الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 12
- بتاريخ: 01 - 07 - 1933
ذكرى المولد
في مثل هذا الأسبوع من مثل هذا الشهر لسنة ثلاث وخمسين قبل الهجرة أعلن الله كلمته من جديد، في استهلال هذا العربي الوليد!!
وكانت قافلة الحياة يومئذ جائرة السبيل حائرة الدليل خائرة العزيمة. والعالم الإنساني يكابد في هيكله المنحل عوامل البلى من وثبة توبق الروح، وجاهلية توثق العقل، ومادية ترهق الجسد. وكانت الولاية عليه في ذلك الحين لأعقاب من الروم شفهم الفسوق والترف، وإخلاف من الفرس هدهم الغلول والطمع، والناس عدا هؤلاء وأولئك أوزاع وهمج. . اللهم إلا شعبا نبيل الفطرة اعتصم بالصحراء من هذا الفساد الشامل، فما عبث بضميره سلطان، ولا عدا على خلقه طاغية. . . نشّأته الطبيعة على سجاياها المرسلة، وراضته على نظمها المحتومة، وصفّاه (الانتخاب الطبيعي) بالغزو المتلاحق والدفاع المتصل، فأودى بضعيفه، وأبقى على قويه، حتى لم يدم على أديم الجزيرة إلا سيف صارم، وفرس جواد، ودارع بطل! ثم تنخل من هذه الصفوة الباقية في القرن السادس أمّة وسطا تحمل في قوة الحيوية، وكمال الرجولة، وصفاء الحس، المثل الأعلى للإنسان الأعلى (سوبرمان).
تلك هي الأمة العربية التي اختارها الله لقيادة شعوبه الحائرة، واختار منها محمدا لتبليغ رسالته الأخيرة. . .
بين إيوان كسرى وبلاط قيصر اهتز مهد العربي اليتيم في أرض مكة! فتصدّع لهزّته الإيوان، وتطامن لهيبته القصر!! وكأنما هتف بالعاهلين العظيمين من جانب الغيب هاتف:(اليوم ينتهي تاريخ ويبتدئ تاريخ! ليس بعد اليوم ملك ولا كاهن ولا سيد! إنّما العبادة لله، والقيادة للرسول، والسيادة للدين، والحكومة للعرب، والدنيا للجميع!!)
وبين عرش قيصر وعرش كسرى انتصب منبر النبي الكريم في سماء (المدينة) فتضاءل لجلاله عرش، وتقوّض لدعائه عرش! ثم انبثق نوره القدسي في مجاهل البدو ومعالم الحضر، كما يبتسم الأمل في قطوب اليأس، وتومض المنارة في ظلام المحيط! هنالك ظهرت الوحدانية على الوثنية، والغيرية على الأنانية، والإنسانية على العصبية، والإسلام على الجاهلية، ثم عرف الإنسان قدر الإنسان، وأدركت النفوس جمال الإحسان، ووجدت قافلة الحياة طريقها القاصد!
كان العالم يقاسي حين ولد محمد بن عبد الله تفكك الخلق، وتحلل الرجولة، وضياع المثل
الأعلى، فكان أكمل ما في حياة (الأمين) هذه الصفات النوادر: خلق عظيم شهد به الله، ورجولة كاملة خضع لها الناس، ودين يجمع إلى سعادة الدنيا سعادة الآخرة، ورسالات الرسل إنما تعالج بظهورها الفساد الذي استشرى في العالم، والداء الذي استفحل في الناس.
فإذا كانت معجزة الرسول في القرآن، فان مجده في الخلق، وفوزه بالرجولة. والشعوب المختلفة التي صهرتها شخصية العرب، وطبعتها ثقافة العرب، لم تصل إلى الإخاء والوحدة إلا على منهاجه وهديه.!
ظهر رسول الله والعرب أشتات من غير جامع، وهمل من غير رابط، وأحياء من غير غرض، فاضت في نفوسهم الحياة، وزخرت في صدورهم القوّة، وصرفوا هذا النشاط العجيب إلى نزاع لا ينقطع، وصراع لا يفتر. فحمل إليهم وحده رسالة الله لا يسنده سلطان، ولا يؤيده جيش، ولا يمهّد له مال، فنفروا منها نفور الوحش المروّع! ثم رأوا فيها سيادةً لأسرة، وخضوعا لقانون، وخروجا على عرف، فقابلوها بالعناد وعارضوها بالحجاج ودافعوها بالكيد. آذوا الرسول في أهله وفي صحبه وفي نفسه، فما وهن عزمه ولا لانت قناته. وإنما قابل الأذى بالصبر، والسفه بالحلم، والفضاضة بالرقة، وهذا هو الخلق؛ ثم قارع الجدال بالتحدي، والمكابرة بالسيف، وهذه هي الرجولة: وبذلك الخلق وهذه الرجولة انتصر محمد وحده على العرب! وبذلك الخلق وهذه الرجولة انتصر العرب بعده على العالم!
فلينظر اليوم شعب محمد وأتباع محمد ماذا في نفوسهم من دينه. وفي أخلاقهم من خلقه، وفي أيديهم من تراثه؟؟ فإن وجدوا أن دينهم أصبح رسما محيلا في نفوس الخاصة، وأثرا مشوها ضئيلا في نفوس العامة، وأن أخلاقهم فقدوها يوم فقدوا الحرية، وأضاعوها يوم أضاعوا الملك، وأنّ تراثهم أصبح نهبا مقسّما بين شذاذ الشعوب وذؤبان الأمم، فليفيقوا من النوم، وليخففوا عن القدر اللوم، فإن الله لا يظلم الناس مثقال ذرّة! ومن عاند طبيعة الحياة فقتل في نفسه الطموح، وفي فكره التجدد، وفي عمله الابتكار، ورضى أن يكون في الدنيا كالأثر في المتحف، إنما يدل على ملك باد وشعب انقرض، كان يسيرا عليه أن يدع دينه للمبشرين، ووطنه للمستعمرين، ثم يقعد مقعد الخوالف يتحسّر على المجد المفقود، ويتعلل بالأماني الكواذب!!
إن ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام، وطغيان الحكّام، وسلطان القوة. وتحكّم الجهالة. فما أجدر النفوس الذاكرة الحرة على اختلاف منازعها أن تخشع إجلالا لذكرى رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وداعية السلام والوئام والمحبة!! وما أخلق الزعماء الذين يحاولون اليوم توحيد العرب من جديد، أن يتخذوا منهاجه سبيلا إلى هذا العمل المجيد!!
أحمد حسن الزيّات.
لغو الصيف
للدكتور طه حسين
من هنا يا آنسة؟ من هنا؟ ثم أشار إلى مائدة منعزلة كأنّما هيئت لقوم يريدون الخلوة واعتزال الناس. فلما انتهيا إليها أعجبهما مكانها الجميل على شاطئ النيل في ظل هذه الشجرة الضخمة الباسقة، قد مدّت أغصانها في قوة إلى أمام، حتى إذا تجاوزت بها الشاطئ حنتها نحو الماء، وغمستها فيه كأنما تريد أن ترتشف منه، ونظر الصديقان من حولهما فلم يريا أحدا، ومدّ الصديقان بصرهما أمامهما وأطالا النظر إلى النيل وهو يجري من تحت أقدامهما في قوة الشاب وهدوء الحكيم، ثم جلسا، وقال الرجل لصاحبته: هنا يحسن الحديث، قالت: ويحسن الصمت أيضا. وقد ظهرت على وجه صاحبها علائم تدل على أنّه لم يفهم عنها ما أرادت إليه، وأحسّت هي منه السؤال الذي لم ينطق به، فقالت وكأنها تجيب، إن تحدثنا تساقينا موسيقى الحوار، وإن سكتنا تساقينا نجوى الضمائر ووحي القلوب. ولنا في كلتا الحالين لذّة، ولنا في كلتا الحالين متاع، فخذ بأيهما شئت. قال فأيهما تريدين؟ قالت لا أريد شيئا إلاّ أن نترك أنفسنا على سجيتها. فإن انطلقت ألسنتنا سمعتها آذاننا، وإن آثرت نفوسنا الحديث الصامت وعته قلوبنا. قال وهو يضحك: أيسر من هذا كله وأدنى إلى التناول أن نتساقى ما يبرد الغليل، ويرد عنّا حرّ هذا القيظ، ثم دقّ يدا بيد في شيء من الرفق. فأقبل الخادم وتلقى عنه أمره وأنصرف.
وكان هو طويلا نحيفاً، ظاهر النشاط، خفيف الحركة، مكتمل القوة، لا يظهر عليه ما يدل على سنه إلاّ خيوط بيض متفرقة قد انتثرت في شعر رأسه انتثارا. وكان عذب الصوت، حازم اللهجة، معتدل الحديث، ولعله كان إلى الإبطاء فيه واصطناع الأناة أدنى منع إلى الإسراع والتعجل، وكان صوته يمتد من حين إلى حين، لا غضباً ولا تحمساً، ولكنه كان مقتنعا بما يقول، فكانت حدّة صوته ولينه يمثلان حظه من الإيمان والاقتناع بما يقول.
وكانت هي ربعة. ممتلئة الجسم، مستقيمة القد، معتدلة القامة، وكان وجهها مشرقا شديد الإشراق، منسقا بديع التنسيق، تمر به من حين إلى حين سحابة رقيقة جدا من حزن لا يكاد يتبيّنها إلاّ من اعتاد أن يلقاها ويطيل صحبتها والتحدّث إليها.
وكانت هذه السحابة الطارئة لا تمر بها وهي تتحدّث، إلاّ قطعت عليها الحديث فجأة، ثم لا
تلبث أن تزول فيتصل الحديث، ولا تمر بها وهي تسمع إلاّ لهت عن محدثها لحظة ثم تزول، وإذا هي ترفع إلى محدّثها طرفا فيه شيء كثير جداً من الحياء والإشفاق، وتستعيده ما قال في صوت عذب، ولفظ حلو، يحسن مسّه للآذان ووقعه في القلوب. وكان صوتها هادئاً عريضاً يمثل نفسا هادئة غنية ممتلئة بالعواطف الخصبة والشعور الحي والعلم الغزير.
وكأن الفرصة أرادت أن ترضي حاجتها إلى الصمت، وحاجة صديقها إلى الكلام، فقد أقاما صامتين للحظة غير قصيرة ينظران إلى سعى النهر أمامهما، كأنهما ينتظران شيئا، وكأنهما يلهوان بالنهر وسعيه الهادئ القوي عمّا يضطرب في نفوسهما من الخواطر والآراء، ومن العواطف والأهواء، حتى إذا أقبل الخادم فهيأ المائدة وصفّ أكوابه وأطباقه، وانصرف راضياً عن نفسه مبتسما لضيفيه، نظرت هي إلى صاحبها كأنها تسأله أن يبدأ الحديث فقال: وقد فهم عنها ما كانت تريد، لسنا في حاجة إلى أن نبتدئ الحديث، وما علينا إلاّ أن نأخذه حيث تركناه حين انتهينا إلى هذا المكان الهادئ الجميل.
قالت فإن هدوء هذا المكان وجماله قد أنسياني حدّة ما كنّا فيه من حوار، واضطراب ما كنّا نتبادل من رأي، فلننظر القضية من أولها، فلعل هذا الهواء الطلق وهذا المنظر الحلو، وهذا السكون الساكن، أن تكون قد ردتك إلى شيء من الصواب وصدتك عما كنت فيه من جموح. فما أرى إلاّ أنّك تظلم الأدب والأدباء جميعا، وتقسط على الشبّان والشيب. وكم أحبّ لك أن تكون سمح النفس، رضيّ الطبع، مستعداً لشيء من التجاوز، تعذر طيش الشباب، وترفق بحدة الشيوخ. قال فأحب أن أعلم أين الشباب وأين الشيب، ومتى يكون الأديب شابّا، ومتى يكون الأديب شيخا. فهذا حديث طريف لم أسمع به في مصر قبل هذه الأيام، ولقد رأيت الأدباء منذ عرفت الأدب ينشئون النثر ويقرضون الشعر على اختلاف أسنانهم وتفاوت حظوظهم من القوة والضعف، فلا يختصمون في شباب ولا شيخوخة، وإنّما يختصمون في الرأي ويختصمون في الفن، يعين بعضهم بعضا، ويدافع بعضهم بعضا، لا يعتز الشيخ على الشاب بتجاربه وكثرة ما أنتج من الآثار، ولا يعتز الشاب على الشيح بحداثته وقوته، ونظرة شبابه، واتساع الأيام أمامه، وانبساط الآمال له. قالت لم تر ذلك من قبل ولكنك قد رأيته الآن. فأيّ غناء في أن تنكر شيئا حدث الآن لأنه لم يحدث من
قبل، وأي فرق بينك وبين عامة الناس الذين يضيقون بالجديد، لا لشيء إلاّ لأنهم لم يألفوه ولم يطيلوا عشرته.
إنّ في الشباب نزوعا إلى الفوز، وطموحا إلى الظفر، وتعجلا لأتساع الشهرة وبُعد الموت، وكل هذا طبيعي، وكل هذا مألوف لأنه يلائم فطرة الشباب وأخلاقهم. ولا تنكره عليهم. ولا تصرفهم عنه، فإنّي أخشى أن يفت ذلك في أعضادهم. وأن يضعف من نشاطهم، وأن يرد جذوتهم هذه الجميلة إلى الخمود. قال لقد كنّا شبابا كما كانوا. وكان لنا من رفاقنا في الأدب أساتذة قد سبقونا إلى الحياة وتقدمت بهم علينا السن، وأخذوا من التجارب العلمية والفنية بحظوظ لم نأخذ بمثلها. فما حسدناهم وما أنكرناهم، ولا جاهدناهم ولا قصدنا إلى المكر بهم والكيد لهم، وإنما كنّا نقفوا آثارهم ونسمع لنصائحهم ونستعذب أحاديثهم، ولعلنا كنّا نحس ما بينهم وبيننا من خلاف، فلم يكن ذلك يغرينا بهم، ولا بصرفنا عنهم، وإنك لتذكرين كم كنّا نستعذب أحاديث حفني ناصف، وكم كنّا نحرص على أن نروي عنه كل ما كان يحدثنا به من هزل القول وجدّه. وإنك لتذكرين إنّا كنّا ننصرف عنه بعد الجلسة الطويلة معجبين به محبين له، ثم لا نلبث أن نستعيد ما سمعنا منه فننكر بعضه ونعرف بعضه الآخر، ولا يمنعنا ذلك من أن نتعجّل عودته إلى القاهرة آخر الأسبوع لنلقاه ونسمع منه ونتحدّث إليه. وما خطر لك ولا خطر لي ولا خطر لواحد من أصحابنا أن ينكر حفني ناصف لأنّه كان شيخا ولأننا كنا من الشبّان، أو يلوم حفني ناصف، لأنه سبقنا إلى الحياة والإنتاج، فسبقنا إلى الشهرة وبعد الصوت، إنّما كنّا نستعينه على أن نكون خيراً منه، وكان يعيننا على ذلك راضيا به مبتسما له راغبا فيه. قالت: فإنّي أحب لكم معشر الشيوخ أن تكونوا كحفني ناصف وأمثاله من أساتذتكم، لا تضيقون بأبنائكم إن ثاروا أو تمرّدوا أو لعبت برؤوسهم نزوات الشباب. هنا قال صاحبها في شيء من الغضب الضاحك: ومن زعم لك إنّي شيخ، هذا شيء لا أقرّه ولا أرضاه. قالت وهي مغرقة في الضحك، وما يعنيني أن تقرّه أو لا تقرّه، وإن ترضاه أو لا ترضاه، فأنت شيخ سواء أردت أم لم ترد. ألست قد أنفقت أكثر من ربع قرن تنشئ الرسائل وتنشر الفصول وتذيع الكتب؟ أليس قد اختلف إليك أجيال من الشباب فقرءوا ما كتبت، وسمعوا لما قلت، وتأثروا بهذا وذاك. فمنهم من ذهب مذهبك، ومنهم من ذهب مذهب فلان أو فلان من أصحابك. فكن شيخا أو لا تكن، فأنت أب على
كل حال، ماذا أقول؟ بل أنت جد. فلم يختلف إليك جيل واحد وإنما اختلفت لديك أجيال، ولم تتخرج عليك طبقة من الكتّاب، وإنّما تخرجت عليك طبقات. ولست أدري ماذا يغيضك من الشيخوخة. وماذا يسوؤك منها؟ ولم تكره أن يراك الناس كما أنت؟ بل لم تكره أن ترى نفسك كما أنت. ولم تريد أن تطمع في غير مطمع؟ وتطلب ما لا سبيل إليه؟ فليس التصابي من الأشياء التي تحب أو يرغب فيها الرجل المحتشم، وقد عرفتك رجلا محتشما فأجعل نفسك حيث أراد الله أن تكون. قال في لهجة ماكرة وصوت عابث: فأنت شيخة إذن، فقد كتبت الكتب وأذعت الرسائل ودبجت الفصول، منذ عشرين سنة. قالت: بل منذ خمس عشرة سنة. قال: بل منذ عشرين. قالت: لم أكن أكتب حين شبّت الحرب. قال: بل كنت تكتبين، وإنّي لزعيم أن أذكرك بعض ما كتبت قبل أن تشب الحرب. قالت: فإنّي لم أكن قد بلغت الخامسة عشرة.
قال: لن أقول إنّك شيخة في السن، ولو قلت ذلك لكذّبني ما أرى وما أسمع. فعلا وجهها احمرار شديد، ومسّت يده في رفق كأنّما تريد أن تضربه. وهي تقول: متى تدع هذا العبث. ومضى هو في الحديث.
فقال: أنت على نضرة شبابك شيخة في الأدب. قد كتبت منذ زمن طويل، وعلّمت أجيالا مختلفة من الشباب وتخرّجت عليك طبقات مختلفة من الكتّاب. قالت تعال نتفق. لسنا شيخين ولا شابّين، وإنّما نحن شيء بين ذلك وأنت أدنى إلى الشيخوخة وأنا أدنى إلى الشباب. قال ولا هذا، فلا بدّ من أن نتفق على معنى الشيخوخة في الأدب، فليس يكفي أن نكون قد اصطنعنا الأدب منذ زمن طويل. وأثرنا في أجيال مختلفة من الكتّاب لنكون شيوخا، وليس من الحق أن كل أب شيخ، ولا أن كل جد شيخ. فقد نكون آباء، وقد نكون أجدادا، ولكننا على ذلك لسنا شيوخا، إنّما الشيخوخة ضعف. وما أرى إلاّ أنّ الشيخ هو الذي أخذه الضعف، وبلغ منه العجز والفتور، فاضطر إلى العقم، وحيل بينه وبين الإنتاج. أفترين إنّا قد انتهينا إلى هذه الحال؟ إنّك تكتبين في كل يوم، وإنّي أكتب في كل يوم. والناس يقرؤون لك ويقرؤون لي، والناس يعجبون بك ويرضون عن بعض ما أكتب. قالت بعض هذا التواضع، ولكنه مضى في الحديث فقال: وما زالت آمالك وآمالي في الأدب أبعد من أن تحد، وأوسع من أن تحصر، وما زلنا نتم الفصل أو الكتاب وإذا نحن نفكر في
فصل جديد أو كتاب طريف، نريد أن نكتبه أو نذيعه، وما دمنا نجد هذه القوة، ونملك هذا النشاط ونعرض آثارنا على الناس، ومنهم هؤلاء الشباب، فلسنا شيوخا ولا قريبين من أن نكون شيوخا، قالت ليهلك هذا الشباب الذي تحبه وتحرص عليه، وتخشى أن يغتصبه منك الشبان، ولقد كدت أرضى منك بهذا الحديث وأحمد لك إحياء الأمل في نفسي لولا أجد من الضعف ما لا تجده، وأحس من الهزيمة ما لا تحس. فأنت تكتب وتفكر في الكتابة، وأنت تنشئ وتتهيأ للإنشاء، أما أنا فلا اكتب ولا أفكر في الكتابة وان كتبت فلا أكتب للناس وإنما أكتب لنفسي، ولا أتحدث إلى الناس وإنما أتحدث إلى نفسي. ولعلي لا أذكر الناس في هذا الحديث وإنما أذكر نفسي. إنما أنا شيخة قبل أن ابلغ سن الشيوخ. أمحزونة أنا لذلك أراضيه أنا به؟ لا أدري، ولعلي أحزن له حينا وأرضى عنه حينا آخر. ولكني على كل حال لا أجد في نفسي هذا النشاط الذي يمكنني من رفض الشيخوخة. قال في صوت هادئ حار: كلا يا سيدتي، هذه أزمة من أزمات الشباب ليس بينها وبين الشيخوخة سبب، وأنا زعيم بأن هذا الصيف لن ينقضي حتى يتحدث الناس عنك فيطيلوا الحديث، ويعجب الناس بك فيكثروا الإعجاب. وسأكون أنا أحد هؤلاء المتحدثين وأحد هؤلاء المعجبين ولكن حديثي عنك وإعجابي بك لن يقعا من نفسك إلا كما يقع منها حديث غيري من الناس وإعجابهم. قالت فأنت إذن تريد الثناء. قال: كلا وإنما أريد شيئاً آخر خيرا من الثناء ، أريد أن اسبق الناس إلى قراءة شيء مما تكتبين. قالت دعني ودع ما أكتب ومالا أكتب وحدثني عن ظاهرة أخرى في الأدب المصري ظهرت عنيفة في هذه الأيام. قال وما هي؟ قالت ألست ترى غضب الأدباء من الشيوخ والشبان. قال دعي لفظ الشيوخ. فليس في أدبائنا شيوخ. فضحكت وقالت: ألست ترى أن الأدباء جميعا يضيقون بالنقد ولا يحتملونه، ولا يطيقون الصبر عليه. وكيف تفسر هذه الحدة؟ وأين تجد العلة لهذا الضيق؟ لقد كنت أريد أن أجد في هذه الحدة والضيق دليلا على شيوخة الأدباء، ولكني أراهما شائعين حتى عند الذين لا أشك ولا تشك أنت في انهم من الشبان. فهم أبغض للنقد والناقدين من كل إنسان. ومهما أعجب فلن ينقضي عجبي من كاتب أو شاعر ينشر نثره أو شعره على الناس في كتاب مطبوع أو في صحيفة سيارة فيخرجه بذلك عن ملكه الخاص، ويجعله بذلك ملكا للناس جميعا. ثم يأبى على الناس بعد ذلك أن يتصرفوا في ملكهم كما يريدون. قال: إن
الكتاب والشعراء يسرفون على قرائهم ويكلفونهم شططاً، فهم يغضبون إن لم يقرأهم الناس، وهم يغضبون إن قرأهم الناس، ونالوهم بشيء من النقد ولو خفيفا. ولقد أتردد أحيانا في أن أقرأ الكتاب أو الديوان يرسله إلي صاحبه، لأني واثق باني قد أرى فيه غير ما يحب الكاتب أو الشاعر. فان سكت عنه أثمت في حق الأدب وفي حق نفسي، ولم يرض مني صاحب الكتاب أو الديوان بهذا السكوت، وان قلت ما أرى فتحت بابا من أبواب الجدال ليس إغلاقه بالأمر اليسير، ولعله لا يغلق الا على كثير من الموجدة. قالت: هذا اعوجاج في أخلاق الأدباء كنا ننكره على شيوخنا المتقدمين، وكنا نقدّر أن أدباء الحيل الحديث سيقومونه في أنفسهم والناس، فاخلفوا الظن، وكذبوا الرأي، وأصبحوا خليقين أن يقومهم المقومون سواء أرضوا بذلك أم كرهوه. فهمّ أن يتكلم، ولكنها مضت في الحديث قائلة: على انهم لا يضيقون بالنقد فحسب، ولكنهم يتهالكون على الثناء فما أشد ثورتهم على الناقدين! وما أحسن لقائهم للمقرظين! قال ومع ذلك: فإني اتهم كل مقرظ، وأسيء الظن بكل تقريظ، واعتقد اعتقاد الموقن أن النقد مهما يشتد ومهما يسرف صاحبه فهو أنفعوأجدى. لأن الكاتب إلى أن يعرف عيوبه ويتبين مواضع الضعف في آرائه وألفاظه وأساليبه، أحوج منه إلى أن يقال له أحسنت حين يحسن، وأصبت حين يصيب.
ومر فتى لم يبلغ السادسة عشرة، صبيح الوجه رث الزي حافي القدمين يحمل سلة فيها باقات من زهر، فوقف على الصديقين وقدم إليهما أزهاره. قال الصديق لصاحبته: اختاري. قالت أليس من الاختيار بد؟ قال الفتى لا بد من ذلك يا سيدتي فإني في حاجة إلى العشاء. هنالك اضطرب بصرها بين باقتين في إحداهما ورد، وفي الأخرى قرنفل. قال الرجل للغلام: ضع هاتين الباقتين، ثم التفت إلى صاحبته وهو يقول: أما أنا فأحب لثم الورد وشم القرنفل.
الكيف لا الكم
للأستاذ أحمد أمين
روي أن ابن سينا كان يسأل الله أن يهبه حياة عريضة وإن لم تكن طويلة، ولعلّه يعني بالحياة العريضة حياة غنية بالتفكير والإنتاج، ويرى أن هذا هو المقياس الصحيح للحياة. وليس مقياسها طولها إذا كان الطول في غير إنتاج، فكثير من الناس ليست حياتهم إلاّ يوما واحدا متكررا، برنامجهم في الحياة أكل وشرب ونوم، أمسهم كيومهم، ويومهم كغدهم، هؤلاء إن عمّروا مائة عام فابن سينا يقدره بيوم واحد، على حين أنه قد يقدّر يوما واحداً (طوله أربع وعشرون ساعة) بعشرات السنين إذا كان هذا اليوم عريضا في منتهى العرض، فقد يوفق المفكر في يومه إلى فكرة تسعد الناس أجيالا أو إلى عمل يسعد آلافا، فحياة هذا (وإن قصرت) تساوي أعمار آلاف بل قد تساوي عمر أمّة، لأن العبرة بالكيف لا بالكم.
وليس على الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
وتقدير الأشياء بالكيف لا بالكم منزلة لا يصل إليها العقل إلاّ بعد نضوجه. أمّا الطفل في نشأته، والأمة في طفولتها فأكثر ما يعجبهما الكم، فالريفي عنده خير (الخيار) ما كبر حجمه وبيع بالكوم، والمدني خير (الخيار) عنده ما نحف جسمه وكان (كالقشّة) وبيع بالرطل. والطفل وأشباهه يرغبون بكثرة العدد لا بجودة الصنف، فحيثما مررت في الشارع أو زرت متجراً رأيت أكثر الترغيب في الكم (فأربعون ظرفا وجواباً بتعريفة)، و (دستة أقلام رصاص بصاغ)، وهكذا، وسبب هذا أن البيع والشراء يعتمدان على أدق قوانين علم النفس، والباعة من أعرف الناس بهذه القوانين التي تتصل بعقلية الجمهور، فهم يعلمون أنهم أكثر تقويما للكم، وأكثر انخداعا بالعدد، فهم يأتونهم من نواحي ضعفهم وموضع المرض منهم، وقل أن يرغبوهم في الشيء بأنه من (العال) أو (عال العال) لأن هذا تقدير للكيف وليس يقدره إلاّ الخاصة.
وكل إنسان قد مرّ بدور الطفولة، والأمم جميعها مرّت كذلك بهذا الدور فعلق بأذهانهم تقدير الكم ولم يستطيعوا أن يتحرروا منه مهما ارتقوا، وأصبحوا (حتى الخاصة منهم) ينخدعون بالكم من غير شعور وبلا وعي، وصار هذا مرضا ملازما، إنما يتحرر منه الفلاسفة وإلى
حد، ألاّ ترانا نرى الرجل الضخم حسن الهيئة جميل الطلعة فنمنحه الاحترام، ولو لم نعرف قيمته، ونرى الرجل صغير الجسم غير مهندم الثياب فنحتقره لأول وهلة من غير أن نعرفه، وأساس معاملتنا بالإجمال احترام ذوي المظاهر الجميلة حتى يثبت العكس واحتقار ذوي المظاهر الوضيعة حتى يثبت العكس، وليس ذلك إلاّ من خداع الكم ولو أنصفنا لوقفنا على الحياد من الجميع حتى نتبين الكيف.
ونرى ذا العمامة الكبيرة واللحية الطويلة فنعتقد فيه العلم والدين، مع أن لا علاقة بين كبر العمامة وطول اللحية وبين العلم والدين وإن كان ثمّة علاقة فعلاقة الضدية، لأن الدين محلّه القلب والعلم موطنه الدماغ، وإذا مليء القلب دينا والدماغ علما أحتقر المظهر وأبى أن يدل على دينه أو علمه بمظهر خارجي بل هو إن امتلأ دينا وعلما أنكر على نفسه الدين والعلم وأعتقد أنه أبعد ما يكون عمّا ينشده من دين وعلم، وكذلك الشأن في اللباس الجامعي واللباس الكهنوتي.
وقديما أدرك العرب خداع الكم فقالوا: (ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل.)
وقال شاعرهم:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
…
وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه
…
فيخلف ظنّك الرجل الطرير
وفي كل شأن من شؤون الحياة وضرب من ضروب العلم والفن ترى خداع الكم ولنأخذ الأدب مثلا.
فالمؤلفون يعلنون عن كتبهم أنها في أربعمائة صفحة - مثلا - من القطع الكبير، والمتعلمون كثيراً ما باهوا بكثرة ما قرءوا والكتّاب بكثرة ما كتبوا، والصحافة كثيرا ما خدعت القرّاء بالكم. فكان مما اصطنعته زيادة عدد الصفحات في الجرائد والمجلات مع أن الصفحات وحدها كم ولا قيمة لها ما لم يصحبها الكيف، وكم أتمنى أن أرى جريدة أو مجلة ترغِّب قرّاءها بالكيف فقط وإن كنت أجزم بأن مصيرها الفشل لأن أكثر الناس لم يمنحوا بعد ميزان الكيف.
وقد جرت كثرة الصفحات في الجرائد والمجلات إلى تحوير الأسلوب إلى ما يناسبها فكان الأسلوب أحيانا كالعهن المنفوش يصاغ في صفحة، ما يصح أن يصاغ في عمود وفي
عمود ما يصح أن يصاغ في سطر ولست أدري لم كان الناس إذا أرسلوا تلغرافا تخيروا أوجز الألفاظ لأغزر المعاني، ولم يفعلوا شيئا من ذلك في كتبهم ورسائلهم ومقالاتهم؟ ولعلهم يفعلون ذلك لأن الكلمات في التلغراف تقدر بالقروش وليس كذلك فيما عداها، إن كان هذا هو السبب دلّ على تقدير القرش اكثر مما يقدر زمن القارئ والكاتب، وفي هذا منتهى الشر، وفي هذا أقسى مثل لغفلة الناس في تقدير الكم لا الكيف.
وقديما عرض علماء البلاغة للكيف والكم في الأدب وسموهما اسماً خاصاً هو الإيجاز والإطناب، وعدوا الإيجاز أشرف الكلام والإجادة فيه بعيدة المنال لما فيه من لفظ قليل يدل على معنى كثير، ومثلوا للإيجاز والإطناب بالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم الكثيرة، فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم لكثرتها، ومن ينظر إلى شرف المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولا يعدل عن الإيجاز إلى الإطناب إلا لإيضاح معنى أو تأكيد رأي.
والحق إن الأدب العربي في هذا الباب من خير الآداب، فاكثر ما صدر في عصوره الأولى حبات من المطر تجمعت من سحاب منتشر، أو قطرات من العطر استخلصت من كثير من الزهر.
وبعد، فلست أحب أن تكون كتابتنا كلها تلغرافات، وإذن لعدمنا ما للأسلوب من جمال، وما لتوضيح الفكرة وتجليتها وتحليتها من قيمة، وإنما أريد أن يكون المعنى هو القصد وهو المقياس فان أطنبنا فللمعنى، وإن أوجزنا فللمعنى.
وأريد أن يقوّم الناس الكيف للكيف، وإذا قدروا الكم فللكيف.
ولعل من ألطف ما كان، أني حين بلغت هذا الموضع من مقالتي أخذت أعد صفحات ما كتبت، فوجدتها قليلة العدد فآلمني ذلك لأني لم أبلغ ما حزرت أن يكون، ولأني خشيت أن يستصغرها صاحب الرسالة وقراء الرسالة وفرحت بهذه الملاحظة لأنها سدت فراغا ما في المقالة يكمل بعض ما فيها من قصر، ألسنا جميعا عباد (كم)، أو ليس هذا من نوع تقدير الخيار بالكوم؟
الشعر المرسل أيضاً
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
نشرت الرسالة ترجمتين لقطعة من رواية (عطيل) الشهيرة إحداهما نثر والأخرى شعر مرسل وقد حاولت أن أعرف رأي الأصدقاء في أوقع الترجمتين في نفوسهم أهي الترجمة الأولى أم الثانية. وكان رأي الكثرة إنه الشعر المرسل. على أن بعضهم استدرك في قوله، فقال إن الذي يقرأ السطر الواحد من الشعر المرسل ثم يقف في آخره ينتظر ما اعتاد انتظاره من انتهاء المعنى يشعر بالمضاضة، ويقبح قي عينيه ذلك الأسلوب.
ولكنه إذا قرأ ذلك الشعر المرسل على سجيته فلم يقف إلا حيث يقف به المعنى وجده قولا سائغا لا قبح فيه.
وها أنا ذا أعرض على القارئ صفحة من رواية صغيرة لي بها علم وهي في شعر مرسل. وقف فيها رجل غجري يحاول إلانة قلب فتاة من جنسه جامحة العاطفة معرضة عنه. وهي تجيبه إجابة تمنع ودلال.
الفتى: جرحت فؤادي
بدلال يثير فيّ لهيباً
فأعيدي سعادتي وأعيدي
بسمات الرضا أعيدي حياتي
الفتاة: (ضاحكة ساخرة)
ليت قلبي يسير طوعي سميعاً
فيلبي نداء كل شفيع.
إن قلبي له هواه فيمضي
حيث شاء الهوى جموحاً عنيداً.
الفتى: كنتِ (ميسون) سلوتي وحياتي
فاذكري عهدنا القديم وعودي
لفؤادي الجريح يا ميسون.
الفتاة: (بعناد)
إن ماء العيون يحلو جديدا
وجمال الغرام أن نتولى
كفراش الربيع بين الزهور
الفتى: (بتذلل)
أنت روحي. وكيف أحيا وحيدا؟
فانظري لي ببسمة لأداوي. . مهجتي
الفتاة (جامدة) إنه كلام ثقيل
الفتى: (غاضبا)
ويل نفسي - أما بصدرك قلب؟
الفتاة: (ضاحكة)
لا تحاول نوال حبي رجاءً
لا ينال الهوى بدمع وشكوى
إنما الحب آمر ليس يعصى
يأخذ القلب قاهراً منصورا
ولعل القارئ إذا اتبع نصيحة ذلك الصديق فقرأ ذلك القول كما يقرأ النثر واقفا عند نهاية المعاني وجد فيها ما يقبله ذوقه.
هذا وقد عرضت لي ترجمه بارعة لقصة أخرى من قصص شكسبير، وهي ترجمة أستاذنا المفضل محمد بك حمدي ناظر مدرسة التجارة العليا، وقد كانت ترجمة حلوة بديعة دقيقة في نثر حلو ممتع، واتفق أن قطعة من تلك القصة كانت كذلك مترجمة في شعر مرسل، فرأيت أن أتبع الموازنة الأولى بموازنة ثانية، لعل ذلك يكون أفسح في التدليل وأقوى إعانة على صدق الحكم.
وتلك القطعة المختارة هي في الموقف المشهور الذي وقفه أنطونيس يرثي قيصر بعد مقتله، وفيه استطاع تحويل رأي العامة من الحنق على قيصر والعطف على قاتليه إلى الثورة للثأر له والانتقام من أعدائه.
ترجمة الأستاذ حمدي بك:
أنتوني: أيها الأخوان. أيها الرومان. بني وطني. أعيروني أسماعكم فإني ما جئت للتمدح بقيصر ومناقبه، ولكن لأواريه لحده وأهيل عليه التراب. فقد جرينا على أن ما يعمل الإنسان من شر يخلفه، وما يعمل من خير يرمس معه في غمار الرمم ولفيف الرفات، وهذا شأن قيصر معنا اليوم نتناسى مناقبه ونعدد معايبه. قال لكم بروتاس وهو رجل الشرف الصميم: إن قيصر طماع فان كان كذلك كان ذنبه يوجب الأسى والأسف كما كان جزاؤه أدعى للحزن والشجن، إني أقف بينكم الآن في جناز قيصر بإذن من بروتاس وهو رجل النبل والفضل وبإذن من زملائه الآخرين وكلهم مثله أجلاء نبلاء، ولكن قد كان لي في قيصر صديق حميم وبر كريم، لم أعهد فيه الطمع الذي يرميه به بروتاس رجل الفضل والشرف، أتاكم قيصر بالأسرى مكبلين فملأت دياتهم بيت المال، فهل كان في عمله هذا ما ينبئ عن طمع. كان قيصر يبكي شفقة ورحمة كلما ذرفت الفقراء دموع الفاقة والإملاق، وعهدي بالطماع أخشن طبعا وأغلظ كبدا، ولكن بروتاس يقول انه طماع وبرتاس كما تعلمون رجل الفضل والشرف. ألم تروا إني عرضت عليه التاج ثلاث مرات في (لوبركال) فكان يرفضه في كل مرة؟ فهل كان هذا لطمع فيه؟ ومع ذلك فان بروتاس يقول انه طماع، وبروتاس رجل الفضل والشرف. لا أريد أيها السادة أن أدحض دليل بروتاس ولا أن أقارعه الحجة بالحجة، وإنما أنا أقول ما أعرفه من الحق الصراح. لقد كنتم كلكم تحبون قيصر حباً جماً فهل كان ذا من غير داع وبلا مسوغ؟ إذن ما الذي يمنعكم الآن أن تقيموا عليه شعار الحداد؟ يا للعدالة! لقد أويت إلى قلوب الوحوش الضارية فغادرت الإنسان جباراً عتياً فاقد الرشد والصواب. عفواً سادتي إن قلبي مدرج مع قيصر في أكفانه فأمهلوني حتى يرتد إليّ.
الترجمة الأخرى في شعر مرسل:
أيها الروم يا صحابي وقومي
أنصتوا ساعة لبعض مقالي.
لست آتِ أصوغ قيصر مدحاً
بل لأسعى مشيعاً لرفاته.
إنما تخلد الذنوب وتبقى
بعد ما خاضها على حين تثوى
حسنات الماضين بين القبور
فليكن حظ قيصر مثل هذا.
قد سمعتم (بروت) وهو كريم
قال يا قوم إن قيصر طاغِ
ولئن كان ما يقول صحيحا
كان هذا لاشك وزراً كبيرا
نال من أجله جزاءً أليماً.
فلندع ذكر ذاك - أني مدين
لبروت وصحبه إذ أجازوا
أن أقوم الغداة أرثي صديقي
فبروت كما علمتم كريم
وذووه كما عرفتم كرام:
كان نعم الصديق خلاً وفياً
لا. ولكن بروت ينقم منه
انه طامع حريص وأنتم
قد عرفتم بروت شهما نبيلا.
انه قد أتى بأسرى جموعاً
وحبانا فداءهم أموالا
ملأت بالغنا خزائن روما.
أبهذا ترون قيصر يطغى؟
كان والحق إذ يصيح فقير
يسيل الدمع رأفة ولعمري
أن قلب الطغاة عات صليب.
غير أني أقول هذا وأنتم
قد سمعتم بروت وهو كريم
قال قد كان طامعا جبارا.
أرأيتم تلك الغداة وأنا
يوم عيد (الخصيب) إذ قد شهدتم
كيف قدمت نحوه التاج أرجو
لو تلقاه بالقبول ثلاثا
فأباه - أكان ذلك حرصا؟
لا ولكن بروت قد قال حقا
انه طامع. ولا شك فيه
فبروت كما علمتم شريف
ولئن قلت ما علمت فإني
لست فيه مكذبا لبروت.
أيها الناس كان قيصر منكم
في ثنايا القلوب وهو جدير.
فلماذا أرى العيون صلابا
جامدات. وفيم هذا الجفاء؟
لا! قد أصبح الرجال سواما
منذ طارت أحلامهم وكأني
بوحوش الفلات أرجح عقلا.
أي رفاقي لا تعذلوني وعفوا
إن تعديت في المقال. فإني
ضاع لبي وضل عني فؤادي
فغدا عند نعش قيصر رهنا.
فدعوني حتى ألاقي فؤادي.
أنظروني حتى يعود جناني.
ولعلي أستطيع أن أسأل من لم أسأل من الأصدقاء بعد لأعرف رأيهم في هذه البدعة الأدبية أهي وسيلة صالحة أم هي مدخل إلى العبث والإسفاف؟ فان كان من الأدباء من يراها صالحة رجوت أن يبعث لنا منها قصة غنائية أو ملحمة بارعة بعد أن يكون قد فاض عليها من جمال روحه وروعة عبقريته.
بين بريسكا وتوفيق الحكيم
بريسكا: أني أبغضك. أبغضك من أعماق قلبي.
ت. الحكيم: استغفر الله! لماذا يا سيدتي؟ ما جنايتي؟
ب: واحتقرك كما احتقر غالياس.
ت: لاحظي يا سيدتي قبل كل شئ أن ليست لي لحية غالياس!
ب: قل لي أنت قبل كل شئ: ماذا عليك لو أنك أبقيت لي مشلينيا؟. . لو أن قلمك تمهل لحظة صغيرة ولم يقصف تلك الحياة قبل أن يحضر غالياس وعاء اللبن. . .! ماذا كسبت أنت من موت مشلينيا قبل الأوان؟ لحظة واحدة صغيرة كانت كافية لإنقاذ الفتى. . لكنك ضننت بها أيها القاسي الظلوم!
ت: لست قاسيا يا سيدتي ولا ظلوما. ولو كنت أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة واحدة لأبقيته لك عن طيب خاطر.
ب: لو كنت تملك؟ ومن غيرك يملك؟!
ت: لا تحمّليني يا سيدتي هذه التبعة.
ب: جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا التنصل!!
ت: ما أظلم الإنسان! وما أحوج المبدعين إلى الرحمة والرثاء في هذا الوجود!
ب: نحن الظالمون وهم المظلومون! شيء بديع!
ت: إنكم تحملونهم التبعات وترمونهم بالظلم وهم براء من كل صفة من الصفات. فلا ظلم ولا عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا رضى، تلك عواطف لا يعرفونها ولا يشعرون بها. ولو أصغى إله لصوت آدمي لأنحلّ الكون في طرفة عين كما تنحل قصة أهل الكهف لو أني أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها! فأنت تريدين أن أؤخر موت مشلينيا دقيقة. ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة كانت كفيلة أن تغير وجه القصة وتقلب مصير الأشخاص وتلقي عناصر الفوضى في العمل كله. كلاّ يا سيدتي. إني لم أرد موت مشلينيا ولم أرد بقاءه. ولم أحب ولم أكره. ولم أظلم ولم أعدل. إنّ المبدع لا يمكن أن يخضع لغير قانون واحد:(التناسق).
ب: هذا كلام تبرر به قسوتك.
ت: أنت يا سيدتي لا تعرفين ما مهنة المبدع! ثقي أن كلمة (قسوة) لا معنى لها في تلك
المهنة.
ب: أنت كائن لا يمكن أن يفهمني ولا يمكن أن يفهم الحب.
ت: لا أفهمك، هذا صحيح. أمّا أني لا أفهم الحب فهذا غير صحيح.
ب: هل أنت تفهم الحب؟
ت: قليلا.
ب: هل أحببت في حياتك. .؟
ت: أيتها الأميرة. لا أسمح بالكلام في شؤوني الخاصة.
ب: معذرة. إنما أردت أن أعرف كيف فهمك للحب؟
ت: ماذا تريدين أن تعرفي. أحب الخالق وهو روح التناسق. أم حب المخلوق. .؟
ب: حب المخلوق. . حب القلب. . الحب ما أريد. صدقت ما دمت أنت خالقا وأنا مخلوقتك فإن بيننا تلك الهوّة. . فأنت لا تنظر إليّ بعين خاصة. ولا تعرفني معرفة خاصة. ولا تتصل بي اتصالاً مباشرا. إنما تنظر إليّ كعنصر من عناصر الكل المتسق. تنظر إلي بعين ذلك القانون الذي تحكي عنه، وينبغي أن تكون مخلوقا مثلي وعنصراً أو جزءاً مثلي حتى يكون بيننا ذلك الارتباط الخاص وذلك الالتفات الخاص. فهبك كذلك وهبني أحببتك فهل تحبني؟
ت: يا لكِ من ذكية ماهرة!
ب: أجب. إذا أحببتك. . .؟
ت: ومشلينيا؟
ب: دعنا الآن من مشلينيا.
ت: إذا أحببتني؟. . أنا. .؟
ب: نعم.
ت: إني أخشى هذا الحب.
ب: لماذا؟
ت: لأنك لن تحبيني.
ب: من أين لك العلم؟
ت: هل رأيتني؟ إني لا أشبه مشلينيا في شيء. فليست لي فتوته ولا جماله ولا قوامه ولا ذراعاه ولا شفتاه. . .
ب: ولا قلبه؟
ت: أتردد قبل أن أجيب. قد يكون لي قلبه. لكن ثقي أني إذا شقيت في هذا الحب فإني لا أذهب إلى الكهف ولا أموت جوعا. أولاً ليس عندي كهف أموت فيه. وإن وجدنا الكهف فلسنا واجدين الشجاعة والصبر عن أكل الشواء والدجاج يوما واحداً. . .
ب: إذن ليس لك حتى قلبه!
ت: نعم وا أسفاه!
ب: إذن ما يصنع مثلك لو شقي في هذا الحب؟
ت: يذهب إلى كهف من كهوف النبيذ في مونمارتر. . ويؤلف قصصاً تمثيلية.
ب: مرحى!. مرحى. .!
ت: لا تغضبي أيتها العزيزة بريسكا.
ب: أهذا فهمك للحب؟
ت: ماذا تريدين إنّا لسنا قديسين!
ب: أنتم مبدعون!. . كنت أحسبكم خيراً من هذا!!
ت: كذلك قال غالياس يوما فيما أذكر عن القديسين الثلاثة إذ خالطهم وحادثهم. ألا تذكرين؟
ب: كنت أظنك على الأقل خيراً من غالياس المسكين فهماً للحب!!
ت: يشق عليّ أن يخيب ظنك فيّ يا عزيزتي!
ب: عزيزتك! كلا. لست أسمح لك. إنك تخاطبني كما لو كنت تعرفني من قبل. أو كما لو كنت لي بعلا!!
ت: حقيقة أيتها الأميرة. ليس لي هذا الشرف.
ب: تستطيع أن تنصرف يا هذا.
ت: أنصرف إلى أين أيتها الأميرة. .؟
ب: أتسألني؟ إلى حيث كنت. . إلى سمائك. .
ت: أين هي هذه السماء؟ في دمنهور؟ أو في قهوة (جراسمو)؟ ما أكثر أوهامكم أيتها
المخلوقات!
ب: نعم ما أكثر أوهامنا. . وتخيلاتنا وخيبة آمالنا!. .
ت: ذلك أنكم تريدون أن تخضعوا كل شيء لخيالكم أنتم.
ب: صدقت. إنّا نتمثّل القديسين والآلهة كما تصورهم لنا عقولنا. .
ت: ثقي أن لو كشف المجهول يوماً لأعين البشر لصاحوا كلهم بكلمتك التي لفظت الساعة: (كنّا نحسبه خيراً من هذا. .!)
ب: ربما. .
ت: ذلك أنهم سيرون المجهول شيئا لا علاقة له بعقلهم، ولا بخيالهم، ولا بمنطقهم، ولا بعواطفهم، ولا ببشريتهم. .
ب: إنّا مخلوقات ماذا تريد من مخلوقات؟ إنا لا نستطيع أن نخرج من أنفسنا لنفهم ونرى شيئا غير أنفسنا.
ت: ومع ذلك فإن لهذه المخلوقات كنزاً لا يوجد عند الآلهة.
ب: القلب.
ت: نعم.
ب: إني أؤمن بما تقول. فها أنت ذا خالق من نوع تافه. . ليس لك القلب الذي لمشلينيا. .!
ت: أعترف أني أقل شأنا من حبيبك.
ب: ومع ذلك فقد اجترأت يدك على إطفاء حياته الجميلة. . .
ت: عدنا إلى الاتهام.
ب: إني أبغضك. . أمقتك. . أبغضك من أعماق قلبي. .
ت: سبحان الله! اقسم أن لا فائدة من مناقشة امرأة تحب.
أدب القوة وأدب الضعف
للأستاذ محمود الخفيف
أحس إذ أتناول هذا الموضوع أني بين عاملين: عامل الحياء وعامل الفخر. أما الحياء فأول دواعيه أن أعقب أنا الصغير على مقال أستاذنا العلاّمة أحمد أمين. وأما الفخر فحسبي أن يقرأ لي الأستاذ سطوراً قد تحظى برضاه في موضوع كهذا يعنيه.
يرى الأستاذ (أن الشاعر المجيد هو الذي يثير العواطف بقدر، ويبنيها على أساس عميق) ويرى أن الأدب في العصر العباسي كان أدباً ضعيفاً. إن أنت حصرته وجدته بين باك ومادح ومستهتر، ثم يرى أن عود الأديب الشرقي على نحو عود المغني الشرقي أشجى أغانيه أحزنها، وخير نغماته أبكاها.
وعلى ذلك يسمي الأستاذ ذلك النوع من الأدب الباكي الذي يتعمق في إثارة العواطف أدباً مائعاً، وذلك الأدب الذي لا يثيرها إلاّ بقدر أدباً قوياً، فهل يسمح لي الأستاذ أن أتجرأ فأقلب هذا الوضع، فأسمّي ذلك الأدب الوجداني الحاد الذي يبالغ في إثارة العواطف أدباً قوياً، وذلك الأدب الذي لا يمت إلى العاطفة بصلة قوية أدباً جافاً أو مائعاً؟
أرى الأنغام الوجدانية الحادة أساس الأدب الحاد، ولن يكون الأدب الحاد مائعاً، وأرى العبارات الخالية مما يثير العواطف أو التي تثيرها بقدر أساس التفكير العقلي، والخطوة الأولى نحو الفلسفة (القوية) ولن تكون الفلسفة القوية أدبا قويا، وعلا ذلك فما يسميه الأستاذ أدبا مائعا هو في الواقع أدب قوي، وأما ما يسميه أدبا قويا فهو فلسفة قوية.
والأدب والفلسفة شيئان: فالأدب لغة القلب، والفلسفة لغة العقل، والإنسان إنما يبدأ بقلبه فيفرح أو يبكي ويحب أو يبغض ويرضى أو يغضب ويأمل أو ييأس ويثور أو يهدأ حسب ما يحس من عواطف، فإن كان لابد من تخفيف حماسته، فليكن ذلك بشيء من حدة عقله، ولكني لا أرى تجريده من ذلك الحماس ولا أحسب ذلك ممكنا، إذ ما القلب بغير حماس؟ ثم ما الأدب بغير عاطفة؟
وإذا اشتدت العاطفة فكيف يكون الأدب مائعاً، وكيف تشتد العاطفة إلاّ إذا اشتدت بواعثها؟ وإذا ما اشتدت بواعثها فما القوة إن لم تكن القوة في إظهارها قوية رائعة؟
إن الإنسان بطبعه عسوف عنوف، لا يسكن إلاّ لعجز، ولا يرتدع إلاّ من خوف، ولا يعفو
إلاّ عن ضعف ولا يقنع إلاّ مضطراً، ولو أطلق له العنان لكان شره مستطيرا ومكره خطيرا بيد أنه على غلظته لا يخلو قلبه من عواطف نبيلة، ولكنها خامدة، وميول خيّرة ولكنها كامنة، ولذلك فهي في حاجة إلى الإبانة والتنبيه، والأدب الوجداني الحاد يخاطب القلوب فيهزها ويستثير ما كمن فيها من نبل فيبعثه، ولذلك كان هو عماد المصلحين ودعاة الإنسانية، فإنك إن تخاطب الإنسان في منطق وفي عبارات جافة فقلّما يصغي إليك، وإن استمع فقليلا ما يعي، وإن أنت بدأت بقلبه فهززته في رفق وألنته بأنغام قيثارتك ثم أهبت به فقد يهوي إليك.
تحدّث شكسبير عن تأثير الموسيقى في النفوس فبدأ بالعجماوات فقال ما بال تلك الوحوش الكاسرة تسمع أناشيد الموسيقى فتقع متراخية وتظهر كأنها مأخوذة حائرة؟ وما بال ذلك العدد المضطرب من الخيل الجانحة يسمع الموسيقى فيهدأ فجأة ويسير في نظام كأنما تذهب الأنغام ثائرته وتسحره عن نفسه.
والأدب الوجداني موسيقى النفس، وموقفه من القلوب البشرية الفطنة موقف الموسيقى الحسية من تلك الخلائق الهائمة الثائرة، فهو الذي ينفذ إلى القلب ويختلط بالنفس فيلائم بين ذراتها وينظم تموجاتها. ويقلل من عنف الإنسان وجبروته فيجعله رقيقا وادعاً.
ولا تثريب على الشاعر، أو القصصي، أن يبكي فيبكي عيوناً تكاد أن تتحجر، ويفتح آذاناً ضربت عليها المطامع المادية ويهز قلوباً كانت لا تحفل دعاء أو تجيب رجاء.
وهو إن بكى على نفسه فغير ملوم، فإنما ينطق بما يحس، وبذلك ينفس عن قلبه، وقد تخفق قلوب معه وتهوي أفئدة إليه، وها هو ذا البارودي الفارس يقول:
أفي الحق أن تبكي الحمائم شجوها
…
ويبلي فلا يبكي على نفسه حرّ؟
وماذا عليهم إن ترنّم شاعر
…
بقافية لا عيب فيها ولا نكر؟
وهو في بكائه غير ضعيف، بل إن حدة عواطفه لتنهض دليلا على قوته، وإلاّ فما أضعف جيته ولامرتين وهوجو وأبا فراس والمعرّي وغيرهم ممن ضربوا على أوتار حزينة باكية!
ولقد بكى هؤلاء في شبابهم أعني في أيام قوتهم وبكوا لقوة إحساسهم ونبالة قصدهم وكمال إنسانيتهم.
ومن البلية أن يسام أخو الأسى
…
رعى التجلّد وهو غير جماد
وليس من الضروري أن يكون الشعر المتناهي في وصف ما يلاقي المحب من عذاب غير مؤسس على عاطفة صحيحة، لأن مثل هذا الشعر يكون ترجمة لإحساس الشاعر فما دام أنه محب فله أن يعبر عمّا يحس، وليس لنا أن نتهمه في ذلك بضعف، بل أنه يكون ضعيفا حقاً إن هو أحسّ عذاباً من وراء حبه ثم لم يستطع الإفصاح عنه.
ولم يكن الأدب العباسي ضعيفاً، لما جاء فيه من بكاء ومديح واستهتار، فإن الأدب في كل عصر صورة لذلك العصر، فإذا عبّر أدباء العباسيين عمّا يحسّون فلم نتهمهم بالضعف؟ وإذا كان أدبهم حزيناً باكياً يتخلله المديح والاستهتار فكيف كان يتسنى لهم أدب غيره، وإذا هم تطاولوا في غير عزّة وتفاخروا بغير فخر وضحكوا في غير مرح، أفما كنا نتهم أدبهم بأنه سقيم زائف أو بعبارة أخرى ضعيف مائع؟
ثم أن الضعف السياسي لا يسلتزم أن يكون وراءه ضعف في الأدب، بل لقد يكون الضعف السياسي ذاته سبباً قوياً من أسباب قوة الآداب كما يحدث عند انقسام الدول الواسعة كما كان الحال في القرن الرابع، وكما كان الحال عند الإغريق في مدنهم الحكومية وكما كان الحال في النهضة الإيطالية الحديثة.
وليت شعري لم لا يكون بكاء الشعوب على ما يصيبها قوة واستنهاضاً للهمم؟ هزمت فرنسا في حرب السبعين وخرجت ألمانيا متفاخرة بالنصر، فخاطب أحد الأدباء الفرنسيين الألمان الظافرين بقوله (نعم قد انتصرتم علينا ولكن ليس لديكم شاعر يشيد بنصركم كشاعرنا هذا الذي يبكينا على مصابنا) فهل كان بكاء الفرنسيين في ذلك الوقت ضعفا؟ اللهم لا.
وأما ما جاء عن مصعب بن الزبير حين استخفه الطرب وعن استخفاف المنصور به لذلك حتى جعله يتمثل بتلك الأبيات التي أوردها الأستاذ، فأقول أن مصعبا كان متغزلا وأن المنصور كان متفاخرا وشتّان بين الموقفين، فهذا تستملح فيه الرقة واللين وذلك لا يليق فيه إلاّ الصرامة والشدة. وإذا كان في كلام مصعب ضعف فماذا يكون في كلام الرشيد وهو يخاطب جارية بهذا البيت:
أما يكفيك أنك تملكيني
…
وأن الناس كلّهم عبيدي؟
وبعد فيعجبني من الأستاذ قوله أن أرقى الأدب في نظره ما أحيا الضمير وزاد حياة الناس
قوة، وهذا في رأيي هو الأدب الوجداني القوي هو ذلك الأدب الذي يرقق القلوب ويستثير الهمم ويطهر النفوس، هو ذلك الأدب الذي يجعل من الشيخ شاباً فتياً، وهو ذلك الأدب الذي يملأ المحاجر بالدموع والقلوب بالشفقة والحنان.
فلسفة سبينوزا
للأستاذ زكي نجيب محمود
لم يكد سبينوزا يبلغ سن الشباب حتى انكب على الفلسفة يدرسها دراسة
صادفت في نفسه هوى. فأخذ ينهل من مواردها العذبة ويؤثرها على
كل شيء وقد طالع فيم طالع فلسفة برونو فوقعت منه آراؤه موقع
الإعجاب وامتلأ ذهنه بما قاله ذلك الفيلسوف من: أن الوجود في
جوهره وحدة متجانسة وإن تعددت ظواهرها. إذ نشأت جميعها من
أصل واحد ثم اتخذت ألوانا مختلفة لا تغير من جوهر طبيعتها
المتجانس.
كذلك أعجبه رأي برونو المذكور القائل بأن الروح والمادة شيء واحد فكل ذرة من ذرات الكون يتحد فيها الجانبان: الروحي والمادي، وعنده أن موضوع الفلسفة هو إدراك تلك الوحدة التي تربط هذه الأشتات المتضاربة في الظاهر فترى الروح في المادة كما تلمس المادة في الروح.
ثم قرأ سبينوزا فلسفة ديكارت قراءة درس وتمحيص، فدعاه إلى التفكير الطويل برأي ديكارت في تقسيم الكون إلى شطرين: شطر مادي متحد في الجوهر على الرغم مما يبدو في الأجسام المادية من إختلاف وشطر روحي متجانس في جوهره كذلك، وهو عبارة عن مجموع القوى العقلية الحالّة في مختلف الأجسام وتدير هذه الشطرين وتشرف عليهما قوة إلهية عليا. . . قرأ سبينوزا ذلك فلم يوافق على شطر الكون واختمرت في نفسه على الفور فكرة وحدة الوجود التي تقول بأن الكون شطر واحد لا يتجزأ، وهذه الفكرة هي المحور الذي تدور حوله فلسفة سبينوزا، وها نحن أولاء نتناولها بالشرح والتحليل.
يقول سبينوزا أن في الكون حقيقة واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته إلاّ بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشكال
المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهي متغيرة متبدلة أبداً، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. ذلك كما تقول أن للدائرة قانوناً لا يتغير، يخضع لناموسه كلما وجد أو يوجد من الدوائر، وإن كانت الدوائر نفسها تمحى وتتجدد، الا أن قانونها يظل باقياً لا يعتريه التبدل أو الفناء. فأجسامنا، وأفكارنا وهذه الأرض التي نعيش عليها، وكلما يحتوي الكون من أشياء، كل ذلك صور مختلفة تستخدم لإبراز الحقيقة الكائنة وراءها، والتي لا يمسها معنى من معاني التغيير والتبديل، إنما القوالب المادية وحدها هي التي تخضع لذلك التبديل والتغيير.
فالطبعة على هذا الأساس مزدوجة الجوانب، فهي فعالة حيوية منشئة من ناحية (قارن في فلسفة برجسون) وهي منفعلة متأثرة منشأة من ناحية أخرى، هذا الجانب المنفعل المتأثر من الطبيعة: هي أجزاؤها المادية، هي هذه الجبال والبحار والمزارع والرياح وما إلى ذلك من الصور المادية التي لا يحدها الحصر، أما الجانب الفعال المنشئ فهي تلك القوة الكامنة وراء هذه الصور المادية، وهي التي خلقتها خلقاوأبدعتها إبداعاً أو بعبارة أوضح هو الله عز وجل. . .
ويقصد سبينوزا بكلمة (الله) ذلك القانون الثابت الذي لا يجوز عليه التغيير أو الفناء، تلك القوة الفعالة التي تنظم الكون وتباشر ترتيب ما يطرأ من أحداث على المادة التي تملأ جوانب الكون.
ولولا تلك القوانين العامة التي يسير بمقتضاها العالم، لتداعى الكون بعضه على بعض، مثل ذلك مثل الجسر (الكوبري)، فهو في حد ذاته كتلة من المادة، ولكنه مشيد على أساس من القوانين الرياضية والميكانيكية، التي وإن تكن مختفية لا تظهر بشكل محسوس، في مادة الجسر، الا أنها كامنة فيه ولو اختل واحد منها انهار البناء على الفور. فالعالم المادي بمثابة ذلك الجسر، والله سبحانه وتعالى من هذا العالم بمثابة تلك القوانين التي لا ترى ولكنها لا تنكر.
وعلى هذا الاعتبار تكون إرادة الله وقوانين الطبيعة شيء واحد، وكل ما يقع من حوادث
عبارة عن النتيجة الآلية المحتومة لتلك القوانين الدائمة، أي أنها ليست عبثا ولا فوضى. فهذا العالم تسيره تلك الإرادة العليا، وليس مخيرا في كثير ولا قليل مما يفرض عليه فرضاً، وليس له عن تنفيذه نحيد. والإنسان - ككل جزء آخر من أجزاء العالم - يسير كذلك في هذه الطريق المرسومة، الا أنه قد تبلغ به الأنانية حدا بعيدا فيظن انه المقصود من خلق هذا الكون الفسيح، وأن هذه الطبيعة وما فيها إنما وجدت من أجله ولصالحه، ولكن لا يجوز للفيلسوف بحال من الأحوال أن ينظر إلى العالم هذه النظرة الشخصية الضيقة فواجب أن نجرد أنفسنا من نزعتنا البشرية، حتى يتسنى لنا أن ندرك الكون مستقلا عنا، بعيدا عما تمليه أغراضنا، وأن ندرسه دراسة موضوعية كحقيقة عارية لا تؤثر فيها الميول الإنسانية. فلا ننسب الخير والشر لهذا الشئ أو ذاك لأن الخير والشر نسبيان للبشر، وليس لهما وجود في الواقع، فإذا ما حكما على شيء قي الطبيعة بأنه عبث وشر، أو أنه يثير فينا السخرية فذلك لأننا لا نعرف الأشياء الا معرفة جزئية، ولأننا نريد أن تسير الامور كما نشتهي نحن، وحسب ما تمليه عقولنا، لأننا نجهل أن الكون وحدة لا تتجزأ، فما نحكم عليه بأنه شر ليس في الحقيقة شرا بالنسبة للقوانين التي تسير الطبيعة بمقتضاها، ولكنه شر بالنسبة لطبيعتنا نحن بعد فصلها وانتزاعها من تلك الوحدة الكونية. فالشر والخير أوهام لا تعرفها الحقيقة الخالدة. لا ولا الجمال والقبح لأنهما كذلك أوصاف اصطلح عليها الإنسان. فالشيء الجميل والشيء القبيح هما في نظر القوانين العامة سواء ولا تفضيل لأحدهما على الآخر. هكذا يريد سبينوزا أن نجرد أنفسنا من كل النزعات والميول والأغراض وأن ننظر إلى العالم من وجهة نظر الواقع، لا من وجهة نظرنا نحن. حتى نصدر أحكاما صحيحة. يجب أن ننظر إلى العالم نظرة مجردة كما ننظر إلى المثلث مثلا، فأنت لا تحكم عليه كما يقع في نفسك، فيكون لك فيه رأي ولي فيه رأي آخر، لا بل ننظر إليه بالنسبة إلى القانون العام المجرد الذي يتحكم في جميع المثلثات على السواء فيكون المثلث عندك كما هو عندي وعند أي إنسان. فلننظر إذن إلى هذا العالم من وجهة نظر قوانينه الثابتة الشاملة حتى لا يتغير باختلاف الميول والأشخاص. ويزعم سبينوزا: أن تلك النظرة الشخصية قد أفسدت علينا فهم الله سبحانه وتعالى فهما صحيحا، فأخذنا ننسب إليه صفاتنا نحن، لماذا؟ لأننا أبصرناه من نافذة نفوسنا، ولم نتجرد لنطل عليه من
جانب الحقيقة والواقع، فنحن مثلا نتصور الله في صورة المذكر دائما، ولا نرضى أن نصبغه بصبغة التأنيث، نقول هو ولا نقول هي، وليس ذلك الا نتيجة لخضوع المرأة لسلطان الرجل، كذلك ننسب إليه كل الصفات التي نراها حسنة كاملة لا من حيث الواقع ولكن من حيث حكم العقل البشري المحدود بميوله وأغراضه. وقد كتب سبينوزا في ذلك إلى أحد معارضيه يقول:(إذا اعترضت عليّ بأنني لا أريد أن أصف الله بالنظر والسمع والملاحظة والإرادة وما إلى ذلك من الصفات. . . فأنت إذن لا تعرف الإله الذي أتصوره وأحسب أنك لا تستطيع أن تتخيل مثلا أعلى من الصفات السالفة الذكر، وإني لا أستغرب منك هذا القصور في الخيال لأنني أعتقد أن المثلث إذا استطاع أن يعبر عن نفسه لقال كذلك أن الله يتميز بصفات المثلث. كما تقول الدائرة أن طبيعة الله دائرية. وهكذا ينسب كل شيء إلى الله من الصفات ما يراها في نفسه)
الله عند سبينوزا هو مجموع الأسباب والقوانين جميعا وقوته هي مجموع القوى العقلية الكامنة في كل أجزاء المادة المنتشرة في الزمان والمكان.
لأن لكل شيء في الوجود جانبا عقليا أي روحيا، كما أن الامتداد، أي الجسم، جانب آخر.
ولكن ما هو العقل وما هي المادة؟ ذهب الخيال الجامح ببعضهم إلى حد القول بان المادة روح كلها وليس الجسم الا محض فكرة، كما جمد الخيال عند بعض آخر إلى حد القول بأن العقل مادة كله، وليست الأفكار الا عمليات جسمية، وذهب فريق ثالث إلى أن العقل والمادة مستقل بعضهما عن بعض الا انهما متوازيان في عملهما أي أن العقل يفكر والجسم يتحرك دون أن يكون بين ذلك التفكير وهذه الحركة علاقة ما. يستعرض سبينوزا هذه الآراء جميعا فيرفضها جميعا، فلا المادة روحية ولا العقل مادي ولا هما مستقلان متوازيان إذ ليس هناك شيئان متميزان: عقل ومادة، حتى نبحث عن العلاقة بينهما بل ثمت شيء واحد فقط وعملية واحدة فحسب لها مظهران أو جانبان، فأنت تراها الآن باطنيا في صورة الفكرة ثم تراها خارجيا في صورة العمل. فالعقل والجسم وحدة لا تتجزأ، وكل أجزاء الوجود لها هاتان الشعبتان الممتزجتان المتحدتان، وبعبارة أخرى المادة التي في الكون والروح التي في الكون شيء واحد ذو وجهين، وبعبارة ثالثة، الطبيعة والله شيء واحد، وإذا كان الأمر كذلك من توحيد العقل والجسم أي أن الروح والمادة وجعلهما شيئا واحدا فلا
اختلاف إذن بين الإرادة والذكاء، ما دامت الإرادة هي عبارة عن نزوع الجسم إلى عمل معين، والذكاء هو القوة الفكرية الخالصة، وها نحن أولاء قد رأينا أن أعمال الجسم وقوة الفكر ليسا إلا ناحيتين من حقيقة واحدة.
الإنسان إذن بعقله وجسمه وحدة لا تقبل التقسيم وعماد وجوده هو الرغبة اللاشعورية في البقاء، فالرغبة اللاشعورية عند سبينوزا هي كنه الإنسان وجوهره (قارن إرادة الحياة عند شوبنهور وإرادة القوة عند نيتشه) وكل الغرائز خطط دبرتها الطبيعة لحفظ الفرد أو النوع، والسرور والألم ينشآن عن إشباع الغرائز أو تعطيلها، فليس السرور والألم سببا لرغباتنا كما يذهب فريق من المفكرين ولكنهما نتيجة لها. نحن لا نرغب في الشيء لأنه يسرنا ولكنه يسرنا لأننا نرغب فيه، ولا بد لنا أن نرغب فيه لأنه يشبع لنا الغرائز التي تمهد لنا سبيل البقاء. ولا بد أن يكون القارئ قد سارعت إليه النتيجة الطبيعية لهذه المقدمات وهي أن ليس ثمت إرادة حرة، وأن الإنسان مجبر على السير في طريق معينة مرسومة ليس له أن يحيد عنها قيد شعرة، لأن ضرورات الحياة تحدد الغرائز والغرائز تملي الرغبات والرغبات تخلق الأفكار والأعمال المعينة.
وقد يتوهم الإنسان انه حر فيما يفكر ويعمل ومنشأ ذلك الظن الخاطئ انه مدرك لرغباته ولكنه يجهل الأسباب التي تسوق إليه الرغبات فيخيل إليه انه إنما تولدت بمحض إرادته، والحقيقة أن هناك من الدوافع الغريزية ما تحتم عليه أن يحقق هذه الرغبة أو تلك رغم أنفه، فهو يدرك النتائج فقط ويجهل الأسباب الدافعة إليها، ويشبه سبينوزا الإنسان في ذلك بقطعة من الحجر الملقى الذي لا بد له من أن يسقط في مكان معين تبعا لقوة الدفعة، فلو فرضنا أن ذلك الحجر الملقى له إدراك كالإنسان لظن انه إنما يسقط في هذا المكان الخاص وفي هذه الساعة المعينة لأنه يريد ذلك وهذا لأنه يجهل اليد التي دفعته فقسرته على تصرف لا يستطيع أن ينحرف عنه.
وهكذا تخضع أعمال الإنسان لقوانين ثابتة ثبوت القوانين الهندسية ومعنى هذا ان الإنسان جزء لا يتميز من سائر أجزاء الطبيعة بل يندمج فيها ويخضع لناموسها.
الإنسان ظاهرة مادية ككل الظواهر الأخرى يتحكم فيها ذلك القانون الشامل الذي يكمن وراء الكون جميعا ولا ينفصل عنه بل يكون معه كلا لا تنفصم عراه. وقد ضربنا مثلا
بذلك الجسر (الكوبري) وقوانينه الميكانيكية، نحن أجزاء من ذلك التيار الذي يجرف أمامه كل شيء تيار القانون العام والسببية، ولما كان ذلك القانون هو الله فنحن إذن أجزاء من الله تعالى ولو أن الأفراد تفنى بالموت الا أن تلك الحقيقة الخالدة التي تتمثل فينا باقية لا تموت. أجسامنا خلايا في جسم الجنس والأجناس أعضاء من جسم الحياة، وبهذا الدمج - دمج الفرد في الكل. يقول شاعر هندي (اعلم أن روحا واحدا ينظم نفسك في الكل وانبذ الوهم الذي يفصل الأجزاء عن كلها الشامل.)
وباعتبار الإنسان جزء من كل فهو خالد، ذلك لأن القانون الذي يسيره لا يفنى بفنائه كما قدمنا، بل هو أبدي تظهر آثاره في الأفراد بعد الأفراد. فأنت إذا محوت مثلثا مخطوطا على ورقة أمامك فليس معنى ذلك فناء القوانين التي تخضع لها المثلثات لان هذا المثلث المعين الذي محوته لم يكن شخصية منفصلة عن زملائه المثلثات بل هو يضبط الجميع ناموس واحد لا يعتريه التغير والفناء. وقل مثل هذا تماما في أفراد الإنسان. يموت الواحد ويبقى قانونه ممثلا في سائر الأفراد وهذا هو معنى الخلود عند سبينوزا، وهو كما ترى ليس خلود لأفراد بل خلود لقوة وقانون، وذلك يتضمن بالطبع إنكار الثواب في الحياة الآخرة جزاء الفضيلة الدنيوية، وهو يقول في ذلك:(إن هؤلاء الذين ينظرون للفضيلة كأنها عبودية مفروضة عليهم من الله تعالى ولا بد أن يمنحهم الله جزاء على قيامهم بهذا الفرض الثقيل إنما هم أبعد ما يكونون عن فهم الفضيلة على الوجه الصحيح. فالفضيلة أو طاعة الله هي سعادة في نفسها يشعر الإنسان بالطمأنينة والنعيم في أدائها فعلام تنتظر الجزاء؟ انك تكون كرجل أسكنه سيده قصرا فخما وأعد له فيه كل ألوان النعيم فيظل يرتع فيه وينعم ثم هو بعد ذلك ينظر من سيده أجر البقاء في ذلك النعيم!!)
والخلاصة أن الطبيعة تسير بمقتضى قوانين كامنة في صورها كما تكمن قوانين الصوت مثلا في جهاز الراديو، فكما أنك لا تستطيع أن تقول هذا هو الجهاز المادي للراديو وتلك هي قوانينه النظرية منفصلة بل هما شيء واحد لا ينفصل كذلك لا يمكنك أن تقول هذا هو العلم المادي وتلك هي القوة الروحية التي تسيره، لأنهما متصلان في وحدة لا تتجزأ. وبما أن هذه القوانين تسيطر على كل جزء من أجزاء الوجود (والإنسان واحد منها) فالإنسان يسير بمقتضى تلك القوانين الثابتة. ولا يتمتع بذرة من الحرية في تصرفاته.
وهناك جوانب أخرى من فلسفة سبينوزا، فقد كتب رسالة في الأخلاق وأخرى في النظام السياسي وكنا نحب أن نتناولهما بالشرح الموجز لولا ضيق المقام فلعلنا نوفق إلى تحقيق ذلك في مقال آخر.
عمالقة الأشجار
للدكتور محمد بهجت. خريج جامعة كاليفورنيا
لا ريب أن العالم كان مسكونا بكائنات على جانب عظيم من الضخامة
فالعلم يخبرنا عن (الداينصور) العظيم الذي يوجد هيكله العظمي
الهائل بالمتحف البريطاني مع هياكل أشباهه من عظائم الحيوان
وأغواله، وكذلك (العنقاء) أو الطير العظيم أو المسمى (بتروداكتيلس)
ولم يكن هذا الأخير طيراً بمعنى الكلمة أو وطواطا بل نوعا من
العظايا الهائلة اكتسب خصوصية الطيران.
دبت هذه الحيوانات المرعبة على ظهر الأرض في العهد (الميوسيني) كما يسميه علماء طبقات الأرض أو عهد منتصف الحياة، وذلك من ملايين السنين الخالية!! ويحتمل أنها عاشت قبل الإنسان بكثير.
ويظهر أن هذه الحيوانات انقرضت فجأة بفعل وبتأثير بركان عنيف أباد معظم المخلوقات، ثم تبع ذلك العصر الجليدي فأتى على آخرها ولم يترك لنا من آثارها الا عظاما نخرة أقامها العلم هياكل هائلة ووقف الإنسان مبهوتا فاغرا فاه. أما في البحار فلا يزال بها من المخلوقات العظيمة ما لم تنقرض كأقربائها الدواب فالحوت الهائل يمخر البحار ويشق عبابها واذكر أنهم اقتنصوا وحشا منه في المحيط الهادئ قرب شاطئ كاليفورنيا الجنوبي منذ سنتين وكان يزن سبعين طنا!!
كذلك كان الحال في المملكة النباتية، كانت لها عمالقتها، كانت هناك أشجار ضخمة تؤلف غابات شاسعة تشمل المناطق الشمالية من أوربا وأمريكا، ولا ريب أنها أظلّت وحمت الكثير من تلك الوحوش، ومن هذه الأشجار شجرة (السيكويا) - ملكة النباتات - التي قاست ولا ريب كل المحن التي ألمت بالكائنات الحية التي عاصرتها ولكنها نجت من دونها وعاشت إلى هذا الوقت تخبرنا في صمت رهيب عن ماض بعيد مليء بالكوارث والخطوب.
وتنتمي شجرة السيكويا إلى العائلة المخروطية أي عائلة الصنوبر ويجد منها نوعان:
(سيكويا مبرفيرنس) و (سيكويا جايجانتيا) ولا يوجدان في مكان ما على ظهر البسيطة إلاّ في ولاية كاليفورنيا. فيوجد النوع الأول نامياً على ساحل المحيط في شمال الولاية حيث الطقس بارد صيفا وشتاء وحيث الرطوبة متوفرة طول السنة، وفي منطقة يبلغ طولها 450 ميلا بموازاة الساحل، ويقل تدريجيا كلما ابتعد عن البحر وامتد شرقاً إلى الجبال الساحلية. وأما خشبه فضارب إلى الحمرة ويعرف في مصر بالجوز الأمريكاني الذي يصنع منه الأثاث، وأما النوع الثاني فيوجد بداخل الولاية ومنتصفها في ثلاثة أحراج متقاربة في قمة جبال السييرا على ارتفاع عظيم من سطح البحر. ومن العجب أنه لا توجد أشجار متفرقة من هذا النوع فكأنها خافت على نفسها نوائب الحدثان وخشية الانقراض فتجمعت في هذه الأحراج متقاربة كما تتقارب أفراد القطيع إذا أحسّت خطراً.
وعندما اكتشف النوع الثاني الذي هو أضخم من الأول في سنة 1855، أرسلت منه نماذج إلى إنجلترا فأسماه النباتي لندلي (وللنجتونيا) تمجيداً لأسم الجنرال ولنجتون الذي قهر نابليون والذي كان في ذروة المجد وقمّة الشهرة إذ ذاك، فأخذت الأمريكان النعرة الوطنية إذ عزّ عليهم أن تسمى شجرة أمريكية بإسم رجل إنجليزي فأسموها (واشنطجطونيا) نسبة إلى جورج واشنطن أبى الأمريكيين. وأخيرا قر الرأي على جعل اسمها الجنسي سيكويا نسبة إلى رجل من متوحشي الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين لم يصب مجدا بالفتح وإراقة الدماء، بل بعقلية جبارة وعبقرية نادرة. ينتمي هذا الهندي إلى قبائل (الشيروكي) التي كانت ضاربة في تخوم ولاية جورجيا الجنوبية، تزوج أبوه الأبيض من أمه الهندية ثم لم يلبث أن هجرها فاعتزلت وابنها ركنا في غابة ونشأ نشأة هادئة تغاير نشأة أترابه الهنود الذين يتلقنون فنون الصيد والقنص والحرب وغيرها من أعمال الفروسية في سن مبكرة فكان يساعد أمه على أعمال المنزل أو فلاحة الأرض وقطع الأخشاب، فلما شبّ وترعرع احترف الصياغة ونبغ فيها نبوغا عظيما وذاع صيته ذيوعاً كبيراً ثم وجد أن البيض يغيرون على وطنه ويقتطعون أراضيه ويجلون أهله وعشيرته عن مساقط رؤوسهم فأحزنه ذلك وأخذ يفكر في الأمر وخرج من تفكيره بضرورة مقاومة المدنية بالمدنية.
ولما أدرك بثاقب فكره ان السر في تفوق البيض وتمدينهم ينحصر في مقدرتهم على التفاهم قراءة وكتابة قرر أن يخترع لغة لقومه فنبذ الصياغة وعكف على الدرس في الغاب وأخذ
يكد ذهنه ويحفر في قشور الأشجار إلى أن وصل بعد ثلاث سنين إلى اختراع رموز تمثل كل كلمة أو فكرة في لغة قومه، ولكن هذه تكاثرت لدرجة يصعب على الأذهان استيعابها ففكر مرة أخرى واهتدى أخيرا إلى أن الصوت هو مفتاح اللغة فكدّ واجتهد إلى أن خلق حروفا أبجدية فاستطاع أن يكتب لغة أغنى بمفرداتها من لغاتنا!! بعد ذلك علمها قومه فتهافت عليها صغيرهم وكبيرهم إلى أن حذقوها، ومن ثم تحسنت أحوالهم العمرانية وازدادت ثروتهم وخطوا في سبيل المدنية خطوة واسعة، ولكن جشع الأبيض وظلمه كانا دائبين. فما زال بأراضيهم يغتصبها بقوة السلاح إلى أن تشردت قبائل الشيروكي وتقلصت حدودهم. لم يقف سيكويا عند هذا الحد بل خرج وهو في الثانية والثمانين من عمره في صحبة صبي صغير ليدرس لهجات الهنود المختلفة ويضع بعد ذلك لغة عامة للهندي الأحمر. فعبر السهول والجبال ولكن مات رفيقه الصبي من مشاق الرحلة فسار وحده ضاربا في الفيافي المقفرة والغابات الموحشة والجبال الشامخة المكسوّة بالجليد، إلى أن وقفه الضعف والإعياء فحطّ رحله قرب حدود المكسيك لآخر مرة. ودفن حيث مات في حفرة عادية، ولم تلبث الذئاب أن نبشت قبره وبعثرت عظامه.
هذا رجل من عظماء العالم قل من يعرفه، حتى قبره امتهن ولم تكن عليه أقل إشارة تدل على عقله الراجح ونفسه العظيمة ولكن العبقرية لا تفنى فقدر لأسمه أن يقترن بهذه الأشجار الخالدة وسوف يخلّد معها إلى أبد الآبدين.
وأشعر بعد طول هذه المقدمة أن أقصر كلامي على حرج واحد من الأحراج الثلاثة، لا لأنه أهمها فقط بل ولأنه أعجبها. . .
حاجة اللغة العربية إلى دراسة الثقافة اليونانية
من محاضرة للمستر اربري أستاذ اللغة والآداب اليونانية
واللاتينية في كلية الآداب
انقضى نحو ألف من السنين والعالم الإسلامي مُولٍ ظهره لليونان وثقافته، ولم يبدأ الاهتمام بهذه الثقافة مرة أخرى إلاّ في الجيل الحديث، وهذه العودة إلى دراسة الآثار اليونانية ليست أقل الظاهرات التي امتازت بها النهضة العلمية والأدبية الجديدة في البلاد الناطقة بالضاد. وقد كان لمصر فضل السبق في هذا الميدان كدأبها في جميع الحركات الهامة.
ونظراً لأن أشعار هوميروس هي أول ثمرة أنتجتها قرائح اليونان، فكان من الملائم جداً أن يكون أول ما ترجم إلى العربية حديثاً من الآثار اليونانية إلياذة هوميروس. وقد بدأ سليمان البستاني ذلك العمل الشاق في عام 1887، واستطاع أن يخرج للناس في سنة 1904 ترجمة عربية كاملة منظومة. ومن الظلم البين أن يحاول الإنسان نقد هذا العمل الجليل أو الحط من شأنه، ماذا يهمنا أن نقرر بأن النظم ليس من مرتبة عالية، أو أن المعنى الأصلي - بل والروح أيضا - لم يدركه المترجم أحيانا؟ حقيقة أنه من سوء حظ المترجم أنه اختار للترجمة ملحمة لكي يظهر فيها مقدرته على النظم، فان اللغة العربية لا يلائمها هذا الضرب من القريض بنوع خاص (كذا) نظراً لما لها من نظام معقد في الوزن والقافية. ولكن على رغم هذا، الأجدر بنا ألاّ نطبّق قواعد النقد الأدبي على تلك الترجمة، بل ننظر إليها كأنها بشير ينبئنا بما يمكن للأدب العربي أن يبلغ إليه بعد.
ولا أظن أن بي حاجة إلى أن أحصي لكم المترجمات الأخرى التي ظهرت في هذا القرن. فكلنا نعلم جهود الأستاذين لطفي السيد بك، والدكتور طه حسين في هذا الباب. فبفضل ما بذلاه من جهود أصبحت اللغة العربية مرة أخرى غنية بما ترجم من آثار الفيلسوفين أفلاطون وأرسطو. وواجب على كل محب لرقي الآداب والعلوم العربية أن يشجع كل عمل من هذا القبيل. ولكني الآن أريد أن أتساءل، ومن المهم جدا أن أتساءل، هل من المستحب ترجمة الآثار اليونانية واللاتينية إلى اللغة العربية في الوقت الحاضر؟ وإذا كان هذا مستحبا، فهل يكتفي بالترجمة عن التراجم التي في اللغات الأوربية الحديثة؟ أم هل من اللازم أن يكون المترجم ملمّا بالأصل اليوناني أو اللاتيني للكتاب الذي يترجمه؟ ولنبدأ
بالرد على السؤال الثاني. فنرى من البديهي أن الترجمة عن ترجمة، شيء لا يكفي ولا يغني، وإذا جاز لنا أن نضرب مثلا فلنتصور كاتباً فرنسياً يريد أن يطلع قومه على جمال الأدب العربي ولكنه بدلاً من المبادرة إلى تعلم العربية يلجأ إلى ترجمة إنجليزية أو ألمانية للكتاب الذي يريد أن ينقله، ثم يكتفي بنقله على هذه الصورة إلى اللغة الفرنسية. فكيف يستطيع مثل هذا الكاتب إذا أراد ترجمة المعلقات مثلا بهذه الطريقة، أن يحتفظ بما فيها من خيال شعري، ونظم البديع؟ أو إذا أراد نقل رسالة من تلك الرسائل الدقيقة المعنى التي ألّفها ابن العربي أو مقالة من مقالات الجاحظ البليغة، فهل يمكن أن تكون ترجمة الترجمة التي يقدمها للقراء، إلاّ بمثابة شبح لشبح؟ ولو أني قابلت رجلا من هذا القبيل لأبديت له إعجابي بحماسه وغيرته، ثم طلبت إليه بكل ما لدي من أدب وحزم أن يبدأ بدراسة العربية خمس سنين ثم ينظر بعد ذلك هل في وسعه أن ينهض بذلك العبء.
فإذا كان لابد من نقل الآثار اليونانية واللاتينية إلى العربية، فليس من شك في أن هذا العمل الخطير يجب أن ينهض به علماء من الناطقين بالضاد، لهم إلمام تام بهاتين اللغتين. وليس من وسيلة أخرى لإتمام ذلك العمل على الوجه الأكمل، بل أني أذهب إلى أبعد من هذا فأقره بأن العمل لا يستحق أن يعمل بأي شكل آخر.
ولكن هل من اللازم القيام بذلك العمل؟ قد يتساءلون: أليست آدابنا وحدها كافية لتثقيف المصري في عصرنا هذا؟ أليس الأولى بمن لغتهم العربية، أن يقصروا دراستهم على الأدب العربي اللهم إلاّ فريق المتخصصين؟ ثم على فرض أنه من المستحب لأسباب كثيرة أن ندرس لغات وأدبيات أجنبية، ألا يكون الأفضل دراسة اللغات الأوربية والآسيوية الحديثة؟ وما دامت اللغتان اليونانية واللاتينية قد ماتتا منذ قرون عديدة، أليس الأولى بنا نحن أن نتركهما في رمسهما؟ وإلاّ فما الفائدة التي تجنيها اللغة العربية والآداب المصرية من دراسة تلك الآثار اليونانية واللاتينية بما لا يمكن الحصول عليه بشكل أكمل وأحسن بدراسة الآداب الحديثة؟
لقد جاء في كتاب (الفلسفة في الإسلام) تأليف دي بوير العبارة الآتية: (إن أجلّ شيء خلقه لنا العقل اليوناني في الفنون وفي الشعر وفي التاريخ، لم تصل إليه أيدي الشرقيين. وكان من الشاق عليهم أن يفهموه لجهلهم حياة الإغريق. فنرى مثلا مؤرخي العرب قادرين على
ذكر أمراء اليونان حتى كيلوباترا، وكذا قياصرة الروم. ولكنهم كانوا يجهلون المؤرخ تيو سيديد، ولا يعرفون اسمه. أما هوميروس فلم ينقلوا عنه غير جملة واحدة وهي:(لا يكون الحكم إلاّ لواحد). ولم يكن لهم أدنى دراية بالشعراء والروائيين من الإغريق.
ولكن مثل هذا الحكم ليس عادلا تماما. حقيقة لم يكن للمسلمين الأولين إطلاع على القسم الأعظم من أدب اليونان. ولم يكن لهم علم بحياة الإغريق، ولم يهتموا بمعرفتها، ولكن لو أن المصادفة ساقت إليهم هذه الآثار المجيدة، أكان يتعذر عليهم أن يتذوقوها ويقدروها حق قدرها. أليس الأرجح أن شعبا متوقد الذكاء، شديد الإحساس بالجمال، مثل الشعب العربي هو أقدر الناس على تقدير محاسن الأدب اليوناني، كما أمكنه أن يقدر ويفهم دقائق الفلسفة اليونانية؟ ولكن ظروفاً سيئة حالت بين العرب والأدب اليوناني. ففي وقت نشأة الإسلام كانت الدولة البيزنطية يغشاها ظلام. وأشد العصور التي مرّت بها حلكة وظلاما هي المدة ما بين 641 و 850. ويحدثنا عن الحالة في أول هذه الفترة فيقول في كتابه عن تاريخ الدراسات اليونانية واللاتينية: أن القيصر ليو الثالث الذي استطاع أن يرد إغارة العرب على القسطنطينية. وأن يعيد تنظيم الإمبراطورية سواء من الناحية الحربية أو المدنية. لم يصنع مع هذا كله شيئا لتشجيع العلوم. بل لقد حرم معهد العلوم الإمبراطوري من ممتلكاته بالقرى من أيا صوفيا. وطرد رئيس المعهد ومعه إثنا عشر معلما كانوا يتولون مع نيوريس الفنون والفقه. وكذلك يروي بعض المؤرخين انه أمر بإحراق مكتبة المعهد، وبها نحو ثلاثة وثلاثين ألفاً من المجلدات في موضوعات دينية وغير دينية، ولئن كانت هذه حالة دولة اليونان في هذا العصر أي في العصر الذي اتسع فيه نفوذ الثقافة اليونانية في البلاد العربية، فكيف ترجو أن يعنى العرب بدراسة الآداب اليونانية واللاتينية؟ أما الفلسفة والعلوم المفيدة فقد كان لها عندهم المكان الأول، نظرا للظروف الخاصة التي دعت للاهتمام بهما: إذ كانت الفلسفة عندنا على الجدل الديني، والعلوم النافعة مثل الطب والهندسة، من بواعث الراحة المادية للإنسان. وكذلك يجب ألاّ تنسى أن العرب كان لهم أدب زاهر لا مراء في أنه من الرقي بمكان عظيم. وكأنما وجد الناس في القصائد الجاهلية وفي المدائح والمراثي والمنظومات المختلفة التي تغنى بها الشعراء الأمويون والعباسيون، وجد الناس في هذا كله بغيتهم من الخدمة الأدبية. أما النثر فانه من بعد تلك المعجزة
الأبدية: (القرآن) قد جعل يرتقي حتى بلغ في أيدي كبار الأساتذة أمثال الجاحظ والحريري والهمذاني على مرتبة عالية من الكمال. وبهذه الصورة نما للعرب أدب خاص ممتاز وأصبح تراثا عظيما آل اليوم إلى البلاد الإسلامية.
ولكني وإن علمت ما امتاز به هذا التراث من عظمة واتساع ورقي. فإني على ذلك لا أتردد في أن اقرر بأن الذكاء العربي قادر بعد على إنتاج ثمرة لا تقل عن تلك المنتجات. بل لقد تفوقها وأنا زعيم بأن بلوغ تلك الغاية على أكمل وجه إنما يكون بدراسة آداب اليونان والرومان.
إن جميع الآداب الأوربية الحديثة مدينة دينا لا يمكن حصره للآداب اليونانية واللاتينية، وحسبنا أن نذكر تلك الحقائق المألوفة عن عصر النهضة في غرب أوربا وكيف أن استكشاف الآداب اليونانية من جديد - على أثر استيلاء الأتراك على الأستانة وانتشار العلماء والأسفار اليونانية في أوربا - كان باعثا لحياة جديدة في ميدان العلم والأدب، ووسيلة لغرس بذور الآداب القومية في كل بلد من البلاد الأوربية. . . .
في الوقت الحاضر نرى الآداب الأوربية الحديثة تدرس بحماس وبتقدير يبعثان على الإعجاب. وحاشاي أن أحاول الغض من هذا الحماس والنشاط. بل أني لأرى في المقالات التي كتبها المنفلوطي ومدرسته والكتّاب المعاصرون أمثال العقاد ومنصور فهمي وسلامة موسى وغيرهم من أعضاء ذلك الرهط النابغ من الكتّاب بعثاً جديداً في الأدب العربي. وخصوصا وفوق كل شيء نرى تلك النهضة في نبوغ شوقي الذي لا يضارع إعجابنا به إلاّ حزننا على فقده. وفي تلك الروايات التمثيلية التي أثمرها فكره الناضج الجميل.
ولكن إذا ما ذهبنا لرؤية رواية من رواياته تمثل في أحد المسارح فلنذكر أن الفن التمثيلي إنما ولد في بلاد اليونان، وإن ما خلفه الإغريق من القطع التمثيلية التي هي للعالم ذخر يعتز به ويحرص عليه، منذ خمسة وعشرين قرنا، لأنها هي أكمل وأبدع الروايات التمثيلية التي أنتجها الفكر البشري. لنذكر ونحن نقرأ روايات شكسبير وكورني وجوتيه، انه لولا اليونان لما كانت تلك الآثار وكذلك فنون الأدب الأخرى، فان مرجعنا فيها إلى أدب اليونان والرومان، الذي هو المنبع والمرجع لكل من آداب الأمم العربية. والآن يحق لنا أن نتساءل هل يجوز أن تستبعد الآثار اليونانية من النهضة الجديدة التي يعيش في ظلها كل مصري
في وقتنا هذا سواء أدرك ذلك أم لم يدركه، وسواء رغب في ذلك أم رغب عنه؟ ومن ذا الذي تبلغ به الجرأة على أن ينادي بالاكتفاء بالأدب الأوربي عن الأدب اليوناني، والاستغناء عن المثال اكتفاء بالقياس؟
قال الأستاذ جيب في كتاب (تراث الإسلام) مقارنا بين أدب اليونان والعرب؟: (من أهم مميزات الأدب العربي والفارسي أنه عاطفي وأن الطالب الذي نشأ على حب المثل اليونانية في الأدب لن يجد في أدب العرب والفرس تلك الصفات التي امتاز بها أدب اليونان والتي هي السر في قوته الساحرة الباقية على مدى الزمان، وبرغم ما فيه من قوة الصياغة التي قد يفوق فيها قوة الصياغة في أدب اليونان، فإن فيه جمودا وفي أدب اليونان تنوعا، وفيه إغراق ومبالغة وفي أدب اليونان شدة ووقار، وقد بلغ الكتّاب اليونان واللاتين ما بلغوه من العظمة بتوخي البساطة والسهولة وعدم الاندفاع. بينما الكاتب الشرقي ينسج آياته فيملأها بالبديع الغامض من اللفظ، ويلتمس لها الاستعارات والكنايات البعيدة الخلاّبة. واليوناني يؤثر في الفكر بواسطة الجمال الخالص. أما العربي أو الفارسي فيؤثر في الحاسة أو في الخيال بما يأتي به من الألوان الساحرة).
والآن أليس من المحتمل أن قد يتاح لأبناء مصر أن يوفقوا بين المثل الأدبية العربية واليونانية؟ أليس ممكنا أن تعليما يتناول دراسة الأدبين العربي واليوناني في آن واحد، قد يأتي بنتائج لا يحلم بها أحد، ويوجد في الأدب العربي ثروة جديدة، إذ يكون سببا في خلق مسرح قومي وأناشيد وقصائد وتاريخا ونقدا أدبيا، وهذا كله يجمع مزايا كل من الأدبين ويفوق كلا منها؟ فهل يكون أملاً بعيداً أن نرجو أن الجامعة المصرية قد تصبح يوما ما ذات شهرة عظيمة في أمور كثيرة، ومنها أنها المعهد الذي يساعد على إيجاد مثل ذلك الأدب؟
في القرن الثالث الهجري، كتب الجاحظ وهو بالبصرة:(إننا لو لم تكن لدينا كتب الأوائل التي خلّدوا فيها حكمتهم وعلمهم والتي ذكروا فيها تاريخهم وأعمالهم حتى نكاد أن نراهم بأعيننا. ولو لم تكن عندنا ثروة تجاريهم، لكان حظنا من الحكمة والعلم صغيرا ضئيلا). هكذا كتب الجاحظ وما كان نصيبه من حكمة القدماء إلاّ نزرا يسيرا. فهل نكون نحن أقل اعترافاً منه بالجميل مع أن نصيبنا أكبر وأوفر؟
بلاط الشهداء بعد ألف ومائتي عام
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في أواخر أكتوبر من العام الماضي، كان قد انقضى ألف ومائة عام كاملة على حادث كان له أعظم الآثار وأبعدها في تاريخ الإسلام والنصرانية، بل كان كلمة الفصل الحاسمة في مصاير الإسلام والنصرانية.
هذا الحادث الجلل، هو موقعة بلاط الشهداء التي تعرف في التواريخ الإفرنجية بموقعة (توراوبواتييه)، والتي نشبت بين العرب والإفرنج في سهول فرنسا على ضفاف اللوار في أوكتوبر سنة 732.
وقد مضى على بلاط الشهداء ألف ومائة عام، وتغير وجه التاريخ، ومحيت آثار الإسلام من غرب أوربا ومن الأندلس منذ نحو أربعة قرون. ومع ذلك فإن ذكريات بلاط الشهداء ما زالت حيّة في الغرب، وما زالت وقائعها وآثارها التاريخية موضع التقدير والتأمل من جانب المؤرخ الغربي. وكان انقضاء الألف ومائتي عام على حدوثها، ذكرى جديدة نظمت من أجلها الاحتفالات في فرنسا، وكانت مثار تأملات وتعليقات جديدة، تدور كلها حول الصيحة التاريخية القديمة: لو لم يرد العرب والإسلام في سهول تور، لما كانت ثمة أوربا نصرانية، بل لعلّه ما بقيت نصرانية على الإطلاق، ولكان الإسلام اليوم يسود أوربا، وكانت أوربا الشمالية تموج اليوم بأبناء الشعوب السامية ذوي العيون الدعج والشعور السود، بدلاً من أبناء الشعوب الآرية ذوي الشقرة والعيون الزرق.
وهذا الحادث الجلل، وهذه الذكريات والتأملات التي آثارها وما زال يثيرها، هي موضوعنا في هذا الفصل. وسنعنى بشرح مقدماته وتفاصيله على ضوء أوثق المصادر العربية والغربية، وسيرى القارئ بعد إذ يتلو هذه التفاصيل، أن التاريخ الإسلامي كله قد لا يقدم إلينا حادثا له من الخطورة والأهمية وبعد الأثر ما لموقعة بلاط الشهداء.
- 1 - افتتح العرب إسبانيا، وغنموا ملك القوط في سنة 97 - 98هـ (711 - 712) م على يد الفاتحين العظيمين طارق بن زياد وموسى بن نصير، في عهد الوليد بن عبد الملك، وأضحت أسبانيا من ذلك التاريخ كمصر وأفريقية ولاية من ولايات الخلافة الأموية، وتعاقب عليها الولاة من قبل الخليفة الأموي، ينظمون شؤونها، ويدفعون الغزوات الإسلامية
إلى ما وراء جبال البرنيه (البرت أو الممرات) في غاله (جنوب فرنسا)، فلم تمض عشرون عاما على افتتاح الأندلس حتى استطاع العرب أن يجتاحوا ولايات فرنسا الجنوبية، وأن يبسطوا سلطانهم على سهول الرون وأن يتقدموا بعيدا في قلب فرنسا.
ولكن إسبانيا المسلمة على حداثة عهدها لم تلبث أن اضطرمت بالفتن والمنازعات الداخلية، ولم تلبث النصرانية أن أفاقت من دهشتها الأولى، وتأهبت للنضال والمقاومة، ولقي العرب بعد ثورة الظفر التي اجتاحت جنوب فرنسا، هزيمتهم الأولى في موقعة تولوشة (تولوز) في ذي الحجة سنة 102هـ (يونيه سنة722 م) وقتل أميرهم وقائدهم السمح بن مالك، فارتدوا إلى سبتمانيه بعد أن فقدوا زهرة جندهم وسقط منهم عدة من الزعماء الأكابر.
وقطعت الأندلس بعد ذلك زهاء عشرة أعوام من الاضطراب والفوضى، وخبت ثورة الفتح، وشغل الولاة بالشؤون والمنازعات الداخلية، حتى عيّن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي واليا للأندلس في صفر سنة 113هـ (أبريل سنة 731م).
ولسنا نعرف كثيراً عن سيرة الغافقي الأولى، ولكنا نعرف أنه من التابعين الذين دخلوا إلى الأندلس، ثم نراه بعد ذلك من زعماء اليمانية وكبار الجند ونراه في سنة 102هـ، على أثر موقعة تولوشه ومقتل السمح بن مالك، يتولّى قيادة الجيش وإمارة الأندلس باختيار الزعماء والقادة مدى أشهر، ثم لا نسمع عنه بعد ذلك، حتى يولّى إمارة الأندلس للمرة الثانية من قبل الخليفة سنة 113هـ. على الذي لا ريب فيه هو أن عبد الرحمن الغافقي كان جنديا عظيما ظهرت مواهبه الحربية في غزوات غاليا، وحاكما قديراً، بارعاً في شؤون الحكم والإدارة، ومصلحا مستنيراً يضطرم رغبة في الإصلاح، بل كان بلا ريب أعظم ولاة الأندلس وأقدرهم جميعا. وتجمع الرواية الإسلامية على تقديره والتنويه برفيع خلاله، والإشادة بعدله وحلمه وتقواه، فرحبت الأندلس قاطبة بتعيينه، وأحبه الجند لعدله ورفقه ولينه، وجمعت هيبته كلمة القبائل، فتراضت مضر وحمير، وساد الوئام نوعا في الإدارة والجيش، واستقبلت الأندلس عهدا جديدا.
وبدأ عبد الرحمن ولايته بزيارة الأقاليم المختلفة فنظم شؤونها وعهد بإدارتها إلى ذوي الكفاية والعدل، وقمع ألفتن والمظالم ما استطاع، ورد إلى النصارى كنائسهم وأملاكهم المغصوبة، وعدّل نظام الضرائب وفرضها على الجميع بالعدل والمساواة، وقضى صدر
ولايته في إصلاح الإدارة وتدارك ما سرى إليها في عهد أسلافه من عوامل الاضطراب والخلل، وعني بإصلاح الجيش وتنظيمه عناية خاصة فحشّد من الصفوف من مختلف الولايات وأنشأ فرقا جديدة مختارة من فرسان البربر بإشراف نخبة من الضبّاط العرب وحصّن القواعد والثغور الشمالية وتأهب لإخماد كل نزعة إلى الخروج والثورة.
وكانت الثورة توشك أن تنقض في الواقع في الشمال، وبطلها في تلك المرّة زعيم مسلم هو عثمان بن أبي نسعة الخثعمي حاكم الولايات الشمالية. وكان ابن أبي نسعة (أو منوزا أو مونز كما يسميه الإفرنج) من زعماء البربر الذين دخلوا الأندلس عند الفتح مع طارق. وقد عيّن واليا للأندلس قبل ذلك بثلاثة أعوام ولم يطل أمد ولايته، ثم عيّن حاكما للولايات البرنيه وسبتمانيه. وقد كان الخلاف يضطرم منذ الفتح بين العرب والبربر. وكان البربر يحقدون على العرب إذ يرون أنهم قاموا بمعظم أعباء الفتح واستأثر العرب دونهم بالمغانم الكبيرة ومناصب الرئاسة. وكان ابن أبي نسعة كثير الأطماع شديد التعصب لبني جنسه وكان يؤمل أن يعود إلى ولاية الأندلس ولكن عبد الرحمن فاز بها دونه فزاد ذلك في حقده وسخطه وأخذ يترقب الفرص للخروج والثورة.
إلى الدكتور هيكل
بإذن الدكتور طه
عزيزي هيكل
حوار ناعم صاغته أناملكما القديرة. وحجاج ذو غمزات تواثبت فيه من كل جهة مع يراعاة الربيع، مهبات الصبا ونفحات النرجس.
إن ما نثرتماه على طريق القرّاء أشبه (بأقاحي الخميلة وحريرها) ولكني لهذا خفت أن يكون ما بين طيات النرجس وتحت الحرير نفاثة طائشة، من حشرة ساهية تضرب ما بين الدعاب البريء، فتصيب من غيركما مقتلا للهوى أو ميلا وليداً للفن.
بل خفت على رغم ما صرّحت به، أن تعود فتعتصم من الغلط. اغلط يا صديقي هيكل، بل يا صديق قرّائك، إذ لا معرفة بيني وبينك إلاّ ما بلغني من فيض قلمك. اغلط وأكثر من الغلط الموهوم. وكسر من هذه القيود التي كسر بعضها من قبلك طه. كسرها لنفسك ولنا. كما كسرها لنا وله. وأعلن، أعلن عن جهدك، عن كتبك، فاسمك للقرّاء شعر موسيقي يتهلل له الضمير المسجون. أعلن لنعرف نحن، قريبين أو بعيدين، أن منّا رجال العمل والتفكير. أسمك مجد لقارئيك وللعربية. كلاّ! لست بذلك أمريكيا، فأرباب القلم أجمعوا أن يكون لهم جمعيات ومجلات ومشروعات عدّة لمجرد الإعلان الأدبي في أقطار العالم المتمدن.
أسلوبك شائق، عباراتك كصفوف جيش أعدت للهجوم. أفكارك تلتهب ما بينها التهاب القنابل: هذا جيشان نفسك المزدحم! أكثر من شخصيتك، أسكب نفسك كأنوار الشمس، يتلذذ بالحياة العلمية والوطنية فيها من يقرؤك.
إن أغلاط أكابر الكتّاب هي صك تحرير النشىء الصاعد.
بيروت. حبيب شماس
والرسالة تسأل السياسة
أهذا الكتاب الرقيق على ما فيه خير أم ذلك الخزي الذي نشرته يوم الاثنين فأهانت بنشره اللغة والأدب والذوق والعراق؟!
بنت فرعون تحب
للأديب حسين شوقي
الأميرة (تتي) تعسة جدا لأنها تحب ولكن حبها مستحيل لأنه بشري. . يا للكفر! بنت الفراعنة، بنت الآلهة تحب رجلا فانيا؟ حقا إنه لخطب جلل! ماذا تفعل الأميرة في حيرتها واضطرابها الوجداني؟ ستطلع الملكة على سرها علّها تعينها في الخطب فهي أمها ذات الصدر الحنون، برغم ما يزعمه الناس في أن تلك الأم من منبت ربّاني، وبرغم ما يحيطونها به من مظاهر العبادة والتقديس. ذهبت الأميرة إلى الملكة فأطلعتها على جلية الأمر. . . فحزنت الملكة من أجل ذلك حزنا شديدا، لعلمها بأن أبنتها لن تحقق حلمها اللذيذ، وقد كان لها هي أيضا في صباها مثل هذا الحادث ولم يشفها منه إلا سيل من الدموع. . الملكة في حيرة من أمرها لأن حب تتي ليس حبا زائلا كما توهمت أول وهلة بل هو حب مرضي في درجته الثالثة. . والأميرة آخذة في الذبول، على أن شحوب وجهها قد زادها رونقا وجمالا،. . أتطلع الملكة بدورها فرعون على الأمر؟ كلا! لا فائدة من ذلك لأن فرعون ليس بشرياً وإنما هو إله عابس نحت قلبه من صوان نوبيا الأصم. . ولو عرف السر لقضى على العاشق وهو فتى إغريقي في جيشه. .
هدأت الملكة من روع (تتي)، ولكن من إذن يخرج الملكة من حيرتها؟ الكاهن الأكبر؟ أجل! هو صديقها وهو رجل قادر مهيب مقرّب كما يزعم الناس من الآلهة متصل بهم اتصالا وثيقا. . أطلعت الملكة الكاهن على السر، ولكن ماذا يعمل الكاهن! الكاهن يحك صلعته حيرة، لأن الحب كما يعلم شيطان متعب لا يعبأ بالرقي والتعاويذ، بل يسخر من الآلهة والناس على السواء!.
قال الكاهن بعد أن عصر قريحته: حسنا يا مولاتي سنقيم تمثالا لآمون الرب الأكبر في حجرة الأميرة عساه يطرد ذلك الجني الخبيث الذي اختبأ في قلب الفتاة. . ثم مرت الأيام والتمثال لا يأتي بمعجزة، إلاّ أنه زاد في زينة الحجرة لأنه كان جميل المنظر صنع كله من الذهب الخالص. . أمّا العاشق واسمه بالاس وهو من منبت إغريقي كما قدمنا فقد كاد يجن من هذه الخرافات، فضلا عن أنه كان يحب الأميرة حبا جمّا، تلك الفتاة التي كان يدعوها بحق: الظبية الأفريقية. .
ولكن ماذا يفعل بالاس في قوم يشركون الآلهة في كل شأن من شؤون الحياة؟ التقى بالاس ذات ليلة بالأميرة تحت شجرة الجميز الكبرى القائمة في إحدى زوايا القصر، حيث اعتاد الفتى والفتاة أن يتناجيا بلغة كوبيدون الشجية، كلما سنحت لهما الفرصة، فقال بالاس: أميرتي! هيا نهجر هذا البلد الذي حرّم الحب تحت سمائه، حيث يسعد القط والضفدع فيؤلهان ويقدسان، بينما يشقى البشر. . لنذهب إلى يونان الجميلة. . فأجابت تتي في حماسة: ما أعظم شوقي إلى رؤية وطنك المحبوب ذي الجبال الشاهقة التي يرتقى منها الناس إلى مقر الآلهة في الأولمب!!.
ولكن عادت تتي فقطبت حاجبيها قائلة: ولكني أخشى غضب الآلهة وسخطهم علينا يا بالاس! فصاح بالاس: كلا يا حبيبتي لا تخشي شيئا لأن الحب الذي يحرك قلبينا: ما هو الا هبة من نفس أولئك الآلهة. أعد بالاس بعد تلك المقابلة زورقاً وجهزه بالزاد لرحلة طويلة، وفي ليلة ظلماء حمل بالاس الأميرة إلى الزورق نازلا في النيل إلى البحر الأبيض، ولم ينس أن يحمل معه أيضا التمثال الذهبي الذي وضع في حجرة تتي لشفائها من الحب، ولما سألته الأميرة في دهشة عن سبب حمله للتمثال كذلك، أجابها مبتسما: هذا. . . مهرك يا حبيبتي!
كرمة بن هانئ. حسين شوقي
في الأدب العربي
عكاظ والمربد
للأستاذ أحمد أمين
من أبعد الأماكن أثراً في الحياة العربية عكاظ والمربد، وقد كان أثرهما كبيرا من نواح متعددة: من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية ومن الناحية الأدبية، ودراستهما تضئ لنا أشياء كثيرة في تاريخ العرب.
ولكن يظهر لي أنه لم يعن بهما العناية اللائقة، فلا نرى فيما بين أيدينا الا كلمات قليلة منثورة في الكتب يصعب على الباحث أن يصور منها صورة تامة أو شبهها، ومع هذا فسنبدأ في هذه الكلمة بشيء من المحاولة في توضيح أثرهما وخاصة من الناحية الأدبية.
عكاظ
في الجنوب الشرقي من مكة وعلى بعد نحو عشرة أميال من الطائف ونحو ثلاثين ميلا من مكة، مكان منبسط في واد فسيح به نخل وبه ماء وبه صخور، يسمى هذا المكان (عكاظ)، وكانت تقام به سوق سنوية تسمى سوق عكاظ، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الكلمة فقال بعضهم: اشتقت من (تعكظ القوم) إذا تحبسوا لينظروا في أمورهم، وقال غيرهم سميت عكاظا لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضا بالمفاخرة أي يعركه ويقهره، كما اختلفت القبائل في صرفها وعدم صرفها، فالحجازيون يصرفونها وتميم لا تصرفها، وعلى اللغتين ورد الشعر:
قال دريد ابن الصمة: (تغيبت عن يومي عكاظ كليهما)
وقال أبو ذؤيب:
إذا بُنى القباب على عكاظ
…
وقام البيع واجتمع الألوف
وكان للعرب أسواق كثيرة محلية كسوق صنعاء، وسوق حضرموت وسوق صحار وسوق الشحر، انما يجتمع فيها - غالبا - أهلها وأقرب الناس إليها. وبجانب هذه الأسواق الخاصة أسواق عامة لقبائل العرب جميعا، أهمها: سوق عكاظ، وسبب عمومها وأهميتها على ما يظهر:
(1)
أن موعد انعقادها كان قبيل الحج، وهي قريبة من مكة وبها الكعبة، فمن أراد الحج من جميع قبائل العرب سهل عليه أن يجمع بين الغرض التجاري والاجتماعي بغشيانهم عكاظ قبل الحج، وبين الغرض الديني بالحج.
(2)
أن موسم السوق كان في شهر من الأشهر الحرم - على قول أكثر المؤرخين، والعرب كانت في (الشهر الحرام) لا تقرع الأسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يهيجه تعظيما له، وتسمى مضر الشهر الحرام بالأصم لسكون أصوات السلاح فيه، وفي انعقاد السوق في الشهر الحرام مزية واضحة، وهي أن يأمن التجار فيه على أرواحهم، وإن كانوا أحيانا قد انتهكوا حرمة الشهر الحرام فاقتتلوا كالذي روي في الأخبار عن حروب الفجار كما سيجيء، ولكن على العموم كان القتل في هذا الشهر مستهجنا، قال ابن هشام: إني آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة وهم في الشهر الحرام بعكاظ، الخ وقد قال ذلك استعظاما لقتله.
(فكان يأتي عكاظ قريش وهوازن وغطفان والأحابيش وطوائف من أفناء العرب) وكانت كل قبيلة تنزل في مكان خاص من السوق، ففي الخبر أن رسول الله ذهب مع عمه العباس إلى عكاظ ليريه العباس منازل الأحياء فيها، ويروى كذلك أن رسول الله جاء كندة في منازلهم بعكاظ بل كان يشترك في سوق عكاظ اليمنيون والحيريون. يقول المرزوقي: كان في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب، كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد والحلة الحسنة والمركوب الفاره فيقف بها وينادي عليه ليأخذه أعز العرب، يراد بذلك معرفة الشريف والسيد فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته ويروي ابن الأثير عن أبي عبيدة (ان النعمان ابن المنذر لما ملكه كسرى ابرويز على الحيرة كان النعمان يجهز كل عام لطيمة - وهي التجارة - لتباع بعكاظ). فترى من هذا أن بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها كانت تشترك في هذه السوق. واختلفت الأقوال في موعد انعقادها، وأكثرها على أنه كان في ذي القعدة من أوله إلى عشرين منه، أو من نصفه إلى آخره، قال الأزرقي في تاريخ مكة.
(فإذا كان الحج. . . خرج الناس إلى مواسمهم فيصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة فيقيمون به عشرين ليلة تقوم فيها أسواقهم بعكاظ، والناس على مداعيهم وراياتهم منحازين
في المنازل تضبط كل قبيلة أشرافها وقادتها، ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء، ويجتمعون في بطن السوق، فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة فأقاموا بها عشرا، أسواقهم قائمة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز ثم إلى عرفة؛ وكانت قريش وغيرها من العرب تقول لا تحضروا سوق عكاظ والمجنة وذا المجاز الا محرمين بالحج، وكانوا يعظمون أن يأتوا شيئا من المحارم أو يعدو بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم.)
وظيفته: كانت سوق عكاظ تقوم بوظائف شتى فهي (أول كل شيء) متجر تعرض فيه السلع على اختلاف أنواعها، يعرض فيه الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشى والمسير والعدة ويباع به الرقيق ويعرض فيه كل سلعة عزيزة وغير عزيزة، فما يهديه الملوك يباع بسوق عكاظ ويتقاتل ابن الخمس مع الحارث بن ظالم فيقتله ابن الخمس ويأخذ سيف الحارث يعرضه للبيع في عكاظ، وعبلة بنت عبيد بن خالد يبعثها زوجها بأنحاء سمن تبيعها له بعكاظ.
ونسبوا إلى عكاظ فقالوا: أديم عكاظي أي مما يباع في عكاظ. ولم تكن العروض التي تعرض في سوق عكاظ قاصرة على منتجات جزيرة العرب، فالنعمان يبعث إلى سوق عكاظ بمتجر من حاصلات الحيرة وفارس لتباع بها ويشتري بثمنها حاصلات أخرى، بل كان يباع في عكاظ سلع من مصر والشام والعراق، فيروي المرزوقي أنه قبل المبعث بخمس سنين حضر السوق من نزار واليمن ما لم يروا أنه حضر مثله في سائر السنين، فباع الناس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد وابتاعوا أمتعة مصر والشام والعراق. وكانت السوق تقوم بأعمال مختلفة اجتماعية، فمن كانت له خصومة عظيمة انتظر موسم عكاظ (كانوا إذا غدر الرجل أو جنى جناية عظيمة انطلق أحدهم حتى يرفع له راية غدر بعكاظ فيقوم رجل فيخطب بذلك الغدر فيقول: ألا أن فلان ابن فلان غدر فاعرفوا وجهه، ولا تصاهروه ولا تجالسوه ولا تسمعوا منه قولا، فان اعتب وإلا جعل له مثل مثاله في رمح فنصب بعكاظ فلعن ورجم.) وهو قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه
…
مقام الذئب كالرجل اللعين
ومن كان له دين على آخر أنظره إلى عكاظ، ومن كان له حاجة أستصرخ القبائل بعكاظ
كالذي حكى الأصفهاني أن رجلاً من هوازن أسر فاستغاث أخوه بقوم فلم يغيثوه فركب إلى موسم عكاظ وأتى منازل مُذْحَجَّ يستصرخهم. وكثيراً ما تتخذ السوق وسيلة للخطبة والزواج فيروي الأغاني أنه اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، وقدم أميّة بن الأسكر الكناني وتبعته ابنة له من أجمل أهل زمانها فخطبها يزيد وعامر فتردد أبو هاشم، ففخر كل منهما بقومه وعدد أفعاله في قصائد ذكرها.
ومن كان صعلوكا فاجرا خلعته قبيلته (إن شاءت) بسوق عكاظ وتبرأت منه ومن فعاله كالذي فعلت خزاعة: خلعت قيس بن منقذ بسوق عكاظ أشهدت على نفسها بخلعها إياه وأنها لا تحتمل له جريرة ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه.
من طرائف الشعر
كليوبطرة تناجي القصر
قطعة نظمها شاعر الخلود شوقي بك في رواية كليوبطرة ثم بدا له فأسقطها منها فلم تنشر.
أيها القصر أترْعى عهدنا
…
وتفي أن عز في الناس الوفى؟
لا تضع عندك أسرار الهوى
…
واختزنها في الزوايا والحني
واتخذ ختماً على أشيائه
…
إن أشياء الهوى كنز سنى
ذكريات كلما حركتها
…
ضاع من جدرانك المسك الزكي
قُبَل: لم يحصها إلاّ الهوى
…
طِبنَ بالصبح وطيّبن العشى
يجد الجسم لها همساً كما
…
خفق السنبل أو رن الحلى
وعناق كالجفون اشتبكت
…
والغصين التف باللدن الطري
أيها القصر انقضى عرس الهوى
…
وطوى الأصباح ليل الأنس طي
وقديماً في الليالي لم تدم
…
بهجة العرس ولم يبق الدوى
القرآن والتعليم
عرض مشروع التعليم الإلزامي على مجلس الشيوخ فاقترح الأستاذ حسين والي حفظ القرآن لتلاميذ التعليم الأولى. فهز ذلك من صديقنا الهراوي فبعث إلى الرسالة بهذه الأبيات:
قل (لوالي) عُوذت بالقرآن
…
هل درى نبل قصدك المجلسان؟
وقفةُ منك للكتاب والدي
…
ن تولى تسجيلها الملكان
ليت شعري والخُلق في الناس فوضى
…
هل له وازع سوى القرآن؟
نحن في أمة تداركها الل
…
هـ بلطف ورحمة وحنان
خدَعتها حضارة الغرب حتى
…
كان منها عداوة الإيمان
فانبرت للفسوق والنكر والبغ
…
ي جميعا والإثم والعدوان
فإذا لم يكن من الدين حصن
…
تتمادى في الغي والعصيان
إنّ هذا القرآن يهدي إلى الرش
…
د ويدعو لصالح الإنسان
أصلح الله سعيكم هل أبيتم
…
أن تمدوا القرآن بالسلطان؟
لا تقولوا: في الحافظين غناء
…
بعض هذا! فما تفيد الأماني؟
غير مجد أن يحمل الوحي صوت
…
يتغنى للأجر والإحسان
نحن نبغي القرآن علما وفهما
…
يخلقان الكمال في الشبان
نحن نبغي القرآن لفظا ومعنى
…
فهو صقل الحجا وصقل اللسان
نحن نبغي القرآن دينا ودنيا
…
يتجلى في هديّه الحسنيان
ليس مثل القرآن سحر من اللف
…
ظ وهدى وحكمة في المعاني
نحن نبغي القرآن في معهد الدر
…
س وفي كل منزل ومكان
الهراوي
رويدك قلبي
صبا القلب من شوق وحنّ إلى مصرا
…
رويدك قلبي لا حنين ولا ذكرا
تشوقك مصرٌ لا فؤاد بها إلى
…
لقائك مشتاق ولا كبد حرّى
تركتُ بمصر قبل بيني وديعة
…
من الود فاستولى عليها الردى غدرا
وما حفظت مصر ودادي ولا رعت
…
بعادي ولا صانت كما خلتها السرّا
فؤاد رحيم كان مس حنانه
…
أرق على قلبي من القطر أو أسرى
حننت له حينا وشاطرته الجوى
…
وحنّ إلى عودي وشاطرني الذكرى
ولو دام لي في مصر عذب وداده
…
لما اسطعت بعد اليوم عن أرضها صبرا
سلا اليوم ذكري في الثرى وتفردت
…
بحمل الأسى والشوق مهجتي الحسرى
أحن له ما راح دهري واغتدى
…
وما عشت أبلو بعد أمر له أمرا
وأسقي بدمعي ذكره كلما هفا
…
وهاجت بصدري لوعة تلهب الصدرا
يعود إلى أوطانه كل نازح
…
فيحمد ظلا في حماها ومستذرى
وأحيا غريبا طول عمري مفردا
…
رجعت لمصر أو تناءيت عن مصرا
لندن. فخري أبو السعود
في الأدب الشرقي
من الأدب التركي الحديث
محمد بك عاكف
للدكتور عبد الوهاب عزام
لا أريد أن أعرف اليوم بصديقي عاكف بك، ومكانته بين شعراء الترك، وكيف استحق أن يسمى (شاعر الإسلام)، وعسى أن أعود إليه في مقال آخر حين يأذن لي تواضعه وحياؤه أن أكتب عنه، ولكني أعرض قطعة من الجزء الأول من ديوانه المسمى (الصفحات) عنوانها (سيفي بابا) أي (الأب سيفي) أو (عمنا سيفي) بلغة مصر.
ولست في حاجة إلى أن أبين للقارئ العزيز ما يفوته من جمال القطعة حين تترجم منثورة عاطلة من حلية النظم، ولا سيما نظم عارف بك المحكم السلس الذي يعمد إلى الموضوع الآنف. لم يألفه النظم ولم يَرُضه الشعراء فإذا هو ريّض مذلل موطأ للشعراء كأنهم درجوا عليه قرونا.
سيفي بابا
عدت البارحة إلى داري فقيل لي: (سيفي بابا) مريض طريح الفراش.
- ليت شعري ماذا به؟
- لا ندري. غير أن ابنه مرّ علينا مصبحاً فأخبرنا.
- ليتني كنت هنا. وا أسفاه. إليّ بالفانوس. أين عصاي؟ عجلي يا بنيتي. سأبيت هناك إن تأخرت فلا تنتظروا أوبتي. الطريق طويلة موحلة.
- لا بأس! لسنا وحدنا الليلة، فقد جاءت خالتكم.
العكّاز في يمناي، وفي اليسرى فانوس مكسور الزجاج تبص فيه شمعة، والمطر منهمر، والوحل إلى الحيازيم، ليس للسابل منجاة من الغرق، لولا أن أرواح الأحجار، أحجار البلاط التي دفنها البلى تنبعث أمامه فتدعوه إلى الاعتصام بها. ما زلت كالعقعق، أحجل من حجر إلى حجر، ممطراً شآبيبالرحمة على موتى الأحجار. لا تسل عمّا عانيت، ما جاوزنا الأحجار إلاّ لنسبح في البحيرات سبحا، كان فانوسي يعوم فينثر الشرر حوله. كنا وإياه
زورقين يتباريان، لا أدري كم سبحنا ولكنا انتهينا إلى البر، فأخذ فانوسي يحس ما حوله قليلا قليلا، وكان الجهد قد بلغ مني مبلغه، ولكنه كان أشد تعبا، وكنت أرى عليه خمار الكد والنعاس، تارة يصطدم كالأعمى بجدار غير مطلي، وتارة تتساقط أشعته الميتة على قبر، وحينا ينطلق تحت سقف دار خربة، وحينا يتخطى معبدا دارسا، وطورا أراه يطوف في زوايا مقفرة مخوفة، ثم يعترض أفظع الرجال لقاء غير هياب.
وعارٍ تدثر في ثوب من حالك الليل، يأوي إلى طنف، هو والويل مضطجعا في مهاد من الرغام. تخاله نائما وكيف ينام؟
وجماعات من البؤساء، ضن عليهم بالبيوت الشقاء، وأوكار خرست أصداؤها، وبيوت خاوية على عروشها، وأسراب النساء أشتات مطلقات، وأشتات من أفراخ هذه الزيجات المبثوثة، وأكوام من القمامات جاثمة في الظلمات: أسرات هائمات في الأزقة تحمل بيوتها على ظهورها، وقاطع طريق بالليل وهو في وضح النهار سائل، وشريد، وشحاذ، ولص وقاتل.
مناظر هائلة كلما بصر بها الفانوس الأعمى أبى إلاّ أن يريني إياها ولست أدري لماذا.
شرب الفانوس من ماء المطر فقال (جز) لا فظاً آخر أنفاسه. فانقلبت أعمى يتحسس طريقه بالسمع واللمس، وما أشد هذا هولاً! وصارت العكازة لي عينا ويدا ورجلا، لا أكذب الله، لقد استشعر قلبي الفزع.
أشكر الله، هذه ثلاثة فوانيس تمر أمامي. فلو استقامت على الطريق غير معرجة فسرت في أثرها! ما حاجتي إليها. قد اهتديت الطريق. أقول (اهتديت الطريق) وقد بلغت غايتي فهذه دار صديقي القديم. أأرى ضوءً؟ إن لم يكن فلا ريب إنه قد هجع. لابد أن يكون في وسط الباب حبل في طرفه خشبة، فإذا وجدته فجذبته ففتحت الباب. أجل. ولكن الباب موجف أحسب أن خارجا قد خرج الآن. ما لي ولهذا؟ قذفت نفسي داخل الدار ونزعت الجرموق من رجلي وتقدمت ثم ملت ذات اليمين فإذا سلم ذا أربع مراق أو خمس شق عليّ الارتقاء فيه قليلا. وملت نحو اليسار، وعالجت الستر الغليظ البالي المنسدل على الباب فوقع في أذني صوت الصديق الفقير.
(أين كنت يا بني؟ ما تفقدتني قط. لك العذر، والذنب لي إذ لم أخبرك. أعرف أن عملك
كثير وان دارنا بعيدة. هلم فأسترح قليلا فلا شك أنك قد جهدت. أوقدت جارتنا النار منذ قليل فإن تكن مقرورا فأنبش في الموقد، قلّب النار وأصطل)
كانت غبشة الحجرة موحشة، فقلت لو أضاء هذا الفانوس! وقدحت علبة من الثقاب حتى أمسكت آخر الأعواد فأدنيته من رأس الشمعة فهبط النور على عينها العمياء، كما تكحل العين بالميل. انفتح ستر الظلام قليلا فتجلى للعين مرأى البؤس العريان. فلو كنت شاعرا ما استطعت أن أصوره، فإنها فلاكة لا يدركها الخيال. زحف (سيفي بابا) إلى الموقد ناشرا على ركبتيه عباءة بالية.
قد أغلى جارنا الزيزفون منذ حين فلو وجدناه! لا تقم، أنا أبحث عنه.
(إن أصبناه شربنا منه فهو نافع. هذا هو ذا يا بني. لا تبحث لا تبحث)
ووقعت يدي على مغلاة بطينة فأخذت أغلي الماء وأسقيه قدحا بعد قدح، فاستبان الدم قليلا في وجه صاحبنا الهرم.
- خبرني ماذا كانت علتك؟ لعل زكاما أصابك فهذا شتاء قارس جدا.
- قطر الماء من سقف محمد أغا وصعدت إلى السطح لإصلاح القراميد فأصابني البرد منذ خمسة عشر يوما. قل: ما لك وللقراميد أيها الأحمق! أراني العام مشترك اللب، ولست أدري أهي الشيخوخة أم ماذا. ولكن هب أني لا أصعد إلى السطوح لإصلاح القراميد فمن لي بالخبز؟ أيحسن أن أقعد كالأعمى وأبسط يدي إلى كل لئيم؟ يا بني من لم يكدح من أجل الخبز في هذه الدنيا فهو عار الأصدقاء، وسخرية الأعداء. وإلاّ فالشيخ الذي جاوز الخمسة والسبعين ليس كفئا للعمل، وليس عليه إلاّ أن يفرغ للوضوء والصلاة. مرضت فلم أجد أحدا يمرضني. عثمان دائب ليل نهار يطلب عملا يقتات منه. ولست أدري متى تدرك يده القوت. نحن في الساعة الثالثة الآن وهو لم يعد. ما أفضع الوحدة! يمضي الأسبوع يا بني لا يسقط إليّ أحد. قد بلغت مني الوحدة هذه المرة ما لا أطيقه.
- سأعرقك وأثقل غطاءك هذه الليلة فإني أحسبك إن عرقت كثيرا تماثلت.
دع الشيخ يعرق ملففا في لحافه. . . رقدت على كليم بجانب الموقد وشرعت أتحسس النوم ولكن هيهات هيهات. . وكان التعب قد غلبني فأغفيت، فلما لاحت تباشير الصبح استيقظت فقلت ينبغي أن أنصرف، ولكن لابد أن أدخل السرور على هذا الشيخ المعدم. لم أجد في
كيسي شيئا، لم أجد عشر بارات، لم أجد إلاّ خاتمي ذليلا منكسرا.
في الأدب الغربي
الذئب في الأدبين العربي والفرنسي
وصف الفرزدق صداقته وذئبا عاهده على ألاّ يخونه، فكان وفياً، ووصف الشريف الرضي ذئبا أصبح غرضا لقسي نوازع، وطعمة لرهط جائع؛ ووصف البحتري ذئباً هزيلا سدد إليه نصالاً أوردته منهل الردى، في قصائد تراها في دواوين هؤلاء.
وقد رأيت أنها في موضوع واحد - هو الذئب - فما المجلية بينها إذا جرت معا في حلبة السباق؟ وما التي تقرب من المثل الأعلى في الموضوع؟ وهل لها في غير العربية مثيل أو شبيه؟
وما دام في الفرنسية لهذه القصائد ند، وما دام بين الشعراء الفرنسيين من نظم في هذا الموضوع، فسنعرض لقصائدهم هذه بالنقل علّنا نستطيع الموازنة بينها كلها أو البحث فيها كلها، ولعل قصيدة (ألفرد دفيني) الشاعر الفرنسي الفذ في (موت ذئب) أقرب ما قرأت إلى هذه الروائع، فستكون أول ما نترجم، وأما الموازنة بينها فستكون في عدد تال إن شاء الله.
موت ذئب
خفت السحب إلى القمر المتألق، كما يخف الدخان إلى الحريق، واسودت الغابات فبلغ سوادها الأفق، وكنا نمشي على النبت الأخضر الندي دون أن ننبس بكلمة. فلمحنا في الظلام الكثيف تحت أشجار الصنوبر مخالب الذئاب التي كنا نطاردها منذ هنيهة.
فأنصتنا حابسين انفاسنا، وسمرنا أرجلنا إلى الأرض، فلا الغابة ولا السهل يتنفسان في وجه الريح الساكنة، اللهم إلاّ دولاب هواء حزينا كان يصعد في السماء زفرة وداع أليمة، لأن الهواء ارتفع عن الأرض فلا يصيبه منه شيء.
وكان كل شيء ساكنا، حين تقدم الصياد الشيخ خافض الرأس يتحرى ويدقق، فنظر إلى الرمل الذي اضطجع عليه منذ قليل ثم قال:، وهو الذي لم تؤخذ عليه هفوة، إن هذه الآثار آثار مخالب ذئبين كبيرين وجرويهما تبخرت منذ وقت غير بعيد.
فهيأ كل منا سكينه، أخفينا بندقياتنا وبريق حديدها الأبيض، ووقفت وثلاثة من رفاقي نرمي ببصرنا إلى الأمام، فإذا عينان تتقدان بالشرر، وأربعة أشباح أخرى رشيقة ترقص في
وسط الأعشاب على ضوء القمر.
كانت الذئاب تشبه الراقصين بحركاتها، تلعب في صمت ورزانة عالمة أن على قيد خطوتين منها عدوها الإنسان، مضطجعا بين جدران بيته لم يأخذ النوم بمعاقد أجفانه بعد.
وكان الذئب الأب واقفاً على بعد أمام الشجرة وزوجه مستريحة كصنم المرمر الذي عبده الرومان ومنه انحدر روموس ورومولوس.
وأقعى الذئب ومخالبه غائصة في الرمل، حين علم أنه هالك لا محالة، لأن عدوه باغته وملك عليه سبيله، وامسك بفمه الملتهب عنق أجرأ كلابنا، ولم يحول عنه فكيه الحديديين على رغم طلقاتنا النارية التي اخترقت جلده، وعلى رغم مدانا الحادة التي مزقت أحشاءه، ولكنه لما أحس بأن فريسته فارقت الحياة قبل أن يفارقها هو، أفلته من فكيه، ونظر إلينا مرة وأتبعها أخرى إلى جسمه فرأى المدى غارقة في أحشائه، ورأى نفسه سابحا في بحر دمائه، تحيط به البنادق، فحدق فينا ثانية واضطجع وهو يلعق ذنبه بفمه، ويلقف نزيف الدم من كلومه، ودون أن يجرب أو يبحث كيف يموت، أغمض عينيه الكبيرتين ومات دون أن يصرخ صرخة واحدة. . .
أسندت جبهتي حينذاك إلى بندقيتي واستسلمت للأفكار فلم أجد سبيلا إلى متابعة تلك الصور المريرة التي سيصبح عليها أولاده الثلاثة، وتصورت حال الأم وقد أرادت أن تشارك زوجها في حمل عبء هذه التجربة الخطرة، ولكن واجبها يقضي بان تنقذ أولادها، وأن تعلمهن كيف يتحملن الجوع، ويصبرن على ملاقاة الموت، وأن تحذرهن دخول المدن لئلا يخدعن بالعهد الذي قطعة الإنسان للحيوان، هذا الحيوان الذي يجري أمامه في الصيد، ويخدمه. . كل ذلك ليؤويه وهو سيد السهل والجبل. .
وا أسفاه! لقد فكرت كثيراً في معنى عظمة هذا الاسم الذي يتحلى به بنو الإنسان، وعدت إلى نفسي خجلاً أتهم الإنسان بالضعف والجبن.
أنت وحدك أيها الحيوان علمت كيف يجب أن نغادر الحياة وأوزارها، فليس فيما نعمله في الحياة الدنيا، وفيما نتركه عليها ما يستحق الذكر الا الصمت. هو العظمة، وكل ما سواه ضعف.
آه!. . لقد فهمت معنى نظرتك أيها المسافر المستوحش لأنها نفذت إلى أعماق فؤادي قائلة:
- (إذا استطعت فاجعل نفسك، على تفكيرها وحلمها، واثقة مطمئنة من القضاء والقدر. الشهيق والبكاء وصلاة الخوف كلها جبن، فاعمل بثبات عملك الطويل الشاق، في الطريق الذي شاء الحظ أن يدعوك إليه، ثم. . تألم. . ومت. . مثلي دون أن تنبس بكلمة).
حلب. سامي الدهان
بنجن على ضفاف الرين
للشاعرة الإنكليزية
كان ثمة جندي ملقى على الأرض في بلاد المغرب ينتظر موته. لم تعن به ممرضة، ولم تذرف الدمع على فقده امرأة.
ولكن عني به صديق وقف إلى جانبه وهو يلفظ النفس الأخير. ومال على المحتضر بنظرات كلها إشفاق وحسرة ليسمع ما قد يقول.
تناول الجندي المشرف على الموت يد رفيقه وقال بصوت متهدج مرير: لن أراك يا وطني - يا وطني العزيز بعد: بربك خذ رسالتي وابلغها أصدقائي البعيدين كل البعد، فقد ولدت في بنجن - في بنجن على ضفاف الرين!
قل لاخوتي ورفاقي عندما يحتشدون حولك، ليسمعوا قصتي المحزنة في مزرعة الكرم، قل لهم إننا قاتلنا بشجاعة وإقدام، فلما انتهى اليوم كانت الجثث مبعثرة فوق الثرى عليها صفرة الموت تحت الشمس الغاربة وبين الموتى جنود مارست الحرب وعركتها، صدورهم دامية من اثر الطعن، وبعضهم صغير السن لم يلبث أن أظلم صبح حياته، وواحد منهم من بنجن - من بنجن الجميلة على ضفاف الرين.
قل لامي أن اخوتي الباقين سيكونون لك خير عزاء! قل لها لقد كنت عصفوراً هائماً يحسب وطنه القفص وقد كان أبي جنديا وكنت في طفولتي أهتز طربا عندما أسمعه يقص عن الحروب أروع القصص.
فلما مات وتركنا نتقاسم ميراثه المتواضع قلت لهم خذوا ما شئتم ولكن دعوا لي حسام أبي. وبشغف الطفولة المرحة علقته حيث تسطع الشمس على حائط الكوخ في بنجن - بنجن الهادئة على ضفاف الرين.
قل لأختي لا تبك عليّ ولا تحزن!
إذا رأت الجنود عائدة إلى مستقرها بخطى مطمئنة فرحة، قل لها لا تبك، ولا تعول بل لتنظر إليهم بفخر وزهو لأن أخاها كان جنديا مثلهم، ولم يكن يهاب الردى. وإذا تقدم إليها أحد الرفاق من الجند يخطب ودها فاسألها باسمي أن تنصت إليه، لا آسفة ولا مانعة: ولتعلق ذلك السيف القديم في موضعه، سيف أبي وسيفي حبا في بنجن القديمة - بنجن الغالية على ضفاف الرين.
وثمت فتاة أخرى ليست بأخت، صحبتها في الأيام السعيد السالفة، ستعرفها من ذلك الحبور الذي يتلألأ في عينيها، بريئة لم يمسها العار، متهكمة يحلو لها أن تهزأ وتسخر. غير أني أيها الصديق أخاف على أشد القلوب جذلاً من أن يثقلها الحزن.
قص عليها حديث الليلة الأخيرة من حياتي، لأنني سأموت قبل طلوع القمر. ستذهب من جسدي الآلام وتخرج روحي من السجن. كأنني أحلم بها وأنا واقف معها نشاهد الشمس وهي تغرب وراء تلال بنجن المكسوة بالكروم - بنجن الجميلة على نهر الرين.
إني أرى النهر الأزرق يتدفق ماؤه، واسمع أو يخيل إليّ أني اسمع: أناشيد الألمان التي كنا نغنيها في صوت متناسق عذب فنتردد بين النهر والسهول المنحدرة في جوف الليل الصامت الهادئ. إني أرى عينيها محدقتين فيّ، ضاحكتين زرقاوين، وكأنني أسير إلى جانبها، في تلك الطرق المحببة إليّ، تلك الطرق التي أذكرها بالإجلال والتقديس، وأحس بيدها الصغيرة آمنة في يدي. ولكنا لن نلتقي مرة أخرى في بنجن - في بنجن العزيزة على ضفاف الرين
أخذ صوته الأجش يضعف ويفنى، وصارت قبضته كقبضة الطفل وارتسمت في عينيه أشباح الموت، ثم تنهد وامسك عن القول.
فمال عليه صديقه لينهضه؛ ولكن سراج حياته كان قد خبا.
لقد مات الجندي المسكين في أرض نائية عن وطنه. عندئذ طلع القمر على مهل واطلّ على الكون وعلى الرمال المخضبة بالدماء إثر المعركة، وعلى الجثث المتناثرة (المبعثرة).
وفي هدوء، أرسل أشعته الشاحبة على ذلك المنظر المفزع. كما يرسلها على بنجن البعيدة - بنجن الجميلة على نهر الرين.
محمود فهمي رزق
أغنية. . لفكتور هوجو
يولد الفجر، وأنتِ موصدة الأبواب! فلم يا حسنائي الرقود، ساعة يقضة الورود؟
فهلا تستيقظين؟
اسمعي يا فاتنتي عناء محبك وبكاءه!
كل يقصد حماك المبارك.
فالفجر يشدو. . (أنا النهار!)
والعصفور يغرد: (أنا الموسيقي!)
وقلبي يردد: (أنا الحب!)
اسمعي يا ساحرتي غناء محبك ونواحه!
أعبدك كملاك، واحبك كامرأة.
والإله الذي كمّل خلقي بك
جعل حبي خصيصاً لك
ونظري لرؤية جمالك!
اسمعي يا غادتي غناء محبك ونحيبه
حلب. سامي الدهان
العلوم
الاقيانوغرافيا أو تقويم المحيطات
بقلم الدكتور حسين فوزي مدير إدارة أبحاث المصائد
قلما استطاع المرء مهما امتدت ثقافته أو رقّ شعوره أن يدرك وهو على شاطئ البحر مدى ذلك الجزء من الأرض يغطيه الماء. وعبثا يعلم أن البحار تغمر نحو ثلاثة أرباع الكوكب الذي نعيش عليه. وأنى له أن يقدّر معنى هذه الحقيقة ويفهم أثرها في تطور المخلوقات، بل في تاريخ البشرية منذ ظهر الإنسان على سطح البسيطة؟ وماذا يعلم عابر المحيط من أمره إذ يرى سفينته العظيمة تتلقفها الأمواج وسط دائرة الأفق المطبق على سطح زاخر من الماء؟ وهل أدرك في تلك اللحظات أنه رب سابح فوق هوات عميقة، لو أن جبال أيفر ست اقتلعت من رواسيها وغاصت في البحر لابتلعتها تلك الهوات دون أن يظهر أثر لقمّتها الشامخة بتاج جليدها الأبدي؟ وكيف يدري أسرار تلك المياه وحركاتها وما أودعته من مخلوقات كأنها أسرار الجنة مغلقة في قماقمها؟ وأنى له أن يفهم أثر الأفلاك في ذلك المنبسط العظيم من الماء؟ وكيف يطلع على المآسي الدائرة على أساس تنازع البقاء وسط ذلك الخضم الهائل؟
أدرك الشعر عن طريق إحساسه شيئا من تلك العظمة البالغة. ووقف الشعراء يقارنون بين اليابسة وما عليها، فهناك تترك العصور الجيولوجية طابعها في الثلاجات والجبال والكهوف والوديان. والعصور التاريخية آثارها في المعابد والمقابر والمنازل. ولعل الصحراء أشد ما على اليابسة قدرة على الكتمان، ومع ذلك فقد تنجح أو لا تنجح في إخفاء معالم الحضارات في بطون كثبانها، وبين البحر وقد شهد معالم التاريخين، وتنازعته القوى الطبيعية والقوى البشرية، واتصلت بين شواطئه الحضارات. وهو عدا زئير أمواجه صامت لا يفشي سراً من أسراره.
تأمل البحر الأبيض تلك البحيرة الضئيلة وسط المحيطات. در حوله وطالع أثر الحضارات العظيمة التي قامت على شواطئه. هنا فينيقيا ومصر ويونان وروما والبندقية وجنوا وعصر الأسبان (الربنسانس) والقرن التاسع عشر. أنصت إلى صفحته المصقولة لتستخرج حديثاً وحيدا. نثه عن ذلك الماضي، سله عن سفن يونان عائدة من طروادة لعله
مخبرك بخبر اوديسيوس أو اينياس. أو عن سفائن الفرس وما أصابها من تمستوكل في سلاميس. أو عن أسطول كليوبطرة لتعلم كيف باع انطونيوس ملك العالم في اكتيوم مطاردا الهاربة الجميلة. سله عن محاربة بونابرت في أبي قير. أو عن أجدادنا الأقربين في نافارين، ذهبوا ليخنقوا حرية يونان وما استطاعوا أن يدافعوا عن حريتنا. سله عن ذلك التاريخ القريب والبعيد، بل سل عن الجاريات المنشآت وكانت منذ لحظة صروحا شامخة يمرح على سطوحها ألوف من الناس. أيّ جواب تتلقى من البحر غير اصطخاب أمواجه أو تلألؤ الشمس فوق صفحته اللازوردية؟
وليس من عجب أن نجد البحر في أساطير الأقدمين ركنا من أركان القوة الهائلة المجهولة المحيطة بالبشر. فقد طغى على البشرية جمعاء ذات يوم فأغرقها إلاّ فرقة صالحة استوت سفينتها على جبل الجودي.
وشطر (مردخ) العملاق (تيامات) فجعل من أشلائه الأرض والسماء. وركّز الأولى وكانت على شكل جبل متوّج بالسحب فوق البحر الذي تبزغ الشمس من شرقه لتغوص في غربه، وأمر جيهوفا الماء أن يغيض في مكان لتظهر اليابسة وسمّاها الأرض أقام صرح السماء كالقبة على سطح البحر.
واقيانوس أبو الآلهة تقمّص بحراً أحاط باويقومينا واتصل بالبحر الأبيض عند أعمدة هرقليس. ونفذ تحت الأرض لينبثق فوق سطحها عيونا وغدرانا وانهارا.
وقصّت عليّ جدتي حكاية ثور معروف يحمل الأرض على قرنه. وينقلها من قرن إلى قرن كما أنقل ثقل جسمي من ساق إلى ساق، حين يعاقبني مدرس الجغرافيا بالوقوف إلى الحائط وقد أردت تحويل خرافات جدتي إلى حقائق جغرافية.
- وأين تنتهي الأرض يا جدتي؟
- عند جبل قاف يا بني.
- وماذا بعد جبل قاف؟
- تنين يحيط بجبل قاف يا بني.
- والتنين يا جدتي؟
- سابح في البحر الذي يحيط بالدنيا والثور واقف على جزيرة من جزر ذلك المحيط. . .
وهكذا.
ولقد حاول اليونانيون أيضا تحويل أمثال هذه الصور الخرافية إلى حقائق جغرافية.
ولكن هيرودوت أنكر وجود بحر يحيط بالأرض من الشرق، وقد عرف في مصر خبر بعثة وجهها نيخو الثاني سنة 600 قبل الميلاد. في البحر الإريتري - بحر البلاد الحمراء أي بلاد العرب، فدارت حول أفريقيا حتى عادت إلى مصر بعد ان اخترقت أعمدة هرقليس (جبل طارق). ولم يصدق هيرودوت ما ذكر عن ملاحي تلك الرحلة من أنهم شاهدوا الشمس تشرق وتغرب عن يمينهم في إحدى مناطق طوافهم.
ورأى ارسططاليس الرأي القائل بأن الإريتري والاطلانطيقي بحر واحد، وتضاءلت الدنيا أمام علمه حتى قال باستطاعة سفينة شراعية ان تسافر في رياح ملائمة من أعمدة هرقليس (جبل طارق) حتى الهند.
وجاء العالم الإسكندري بطليموس في القرن الثاني قبل الميلاد وقال بان أفريقيا تتصل شرقاً اتصالا تاما بآسيا، وأن المحيط الهندي بحر داخلي. وكان يعتقد هو أيضا أن غرب أوربا قريب من شرق آسيا. ويرجع إلى هذا الرأي الذي ارتآه عالم كبير كبطليموس بعض الفضل في اعتزام كولمبوس الوصول إلى الهند من غرب أوربا واكتشافه أميركا.
وهكذا ظلّ العالم يتخبط في تفهم مدى المحيطات حتى بدأ البرتغاليون والإسبانيون رحلاتهم المجيدة في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. واستطاع فاسكو دي جاما تطويق رأس الرجاء الصالح. واكتشف كولمبوس جزر الأنتيل وقد حسب انه وصل إلى آسيا، ولم يدر انه كان في أسبانيا اقرب إلى آسيا منه وهو في دنياه الجديدة.
وسافر ماجلان من إسبانيا مخترقا الاطلانطيق فالمضيق الذي حمل أسمه فيما بعد فالمحيط الهادي. ومع انه قتل في الفلبين فقد عادت بعثته إلى إسبانيا بعد إتمام طوافها حول العالم في ثلاث سنوات.
وهكذا استطاع العالم في أقل من نصف قرن (1492 - 1522) أن يعرف أضعاف ما عرفه الأقدمون عن البحار، وإذا استثنينا رحلات العرب في المحيط الهندي بعد ذلك التاريخ فان الاستكشافات فقدت نشاطها منذ أوائل القرن السادس عشر حتى قام الكابتن كوك برحلته في البحار الجنوبية في أواخر القرن الثامن عشر. حينئذ استطاع الملاّحون أن
يتصوروا عن المحيطات صورة اقرب إلى الحقيقة.
وإذا كانت الجغرافيا تشمل وصف المحيطات باعتبارها جزءاً من الكوكب الأرضي فقد اختصت الاقيانوغرافيا بدراسة المحيطات كوحدة كونية تغمر ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، ومع أن الاقيانوغرافيا تحاول أن تجد لها نسبا عريقا في جميع الاكتشافات السالفة الذكر، فالواقع أنها لم تنشأ كعلم مستقل إلا في النصف الأخير من القرن الماضي.
وعلينا الآن أن نترك التاريخ لحظة إذا أردنا ان نعرف إلى أي حد يحق للايقيانوغرافيا ان تتصل بنسبها إلى الاستكشافات الجغرافية قديما وحديثا، ولا يمكننا معرفة ذلك قبل الإجابة على السؤال التالي: ما هي الاقيانوغرافيا؟
الاقيانوغرافيا هي وصف أحواض المحيطات والظواهر التي تبدو على سطحها والعوامل والتفاعلات الحادثة في بطنها. ودراسة القاع وتكوينه منذ أن ينحدر الشاطئ القارّي تحت الماء حتى أبعد الأعماق، ودراسة المياه التي تملأ أحواض المحيطات وما فيها من مواد عالقة أو ذائبة وأثر الضوء والحرارة على المياه ومحتوياتها.
هذه هي الاقيانوغرافية الاستاتيكية
وفهم أثر الرياح والقوى العالمية (جاذبية القمر) على سطح الماء من أمواج ومد وجزر. ودراسة أثر الثلوج القطبية وما تسببه من تيارات.
تلك هي الاقيانوغرافيا الديناميكية
ودراسة الأحياء التي تغشى القاع أو تعيش في طبقات الماء المختلفة. وتلك هي الاقيانوغرافيا البيولوجية.
يظهر من هذا العرض السريع أن الاقيانوغرافيا تستعين بعلوم مختلفة. فدراسة خصائص الماء وما بها من مواد ذائبة أو عالقة، وأثر الضوء والحرارة عليها وحركة التيارات تقتضي تطبيق علوم الكيمياء والطبيعة. ودراسة القاع وتكوينه ليست الا تطبيقا جيولوجيا. كما أن تحديد مرتفعات هذا القاع ومخفضاته - بطريق قياس الأعماق - هي عملية طبوغرافية. وفهم أثر الرياح على سطح الماء يقتضي فهم الجو نفسه بطريق علم الأرصاد (الميتيورولوجيا) وتقدير ارتفاع المد وانخفاض الجزر وتوقيتهما يحتاج إلى معارف فلكية. وفي كل هذا يلجأ الاقيانوغرافي إلى الرياضيات لحصر تلك الظواهر الطبيعية، في دائرة
المعادلات والقوانين. كما أن من البديهي أن ترتكز الاقيانوغرافيا البيولوجية على علمي الحيوان والنبات.
وقد يتساءل نوع من القراء، وقد فرغ من هذا التعداد، وما فائدة كل هذه الدراسات؟ وهذا النوع من التساؤل طبيعي في الناس ولكنه يتخذ في مصر لهجة يشوبها غير قليل من السخرية، ويظهر أننا برغم ما يبدو من مقدار نجاحنا في دوائر العمل (أو فشلنا بالأولى) رجال عمليون بالفطرة.
فإذا حدثتنا عن فينوس ميلو، أو مخلدات ميكلانج، أو بدائع دورر، أو نظرية آينشتاين. أو ناقشتنا في قيمة مؤلف عظيم انتهينا بك إلى (جميل!) (ولكن ما فائدة كل هذا؟) إذ يجب على المؤلف والفيلسوف والمصور والحفار ان يحض على فضيلة أو ينشئ مصنع طرابيش ليكون لعمله قيمة في نظر أبناء:(مصر. . . قطعة من أوربا).
ومن حسن حظ الاقيانوغرافيا أن تجيب السائل عن سؤاله بأكثر من جواب. على أننا قبل أن ننوه (بفوئد) الاقيانوغرافيا لن نتردد في القول بأنه إذا كان الأصل في البحث العلمي هو رغبة الإنسان في استخدام القوى المحيطة به، فانه يرجع في غير قليل إلى رغبة البشرية في فهم تلك القوى لمجرد ألفهم.
وإذا كان الكشف العلمي قد أدى إلى حضارة اليوم فان هذه الحضارة لم تكن لتبلغ هذا المبلغ لو لم يكن من اجل صفات الذهن البشري أن يفكر لمجرد التفكير، محاولاً فهم كنه الظواهر المحيطة به. وإلاّ فما الأديان وما الفلسفة؟
وإذا كان الإنسان قد قام برحلاته في المحيطات لغرض عملي، فليس معنى هذا أن ننسى فضل المفكر الذي يقف بشواطئ المحيط حائراً متسائلا إلى أين تمتد مياهه. ناظراً إلى السماء متسائلا ماذا وراء النجوم. والإنسان الأول قبل أن يعد عدته للانتفاع بمنتجات البحار، وقف بشواطئها يتأمل مياهها لا لشيء إلاّ لأن الإنسان حيوان مفكر. ثم لمح مخلوقا غريبا يلمع في طبقات الماء فغاص وراءه أو فكر في طريقة لصيده، لا لشيء إلاّ للرغبة في تعرف هذا المجهول. ثم أدرك بعد ذلك انه يستطيع الانتفاع بلحم هذا المخلوق في غذائه. رأيت أن لا مناص لي من أن أنتحي هذا الجانب من التفكير في عرض الكلام عن الاقيانوغرافيا. قبل أن أتحدث عن فوائدها، ذلك لأن هذه الفوائد مهما كبر شأنها فلن
تستطيع أن تفسر للذهن العادي معنى المجهود الذي بذلته وتبذله الإنسانية لكشف البحار. ولقد سئمت أذني سماع سؤال واحد في الأيام الأخيرة بمناسبة البعثة الأجنبية التي تستعير السفينة الاقيانوغرافية المصرية (مباحث) للكشف العلمي بالمحيط الهندي. (ما فائدة هذه الرحلة؟)
وكان جوابي واحدا في كل مرة: (لا فائدة منها إلاّ أن تضيف كنزاً من المعرفة إلى كنوز العالم)
ما فائدة الاقيانوغرافيا
رأينا في بدء هذا المقال كيف جهد الملاحون جهدهم في تعرّف أنحاء الاقيانوسات. ولا يكفي في معارف الملاح أن يعلم باتجاهات الرياح وكيف يجد الجهات الأصلية في الليل والنهار. فهو إذا رفع نظره دائما إلى النجمة القطبية كان نصيبه من البحر نصيب ملاح (الراين) في أنشودة هايني (لوريلاي) إذ تأسر بصره الجميلة الجالسة عند أعلى الصخرة تمشط شعرها الذهبي، فإذا بقاربه يرتطم بالصخور ويتحطم.
فالملاح يجب أن يعرف من أعماق البحر ما يقيه شر المياه الضحلة لذا كان سبر الأعماق من أقدم ما قام به الإنسان من دراسة اقيانوغرافية. على أنه إذا كان سبر الغور هاما قرب الشواطئ وما إليها من مواضع قريبة القاع، فلم يكن يهم الملاح أن يعرف اعمق ما يصل إليه البحر. ويغلب على الظن أنه كان يعتقد بأن غوره في بعض الجهات لا نهائي كالجو. وأول محاولة سجلها التاريخ لقياس الأعماق البعيدة هي ما قام به ماجلان، إذ دخل المضيق المعروف الآن باسمه وأدلى مقياس أعماقه وهو ثقل معلق بحبل لا يزيد طوله على بضع مئات من الأمتار، فلم يرتكز الثقل على قاع، ولذا اعتقد انه وصل إلى أعمق بقعة في المحيط. والواقع أن العمق في مضيق ماجلان لا يتجاوز 4000 متر في حين انه اكتشفت أعماق أبعد من هذا (نحو 10000 متر).
كذا يهم الملاح معرفة نوع القاع في الأعماق القريبة. وقد روى هيرودوت خبر العلامة التي يعرف بها الملاحون اقترابهم من شاطئ مصر (وهو شاطئ منخفض لا يرى إلاّ عن قرب) فهم إذا عاد ثقل مقياس الغور محاطا بالطين وسجل عمق أحد عشر ذراعا عرفوا انهم على مسيرة يوم من شواطئ مصر.
وإذا كانت الأعماق السحيقة لا تهم الملاح فهو مهتم في جميع أنحاء البحر بالعميق منها وقريب الغور بمعرفة اتجاه التيارات. وقد لاحظ بنيامين فرانكلين في سنة 1770 وكان مديرا للبريد في إنجلترا الجديدة أن البريد المرسل من إنجلترا يصل أميركا على السفن الأميركية أسرع من وصوله على السفن الإنجليزية. فأخبره القبطان الأميركي بخبر تيار بحري يتجه في المحيط الاطلانطيقي إلى الشرق تنتفع به السفن الأميركية في الذهاب وتتجنبه في الإياب. بينما تجهل أمره السفن الإنجليزية. وحينما سافر فرانكلين إلى فرنسا حرص على تدوين ملاحظاته عن هذا التيار (جولفستريم) ورسم خريطة له ظلت سراً حتى طرد الإنجليز من مستعمرتهم الأميركية الكبيرة، وقد كان هذا الاكتشاف بدء عهد الملاحة الترمومترية. إذ كان الملاح يتعرف وجوده في طريق هذا التيار بملاحظة ارتفاع درجة حرارة الماء من معدل معروف للاقيانوس في المناطق التي لا يمر بها التيار. وللملاحة الترمومترية فائدة عظمى في الضباب إذ يدل انخفاض درجة حرارة الماء انخفاضا سريعا وغير عادي على اقتراب السفينة من جبال ثلجية عائمة.
ويعرف الملاح أيضا حركات المد والجزر. إذ بدون معرفتهما تتعرض سفينتهم لأخطار الارتطام بالصخور كما لا يستطيع تعيين وقت دخوله المرافئ.
ويعنى صانعو السفن ومهندسو الموانئ بدراسة خصائص ماء البحر لاختيار المواد التي ينشئون منها قاع السفن وحواجز المياه والأرصفة فلا تؤثر فيها مياه البحر وما بها من أملاح ذائبة وخصوصا كلورور الصوديوم.
وإذا سقنا الملاحة والهندسة البحرية مثلا على الفنون والحرف التي تنتفع بالمعلومات الاقيانوغرافية فان علينا أن نشير إلى حرفة تعد مدينة للاقيانوغرافيا بغير قليل من تقدمها. تلك هي حرفة الصيد. ولقد سبق أن كتبنا عن (بحوث مصائد الأسماك) وهي في البحار فرع من الاقيانوغرافيا محدود بأغراض نفسية محضة. وسنعود في فرص أخرى إلى هذا الموضوع وإنما نكتفي الآن بالإشارة إلى كنوز البحار من أسمك وحيتان ووحوش وسلاحف ولآلئ ومرجان وأعشاب ينتفع بها الإنسان لغذائه وزينته وتدخل في صناعاته إذ يستخرج منها الزيوت والأسمدة واليود الخ.
وأخيراً عرف المتتبعون أخبار العلم بخبر تلك المحاولة الجبارة التي يقوم بها جورج كلود
للانتفاع بقوى المحيطات الحرارية. فهذا العالم الفرنسي يبني تجاربه على أساس ظاهرة كشفت عنها الاقيانوغرافيا. وهي أن اختلاف درجة الحرارة بين السطح والقاع في البحار الاستوائية كبير إلى حد إمكان تحويل هذا الاختلاف إلى قوة محركة.
هذا عن الفوائد العملية المباشرة. أما عن فائدة الاقيانوغرافيا للعلم نفسه فقد وجد فيها علم الأرصاد خير معين على تفهم الظواهر الجوية على سطح الأرض. فالجو بحر غازي يتأثر بالحرارة والضغط وجميع العوامل الأخرى التي تؤثر في البحر. ولما كان هذا الأخير بطيء التأثر بالنسبة إلى الجو الأهوج، فأن بطئ الظواهر البحرية خير معوان على تفهم ظواهر الجو السريعة كما يفهم الإنسان حركات العدو، أو القفز العالي عن طريق فيلم سينمائي يدار ببطء، كما أن سطح المحيط هو خير منطقة لدراسة الجو في أبسط مظاهره، فبينما تكثر المرتفعات والمنخفضان على سطح الأرض ويتغير الضغط الجوي تبعا لها، نرى البحر بسطحه المستوي وصفحته المائية يحول دون التغيرات السريعة في الضغط الجوي الناشئة في الأرض عن مرتفعاتها ومخفضاتها. كذا برودة الهواء وسخونته أقل استعداداً للتغير الكبير السريع فوق الماء منها فوق اليابسة.
وكان من الطبيعي أن تنتفع الجيولوجيا من الاقيانوغرافيا، ففي دراسة قاع المحيطات الحالية وتفسير تكوينها ما يعين الجيولوجي على أن يفسر تكوين بحار العهود الجيولوجية المنقرضة.
وتبدو استفادة علم الحيوان من الاقيانوغرافيا بمقارنة مجموع الحيوانات الأرضية والحيوانات البحرية المعروفة. فإذا فتحت أي كتاب حديث في علم الحيوان عند الفهرس وجدت أن فصائل الحيوانات البرية لا تمثل إلاّ نسبة ضئيلة في مجموع الحيوانات المعروفة.
وبعد أليس هذا طبيعياً؟ فمساحة البحار تعادل نصفا وضعفي مساحة اليابسة. وإذا كانت الأحياء الأرضية تعيش فوق السطح أو تغادر هذا السطح قليلاً لتطير في الهواء، فالأحياء المائية تغشى المحيط عند سطحه وفي جميع طبقاته وفوق قاعه. فأي عجب أن تكون أكثر بكثير من الأحياء البرية؟ ونعرف أن عمق المحيط يتراوح بين متر وعشرة آلاف متر، هذا إلى أننا الآن أقرب إلى حصر الأنواع الأرضية منا إلى الإحاطة بجميع الأنواع
البحرية.
الآن وقد عرفنا أغراض الاقيانوغرافيا نستطيع الحكم بأنه إذا حق لهذا العلم أن يتصل بنسبه ونشأته إلى رحلات جوّابي البحار حتى أواخر القرن الثامن عشر، فان عهد الاقيانوغرافيا الحقيقي لم يبدأ إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهذا ما ستراه في مقالنا التالي إذ نتابع قصة البحار قاصرين حديثنا على بعثات الاستكشاف الاقيانوغرافي.
القصص
قصة سودانية
تاجوج ومحلق
ما كنت أحسب قبل أن يحدثني صديقي حمدان، إن بجانب الغاب أكواخا تحوي جمالا، وأن في أواسط البيد جنات يرف ورد الحياة الفيّاح فيها، وتتفتح أكمام العيش الهني عن زهرات من الحب السعيد والهوى البريء.
لذلك لم تتهيأ لي الفرصة لركوب السفين حتى انتهزتها ميمماً الجنوب إلى أن رست بنا على مرسى الغاب المزعوم.
وهناك انتقلت من ظهر السفين إلى ظهر الهجين، فأخذ يخب بي بين نجاد ووهاد، تارة في رأد الضحى، وطوراً في طفل الأصيل، حتى انتهيت إلى حيث أراد الدليل.
فأدرت ناظري فيما حولي من الأدغال يخفق قلبي روعة، ويذهب لي حيرة، وإذا بشيخ كهل قد ائتزر بمئزر، والتفع برداء، يقوم في جفاء البداوة، وجفوة الأعراب، ماذا تريد يا زول؟ قلت التمتع والاستطلاع، فأربد وجهه، وانقبض جبينه، وكأنما الشر قد جثم بين عينية، فانخلع قلبي حذر أن أكون استبحت حماه، ولكن صديقي دلف إلينا بسرعة، وحيا البدوي في حديث مرسل ينم عن سابق معرفة، وقديم صحبة، فهدأت نفسه وسكن غضبه، وانبسطت أسارير وجهه، ثم أقبل علي باشاً مصافحا.
فسألت ممن الرجل؟ قل: من بني عقيل بن جعفر بن أبي طالب، قلت: وأنا من بني الحسين بن علي بن أبي طالب، فعاد إلي مصافحا معانقا، وكانت المصافحة حارة، والعناق طويلا.
ثم ساق رواحلنا إلى كوخ من القش بجانب خيمة من الوبر، ونادى: يا ليلى! ابن العمومة من بني هاشم شرف أحياء العرب، فبرزت ليلى من خبائها كما يبرز البدر من خلال الغيوم، ثم قالت: يا بشرى! هذا ابن الريف، قرّة العين، وسليل الحسين، وأطلقتها زغرّدة دوّت في الفضاء، فمال حمدان برأسه وقال: لها الله ليلى من فتاة بارعة الحسن تامة الجمال! أنظر تر جسما مستقيما منتصبا كأنه قضيب بان، وعينين سوداوين فيهما سحر وفيهما دلال، وشعراً لا معقوصا ولا مظفوراً وإنما هو مدلّى كخيوط الليل، ووجهها تمتزج
حمرته بسمرته فيبدو من امتزاجهما دم جذاب يرق حتى ليكاد يكون روحا، وثغرا كأنما يبسم عن در، ويفتر عن لؤلؤ فقلت: يا سبحان الله! أما قرأت: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم. . وكان حمد مضيفنا تجاوز الكوخ ليدعوا بعض غلمانه، فقلت لحمدان (وكان من طبعه الانقباض) إن كنت رجلا حقا فأطلقها ضحكة عالية في وادي الهموم، كما أطلقتها ليلى زغرّدة في أجواز الهواء. قال: كيف؟ والمدنية الحديثة جعلت فينا أمزجة منقبضة وطبائع سوداوية، فأضعنا نضارة الشباب في هم مبرح. ولم نتلقى غفلات العيش على ما في طيها من نعم وخيرات، كما يتلقى قطان البادية من الأعراب، وسكان الغابات من عجائز السود، شظف الحياة، وضيق العيش. بصدر رحب، وثغر بشوش.
قطعت علينا الحديث خادم عجوز سوداء لليلى. أتت ولا شيء يسترها غير رقعة تحجب سوءتها، ثم مدت سماطاً بديع النسيج الا أنه مهلهل، وعادت فأتت بمبخرة فيها عود أو صندل
ثم أتى حمد وخلفه جزور فنحره، وحمله الخدم بعد لطهيه، وجاءت أقداح الشاي واستمرت تدور المرة بعد المرة، وحمد يحدثنا بحديث عذب فيه رطانة الزنوج، ولحن الأعراب
حدثنا انه يتصل بعرب الحمران، وأن لهم أحاديث كالمسك، في الهوى العذري، والحب الطاهر، وأن منهم (تاجوج ومحلق) الذين ضربت بحبهما الأمثال، وتحدثت عن عفتهما الركبان
قلت: ومن تاجوج ومحلق؟
فأجاب، كانت تاجوج فتاة جميلة، لم تر بلاد السودان فتاة أجمل منها إلى اليوم، وقد بلغ من جمالها أن الناس كانوا يحثون المطايا ليروها ثم يعودوا، وكان أبوها يدعى (الشيخ أوكد) شيخ القبيلة، أحبها ابن عمها (محلق) وتزوجها، وفي يوم أسكره الحب وتيمه الغرام، فألح عليها ان تتجرد من ثيابها وتمشي أمامه عارية فامتنعت حياء، ألح مرة أخرى فامتنعت، ثم ألح ثالثة فقالت، إذا أطعتك فماذا تفعل؟
قال: أنفذ كل طلب لك
قالت: أقسم، فأقسم، فتجردت ومشت أمامه ذهابا وإياباً. إلى أن قال: كفى كفى!
ثم قال، اطلبي الآن ما تريدين. قالت: أن تطلقني في الحال، فطار صوابه، فوقع على
قدميها يقبلهما ويسألها العفو فأبت الا البر بقسمه، فطلقها وهام على وجهه ينشد في حبها الأشعار كمجنون ليلى.
ثم تزوجت بعد طلاقها رجلا من وجهاء قبيلتها فتأثّر محلق فغلبه على ماله، المرة بعد المرة ثم رده إكراما لتاجوج.
وأخيرا اشتد عليه الكرب وأضناه الحب، فألح على أهله أن يمكنوه من رؤيتها، فذهبوا إليها وأخبروها لحاله فرقت له، وذهبت لرؤيته، فإذا هو طريح الفراش وحوله نساء ينددن بها ليصرفن قلبه عنها، فلما دخلت لم يسعهنّ الا الوقوف احتراما لجمالها وإعجاباً بها، وأجلسنها إلى جانب سريره فلما رأته على تلك الحال تنهدت وقالت:
أإلى هذا الحال وصلت يا حشاي وأنا لا أدري؟ ثم وضعت رأسه على ركبتها وكان قد أغمي عليه، فلما أفاق نظر إليها وأنشد أبياتا منها هذا البيت الذي ننقله بلغته ولحنه وصورته:
حبك في الضمير قاطع لأكباده
…
تقتلي الزول سريع قبل الشهادة)
ثم شهق شهقة ومات مسلماً الروح.
ثم أطرق حمد طويلا برأسه إلى الأرض وعاد فنظر إليّ ساهما وقال: حدث بعد ذلك أن غزانا عرب (الهدندوة) فوقعت تاجوج أسيرة في أيديهم فاختلفوا فيها اختلافا كاد يفضي إلى سفك الدماء وأراد كل فريق أن تكون تاجوج من نصيبه
فنهض أحد مشايخهم وكان حازما، ونادى:(تاجوج) من خبائها، فلما أقبلت طعنها بخنجره في صدرها فماتت وحسم النزاع.
ماتت تاجوج، ولكنها ظلت حية في نفوس الذين قتلوها كما هي حية في قلوب بني وطنها جميعاً ولا زال قبرها إلى اليوم يزار (في رأس النيل) بين خور جب وكسلا، وما زال أهل السودان يضربون بها وبمحلق الأمثال.
ثم جاء الطعام على عادة العرب (كسرة، مرقة، وشواء) فكانت رغبتنا في التهام حديثه أكثر من رغبتنا في التهام طعامه
فقلت وهو يستطعمني فأطعم، ثم ماذا بعد؟ فان أعذب الحديث حديث المائدة خاصة مع العرب الأجواد فقال: ثم إن بطناً من عرب الحران حلّ بهذا المكان القريب من هذه الغابة
فأنجباني أنا وليلى، فكنت معها كمحلق مع تاجوج، غير أنها وفت لي فلم تستبدل بي زوجاً، ووفيت لها فلم أدخل عليها زوجة، مع كثرة تعدد الزوجات في هذا الحي الذي ننزل به
وما كدنا ننتهي من طعامنا وشرابنا وأحاديثنا حتى كانت الشمس مضيفة للغروب، والقمر يستعد للجلوس على عرش السماء، بعدها، فتهيئنا للجولان بالغابة ومعنا معداتنا من حراب ورماح، وموعدنا ببقية الحديث رسالة أخرى.
محمد البنداري. مدرس بالخرطوم
إلى بئر جندلي
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة
المعارف
- 2 -
وبعد دقائق انحدرنا إلى ميدان المنشية وأخذنا طريقنا إلى مقبرة الأمام الشافعي، وبعد أن اخترقناها أقبلنا على قرية البساتين فكانت في سكون لا يسمع من حولها إلاّ نباح الكلاب وصرير الصراصير، ثم مررنا بمقابر اليهود فاستقبلنا حارسها وأخبر الدليل بمرور الجمال.
كان الليل باردا والسكون شاملا وضوء القمر فاترا يملأ الأرجاء، وكنا نسير في صمت وأمامنا الدليل منحن قليلا إلى الأمام يجد في السير بقدم ثابتة ونحن نتبعه ونتابعه.
معنا السلاح والذخيرة، ومعنا الماء والزاد، ومعنا الدليل الخبير المجرب، ونحن جماعة أشداء، فمم الخوف؟ كانت تجول هذه الأفكار بخاطري وانظر إلى الرفاق وهم يسيرون على هيئة الجند فتتملكني روح زهو وفخار، واشعر بنشاط وقوة، فيرتفع رأسي ويتسع صدري وألاحق الدليل وأتقدم الجماعة، والنفس طافحة بشراً وغبطة. بعد ساعة مال الطريق نحو الشرق، ثم أخذنا نرتقي هضبة وأخذت تتلاحق التلال وتعلو، وقبيل نصف الليل غاب القمر وخيم الظلام وأصبح منظر الوادي رهيباً موحشا، وهنا قال الدليل:(وادي التيه يا سادة) في هذا الوقت كنا نتقدم في واد متسع تعلو الهضاب على جانبيه وهو ينثني بينها تارة يمينا وطورا شمالا.
وعند الساعة الثانية صباحا وصلنا حيث كانت تنتظرنا الجمال في ناحية من الوادي، وقد جلس بجانبها سويلم يدخن غليونه بينما انشغل على الجمال بإمداد بؤرة التدفئة بالعشب الجاف، كان قد طال بنا السير أجهدنا أصبحنا في حاجة إلى الراحة بل إلى النوم، فاستلقينا على الأرض قريبا من الجمال ثم غلبنا النعاس فنمنا.
كنا نائمين في العراء وليس علينا غطاء، فاستيقظنا عندما لاح الصباح بعد نوم قصير وأجسامنا ترتعد وأطرافنا ترتجف من شدة البرد، وكانت الطبيعة هادئة وبزوغ الشمس من وراء الجبال فتناً ساحرا، وكنت أطيل النظر فيما حولي واسأل نفسي: أنا في حلم أم في
يقظة؟ فقد زال عنائي وغدوت مرحا فرحا نشطا، وبعد أن تناولنا فطورا ساخنا بسيطا ذهبت الجماعة بصحبة الدليل إلى الصيد وبقيت أنا ومحمد بك لنسير مع الجمال، وقد تواعدنا أن نلتقي ظهرا على بئر دجلة.
كان الصباح لطيفا منعشا، والشمس مشرقة، وقد وجدت في محمد بك خير صاحب، فقد كان لطيف المعشر حلو الحديث على علم بالصيد وطرق الجبال والأودية، فاستأنست به، واطمأنت نفسي إليه فاخذ يقص عليّ في حماس ونحن نسير الهوينى خلف الجمال ما وقع له في رحلاته السابقة من مخاطر عجيبة، ونوادر لطيفة، وبعد أن سرنا هكذا نحو ساعة ضاق الوادي وانتهى بنا إلى هضبة عالية فارتقيناها على مهل، وكان صعودنا على جرف في طريق لولبي شديد الانحدار، لا يزيد عرضه على القدم ومن تحته هوّة عظيمة، وقد اجتازت الجمال هذا المنحدر الوعر من غير مشقة، فكانت متزنة الخطوات متئدة متنبهة تحاذر السقوط أو الزلل، وبعد ساعة أخرى أخذنا نهبط وادياً عظيما كثير التعاريج جدرانه قائمة، وتقوم على جانبيه الروابي العالية، والقمم الشامخة، وقبل الظهر بساعة وصلنا بطن الوادي بسلام، واتجه سويلم إلى ناحية فيه وأناخ الجمال، أشار بيده إلى كوّة مرتفعة في الجدار الجنوبي للوادي يظللها نتوء من الجبل كبير البروز، وتكتنفها أحجار ضخمة تجعلها كالوكر في مأمن من الرياح والأمطار، وقال هنا نمضي الليلة، فحملنا إليها الغطاء وبعض الحاجات وفرشنا أرضها بسجادة واعددنا في ناحية منها موقداً جمعنا بالقرب منه عشبا جافا من شيح وشوك وطرفاء، ثم هيأ محمد بك للجماعة طعاما دسما من لحم مسلوق وأرز وخضار، وبعد الظهر بساعة أقبل الصيادون يحملون أرنبين كبيرين وقد لفحت الشمس وجوههم وبدا عليه التعب، وبعد أكلة شهية تفرقنا في الوادي نتفرج على مناظره الطبيعية البديعة، وتقع بئر دجلة على عشر دقائق من معسكرنا جهة الشرق في حضن شلال فخم يعله خانق جميل، والبئر في مسقط السيل وعمقها نحو ثلاثة أمتار تمتلئ بالماء وقت الأمطار ويفيض ماؤها وقت الجفاف، والوادي كثير العشب وافر الكلأ، يسبح في فضائه أنواع من العصافير والحدأة، وترعى فيه الإبل والماعز، وبعد الغروب عدنا إلى المعسكر وقد خيم الظلام واشتد البرد وشمل الوادي سكون موحش، وبعد العشاء آوينا إلى الفراش ونمنا ملء الجفون حتى قبل الفجر، وكان منظر الوادي في السحر فاتناً يستهوي الأفئدة
ويملأ النفس دهشة وروعة، وفي الصباح الباكر توجهنا للصيد وبقى عبد الله بك وسليمان بك بالسير مع الجمال، واتفقنا أن نلتقي عصرا على بئر جندلي.
خرجنا من وادي دجلة مع بزوغ الشمس وأخذنا طريقنا فوق الهضاب وفي الأودية متوغلين شرقا لا نتبع طريقا معينة، وكان في القيادة حسن بك وهو صياد ماهر خفيف الجسم رشيق الحركة بصير بالصيد وضروبه. وبعد قليل أقبلنا على واد وافر العشب فا بصرنا أرنبا يقطع عرض الوادي بسرعة البرق يتلوه ثان وثالث، وفي لمح البصر اختفت وراء الصخور وكان لمنظرها وهي تعدو أثر مدهش في الجماعة، فاندفعوا وراءه لا يلوون على شيء، وفي المقدمة حسن بك ينهب الأرض نهبا كأنه الجواد في حلبة السباق. وفي لحظات توسطنا الوادي وبدأت المطاردة، وما أن رأتنا الأرانب حتى قفزت إلى وهدة ثم مرقت كالسهم إلى أخدود، ثم تسلقت الجبل ونحن في أثرها نتبعها من غير هوادة، نرتقي الهضاب ارتقاء، ونلقي بأنفسنا من الجبال إلى السهول إلقاء، وإشارات القائد تقذف بنا يمينا أو يسارا، طورا مقبلين وطورا مدبرين، مرة في صياح وجلبة، ومرة في حذر وسكوت، تارة نعلو وتارة نهبط، وهكذا كانت تستمر المطاردة ساعات متواليات والحيوان التعس ينتقل من ساحة إلى ساحة، يطلب النجاة وراء الصخور وفي الصدوع وفوق الربى وتحت الأرض، ونحن وراءه نحاول دفعه إلى السهل وهو يأبى الا الوعر، تقوده غريزة البقاء فان اخطأ المسكين التقدير وحم القضاء ضاق النطاق وعز الفرار وتلقفته نيران البنادق من كل صوب فيخر صريعا ضاربا أعلى المثل في الزوغان والعناد، والصبر على الجهاد. وقد بلغ حماس القوم في المطاردة هذا اليوم حد الجنون، وكاد يقضي على أحدنا، وهو أحمد بك بالموت على أبشع صورة لولا أن قدرت له السلامة، ذلك أنه اندفع وهو مأخوذ وراء غزالة فجرت الغزالة إلى جرف صاعد في جدار الجبل، فلحق بها وأطبق عليها ولكنها أفلتت منه، ولما انطلق وراءها انهار الجرف فهوى بجسمه من شاهق فتشبث بصخرة ناتئة وأصبح معلقا بين السماء والأرض.
الكتب
الأمواج.
لأحمد الصافي النجفي
يتغنى الشاعر العراقي الفاضل في هذا الديوان بنغمات جديدة طريفة. فهو لا يسمعك مدحا في أمير أو سلطان، ولا تجد في شعره تلك العواطف المبتذلة، وليس في الكتاب نسيب يستحق الذكر. وإنما يتغنى الشاعر في ديوانه هذا بأنشودتين جليلتين الأولى الفضيلة والثانية الوطنية. وليس الموضوعان بالشيء الجديد، ولكنه يتناولهما بطريقة جديدة، ويسمعك في الأنشودتين نغمات جديدة. ولقد عاش شعراء العرب هذه القرون الطويلة وهم يحرقون فنهم بخورا أمام أصنام بشرية زائلة، ألم يأن لهم أن يقضوا قرونا أخرى يمجدون الفضيلة والوطن وهما من الموضوعات الخالدة؟
ولكي يفهم القارئ كيف يتناول المؤلف هذه الأغراض نذكر هنا القطعة الآتية:
قد كثر الفقراء ظلم ذوي الغنى
…
لم يكثر الفقراء حكم الباري
كم عاش قوم من طوى، قوم وكم
…
عمرت ديار من خراب ديار!
فلرب قصر بالجماجم مبتنى
…
ولرب نهر بالمدامع جاري
كم مجتن ثمرا ولم يغرس، وكم
…
من غارس لم يجن من أثمار!
عجز الفقير عن استعادة حقه
…
فأحال ذنب الفقر للأقدار
أغني! لا تسخر بزفرة بائس
…
كم من دخان منذر بالنار
وفي الكتاب قطع وقصائد كثيرة تردد هذه النغمة وأمثالها. وكلها دليل على أن الشاعر يرى أن عليه واجبا نحو وطنه ونحو بني جنسه، وان الشعراء يجب أن يكونوا رسل إصلاح لا مجرد عصافير تغرد وتطرب، وتنشدك ما تعاني وما تكابد، وما تحرق لها من مهج، وما سال من عيونها من دمع، إلى آخر ما هنالك مما تجيش به أشعار الأدب الضعيف.
وفي عدد مضى من الرسالة مقالة للأستاذ أحمد أمين في أدب القوة وأدب الضعف، وبهذه المناسبة نرى واجبا علينا أن نعلن أن هذه (الأمواج) من أدب القوة. .
ويتناول المؤلف أحيانا موضوعات أخرى في الوصف مثل قصيدته في (الشاي) و (الحنين إلى الطبيعة) و (الليل والنجوم) ولكن نزعة الوطنية والفضيلة هي الغالبة البارزة.
فقراء الرسالة قد قرءوا في عدد سابق قصيدة لهذا الشاعر وهي قصيدة (الفلاح). ومن يتأمل تلك القصيدة والقطعة التي أتينا بها هنا يستطيع أن يدرك مواضع القوة والضعف في أشعار (الصافي). أما مظاهر القوة فبادية واضحة، وأما موضع الضعف فهو في نظرنا أن الشاعر (وكأنه في هذا كشأن اكثر المجددين من شعراء هذا العصر) تشغله العناية بالمعنى عن العناية باللفظ، فألفاظه لا تنهض إلى مستوى معانيه الا قليلا. ونحن نؤاخذه أنه أحيانا يهمل العبارة اللفظية إلى درجة الخطأ كما جاء في قصيدته (بين شاعر وصاحب فندق) ورويها هي التاء الساكنة بعد ألف المد ويقول فيها:
قد جاء رب المنزل لي سائلا
…
يقول ما شغلك في ذي الحياة
فقلت شغلي الشعر في نظمه
…
ادفع عني جحفل النائبات
قال وهل بالشعر تحيا وهل
…
تملي به أحشاؤك الجائعات
ثم يقول:
وكنت أدعى عجميا بهم
…
كأنني لست ابن عرب أباة
فرحت للبدو وعاشرتهم
…
فلم أجد لي مشبها في البداة
ومعروف أن التاء في الحياة وأباة والبداة في الوقف تنقلب هاء. . . وكذلك قد يذكر الشاعر ألفاظا كنا نود الا يذكرها مثل قوله:
أريد لثم كفها
…
لولا اختشا عقابها
فلفظ (اختشا) ليس من الألفاظ التي يأسف الإنسان على فقدها من شعره.
على أن هذا لا يحط من قدر (الأمواج) كديوان شعر عصري لأديب مفكر قوي. وأنا لنرجو أن يهتم القارئ المصري خاصة بهذه الثمار القيمة التي تنضجها روح الأدب في العراق وسوريا.
م. ع. م
الورد الأبيض
مجموعة أقاصيص مصرية
بقلم محمد أمين حسونة
الأستاذ محمد أمين حسونة كاتب من شباب الكتاب خصب الخيال طبع القريحة لامع الذكاء جم النشاط كثير الحركة، عني على الأخص بالجانب القصصي من الأدب المصري الحديث فعالجه في توفيق وإجادة، ومجموعة (الورد الأبيض) باكورة نظيرة من ربيعه المونق جمع فيها ثلاث عشرة أقصوصة ثم سماها باسم الأقصوصة الأولى، وتقرأ هذه الأقاصيص فترى أثر مواهبه ظاهراً في وصف الأشخاص وتصوير المناظر ورسم البيئة وسلسلة الحوار، ومن خير الأمثلة على براعة فنه ودقة ملاحظته وصدق شعوره الأقصوصة الثانية (في الواحة). فلو انه أوتي من سلامة التعبير ما أوتي من سلامة التصوير والتفكير لكان له في هذا ألفن شأن غير هذا الشأن، وخطر غير هذا الخطر، على أن أسلوبه أحيانا يرتفع إلى درجة محمودة من البلاغة كقوله في ختام (في الواحة).
(ويعود عدنان في صبيحة اليوم التالي بعد أن أصيب بجرح عميق في صدغه، فيفتش عن مأوى فلا يجدها، ويطوف بالبادية نهارا وليلا، يسأل الرمال والحصى فلا تهديه، ويناجي النجوم والسحاب فتمر في طريقها ولا تجيبه. . . . ويعثر على جوادها مصادفة ملقى إلى جانب الصخور وقد طمرت الرمال نصفه الأدنى. . . . فيدرك لأول وهلة ما حدث لصاحبته، وأي مصرع لقيت المسكينة؟ فيحاول أن يبكي فيستعصي عليه الدمع، ويتحجر الأسى في مآقيه، ويرجع ثانية إلى مقره شريد النفس كاسف البال، تلوح على محياه إمارات اليأس والقنوط. .!!) وعسى أن يتدارك الأستاذ في الطبعة الثانية ما وقع في هذه الطبعة من أغلاط النحو والإملاء ومخالفة العروض فيما رواه من الأبيات.
كواكب في فلك
للأستاذ توفيق وهبة
يشتمل هذا الكتاب على نحو عشر قصائد وعدة مقطوعات من الشعر؛ وعدد كبير من المقالات القصيرة مما نشره المؤلف الفاضل في صحف مصر وسوريا. ولذلك تغلب
النزعة الصحفية في كثير من المقالات، فهي عادة قصيرة لا تتجاوز صفحتين أو ثلاث، ولهذا يختار المؤلف عادة موضوعات سانحة قصيرة كموضوع (عبادة المال) أو (على سطح البحر) حيث يتكلم عن خشية الراكب متن البحار. و (تركيا والألقاب) و (التأنق والتجمل) و (الرأي العام) وهلم جرا. وقد يرى البعض أن هذه الموضوعات في حاجة إلى التوسع والتعمق، لكن المؤلف عرف كيف يلم بكل منها إلمامة قصيرة، ولكنها في كثير من الأحيان لا تخلو من جمال: أنظر إلى قوله من مقال (خطاب عن الموسيقى).
إن الكون كله قصيدة أنشدتها الطبيعة
إن الملائكة تغني
إن الطيور تغرد
إن حفيف الأوراق والأشجار غناء
إن زمهرير الرياح غناء الغضب
إن هينمة النسيم غناء الرقة والعذوبة
وفي الكتاب بحث في موضوع المبارزة بشيء من التفصيل وشرح الاعتبارات القانونية للمبارزة في مختلف البلاد. ليس هذا البحث وأمثاله أحسن شيء في الكتاب. بل خير ما فيه هو تلك القطع الأدبية، التي يصور بها المؤلف عاطفة أو فكرة أو خيالا، وكنا نود لو أسقط المؤلف مقاله عن (العرى) وعن (حفظ القلوب) فما كان يفقد الكتاب من قيمته شيئا. أما القصائد والمقطوعات، فمن رأينا أنها دون المقالات طبقة. وإلى القارئ مثالا يستطيع به أن يقارن بينه وبين ما ذكرنا له من منشور، قال يهنئ صديقا بالزواج:
بارق البشر بهيا طلعا
…
فابسمي إن به كل الرجا
أنت رمز الطهر والحسن معا
…
وأبوك الندب رمز للحجى
م. ع. م
1