفضت لهم مني جناحيْ مودة
…
إلى كنف عطفاه أهلٌ ومرحب
وأرمِي وأُرمي بالعداوة أهلها
…
وإني لأوذَى فيهم وأؤَنَّب
وكفة الأمويين في هذا الباب أرجح، لما تجمَّع لهم من الترغيب في المال، والترهيب بالملك، والتمليق لهوى النفوس، فمدحهم ونصرهم أكثر الشعراء في عصرهم، إما دفعا لشرهم وإما طمعا في خيرهم، حتى الذين شايعوا خصومهم من الزبيريين والعلويين لم يستطيعوا حبس لعابهم عن عطايا القصر
وقد يأتي الشعر السياسي في صورة الهجاء كما مر، وكما قال أعشى ربيعة لعبد الملك:
آل الزبير من الخلافة كالتي
…
عجل النتاج بحملها فأحالها
أو كالضعاف من الحمولة حملت
…
ما لا تطيق فضيعت أحمالها
قوموا إليهم لا تناموا عنهم
…
كم للغواة أطلتم أمهالها
إن الخلافة فيكمو لا فيهمُ
…
ما زلتمُ أركانها وثمالها
أمسوا على الخيرات قفلاً مغلقاً
…
فانهض بيمينك فافتتح أقفالها
وقد يكون اقتراحا لسياسة واستطلاعا لرأي، كقول مسكين الدارمي، وقد أوعز إليه معاوية أن يقترح البيعة من بعده لابنه يزيد ليعلم رأي قومه في ذلك:
إليك أمير المؤمنين رحلتها
…
تثير القطا ليلاً وهن هجود
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر
…
ومروان أم ماذا يقول سعيد
بني خلفاء الله مهلاً فإنما
…
يبوئها الرحمن حيث يريد
إذا المنبر الغربي خلاه ربُّه
…
فإن أمير المؤمنين يزيد
فلما أتم إنشاده قال معاوية: ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله
ومثل ذلك حدث من عبد الملك، فقد أراد أن ينقل ولايته العهد من أخيه عبد العزيز إلى أبنه الوليد، فأمر النابغة الشيباني أن يقترح ذلك في حضرة الناس فقال:
لابنك أولى بملك والده
…
ونجم من قد عصاك مُطَّرح
داودُ عدْل فاحكم بسيرته
…
ثم ابن حَرْب فأنهم نصحوا
وهم خيار فاعمل بسنتهمْ
…
واحيَ بخير واكدح كما كدحوا
فابتسم عبد الملك ولم يتكلم، فعلم الناس أن ذلك أمره
ثم يكون أحيانا جدلا في رأى أو بيانا لمذهب؛ فمن الجدل السياسي ما وقع بين كعب بن جعيل والنجاشي في المفاضلة بين علي ومعاوية. فقد قال كعب:
أرى الشام تكره ملك العرا
…
ق وأهلَ العراق لهم كارهينا
وكل لصاحبه مبغض
…
يرى كل ما كان من ذاك دينا
وقالوا عليُّ إمام لنا
…
فقلنا رضينا ابن هند رضينا
وقالوا نرى أن تدينوا لهم
…
فقلنا لهم لا نرى أن ندينا
وكلُ يسر بما عنده
…
يرى غث ما في يديه سمينا
وما في عليّ بمستعتبي
…
ينال سوى ضمه المحديثنا
وليس براض ولا ساخط
…
ولا في النهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساء ولا هو سرَّ
…
ولابد من بعد ذا أن يكونا
فلما بلغ ذلك الإمام علياً النجاشي أن يجيبه فقال:
دَعنْ معاوي ما لم يكونا
…
لقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم عليُّ بأهل العراق
…
وأهل الحجاز فما تصنعونا؟
يرون الطعان خلال العجاج
…
وضرب الفوارس في النقع دينا
همو هزموا الجمع جمع الزبير
…
وطلحة والمعشر الناكثينا
فان يكره القوم ملك العراق
…
فقِدماً رضينا الذي تكروهنا
فقالوا لكعب أخي وائل
…
ومن جعل الغث يوماً سمينا:
جعلتم علياً وأشياعه
…
نظير ابن هند ألا تستحونا؟
ومن البيان المذهبي قول كثير عزة يشرح عقيدة الشيعة في الإمامة:
ألا إن الأئمة من قريش
…
ولاةَ الحق أربعة سواء:
عليُّ والثلاثة من بنيه
…
هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبطُ سبط إيمان وبر
…
وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى
…
يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا
…
برضوى عنده عسل وماء
وكقول ثابت قطنة، وهو من شعراء الأمويين، يفصل مذهب الأرجاء:
يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا
…
أن نعبد الله لم نشرك به أحدا
نرجي الأمور إذا كانت مشبهة
…
ونصدق القول فيمن جار أو عندا
المسلمون على الإسلام كلهم
…
والمشركون استبوا في دينهم قدرا
ولا أرى أن ذنباً بالغ أحداً
…
في الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا
إلى أن قال:
كل الخوارج مخطى في مقالته
…
ولو تعبد فيما قال واجتهدا
أما عليُّ وعثمان فانهما
…
عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا
الله اعلم ما قد يحضران به
…
وكل عبد سيلقي الله منفردا
هذه جملة المعاريض التي عرضت بها المعاني السياسية، ولعلك تلاحظ من هذه الأمثلة أنها في الغالب مهلهلة النسج، نابية القافية، بادية التكلف، تشبه من بعض الوجوه نظم المتون. وعلة ذلك أن اتصالها بالوجدان ضعيف، وأن أكثرها إنما يصدر عن طبع مكره، أو شعور ممالق، أو قريحة كابية؛ والفرق بين شعر الأخطل والفرزدق وجرير، وبين شعر هؤلاء الذين ذكرنا كالفرق بين من يعبر عن شعوره وحسه، ويدافع عن قبيله ونفسه، وبين من يتصل لسانه بقلب غير قلبه، ويدفعه طمعه إلى ممالأة حزب غير حزبه
على أن من شعراء الأحزاب من قالوا الشعر عن عقائد دينية وعواطف نفسية، ونوازع عصبية، فكان لشعرهم جمال الإخلاص وروعة اليقين، وقوة الحقيقة، أولئك هم شعراء الشيعة والخوارج، فحق علينا ونحن في مقام البحث في شعر العراق أن نديم النظر ساعة في أشعارهم، لنستشف من خلالها صور مذاهبهم وأفكارهم
(يتبع)
الزيات
يوم افتتاح المدارس
صور دمشقية سوداء طبق الأصل. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
ذهبت أمس إلى المدرسة الأمينية، وهي المدرسة الإسلامية التي انحطمت على جدرانها ثمانية قرون وهي قائمة، وماتت من حولها ثمانمائة سنة وهي حية، ونشأت دول وانقرضت، وبدئت تواريخ وختمت، وتبدلت الأرض وتغيرت، وهي ماضية في سبيلها، عاكفة على عملها، قد انقطعت عن الأرض من حولها، واتصلت بالسماء من فوقها، فعاشت في سماء العلم والناس يعيشون في أرض المادة. . .
دخلتها فإذا هي صامتة ساكنة، لا يسمع في أبهائها صوت مدرس بدرس، أو دارسين بتلاوة، وإذا في كل فصل من فصولها رهط من التلاميذ، متفرقون في زوايا الفصل، لا تنفرج شفاههم عن بسمة السرور، ولا تلمع عيونهم ببريق الجذل، وإذا الأستاذ صاحب المدرسة قابع في غرفته، يفكر حزينا، وينظر آسفا؛ وهو الذي لم يأل العمل جهدا، ولم يسيء بالله ظنا؛ فلما رآني قام إلي يحدثني عن المدرسة، ويعلمني علمها، فإذا المدرسة قد زلزلت في مطلع هذا العام المدرسي، لأن الناس قد مالوا عن المدارس الإسلامية وزهدوا فيها، وزاغوا إلى المدارس الأجنبية وأقبلوا عليها، وضنوا على مدارسنا بدينار واحد في العام، ليمنحوا تلك ثلاثة أرباع الدينار في الشهر. .
وأفاض الأستاذ في البيان، حتى امتلأت نفسي حزنا، فخرجت حزينا فمررت على (الكاملية) فإذا هي في خطب أشد، ومصيبة أفدح، فجزت بـ (الجوهرية) فإذا هي ماتت بعد شيخ الشام، الشيخ عيد السفر جلال، وإذا فيها بنات يقرأن ويصحن ويلعبن، فسلكت على (التجارية) فإذا دارها الكبيرة في زقاق الفخر الرازي، خلاء قواء، وإذا هي قد انتقلت إلى الخيضرية فاتخذت فيها دارا، ورأيت (الجقمقية) القاعة التاريخية الجميلة، والمدرسة الأثرية الجليلة، فإذا هي قد اتخذت دارا. . .
فذهبت وأنا أحس الألم يقطع في كبدي، والأسى يحز في قلبي، ووددت لو أن الله قبضني إليه قبل أن أرى مدارسنا الإسلامية، لا تستطيع أن تعيش في البلد الإسلامي، ولا تجد من يشد أزرها، ويأخذ بيدها. . . وأممت شارع بغداد أروح عن نفسي بخضرة البساتين،
وجمال الكون، وانطلاق الهواء، ومنظر الجبل، فما راعني إلا أفواج من الناس قد ازدحمت على باب بناء كبير، كأنه قلعة من القلاع، أو قصر من القصور، حتى لقد كادت تسد بكثرتها الشارع العريض: ما راعني إلا الناس على باب (مدرسة اللاييك)، يتدافعون ويتزاحمون، كأنهم على باب الجنة، فكل يطمع أن يسبق إليها، وكلما فتح الباب لواحد، لحظته العيون بالغيظ، ورمقته بالحسد. . . فسألت قوما أعرفهم ينظرون كما أنظر، ماذا هناك؟ فقالوا: هم المسلمون يريدون يسلموا أبناءهم إلى رجال اللابيك ليصبوا في قلوبهم ما يشاؤون من عقائد باطلة في الدين، وعواطف زائفة في الوطنية، وزهادة في اللغة، وكره للتاريخ الإسلامي، والقومية العربية، ويدفعون إليهم الأموال الطائلة، وما يشترون بها إلا الكفر لأبنائهم، والزيغ والإلحاد، وحب الغريب، وبغض القريب، وما يشترون بها إلا أعداء لهم ولأوطانهم، يحاربونهم في دورهم، ويغزونهم في أخلاقهم وعقائدهم، وهم قد انحدروا من أصلابهم، وخرجوا من ظهورهم؛ أفرأيت بلاء أشد، وخزيا أكبر، من أن يحاربونا بأبنائنا، ويأخذوا على ذلك أموالنا؟. . .
فقلت: لا والله! وسرت، أخشى أن يتمزق والله من الألم كبدي، فمررت على (مدرسة الفرير) فإذا الجموع أكثر، والازدحام أشد، والمسلمون يرجون الخوري. . . أن ينسي أبناءهم القرآن، ليحفظهم الإنجيل، ويبغض إليهم محمدا وأبا بكر وعمر، ويحبب إليهم بطرس ولويس ونابليون. . . فسرت مسرعا، لا يطول بي وقوف فتحرقني نار الحزن، وأخذت طريقي إلى مدرستي، أسلك إليها سارع البرلمان، فإذا على باب (مدرسة الفرنسيسكان) أمام الكنيسة الفخمة، جمهور من المسلمين لا يحصيهم عد، يأخذون بأيدي بناتهم، ليدخلوهن إليها. . . فعدت أدراجي إلى شارع الصالحية فأخذت حافلة (الترامواي) إلى مدرستي في حي المهاجرين، في لحف جبل قاسيون
ولم يستقر بي في المدرسة مقام، حتى أقبل علينا شيخ من مشايخ المسلمين، على رأسه عمة بيضاء كأنها برج، وحول يده كم كأنه خرج، تتدلى منه سبحة لا يفتأ يعد حباتها ويلعب بها، وقد يخطئ مرة فيسبح عليها، يجر بيده ولدا، فخذاه مكشوفان وعلى رأسه كمة فقلت له:
- ما هذا يا شيخ؟ أعورة من أعلى، وعورة من أسفل؟
- قال: وما ذاك؟
- قلت: ألم يكفك تكشف عورته، وأنت تذكر الله، وتتلو كتابه، وتظهر منه ما أمر الله بستره، حتى تضم إلى العورة عورة أخرى تجئ فوق رأسهن فتلبسه القبعة؟
- فقال (ولوى لسانه وتفيهق وتشدق): ما هي بعورة في مذهبنا
- قلت: وما مذهبك يا مولانا؟
- قال: مذهب الإمام مالك
- قلت: ذاك لمن لا يفرق بين عورة الملتحي وعورة الأمرد، هذا الذي في مذهب مالك، لا مع مثل ابنك الذي لا تؤمن معه الفتنة
وإذا أنت فهمت مذهب مالك بهذا الفهم الأعوج، أفليس في الناس فساق، يأكلون عرض ابنك على مذهب مالك، ما دام مذهب مالك حجة يحتج بها كل ما جن وفاسق. . . رحم الله مالكا وجعل افتراءكم عليه حسنات له
وتركته وقمت إلى قسم الشهادة الابتدائية، أرى التلاميذ. . . فإذا أكثرهم لا يستر إلا نصفه الأعلى، وإذا هم متأنثون مائلون مميلون، فجعلت أسألهم من هنا وهناك، فقلت:
- ما شروط الصلاة؟ من يعرفها منكم؟
- قالوا: لا نعرفها، درس الديانة ليس من دروس الامتحان فلا نحفظه
- قلت: فماذا قرأتم في السنة الماضية؟
- قالوا: وماذا نقرأ، عندنا ساعة واحدة في الأسبوع. . .
- قلت: فلنبحث في التاريخ، من يحدثنا عن وقعة اليرموك، أو القادسية؟
- قالوا: ما قرأناها. . . نحدثك عن سيرة نابليون، ووقعة واترلو. . . هذا ما قرأناه وسنقرؤه في هذا العام. . .
وبعد. . . فهذا طرف من الحقيقة، وقليل من كثير من الواقع، نسوقه بلا تعليق!
(دمشق)
علي الطنطاوي
من تراثنا الأدبي
1 -
أبو العيناء
بقلم محمود محمود خليل
أبو العيناء ونسبه
أبو العيناء كاتب منشئ من كتاب القرن الثالث الهجري الحافل بأساطين الأدب وجلة العلماء، ولكنه كاتب ضرير البصر من العباقرة الذين سجل لهم التاريخ الذكر الحسن، أمثال أبي العلاء المعري وبشار بن برد وأضرابهما، وكأن سنة الله قد جرت في الخلق أن يقترن فقد البصر بالنبوغ غالبا والعبقرية، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وإذا كان القدر قد أتاح لشاعر المعرة فطاحل الكتاب والأدباء يدرسونه ويمحصونه، ويستخلصون فلسفته من شعره، فلا أقل من أن يدرس أبا العيناء الضرير شخص مثلي، وفي اعتقادي أن شخصية أبي العيناء جذابة فكهة كما سترى، وهي تفضل شاعر المعرة العبوس المتبرمة من هذه الناحية
يحدثنا الرواة أنا أبا العيناء اسمه أبو عبد الله محمد بن القاسم ابن خلاد بن ياسر بن سليمان، وأصل قومه من بني حنيفة من أهل اليمامة، ولحقهم سباء في خلافة المنصور العباسي، فلما صار ياسر في يد المنصور أعتقه، فهم موالي بني هاشم
مولده ونشأته
ولد أبو العيناء بالأهواز في آخر المائة الثانية للهجرة، ونشأ بالبصرة، وبها طلب الحديث وكسب الأدب؛ وكان على استعداد تام للحرص على كل ما يلقي عليه فأثمرت فيه تربيته بالبصرة الثمر الطيب، وأخرجته رجلا فذا في الحياة، مثقفا إلى درجة حسنة، ولقد هيأته تلك الثقافة إلى رواية الأخبار الطريفة، والملح اللطيفة، والأشعار الجيدة، حتى لقد بلغ الأمر أن يعرض عليه المتوكل العباسي أن يكون نديمه على شرابه، ويتمنى عليه لو يجيبه، فيمنعه عمى بصره عن الوصول إلى تلك المرتبة السنية، وإن كان قد حاز منزلة سامية من قلب المتوكل. ونرى الأصفهاني في كتابه الأغاني يجعله من رجال سنده في جملة أخبار أتى بها في كتابه، يقول في سند له: أخبرني قدامة عن أبي العيناء عن العتبي
ويمضي أبو الفرج فيروي لنا حديثا طويلا بهذا السند في أمر زواج ليلى العامرية برجل من ثقيف وشعر مجنون بني عامر حين بلغه ذلك، وسند آخر أتى به أبو الفرج. قال أخبرني محمد بن خلف، قال حدثنا أبو العيناء عن القحذمي عن أبي صالح السعدي، ثم يمضي في رواية خبر طويل يتعلق بعمر بن أبي ربيعة، وكذلك ينقل عنه الأبشيهي صاحب كتاب المستطرف، وغير هذين المؤلفين كثير، وعد المؤلفين لأبي العيناء من الرجال الذين يعتمد عليهم في رواية الأخبار والأشعار ما هيأه لذلك إلا نشأته بين أولئك الفطاحل من البصريين الذين تغذى بلب علومهم، واستصفى ثمار عقولهم
كان أبو العيناء إذا يتردد على علماء البصرة يأخذ عنهم. فهل كان في هذا الوقت أعمى أم بصيراً؟ يقول الرواة إنه ما عمى إلا بعد أربعين عاما من عمره، وهو زمن ليس بالقليل يكون أبو العيناء قد أخذ فيه بحظ وافر من متعته ببصره، والغريب في هذا حقا أن الرواة يسيطرون لنا أسطورة عن سبب عماه؛ وهي أن جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب (ض) فأساء مخاطبته. فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكل من عمى منهم فهو صحيح النسب، فهذا الخبر إن صح ينبثق منه شعاع من الحقيقة يتحكم فيه قانون الوراثة، فقد ورث عن آبائه سلاطة اللسان
قال أبو العيناء حاكيا عن نفسه: أنا أول من أظهر العقوق لوالديه بالبصرة، قال لي أبي إن الله قد قرن طاعته بطاعتي، فقال تعالى:(أن أشكر لي ولوالديك) فقلت يا أبت إن الله تعالى قد أمنني عليك ولم يأمنك علي. فقال: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم)، ولم يقف بسلاطته تلك على أهله وذويه، فان الناس كلهم كانوا يخافون معرة لسانه، والسهام التي يقذفها في كلامه، وتستطيع أن تجد له أخبارا كثيرة في كتب الأدب تؤيد ما ذهبنا إليه، فهذا موقفه مع فتى ماجن أراد العبث به مرة. فقال له يا أبا العيناء متى أسلمت؟ قال حين أسلم أهلك وأبوك الذين لم يؤدبوك. . . الخ ذلك الخبر، وموقف آخر مع عيسى بن فرخان شاه الذي يتولى الوزارة ويتيه فيها على أبي العيناء، فلما عزل لقيه أبو العيناء في الطريق فسلم عليه وأحفى فقال له: والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمد لله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة، فلقد أصابت فيك النقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك، فلقد أظهرت محاسنها
بالانصراف عنك، ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزهنا عن قول الزور فيك، فقد والله أسأت حمل النعم، وما شكرت حق المنعم
وموقف ثالث يقفه أبو العيناء مع بعض الوزراء في مجلسه إذ يمدح البرامكة ويذكر سخاءهم وجودهم فيقول الوزير إنما هذا من تصنيف الوراقين، وكذب المؤلفين، فقال أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير؟ فأسكته وعجب الحاضرون من إقدامه عليه
فهذه الأخبار وغيرها كثير تعطينا فكرة صحيحة عن سلاطة لسانه التي امتاز بها بين الأدباء المعاصرين له، حتى كان الوزراء وأرباب المناصب وغيرهم يخافونه ويتقون لسانه بل يدارونه، وتلك اللسانة كما قلت كانت موروثة عن آبائه، فقد علمنا كيف أقدم جده الأكبر على علي بن أبي طالب (ض)، وأساء مخاطبته حتى دعا عليه، وحتى أستجيبت دعوته فيه وفي أحفاده من بعده. ولكن أبا العيناء يعتذر عن بذاءة لسانه حين سأله المتوكل على الله بقوله بلغني عنك شر. فقال يا أمير المؤمنين إن يكن الشر ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله وذم، فقال في التزكية:(نعم العبد إنه أواب)، وقال في الذم:(هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم) وقال الشاعر:
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله
…
ولم اذمم الجبْس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه
…
وشقّ لي الله المسامعَ والفما
وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع السني والدنيء بطبع لا يتميز فقد صان الله عبدك عن ذلك
وفي الحق إن أبا العيناء لم يكن يسفه على أحد من الناس إلا على من يتعرض له بإساءة، فإذا تجرأ على هذا شخص فويل له من لسانه، ولقد أجاب المتوكل إذ قال له كم تمدح الناس وتذمهم فقال ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء، وغرضه بهذا أنه يعطي كل إنسان ما يستحقه من مدح أو ذم، ولقد مدح أناسا كثيرين ولكنه ذم أكثر ممن مدح، وإنا وإن كنا نعتقد أن أبا العيناء قد أسرف في الذم إسرافا كثيرا، فان من الحق علينا أن نعترف أن هناك عوامل أخرى جعلته يسرف هذا الإسراف، وسنعرف بعد ما هي هذه العوامل
(يتبع)
محمود محمود خليل
في الأدب الإنجليزي
3 -
الكائنات الغيبية في شعر شكسبير
بقلم خيري حماد
لم يحاول شكسبير إظهار شخصيته من خلال رواياته، ولكن كارليل يقول عنه:(إن روايات شكسبير هي كنوافذ متعددة يظهر من خلالها ما كان يدور في نفسه من الأفكار والخواطر). ومن كل رواية من رواياته يمكننا أن نتبين الحالة العقلية التي كان فيها لما أنشأها وكتبها. ففي هملت لم يكن تفكيره محصورا إلا في البحث في الأشباح، بينما كان في مكبث مشتغلا بالسحر والسحرة
وفي كل من روايتيه تتحقق النبوءات التي تتنبأ بها الأشباح والساحرات. ولكن هناك ثمة فرقا ضئيلا بين كل من الروايتين، وذلك الفرق هو أن نبوءات الشيخ في هملت هي من أمور الماضي بينما هي في مكبث أمور المستقبل
وقد قال جبسن عند كلامه عن العاصفة ما يؤكد هذه النظرية، فهو يقول:(هل كان في استطاعة شكسبير أن يجعل من جميع هذه النبوءات الخيالية حقائق راهنة إن لم يكن يعتقد الاعتقاد كله بهذه الأمور من عالم الخيالات والأشباح؟)
وفي رواية الملك هنري الرابع نرى هتسبر يعارض اعتقاده جلندرو أن في استطاعته أن يسخر الأرواح والشياطين في مهامه الخصوصية، فهو يتحداه بقوله:(إنك تعتقد أن في إمكانك مخاطبة الأرواح ولكن هذا في استطاعتي أنا وفي استطاعة أي رجل آخر. وقد فاتك يا هذا أنها لا تجيبنا عند ما ندعوها أو نخاطبها)
وهذا الشك لا يلبث أن يزول عندما يقدم جلندور البرهان الكافي فتخاطبه الأرواح كأنه فرد من جنسيتها؛ وهذا الاعتقاد بالخرافات كان مستوليا على شكسبير لدرجة عظيمة حتى أنه كان يضع المحبين والمجانين والشعراء في مصاف من يستطيعون الاتصال بالعالم العلوي، وفي رواية هنري السادس نراه يجمع بين ما هو في عالم العقائد وما هو في عالم الخرافة، وقد لخص عقيدته في رواية هملت إذ يقول: إن هناك في السماء أمورا عدة يا هوراثيو
مما ليس في استطاعة العالم البشري فهمها أو التفكير فيها)
أو حين يقول في رواية أخرى:
(يقولون إن زمن المعجزات قد انتهى وآن لنا أن نفكر في كياننا الفلسفي فقط فنجعل من الخرافات مسائل عصرية يقبلها العقل ويسيغها المنطق. ولما كنا نستهزئ بالمخاوف والأشباح متسترين برداء من العلم والمعرفة فعلينا ألا نكون عرضة لمخاوف غير مرئية وهذا مما لا يتأتى لنا)
إن في استطاعتنا أن نستنتج من هاتين الفقرتين السابقتين أن شكسبير كان يؤمن بالخرافات والغيبيات، فهناك عدد غير قليل من الأمور التي ليس في استطاعتنا فهمها أو التعبير عنها. فلا يمكن مثلا إنكار وجود عدد من المعجزات التي يكثر حدوثها فوق ظهر هذه البسيطة، وما العالم العلوي إلا محيط لا يمكننا حل ألغازه وتفهم معانيه. فإن من طبيعة البشر أن يكونوا خاضعين لعالم غير عالمهم يجهلونه ويخافونه، وما المحاولات التي يقوم بها العلماء لإسناد كل ظاهرة طبيعية إلى عاملها العلمي إلا محاولات خالية من الإقناع وعن طريق البرهان
قلنا إن شكسبير كان يؤمن بعدد من المخلوقات المغيبة، وقد جمعها في رواياته محاولا إظهارها بصورة رائعة من الخيال والسمو الفكري، وأولى هذه الأنواع وأهمها هي ظاهرة الجنيات
الجنيات
إن هذه الجنيات هي بقايا العبودات والآلهة المحلية التي كانت سائدة على القرى الإنكليزية في عصر من العصور، وما العقيدة الشائعة أن هذه الجنيات قد تسلسلت من الآلهة اليونانية والرومانية القديمة إلا حديث خرافة لا أصل له من الصحة والصدق. وهناك نفر غير قليل من النقاد يرجعونهن إلى أصل بشري، فما هن إلا ذرية سكان بريطانيا الأقدمين الذين طردهم الكلت عند استيلائهم على البلاد، فلم يجدن غير الغابات ملجأ يلجأن إليه ومكانا يستطعن العيش فيه مدة حياتهن القادمة، وأصبحن يعرفن فيما بعد بالجنيات
وهذه المخلوقات العجيبة كانت على أنواع عدة، فمنها ما هو أسود اللون، ومنها ما هو أخضره آو أبيضه أو رماديه، وفي كثير من الروايات يصفهن شكسبير، فهو يقول في
موضع من روايته (نساء وندسور المرحات) واصفا إياهن بقوله: إنهن سوداوات اللون أو رمادياته أو خضراوته أو بيضاوته
وكن لا يخرجن إلا في غسق الليل، فيعقدن مجالس الأنس والطرب تحت ظلال الأشجار، بينا أهل الأرض نيام. وفي (العاصفة) نرى بروسبيرو يخاطب إحدى هذه الجنيات قائلا:(ستخرجين الليلة ويصيبك فيها برد شديد، قد يؤدي إلى تشنج في أعصابك فتألمين منه أشد الألم، وستحيط بك الجنيات في الليل فينفذن فيك مالهن من قوة)
تعيش الجنيات في الحقول المغطاة بالأزهار والرياحين، أو في الأماكن الخلوية من اليابسة والماء، سيان عندهن التلال والوديان، الغابات والمروج؛ وكثيرا ما تراهن بجوار الينابيع وضفاف الأنهار؛ أو في أعماق المحيطات والبحار، وقد وصف الشاعر أحد هذه الأمكنة بقوله:(إني لأعرف شاطئا تهب عليه الرياح، وتنبت فيه أزهار الياسمين والزنبق محاطة بالورود الجميلة المنظر) أما الملكة فهي تود الاجتماع في جميع الأماكن التي اعتدن فيها اللقيا، فهي تلقي الأوامر على أفراد رعيتها قائلة:(لنلتقي على التلال أو في الوديان، بجانب الينابيع المرصوفة، وعلى شواطئ الأنهار الذهبية، أو في أعماق البحار الرملية، وهناك نحتفل برقصنا على موسيقى الرياح الهائجة)
إن أشهر أسماء هذه الجنيات التي ذكرها شكسبير في رواياته ثلاثة أولها أبيرون الذي يعتبر ملكا على هذه الطائفة من المخلوقات؛ أما تيتانيا فكثيرا ما يطلق عليها اسم الملكة ماب وهي تعتبر باعثة للأحلام كما يظهر في رواية روميو وجوليت: (أني لأعتقد أن الملكة ماب كانت معك فهي وسيطة الجنيات وملكتهن لا يزيد حجمها على حجر صغير أو إصبع من أصابع الرجال، وكثيرا ما تصبح بشكل ذرة ترتكز على أنوف الناس عند نومهم) فهي تبعث الأحلام والأخيلة اللذيذة، ولكنها لسوء حظ البشر في صراع دائم مع زوجها الملك أبيرون، ومن هذا الصراع قد يتأتى من الشرور والأضرار لبني البشر. أما آخر هذه الأسماء وهو بك فهو رسول الملك وحامل أوامره
في الفقرة السابقة رأينا الملكة ماب بحجم صغير، ومن هذا يمكننا أن نستنتج أن الجنيات ذوات حجم ضئيل، وقد وصفهن شكسبير في رواية العاصفة بقوله (حيثما تهبط النحل أهبط أنا وفي استطاعتي أن أنام دخل جرس من الأجراس فأتخلص من نعيق الغربان
والبوم). وقد يتمكن من الظهور بحجم أصغر فيختفين داخل كؤوس الشراب
ولا ينتظر من هذه المخلوقات الضئيلة إحداث أمر سيئ للبشرية لولا أنها في نزاع دائم مستمر. نعم إن صفاء نيتهن كان سببا في خلق بعض الآلام إلا أنهن كن لا يلبثن أن يزلن ما أحدثن بمهارة وروية. وكثيرا ما نراهن يتعاطين المزاح فيروعن فتيات القرية ويخفنهن فرأينا إيموجن في سمبالين تخاف هذه المخلوقات وتسأل وصيفتها أن تلازمها لتحميها منهن فهي ترجوها قائلة (أرجوك حمايتي من الجنيات ودلاج الليل)
ولكنا نراهن في الغالب يحفزهن حب الخير وعمله فيقمن بأعمال جمة لفائدة البشرية ونفعها ولا يعد روبن هود إلا فاعلا من فعلة الخير ومريده. فهو يتلقى الأوامر من مليكه ويعرضها على أفراد الشعب وهو يستمع إلى أبيرون حين يقول: (على كل جني أن يقف بالباب المعين له، وعليه أن يبارك من في الغرفة ويدعوا لهم بالسلام والطمأنينة). وكثيرا ما دعت الجنيات للأزواج الحديثي العهد بالسرور والبركة وتلقفن أطفالهم بعين الرعاية والعطف حتى يشبوا ولم يعرفوا الألم قط. وهاهو أبيرون يقول (دعنا نذهب إلى فراش كل عروس جديدة فنباركها فتلد غلاما يلازمه السرور وترعاه العناية)
(يتبع)
خيري حماد
كتب ابن المقفع
للأستاذ بشير الشريقي
1 -
أبو محمد عبد الله بن المقفع كاتب بليغ مشهور امتاز بأسلوبه الجميل السهل الرشيق، لا أعرف بين أدبائنا القدماء والمحدثين من هو أقدر منه على الكتابة والتعبير إلا عمرو بن بحر الجاحظ. كان ماهرا في تصور طبائع الناس وأهوائهم وميولهم، احتوت كتبه الحكمة والأدب والأمثال، كما احتوت قواعد عامة في الإدارة والسياسة والأخلاق
2 -
وهو فارسي الأصل اسمه في الفارسية (روزبة) ولد في (خوز) من أعمال خراسان حوالي سنة 106 هجرية. ونشأ في البصرة، وقد ظل يدين بالمجوسية دين آبائه حقبة من الزمن، ثم اعتنق الإسلام وقد بلغ السابعة والعشرين من عمره، قال الهيثم بن عدي يذكر قصة إسلامه:(جاء ابن المقفع إلى عيسى بن علي عم المنصور، فقال له: قد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يدك، فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر؛ ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يزمزم على عادة المجوس فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ قال: أكره أن أبيت على غير دين)
3 -
وكما اشتهر عبد الله أنه كاتب كبير، فقد اشتهر أنه مترجم قدير لا تلمح في ترجمته أثر العجمية، فهو أول من اعتنى في الإسلام بترجمة الكتب القيمة، ترجم كتب أرسطو الثلاثة في المنطق، ونقل كتاب (التاج في سيرة أنوشروان)، وقيل إن كتاب (كليلة ودمنة) كان باللغة الفارسية فنقله إلى اللغة العربية. قال الباقلاني:(ابن المقفع ينحط إذا كتب ويعلو إذا ترجم، لأن في الأولى عقله وفي الثانية كل العقول)
وقال الجاحظ: (كان ابن المقفع مقدما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة)
4 -
لابن المقفع من الكتب كتابا (الأدب الصغير والكبير) وكتاب (الدرة اليتيمة)، وكتاب (التاج في سيرة أنوشروان)، وكتاب (كليلة ودمنة)؛ وكتب في المنطق. وهذه الكتب منها الموضوع ومنها المنقول، فكتابا (الأدب الصغير والكبير) و (الدرة اليتيمة) من تأليف ابن المقفع؛ أما كتب المنطق وكتاب (التاج) فهي منقولة عن الفارسية التي يجيدها الكاتب إجادة عجيبة، واختلف أهل الأدب في حقيقة كتاب (كليلة ودمنة)، فمنهم من قال إن ابن المقفع
هو الذي وضعه، وأنه نحله الهند القدماء لترغيب أهل زمانه بمطالعته، ومنهم من قال إنه لم يضعه، وإنما كان باللغة الفارسية ونقله إلى العربية
5 -
وبعد فأرى أن أحداث القارئ عن أشهر كتب ابن المقفع وأكثرها متعة قيمة، وهي كتاب (الدرة اليتيمة) وكتاب (الأدب الصغير) وكتاب (كليلة ودمنة)، وسيقتصر بحثي على تعريف القارئ بهذه الكتب تعريفا إجماليا، ثم على عرض اجمل ما فيها من صور أدبية واجتماعية مع شرح موجز:
6 -
الدرة اليتيمة التي لم يصنف في فنها مثلها تقع في ثمانين صفحة، وتشتمل على فصلين كبيرين، الأول منهما خاص بعلم السياسة ويحتوي على آراء قيمة حكيمة في إدارة الحكومة، وواجبات الحاكم، وعلى وصف دقيق لما يجب أن يكون عليه الأمير من القوة والعدل، والبطش والحلم، والتثبيت والعلم؛ والثاني خاص بعلم الأخلاق، يشتمل على قواعد دقيقة في التربية والاجتماع، وعلم النفس وعلى نظرات صادقة في الناس وشؤونهم
حل ابن المقفع في (درته اليتيمة) مسألة كبيرة تلخص في كيف يتسنى للأمير أن يحفظ ملكه ويثبت سلطانه، نقول: إن هذه المسألة قد لفتت نظر كاتب فلورنسي يدعى (ميكافيللي) في القرن الخامس عشر 1469 - 1527، فوضع كتاب سماه (الأمير) شرح فيه هذه المسألة شرحا لا يكاد يختلف في أصوله ومعانيه عن شرح ابن المقفع؛ وكانت ضجة عظيمة حول الكتاب في الدوائر العلمية والسياسية الأوربية، وكان أصبح مكيافيللي بفضل كتابه الذي اعتبره الغربيون أول كتاب في العلم السياسي، من أعاظم رجال التاريخ؛ ولما كان المجال لا يسمع الكلام بإسهاب اكتفي بقولي: إن من يطلع على (الدرة اليتيمة) يرى أن ابن المقفع بحث في أصول سياسة الملك بحثا مستفيضا ممتعا، وإلى القارئ صورا من (الدرة اليتيمة):
7 -
قال ابن المقفع:
أحق الناس بالتوقير الملك الحليم العالم بالأمور وفرض الأعمال ومواضع الشدة واللين والغضب والرضاء والمعالجة والأناة الناظر في الأمر يومه وغده وعواقب أعماله
اعلم أن الملك اثنان: ملك حزم وملك هوى، أما ملك الحزم فانه يقوم به الأمر ولا يسلم من الطعن ولن يضر طعن الذليل مع حزم القوي، وأما ملك الهوى فلعب ساعة ودمار دهر لا
يضيعن الوالي التثبت عند ما يقول وعندما يعطي وعندما يفعل، فان الرجوع عن الصمت أحسن من الرجوع عن الكلام، وإن العطية بعد المنع أجمل من المنع بعد الإعطاء، وإن الإقدام على العمل بعد التأني فيه أحسن من الإمساك عند بعد الإقدام عليه؛ وكل الناس محتاج إلى التثبت، وأحوجهم إليه ملوكهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافع، وليس عليهم مستحث
إن الوالي لا علم له بالناس إلا ما قد علم قبل ولايته، فأما إذا ولي فكل الناس يلقاه بالتزين والتصنع، وكلهم يحتال لأن يثني عليه عنده بما ليس فيه
لا يمتنع الوالي وإن كان بليغ الرأي والنظر من أن ينزل عنده كثير من الأشرار بمنزلة الأخيار، وكثير من الخانة بمنزلة الأمناء، وكثير من الغدرة بمنزلة الأوفياء، ويغطى عليه أمر كثير من أهل الفضل الذين يصونون أنفسهم عن التصنع والتمحل
لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا بها، والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قبلها
احرص الحرص كله على أن تكون خبيرا بأمور عمالك فان المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك
ليعلم الوالي أن الناس يصفون الولاة بسوء العهد ونسيان الود، فليكابد نقض قولهم وليبطل عن نفسه وعن الملوك صفات السوء التي يوصفون بها
لا يولعن الوالي بسوء الظن لقول الناس، وليجعل لحسن الظن من نفسه نصيبا موفورا يروح به عن قلبه ويصدر به أعماله
من صحب السلطان لم يزل مروعا. فساد الملك أضر على الرعية من جدب الزمان
8 -
(الأدب الصغير) رسالة قيمة في علم تهذيب الأخلاق، تقع في أربعين صفحة كتبت بأسلوب جميل ساحر، أسلوب فيه حلاوة وعليه وطلاوة، أسلوب تتجلى فيه الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة والمعاني التي إذا طرقت الصدور عمرتها، وهي ممتلئة بأصدق الأنباء عن الروح الإنسانية تبرهن على مقدرة ابن المقفع العجيبة في تصوير طبائع الناس قال:
على العاقل ألا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى وأن ينزل ما أصاب من ذلك ثم
انقطع عنه منزلة ما لم يصب، وينزل ما طلب من ذلك ثم لم يدركه منزلة ما لم يطلب
وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا وإن ظن أنه على اليقين
وعلى العاقل إن اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب أن ينظر أهواهما عنده فيحذره
من نصب نفسه للناس إمام في الدين فعليه أن يبدأ في تعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والأخدان. معلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم
الناس إلا قليلا ممن عصم الله مدخولون في أمورهم، فقائلهم باغ، وسامعهم عياب، وسائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف، وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل، وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف، يترقبون الدوال، ويتعاطون القبيح، ويتعاينون بالفخر
لا يمنعك صغر شأن امرئ من اجتباء ما رأيت من رأيه صوابا، واصطفاء ما رأيت من أخلاقه كريما، فان اللؤلؤة الفائقة لا تهان لهوان غائصها الذي استخرجها
أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتي إليك
ومن روع الرجل ألا يقول ما لا يعلم، ومن الأرب أن يتثبت فيما يعلم
إقدام المرء على ما لا يدري أصواب هو أم خطأ جماح، والجماح آفة العقل
خمول الذكر أجمل من الذكر الذميم
لا يوجد الفخور محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحر حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا الشره غنيا، ولا الملول ذا إخوان
ما التبع والأعوان والصديق والحشم إلا للمال، ولا يظهر المروءة إلا المال، ولا الرأي والقوة إلا بالمال؛ ومن لا إخوان له فلا أهل له، ومن لا ولد له فلا ذكر له، ومن لا عقل له فلا دنيا ولا آخرة له، ومن لا مال له فلا شيء له. والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس، وهو مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبة للعلم والأدب، ومعدن للتهمة، ومجمعة للبلايا، ومن نزل به الفقر والفاقة لم يجد بدا من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت، ومن مقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن ذهب عقله واستنكر حفظه وفهمه، ومن أصيب في عقله وفهمه وحفظه كان أكثر قوله وعمله فيما يكون عليه لا
له
9 -
(كليلة ودمنة) كتاب بليغ يتضمن الجد والهزل، واللهو والحكمة، ألفه بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة، ونقله إلى العربية عن الترجمة الفارسية، في صدر الدولة العباسية (عبد الله ابن المقفع) رأس الكتاب، وقيل إن ابن المقفع هو الذي وضعه وأنه نحله الهند القدماء لترغيب أهل زمانه في مطالعة كتب الحكمة والفلسفة التي لم يكونوا يأبهون لها إلا إذا أسندت للقدماء، وهو موضوع على ألسن البهائم والسباع والطير ليكون ظاهره لهو للعوام وباطنه رياضة لعقول الخاصة، وهو معروف متداول فلا داعي للإفاضة في بحثه
10 -
ونتساءل: كيف كانت صورة عبد الله بن المقفع وهيئته؟ كيف كان شكله وطراز جسمه! هل كان جميلا ظريفا قويا أم على العكس قبيحا دميما ضعيفا! ماذا كان يلبس؟ هل كان يهتم بنظافة ثيابه وحسن هندامه، كيف كانت حياته الخاصة كيف كان يعيش مع نفسه وأهله وخلصائه؟ هل كان يميل إلى المرح والمداعبة والهزل؟ هل أحب ما هي قصة حبه؟ هل كان له زوجات وأولاد؟ ما درجة اتصاله بأهله وذوي قرباه؟ أي متاع الدنيا آثر عنده؟
هذه أسئلة عظيمة الفائدة المتعة لابد وأن تعرض لذهن من يود أن يعرف ابن المقفع ويفهم أدبه، ولكن أليس عجيبا إلا نستطيع أن نجيب على سؤال واحد منها وأن نكون على جهل تام بحياة أديبنا الخاصة؟
ليس الذنب في ذلك ذنبنا، وإنما هو ذنب مترجمي أدبنا القدماء فهم قل أن اهتموا أثناء ترجمتهم لأديب أو شاعر بحياته النفسية الخاصة ثم بحياة محيطه، هذه الحياة التي تكون الأديب وتطبع آثاره الأدبية بطابع الشخصية والذاتية
11 -
كل ما ذكره المترجمون عن حياة ابن المقفع الخاصة كان جملة واحدة أوردوها عرضا أثناء تحدثهم عن شعوره الديني أوردها صاحب الأغاني نقلا عن الجاحظ قال: كان ابن الحباب ومطيع بن إياس، ومنقذ بن عبد الرحمن الهلالي، وحفص بن أبي وردة، وابن المقفع، ويونس بن أبي فروة، وحماد عجرد، وعلي بن خليل، وحماد بن أبي ليلى الراوية، وابن الزبرقان، وعمارة ابن حمزة، وجميل بن محفوظ وبشار المرعش، ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر ولا يكادون يفترقون، ويهجو بعضهم بعضا هزلا وعمدا، وكلهم متهم في دينه)
نقول إن صحت رواية الجاحظ كان هؤلاء الشعراء والأدباء الذين كانوا يجتمعون على الشراب لقول الشعر ولا يكادون يفترقون هم الذين يمثلون الطبقة الخاصة من الناس التي ذكرها ابن المقفع في قوله (وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين ويلبس لهم لباسين مختلفين فطبقة من العامة يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحرز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحد من ألف كلهم ذو فضل في الرأي وثقة في المودة وأمانة في السر ووفاء بالإخاء
12 -
مات ابن المقفع باكرا، لم يمتع بالحياة؛ كان عمره ستة وثلاثين عاما يوم قتلوه؛ نعم لم يمت المسكين بل قتل حرقا بالنار. يا لهول الجريمة!!
أجمع مترجمو ابن المقفع على أن سبب مقتله كتابته أمانا لعبد الله عم المنصور قال فيه:
(. . . ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله؛ فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته)، فلما وقف عليه المنصور عظم عليه ذلك وقال: من كتب هذا، فقالوا له: رجل يقال له عبد الله بن المقفع يكتب لأعمامك؛ فكتب إلى سفيان بن معاوية بن مهلب بن أبي صفرة متولي البصرة يأمره بقتله، ذكروا أن سفيان كان شديد الحنق على ابن المقفع لأنه كان يعبث به وينال من أمه ولا يسميه إلا بابن المغتلمة)
وإنها لخسارة لا تعوض، وإنها لجريمة لا تغتفر، ورحم الله ابن المقفع
شرقي الأردن
بشير الشريقي
شاعرنا العالمي أبو العتاهية
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
فنونه الشعرية: تناول أبو العتاهية لأول أمره من فنون الشعر الغزل والمدح والرثاء والهجاء والعتاب والاستعطاف وما إلى ذلك مما كان يتناوله غيره من الشعراء، ثم استفرغ بعد ذلك جل شعره في الزهد والوعظ والحكمة والمثل، فأعطى الشعر العربي من ذلك ثروة عظيمة كانت تنقصه
فأما غزله فكان يذهب فيه مذهب الشعراء العشاق كجميل بثينة وغيره، وإن كنا قد ذكرنا في ترجمته أنه لم يكن صادق العشق مثلهم، ولكن سجيته التي كانت تنازعه من أول أمره إلى قول الزهد، لم تكن لترضى له أن يذهب في غزله مذهب فساق الشعراء كامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وغيرهما، فجاء غزله عفيفا بعيدا عن الفحش والفجور، ليس فيه إلا شكوى الصبابة وألم الصد وعذاب الفراق ونحو ذلك من وجدانات أهل العشق؛ ولعل هذا أيضا مما كان يرغب المهدي والرشيد في غزل أبي العتاهية ويجعلهما يغضبان عليه إذا أراد أن يتركه إلى الزهد، مع أنهما كانا لا ينظران إلى غزل أحد غيره بتلك العين التي نظرا بها إلى غزله، وأمر المهدي مع بشار في غزله معلوم، وكذلك أمر الرشيد مع أبي نواس؛ وقد شاع الغزل بالمذكر في عصر أبي العتاهية فصان نفسه عنه، ولم يدنس شعره به، وهذه شهادة مسلم بن الوليد في غزل أبي العتاهية. ذكر أبو الفرج أن مسلما قال: كنت مستخفا بشعر أبي العتاهية فلقيني يوما فسألني أن أصير إليه: فجاءني بلون واحد فأكلنا، وأحضرني تمرا فأكلناه، وجلسنا نتحدث، وأنشدته أشعارا في الغزل، وسألته أن ينشدني، فأنشدني قوله:
بالله يا قُرة العينين زوريني
…
قبل الممات وإلا فاستزيريني
إني لأعجب من حبٍّ يقربني
…
ممن يباعدني منه ويعصيني
أما الكثير فما أرجوه منك ولو
…
أطمعتني في قليل كان يكفيني
ثم أنشدني أيضا:
أخلايَ بي شجو وليس بكم شجو
…
وكل امرئ عن شجو صاحبه خِلْوُ
وما من محبٍّ نال ممن يحبه
…
هوّى صادقاً إلا سيدخله زهو
بليتُ وكان المزحُ بدء بليتي
…
فأحببت حقاً والبلاءُ له بدْو
وُعلِّقْتُ من يزهو على تجبراً
…
وإنيَ في كل الخصال له كُفو
رأيتُ الهوى جمر الغضا غير أنه
…
على كل حال عند صاحبه حلو
ثم أنشدني:
خليلي مالي لا تزال مضرتي
…
تكون مع الأقدار حتما من الحتم
يصاب فؤادي حين أُرمي ورميتي
…
تعود إلى نحري ويسلم من أرمي
صبرت ولا والله ما بي جلادة
…
على الصبر لكني صبرت على رغمي
ألا في سبيل الله جسمي وقوتي
…
ألا مسعد حتى أنوح على جسمي
تُعدُّ عظامي واحداَ بعد واحد
…
بمحني من العذال عظما على عظم
كفاكِ بحق الله ما قد ظلمتني
…
فهذا مقام المستجير من الظلم
قال مسلم: فقلت له لا والله يا أبا إسحاق ما يبالي من أحسن أن يقول مثل هذا الشعر ما فاته من الدنيا؛ فقال يا أبن أخي لا تقولن مثل هذا، فان الشعر أيضا من بعض مصايد الدنيا
وأما مدحه فقد كان مدحا تجاريا لم ينطق فيه عن عقيدة، بل كان يمدح به قوما يخالفونه في عقيدته الشيعية، ولا يقصد من ذلك إلا الحصول على المال الذي أباح الشيعة أخذه من المتملك لأنه حق لهم، فسار أبو العتاهية في مدحه بقدر ما يصل به إلى هذا الغرض، ولم يدخل به في الخصومة السياسية التي كانت قائمة في عصره بين العباسيين والعلويين، وذهب فيها كثير من الشعراء مذاهب باطلة، ودفعهم حب مال العباسيين إلى أن يجعلوا حقهم في ملك المسلمين بالإرث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يشاركهم فيه العلويون ولا غيرهم من المسلمين، وفي هذا يقول قائلهم:
أنَّى يكون وليس ذاك بكائن
…
لبني البنات وِراثةُ الأعمام
ولم يفرح العباسيون بشيء فرحهم بهذه الفكرة الخاطئة، فعدوها أكبر نصر لهم على خصومهم من العلويين، وأغدقوا على من أبتكرها لهم شعرا ما لا يحصى من الأموال، وحملوا الشعراء على التفنن فيها، وتصريف الشعر في تأييدها ونشرها
فلم يصل مدح أبي العتاهية للعباسيين إلى هذا الحد، ولم يبع عقيدته بأموالهم فيفضلهم على العلويين أو يذمهم من أجلهم، بل كان على حبه للمال وبخله به يعرف كيف يرفضه إذا كان
في قبوله إهانة له، أو حطا من كرامته؛ ويمكننا أن نسوق على ذلك شواهد كثيرة، ذكر أبو الفرج أن أبا العتاهية كان منقطعا إلى صالح المسكين، وهو ابن أبي جعفر المنصور، فأصاب في ناحيته مائة ألف درهم، وكان له ودودا وصديقا، فجاءه يوما وكان له في مجلسه مرتبة لا يجلس فيها غيره، فنظر إليه قد قصر به عنها، وعاوده ثانية فكانت حاله تلك، ورأى نظره إليه ثقيلا، فنهض وقال:
أراني صالحٌ بُغضَا
…
فأظهرتُ له بُغضَا
ولا والله لا ينق
…
ض إلا زدتهُ نقضَا
وإلا زدته مقتا
…
وإلا زدته رفضا
ألا يا مفسد الوُدَّ
…
وقد كان له محضا
تغضبتَ من الريح
…
فما أطلب أن ترضى
لئن كان لك المال ال
…
مصّفى إن لي عِرْضا
فنمى الكلام إلى صالح فنادى بعداوته فقال فيه:
مَدَدتُ لمعرض حبلا طويلا
…
كأطول ما يكون من الحبال
حبالٌ بالصريمة ليس تفنى
…
موَصَّلةٌ على عدد الرمال
فلا تنظرْ إليَّ ولا ترِدْني
…
ولا تَقَربْ حبالكَ من حبالي
فليت الرّدمَ من يأجوج بيني
…
وبينك مُثبتاً أخرى الليالي
فَكرْشٌ إن أردتَ لنا كلاما
…
ونقطع قحفَ رأسك بالقتال
وذكر أيضا أنه قدم يوما منزل يحي بن خاقان، فلما قام بادر له الحاجب فانصرف، وأتاه يوما آخر فصادفه حين نزل فسلم عليه ودخل إلى منزله ولم يأذن له، فأخذ قرطاسا وكتب إليه:
أراك ترَاعُ حين ترى خيالي
…
فما هذا يرُوعكَ من خيالي
لعلك خائف مني سؤالي
…
ألا فلك الأمانُ من السؤال
كفيتُكَ إن حالك لم تمِل بي
…
لأطلب مثلها بدَلا بحالي
وإن اليسر مثل العسر عندي
…
بأيهما مُنيتُ فلا أُبالي
ولا شك أن هذه النفس في إبائها وعقيدتها المخالفة لعقيدة ممدوحيها لو كانت لغير أبي
العتاهية لصعب عليها في الشعر مقام المدح، ولكن طبع أبي العتاهية في الشعر سهل عليه كل شيء، وجعله يأتي في ذلك من المدح بما أرضى ممدوحيه غاية الرضى، وكان على ما ذكرنا في ترجمته يقصر التشبيب أمام المدح ولا يطوله حتى يكون كأنه هو مقصوده من شعره، كما كان يفعل ذلك غيره
وكان ابن الإعرابي يتعصب لأبي العتاهية فتنقصه رجل أمامه ورمى شعره بالضعف، فقال له: الضعيف والله عقلك لا شعر أبي العتاهية، ألأبي العتاهية تقول إنه ضعيف الشعر؟ فوالله ما رأيت شاعرا قط أطبع ولا أقدر على بيت منه، وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر؛ ثم أنشده قصيدته في الزهد:
قَطَّعْتُ منك حبائل الآمال
…
وحَطَطْتُ عن ظهر المطيَّ رحالي
ثم قال للرجل هل تعرف أحدا يحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟ فقال له الرجل: يا أبا عبد الله جعلني الله فداءك، إني لم أردد عليك ما قلت، ولكن الزهد مذهب أبي العتاهية، وشعره في المديح ليس كشعره في الزهد، فقال: أفليس الذي يقول في المديح:
وهرونُ ماء المُزْنِ يُشفي به الصَّدى
…
إذا ما الصدِى بالريق غُصَّت حَناجرُه
وأوْسط بيتٍ في قريش لَبَيتُه
…
وأول عز في قريش وآخره
وَزحْفٌ له تحكى البُرُوقَ سيوفُهُ
…
وتحكي الرعودَ القاصفات حوافره
إذا حَمِيَتْ شمسُ النهار تضاحكت
…
إلى الشمس فيه بِيضُهُ ومَغافره
إذا نكِب الإسلام يوماً بنكبة
…
فهرون من بين البرية ثائره
ومن ذا يفوت الموتَ والموتُ مُدْركٌ
…
كذا لم يَفُتْ هرونَ ضِدٌّ ينافره
قال: فتخلص الرجل من شر ابن الإعرابي بأن قال له: القول ما قلت، وما كنت سمعت له مثل هذين الشعرين، وكتبهما عنه:
وأما رثاؤه فكان يذهب فيه مذهبه في الزهد والحكمة، لقرب مقامه من مقامهما، ومن ذلك رثاؤه في علي بن ثابت، وكان صديقا له، وبينهما مجاوبات كثيرة في الزهد والحكمة، فحضره أبو العتاهية وهو يجود بنفسه، فلم يزل ملتزمه حتى فاض، فلما شُدَّ لحياه بكى طويلا، ثم أنشد يقول:
يا شريكي في الخير قَرَّبكَ الل
…
هُ فنعم الشريك في الخير كُنتا
قد لعمري حكيت لي غُصص المو
…
ت فحركتني لها وسكنتا
ولما دفن وقف على قبره يبكي طويلا أحر بكاء ويردد هذه الأبيات:
ألا من لي بأنسك يا أُخيَّا
…
ومن لي أن أبثك ما لَدَيَّا
طَوَتْكَ خطوبُ دهرك بعد نشر
…
كذاك خطوبه نشراً وَطَيَّا
فلو نَشَرَتْ قُواكَ لي المنايا
…
شكوتُ إليك ما صنعت إليَّا
بكيتك ياعَليُّ بدمع عيني
…
فما أغنى البكاءُ عليك شَيَّا
وكانت في حياتك لي عظاتٌ
…
فأنت اليوم أوعظ منك حيَّا
وهذه المعاني كما قال أبو الفرج أخذها كلها من كلام الفلاسفة لما حضروا الإسكندرية، وقد أخرج ليدفن، قال بعضهم: كان الملك أمس أهيب من اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس؛ وقال آخر: سكنت حركة الملك في لذاته، وقد حركنا اليوم في سكونه جزعا لفقده. وهذان المعنيان هما اللذان ذكرهما أبو العتاهية في هذه الأشعار
وذكر أبو العتاهية أنه ماتت بنت للمهدي، فحزن عليها حزنا شديدا حتى أمتنع عن الطعام والشراب، فقلت أبياتا أعزيه بها، فوافيته، وقد سلا وضحك وأكل وهو يقول: لابد من الصبر على ما لابد منه، ولئن سلونا عمن فقدنا، ليسلون عنا من يفقدنا، وما يأتي الليل والنهار على شيء إلا أبلياه، فاستأذنته في إنشاد ما قلت فأذن:
ما للجديدين لا يَبْلىَ اختلافهما
…
وكل غَضٍّ جديد فيهما بَالي
يا من سلا عن حبيب بعد مَيْتَتِهِ
…
كمْ بعد موتك أيضاً عنك مِن سال
كأن كلّ نعيم أنت ذائقُهُ
…
مِن لذة العيش يحكي لَمعَة الآل
لا تلعبنَّ بك الدنيا وأنت ترى
…
ما شئتَ من عبرٍ فيها وأمثال
ما حيلةُ الموت إلا كلُّ صالحةٍ
…
أوْلا فما حيلةٌ فيه لمحتال
وأما الهجاء فكان أبو العتاهية يترفع عنه ولا يقوله إلا مضطرا، فإذا قاله لم يفحش فيه كغيره، وكانت بينه وبين والبة بن الحباب مهاجاة حينما قصد والبة بغداد وهو كوفي مثله، فحسده على أن بلغ في بغداد ما لم يبلغه، وأخذ يهجوه ويذمه. وقد حدّث محمد ابن عمر الجرجاني قال: رأيت أبا العتاهية جاء إلى أبي فقال له: أن والبة بن الحباب قد هجاني، ومن أنا منه؟ أنا جرار مسكين - وجعل يرفع من والبة ويضع من نفسه - فأحب أن تكلمه
أن يمسك عني، فكلم أبي والبة فلم يقبل، وجعل يشتم أبا العتاهية فتركه، ثم جاءه أبو العتاهية فسأله عما فعل في حاجته، فأخبره بما رد عليه والبة، فقال لأبي لي الآن عليك حاجة، قال وماهي؟ قال لا تكلمني في أمره، فقال هذا أول ما يجب لك، فقال أو العتاهية يهجوه:
أوالبُ أنت في العرب
…
كمثل الشيص في الرُّطب
هَلمّ إلى الموالي الصِّ
…
يد في سَعةٍ وفي رَحب
فأنت بنا لَعمرُ الل
…
هـ أشبهُ منك بالعرب
غضبتُ عليك ثم رأي
…
تُ وجهك فانجلى غضبي
لِما ذكَّرْتني من لو
…
نِ أجدادي ولون أبي
فقل ما شئت أقبَلهُ
…
وإن أطنبتَ في الكذب
لقد أُخبرْتُ عنك وعن
…
أبيك الخالص العرب
فقال العارفون به
…
مُصاصٌ غيرُ مؤتَشب
أتانا من بلاد الرو
…
م مُعتجِراً على قَتب
خفيف الحاذِ كالصمصا
…
م أطلسُ غير ذي نشب
أوَالب ما دهاك وأن
…
ت في الأعراب ذو نسب
أراك وُلِدْتَ بالمري
…
خ يا ابن سبائك الذهب
فجئتَ أَقيشرَ الخدين
…
أزرق عارمَ الذنب
لقد أخطأتَ في شتمي
…
فَخبَّرني ألم اُصِب
وقال فيه أيضا غير ذلك، فبلغ والبة، فجاء أبي فقال قد كلمتني في أبي العتاهية وقد رغبت في الصلح، فأخبره بما أخذه أبو العتاهية عليه، فقال له والبة فما الرأي عندك؟ قال تنحدر إلى الكوفة، فركب زورقا ومضى من بغداد إلى الكوفة، وكان هجاء والبة فيه ضعيفا سخيفا لا يقوى على هذا الهجاء، وفيه من الفحش ما نروى بعضه ليعلم بعد ما بين الهجائين:
قل لابن بائعة القِصارِ
…
وابن الدَّوارِق والجِرَارِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
تهجو مواليك الأولى
…
فكوككَ من ذُلَّ الاسار
هذا مثل من هجوه وإن الشعر لأعلى مقاما من هذا القبح الذي أتى به، وإنه لينال من نفسه بذلك قبل أن ينال ممن يهاجيه
عبد المتعال الصعيدي
أمام المشنقة
(على لسان أحد الشبان المحكوم عليهم بالشنق لجريمة أتاها)
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
قسا عليّ الفلكُ
…
بعد قليلٍ أهلكُ
ما باختياري في شبا
…
بي للحياة أترك
أين مضت صحابتي
…
وايَّةً قد سلكوا
مَن ذا إذا متُّ سَيَبْ
…
كيني ومَن ذا يضحك
قد نصبوا لي شركا
…
فما عداني الشرك
ما بال شمسي أخذت
…
عند الشروق تَدْلك
قد استوى ضوء الضحى
…
في أعيني والحلَك
لم أجْنِ لو كانت يدُ ال
…
مقدور لا تشترك
بالدم قد خضَّب كفّ
…
ي القدَرُ المُحَرِّك
قد أفرحَ النُظَّارَ بي
…
أنَّ دمي ينسفك
ازدحموا حولي ولِلْ
…
أنفاس منهم أمسكوا
ليبصروا كيف حيا
…
تي حبلُها ينبتك
ما هي إلاَّ رجفةٌ
…
وبعدها لا أحرك
أفي قلوبهم عليّ
…
عند موتي حَسَك
إنيَ إنسانٌ له
…
أخطاؤه لا مَلَك
كم ليَ من مثل لو أنّ (م)
…
سرّه ينهتك
خذوا حياتي إنها
…
أثمنُ ما أمتلك
لا تحبسوا الرحمة عمَّ
…
ن قد قضوا أو أوشكوا
ولو تجسّم الأسى
…
لكان دمعاً يُسفَك
كل البقاع للحيا
…
ة فوقها مُعَتَرك
أمَّا الحياة فهي إن
…
وَلّت فلا تُستَدرك
والموتُ بالإنسان إلاَّ
…
مرّةً لا يفتك
إذا أتت ساعته
…
فكلُّ شيء مُهلك
تعقده الحياة وال
…
موت له يُفكّك
قد يُدفَن المرءُ على
…
أخيه ثم يُترَك
بعد البِلى تَعانَقُ ال
…
عظامُ أو تشتبك
إن البلى لكل مَن
…
حواه قبرٌ يعرك
نهارُه وليلُه
…
كلاهما مُحلولِك
مشنقتي هي التي
…
أودّها وأفرك
وعلَّني إذا ركب
…
تُها فلا أرتبك
فأعتلي كأنني
…
أدركتُ مالا يُدرَك
إني سلكتُ مسلكا
…
صعباً وبئس المسلك
والحقُّ خير ما يقو
…
ل المرء حين يهلك
هذا جزاء مجرمً
…
بالأبرياء يفتك
بغداد
جميل صدقي الزهاوي
سر الحياة
للأستاذ عبد الرحمن شكري
عبء لغز الحياة يا قلب ما أف
…
دح عبئاً يُحثَي عليك وثقلا
لغز عيشٍ ولغز عقل وما أع
…
جب لغزاً يروم للغزِ حلا
كلما رمتَ بالمجاهل خُبْراً
…
زادك العيش بالمعالم جهلا
عَبَثُ العيشِ كلما قال لا سِ
…
رَّ أعدتَ السؤال جداً وهزلا
قد خبرتَ الأنامَ يا قلب هل تن
…
شد سراً من بعد ذاك وسُؤلا
وحياة بالسر أحجى حياة
…
هي أحلى مما تراه وأعلى
خُدْعَةُ العيشِ أن يُلوِّحَ بالس
…
ر إذا عاف عائشوه ومُلاَّ
فتزيد الحياةُ حسناً ومأمو
…
لاً وتغوي الحياة نشأً وكهلا
مثلما حُجِّبتْ فتاة لِيُرْجَى
…
سر حسن لها استسر وقَلاَّ
لو بدت عاطلاً لما خبلت لُ
…
باَّ ولا استبعدت عشيقاً وخِلاَّ
كم سعيد يلهو ويعمل لا ين
…
قض فعلاً وليس ينكر قولا
وعلى غدرها أحب حياة
…
وحباها في الحب أهلاً ونسلا
عاشقاً للحياة بعضاً وكلا
…
راضياً بالحياة فرعاً وأصلا
فإذا شاكه من العيش هَمٌّ
…
قال قولاً ورام للغز حَلاً
عبء لغز الحياة يا قلب ما أف
…
دح عبثاً يحُثَي عليك وثقلا
سِرُّها أنك السعيد إذا لم
…
تَدْرِ أن لا سراً لديها فيُجْلَى
ضلةٌ ما أقول كم لاح من كَشْ
…
فٍ وقد كان خافيَ السر قبلا
ولعل الحياة أكبر لولا
…
مُعْظِمٌ للحياة غالي وأغلى
فهي من فرط رَفْعه في انخفاض
…
تلك عُليا إن يُعِلها فَهْيَ سُفلى
باء باليأس من عُلاها وقد غا
…
لى فقال الحياة بالحط أولى
ويعيد الحياة فرضاً وحسناً
…
ومتاعاً من يأخذ العيش سهلا
عبد الرحمن شكري
يا كون!
للأستاذ فخري أبو السعود
يا كَونُ كُنْ لي جميلاً
…
على الدوام جديدا
أَبغِي لديك طريفاً
…
إذا هجرتُ تليدا
لا تَبْلَ، لا تَغْدُ شيئاً
…
أَلِفتُهُ معهودا
بل اُبدُ دوماً عجاباً
…
مُستَطرَفاً منشودا
لا تَبدُ فرداً ولكن
…
كُنْ أنتَ جمًّا عديدا
جَدِّد لحسنك هذا
…
بعد البرُود بُرُودا
ولا تضِقْ بيَ أُفقاً
…
ولا تَدانَ حدودا
لا زال أُفقُك لي يا
…
كَوني رحيباً بعيدا
أَشيم في كل يومٍ
…
مرمىً به مقصودا
لا تبدُ يوماً فراغاً
…
لا تبدُ يوماً زهيدا
لِتَبقَ حَفلاً نفيساً
…
أُريغ منك المزيدا
جدِّد صُرُفَك وابعث
…
بعد النحوس سعودا
ابعث أسًى أو سروراً
…
لكن حذارِ الجمودا
أُريد يا كونُ عمراً
…
في كل يومٍ مديدا
من عاش في كل يوم
…
عمراً أصابَ الخلودا
لا أبتغي العمرَ يوماً
…
مُرَجَّعاً مردودا
أُريدُ في كل يوم
…
أَرودُ هذا الوجودا
في كل يوم أراني
…
في عالمٍ مولودا
أُريد أكشفُ معنًى
…
في كل يومٍ شرودا
منه أُغذِّي شعوري
…
وأستجِدُّ قصيدا
فخري أبو السعود
عرش الجمال
(إلى مس مصر، ملكة الجمال العالمي)
للأستاذ محمود غنيم
يا ربَّةَ المُلك الذي انتظم الورَى
…
مُلكُ البسيطة ما أتيح لقيصرا
خضعت لحكمك دولةٌ عزَّة على
…
(دَارَا) وأعيا عرشُها (الاسكندرا)
لكِ دولةٌ لم ترهفي من أجلها
…
حدَّ الحسام ولم تقودي عسكرا
لِتُودِّع الأُسدُ الغضابُ عروشَها
…
قد أصبح المَلِكُ المتَّوجُ جؤذَرا
من كان يمتلكُ الرقابَ فإنما
…
عرشُ الجمال على القلوب تسيطرا
كم عاهل ذي سطوة لم يفتتحْ
…
قلباً وإن فتح المدائنَ والقُرى
مُلْكُ الفراعِنة الشِّدادِ أعدْتِهِ
…
بيدٍ مخضَّبةٍ وطرفٍ أَحوَرا
ما للمها في مصرَ تحكُم عالماً
…
والليثُ يعَجزُ أَنْ يعيش محَّررا
ملكتْ يمينُك كلَّ صدرٍ ناهدٍ
…
وأطاع أمرَك كلُّ خدٍّ أحمرا
كم كاعبٍ ملكت قلوباً أصبحت
…
أَمَةً تُباع إذا أرَدْتِ وتُشترى
كم تحت حكمِكِ ذاتُ لَحْظٍ إن رنا
…
تَرَكَ المهنَّد لا يساوي خِنجرا
جُنْدٌ أغرُّ من الحسان الحور لو
…
لاقيتِ أسطولاً به لتقهقرا
أقسمت ما بين الملوك أعزُّ مِنْ
…
مَلِكِ على عرش الملاح تَأَمَّرا
كوم حماده
محمود غنيم
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
24 -
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
الناحية السلبية من مذهب نيتشه
الإنسان
للأستاذ خليل هنداوي
إن انتشار مذهب الشفقة - في هذا الجيل - دليل على أن الإنسان أصبح يزداد خوفه من الألم. أصبح متراخيا، مخنثا يخشى من كل ما يعكر عليه طمأنينته ووجوده، لا يحمل الفرار من الألم وحده، بل لا يستطيع أن يتصور فكرة الألم عند الآخرين، حتى لا يقدر أن يؤلم الغير عندما يطلب العدل منه ذلك باسم العدل. الرحيم يبسط شفقته حتى على المجرمين والمسيئين (وقريبا يأتي ذلك اليوم الذي يتراخى فيه المجتمع الإنساني ويقعد عن معاقبة المجرم الذي يضره. لماذا يعاقب المجرم؟ إن المعاقبة يرى فيها ضربا من ضروب الجور. فكرة القصاص وضرورة القصاص تسوؤه. أليس في إقصاء المجرم وغل يديه عن عمل السوء ما يغني؟ فلماذا القصاص إذن؟ إن القصاص يضني. أما المثل الأعلى الذي يطلبه (وحش القطيع) فهو جزء ضئيل من السعادة المحققة لكل إنسان، يرافقه شيء ضئيل من الألم. إن الشقاء - عندهم - شيء يجب محقه
إن نيتشه - في هذا الفصل وهو خير فصوله - يعتقد أن الجبن والخوف من الألم هما من الصغار والحقار بمكان، إن الألم هو في الحق معلم الإنسانية وهو الذي يحقق أحسن نماذج شريفة. (أنتم تريدون سحق الألم ونحن نريد أن تكون الحياة أكثر قسوة وأشد رداءة. إن الكائن السامي الذي تفهمونه، نرى فيه (غاية) ولا نرى فيه (نهاية). نرى فيه مرحلة يبدو الإنسان من ورائها شيئا حقيرا مزريا حتى يدرك آخر عهده، بلى! في مدرسة الألم الكبير، في مدرسة هذا المعلم القاسي يتم الإنسان مراحل تطوره، أليس التضييق على هذه النفس الساقطة تحت أعباء الشقاء يزيدها قوة وصلابة! أليست هذه الرجفة التي تنتابها بازاء الحادثات الكبرى تزيد قوة احتمالها وصبرها وثباتها وتحويل المصائب إلى دروس مفيدة. كل هذا ألم يؤول بالنفس - في مدرسة الألم - إلى خروجها مهذبة نقية؟ إن في الإنسان
(خليقة وخالقا) في الإنسان شيء هو مادة وطين ووحل، لا شعور له، فضاء، وفي الإنسان شيء هو خالق مبدع، ونقاش، بهجة فنان وصلابة ومطرقة، أأدركتم هذه المقارنة؟ ألا تزال شفقتكم تذهب إلى ما في الإنسان من مادة ينبغي سحقه وحرقه في النار حتى يتطهر، وإلى كل ما يجب عليه أن يتألم بالضرورة؟
وشفقتنا هل تدرون موقعها! إنها شفقة علينا حين نقاتل شفقتكم كما نقاتل كل ظاهرة من ظواهر الضعف والجبن، وهكذا: شفقة ضد شفقة
ويرى نيتشه أن المذهب الديموقراطي علامة من علامات الانحطاط، لأنه مهما تباعدت أصوله وتبدلت مناهجه متفق مع المذهب الديني، ففي الشريعة المسيحية وفي ديانة الألم الإنساني يتمثل ما يتمثل في مذهب المساواة. . . مقت الضعيف للقوي، وجنوح قوى إلى حياة لا ألم فيها. إن المسيحية تجعل الناس متساوين أكفاء أمام الله، وتعدعهم في بسعادة كاملة في الحياة الثانية، كذلك الديموقراطية جعلت الناس متساوين أكفاء أمام الشريعة والحق، وعملت على تحقيق سعادتهم في هذه الدار، ورجت أن تخلق مجتمعا يموت فيه التفاوت ويكون أهله في الحق سواء؛ لا يتمتع أحدهم بما لا يتمتع به آخر. حيث لا أمر ولا طاعة، ولا استبداد ولا استئثار، ولا سيادة ولا عبودية، ولا غنى ولا فقر
هذا هو المثل الذي تنهض إليه الديموقراطية، ويدعو إليه أصحابها على اختلاف مللهم ونحلهم. . . كلهم يعملون على رفض كل سلطة ذاتية، ليملكوا لأنفسهم كل امتياز. وكلهم يؤمنون بأن كل فرد يقدر بل ينبغي له أن يجد سعادته الخاصة في سعادة المجتمع بأسره، وهذه السعادة الاجتماعية يمكن تحقيقها بإشفاق كل فرد على المجتمع، وبالمحبة العامة السائدة. هذه الأفكار غرست في عقول أبناء الحاضر غرسا متينا، حتى أصبح لا يقوم - في أوربا - رجال تقوى فيهم روح السلطة والزعامة. ولن تجد في عصرنا هذا من يمثل روح نابليون الذي كان ينضوي تحت لوائه الألوف، يمشي فيمشون لا يسألونه أين يمشي، وهؤلاء من بأيديهم الحكومة اليوم لا يملكون من الحكم إلا قليلا، لأن شريعة العبيد رافعة رأسها في كل مكان، فهم يستمدون الحكم من هذه الشريعة، لا يحيدون عنها ولا يجدون عنها مصرفا، فهم خادمو هذا البلد، هم الجلادون فيه، وهم منفذو القانون
وقد بحث نيتشه علاقة الرجل والمرأة، وهو يرى أن المرأة ليس لها حق المساواة مع
الرجل، دل على ذلك الحب الذي تنغمس في حمأته الكائنات. فوظيفة الحب - عند الرجل - غيرها - عند المرأة، ومكانة الحب عند المرأة غيرها عند الرجل. فالحب عند الرجل إن هو إلا حادث بسيط أو غريزة ضعيفة. أما الغريزة العنيفة فيه فهي غريزة القوة، هذه الغريزة التي تدفعه إلى بسط سلطانه إلى أقصى ما يقدر عليه. إن مناضلة القوى الطبيعية والقوى البشرية في سبيل تحقيق شخصيته هي ما يتطلب منه عصره وجهوده. فإذا أسلم نفسه إلى الحب، ووهب حياته وأفكاره للمرأة التي يهواها يصبح عبدا مقهورا وجبانا ذليلا، تسلخ عنه الرجولة الحقة والحب الحق
يقول زرادشت (كل ما في حياة المرأة هو لغز، وكل ما في المرأة له حل واحد وهو التوليد) فالحب إذن هو أبرز ما في حياة المرأة، وإنما مجدها وشرفها يدفعانها إلى أن تمثل دور (الأولى) في الحب، وأن تهب كيانها كله جسدا وروحا للرجل الذي تصطفيه، وأن تفتش عن سعادتها في الانسلاخ عن أرادتها الخاصة. يقول زرادشت: إن سعادة الرجل (أنا أريد) وسعادة المرأة (هو يريد!) إن المرأة التي تحب ينبغي لها أن تسلم نفسها إلى الرجل الذي يجب عليه أن يتقبل هذه المنحة. . . هذه هي شريعة الحب التي تجعل بين الرجل والمرأة حاجزا حائلا وفرقا بعيدا. خلقت المرأة للحب والطاعة، وويل لها إذا سئم الرجل من ظفره عليها وألفى أن هذه المنحة حقيرة بالنسبة إليه، وركض يسعى وراء غرام جديد. ينبغي للرجل أن يحكم وأن يحرس. يجب عليه أن يكون قادرا على أن يحيا حياتين، ليحقق سعادته لنفسه، وسعادة من وقفت عليه رجاءها. ولكن تعسا له إذا ضل تحت أثقال هذا العمل، وإذا أدرك حبه وعجز عن إضرام نار هذا الحب، فإن هذا الحب ليحور بغضا، وتنقلب المرأة به عليه، حتى لا ترى فيه إلا موضع ازدراء واحتقار
ولكن جيلنا هذا لن يقبل هذه الآراء. . . فالجيل الذي قدس العبد يجرب أن يؤله المرأة. . . لا يرى في المرأة عنصرا ساميا يستطيع أن يساعد الإنسانية في تقدمها. الرجل وحده يتعلق عليه ذلك لأنه السيد، وهو سيد ذو القوة الراجحة والعقل الأرجح والقلب الأمثل والإرادة الأشد نفاذا. والمرأة قد تكون نبيهة، ذكية تضارع الرجل نباهة وذكاء، تتفهم المسائل وتفصل أمهات الأمور الدقيقة وتحاكم وتجادل ولكن طبيعتها أقل عمقا وأقل غنى من طبيعة الرجل. إنها تبقى دائما طافية على سطوح الأشياء. إنها شيء لا يذكر. . . إنها
مسكينة مزهوة بنفسها
يقول زرداشت (يعلم الرجل للحرب، والمرأة لتسلية المحارب. . . وما دون ذلك فهو جنون) ليست المرأة صنما وإنما هي لعبة سريعة العطب لكنها ثمينة وقد تكون خطرة. هي رقة في طبع الرجل. تغدو خطرة مرعبة حين يضرمها الهوى والحب والبغض، لأن طبيعتها لا تزال أكثر احتواء من طبيعة الرجل على وحشية الغرائز الأولى. ففيها رقة ملمس الهرة وفظاعة مخالب النمرة، فيها طبيعة نابية ثائرة، وأهواء جامحة لا تعرف منطقا، ورغاب قلقة. . . وكل هذا يجعل المرأة فقيرة إلى سيد يكبح جماحها ويقودها ويميت فيها جنونها، حتى إذا استشعرت الوجل أمست رقيقة ناعمة بفضل طبيعتها وزينتها وتبرجها وفضيلتها اللابسة ألف ثوب. فيعرو - إذ ذاك - قلب سيدها الإشفاق عليها، الإشفاق الكثير لأنها أكثر عرضة للألم. إنها مفتقرة إلى حبه، وقد قضى عليها بأن تكون أقل الخلائق وهما
أن نيتشه ينقم على المرأة التي تريد أن تتحرر من قيودها، وتهجر احترامها للرجل وتزعم بأنها قرينة مساوية، تريد أن تدخل معه فيما تطلب الحياة من نضال. أن نيتشه يبغض النساء اللواتي يمشين في صفوف الرجال، لأنهن يفقدن تأثيرهن ونفوذهن واعتبار المجتمع لهن. وإنما همهن أن يظهرن للرجال بطبيعة مباينة لطبيعتهم وجبلة مخالفة لجبلتهم، يصعب فهمها ويعسر حكمها. وهاهي المرأة المزاحمة للرجل أضاعت ما خصتها الطبيعة به وأهملت مهنتها التي تقضي عليها بوضع الأطفال
وفي النهاية يرى نيتشه أن أوروبا تتشوه وتزداد تشققا، قد استحالت إلى معتزل تسكنه طائفة من الناس توقوق - لا أحزان كبيرة ولا أفراح كبيرة - طائفة من رجال ونسوة تساووا في العجز والضعف والانحطاط، يقضون على الأرض حياة متشحة بالسواد، لا أمل فها ولا غاية لها.
(يتبع)
خليل هنداوي
القصص
صور من هوميروس
9 -
حروب طروادة
فتنة. . .
للأستاذ دريني خشبة
انتظرت ذيتيس - أم أخيل، وحبيبة زيوس من قبل - حتى عاد الإله الأكبر من حفل أولمبي دعي إليه حينما شبت السخيمة بين أجاممنون وبين ابنها، فأسرعت إليه لتكلمه في الإهانة التي لحقت أخيل العظيم، وأزرت بكبريائه، كسيد جنود هيلاس. . . . .
عجلت ذيتيس إلى زيوس. . . . .
وكانت ذكريات غرام الإله الأكبر ما تزال تتدفق في قلبه؛ وكان رنين القبل فوق شفتيه القرمزيتين ما يزال تتجاوب أصداؤه الموسيقية على شفتيه المنهومتين الملتهبتين؛ وكان هذا الجمال الفتي ما يزال له رجع في كل جوارحه. . . وجوانحه. . .
وقفت أمام زيوس!. . . .
وكأن حلما لذيذا طوف بعينيه، فرأى إلى قصة حبه تتمثل بكل ماضيها الحافل أمامه؛ ورأى إلى هذه الأويقات الحلوة التي التذ فيها فتنة ذيتيس تثب فجأة من الأيام الخوالي فتغمره بسحرها وأسرها؛ ورأى إلى ذراعيه المرتجفتين ملتفتين حول خصرها النحيل، وطرفه الساهم الباكي يجول في طرفها الناعس الكحيل، ورأى إلى هذا المرمر الطروب المنصب في تمثالها يكاد يكلمه. . . فيروي له من أخبار العناق، وسكرات الهوى ما يفيض له دمعه، ويجب قلبه، وترتعد من ذكره فرائصه. . . .
- (ذيتيس؟!. . . . . .)
- (. . .؟؟. . .)
- (مالك؟. . . تبكين!. . . .)
- (. . . .!!. . . .)
- (لا. . . لا. . . إلي يا حبيبتي!)
وكانت كلما ألحت في الصمت والبكاء، ألح هو في التلطف والرجاء، وكانت ذيتيس تدرك ما أثارته في قلبه من غرامه القديم، فدلت وتاهت، حتى أيقنت أنه منقاد لما تطلب، ولو كلفته بهدم الأولمب، وثل عروش السماء!
- (أ. . . . أخيل. . . .!)
- (أخيل؟. . . ماله؟. . .)
- (ما كفاني أن يذهب ليلقى حتفه تحت أسوار طروادة، حتى يهينه أجاممنون!)
- (يهينه أجاممنون؟ يهينه كيف؟. . .)
- (أغضب قديس أبوللو وكاهنه الأكبر، ولم يقبل أن يرد عليه ابنته خريسيز؛ فغضب الراهب الشيخ ودعا ربه، فسخر الطاعون على الهيلانيين، حتى كاد يبيدهم، فلما طلب إليه أن يرد ابنة القديس على أبيها الشيخ، أبى، وأخذته العزة بالإثم فلما ألح عليه أخيل، ولدي البائس، إنقاذا للجيش، وإبقاء على أبناء هيلاس، رضى أن ينزل عن الفتاة، إذا نزل له أخيل عن بريسيز. . .
وآثر أخيل حياة المحاربين ونجاتهم، فنزل عن الفتاة للقائد الغاشم. . .)
- (. . . ثم. . .)
- (ثم هو الآن يحترق بينه وبين نفسه، وقد اعتزل الحرب، وخلا وحده في معسكره، يهضم أحزانه، وتهضمه الآلام. . .)
- (لا عليك يا ذيتيس! لا عليك يا حبيبتي! قري عينا. . . قري عينا. . . فبما أخذه الناس بغير ما ينبغي له، لأذيقنه وجنوده البلاء المبين!. . .)
وعادت ذيتيس جذلانة بعد أن طبع على جبينها المتلألئ قبلة. . . كم كان يشتهي أن يطبعها على فمها الخمري. . . لولا أن ذكر أنها زوجة. . .!
زلزلت ذيتيس قلب الإله الأكبر بدلالها وقوة فتونها، وأرق طيفها الرائع جفنيه، فلم يذق طعم الكرى تلك الليلة بطولها. . . فهب من مضجعه السندسي فوق سدة الأولمب، واستدعى إليه إله الأحلام، فأمره بالذهاب من فوره إلى معسكر الهيلانيين
(. . . فإذا كنت ثمة فانطلق إلى فسطاط أجاممنون، فداعب عينيه، واجثم على قلبه، وقل له، وهو يغط في نومه العميق، إن الإلهة تأمرك أن تصبح فتنفخ في بوق الحرب، حاضا
عساكرك على اقتحام طروادة. . . فان زيوس يبشرك بالمدينة الخالدة، ولا يكاد النهار ينتصف حتى تكون جنودك في شوارع إليوم ظافرة منتصرة بإذنه. . .)
وصدع إله الأحلام بما أمره سيد الأولمب، وانطلق إلى معسكر أجاممنون في أقل من لمحة، فداعب عينيه، وألقى في روعه الحلم الكاذب، وعاد أدراجه إلى مولاه
فلما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، هب أجاممنون من نومه مذعورا، وأرسل رسله إلى رؤساء الجند فاجتمعوا لديه قبيل الشروق، وأعلن انعقاد المجلس الحربي؛ فصمت الجميع، ونظر بعضهم إلى بعض، وكل يظن أن لابد من أمر جلل، استدعى انعقاد المجلس في هذه الساعة من بكرة اليوم
ونهض أجاممنون فتحدث إلى القادة، وأخبرهم برؤياه. ولما فرغ؛ نهض نسطور الحكيم المحنك، فسبح باسم زيوس وأثنى عليه وقال:
(لو أن أحدا غير القائد الأعلى رأى تلك الرؤيا لأثار استهزاء الجميع، ولرماه، الجميع بجنة أو مس، ولكنه قائدنا وملكنا، وسليل الإلهة العظام، أجاممنون، هو الذي رآها، وهي لا شك موحاة إليه من لدن ربنا وسيدنا ومولانا مليك الأولمب، وهو لابد ناصرنا على أعدائنا الظالمين. فهلموا أيها الأخوان إلى رجالكم فأيقظوهم، وانفخوا فيهم الحمية والحماسة، فإذا أشرقت ذكاء فسووا صفوفهم، واشحذوا عزائمهم، ولنتوكل على أربابنا، وليهتف الجميع؛ باسم زيوس، ولنصل له؛ ولنسبح تسبيحا كبيرا. . .)
فلما كان الصبح، ارتجف السهل والجبل، ودوى المشرقان والمغربان بجلبة الجند، وصار كل معسكر كأنه خلية صخابة من النحل. . . تطن وتطن. . . وصارت الساحة الحمراء كأنها سماء معتكرة، لرعدها هزيم ولريحها هزيز، ولبرقها خطف يذهب سناه بالأبصار. . .
وشرعت الرماح وأرهفت السيوف، وحملقت المنايا كأنها الأغربة السود فوق الفرائس، وتدوم فوق الجيف. . .!
ولم يكن أجاممنون قد انخدع بالحلم الكاذب، فشدهه أن يرى استعداد الجيش ونفرته نفرة واحدة. . . ولم يخدعه كذلك هذا العدد العديد من الجنود، طالما أن ليس فيهم أخيل وشياطينه المقاتلة. . . الميرميدون!
فأوجس في نفسه خيفة، وهاله أن يكون في الأمر سر، ووقر في قلبه أن غضبة أخيل لابد أن تغضب السماء، واستقر في نفسه أن هذا الجيش العرمرم سائر إلى الهزيمة المؤكدة، ووارد موارد الردى!
وهكذا جبن القائد العام. . . وندم على أن عقد المجلس الحربي. . .!
فما أن متع النهار، ونظر إلى الجند فرآهم يغمرون الأودية، ويربضون في مشارق الجبال، ورأى إلى طروادة المنيعة تهزأ بكواكب الهيلانيين وجيوشهم، حتى نهض فوق يفاع من الأرض، وهتف بجنوده يقول:
- (يا أبناء هيلاس! يا بني قومي!
لست أدري إلام تمتد بنا هذه الحرب، وحتام ننفى هنا في هذا المكان السحيق من الأرض؟!
تسعة أعوام يا قوم، ونحن هنا بمعزل عن العالم؛ ننام في الخيام، ونأوي إلى السفائن، تلفحنا الرياح، ويثور بنا البحر وتتخطفنا المنايا!
وعبثا ينتظرنا أبناؤنا ونساؤنا في هيلاس العزيزة! ومن يدري؟ فقد يكون بعض أبنائنا أو آبائنا انتقلوا إلى هيدز، ونحن هنا نتصارع مع الموت، من أجل امرأة آبقة لا عرض لها ولا شرف!
أبناء وطني!
ألا أقولها لكم كلمة سواء صريحة!؟ هلموا فاغمدوا هذه الرقاق البيض، ولنعقد مع الطرواديين هدنة يعقبها صلح شريف، ثم لنركب أسطولنا الذي نخر السوس في أخشابه أو كاد، ثم لنعد أدراجنا إلى هيلاس سالمين!
حرب!. . .
أية حرب هذه التي اشتعلت من هولها الرؤوس شيبا!!
أية حرب هذه التي تودي بأعز المهج، وتذهب بأغلى الضحايا من نفوس الشباب!؟ بل أية حرب هذه التي توقع العداوة والبغضاء بين أخوين من أعز أبناء هيلاس، فيتراشقان بالفحش من القول، ويتبادلان الهجر من الكلام، ويوشكان أن يلتحما في نزال يودي بحياة أحدهما من أجل امرأة؟!
أنا - أجاممنون - أغضب أخيل أخي من أجل لذة طارئة، ومتاع غير مقيم!!
يا للهول!
لتنته هذه الحرب، لتنته هذه الحرب. . . ولنعد إلى هيلاس. . . . .)
وأرسلها أجاممنون خطبة طويلة تفيض بالحقيقة وتعترف بالواقع. . . فصادفت من قلوب الجند المعذبين هوى، ولقيت منهم استحسانا وتحبيذا، وطربت لها نفوسهم التي أضناها الحنين إلى الأوطان، وشفها التوق إلى لقاء الأهل، ونبذ نير هذه الغربة الطويلة التي أنهكت قواهم وأوهنت شبابهم
وفكر كل في أبنائه وأبويه وأحبائه، فهفت نفسه إلى الارتحال عن هذه الساحة المشجية، عسى أن يقضي الحقبة القصيرة الباقية من حياته الخريفية في راحة قلب وهناءة بال بين أهله وذويه. . .
لكن الآلهة لا تريد هذا!!
وكيف تنتهي حرب أثارها باريس بين ربات الأولمب في البدء؟!
أليس هو قد قضى في التفاحة لفينوس؟
إذن ففينوس تنصره، وهي لذلك تقيه هوان الهزيمة وذل الانكسار! ولكنه أين يهرب من حيرا سيدة الأولمب، التي وعدته نعيما وملكا كبيرا، إذا هو كان قد أعطاها التفاحة؟
لقد أسخطها بما لم يسخطها أحد به من قبل، وهي لذلك تصل ليلها بنهارها في تدبير السوء له، والكيد لوطنه وعشيرته وكل من يلوذ بهما!
ثم أيان يهرب من سخط مينرفا كذلك؟!
أليست مينرفا كذلك قد وعدته الحكمة التي لم يؤتها أحد من قبل، إذا كان قد قضى لها في التفاحة؟. . .
إن مينرفا هي الأخرى تتربص به السوء، وتود لو أظفرت به أعداءه فينكلون به، ويسقونه عذاب الهون، بما قضائه في التفاحة لفينوس!!
سمعت حيرا خطبة أجاممنون من علياء الأولمب، فأفزعها أن ينقاد الجند له، وهالها أن يستعد الجميع للرحيل!
فاستدعت إليها مينرفا، وخاطبتها بصدد ما قال قائد الهيلانيين، ثم اتفقتا على أن تذهب مينرفا إلى معسكر القوم فتلقى البطل المغوار أوليسيز، فما تنفك تحضه وتحرضه حتى
يقوم هو بألهاب عاطفة الجند، وتفتيح عيونهم على العار الأبدي الذي ينتظرهم في بلادهم، إذا عادوا إليها من غير أن يظفرهم أربابهم بأعدائهم، قانعين من الغنيمة بالاياب!. . . بعد تسعة أعوام في دار الغربة. . .
وانطلقت مينرفا إلى ساحة الحرب، وكانت ترف كالسحابة البيضاء في دجنة الليل فيما بين جبل إيدا وشواطئ الهلسبنت، حتى إذا شارفت المعسكر أطلت على القوم فوجدت رؤوسهم يتحاورون فيما قال أجاممنون، ورأت إلى أوليسيز متجهما منقبض النفس مثقل الروح، يكاد ينشق من الغيظ، مما سمع من كلام القائد العام الدال على الخور واليأس، واستبشرت مينرفا بما رأت من هياج أوليسيز، فهبطت عليه رحمة من السماء، وكلمته قائلة، بحيث لا يراها إلا هو:
(أوليسيز فتى إيتاكا وبطل هيلاس!!)
أسرعت إليك - إليك أنت - إليك يا أشجع جندي هنا، لأحذرك أن تنخدع بكلام أجاممنون! إنها خدعة يا أوليسيز! إن القائد العام يحاول أن يسبر عزائمكم، ويخبر هممكم، فلا تنطل عليك كلماته
إنكم لم تنفروا إلى طروادة خفافا وثقالا لتغتربوا عن أوطانكم تسعة أعوام طوال ثم لتعدوا كما أتيتم! بل أضل سبيلا!
أوليسيز! ما ذنب القتلى الأجرياء الذين خضبت دماؤهم ثرى هذه الساحة، تتركونهم في حمرتين من مقابرهم: حمرة الدم. . . وحمرة الخجل مما فرطتم في حقوقهم وتهاونتم في كرامتهم
وما خطب السنين التسع يا أوليسيز؟
أكنتم تلعبون يوم ضحيتم بأفجنيا؟. . .
أكنتم تلهون يوم أهدر بروتسيلوس دمه.؟
وشرفكم الذي يذبح كل يوم في قصور طروادة!!
واستهزاء الأمم بكم، وضحك القبائل عليكم؟!
لا يا أوليسيز! هلم فحرض القادة، وانفخ من روحك في قلوب الجند. . .)
وسمع أوليسيز إلى ربة الحكمة، فخفق قلبه، وثارت نخوته، والتهبت نحيزته؛ وعاهدها
على إضرام المعمعة، وتأجيج لظى الحرب
وانطلق بين الصفوف فلقى نسطور وأجاكس وبالاميديز وغيرهم وغيرهم من زعماء الجيش ورؤوس فيالقه، فحذرهم (من الانخداع بكلمات اجاممنون، لأنها حيلة يريد بها القائد سبر عزائمهم، واختبار هممهم، كما تحدثت إليه مينرفا!!
وحضهم على التضحية والصبر، وحرضهم على الجلد والاستبسال، وذكرهم بعهودهم ونظر الدنيا جميعا إليهم، ثم حذرهم من العار السرمدي الذي يتربص بهم إذا عادوا من دون أن يفتحوا طروادة!. . .
وتغيرت الحال!
وتجددت روح الحرب، وفتح كل جندي عينيه على مجد الوطن! ونجح أوليسيز!
ونجحت مينرفا!
ودهش أجاممنون لهذا التحول المفاجئ في نفسية الجيش، تلك النفسية التي كانت منذ لحظة، فقط، مزيجا من القنوط واليأس، وخليطا من السرور المخامر لمجرد الأيذان بالعود إلى الوطن؛ فصارت تضطرم تشوقا إلى الحرب، وتتحرق شوقا إلى امتشاق السمهريات الظوامي!
وما وسعه إلا أن يثني على شجاعة الجنود، و. . . عدم استسلامهم، و. . . ترفعهم عن الاستكانة والاستخذاء!!
فكان تحوله أعجب. . . وموقفه بين عشية أو ضحاها أغرب!
ونظر الطرواديون من كوى أبراجهم فراعهم التفاف الهيلانيين بمدينتهم، وإحاطتهم بها من كل جانب، وسر الرعب في قلوبهم، ودعوا ثبورا كثيرا!!
وكان يحنقهم أن باريس الذي جر عليهم كل ذلك الكرب وكان السبب العقيم لهذه الحرب، يقر في مخدعه الوثير يداعب هيلين المنحوسة ويلاعبها، ويساقيه كؤوس الهوى والغرام غير آبه لما يغص به قومه من كؤوس الردى والحمام!
وخرج باريس لشأن من شؤون لهوه، وعبث باطل من أغراض غرامه الدنيء، فسمع الناس يلغطون ويلمزون، ويلوكو اسمه بألسنة الهوان والتحقير، فثار ثائره، وفارت حماسته وأقسم ليرين من ضروب شجاعته ما تنخلع له قلوبهم وتطير من هوله ألبابهم. . .
وذهب من فوره إلى أخيه هيكتور فطلب إليه أن يرفع الراية البيضاء، ويخترق الصفوف حتى يكون في وسط ميدان، ويناقش قائد القوم ليتفق معه على أن يستريح الجيشان طيلة هذا اليوم ثم لتكون مبارزة بين باريس، على أن يمثل الطرواديين، ومنالايوس على أن يمثل الهيلانيين، فإذا فاز أحدهما بصاحبه، وأظهرته الآلهة عليه، عاد إلى قومه فرحا مسرورا!!
وطرب منالايوس لما اقترحه غريمة الذي كان كالساعي إلى حتفه بظلفه؛ وصمتت الأفواه وحملقت الأنظار، وتلمس كل جندي في الجيشين قلبه من شدة الخفق وثورة الوجيب؛ وبرز ومنالايوس وبرز إليه باريس؛ ومرت الأحداث سراعا أمام عين ملك إسبارطة؛ فذكر عشاق هيلين وصدود هيلين؛ وذكر الخيرة الكبرى يوم رضيته من عشاقها الكثيرين كريما لها؛ وذكر يوم احتفائه بباريس واحتفال إسبارطة به، كضيف عظيم لملكها؛ وذكر أن هذا الفارس الذي تزل من تحته الأرض إن هو إلا الغادر الختال الذي اعتدى كأعتدى الجبناء على عرضه، ولطخ بوحل الفضيحة شرفه. . . ثم ذكر كيف فرت زوجه معه تحت جنح الليل. . . ذليلة للذتها، أسيرة هواها. . . فثارت في قبله زوبعة من الجنون، وأنفجر في رأسه بركان من الغضب، واتقدت في عينيه جحيم بأكملها من النقمة، واندفق الدم يغلى في ساعديه، وانقض خصمه فأوشك أن يحطمه. . . لولا أن هاله هذا الطيف. الغريب. الذي كان يحمي باريس منه، واقفا إلى جانبه. . . وخلفه وأمامه. . . ومن فوقه، ومن كل جهة جاءه منالايوس منها، يذود عنه، ويتلقى الضربات الإسبرطية فوق درعه المسرودة، الإضاءة، ذات الحلقات!!
ماذا؟
آه! إنها!! هي بعينها!! هي فينوس!! لقد أسرعت إلى باريس تحميه في ذلك الروع الأكبر! فلما أوشك أن يستسلم عز عليها ألا تنقذ حياته وهو هو الذي حكم لها بالتفاحة. . .
لقد رفعته إلى عل!
وطفق منالايوس يبحث عنه هنا وهنا. . . ولكنه لم يعثر له على أثر!
لقد ذهبت به ربة الحب، إلى مخدع الحب!
إلى هيلين!
ولكن ويل له من هيلين! لقد كانت تطلع على الساحة فترى إلى مبارزة البطلين، فهالها أن يبطش ملك إسبارطة بحبيبها، لولا هذه السحابة البيضاء التي كانت تحميه دائما من خصمه وتقيه. . . . .
وعذلته هيلين على هذا الفرار المشين فكان عذلها له أشد على نفسه من ضربات منالايوس!. . .
(لها بقية)
دريني خشبة
أقصوصة عراقية:
رصاصة في الفضاء
(عن كتاب (الدفتر الأزرق) للكاتب، الذي سوف يطبع وينشر
في المستقبل القريب)
بقلم محمود. ا. السيد
- 1 -
حادثة غريبة حدثت في مرقص الهلال في بغداد
كان أول من استقر عليه نظري في ذلك المرقص، ليلة حدثت هذه الحادثة التي أروي لكم، وهي من ليالي صيف 1928، ثلاثة حسبتهم من طلبة المدارس العليا أو صغار الكتبة في الدواوين؛ على مقربة منى يقصفون وينظرون إلى من حولهم من النظارة مستكبرين، ناقدين المرسح نقد راغب في إصلاحه: إصلاح الرقص الخليع فيه والغناء المحزن القديم
وكان النظارة تجارا صغارا وذوي حرف، وعمالا، رأيتهم أخوانا متقابلين في حلقات صغيرة من الكراسي الخيزرانية حول موائد مربعة مكسوة بقماش الكتان؛ تفعم كل مائدة منها أطباق النقل والأقداح وزجاجات الخمور، وأنوار المصابيح الكهربائية المعلقة فوق رؤوسهم، الملونة بألوان العلم العراقي، تبدد الظلام. . .
وكان (جماعة) من الشباب (العوام الأريحيين)، ذوي العباءات الرقيقة السوداء التي تشف عما تحتها، والعمائم (العصفورية) المرقشة باللون الأزرق، يتراشقون بالنكات والفكاهات من وراء حوض مبلط بالقاشاني الأحمر كائن في وسط المرقص تجلله الأعلام وسعف النخيل، وأصواتهم وكلماتهم الشعبية الظريفة تثير الضحك، وتحي في نفوسه القوم اللذة والسرور
وكانت الراقصة المغنية الأولى، تلقي فاتحة الأغاني، التي أعدت للقوم في تلك الليلة - وهي عامية مشجية - جذلى، أو متظاهرة بالجذل، واثقة بنفسها كما كان يبدو من حركاتها، معتقدة بأنها تجيد الغناء. ثم أنشدت هذه الأبيات من الشعر الشعبي الجديد:
(عن قص الشعر لاتلومونا
…
والوقت هذي فنونه)
(قص الشعر صار بوطننا
…
على الموده شحلو فنّه)
(قص الشعر لنا زينه
…
شبه الذهب بالخزينه)
(كل من يمشي بخياله
…
والمحب تنظر عيونه)
وقال واحد من الثلاثة - أولئك الذين حسبتهم من الطلبة أو صغار الكتبة - وهو مبدن ذو وجه مربع كأنه مصنوع بفأس النجار، يخاطب أحد صاحبيه مشيرا إليها:
- إنها لذات وجه صغيرا جدا، وقد صبغت وجنتيها بالصبغ الأحمر لتستر اصفراره ولا شك، فما أقبحها!)
ورفع إلى فمه كأسه، ولم يستمر في انتقاده. أجاب الذي خاطبه وهو أشقر اللون حسن البزة:
- (كلا يا أخي. إنها لجميلة يجملها شعرها الفاحم المقصوص طبقا للطريقة العصرية التي شاعت في الأيام الأخيرة)
وراح ثالثهما، وهو فتى غرانق، طلق المحيا باسم الثغر، يشعل طرف سيكارته ويدخن صامت، والتفت إليه ذو الوجه المربع يسأله:
- (هل سليمان قادم إلينا؟)
- (سوف يأتي. ولكنه لن يأتيانا بقلب مفتوح السرور، أنهم ظلموه حقا إذ استلوب منه وظيفته، على ما تعلمون)
قال الأول: وقد احتسى آخر حسوة من كأسه!
- (ليس في خدمة الحكومة شرف للإنسان، فان كان سليمان فتى (وطنيا) مخلصا في عقيدته السياسية فأمامه سبل العمل المطلق كثيرة، والجهاد. إن خوض المعركة في ساحة الجهاد الوطني قد اقتربت ساعته؛ فالشعب قد أرهقته الضرائب، والاستقلال الذي وعدونا صار مجموعة من المناصب العالية، وعمت في نظمنا الفوضى، فماذا نريد أكثر من ذلك لكي نسوغ خروجنا ونهوضنا نحن الشباب؟ وإلى متى نحسب أن سبل العيش مسدودة أمامنا، فلا نعرف من طرائق الارتزاق والتكسب إلا الوظيفة؟)
قال له صاحباه:
- (صدقت. . هذا صحيح)
وبعد حوار قصير سكتوا، وكانت فترة بين فصلين
- 2 -
أقبل الفتى الذي عرفت من بعد أنه هو سليمان على صحبه في بداية الفصل التالي عجلا يلهث، فحيا، وألقي على المائدةجريدة كان يحمل، ونزع سدارته، ثم جلس، وكانت آثار التعب بادية عليه، واستغرب صحبه حاله، وناوله ذو الوجه المربع سيكارة ثم سأله:
- (هل حدث حادث غير الذي نعلم؟ وهل كان اليوم أيضا تظاهر سياسي؟)
- (تظاهر سياسي؟ كيف؟ تظاهر سياسي مرة أخرى؟ أولم يكفنا ما لقينا أمس في تظاهرنا من ضرب الشرطة إخواننا المتظاهرين بالعصي وإرهاقهم؟ وما الفائدة؟)
وكان يجيب صاحبه وهو يتكلف الهدوء، ولكنه كرر (ما الفائدة) مرتين ثم انفجر صاخبا
وكان العواد والكماني يطربان الحاضرين بقطعة موسيقية من مبتكرات سامي الشوا إيذانا بانتهاء دور الراقصة المغنية الأولى
- (لم يبق أمل. . .)
نطق بهذه العبارة حانقا، يائسا، وضرب المائدة بقبضة يده ثم قال:
- (. . . البلاد مقيدة بالمعاهدة، والمناصب الكبرى للأجانب وذوي العقول القديمة، وفتيان العراق لا يجدون واسطة لأعلان شعورهم ضد الاستعمار؛ وهم إذا ما تظاهروا معلنين سخطهم على الصهيونية مثلا كما فعلوا أمس، سحقوهم بسنابك الخيل. . . قبض الشرطة الآن على عبد الكريم، وأحمد حسن وطاهر، ولطفي. . . وواحد من المتظاهرين في المستشفى جريح. .)
واشتد صخبه وصراخه. وكان صحبه، مع ترحيبهم به؛ وتقبلهم آراءه، يتلقون نظرات المحيطين بهم الدالة على استغرابهم هذه الخطبة، التي لم يسمع أحد مثلها في المراقص، في شيء من الارتباك. وناد الفتى الغرانق الخادم ليأتي ضيفهم الثائر بربع من الخمر الأبيض
ثم أقبل صاحب المرقص على سليمان متلطفا يسكته، وينبهه إلى أن فيما قاله الكفاية، وأن الخوض في شؤون الوطن وسياسته في المرقص بين الكأس والعود ضرب من العبث؛ (واليوم خمر وغدا أمر)؛ وكان الرجل أديبا ظريفا، فأفض على الجماعة بجملة من النوادر قبل أن يتولى عنهم وينصرف
وتركت النظر إليهم، واستماع أحاديثهم منصرفا إلى دراسة المرسح!
وكما كان الجاحظ وهو من أئمة الدين يؤلف الرسائل في القيان، كنت عازما على كتابة فصل في نقد مغنيات بغداد آلائي يطربن أبناء الشعب في ساعات لهوهم ومرحهم. فقلت أخاطب نفسي:(إليك المادة الأولى من مواد الموضوع)، ثم أخرجت قلمي ودفتر مذكراتي فكتبت:
(كانت المغنية الراقصة الأولى التي يسمونها جميلة العودية معتدلة القامة، نحيفة ترتدي ثوبا قصيرا بنفسجي اللون، يتوج رأسها تاج من اللؤلؤ المزيف. وجهها مستطيل. نظراتها تدل على غباء. تضاحك الناس بين حين وآخر. . . وأما غناؤها. . .)
وكتبت صفحة أو صفحتين من دفتري في ذكر غنائها؛ وطريقة إنشادها، ثم انتقلت إلى وصف الثانية، وقد جاء دورها وحانت مني التفاتة إلى أشخاص قصتي؛ فألفيتهم عاكفين على مائدتهم يأكلون ويشربون ويتحادثون، وكان سليمان يفرغ الثمالة من زجاجة (الربع) التي كانت أمامه في كأسه، ثم يطلب من الخادم زجاجة (ربع) ثانية، وعجبت له كيف سكن بعد هياجه، ثم سمعته يقول لصاحبه:
- (إنني أكرهها. . أكره تلك المغنية الهزيلة. . أكره تاجها المزيف. . أكره وجهها المستطيل. . أكره نظراتها. . وأحب زهراء وإن لم تكن مغنية من ذوات الفن ولا ذات شرف في هذا المجتمع)
وجاءه الخادم بزجاجة؛ ولم يجبه أحد. وفتح الجريدة التي كان ألقاه ساعة أقبل على المائدة وأشار إلى مقالة فيها وقال:
- (صرت منذ اليوم أعلن حبي لها على رءوس الأشهاد، فهذه المقالة بل هذه الفلسفة الجديدة قد غيرت رأيي)
وقرأ:
(لا تحتقروا أحدا من النساء، فبنو الإنسانية سواسية في هذه الدنيا. . . . .)
ولم أستغرب هذه (الفلسفة الجديدة) - على ما وصفها - ولم أعرف صاحبها، التي راح يؤيدها سليمان في حماسة شديدة. وخيل إلي من عينيه المحملقتين وصوته الراعد، أن الثورة الكامنة في أعماق نفسه على وشك الظهور مرة أخرى. ولكنه كان مضطربا قلقا، فلم
يكمل قراءة المقالة. ورنا إلى المسرح معجبا برقص الراقصة الثانية؛ وكانت فنانة رومية مستتركة وافدة من استانبول. وهز رأسه، ثم هز رأسه إذ أطربه صوتها الرفيع العذب وأناشيدها التركية الرقيقة. وانشغلت عنه بكتابة وصفها:
- طويلة بيضاء في صفرة كلون الذهب. . .)
واستمررت في الكتابة غير منتبه إلى ما يجري حولي، نحو ساعة أو أكثر أو أقل، لا أدري. وقبل أن ألقي القلم جانبا رنت في أذني قرقعة أحداثها سقوط أطباق على الأرض، وصرخة صارخ يقول:
- (أنت خاطئ يا أخي! أنت خاطئ ومخطئ كل الخطأ!)
وكان الصارخ سليمان. قلت: (حقا لقد ثار صاحبنا). ورفعت رأسي لأنظر إليه، فألفيته واقفا منفوشا شعر رأسه يعربد، ويقول مخاطبا رجلا غريبا لم أره من قبل، كان واقفا أمامه ينظر إليه نظرة شامت مستهزئ:
- (أنا شجاع، شجاع! لقد طردوني لأنني أبيت أن أخدمهم لتحقيق غاياتهم
هذا حق، ولكنني لم أثر لحرماني من الوظيفة. . . ما أنا بسكران!. . . لست ثائرا لأني أصبحت محروما من الوظيفة يا كامل، بل لأن الوطن يريد رجاله. انظر يا كامل! ويلك! أنا رجل أقابل ألف رجل من هؤلاء المخانيث لو دعت الحاجة؛ وهاكم البرهان:
والتفت إلى صحبه مهتاجا، وكانوا حيارى واجمين ثم قال:
- (رصاصة لأجل الحرية!)
وسرعان ما أخرج من جيبه مسدسا فأطلق رصاصة في الفضاء
وهرع بعض النظارة إليه ليمنعه من الاستمرار في إطلاق الرصاص، وبعضهم إلى باب المرقص لينجو بنفسه، إذ أدرك في هذه الحادثة بادرة للجريمة. وجاء شرطي يعدو ويشق لنفسه طريقا إلى سليمان في الزحام. . . ولم أعد أفهم من الحوادث المتتالية شيئا. . .
- 3 -
بعد يومين أو ثلاثة ذكرت الصحف: (أن محكمة الجزاء حكمت على سليمان بن محمود وهو موظف سابق معزول، بأن يسجن عقابا له على إطلاق الرصاص من مسدسه وهو سكران في مرقص الهلال)
ولم أسمع له ذكرا بعد ذلك
العراق - الأعظمية
محمود. أ. السيد
البريد الأدبي
حول النزاع الأدبي
لم أعتد الرد على من يهاجمون شخصي لأني أعتبر واجب الأديب أن
يقوم بقسطه من الإنتاج، لا أن يضيع وقته في المشاحنات الفارغة،
ولكن أراني الآن مضطرا إلى أن أقول كلمة (ستكون الأولى والأخيرة
لي في الموضوع) إظهارا للحقيقة، وخشية أن تمسي (الرسالة)، وهي
المجلة الأدبية الرصينة، ميدانا لمجادلات هي في نظري ابعد ما تكون
عن الأدب:
لا شك أن الغيرة الأدبية هي التي دفعت صديقي الأستاذ الزحلاوي إلى فتح هذا النقاش لاعتقاده أن ثمة تشابه كبير بين قصيدة الدكتور (ناجي) وبين قصيدتي (عاصفة) المنشورة في مجلة (الدهور) منذ عام ونيف. على أنني أرى هذا التشابه ضئيلا جدا، ولا يجوز أن يعزى إلا إلى توارد الخواطر
أما من جهة رد الأستاذ الطنطاوي فهو ادعاء لا تدعمه حجة ولا يؤيده برهان. لقد ادعى هذا الأديب أن صديقه أنور العطار قال له إن قصيدتي مسروقة من أحد شعراء المهجر، ثم أردف أنه لا يعرف عن سري سوى أني (ترجمان قصصي!) فهل (للرسالة) أن تطلب منه أن ينشر على صفحاتها اسم الشاعر وقصيدته التي يقول إن قصيدتي سرقت منها، وأصل القصص التي يدعي أني أترجمها؟
وليعلم الأديب الطنطاوي أخيرا أن من يكتب للناس ما يفيدهم بلغة سهلة بسيطة لهو خير من الذي يسب ويشتم بلغة العرب الأقحاح!
(دمشق)
ميشيل عفلق
وفاة رحالة كبير
من أنباء روسيا أن الرحالة المكتشف الشهير بيتر كوزلوف قد توفي في لننجراد في الثانية والسبعين من عمره. وقد اشتهر الأستاذ كوزلوف قبل الحرب باكتشافاته العلمية في مجاهل آسيا ولا سيما في صحراء جوبي. وقد بدأ حياته الكشفية بالاشتراك في بعض الحملات والبعثات الرسمية في أواخر القرن الماضي. وفي سنة 1899 جهز حملته الأولى إلى أواسط آسيا؛ ثم أعقبها برحلات أخرى، ولكنه وفق إلى أعظم اكتشافاته بين سنتي 1907 و1909 حينما اكتشف في صحراء جوبي في أعماق آسيا مدينة مجهولة تسمى خاراخوتو. وكانت بها بقايا أبنية ظاهرة، وآثار جنس بشري غير معروف. ووجدت ضمن الآثار المكتشفة نقوش وكتابات كثيرة بلغة مجهولة، ولكن الأستاذ كوزولف استطاع قراءتها بفضل نوع من الدليل المكتوب وجده بين الأشياء المكتشفة. واستمرت حكومة البلاشفة بعد الحكومة القيصرية على تشجيع كوزلوف والإنفاق على بعثاته؛ فقام في العهد الأخيرة بعدة رحلات إلى صحراء جوبي كانت أخراها في سنة 1926. وعاونته الحكومة أيضا على نشر كتاب ضخم عن جوبي وآثارها وعن منطقة خاراخوتو التي اكتشفتها. ونشر كوزلوف أيضا كتبا أخرى كلها بالروسية، ولكنها لم تترجم إلى لغات أخرى فلم يعرف العالم الخارجي عنها كثيرا، غير أنه نشر منذ أعوام كتابا بالإنكليزية عنوانه (عصافير منغوليا)
وكان الأستاذ كوزلوف عضوا في جمعيات علمية كثيرة. وكان يعيش في منزل منعزل في غابة بالقرب من نوفجرود مدى أعوام طويلة يرتب المواد والآثار التي جمعها؛ وكان من آن لآخر يحضر إلى لننجراد ليلقي فيها بعض المحضرات. وقررت له الحكومة البلشفية معاشا حسنا، وقد رافقته زوجه في عدة من حملاته الكشفية
عميد الموسيقى الإنكليزية
نعت الأنباء الأخيرة السير فردريك كوين المؤلف الموسيقي المشهور وعميد الموسيقى الإنكليزية منذ أواخر القرن الماضي. توفي في الثالثة والثمانين من عمره؛ وكان مولده بجزيرة جاميكا في سنة 1852، وأخذ إلى إنكلترا صغيرا حيث كان أبوه يشغل وظيفة (بمسرح الملكة). وتلقى كوين دروسه الأولى في الموسيقى وهو طفل على يد هنري رسل، وكتب أول قطعة موسيقية وهو في الخامسة. ودرس المعزف (البيانو) على بندكت،
والتأليف على جوس. وفي سنة 1885 ذهب إلى لايبزج ودرس هنالك على أقطاب الفن. ثم عاد إلى إنكلترا، وظهر ببراعته في التأليف والموسيقى، وعهد إليه برياسة الحفلات الموسيقية الملكية؛ ولكنه كان أكثر براعة في التأليف منه في العزف. وكانت أولى قطعه الشهيرة (عذراء الورد)، ظهرت وعزفت في لندن سنة 1870؛ وأتبعها بقطعة تسمى (القرصان). ومن ذلك التاريخ عكف السير كوين على إخراج القطع والاوبرات والأغاني حتى بلغ ما أخرجه منها مئات عدة. وقد انتخب السير كوين مرارا ليكون رئيسا للفرقة الموسيقية التابعة لجمعية الموسيقى الملكية. وفي سنة 1911، أنعم عليه بلقب الفارس
وللسير كوين قطع موسيقية راقصة بديعة. ولما بلغ الثمانين من عمره منذ ثلاثة أعوام، صرح في حديث له أنه لا يدري ماذا حدث في الموسيقى العصرية، وأنه يلاحظ أن الموسيقى المعاصرة ملأى بالمفارقات والمتناقضات مع أن من شرط الموسيقى أن تكون فياضة التناسق
مؤتمر لتاريخ الطب:
عقد أخيرا في مدريد مؤتمر لمؤرخي الطب، وهو المؤتمر العاشر من نوعه يعقد كل عام في عاصمة من عواصم العالم، وقد شهده جمهرة كبيرة من علماء مختلف الدول، وعقد تحت رعاية رئيس الجمهورية الإسبانية، ولم يقتصر أعضاء المؤتمر على المناقشات العلمية والتاريخية المتعلقة بتاريخ الطب والجراحة منذ غابر الأزمان، ولكن لجنة المؤتمر قامت بتنظيم معرض هام للمخطوطات والوثائق الطبية من أقدم العصور، وكذلك لعرض الأدوات الطبية والجراحية التي كان يستعملها الأطباء في العصور القديمة والوسطى، ومن ذلك صور ونماذج للأدوات الطبية والجراحية العربية نقلت من مخطوطات ترجع إلى القرن الرابع عشر، وصور من مخطوطات موسى بن ميمون الطبية والفلسفية وهو الطبيب اليهودي الأندلسي الذي نبغ في القرن الثاني عشر ويعرف عند الإفرنج باسم (ميمونيدس) ومجموعة من آثار اندريس لاجونا طبيب الإمبراطور شارلكان، وأدوات طبية هندية ومصرية ترجع إلى العصور الوسطى، ونماذج تشريحية وغيرها، وقد لفت الأنظار بنوع خاص نموذج معروض لحانوت صيدلي مسلم في قرطبة في القرن الثالث عشر، ونموذج لمستشفى (سانتا كروز) القديم في طليطلة كما كان عليه في القرن السادس عشر
ملكة التراجيديا
صدر أخيرا كتاب بالإنجليزية عنوانه (راشيل الخالدة) للكاتب الإنكليزي برنارد فوك، وهو ترجمة مستفيضة مؤثرة للممثلة الكبيرة راشيل التي سطعت في النصف الأول من القرن الماضي، وتركت أثرها الخالد في المسرح الفرنسي، وكانت راشيل مثل سان برنهرت وسان سيدون يهودية الأصل، ولدت سنة 1821 في أسرة فقيرة جدا، وكانت في طفولتها تغني وترقص في شوارع ليون وتجمع الفلوس لتعيش، ولكنها لم تبلغ السابعة عشرة حتى ظهرت على مسرح (الكوميدي فرانسيز) ولم تمض أسابيع على ظهورها حتى ارتفع صيتها إلى السماكين، ولم تبلغ العشرين حتى غدت غنية ترتع في بحبوحة الثراء والترف، والتف حولها أكثر من أمير وشريف يرغبون في ودها، وكانت مثال العبقرية الساطعة، ولكنها لم تكن مثالا للأخلاق الرفيعة، وكانت لها مبادئ وتصرفات خاصة تعدو مجتمعها وعصرها، وقد خاضت حياة مضطرمة فياضة بالعمل واللهو العنيف، وتوفيت فتية في زهرة العمر، في الثامنة والثلاثين من عمرها
ويستعرض المؤلف حياة هذه الممثلة الباهرة في قوة وصراحة ويكشف لنا كثيرا من خواص الحياة المسرحية في القرن الماضي ويوضح لنا كيف كانت راشيل من أعظم ممثلات التاريخ، ومن أعظم كواكب الفن والمسرح
ترشيح النجاشي لجائزة نوبل
من الأنباء الطريفة التي وقفنا عليها في البريد الأخير أن صحيفة سويدية هي جريدة (سوسيال ديموكراتني) التي تصدر في ستوكهلم ترشح الإمبراطور هيلى سلاسي لنيل جائزة نوبل للسلام هذا العام؛ وتؤيد الجريدة هذا الترشيح بمواقف الإمبراطور السلمية المشهورة وأحاديثه التي أفضى بها إلى مختلف المكاتبين الأوربيين، وترى أنه أجدر من وقف إلى جانب السلام هذا العام بنيل الجائزة الشهيرة. ونذكر أن الذي فاز بهذه الجائزة في العام الماضي هو المستر هندرسون رئيس مؤتمر نزع السلاح، والسير نورمان آنجل الكاتب الإنكليزي وداعية السلام الشهير. ولا ريب أن ترشيح النجاشي سيقابل بالتأييد والارتياح من جميع أنصار السلام، والمعروف أن السويد تعطف على النجاشي عطفا
خاصا، وأن معظم مستشاريه العسكريين والسياسيين هم من رجال السويد
الكتب
علم الدولة
للأستاذ أحمد وفيق
(لمناسبة صدور الجزء الثالث)
بقلم الدكتور محمد توفيق يونس
صدر حديثا الجزء الثالث من الكتاب الضخم الذي يضعه الكاتب النابه الأستاذ أحمد وفيق في (علم الدولة)، وهذا الجزء كسابقيه من حيث طريقة البحث وسياق الحديث، وإذا كان قد فاتنا أن نتحدث عن الجزأين الأول والثاني حين صدورهما فلا يفوتنا وقد صدر الجزء الثالث أن نتحدث عن الكتاب جملة
من العسير بل المستحيل أن تكون (الدولة) بجميع مظاهرها وتطوراتها موضوعا لبحث واحد جامع، إذ أن لها وجوها مختلفة يتطلب كل منها بحثا خاصا، فهناك الوجه الدستوري الذي يعنى بهيئات الدولة العليا، وهناك الوجه الإداري الذي ينظر إلى التفاصيل التنفيذية للحياة العامة، أو بمعنى آخر إلى مجموع المصالح العامة التي تكفل سير الدولة العملي، وهناك الوجه المالي الذي يبحث في إيرادات الدولة ونفقاتها، ثم هناك دراسة الدولة من ناحية القانون الدولي العام باعتبارها من أشخاصه وبصفتها عضوا في الأسرة الدولية، الخ
ولكل دراسة من هاته الدراسات ناحيتان أساسيتان: ناحيتها القانونية وناحيتها السياسية، وأهمية الاستئناس بالأخيرة في تحليل المسائل الفقهية لا تحتاج إلى بيان. وإذا أضفنا إلى كل ذلك نصيب التاريخ تبين لنا إي دائرة واسعة من المعارف يمكن أن تدخل تحت هذا الموضوع
ولكن المؤلف الفاضل وإن كان قد سمى كتابه (علم الدولة) لم يقصد إلا دراسة فكرة الدولة أو نظرية الدولة كما أوضح ذلك في مقدمة الجزء الأول (ص47 - 49)
لهذا كان أجمل به أن يجعل عنوان الكتاب أكثر تحديدا لما فيه بأن يسميه مثلا (فكرة الدولة) أو (نظرية الدولة) أو (علم في الدولة) إذا لم يرد تحديدا دقيقا
على أن الموضوع الذي فرضه المؤلف على نفسه يبقي بعد هذا التحديد فسيح الأطراف
متشعب النواحي متعدد الوجوه إلى حد يجعل من الصعب استيعابها جميعا ودراستها معا دراسة مستفيضة، ويضطر المؤلف إلى الإيجاز وإهمال التفاصيل، ويخشى معه ضعف الارتباط وتشتت البحث وتوزع المجهود. والمؤلف نفسه يكتفي في الواقع (بدراسة عامة إجمالية)(ص47 من الجزء الأول)
ولقد صبغ المؤلف هذه الدراسة بالصبغة التاريخية فجعل التاريخ العنصر الغالب في أجزاء كتابه الثلاثة بل قوامها جميعا.
وموجز بسيط للموضوعات التي تناولها المؤلف تساعد على إدراك ما قدمنا
قسم المؤلف الجزء الأول من كتابه إلى ثلاثة أبواب خصص الباب الأول منها بأصول الدولة، فتكلم في الفصل الأول عن ضرورة البحث في هذا الموضوع، وقدم لذلك مثلين هما: فرض الضرائب على الأجانب والنظام الفاشي. ثم انتقل إلى الكلام في الفصول التالية عن مختلف النظريات التي تناولتها عارضا ناقدا محللا، فتكلم في الفصل الثاني عن نظرية الطبيعة، وفي الثالث عن الأسرة، وفي الرابع عن العقد الاجتماعي، وفي الخامس عن القوة، وفي السادس عن الإرادة الفردية؛ وبعد أن انتهى المؤلف من الكلام على أصول الدولة في الباب الأول أخذ يتكلم في البابين الثاني والثالث عن التطور التاريخي لفكرة الدولة، فتناول في الباب الثاني الأفكار القديمة من الدولة مستعرضا إياها في الهند وفارس والصين ومصر، وعند اليهود واليونان والرومان، وتناول في الباب الثالث فكرة الدولة في القرون الوسطى وفي عهدي الأحياء والإصلاح
وفي الجزء الثاني من الكتاب تابع المؤلف بحثه في التطور التاريخي لفكرة الدولة؛ فتكلم عنها من عهد الإصلاح الذي ختم به الجزء الأول حتى سقوط نابليون النهائي بعد أن عرج في طريقه على الدستور البريطاني، فشرح أطواره منذ نشأته حتى نهاية القرن الثامن عشر
واستمر هذا البحث التاريخي في الجزء الثالث، إذ تناول المؤلف أطوار فكرة الدولة ابتداء من سقوط نابليون حتى اليوم - تناولها من ثلاث نواحي في ثلاثة أبواب؛ خص الباب الأول منها بتطور فكرة الدولة من ناحية سياجها الخارجي، أو بعبارة أخرى من ناحية القانون الدولي، وخص الباب الثاني بأهم أطوار العنصر التاريخي للدولة عارضا لمختلف الحركات الشعبية منذ سنة 1815، أي بعد سقوط نابليون النهائي، وخص الباب الثالث
بأهم أطوار العنصر القانوني للدولة منذ ذلك الحين كذلك واصلا ما انقطع في نهاية الجزء الثاني من الكلام عن الحركة الدستورية والنظام البرلماني في فرنسا، خاتما إياه بكلمة واحدة وجيزة عن بعض المبادئ الدستورية الحديثة
والحق أن المؤلف الفاضل - مع ما سبق أن قدمنا - قد عالج هذه الأبواب التي تناولها في أجزاء كتابه الثلاثة معالجة الملم بموضوعه، الواسع الاطلاع، الدقيق الملاحظة، القوي العبارة، الجزل الأسلوب
على أننا مع الثناء الخالص على المؤلف والتقدير العظيم للكتاب نأخذ على الأستاذ أنه لم يبين في صدر الكتاب منهاج بحثه، وتقسيم عمله، وتسلسل موضوعه، البيان الكافي الذي ينير أمام القارئ السبيل إلى الغاية
كذلك نأخذ عليه عدم ذكره المراجع كاملة في الثبت الذي ذيل به كل جزء من أجزاء كتابه فلم يذكر أمام كل كتاب بعد اسم المؤلف والعنوان الكامل لكتابه الجزء الخاص بالموضوع إذا كان للكتاب عدة أجزاء، وعدد الطبعة إذا كان له أكثر من طبعة، والمدينة والسنة التي طبع فيها. ففي هذه البيانات ما يساعد محبي البحث والاستقصاء
كما أنه أهمل هذه البيانات عندما كان ينقل أو يوجز أقوال بعض العلماء في صلب الكتاب، فهو كثيرا ما يكتفي بالإشارة إلى اسم المؤلف ورقم الصفحة دون ذكر لعدد الطبعة، وقد تكون الطبعة التي يرجع إليها القارئ غير الطبعة التي كانت في يد الكاتب، والصفحات تتغير في مختلف الطبعات، بل هو أحيانا لا يذكر الصفحة التي نقل عنها فيصعب على القارئ الرجوع إلى العبارة المنقولة والتثبت منها
وجملة الرأي في الكتاب أنه لم يوجه وجهة علمية صرفة، بل قصد منه التثقيف والتهذيب، وأنه من هذه الناحية، أي ناحية الثقافة العامة عمل ضخم ثمين، أدى به مؤلفه الكريم إلى قراء العربية خدمة جليلة، كلفته جهودا مضنية من الطاقة والوقت، فمن حقه أن يقابل بالشكر الوافر والتعضيد الصحيح
محمد توفيق يونس